بسم الله الرحمن الرحيم
مخُتْصَرُ مِنْهَاجِ السُّنَّة
لأبي العباس شيخ الإسلام أحمد بن تيمية
رحمه الله
اختصره
الشيخ عبد الله الغنيمان
المدرس بقسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة
الجزء الأول
حقوق الطبع محفوظة
*الطبعة الثانية *
*1412هـ - 1992م*
دار الأرقم
برمنجهام - بريطانيا
للطباعة والنشر والتوزيع
(والله يعلم أني مع كثرة بحثي وتطلعي إلى معرفة أقوال الناس ومذاهبهم ما علمت رجلاً له في الأمة لسان صدق يتهم بمذهب الإمامية فضلاً عن أن يقال: إنه يعتقده في الباطن). ابن تيمية.(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله مظهر الحق ومعليه، وقاطع الباطل وذويه، قال الله تعالى: ((بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ))[الأنبياء:18]، ((وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً))[الإسراء:81]، ((قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ))[سبأ:49]. أحمده حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
أما بعد: (فإن منهاج السنة النبوية في نقض دعاوي الرافضة والقدرية) من أعظم كتب الإمام المجاهد الصابر المصابر شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، قد ناضل فيه عن الحق وأهله، ودحض الباطل وفضحه.
وشباب الإسلام اليوم بأمس الحاجة إلى قراءة هذا الكتاب، ومعرفة محتواه؛ حيث أطل الرفض على كل بلدٍ من بلاد الإسلام وغيرها بوجهه الكريه، وكشر عن أنيابه الكالحة، وألقى حبائله أمام من لا يعرف حقيقته، مظهرًا غير مبطن ديدن كل منافق مفسد ختال، فاغتر به من يجهل حقيقته، ومن لم يقرأ مثل هذا الكتاب.(1/1)
والغالب على مذاهب أهل البدع والأهواء، أنها تتراجع عن الشطح وعظيم الضلال ما عدا مذهب الرفض فإنه يزداد بمرور الأيام تطرفًا وانحدارًا، وتماديًا في محاربة أولياء الله وأنصار دينه، وقد ملئت كتب الرافضة بالسباب والشتائم واللعنات لخير خلق الله بعد الأنبياء –أعني: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم- وهم لا يتورعون عن تكفير الصحابة، ولا سيما كبارهم وسادتهم، مثل أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وإخوانهم -رضوان الله عليهم- الذين أطفؤوا نار المجوس، وهدموا معبوداتهم، وإكفار الصحابة ومن يتولاهم في كتبهم المعتمدة عندهم لا يحصره نقل، فهم يتعبدون بلعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعتقدون أن الشيعة بأئمتهم هم الناس، وما عداهم همج للنار وإلى النار، والله لا يقبل من مسلم حسنة مهما بالغ في الإحسان ما لم يكن شيعيًا كما في كتابهم (الوافي، الباب السابع والثامن بعد المائة)، وفي (الكافي) أحد الكتب الموثوق بها -عندهم- ما يبين عن حقدهم الدفين على الإسلام ومن جاء به، ومن حمله واعتنقه، وهم يرون أن القرآن نزل لشيئين:
أحدهما: الثناء و المدح على علي بن أبى طالب رضي الله عنه وإعلاء شأنه وذريته.
والثاني: ثلب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر معايبهم، ولهذا قالوا: إنه ضاع من القرآن ثلثاه أو ثلاثة أرباعه، وهم يعتمدون في دينهم على الكذب الذي يلصقونه بأئمتهم، والادعاءات الكاذبة، فصاروا من أكذب الناس، وأكثرهم تصديقًا للكذب، وتصديقًا بالباطل، ومع ذلك يرمون الصحابة بالنفاق، ونبتهل إلى الله تعالى أن يزيدهم غيظًا وأن يكبتهم بكمدهم وكل من غاظه الإسلام.(1/2)
و لما كان كتاب منهاج السنة مشتملاً على مباحث مطولة وغير مطولة في الرد على القدرية والمتكلمين وغيرهم من سائر الطوائف أحببت أن أجرد ما يخص الرافضة من الرد عليهم فيما يتعلق بالخلافة والصحابة وأمهات المؤمنين وغير ذلك، ولم أضف إليه شيئًا من عندي، لا في أصله، ولا تعليقًا؛ لأن كلام الإمام ابن تيمية فيه من القوة والرصانة والمتانة ما يغني عن كل تعليق، وعليه من نور الحق ووضوح البيان وقوة الحجة ما لا يحتاج إلى غيره.
فالله يجزيه على جهاده ومنافحته عن الإسلام وأهله خير الجزاء، ونسأله تعالى أن يشركنا معه في جهاده وجزائه إنه خير مسئول، وأكرم مأمول، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه.
قال شيخ الإسلام:
الحمد لله الذي: ((فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))[البقرة:213].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كما شهد هو سبحانه وتعالى ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))[آل عمران:18].(1/3)
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي ختم به أنبياءه، وهدى به أولياءه، ونعته بقوله في القرآن الكريم: ((لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيم فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم))[التوبة:128-129]. صلى الله عليه أفضل صلاة وأكمل تسليم.
(أما بعد): فإنه أحضر إلي طائفة من أهل السنة والجماعة كتابا صنفه بعض شيوخ الرافضة في عصرنا منفقًا لهذه البضاعة، يدعو به إلى مذهب الرافضة الإمامية، من أمكنه دعوته من ولاة الأمور وغيرهم أهل الجاهلية، ممن قلت معرفتهم بالعلم والدين، ولم يعرفوا أصل دين المسلمين.
وأعانه على ذلك من عادتهم إعانة الرافضة، من المتظاهرين بالاسلام، من أصناف الباطنية الملحدين، الذين هم في الباطن من الصابئة الفلاسفة الخارجين عن حقيقة متابعة المرسلين، الذين لا يوجبون اتباع دين الإسلام، ولا يحرمون اتباع ما سواه من الأديان، بل يجعلون الملل بمنزلة المذاهب السياسات التي يسوغ اتباعها، وأن النبوة نوع من السياسة العادلة التي وضعت لمصلحة العامة في الدنيا.
فإن هذا الصنف يكثرون ويظهرون إذا كثرت الجاهلية وأهلها، ولم يكن هناك من أهل العلم بالنبوة والمتابعة لها من يظهر أنوارها الماحية لظلمة الضلال، ويكشف ما في خلافها من الإفك والشرك والمحال.
وهؤلاء لا يكذبون بالنبوة تكذيبًا مطلقًا، بل هم يؤمنون ببعض أحوالها، ويكفرون ببعض الأحوال، وهم متفاوتون فيما يؤمنون به ويكفرون به من تلك الخلال، فلهذا يلتبس أمرهم بسبب تعظيمهم للنبوات على كثير من أهل الجهالات.
والرافضة والجهمية هم الباب لهؤلاء الملحدين، منهم يدخلون إلى سائر أصناف الإلحاد في أسماء الله وآيات كتابه المبين، كما قرر ذلك رءوس الملحدة من القرامطة الباطنية، وغيرهم من المنافقين.(1/4)
وذكر من أحضر هذا الكتاب أنه من أعظم الأسباب في تقرير مذاهبهم عند من مال إليهم، من الملوك وغيرهم، وقد صنفه للملك المعروف الذي سماه: (خدابنده) وطلبوا مني بيان ما في هذا الكتاب من الضلال وباطل الخطاب؛ لما في ذلك من نصر عباد الله المؤمنين، وبيان بطلان أقوال المفترين الملحدين، فأخبرتهم أن هذا الكتاب، وإن كان من أعلى ما يقولونه في باب الحجة والدليل، فالقوم من أضل الناس عن سواء السبيل؛ فإن الأدلة: إما نقلية، وإما عقلية، والقوم من أضل الناس في المنقول والمعقول في المذهب والتقرير، وهم من أشبه الناس بمن قال الله فيهم: ((وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير))[الملك:10].
وهم من أكذب الناس في النقليات، ومن أجهل الناس في العقليات، يصدقون من المنقول بما يعلم العلماء بالاضطرار أنه من الأباطيل، ويكذبون بالمعلوم من الاضطرار المتواتر أعظم تواتر في الأمة جيلاً بعد جيل.
ولا يميزون في نقلة العلم ورواة الأحاديث والأخبار بين المعروف بالكذب، أو الغلط أو الجهل بما ينقل، وبين العدل الحافظ الضابط المعروف بالعلم والآثار، وعمدتهم في نفس الأمر على التقليد، وإن ظنوا إقامته بالبرهانيات، فتارة يتبعون المعتزلة والقدرية، وتارة يتبعون المجسمة والجبرية.
وهم من أجهل هذه الطوائف بالنظريات، ولهذا كانوا عند عامة أهل العلم والدين من أجهل الطوائف الداخلين في المسلمين، ومنهم من أدخل على الدين من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، فملاحدة الاسماعيلية والنصيرية وغيرهم من الباطنية المنافقين من بابهم دخلوا.
وأعداء المسلمين من المشركين وأهل الكتاب بطريقهم وصلوا، واستولوا بهم على بلاد الإسلام، وسبوا الحريم، وأخذوا الأموال، وسفكوا الدم الحرام، وجرى على الأمة بمعاونتهم من فساد الدنيا والدين ما لا يعلمه إلا رب العالمين.(1/5)
إذا كان أصل المذهب من إحداث الزنادقة المنافقين الذين عاقبهم في حياته علي أمير المؤمنين -رضي الله عنه- فحرق منهم طائفة بالنار، وطلب قتل بعضهم ففروا من سيفه البتار، وتوعد بالجلد طائفة مفترية فيما عرف عنه من الأخبار، إذ قد تواتر عنه من الوجوه الكثيرة أنه قال على منبر الكوفة وقد أسمع من حضر: (خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر)(1) وبذلك أجاب ابنه محمد بن الحنفية، فيما رواه البخاري في صحيحه، وغيره من علماء الملة الحنيفية.
ولهذا كانت الشيعة المتقدمون الذين صحبوا عليًا، -أو كانوا في ذلك الزمان- لم يتنازعوا في تفضيل أبي بكر وعمر، وإنما كان نزاعهم في تفضيل علي وعثمان، وهذا مما يعترف به علماء الشيعة الأكابر من الأوائل والأواخر، حتى ذكر مثل ذلك أبو القاسم البلخي.
قال: سأل سائل شريك بن عبد الله، فقال له: أيهما أفضل: أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال له السائل: تقول هذا وأنت شيعي؟ فقال له: نعم. من لم يقل هذا فليس شيعيًا، والله لقد رقى هذه الأعواد علي، فقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، فكيف نرد قوله؟ وكيف نكذبه؟ والله ما كان كذابًا. نقل هذا عبد الجبار الهمداني في كتاب تثبيت النبوة(2).
قال: ذكره أبو القاسم البلخي في النقض على ابن الراوندي على اعتراضه على الجاحظ.
__________
(1) انظر: البخاري (5/7) فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وسنن أبي داود (4/288) وابن ماجة (1/39) وغيرها.
(2) هو القاضي عماد الدين أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد الهمداني، شيخ المعتزلة في وقته، وكتابه (تثبيت دلائل النبوة) من أحسن الكتب في هذا الباب، وانظر: هذا الأثر فيه: (2/549).(1/6)
(فصل)
فلما ألحوا في طلب الرد لهذا الضلال المبين، ذاكرين أن في الإعراض عن ذلك خذلانًا للمؤمنين، وظن أهل الطغيان نوعًا من العجز عن رد هذا البهتان، فكتبت ما يسره الله من البيان، وفاءً بما أخذه الله من الميثاق على أهل العلم والإيمان، وقيامًا بالقسط وشهادة لله، كما قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ ِللهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُم أَوِ الَوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِين إِنْ يَكُنْ غَنِيًا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَوَلَّوْا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا))[النساء:135].
واللي: هو تغيير الشهادة، والإعراض: هو كتمانها.
والله تعالى قد أمر بالصدق والبيان، ونهى عن الكذب والكتمان، فيما يُحتاج إلى معرفته وإظهاره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (البيعان بالخيار مالم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)(1).
لا سيما الكتمان إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، كما في الأثر: (إذا لعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فليظهره، فإن كاتم العلم يومئذٍ ككاتم ما أنزل الله على محمد)(2).
وذلك أن أول هذه الأمة هم الذين قاموا بالدين تصديقًا وعلمًا وعملاً، وتبليغًا، فالطعن فيهم طعن في الدين، موجب للإعراض عما بعث الله به النبيين.
وهذا كان مقصود أول من أظهر بدعة التشيع، فإنما كان قصده الصد عن سبيل الله، وإبطال ما جاءت به الرسل عن الله، ولهذا كانوا يظهرون ذلك بحسب ضعف الملة، فظهر في الملاحدة حقيقة هذه البدع المضلة.
__________
(1) الحديث في البخاري في أماكن متعددة، انظر: كتاب البيوع (3/58) ومسلم كتاب البيوع أيضاً (3/1164).
(2) رواه ابن ماجة في سننه (1/96-97) عن جابر مرفوعاً، و هو ضعيف.(1/7)
لكن راج كثير منها على من ليس من المنافقين الملحدين، لنوعٍ من الشبهة والجهالة المخلوطة بهوى، فقبل معه الضلالة، وهذا أصل كل باطل، قال الله تعالى: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى))[النجم:1-4] فنزه الله رسوله عن الضلال والغي، والضلال: عدم العلم، والغي: اتباع الهوى؛ كما قال تعالى ((وَحَمَلَهَا الإِنْسَان إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً))[الأحزاب:72] فالظلوم غاوٍ، والجهول ضال إلا من تاب الله عليه.
وهذا حال أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة، فإنهم (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس) ففيهم جهل وظلم، لا سيما الرافضة، فإنهم أعظم ذوي الأهواء جهلاً وظلمًا، يعادون خيار أولياء الله تعالى -من بعد النبيين، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه- ويوالون الكفار والمنافقين من اليهود والنصارى والمشركين وأصناف الملحدين، كالنصيرية والإسماعيلية وغيرهم من الضالين، فتجدهم أو كثيرًا منهم إذا اختصم خصمان في ربهم من المؤمنين والكفار، واختلف الناس فيما جاءت به الأنبياء، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، سواء كان الاختلاف بقول أو عمل، كالحروب التي بين المسلمين وأهل الكتاب والمشركين.
تجدهم يعاونون المشركين وأهل الكتاب على المسلمين أهل القرآن، كما قد جرَّبه الناس منهم غير مرة، في مثل إعانتهم للمشركين من الترك وغيرهم على أهل الإسلام بخراسان والعراق والجزيرة والشام، وغير ذلك.
وإعانتهم للنصارى على المسلمين بالشام ومصر وغير ذلك في وقائع متعددة.(1/8)
من أعظم الحوادث التي كانت في الإسلام، في المائة الرابعة والسابعة، فإنه لما قدم كفار الترك إلى بلاد الإسلام، وقتل من المسلمين ما لا يحصى عدده إلا رب الأنام، كانوا من أعظم الناس عداوة للمسلمين، ومعاونة للكافرين، وهكذا معاونتهم لليهود أمر شهير، حتى جعلهم الناس لهم كالحمير.
(فصل): مشابهة الرافضة لليهود والنصارى من وجوه كثيرة
وهذا المصنف سمَّى كتابه: (منهاج الكرامة في معرفة الإمامة) وهو خليق بأن يسمى: (منهاج الندامة) كما أن من ادعى الطهارة وهو من الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، بل من أهل الجبت والطاغوت والنفاق، كان وصفه بالنجاسة والتكدير أولى من وصفه بالتطهير.
ومن أعظم خبث القلوب أن يكون في قلب العبد غل لخيار المؤمنين، وسادات أولياء الله بعد النبيين، ولهذا لم يجعل الله تعالى في الفيء نصيبًا لمن بعدهم، إلا الذين يقولون: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيم))[الحشر:10].
ولهذا كان بينهم وبين اليهود من المشابهة واتباع الهوى وغير ذلك من أخلاق اليهود.
وبينهم وبين النصارى من المشابهة في الغلو والجهل واتباع الهوى وغير ذلك من أخلاق النصارى، ما أشبهوا به هؤلاء من وجه وهؤلاء من وجه، وما زال الناس يصفونهم بذلك.
ومن أخبر الناس بهم الشعبي وأمثاله من علماء الكوفة.
وقد ثبت عن الشعبي أنه قال: ما رأيت أحمق من الخشبية، لو كانوا من الطير لكانوا رخمًا، ولو كانوا من البهائم لكانوا حمرًا، والله لو طلبت منهم أن يملئوا هذا البيت ذهبًا على أن أكذب على علي لأعطوني، ووالله ما أكذب عليه أبدًا، وقد روى هذا الكلام عنه مبسوطًا لكن الأظهر أن المبسوط من كلام غيره.(1/9)
كما روى أبو حفص ابن شاهين (1) في كتاب (اللطف في السنة): حدثنا محمد بن أبي القاسم بن هارون، حدثنا أحمد بن الوليد الواسطي، حدثني جعفر بن نصير الطوسي الواسطي، عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول، عن أبيه، قال: قال الشعبي: أحذركم أهل هذه الأهواء المضلة، وشرها الرافضة، لم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة، ولكن مقتًا لأهل الإسلام وبغيًا عليهم، وقد حرقهم علي رضي الله عنه ونفاهم إلى البلدان.
منهم: عبد الله بن سبأ يهودي من يهود صنعاء، نفاه إلى ساباط، وعبد الله بن يسار نفاه إلى خازر، وآية ذلك أن محنة الرافضة محنة اليهود. قالت اليهود: لا يصلح الملك إلا في آل داود، وقالت الرافضة: لا تصلح الإمامة إلا في ولد علي، وقالت اليهود: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح الدجال، وينزل سيف من السماء، وقالت الرافضة: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي، وينادي منادٍ من السماء.
واليهود يؤخرون الصلاة إلى اشتباك النجوم، وكذلك الرافضة يؤخرون المغرب إلى اشتباك النجوم، والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال أمتي على الفطرة مالم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم)(2).
واليهود تزول عن القبلة شيئا، وكذلك الرافضة.
واليهود تنود في الصلاة، وكذلك الرافضة.
واليهود تسدل أثوابها في الصلاة، وكذلك الرافضة.
واليهود لا يرون على النساء عدة، وكذلك الرافضة.
واليهود حرفوا التوراة، وكذلك الرافضة حرفوا القرآن.
واليهود قالوا: افترض الله علينا خمسين صلاة، وكذلك الرافضة.
واليهود لا يخلصون السلام على المؤمنين إنما يقولون: السام عليكم -والسام الموت- وكذلك الرافضة.
__________
(1) هو أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان البغدادي توفي سنة (385) انظر: تذكرة الحفاظ (3/183).
(2) رواه أبو داود في السنن (1/169) وابن ماجة (1/225) وأحمد في المسند (4/147) و(5/422).(1/10)
واليهود لا يأكلون الجرِّي (1) والمرماهى والذناب، وكذلك الرافضة.
واليهود لا يرون المسح على الخفين، وكذلك الرافضة.
واليهود يستحلون أموال الناس كلهم، وكذلك الرافضة.
وقد أخبرنا الله عنهم في القرآن أنهم: ((قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِيِّينَ سَبِيل))[آل عمران:75] وكذلك الرافضة.
واليهود تسجد على قرونها في الصلاة، وكذلك الرافضة.
واليهود لا تسجد حتى تخفق برءوسها مرارًا شبه الركوع، وكذلك الرافضة.
واليهود تبغض جبريل، ويقولون: هو عدونا من الملائكة، وكذلك الرافضة يقولون: غلط جبريل بالوحي على محمد.
وكذلك الرافضة وافقوا النصارى في خصلة: النصارى ليس لنسائهم صداق إنما يتمتعون بهن تمتعًا، وكذلك الرافضة يتزوجون بالمتعة، ويستحلون المتعة.
وفضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين، سئلت اليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: حواري عيسى. وسئلت الرافضة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد.
أمروا بالاستغفار لهم، فسبوهم والسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية، ولا يثبت لهم قدم ولا تجتمع لهم كلمة، ولا تجاب لهم دعوة، دعوتهم مدحوضة، وكلمتهم مختلفة، وجمعهم متفرق (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ).
(قلت): هذا الكلام بعضه ثابت عن الشعبي، كقوله: لو كانت الشيعة من البهائم لكانوا حمرًا، ولو كانت من الطير لكانوا رخمًا، فإن هذا ثابت عنه.
قال ابن شاهين: حدثنا محمد بن العباس النحوي، حدثنا ابراهيم الحربي، حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا وكيع بن الجراح، حدثنا مالك بن مغول، فذكره، وأما السياق المذكور فهو معروف عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول، عن أبيه، عن الشعبي.
__________
(1) نوع من السمك زعموا أن السمك خاطب علياً إلا هذين النوعين منه.(1/11)
وروى أبو عاصم خشيش بن أصرم (1) في كتابه، ورواه من طرقه أبو عمرو الطلمنكي، في كتابه في الأصول، قال: حدثنا ابن جعفر الرقي، عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول، عن أبيه، قال: قلت لعامر الشعبي: ما ردك عن هؤلاء القوم، وقد كنت فيهم رأسًا؟ قال: رأيتهم يأخذون بأعجاز لا صدور لها.
ثم قال لي: يا مالك، لو أردت أن يعطوني رقابهم عبيدًا، أو يملئوا لي بيتي ذهبًا، أو يحجوا إلى بيتي هذا، على أن أكذب على علي رضي الله عنه لفعلوا، ولا. والله لا أكذب عليه أبدًا. يا مالك، إني قد درست أهل الأهواء فلم أر فيهم أحمق من الخشبية، فلو كانوا من الطير لكانوا رخمًا، ولو كانوا من الدواب لكانوا حمرًا. يا مالك، لم يدخلوا في الإسلام رغبة فيه لله ولا رهبة من الله، ولكن مقتًا من الله عليهم، وبغيًا منهم على أهل الإسلام.
يريدون أن يغمصوا دين الإسلام، كما غمص بولص بن يوشع ملك اليهود دين النصرانية، ولا تتجاوز صلاتهم آذانهم.
قد حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، ونفاهم من البلاد.
منهم: عبد الله بن سبأ، يهودي من يهود صنعاء، نفاه إلى ساباط، وأبو بكر الكروس، نفاه إلى الجابية، وحرق منهم قومًا، أتوه فقالوا: أنت هو. فقال: من أنا. فقالوا: أنت ربنا. فأمر بنار فأججت، فألقوا فيها، وفيهم قال علي رضي الله عنه:
لما رأيت الأمر أمرًا منكرا ... أججت ناري ودعوت قنبرا
يا مالك، إن محنتهم محنة اليهود، قالت اليهود: لا يصلح الملك إلا في آل داود، وكذلك قالت الرافضة: لا تصلح الإمامة إلا في ولد علي.
وقالت اليهود: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح الدجال وينزل سيف من السماء، وكذلك الرافضة قالوا: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج الرضا من آل محمد وينادي منادٍ من السماء: اتبعوه.
__________
(1) هو خشيش بن أصرم بن الأسود، أبو عاصم النسائي توفي سنة (253) وانظر: تهذيب التهذيب (3/142).(1/12)
وقالت اليهود: فرض الله علينا خمسين صلاة في كل يوم وليلة، وكذلك قالت الرافضة.
واليهود لا يصلون المغرب حتى تشتبك النجوم، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال أمتي على الإسلام مالم تؤخر المغرب إلى اشتباك النجوم)(1) مضاهاة لليهود، وكذلك الرافضة.
واليهود إذا صلوا زالوا عن القبلة شيئًا، وكذلك الرافضة.
واليهود تنود في صلاتها، وكذلك الرافضة.
واليهود يسدلون أثوابهم في الصلاة، وقد بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل سادل ثوبه فعطفه عليه، وكذلك الرافضة.
واليهود حرفوا التوراة، وكذلك الرافضة حرفوا القرآن.
واليهود يسجدون في صلاة الفجر الكندرة، وكذلك الرافضة.
واليهود لا يخلصون بالسلام إنما يقولون: سام عليكم -وهو الموت- وكذلك الرافضة، واليهود عادوا جبريل فقالوا: هو عدونا. وكذلك الرافضة قالوا: أخطأ جبريل بالوحي. و اليهود يستحلون أموال الناس، وقد نبأنا الله عنهم أنهم قالوا: ((لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِيِّينَ سَبِيل))[آل عمران:75]، وكذلك الرافضة يستحلون مال كل مسلم.
واليهود ليس لنسائهم صداق وإنما يتمتعون متعة، وكذلك الرافضة يستحلون المتعة.
واليهود يستحلون دم كل مسلم، وكذلك الرافضة.
واليهود يرون غش الناس، وكذلك الرافضة.
واليهود لا يعدون الطلاق شيئًا إلا عند كل حيضة، وكذلك الرافضة.
واليهود لا يرون العزل عن السراري، وكذلك الرافضة.
واليهود يحرمون الجرَّي والمرماهى، وكذلك الرافضة.
واليهود حرموا الأرنب والطحال، وكذلك الرافضة.
واليهود لا يرون المسح على الخفين، وكذلك الرافضة.
واليهود لا يلحدون، وكذلك الرافضة. وقد ألحد لنبينا صلى الله عليه وسلم.
واليهود يدخلون مع موتاهم في الكفن سعفة رطبة، وكذلك الرافضة.
__________
(1) تقدم ذكر من رواه قريبًا.(1/13)
ثم قال: يا مالك، وفضلتهم اليهود والنصارى بخصلة، قيل لليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وقيل للنصارى من خير أهل ملتكم؟ قالوا: حواري عيسى، وقيل للرافضة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: حواري محمد -يعنون بذلك طلحة والزبير- أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، والسيف مسلول عليهم إلى يوم القيامة، ودعوتهم مدحوضة، ورايتهم مهزومة، وأمرهم متشتت ((كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ))[المائدة:64]، ويسعون في الأرض فسادًا، والله لا يحب المفسدين.
وقد روى أبو القاسم الطبري(1) في (شرح أصول السنة) نحو هذا الكلام، من حديث وهب بن بقية الواسطي، عن محمد بن حجر الباهلي، عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول من وجوه متعددة يصدق بعضها بعضًا، وبعضها يزيد على بعض، لكن عبد الرحمن بن مالك بن مغول ضعيف، وذم الشعبي لهم ثابت من طرق أخرى، لكن لفظ الرافضة إنما ظهر لما رفضوا زيد بن علي بن الحسين في خلافة هشام، وقصة زيد بن علي بن الحسين كانت بعد العشرين ومائة سنة إحدى و عشرين أو اثنتين وعشرين ومائة في آخر خلافة هشام.
قال أبو حاتم البستى: قتل زيد بن علي بن الحسين بالكوفة سنة اثنتين وعشرين ومائة، فصلب على خشبة، وكان من أفاضل أهل البيت وعلمائهم، وكانت الشيعة تنتحله.
متى سموا رافضة وكذا الزيدية
(قلت): ومن زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلى رافضة وزيدية، فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر فترحم عليهما، رفضه قوم، فقال لهم: رفضتموني! فسموا رافضة، لرفضهم إياه، وسُميِّ من لم يرفضه من الشيعة زيديًا؛ لانتسابهم إليه، ولما صلب كانت العباد تأتي إلى خشبته بالليل فيتعبدون عندها.
والشعبي توفي في أوائل خلافة هشام، أو آخر خلافة يزيد بن عبد الملك أخيه، سنة خمس ومائة، أو قريبًا من ذلك. فلم يكن لفظ الرافضة معروفًا إذ ذاك.
__________
(1) هو اللالكائي.(1/14)
وبهذا وغيره يعرف كذب لفظ الأحاديث المرفوعة التي فيها لفظ الرافضة، ولكن كانوا يسمون بغير ذلك الاسم، كما يسمون بالخشبية؛ لقولهم: إنا لا نقاتل بالسيف إلا مع إمام معصوم، فقاتلوا بالخشب.
ولهذا جاء في بعض الروايات عن الشعبي: (ما رأيت أحمق من الخشبية)، فيكون المعبر عنهم بلفظ الرافضة ذكره بالمعنى، مع ضعف عبد الرحمن، ومع أن الظاهر أن هذا الكلام إنما هو نظم عبد الرحمن بن مالك بن مغول وتأليفه، وقد سمع منه طرفًا عن الشعبي، وسواء كان هو ألفه ونظمه لما رآه من أمور الشيعة في زمانه، ولما سمع عنهم، أو لما سمع من أقوال أهل العلم فيهم، أو بعضه، أو مجموع الأمرين، أو بعضه لهذا وبعضه لهذا، فهذا الكلام معروف بالدليل الذي لا يحتاج فيه إلى نقل وإسناد.
وقول القائل: إن الرافضة تفعل كذا، المراد به بعض الرافضة، كقوله تعالى: ((وَقَاَلتْ الَيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ الله))[التوبة:30]، ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةً غُلَّتْ أَيْدِيهِم))[المائدة:64].
لم يقل ذلك كل يهودي، بل فيهم من قال ذلك. وما ذكره موجود في الرافضة.
وفيهم أضعاف ما ذكره، مثل: تحريم بعضهم للحم الأوز والجمل، مشابهة لليهود.
ومثل: جمعهم بين الصلاتين دائما، فلا يصلون إلا في ثلاثة أوقات، مشابهة لليهود.
ومثل قولهم: أنه لا يقع الطلاق إلا بالإشهاد على الزوج مشابهة لليهود.
ومثل: تنجيسهم لأبدان غيرهم من المسلمين وأهل الكتاب، وتحريمهم لذبائحهم، وتنجيسهم ما يصيب ذلك من المياه والمائعات، وغسل الآنية التي يأكل منها غيرهم، مشابهة للسامرة الذين هم شر اليهود، ولهذا يجعلون الناس في المسلمين كالسامرة في اليهود.
ومثل استعمالهم التقية، وإظهار خلاف ما يبطنون من العداوة، مشابهة لليهود ونظائر ذلك كثير.(1/15)
ذكر بعض حماقات الرافضة
وأما سائر حماقاتهم فكثيرة جدًا: مثل كون بعضهم لا يشرب من نهرٍ حفره يزيد، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم والذين كانوا معه كانوا يشربون من آبار وأنهار حفرها الكفار.
وبعضهم لا يأكل من التوت الشامي، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه كانوا يأكلون مما يُجلب من بلاد الكفار من الجبن، ويلبسون ما تنسجه الكفار، بل غالب ثيابهم كانت من نسيج الكفار.
ومثل كونهم يكرهون التكلم بلفظ العشرة، أو فعل شيء يكون عشرة، حتى في البناء لا يبنون على عشرة أعمدة، ولا بعشرة جذوع ونحو ذلك، لكونهم يبغضون خيار الصحابة - وهم العشرة - المشهود لهم بالجنة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح رضوان الله عليهم أجمعين، يبغضون هؤلاء إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويبغضون السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وكانوا ألفًا وأربعمائة، وقد أخبر الله أنه قد رضي عنهم.
وثبت في صحيح مسلم وغيره، عن جابر أيضًا: أن غلام حاطب بن أبي بلتعة قال: يا رسول الله، والله ليدخلن حاطب النار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كذبت، إنه شهد بدرًا والحديبية)(1).
وهم يتبرءون من جمهور هؤلاء؛ بل يتبرءون من سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا نفرًا قليلاً نحو بضعة عشر، ومعلوم أنه لو فرض في العالم عشرة من أكفر الناس، لم يجب هجر هذا الاسم لذلك، كما أنه سبحانه وتعالى لما قال: ((وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فيِ الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُون))[النمل:48].
__________
(1) انظر: الحديث في مسلم (4/1942).(1/16)
لم يجب هجر اسم التسعة مطلقًا، بل اسم العشرة قد مدح الله مسماه في مواضع، كقوله تعالى في متعة الحج: ((فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشْرَةٌ كَامِلَة))[البقرة:196].
وقال تعالى: ((وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْر فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَة))[الأعراف:142].
وقال تعالى: ((وَاٌلْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ))[الفجر:1-2].
وقد ثبت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله تعالى)(1).
وقال في ليلة القدر: (التمسوها في العشر الأواخر)(2).
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيامٍ العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر)(3) ونظائر ذلك متعددة.
ومن العجب أنهم يوالون لفظ التسعة، وهم يبغضون التسعة من العشرة؛ فإنهم يبغضونهم إلا عليًا، وكذلك هجرهم لاسم أبي بكر وعمر وعثمان ولمن يتسمى بذلك، حتى يكرهوا معاملته، ومعلوم أن هؤلاء لو كانوا من أكفر الناس لم يشرع أن لا يتسمى الرجل بمثل أسمائهم، فقد كان في الصحابة من اسمه الوليد.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت في الصلاة، ويقول: (اللهم أنج الوليد بن الوليد بن المغيرة)(4)،وأبوه كان من أعظم الناس كفرًا، وهو الوحيد المذكور في قوله تعالى: ((ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا))[المدثر:11] وفي الصحابة من اسمه عمرو، وفي المشركين من اسمه عمرو بن عبد ودّ، وأبو جهل اسمه عمرو بن هشام.
وفي الصحابة خالد بن سعيد بن العاص من السابقين الأولين، وفي المشركين خالد بن سفيان الهذلي.
__________
(1) انظر: البخاري (3/47-48) ومسلم (2/830-831).
(2) انظر: كتاب الصوم من البخاري الباب مسلم: (2/823).
(3) انظر: البخاري (2/20) والترمذي (2/129).
(4) انظر:ه في: البخاري (6/48-49).(1/17)
وفي الصحابة من اسمه هشام، مثل: هشام بن حكيم، وأبو جهل كان اسم أبيه هشامًا.
وفي الصحابة من اسمه عقبة، مثل: أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري، وعقبة بن عامر الجهني، وكان في المشركين عقبة بن أبي معيط.
وفي الصحابة علي وعثمان، وكان في المشركين من اسمه علي مثل: علي بن أمية بن خلف، قتل يوم بدر كافرًا، ومثل عثمان بن طلحة قتل قبل أن يسلم، ومثل هذا كثير.
فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون يكرهون اسمًا من الأسماء لكونه قد تسمى به كافر من الكفار، فلو قدر أن المسلمين بهذه الأسماء كفار، لم يوجب ذلك كراهة هذه الأسماء مع العلم لكل أحد بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم بها، ويُقرُّ الناس على دعائهم بها.
وكثير منهم يزعم أنهم كانوا منافقين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنهم منافقون، وهو مع هذا يدعوهم بها، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه قد سمَّى بها أولاده فعلم أن جواز الدعاء بهذه الأسماء -سواء كان ذلك المسمى بها مسلمًا أو كافراً- أمر معلوم من دين الإسلام، فمن كره أن يدعو أحدًا بها كان من أظهر الناس مخالفة لدين الإسلام، ثم مع هذا إذا تسمى الرجل عندهم باسم علي أو جعفر أو حسن أو حسين أو نحو ذلك، عاملوه وأكرموه، ولا دليل لهم في ذلك على أنه منهم.(1/18)
ومن حماقاتهم أيضًا: أنهم يجعلون للمنتظر عدة مشاهد ينتظرونه فيها، كالسرداب الذي بسامرَّا الذي يزعمون أنه غائب فيه، ومشاهد أخر وقد يقيمون هناك دابة -إما بغلة وإما فرسًا وإما غير ذلك- ليركبها إذا خرج، ويقيمون هناك إما في طرفي النهار وإما في أوقات أخرى من ينادي عليه بالخروج: يا مولانا اخرج، ويشهرون السلاح ولا أحد هناك يقاتلهم، وفيهم من يقوم في أوقات دائمًا لا يصلي، خشية أن يخرج وهو في الصلاة فيشتغل بها عن خروجه وخدمته، وهم في أماكن بعيدة عن مشهده كمدينة النبي صلى الله عليه وسلم إما في العشر الأواخر من شهر رمضان، وإما في غير ذلك يتوجهون إلى المشرق، وينادون بأصوات عالية يطلبون خروجه.
ومن المعلوم أنه لو كان موجودًا وقد أمره الله بالخروج فإنه يخرج، سواء نادوه أو لم ينادوه، وإن لم يؤذن له فهو لا يقبل منهم، وإنه إذا خرج فإن الله يؤيده ويأتيه بما يركبه، وبمن يعينه وينصره، لا يحتاج أن يوقف له دائمًا من الآدميين من ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، والله سبحانه وتعالى قد عاب في كتابه من يدعو من لا يستجيب دعاءه فقال تعالى: ((ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَ لاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ))[فاطر:13-14] هذا مع أن الأصنام موجودة، وكان يكون بها أحيانًا شياطين تتراءى لهم وتخاطبهم.(1/19)
ومن خاطب معدومًا كانت حالته أسوأ من حال من خاطب موجودًا وإن كان جمادًا، فمن دعا المنتظر الذي لم يخلقه الله، كان ضلاله أعظم من ضلال هؤلاء، وإذا قال: أنا أعتقد وجوده كان بمنزلة قول أولئك: نحن نعتقد أن هذه الأصنام لها شفاعة عند الله، فيعبدون من دون الله ما لاينفعهم و لا يضرهم و يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
والمقصود أن كليهما يدعو من لا ينفع دعاؤه، وإن كان أولئك اتخذوهم شفعاء آلهة، وهؤلاء يقولون: هو إمام معصوم، فهم يوالون عليه، وقيعادون عليه كموالاة المشركين على آلهتهم، ويجعلونه ركنًا في الإيمان لا يتم الدين إلا به، كما يجعل بعض المشركين آلهتهم كذلك، وقد قال تعالى: ((مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيْيِنَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِْييِنَ أَرْبَابًَا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ))[آل عمران:79-80].
فإذا كان من يتخذ الملائكة والنبيين أربابًا بهذه الحال، فكيف بمن يتخذ إمامًا معدومًا لا وجود له! وقد قال تعالى: ((اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًَا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًَا وَاحِدًا لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ))[التوبة:31] وقد ثبت في الترمذي وغيره من حديث عدي بن حاتم أنه قال: (يا رسول الله، ما عبدوهم. فقال: إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم)(1) فهؤلاء اتخذوا أناسًا موجودين أربابًا.
__________
(1) انظر: سنن الترمذي (4/341)، وقال: غريب.(1/20)
وهؤلاء يجعلون الحلال والحرام معلقًا بالإمام المعدوم، الذي لا حقيقة له، ثم يعملون بكل ما يقول المثبتون: إنه يحلله ويحرمه، وإن خالف الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، حتى إن طائفتهم إذا اختلفت على قولين فالقول الذي لا يعرفه قائله هو الحق؛ لأنه قول هذا الإمام المعصوم، فيجعلون الحلال ما حلله، والحرام ما حرمه هذا الذي لا يوجد. وعند من يقول: إنه موجود لا يعرفه أحد، ولا يمكن أحد أن ينقل عنه كلمة واحدة.
ومن حماقاتهم: تمثيلهم لمن يبغضونه مثل اتخاذهم نعجة -وقد تكون نعجة حمراء؛ لكون عائشة تسمى الحميراء- يجعلونها عائشة ويعذبونها بنتف شعرها وغير ذلك، ويرون أن ذلك عقوبة لعائشة.
ومثل اتخاذهم حلسًا مملوءًا سمنًا ثم يشقون بطنه فيخرج السمن فيشربونه، ويقولون: هذا مثل ضرب عمر وشرب دمه.
ومثل تسمية بعضهم لحمارين من حمر الرحا أحدهما: بأبي بكر، والآخر بعمر، ثم يعاقبون الحمارين جعلاً منهم تلك العقوبة عقوبة لأبي بكر وعمر.
وتارة يكتبون أسماءهم على أسفل أرجلهم حتى أن بعض الولاة جعل يضرب رجلي من فعل ذلك ويقول: إنما ضربت أبا بكر وعمر، ولا أزال أضربهما حتى أعدمهما.
ومنهم من يسمي كلابه باسم أبي بكر وعمر، ويلعنهما! ومنهم من إذا سمى كلبه فقيل له: "بكير" يضارب من يفعل ذلك، ويقول: تسمى كلبي باسم أصحاب النار.
ومنهم من يعظم أبا لؤلؤة المجوسي الكافر الذي كان غلامًا للمغيرة بن شعبة لما قتل عمر، ويقولون: واثارات أبي لؤلؤة! فيعظمون كافرًا مجوسيًا باتفاق المسلمين لكونه قتل عمر رضي الله عنه.
ومن حماقاتهم: إظهارهم لما يجعلونه مشهدًا، فكم كذبوا الناس، وادعوا أن في هذا المكان ميتًا من أهل البيت، وربما جعلوه مقتولاً، فيبنون ذلك مشهدًا، وقد يكون ذلك قبر كافر أو قبر بعض الناس، ويظهر ذلك بعلامات كثيرة.(1/21)
ومعلوم أن عقوبة الدواب المسماة بذلك ونحو هذا الفعل لا يكون إلا من فعل أحمق الناس وأجهلهم، فإنه من المعلوم أنا لو أردنا أن نعاقب فرعون وأبا لهب وأبا جهل وغيرهم ممن ثبت بإجماع المسلمين أنهم من أكفر الناس مثل هذه العقوبة لكان هذا من أعظم الجهل، لأن ذلك لا فائدة فيه؛ بل إذا قتل كافر يجوز قتله أو مات حتف أنفه لم يجز بعد قتله أو موته أن يُمثَّل به، فلا يشق بطنه، أو يجدع أنفه وأذنه، ولا تقطع يده إلا أن يكون ذلك على سبيل المقابلة.
فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره، عن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بعث أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وأوصاه بمن معه من المسلمين خيرًا، وقال: (اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا)(1) وفي السنن أنه كان في خطبته يأمر بالصدقة، وينهى عن المثلة(2).
مع أن التمثيل بالكافر بعد موته فيه نكاية بالعدو، ولكن نُهى عنه لأنه زيادة إيذاء بلا حاجة، فإن المقصود كف شره بقتله، وقد حصل.
فهؤلاء الذين بيغضونهم لو كانوا كفارًا وقد ماتوا لم يكن لهم بعد موتهم أن يمثلوا بأبدانهم: لا يضربونهم، ولا يشقون بطونهم، ولا ينتفون شعورهم، مع أن في ذلك نكاية فيهم، أما إذا فعلوا ذلك بغيرهم ظنًا أن ذلك يصل إليهم كان غاية الجهل، فكيف إذا كان بمحرَّم كالشاة التي يحرم إيذاؤها بغير حق! فيفعلون ما لا يحصل لهم به منفعة أصلاً، بل ضرر في الدين والدنيا والآخرة، مع تضمنه غاية الحمق والجهل.
__________
(1) انظر:ه في مسلم (3/1356).
(2) انظر: سنن أبي داود (3/72) والدارمي (1/390).(1/22)
ومن حماقتهم: إقامة المأتم والنياحة على من قتل من سنين عديدة، ومن المعلوم أن المقتول وغيره من الموتى إذا فعل مثل ذلك بهم عقب موتهم كان ذلك مما حرمه الله ورسوله، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)(1). وثبت في الصحيح عنه أنه برئ من الحالقة والصالقة والشاقة(2). فالحالقة: التي تحلق شعرها عند المصيبة، والصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة بالمصيبة، والشاقة: التي تشق ثيابها.
وفي الصحيح عنه أنه قال: (من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه)(3). وفي الصحيح عنه أنه قال: (إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة درعًا من جرب، وسربالاً من قطران)(4) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وهؤلاء يأتون من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعوى الجاهلية، وغير ذلك من المنكرات بعد موت الميت بسنين كثيرة، ما لو فعلوه عقب موته لكان ذلك من أعظم المنكرات التي حرمها الله ورسوله، فكيف بعد هذه المدة الطويلة!
ومن المعلوم أنه قد قُتل من الأنبياء وغير الأنبياء ظلمًا وعدوانًا من هو أفضل من الحسين، قُتل أبوه ظلمًا، وهو أفضل منه، وقتل عثمان بن عفان، وكان قتله أول الفتن العظيمة التي وقعت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وترتب عليه من الشر والفساد أضعاف ما ترتب على قتل الحسين.
__________
(1) انظر: البخاري (2/82) في أماكن متعددة ومسلم (1/99).
(2) البخاري (2/81) ومواضع أخرى. ومسلم (1/100).
(3) انظر: مسلم (2/644) والبخاري (2/80).
(4) انظر:ه في مسلم (2/644).(1/23)
وقُتل غير هؤلاء ومات، وما فعل أحد -من المسلمين ولا غيرهم- مأتمًا ولا نياحة على ميت ولا قتيل بعد مدة طويلة من قتله، إلا هؤلاء الحمقى الذين لو كانوا من الطير لكانوا رخمًا، ولو كانوا من البهائم لكانوا حمرًا (1).
ومن ذلك: أن بعضهم لا يوقد خشب الطَرْفاء، لأنه أبلغه أن دم الحسين وقع على شجرة من الطرفاء! ومعلوم أن تلك الشجرة بعينها لا يكره وقودها ولو كان عليها من أي دم كان، فكيف بسائر الشجر الذي لم يصبه الدم؟!
ومن حماقاتهم ما يطول وصفها ولا يحتاج أن تنقل بإسناد، ولكن ينبغي أن يعلم مع هذا أن المقصود أنه من ذلك الزمان القديم يصفهم الناس بمثل هذا من عهد التابعين وتابعيهم، كما ثبت بعض ذلك، إما عن الشعبي، وإما أن يكون من كلام عبد الرحمن، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل، فإن عبد الرحمن كان في زمن تابعي التابعين.
وإنما ذكرنا هذا؛ لأن عبد الرحمن كثير من الناس لا يحتج بروايته المفردة، إما لسوء حفظه، وإما لتهمته في تحسين الحديث، وإن كان له علم ومعرفة بأنواع من العلوم، ولكن لا يصلح للاعتضاد والمتابعة، كمقاتل بن سليمان، ومحمد بن عمر الواقدي، وأمثالهما، فإن كثرة الشهادات والأخبار قد توجب العلم، وإن لم يكن كل من المخبرين ثقة حافظًا حتى يحصل العلم بمخبر الأخبار المتواترة، وإن كان المخبرون من أهل الفسوق، إذا لم يحصل بينهم تشاغر وتواطؤ.
والقول الحق الذي يقوم عليه الدليل يُقبل من كل من قاله، وإن لم يقبل بمجرد إخبار المخبر به.
فلهذا ذكرنا ما ذكره عبد الرحمن بن مالك بن مغول، فإن غاية ما فيه أنه قاله ذاكرًا الأثر وعبد الرحمن هذا يروي عن أبيه، وعن الأعمش، وعن عبيد الله بن عمر، ولا يحتج بمفرداته، فإنه ضعيف.
__________
(1) اتخاذهم يوم عاشوراء مأتما على الحسين هو من أجل إيقاد نار الغل والحقد على أهل السنة لأنهم في تصويرهم هم الذين قتلوه، وليس ذلك حبا للحسين وأهل بيته.(1/24)
ومما ينبغي أن يعرف أن ما يوجد في جنس الشيعة من الأقوال والأفعال المذمومة وإن كان أضعاف ما ذُكر لكن قد لا يكون هذا كله في الإمامية الاثني عشرية ولا في الزيدية، ولكن يكون كثير منه في الغالية، وفي كثير من عوامهم، مثل ما يذكر عنهم من تحريم لحم الجمل، وأن الطلاق يشترط فيه رضا المرأة، ونحو ذلك مما يقوله من يقوله من عوامهم، وإن كان علماؤهم لا يقولون ذلك، ولكن لما كان أصل مذهبهم مستندًا إلى جهل، كانوا أكثر الطوائف كذبًا وجهلاً.
(فصل): الرافضة أكذب الناس وذلك فيهم قديم وليسوا أهل علم
ونحن نبين إن شاء الله تعالى طريق الاستقامة في معرفة هذا الكتاب (منهاج الندامة) بحول الله وقوته، وهذا الرجل سلك مسلك سلفه شيوخ الرافضة، كابن النعمان المفيد، ومتبعيه كالكراجكي، وأبي القاسم الموسوي، والطوسي، وأمثالهم.
فإن الرافضة في الأصل ليسوا أهل علم، وخبرة بطريق النظر والمناظرة، ومعرفة الأدلة، وما يدخل فيها من المنع والمعارضة، كما أنهم من أجهل الناس بمعرفة المنقولات والأحاديث والآثار، والتمييز بين صحيحها وضعيفها، وإنما عمدتهم في المنقولات على تواريخ منقطعة الإسناد، وكثير منها من وضع المعروفين بالكذب وبالإلحاد.
وعلماؤهم يعتمدون على نقل مثل: أبي مخنف لوط بن يحيى، وهشام بن محمد بن السائب، وأمثالهما من المعروفين بالكذب عند أهل العلم، مع أن أمثال هؤلاء هم أجل من يعتمدون عليه في النقل، إذ كانوا يعتمدون على من هو في غاية الجهل والافتراء، ممن لا يُذكر في الكتب ولا يعرفه أهل العلم بالرجال.
وقد اتفق أهل العلم بالنقل والرواية والاسناد على أن الرافضة أكذب الطوائف، والكذب فيهم قديم، ولهذا كان أئمة الإسلام يعلمون امتيازهم بكثرة الكذب.
قال أبو حاتم الرازي: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: قال أشهب بن عبد العزيز: سئل مالك عن الرافضة؟ فقال: لا تكلمهم ولا تروِ عنهم فإنهم يكذبون.(1/25)
وقال أبو حاتم: حدثنا حرملة، قال: سمعت الشافعي يقول: لم أر أحدًا أشهد بالزور من الرافضة.
وقال مؤمل بن إهاب: سمعت يزيد بن هارون يقول: يكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية إلا الرافضة، فإنهم يكذبون.
وقال محمد بن سعيد الأصبهاني: سمعت شريكا يقول: أحمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة، فإنهم يضعون الحديث، ويتخذونه دينًا.
وشريك هذا هو شريك بن عبد الله القاضي، قاضي الكوفة، من أقران الثوري وأبي حنيفة، وهو من الشيعة الذي يقول بلسانه: أنا من الشيعة. وهذه شهادته فيهم.
وقال أبو معاوية: سمعت الأعمش يقول: أدركت الناس وما يسمونهم إلا الكذابين، يعني: أصحاب المغيرة بن سعيد.
وقال الأعمش: ولا عليكم أن تذكروا هذا فإني لا آمنهم أن يقولوا: إنا أصبنا الأعمش مع امرأة.
وهذه آثار ثابتة قد رواها أبو عبد الله ابن بطة في الإبانة الكبرى، هو وغيره.
وروى أبو القاسم الطبري: كان الشافعي يقول: ما رأيت في أهل الأهواء قومًا أشهد بالزور من الرافضة، وهذا المعنى وإن كان صحيحًا فاللفظ الأول هو الثابت عن الشافعي.
والمقصود هنا أن العلماء كلهم متفقون على أن الكذب في الرافضة أظهر منه في سائر طوائف أهل القبلة.
والرافضة أصل بدعتهم عن زندقة وإلحاد، وتعمد الكذب فيهم كثير، وهم يقرون بذلك، حيث يقولون: ديننا التقية، وهو أن يقول أحدهم بلسانه خلاف ما في قلبه، وهذا هو الكذب والنفاق، ويدَّعون مع هذا أنهم هم المؤمنون دون غيرهم من أهل الملة.
ويصفون السابقين الأولين بالردة والنفاق، فهم في ذلك كما قيل: (رمتني بدائها وانسلت)، إذ ليس في المظهرين للإسلام أقرب إلى النفاق والردة منهم، ولا يوجد المرتدون والمنافقون في طائفة أكثر مما يوجد فيهم، واعتبر ذلك بالغالية من النصيرية وغيرهم، وبالملاحدة والإسماعيلية وأمثالهم.(1/26)
وعمدتهم في الشرعيات ما نقل لهم عن بعض أهل البيت، وذلك النقل منه ما هو صدق، ومنه ما هو كذب عمدًا أو خطًأ، وليسوا أهل معرفة بصحيح المنقول وضعيفه كأهل المعرفة بالحديث، ثم إذا صح النقل عن هؤلاء فإنهم بنوا وجوب قبول قول الواحد من هؤلاء على ثلاثة أصول: على أن الواحد من هؤلاء معصوم مثل عصمة الرسول.
وعلى أن ما يقوله أحدهم فإنما يقوله نقلاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدعون العصمة في هذا النقل.
والثالث: أن إجماع العترة حجة، ثم يدعون أن العترة هم الاثنا عشر، ويدعون أن ما نقل عن أحدهم فقد أجمعوا كلهم عليه.
فهذه أصول الشرعيات عندهم، وهي أصول فاسدة، كما سنبين ذلك في موضعه، لا يعتمدون على القرآن، ولا على الحديث، ولا على الإجماع، إلا لكون المعصوم منهم.
ولا على القياس، وإن كان جليًا واضحًا. وأما أعمدتهم في النظر والعقليات: فقد اعتمد متأخروهم على كتب المعتزلة في الجملة.
والمعتزلة أعقل وأصدق، وليس في المعتزلة من يطعن في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم أجمعين، بل هم متفقون على تثبيت خلافة الثلاثة.
وأما التفضيل فأئمتهم وجمهورهم كانوا يفضلون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وفي متأخريهم من توقف في التفضيل، وبعضهم فضل عليًا، فصار بينهم وبين الزيدية نسب راجح من جهة المشاركة في التوحيد والعدل والإمامة والتفضيل.(1/27)
الفصل الأول: زعم الرافضة أن الإمامة من أهم أصول الدين
قال المصنف الرافضي: أما بعد، فهذه رسالة شريفة، ومقالة لطيفة، اشتملت على أهم المطالب في أحكام الدين، وأشرف مسائل المسلمين، وهي مسألة الإمامة، التي يحصل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة، وهي أحد أركان الإيمان، المستحق بسببه الخلود في الجنان، والتخلص من غضب الرحمن، فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) خدمت بها خزانة السلطان الأعظم، مالك رقاب الأمم، ملك ملوك طوائف العرب والعجم، مولى النعم، ومسدي الخير والكرم، شاهنشاه المكرم، غياث الملة والحق والدين (أولجايو خدابنده)، قد لخصت فيه خلاصة الدلائل، وأشرت إلى رءوس المسائل، وسميتها: (منهاج الكرامة في معرفة الإمامة) ورتبتها على فصول:
الفصل الأول: في نقل المذاهب في هذه المسألة، ثم ذكر الفصل الثاني: في أن مذهب الإمامية واجب الاتباع، ثم ذكر الفصل الثالث: في الأدلة على إمامة علي رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الفصل الرابع: في الاثني عشر، ثم ذكر الفصل الخامس: في إبطال خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، فيقال: الكلام على هذا من وجوه:
(أحدها): أن يقال أولاً: إن قول القائل: إن مسألة الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين، وأشرف مسائل المسلمين، كذب بإجماع المسلمين، سنيهم وشيعيهم، بل هو كفر، فإن الإيمان بالله ورسوله أهم من مسألة الإمامة.
وهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فالكافر لا يصير مؤمنًا حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهذا هو الذي قاتل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم الكفار أولاً، كما استفاض عنه في الصحاح وغيرها، أنه قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)(1).
__________
(1) انظر: البخاري (1/10) وأماكن أخر، ومسلم (1/52-53).(1/28)
وقد قال تعالى: ((فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ))[التوبة:5].
وكذلك قال لعلي لما بعثه إلى خيبر، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في الكفار، فيحقن دماءهم بالتوبة من الكفر، لا يذكر لهم الامامة بحال، وقد قال تعالى بعد هذا: ((فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ))[التوبة:11].
فجعلهم إخوانًا في الدين بالتوبة، فإن الكفار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا أسلموا أجرى عليهم أحكام الإسلام، ولم يذكر لهم الإمامة بحال، ولا نقل هذا عن الرسول أحد من أهل العلم، لا نقلاً خاصًا ولا عامًا، بل نحن نعلم بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يذكر للناس إذا أرادوا الدخول في دينه الإمامة لا مطلقًا ولا معينًا.
فكيف تكون أهم المطالب في أحكام الدين؟
ومما يبين ذلك أن الإمامة -بتقدير الاحتياج إلى معرفتها- لا يحتاج إليها من مات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون أشرف مسائل المسلمين وأهم المطالب في الدين لا يحتاج إليه أحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
أوليس الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته واتبعوه باطنًا وظاهرًا، ولم يرتدوا ولم يبدلوا، هم أفضل الخلق باتفاق المسلمين: أهل السنة والشيعة؟ فكيف يكون أفضل المسلمين لا يحتاج إلى أهم المطالب في الدين وأشرف مسائل المسلمين؟
فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام في حياته، وإنما يُحتاج إلى الإمام بعد مماته، فلم تكن هذه المسألة أهم مسائل الدين في حياته، وإنما صارت أهم مسائل الدين بعد موته؟ قيل: الجواب عن هذا من وجوه:(1/29)
(أحدها): أنه بتقدير صحة ذلك لا يجوز أن يقال: إنها أهم مسائل الدين مطلقًا، بل في وقت دون وقت، وهي في خير الأوقات ليست أهم المطالب في أحكام الدين ولا أشرف مسائل المسلمين.
(الثاني): أن يقال: الإيمان بالله ورسوله في كل زمان ومكان أعظم من مسألة الإمامة، فلم تكن في وقت من الأوقات لا الأهم ولا الأشرف.
(الثالث): أن يقال: فقد كان يجب بيانها من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته الباقين من بعده، كما بيَّن لهم أمور الصلاة والزكاة والصيام والحج، وعين أمر الإيمان بالله وتوحيده واليوم الآخر.
ومن المعلوم أنه ليس بيان مسألة الإمامة في الكتاب والسنة ببيان هذه الأصول.
فإن قيل: بل الإمامة في كل زمان هي الأهم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان نبيًا إمامًا، وهذا كان معلومًا لمن آمن به أنه كان إمام ذلك الزمان.
قيل: الاعتذار بهذا باطل من وجوه:
(أحدها): أن قول القائل: الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين: إما أن يريد به إمامة الاثني عشر، أو إمامة إمام كل زمان بعينه في زمانه، بحيث يكون الأهم في زماننا الإيمان بإمامة محمد المنتظر، والأهم في زمان الخلفاء الأربعة الإيمان بإمامة علي عندهم، والأهم في زمان النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بإمامته.
وإما أن يريد به: الإيمان بأحكام الإمامة مطلقًا غير معين، وإما أن يريد به معنى رابعًا.
أما الأول: فقد علم بالاضطرار أن هذا لم يكن معلومًا شائعًا بين الصحابة ولا التابعين، بل الشيعة تقول: إن كل واحد إنما يُعيّن بنص مَنْ قَبْلَهَ، فبطل أن يكون هذا أهم أمور الدين.(1/30)
وأما الثاني: فعلى هذا التقدير يكون أهم المطالب في كل زمان الإيمان بإمام ذلك الزمان، ويكون الإيمان من سنة ستين ومائتين إلى هذا التاريخ إنما هو الإيمان بإمامة محمد بن الحسن، ويكون هذا أعظم من الإيمان بأنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ومن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، ومن الإيمان بالصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الواجبات، وهذا مع أنه معلوم فساده بالاضطرار من دين الإسلام، فليس هو قول الإمامية، فإن اهتمامهم بعلي وإمامته أعظم من اهتمامهم بإمامة المنتظر، كما ذكره هذا المصنف، وأمثاله من شيوخ الشيعة.
وأيضًا: فإن كان هذا هو أهم المطالب في الدين، فالإمامية أخسر الناس صفقة في الدين؛ لأنهم جعلوا الإمام المعصوم، هو الإمام المعدوم الذي لم ينفعهم في الدين والدنيا، فلم يستفيدوا من أهم الأمور الدينية شيئًا من منافع الدين ولا الدنيا.
فإن قالوا: إن المراد أن الإيمان بحكم الإمامة مطلقًا هو أهم أمور الدين، كان هذا أيضًا باطلاً للعلم الضروري أن غيرها من أمور الدين أهم منها.
وإن أريد معنىً رابع فلا بد من بيانه لنتكلم عليه.
(الوجه الثاني) أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم تجب طاعته على الناس لكونه إمامًا، بل لكونه رسول الله إلى الناس، وهذا المعنى ثابت له حيًا وميتًا، فوجوب طاعته على من بعده كوجوب طاعته على أهل زمانه، وأهل زمانه فيهم الشاهد الذي يسمع أمره ونهيه، وفيهم الغائب الذي بلَّغه الشاهد أمره ونهيه.
فكما يجب على الغائب عنه في حياته طاعة أمره ونهيه، يجب ذلك على من يكون بعد موته، وهو صلى الله عليه وسلم أمره شامل عام لكل مؤمن شهده أو غاب عنه في حياته وبعد موته، وهذا ليس لأحد من الأئمة ولا يستفاد هذا بالإمامة.(1/31)
حتى إنه صلى الله عليه وسلم إذا أمر ناسًا معينين بأمور، وحكم في أعيان معينة بأحكام، لم يكن حكمه وأمره مختصًا بتلك المعينات، بل كان ثابتًا في نظائرها وأمثالها إلى يوم القيامة، فقوله صلى الله عليه وسلم لمن شهده: (لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود)(1) هو حكم ثابت لكل مأموم بإمام أن لا يسبقه بالركوع ولا بالسجود، وقوله لمن قال: (لم أشعر فحلقت قبل أن أرمي. قال: ارم ولا حرج. ولمن قال: نحرت قبل أن أحلق. قال: احلق ولا حرج)(2). أمر لمن كان مثله.
وكذلك قوله لعائشة رضي الله عنها لما حاضت وهي معتمرة: (اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت)(3) وأمثال هذا كثير، بخلاف الإمام إذا أطيع.
وخلفاؤه بعده في تنفيذ أمره ونهيه كخلفائه في حياته، فكل آمر بأمر يجب طاعته فيه، إنما هو منفذ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله أرسله إلى الناس وفرض عليهم طاعته، لا لأجل كونه إمامًا له شوكة وأعوان، أو لأجل أن غيره عهد له بالإمامة، أو غير ذلك، فطاعته لا تقف على ما تقف عليه طاعة الأئمة من عهد من قبله، أو موافقته ذوي الشوكة أو غير ذلك، بل تجب طاعته صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن معه أحد، وإن كذبه جميع الناس.
__________
(1) انظر: مسلم (1/320) وابن ماجة (1/308-309).
(2) انظر: البخاري (2/173) ومسلم (2/948).
(3) انظر: البخاري (2/159).(1/32)
وكانت طاعته واجبة بمكة قبل أن يصير له أعوان وأنصار يقاتلون معه، فهو كما قال سبحانه فيه: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ))[آل عمران:144] بين سبحانه وتعالى أنه ليس بموته ولا قتله ينتقض حكم رسالته، كما ينتقض حكم الإمامة بموت الأئمة وقتلهم، وأنه ليس من شرطه أن يكون خالدًا لا يموت، فإنه ليس هو ربًا، وإنما هو رسول قد خلت من قبله الرسل.
وقد بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه، فطاعته واجبة بعد مماته وجوبها في حياته وأوكد؛ لأن الدين كمل واستقر بموته فلم يبق فيه نسخ، ولهذا جُمع القرآن بعد موته لكماله واستقراره بموته.
فإذا قال القائل: إنه كان إمامًا في حياته، وبعده صار الإمام غيره.
إن أراد بذلك أنه صار بعده من هو نظيره يُطاع كما يطاع الرسول فهذا باطل، وإن أراد أنه قام من يخلفه في تنفيذ أمره ونهيه، فهذا كان حاصلاً في حياته، فإنه إذا غاب كان هناك من يخلفه.
وإن قيل: إنه بعد موته لا يباشر معينًا بالأمر بخلاف حياته.
قيل: مباشرته بالأمر ليست شرطًا في وجوب طاعته، بل تجب طاعته على من بلغه أمره ونهيه، كما تجب طاعته على من سمع كلامه.
وقد كان يقول: (ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع)(1).
وإن قيل: إنه في حياته كان يقضي في قضايا معينة، مثل: إعطاء شخص بعينه، وإقامة الحد على شخص بعينه، وتنفيذ جيش بعينه.
__________
(1) رواه البخاري (2/176) وغيره.(1/33)
قيل: نعم وطاعته واجبة في نظير ذلك إلى يوم القيامة بخلاف الأئمة؛ لكن قد يخفى الاستدلال على نظير ذلك كما يخفى العلم على من غاب عنه، فالشاهد أعلم بما قال، وأفهم له من الغائب، وإن كان فيمن غاب وبُلِّغ أمره من هو أوعى له من بعض السامعين، لكن هذا لتفاضل الناس في معرفة أمره ونهيه، لا لتفاضلهم في وجوب طاعته عليهم.
فما تجب طاعة ولي أمر بعده إلا كما تجب طاعة ولاة الأمور في حياته، فطاعته شاملة لجميع العباد شمولاً واحدًا، وإن تنوعت طرقهم في البلاغ والسماع والفهم، فهؤلاء يبلغهم من أمره ما لم يبلغ هؤلاء، وهؤلاء يسمعون من أمره ما لم يسمعه هؤلاء، وهؤلاء يفهمون من أمره ما لا يفهمه هؤلاء، وكل من أمر بما أمر به الرسول وجبت طاعته، طاعة لله ورسوله لا له.
وإذا كان للناس ولي أمر قادر ذو شوكة، فيأمر بما يأمر، ويحكم بما يحكم، انتظم الأمر بذلك، ولم يجز أن يُولَّى غيره، ولا يمكن بعده أن يكون شخص واحد مثله، إنما يوجد من هو أقرب إليه من غيره، فأحق الناس بخلافة نبوته أقربهم إلى الأمر بما يأمر به، والنهي عما نهى عنه، ولا يطاع أمره طاعة ظاهرة غالبة إلا بقدرة وسلطان يوجب الطاعة، كما لم يُطع أمره في حياته طاعة ظاهرة غالبة حتى صار معه من يقاتل على طاعة أمره، فالدين كله طاعة لله ورسوله، وطاعة الله ورسوله هي الدين كله، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله.
ودين المسلمين بعد موته طاعة الله ورسوله، وطاعتهم لولي الأمر فيما أُمروا بطاعته فيه هو طاعة لله ورسوله، وأمر ولي الأمر الذي أمره الله أن يأمرهم به، وقسمه وحكمه هو طاعة لله ورسوله، فأعمال الأئمة والأمة في حياته ومماته التي يحبها الله ويرضاها كلها طاعة لله ورسوله.
ولهذا كان أصل الدين شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله.(1/34)
فإذا قيل: هو كان إمامًا وأريد بذلك إمامة خارجة عن الرسالة، أو إمامة يشترط فيها ما لا يشترط في الرسالة، أو إمامة يعتبر فيها طاعته بدون طاعة الرسول، فهذا كله باطل؛ فإن كل ما يطاع به داخل في رسالته، وهو في كل ما يطاع فيه يطاع بأنه رسول الله ولو قدر أنه كان إمامًا مجردًا لم يطع حتى تكون طاعته داخلة في طاعة رسول آخر.
فالطاعة إنما تجب لله ورسوله، ولمن أمرت الرسل بطاعتهم.
فإن قيل: أطيع بإمامته طاعة داخلة في رسالته كان هذا عديم التأثير، فإن مجرد رسالته كافية في وجوب طاعته، بخلاف الإمام فإنه إنما يصير إمامًا بأعوان ينفذون أمره، وإلا كان كآحاد أهل العلم والدين.
فإن قيل: إنه صلى الله عليه وسلم لما صار له شوكة بالمدينة صار له مع الرسالة إمامة بالعدل.
قيل: بل صار رسولاً له أعوان وأنصار ينفذون أمره، ويجاهدون من خالفه، وهو ما دام في الأرض من يؤمن بالله ورسوله له أنصار وأعوان ينفذون أمره، ويجاهدون من خالفه فلم يستفد بالأعوان ما يحتاج أن يضمه إلى الرسالة، مثل كونه إمامًا أو حاكمًا أو ولي أمر، إذ كان هذا كله داخلاً في رسالته، ولكن بالأعوان حصل له كمال قدرة أوجبت عليه من الأمر والجهاد ما لم يكن واجبًا بدون القدرة، والأحكام تختلف باختلاف حال القدرة والعجز والعلم وعدمه، كما تختلف باختلاف الغنى والفقر والصحة والمرض، والمؤمن مطيع لله في ذلك كله، وهو مطيع لرسول الله في ذلك كله، ومحمد رسول الله فيما أمر به ونهى عنه، مطيع لله في ذلك كله.
وإن قالت الإمامية: الإمامة واجبة بالعقل بخلاف الرسالة، فهي أهم من هذا الوجه.
قيل: الوجوب العقلي فيه نزاع كما سيأتي، وعلى القول بالوجوب العقلي فما يجب من الإمامة جزء من أجزاء الواجبات العقلية، وغير الإمامة أوجب من ذلك، كالتوحيد والصدق والعدل، وغير ذلك من الواجبات العقلية.(1/35)
وأيضًا فلا ريب أن الرسالة يحصل بها هذا الواجب، فمقصودها جزء من أجزاء الرسالة، فالإيمان بالرسول يحصل به مقصود الإمامة في حياته وبعد مماته بخلاف الإمامة.
وأيضًا: فمن ثبت عنده أن محمدًا رسول الله، وأن طاعته واجبة عليه، واجتهد في طاعته بحسب الإمكان.
إن قيل: إنه يدخل الجنة، فقد استغنى عن مسألة الإمامة.
وإن قيل: لا يدخل الجنة، كان هذا خلاف نصوص القرآن، فإنه سبحانه أوجب الجنة لمن أطاع الله ورسوله في غير موضع، كقوله تعالى: ((مَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِين وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ َرفِيقًا))[النساء:69]، ((وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلُهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيها وَذَلِكَ الْفَوْز العَظِيم))[النساء:13].
وأيضًا: فصاحب الزمان الذي يدعون إليه، لا سبيل للناس إلى معرفته ولا معرفة ما يأمرهم به وما ينهاهم عنه، وما يخبرهم به، فإن كان أحد لا يصير سعيدًا إلا بطاعة هذا الذي لا يعرف أمره ولا نهيه لزم أن لا يتمكن أحد من طريق النجاة والسعادة وطاعة الله، وهذا من أعظم تكليف ما لا يطاق، وهم من أعظم الناس إحالة له.
وإن قيل: بل هو يأمر بما عليه الإمامية.
قيل: فلا حاجة إلى وجوده ولا شهوده، فإن هذا معروف سواء كان هو حيًا أو ميتًا، وسواء كان شاهدًا أو غائبًا، وإذا كان معرفة ما أمر الله به الخلق ممكنًا بدون هذا الإمام المنتظر، عُلم أنه لا حاجة إليه، ولا يتوقف عليه طاعة الله ولا نجاة أحد ولا سعادته، وحينئذٍ فيمتنع القول بجواز إمامة مثل هذا، فضلاً عن القول بوجوب إمامة مثل هذا، وهذا أمر بيّن لمن تدبره، لكن الرافضة من أجهل الناس.(1/36)
وذلك أن فعل الواجبات العقلية والشرعية وترك المستقبحات العقلية والشرعية إما أن يكون موقوفًا على معرفة ما يأمر به وينهى عنه هذا المنتظر، وإما أن لا يكون موقوفًا، فإن كان موقوفًا لزم تكليف ما لا يطاق، وأن يكون فعل الواجبات وترك المحرمات موقوفا على شرط لا يقدر عليه عامة الناس، بل ولا أحد منهم؛ فإنه ليس في الأرض من يدَّعي دعوى صادقة أنه رأى هذا المنتظر، أو سمع كلامه.
وإن لم يكن موقوفًا على ذلك أمكن فعل الواجبات العقلية والشرعية، وترك القبائح العقلية والشرعية بدون هذا المنتظر، فلا يحتاج إليه، ولا يجب وجوده ولا شهوده.
وهؤلاء الرافضة علقوا نجاة الخلق وسعادتهم وطاعتهم لله ورسوله بشرط ممتنع لا يقدر عليه الناس، ولا يقدر عليه أحد منهم، وقالوا للناس: لا يكون أحد ناجيًا من عذاب الله إلا بذلك، ولا يكون سعيدًا إلا بذلك، ولا يكون أحد مؤمنا إلا بذلك.
فلزمهم أحد أمرين: إما بطلان قولهم، وإما أن يكون الله قد آيس عباده من رحمته، وأوجب عذابه لجميع الخلق، المسلمين وغيرهم، وعلى هذا التقدير فهم أوّل الأشقياء المعذبين، فإنه ليس لأحد منهم طريق إلى معرفة أمر هذا الإمام الذي يعتقدون أنه موجود غائب، ولا نهيه ولا خبره، بل عندهم من الأقوال المنقولة عن شيوخ الرافضة ما يذكرون أنه منقول عن الأئمة المتقدمين على هذا المنتظر، وهم لا ينقلون شيئًا عن المنتظر، وإن قُدِّر أن بعضهم نقل عنه شيئًا عُلم أنه كاذب، وحينئذٍ فتلك الأقوال إن كانت كافية فلا حاجة إلى المنتظر، وإن لم تكن كافية فقد أقروا بشقائهم وعذابهم، حيث كانت سعادتهم موقوفة على آمر لا يعلمون بماذا أمر.
وقد رأيت طائفة من شيوخ الرافضة كابن العود الحلي يقول: إذا اختلفت الإمامية على قولين أحدهما يعرف قائله والآخر لا يعرف قائله، كان القول الذي لا يعرف قائله هو القول الحق الذي يجب اتباعه؛ لأن المنتظر المعصوم في تلك الطائفة.(1/37)
وهذا غاية الجهل والضلال، فإنه بتقدير وجود المنتظر المعصوم لا يُعلم أنه قال ذلك القول؛ إذ لم ينقله عنه أحد، ولا عمن نقله عنه، فمن أين يجزم بأنه قوله؟ ولم لا يجوز أن يكون القول الآخر هو قوله، وهو لغيبته وخوفه من الظالمين لا يمكنه إظهار قوله، كما يدَّعون ذلك فيه؟
فكان أصل دين هؤلاء الرافضة مبنيًا على مجهول ومعدوم، لا على موجود ولا معلوم، يظنون أن إمامهم موجود معصوم، وهو مفقود معدوم، ولو كان موجودًا معصومًا، فهم معترفون بأنهم لا يقدرون أن يعرفوا أمره ونهيه، كما كانوا يعرفون أمر آبائه ونهيهم.
والمقصود بالإمام إنما هو طاعة أمره، فإذا كان العلم بأمره ممتنعًا، كانت طاعته ممتنعة، فكان المقصود به ممتنعًا، وإذا كان المقصود به ممتنعًا لم يكن في إثبات الوسيلة فائدة أصلاً، بل كان إثبات الوسيلة التي لا يحصل بها مقصودها من باب السفه والعبث والعذاب القبيح باتفاق أهل الشرع، وباتفاق العقلاء القائلين بتحسين العقول وتقبيحها، بل باتفاق العقلاء مطلقًا، فإنهم إذا فسروا القبيح بما يضر كانوا متفقين على أن معرفة الضار يعلم بالعقل.
والإيمان بهذا الإمام الذي ليس فيه منفعة، بل مضرة في العقل والنفس والبدن والمال وغير ذلك قبيح شرعًا وعقلاً. ولهذا كان المتبعون له من أبعد الناس عن مصلحة الدين والدنيا، لا تنتظم لهم مصلحة دينهم ولا دنياهم إن لم يدخلوا في طاعة غيرهم، كاليهود الذين لا تنتظم لهم مصلحة إلا بالدخول في طاعة من هو خارج عن دينهم.
فهم يوجبون وجود الإمام المنتظر المعصوم، لأن مصلحة الدين والدنيا لا تحصل إلا به عندهم، وهم لم يحصل لهم بهذا المنتظر مصلحة في الدين ولا في الدنيا، والذين كذَّبوا به لم تفتهم مصلحة في الدين ولا في الدنيا، بل كانوا أقوم بمصالح الدين والدنيا من أتباعه.(1/38)
فعلم بذلك أن قولهم في الإمامة، لا ينال به إلا ما يورث الخزي والندامة، وأنه ليس فيه شيء من الكرامة، وأن ذلك إذا كان أعظم مطالب الدين؛ فهم أبعد الناس عن الحق والهدى في أعظم مطالب الدين، وإن لم يكن أعظم مطالب الدين، ظهر بطلان ما ادّعوه من ذلك، فثبت بطلان قولهم على التقديرين، وهو المطلوب.
فإن قال هؤلاء الرافضة: إيماننا بهذا المنتظر المعصوم مثل إيمان كثير من شيوخ الزهد والدين بإلياس والخضر والغوث والقطب، ورجال الغيب، ونحو ذلك من الأشخاص الذين لا يعرفون وجودهم، ولا بماذا يأمرون، ولا عن ماذا ينهون، فكيف يسوغ لمن يوافق هؤلاء أن ينكر علينا ما ندعيه؟
قيل: الجواب من وجوه:
(أحدها): أن الإيمان بوجود هؤلاء ليس واجبًا عند أحدٍ من علماء المسلمين وطوائفهم المعروفين، وإذا كان بعض الغلاة يوجب على أصحابه الإيمان بوجود هؤلاء، ويقول: إنه لا يكون مؤمنًا وليًا لله إلا من يؤمن بوجود هؤلاء في هذه الأزمان، كان قوله مردودًا، كقول الرافضة.
(الوجه الثاني):أن يقال: من الناس من يظن أن التصديق بهؤلاء يزداد الرجل به إيمانًا وخيرًا، وموالاة لله وأن المصدق بوجود هؤلاء أكمل وأشرف وأفضل عند الله ممن لم يصدِّق بوجود هؤلاء، وهذا القول ليس مثل قول الرافضة من كل وجه، بل هو مشابه له من بعض الوجوه، لكونهم جعلوا كمال الدين موقوفًا على ذلك.(1/39)
وحينئذٍ فيقال: هذا القول أيضًا باطل باتفاق علماء المسلمين وأئمتهم، فإن العلم بالواجبات والمستحبات وفعل الواجبات والمستحبات كلها ليس موقوفًا على التصديق بوجود هؤلاء، ومن ظن من أهل النسك والزهد والعامة أن شيئًا من الدين واجبًا أو مستحبًا موقوف على التصديق بوجود هؤلاء، فهذا جاهل ضال باتفاق أهل العلم والإيمان العالمين بالكتاب والسنّة، إذ قد عُلم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته التصديق بوجود هؤلاء، ولا أصحابه كانوا يجعلون ذلك من الدين، ولا أئمة المسلمين.
وأيضًا: فجميع هذه الألفاظ: لفظ الغوث والقطب والأوتاد والنجباء وغيرها لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد معروف أنه تكلم بشيء منها ولا أصحابه، ولكن لفظ الإبدال تكلم به بعض السلف ويروى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف(1)، وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.
شرك بعض الصوفية حتى في الربوبية
(الوجه الثالث): أن يقال: القائلون بهذه الأمور منهم من ينسب إلى أحد هؤلاء ما لا تجوز نسبته إلى أحد من البشر، مثل: دعوى بعضهم أن الغوث أو القطب هو الذي يمد أهل الأرض في هداهم ونصرهم ورزقهم، فإن هذا لا يصل إلى أحد إلا بواسطة نزوله على ذلك الشخص، وهذا باطل بإجماع المسلمين، وهو من جنس قول النصارى في الباب، وكذلك ما يدَّعيه بعضهم من أن الواحد من هؤلاء يعلم كل وليٍّ لله كان أو يكون، اسمه واسم أبيه، ومنزلته من الله.. ونحو ذلك من المقالات الباطلة التي تتضمن أن الواحد من البشر يشارك الله في بعض خصائصه.
__________
(1) ورد الحديث في المسند (2/171) تحقيق أحمد شاكر.(1/40)
مثل: أنه بكل شيء عليم، أو على كل شيء قدير.. ونحو ذلك، كما يقول بعضهم في النبي صلى الله عليه وسلم وفي شيوخه: إن علم أحدهم ينطبق على علم الله، وقدرته منطبقة على قدرة الله، فيعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر الله عليه، فهذه المقالات وما يشبهها من جنس قول النصارى، والغالية في عليّ، وهي باطلة بإجماع المسلمين.
ومنهم من ينسب إلى الواحد من هؤلاء ما تجوز نسبته إلى الأنبياء وصالحي المؤمنين من الكرامات، كدعوة مجابة، ومكاشفات من مكاشفات الصالحين.. ونحو ذلك، فهذا القدر يقع كثيرًا من الأشخاص الموجودين المعاينين، ومن نسب ذلك إلى من لا يُعرف وجوده، فهؤلاء وإن كانوا مخطئين في نسبة ذلك إلى شخصٍ معدوم فخطؤهم كخطأ من اعتقد أن في البلد الفلاني رجالاً من أولياء الله وليس فيه أحد، أو اعتقد في ناس معينين أنهم أولياء الله ولم يكونوا كذلك، ولا ريب أن هذا خطأ وجهل وضلال يقع فيه كثير من الناس، لكن خطأ الإمامية و ضلالهم أقبح وأعظم.
لا وجود لإلياس والخضر
(الوجه الرابع):أن يقال: الصواب الذي عليه محققو العلماء أن إلياس والخضر ماتا، وأنه ليس أحد من البشر واسطة بين الله عز سلطانه وبين خلقه في خلقه ورزقه وهداه ونصره، وإنما الرسل وسائط في تبليغ رسالاته، لا سبيل لأحد إلى السعادة إلا بطاعة الرسل.
وأما خلقه وهداه ونصره ورزقه فلا يقدر عليه إلا الله تعالى، فهذا لا يتوقف على حياة الرسل وبقائهم، بل ولا يتوقف نصر الخلق ورزقهم على وجود الرسل أصلاً، بل قد يخلق ذلك بما شاء من الأسباب بواسطة الملائكة أو غيرهم، وقد يكون لبعض البشر في ذلك من الأسباب ما هو معروف في البشر.
وأما كون ذلك لا يكون إلا بواسطة من البشر، أو أن أحدًا من البشر يتولى ذلك كله، ونحو ذلك، فهذا كله باطل، وحينئذٍ فيقال للرافضة إذا احتجوا بضلال الضلال: ((وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ))[الزخرف:39].(1/41)
وأيضًا: فمن المعلوم أن أشرف مسائل المسلمين، وأهم المطالب في الدين، ينبغي أن يكون ذكرها في كتاب الله أعظم من غيرها، وبيان الرسول لها أولى من بيان غيرها، والقرآن مملوء بذكر توحيد الله، وذكر أسمائه وصفاته وآياته، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقصص والأمر والنهي والحدود والفرائض، بخلاف الإمامة، فكيف يكون القرآن مملوءًا بغير الأهم الأشرف؟
وأيضًا: فإن الله تعالى قد علَّق السعادة بما لا ذكر فيه للإمامة، فقال: ((وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِين وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا))[النساء:69]، وقال: ((وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَناَّت))[النساء:13] إلى قوله: ((وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيها وَلَهُ عَذَابٌ مُهِين))[النساء:14].
فقد بيَّن الله في القرآن أن من أطاع الله ورسوله كان سعيدًا في الآخرة، ومن عصى الله ورسوله وتعدّى حدوده كان معذبًا، وهذا هو الفرق بين السعداء والأشقياء، ولم يذكر الإمامة.
فإن قال قائل: إن الإمامة داخلة في طاعة الله ورسوله، قيل: نهايتها أن تكون كبعض الواجبات: كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك مما يدخل في طاعة الله ورسوله، فكيف تكون هي وحدها أشرف مسائل المسلمين وأهم مطالب الدين؟ فإن قيل: لا يمكننا طاعة الرسول إلا بطاعة الإمام، فإنه هو الذي يعرف الشرع.
قيل: هذا هو دعوى المذهب، ولا حجة فيه، ومعلوم أن القرآن لم يدل على هذا كما دل على سائر أصول الدين، وقد تقدم أن هذا الإمام الذي يدعونه لم ينتفع به أحد في ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى أن ما جاء به الرسول لا يحتاج في معرفته إلى أحد من الأئمة.(1/42)
أصول الدين عند الإمامية
(الوجه الثاني)(1) أن يقال: أصول الدين عند الإمامية أربعة: التوحيد، والعدل، والنبوة والإمامة هي آخر المراتب، والتوحيد والعدل والنبوة قبل ذلك، وهم يدخلون في التوحيد نفي الصفات، والقول بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، ويدخلون في العدل التكذيب بالقدر، وأن الله لا يقدر أن يهدي من يشاء.. ولا يقدر أن يضل من يشاء، وأنه قد يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وغير ذلك، فلا يقولون: إنه خالق كل شيء، ولا إنه على كل شيء قدير، ولا إنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لكن التوحيد والعدل والنبوة مقدمة على الإمامة، فكيف تكون الإمامة أشرف وأهم؟ وأيضًا: فالإمامة إنما أوجبوها لكونها لطفًا في الواجبات، فهي واجبة وجوب الوسائل، فكيف تكون الوسيلة أشرف وأهم من المقصود؟
تناقض الرافضة في الإمامة بين القول والتطبيق
(الوجه الثالث): أن يقال: إن كانت الإمامة أهم مطالب الدين، وأشرف مسائل المسلمين، فأبعد الناس عن هذا الأهم الأشرف هم الرافضة، فإنهم قد قالوا في الإمامة أسخف قول وأفسده في العقل والدين، كما سنبينه إن شاء الله تعالى إذا تكلمنا عن حججهم.
ويكفيك أن مطلوبهم بالإمامة أن يكون لهم رئيس معصوم، يكون لطفًا في مصالح دينهم ودنياهم، وليس في الطوائف أبعد عن مصلحة اللطف والإمامة منهم، فإنهم يحتالون على مجهول ومعدوم لا يُرى له عين ولا أثر، ولا يسمع له حس ولا خبر، فلم يحصل لهم من الأمر المقصود بإمامته شيء، وأي من فرض إمامًا نافعًا في بعض مصالح الدين والدنيا، كان خيرًا ممن لا ينتفع به في شيء من مصالح الإمامة.
__________
(1) الوجه الأول ما تقدم على قول الرافضة: إن الإمامة أهم أمور الدين.(1/43)
ولهذا تجدهم لما فاتهم مصلحة الإمامة، يدخلون في طاعة كافر أو ظالم لينالوا به بعض مقاصدهم، فبينما هم يدعون الناس إلى طاعة إمام معصوم، أصبحوا يرجعون إلى طاعة ظلوم، فهل يكون أبعد عن مقصود الإمامة، وعن الخير والكرامة ممن سلك منهاج الندامة؟ وفي الجملة، فالله تعالى قد علق بولاة الأمور مصالح في الدين والدنيا، سواء كانت الإمامة أهم الأمور أو لم تكن، والرافضة أبعد الناس عن حصول هذه المصلحة لهم، فقد فاتهم على قولهم الخير المطلوب من أهم مطالب الدين وأشرف مسائل المسلمين.
ولقد طلب مني بعض أكابر شيوخهم الفضلاء أن يخلو بي وأتكلم معه في ذلك، فخلوت به وقررت له ما يقولونه في هذا الباب، كقولهم: إن الله أمر العباد ونهاهم، فيجب أن يفعل بهم اللطف الذي يكونون عنده أقرب إلى فعل الواجب، وترك القبيح، لأن من دعا شخصًا ليأكل طعامًا، فإذا كان مراده الأكل فعل ما يعين على ذلك من الأسباب، كتلقيه بالبشر وإجلاسه في مجلس يناسبه وأمثال ذلك.
وإن لم يكن مراده أن يأكل، عبس في وجهه وأغلق الباب.. ونحو ذلك، وهذا أخذوه من المعتزلة، ليس هو من أصول شيوخهم القدماء.
ثم قالوا: والإمام لطف؛ لأن الناس إذا كان لهم إمام يأمرهم بالواجب وينهاهم عن القبيح، كانوا أقرب إلى فعل المأمور، وترك المحظور، فيجب أن يكون لهم إمام، ولا بد أن يكون معصومًا؛ لأنه إذا لم يكن معصومًا لم يحصل به المقصود، ولم تدع العصمة لأحدٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا لعليّ، فتعين أن يكون هو إياه، للإجماع على انتفاء ما سواه، وبسطت له العبارة في هذه المعاني.
ثم قالوا: وعليّ نصّ على الحسن، والحسن على الحسين، إلى أن انتهت النوبة إلى المنتظر محمد بن الحسن صاحب السرداب الغائب، فاعترف أن هذا تقرير مذهبهم على غاية الكمال.(1/44)
قلت له: فأنا وأنت طالبان للعلم والحق والهدى، وهم يقولون: من لم يؤمن بالمنتظر فهو كافر، فهذا المنتظر: هل رأيته؟ أو رأيت من رآه؟ أو سمعت بخبره؟ أو تعرف شيئًا من كلامه الذي قاله هو؟ أو ما أمر به أو ما نهى عنه مأخوذًا عنه كما يؤخذ من الأئمة؟ قال: لا. قلت:فأي فائدة في إيماننا هذا؟ وأي لطف يحصل لنا بهذا؟
ثم كيف يجوز أن يكلفنا الله بطاعة شخص ونحن لا نعلم ما يأمرنا به ولا ما ينهانا عنه، ولا طريق لنا إلى معرفة ذلك بوجه من الوجوه؟ وهم من أشد الناس إنكارًا لتكليف ما لا يطاق، فهل يكون في تكليف ما لا يطاق أبلغ من هذا؟
فقال: إثبات هذا مبني على تلك المقدمات. قلت: لكن المقصود لنا من تلك المقدمات هو ما يتعلق بنا نحن، وإلا فما علينا مما مضى إذا لم يتعلق بنا منه أمر ولا نهي.
وإذا كان كلامنا في تلك المقدمات لا يُحصِّلُ لنا فائدة ولا لطفًا، ولا يفيدنا إلا تكليف ما لا يُقدر عليه، عُلم أن الإيمان بهذا المنتظر من باب الجهل والضلال، لا من باب اللطف والمصلحة.
والذي عند الإمامية من النقل عن الأئمة الموتى: إن كان حقًا يحصل به سعادتهم، فلا حاجة بهم إلى المنتظر، وإن كان باطلاً فهم أيضًا لم ينتفعوا بالمنتظر في رد هذا الباطل، فلم ينتفعوا بالمنتظر لا في إثبات حق، ولا في نفي باطل، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، ولم يحصل به لواحد منهم شيء من المصلحة واللطف والمنفعة المطلوبة من الإمامة.(1/45)
والجهال الذين يُعلِّقون أمورهم بالمجهولات، كرجال الغيب والقطب والغوث والخضر.. ونحو ذلك، مع جهلهم وضلالهم، وكونهم يثبتون ما لم يحصل لهم به مصلحة ولا لطف ولا منفعة لا في الدين ولا في الدنيا، أقل ضلالاً من الرافضة، فإن الخضر ينتفع برؤيته وبموعظته، وإن كان غالطًا في اعتقاده أنه الخضر فقد يرى أحدهم بعض الجنّ فيظنّ أنه الخضر، ولا يخاطبه الجني إلا بما يرى أنه يقبله منه ليربطه على ذلك، فيكون الرجل أتى من نفسه لا من ذلك المخاطب له، ومنهم من يقول: لكل زمان خضر، ومنهم من يقول: لكل وليّ خضر.
وللكفار كاليهود مواضع يقولون: إنهم يرون الخضر فيها، وقد يرى الخضر على صور مختلفة، وعلى صورة هائلة، وأمثال ذلك، وذلك لأن هذا الذي يقول: إنه الخضر هو جني، بل هو شيطان يظهر لمن يرى أنه يضله، وفي ذلك حكايات كثيرة يضيق هذا الموضع عن ذكرها.
وعلى كل تقدير فأصناف الشيعة أكثر ضلالاً من هؤلاء، فإن المنتظر ليس عندهم نقل ثابت عنه، ولا يعتقدون فيمن يرونه أنه المنتظر، ولما دخل السرداب كان عندهم صغيرًا لم يبلغ سنّ التمييز، وهم يقبلون من الأكاذيب أضعاف ما يقبله هؤلاء، ويعرضون عن الاقتداء بالكتاب والسنّة أكثر من إعراض هؤلاء، ويقدحون في خيار المسلمين قدحًا يعاديهم عليه هؤلاء، فهم أضل عن مصالح الإمامة من جميع طوائف الأمة، فقد فاتهم على قولهم أهم الدين وأشرفه.
لا يحصل بمعرفة الإمام خير إن لم يعمل صالحاً
(الوجه الرابع): أن يقال: قوله: (التي يحصل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة) كلام باطل؛ فإن مجرد معرفة إمام وقته وإدراكه بعينه لا يستحق به الكرامة إن لم يوافق أمره، وإلا فليست معرفة إمام الوقت بأعظم من معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن عرف أن محمدًا رسول الله فلم يؤمن به ولم يطع أمره لم يحصل له شيء من الكرامة.(1/46)
ولو آمن بالنبي وعصاه، وضيع الفرائض وتعدى الحدود كان مستحقًا للوعيد عند الإمامية وسائر طوائف المسلمين، فكيف بمن عرف الإمام وهو مضيّع للفرائض متعدّ للحدود! وكثير من هؤلاء يقول: حب عليّ حسنة لا يضر معها سيئة، وإن كانت السيئات لا تضر مع حب عليّ، فلا حاجة إلى الإمام المعصوم الذي هو لطف في التكليف، فإنه إذا لم يوجد إنما توجد سيئات ومعاصٍ، فإن كان حب عليّ كافيًا، فسواء وجد الإمام أو لم يوجد.
ليست الإمامة من واجبات الدين
(الوجه الخامس): قوله: (وهي أحد أركان الإيمان، المستحق بسببه الخلود في الجنان).
فيقال له: من جعل هذا من الإيمان إلا أهل الجهل والبهتان؟ وسنتكلم إن شاء الله على ما ذكره من ذلك.
والله تعالى وصف المؤمنين وأحوالهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد فسَّر الإيمان، وذكر شعبه، ولم يذكر الله ولا رسوله الإمامة في أركان الإيمان، ففي الحديث الصحيح -حديث جبريل- لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي، وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، قال له: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، قال: والإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره)(1)ولم يذكر الإمامة.
قال: (والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهذا الحديث متفق على صحته، متلقى بالقبول، أجمع أهل العلم بالنقل على صحته، وقد أخرجه أصحاب الصحيح من غير وجه، فهو من المتفق عليه من حديث أبي هريرة وفي أفراد مسلم من حديث عمر، وهم وإن كانوا لا يقرون بصحة هذه الأحاديث، فالمصنف قد احتج بأحاديث موضوعة كذب باتفاق أهل المعرفة.
__________
(1) رواه مسلم (1/36) والبخاري في مواضع. انظر: (1/15).(1/47)
فإما أن نحتج بما يقوم الدليل على صحته نحن وهم، أو لا نحتج بشيء من ذلك نحن ولا هم، فإن تركوا الرواية رأسًا أمكن أن نترك الراوية.
وأما إذا رووا هم، فلا بد من معارضة الرواية بالرواية، والاعتماد على ما تقوم به الحجة، ونحن نبين الدلائل الدالة على كذب ما يعارضون به أهل السنّة من الروايات الباطلة، والدلائل الدالة على صحة ما نقله أهل العلم بالحديث وصححوه.
وهب أنّا لا نحتج بالحديث؛ فقد قال الله تعالى: ((إ ِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُم إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُون * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونْ * أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًا لَهُم دَرَجَاتٍ عِنْدَ رَبِّهِم وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم))[الأنفال:2-4] فشهد لهؤلاء بالإيمان من غير ذكر للإمامة، وقال تعالى: ((إِنَّمَا الُمؤْمِنونَ الَّذِينَ آمنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون))[الحجرات:15]. فجعلهم صادقين في الإيمان من غير ذكر للإمامة.
وأيضًا: فنحن نعلم بالاضطرار من دين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أن الناس كانوا إذا أسلموا لم يجعل إيمانهم موقوفًا على معرفة الإمامة، ولم يذكر لهم شيئا من ذلك.
وما كان أحد أركان الإيمان لا بد أن يبينه الرسول لأهل الإيمان ليحصل لهم به الإيمان، فإذا علم بالاضطرار أن هذا مما لم يكن الرسول يشترطه في الإيمان، عُلم أن اشتراطه في الإيمان من أقوال أهل البهتان.
فإن قيل: قد دخلت في عموم النص، أو هي من باب ما لا يتم الواجب إلا به، أو دل عليها نص آخر.(1/48)
قيل: هذا كله لو صح لكان غايته أن تكون من بعض فروع الدين، لا تكون من أركان الإيمان، فإن ركن الإيمان ما لا يحصل الإيمان إلا به كالشهادتين، فلا يكون الرجل مؤمنًا حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فلو كانت الإمامة ركنًا في الإيمان لا يتم إيمان أحد إلا به، لوجب أن يبين ذلك الرسول بيانًا عامًا قاطعًا للعذر، كما بين الشهادتين والإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، فكيف ونحن نعلم بالاضطرار من دينه أن الذين دخلوا في دينه أفواجًا لم يشترط على أحدٍ منهم في الإيمان بالإمامة لا مطلقًا ولا معينًا؟!
(الوجه السادس): قوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).
فيقال له: أولاً: من روى هذا الحديث بهذا اللفظ، وأين إسناده؟ وكيف يجوز أن يُحتج بنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير بيان الطريق الذي به يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؟ هذا لو كان مجهول الحال عند أهل العلم بالحديث، فكيف وهذا الحديث بهذا اللفظ لا يُعرف؟ إنما الحديث المعروف مثل ما روى مسلم في صحيحه، عن نافع، قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثًا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله: سمعته يقول: (من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات ليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية)(1).
__________
(1) رواه مسلم (3/1478).(1/49)
وهذا حديث حدَّث به عبد الله بن عمر لعبد الله بن مطيع بن الأسود لما خلعوا طاعة أمير وقتهم يزيد، مع أنه كان فيه من الظلم ما كان، ثم إنه اقتتل هو وهم، وفعل بأهل الحرة أمورًا منكرة، فعُلم أن هذا الحديث دل على ما دل عليه سائر الأحاديث الآتية، من أنه لا يُخرج على ولاة أمور المسلمين بالسيف، فإن لم يكن مطيعًا لولاة الأمور مات ميتة جاهلية.
وهذا ضد قول الرافضة، فإنهم أعظم الناس مخالفة لولاة الأمور، وأبعد الناس عن طاعتهم إلا كرهًا، ونحن نطالبهم أولاً بصحة النقل، ثم بتقدير أن يكون ناقله واحدًا، فكيف يجوز أن يثبت أصل الإيمان بخبر مثل هذا الذي لا يُعرف له ناقل؟ وإن عُرف له ناقل أمكن خطؤه وكذبه، وهل يثبت أصل الإيمان إلا بطريق علمي؟!
(الوجه السابع): أن يقال: إن كان هذا الحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فليس فيه حجة لهذا القائل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (مات ميتة جاهلية).
وهذا الحديث يتناول من قاتل في العصبية، والرافضة رءوس هؤلاء، ولكن لا يكفر المسلم بالاقتتال في العصبية، كما دل على ذلك الكتاب والسنّة، فكيف يكفر بما دون ذلك؟!
وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات، مات ميتة جاهلية)(1) وهذا حال الرافضة، فإنهم يخرجون عن الطاعة ويفارقون الجماعة.
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإن من خرج من السلطان شبرًا، مات ميتة جاهلية)(2).
وهذه النصوص مع كونها صريحة في حال الرافضة، فهي وأمثالها المعروفة عند أهل العلم، لا بذلك اللفظ الذي نقله.
__________
(1) انظر: مسلم (3/1476).
(2) انظر: البخاري (9/47) ومسلم (3/1477).(1/50)
(الوجه الثامن): أن هذا الحديث الذي ذكره حجة على الرافضة؛ لأنهم لا يعرفون إمام زمانهم، فإنهم يدّعون أنه الغائب المنتظر محمد بن الحسن، الذي دخل سرداب سامرّا سنة ستين ومائتين أو نحوها ولم يعد، بل كان عمره إما سنتين، وإما ثلاثًا، وإما خمسًا أو نحو ذلك، وله الآن -على قولهم- أكثر من أربعمائة سنة، ولم يُرَ له عين ولا أثر، ولا سُمع له حس ولا خبر.
فليس فيهم أحد يعرفه لا بعينه ولا صفته، لكن يقولون: إن هذا الشخص الذي لم يره أحد ولم يسمع له خبر هو إمام زمانهم، ومعلوم أن هذا ليس هو معرفة بالإمام، ونظير هذا أن يكون لرجل قريب من بني عمه في الدنيا ولا يعرف شيئًا من أحواله، فهذا لا يعرف ابن عمه، وكذلك المال الملتقط إذا عرف أن له مالكًا ولم يعرف عينه لم يكن عارفًا لصاحب اللقطة، بل هذا أعرف؛ لأن هذا يمكن ترتيب بعض أحكام الملك والنسب عليه.
وأما المنتظر فلا يعرف له حال ينتفع به في الإمامة، فإن معرفة الإمام التي تخرج الإنسان من الجاهلية، هي المعرفة التي يحصل بها طاعة وجماعة، خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية، فإنهم لم يكن لهم إمام يجمعهم، ولا جماعة تعصمهم، والله تعالى بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهداهم به إلى الطاعة والجماعة، وهذا المنتظر لا يحصل بمعرفته طاعة ولا جماعة، فلم يُعرف معرفة تخرج الإنسان من الجاهلية، بل المنتسبون إليه أعظم الطوائف جاهلية، وأشبههم بالجاهلية، وإن لم يدخلوا في طاعة غيرهم -إما طاعة كافر أو طاعة مسلم- هو عندهم من الكفار أو النواصب -لم ينتظم لهم مصلحة؛ لكثرة اختلافهم وافتراقهم وخروجهم عن الطاعة، وهذا يبينه.(1/51)
(الوجه التاسع): وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطاعة الأئمة الموجودين المعلومين، الذين لهم سلطان يقدرون به على سياسة الناس، لا بطاعة معدوم ولا مجهول، ولا من ليس له سلطان ولا قدرة على شيء أصلاً، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتماع والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، ولم يأمر بطاعة الأئمة مطلقًا، بل أمر بطاعتهم في طاعة الله دون معصيته، وهذا يبين أن الأئمة الذين أمر بطاعتهم في طاعة الله ليسوا معصومين.
فإن قال: أنا أردت بقولي: إنها أهم المطالب في الدين، وأشرف مسائل المسلمين التي تنازعت الأمة فيها بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه هي مسألة الإمامة.
قيل له: فلا لفظ فصيح، ولا معنى صحيح، فإن ما ذكرته لا يدل على هذا المعنى، بل مفهوم اللفظ ومقتضاه أنها أهم المطالب في الدين مطلقًا، وأشرف مسائل المسلمين مطلقًا.
وبتقدير أن يكون هذا مرادك، فهو معنى باطل، فإن المسلمين تنازعوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، في مسائل أشرف من هذه.
وبتقدير أن تكون هي الأشرف، فالذي ذكرته فيها أبطل المذاهب، وأفسد المطالب، وذلك أن النزاع في الإمامة لم يظهر إلا في خلافة علي.
وأما على عهد الخلفاء الثلاثة فلم يظهر نزاع، إلا ما جرى يوم السقيفة، وما انفصلوا حتى اتفقوا، ومثل هذا لا يعد نزاعًا، ولو قدّر أن النزاع فيها كان عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم فليس كل ما تنوزع فيه عقب موته صلى الله عليه وسلم يكون أشرف مما تنوزع فيه بعد موته بدهر طويل.
وإذا كان كذلك، فمعلوم أن مسائل التوحيد والصفات والإثبات والتنزيه والقدر والتعديل والتجويز والتحسين والتقبيح، أهم وأشرف من مسائل الإمامة، ومسائل الأسماء والأحكام، والوعد والوعيد، والعفو والشفاعة والتخليد، أهم من مسائل الإمامة.(1/52)
فإن كانت أهم مسائل الدين، وهم لم ينتفعوا بالمقصود منها، فقد فاتهم من الدين أهمه وأشرفه، وحينئذٍ فلا ينتفعون بما حصل لهم من التوحيد والعدل؛ لأنه يكون ناقصًا بالنسبة إلى مقصود الإمامة، فيستحقون العذاب.
كيف.. وهم يسلِّمون أن مقصود الإمامة في الفروع الشرعية، وأما الأصول العقلية فلا يُحتاج فيها إلى الإمام، وتلك هي أهم وأشرف! ثم بعد هذا كله، فقولكم في الإمامة من أبعد الأقوال عن الصواب، ولو لم يكن فيه إلا أنكم أوجبتم الإمامة لما فيها من مصلحة الخلق في دينهم ودنياهم، وإمامكم صاحب الوقت، لم يحصل لكم من جهته مصلحة لا في الدين ولا في الدنيا.
فأي سعي أضل من سعي من يتعب التعب الطويل، ويكثر القال والقيل، ويفارق جماعة المسلمين، ويلعن السابقين والتابعين، ويعاون الكفار والمنافقين، ويحتال بأنواع الحيل، ويسلك ما أمكنه من السبل، ويعتضد بشهود الزور، ويُدلى أتباعه بحبل الغرور، ويفعل ما يطول وصفه، ومقصوده بذلك أن يكون له إمام يدله على أمر الله ونهيه، ويعرّفه ما يقربه إلى الله تعالى؟! ثم إنه لما علم اسم ذلك الإمام ونسبه، لم يظفر بشيء من مطلوبه، ولا وصل إليه شيء من تعليمه وإرشاده، ولا أمره ولا نهيه، ولا حصل له من جهته منفعة ولا مصلحة أصلاً، إلا إذهاب نفسه وماله، وقطع الأسفار، وطول الانتظار بالليل والنهار، ومعاداة الجمهور لداخل في سرداب، ليس له عمل ولا خطاب.
ولو كان موجودًا بيقين، لما حصل به منفعة لهؤلاء المساكين، فكيف وعقلاء الناس يعلمون أنه ليس معهم إلا الإفلاس، وأن الحسن بن علي العسكري لم ينسل ولم يُعْقِبَ، كما ذكر ذلك محمد بن جرير الطبري، وعبد الباقي بن قانع، وغيرهما من أهل العلم بالنسب؟!(1/53)
وهم يقولون: إنه دخل السرداب بعد موت أبيه وعمره إما سنتان، وإما ثلاث، وإما خمس.. وإما نحو ذلك، ومثل هذا بنص القرآن يتيم، يجب أن يُحفظ له ماله حتى يؤنس منه الرشد، ويحضنه من يستحق حضانته من قرابته، فإذا صار له سبع سنين أمر بالطهارة والصلاة.
فمن لا توضأ ولا صلى، وهو تحت حجر وليه في نفسه وماله بنص القرآن، لو كان موجودًا يشهده العيان، فما جاز أن يكون هو إمام أهل الإيمان، فكيف إذا كان معدومًا أو مفقودًا مع طول هذه الغيبة؟!
والمرأة إذا غاب وليها، زوّجها الحاكم أو الولي الحاضر، لئلا تفوت مصلحة المرأة بغيبة الولي المعلوم الموجود، فكيف تضيع مصلحة الإمامة مع طول هذه المدة مع هذا الإمام المفقود؟!
(فصل)
قال الرافضي: لما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم قام بثقل الرسالة، ونص على أن الخليفة بعده علي بن أبي طالب عليه السلام، ثم من بعده على ولده الحسن الزكي، ثم على ولده الحسين الشهيد، ثم على علي بن الحسين زين العابدين، ثم على محمد بن علي الباقر، ثم على جعفر بن محمد الصادق، ثم على موسى بن جعفر الكاظم، ثم على عليّ بن موسى الرضا، ثم على محمد بن علي الجواد، ثم على علي بن محمد الهادي، ثم على الحسن بن علي العسكري، ثم على الخلف الحجة محمد بن الحسن المهدي، عليهم الصلاة والسلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت إلا عن وصية بالإمامة، وقال: وأهل السنّة ذهبوا إلى خلاف ذلك كله.
(فصل)
وأما قوله عن أهل السنّة: إنهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على إمامة أحد، وأنه مات عن غير وصية.
فالجواب أن يقال: ليس هذا قول جميعهم، بل قد ذهبت طوائف من أهل السنّة إلى أن إمامة أبي بكر ثبتت بالنص، والنزاع في ذلك معروف في مذهب أحمد وغيره من الأئمة.
وقد ذكر القاضي أبو يعلى وغيره في ذلك روايتين عن الإمام أحمد:(1/54)
إحداهما: أنها ثبتت بالأخبار، قال: وبهذا قال جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية وهذا اختيار القاضي أبي يعلى وغيره.
والثانية: أنها ثبتت بالنص الخفي والإشارة، قال: وبهذا قال الحسن البصري، وجماعة من أهل الحديث، وبكر ابن أخت عبد الواحد، والبيهسية من الخوارج.
وقال شيخه أبو عبد الله ابن حامد: فأما الدليل على استحقاق أبي بكر الخلافة دون غيره من أهل البيت والصحابة فمن كتاب الله وسنّة نبيه، قال: وقد اختلف أصحابنا في الخلافة هل أخذت من حيث النص أو الاستدلال؟ فذهب طائفة من أصحابنا إلى أن ذلك بالنص، وأنه صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك نصًا، وقطع البيان على عينه حتمًا، ومن أصحابنا من قال: إن ذلك بالاستدلال الجلي.
قال ابن حامد: والدليل على إثبات ذلك بالنص أخبار، من ذلك: ما أسنده البخاري، عن جبير بن مطعم قال: (أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك، كأنها تريد الموت، قال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر)(1) وذكر له سياقًا آخر وأحاديث أُخر. قال: وذلك نص على إمامته.
قال: وحديث سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر)(2).
وأسند البخاري، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع منها ذنوبًا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له ضعفه، ثم استحالت غربًا فأخذها عمر بن الخطاب فلم أر عبقريًا من الناس ينزع نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن)(3) قال: وذلك نص في الإمامة.
__________
(1) البخاري (5/5) ومواضع أخر، ومسلم (4/1856).
(2) رواه أحمد (5/382)، والترمذي (5/271).
(3) البخاري (5/6) ومواضع أُخر ومسلم (4/1860).(1/55)
قال: ويدل عليه ما أخبرنا أبو بكر بن مالك، وروى عن مسند أحمد، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا: (أيكم رأى رؤيا فقلت: أنا رأيت يا رسول الله كأن ميزانًا دلي من السماء، فوزنت بأبي بكر فرجحت بأبي بكر، ثم وزن أبو بكر بعمر فرجح أبو بكر بعمر، ثم وزن عمر بعثمان فرجح عمر بعثمان، ثم رفع الميزان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خلافة نبوه، ثم يؤتي الله الملك لمن يشاء)(1).
قال: وأسند أبو داود، عن جابر الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر، قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: أما الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما نوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه).
قال: ومن ذلك حديث صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم الذي بدئ فيه، فقال: ادعي لي أباك وأخاك، حتى أكتب لأبي بكر كتابًا، ثم قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر، وفي لفظ: فلا يطمع في هذا الأمر طامع)(2).
وهذا الحديث في الصحيحين، ورواه من طريق أبي داود الطيالسي، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: (لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر لأكتب لأبي بكر كتابًا، لا يختلف عليه، ثم قال: معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر) وذكر أحاديث تقديمه في الصلاة، وأحاديث أُخر لم أذكرها لكونها ليست مما يثبته أهل الحديث.
__________
(1) أبو داود (4/289)، والترمذي (3/368).
(2) انظر: البخاري (7/119) ومسلم (4/1857).(1/56)
وقال أبو محمد بن حزم في كتابه الملل والنحل: اختلف الناس في الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت طائفة: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدًا، ثم اختلفوا، فقال بعضهم: لكن لما استخلف أبا بكر على الصلاة كان ذلك دليلاً على أنه أولاهم بالإمامة والخلافة على الأمر، وقال بعضهم: لا ولكن كان أثبتهم فضلاً، فقدموه لذلك، وقالت طائفة: بل نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على استخلاف أبي بكر بعده، على أمور الناس نصًا جليًا.
قال أبو محمد: وبهذا نقول لبراهين: أحدها: إطباق الناس كلهم، وهم الذين قال الله فيهم: ((للفقراءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالَهُم َيبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ و َرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُم الصَّادِقُون))[الحشر:8].
فقد اتفق هؤلاء الذين شهد الله لهم بالصدق، وجميع إخوانهم من الأنصار رضي الله عنهم على أن سموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى الخليفة في اللغة: هو الذي يستخلفه المرء، لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه هو، لا يجوز غير هذا ألبتة في اللغة بلا خلاف، يقال: استخلف فلان فلانًا يستخلفه فهو خليفته ومستخلفه، فإن قام مكانه دون أن يستخلفه لم يقل. إلا خلف فلان فلانًا يخلفه فهو خالف.
قال: ومحال أن يعنوا بذلك الاستخلاف على الصلاة، لوجهين ضروريين:
(أحدهما): أنه لم يستحق أبو بكر قط هذا الاسم على الإطلاق في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حينئذٍ خليفته على الصلاة، فصح يقينًا أن خلافته المسمى بها هي غير خلافته على الصلاة.(1/57)
(والثاني): أن كل من استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، كعليّ في غزوة تبوك، وابن أم مكتوم في غزوة الخندق، وعثمان بن عفان في غزوة ذات الرقاع، وسائر من استخلفه على البلاد باليمن، والبحرين، والطائف، وغيرها، لم يستحق أحد منهم بلا خلاف بين أحد من الأئمة أن يسمى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم- فصح يقينًا بالضرورة التي لا محيد عنها أنها الخلافة بعده على أمته.
ومن المحال أن يجمعوا على ذلك، وهو لم يستخلفه نصًا، ولو لم يكن هاهنا إلا استخلافه في الصلاة، لم يكن أبو بكر أولى بهذا الاسم من سائر من ذكرناه، قال: وأيضًا فإن الرواية قد صحت أن امرأة قالت: (يا رسول الله، أرأيت إن رجعت فلم أجدك -كأنها تعني الموت- قال: فأتي أبا بكر)(1) قال: وهذا نص جلي على استخلاف أبي بكر.
قال: وأيضًا فإن الخبر قد جاء من الطرق الثابتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة في مرضه الذي توفي فيه: (لقد هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك وأكتب كتابًا وأعهد عهدًا لكيلا يقول قائل: أنا أحق، أو يتمنى متمنٍ، ويأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر)(2).
وروي أيضاً-ويأبى الله والنبيون إلا أبا بكر- قال: فهذا نص جلي على استخلافه صلى الله عليه وسلم – أبا بكر على ولاية الأمة بعده.
قال: واحتج من قال: "لم يستخلف" بالخبر المأثور عن عبد الله بن عمر، عن عمر، أنه قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني –يعني: أبا بكر- وإلا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم-(3). وبما روي عن عائشة رضي الله عنها، أنها سئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفًا لو استخلف؟ (4)
__________
(1) تقدم تخريجه قريبًا.
(2) تقدم قريبًا.
(3) البخاري (9/83) ومسلم (3/1454).
(4) مسلم (4/1856).(1/58)
قال: ومن المحال أن يعارض إجماع الصحابة الذي ذكرنا عنهم، والأثران الصحيحان المسندان إلى رسول الله صلى تعالى الله عليه وسلم من لفظه بمثل هذين الأثرين الموقوفين على عمر وعائشة، مما لا تقوم به حجة ظاهرة، مع أن هذا الأثر خفي على عمر، كما خفي عليه كثير من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالاستئذان وغيره، وأنه أراد استخلافًا بعهد مكتوب، ونحن نقر أن استخلافه لم يكن بعهد مكتوب، وأما الخبر في ذلك عن عائشة رضي الله عنها فكذلك أيضًا، وقد يخرج كلاهما عن سؤال سائل، وإنما الحجة في روايتهما لا في قولهما.
(قلت): الكلام في تثبيت خلافة أبي بكر و غيره مبسوط في غير هذا الموضع، وإنما المقصود هنا: البيان لكلام الناس في خلافته، هل حصل عليها نص خفي أو جلي؟ وهل تثبت بذلك أو بالاختيار من أهل الحل والعقد؟ فقد تبين أن كثيرًا من السلف والخلف قالوا فيها بالنص الجلي أو الخفي، وحينئذٍ فقد بطل قدح الرافضي في أهل السنة بقوله: إنهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على إمامة أحد، وأنه مات عن غير وصية.
وكذلك أن هذا القول لم يقله جميعهم، فإن كان حقا فقد قاله بعضهم، وإن كان الحق هو نقيضه فقد قال بعضهم ذلك، فعلى التقديرين لم يخرج الحق عن أهل السنّة.
وأيضًا فلو قدر أن القول بالنص هو الحق لم يكن في ذلك حجة للشيعة، فإن الراوندية تقول بالنص على العباس كما قالوا هم بالنص على علي.
قال القاضي أبو يعلى وغيره: واختلفت الراوندية، فذهب جماعة منهم إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على العباس بعينه واسمه، وأعلن ذلك وكشفه وصرح به، وأن الأمة جحدت هذا النص وارتدت وخالفت أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عنادا، ومنهم من قال: إن النص على العباس وولده من بعده إلى أن تقوم الساعة، يعني: هو نص خفي.(1/59)
فهذان قولان للراوندية، كالقولين للشيعة، فإن الإمامية تقول: إنه نص علي بن أبي طالب من طريق التصريح والتسمية بأن هذا هو الإمام من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا، والزيدية تخالفهم في هذا.
ثم من الزيدية من يقول: إنما نص عليه بقوله: من كنت مولاه فعليّ مولاه، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى، وأمثال ذلك من النص الخفي الذي يحتاج إلى تأمل لمعناه، وحكي عن الجارودية من الزيدية: أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على عليّ بصفة لم توجد إلا فيه، لا من جهة التسمية، فدعوى الراوندية في النص من جنس دعوى الرافضة، وقد ذكر في الإمامية أقوال أخرى.
والمقصود هنا أن أقوال الرافضة معارضة بنظيرها، فإن دعواهم النص على عليّ كدعوى أولئك النص على العباس، وكلا القولين مما يعلم فساده بالاضطرار، ولم يقل أحد من أهل العلم شيئًا من هذين القولين، وإنما ابتدعهما أهل الكذب كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه، ولهذا لم يكن أهل الدين من ولد العباس وعلي يدّعون هذا ولا هذا، بخلاف النص على أبي بكر فإن القائلين به طائفة من أهل العلم.
والمقصود هنا أن كثيرًا من أهل السنّة يقولون: إن خلافته ثبتت بالنص، وهم يسندون ذلك إلى أحاديث معروفة صحيحة، ولا ريب أن قول هؤلاء أوجه من قول من يقول: إن خلافة علي أو العباس ثبتت بالنص.
فإن هؤلاء ليس معهم إلا مجرد الكذب والبهتان الذي يعلم بطلانه بالضرورة كل من كان عارفًا بأحوال الإسلام، أو استدلال بألفاظ لا تدل على ذلك، كحديث استخلافه في غزوة تبوك، ونحوه مما سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى.
فيقال لهذا: إن وجب أن يكون الخليفة منصوصًا عليه، كان القول بهذا النص أولى من القول بذلك، وإن لم يجب هذا بطل ذاك.(1/60)
والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم دل المسلمين على استخلاف أبي بكر وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقواله وأفعاله، وأخبر بخلافته أخبار راض بذلك حامدًا له، وعزم على أن يكتب بذلك عهدًا، ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب اكتفاءً بذلك.
ثم عزم على ذلك في مرضه يوم الخميس، ثم لما حصل لبعضهم شك هل ذلك القول من جهة المرض، أو هو قول يجب اتباعه، فترك الكتابة اكتفاء بما علم أن الله يختاره والمؤمنون من خلافة أبي بكر رضي الله عنه، فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانًا قاطعًا للعذر، لكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر هو المتعين وفهموا ذلك حصل المقصود.
ولهذا قال عمر بن الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: (وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر) رواه البخاري ومسلم(1). وفي الصحيحين أيضًا عنه أنه قال يوم السقيفة بمحضر من المهاجرين والأنصار: (أنت خيرنا وسيدنا، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)(2) - ولم ينكر ذلك منهم منكر، ولا قال أحد من الصحابة: إن غير أبي بكر من المهاجرين أحق بالخلافة منه، ولم ينازع أحد في خلافته إلا بعض الأنصار طمعًا في أن يكون من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير، وهذا مما ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بطلانه.
__________
(1) انظر: البخاري (8/169) ومواضع أُخر ومسلم (3/1317).
(2) البخارى (5/7).(1/61)
ثم الأنصار جميعهم بايعوا أبا بكر إلا سعد بن عبادة لكونه هو الذي كان يطلب الولاية، ولم يقل قط أحد من الصحابة: إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على غير أبي بكر لا على العباس ولا على علي، ولا غيرهما، ولا ادعى العباس ولا علي –ولا أحد ممن يحبهما –الخلافة لواحدٍ منهما، ولا أنه منصوص عليه، بل ولا قال أحد من الصحابة: إن في قريش من هو أحق بها من أبي بكر، لا من بني هاشم ولا من غير بني هاشم، وهذا كله مما يعلمه العلماء العالمون بالآثار والسنن والحديث، وهو معلوم عندهم بالاضطرار.
فخلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها، ورضا الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم له بها، وانعقدت بمبايعة المسلمين له، واختيارهم إياه، اختيارًا أسندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله ورسوله، وأنه أحقهم بهذا الأمر عند الله ورسوله.
فصارت ثابتة بالنص والإجماع جميعًا، لكن النص دل على رضا الله ورسوله بها وأنها حق، وأن الله أمر بها وقدرها، وأن المؤمنين يختارونها، وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها؛ لأنه حينئذٍ كان يكون طريق ثبوتها مجرد العهد.(1/62)
وأما إذا كان المسلمون قد اختاروه من غير عهد ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه، ورضا الله ورسوله بذلك، كان ذلك دليلاً على أن الصديق كان فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ما علم المسلمون به أنه أحقهم بالخلافة، فإن ذلك لا يحتاج فيه إلى عهدٍ خاص، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب لأبي بكر فقال لعائشة: (ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابًا فإني أخاف أن يتمنى متمنٍ، ويقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)(1) أخرجاه في الصحيحين، وفي البخاري: (لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه، وأعهد أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنون، ويدفع الله ويأبى المؤمنون)(2) فبين صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يكتب كتابًا خوفًا، ثم علم أن الأمر واضح ظاهر، ليس مما يقبل النزاع فيه، والأمة حديثة عهد بنبيها، وهم خير أمة أخرجت للناس، وأفضل قرون هذه الأمة، فلا يتنازعون في هذا الأمر الواضح الجلي.
فإن النزاع إنما يكون لخفاء العلم أو لسوء القصد، وكلا الأمرين منتفٍ، فإن العلم بفضيلة أبي بكر جلي، وسوء القصد لا يقع من جمهور الأمة الذين هم أفضل القرون، ولهذا قال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) فترك ذلك لعلمه بأن ظهور فضيلة أبى بكر الصديق واستخلافه لهذا الأمر يغني عن العهد، فلا يحتاج إليه، فتركه لعدم الحاجة وظهور فضيلة الصديق واستحقاقه، وهذا أبلغ من العهد.
(فصل)
وأما قول الرافضي: إنهم يقولون: الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر بمبايعة عمر، برضا أربعة.
__________
(1) تقدم تخريجه (ص64).
(2) تقدم أيضاً (ص63).(1/63)
فيقال له: ليس هذا قول أئمة السنّة، وإن كان بعض أهل الكلام يقول: إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة، كما قال بعضهم: تنعقد ببيعة اثنين، وقال بعضهم: تنعقد ببيعة واحد، فليس هذه أقوال أئمة السنّة، بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل إمامًا حتى يوافقه أهل الشوكة الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إمامًا، ولهذا قال أئمة السنّة: من صار له قدرة وسلطان يفعل بهما مقصود الولاية فهو من أولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، فالإمامة ملك وسلطان، والملك لا يصير ملكًا بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة، إلا أن تكون موافقة غيرهم بحيث يصير ملكًا بذلك، وهكذا كل أمرٍ يفتقر إلى المعاونة عليه، لا يحصل إلا بحصول من يمكنهم التعاون عليه، ولهذا لما بويع علي رضي الله عنه وصار معه شوكة صار إمامًا.
وأما قوله: ثم عثمان بن عفان بنص عمر على ستة هو أحدهم فاختاره بعضهم.
فيقال أيضًا: عثمان لم يصر إمامًا باختيار بعضهم بل بمبايعة الناس له، وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان لم يتخلف عن بيعته أحد.
قال الإمام أحمد في رواية حمدان بن علي: ما كان في القوم أوكد من بيعة عثمان كانت بإجماعهم.
فلما بايعه ذوو الشوكة والقدرة صار إمامًا، وإلا لو قدر أن عبد الرحمن بايعه ولم يبايعه علي ولا غيره من الصحابة أهل الشوكة لم يصر إمامًا.
ولكن عمر لما جعلها شورى في ستة: عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف، ثم إنه خرج طلحة والزبير وسعد باختيارهم وبقي عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف، واتفق الثلاثة باختيارهم على أن عبد الرحمن بن عوف لا يتولى ويولى أحد الرجلين.(1/64)
وأقام عبد الرحمن ثلاثًا حلف أنه لم يغتمض فيها بكبير نوم، يشاور السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان، ويشاور أمراء الأمصار وكانوا قد حجوا مع عمر ذلك العام، فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان.
و ذكرهم أنهم كلهم قدموا عثمان فبايعوه، لا عن رغبة أعطاهم إياها ولا عن رهبة أخافهم بها، ولهذا قال غير واحد من السلف والأئمة كأيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني وغيرهم: من قدم عليًا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وهذا من الأدلة الدالة على أن عثمان أفضل لأنهم قدموه باختيارهم واشتوارهم.
وأما قوله:ثم علي بمبايعة الخلق له.
فتخصيصه عليّا بمبايعة الخلق دون أبي بكر وعمر وعثمان كلام ظاهر البطلان، وذلك أنه من المعلوم لكل من عرف سيرة القوم أن اتفاق الخلق ومبايعتهم لأبي بكر وعمر وعثمان أعظم من اتفاقهم على بيعة علي رضي الله عنه وعنهم أجمعين وكل أحد يعلم أنهم اتفقوا على بيعة عثمان أعظم من اتفاقهم على بيعة علي، والذين بايعوا عثمان في أول الأمر أفضل من الذين بايعوا عليّا، فإنه بايعه علي وعبد الرحمن بن عوف و طلحة والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود والعباس بن عبد المطلب وأبي بن كعب وأمثالهم مع سكينة وطمأنينة، وبعد مشاورة المسلمين ثلاثة أيام، وأما علي رضي الله عنه فإنه بويع عقب قتل عثمان رضي الله عنه، والقلوب مضطربة مختلفة، وأكابر الصحابة متفرقون، وأحضر طلحة إحضارًا حتى قال من قال: إنهم جاءوا به مكرهًا، وأنه قال: بايعت واللج على قفىّ، وكان لأهل الفتنة بالمدينة شوكة لما قتلوا عثمان، وماج الناس لقتله موجًا عظيمًا، وكثير من الصحابة لم يبايع عليًا كعبد الله بن عمر وأمثاله، وكان الناس معه ثلاثة أصناف، صنف قاتلوا معه، وصنف قاتلوه، وصنف لم يقاتلوه ولم يقاتلوا معه، فكيف يجوز أن يقال في علي بمبايعة الخلق له، ولا يقال مثل ذلك في مبايعة الثلاثة ولم يختلف عليهم أحد لما بايعهم الناس كلهم لا سيما عثمان.(1/65)
وأما أبو بكر رضي الله عنه فتخلف عن بيعته سعد؛ لأنهم كانوا قد عينوه للإمارة، فبقي في نفسه ما يبقى في نفوس البشر، ولكن هو مع هذا رضي الله عنه لم يعارض، ولم يدفع حقًا، ولا أعان على باطل.
بل قد روى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في مسند الصديق، عن عثمان، عن أبي معاوية، عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن هو الحميري فذكر حديث السقيفة وفيه: أن الصديق قال: (ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر، فبرّ الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم، قال: فقال له سعد: صدقت! نحن الوزراء وأنتم الأمراء)(1)!
فهذا مرسل حسن، ولعل حميدًا أخذه عن بعض الصحابة الذين شهدوا بذلك، وفيه فائدة جليلة جدًا وهي: أن سعد بن عبادة نزل عن مقامه الأول في دعوى الإمارة، وأذعن للصديق بالإمارة فرضي الله عنهم أجمعين.
فإن قال: أردت أن أهل السنّة يقولون: إن خلافته انعقدت بمبايعة الخلق له لا بالنص.
فلا ريب أن أهل السنّة وإن كانوا يقولون: إن النص على أن عليًا من الخلفاء الراشدين لقوله: (خلافة النبوة ثلاثون سنة) فهم يروون النصوص الكثيرة في صحة خلافة غيره، وهذا أمر معلوم عند أهل الحديث، يروون في صحة خلافة الثلاثة نصوصًا كثيرة بخلاف خلافة علي، فإن نصوصها قليلة.
فإن الثلاثة اجتمعت الأمة عليهم، فحصل بهم مقصود الإمامة، وقوتل بهم الكفار وفتحت بهم الأمصار، وخلافة علي لم يقاتل فيها كافر، ولا فتح مصر، وإنما كان السيف بين أهل القبلة.
وأما النص الذي تدعيه الرافضة فهو كالنص الذي تدعيه الراوندية على العباس، وكلاهما معلوم الفساد بالضرورة عند أهل العلم، ولو لم يكن في إثبات خلافة علي إلا هذا لم تثبت له إمامة قط، كما لم تثبت للعباس إمامة بنظيره.
وأما قوله: ثم اختلفوا، فقال بعضهم: إن الإمام بعده الحسن، وبعضهم قال: إنه معاوية.
__________
(1) المسند (1/164) تحقيق أحمد شاكر.(1/66)
فيقال: أهل السنّة لم يتنازعوا في هذا، بل هم يعلمون أن الحسن بايعه أهل العراق مكان أبيه، وأهل الشام كانوا مع معاوية قبل ذلك.
وقوله: ثم ساقوا الإمامة في بني أمية ثم في بني العباس.
فيقال: أهل السنة لا يقولون: إن الواحد من هؤلاء كان هو الذي يجب أن يولى دون من سواه، ولا يقولون: أنه تجب طاعته في كل ما يأمر.
بل أهل السنة يخبرون بالواقع، ويأمرون بالواجب، فيشهدون بما وقع، ويأمرون بما أمر الله ورسوله، فيقولون: هؤلاء هم الذين تولوا، وكان لهم سلطان وقدرة، يقدرون بها على مقاصد الولاية، من إقامة الحدود، وقسم الأموال، وتولية الولاية، وجهاد العدوّ، وإقامة الحج والأعياد والجمع، وغير ذلك من مقاصد الولاية.
ويقولون: إن الواحد من هؤلاء ونوابهم وغيرهم لا يجوز أن يطاع في معصية الله تعالى – بل يشارك فيما يفعله من طاعة الله، فيغزى معه الكفار، ويصلى معه الجمعة والعيدان، ويحج معه، ويعاون في إقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمثال ذلك.
فيعاونون على البر والتقوى ولا يعاونون على الإثم والعدوان.
ويقولون: إنه قد تولى غير هؤلاء بالمغرب من بني أمية، ومن بني علي.
ومن المعلوم أن الناس لا يصلحون إلا بولاة، وأنه لو تولى من هو دون هؤلاء من الملوك الظلمة لكان ذلك خيرًا من عدمهم، كما يقال: ستون سنة مع إمام جائر خير من ليلة واحدة بلا إمام، ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لا بد للناس من إمارة، برة كانت أو فاجرة، قيل له: هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ قال: يؤمن بها السبيل، ويقام بها الحدود، ويجاهد بها العدوّ، ويقسم بها الفيء) ذكره علي بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية.(1/67)
وكل من تولى كان خيرًا من المعدوم المنتظر، الذي تقول الرافضة: إنه الخلف الحجة، فإن هذا لم يحصل بإمامته شيء من المصلحة، لا في الدنيا ولا في الدين أصلاً، ولا فائدة في إمامته إلا الاعتقادات الفاسدة، والأماني الكاذبة، والفتن بين الأمة، وانتظار من لا يجيء، فتطوى الأعمار ولم يحصل من فائدة هذه الإمامة شيء.
والناس لا يمكنهم بقاء أيام قليلة بلا ولاة أمور، بل كانت أمورهم تفسد، فكيف تصلح أمورهم إذا لم يكن لهم إمام إلا من لا يعرف ولا يدري ما يقول، ولا يقدر على شيء من أمور الإمامة، بل هو معدوم.
وأما آباؤه فلم يكن لهم قدرة وسلطان الإمامة، بل كان لأهل العلم والدين منهم إمامة أمثالهم من جنس الحديث والفتيا ونحو ذلك، لم يكن لهم سلطان لشوكة، فكانوا عاجزين عن الإمامة، سواء كانوا أولى بالولاية أو لم يكونوا أولى.
فبكل حال ما مكنوا ولا ولوا، ولا كان يحصل بهم المطلوب من الولاية لعدم القدرة والسلطان، ولو أطاعهم المؤمن لم يحصل له بطاعتهم المصالح التي تحصل بطاعة الأئمة، من جهاد الأعداء، وإيصال الحقوق إلى مستحقيها أو بعضهم، وإقامة الحدود.
فإن قال القائل: إن الواحد من هؤلاء أو من غيرهم إمام –أي: ذو سلطان وقدرة- يحصل بهما مقاصد الإمامة، كان هذا مكابر للحس.
ولو كان ذلك كذلك لم يكن هناك متولٍ يزاحمهم، ولا يستبد الأمر دونهم، وهذا لا يقوله أحد. وإن قال: إنهم أئمة بمعنى أنهم هم الذين يجب أن يولوا، وأن الناس عصوا بترك توليتهم.
فهذا بمنزلة أن يقال: فلان كان يستحق أن يولى القضاء، ولكن لم يولَّ ظلمًا وعدوانًا.(1/68)
ومن المعلوم أن أهل السنّة لا ينازعون في أنه كان بعض أهل الشوكة بعد الخلفاء الأربعة يولون شخصًا وغيره أولى بالولاية منه، وقد كان عمر بن عبد العزيز يختار أن يولى القاسم بن محمد بعده لكنه لم يطق ذلك، لأن أهل الشوكة لم يكونوا موافقين على ذلك، وحينئذٍ فأهل الشوكة الذين قدّموا المرجوح وتركوا الراجح، والذي تولى بقوّته وقوة أتباعه ظلمًا وبغيًا، فيكون إثم هذه الولاية على من ترك الواجب مع قدرته على فعله، أو أعان على الظلم.
وأما من لم يظلم ولا أعان ظالمًا وإنما أعان على البر والتقوى فليس عليه من هذا شيء، ومعلوم أن صالحي المؤمنين لا يعاونون الولاة إلا على البر والتقوى، لا يعاونونهم على الإثم والعدوان.
وأهل السنّة يقولون: ينبغي أن يولى الأصلح للولاية إذا أمكن، إما وجوبًا عند أكثرهم، وإما استحبابًا عند بعضهم، وإن من عدل عن الأصلح مع قدرته لهواه فهو ظالم، ومن كان عاجزًا عن تولية الأصلح مع محبته لذلك فهو معذور.
ويقولون: من تولى فإنه يستعان به على طاعة الله بحسب الإمكان، ولا يعان إلا على طاعة الله، ولا يستعان به على معصية الله، ولا يعان على معصية الله تعالى.
أفليس قول أهل السنّة في الإمامة خيرًا من قول من يأمر بطاعة معدوم أو عاجز لا يمكنه الإعانة المطلوبة من الأئمة، ولهذا كانت الرافضة لما عدلت عن مذهب أهل السنّة في معونة أئمة المسلمين والاستعانة بهم، دخلوا في معاونة الكفار والاستعانة بهم.
فهم يدعون إلى الإمام المعصوم، ولا يعرف لهم إمام موجود يأتمون به، إلا كفور أو ظلوم، فهم كالذي يحيل بعض العامة على أولياء الله رجال الغيب، ولا رجال للغيب عنده إلا أهل الكذب والمكر، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدّون عن سبيل الله، أو الجن أو الشياطين الذين يحصل بهم لبعض الناس أحوال شيطانية.(1/69)
فلو قدر أن ما تدّعيه الرافضة من النص هو حق موجود، وأن الناس لم يولوا المنصوص عليه لكانوا قد تركوا من يجب توليته ولولوا غيره، وحينئذ فالإمام الذي قام بمقصود الإمامة هو هذا المولى، دون الممنوع المقهور.
نعم، ذاك يستحق أن يولى، لكن ما ولى، فالإثم على من ضيع حقه، وعدل عنه لا على من لم يضع حقه ولم يعتد. وهم يقولون: إن الإمام وجب نصبه؛ لأنه لطف ومصلحة للعباد، فإذا كان الله ورسوله يعلم أن الناس لا يولون هذا المعين إذا أمروا بولايته كان أمرهم بولاية من يولونه وينتفعون بولايته أولى من أمرهم بولاية من لا يولونه ولا ينتفعون بولايته.
كما قيل في إمامة الصلاة والقضاء وغير ذلك، فكيف إذا كان ما يدعونه من النص من أعظم الكذب والافتراء؟ والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أمته بما سيكون وما يقع بعده من التفرق، فإذا نص لأمته على إمامة شخص يعلم أنهم لا يولونه بل يعدلون عنه ويولون غيره –يحصل لهم بولايته مقصود الولاة – وأنه إذا أفضت النوبة إلى المنصوص حصل من سفك دماء الأمة ما لم يحصل بغير المنصوص، ولم يحصل من مقاصد الولاية ما حصل بغير المنصوص، كان الواجب العدول عن المنصوص.
مثال ذلك: أن وليّ الأمر إذا كان عنده شخصان، ويعلم أنه إن ولى أحدهما أطيع وفتح البلاد، وأقام الجهاد، وقهر الأعداء، وأنه إذا ولى الآخر لم يطع، ولم يفتح شيئًا من البلاد، بل يقع في الرعية الفتنة والفساد، كان من المعلوم لكل عاقل أنه ينبغي أن يولي من يعلم أنه إذا ولاه حصل به الخير والمنفعة، لا من إذا ولاه لم يطع وحصل بينه وبين الرعية الحرب والفتنة. فكيف مع علم الله ورسوله بحال ولاية الثلاثة؟ وما حصل فيها من مصالح الأمة في دينها ودنياها، لا ينص عليها وينص على ولاية من لا يطاع بل يحارب ويقاتل، حتى لا يمكنه قهر الأعداء ولا إصلاح الأولياء.(1/70)
وهل يكون من ينص على ولاية هذا دون ذاك إلا جاهلاً إن لم يعلم الحال أو ظالمًا مفسدًا إن علم، والله ورسوله بريء من الجهل والظلم.
وهم يضيفون إلى الله ورسوله العدول عما فيه مصلحة العباد إلى ما ليس فيه إلا الفساد.
وإذا قيل: إن الفساد حصل من معصيتهم لا من تقصيره.
قيل: أفليس ولاية من يطيعونه فتحصل المصلحة أولى من ولاية من يعصونه، فلا تحصل المصلحة بل المفسدة؟
ولو كان للرجل ولد وهناك مؤدبان إذا أسلمه إلى أحدهما تعلم وتأدب، وإذا أسلمه إلى الآخر فرّ وهرب، أفليس إسلامه إلى ذاك أولى؟ ولو قدر أن ذاك أفضل، فأيّ منفعة في فضيلته إذا لم يحصل للولد به منفعة لنفوره عنه.
ولو خطب المرأة رجلان أحدهما افضل من الآخر لكن المرأة تكرهه، وإن تزوجت به لم تطعه، بل تخاصمه وتؤذيه، فلا تنتفع به ولا ينتفع هو بها، والآخر تحبه ويحصل به مقاصد النكاح، أفليس تزويجها بهذا المفضول أولى باتفاق العقلاء؟ ونص من ينص على تزويجها بهذا أولى من النص على تزويجها بهذا.
فكيف يضاف إلى الله ورسوله ما لا يرضاه إلا ظالم أو جاهل، وهذا ونحوه مما يعلم به بطلان النص بتقدير أن يكون علي هو الأفضل الأحق بالإمارة، لكن لا يحصل بولايته إلا ما حصل، وغيره ظالم يحصل به ما حصل من المصالح، فكيف إذا لم يكن الأمر كذلك، لا في هذا ولا في هذا.
فقول أهل السنّة خبر صادق وقول حكيم، وقول الرافضة خبر كاذب وقول سفه، فأهل السنّة يقولون: الأمير والإمام والخليفة ذو السلطان الموجود الذي له القدرة على عمل مقصود الولاية، كما أن إمام الصلاة هو الذي يصلي بالناس، وهم يأتمون به ليس إمام الصلاة من يستحق أن يكون إمامًا وهو لا يصلي بأحد، لكن هذا ينبغي أن يكون إمامًا، والفرق بين الإمام وبين من ينبغي أن يكون هو الإمام لا يخفى على الطغام.(1/71)
ويقولون: أنه يعاون على البر والتقوى دون الإثم والعدوان، ويطاع في طاعة الله دون معصيته، ولا يخرج عليه بالسيف، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم إنما تدل على هذا.
كما في الصحيحين، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس يخرج عن السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية)(1) فجعل المحذور هو الخروج عن السلطان ومفارقة الجماعة وأمر بالصبر على ما يكره من الأمير لم يخص بذلك سلطانًا معينًا ولا أميرًا معينًا ولا جماعة معينة.
(قال الرافضي: الفصل الثاني في أن مذهب الإمامية واجب الاتباع)
ومضمون ما ذكره أن الناس اختلفوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب النظر في الحق واعتماد الإنصاف، ومذهب الإمامية واجب الاتباع لأربعة وجوه: لأنه أحقها، وأصدقها، ولأنهم باينوا جميع الفرق في أصول العقائد، ولأنهم جازمون بالنجاة لأنفسهم، ولأنهم أخذوا دينهم عن الأئمة المعصومين، وهذا حكاية لفظه.
قال الرافضي: إنه لما عمت البلية بموت النبي صلى الله عليه وسلم واختلف الناس بعده، وتعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم، فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق، وبايعه أكثر الناس للدنيا، كما اختار عمرو بن سعد ملك الري أياما يسيرة، لما خير بينه وبين قتل الحسين، مع علمه بأن من قتله في النار، واختياره ذلك في شعره حيث يقول:
فوالله ما أدري وإني لصادق ... أفكر في أمر على خطرينِ
أأترك ملك الريّ والري منيتي ... أم أصبح مأثومًا بقتل حسين
وفي قتله النار التي ليس دونها ... حجاب وملك الريّ قرة عيني
__________
(1) سبق ذكره انظر: ص(1/72)
وبعضهم اشتبه الأمر عليه، ورأى لطالب الدنيا مبايعًا، فقلده وبايعه وقصَّر في نظره، فخفى عليه الحق، فاستحق المؤاخذة من الله تعالى بإعطاء الحق لغير مستحقه بسبب إهمال النظر، وبعضهم قلد لقصور فطنته، ورأى الجم الغفير فتابعهم، وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب، وغفل عن قوله تعالى: ((وَقَلِيلٌ مَا هُمْ))[ص:24] ((وَقَلِيلُ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور))[سبأ:13] وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق له وبايعه الأقلون الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتها، ولم يأخذهم في الله لومة لائم؛ بل أخلصوا لله واتبعوا ما أمروا به من طاعة من يستحق التقديم.
وحيث حصل للمسلمين هذه البلية، وجب على كل أحد النظر في الحق واعتماد الإنصاف، وأن يقر الحق مستقره، ولا يظلم مستحقه، فقد قال تعالى: ((أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين))[هود:18] وإنما كان مذهب الإمامية واجب الاتباع لوجوه هذا لفظه.
فيقال: إنه قد جعل المسلمين بعد نبيهم أربعة أصناف! وهذا من أعظم الكذب، فإنه لم يكن من في الصحابة المعروفين أحد من هذه الأصناف الأربعة، فضلاً عن أن لا يكون فيهم أحد إلا من هذه الأصناف.
إما طالب للأمر بغير حق كأبي بكر في زعمه، وإما طالب للأمر بحق كعلي في زعمه.
وهذا كذب على علي رضي الله عنه، وعلى أبي بكر رضي الله عنه، فلا علي طلب الأمر لنفسه قبل قتل عثمان، ولا أبو بكر طلب الأمر لنفسه فضلاً عن أن يكون طلبه بغير حق.
وجعل القسمين الآخرين إما مقلدًا لأجل الدنيا، وإما مقلدًا لقصوره في النظر، وذلك أن الإنسان يجب عليه أن يعرف الحق وأن يتبعه، وهو الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
وهذا هو الصراط الذي أمرنا أن نسأله هدايتنا إياه في كل صلاة بل في كل ركعة.
وهذه الأمة خير الأمم، وخيرها القرن الأول، كان القرن الأول أكمل الناس في العلم النافع، والعمل الصالح.(1/73)
وهؤلاء المفترون وصفوهم بنقيض ذلك، بأنهم لم يكونوا يعلمون الحق ويتبعونه، بل كان أكثرهم عندهم يعلمون الحق ويخالفونه، كما يزعمون في الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة والأمة وكثير منهم عندهم لا يعلم الحق، بل اتبع الظالمين تقليدًا لعدم نظرهم المفضي إلى العلم، والذي لم ينظر قد يكون تركه النظر لأجل الهوى وطلب الدنيا، وقد يكون لقصوره ونقص إدراكه.
وادعى أن منهم من طلب الأمر لنفسه بحق –يعني: علياً- وهذا مما علمنا بالاضطرار أنه لم يكن، فلزم من ذلك -على قول هؤلاء- أن تكون الأمة كلها كانت ضالة بعد نبيها ليس فيها مهتدٍ.
فتكون اليهود ولنصارى بعد النسخ والتبديل خيرًا منهم، لأنهم كانوا كما قال تعالى: ((وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةً يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْدِلُون))[الأعراف:159] وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اليهود والنصارى افترقت على أكثرمن سبعين فرقة، فيها واحدة ناجية، وهذه الأمة على موجب ما ذكروه لم يكن فيهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أمة تقوم بالحق ولا تعدل به، وإذا لم يكن ذلك في خيار قرونهم ففيما بعد ذلك أولى.
فيلزم من ذلك أن يكون اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خيرًا من خير أمة أخرجت للناس، فهذا لازم لما يقوله هؤلاء المفترون، فإذا كان هذا في حكايته لما جرى عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم من اختلاف الأمة، فكيف سائر ما ينقله ويستدل به، ونحن نبين ما في هذه الحكاية من الأكاذيب من وجوه كثيرة، فنقول:
ما ذكره هذا المفتري من قوله: إنه لما عمت البلية على كافة المسلمين بموت النبي صلى الله عليه وسلم واختلف الناس بعده، وتعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم، فبعضهم طلب الأمر لنفسه، وتابعه أكثر الناس طلبًا للدنيا، كما اختار عمر بن سعد ملك الري أيامًا يسيرة لما خير بينه وبين قتل الحسين، مع علمه بأن في قتله النار واختياره ذلك في شعره.(1/74)
فيقال في هذا الكلام من الكذب والباطل وذم خيار الأمة بغير حق ما لا يخفى من وجوه:
(أحدهما): قوله: تعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم، فيكون كلهم متبعين أهوائهم، ليس فيهم طالب حق، ولا مريد لوجه الله تعالى والدار الآخرة، ولا من كان قوله عن اجتهاد واستدلال.
وعموم لفظه يشمل عليًا وغيره، وهؤلاء الذين وصفهم بهذا هم الذين أثنى الله عليهم هو ورسوله، و رضي الله عنهم ووعدهم الحسنى، كما قال تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرينَ وَالأَنْصَار الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَان رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتها الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيم))[التوبة:100] وقال تعالى: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءَ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءَ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُم في وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودْ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ في التَّوْرَاةِ، وَمَثَلُهُمْ في الِإنْجِيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ ِبِهم الكُفَّار، وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا))[الفتح:29].
وقال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أَوْلَئِكَ بَعضُهم أَوْلِيَاءَ بَعْض))[الأنفال:72] إلى قوله: ((أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُم مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعد وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُم فَأُوْلَئِكَ مِنْكُم))[الأنفال:75].(1/75)
وقال تعالى: ((لاَ يَسْتَوِي مِنْكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَل أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْد وَقَاتَلُوا وَكُلاًً وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى))[الحديد:10].
وقال تعالى: ((للفقراءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِم يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضوانًا وَيَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُم الصَّادِقُون * وَالَّذِينَ تَبَوّؤا الدَّارَ وَالإِيمَان مِن قَبْلِهِم يُحِبُّون مَن هَاجَرَ إِلَيْهِم وَلاَ يَجِدُونَ في صُدُورِهِم حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفسِهِم وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِم يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَان وَلاَ تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيم))[الحشر:8-10].
وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار، وعلى الذين جاءوا من بعدهم، يستغفرون لهم ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم غلاً لهم.
وتتضمن أن هؤلاء الأصناف هم المستحقون للفيء.
ولا ريب أن هؤلاء الرافضة خارجون من الأصناف الثلاثة؛ فإنهم لم يستغفروا للسابقين، وفي قلوبهم غل عليهم، ففي الآيات الثناء على الصحابة، وعلى أهل السنّة الذين يتولونهم، وإخراج الرافضة من ذلك، وقد روى ابن بطة وغيره من حديث أبي بدر، قال: حدثنا عبد الله بن زيد، عن طلحة بن مصرف، عن مصعب بن سعد، عن سعد بن أبي وقاص، قال: (الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت واحدة، فأحسن ما أنتم عليه كائنون، أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت).(1/76)
ثم قرأ: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا))[الحشر:8] هؤلاء المهاجرون، وهذه منزلة قد مضت، ثم قرأ: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ))[الحشر:9].
ثم قال: هؤلاء الأنصار، وهذه منزلة قد مضت.
ثم قرأ: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ، يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَان، وَلا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غُلاًّ للَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ))[الحشر:10]، فقد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة، فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت أن تستغفروا لهم)(1).
وروى أيضًا بإسناده عن مالك بن أنس أنه قال: (من سب السلف فليس له في الفيء نصيب) لأن الله تعالى يقول: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِم))[الحشر:10] (2) -الآية- وهذا معروف عن مالك وغير مالك من أهل العلم كأبي عبيد القاسم بن سلام(3).
وكذلك ذكره أبو حكيم النهرواني من أصحاب أحمد وغيره من الفقهاء، وروى أيضًا عن الحسن بن عمارة، عن الحكيم عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (أمر الله بالاستغفار لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنهم يقتتلون)(4).
__________
(1) يظهر أن هذا الأثر في الإبانة الكبرى إذ لم أجده في الصغرى.
(2) هذا الأثر في الإبانة مختصرا ً (ص162) والظاهر أن المؤلف ينقل عن الكبرى.
(3) انظر: المرجع المذكور (ص162).
(4) المرجع المذكور (ص119).(1/77)
وقال عروة: قالت لي عائشة رضي الله عنها: (يا ابن أختي، أمروا بالاستغفار لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم)(1).
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحدٍ ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)(2).
وفي صحيح مسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)(3).
وفي صحيح مسلم أيضًا عن جابر بن عبد الله قال: قيل لعائشة: (إن ناسًا يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أبا بكر وعمر. فقالت: وما تعجبون من هذا؟ انقطع عنهم العمل، فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر)(4).
وروى ابن بطة بالإسناد الصحيح، عن عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي، حدثنا معاوية، حدثنا رجاء، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لا تسبوا أصحاب محمد، فإن الله تعالى قد أمرنا بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلون)(5).
ومن طريق أحمد، عن عبد الرحمن بن مهدي، وطريق غيره عن وكيع وأبي نعيم، ثلاثتهم عن الثوري، عن نُسير بن ذعلوق: سمعت عبد الله بن عمر يقول: (لا تسبوا أصحاب محمد، فلمقام أحدهم ساعة -يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم- خير من عمل أحدكم أربعين سنة).
وفي رواية وكيع: (خير من عبادة أحدكم عمره).
__________
(1) انظر: الإبانة (ص120).
(2) البخاري (5/8) و مسلم (4/1967).
(3) مسلم (4/1967).
(4) يظهر أنه في بعض النسخ فإني لم أجده في مسلم.
(5) انظر: الإبانة (ص119).(1/78)
وقال تعالى: ((لقد رَضِيَ اللهُ عَنِ الُمُؤمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِم وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَعَدَكُم اللهُ مَغَانِمَ كَثِيَرةً تَأخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُم هَذِهِ وَكَفَّ أيدي النَّاسِ عَنْكُم وَلِتَكُونَ آيةً للمُؤمِنِين وَيهْديكُم صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرًا))[الفتح:18-21].
وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه رضي عنهم، وأنه علم ما في قلوبهم، وأنه أثابهم فتحًا قريبًا.
وهؤلاء هم أعيان من بايع أبا بكر وعمر وعثمان بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن في المسلمين من يتقدم عليهم، بل كان المسلمون كلهم يعرفون فضلهم عليهم، لأن الله تعالى بين فضلهم في القرآن بقوله: ((لاَ يَسْتَوِي مِنْكُم مَن أَنْفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذينَ أَنْفَقُوا مِن بَعدُ وَقَاتَلوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى))[الحديد:10].
ففضل المنفقين المقاتلين قبل الفتح، والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية، ولهذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أو فتح هو؟ فقال: نعم)(1).
__________
(1) انظر: سنن أبي داود (3/101).(1/79)
وأهل العلم يعلمون أن فيه أنزل الله تعالى: ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتَمَ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَينْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا))[الفتح:1-3] فقال بعض المسلمين: (يا رسول الله، هذا لك فما لنا يا رسول الله؟ فأنزل الله تعالى: ((هوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِم))[الفتح:4]).
وهذه الآية نص في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين بعده، ولهذا ذهب جمهورالعلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار))[التوبة:100] هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأوّلين هم من صلى إلى القبلتين، وهذا ضعيف، فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة، ولأن النسخ ليس من فعلهم الذي يُفضِّلون به، ولأن التفضيل بالصلاة إلى القبلتين لم يدل عليه دليل شرعي، كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد والمبايعة تحت الشجرة.
وقد علم بالاضطرار أنه كان في هؤلاء السابقين الأولين: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم بيده عن عثمان؛ لأنه كان غائبًا قد أرسله إلى أهل مكة ليبلغهم رسالته، وبسببه بايع النبي صلى الله عليه وسلم الناس لما بلغه أنهم قتلوه.(1/80)
وقد ثبت في صحيح مسلم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)(1)، وقال تعالى: ((لقدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِي وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار الَّذِينَ اتّبَعُوهُ في سَاعَةِ العُسْرَة مِن بَعْدِ مَا كَانَ يَزِيغُ قُلُوبَ فَرِيقٍ مِنْهَمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِم إِنَّهُ بِهِم رَءُوفٌ رَحِيم))[التوبة:117] فجمع بينهم وبين الرسول في التوبة. وقال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِم وَأَنْفُسِهِم في سَبِيلِ الله، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُم أَوْلِيَاءَ بَعْض وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا))[الأنفال:72] إلى قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعد وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُم فَأُوْلَئِكَ مِنْكُم))[الأنفال:75] فأثبت الموالاة بينهم وقال للمؤمنين: ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتِّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضهُم أَوْلِيَاءَ بَعْض وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِين))[المائدة:51] إلى قوله: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ َحِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُون))[المائدة:56]. وقال تعالى: ((وَالمُؤمِنُونَ و َالمُؤمِنَات بَعْضَهُم أَوْلِيَاء بَعْض))[التوبة:71].
فأثبت الموالاة بينهم، وأمرهم بموالاتهم، والرافضة تتبرأ منهم ولا تتولاهم، وأصل الموالاة المحبة، وأصل المعاداة البغض، وهم يبغضونهم ولا يحبونهم.
__________
(1) مسلم (4/1942) رقم (2496).(1/81)
وقد وضع بعض الكذابين حديثًا مفترى، أن هذه الآية نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة، وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل، وكذبه بيّن من وجوه كثيرة:
منها: أن قوله (الذين) صيغة جمع، وعليّ واحد.
ومنها: أن الواو ليست واو الحال، إذ لو كان كذلك لكان لا يسوغ أن يتولى إلا من أعطى الزكاة في حال الركوع، فلا يتولى سائر الصحابة والقرابة.
ومنها: ان المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب، وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس واجبًا ولا مستحبًا، باتفاق علماء الملة، فإن في الصلاة شغلا.
ومنها: أنه لو كان إيتاؤها في الصلاة حسنًا لم يكن فرق بين حال الركوع وغير حال الركوع، بل إيتاؤها في القيام والقعود أمكن.
ومنها: أن عليًا لم يكن عليه زكاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن إيتاء غير الخاتم في الزكاة خير من إيتاء الخاتم، فإن أكثر الفقهاء يقولون: لا يجزئ إخراج الخاتم في الزكاة.
ومنها: أن هذا الحديث فيه أنه أعطاه السائل، والمدح في الزكاة أن يخرجها ابتداء ويخرجها على الفور، لا ينتظر أن يسأله سائل.
ومنها: أن الكلام في سياق النهي عن موالاة الكفار والأمر بموالاة المؤمنين، كما يدل عليه سياق الكلام.
وسيجيء إن شاء الله تمام الكلام على هذه الآية، فإن الرافضة لا يكادون يحتجون بحجة إلا كانت حجة عليهم لا لهم، كاحتجاجهم بهذه الآية على الولاية التي هي الإمارة، وإنما هي في الولاية التي هي ضد العداوة، والرافضة مخالفون لها.
والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم يوالون الكفار من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين، ويعادون المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، وهذا أمر مشهور فيهم.(1/82)
يعادون خيار عباد الله المؤمنين، ويوالون اليهود والنصارى والمشركين من الترك وغيرهم، وقال تعالى: ((يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين))[الأنفال:64]. أي: الله كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين، والصحابة أفضل من اتبعه من المؤمنين وأولهم.
وقال تعالى: ((إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْح * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا))[النصر:1-3].
والذين رآهم النبي صلى الله عليه وسلم يدخلون في دين الله أفواجًا هم الذين كانوا على عصره، وقال تعالى: ((هوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ))[الأنفال:62] وإنما أيده في حياته بالصحابة.
وقال تعالى: ((وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المتُّقُون * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِين * لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُم أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون))[الزمر:33-35].
وهذا الصنف الذي يقول الصدق ويصدِّق به، خلاف الصنف الذي يفتري الكذب أو يكذِّب بالحق لما جاءه، كما سنبسط القول فيهما إن شاء الله تعالى.
والصحابة الذين كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن القرآن حق، هم أفضل من جاء بالصدق وصدَّق به بعد الأنبياء، وليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أعظم افتراءً للكذب على الله وتكذيبًا بالحق من المنتسبين إلى التشيع، ولهذا لا يوجد الغلو في طائفة أكثر مما يوجد فيهم.(1/83)
ومنهم من ادعى إلهية البشر، وادعى النبوة في غير النبي صلى الله عليه وسلم، وادعى العصمة في الأئمة، ونحو ذلك مما هو أعظم مما يوجد في سائر الطوائف، واتفق أهل العلم على أن الكذب ليس في طائفة من المنتسبين إلى القبلة أكثر منه فيهم، وقال تعالى: ((قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى))[النمل:59]. قال طائفة من السلف هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أنهم أفضل المصطفين من هذه الأمة، التي قال الله فيها: ((ثمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُم ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُقْتَصِد وَمِنْهُم سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِير * جَنَّات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُم فِيها حَرِير * وَقَالوا الْحَمْدُ ِللهِ الَّذي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُور * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسّنَا فيها نَصبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فيها لُغُوب))[فاطر:32-35].
فأمة محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمتين قبلهم: اليهود والنصارى.
وقد أخبر الله تعالى أنهم الذين اصطفى.(1/84)
وتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ومحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم المصطفون من المصطفين من عباد الله، وقال تعالى: ((محمدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءَ عَلَى الْكُفَّارُ رُحَمَاءَ بَيْنَهُم))[الفتح:29] إلى آخر السورة، وقال تعالى ((وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم في الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُم وَلَيُبْدِلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُون))[النور:55]. فقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف، كما وعدهم في تلك الآية مغفرة وأجرًا عظيمًا، والله لا يخلف الميعاد.
فدل ذلك على أن الذين استخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم ومكّن لهم دين الإسلام، وهو الدين الذي ارتضاه لهم، كما قال تعالى: ((وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دينًا))[المائدة:3] وبَّدلهم من بعد خوفهم أمنًا، منه (1) المغفرة والأجر العظيم.
وهذا يستدل به من وجهين: على أن المستخلفين مؤمنون عملوا الصالحات، لأن الوعد لهم لا لغيرهم، ويستدل به على أن هؤلاء مغفور لهم، ولهم أجر عظيم، لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات، فتناولتهم الآيتان: آية النور وآية الفتح.
ومن المعلوم أن هذه النعوت منطبقة على الصحابة على زمن أبي بكر وعمر وعثمان، فإنه إذ ذاك حصل الاستخلاف، وتمكن الدين والأمن بعد الخوف، لما قهروا فارس والروم، وفتحوا الشام والعراق ومصر وخراسان وإفريقية.
__________
(1) قوله (لهم منه المغفرة والأجر العظيم) خبر عن قوله فدل ذلك الخ.(1/85)
ولما قتل عثمان وحصلت الفتنة لم يفتحوا شيئًا من بلاد الكفار، بل طمع فيهم الكفار بالشام وخراسان، وكان بعضهم يخاف بعضًا.
وحينئذٍ فقد دل القرآن على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان، ومن كان معهم في زمن الاستخلاف والتمكين والأمن، والذين كانوا في زمن الاستخلاف والتمكين والأمن وأدركوا زمن الفتنة -كعلي وطلحة وأبي موسى الأشعري ومعاوية وعمرو بن العاص- دخلوا في الآية لأنهم استخلفوا ومكِّنوا وأمنوا.
وأما من حدث في زمن الفتنة، كالرافضة الذين حدثوا في الإسلام في زمن الفتنة والافتراق، وكالخوارج المارقين، فهؤلاء لم يتناولهم النص، فلم يدخلوا فيمن وصف بالإيمان والعمل الصالح المذكورين في هذه الآية، لأنهم: أولاً: ليسوا من الصحابة المخاطبين بهذا.
ولم يحصل لهم من الاستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف ما حصل للصحابة، بل لا يزالون خائفين مقلقلين غير ممكنين.
فإن قيل: لما قال: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ))[النور:55] ولم يقل: وعدهم كلهم.
قيل: كما قال: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))[النور:55]، ولم يقل: وعدكم.
و"من" تكون لبيان الجنس، فلا يقتضي أن يكون قد بقي من المجرور بها شيء خارج عن ذلك الجنس، كما في قوله تعالى: ((فاجتنبوْا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَان))[الحج:30] فإنه لا يقتضى أن يكون من الأوثان ما ليس برجس، وإذا قلت: ثوب من حرير، فهو كقولك: ثوب حرير، وكذلك قولك: باب من حديد فهو، كقولك: باب حديد، وذلك لا يقتضي أن يكون هناك حرير وحديد غير المضاف إليه، وإن كان الذي يتصوره كليًا، فإن الجنس الكلي هو ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وإن لم يكن مشتركًا فيه في الوجود.(1/86)
فإذا كانت (من) لبيان الجنس، كان التقدير ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))[النور:55] من هذا الجنس، وإن كان الجنس كلهم مؤمنين صالحين، وكذلك إذا قال: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) [النور:55] من هذا الجنس والصنف ((مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ))[النور:55]، لم يمنع ذلك أن يكون جميع هذا الجنس مؤمنين صالحين.
ولما قال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا))[الأحزاب:31] لم يمنع أن يكون كل منهن تقنت لله ورسوله وتعمل صالحًا، ولما قال تعالى: ((وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَليَكُم كَتَبَ رَبُّكُم عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُم سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ))[الأنعام:54] لم يمنع هذا أن يكون كل منهم متصفًا بهذه الصفة، ولا يجوز أن يقال: إنهم لو عملوا سوءًا بجهالة ثم تابوا من بعده وأصلحوا لم يغفر إلا لبعضهم.
ولهذا تدخل (من) هذه في النفي؛ لتحقيق نفي الجنس، كما في قوله تعالى: ((وَمَا ألتَّنَاهُم مِن عَمَلِهِم مِن شَيء))[الطور:21] وقوله تعالى: ((وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ الله))[آل عمران:62]. ((فَمَا مِنْكُم مِن أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِين))[محمد:9]..
ولهذا إذا دخلت في النفي تحق يقًا أو تقديرًا أفادت نفي الجنس قطعًا، فالتحقيق ما ذكر، والتقدير كقوله تعالى: ((لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ))[البقرة:2] وقوله: ((لاَ رَيْبَ فيه))[آل عمران:62] ونحو ذلك.(1/87)
بخلاف ما إذا لم تكن (من) موجودة، كقولك: (ما رأيت رجلاً) فإنها ظاهرة لنفي الجنس، ولكن قد يجوز أن يُنفى بها الواحد من الجنس، كما قال سيبويه: يجوز أن يقال: ما رأيت رجلاً بل رجلين.
فتبين أنه يجوز إرادة الواحد، وإن كان الظاهر نفي الجنس، بخلاف ما إذا دخلت (من) فإنها تنفي الجنس قطعًا، ولهذا لو قال لعبيده: من أعطاني منكم ألفًا فهو حر فأعطاه كل واحد ألفًا عتقوا كلهم.
وكذلك لو قال واحد لنسائه: من أبرأتني منكن من صداقها فهي طالق، فأبرأنه كلهن، طلقن كلهن.
فإن المقصود بقوله: منكم بيان جنس المعطى والمبرئ، لا إثبات هذا الحكم لبعض العبيد والأزواج.
فإن قيل: فهذا كما لا يمنع أن يكون كل المذكور متصفًا بهذه الصفة فلا يوجب ذلك أيضًا، فليس في قوله: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))[النور:55] ما يقتضي أن يكونوا كلهم كذلك.
قيل: نعم، ونحن لا ندعي أن مجرد هذا اللفظ دل على أن جميعهم موصوفون بالإيمان والعمل الصالح، ولكن مقصودنا أن (مِنْ) لا ينافى شمول هذا الوصف لهم، فلا يقول قائل: ان الخطاب دل على ان المدح شملهم وعمهم بقوله: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ))[الفتح:29] إلى آخر الكلام، ولا ريب أن هذا مدح لهم بما ذكر من الصفات، وهو الشدة على الكفار والرحمة بينهم، والركوع والسجود يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا، والسيما في وجوههم من أثر السجود، وأنهم يبتدئون من ضعف إلى كمال القوة والاعتدال كالزرع، والوعد بالمغفرة والأجر العظيم ليس على مجرد هذه الصفات بل على الإيمان والعمل الصالح.
فذكر ما به يستحقون الوعد، وإن كانوا كلهم بهذه الصفة، ولولا ذكر ذلك لكان يظن أنهم بمجرد ما ذكر يستحقون المغفرة والأجر العظيم ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء، بخلاف ما إذا ذكر الإيمان والعمل الصالح.
فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب كان ما منه الاشتقاق سبب الحكم.(1/88)
فإن قيل: فالمنافقون كانوا في الظاهر مسلمين.
قيل: المنافقون لم يكونوا متصفين بهذه الصفات، ولم يكونوا مع الرسول والمؤمنين، ولم يكونوا منهم، كما قال تعالى: ((فعسى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا في أَنْفُسِهِم نَادِمِين))[المائدة:52] ((وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِم إِنَّهُم لَمَعَكُم حَبطت أَعْمَالُهُم فَاَصْبَحُوا خَاسِرِين))[المائدة:53]، وقوله تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذوى في اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابَ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولن إِنَّا مَعَكُم أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَم بِمَا في صُدُور العَالَمِين * وَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِين))[العنكبوت:10-11].
فأخبر أن المنافقين ليسوا من المؤمنين ولا من أهل الكتاب.
وهؤلاء لا يوجدون في طائفة من المتظاهرين بالإسلام أكثر منهم في الرافضة، ومن انطوى إليهم. فدل هذا على أن المنافقين لم يكونوا من الذين آمنوا معه، والذين كانوا منافقين منهم من تاب عن نفاقه وانتهى عنه وهم الغالب، بدليل قوله تعالى: ((لئنْ لَمْ يَنْتَهِ المْنُافِقُونَ وَالَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ وَالْمُرْجَفُونَ في الْمَدِينَةِ ِلنُغْرِيَنَّكَ بِهِم ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً))[الأحزاب:60-61].
فلما لم يغره الله بهم ولم يقتلهم تقتيلاً، بل كانوا يجاورونه بالمدينة، دل ذلك على أنهم انتهوا، والذين كانوا معه بالحديبية كلهم بايعوه تحت الشجرة، إلا الجد بن قيس فإنه اختبأ خلف جمل أحمر.(1/89)
وكذا جاء في الحديث: (كلهم يدخل الجنة إلا صاحب الجمل الأحمر) وبالجملة فلا ريب أن المنافقين كانوا مغمورين، مقهورين، أذلاء، لا سيما في آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وفي غزوة تبوك؛ لأن الله تعالى قال: ((يقولون لئن رَجعنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيَخْرُجَنَّ الأَعَزَّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلله العِزَّةُ َلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤمِنِين وِلَكِن الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُون))[المنافقون:8].
فأخبر أن العزة للمؤمنين لا للمنافقين، فعلم أن العزة والقوة كانت في المؤمنين، وأن المنافقين كانوا أذلاء بينهم.
فيمتنع أن تكون الصحابة الذين كانوا أعز المسلمين من المنافقين، بل ذلك يقتضى أن من كان أعز كان أعظم إيمانًا.
ومن المعلوم أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار -الخلفاء الراشدين وغيرهم- كانوا أعز الناس، وهذا كله مما يبين أن المنافقين كانوا ذليلين في المؤمنين.
فلا يجوز أن يكون الأعزاء من الصحابة منهم، ولكن هذا الوصف مطابق للمتصفين به من الرافضة وغيرهم، والنفاق والزندقة في الرافضة أكثر منه في سائر الطوائف.
بل لا بد لكل منهم من شعبة نفاق، فإن أساس النفاق الذي بني عليه الكذب، وأن يقول الرجل بلسانه ما ليس في قلبه، كما أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
والرافضة تجعل هذا من أصول دينها وتسميه التقية، وتحكى هذا عن أئمة أهل البيت الذين برأهم الله عن ذلك، حتى يحكوا ذلك عن جعفر الصادق أنه قال: التقية ديني ودين آبائي، و قد نزه الله المؤمنين -من أهل البيت وغيرهم- عن ذلك.(1/90)
بل كانوا من أعظم الناس صدقًا وتحقيقًا للإيمان، وكان دينهم التقوى لا التقية، وقول الله تعالى: ((لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَلَيْسمِنَ اللهِ في شَيء إلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُم تُقَاه))[آل عمران:28] إنما هو الأمر بالاتقاء من الكفار، لا الأمر بالنفاق والكذب.
والله تعالى قد أباح لمن أكره على كلمة الكفر أن يتكلم بها إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان، لكن لم يُكرَه أحد من أهل البيت على شيء من ذلك، حتى أن أبا بكر رضي الله عنه لم يُكرِه أحدًا لا منهم ولا من غيرهم على مبايعته فضلاً على أن يكرههم على مدحه والثناء عليه.
بل كان علي وغيره من أهل البيت يظهرون ذكر فضائل الصحابة والثناء عليهم والترحم عليهم والدعاء لهم، ولم يكن أحد يكرههم على شيء منه باتفاق الناس.
وقد كان في زمن بني أمية وبني العباس خلق عظيم دون عليّ وغيره في الإيمان والتقوى يكرهون منهم أشياء ولا يمدحونهم ولا يثنون عليهم، ولا يقربونهم، ومع هذا لم يكن هؤلاء يخافونهم، ولم يكن أولئك يكرهونهم، مع أن الخلفاء الراشدين كانوا باتفاق الخلق أبعد عن قهر الناس وعقوبتهم على طاعتهم من هؤلاء.
فإذا لم يكن الناس مع هؤلاء مكرهين على أن يقولوا بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم، فكيف يكونون مكرهين مع الخلفاء على ذلك، بل على الكذب وشهادة الزور وإظهار الكفر -كما تقوله الرافضة- من غير أن يكرههم أحد على ذلك؟
فعلم أن ما تتظاهر به الرافضة هو من باب الكذب والنفاق، وأن يقولوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، لا من باب ما يكره المؤمن عليه من التكلم بالكفر، وهؤلاء أسرى المسلمين في بلاد الكفار غالبهم يظهرون دينهم، والخوارج مع تظاهرهم بتكفير الجمهور وتكفير عثمان وعلي ومن ولاهما يتظاهرون بدينهم.(1/91)
وإذا سكنوا بين الجماعة سكنوا على الموافقة والمخالفة، والذي يسكن في مدائن الرافضة فلا يظهر الرفض، وغايته إذا ضعف أن يسكت عن ذكر مذهبه، لا يحتاج أن يتظاهر بسب الخلفاء والصحابة، إلا أن يكونوا قليلاً.
فكيف يظن بعلي رضي الله عنه وغيره من أهل البيت أنهم كانوا أضعف دينًا وقلوبًا من الأسرى في بلاد الكفر، ومن عوام أهل السنة، ومن النواصب؟ مع أنا قد علمنا بالتواتر أن أحدًا لم يُكرِه عليّا ولا أولاده على ذكر فضائل الخلفاء، والترحم عليهم، بل كانوا يقولون ذلك من غير إكراه، ويقوله أحدهم لخاصته، كما ثبت ذلك بالنقل المتواتر.
وأيضا فقد يقال في قوله تعالى: ((وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَعَمِلوا الصَّالِحَات))[النور:55] أن ذلك وصف الجملة بصفة تتضمن حالهم عند الاجتماع، كقوله تعالى: ((وَمَثَلُهُم في الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِه يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغيظَ بِهِم الكُفَّار))[الفتح:29] والمغفرة والأجر في الآخرة يحصل لكل واحد واحد، فلا بد أن يتصف بسبب ذلك، وهو الإيمان والعمل الصالح، إذ قد يكون في الجملة منافقًا.
وفي الجملة ما في القرآن من خطاب المؤمنين والمتقين والمحسنين ومدحهم والثناء عليهم، فهم أول من دخل في ذلك من هذه الأمة، وأفضل من دخل في ذلك من هذه الأمة كما استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال: (خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)(1).
(الوجه الثاني): في بيان كذبه وتحريفه فيما نقله عن حال الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق، وبايعه أكثر الناس طلبًا للدنيا).
__________
(1) انظر: البخاري (3/171) ومواضع أُخر، ومسلم (4/1962).(1/92)
وهذا إشارة إلى أبي بكر، فإنه هو الذي بايعه أكثر الناس، ومن المعلوم أن أبا بكر لم يطلب الأمر لنفسه، لا بحق ولا بغير حق، بل قال: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين: إما عمر بن الخطاب وإما أبا عبيدة.
قال عمر: فوالله لأن أقدم فتضرب عنقي، لا يقرّبني ذلك إلى إثم، أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر. وهذا اللفظ في الصحيحين(1).
وقد روي عنه أنه قال: أقيلوني، أقيلوني، فالمسلمون اختاروه وبايعوه، لعلمهم بأنه خيرهم، كما قال له عمر يوم السقيفة بمحضر المهاجرين والأنصار: أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر ذلك أحد، وهذا أيضًا في الصحيحين(2).
والمسلمون اختاروه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لعائشة: (ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابًا، لا يختلف عليه الناس من بعدي، ثم قال: يأبى الله والمؤمنون أن يتولى غير أبي بكر)(3) فالله هو ولاَّه قدرًا وشرعًا، وأمر المؤمنين بولايته، وهداهم إلى أن ولوه من غير أن يكون طلب ذلك لنفسه.
(الوجه الثالث): أن يقال: فهب أنه طلبها وبايعه أكثر الناس، فقولكم: إن ذلك طلب للدنيا كذب ظاهر.
فإن أبا بكر لم يعطهم دنيا، وكان قد أنفق ماله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولما رغب النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقة جاء بماله كله، فقال له:(ما تركت لأهلك؟ قال:تركت لهم الله، ورسوله)(4).
والذين بايعوه هم أزهد الناس في الدنيا، وهم الذين أثنى الله عليهم.
وقد علم الخاص والعام زهد عمر وأبي عبيدة وأمثالهما، وإنفاق الأنصار أموالهم: كأسيد بن حضير، وأبي طلحة، وأبي أيوب وأمثالهم.
__________
(1) انظر: البخاري (8/140-142).
(2) انظر: الذي قبله.
(3) وقد سبق ذكره (ص63).
(4) انظر: البخاري (2/112) وغيره.(1/93)
ولم يكن عند موت النبي صلى الله عليه وسلم لهم بيت مال يعطيهم ما فيه، ولا كان هناك ديوان للعطاء يُفرض لهم فيه، والأنصار كانوا في أملاكهم وكذلك المهاجرون: من كان له شيء من مغنم أو غيره فقد كان له.
وكانت سيرة أبي بكر في قسم الأموال التسوية، وكذلك سيرة علي رضي الله عنه، فلو بايعوا عليّا أعطاهم ما أعطاهم أبو بكر، مع كون قبيلته أشرف القبائل، وكون بني عبد مناف -وهم أشرف قريش الذين هم أقرب العرب من بني أمية وغيرهم إذ ذلك، كأبي سفيان بن حرب وغيره، وبني هاشم -كالعباس وغيره- كانوا معه.
فقد أراد أبو سفيان وغيره أن تكون الإمارة في بني عبد مناف -على عادة الجاهلية- فلم يجبه إلى ذلك عليَّ ولا عثمان ولا غيرهما لعلمهم أو دينهم.
فأيّ رياسة وأي مال كان لجمهور المسلمين بمبايعة أبي بكر؟ لا سيما وهو يسوّي بين السابقين والأولين، وبين آحاد المسلمين في العطاء، ويقول: إنما أسلموا لله وأجورهم على الله، وإنما هذا المتاع بلاغ.
وقال لعمر لما أشارعليه بالتفضيل في العطاء: أفأشتري منهم إيمانهم؟ فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم أولاً، كعمر وأبي عبيدة وأسيد بن حضير وغيرهم، سوَّى بينهم وبين الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح، بل وبين من أسلم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فهل حصل لهؤلاء من الدنيا بولايته شيء؟
(الوجه الرابع): أن يقال: أهل السنّة مع الرافضة كالمسلمين مع النصارى، فإن المسلمين يؤمنون بأن المسيح عبد الله ورسوله، ولا يغلون فيه غلو النصارى، ولا يجفون جفاء اليهود.
والنصارى تدَّعي فيه الإلهية وتريد أن تفضله على محمد وإبراهيم وموسى، بل تفضل الحواريين على هؤلاء الرسل.(1/94)
كما تريد الروافض أن تفضل من قاتل مع علي كمحمد بن أبي بكر والأشتر النخعي على أبي بكر وعمر وعثمان وجمهور المهاجرين والأنصار، فالمسلم إذا ناظر النصراني لا يمكنه أن يقول في عيسى إلا الحق، لكن إذا أردت أن تعرف جهل النصراني وأنه لا حجة له فقدّر المناظرة بينه وبين اليهود.
فإن النصراني لا يمكنه أن يجيب عن شبهة اليهودي(1) إلا بما يجيب به المسلم، فإن لم يدخل في دين الإسلام وإلا كان منقطعًا مع اليهودي، فإنه إذا أُمر بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قدح في نبوته بشيء من الأشياء، لم يمكنه أن يقول شيئا إلا قال اليهودي في المسيح ما هو أعظم من ذلك، فإن البينات لمحمد أعظم من البينات للمسيح.
وبُعد أمر محمد عن الشبهة، أعظم من بعد المسيح عن الشبهة، فإن جاز القدح فيما دليله أعظم وشبهته أبعد عن الحق، فالقدح فيما دونه أولى.
وإن كان القدح في المسيح باطلاً فالقدح في محمد أولى بالبطلان، فإنه إذا بطلت الشبهة القوية فالضعيفة أولى بالبطلان، وإذا ثبتت الحجة التي غيرها أقوى منها فالقوية أولى بالإثبات.
ولهذا كان مناظرة كثير من المسلمين للنصارى من هذا الباب كالحكاية المعروفة عن القاضي أبي بكر بن الطيب، لما أرسله المسلمون إلى ملك النصارى بالقسطنطينية، فإنهم عظَّموه، وعرف النصارى قدره، فخافوا أن لا يسجد للملك إذا دخل، فأدخلوه من باب صغير ليدخل منحنيًا، ففطن لمكرهم فدخل مستدبرًا متلقيًا لهم بعجزه.
__________
(1) يعني أن اليهود يرمون مريم بالفجور، وما دام النصراني يكذب ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكنه الرد على اليهود في أمر عيسى. لأن عيسى أمر بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فإذا امتنع النصارى من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم صار ذلك فيه تكذيب لعيسى.(1/95)
ففعل نقيض ما قصدوه، ولما جلس وكلموه أراد بعضهم القدح في المسلمين، فقال له: ما قيل في عائشة امرأة نبيكم؟ يريد إظهار قول الإفك الذي يقوله من يقول من الرافضة أيضًا.
فقال القاضي: ثنتان قدح فيهما ورميتا بالزنا إفكًا وكذبًا: مريم وعائشة، فأما مريم فجاءت بالولد تحمله من غير زوج، وأما عائشة فلم تأت بولد مع أنه كان لها زوج، فأبهت النصارى.
وكان مضمون كلامه أن ظهور براءة عائشة أعظم من ظهور براءة مريم، وأن الشبهة إلى مريم أقرب منها إلى عائشة، فإذا كان مع هذا قد ثبت كذب القادحين في مريم، فثبوت كذب القادحين في عائشة أولى.
ومثل هذه المناظرة أن يقع التفضيل بين طائفتين، ومحاسن إحداهما أكثر وأعظم ومساويها أقل وأصغر، فإذا ذكر ما فيها من ذلك عورض بأن مساوئ تلك أعظم، كقوله تعالى: ((يسئلونكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٌ فِيه قُل قِتَالٌ فيهِ كَبِير))[البقرة:217]، ثم قال: ((وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرَ عِنْدَ الله وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرَ مِنَ الْقَتْل))[البقرة:217] فإن الكفار عيَّروا سرية من سرايا المسلمين بأنهم قتلوا ابن الحضرمي في الشهر الحرام، فقال تعالى: هذا كبير وما عليه المشركون من الكفر بالله والصد عن سبيله وعن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، فإن هذا صد عما لا تحصل النجاة والسعادة إلا به، وفيه من انتهاك المسجد الحرام ما هو أعظم من انتهاك الشهر الحرام.
لكن في هذا النوع قد اشتملت كل من الطائفتين على ما يذم، وأما النوع الأول فيكون كل من الطائفتين لا يستحق الذم، بل هناك شبه في الموضعين وأدلة في الموضعين، وأدلة أحد الصنفين أقوى وأظهر، وشبهته أضعف وأخفى، فيكون أولى بثبوت الحق ممن تكون أدلته أضعف وشبهته أقوى.(1/96)
وهذا حال النصارى واليهود مع المسلمين، وهو حال أهل البدع مع أهل السنّة لاسيما الرافضة، وهكذا أمر أهل السنّة مع الرافضة في أبي بكر وعلي، فإن الرافضي لا يمكنه أن يثبت إيمان علي وعدالته وأنه من أهل الجنة -فضلاً عن إمامته- إن لم يثبت ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان.
وإلا فمتى أراد إثبات ذلك لعلي وحده لم تساعده الأدلة، كما أن النصراني إذا أراد إثبات نبوة المسيح دون محمد لم تساعده الأدلة.
فإذا قالت له الخوارج الذين يكفرون عليّا أو النواصب الذين يفسقونه: إنه كان ظالمًا طالبًا للدنيا، وإنه طلب الخلافة لنفسه وقاتل عليها بالسيف، وقتل على ذلك ألوفًا من المسلمين حتى عجز عن انفراده بالأمر، وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقاتلواه، فهذا الكلام إن كان فاسدًا ففساد كلام الرافضي في أبي بكر وعمر أعظم، وإن كان ما قاله في أبي بكر وعمر متوجهًا مقبولاً، فهذا أولى بالتوجه والقبول.
لأنه من المعلوم للخاصة والعامة أن من ولاَّه الناس باختيارهم ورضاهم من غير أن يضرب أحدًا لا بسيف ولا عصا ولا أعطى أحدًا ممن ولاه مالاً واجتمعوا عليه فلم يول أحدًا من أقاربه وعترته، ولا خلف لورثته مالاً من مال المسلمين، وكان له مال قد أنفقه في سبيل الله، فلم يأخذ بدله، وأوصى أن يرد إلى بيت مالهم ما كان عنده لهم، وهو جرد قطيفة وبكر وأمة سوداء، ونحو ذلك.
حتى قال عبد الرحمن بن عوف لعمر: أتسلب هذا آل أبي بكر قال: كلا والله. لا يتحنث فيها أبو بكر وأتحملها أنا. وقال: يرحمك الله يا أبا بكر لقد أتعبت الأمراء بعدك.
ثم مع هذا لم يقتل مسلمًا على ولايته، ولا قاتل مسلمًا بمسلم، بل قاتل بهم المرتدين عن دينهم والكفار، حتى شرع بهم في فتح الأمصار، واستخلف القوي الأمين العبقري الذي فتح الأمصار ونصب الديوان، وعم بالعدل والإحسان.(1/97)
فإن جاز للرافضي أن يقول: إن هذا كان طالبًا للمال والرياسة، أمكن الناصبي أن يقول: كان علي ظالمًا طالبًا للمال والرياسة، قاتل على الولاية حتى قتل المسلمون بعضهم بعضًا، ولم يقاتل كافرًا، ولم يحصل للمسلمين في مدة ولايته إلا شر وفتنة في دينهم ودنياهم.
فإن جاز أن يقال: علي كان مريدًا لوجه الله والتقصير من غيره من الصحابة، أو يقال: كان مجتهدًا مصيبًا، وغيره مخطئًا مع هذه الحال فإنه يقال: كان أبو بكر وعمر مريدين وجه الله مصيبين، والرافضة مقصرون في معرفة حقهم مخطئون في ذمهم بطريق الأولى والأحرى.
فإن أبا بكر وعمر كان بعدهما عن شبهة طلب الرياسة والمال أشد من بعد علي عن ذلك، وشبهة الخوارج الذين ذموا عليّا وعثمان وكفروهما أقرب من شبهة الرافضة الذين ذموا أبا بكر وعمر وكفروهما، فكيف بحال الصحابة والتابعين الذين تخلفوا عن بيعته أو قاتلوه؟ فشبهتهم أقوى من شبهة من قدح في أبي بكر وعمر وعثمان، فإن أولئك قالوا: ما يمكننا أن نبايع إلا من يعدل علينا، ويمنعنا ممن ظلمنا، ويأخذ حقنا ممن ظلمنا، فإذا لم يفعل هذا كان عاجزًا أو ظالمًا، وليس علينا أن نبايع عاجزًا أو ظالمًا.
وهذا الكلام إذا كان باطلاً، فبطلان قول من يقول: إن أبا بكر وعمر كانا ظالمين طالبين للرياسة والمال أبطل وأبطل، وهذا الأمر لا يستريب فيه من له بصر ومعرفة، وأين شبهة مثل أبي موسى الأشعري الذي وافق عمرًا على عزل علي ومعاوية وأن يجعل الأمر شورى في المسلمين، من شبهة عبد الله بن سبأ وأمثاله الذين يدَّعون أنه إمام معصوم، أو أنه إله أو نبي؟!(1/98)
بل أين شبهة الذين رأوا أن يولوا معاوية من شبهة الذين يدَّعون أنه إله أو نبي، فإن هؤلاء كفار باتفاق المسلمين بخلاف أولئك، ومما يبين هذا أن الرافضة تعجز عن إثبات إيمان علي وعدالته، مع كونهم على مذهب الرافضة، ولا يمكنهم ذلك إلا إذا صاروا من أهل السنة، فإذا قالت لهم الخوارج وغيرهم ممن تكفره أو تفسقه: لا نُسلِّم أنه كان مؤمنًا، بل كان كافرًا أو ظالمًا -كما يقولون هم في أبي بكر وعمر- لم يكن لهم دليل على إيمانه وعدله، إلا وذاك الدليل على أبي بكر وعمر وعثمان أدل.
فإن احتجوا بما تواتر من إسلامه وهجرته وجهاده، فقد تواتر ذلك عن هؤلاء، بل تواتر إسلام معاوية ويزيد وخلفاء بني أمية وبني العباس، وصلاتهم وصيامهم وجهادهم للكفار، فإن ادعوا في واحد من هؤلاء النفاق أمكن الخارجى أن يدعى النفاق فيه(1).
وإذا ذكروا شبهة، ذكر ما هو أعظم منها، وإذا قالوا ما تقوله أهل الفرية من أن أبا بكر وعمر كانا منافقين في الباطن عدوين للنبي صلى الله عليه وسلم أفسدا دينه بحسب الإمكان، أمكن الخارجى أن يقول ذلك في علي ويوجه ذلك بأن يقول: كان يحسد ابن عمه وأنه كان يريد إفساد دينه فلم يتمكن من ذلك في حياته وحياة الخلفاء الثلاثة، حتى سعى في قتل الخليفة الثالث، وأوقد الفتنة، حتى غلا في قتل أصحاب محمد، وأمته بغضًا له وعداوة، وأنه كان مباطنًا للمنافقين الذين ادعوا فيه الإلهية والنبوة، وكان يظهر خلاف ما يبطن، لأن دينه التقية، فلما أحرقهم بالنار أظهر إنكار ذلك، وإلا فكان في الباطن معهم.
ولهذا كانت الباطنية من أتباعه، وعندهم سره، وهم ينقلون عنه الباطن الذي ينتحلونه، ويقول الخارجى مثل هذا الكلام الذي يروج على كثير من الناس أعظم مما يروج كلام الرافضة في الخلفاء الثلاثة، لأن شبهة الرافضة أظهر فسادًا من شبهة الخوارج، وهم أصح منهم عقلاً، ومقصدًا، والرافضة أكذب وأفسد دينًا.
__________
(1) يعني في علي.(1/99)
وإن أرادوا إثبات إيمانه وعدالته بنص القرآن عليه، قيل: القرآن عام، وتناوله له ليس بأعظم من تناوله لغيره، وما من آية يدعون اختصاصها به إلا أمكن أن يدعى اختصاصها أو اختصاص مثلها أو أعظم منها بأبي بكر وعمر.
فباب الدعوى بلا حجة ممكنة، والدعوى في فضل الشيخين أمكن منها في فضل غيرهما.
وإن قالوا: ثبت ذلك بالنقل والرواية؛ فالنقل والرواية في أولئك أكثر وأشهر، فإن ادعوا تواترًا، فالتواتر هناك أصحٍ، وإن اعتمدوا على نقل الصحابة فنقلهم لفضائل أبي بكر وعمر أكثر.
ثم هم يقولون: إن الصحابة ارتدوا إلا نفرًا قليلاً، فكيف تقبل رواية هؤلاء في فضيلة أحد؟ ولم يكن في الصحابة رافضة كثيرون يتواتر نقلهم، فطريق النقل مقطوع عليهم إن لم يسلكوا طريق أهل السنة، كما هو مقطوع على النصارى في إثبات نبوة المسيح إن لم يسلكوا طريق المسلمين.
وهذا كمن أراد أن يثبت فقه ابن عباس دون علي أو فقه ابن عمر دون أبيه، أو فقه علقمة والأسود دون ابن مسعود، ونحو ذلك من الأمور التي يثبت فيها للشيء حكم دون ما هو أولى بذلك الحكم منه، فإن هذا تناقض ممتنع عند من سلك طريق العلم والعدل.
ولهذا كانت الرافضة من أجهل الناس وأضلهم، كما أن النصارى من أجهل الناس، والرافضة من أخبث الناس، كما أن اليهود من أخبث الناس، ففيهم نوع من ضلال النصارى، ونوع من خبث اليهود.(1/100)
(الوجه الخامس): أن يقال: تمثيل هذا بقصة عمر بن سعد طالبًا للرياسة والمال مقدمًا على المحرّم لأجل ذلك فيلزم أن يكون السابقون الأولون بهذه الحال؟ وهذا أبوه سعد بن أبي وقاص كان من أزهد الناس في الإمارة والولاية، ولما وقعت الفتنة اعتزل الناس في قصره بالعقيق، وجاءه عمر ابنه هذا فلامه على ذلك، وقال له: الناس في المدينة يتنازعون الملك وأنت ههنا؟ فقال: (اذهب فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفيّ)(1).
هذا ولم يكن قد بقي أحد من أهل الشورى غيره وغير علي رضي الله عنهما، وهو الذي فتح العراق، وأذل جنود كسرى، وهو آخر العشرة موتًا.
فإذا لم يحسن أن يشبه بابنه عمر أيشبه به أبو بكر وعمر وعثمان؟ هذا وهم لا يجعلون محمد بن أبي بكر بمنزلة أبيه، بل يفضلون محمدًا ويعظمونه ويتولونه لكونه آذى عثمان، وكان من خواص أصحاب علي؛ لأنه كان ربيبه، ويسبون أباه أبا بكر ويلعنونه، فلو أن النواصب فعلوا بعمر بن سعد مثل ذلك: فمدحوه على قتل الحسين لكونه كان من شيعة عثمان، ومن المنتصرين له، وسبوا أباه سعدًا لكونه تخلف عن القتال مع معاوية والانتصار لعثمان، هل كانت النواصب لو فعلت ذلك إلا من جنس الرافضة؟
بل الرافضة شر منهم، فإن أبا بكر أفضل من سعد، وعثمان كان أبعد عن استحقاق القتل من الحسين، وكلاهما مظلوم شهيد رضي الله تعالى عنهما، ولهذا كان الفساد الذي حصل في الأمة بقتل عثمان أعظم من الفساد الذي حصل في الأمة بقتل الحسين.
__________
(1) انظر: المسند (3/26) تحقيق أحمد شاكر، وانظر: صحيح مسلم (4/2277).(1/101)
وعثمان من السابقين الأولين، وهو خليفة مظلوم طلب منه أن ينعزل بغير حق فلم ينعزل ولم يقاتل عن نفسه حتى قتل، والحسين رضي الله عنه لم يكن متوليًا، وإنما كان طالبًا للولاية، حتى رأى أنها متعذرة، وطلب منه يستأسر نفسه ليحمل إلى يزيد مأسورًا، فلم يجب إلى ذلك وقاتل حتى قتل مظلومًا شهيدًا، فظلم عثمان كان أعظم، وصبره وحلمه كان أكمل، وكلاهما مظلوم شهيد، ولو مثل ممثل طلب علي والحسين للأمر بطلب الإسماعيلية كالحاكم وأمثاله، وقال: إن عليًا والحسين كانا ظالمين طالبين للرياسة بغير حق، بمنزلة الحاكم وأمثاله من ملوك بني عبيد، أما كان يكون كاذبًا مفتريًا في ذلك لصحة إيمان علي والحسين، ودينهما وفضلهما، ولنفاق هؤلاء وإلحادهم؟
وكذلك من شبَّه عليًا والحسين ببعض من قام من الطالبيين أو غيرهم بالحجاز أو الشرق أو الغرب يطلب الولاية بغير حق، ويظلم الناس في أموالهم وأنفسهم، أما كان يكون ظالمًا كاذبًا؟ فالمشبِّه لأبي بكر وعمر بعمر بن سعد أولى بالكذب والظلم، ثم غاية عمر بن سعد وأمثاله أن يعترف بأنه طلب الدنيا بمعصية يعترف أنها معصية، وهذا ذنب كثير وقوعه من المسلمين.
وأما الشيعة فكثيرمنهم يعترفون بأنهم إنما قصدوا بالملك إفساد دين الإسلام، ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم، كما يعرف ذلك من خطاب الباطنية وأمثالهم من الداخلين في الشيعة، فإنهم يعترفون بأنهم في الحقيقة لا يعتقدون دين الإسلام، وإنما يتظاهرون بالتشيع لقلة عقل الشيعة وجهلهم ليتوصلوا بهم إلى أغراضهم.
وأوّل هؤلاء -بل خيارهم- هو المختار بن أبي عبيد الكذاب، فإنه كان أمير الشيعة، وقتل عبيد الله بن زياد، وأظهر الانتصار للحسين حتى قتل قاتله، وتقرب بذلك إلى محمد بن الحنفية وأهل البيت، ثم ادعى النبوة وأن جبريل يأتيه، وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيكون في ثقيف كذاب ومبير)(1).
__________
(1) مسلم (4/1971).(1/102)
فكان الكذاب هو المختار بن أبي عبيد، وكان المبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي، ومن المعلوم أن عمر بن سعد أمير السرية التي قتلت الحسين، مع ظلمه وتقديمه الدنيا على الدين، لم يصل في المعصية إلى فعل المختار بن أبي عبيد الذي أظهر الانتصار للحسين وقتل قاتله، بل كان هذا أكذب وأعظم ذنبًا من عمر بن سعد.
فهذا الشيعي شر من ذلك الناصبي، بل والحجاج بن يوسف خير من المختار بن أبي عبيد، فإن الحجاج كان مبيرًا كما سمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم –يسفك الدماء بغير حق -والمختار كان كذابًا يدَّعي النبوة وإتيان جبريل إليه، وهذا الذنب أعظم من قتل النفوس، فإن هذا كفر، وإن كان لم يتب منه كان مرتدًا، والفتنة أعظم من القتل.
وهذا باب مطِّرد لا تجد أحدًا ممن تذمه الشيعة بحق أو باطل إلا وفيهم من هو شر منه، ولا تجد أحدًا ممن تمدحه الشيعة إلا وفيمن تمدحه الخوارج من هو خير منه، فإن الروافض شر من النواصب، والذين تكفرهم أو تفسقهم الروافض هم أفضل من الذين تكفرهم أو تفسقهم النواصب.
وأما أهل السنة فيتولون جميع المؤمنين، ويتكلمون بعلم وعدل، ليسوا من أهل الجهل ولا من أهل الأهواء، ويتبرءون من طريقة الروافض والنواصب جميعًا، ويتولون السابقين الأولين كلهم، ويعرفون قدر الصحابة وفضلهم ومناقبهم، ويرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم، ولا يرضون بما فعله المختار ونحو من الكذابين، ولا ما فعله الحجاج ونحوه من الظالمين.
ويعلمون مع هذا مراتب السابقين الأولين، فيعلمون أن لأبي بكر وعمر من التقدم والفضائل ما لم يشاركهما فيهما أحد من الصحابة، لا عثمان ولا علي ولا غيرهما، وهذا كان متفقًا عليه في الصدر الأول، إلا أن يكون خلاف شاذ لا يعبأ به.(1/103)
حتى إن الشيعة الأولى أصحاب علي لم يكونوا يرتابون في تقديم أبي بكر وعمر عليه، فكيف وقد ثبت عنه من وجوه متواترة أنه كان يقول: (خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر وعمر) ولكن كان طائفة من شيعة علي تقدمه على عثمان، وهذه المسألة أخفى من تلك، ولهذا كان أئمة أهل السنة متفقين على تقديم أبي بكر وعمر كما في مذهب أبي حنيفة، والشافعي، ومالك، وأحمد بن حنبل، والثورى، والأوزاعي، والليث بن سعد، وسائر أئمة المسلمين من أهل الفقه والحديث والزهد والتفسير من المتقدمين والمتأخرين.
وأما عثمان وعلي فكان طائفة من أهل المدينة يتوقفون فيهما، وهي إحدى الروايتين عن مالك، وكان طائفة من الكوفيين يقدمون عليًا، وهي إحدى الروايتين عن سفيان الثوري، ثم قيل: إنه رجع عن ذلك لما اجتمع به أيوب السختياني، وقال من قدم عليًا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وسائر أئمة السنة على تقديم عثمان وهو مذهب جماهير أهل الحديث، وعليه يدل النص والإجماع والاعتبار.
وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من تقديم جعفر أو تقديم طلحة أو نحو ذلك فذلك في أمور مخصوصة لا تقديمًا عامًا، وكذلك ما ينقل عن بعضهم في علي.
وأما قوله: فبعضهم اشتبه الأمرعليه ورأى لطالب الدنيا مبايعًا فقلده، وبايعه وقصر في نظره فخفي عليه الحق فاستحق المؤاخذة من الله تعالى، بإعطاء الحق لغير مستحقه، قال: وبعضهم قلد لقصور فطنته، ورأى الجم الغفير فتابعهم، وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب، وغفل عن قوله تعالى: ((وَقَلِيلٌ مَا هُم وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور)) [ص:24].
فيقال لهذا المفتري الذي جعل الصحابة الذين بايعوا أبا بكر ثلاثة أصناف أكثرهم طلبوا الدنيا وصنف قصروا في النظر، وصنف عجزوا عنه، لأن الشر إما أن يكون لفساد القصد، وإما أن يكون للجهل، والجهل إما أن يكون لتفريط في النظر، وإما أن يكون لعجز عنه.(1/104)
وذكر أنه كان في الصحابة وغيرهم من قصر في النظر حين بايع أبا بكر، ولو نظر لعرف الحق، وهذا يؤاخذ على تفريطه، بترك النظر الواجب، وفيهم من عجز عن النظر، فقلد الجم الغفير، يشير بذلك إلى سبب مبايعة أبي بكر.
فيقال له: هذا من الكذب الذي لا يعجز عنه أحد، والرافضة قوم بهت، فلو طلب من هذا المفتري دليل على ذلك لم يكن له على ذلك دليل، والله تعالى قد حرم القول بغير علم، فكيف إذا كان المعروف ضد ما قاله، فلو لم نكن نحن عالمين بأحوال الصحابة لم يجز أن نشهد عليهم بما لا نعلم من فساد القصد، والجهل بالمستحق، قال تعالى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً))[الإسراء:36]، وقال تعالى: ((ها أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمُ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْم))[آل عمران:66] فكيف إذا كنا نعلم أنهم كانوا أكمل هذه الأمة عقلاً، وعلمًا، ودينًا، كما قال فيهم عبد الله بن مسعود: (من كان منكم مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد كانوا –والله- أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم)(1). رواه غير واحد منهم: ابن بطة، عن قتادة.
__________
(1) انظر: المسند (5/211) تحقيق أحمد شاكر، وقال الهيثمي: رواه أحمد والبزار، والطبراني في الكبير. مجمع الزوائد (1/177).(1/105)
وروى هو وغيره بالأسانيد المعروفة إلى زر بن حبيش، قال: قال عبد الله بن مسعود: (إن الله تبارك وتعالى نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئًا فهو عند الله سيء)(1).
وفي رواية: قال أبو بكر بن عياش الراوي لهذا الأثر، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقد رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا أن يستخلفوا أبا بكر.
فقول عبد الله بن مسعود كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، كلام جامع بين فيه حسن قصدهم ونياتهم ببر القلوب، وبيَّن فيه كمال المعرفة ودقتها بعمق العلم، وبيَّن فيه تيسر ذلك عليهم وامتناعهم من القول بلا علم بقلة التكلف، وهذا خلاف ما قاله هذا المفتري الذي وصف أكثرهم بطلب الدنيا، وبعضهم بالجهل، إما عجزًا وإما تفريطًا، والذي قاله عبد الله حق، فإنهم خير هذه الأمة، كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)(2).وهم أفضل الأمة الوسط الشهداء على الناس، الذين هداهم الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فليسوا من المغضوب عليهم الذين يتبعون أهواءهم، ولا من الضالين الجاهلين، كما قسمهم هؤلاء المفترون إلى ضلال وغواة، بل لهم كمال العلم، وكمال القصد.
__________
(1) انظر: المرجع السابق.
(2) تقدمت الإشارة إلى مواضعه انظر: ص.(1/106)
إذ لو لم يكن كذلك للزم أن لا تكون هذه الأمة خير الأمم، وأن لا يكونوا خير الأمة، وكلاهما خلاف الكتاب والسنة، وأيضًا فالاعتبار العقلي يدل على ذلك، فإن من تأمل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتأمل أحوال اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين، تبين له من فضيلة هذه الأمة على سائر الأمم في العلم النافع، والعمل الصالح، ما يضيق هذا الموضع عن بسطه.
والصحابة أكمل الأمة في ذلك بدلالة الكتاب والستة والإجماع والاعتبار، ولهذا لا تجد أحدًا من أعيان الأمة إلا وهو معترف بفضل الصحابة عليه وعلى أمثاله، وتجد من ينازع في ذلك كالرافضة من أجهل الناس، ولهذا لا يوجد في أئمة الفقه الذين يرجع إليهم رافضي، ولا في أئمة الحديث ولا في أئمة الزهد والعبادة ولا في أئمة الجيوش المؤيدة المنصورة رافضي، ولا في الملوك الذين نصروا الإسلام وأقاموه وجاهدوا عدوه من هو رافضي، ولا في الوزراء الذين لهم سيرة محمودة من هو رافضي.
وأكثر ما تجد الرافضة إما في الزنادقة المنافقين الملحدين، وإما في جهال ليس لهم علم بالمنقولات ولا بالمعقولات، قد نشأ بالبوادي والجبال، وتجبروا على المسلمين، فلم يجالسوا أهل العلم والدين، وإما في ذوي الأهواء ممن قد حصل له بذلك رياسة ومال، أوله نسب يتعصب به كفعل أهل الجاهلية، وأما من هو عند المسلمين من أهل العلم والدين، فليس في هؤلاء رافضي، لظهور الجهل والظلم في قولهم، وتجد ظهور الرفض في شر الطوائف كالنصيرية والإسماعيلية، والملاحدة الطرقية، وفيهم من الكذب والخيانة وإخلاف الوعد ما يدل على نفاقهم، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)(1)– زاد مسلم – (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) وأكثر ما توجد هذه الثلاث في طوائف أهل القبلة في الرافضة.
__________
(1) انظر: البخاري (1/12) وغيره، ومسلم (1/78).(1/107)
وأيضًا: فيقال لهذا المفترى:هب أن الذين بايعوا الصديق كانوا كما ذكرت؛ إما طالب دنيا وإما جاهل، فقد جاء بعد أولئك في قرون الأمة من يعرف كل أحد زكاءهم وذكاءهم، مثل: سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، وإبراهيم النخعي، وعلقمة، والأسود، وعبيدة السلماني، وطاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء جابر بن زيد، وعلي بن زيد، وعلي بن الحسين، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، ومطرف بن الشخير، ومحمد بن واسع، وحبيب العجمى، ومالك بن دينار، ومكحول، والحكم بن عتبة، ويزيد بن أبي حبيب، ومن لا يحصي عددهم إلا الله.
ثم بعدهم: أيوب السختياني، وعبد الله بن عون، ويونس بن عبيد، وجعفر بن محمد، والزهري، وعمرو بن دينار، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأبو الزناد، ويحيى بن أبي كثير، وقتادة، ومنصور بن المعتمر، والأعمش، وحماد بن أبي سليمان، وهشام الدستوائي، وسعيد بن أبي عروبة.
ومن بعد هؤلاء، مثل: مالك بن أنس، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، والليث بن سعد، والأوزاعي، وأبي حنيفة، وابن أبي ليلى، وشريك، وابن أبي ذئب، وابن الماجشون.
ومن بعدهم، مثل: يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن القاسم، وأشهب بن عبد العزيز، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحق بن راهويه، وأبي عبيد، وأبي ثور، ومن لا يحصى عدده إلا الله تعالى، ممن ليس لهم غرض في تقديم غير الفاضل لا لأجل رياسة ولا مال.
وممن هم أعظم الناس نظرًا في العلم وكشفًا لحقائقه، وهم كلهم متفقون على تفضيل أبي بكر وعمر.(1/108)
بل الشيعة الأولى الذين كانوا على عهد علي كانوا يفضلون أبا بكر وعمر، قال ابن القاسم: سألت مالكًا عن أبي بكر وعمر؟ فقال: مارأيت أحدًا ممن اقتدى به يشك في تقديمهما. يعني: على علي وعثمان فحكى إجماع أهل المدينة على تقديمهما.
وأهل المدينة لم يكونوا مائلين إلى بني أمية كما كان أهل الشام، بل قد خلعوا بيعة يزيد، وحاربهم عام الحرة وجرى بالمدينة ما جرى.
ولم يكن أيضًا قتل علي منهم أحدًا كما قتل من أهل البصرة ومن أهل الشام، بل كانوا يعدّونه من علماء المدينة، إلى أن خرج منها، وهم متفقون على تقديم أبي بكر وعمر.
وروى البيهقي بإسناده عن الشافعي، قال: لم يختلف الصحابة والتابعون في تقديم أبي بكر وعمر، وقال شريك بن أبي نمر: وقال له قائل: أيما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال له السائل: تقول هذا و أنت من الشيعة؟ فقال: نعم إنما الشيعيّ من يقول هذا، والله لقد رقى عليّ هذه الأعواد، فقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر أفكنا نردّ قوله، أفكنا نكذبه، والله ما كان كذاباً(1).
وذكر هذا القاضي عبد الجبار في كتاب تثبيت النبوة له، وعزاه إلى كتاب أبي القاسم البلخي، الذي صنفه في النقض على ابن الراوندي اعتراضه على الجاحظ(2).
فكيف يقال مع هذا أن الذين بايعوه كانوا طلاب الدنيا، أو جهالاً، ولكن هذا وصف الطاعن فيهم، فإنك لا تجد في طوائف القبلة أعظم جهلاً من الرافضة، ولا أكثر حرصًا على الدنيا، وقد تدبرتهم فوجدتهم لا يضيفون إلى الصحابة عيبًا إلا وهم أعظم الناس اتصافًا به، والصحابة أبعد عنه، فهم أكذب الناس بلا ريب كمسيلمة الكذاب، إذ قال: أنا نبي صادق، ولهذايصفون أنفسهم بالإيمان، ويصفون الصحابة بالنفاق، وهم أعظم الطوائف نفاقًا، والصحابة أعظم الخلق إيمانًا.
__________
(1) تقدمت الإشارة إليه (ص55 وص9).
(2) انظر: في تثبيت دلائل النبوة (2/549).(1/109)
وأما قوله: وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق وبايعه الأقلون الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتها، ولم تأخذهم بالله لومة لائم، بل أخلصوا لله واتبعوا ما أمروا به من طاعة من يستحق التقديم، وحيث حصل للمسلمين هذه البلية، وجب على كل أحد النظر في الحق واعتماد الإنصاف، وأن يقر الحق مقره، ولا يظلم مستحقه، فقد قال تعالى: ((أَلاَ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين))[هود:18].
فيقال له: أولاً: قد كان الواجب أن يقال لما ذهب طائفة إلى كذا، وطائفة إلى كذا، وجب أن ينظر أي القولين أصح، فأما إذا رضيت إحدى الطائفتين باتباع الحق، والأُخرى باتباع الباطل، فإن كان هذا قد تبين فلا حاجة إلى النظر، وإن لم يتبين بعد لم يذكر حتى يتبين.
ويقال له ثانيًا: قولك: إنه طلب الأمر لنفسه بحق وبايعه الأقلون، كذب على علي رضي الله عنه، فإنه لم يطلب الأمر لنفسه في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وإنما طلبه لما قتل عثمان وبويع، وحينئذٍ فأكثر الناس كانوا معه، لم يكن معه الأقلون، وقد اتفق أهل السنة والشيعة على أن عليا لم يدع إلى مبايعته في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، ولا بايعه على ذلك أحد.
ولكن الرافضة تدعي أنه كان يريد ذلك، وتعتقد أنه الإمام المستحق للإمامة دون غيره، لكن كان عاجزًا عنه وهذا لو كان حقًا لم يفدهم، فإنه لم يطلب الأمر لنفسه، ولا تابعه أحد على ذلك، فكيف إذا كان باطلاً.
وكذلك قوله: بايعه الأقلون، كذب على الصحابة؛ فإنه لم يبايع منهم أحد لعلي على عهد الخلفاء الثلاثة، ولا يمكن أحد أن يدعي هذا، ولكن غاية ما يقول القائل: انه كان فيهم من يختار مبايعته، ونحن نعلم أن عليًا لما تولى كان كثير من الناس يختار ولاية معاوية، وولاية غيرهما، ولما بويع عثمان كان في نفوس بعض الناس ميل إلى غيره، فمثل هذا لا يخلو من الوجود.(1/110)
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وبها وما حولها منافقون، كما قال تعالى: ((وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِنَ الأَعْرَاب مُنَافِقُون وَمِن أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُم نَحْنُ نَعْلَمُهُم))[التوبة:101] وقد قال تعالى عن المشركين: ((وَقَالُوا لَوْلاَ نَزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم))[الزخرف:31].
فأحبوا أن ينزل القرآن على من يعظمونه من أهل مكة والطائف، قال تعالى: ((أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُم في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُم فَوْقَ بَعْض دَرَجَات))[الزخرف:32].
وأما ما وصفه لهؤلاء بأنهم الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتها، وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم، فهذا من أبين الكذب، فإنه لم ير الزهد والجهاد في طائفة أقل منه في الشيعة، والخوارج المارقون كانوا أزهد منهم وأعظم قتالاً، حتى يقال في المثل: حملة خارجية وحروبهم مع جيوش بني أمية وبني العباس وغيرهما بالعراق والجزيرة وخراسان والمغرب وغيرهما معروفة، وكانت لهم ديار يتحيزون فيها لا يقدر عليهم أحد.
وأما الشيعة فهم دائمًا مغلوبون مقهورون منهزمون، وحبهم للدنيا وحرصهم عليها ظاهر، ولهذا كاتبوا الحسين رضي الله عنه، فلما أرسل إليهم ابن عمه، ثم قدم بنفسه غدروا به، وباعوا الآخرة بالدنيا، وأسلموه إلى عدوه، وقاتلوه مع عدوه، فأي زهد عند هؤلاء، وأي جهاد عندهم.(1/111)
وقد ذاق منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الكاسات المرة ما لا يعلمه إلا الله، حتى دعا عليهم، فقال: اللهم إني سئمتهم وسئموني فأبدلني بهم خيرًا منهم، وأبدلهم بي شرًا مني، وقد كانوا يغشونه ويكاتبون من يحاربه، ويخونونه في الولايات والأموال، هذا ولم يكونوا بعد صاروا رافضة، إنما سموا شيعة علي لما افترق الناس فرقتين: فرقة شايعت أولياء عثمان، وفرقة شايعت أولياء عليًا رضى الله عنهما، فأولئك خيار الشيعة، وهم من شر الناس معاملة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابنيه سبطى رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته في الدنيا الحسن والحسين، وهم أعظم الناس قبولاً للوم اللآئم في الحق، وأسرع الناس إلى الفتنة، وأعجزهم عنها، يغرون من يظهرون نصره من أهل البيت، حتى إذا اطمأن إليهم ولامهم عليه اللآئم خذلوه وأسلموه وآثروا عليه الدنيا، ولهذا أشار عقلاء المسلمين ونصحاؤهم على الحسين أن لا يذهب إليهم، مثل: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام وغيرهم، لعلمهم بأنهم يخذلونه ولا ينصرونه، ولا يوفون له بما كتبوا به إليه، وكان الأمر كما رأى هؤلاء، ونفذ فيهم دعاء عمر بن الخطاب، ثم دعاء علي بن أبي طالب.
حتى سلط الله عليهم الحجاج بن يوسف، كان لا يقبل من محسنهم، ولا يتجاوز عن مسيئهم، ودب شرهم إلى من لم يكن منهم، حتى عم الشر، وهذه كتب المسلمين التي ذكر فيها زهاد الأمة ليس فيهم رافضي.(1/112)
كيف والرافضي من جنس المنافقين، مذهبه التقية، فهل هذا حال من لا تأخذه بالله لومة لائم، إنما هذه حال من نعته الله في كتابه بقوله: ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِيِنهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهَ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمْ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيم))[المائدة:54].
وهذه حال من قاتل المرتدين، وأولهم: الصديق، ومن اتبعه إلى يوم القيامة، فهم الذين جاهدوا المرتدين، كأصحاب مسيلمة الكذاب، ومانعي الزكاة، وغيرهما، وهم الذين فتحوا الأمصار، وغلبوا فارس والروم، وكانوا أزهد الناس، كما قال عبد الله بن مسعود لأصحابه: أنتم أكثر صلاة وصيامًا من أصحاب محمد، وهم كانوا خيرًا منكم، قالوا: لم يا أبا عبد الرحمن؟ قال: لأنهم كانوا أزهد في الدنيا، وأرغب في الآخرة، فهؤلاء هم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم.
بخلاف الرافضة، فإنهم أشد الناس خوفًا من لوم اللائم، ومن عدوّهم، وهم كما قال تعالى: ((يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ))[المنافقون:4]. ولا يعيشون في أهل القبلة إلا من جنس اليهود في أهل الملل. ثم يقال: من هؤلاء الذين زهدوا في الدنيا ولم تأخذهم في الله لومة لائم، ممن لم يبايع أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وبايع عليًا، فإنه من المعلوم أن في زمن الثلاثة لم يكن أحد منحازًا عن الثلاثة مظهرًا لمخالفتهم ومبايعة علي، بل كل الناس كانوا مبايعين لهم، فغاية ما يقال: إنهم كانوا يكتمون تقديم علي وليست هذه حال من لا تأخذه في الله لومة لائم.(1/113)
وأما في حال ولاية علي فقد كان رضي الله عنه من أكثر الناس لومًا لمن معه على قلة جهادهم، ونكولهم عن القتال، فأين هؤلاء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم من هؤلاء الشيعة، وإن كذبوا على أبي ذر من الصحابة وسلمان وعمار وغيرهم، فمن المتواتر أن هؤلاء كانوا من أعظم الناس تعظيمًا لأبي بكر وعمر، واتباعًا لهما، وإنما ينقل عن بعضهم التعنت على عثمان لا على أبي بكر وعمر، وسيأتي الكلام على ما جرى لعثمان رضي الله عنه.
ففي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، لم يكن أحد يسمى من الشيعة، ولا تضاف الشيعة إلى أحد لا عثمان ولا علي ولا غيرهما، فلما قتل عثمان تفرق المسلمون، فمال قوم إلى عثمان، ومال قوم إلى علي، واقتتلت الطائفتان، وقتل حينئذ شيعة عثمان شيعة علي، وفي صحيح مسلم عن سعد بن هشام أنه أراد أن يغزو في سبيل الله وقدم المدينة فأراد أن يبيع عقارًا له فيها فيجعله في السلاح والكراع، ويجاهد الروم حتى يموت، فلما قدم المدينة لقي أناسًا من أهل المدينة، فنهوه عن ذلك وأخبروه أن رهطًا ستة أرادوا ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم. وقال: (أليس لكم بي أسوة؟)، فلما حدثوه بذلك راجع امرأته، وقد كان طلقها وأشهد على رجعتها. فأتى ابن عباس وسأله عن وتر رسول الله صلى لله تعالى عليه وسلم. فقال ابن عباس: ألا أدلك علىأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال من؟ قال: عائشة رضي الله عنها، فأتها فاسألها ثم ائتني فاخبرني بردها عليك، قال: فانطلقت إليها، فأتيت على حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها، فقال: ما أنا بقاربها لأني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئًا فأبت فيهما لا مضيًا.(1/114)
قال: فأقسمت عليه فجاء فانطلقنا إلى عائشة رضي الله عنها و ذكرا الحديث (1)، وقال معاوية لابن عباس أنت على ملة علي؟ فقال لا على ملة علي، ولا على ملة عثمان، أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت الشيعة أصحاب علي يقدمون عليه أبا بكر وعمر، وإنما كان النزاع في تقديمه على عثمان، ولم يكن حينئذٍ يسمى أحد لا إماميًا ولا رافضيًا وإنما سموا رافضة، وصاروا رافضة، لما خرج زيد بن علي بن الحسين بالكوفة في خلافة هشام، فسألته الشيعة عن أبي بكر وعمر، فترحم عليهما فرفضه قوم، فقال: رفضتموني رفضتموني. فسموا رافضة، وتولاه قوم فسموا زيدية، لانتسابهم إليه.
ومن حينئذٍ انقسمت الشيعة إلى: رافضة إمامية وزيدية، وكلما زادوا في البدعة زادوا في الشر، فالزيدية خير من الرافضة، أعلم وأصدق وأزهد، وأشجع.
ثم بعد أبي بكر، عمر بن الخطاب هو الذي لم تكن تأخذه في الله لومة لائم، وكان أزهد الناس باتفاق الخلق كما قيل فيه: رحم الله عمر لقد تركه الحق ما له من صديق.
ونحن لا ندعي العصمة لكل صنف من أهل السنّة، وإنما ندعي أنهم لا يتفقون على ضلالة، وأن كل مسألة اختلف فيها أهل السنّة والجماعة والرافضة، فالصواب فيها مع أهل السنّة.
وحيث تصيب الرافضة، فلا بد أن يوافقهم على الصواب بعض أهل السنّة، وللروافض خطأ لا يوافقهم أحد عليه من أهل السنّة، وليس للرافضة مسألة واحدة لا يوافقهم فيها أحد، فانفردوا بها عن جميع أهل السنّة والجماعة إلا وهم مخطئون فيها كإمامة الاإثنى عشر، وعصمتهم.
__________
(1) انظر: مسلم (2/512).(1/115)
(فصل)
قال الرافضي: (وذهب جميع من عدا الإمامية والإسماعيلية إلى أن الأنبياء والأئمة غير معصومين، فجوّزوا بعثة من يجوز عليه الكذب والسهو والخطأ والسرقة، فأي وثوق يبقى للعامة في أقوالهم، وكيف يحصل الانقياد إليهم، وكيف يجب اتباعهم مع تجويز أن يكون ما يأمرون به خطأ؟ ولم يجعلوا الأئمة محصورين في عدد معين، بل كان من بايع قرشيًا انعقدت إمامته عندهم، ووجب طاعته على جميع الخلق إذا كان مستور الحال، وإن كان على غاية من الكفر والفسوق والنفاق).
فيقال: الكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أن يقال: ما ذكرته عن الجمهور من نفي العصمة عن الأنبياء وتجويز الكذب والسرقة والأمر بالخطأ عليهم، فهذا كذب على الجمهور، فإنهم متفقون على أن الأنبياء معصومون في تبليغ الرسالة، ولا يجوز أن يستقر في شيء من الشريعة خطأ باتفاق المسلمين، وكل ما يبلّغونه عن الله عز وجل من الأمر والنهي يجب طاعتهم فيه باتفاق المسلمين، وما أخبروا به وجب تصديقهم فيه بإجماع المسلمين، وما أمروهم به ونهوهم عنه وجبت طاعتهم فيه عند جميع فرق الأمة، إلا عند طائفة من الخوارج يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم فيما يبلّغه عن الله، لا فيما يأمر هو به وينهى عنه. وهؤلاء ضُلاّل باتفاق أهل السنّة والجماعة.
وقد ذكرنا غير مرة أنه إذا كان في بعض المسلمين من قال قولاً خطأ لم يكن ذلك قدحًا في المسلمين، ولو كان كذلك لكان خطأ الرافضة عيبًا في دين المسلمين، فلا يُعرف في الطوائف أكثر خطًأ وكذبًا منهم، وذلك لا يضر المسلمين شيئًا، فكذلك لا يضرهم وجود مخطئ آخر غير الرافضة.
وأكثر الناس -أو كثير منهم- لا يجوِّزون عليهم الكبائر، والجمهور الذين يجوزون الصغائر -هم ومن يجوِّز الكبائر- يقولون: إنهم لا يُقَرُّون عليها، بل يحصل لهم بالتوبة منها من المنزلة أعظم مما كان قبل ذلك، كما تقدم التنبيه عليه.(1/116)
وبالجملة فليس في المسلمين من يقول: إنه يجب طاعة الرسول مع جواز أن يكون أمره خطأ، بل هم متفقون على أن الأمر الذي يجب طاعته لا يكون إلا صوابًا، فقوله: (كيف يجب اتباعهم مع تجويز أن يكون ما يأمرون به خطأ؟) قول لا يلزم أحدًا من الأمة.
وللناس في تجويز الخطأ عليهم في الاجتهاد قولان معروفان، وهم متفقون على أنهم لا يقرُّون عليه، وإنما يطاعون فيما أقرُّوا عليه، لا فيما غيَّره الله ونهى عنه، ولم يأمر بالطاعة فيه.
وأما عصمة الأئمة فلم يَقُل بها -إلا كما قال- الإمامية والإسماعيلية. وناهيك بقول لم يوافقهم عليه إلا الملاحدة المنافقون، الذين شيوخهم الكبار أكفر من اليهود والنصارى والمشركين!. وهذا دأب الرافضة دائمًا يتجاوزون عن جماعة المسلمين إلى اليهود والنصارى والمشركين في الأقوال والموالاة والمعاونة والقتال وغير ذلك.(1/117)
فهل يوجد أضل من قوم يعادون السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ويوالون الكفار والمنافقين؟ وقد قال الله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِنْكُم وَلا َمِنْهُم وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُون * أَعَدَّ اللهُ لَهُم عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُم جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَلَهُم عَذَابٌ مُهِين * لَن تُغْنِي عَنْهُم أَمْوَالَهُم وَلاَ أَوْلاَدهُم مِنَ اللهِ شَيئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون * يَوْمَ يَبْعَثُهُم اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُم وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُم هُمُ الكَاذِبون * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَان فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ الله أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَان أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُون * إِنَّ الَّذِينَ يُحَادّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ في الأَذَلّين * كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسِلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيز * لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر يُوَادّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم أو إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِم الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْه وَيُدْخِلُهُم جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارَ خَالِدِينَ فِيها رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُون))[المجادلة:14-22].
فهذه الآيات نزلت في المنافقين، وليس المنافقون في طائفة أكثر منهم في الرافضة، حتى أنه ليس في الروافض إلا من فيه شعبة من شعب النفاق.(1/118)
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من خصل النفاق حتى يدعها: إذا حدّث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) أخرجاه في الصحيحين(1).
قال تعالى: ((ترَىَ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُم أَنْفُسُهُم أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُم خَالِدُون * وَلَو كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُم أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُون))[المائدة:80-81].
وقال تعالى: ((لعنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُون * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُم يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا))[المائدة:78-80].
وهم غالبًا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه، بل ديارهم أكثر البلاد منكرًا من الظلم والفواحش وغير ذلك، وهم يتولون الكفار الذين غضب الله عليهم، فليسوا مع المؤمنين ولا مع الكفار، كما قال تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَا هُم مِنْكُم وَلاَ مِنْهُم))[المجادلة:14].
ولهذا هم عند جماهير المسلمين نوع آخر، حتى إن المسلمين لما قاتلوهم بالجبل الذي كانوا عاصين فيه بساحل الشام، يسفكون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم، ويقطعون الطريق، استحلالاً لذلك وتدينًا به، فقاتلهم صنف من التركمان، فصاروا يقولون: نحن مسلمون، فيقولون:لا، أنتم جنس آخر خارجون عن المسلمين لامتيازهم عنهم.
وقد قال الله تعالى: ((وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُون))[المجادلة:14].
__________
(1) البخاري (1/12) ومواضع أُخر، ومسلم (1/102).(1/119)
وهذا حال الرافضة، وكذلك: ((اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله))[المجادلة:16] إلى قوله: ((لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَه))[المجادلة:22]، وكثير منهم يواد الكفار من وسط قلبه أكثر من موادّته للمسلمين، ولهذا لما خرج الترك الكفار من جهة المشرق فقاتلوا المسلمين وسفكوا دماءهم ببلاد خراسان والعراق والشام والجزيرة وغيرها، كانت الرافضة معاونة لهم على قتال المسلمين، ووزير بغداد المعروف بالعلقمي هو وأمثاله كانوا من أعظم الناس معاونة لهم على المسلمين، وكذلك الذين كانوا بالشام بحلب وغيرها من الرافضة كانوا من أشد الناس معاونة لهم على قتال المسلمين، وكذلك النصارى الذين قاتلهم المسلمون بالشام كانت الرافضة من أعظم أعوانهم، وكذلك إذا صار لليهود دولة بالعراق وغيره تكون الرافضة من أعظم أعوانهم، فهم دائمًا يوالون الكفار من المشركين واليهود والنصارى، ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم.
ثم إن هذا ادّعى عصمة الأئمة دعوى لم يقم عليها حجة، إلا ما تقدم من أن الله لم يخل العالم من أئمة معصومين لما في ذلك من المصلحة واللطف، ومن المعلوم المتيقن أن هذا المنتظر الغائب المفقود لم يحصل به شيء من المصلحة واللطف، سواء كان ميتًا، كما يقوله الجمهور، أو كان حيًا، كما تظنه الإمامية، وكذلك أجداده المتقدمون لم يحصل بهم شيء من المصلحة واللطف الحاصلة من إمام معصوم ذي سلطان، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد الهجرة، فإنه كان إمام المؤمنين الذي يجب عليهم طاعته، ويحصل بذلك سعادتهم، ولم يحصل بعده أحد له سلطان تُدعى له العصمة إلا عليّ رضي الله عنه زمن خلافته.(1/120)
ومن المعلوم بالضرورة أن حال اللطف و المصلحة التي كان المؤمنون فيها زمن الخلفاء الثلاثة، أعظم من اللطف والمصلحة الذي كان في خلافة علي زمن القتال و الفتنة والافتراق، فإذا لم يوجد من يدعي الإمامية فيه أنه معصوم وحصل له السلطان بمبايعة ذي الشوكة إلا عليّ وحده، وكان مصلحة المكلفين واللطف الذي حصل لهم في دينهم ودنياهم في ذلك الزمان أقل منه في زمن الخلفاء الثلاثة، عُلم بالضرورة أن ما يدّعونه من اللطف والمصلحة الحاصلة بالأئمة المعصومين باطل قطعًا.
وهو من جنس الهدى والإيمان الذي يُدَّعى في رجال الغيب بجبل لبنان وغيره من الجبال مثل جبل قاسيون بدمشق، ومغارة الدم، وجبل الفتح بمصر، ونحو ذلك من الجبال والغيران، فإن هذه المواضع يسكنها الجن، ويكون بها شياطين، ويتراءون أحيانًا لبعض الناس، ويغيبون عن الأبصار في أكثر الأوقات، فيظن الجهال أنهم رجال من الإنس، وإنما هم رجال من الجن.
كما قال تعالى: ((وَإِنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا))[الجن:6].
وهؤلاء يؤمن بهم وبمن ينتحلهم من المشايخ طوائف ضالون، لكن المشايخ الذين ينتحلون رجال الغيب لا يحصل بهم من الفساد ما يحصل بالذين يدّعون الإمام المعصوم، بل المفسدة والشر الحاصل في هؤلاء أكثر، فإنهم يدّعون الدعوة إلى إمام معصوم، ولا يوجد لهم أئمة ذووا سيف يستعينون بهم، إلا كافر أو فاسق أو منافق أو جاهل، لا تخرج رءوسهم عن هذه الأقسام.
والإسماعيلية شر منهم، فإنهم يدعون إلى الإمام المعصوم، ومنتهى دعوتهم إلى رجال ملاحدة منافقين فسّاق، ومنهم من هو شر في الباطن من اليهود والنصارى.
فالداعون إلى المعصوم لا يدعون إلى سلطان معصوم، بل إلى سلطان كفور أو ظلوم، وهذا أمر مشهور يعرفه كل من له خبرة بأحوالهم.(1/121)
وقد قال تعالى: ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً))[النساء:59].، فأمر الله المؤمنين عند التنازع بالرد إلى الله والرسول، ولو كان للناس معصوم غير الرسول صلى الله عليه وسلم لأمرهم بالرد إليه، فدل القرآن على أنه لا معصوم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.
(فصل)
وأما قوله: (ولم يجعلوا الأئمة محصورين في عدد معين) فهذا حق. وذلك أن الله تعالى قال: ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم))[النساء:59]، ولم يوقّتهم بعدد معين.
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الثابتة عنه المستفيضة لم يوقِّت ولاة الأمور في عدد معين، ففي الصحيحين عن أبي ذر قال: (إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدًا حبشيًا مجدّع الأطراف)(1).
(فصل)
وأما قوله عنهم: (كل من بايع قرشيًا انعقدت إمامته ووجبت طاعته على جميع الخلق إذا كان مستور الحال، وإن كان على غاية من الفسق والكفر والنفاق).
فجوابه من وجوه:
أحدها: أن هذا ليس من قول أهل السنة والجماعة، وليس مذهبهم أنه بمجرد مبايعة واحد قرشي تنعقد بيعته، ويجب على جميع الناس طاعته، وهذا وإن كان قد قاله بعض أهل الكلام، فليس هو قول أهل السنة والجماعة، بل قد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (من بايع رجلاً بغير مشورة المسلمين، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغِرَّة أن يُقتلا). الحديث رواه البخاري، وسيأتي بكماله إن شاء الله تعالى.
__________
(1) مسلم (1/448) و(3/1467) وأبو داود (2/955).(1/122)
الوجه الثاني: أنهم لا يوجبون طاعة الإمام في كل ما يأمر به، بل لا يوجبون طاعته إلا فيما تسوغ طاعته فيه في الشريعة، فلا يجوّزون طاعته في معصية الله وإن كان إمامًا عادلاً، وإذا أمرهم بطاعة الله فأطاعوه، مثل: أن يأمرهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصدق والعدل والحج والجهاد في سبيل الله، فهم في الحقيقة إنما أطاعوا الله، والكافر والفاسق إذا أمر بما هو طاعة لله لم تحرم طاعة الله ولا يسقط وجوبها لأجل أمر ذلك الفاسق بها، كما أنه إذا تكلم بحق لم يجز تكذيبه ولا يسقط وجوب اتباع الحق لكونه قد قاله فاسق، فأهل السنة لا يطيعون ولاة الأمور مطلقا، إنما يطيعونهم في ضمن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
كما قال تعالى: ((أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم))[النساء:59]. فأمر بطاعة الله مطلقًا، وأمر بطاعة الرسول لأنه لا يأمر إلا بطاعة الله ((منْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله))[النساء:80]. و جعل طاعة أولي الأمر داخلة في ذلك، فقال: ((وَأُوليِ الأَمْرِ مِنْكُم))[النساء:59] ولم يذكر لهم طاعة ثالثة، لأن ولي الأمر لا يطاع طاعة مطلقة، إنما يطاع في المعروف.
كما قال النبي صلى الله تعالىعليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف)(1)، وقال: (لا طاعة في معصية الله)(2)و(لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)(3) وقال: (من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه)(4).
وقال هؤلاء الرافضة المنسوبين إلى شيعة عليّ رضي الله عنه: إنه تجب طاعة غير الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقًا في كل ما أمر به، أفسد من قول من كان منسوبا إلى شيعة عثمان رضي الله عنه من أهل الشام من أنه يجب طاعة ولي الأمر مطلقًا، فإن أولئك كانوا يطيعون ذا السلطان وهو موجود، وهؤلاء يوجبون طاعة معصوم مفقود.
__________
(1) المسند (4/426، 427، 436).
(2) المسند (4/426، 427، 436).
(3) المسند (5/66).
(4) المسند (3/67) وابن ماجة (2/955).(1/123)
وأيضًا: فأولئك لم يكونوا يدّعون في أئمتهم العصمة التي تدعيها الرافضة، بل كانوا يجعلونهم كالخلفاء الراشدين وأئمة العدل الذين يقلدون فيما لا تعرف حقيقة أمره، أو يقولون: إن الله يقبل منهم الحسنات ويتجاوز عن السيئات. وهذا أهون ممن يقول: إنهم معصومون ولا يخطئون.
فتبين ان هؤلاء المنسوبين إلى النصب من شيعة عثمان، وإن كان فيهم خروج عن بعض الحق والعدل، فخروج الإمامية عن الحق والعدل أكثر وأشد، فكيف بقول أئمة السنة الموافق للكتاب والسنة، وهو الأمر بطاعة ولي الأمر فيما يأمر به من طاعة الله، دون ما يأمر به من معصية الله.
(فصل)
قال الرافضي: (وذهب الجميع منهم إلى القول بالقياس، والأخذ بالرأي، فأدخلوا في دين الله ما ليس منه، وحرّفوا أحكام الشريعة، وأحدثوا مذاهب أربعة لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا زمن صحابته، وأهملوا أقاويل الصحابة، مع أنهم نصُّوا على ترك القياس، وقالوا: أول من قاس إبليس).
فيقال: الجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أن دعواه على جميع أهل السنة المثبتين لإمامة الخلفاء الثلاثة أنهم يقولون بالقياس دعوى باطلة، قد عُرف فيهم طوائف لا يقولون بالقياس، كالمعتزلة البغداديين، وكالظاهرية كداود وابن حزم وغيرهما، وطائفة من أهل الحديث والصوفية.
وأيضًا: ففي الشيعة من يقول بالقياس كالزيدية، فصار النزاع فيه بين الشيعة كما هو بين أهل السنة والجماعة.
الثاني: أن يقال: القياس ولو قيل: إنه ضعيف هو خير من تقليد من لم يبلغ في العلم مبلغ المجتهدين، فإن كل من له علم وإنصاف يعلم أن مثل: مالك والليث بن سعد والأوْزاعي وأبي حنيفة والثَّوري وابن أبى ليلى، ومثل: الشافعي وأحمد إسحاق وأبى عبيد وأبى ثَوْر أعلم وأفقه من العسكريين أمثالهما.(1/124)
وأيضًا: فهؤلاء خير من المنتظر الذي لا يعلم ما يقول، فإن الواحد من هؤلاء إن كان عنده نص منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا ريب أن النص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدَّم على القياس بلا ريب، وإن لم يكن عنده نص ولم يقل بالقياس كان جاهلاً، فالقياس الذي يفيد الظن خير من الجهل الذي لا علم معه ولا ظن.
فإن قال هؤلاء: كل ما يقولونه هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم كان هذا أضعف من قول من قال: كل ما يقوله المجتهد فإنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا يقوله طائفة من أهل الرأي، وقولهم أقرب من قول الرافضة، فإن قول أولئك كذب صريح.
وأيضًا: فهذا كقول من يقول: عمل أهل المدينة متلقى عن الصحابة، وقول الصحابة متلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقول من يقول: ما قاله الصحابة في غير مجاري القياس فإنه لا يقوله إلا توقيفًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقول من يقول: قول المجتهد أو الشيخ العارف هو إلهام من الله ووحي يجب اتباعه.
فإن قال: هؤلاء تنازعوا؟
قيل: وأولئك تنازعوا، فلا يمكن أن تدَّعي دعوى باطلة إلا أمكن معارضتهم بمثلها أو بخير منها، ولا يقولون حقًّا إلا كان في أهل السنة والجماعة من يقول مثل ذلك الحق أو ما هو خير منه، فإن البدعة مع السنة كالكفر مع الإيمان. وقد قال تعالى: ((وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا))[الفرقان:33]..(1/125)
الثالث: أن يقال: الذين أدخلوا في دين الله ما ليس منه وحرّفوا أحكام الشريعة، ليسوا في طائفة أكثر منهم في الرافضة، فإنهم أدخلوا في دين الله من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يكذبه غيرهم، وردّوا من الصدق ما لم يرده غيرهم، وحرّفوا القرآن تحريفًا لم يحرّفه أحد غيرهم، مثل قولهم: إن قوله تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون))[المائدة:55]. نزلت في عليّ لما تصدق بخاتمه في الصلاة.
وقوله تعالى: ((مرَجَ الْبَحْرَيْنِ))[الرحمن:19]: علي وفاطمة، ((يخرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَان))[الرحمن:22]: الحسن والحسين، ((وَكُلُّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين))[يس:12]. علي بن أبي طالب ((إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيم وَآلَ عِمْرَانَ))[آل عمران:33] هم آل أبي طالب واسم أبي طالب عمران، ((فقاتلوا أَئِمَّةَ الْكُفْر))[التوبة:12]: طلحة والزبير، ((وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآن))[الإسراء:60] هم بنو أمية، ((إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُم أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة))[البقرة:67]: عائشة و((لئنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ))[الزمر:65]: لئن أشركت بين أبي بكر وعلي في الولاية.
وكل هذا وأمثاله وجدته في كتبهم، ثم من هذا دخلت الإسماعيلية والنصيرية في تأويل الواجبات والمحرّمات، فهم أئمة التأويل، الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه، ومن تدبر ما عندهم وجد فيه من الكذب في المنقولات، والتكذيب بالحق منها والتحريف لمعانيها، ما لا يوجد في صنف من المسلمين، فهم قطعًا أدخلوا في دين الله ما ليس منه أكثر من كل أحد، وحرّفوا كتابه تحريفًا لم يصل غيرهم إلى قريب منه.(1/126)
الوجه الرابع: قوله: (وأحدثوا مذاهب أربعة لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا زمن صحابته، وأهملوا أقاويل الصحابة).
فيقال له: متى كان مخالفة الصحابة والعدول عن أقاويلهم منكرًا عند الإمامية؟ وهؤلاء متفقون على محبة الصحابة وموالاتهم وتفضيلهم على سائر القرون، وعلى أن إجماعهم حجة، وعلى أنه ليس لهم الخروج عن إجماعهم، بل عامة الأئمة المجتهدين يصرّحون بأنه ليس لنا أن نخرج عن أقاويل الصحابة، فكيف يطعن عليهم بمخالفة الصحابة من يقول: إن إجماع الصحابة ليس بحجة، وينسبهم إلى الكفر والظلم؟
فإن كان إجماع الصحابة حجة فهو حجة على الطائفتين، وإن لم يكن حجة فلا يحتج به عليهم.
وإن قال: أهل السنة يجعلونه حجة وقد خالفوه؟
قيل: أما أهل السنة فلا يتصور أن يتفقوا على مخالفة إجماع الصحابة، وأما الإمامية فلا ريب أنهم متفقون على مخالفة إجماع العترة النبوية، مع مخالفة إجماع الصحابة، فإن لم يكن في العترة النبوية –بنو هاشم – على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم من يقول بإمامة الاثني عشر ولا بعصمة أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بكفر الخلفاء الثلاثة، بل ولا من يطعن في إمامتهم، بل ولا من ينكر الصفات، ولا من يكذب بالقدر.
فالإمامية بلا ريب متفقون على مخالفة إجماع العترة النبوية، مع مخالفتهم لإجماع الصحابة، فكيف ينكرون على من لم يخالف لا إجماع الصحابة ولا إجماع العترة؟(1/127)
الوجه الخامس: أن قوله: (أحدثوا مذاهب أربعة لم تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) إن أراد بذلك أنهم اتفقوا على أن يحدثوا هذه المذاهب مع مخالفة الصحابة فهذا كذب عليهم، فإن هؤلاء الأئمة لم يكونوا في عصر واحد، بل أبو حنيفة توفي سنة خمسين ومائة، ومالك سنة تسع وسبعين ومائة، والشافعي سنة أربع ومائتين، وأحمد بن حنبل سنة إحدى وأربعين ومائتين، وليس في هؤلاء من يقلد الآخر، ولا من يأمر باتّباع الناس له، بل كل منهم يدعو إلى متابعة الكتاب والسنة، وإذا قال غيره قولاً يخالف الكتاب والسنة عنده رده، ولا يوجب على الناس تقليده.
وإن قلت: إن هذه المذاهب اتّبعهم الناس، فهذا لم يحصل بموطأة، بل اتفق أن قومًا اتّبعوا هذا، وقومًا اتبعوا هذا، كالحجاج الذين طلبوا من يدلهم على الطريق، فرأى قوم هذا الدليل خبيرًا فاتّبعوه، وكذلك الآخرون.
وإذا كان كذلك لم يكن في ذلك اتفاق أهل السنة على باطل، بل كل قوم منهم ينكرون ما عند غيرهم من الخطأ، فلم يتفقوا على أن الشخص المعيّن عليه أن يقبل من كل من هؤلاء ما قاله، بل جمهورهم لا يأمرون العاميّ بتقليد شخص معيّن غير النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يقوله.
والله تعالى قد ضمن العصمة للأمة، فمن تمام العصمة أن يجعل عددًا من العلماء إن أخطأ الواحد منهم في شيء كان الآخر قد أصاب فيه حتى لا يضيع الحق، ولهذا لما كان في قول بعضهم من الخطأ مسائل، كبعض المسائل التي أوردها، كان الصواب في قول الآخر، فلم يتفق أهل السنة على ضلالة أصلاً، وأما خطأ بعضهم في بعض الدين، فقد قدّمنا في غير مرة أن هذا لا يضر، كخطأ بعض المسلمين، وأما الشيعة فكل ما خالفوا فيه أهل السنة كلهم فهم مخطئون فيه، كما أخطأ اليهود والنصارى في كل ما خالفوا فيه المسلمين.(1/128)
الوجه السادس: أن يُقال: قوله: (إن هذه المذاهب لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة) إن أراد أن الأقوال التي لهم لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، بل تركوا قول النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وابتدعوا خلاف ذلك، فهذا كذب عليهم، فإنهم لم يتفقوا على مخالفة الصحابة، بل هم -وسائر أهل السنة- متبعون للصحابة في أقوالهم، وإن قدّر أن بعض أهل السنّة خالف الصحابة لعدم علمه بأقاويلهم، فالباقون يوافقون ويثبتون خطأ من يخالفهم، وإن أراد أن نفس أصحابها لم يكونوا في ذلك الزمان، فهذا لا محذور فيه، فمن المعلوم أن كل قرن يأتي يكون بعد القرن الأول.
الوجه السابع: قوله: (وأهملوا أقاويل الصحابة) كذب منه، بل كتب أرباب المذاهب مشحونة بنقل أقاويل الصحابة والاستدلال بها، وإن كان عند كل طائفة منها ما ليس عند الأخرى. وإن قال: أردت بذلك أنهم لا يقولون: مذهب أبي بكر وعمر ونحو ذلك، فسبب ذلك أن الواحد من هؤلاء جمع الآثار وما استنبطه منها، فأضيف ذلك إليه، كما تضاف كتب الحديث إلى من جمعها، كالبخاري ومسلم وأبي داود،، وكما تضاف القراءات إلى من اختارها، كنافع وابن كثير.
وغالب ما يقوله هؤلاء منقول عمن قبلهم، وفي قول بعضهم ما ليس منقولاً عمن قبله، لكنه استنبطه من تلك الأصول، ثم قد جاء بعده من تعقب أقواله فبيّن منها ما كان خطأ عنده، كل ذلك حفظًا لهذا الدين، حتى يكون أهله كما وصفهم الله به ((يأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر))[التوبة:71] فمتى وقع من أحدهم منكر خطأ أو عمدًا أنكره عليه غيره.
وليس العلماء بأعظم من الأنبياء، وقد قال تعالى: ((وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِين * فَفَهَّمْناهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا))[الأنبياء:78-79].(1/129)
وثبت في الصحيحين، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه عام الخندق: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدركتهم صلاة العصر في الطريق، فقال بعضهم:لم يُرد منا تفويت الصلاة، فصلُّوا في الطريق. وقال بعضهم: لا نصلي إلا في بني قريظة، فصلوا العصر بعد ما غربت الشمس، فما عنّف واحدة من الطائفتين)(1) فهذا دليل على أن المجتهدين يتنازعون في فهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كل واحد منهم آثمًا.
الوجه الثامن: أن أهل السنة لم يقل أحد منهم: إن إجماع الأئمة الأربعة حجة معصومة، ولا قال: إن الحق منحصر فيها، وإن ما خرج عنها باطل، بل إذا قال من ليس من أتباع الأئمة، كسفيان الثوري والأوزاعي واللَيْث بن سعد ومن قبلهم ومن بعدهم من المجتهدين قولاً يخالف قول الأئمة الأربعة، رُدَّ ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، وكان القول الراجح هو القول الذي قام عليه الدليل.
الوجه التاسع: قوله: (الصحابة نصوا على ترك القياس).
يقال له: الجمهور الذين يثبتون القياس قالوا: قد ثبت عن الصحابة أنهم قالوا بالرأي واجتهاد الرأي وقاسوا، كما ثبت عنهم ذم ما ذموه من القياس. قالوا: وكلا القولين صحيح، فالمذموم القياس المعارض للنص، كقياس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا، وقياس إبليس الذي عارض به أمر الله له بالسجود لآدم، وقياس المشركين الذين قالوا: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله؟ قال الله تعالى: ((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُم المُشْرِكُون))[الأنعام:121].
__________
(1) البخاري (5/112)، ومسلم (3/1391).(1/130)
وكذلك القياس الذي لا يكون الفرع فيه مشاركًا للأصل في مناط الحكم، فالقياس يُذم إما لفوات شرطه، وهو عدم المساواة في مناط الحكم، وإما لوجود مانعه، وهو النص الذي يجب تقديمه عليه، وإن كانا متلازمَيْن في نفس الأمر، فلا يفوت الشرط إلا والمانع موجود، ولا يوجد المانع إلا والشرط مفقود.
فأما القياس الذي يستوي فيه الأصل والفرع في مناط الحكم ولم يعارضه ما هو أرجح منه، فهذا هو القياس الذي يتبع.
ولا ريب أن القياس فيه فاسد، وكثير من الفقهاء قاسوا أقيسة فاسدة، بعضها باطل بالنص، وبعضها مما اتفق على بطلانه، لكن بطلان كثير من القياس لا يقتضي بطلان جميعه، كما أن وجود الكذب في كثير من الحديث لا يوجب كذب جميعه.
(فصل)
قال الرافضي: (الوجه الثاني: في الدلالة على وجوب اتّباع مذهب الإمامية: ما قاله شيخنا الإمام الأعظم خواجه نصير الملة والحق والدين محمد بن الحسن الطوسي، قدّس الله روحه، وقد سألته عن المذاهب؟ فقال: بحثنا عنها وعن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقه، منها فرقة ناجية، والباقي فى النار)(1) وقد عين الفرقة الناجية والهالكة في حديث آخر صحيح متفق عليه، وهو قوله: (مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح: من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق)، فوجدنا الفرقة الناجية هي فرقة الإمامية، لأنهم باينوا جميع المذاهب، وجميع المذاهب قد اشتركت في أصول العقائد).
فيقال: الجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا الإمامي قد كَّفر من قال: إن الله موجب بالذات، كما تقدم من قوله: يلزم أن يكون الله موجبًا بذاته لا مختارًا فيلزم الكفر.
وهذا الذي جعله شيخه الأعظم واحتج بقوله، هو ممن يقول: بأن الله موجب بالذات، ويقول: بقدم العالم، كما ذكرذلك فى كتاب: (شرح الإشارات) له. فيلزم على قوله أن يكون شيخه هذا الذي احتج به كافرًا، والكافر لا يُقبل قوله في دين المسلمين.
__________
(1) سنن أبي داود (4/276) والترمذي (4/134).(1/131)
الثاني: أن هذا الرجل قد اشتهر عند الخاص والعام أنه كان وزير الملاحدة الباطنية الإسماعيلية بالألموت(1)، ثم لما قدم الترك المشركون إلى بلاد المسلمين، وجاءوا الى بغداد دار الخلافة، كان هذا منجمًا مشيرًا لملك الترك المشركين هولاكو أشار عليه بقتل الخليفة، وقتل أهل العلم والدين، واستبقاء أهل الصناعات والتجارات الذين ينفعونه في الدنيا، وأنه استولى على الوقف الذي للمسلمين، وكان يعطي منه ما شاء الله لعلماء المشركين وشيوخهم من البخشية السحرة وأمثالهم، وأنه لما بنى الرَّصد الذي بمراغة على طريق الصابئة المشركين، كان أبخس الناس نصيبًا منه من كان إلى أهلِ الملل أقرب، وأوفرهم نصيبًا من كان أبعدهم عن الملل، مثل: الصابئة المشركين، ومثل: المعطّلة وسائر المشركين، وإن ارتزقوا بالنجوم والطب ونحو ذلك.
ومن المشهور عنه وعن أتباعه الاستهتار بواجبات الإسلام ومحرَّماته، لا يحافظون على الفرائض كالصلوات، ولا ينزعون عن محارم الله من الفواحش والخمر وغير ذلك من المنكرات، حتى أنهم في شهر رمضان يُذكر عنهم من إضاعة الصلوات، وارتكاب الفواحش، وشرب الخمر ما يعرفه أهل الخبرة بهم، ولم يكن لهم قوة وظهور إلا مع المشركين، الذين دينهم شر من دين اليهود والنصارى.
ولهذا كان كلما قوى الإسلام في المغل وغيرهم من ترك، ضعف أمر هؤلاء لفرط معاداتهم للإسلام وأهله، ولهذا كانوا من أنقص الناس منزلة عند الأمير نوروز المجاهد في سبيل الله الشهيد، الذي دعا ملك المغل غازان إلى الإسلام، والتزم له أن ينصره إذا أسلم، وقتل المشركين الذين لم يسلموا من البخشية السحرة وغيرهم، وهدم البذخانات، وكسر الأصنام ومزق سدنتها كل ممزق، وألزم اليهود والنصارى بالجزية والصغار، وبسببه ظهر الإسلام في المغل وأتباعهم.
__________
(1) اسم قلعه في جبال الديلم بناها أحد ملوك الديلم.(1/132)
وبالجملة.. فأمر هذا الطوسي وأتباعه عند المسلمين أشهر وأعرف من أن يعرف ويوصف، ومع هذا فقد قيل: إنه كان آخر عمره يحافظ على الصلوات الخمس ويشتغل بتفسير البغوى والفقه ونحو ذلك، فإن كان قد تاب من الإلحاد فالله يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، والله تعالى يقول: ((يا عباِديَ الَّذِينَ أَسْرَفوا عَلَى أنفسِهِمْ لا تَقْنَطوا مِن رَّحْمَة الله إنَّ اللهَ يَغْفِر الذُنوبَ جَمِيْعَاً))[الزمر:53].
لكن ما ذكره عن هذا، إن كان قبل التوبة لم يُقبل قوله، وإن كان بعد التوبة لم يكن قد تاب من الرفض، بل من الإلحاد وحده، وعلى التقديرين فلا يُقبل قوله. والأظهر أنه إنما كان يجتمع به وبأمثاله لما كان منجمًا للمغل المشركين، والإلحاد معروف من حاله إذ ذلك.
فمن يقدح في مثل أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار، ويطعن على مثل: مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأتباعهم، ويعيرهم بغلطات بعضهم في مثل إباحة الشطرنج والغناء، كيف يليق به أن يحتج لمذهبه بقول مثل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرِّمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، ويستحلون المحرَّمات المجمع على تحريمها، كالفواحش والخمر في مثل شهر رمضان، الذين أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفّوا بحرمات الدين، وسلكوا غير طريق المؤمنين، فهم كما قيل فيهم:
الدين يشكو بلية ... من فرقة فلسفية
لا يشهدون صلاة ... إلا لأجل التقية
ولا ترى الشرع إلا ... سياسة مدنية
ويؤثرون عليه ... مناهجًا فلسفية(1/133)
ولكن هذا حال الرافضة: دائما يعادون أولياء الله المتقين ـ من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، ويوالون الكفّار والمنافقين؛ فإن أعظم الناس نفاقًا في المنتسبين إلى الإسلام هم الملاحدة الباطنية الإسماعيلية، فمن احتج بأقوالهم في نصرة قوله، مع ما تقدم من طعنه على أقوال أئمة المسلمين - كان من أعظم الناس موالاة لأهل النفاق، ومعاداة لأهل الإيمان.
ومن العجب أن هذا المصنف الرافضي الخبيث الكذّاب المفتري، يذكر أبا بكر وعمر وعثمان، وسائر السابقين الأوَّلين والتابعين، وسائر أئمة المسلمين من أهل العلم والدين بالعظائم التي يفتريها عليهم هو وإخوانه، ويجيء إلى من قد اشتُهر عند المسلمين بمحادته لله ورسوله، فيقول: (قال شيخنا الأعظم)، ويقول (قدس الله روحه) مع شهادته بالكفر عليه وعلى أمثاله، ومع لعنة طائفته لخيار المؤمنين من الأولين والآخرين.
وهؤلاء داخلون في معنى قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا))[النساء:51-52].
فإن هؤلاء الإمامية أوتوا نصيبًا من الكتاب، إذ كانوا مقرِّين ببعض ما في الكتاب المنزَّل، وفيهم شعبة من الإيمان بالجبت وهو السحر، والطاغوت وهو كل ما يعبد من دون الله، فإنهم يعظِّمون الفلسفة المتضمنة لذلك، ويرون الدعاء والعبادة للموتى، واتخاذ المساجد على القبور، ويجعلون السفر إليها حجًا له مناسك، ويقولون: (مناسك حج المشاهد).
وحدثني الثقات أن فيهم من يرون الحج إليها أعظم من الحج إلى البيت العتيق! فيرون الإشراك بالله أعظم من عبادة الله، وهذا من أعظم الإيمان بالطاغوت.(1/134)
وهم يقولون لمن يقرُّون بكفره من القائلين بقدم العالم ودعوة الكواكب والمسوِّغين للشرك: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً، فإنهم فضّلوا هؤلاء الملاحدة المشركين على السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وليس هذا ببدع من الرافضة، فقد عُرف من موالاتهم لليهود والنصارى والمشركين ومعاونتهم على قتال المسلمين ما يعرفه الخاص والعام، حتى قيل: إنه ما اقتتل يهودي ومسلم، ولا مشرك ومسلم – إلا كان الرافضي مع اليهودي والنصراني والمشرك.
الوجه الثالث: أنه قد عرف كل أحد أن الإسماعيلية والنصيرية هم من الطوائف الذين يظهرون التشيع، وإن كانوا في الباطن كفّارًا منسلخين من كل ملة، والنصيرية هم من غلاة الرافضة الذين يدّعون إلهية عليّ، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى باتفاق المسلمين.
والإسماعيلية الباطنية أكفر منهم، فإن حقيقة قولهم التعطيل، أما أصحاب الناموس الأكبر والبلاغ الأعظم، الذي هو آخر المراتب عندهم، فهم من الدهرية القائلين بأن العالم لا فاعل له: لا علة ولا خالق. ويقولون: ليس بيننا وبين الفلاسفة خلاف إلا في واجب الوجود،، فإنهم يثبتونه، وهو شيء لا حقيقة له، ويستهزئون بأسماء الله عز وجل، ولا سيما هذا الاسم الذي هو الله، فإن منهم من يكتبه على أسفل قدميه ويطؤه.
وأما من هو دون هؤلاء فيقولون بالسابق وبالتالي، اللذين عبّروا بهما عن العقل والنفس عند الفلاسفة، وعن النور والظلمة عند المجوس، وركَّبوا لهم مذهبًا من مذاهب الصابئة والمجوس ظاهره التشيع.
ولا ريب أن المجوس والصابئة شر من اليهود والنصارى، ولكن تظاهروا بالتشيع.
قالوا:لأن الشيعة أسرع الطوائف استجابة لنا، لما فيهم من الخروج عن الشريعة، ولما فيهم من الجهل وتصديق المجهولات.
ولهذا كان أئمتهم في الباطن فلاسفة، كالنصير الطوسي هذا، وكسنان البصري الذي كان بحصونهم بالشام، وكان يقول: قد رَفَعت عنهم الصوم والصلاة والحج والزكاة.(1/135)
فإذا كانت الإسماعيلية إنما يتظاهرون في الإسلام بالتشيع، ومنه دخلوا وبه ظهروا، وأهله هم المهاجرون إليهم، لا إلى الله ورسوله، وهم أنصارهم لا أنصار الله ورسوله – عُلم أن شهادة الإسماعيلية للشيعة بأنهم على حق شهادة مردودة باتفاق العقلاء.
فإن هذا الشاهد: إن كان يعرف أن ما هو عليه مخالف لدين الإسلام في الباطن، وإنما أظهر التشيع لينفق به عند المسلمين، فهو محتاج إلى تعظيم التشيع، وشهادته له شهادة المرء نفسه، فهو كشهادة الآدمي لنفسه، لكنه في هذه الشهادة يعلم أنه يكذب، وإنما كذب فيها كما كذب في سائر أحواله، وإن كان يعتقد دين الإسلام في الباطن، ويظن أن هؤلاء على دين الإسلام، كان أيضًا شاهدًا لنفسه، لكن مع جهله وضلاله.
وعلى التقديرين فشهادة المرء لنفسه لا تُقبل، سواء علم كذب نفسه، أو اعتقد صدق نفسه. كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تُقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي غمر على أخيه)(1). وهؤلاء خصماء أظِنّاء متهمون ذوو غمر على أهل السنة والجماعة، فشهادتهم مردودة بكل طريق.
الوجه الرابع: أن يُقال: أولاً أنتم قوم لا تحتجون بمثل هذه الأحاديث، فإن هذا الحديث إنما يرويه أهل السنة بأسانيد أهل السنة، والحديث نفسه ليس في الصحيحين، بل قد طعن فيه بعض أهل الحديث كابن حزم وغيره، ولكن قد رواه أهل السنن، كأبي داود والترمذي وابن ماجة، ورواه أهل المسانيد، كالإمام أحمد وغيره(2).
فمن أين لكم على أصولكم ثبوته حتى تحتجوا به؟ وبتقدير ثبوته فهو من أخبار الآحاد، فكيف يجوز أن تحتجوا في أصل من أصول الدين وإضلال جميع المسلمين – إلا فرقة واحدة – بأخبار الآحاد التي لا يحتجون هم بها في الفروع العملية؟!
__________
(1) انظر: المسند (10/224) و(11/138، 163) تحقيق أحمد شاكر.
(2) يعني حديث الافتراق رواه أبو داود (5/4، 5) والترمذي رقم (3991) في الفتن، وقال: إنه حسن صحيح وغيرهما وله طرق كثيرة.(1/136)
وهل هذا إلا من أعظم التناقض والجهل؟!
الوجه الخامس: أن الحديث روى تفسيره فيه من وجهين: أحدهما: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الفرقة الناجية، فقال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) وفي الرواية الأخرى قال: (هم الجماعة). وكل من التفسيرين يناقض قول الإمامية، ويقتضي أنهم خارجون عن الفرقة الناجية، فإنهم خارجون عن جماعة المسلمين: يكفرون أو يفسِّقون أئمة الجماعة، كأبي بكر وعمر وعثمان، دع معاوية وملوك بني أمية وبني العباس، وكذلك يكفِّرون أو يفسِّقون علماء الجماعة وعبّادهم، كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي وأمثال هؤلاء، وهم أبعد الناس عن معرفة سير الصحابة والإقتداء بهم، لا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعده، فإن هذا إنما يعرفه أهل العلم بالحديث والمنقولات، والمعرفة بالرجال الضعفاء والثقات، وهم من أعظم الناس جهلاً بالحديث وبغضًا له، ومعاداة لأهله، فإذا كان وصف الفرقة الناجية: أتباع الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك شعار السنة والجماعة – كانت الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة، فالسنة ما كان صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه عليها في عهده، مما أمرهم به وأقرَّهم عليه أو فعله هو، والجماعة هم المجتمعون الذين ما فرَّقوا دينهم وكانوا شيعا، فالذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا خارجون عن الجماعة قد برَّأ الله نبيه منهم، فعُلم بذلك أن هذا وصف أهل السنة و الجماعة، لا وصف الرافضة، وأن الحديث وصف الفرقة الناجية باتّباع سنته التي كان عليها هو وأصحابه، وبلزوم جماعة المسلمين.
فإن قيل: فقد قال في الحديث: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، فمن خرج عن تلك الطريقة بعده لم يكن على طريقة الفرقة الناجية، وقد ارتد ناس بعده فليسوا من الفرقة الناجية.(1/137)
قلنا: نعم وأشهر الناس بالردة خصوم أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأتباعه كمسيلمة الكذَّاب وأتباعه وغيرهم. وهؤلاء تتولاهم الرافضة كما ذكر ذلك غير واحد من شيوخهم، مثل هذا الإمامي وغيره، ويقولون: إنهم كانوا على حق، وأن الصديق قاتلهم بغير حق. ثم مِن أظهر الناس ردة الغالية الذين حرَّقهم علي رضي الله عنه بالنار لما ادّعوا فيه الإلهية وهم السبائية أتباع عبد الله بن سبأ الذين أظهروا سب أبي بكر وعمر.
وأول من ظهر عنه دعوى النبوة من المنتسبين إلى الإسلام المختار بن أبي عبيد وكان من الشيعة، فعُلم أن أعظم الناس ردة هم في الشيعة أكثر منهم في سائر الطوائف، ولهذا لا يُعرف ردة أسوأ حالا من ردة الغالية كالنصيرية، ومن ردة الإسماعيلية الباطنية ونحوهم، وأشهر الناس بقتال المرتدين هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فلا يكون المرتدون في طائفة أكثر منها في خصوم أبي بكر الصديق، فدل ذلك على أن المرتدين الذين لم يزالوا مرتدين على أعقابهم، هم بالرافضة أوْلى منهم بأهل السنة والجماعة.
وهذا بيِّن يعرفه كل عاقل يعرف الإسلام وأهله، ولا يستريب أحد أن جنس المرتدين في المنتسبين إلى التشيع أعظم وأفحش كفرا من جنس المرتدين المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة، إن كان فيهم مرتد.(1/138)
الوجه السادس: أن يقال: هذه الحجة التي احتج بها الطوسي على أن الإمامية هم الفرقة الناجية كذب في وصفها، كما هي باطلة في دلالتها. وذلك أن قوله: (باينوا جميع المذاهب، وجميع المذاهب قد اشتركت في أصول العقائد) إن أراد بذلك أنهم باينو جميع المذاهب فيما اختصوا به، فهذا شأن جميع المذاهب، فإن الخوارج أيضا باينوا جميع المذاهب فيما اختصوا به من التكفير بالذنوب، ومن تكفير علي رضي الله عنه، ومن إسقاط طاعة الرسول فيما لم يخبر به عن الله، وتجويز الظلم عليه في قسْمهِ والجور في حكمه، وإسقاط اتّباع السنة المتواترة التي تخالف ما يُظن أنه ظاهر القرآن، كقطع السارق من المنكب وأمثال ذلك.
الوجه السابع: أن يُقال: مباينتهم لجميع المذاهب هو على فساد قولهم أدل منه على صحة قولهم ؛ فإن مجرد انفراد طائفة عن جميع الطوائف لا يدل على أنه هو الصواب، واشتراك أولئك في قول لا يدل على أنه باطل.
فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أمته ثلاثا وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، فدل على أنها لا بد أن تفارق هذه الواحدة سائر الاثنتين وسبعين فرقة.
قلنا: نعم. وكذلك يدل الحديث على مفارقة الثنتين وسبعين بعضها بعضا، كما فارقت هذه الواحدة. فليس في الحديث ما يدل على اشتراك الثنتين والسبعين في أصول العقائد، بل ليس في ظاهر الحديث إلا مباينة الثلاث والسبعين كل طائفة للأخرى. وحينئذ فمعلوم أن جهة الافتراق جهة ذم لا جهة مدح، فإن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف، وذم التفريق والاختلاف، فقال تعالى: ((واْعتَصِموا بِحَبْلِ اللهِ جميعًا وَلا تَفَرَّقوا))[آل عمران:103] وقال: ((وَلاَ تَكُونوا كالَّذينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّنَاتْ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضْ وُجوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجوهٌ فَأَمّا الَّذينَ اسْوَدَّتْ وُجوهُهُم))[آل عمران:105-106].(1/139)
قال ابن عباس وغيره: تبيض وجوه أهل السنة وتسودُّ وجوه أهل البدعة والفرقة. وقال تعالى: ((إنَّ الَّذينَ فَرَّقوا دِينَهُمْ وَكانوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْءٍ))[الأنعام:159] وقال: ((وَما اخْتَلَفَ فيهِ إِلاّ الَّذينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ بَغْيًا بَينَهُم))[البقرة:213] وقال: ((وَما تَفَرَّقَ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ))[البينة:4].
وإذا كان كذلك فأعظم الطوائف مفارقة للجماعة و افتراقا في نفسها أولى الطوائف الذم، و أقلها افتراقا ومفارقة للجماعة أقربها إلى الحق. وإذا كانت الإمامية أوْلى بمفارقة سائر طوائف الأمة فهم أبعد عن الحق، لا سيما وهم في أنفسهم أكثر اختلافا من جميع فرق الأمة، حتى يقال: إنهم ثنتان وسبعون فرقة. وهذا القدر فيما نقله عن هذا الطوسي بعضُ أصحابه، وقال: كان يقول: الشيعة تبلغ فرقهم ثنتين وسبعين فرقة، أو كما قال. وقد صنَّف الحسن بن موسى النوبختي وغيره في تعديد فرق الشيعة.
وأما أهل الجماعة فهم أقل اختلافا في أصول دينهم من سائر الطوائف، وهم أقرب إلى كل طائفة من كل طائفة إلى ضدّها، فهم الوسط في أهل الإسلام كما أن أهل الإسلام هم الوسط في أهل الملل: هم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل وأهل التمثيل.
وقال صلى الله عليه وسلم: (خير الأمور أوسطها) وحينئذ أهل السنة والجماعة خير الفرق.
وفي باب القدر بين أهل التكذيب به وأهل الاحتجاج به، وفي باب الأسماء والأحكام بين الوعيدية والمرجئة، وفي باب الصحابة بين الغلاة والجفاة، فلا يغلون في عليّ غلو الرافضة، ولا يكفِّرونه تكفير الخوارج، ولا يكفِّرون أبا بكر وعثمان كما تكفِّرهم الروافض، ولا يكفِّرون عثمان وعليا كما يُكفرهما الخوارج.(1/140)
الوجه الثامن: أن يقال: إن الشيعة ليس لهم قول واحد اتفقوا عليه، فإن القول الذي ذكره هذا قول من أقوال الإمامية، ومن الإمامية طوائف تخالف هؤلاء في التوحيد والعدل، كما تقدم حكايته. وجمهور الشيعة تخالف الإمامية في الاثنى عشر، فالزيدية والإسماعيلية وغيرهم متفقون على إنكار إمامة الاثنى عشر.
وهؤلاء الإمامية الاثنا عشرية يقولون: إن أصول الدين أربعة: التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة. وهم مختلفون في التوحيد والعدل والإمامة. وأما النبوة فغايتهم أن يكونوا مقرِّين بها كإقرار سائر الأمة. واختلافهم في الإمامة أعظم من اختلاف سائر الأمة، فإن قالت الاثنا عشرية: نحن أكثر من هذه الطوائف، فيكون الحق معنا دونهم. قيل لهم: وأهل السنة أكثر منكم، فيكون الحق معهم دونكم، فغايتكم أن تكون سائر فرق الإمامية معكم بمنزلتكم مع سائر المسلمين، والإسلام هو دين الله الذي يجمع أهل الحق.
(فصل)
قال الرافضي: (الوجه الثالث: أن الإمامية جازمون بحصول النجاة لهم ولأئمتهم، قاطعون بذلك، وبحصول ضدها لغيرهم. وأهل السنة لا يجيزون ولا يجزمون بذلك لا لهم ولا لغيرهم. فيكون اتّباع أولئك أوْلى، لأنَّا لو فرضنا مثلا خروج شخصين من بغداد يريدان الكوفة، فوجدا طريقين سلك كل منهما طريقا، فخرج ثالث يطلب الكوفة: فسأل أحدهما: إلى أين تذهب؟ فقال إلى الكوفة. فقال له: هل طريقك توصلك إليها؟ وهل طريقك آمن أم مخوف؟ وهل طريق صاحبك تؤديه إلى الكوفة؟ وهل هو آمن أم مخوف؟ فقال: لا أعلم شيئا من ذلك. ثم سأل صاحبه فقال أعلم أن طريقي يوصِّلني إلى الكوفة، وأنه آمن، وأعلم أن طريق صاحبي لا يؤديه إلى الكوفة، وأنه ليس بآمن، فإن الثالث إن تابع الأول عدَّه العقلاء سفيها، وإن تابع الثاني نُسب إلى الأخذ بالحزم).
هكذا ذكره في كتابه، والصواب أن يُقال: وسأل الثاني فقال له الثاني: لا أعلم أن طريقي تؤديني إلى الكوفة ولا أعلم أنه آمن أم مخوف.(1/141)
والجواب على هذا من وجوه:
أحدها: أن يُقال: إن كان اتّباع الأئمة الذين تُدَّعى لهم الطاعة المطلقة، وأن ذلك يوجب لهم النجاة واجبا، كان اتّباع خلفاء بني أمية الذين كانوا يوجبون طاعة أئمتهم طاعة مطلقة ويقولون: إن ذلك يوجب النجاة مصيبين على الحق، وكانوا في سبِّهم عليا وغيره وقتالهم لمن قاتلوه من شيعة عليّ مصيبين، لأنهم كانوا يعتقدون أن طاعة الأئمة واجبة في كل شيء، وأن الإمام لا يؤاخذه الله بذنب، وأنه لا ذنب لهم فيما أطاعوا فيه الإمام، بل أولئك أوْلى بالحجة من الشيعة، لأنهم كانوا مطيعين أئمة أقامهم الله ونصيهم وأيّدهم وملّكهم، فإذا كان مذهب القدرية أن الله لا يفعل إلا ما هو الأصلح لعباده، كان تولية أولئك الأئمة مصلحة لعباده.
ومعلوم ان اللطف والمصلحة التي حصلت بهم أعظم من اللطف والمصلحة التي حصلت بإمام معدوم أو عاجز. ولهذا حصل لاتّباع خلفاء بني أمية من المصلحة في دينهم ودنياهم، أعظم مما حصل لاتّباع المنتظر ؛ فإن هؤلاء لم يحصل لهم إمام يأمرهم بشيء من المعروف، ولا ينهاهم عن شيء من المنكر، ولا يعينهم على شيء من مصلحة دينهم ولا دنياهم، بخلاف أولئك ؛ فإنهم انتفعوا بأئمتهم منافع كثيرة في دينهم ودنياهم، أعظم مما انتفع هؤلاء بأئمتهم.
فتبين أنه إن كانت حجة هؤلاء المنتسبين إلى مشايعة علي رضي الله عنه صحيحة، فحجة أولئك المنتسبين إلى مشايعة عثمان رضي الله عنه أوْلى بالصحة، وإن كانت باطلة فهذه أبطل منها. فإذا كان هؤلاء الشيعة متفقين مع سائر أهل السنة على أن جزم أولئك بنجاتهم إذا أطاعوا أولئك الأئمة طاعة مطلقة خطأ وضلال، فخطأ هؤلاء وضلالهم إذا جزموا بنجاتهم لطاعتهم لمن يدّعي أنه نائب المعصوم – والمعصوم لا عين له ولا أثر – أعظم وأعظم ؛ فإن الشيعة ليس لهم أئمة يباشرونهم بالخطاب، إلا شيوخهم الذين يأكلون أموالهم بالباطل، ويصدّونهم عن سبيل الله.(1/142)
الوجه الثاني: أن هذا المثل إنما كان يكون مطابقًا لو ثبت مقدمتان: إحداهما: أن لنا إماما معصومًا. والثانية: أنه أمر بكذا وكذا. وكلتا المقدمتين غير معلومة، بل باطلة. دع المقدمة الأولى، بل الثانية، فإن الأئمة الذين يدّعى فيهم العصمة قد ماتوا منذ سنين كثيرة، والمنتظر له غائب أكثر من أربعمائة وخمسين سنة، وعند آخرين هو معدوم لم يوجد. والذين يُطاعون شيوخ من شيوخ الرافضة، أو كتب صنّفها بعض شيوخ الرافضة، وذكروا أن ما فيها منقول عن أولئك المعصومين. وهؤلاء الشيوخ المصنِّفون ليسوا معصومين بالاتفاق، ولا مقطوعًا لهم بالنجاة.
فإذًا الرافضة لا يتّبعون إلا أئمة لا يقطعون بنجاتهم ولا سعادتهم، فلم يكونوا قاطعين لا بنجاتهم، ولا بنجاة أئمتهم الذين يباشرونهم بالأمر والنهي، وهم أئمتهم، وإنما هم في انتسابهم إلى أولئك الأئمة، بمنزلة كثير من أتباع شيوخهم الذين ينتسبون إلى شيخ قد مات من مدة، ولا يدرون بماذا أمر، ولا عماذا نهى، بل له اتباع يأكلون أموالهم بالباطل ويصدون عن سبيل الله، يأمرونهم بالغلو في ذلك الشيخ وفي خلفائه، وأن يتخذوهم أربابا، وكما تأمر شيوخ الشيعة أتباعهم، وكما تأمر شيوخ النصارى أتباعهم، فهم يأمرونهم بالإشراك بالله وعبادة غير الله، ويصدونهم عن سبيل الله، فيخرجون عن حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وان محمدًا رسول الله، فإن التوحيد أن نعبد الله وحده، فلا يُدعى إلا هو، ولا يُخشى إلا هو، ولا يتقى إلا هو، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يكون الدين إلا له، لا لأحد من الخلق، وأن لا نتخذ الملائكة والنبيين أربابًا، فكيف بالأئمة والشيوخ والعلماء والملوك وغيرهم!؟(1/143)
والرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلِّغ عن الله أمره ونهيه، فلا يُطاع مخلوق طاعة مطلقة إلا هو، فإذا جُعل الغمام والشيخ كأنه إله يُدعى مع مغيبه وبعد موته، ويُستغاث به، ويُطلب منه الحوائج، والطاعة إنما هي لشخص حاضر يأمر بما يريد، وينهى عمّا يريد كان الميت مشبَّها بالله تعالى، والحي مشبهًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخرجون عن حقيقة الإسلام الذي أصله شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله.
ثم إن كثيرًا منهم يتعلّقون بحكايات تُنقل عن ذلك الشيخ، وكثير منها كذب عليه، وبعضها خطأ منه، فيَعدِلون عن النقل الصدق عن القائل المعصوم إلى نقل غير مصدَّق عن قائل غير معصوم. فإذا كان هؤلاء مخطئين في هذا، فالشيعة أكثر وأعظم خطأ، لأنهم أعظم كذبا فيما ينقلونه عن الأئمة، وأعظم غلوا في دعوى عصمة الأئمة.
الوجه الثالث: منع الحكم في هذا المثال الذي ضربه وجعله أصلا قاس عليه، فان الرجل إذا قال له أحد الرجلين:طريقى آمن يوصلني، وقال له الآخر:لا علم لي بأن طريقي آمن يوصلني، أو قال ذلك الأول، لم يحسن في العقل تصديق الأول بمجرد قوله، بل يجوز عند العقلاء أن يكون هذا محتالا عليه، يكذب حتى يصحبه في الطريق فيقتله ويأخذ ماله، ويجوز أن يكون جاهلا لا يعرف ما في الطريق من الخوف، وأما ذاك الرجل فلم يضمن للسائل شيئا، بل رده إلى نظره، فالحزم في مثل هذا أن ينظر الرجل أيّ الطريقين أولى بالسلوك: أحد ذينك الطريقين أو غيرهما.
فتبين أن مجرد الإقدام على الحزم لا يدل على علم صاحبه ولا على صدقه، وأن التوقف والإمساك حتى يتبين الدليل هو عادة العقلاء.
الوجه الرابع: أن يقال: قوله: (إنهم جازمون بحصول النجاة لهم دون أهل السنة) كذب، فإنه إن أراد بذلك أن كل واحد ممن اعتقد اعتقادهم يدخل الجنة، وإن تَرَك الواجبات وفَعَل المحرمات، فليس هذا قول الإمامية، ولا يقوله عاقل.(1/144)
وإن كان حب عليّ حسنة لا يضر معها سيئة، فلا يضره ترك الصلوات، ولا الفجور بالعلويّات، ولا نيل أغراضه بسفك دماء بني هاشم إذا كان يحب عليًّا.
فإن قالوا: المحبة الصادقة تستلزم الموافقة، عاد الأمر إلى أنه لا بد من أداء الواجبات وترك المحرمات. وإن أراد بذلك أنهم يعتقدون أن كل من اعتقد الاعتقاد الصحيح، وأدى الواجبات، وترك المحرّمات يدخل الجنة – فهذا اعتقاد أهل السنة ؛ فإنهم يجزمون بالنجاة لكل من اتّقى الله، كما نطق به القرآن.
وإنما يتوقفون في الشخص المعين لعدم العلم بدخوله في المتيقن، فإنه إذا علم أنه مات على التقوى عُلم أنه من أهل الجنة. ولهذا يشهدون بالجنة لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهم فيمن استفاض في الناس حسن الثناء عليه قولان.
فتبين أنه ليس في الإمامية جزم محمود اختُصوا به عن أهل السنة والجماعة. وإن قالوا: إنّا نجزم لكل شخص رأيناه ملتزمًا للواجبات عندنا تاركًا للمحرمات، بأنه من أهل الجنة، من غير أن يخبرنا بباطنه معصوم. قيل: هذه المسألة لا تتعلق بالإمامية، بل إن كان إلى هذا طريق صحيح فهو لأهل السنة، وهم بسلوكه أحذق، وإن لم يكن هنا طريق صحيح إلى ذلك، كان ذلك قولا بلا علم، فلا فضيلة فيه، بل في عدمه.
ففي الجملة لا يدّعون علما صحيحا إلا وأهل السنة أحق به، وما ادّعوه من الجهل فهو نقص وأهل السنة أبعد عنه.(1/145)
الوجه الخامس: أن أهل السنة يجزمون بحصول النجاة لأئمتهم أعظم من جزم الرافضة. وذلك أن أئمتهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم هم السابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار، وهم جازمون بحصول النجاة لهؤلاء، فإنهم يشهدون ان العشرة في الجنة، ويشهدون أن الله قال لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، بل يقولون: إنه (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم(1). فهؤلاء أكثر من ألف وأربعمائة إمام لأهل السنة، يشهدون أنه لا يدخل النار منهم أحد، وهي شهادة بعلم، كما دل على ذلك الكتاب والسنة.
الوجه السادس: أن يقال: أهل السنة يشهدون بالنجاة: إما مطلقا، وإما معينا، شهادة مستندة إلى علم. وأما الرافضة فإنهم إن شهدوا شهدوا بما لا يعلمون، أو شهدوا بالزور الذي يعلمون أنه كذب، فهم كما قال الشافعي رحمه الله: ما رأيت قوما أشهد بالزور من الرافضة.
الوجه السابع: أن الإمام الذي شهد له بالنجاة: إما أن يكون هو المطاع في كل شيء وإن نازعه غيره من المؤمنين، أو هو مطاع فيما يأمر به من طاعة الله ورسوله، وفيما يقوله باجتهاده إذا لم يعلم أن غيره أوْلى منه، ونحو ذلك. فإن كان الإمام هو الأول، فلا إمام لأهل السنة بهذا الاعتبار إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يقولون كما قال مجاهد والحاكم ومالك وغيرهم: كل أحد يُؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله عليه السلام. وهم يشهدون لإمامهم أنه خير الخلائق، ويشهدون ان كل من ائتم به، ففعل ما أُمر به وترك ما نُهى عنه، دخل الجنة. وهذه الشهادة بهذا وهذا هم فيها أتم من الرافضة من شهادتهم للعسكريِيْن وأمثالهما بأنه من أطاعهم دخل الجنة.
فثبت أن إمام أهل السنة أكمل، وشهادتهم له ولهم إذا أطاعوه أكمل، ولا سواء.
__________
(1) انظر: البخاري (3/46) ومسلم (2/822).(1/146)
ولكن قال الله تعالى: ((ءآلله خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكون))[النمل:59]، فعند المقابلة يُذكر الخير المحض على الشر المحض، وإن كان الشر المحض لا خير فيه.
وإن أرادوا بالإمام الإمام المقيَّد، فذاك لا يُوجب أهل السنة طاعته، إن لم يكن ما أمر به موافقا لأمر الإمام المطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم إذا أطاعوه فيما أمر الله بطاعته فيه، فإنما هم مطيعون لله ورسوله، فلا يضرهم توقفهم في الإمام المقيَّد: هل هو في الجنة أم لا؟.
الوجه الثامن: أن يُقال: إن الله قد ضمن السعادة لمن أطاعه وأطاع رسوله، وتوعّد بالشقاء لمن لم يفعل ذلك، فمناط السعادة طاعة الله ورسوله. كما قال تعالى: ((وَمَن يُطِعْ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلئِكَ مَعَ الَّذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقينَ والشُّهَداءْ وَالصَّالِحينَ وَحَسَنَ أولَئِكَ رَفيقًا))[النساء:69]. وأمثال ذلك.
وإذا كان كذلك والله تعالى يقول: ((فاتَّقوا الله ما اسْتَطَعْتُمْ))[النساء:69] فمن اجتهد في طاعة الله ورسوله بحسب استطاعته كان من أهل الجنة.
فقول الرافضة: لن يدخل الجنّة إلا من كان إماميا، كقول اليهود والنصارى: ((لنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، تِلْكَ أَمَانِّيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين))[البقرة:111] ((بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ ِللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون))[البقرة:112].(1/147)
ومن المعلوم أن المنتظر الذي يدّعيه الرافضي لا يجب على أحد طاعته، فإنه لا يُعلم له قول منقول عنه، فإذًا من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم دخل الجنة وإن لم يؤمن بهذا الإمام، ومن آمن بهذا الإمام لم يدخل الجنة إلا إذا أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم، فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي مدار السعادة وجودا وعدما، وهي الفارقة بين أهل الجنة والنار، ومحمد صلى لله تعالى عليه وسلم فرّق بين الناس، والله سبحانه وتعالى قد دل الخلق على طاعته بما بينه لهم، فتبين أن أهل السنة جازمون بالسعادة والنجاة لمن كان من أهل السنّة.
(فصل)
قال الرافضي: الوجه الرابع: أن الإمامية أخذوا مذهبهم عن الأئمة المعصومين المشهورين بالفضل والعلم ولزهد والورع، والاشتغال في كل وقت بالعبادة والدعاء وتلاوة القرآن، والمداومة على ذلك من زمن الطفولة إلى آخر العمر، ومنهم من يعلم الناس العلوم، ونزل في حقهم: ((هلْ أَتَى))[الإنسان:1] وآية الطهارة، وإيجاب المودة لهم، وآية الابتهال وغير ذلك. وكان علي رضي الله عنه يصلّي في كل يوم وليلة ألف ركعة، ويتلو القرآن مع شدّة ابتلائه بالحروب والجهاد.(1/148)
فأولهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كان أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلموجعله الله نفس رسول الله حيث قال: ((وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ))[آل عمران:61] وواخاه رسول الله وزوّجه ابنته، وفَضْلُهُ لا يخفى وظهرت منه معجزات كثيرة، حتى ادَّعى قوم فيه الربوبية وقتلهم، وصار إلى مقالتهم آخرون إلى هذه الغاية كالغلاة والنصيرية. وكان ولداه سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدا شباب أهل الجنة، إمامين بنص النبي صلى الله عليه وسلم، وكانا أزهد الناس وأعلمهم في زمانهما، وجاهدا في الله حق جهاده حتى قتلاً، ولبس الحسن الصوف تحت ثيابه الفاخرة من غير أن يشعر أحد بذلك، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يومًا الحسين على فخذه الأيمن، وإبراهيم على فخذه الأيسر، فنزل جبرائيل عليه السلام وقال: إن الله تعالى لم يكن ليجمع لك بينهما، فاختر من شئت منهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا مات الحسين بكيت أنا وعليّ وفاطمة، وإذا مات إبراهيم بكيت أنا عليه، فاختار موت إبراهيم فمات بعد ثلاثة أيام، وكان إذا جاء الحسين بعد ذلك يقبله ويقول: أهلاً ومرحبًا بمن فديته بابني إبراهيم.
وكان علي بن الحسين زين العابدين يصوم نهاره ويصوم ليله، ويتلو الكتاب العزيز، ويصلّي كل يوم وليلة ألف ركعة، ويدعو كل ركعتين بالأدعية المنقولة عنه وعن آبائه ثم يرمي الصحيفة كالمتضجر، ويقول: أنّى لي بعبادة عليّ، وكان يبكي كثيرًا حتى أخذت الدموع من لحم خديه، وسجد حتى سمى ذا الثَفِنات، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد العابدين.(1/149)
وكان قد حج هشام بن عبد الملك فاجتهد أن يستلم الحجر فلم يمكنه من الزحام، فجاء زين العابدين فوقف الناس له وتَنَحَّوْا عن الحجر حتى استلمه، ولم يبق عند الحجر سواه، فقال هشام بن عبد الملك: من هذا فقال الفرزدق وذكر أبيات الشعر المشهورة فبعث إليه الإمام زين العابدين بألف دينار، فردها، وقال: إنما قلت هذا غضبًا لله ولرسوله، فما آخذ عليه أجرًا، فقال علي بن الحسين: نحن أهل بيت لا يعود إلينا ما خرج منا فقبلها الفرزدق.
وكان بالمدينة قوم يأتيهم رزقهم ليلاً ولا يعرفون ممن هو، فلما مات زين العابدين، انقطع ذلك عنهم وعرفوا أنه كان منه.
وكان ابنه محمد الباقر أعظم الناس زهدًا وعبادة، بَقَرَ السجودُ جبهتَه، وكان أعلم أهل وقته، سمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الباقر، وجاء جابر بن عبد الله الأنصاري إليه وهو صغير في الكُتَّاب، فقال له: جدّك رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلّم عليك. فقال: وعلى جدّي السلام. فقيل لجابر: كيف هو؟ قال: كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسين في حجره وهو يلاعبه، فقال: يا جابر، يولد له ولد اسمه عليٌّ إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ليقم سيد العابدين، فيقوم ولده، ثم يولد له مولود اسمه محمد الباقر، يبقر العلم بقرًا، فإذا رأيته فاقرئه مني السلام، وروى عنه أبو حنيفة وغيره.
وكان ابنه الصادق عليه السلام أفضل أهل زمانه وأعبدهم، قال علماء السيرة: إنه اشتغل بالعبادة عن طلب الرياسة، وقال عمر بن أبي المقدام: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد الصادق علمت أنه من سلالة النبيين، وهو الذي نشر فقه الإمامية، والمعارف الحقيقية، والعقائد اليقينية، وكان لا يخبر بأمر إلا وقع، وبه سمُّوه الصادق الأمين.(1/150)
وكان عبد الله بن الحسن جمع أكابر العلويين للبيعة لولديه، فقال الصادق: هذا الأمر لا يتم، فاغتاظ من ذلك، فقال: إنه لصاحب القباء الأصفر، وأشار بذلك إلى المنصور، فلما سمع المنصور بذلك فرح لعلمه بوقوع ما يُخبر به، وعلم أن الأمر يصل إليه، ولما هرب كان يقول: أين قول صادقهم؟ وبعد ذلك انتهى الأمر إليه.
وكان ابنه موسى الكاظم يُدْعى بالعبد الصالح، وكان أعبد أهل زمانه، يقوم الليل ويصوم النهار، وسمِّي الكاظم لأنه كان إذ بلغه عن أحد شيئًا بعث إليه بمال، ونقل فضله الموافق والمخالف. قال ابن الجوزي من الحنابلة: روي عن شقيق البلخي قال: خرجت حاجّا سنة تسع وأربعين ومائة، فنزلت القادسية، فإذا شاب حسن الوجه شديد السمرة، عليه ثياب صوف مشتمل بشملة، في رجليه نعلان، وقد جلس منفردًا عن الناس، فقلت في نفسي: هذا الفتى من الصوفية يريد أن يكون كَلاًّ على الناس، والله لأمضين إليه أوبِّخه، فدنوت منه فلما رآني مقبلا قال: يا شقيق اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم.
فقلت في نفسي: هذا عبد صالح قد نطق على ما في خاطري، لألحقنه ولأسألنَّه أن يحاللني، فغاب على عيني، فلما نزلنا واقصة إذا به يصلي، وأعضاؤه تضطرب، ودموعه تتحادر، فقلت: أمضي إليه وأعتذر، فأوجز في صلاته، ثم قال: يا شقيق: ((وَإِنِّي غَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى))[طه:82] فقلت: هذا من الإبدال، قد تكلم على سرِّي مرتين. فلما نزلنا زبالة إذا به قائم على البئر وبيده ركوة يريد أن يسقي ماء، فسقطت الركوة من يده في البئر فرفع طرفه إلى السماء، وقال:
أنت ربي إذا ظمئت إلى الماء ... وقوتي إذا أردت الطعاما(1/151)
يا سيدي! مالي سواها، قال شقيق: فوالله لقد رأيت البئر قد ارتفع ماؤها، فاخذ الركوة وملأها وتوضأ وصلى أربع ركعات، ثم مال إلى كثيب رمل هناك، فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويشرب، فقلت: أطعمني من فضل ما رزقك الله أو ما أنعم الله عليك، فقال: يا شقيق لم تزل نعم الله علينا ظاهرة وباطنة فأحسن ظنك بربك، ثم ناولني الركوة فشربت منها، فإذا هو سويق وسكر، ما شربت والله ألذ منه ولا أطيب منه ريحًا، فشبعت ورويت، وأقمت أيامًا لا أشتهي طعامًا ولا شرابًا، ثم لم أره حتى دخلت مكة، فرأيته ليلة إلى جانب قبة الميزاب نصف الليل يصلِّي بخشوع وأنين وبكاء، فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل، فلما طلع الفجر جلس في مصلاه يسبح، ثم قام إلى صلاة الفجر، وطاف بالبيت أسبوعًا، وخرج فتبعته، فإذا له حاشية وأموال وغلمان، وهو على خلاف ما رأيته في الطريق، ودار به الناس يسلِّمون عليه ويتبركون به، فقلت لهم: من هذا؟ قالوا: موسى بن جعفر، فقلت: قد عجبت أن تكون هذه العجائب إلا لمثل هذا السيد. هذا رواه الحنبلي.
وعلى يده تاب بشر الحافي؛ لأنه عليه السلام اجتاز على داره ببغداد، فسمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب يخرج من تلك الدار، فخرجت جارية وبيدها قمامة البقل، فرمت بها في الدرب، فقال لها: يا جارية، صاحب هذا الدار حرٌّ أم عبد؟ فقالت: بل حر، فقال: صدقت لو كان عبدًا لخاف من مولاه. فلما دخلت الجارية قال مولاها وهو على مائدة السكر: ما أبطأك علينا؟ قالت: حدثني رجل بكذا وكذا، فخرج حافيًا حتى لقي مولانا موسى بن جعفر فتاب على يده.(1/152)
والجواب عنه من وجوه: أحدها: أن يقال: لا نسلم أن الإمامية أخذوا مذهبهم عن أهل البيت: لا الاثنا عشرية ولا غيرهم، بل هم مخالفون لعليّ رضي الله عنه وأئمة أهل البيت في جميع أصولهم التي فارقوا فيها أهل السنة والجماعة: توحيدهم، وعدلهم، وإمامتهم، فإن الثابت عن علي رضي الله عنه وأئمة أهل البيت من إثبات الصفات لله، وإثبات القدر، وإثبات خلافة الخلفاء الثلاثة، وإثبات فضيلة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وغير ذلك من المسائل كله يناقض مذهب الرافضة. والنقل بذلك ثابت مستفيض في كتب أهل العلم، بحيث إن معرفة المنقول في هذا الباب عن أئمة أهل البيت يوجب علمًا ضروريًا بأن الرافضة مخالفون لهم لا موافقون لهم.
الثاني: أن يقال: قد عُلم أن الشيعة مختلفون اختلافًا كثيرًا في مسائل الإمامة والصفات والقدر، وغير ذلك من مسائل أصول دينهم، فأي قول لهم هو المأخوذ عن الأئمة المعصومين، حتى مسائل الإمامة، قد عُرف اضطرابهم فيها.(1/153)
وقد تقدم بعض اختلافهم في النص وفي المنتظر، فهم في الباقي المنتظر على أقوال: منهم من يقول ببقاء جعفر بن محمد، ومنهم من يقول ببقاء ابنه موسى بن جعفر، ومنهم من يقول ببقاء محمد بن عبد الله بن حسن، ومنهم من يقول ببقاء محمد بن الحنفية، وهؤلاء يقولون: نص عليٌّ على الحسن والحسين، وهؤلاء يقولون: على محمد بن الحنفية، وهؤلاء يقولون: أوصى عليٌّ بن الحسين إلى ابنه أبي جعفر، وهؤلاء يقولون: إلى ابنه عبد الله، وهؤلاء يقولون: أوصى إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين، وهؤلاء يقولون: إن جعفر أوصى إلى ابنه إسماعيل، وهؤلاء يقولون: إلى ابنه محمد بن إسماعيل، وهؤلاء يقولون: إلى ابنه محمد، وهؤلاء يقولون: إلى ابنه عبد الله، وهؤلاء يقولون: إلى ابنه موسى، وهؤلاء يسوقون النص إلى محمد بن الحسن، وهؤلاء يسوقون النص إلى بني عبيد الله بن ميمون القدّاح الحاكم وشيعته، وهؤلاء يسوقون النص من بني هاشم إلى بني العباس، ويمتنع أن تكون هذه الأقوال المتناقضة مأخوذة عن معصوم، فبطل قولهم: إن أقوالهم مأخوذة عن معصوم.
الوجه الثالث: أن يُقال: هب أن عليًّا كان معصومًا، فإذا كان الاختلاف بين الشيعة هذا الاختلاف، وهم متنازعون هذا التنازع، فمن أين يُعلم صحة بعض هذه الأقوال عن عليّ دون الآخر، وكل منهم يدَّعي أن ما يقوله إنما أخذه عن المعصومين؟ وليس للشيعة أسانيد أهل السنة حتى يُنظر في الإسناد وعدالة الرجال، بل إنما هي منقولات منقطعة عن طائفة عُرف فيها كثرة الكذب وكثرة التناقض في النقل، فهل يثق عاقل بذلك؟
وإن ادعوا تواتر نصّ هذا على هذا، ونصّ هذا على هذا، كان هذا معارضًا بدعوى غيرهم مثل هذا التواتر، فإن سائر القائلين بالنص إذا ادعوا مثل هذه الدعوى لم يكن بين الدعويين فرق.(1/154)
فهذه الوجوه وغيرها تبين أن بتقدير ثبوت عصمة عليّ رضي الله عنه فمذهبهم ليس مأخوذًا عنه، فنفس دعواهم العصمة في عليّ مثل دعوى النصارى الإلهية في المسيح. مع أن ما هم عليه ليس مأخوذًا عن المسيح.
الوجه الرابع: أنهم في مذهبهم محتاجون إلى مقدمتين: إحداهما: عصمة من يضيفون المذهب إليه من الأئمة، والثانية: ثبوت ذلك النقل عن الإمام. وكلتا المقدمتين باطلة، فإن المسيح ليس بإله، بل هو رسول كريم، وبتقدير أن يكون إلهًا أو رسولاً كريمًا فقوله حق، لكن ما تقوله النصارى ليس من قوله، ولهذا كان في علي رضي الله عنه شبه من المسيح: قوم غلوا فيه فوق قدره، وقوم نقصوه دون قدره فهم كاليهود، هؤلاء يقولون عن المسيح: إنه إله. وهؤلاء يقولون: كافر ولد بغيِّة. وكذلك عليّ: هؤلاء يقولون: إنه إله، وهؤلاء يقولون: إنه كافر ظالم.
الوجه الخامس: أن يقال: قد ثبت لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، وابنه محمد، وجعفر بن محمد من المناقب والفضائل ما لم يذكره هذا المصنف الرافضي، وذكر أشياء من الكذب تدل على جهل ناقلها، مثل قوله: نزل في حقهم: ((هلْ أَتَى))[الإنسان:1] فإن سورة (هَل أَتىَ) مكّية باتفاق العلماء، وعليّ إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد الهجرة، ولم يدخل بها إلا بعد غزوة بدر، ووُلد له الحسن في السنة الثالثة من الهجرة، والحسين في السنة الرابعة من الهجرة بعد نزول: (هل أتى) بسنين كثيرة.
فقول القائل: إنها نزلت فيهم، من الكذب الذي لا يخفى على من له علم بنزول القرآن وعلم بأحوال هؤلاء السادة الأخيار.(1/155)
وأما آية الطهارة فليس فيها إخبار بطهارة أهل البيت وذهاب الرجس عنهم، وإنما فيها الأمر لهم بما يوجب طهارتهم وذهاب الرجس عنهم. فإن قوله: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا))[الأحزاب:33] كقوله تعالى: ((ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُم))[المائدة:6]، وقوله: ((يرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُم وَيَهْدِيَكُم سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُم وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيم * وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا * يُريدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُم وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا))[النساء:26-28].
فالإرادة هنا متضمنة للأمر والمحبة والرضا، وليست هي المشيئة المستلزمة لوقوع المراد ؛ فإنه لو كان كذلك لكان قد طهَّر كل من أراد الله طهارته، وهذا على قول هؤلاء القدرية الشيعة أوجه، فإن عندهم أن الله يريد ما لا يكون، ويكون ما لا يريد.
فقوله: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجزَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا))[الأحزاب:33] إذا كان هذا بفعل المأمور وترك المحظور، كان ذلك متعلقًا بإرادتهم وأفعالهم، فإن فعلوا ما أُمروا به طُهِّروا وإلا فلا.
وهم يقولون:إن الله لا يخلق أفعالهم، ولا يقدر على تطهيرهم وإذهاب الرجز عنهم. وأما المثبتون للقدر فيقولون: إن الله قادر على ذلك، فإذا ألهمهم فعل ما أَمَرَ وترك ما حَظَر حصلت الطهارة وذهاب الرجس.(1/156)
ومما يبين أن هذا مما أُمروا به لا مما أُخبروا بوقوعه، ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أدار الكساء على عليّ وفاطمة وحسن وحسين، ثم قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيرًا). وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه عن عائشة، ورواه أهل السنن عن أم سلمة(1).
وهو يدل على ضد قول الرافضة من وجهين: أحدهما: أنه دعا لهم بذلك، وهذا دليل على أن الآية لم تخبر بوقوع ذلك، فإنه لو كان قد وقع لكان يثنى على الله بوقوعه ويشطره على ذلك، لا يقتصر على مجرد الدعاء به.
الثاني: أن هذا يدل على أن الله قادر على إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم، وذلك يدل على أنه خالق أفعال العباد.
ومما يبين أن الآية متضمنة للأمر والنهي قوله في سياق الكلام: ((يا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْن وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ ِللهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا))[الأحزاب:30-34].
__________
(1) انظر: مسلم: (4/1883) والترمذي: (5/30) و(5/328) والمسند: (6/292، 298).(1/157)
وهذا السياق يدل على أن ذلك أمر ونهي، ويدل على أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته، فإن السياق إنما هو في مخاطبتهن، ويدل على أن قوله: ((لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ))[الأحزاب:33] عمّ غير أزواجه، كعلي وفاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم؛ لأنه ذكره بصيغة التذكير لما اجتمع المذكر والمؤنث، وهؤلاء خُصُّوا بكونهم من أهل البيت بالأولى من أزواجه، فلهذا خصَّهم بالدعاء لما أدخلهم في الكساء، كما أن مسجد قُباء أسس على التقوى، ومسجده صلى الله عليه وسلم أيضًا أسس على التقوى وهو أكمل في ذلك، فلما نزل قوله تعالى: ((لمسجدٌ أُسّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيه رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِرِين))[التوبة:108] بسبب مسجد قباء، تناول اللفظ لمسجد قباء ولمسجده صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى.
وكذلك قوله في إيجاب المودة لهم غلط، فقد ثبت في الصحيح عن سعيد بن جبير، أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن قوله تعالى: ((قلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى))[الشورى:23] قال: فقلت: إلا أن تودّوا ذوي قربى محمد صلى الله عليه وسلم. فقال ابن عباس: عَجلتَ، إنه لم يكن بطن من قريش إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهم قرابة. فقال: قل: لا أسألكم عليه أجرًا إلا أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم.(1/158)
فابن عباس كان من كبار أهل البيت وأعلمهم بتفسير القرآن، وهذا تفسيره الثابت عنه، ويدل على ذلك أنه لم يقل: إلا المودة لذوي القربى، و لكن قال: إلا المودة في القربى. ألا ترى أنه لما أراد ذوي قرباه قال: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى))[الأنفال:41]، ولا يُقال: المودة في ذوي القربى. وإنما يقال: المودة لذوى القربى. فكيف وقد قال: ((قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى))[الشورى:23]؟!
ويبين ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسال أجرًا أصلاً إنما أجره على الله، وعلى المسلمين موالاة أهل البيت لكن بأدلة أخرى غير هذه الآية، وليست موالاتنا لأهل البيت من أجر النبي صلى الله عليه وسلم في شيء.
وأيضًا: فإن هذه الآية مكية، ولم يكن عليٌّ بعد قد تزوج بفاطمة ولا وُلد له أولاد.
وأما آية الابتهال ففي الصحيح أنها لما نزلت أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد عليٍّ وفاطمة وحسن وحسين ليباهل بهم(1)، لكن خصّهم بذلك؛ لأنهم كانوا أقرب إليه من غيرهم، فإنه لم يكن له ولد ذكر إذ ذاك يمشي معه، ولكن كان يقول عن الحسن: (إن ابني هذا سيد) فهما ابناه ونساؤه إذ لم يكن قد بقي له بنت إلا فاطمة رضي الله عنها، فإن المباهلة كانت لما قدم وفد نجران، وهم نصارى، وذلك كان بعد فتح مكة، بل كان سنة تسع.
فهذه الآية تدل على كمال اتّصالهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما دل على ذلك حديث الكساء، ولكن هذا لا يقتضي أن يكون الواحد منهم أفضل من سائر المؤمنين ولا أعلم منهم، لأن الفضيلة بكمال الإيمان والتقوى لا بقرب النسب.
__________
(1) انظر: صحيح مسلم (4/1871) والترمذي (4/293).(1/159)
كما قال تعالى: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُم))[الحجرات:13] وقد ثبت أن الصديق كان أتقى الأمة بالكتاب والسنة، وتواترعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)(1)، وهذا بسوط في موضعه.
وأما ما نقله عن عليّ أنه كان يصلّي كل يوم وليلة ألف ركعة! فهذا يدل على جهله بالفضيلة وجهله بالواقع.
أما أوّلاً: فلأن هذا ليس بفضيلة، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يزيد في الليل على ثلاث عشرة ركعة(2). وثبت عنه في الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل القيام قيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه)(3).
وأيضًا فقوله: إن علي بن أبي طالب كان أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوى مجردة، ينازعه فيها جمهور المسلمين من الأوّلين والآخرين.
وقوله: جعله الله نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ))[آل عمران:61] وواخاه.
فيقال: أما حديث المؤاخاه فباطل موضوع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخِ أحدًا، ولا آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض، ولا بين الأنصار بعضهم مع بعض، ولكن آخى بين المهاجرين والأنصار، كما آخى بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف، وآخى بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء، كما ثبت ذلك في الصحيح.
وأما قوله: ((وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ))[آل عمران:61] فهذا مثل قوله: ((لوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِم خَيْرًا))[النور:12] نزلت في قصة عائشة رضي الله عنها في الإفك، فإن الواحد من المؤمنين من أنفس المؤمنين والمؤمنات.
__________
(1) انظر: البخاري (1/96) ومسلم (4/1854).)
(2) انظر: البخاري (2/51) ومسلم (1/508).)
(3) انظر: البخاري (4/161) و (2/50) ومسلم (2/816) وغيرهما.(1/160)
وأما تزويجه فاطمة ففضيلة لعليّ، كما أن تزويجه عثمان بابنتيه فضيلة لعثمان أيضًا، ولذلك سُمِّي ذو النورين. وكذلك تزوجه بنت أبي بكر وبنت عمر فضيلة لهما، فالخلفاء الأربعة أصهاره صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
وأما قوله: (وظهرت منه معجزات كثيرة) فكأنه يسمّي كرامات الأولياء معجزات، وهذا اصصلاح لكثير من الناس. فيقال: عليّ أفضل من كثير ممن له كرامات، والكرامات متواترة عن كثير من عوام أهل السنة الذين يفضلون أبا بكر وعمر على عليّ، فكيف لا تكون الكرامات ثابتة لعليّ رضي الله عنه؟ وليس في مجرد الكرامات ما يدل على أنه أفضل من غيره.
وأما قوله: (حتى ادّعى قوم فيه الربوبية و قتلهم).
فهذه مقالة جاهل في غاية الجهل لوجوه: أحدها: أن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أعظم بكثير وما ادّعى فيه أحد من الصحابة الإلهية.
الثاني: أن معجزات الخليل وموسى أعظم بكثير، وما ادّعى أحد فيهما الإلهية.
الثالث: إن معجزات نبينا ومعجزات موسى أعظم من معجزات المسيح، وما ادُّعيت فيهما الإلهية كما ادعيت في المسيح.
الرابع: أن المسيح ادعيت فيه الإلهية أعظم مما ادعيت في محمد وإبراهيم وموسى، ولم يدل ذلك لا على أنه أفضل منهم ولا على أن معجزاته أبهر.
الخامس: أن دعوى الإلهية فيهما دعوى باطلة تقابلها دعوى باطلة، وهي دعوى اليهود في المسيح، ودعوى الخوارج في عليّ ؛ فإن الخوارج كفَّروا عليًّا، فإن جاز أن يُقال: إنما ادّعيت فيه الإلهية لقوة الشبهة. وجاز أن يقال: إنما ادّعى فيه الكفر لقوة الشبهة، وجاز أن يقال: صدرت منه ذنوب اقتضت أن يكفّره بها الخوارج.
والخوارج أكثر وأعقل وأدين من الذين ادّعوا فيه الإلهية، فإن جاز الاحتجاج بمثل هذا، وجُعلت هذه الدعوى منقبة، كان دعوى المبغضين له ودعوى الخوارج مثلبة أقوى وأقوى، وأين الخوارج من الرافضة الغالية؟!(1/161)
فالخوارج من أعظم الناس صلاة وصيامًا وقراءة للقرآن، ولهم جيوش وعساكر، وهم متدينون بدين الإسلام باطنًا وظاهرًا، والغالية المدّعون للإلهية إما أن يكونوا من أجهل الناس، وإما أن يكونوا من أكفر الناس، والغالية كفّار بإجماع العلماء، وأما الخوارج فلا يكفّرهم إلا من يكفّر الإمامية فإنهم خير من الإمامية وعلي رضي الله عنه لم يكن يكفّرهم، ولا أمر بقتل الواحد المقدور عليه منهم، كما أمر بتحريق الغالية، بل لم يقاتلهم حتى قتلوا عبد الله بن خبّاب، وأغاروا على سرح الناس.
فثبت بالإجماع من عليّ ومن سائر الصحابة والعلماء أن الخوارج خير من الغالية، فإن جاز لشيعته أن تجعل دعوى الغالية الإلهية فيه حجة على فضيلته كان لشيعة عثمان أن يجعلوا دعوى الخوارج لكفره حجة على نقيضه بطريق الأوْلى، فعلم أن هذه الحجة إنما يحتج بها جاهل، ثم إنها تعود عليه لا له، ولهذا كان الناس يعلمون أن الرافضة أجهل وأكذب من الناصبة.
وأما قوله: (وكان ولداه سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدا شباب أهل الجنة إمامين بنص النبي صلى الله عليه وسلم).
فيقال: الذي ثبت بلا شك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال عن الحسن: (إن ابني هذا سيد، وإن الله سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)(1)، وثبت عنه في الصحيح أنه كان يقعده وأسامة بن زيد على فخذه ويقول: (اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما)(2).
__________
(1) البخاري (3/186) ومواضع أخر منه وسنن أبي داود (4/299).
(2) انظر: المسند (5/205، 210).(1/162)
وهذا يدل على أن ما فعله الحسن من ترك القتال على الإمامة، وقصد الإصلاح بين المسلمين كان محبوبًا يحبه الله ورسوله، ولم يكن ذلك مصيبة، بل كان ذلك أحب إلى الله ورسوله من اقتتال المسلمين، ولهذا أحبه وأحب أسامة بن زيد ودعا لهما، فإن كلاهما كان يكره القتال في الفتنة، فأما أسامة فلم يقاتل لا مع علي ولا مع معاوية، والحسن كان دائمًا يشير على عليّ بترك القتال، وهذا نقيض ما عليه الرافضة من أن ذلك الصلح كان مصيبة وكان ذلاً، ولو كان هناك إمام معصوم يجب على كل أحد طاعته، ومن تولّى غيره كانت ولايته باطلة لا يجوز أن يجاهد معه ولا يصلي خلفه، لكان ذلك الصلح من أعظم المصائب على أمة محمد صلى الله عليه وسلم وفيه فساد دينها، فأي فضيلة كانت تكون للحسن بذلك حتى يُثنى عليه به؟ وإنما غايته أن يُعذر لضعفه عن القتال الواجب، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل الحسن في الصلح سيدًا محمودًا، ولم يجعله عاجزًا معذورًا، ولم يكن الحسن أعجز عن القتال من الحسين؛ بل كان أقدر على القتال من الحسين، والحسين قاتل حتى قُتل، فإن كان ما فعله الحسين هو الأفضل الواجب، كان ما فعله الحسن تركًا للواجب أو عجزًا عنه، وإن كان ما فعله الحسن هو الأفضل الأصلح، دل على أن ترك القتال هو الأفضل الأصلح، وأن الذي فعله الحسن أحب إلى الله ورسوله مما فعله غيره، والله يرفع درجات المؤمنين المتقين بعضهم على بعض، وكلهم في الجنة، رضي الله عنهم أجمعين.(1/163)
ثم إن كان النبي صلى الله عليه وسلم جعلهما إمامين لم يكونا قد استفادا الإمامة بنصّ عليّ، ولاستفادها الحسين بنص الحسن عليه، ولا ريب أن الحسن والحسين ريحانتا النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أدخلهما مع أبويهما تحت الكساء، وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيرًا) وأنه دعا لهما في المباهلة، وفضائلهما كثيرة، وهما من أجلاء سادات المؤمنين. وأما كونهما أزهد الناس وأعلمهم في زمانهم فهذا قول بلا دليل.
وأما قوله: (وجاهدا في الله حق جهاده حتى قتلا).
فهذا كذب عليهما، فإن الحسن تخلّى عن الأمر وسلَّمه إلى معاوية ومعه جيوش العراق، وما كان يختار قتال المسلمين قط، وهذا متواتر من سيرته.
وأما موته، فقد قيل: إنه مات مسمومًا، وهذه شهادة له وكرامة في حقّه، لكن لم يمت مقاتلاً.
والحسين رضي الله عنه ما خرج يريد القتال، ولكن ظن أن الناس يطيعونه، فلما رأى انصرافهم عنه، طلب الرجوع إلى وطنه أو الذهاب إلى الثغر، أو إتيان يزيد، فلم يمكّنه أولئك الظلمة لا من هذا ولا من هذا ولا من هذا، وطلبوا أن يأخذوه أسيرًا إلى يزيد، فامتنع من ذلك وقاتل حتى قُتل مظلومًا شهيدًا، لم يكن قصده ابتداءً أن يُقاتل.
وأما قوله عن الحسن: (إنه لبس الصوف تحت ثيابه الفاخرة).
فهذا من جنس قوله في علي: إنه كان يصلي ألف ركعة، فإن هذا لا فضيلة فيه، وهو كذب. وذلك أن لبس الصوف تحت ثياب القطن وغيره لو كان فاضلاً لكان النبي صلى الله عليه وسلم شرعه لأمته، إما بقوله أو بفعله، أو كان يفعله أصحابه على عهده، فلما لم يفعله هو ولا أحد من أصحابه على عهده، ولا رغب فيه، دل على أنه لا فضيلة فيه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لبس في السفر جبة من صوف فوق ثيابه.(1/164)
وأما الحديث الذي رواه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يومًا الحسين على فخذه الأيمن وولده إبراهيم على فخذه الأيسر، فنزل جبريل، وقال: إن الله تعالى لم يكن ليجمع لك بينهما فاختر من شئت منهما. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الحسن بكيت أنا وعلي وفاطمة، وإذا مات إبراهيم بكيت أنا عليه) فاختار موت إبراهيم، فمات بعد ثلاثة أيام، وكان إذا جاء الحسين بعد ذلك يقبّله ويقول: (أهلاً ومرحبًا بمن فديته بابني إبراهيم).
فيقال: هذا الحديث لم يروه أحد من أهل العلم، ولا يُعرف له إسنادًا ولا يُعرف في شيء من كتب الحديث. وهذا الناقل لم يذكر له إسنادًا، ولا عزاه إلى كتاب حديث، ولكن ذكره على عادته في روايته أحاديث مسيَّبة بلا زمام ولا خطام.
ومن المعلوم أن المنقولات لا يُميّز بين صدقها وكذبها إلا بالطرق الدالة على ذلك، وإلا فدعوى النقل المجرد بمنزلة سائر الدعاوى.
ثم يقال: هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، وهو من أحاديث الجهَّال، فإن الله تعالى ليس في جمعه بين إبراهيم والحسين أعظم مما في جمعه بين الحسن والحسين على مقتضى هذا الحديث، فإن موت الحسن أو الحسين إذا كان أعظم من موت إبراهيم، فبقاء الحسن أعظم من بقاء إبراهيم، وقد بقي الحسن مع الحسين.
(فصل)
أما عليّ بن الحسين فمن كبار التابعين وساداتهم علمًا ودينًا.
قال يحيى بن سعيد: (هو أفضل هاشمي رأيته في المدينة). وقال محمد بن سعد في الطبقات: (كان ثقة مأمونًا كثير الحديث عاليًا رفيعًا). وروى عن حمَّاد بن زيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال: (سمعت عليّ بن الحسين، وكان أفضل هاشمي أدركته، يقول: يا أيها الناس أحبونا حب الإسلام، فما برح بنا حبكم حتى صار عارًا علينا).(1/165)
وأما ما ذكره من قيام ألف ركعة، فقد تقدّم أن هذا لا يمكن إلا على وجه يكره في الشريعة، أو لا يمكن بحال، فلا يصلح ذكر مثل هذا في المناقب، وكذلك ما ذَكَرَه من تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم له سيد العابدين هو شيء لا أصل له، ولم يروه أحد من أهل العلم والدين.
وكذلك أبو جعفر محمد بن عليّ من خيار أهل العلم والدين، وقيل: إنما سُمي الباقر لأنه بَقَرَ العلم، لا لأجل بقر السجود جبهته، وأما كونه أعلم أهل زمانه فهذا يحتاج إلى دليل، والزهري من أقرانه، وهو عند الناس أعلم منه، ونَقْلُ تسميته بالباقر عن النبي صلى الله عليه وسلم لا أصل له عند أهل العلم، بل هو من الأحاديث الموضوعة. وكذلك حديث تبليغ جابر له السلام هو من الموضوعات عند أهل العلم بالحديث.
وجعفر الصادق رضي الله عنه من خيار أهل العلم والدين، وقال عمرو بن أبي المقدام: (كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين).
وأما قوله: (اشتغل بالعبادة عن الرياسة).
وهذا تناقض من الإمامية، لأن الإمامة عندهم واجب عليه أن يقوم بها وبأعبائها، فإنه لا إمام في وقته إلا هو، فالقيام بهذا الأمر العظيم لو كان واجبًا لكان أوْلى من الاشتغال بنوافل العبادات.
وأما قوله: (إنه: هو الذي نشر فقه الإمامية، والمعارف الحقيقية، والعقائد اليقينية).
فهذا الكلام يستلزم أحد أمرين: إما أنه ابتدع في العلم ما لم يكن يعلمه من قبله، وإما أن يكون الذين قبله قصّروا فيما يجب عليهم من نشر العلم، وهل يشك عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن لأمته المعارف الحقيقية والعقائد اليقينية أكمل بيان؟ وأن أصحابه تلقّوا ذلك عنه وبلَّغوه إلى المسلمين؟
وهذا يقتضي القدح: إما فيه، وإما فيهم. بل كُذِب على جعفر الصادق أكثر مما كُذِب على من قبله، فالآفة وقعت من الكذَّابين عليه لا منه؛ ولهذا نُسب إليه أنواع من الأكاذيب، مثل كتاب (البطاقة) و(الجَفْر) و (الهَفْت) والكلام في النجوم.(1/166)
(فصل)
وأما من بعد جعفر فموسى بن جعفر، قال فيه أبو حاتم الرازي: (ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين). قلت: موسى ولد بالمدينة سنة بضع وعشرين ومائة، وأقدمه المهدي إلى بغداد ثم رده إلى المدينة، وأقام بها إلى أيام الرشيد، فقدم هارون منصرفًا من عُمْرةٍ، فحمل موسى معه إلى بغداد، وحبسه بها إلى أن تُوفي في محبسه.
وأما من بعد موسى فلم يؤخذ عنهم من العلم ما يذكر به أخبارهم في كتب المشهورين بالعلم وتواريخهم، ولا لهم في التفسير وغيره أقوال معروفة، ولكن لهم من الفضائل والمحاسن ما هم له أهل، رضي الله عنهم أجمعين، وموسى بن جعفر مشهور بالعبادة والنسك.
وأما الحكاية المذكورة عن شقيق البلخى فكذب، فإن هذه الحكاية تخالف المعروف من حال موسى بن جعفر.
أما قوله: (تاب على يديه بشر الحافي) فمن أكاذيب من لا يعرف حاله ولا حال بشر، فإن موسى بن جعفر لما قدم به الرشيد إلى العراق حبسه، فلم يكن ممن يجتاز على دار بشر وأمثاله من العامة.
(فصل)
قال الرافضي: (وكان ولده عليّ الرضا أزهد أهل زمانه وكان أعلمهم، وأخذ عنه فقهاء الجمهور كثيرًا، وولاّه المأمون لعلمه بما هو عليه من الكمال والفضل، ووعظ يومًا أخاه زيدًا، فقال: يا زيد! ما أنت قائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سَفَكْتَ الدماء، وأخذت الأموال من غير حلها، وأخفت السبل، وغرّك حمقى أهل الكوفة؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فاطمة أحصنت فرجها، فحرم الله ذريتها على النار، وفي رواية: إن عليًا قال: يا رسول الله، لم سميت فاطمة؟ قال: لأن الله فطمها وذريتها من النار، فلا يكون الإحصان سببًا لتحريم ذريتها على النار وأنت تظلم. والله ما نالوا ذلك إلا بطاعة الله، فإن أردت أن تنال بمعصية الله ما نالوا بطاعته، إنك إذًا لأكرم على الله منهم.
وضرب المأمون اسمه على الدراهم والدنانير، وكتب إلى أهل الآفاق ببيعته، وطرح السواد ولبس الخضرة).(1/167)
فيقال: من المصائب التي ابتُلي بها ولد الحسين انتساب الرافضة إليهم و تعظيمهم ومدحهم لهم، فإنهم يُمدحون بما ليس بمدح، ويدّعون لهم دعاوى لا حجة لها، ويذكرون من الكلام ما لو لم يُعرف فضلهم من غير كلام الرافضة، لكان ما تذكره الرافضة بالقدح أشبه منه بالمدح، فإن علي بن موسى له من المحاسن والمكارم المعروفة، والممادح المناسبة لحاله اللائقة به، ما يعرفه بها أهل المعرفة. وأما هذا الرافضي فلم يذكر له فضيلة واحدة بحجة.
وأما قوله: (إنه كان أزهد الناس وأعلمهم) فدعوى مجردة بلا دليل، فكل من غلا في شخص أمكنه أن يدّعى له هذه الدعوى، كيف والناس يعلمون أنه كان في زمانه من هو أعلم منه، ومن هو أزهد منه، كالشافعي وإسحاق بن راهوية وأحمد بن حنبل وأشهب بن عبد العزيز، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، وأمثال هؤلاء.
وأما قوله: (إنه أخذ عن فقهاء الجمهور كثيرًا) فهذا من أظهر الكذب، هؤلاء فقهاء الجمهور المشهورون لم يأخذوا عنه ما هو معروف، وإن أخذ عنه بعض من لا يُعرف من فقهاء الجمهور فهذا لا يُنكر، فإن طلبة الفقهاء قد يأخذون عن المتوسطين في العلم، ومن هم دون المتوسطين.
وما ذكره بعض الناس من أن معروفًا الكرخي كان خادمًا له، وأنه أسلم على يديه، أو أن الخرقة متصلة منه إليه، فكله كذب باتفاق من يعرف هذا الشأن.
والحديث الذي ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم عن فاطمة هو كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ويظهر كذبه لغير أهل الحديث أيضًا؛ فإن قوله: (إن فاطمة أحصنت فرجها فحرَّم الله ذريتها على النار) يقتضي أن إحصان فرجها هو السبب لتحريم ذريتها على النار وهذا باطل قطعًا، فإن سارَّة أحصنت فرجها، ولم يحرِّم الله جميع ذريتها على النار.(1/168)
وأيضًا: فتسمية جبريل رسول الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم خادمًا له عبارة من لا يعرف قدر الملائكة، وقدر إرسال الله لهم إلى الأنبياء، ولكن الرافضة غالب حججهم أشعار تليق بجهلهم وظلمهم، وحكايات مكذوبة تليق بجهلهم وكذبهم، وما يُثْبِت أصول الدين بمثل هذه الأشعار، إلا من ليس معدودًا من أولي الأبصار.
(فصل)
قال الرافضي: (وكان ولده محمد بن علي الجواد على منهاج أبيه في العلم والتقى والجود، ولما مات أبوه الرضا شغف بحبه المأمون لكثرة علمه ودينه ووفور عقله مع صغر سنه، وأراد أن يزوِّجه ابنته أم الفضل، وكان قد زوَّج أباه الرضا عليه السلام بابنته أم حبيب، فغلظ ذلك على العباسيين واستنكروه وخافوا أن يخرج الأمر منهم، وأن يبايعه كما بايع أباه، فاجتمع الأدنون منهم وسألوه ترك ذلك، وقالوا: إنه صغير السن لا علم عنده، فقال: أنا أعرف منكم به، فإن شئتم فامتحنوه، فرضوا بذلك، وجعلوا للقاضي يحيى بن أكثم مالاً كثيرًا على امتحانه في مسألة يعجزه فيها، فتواعدوا إلى يوم، وأحضره المأمون وحضر القاضي وجماعة العباسيين، فقال القاضي: أسألك عن شيء؟ فقال عليه السلام: سل، فقال: ما تقول في مُحْرِم قتل صيدًا؟ فقال له عليه السلام: قتله في حل أو حرم؟ عالمًا كان أو جاهلاً، مبتدئًا بقتله أو عائذًا، من صغار الصيد كان أم من كبارها، عبدًا كان المُحرم أو حرًّا، صغيرًا كان أو كبيرًا، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ فتحير يحيى بن أكثم، وبان العجز في وجهه، حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره، فقال المأمون لأهل بيته: عرفتم الآن ما كنتم تنكرونه، ثم أقبل الإمام فقال: أتخطب؟ قال: نعم، فقال: أخطب لنفسك خطبة النكاح، فخطب وعقد على خمسمائة درهم جيادًا كمهر جدته فاطمة عليها السلام، ثم تزوج بها).(1/169)
والجواب أن يقال: إن محمد بن عليّ الجواد كان من أعيان بني هاشم، وهو معروف بالسخاء والسؤدد، ولهذا سُمِّيَ الجواد، ومات وهو شاب ابن خمس وعشرين سنة، ولد سنة خمس وتسعين ومات سنة عشرين أو سنة تسع عشرة، وكان المأمون زوَّجه بابنته، وكان يرسل إليه في السنة ألف ألف درهم، واستقدمه المعتصم إلى بغداد، ومات بها.
وأما ما ذكره فإنه من نمط ما قبله، فإن الرافضة ليس لهم عقل صريح ولا نقل صحيح، ولا يقيمون حقًا، ولا يهدمون باطلاً، لا بحجة وبيان، ولا بيد وسنان، فإنه ليس فيما ذكره ما يثبت فضيلة محمد بن عليّ، فضلاً عن ثبوت إمامته، فإن هذه الحكاية التي حكاها عن يحيى بن أكثم من الأكاذيب التي لا يفرح بها إلا الجهال، ويحيى بن أكثم كان أفقه وأعلم وأفضل من أن يطلب تعجيز شخص بأن يسأله عن مُحْرِم قتل صيدًا، فإن صغار الفقهاء يعلمون حكم هذه المسألة، فليست من دقائق العلم ولا غرائبه، ولا مما يختص به المبرِّزون في العلم.(1/170)
(فصل)
قال الرافضي: (وكان ولده عليّ الهادي، ويُقال له: العسكري، لأن المتوكل أشخصه من المدينة إلى بغداد، ثم منها إلى سُرَّ من رأى، فأقام بموضع عندها يقال له: العسكر، ثم انتقل إلى سُرَّ من رأى فأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر، وإنما أشخصه المتوكل؛ لأنه كان يبغض عليًّا رضي الله عنه، فبلّغه مقام عليّ بالمدينة، وميل الناس إليه، فخاف منه، فدعا يحيى بن هبيرة وأمره بإحضاره، فضج أهل المدينة لذلك خوفًا عليه؛ لأنه كان محسنًا إليهم، ملازمًا للعبادة في المسجد، فحلف يحيى أنه لا مكروه عليه، ثم فتَّش منزله فلم يجد فيه سوى مصاحف وأدعية وكتب العلم، فعظم في عينه، وتولى خدمته بنفسه، فلما قدم بغداد بدأ بإسحاق بن إبراهيم الطائي والي بغداد. فقال له: يا يحيى، هذا الرجل قد ولده رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتوكل من تَعْلَم، فإن حرضته عليه قتله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمك يوم القيامة، فقال له يحيى: والله ما وقعت منه إلا على خير. قال: فلما دخلت على المتوكل أخبرته بحسن سيرته وورعه وزهده فأكرمه المتوكل، ثم مرض المتوكل فنذر إن عوفيَ تصدّق بدراهم كثيرة، فسأل الفقهاء عن ذلك فلم يجد عندهم جوابًا، فبعث إلى عليّ الهادي، فسأله فقال: تصدّق بثلاثة وثمانين درهمًا، فسأله المتوكل عن السبب، فقال: لقوله تعالى: ((لقدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةً))[التوبة:25] وكانت لمواطن هذه الجملة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم غزا سبعًا وعشرين غزاة، وبعث ستًا وخمسين سرية. قال المسعودي: نُمي إلى المتوكل بعليّ بن محمد أن في منزله سلاحًا من شيعته من أهل قُم وأنه عازم على الملك، فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهجموا داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئًا، ووجدوه في بيت مغلق عليه وهو يقرأ وعليه مُدرعة من صوف، وهو جالس على الرمل والحصى متوجهًا إلى الله تعالى يتلو القرآن، فحُمل على حالته تلك إلى المتوكل، وأُدخل عليه وهو في مجلس(1/171)
الشراب، والكأس في يد المتوكل، فعظَّمه وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكأس، فقال: والله ما خامر لحمي ودمي قط فأعفني، فأعفاه، وقال له: أسمعني صوتًا، فقال: ((كمْ تَرَكوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُوُن))[الدخان:25]. الآيات فقال: أنشدنى شعرًا، فقال: إني قليل الرواية للشعر، فقال: لا بد من ذلك، فأنشده:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غُلْبُ الرجال فما أغنتهم القُلَلُ
واستُنزلوا بعد عزٍ من معاقلهم ... وأسكنوا حفرًا يا بئس ما نزلوا
ناداهُمُ صارخ من بعد دفنهم ... أين الأسرَّة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعَّمة ... من دونها تُضرب الأستار والكِللُ
فأفصح القبر عنهُمْ حين ساءَلُهُمْ ... تلك الوجوهُ عليها الدود يقتتل
قد طال ما أكلوا دهرا وما شربوا ... فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا
فبكى المتوكل حتى بلت دموعه لحيته).
فيقال: هذا الكلام من جنس ما قبله، لم يذكر منقبة بحجة صحيحة، بل ذكر ما يعلم العلماء أنه من الباطل، فإنه ذكر في الحكاية أن والي بغداد كان إسحاق بن إبراهيم الطائي، وهذا من جهله، فإن إسحاق بن إبراهيم هذا خزاعي معروف هو وأهل بيته، كانوا من خزاعة، فإنه إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب، وابن عمه عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب أمير خراسان المشهور المعلومة سيرته، وابن هذا محمد بن عبد الله بن طاهر كان نائبًا على بغداد في خلافة المتوكل وغيره، وهو الذي صلَّى على أحمد بن حنبل لما مات، وإسحاق بن إبراهيم هذا كان نائبًا لهم في إمارة المعتصم والواثق وبعض أيام المتوكل، وهؤلاء كلهم من خزاعة ليسوا من طيئ وهم أهل بيت مشهورون.(1/172)
وأما الفُتيا التي ذكرها من أن المتوكل نذر إن عُوفِيَ يتصدّق بدراهم كثيرة، وأنه سأل الفقهاء عن ذلك فلم يجد عندهم جوابا، وأن عليّ بن محمد أمره أن يتصدق بثلاثة وثمانين درهمًا، لقوله تعالى: ((لقدْ نَصَرَكُمْ الله في مَواطِنَ كَثيرَةً))[الدخان:25]، وأن المواطن كانت هذه الجملة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم غزا سبعًا وعشرين غزاة، وبعث ستًا وخمسين سرية، فهذه الحكاية أيضا تحكى عن عليّ بن موسى مع المأمون، وهي دائرة بين أمرين: إما أن تكون كذبًا، وإما أن تكون جهلاً ممن أفتى بذلك.
فإن قول القائل: له عليَّ دراهم كثيرة، أو والله لأعطين فلانًا دراهم كثيرة، أو لأتصدقن بدراهم كثيرة، لا يُحمل على ثلاث وثمانين عند أحد من علماء المسلمين.
والحجة المذكورة باطلة لوجوه:
أحدها: أن قول القائل: إن المواطن كانت سبعًا وعشرين غزاة وستًا وخمسين سرية، ليس بصحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغز سبعًا وعشرين غزاة باتفاق أهل العلم بالسير، بل أقل من ذلك.
الثاني: أن هذه الآية نزلت يوم حنين، والله قد أخبر بما كان قبل ذلك، فيجب أن يكون ما تقدَّم قبل ذلك مواطن كثيرة، وكان بعد يوم حنين غزوة الطائف وغزوة تبوك، وكثير من السرايا كانت بعد يوم حنين كالسرايا التي كانت بعد فتح مكة، مثل: إرسال جرير بن عبد الله إلى ذي الخلصة وأمثال ذلك.
وجرير إنما أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بنحو سنة، وإذا كان كثير من الغزوات والسرايا كانت بعد نزول هذه الآية، امتنع أن تكون هذه الآية المخبرة عن الماضي إخبارًا بجميع المغازي والسرايا.
الثالث: أن الله لم ينصرهم في جميع المغازي، بل يوم أحد تولوا، وكان يوم بلاء وتمحيص، وكذلك يوم مؤتة وغيرها من السرايا لم يكونوا منصورين فيها، فلو كان مجموع المغازي والسرايا ثلاثًا وثمانين فإنهم لم ينصروا فيها كلها، حتى يكون مجموع ما نصروا فيه ثلاثًا وثمانين.(1/173)
الرابع: أنه بتقدير أن يكون المراد بالكثير في الآية ثلاثًا وثمانين، فهذا لا يقتضي اختصاص هذا القدر بذلك ؛ فإن لفظ (الكثير) لفظ عام يتناول الألف والألفين والآلاف، وإذا عمَّ أنواعًا من المقادير، فتخصيص بعض المقادير دون بعض تحكّم.
الخامس: أن الله تعالى قال: ((منْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة))[البقرة:245]، والله يضاعف الحسنة إلى سبعمائة ضعف بنص القرآن، وقد ورد أنه يضاعفها ألفي ألف حسنة، فقد سمَّى هذه الأضعاف كثيرة، وهذه المواطن كثيرة.
وقد قال تعالى: ((كمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِين))[البقرة:249] والكثرة ههنا تتناول أنواعًا من المقادير، لأن الفئات المعلومة مع الكثرة لا تحصر في عدد معين، وقد تكون الفئة القليلة ألفًا والفئة الكثيرة ثلاثة آلاف، فهي قليلة بالنسبة إلى كثرة عدد الأخرى.
(فصل)
قال الرافضي: (وولده مولانا المهدي محمد عليه السلام).
روى ابن الجوزى بإسناده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي، اسمه كاسمي وكنيته كنيتي، يملأ الأرض عدلاً، كما ملئت جورًا، فذلك هو المهدي).(1/174)
فيقال: قد ذكر محمد بن جرير الطبري وعبد الباقي بن قانع وغيرهما من أهل العلم بالأنساب والتواريخ: أن الحسن بن عليّ العسكري لم يكن له نسل ولا عقب، والإمامية الذين يزعمون أنه كان له ولد يدّعون أنه دخل السرداب بسامرّا وهو صغير، منهم من قال: عمره سنتان، ومنهم من قال: ثلاث، ومنهم من قال: خمس سنين، وهذا لو كان موجودًا معلومًا، لكان الواجب في حكم الله الثابت بنص القرآن والسنة والإجماع أن يكون محضونًا عند من يحضنه في بدنه، كأمه وأم أمه، ونحوهما من أهل الحضانة، وأن يكون ماله عند من يحفظه: إما وصي أبيه إن كان له وصي، وإما غير الوصي: إما قريب، وإما نائب لدى السلطان، فإنه يتيم لموت أبيه.
والله تعالى يقول: ((وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُم رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِم أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا))[النساء:6]. فهذا لا يجوز تسليم ماله إليه حتى يبلغ النكاح ويؤنس منه الرشد، كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه، فكيف يكون من يستحق الحجر عليه في بدنه وماله إمامًا لجميع المسلمين معصومًا، لا يكون أحد مؤمنًا إلا بالإيمان به؟!
ثم إن هذا باتفاق منهم: سواء قُدِّر وجوده أو عدمه، لا ينتفعون به لا في دين ولا في دنيا، ولا علَّمَ أَحدًا شيئا، ولا يعرف له صفة من صفات الخير ولا الشر، فلم يحصل به شيء من مقاصد الإمامة ولا مصالحها، لا الخاصة ولا العامة، بل إن قدِّر وجوده فهو ضرر على أهل الأرض بلا نفع أصلاً، فإن المؤمنين به لم ينتفعوا به، ولا حصل لهم به لطف ولا مصلحة، والمكذِّبون به يعذَّبون عندهم على تكذيبهم به، فهو شر محض لا خير فيه، وخلق مثل هذا ليس من فعل الحكيم العادل.
وإذا قالوا: إن الناس بسبب ظلمهم احتجب عنهم.
قيل: أولاً: كان الظلم موجودًا في زمن آبائه ولم يحتجبوا.(1/175)
وقيل: ثانيًا: فالمؤمنون به طبَّقوا الأرض فهلاَّ اجتمع بهم في بعض الأوقات أو أرسل إليهم رسولاً يعلِّمهم شيئًا من العلم والدين؟!
وقيل: ثالثًا: قد كان يمكنه أن يأوي إلى كثير من المواضع التي فيها شيعته، كجبال الشام التي كان فيها الرافضة عاصية، وغير ذلك من المواضع العاصية.
وقيل: رابعًا: فإذا كان هو لا يمكنه أن يذكر شيئًا من العلم والدين لأحد، لأجل هذا الخوف، لم يكن في وجوده لطف ولا مصلحة، فكان هذا مناقضًا لما أثبتوه، بخلاف من أرسل من الأنبياء وكُذِّب، فإنه بلَّغ الرسالة، وحصل لمن آمن به من اللطف والمصلحة ما هو من نعم الله عليه، وهذا المنتَظَر لم يحصل به لطائفته إلا الانتظار لمن لا يأتي، ودوام الحسرة والألم، ومعاداة العالم، والدعاء الذي لا يستجيبه الله، لأنهم يدعون له بالخروج والظهور من مدة أكثر من أربعمائة وخمسين سنة لم يحصل شيء من هذا، ثم إن عمر واحد من المسلمين هذه المدة أمر يعرف كذبه بالعادة المطَّردة في أمة محمد، فلا يُعرف أحد وُلد في دين الإسلام وعاش مائة وعشرين سنة، فضلاً عن هذا العمر، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في آخر عمره: (أرأيتكم ليلتكم هذه، فإنه على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو اليوم عليها أحد)(1).
__________
(1) انظر: البخاري (1/119) ومسلم (4/1965).(1/176)
فمن كان في ذلك الوقت له سنة ونحوها لم يعش أكثر من مائه سنة قطعًا، وإذا كانت الأعمار في ذلك العصر لا تتجاوز هذا الحد، فما بعده من الأعصار أوْلى بذلك في العادة الغالبة العامة، فإن أعمار بني آدم في الغالب كلما تأخر الزمان قصرت ولم تطل، فإن نوحًا عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وآدم عليه السلام عاش ألف سنة، كما ثبت ذلك في حديث صحيح رواه الترمذي وصحَّحَه(1)، فكان العمر في ذلك الزمان طويلاً، ثم أعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يَجوز ذلك، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح(2).
واحتجاجهم بحياة الخضر احتجاج باطل على باطل، فمن الذي يسلِّم لهم بقاء الخضر، والذي عليه سائر العلماء المحققون أنه مات، وبتقدير بقائه فليس هو من هذه الأمة.
ولهذا يوجد كثير من الكذَّابين من الجن والإنس ممن يدَّعي أنه الخضر ويظن من رآه أنه الخضر، وفي ذلك من الحكايات الصحيحة التي نعرفها ما يطول وصفها هنا.
وكذلك المنتظر محمد بن الحسن، فإن عددًا كثيرًا من الناس يدَّعي كل واحد منهم أنه محمد بن الحسن، منهم من يظهر ذلك لطائفة من الناس، ومنهم من يكتم ذلك ولا يظهره إلا للواحد أو الاثنين، وما من هؤلاء إلا من يَظْهَرُ كذبه كما يظهر كذب من يدَّعي أنه الخضر.
(فصل)
وقوله: روى ابن الجوزي بإسناده إلى ابن عمر: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي، اسمه كاسمي، وكنيته كنيتي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا، فذلك هو المهدي).
فيقال: الجواب من وجوه:
أحدها: إنكم لا تحتجون بأحاديث أهل السنة، فمثل هذا الحديث لا يفيدكم فائدة، وإن قلتم: هو حجة على أهل السنة، فنذكر كلامهم فيه.
الثاني: إن هذا من أخبار الآحاد، فكيف يثبت به أصل الدين الذي لا يصح الإيمان إلا به؟
__________
(1) انظر: سنن الترمذي (5/123-124) وقال: حسن غريب من هذا الوجه.
(2) انظر: سنن الترمذي (3/387) وابن ماجة (2/1415).(1/177)
الثالث: أن لفظ الحديث حجة عليكم لا لكم، فإن لفظه: (يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي) فالمهدي الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم اسمه محمد بن عبد الله لا محمد بن الحسن، وقد رُوي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: هو من ولد الحسن بن عليّ، لا من ولد الحسين بن عليّ.
وأحاديث المهدي معروفة، رواها الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، كحديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت ظلمًا وجورًا)(1).
الرابع: أن الحديث الذي ذكره، وقوله: (اسمه كاسمي، وكنيته كنيتي) ولم يقل: (يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي) فلم يروه أحد من أهل العلم بالحديث في كتب الحديث المعروفة بهذا اللفظ، فهذا الرافضي لم يذكر الحديث بلفظه المعروف في كتب الحديث، مثل: مسند أحمد، وسنن أبي داود، والترمذي، وغير ذلك من الكتب، وإنما ذكره بلفظ مكذوب لم يروه أحد منهم.
وقوله: إن ابن الجوزي رواه بإسناده: إن أراد العالم المشهور صاحب المصنَّفات الكثيرة أبا الفرج، فهو كذب عليه. وإن أراد سبطه يوسف بن قز أوغلى صاحب التاريخ المسمى (بمرآة الزمان) وصاحب الكتاب المصنَّف في (الاثنى عشر) الذي سمَّاه (إعلام الخواص) فهذا الرجل يذكر في مصنفاته أنواعًا من الغثّ والسمين، ويحتجّ في أغراضه بأحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة، وكان يصنِّف بحسب مقاصد الناس: يصنِّف للشيعة ما يناسبهم ليعوِّضوه بذلك، ويصنِّف على مذهب أبي حنيفة لبعض الملوك لينال بذلك أغراضه، فكانت طريقته طريقة الواعظ الذي قيل له: ما مذهبك؟ قال: في أي مدينة؟
__________
(1) انظر: سنن أبي داود (4/151) والترمذي (3/343) والمسند (2/117).(1/178)
ولهذا يوجد في بعض كتبه ثلب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم لأجل مداهنة من قصد بذلك من الشيعة، ويوجد في بعضها تعظيم الخلفاء الراشدين وغيرهم.
(فصل)
قال الرافضي: (فهؤلاء الأئمة الفضلاء المعصومون، الذين بلغوا الغاية في الكمال، ولم يتخذوا ما اتخذ غيرهم من الأئمة المشتغلين بالملك وأنواع المعاصي والملاهي، وشرب الخمور والفجور، حتى فعلوا بأقاربهم على ما هو المتواتر بين الناس. قالت الإمامية: فالله يحكم بيننا وبين هؤلاء، وهو خير الحاكمين).
قال: (وما أحسن قول الشاعر:
إذا شئت أن ترضي لنفسك مذهباً ... وتعلم أن الناس في نقل أخبار
فدع عنك قول الشافعي ومالك ... وأحمد والمرويّ عن كعب أحبار
ووال أناسًا قولهم وحديثهم ... روى جدنا عن جبرئيل عن الباري)
والجواب من وجوه:
أحدها: أن يقال: أما دعوى العصمة في هؤلاء فلم تذكر عليها حجة إلا ما ادّعيته من أنه يجب على الله أن يجعل للناس إمامًا معصومًا، ليكون لطفًا ومصلحة في التكليف، وقد تبين فساد هذه الحجة من وجوه: أدناها أن هذا مفقود لا موجود، فإنه لم يوجد إمام معصوم حصل به لطف ولا مصلحة، ولو لم يكن في الدليل على انتفاء ذلك إلا المنتظر الذي قد عُلم بصريح العقل أنه لم ينتفع به أحد، لا دين ولا في دنيا، ولا حصل لأحد من المكلَّفين به مصلحة ولا لطف، لكان هذا دليلاً على بطلان قولهم، فكيف مع كثرة الدلائل على ذلك؟
الوجه الثاني: أن قوله: (كل واحد من هؤلاء قد بلغ الغاية في الكمال) هو قول مجرد عن الدليل، والقول بلا علم يمكن كل أحد أن يقابله بمثله، وإذا ادّعى المدّعي هذا الكمال فيمن هو أشهر في العلم والدين من العسكريين وأمثالهما من الصحابة والتابعين، وسائر أئمة المسلمين، لكان ذلك أوْلى بالقبول، ومن طالع أخبار الناس علم أن الفضائل العلمية والدينية المتواترة عن غير واحد من الأئمة أكثر مما ينقل عن العسكريين وأمثالهما من الكذب، دع الصدق.(1/179)
الثالث: أن قوله: (هؤلاء الأئمة) إن أراد بذلك أنهم كانوا ذوي سلطان وقدرة معهم السيف، فهذا كذب ظاهر، وهم لا يدَّعون ذلك، بل يقولون: إنهم عاجزون ممنوعون مغلوبون مع الظالمين، لم يتمكن أحد منهم من الإمامة، إلاّ عليّ بن أبي طالب، مع أن الأمور استصعبت عليه، ونصف الأمة -أو أقل أو أكثر- لم يبايعوه، بل كثير منهم قاتلوه وقاتلهم، وكثير منهم لم يقاتلوه ولم يقاتلوا معه، وفي هؤلاء من هو أفضل من الذين قاتلوه وقاتلوا معه، وكان فيهم من فضلاء المسلمين من لم يكن مع عليّ مثلهم، بل الذين تخلَّفوا عن القتال معه وله كانوا أفضل ممن قاتله وقاتل معه.
وإن أراد أنه كان لهم علم ودين يستحقون به أن يكون أئمة، فهذه الدعوى إذا صحت لا تُوجب كونهم أئمة يجب على الناس طاعتهم، كما أن استحقاق الرجل أن يكون إمام مسجد لا يجعله إماما، واستحقاقه أن يكون قاضيًا لا يصيِّره قاضيًا، واستحقاقه أن يكون أمير الحرب لا يجعله أمير الحرب، والصلاة لا تصح إلا خلف من يكون إمامًا بالفعل. وكذلك الحكم بين الناس إنما يفصله ذو سلطان وقدرة لا من يستحق أن يولَّى القضاء، وكذلك الجند إنما يقاتلون مع أميرٍ عليهم لا مع من لم يؤمَّر، وإن كان يستحق أن يؤمَّر.
الوجه الرابع: أن يقال: ما تعنون بالاستحقاق؟ أتعنون أن الواحد من هؤلاء كان يجب أن يولى الإمامة دون سائر قريش؟ أم تريدون أن الواحد منهم من جملة من يصلح للخلافة؟ فإن أردتم الأول فهو ممنوع مردود، وإن أردتم الثاني فذلك قدر مشترك بينهم وبين خلق كثير من قريش.
الوجه الخامس: أن يقال: الإمام هو الذى يؤتم به وذلك على وجهين: أحدها: أن يرجع إليه في العلم والدين بحيث يطاع باختيار المطيع، لكونه عالمًا بأمر الله عز وجل آمرًا به، فيطيعه المطيع لذلك، وإن كان عاجزًا عن إلزامه الطاعة.
والثاني: أن يكون صاحب يد وسيف، بحيث يطاع طوعًا وكرهًا لكونه قادرًا على إلزام المطيع بالطاعة.(1/180)
الوجه السادس: أن يقال: قوله: (لم يتخذوا ما اتخذه غيرهم من الأئمة المشتغلين بالملك والمعاصي) كلام باطل. وذلك أنه إن أراد أن أهل السنة يقولون: إنه يؤتم بهؤلاء الملوك فيما يفعلونه من معصية الله، فهذا كذب عليهم. فإن علماء أهل السنة المعروفين بالعلم عند أهل السنة متفقون على أنه لا يُقتدى بأحد في معصية الله، ولا يُتخذ إمامًا في ذلك.
وإن أراد ان أهل السنة يستعينون بهؤلاء الملوك فيما يُحتاج إليهم فيه من طاعة الله، ويعاونونهم على ما يفعلونه من طاعة الله، فيقال لهم: إن كان اتخاذهم أئمة بهذا الاعتبار محذورًا، فالرافضة أدخل منهم في ذلك، فإنهم دائمًا يستعينون بالكفّار والفجّار على مطالبهم، ويعاونون الكفّار والفجّار على كثير من مآربهم، وهذا أمر مشهود في كل زمان ومكان، ولو لم يكن إلا صاحب هذا الكتاب (منهاج الندامة) وإخوانه، فإنهم يتخذون المغل والكفار أو الفسَّاق أو الجهال أئمة بهذا الاعتبار.
الوجه السابع: أن يقال: الأئمة الذين هم مثل هؤلاء الذين ذكرهم في كتابه وادّعى عصمتهم، ليس لهم سلطان تحصل به مقاصد الإمامة، ولا يكفي الائتمام بهم في طاعة الله، ولا في تحصيل ما لا بد منه مما يعين على طاعة الله، فإن لم يكن لهم ملك ولا سلطان لم يمكن أن تصلّي خلفهم جمعة ولا جماعة، ولا يكونون أئمة في الجهاد ولا في الحج، ولا تُقام بهم الحدود، ولا تُفصل بهم الخصومات، ولا يستوفي الرجل بهم حقوقه التي عند الناس والتي في بيت المال، ولا يؤمَّن بهم السبل، فإن هذه الأمور كلها تحتاج إلى قادر يقوم بها، ولا يكون قادرًا إلاّ من له أعوان على ذلك، بل القادر على ذلك كان غيرهم، فمن طلب هذه الأمور من إمام عاجز عنها كان جاهلاً ظالمًا، ومن استعان عليها بمن هو قادر عليها كان عالمًا مهتديًا مسدَّدًا، فهذا يحصِّل مصلحة دينه ودنياه، والأول تفوته مصلحة دينه ودنياه.(1/181)
الوجه الثامن: أن يقال: دعوى كون جميع الخلفاء كانوا مشتغلين بما ذكره من الخمور والفجور كذب عليهم، والحكايات المنقولة في ذلك فيها ما هو كذب، وقد عُلم أن فيهم العدْل الزاهد كعمر بن عبد العزيز والمهدي بالله، وأكثرهم لم يكن مظهرًا لهذه المنكرات من خلفاء بني أمية وبني العباس، وإن كان أحدهم قد يُبتلى ببعض الذنوب، وقد يكون تاب منها، وقد يكون له حسنات كثيرة تمحو تلك السيئات، وقد يُبتلى بمصائب تكفِّر عنه خطاياه، ففي الجملة الملوك حسناتهم كبار وسيئاتهم كبار، والواحد من هؤلاء وإن كان له ذنوب ومعاصٍ لا تكون لآحاد المؤمنين، فلهم من الحسنات ما ليس لآحاد المسلمين: من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وجهاد العدو، وإيصال كثير من الحقوق إلى مستحقيها، ومنع كثير من الظلم، وإقامة كثير من العدل.
ونحن لا نقول: إنهم كانوا سالمين من المظالم والذنوب، كما لا نقول: إن أكثر المسلمين كانوا سالمين من ذلك، لكن نقول: وجود الظلم والمعاصي من بعض المسلمين وولاة أمورهم وعامتهم لا يمنع أن يشارك فيما يعمله من طاعة الله.
وإن قال: مرادي بهؤلاء الأئمة الاثنا عشر. قيل له: ما رواه عليّ بن الحسين وأبو جعفر وأمثالهما من حديث جدهم، فمقبول منهم كما يرويه أمثاله، ولولا أن الناس وجدوا عند مالك والشافعي وأحمد أكثر مما وجدوه عند موسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، لما عدلوا عن هؤلاء إلى هؤلاء، وإلا فأي غرض لأهل العلم والدين أن يعدلوا عن موسى بن جعفر إلى مالك بن أنس، وكلاهما من بلد واحد، في عصر واحد؟
فإن زعم زاعم أنه كان عندهم من العلم المخزون ما ليس عند أولئك لكن كانوا يكتمونه، فأي فائدة للناس في علم يكتمونه؟ فعلم لا يَقال به ككنز لا يُنفق منه، وكيف يأتم الناس بمن لا يبين لهم العلم المكتوم، كالإمام المعدوم، وكلاهما لا يُنتفع به، ولا يحصل به لطف ولا مصلحة.(1/182)
وإن قالوا: بل كانوا يبينون ذلك لخواصّهم دون هؤلاء الأئمة. قيل: أولا: هذا كذب عليهم، فإن جعفر بن محمد لم يجيء بعده مثله، وقد أخذ العلم عنه هؤلاء الأئمة: كمالك، وابن عيينة وشعبة والثوري، وابن جريج، ويحيى بن سعيد، وأمثالهم من العلماء المشاهير الأعيان.
ثم من ظن بهؤلاء السادة أنهم يكتمون علمهم عن مثل هؤلاء ويخصّون به قومًا مجهولين ليس لهم في الأمة لسان صدق، فقد أساء الظن بهم ؛ فإن في هؤلاء من المحبة لله ولرسوله، والطاعة له، والرغبة في حفظ دينه وتبليغه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، وصيانته عن الزيادة والنقصان، ما لا يوجد قريب منه لأحد من شيوخ الشيعة، وهذا أمر معلوم بالضرورة لمن عرف هؤلاء وهؤلاء، واعتبر هذا مما تجده في كل زمان من شيوخ السنة وشيوخ الرافضة، كمصنِّف هذا الكتاب، فإنه عند الإمامية أفضلهم في زمانه، بل يقول بعض الناس: ليس في بلاد المشرق أفضل منه في جنس العلوم مطلقًا، ومع هذا فكلامه يدل على أنه من أجهل خلق الله بحال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأعماله، فيروي الكذب الذي يظهر أنه كذب من وجوه كثيرة، فإن كان عالمًا بأنه كذب، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حدَّث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين) وإن كان جاهلاً بذلك دلّ على أنه من أجهل الناس بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم كما قيل:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
(فصل)
قال الرافضي: (وما أظن أحدًا من المحصِّلين وقف على هذه المذاهب واختار غير مذهب الإمامية باطنًا، وإن كان في الظاهر يصير إلى غيره طلبًا للدنيا، حيث وُضعت لهم المدارس والربط والأوقاف حتى تستمر لبني العباس الدعوة ويُشيدوا للعامة اعتقاد إمامتهم).(1/183)
فيقال: هذا الكلام لا يقوله إلا من هو من أجهل الناس بأحوال أهل السنة، أو من هو من أعظم الناس كذبًا وعنادًا، وبطلانه ظاهر من وجوه كثيرة ؛ فإنه من المعلوم أن السنة كانت قبل أن تُبنى المدارس أقوى وأظهر، فإن المدارس إنما بُنيت في بغداد في أثناء المائة الخامسة: بنيت النظامية في حدود الستين والأربعمائة، وبنيتا على مذهب واحد من الأئمة الأربعة، والمذاهب الأربعة طبقت المشرق والمغرب، وليس لأحد منهم مدرسة، والمالكية في المغرب لا يُذكر عندهم ولد العباس.
ثم السنة كانت قبل دولة بني العباس أظهر منها وأقوى في دولة بني العباس، فإن بني العباس دخل في دولتهم كثير من الشيعة وغيرهم من أهل البدع. ثم إن أهل السنة متفقون على أن الخلافة لا تختص ببني العباس، وإنه لو تولاها بعض العلويين أو الأموييين أو غيرهم من بطون قريش جاز، ثم من المعلوم أن علماء السنة كمالك وأحمد وغيرهما، من أبعد الناس عن مداهنة الملوك أو مقاربتهم، ثم إن أهل السنة إنما يعظِّمون الخلفاء الراشدين، وليس فيهم أحد من بني العباس.
ثم من المعلوم لكل عاقل أنه ليس في علماء المسلمين المشهورين أحد رافضي، بل كلهم متفقون على تجهيل الرافضة وتضليلهم، وكتبهم كلها شاهدة بذلك، وهذه كتب الطوائف كلها تنطق بذلك، مع أنه لا أحد يلجئهم إلى ذكر الرافضة، وذكر جهلهم وضلالهم.
وهم دائمًا يذكرون من جهل الرافضة وضلالهم ما يُعلم معه بالاضطرار أنهم يعتقدون أن الرافضة من أجهل الناس وأضلهم، وأبعد طوائف الأمة عن الهدى، كيف ومذهب هؤلاء الإمامية قد جمع عظائم البدع المنكرة، فإنهم جهمية قدرية رافضة، وكلام السلف والعلماء في ذم كل صنف من هذه الأصناف لا يحصيه إلا الله، والكتب مشحونة بذلك، ككتب الحديث والآثار والفقه والتفسير والأصول والفروع وغير ذلك، وهؤلاء الثلاثة شر من غيرهم من أهل البدع كالمرجئة والحرورية.(1/184)
(والله يعلم أني مع كثرة بحثي وتطلعي إلى معرفة أقوال الناس ومذاهبهم ما علمت رجلاً له في الأمة لسان صدق يُتهم بمذهب الإمامية، فضلاً عن أن يُقال: إنه يعتقده في الباطن).
وقد اتُّهم بمذهب الزيدية الحسن بن صالح بن حيّ، وكان فقيهًا صالحًا زاهدًا، وقيل: إن ذلك كذب عليه، ولم ينقل أحد عنه: إنه طعن في أبي بكر وعمر، فضلاً عن أن يشك في إمامتهما، واتُّهم طائفة من الشيعة الأولى بتفضيل عليّ على عثمان، ولم يُتهم أحد من الشيعة الأولى بتفضيل عليّ على أبي بكر وعمر، بل كانت عامة الشيعة الأولى الذين يحبون عليًّا يفضِّلون عليه أبا بكر وعمر، لكن كان فيهم طائفة ترجِّحه على عثمان، وكان الناس في الفتنة صاروا شيعتين: شيعة عثمانية، وشيعة علوية، وليس كل من قاتل مع عليّ كان يفضله على عثمان، بل كان كثير منهم يفضّل عثمان على عليه، كما هو قول سائر أهل السنة.
(فصل)
قال الرافضي: (وكثيرًا ما رأينا من يتدين في الباطن بمذهب الإمامية، ويمنعه عن إظهار حبّ الدنيا وطلب الرياسة، وقد رأيت بعض أئمة الحنابلة يقول: إني على مذهب الإمامية، فقلت: لم تدرس على مذهب الحنابلة؟ فقال: ليس في مذهبكم البغلات والمشاهرات، وكان أكبر مدرسي الشافعية في زماننا حيث توفي أوصى أن يتولى أمره في غُسله وتجهيزه بعض المؤمنين، وأن يُدفن في مشهد مولانا الكاظم، وأشهد عليه أنه كان على مذهب الإمامية).(1/185)
والجواب: أن قوله: (وكثيرًا ما رأينا) هذا كذب، بل قد يوجد في بعض المنتسبين إلى مذهب الأئمة الأربعة من هو في الباطن رافضي، كما يوجد في المظهرين للإسلام من هو في الباطن منافق، فإن الرافضة لما كانوا من جنس المنافقين يخفون أمرهم احتاجوا أن يتظاهروا بغير ذلك، كما احتاج المنافقون أن يتظاهروا بغير الكفر، ولا يوجد هذا إلا فيمن هو جاهل بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأمور المسلمين كيف كانت في أول الإسلام، وأما من عرف الإسلام كيف كان، وهو مقرٌّ بأن محمدًا رسول الله باطنًا وظاهرًا، فإنه يمتنع أن يكون في الباطن رافضيًا، ولا يُتصور أن يكون في الباطن رافضيًا إلا زنديق منافق، أو جاهل بالإسلام كيف كان مُفرط في الجهل.
والحكاية التي ذكرها عن بعض الأئمة المدرسين ذكر لي بعض البغداديين أنها كذب مفترى، فإن كان صادقًا فيما نقله عن بعض المدرسين من هؤلاء وهؤلاء، فلا يُنكر أن يكون في المنتسبين إلى الأئمة الأربعة من هو زنديق ملحد مارق من الإسلام، فضلاً عن أن يكون رافضيًا، ومن استدل بزندقة بعض الناس في الباطن على أن علماء المسلمين كلهم زنادقة، كان من أجهل الناس، كذلك من استدل برفض بعض الناس في الباطن.(1/186)
(فصل)
قال الرافضي: (الوجه الخامس: في بيان وجوب اتباع مذهب الإمامية، أنهم لم يذهبوا إلى التعصب في غير الحق، بخلاف غيرهم، فقد ذكر الغزالي والماوردي، وهما إمامان للشافعية، أن تسطيح القبور هي المشروع، لكن لما جعلته الرافضة شعارًا لهم عدلنا عنه إلى التسنيم، وذكر الزمخشري -وكان من أئمة الحنفية- في تفسير قوله تعالى: ((هوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُم وَمَلاَئِكَتَهُ))[الأحزاب:43] أنه يجوز بمقتضى هذه الآية أن يُصلَّى على آحاد المسلمين، لكن لما اتخذت الرافضة ذلك في أئمتهم منعناه، وقال مصنف (الهداية) من الحنفية: إن المشروع التختم في اليمين، ولكن لما اتخذته الرافضة جعلنا التختم في اليسار، وأمثال ذلك كثير فانظر إلى من يغيّر الشريعة ويبدِّل الأحكام التي ورد بها النص عن النبي صلى الله عليه وسلم ويذهب إلى ضد الصواب معاندة لقوم معينين، فهل يجوز اتّباعه والمصير إلى أقواله؟).
والجواب من طريقتين: أحدهما: أن هذا الذي ذكره هو بالرافضة ألصق.
والثاني: أن أئمة السنة براء من هذا.(1/187)
أما الطريق الأول، فيقال: لا نعلم طائفة أعظم تعصبًا في الباطل من الرافضة، حتى إنهم دون سائر الطوائف عُرف منهم شهادة الزور لموافقهم على مخالفهم، وليس في التعصب أعظم من الكذب، وحتى أنهم في التعصب جعلوا للبنت جميع الميراث، ليقولوا: إن فاطمة رضي الله عنها ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم دون عمه العباس رضي الله عنه، وحتى أن فيهم من حرَّم لحم الجمل؛ لأن عائشة قاتلت على جمل، فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة والقرابة لأمر لا يناسب ذلك، فإن ذلك الجمل الذي ركبته عائشة رضي الله عنها مات، ولو فرض أنه حيّ فركوب الكفّار على الجمال لا يوجب تحريمها، وما زال الكفّار يركبون جمالا ويغنمها المسلمون منهم، ولحمها حلال لهم، فأي شيء في ركوب عائشة للجمل مما يوجب تحريم لحمه؟ وغاية ما يفرضون أن بعض من يجعلونه كافرًا ركب جملاً، مع أنهم كاذبون مفترون فيما يرمون به أم المؤمنين رضي الله عنها.
ومن تعصبهم: أنهم لا يذكرون اسم (العشرة) بل يقولون: تسعة وواحد، وإذا بنوا أعمدة أو غيرها لا يجعلونها عشرة، وهم يتحرُّون ذلك في كثير من أمورهم.
ومن تعصبهم: أنهم إذا وجدوا مسمّى بعليّ أو جعفر أو الحسن أو الحسين بادروا إلى إكرامه، مع أنه قد يكون فاسقًا، وقد يكون في الباطن سنيًا، فإن أهل السنة يسمُّون بهذه الأسماء، كل هذا من التعصب والجهل، ومن تعصبهم وجهلهم أنهم يُبغضون بني أمية كلهم لكون بعضهم كان ممن يبغض عليًّا.(1/188)
وقد كان في بني أمية قوم صالحون ماتوا قبل الفتنة، وكان بنو أمية أكثر القبائل عمَّالا للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما فتح مكة استعمل عليها عتّاب بن أسيد بن أبي العاصي بن أمية، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، وأخويه أَبان بن سعيد وسعيد بن سعيد على أعمال أُخر، واستعمل أبا سفيان بن حرب بن أمية على نجران أو ابنه يزيد، ومات وهو عليها، وصاهر نبي الله صلى الله عليه وسلم ببناته الثلاث لبني أمية، فزوّج أكبر بناته زينب بأبي العاص بن الربيع بن أمية بن عبد شمس، وحمد صهره لما أراد عليٌّ أن يتزوج ببنت أبي جهل، فذكر صهرًا له من بني أمية بن عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته، وقال: (حدثني فصدقني، ووعدني فوفَّى لي). وزوَّج ابنتيه لعثمان بن عفان، واحدة بعد واحدة، وقال: (لو كانت عندنا ثالثة لزوجناها عثمان).
وكذلك من جهلهم وتعصبهم أنهم يبغضون أهل الشام، لكونهم كان فيهم أولاً من يبغض عليًّا، ومعلوم أن مكة كان فيها كفّار ومؤمنون، وكذلك المدينة كان فيها مؤمنون ومنافقون، والشام في هذه الأعصار لم يبق فيه من يتظاهر ببغض عليّ، ولكن لفرط جهلهم يسحبون ذيل البغض، وكذلك من جهلهم أنهم يذمون من ينتفع بشيء من آثار بني أمية، كالشرب من نهر يزيد، ويزيد لم يحفره ولكن وسَّعه، وكالصلاة في جامع بناه بنو أمية، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي إلى الكعبة التي بناها المشركون، وكان يسكن في المساكن التي بنوها، وكان يشرب من ماء الآبار التي حفروها، ويلبس من الثياب التي نسجوها، ويعامل بالدراهم التي ضربوها، فإذا كان ينتفع بمساكنهم وملابسهم، والمياه التي أنبطوها، والمساجد التي بنوها، فكيف بأهل القبلة؟!
فلو فرض أن يزيد كان كافرًا وحفر نهرًا، لم يكره الشرب منه بإجماع المسلمين، ولكن لفرط تعصبهم كرهوا ما يضاف إلى من يبغضونه.(1/189)
ولقد حدثني ثقة أنه كان لرجل منهم كلب فدعاه آخر منهم: بكير، فقال صاحب الكلب: أتسمي كلبي بأسماء أصحاب النار؟ فاقتتلا على ذلك حتى جرى بينهما دم. فهل يكون أجهل من هؤلاء؟!
وأما الطريق الثاني في الجواب فنقول: الذي عليه أئمة الإسلام إن كان مشروعًا لم يُترك لمجرد فعل أهل البدع، لا الرافضة ولا غيرهم، وأصول الأئمة كلهم توافق هذا، منها مسألة التسطيح الذي ذكرها، فإن مذهب أبي حنيفة وأحمد أن تسنيم القبور أفضل، كما ثبت في الصحيح أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم كان مسنَّمًا، ولأن ذلك أبعد عن مشابهة أبنية الدنيا، وأمنع عن القعود على القبور، والشافعي يستحب التسطيح لما رُوي من الأمر بتسوية القبور، فرأى أن التسوية هي التسطيح، ثم إن بعض أصحابه قال: إن هذا شعار الرافضة فيُكره ذلك، فخالفه جمهور الأصحاب، وقالوا: بل هو المستحب وإن فعلته الرافضة.
وكذلك الجهر بالبسملة هو مذهب الرافضة، وبعض الناس تكلَّم في الشافعي بسببها، وبسبب القنوت، ونسبه إلى قول الرافضة والقدرية، لأن المعروف في العراق أن الجهر كان من شعار الرافضة، وأن القنوت في الفجر كان من شعار القدرية الرافضة، حتى أن سفيان الثوري وغيره من الأئمة يذكرون في عقائدهم ترك الجهر بالبسملة، لأنه كان عندهم من شعار الرافضة، كما يذكرون المسح على الخفين؛ لأن تركه كان من شعار الرافضة، ومع هذا فالشافعي لما رأى أن هذا هو السنة كان ذلك مذهبه وإن وافق قول الرافضة.
وكذلك إحرام أهل العراق من العقيق يستحب عنده، وإن كان ذلك مذهب الرافضة، ونظائر هذا كثيرة.(1/190)
(فصل)
قال الرافضي: (مع أنهم ابتدعوا أشياء، واعترفوا بأنها بدعة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فإن مصيرها النار). وقال صلى الله عليه وسلم: (من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو ردّ)، ولو ردوا عنها كرهته نفوسهم ونفرت قلوبهم، كذكر الخلفاء في خطبهم، مع أنه بالإجماع لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في زمن أحد من الصحابة والتابعين، ولا في زمن بني أمية، ولا في صدر ولاية العباسيين، بل شيء أحدثه المنصور لما وقع بينه وبين العلوية خلاف، فقال:والله لأرغمن أنفي وأنوفهم وأرفع عليهم بني تيم وعدي، وذكر الصحابة في خطبته، واستمرت هذه البدعة إلى هذا الزمان).
فيقال: الجواب من وجوه: أحدها: أن ذكر الخلفاء على المنبر كان على عهد عمر بن عبد العزيز، بل قد رُوي أنه كان على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
الوجه الثاني: أنه قيل: إن عمر بن عبد العزيز ذكر الخلفاء الأربعة لما كان بعض بني أمية يسبُّون عليًا، فعوَّض عن ذلك بذكر الخلفاء والترضّي عنهم، ليمحو تلك السنة الفاسدة.
الوجه الثالث: أن ما ذكره من إحداث المنصور وقصده بذلك باطل، فإن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما توليا الخلافة قبل المنصور وقبل بني أمية، فلم يكن في ذكر المنصور لهما إرغام لأنفه ولا لأنوف بني عليّ، إلا لو كان بعض بني تيْم أو بعض بني عدي ينازعهم الخلافة، ولم يكن أحد من هؤلاء ينازعهم فيها.(1/191)
الوجه الرابع: أن أهل السنة لا يقولون: إن ذكر الخلفاء الأربعة في الخطبة فرضٌ، بل يقولون: إن الاقتصار على عليّ وحده، أو ذكر الاثنى عشر هو البدعة المنكرة التي لم يفعلها أحد، لا من الصحابة ولا من التابعين، ولا من بني أمية، ولا من بني العباس، كما يقولون: إن سب عليّ أو غيره من السلف بدعة منكرة، فإن كان ذكر الخلفاء الأربعة بدعة، مع أن كثيرًا من الخلفاء فعلوا ذلك، فالاقتصار على عليّ، مع أنه لم يسبق إليه أحد من الأمة أوْلى أن يكون بدعة، وإن كان ذكر عليٍّ لكونه أمير المؤمنين مستحبًا، فذكر الأربعة الذين هم الخلفاء الراشدون أوْلى بالاستحباب، لكن الرافضة من المطففين: يرى أحدهم القَذَاة في عيون أهل السنة، ولا يرى الجذع المعترض في عينه.
ومن المعلوم أن الخلفاء الثلاثة اتفق عليهم المسلمون، وكان السيف في زمانهم مسلولاً على الكفار، مكفوفًا عن أهل الإسلام، وأما عليّ فلم يتفق المسلمون على مبايعته، بل وقعت الفتنة تلك المدة، وكان السيف في تلك المدة مكفوفا عن الكفار مسلولاً على أهل الإسلام، فاقتصار المقتصر على ذكر عليّ وحده دون من سبقه، هو ترك لذكر الأئمة وقت اجتماع المسلمين وانتصارهم على عدوهم، واقتصار على ذكر الإمام الذي كان إمامًا وقت افتراق المسلمين وطلب عدوهم لبلادهم.
(فصل)
قال الرافضي: (وكمسح الرجلين الذي نصّ الله تعالى عليه في كتابه العزيز، فقال: ((فاْغسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُم إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْن))[المائدة:6]، وقال ابن عباس: (عضوان مغسولان، وعضوان ممسوحان، فغيروه وأوجبوا الغسل).(1/192)
فيقال: الذين نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء قولاً وفعلاً، والذين تعلّموا الوضوء منه وتوضؤوا على عهده، وهو يراهم ويقرهم عليه ونقلوه إلى من بعدهم، أكثر عددًا من الذين نقلوا لفظ هذه الآية، فإن جميع المسلمين كانوا يتوضئون على عهده، ولم يتعلموا الوضوء إلا منه صلى الله عليه وسلم ؛ فإن هذا العمل لم يكن معهودًا عندهم في الجاهلية، وهم قد رأوه يتوضأ ما لا يحصى عدده إلا الله تعالى، ونقلوا عنه ذكر غسل الرجلين فيما شاء الله من الحديث، حتى نقلوا عنه من غير وجه في الصحاح وغيرها أنه قال: (ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار)، مع أن الفرض إذا كان مسح ظهر القدم، كان غسل الجميع كلفة لا تدعو إليها الطباع، كما تدعو الطباع إلى طلب الرياسة والمال، فإن جاز أن يقال: إنهم كذبوا وأخطئوا فيما نقلوه عنه من ذلك، كان الكذب والخطأ فيما نُقل من لفظ الآية أقرب إلى الجواز.
وإن قيل: بل لفظت الآية بالتواتر الذي لا يمكن الخطأ فيه، فثبوت التواتر في نقل الوضوء عنه أوْلى وأكمل، ولفظ الآية لا يخالف ما تواتر من السنَّة، فإن المسح جنس تحته نوعان: الإسالة، وغير الإسالة، كما تقول العرب: تمسَّحت للصلاة، فما كان بالإسالة فهو الغسل، وإذا خص أحد النوعين باسم الغسل فقد يخص النوع الآخر باسم المسح، فالمسح يُقال على المسح العام الذي يندرج فيه الغسل، ويُقال على الخاص الذي لا يندرج فيه الغسل.(1/193)
وفي القرآن ما يدل على أنه لم يُرد بمسح الرجلين المسح الذي هو قسيم الغسل، بل المسح الذي الغسل قسم منه ؛ فإنه قال: (إلى الكعبين) ولم يقل: إلى الكعاب، كما قال: (إلى المرافق)، فدل على أنه ليس في كل رجل كعب واحد، كما في كل يد مرفق واحد، بل في كل رجل كعبان، فيكون تعالى قد أمر بالمسح إلى العظمين الناتئين، وهذا هو الغسل، فإن من يمسح المسح الخاص يجعل المسح لظهور القدمين، وفي ذكره الغسل في العضوين الأوَّليْن والمسح في الآخرين، التنبيه على أن هذين العضوين يجب فيهما المسح العام، فتارة يُجزئ المسح الخاص، كما في مسح الرأس والعمامة والمسح على الخفين، وتارة لا بد من المسح الكامل الذي هو غسل، كما في الرجلين المكشوفتين.
وقد تواترت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين وبغسل الرجلين، والرافضة تخالف هذه السنة المتواترة، كما تخالف الخوارج نحو ذلك، مما يتوهمون أنه مخالف لظاهر القرآن، بل تواتر غسل الرجلين والمسح على الخفين عن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من تواتر قطع اليد في ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو عشرة دراهم، أو نحو ذلك.
وفي الجملة فالقرآن ليس فيه نفي إيجاب الغسل، بل فيه إيجاب المسح، فلو قدِّر أن السنة أوجبت قدرًا زائدًا على ما أوجبه القرآن لم يكن في هذا رفعًا لموجب القرآن، فكيف إذا فسَّرته وبيَّنت معناه؟ وهذا مبسوط في موضعه.(1/194)
(فصل)
قال الرافضي: (وكالمتعتين اللتين ورد بهما القرآن، فقال في متعة الحج: ((فمنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي))[البقرة:196] وتأسّف النبي صلى الله عليه وسلم على فواتها لما حجَّ قارنا، وقال: (لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لما سقت الهدي) وقال في متعة النساء: ((فما اْستَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَأْتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَة))[النساء:24] واستمرت فعلهما مدة زمان النبي صلى الله عليه وسلم ومدة خلافة أبي بكر، وبعض خلافة عمر، إلى أن صعد المنبر، وقال: (متعتان كانتا محللتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما).
والجواب أن يقال: أما متعة الحج فمتفق على جوازها بين أئمة المسلمين، ودعواه أن أهل السنة ابتدعوا تحريمها كذب عليهم، بل أكثر علماء السنة يستحبون المتعة ويرجّحونها أو يوجبونها، والمتعة اسم جامع لمن اعتمر في أشهر الحج وجمع بينها وبين الحج في سفر واحد، سواء حلّ من إحرامه بالعمرة ثم أحرم بالحج، أو أحرم بالحج قبل طوافه بالبيت وصار قارنًا، أو بعد طوافه بالبيت وبين الصفا والمروة قبل التحلل من إحرامه لكونه ساق الهدي أو مطلقًا. وقد يراد بالمتعة مجرد العمرة في أشهر الحج.
وأكثر العلماء كأحمد وغيره من فقهاء الحديث، وأبي حنيفة وغيره من فقهاء العراق، والشافعي في أحد قوْلَيه، وغيره من فقهاء مكة يستحبون المتعة.(1/195)
وأما متعة النساء المتنازع فيها فليس في الآية نصٌّ صريح بحلها، فإنه تعالى قال: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِين فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَة إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ))[النساء:24-25] الآية. فقوله: ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ))[النساء:24] يتناول كل من دخل بها من النساء، فإنه أمر بأن يعطى جميع الصداق، بخلاف المطلّقة قبل الدخول التي لم يستمتع بها فإنها لا تستحق إلا نصفه.
وهذا كقوله تعالى: ((وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا))[النساء:21] فجعل الإفضاء مع العقد موجبًا لاستقرار الصداق، يبيّن ذلك أنه ليس لتخصيص النكاح المؤقت بإعطاء الأجر فيه دون النكاح المؤبد معنى، بل إعطاء الصداق كاملاً في المؤبد أوْلى، فلا بد أن تدل الآية على المؤبد: إما بطريق التخصيص، وإما بطريق العموم.
يدل على ذلك أنه ذكر بعد هذا نكاح الإماء، فعُلم أن ما ذُكر كان في نكاح الحرائر مطلقًا، فإن قيل: ففي قراءة طائفة من السلف: ((فما اْستَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى))[النساء:24] قيل: أوّلا: ليست هذه القراءة متواترة، وغايتها أن تكون كأخبار الآحاد، ونحن لا ننكر أن المتعة أحلت في أوّل الإسلام، لكن الكلام في دلالة القرآن على ذلك.(1/196)
الثاني: أن يقال: هذا الحرف إن كان نزل، فلا ريب أنه ليس ثابتًا من القراءة المشهورة، فيكون منسوخًا، ويكون نزوله لما كانت المتعة مباحة، فلما حُرِّمت نسخ هذا الحرف، ويكون الأمر بالإيتاء في الوقت تنبيها على الإيتاء في النكاح المطلق، وغاية ما يقال: إنهما قراءتان، وكلاهما حق، والأمر بالإيتاء في الاستمتاع إلى أجل مسمَّى واجب إذا كان ذلك حلالاً، وإنما يكون ذلك إذا كان الاستمتاع إلى أجل مسمَّى حلالاً، وهذا كان في أول الإسلام، فليس في الآية ما يدل على أن الاستمتاع بها إلى أجل مسمَّى حلال، فإنه لم يقل: وأحل لكم أن تستمتعوا بهن إلى أجل مسمَّى، بل قال: ((فما اْستَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ))[النساء:24] فهذا يتناول ما وقع من الاستمتاع: سواء كان حلالاً، أو كان في وطء شبهة.
ولهذا يجب المهر في النكاح الفاسد بالسنة والاتفاق، والمتمتع إذا اعتقد حلّ المتعة وفَعَلَها فعليه المهر، وأما الاستمتاع المحرّم فلم تتناوله الآية؛ فإنه لو استمتع بالمرأة من غير عقد مع مطاوعتها، لكان زنًا، ولا مهر فيه، وإن كانت مستكرهة، ففيه نزاع مشهور.(1/197)
وأما ما ذكره من نهي عمر عن متعة النساء، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرَّم متعة النساء بعد الإحلال. هكذا رواه الثقات في الصحيحين وغيرهما عن الزهري عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما محمد بن الحنفية، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال لابن عباس رضي الله عنه لما أباح المتعة: إنك امرؤ تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرَّم المتعة ولحوم الحمر الأهلية عام خيبر(1) رواه عن الزهري أعلم أهل زمانه بالسنة وأحفظهم لها، أئمة الإسلام في زمنهم، مثل: مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة وغيرهما، ممن اتفق المسلمون على علمهم وعدلهم وحفظهم، ولم يختلف أهل العلم بالحديث في أن هذا حديث صحيح متلقى بالقبول، ليس في أهل العلم من طعن فيه.
وكذلك ثبت في الصحيح أنه حرَّمها في غزاة الفتح إلى يوم القيامة(2)، وقد تنازع رواة حديث عليّ رضي الله عنه: هل قوله: (عام خيبر) توقيت لتحريم الحُمُر فقط أو له ولتحريم المتعة؟ فالأول قول ابن عيينة وغيره، قالوا: إنما حرّمت عام الفتح، ومن قال بالآخر قال: إنها حرّمت ثم أحلّت ثم حرّمت، وادعت طائفة ثالثة أنها أحلّت بعد ذلك، ثم حرّمت في حجة الوداع.
__________
(1) انظر: البخاري (7/12) ومسلم (2/1027).
(2) انظر: صحيح مسلم (2/1026).(1/198)
فالروايات المستفيضة المتواترة متواطئة على أنه حرّم المتعة بعد إحلالها، والصواب أنها بعد أن حرّمت لم تُحل، وأنها إنما حرّمت عام فتح مكة ولم تُحل بعد ذلك، ولم تحرّم عام خيبر، بل عام خيبر حرّمت لحوم الحُمُر الأهلية، وكان ابن عباس يبيح المتعة ولحوم الحُمُر فأنكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه ذلك عليه، وقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم متعة النساء وحرّم لحوم الحمر يوم خيبر، فقرن عليّ رضي الله عنه بينهما في الذكر لما روى ذلك لابن عباس رضي الله عنهما؛ لأن ابن عباس كان يبيحهما، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه رجع عن ذلك لما بلغه حديث النهي عنهما.
فأهل السنة اتبعوا عليًا وغيره من الخلفاء الراشدين فيما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والشيعة خالفوا عليًّا فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، واتبعوا قول من خالفه.
وأيضًا: فإن الله تعالى إنما أباح في كتابه الزوجة وملك اليمين، والمتمتع بها ليست واحدة منهما، فإنها لو كانت زوجة لتوارثا، ولوجبت عليها عدة الوفاة، ولحقها الطلاق الثلاث ؛ فإن هذه أحكام الزوجة في كتاب الله تعالى، فلما انتفى عنها لوازم النكاح دل على انتفاء النكاح، فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، والله تعالى إنما أباح في كتابه الأزواج وملك اليمين، وحرَّم ما زاد على ذلك بقوله تعالى: ((وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُون))[المؤمنون:5-7].(1/199)
والمستمتع بها بعد التحريم ليست زوجة ولا ملك يمين، فتكون حرامًا بنص القرآن، أما كونها ليست مملوكة فظاهر، وأما كونها ليست زوجة فلانتفاء لوازم النكاح فيها، فإن من لوازم النكاح كونه سببًا للتوارث وثبوت عدة الوفاة فيه، والطلاق الثلاث، وتنصيف المهر بالطلاق قبل الدخول، وغير ذلك من اللوازم.
(فصل)
قال الرافضي: (ومنع أبو بكر فاطمة إرثها فقالت: يا ابن أبي قحافة، أترث أباك ولا أرث أبي؟ والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها -وكان هو الغريم لها لأن الصدقة تحل ّله- لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نُورث، ما تركناه صدقة) على أن ما رووه عنه فالقرآن يخالف ذلك، لأن الله تعالى قال: ((يوصيكمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَينْ))[النساء:11]. ولم يجعل الله ذلك خاصًا بالأمة دونه صلى الله عليه وسلم، وكذّب روايتهم، فقال تعالى: ((وَوَرِثَ سُلَيْمَانَ دَاوُد))[النمل:16] وقال تعالى عن زكريا: ((وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَّدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوب))[مريم:5-6]).
والجواب عن ذلك من وجوه: أحدها: أن ما ذكر من قول فاطمة رضي الله عنها: أترث أباك ولا أرث أبي؟ لا يُعلم صحته عنها، وإن صح فليس فيه حجة، لأن أباها صلوات الله وسلامه عليه لا يُقاس بأحد من البشر، وليس أبو بكر أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم كأبيها، ولا هو ممن حرَّم الله عليه صدقة الفرض والتطوع كأبيها، ولا هو أيضًا ممن جعل الله محبته مقدمة على محبة الأهل والمال، كما جعل أباها كذلك.(1/200)
والفرق بين الأنبياء وغيرهم أن الله تعالى صان الأنبياء على أن يورَّثوا دنيًا، لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وخلفوها لورثتهم، وأما أبو بكر الصديق وأمثاله فلا نبوة لهم يُقدح فيها بمثل ذلك، كما صان الله تعالى نبينا عن الخط والشعر صيانة لنبوّته عن الشبهة، وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة.
الثاني: أن قوله: (والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها) كذب ؛ فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نُورَثُ، ما تركنا فهو صدقة) رواه عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة، والرواية عن هؤلاء ثابتة في الصحاح والمسانيد، مشهورة يعلمها أهل العلم بالحديث(1)، فقول القائل: إن أبا بكر انفرد بالرواية، يدل على فرط جهله أو تعمده الكذب.
الثالث: قوله: (وكان هو الغريم لها) كذب، فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يدع هذا المال لنفسه ولا لأهل بيته، وإنما هو صدقة لمستحقيها كما أن المسجد حق للمسلمين.
الرابع: أن الصديق رضي الله عنه لم يكن من أهل هذه الصدقة، بل كان مستغنيًا عنها، ولا انتفع هو ولا أحد من أهله بهذه الصدقة؛ فهو كما لو شهد قوم من الأغنياء على رجل أنه وصّى بصدقة للفقراء ؛ فإن هذه شهادة مقبولة بالاتفاق.
الخامس: أن هذا لو كان فيه ما يعود نفعه على الراوي له من الصحابة لقُبلت روايته؛ لأنه من باب الرواية لا من باب الشهادة، والمحدِّث إذا حدَّث بحديث في حكومة بينه وبين خصمه قُبلت روايته للحديث، لأن الرواية تتضمن حكمًا عامًا يدخل فيه الراوي وغيره، وهذا من باب الخبر، كالشهادة برؤية الهلال ؛ فإن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم يتناول الراوي وغيره، وكذلك ما نهى عنه، وكذلك ما أباحه.
__________
(1) انظر: البخاري: (4/79)، ومسلم: (3/1376).)(1/201)
وهذا الحديث تضمَّن رواية بحكم شرعي، ولهذا تضمن تحريم الميراث على ابنة أبي بكر عائشة رضي الله عنها، وتضمن تحريم شرائه لهذا الميراث من الورثة واتّهابه لذلك منهم، وتضمن وجوب صرف هذا المال في مصارف الصدقة.
السادس: أن قوله: (على أن ما رووه فالقرآن يخالف ذلك، لأن الله تعالى قال: ((يوصيكمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلَّذَكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن))[النساء:11] ولم يجعل الله ذلك خاصًا بالأُمَّة دونه صلى الله عليه وسلم).
فيقال: أولاً: ليس في عموم لفظ الآية ما يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم يورث، فإن الله تعالى قال: ((يوصيكمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلَّذَكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَك وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كاَنَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُدُس))[النساء:11] وفي الآية الأخرى: ((وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لمَ ْيَكُن لَهُنَّ وَلَد فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْن)) -إلى قوله- ((منْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غيرَ مُضَارٍّ))[النساء:12].
وهذا الخطاب شامل للمقصودين بالخطاب وليس فيه ما يوجب أن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب بها.
الوجه السابع: أن يقال: كون النبي صلى الله عليه وسلم لا يُورث، ثبت بالسنة المقطوع بها وبإجماع الصحابة وكل منهما دليل قطعي، فلا يُعارض ذلك بما يُظن أنه العموم، وإن كان عمومًا فهو مخصوص، لأن ذلك لو كان دليلاً لما كان إلا ظنيًا، فلا يعارض القطعي ؛ إذ الظنى لا يعارض القطعي.(1/202)
وذلك أن هذا الخبر رواه غير واحد من الصحابة في أوقات ومجالس، وليس فيهم من ينكره، بل كلهم تلقّاه بالقبول والتصديق، ولهذا لم يُصرّ أحد من أزواجه على طلب الميراث، ولا أصرّ العم على طلب الميراث، بل من طلب من ذلك شيئا فأخبر بقول النبي صلى الله عليه وسلم رجع عن طلبه، واستمر الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين إلى عليّ، فلم يغير شيئا من ذلك ولا قسم له تركة.
الوجه الثامن: أن يقال: إن أبا بكر وعمر قد أعطيا عليّا وأولاده من المال أضعاف أضعاف ما خلّفه النبي صلى الله عليه وسلم من المال، والمال الذي خلّفه النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتفع واحد منهما منه بشيء، بل سلَّمه عمر إلى علي والعباس رضي الله عنهم يليانه ويفعلان فيه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، وهذا مما يوجب انتفاء التهمة عنهما في ذلك.
الوجه التاسع: أن قوله تعالى: ((وَوَرِثَ سُلَيْمَانَ دَاوُد))[النمل:16] وقوله تعالىعن زكريا: ((فهبْ لِي مِنْ لَّدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوب))[مريم:5-6] لا يدل على محل النزاع؛ لأن الإرث اسم جنس تحته أنواع، والدال على ما به الاشتراك لا يدل على ما به الامتياز، فإذا قيل: هذا حيوان، لا يدل على أنه إنسان أو فرس أو بعير.
وذلك أن لفظ: (الإرث) يُستعمل في إرث العلم والنبوة والملك وغير ذلك من أنواع الانتقال، قال تعالى: ((ثمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا))[فاطر:32].
وقال تعالى: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هَمْ فِيهَا خَالِدُون))[المؤمنون:10-11] وغيرها كثير في القرآن.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) رواه أبو داود وغيره(1).
__________
(1) انظر: سنن أبي داود: (3/432)، والترمذي: (4/153) وغيرها.(1/203)
الوجه العاشر: أن يقال: المراد بهذا الإرث إرث العلم والنبوة ونحو ذلك لا إرث المال؛ وذلك لأنه قال: ((وَوَرِثَ سُلَيْمَانَ دَاوُد))[النمل:16]، ومعلوم أن داود كان له أولاد كثيرون غير سليمان، فلا يختص سليمان بماله.
وأيضًا: فليس في كونه ورث ماله صفة مدح، لا لداود ولا لسليمان، فإن اليهودي والنصراني يرث ابنه ماله، والآية سيقت في بيان المدح لسليمان، وما خصه الله به من النعمة.
وأيضًا: فإرث المال هو من الأمور العادية المشتركة بين الناس، كالأكل، والشرب، ودفن الميت، ومثل هذا لا يُقصُّ عن الأنبياء إذ لا فائدة فيه، وإنما يُقصُّ ما فيه عبرة وفائدة تستفاد، وإلا فقول القائل: (مات فلان وورث ابنُه ماله) مثل قوله: (ودفنوه) ومثل قوله: (أكلوا وشربوا وناموا) ونحو ذلك مما لا يحسن أن يُجعل من قصص القرآن.(1/204)
(فصل)
قال الرافضي: (ولما ذكرت فاطمة أن أباها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبها فدَك، قال لها: هات أسود أو أحمر يشهد لك بذلك، فجاءت بأم أيمن، فشهدت لها بذلك، فقال: امرأة لا يقبل قولها، وقد رووا جميعًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أم أيمن امرأة من أهل الجنة، فجاء أمير المؤمنين فشهد لها بذلك، فقال: هذا بعلك يجرّه إلى نفسه ولا نحكم بشهادته لك، وقد رووا جميعًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عليٌّ مع الحق، والحق معه يدور معه حيث دار لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فغضبت فاطمة عليها السلام عند ذلك وانصرفت، وحلفت أن لا تكلمه ولا صاحبه حتى تلقى أباها وتشكو إليه، فلما حضرتها الوفاة أوصت عليًّا أن يدفنها ليلاً ولا يدع أحدًا منهم يصلِّي عليها، وقد رووا جميعًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا فاطمة، إن الله تعالى يغضب لغضبك ويرضى لرضاك) ورووا جميعًا أنه قال: (فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله). ولو كان هذا الخبر صحيحًا حقًا لما جاز له ترك البغلة التي خلفها النبي صلى الله عليه وسلم وسيفه وعمامته عند أمير المؤمنين عليّ، ولما حكم له بها لما ادّعاها العباس، ولكان أهل البيت الذين طهّرهم الله في كتابه من الرجس مرتكبين ما لا يجوز؛ لأن الصدقة عليهم محرّمة، وبعد ذلك جاء إليه مال البحرين وعنده جابر بن عبد الله الأنصاري، فقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لي: إذا أتى مال البحرين حثوث لك، ثم حثوت لك، ثلاثًا، فقال له: تقدم فخذ بعددها، فأخذ من بيت مال المسلمين من غير بيِّنة بل بمجرد قوله).
والجواب: أن في هذا الكلام من الكذب والبهتان والكلام الفاسد ما لا يكاد يحصى إلا بكلفة، ولكن سنذكر من ذلك وجوهًا إن شاء الله تعالى.(1/205)
أحدها: أن ما ذكر من ادّعاء فاطمة رضي الله عنها فدك فإن هذا يناقض كونها ميراثًا لها، فإن كان طلبها بطريق الإرث امتنع أن يكون بطريق الهبة، وإن كان بطريق الهبة امتنع أن يكون بطريق الإرث، ثم إن كانت هذه هبة في مرض الموت، فرسول الله صلى الله عليه وسلم منزّه، إن كان يُورث كما يورث غيره، أن يوصي لوارث أو يخصه في مرض موته بأكثر من حقه، وإن كان في صحته فلا بد أن تكون هذه هبة مقبوضة، وإلا فإذا وهب الواهب بكلامه ولم يقبض الموهوب شيئًا حتى مات الواهب كان ذلك باطلاً عند جماهير العلماء، فكيف يهب النبي صلى الله عليه وسلم فَدَك لفاطمة ولا يكون هذا أمرًا معروفًا عند أهل بيته والمسلمين، حتى تختص بمعرفته أم أيمن أو علي رضي الله عنهما؟
الوجه الثاني: أن ادعاء فاطمة ذلك كذب على فاطمة، وقد قال الإمام أبو العباس ابن سريج في الكتاب الذي صنَّفه في الرد على عيسى بن أبان لما تكلَّم معه في باب اليمين والشاهد، واحتجّ بما احتجّ، وأجاب عمَّا عارض به عيسى بن أبان، قال: وأما حديث البحتري بن حسَّان عن زيد بن علي أن فاطمة ذكرت لأبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها فَدَك، وأنها جاءت برجل وامرأة، فقال: رجل مع رجل، وامرأة مع امرأة، فسبحان الله ما أعجب هذا! قد سألت فاطمة أبا بكر ميراثها وأخبرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا نُورث، وما حكى في شيء من الأحاديث أن فاطمة ادّعتها بغير الميراث، ولا أن أحدًا شهد بذلك.
ولقد روى جرير عن مغيرة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في فَدَك: (إن فاطمة سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلها لها فأبى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفق منها ويعود على ضَعَفَة بني هاشم ويزوّج منه أيِّمِهم، وكانت كذلك حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر صدقة وقبلت فاطمة الحق، وإني أُشهدكم أني رددتها إلى ما كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم).(1/206)
ولم يُسمع أن فاطمة رضي الله عنها ادّعت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها إياها في حديث ثابت متصل، ولا أن شاهدًا شهد لها، ولو كان ذلك لحُكي، لأنها خصومة وأمر ظاهر تنازعت فيه الأمة وتحادثت فيه، فلم يقل أحد من المسلمين: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها فاطمة ولا سمعت فاطمة، تدّعيها حتى جاء البحتري بن حسّان يحكى عن زيد شيئًا لا ندري ما أصله، ولا من جاء به، وليس من أحاديث أهل العلم: فضل بن مرزوق عن البحتري عن زيد، وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يكف عن بعض هذا الذي لا معنى له، وكان الحديث قد حسن بقول زيد: لو كنت أنا لقضيت بما قضى به أبو بكر، وهذا مما لا يثبت على أبي بكر ولا على فاطمة لو لم يخالفه أحد، ولو لم تجر فيه المناظرة ويأتي فيها الرواية، فكيف وقد جاءت؟ وأصل المذهب أن الحديث إذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال أبو بكر بخلافه، إن هذا من أبي بكر رحمه الله كنحو ما كان منه في الجدّة، وأنه متى بلغه الخبر رجع إليه.
ولو ثبت هذا الحديث لم يكن فيه حجة، لأن فاطمة لم تقل: إني أحلف مع شاهدي فمنعت. ولم يقل أبو بكر: إني لا أرى اليمين مع الشاهد.
قالوا: وهذا الحديث غلط؛ لأن أسامة بن زيد يروى عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحَدَثان قال: كان مما احتج به عمر أن قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا: بنو النضير، وخيبر وفدك. فأما بنو النضير فكانت حُبسًا لنوائبه. وأما فَدَك فكانت حُبُسًا لأبناء السبيل، وأما خيبر فجزَّأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء: جزئين بين المسلمين، وجزءًا نفقة لأهله، فما فَضَلَ عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين جزئين.(1/207)
وروى الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث ما تركنا صدقة)، وإنما يأكل آل محمد من هذا المال، وإنى والله لا أغير شيئًا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً(1).
وقد روى عن أنس أن أبا بكر قال لفاطمة وقد قرأت عليه: إني أقرأ مثل ما قرأت، ولا يبلغن علمي أن يكون قاله كله، قالت فاطمة: هو لك ولقرابتك؟ قال: لا وأنت عندي مصدَّقة أمينة، فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليك في هذا، أو وعدك فيه موعدًا أو أوجبه لكم حقًّا صدَّقتك. فقالت:لاغيرأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أنزل عليه: (أبشروا يا آل محمد، وقد جاءكم الله عز وجل بالغنى). قال أبو بكر: صدق الله ورسوله وصدقتِ، فلكم الفيء، ولم يبلغ علمي بتأويل هذه أن أستلم هذا السهم كله كاملاً إليكم، ولكن الفيء الذي يسعكم، وهذا يبيِّن أن أبا بكر كان يقبل قولها، فكيف يرده ومعه شاهد وامرأة؟ ولكنه يتعلق بشيء يجده.
الوجه الثالث: أن يقال: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم يُورث، فالخصم في ذلك أزواجه وعمه، ولا تُقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفاق المسلمين، وإن كان لا يُورث فالخصم في ذلك المسلمون، فكذلك لا يقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد باتفاق المسلمين، ولا رجل وامرأة.
__________
(1) انظر: البخاري (5/20) ومسلم (3/1381-1382).(1/208)
نعم، يُحكم في مثل ذلك بشهادة ويمين الطالب عند فقهاء الحجاز وفقهاء أصحاب الحديث، وشهادة الزوج لزوجته فيها قولان مشهوران للعلماء، هما روايتان عن أحمد: إحداهما: لا تُقبل، وهي مذهب أبي حنيفة ومالك والليث بن سعد والأوزاعي وإسحاق وغيرهم.
والثانية: تُقبل، وهي مذهب الإمام الشافعي وأبي ثور وابن المنذر وغيرهم، فعلى هذا لو قدِّر صحة هذه القصة لم يجز للإمام أن يحكم بشهادة رجل واحد لا امرأة واحدة باتفاق المسلمين، لا سيما وأكثرهم لا يجيزون شهادة الزوج، ومن هؤلاء من لا يحكم بشاهد ويمين، ومن يحكم بشاهد ويمين لم يحكم للطالب حتى يحلّفه.
الوجه الرابع: قوله: فجاءت بأم أيمن فشهدت لها بذلك، فقال: امرأة لا يُقبل قولها، وقد رووا جميعًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أم أيمن امرأة من أهل الجنة).
الجواب: أن هذا احتجاج جاهل مفرط في الجهل يريد أن يحتج لنفسه فيحتج عليها، فإن هذا القول لو قاله الحجّاج بن يوسف والمختار بن أبي عبيد وأمثالهما لكان قد قال حقًّا، فإن امرأة واحدة لا يُقبل قولها في الحكم بالمال لمدعٍ يريد أن يأخذ ما هو في الظاهر لغيره، فكيف إذا حُكي مثل هذا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه؟!
وأما الحديث الذي ذكره وزعم أنهم رووه جميعًا، فهذا الخبر لا يعرف في شيء من دواوين الإسلام ولا يُعرف عالم من علماء الحديث رواه، وأم أيمن هي أم أسامة بن زيد، وهي حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من المهاجرات، ولها حق وحرمة، لكن الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تكون بالكذب عليه وعلى أهل العلم، وقول القائل: (رووا جميعًا) لا يكون إلا في خبر متواتر، فمن ينكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يُورث، وقد رواه أكابر الصحابة، ويقول: إنهم جميعًا رووا هذا الحديث، إنما يكون من أجهل الناس وأعظمهم جحدًا للحق.(1/209)
الوجه الخامس: قوله: (إن عليًّا شهد لها فردّ شهادته لكونه زوجها) فهذا مع أنه كذب لو صح ليس يقدح، إذ كانت شهادة الزوج مردودة عند أكثر العلماء، ومن قبلها منهم لم يقبلها حتى يتم النصاب إما برجل آخر وإما بامرأة مع امرأة، وأما الحكم بشهادة رجل وامرأة مع عدم يمين المدّعي فهذا لا يسوغ.
الوجه السادس: قوله: إنهم رووا جميعًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عليّ مع الحق، والحق معه يدور حيث دار، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض) من أعظم الكلام كذبًا وجهلاً، فإن هذا الحديث لم يروه أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا بإسناد صحيح ولا ضعيف. فكيف يقال: إنهم جميعا رووا هذا الحديث؟ وهل يكون أكذب ممن يروى عن الصحابة والعلماء أنهم رووا حديثًا، والحديث لا يُعرف عن واحد منهم أصلاً؟ بل هذا من أظهر الكذب، ولو قيل: رواه بعضهم، وكان يمكن صحته لكان ممكنًا، فكيف وهو كذب قطعًا على النبي صلى الله عليه وسلم؟!
بخلاف إخباره أن أم أيمن في الجنة، فهذا يمكن أنه قاله، فإن أم أيمن امرأة صالحة من المهاجرات، فإخباره أنها في الجنة لا يُنكر، بخلاف قوله عن رجل من أصحابه أنه مع الحق وأن الحق يدور معه حيثما دار، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ؛ فإنه كلام ينزَّه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما أولاً: فلأن الحوض إنما يَرِدُه عليه أشخاص، كما قال للأنصار: (اصبروا حتى تلقوني على الحوض)(1)، وقال: (إن حوضي لأبعد ما بين أيلة إلى عدن، وإن أول الناس ورودًا فقراء المهاجرين الشعث رءوسًا الدنس ثيابًا الذين لا ينكحون المتنعّمات ولا تفتح لهم أبواب السدد، يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يجد لها قضاء) رواه مسلم وغيره(2).
__________
(1) انظر: البخاري: (5/33)، ومسلم: (3/1474).
(2) مسلم: باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء (1/247ص217).(1/210)
وأما الحق فليس من الأشخاص الذين يردون الحوض، وقد روي أنه قال: (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتى أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض). فهو من هذا النمط، وفيه كلام يذكر في موضعه إن شاء الله.
الوجه السابع: أن ما ذكره عن فاطمة أمر لا يليق بها، ولا يحتج بذلك إلا رجل جاهلٍ يحسب أنه يمدحها وهو يجرحها ؛ فإنه ليس فيما ذكره ما يوجب الغضب عليه، إذ لم يحكم –لو كان ذلك صحيحا – إلا بالحق الذي لا يحل لمسلم أن يحكم بخلافه، ومن طلب أن يُحكم له بغير حكم الله ورسوله فغضب وحلف أن لا يكلِّم الحاكم ولا صاحب الحاكم، لم يكن هذا مما يُحْمد عليه ولا مما يذم به الحاكم، بل هذا إلى أن يكون جرحًا أقرب منه إلى أن يكون مدحًا، ونحن نعلم أن ما يحكى عن فاطمة وغيرها من الصحابة من القوادح كثير منها كذب وبعضها كانوا فيه متأولين، وإذا كان بعضها ذنبًا فليس القوم معصومين، بل هم مع كونهم أولياء الله ومن أهل الجنة لهم ذنوب يغفرها الله لهم.
وكذلك ما ذكره من إيصائها أن تُدفن ليلاً ولا يُصلِّى عليها أحد منهم، لا يحكيه عن فاطمة ويحتج به إلا رجلٌ جاهل يطرق على فاطمة ما لا يليق بها، وهذا لو صح لكان بالذنب المغفور أوْلى منه بالسعي المشكور، فإن صلاة المسلم على غيره زيادة خير تصل إليه، ولا يضر أفضل الخلق أن يصلِّي عليه شر الخلق، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى عليه ويسلم عليه الأبرار والفجار بل والمنافقون، وهذا إن لم ينفعه لم يضره، وهو يعلم أن في أمته منافقين، ولم ينه أحد من أمته عن الصلاة عليه.(1/211)
وأما قوله: (ورووا جميعًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا فاطمة، إن الله يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك) فهذا كذب منه، ما رووا هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُعرف هذا في شيء من كتب الحديث المعروفة، ولا له إسناد معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا صحيح ولا حسن، ونحن إذا شهدنا لفاطمة بالجنة، وبأن الله يرضى عنها، فنحن لأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير وسعيد وعبد الرحمن بن عوف بذلك نشهد، ونشهد بأن الله تعالى أخبر برضاه عنهم في غير موضع، كقوله تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رضي الله عنهمْ وَرَضُوا عَنْه))[التوبة:100]، وقوله تعالى: ((لقدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة))[التوبة:100] وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم توفى و هو عنهم راض، ومن رضى الله عنه ورسوله لا يضره غضب أحد من الخلق عليه كائنا من كان.
وأما قوله: (رووا جميعًا أن فاطمة بضعة مني من آذاها آذاني، ومن آذاني آذى الله) فإن هذا الحديث لم يرو بهذا اللفظ، بل روى بغيره، كما روي في سياق حديث خطبة عليّ لابنة أبي جهل، لما قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا، فقال: (إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم عليّ بن أبي طالب، وإني لا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم).
الوجه الثامن: أن قوله: (لو كان هذا الخبر صحيحًا حقًا لما جاز له ترك البغلة والسيف و العمامة عند عليّ والحكم له بها لما ادّعاها العباس).(1/212)
فيقال: ومن نقل أن أبا بكر وعمر حكما بذلك لأحد، أو تركا ذلك عند أحد على أن ذلك ملك له، فهذا من أبْيَن الكذب عليهما، بل غاية ما في هذا أن يُترك عند من يُترك عنده، كما ترك صدقته عند عليّ والعباس ليصرفاها في مصارفها الشرعية.
وأما قوله: (ولكان أهل البيت الذين طهّرهم الله في كتابه مرتكبين ما لا يجوز).
فيقال له: أولاً: إن الله تعالى لم يخبر أنه طهّر جميع أهل البيت وأذهب عنهم الرجس، فإن هذا كذب على الله. كيف ونحن نعلم أن في بني هاشم من ليس بمطهّر من الذنوب، ولا أذهب عنهم الرجس، لا سيما عند الرافضة، فإن عندهم كل من كان من بني هاشم يحب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فليس بمطهِّر، والآية إنما قال فيها: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ)) وقد تقدم أن هذا مثل قوله: ((ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون))[المائدة:6] وقوله: ((يرِيدُ اللهُ ِليُبَين لَكُم وَيَهْدِيَكُم سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيْكُم))[النساء:26]، ونحو ذلك مما فيه بيان أن الله يحب ذلك لكم، ويرضاه لكم، ويأمركم به، فمن فعلة حصل له هذا المراد المحبوب المرضي، ومن لم يفعله لم يحصل له ذلك.
وأما قوله: (لأن الصدقة محرمة عليهم).(1/213)
فيقال له: أولاً المحرم عليهم صدقة الفرض، وأما صدقات التطوع فقد كانوا يشربون من المياه المسبّلة بين مكة والمدينة، ويقولون: إنما حرّم علينا الفرض، ولم يحَرّم علينا التطوع، وإذا جاز أن ينتفعوا بصدقات الأجانب التي هي تطوع، فانتفاعهم بصدقة النبي صلى الله عليه وسلم أولى وأحرى؛ فإن هذه الأموال لم تكن زكاة مفروضة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أوساخ الناس التي حرّمت عليهم، وإنما هي من الفيء الذي أفاءه الله على رسوله، والفيء حلال لهم، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل ما جعله الله له من الفيء صدقة، إذ غايته أن يكون ملكًا للنبي صلى الله عليه وسلم تصدّق به على المسلمين، وأهل بيته أحق بصدقته ؛ فإن الصدقة على المسلمين صدقة، والصدقة على القرابة صدقة وصلة.
الوجه التاسع: في معارضته بحديث جابر رضي الله عنه، فيقال: جابر لم يدّع حقًا لغيره يُنتزع من ذلك الغير ويُجعل له، وإنما طلب شيئا من بيت المال يجوز للإمام أن يعطيه إياه، ولو لم يعده به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وعده به كان أوْلى بالجواز، فلهذا لم يفتقر إلى بيِّنة.
أما قصة فاطمة رضي الله عنها فما ذكروه من دعواها الهبة والشهادة المذكورة ونحو ذلك، لو كان صحيحًا لكان بالقدح فيمن يحتجون له أشبه منه بالمدح.
(فصل)
قال الرافضي: (وقد روى عن الجماعة كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق أبي ذر: (ما أقلَّت الغبراء، ولا أظلَّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر)، ولم يسمُّوه صدِّيقًا، وسموا أبا بكر بذلك مع أنه لم يرد مثل ذلك في حقه).(1/214)
فيقال: هذا الحديث لم يروه الجماعة كلهم، ولا هو في الصحيحين، ولا هو في السنن، بل هو مروي في الجملة، وبتقدير صحته و ثبوته فمن المعلوم أن هذا الحديث لم يرد به أن أبا ذر أصدق من جميع الخلق، فإن هذا يلزم منه أن يكون أصدق من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن سائر النبيين، ومن عليّ بن أبي طالب، وهذا خلاف إجماع المسلمين كلهم من السنة والشيعة، فعُلم أن هذه الكلمة معناها أن أبا ذر صادق، ليس غيره أكثر تحرّيا للصدق منه، و لا يلزم إذا كان بمنزلة غيره في تحرّي الصدق أن يكون بمنزلته في كثرة الصدق والتصديق بالحق، وفي عظم الحق الذي صَدَقَ فيه وصدّق به. وذلك أنه يقال: فلان صادق اللهجة إذا تحرّى الصدق، وإن كان قليل العلم بما جاءت به الأنبياء، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: ما أقلت الغبراء أعظم تصديقًا من أبي ذر. بل قال: أصدق لهجة، والمدح للصدّيق الذي صدَّق الأنبياء ليس بمجرد كونه صادقًا، بل في كونه مصدِّقًا للأنبياء، وتصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم هو صدق خاص، فالمدح بهذا التصديق -الذي هو صدق خاص- نوع، والمدح بنفس كونه صادقًا نوع آخر، فكل صدّيق صادق، وليس كل صادق صدِّيقًا.
(فصل)
قال الرافضي: (وسمّوه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستخلفه في حياته ولا بعد وفاته عندهم، ولم يسمّوا أمير المؤمنين خليفة رسول الله مع أنه استخلف في عدة مواطن، منها: أنه استخلفه على المدينة المنورة في غزوة تبوك، وقال له: إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي.
وأمّر أسامة بن زيد على الجيش الذين فيهم أبو بكر وعمر، ومات ولم يعزله، ولم يسمّوه خليفة، ولما تولى أبو بكر غضب أسامة، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّرني عليك، فمن استخلفك عليّ؟ فمشى إليه هو وعمر حتى استرضياه، وكانا يسمّيانه مدة حياته أميرًا).(1/215)
والجواب من وجوه: أحدها: أن الخليفة إما أن يكون معناه: الذي يخلف غيره وإن كان لم يستخلفه، كما هو المعروف في اللغة، وهو قول الجمهور، وإما أن يكون معناه: من استخلفه غيره، كما قاله طائفة من أهل الظاهر والشيعة ونحوهم، فإن كان هو الأوّل ؛ فأبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خلفه بعد موته، ولم يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد بعد موته إلا أبو بكر، فكان هو الخليفة دون غيره ضرورة، فإن الشيعة وغيرهم لا ينازعون في أنه هو الذي صار وليّ الأمر بعده، وصار خليفة له يصلّي بالمسلمين، ويقيم فيهم الحدود، ويقسم بينهم الفيء، ويغزو بهم العدو، ويولِّي عليهم العمال والأمراء، وغير ذلك من الأمور التي يفعلها ولاة الأمور.
فهذه باتفاق الناس إنما باشرها بعد موته أبو بكر، فكان هو الخليفة للرسول صلى الله عليه وسلم فيها قطعًا. لكن أهل السنة يقولون: خلفه وكان هو أحق بخلافته، والشيعة يقولون: عليّ كان هو الأحق؛ لكن تصح خلافة أبي بكر، ويقولون: ما كان يحلّ له أن يصير هو خليفة، لكن لا ينازعون في أنه صار خليفة بالفعل، وهو مستحق لهذا الاسم، إذ كان الخليفة من خَلَفَ غيره على كل تقدير.
وأما إن قيل: إن الخليفة من استخلفه غيره، كما قاله بعض أهل السنة وبعض الشيعة، فمن قال هذا من أهل السنة فإنه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر إما بالنص الجليّ، كما قال بعضهم، وإما بالنص الخفيّ. كما أن الشيعة القائلين بالنص على عليّ منهم من يقول بالنص الجليّ، كما تقوله الإمامية، ومنهم من يقول بالنص الخفيّ، كما تقوله الجارودية من الزيدية، ودعوى أولئك للنص الجليّ أو الخفيّ على أبي بكر أقوى وأظهر بكثير من دعوى هؤلاء للنص على عليّ، لكثرة النصوص الدالّة على ثبوت خلافة أبي بكر، وأن عليًّا لم يدل على خلافته إلا ما يُعلم أنه كذب، أو يُعلم أنه لا دلالة فيه.(1/216)
وعلى هذا التقدير فلم يستخلف بعد موته أحدًا إلا أبا بكر، فلهذا كان هو الخليفة، فإن الخليفة المطلق هو من خلفه بعد موته، أو استخلفه بعد موته، وهذان الوصفان لم يثبتا إلا لأبي بكر ؛ فلهذا كان هو الخليفة.
وأما استخلافه لعليّ على المدينة، فذلك ليس من خصائصه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج في غزاة استخلف على المدينة رجلاً من أصحابه، كما استخلف ابن أم مكتوم تارة، وعثمان بن عفان تارة.
وإذا كان قد استخلف غير عليّ على أَكثر وأفضل مما استخلف عليه عليًّا، وكان ذلك استخلافًا مقيّدًا على طائفة معينة في مغيبه، ليس هو استخلافًا مطلقًا بعد موته على أمته، لم يطلق على أحد من هؤلاء أنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع التقييد، وإذا سمّيَ عليّ بذلك فغيره من الصحابة المستخلفين أوْلى بهذا الاسم، فلم يكن هذا من خصائصه.
وأيضًا فالذي يخلف المَطاع بعد موته لا يكون إلا أفضل الناس، وأما الذي يخلفه في حال غزوه لعدوه، فلا يجب أن يكون أفضل الناس، بل العادة جارية بأنه يستصحب في خروجه لحاجته إليه في المغازي من يكون عنده أفضل ممن يستخلفه على عياله، لأن الذي ينفع في الجهاد هو شريكه فيما يفعله، فهو أعظم ممن يخلفه على العيال، فإن نفع ذاك ليس كنفع المشارك له في الجهاد.(1/217)
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما شبه عليًّا بهارون في أصل الاستخلاف لا في كماله، ولعليّ شركاء في هذا الاستخلاف، يبين ذلك أن موسى لما ذهب إلى ميقات ربه لم يكن معه أحد يشاركه في ذلك، فاستخلف هارون على جميع قومه، والنبي صلى الله عليه وسلم لما ذهب إلى غزوة تبوك أخذ معه جميع المسلمين إلا المعذور، ولم يستخلف عليًّا إلا على العيال وقليل من الرجال، فلم يكن استخلافه كاستخلاف موسى لهارون، بل ائتمنه في حال مغيبه، كما ائتمن موسى هارون في حال مغيبه، فبيّن له النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستخلاف ليس لنقص مرتبة المستخلَف، بل قد يكون لأمانته كما استخلف موسى هارون على قومه، وكان عليّ خرج إليه يبكي وقال: أتذرني مع النساء والصبيان؟ كأنه كره أن يتخلف عنه.
وأما قوله: (إنه قال له: إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك) فهذا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم لا يُعرف في كتب العلم المعتمدة، ومما يبين كذبه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة غير مرة ومعه عليّ. وليس بالمدينة لا هو ولا عليّ. فكيف يقول: إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك؟
والرافضة من فرط جهلهم يكذبون الكذب الذي لا يخفى على من له بالسيرة أدنى علم.
وأما قوله: (إنه أمّر أسامة رضي الله عنه على الجيش الذين فيهم أبو بكر وعمر).
فمن الكذب الذي يعرفه من له أدنى معرفة بالحديث ؛ فإن أبا بكر لم يكن في ذلك الجيش، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلفه في الصلاة من حين مرض إلى أن مات، وأسامة قد رُوي أنه قد عقد له الراية قبل مرضه، ثم لما مرض أمر أبا بكر أن يصلِّي بالناس، فصلى بهم إلى أن مات النبي صلى الله عليه وسلم، فلو قدر أنه أُمر بالخروج مع أسامة قبل المرض لكان أمره له بالصلاة تلك المدة، مع إذنه لأسامة أن يسافر في مرضه، موجبًا لنسخ إمرة أسامة عنه، فكيف إذا لم يؤمَّر عليه أسامة بحال؟
وقوله: (ومات ولم يعزله).(1/218)
فأبو بكر أنفذ جيش أسامة رضي الله عنه بعد أن أشار الناس عليه برده خوفًا من العدو، وقال: والله لا أحلَ راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه كان يملك عزله، كما كان يملك ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه قام مقامه، فيعمل ما هو أصلح للمسلمين.
وأما ما ذكره من غضب أسامة لما تولَّى أبو بكر، فمن الأكاذيب السمجة، فإن محبة أسامة رضي الله عنه لأبي بكر وطاعته له أشهر وأعرف من أن تُنكر، وأسامة من أبعد الناس عن الفرقة والاختلاف، فإنه لم يقاتل لا مع عليّ ولا مع معاوية واعتزل الفتنة، وأسامة لم يكن من قريش، ولا ممن يصلح للخلافة، ولا يخطر بقلبه أن يتولاها، فأي فائدة له في أن يقول مثل هذا القول لأيّ من تولى الأمر، مع علمه أنه لا يتولّى الأمر أحد إلا كان خليفة عليه، ولو قدِّر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمّره على أبي بكر ثم مات، فبموته صار الأمر إلى الخليفة من بعده، وإليه الأمر في إنفاذ الجيش أو حبسه، وفي تأمير أسامة أو عزله، وإذا قال: أمّرني عليك فمن استخلفك عليّ؟ قال: من استخلفني على جميع المسلمين، وعلى من هو أفضل منك، وإذا قال: أنا أمَّرني عليك، قال: أمَّرك عليّ قبل أن أُستخلف، فبعد أن صرت خليفة صرت أنا الأمير عليك.
ومثل هذا لا ينكره إلا جاهل، وأسامة أعقل وأتقى وأعلم من أن يتكلم بمثل هذا الهذيان لمثل أبي بكر.
وأعجب من هذا قول هؤلاء المفترين: أنه مشى هو وعمر إليه حتى استرضياه، مع قولهم: إنهما قهرا عليًّا وبني هاشم وبني عبد مناف، ولم يسترضياهم، وهم أعز وأقوى وأكثر وأشرف من أسامة رضي الله عنه، فأي حاجة بمن قهروا بني هاشم وبني أمية وسائر بني عبد مناف، وبطون قريش والأنصار والعرب، إلى أن يسترضوا أسامة بن زيد، وهو من أضعف رعيتهم، ليس له قبيلة ولا عشيرة، ولا معه مال ولا رجال، ولولا حب النبي صلى الله عليه وسلم إياه وتقديمه له لم يكن إلا كأمثاله من الضعفاء؟(1/219)
فإن قلتم: إنهما استرضياه لحب النبي صلى الله عليه وسلم له، فأنتم تقولون: إنهم بدّلوا عهده، وظلموا وصيَّه وغصبوه، فمن عصى الأمر الصحيح، وبدل العهد البيّن، وظلم واعتدى وقهر، ولم يلتفت إلى طاعة الله ورسوله، ولم يرقب في آل محمد إلاً ولا ذمة، يراعى مثل أسامة بن زيد ويسترضيه؟ وهو قد ردّ شهادة أم أيمن ولم يسترضها، وأغضب فاطمة وآذاها، وهي أحق بالاسترضاء، فمن يفعل هذا أي حاجة به إلى استرضاء أسامة بن زيد؟ وإنما يُسترضى الشخص للدين أو للدنيا، فإذا لم يكن عندهم دين يحملهم على استرضاء من يجب استرضاؤه، ولا هم محتاجون في الدنيا إليه، فأي داعٍ يدعوهم إلى استرضائه؟! والرافضة من جهلهم وكذبهم يتناقضون تناقضًا كثيرًا بيِّنًا إذ هم في قول مختلف، يُوفك عنه من أُفك.
(فصل)
قال الرافضي: (وسمّوا عمر الفاروق، ولم يسموا عليًّا عليه السلام بذلك، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: هذا فاروق أمتي يفرق بين أهل الحق والباطل، وقال ابن عمر: ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ببغضهم عليًّا عليه السلام).
فيقال: أوّلاً: أما هذان الحديثان فلا يستريب أهل المعرفة بالحديث أنهما حديثان موضوعان مكذوبان على النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرو واحدٌ منهما في شيء من كتب العلم المعتمدة، ولا لواحد منهما إسناد معروف.
ويقال: ثانيًا: من احتج في مسألة فرعية بحديث فلا بد أن يسنده، فكيف في مسائل أصول الدين؟ وإلا فمجرد قول القائل: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) ليس حجة باتفاق أهل العلم. ولو كان حجة لكان كل حديث قال فيه واحد من أهل السنة: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) حجة، ونحن نقنع في هذا الباب بأن يُرْوى الحديثُ بإسناد رجاله معروفون بالصدق من أي طائفة كانوا.(1/220)
لكن إذا لم يكن الحديث له إسناد، فهذا الناقل له وإن كان لم يكذبه بل نقله من كتاب غيره، فذلك الناقل لم يعرف عمّن نقله، ومن المعروف كثرة الكذب في هذا الباب وغيره، فكيف يجوز لأحد أن يشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يعرف إسناده؟
ويقال: ثالثًا: من المعلوم لكل من له خبرة أن أهل الحديث أعظم الناس بحثًا عن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وطلبا لعلمها، وأرغب الناس في اتّباعها، وأبعد الناس عن اتّباع هوىً يخالفها، فلو ثبت عندهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعليّ هذا، لم يكن أحد من الناس أوْلى منهم باتّباع قوله، فإنهم يتّبعون قوله إيمانًا به، ومحبة لمتابعته، لا لغرض لهم في الشخص الممدوح.
فلو ثبت عندهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعليّ: هذا فاروق أمتي، لقبلوا ذلك ونقلوه، كما نقلوا قوله لأبي عبيدة: (هذا أمين هذه الأمة)(1) وقوله للزبير: (إن لكل نبي حواريّ وحواريّ الزبير)(2) وكما قبلوا ونقلوا قوله لعليّ: (لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)(3) وحديث الكساء لما قال لعليّ وفاطمة وحسن وحسين: (اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيرًا)(4) وأمثال ذلك.
__________
(1) رواه البخاري: (5/25) وغيره.
(2) انظر: البخاري: (5/21)، ومسلم: (4/1879).
(3) انظر: البخاري: (5/18)، ومسلم: (4/1871).
(4) انظر: مسلم: (4/1883).(1/221)
ويقال: رابعًا: كلٌّ من الحديثين يُعلم بالدليل أنه كذب، لا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يقال: ما المعنى بكون عليّ أو غيره فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل؟ إن عنى بذلك أنه يميّز بين أهل الحق والباطل، فيميّز بين المؤمنين والمنافقين، فهذا أمر لا يقدر عليه أحدٌ من البشر: لا نبي ولا غيره، وقد قال تعالى: ((وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُم نَحْنُ نَعْلَمُهُم))[التوبة:101] كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلَم عينَ كل منافق في مدينته وفيما حولها، فكيف يعلم ذلك غيره؟
ومحبة الرافضة لعليّ باطلة، فإنهم يحبّون ما لم يوجد، وهو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته، الذي لا إمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا هو، الذي كان يعتقد أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ظالمان معتديان أو كافران، فإذا تبيّن لهم يوم القيامة أن عليًّا لم يكن أفضل من واحد من هؤلاء، وإنما غايته أن يكون قريبًا من أحدهم، وأنه كان مقرًّا بإمامتهم وفضلهم، ولم يكن معصومًا لا هو ولا هم ولا كان منصوصًا على إمامته، تبين لهم أنهم لم يكونوا يحبون عليًّا، بل هم من أعظم الناس بغضًا لعليّ رضي الله عنه في الحقيقة، فإنهم يبغضون من اتصف بالصفات التي كانت في عليّ أكمل منها في غيره: من إثبات إمامة الثلاثة وتفضيلهم، فإن عليًّا رضي الله عنه كان يفضّلهم ويقرُّ بإمامتهم، فتبيَّن أنهم مبغضون لعليّ قطعًا.(1/222)
وبهذا يتبين الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: (إنه لعهد النبي الأميّ إليّ أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق)(1) إن كان هذا محفوظًا ثابتًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الرافضة لا تحبه على ما هو عليه، بل محبتهم من جنس محبة اليهود لموسى والنصارى لعيسى، بل الرافضة تبغض نعوت عليّ وصفاته، كما تبغض اليهود والنصارى نعوت موسى وعيسى، فإنهم يبغضون من أقر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكانا مقرين بها صلى الله عليهم أجمعين.
(فصل)
قال الرافضي: (وأعظموا أمر عائشة على باقي نسوانه، مع أنه عليه السلام كان يكثر من ذكر خديجة بنت خويلد، وقالت له عائشة: إنك تكثر من ذكرها، وقد أبدلك الله خيرًا منها. فقال: والله ما بُدِّلت بها ما هو خير منها؛ صدَّقتني إذ كذبني الناس، وآوتني إذ طردني الناس، وأسعدتني بمالها، ورزقني الله الولد منها، ولم أرزق من غيرها).
والجواب أولاً: أن يقال: إن أهل السنة ليسوا مجمعين على أن عائشة أفضل نسائه، بل قد ذهب إلى ذلك كثير من أهل السنة، واحتجوا بما في الصحيحين عن أبي موسى وعن أنس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)(2).
والثريد هو أفضل الأطعمة لأنه خبز ولحم، كما قال الشعر:
إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثريد
__________
(1) انظر: مسلم: (1/86).
(2) انظر: البخاري: (5/29)، ومسلم: (4/5)189).(1/223)
وذلك أن البُرّ أفضل الأقوات، واللحم أفضل الآدام، كما في الحديث الذي رواه ابن قتيبة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيد إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم)(1). فإذا كان اللحم سيد الآدام، والبُرُّ سيد الأقوات، ومجموعها الثريد، لكان الثريد أفضل الطعام. وقد صح من غير وجه عن الصادق المصدوق أنه قال: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام).
وفي الصحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: (عائشة). قلت: من الرجال؟ قال: (أبوها). قلت: ثم من؟ قال: (عمر) وسمّى رجالاً(2).
وهؤلاء يقولون: قوله لخديجة: (ما أبدلني الله بخير منها): إن صح معناه: ما أبدلني بخير لي منها ؛ لأن خديجة نفعته في أول الإسلام نفعًا لم يقم غيرها فيه مقامها، فكانت خيرًا له من هذا الوجه، لكونها نفعته وقت الحاجة، لكن عائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين، فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن لم يدرك إلا أول زمن النبوة، فكانت أفضل بهذه الزيادة، فإن الأمة انتفعت بها أكثر مما انتفعت بغيرها، وبلغت من العلم والسنة ما لم يبلغه غيرها، فخديجة كان خيرها مقصورًا على نفس النبي صلى الله عليه وسلم، لم تبلِّغ عنه شيئًا، ولم تنتفع بها الأمة كما انتفعوا بعائشة، ولا كان الدين قد كمل حتى تعلمه ويحصل لها من كمال الإيمان به ما حصل لمن علمه وآمن به بعد كماله.
__________
(1) سنن ابن ماجة: (2/1099) وهو ضعيف.
(2) انظر: البخاري: ج 5/5)، ومسلم: (4/1856).(1/224)
(فصل)
قال الرافضي: (وأذاعت سر رسول الله صلى لله عليه وسلم، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إنك تقاتلين عليًّا وأنت ظالمة له، ثم إنها خالفت أمر الله في قوله تعالى: ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ))[الأحزاب:33]، وخرجت في ملأ من الناس لتقاتل عليًّا على غير ذنب، لأن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان، وكانت هي في كل وقت تأمر بقتله، وتقول اقتلوا نعثلاً، قتل الله نعثلاً، ولما بلغها قتله فرحت بذلك، ثم سألت: من تولى الخلافة؟ فقالوا: عليّ، فخرجت لقتاله على دم عثمان، فأي ذنب كان لعليّ على ذلك؟ وكيف استجاز طلحة والزبير وغيرهما مطاوعتها على ذلك؟ وبأي وجه يلقون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره وأخرجها من منزلها وسافر بها كان أشد الناس عداوة له، وكيف أطاعها على ذلك عشرات ألوف من المسلمين، وساعدوها على حرب أمير المؤمنين، ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طلبت حقها من أبي بكر، ولا شخص واحد كلَّمه بكلمة واحدة)).
والجواب: أن يقال: أما أهل السنة فإنهم في هذا الباب وغيره قائمون بالقسط شهداء لله، وقولهم حق وعدل لا يتناقض، وأما الرافضة وغيرهم من أهل البدع ففي أقوالهم من الباطل والتناقض ما ننبِّه إن شاء الله تعالى على بعضه، وذلك أن أهل السنة عندهم أن أهل بدر كلهم في الجنة، وكذلك أمّهات المؤمنين: عائشة وغيرها، وأبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير هم سادات أهل الجنة بعد الأنبياء، وأهل السنة يقولون: إن أهل الجنة ليس من شرطهم سلامتهم عن الخطأ، بل ولا عن الذنب، بل يجوز أن يذنب الرجل منهم ذنبًا صغيرًا أو كبيرًا ويتوب منه، وهذا متفق عليه بين المسلمين، ولو لم يتب منه فالصغائر مغفورة باجتناب الكبائر عند جماهيرهم، بل وعند الأكثرين منهم أن الكبائر قد تمحى بالحسنات التي هي أعظم منها، وبالمصائب المكفِّرة وغير ذلك.(1/225)
وإذا كان هذا أصلهم فيقولون: ما يذكر عن الصحابة من السيّئات كثير منه كذب، وكثير منه كانوا مجتهدين فيه، ولكن لم يعرف كثير من الناس وجه اجتهادهم، وما قُدِّر أنه كان فيه ذنب من الذنوب لهم فهو مغفور لهم: إما بتوبة، وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفِّرة، وإما بغير ذلك؛ فإنه قد قام الدليل الذي يجب القول بموجبه أنهم من أهل الجنة فامتنع أن يفعلوا ما يوجب النار لا محالة، وإذا لم يمت أحد منهم، على موجب النار لم يقدح ما سوى ذلك في استحقاقهم للجنة، ونحن قد علمنا أنهم من أهل الجنة، ولو لم يُعلم أن أولئك المعيَّنين في الجنة لم يجز لنا أن نقدح في استحقاقهم للجنة بأمور لا نعلم أنها توجب النار، فإن هذا لا يجوز في آحاد المؤمنين الذين لم يُعلم أنهم يدخلون الجنة، ليس لنا أن نشهد لأحد منهم بالنار لأمور محتملة لا تدل على ذلك، فكيف يجوز مثل ذلك في خيار المؤمنين، والعلم بتفاصيل أحوال كل واحد واحد منهم باطنًا وظاهرًا، وحسناته وسيئاته واجتهاداته، أمر يتعذر علينا معرفته؟! فكان كلامنا في ذلك كلامًا فيما لا نعلمه، والكلام بلا علم حرام، فلهذا كان الإمساك عمّا شجر بين الصحابة خيرًا من الخوض في ذلك بغير علم بحقيقة الأحوال، إذ كان كثير من الخوض في ذلك – أو أكثره – كلامًا بلا علم، وهذا حرام لو لم يكن فيه هوىً ومعارضة الحق المعلوم، فكيف إذا كان كلامًا بهوىً يطلب فيه دفع الحق المعلوم؟
وأما قوله: (وأذاعت سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلا ريب أن الله تعالى يقول: ((وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنيَِ الْعَلِيمُ الْخَبِير))[التحريم:3].(1/226)
وقد ثبت في الصحيح عن عمر أنهما عائشة وحفصة(1).
فيقال: أولاً: هؤلاء يعمدون إلى نصوص القرآن التي فيها ذكر ذنوبٍ ومعاصٍ بيّنة لمن نصّت عنه من المتقدمين يتأوّلون النصوص بأنواع التأويلات، وأهل السنة يقولون: بل أصحاب الذنوب تابوا منها ورفع الله درجاتهم بالتوبة.
وهذه الآية ليست أوْلى في دلالتها على الذنوب من تلك الآيات، فإن كان تأويل تلك سائغًا كان تأويل هذه كذلك، وإن كان تأويل هذه باطلاً فتأويل تلك أبطل.
ويقال: ثانيًا: بتقدير أن يكون هناك ذنب لعائشة وحفصة، فيكونان قد تابتا منه، وهذا ظاهر لقوله تعالى: ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما))[التحريم:4]، فدعاهما الله تعالى إلى التوبة، فلا يظن بهما أنهما لم يتوبا، مع ما ثبت من علو درجتهما، وأنهما زوجتا نبيّنا في الجنة، وأن الله خيرهن بين الحياة الدنيا وزينتها وبين الله ورسوله والدار الآخرة، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ولذلك حرّم الله عليه أن يتبَدّل بهن غيرهن، وحرم عليه أن يتزوج عليهن، واختُلف في إباحة ذلك له بعد ذلك، ومات عنهن وهن أمهات المؤمنين بنص القرآن، ثم قد تقدَّم أن الذنب يُغفر ويُعفى عنه بالتوبة وبالحسنات الماحية وبالمصائب المكفرة.
ويقال: ثالثًا: المذكور عن أزواجه كالمذكور عمّن شُهد له بالجنة من أهل بيته وغيرهم من الصحابة، فإن عليًّا لما خطب ابنة أبي جهل على فاطمة، وقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا، فقال: (إن بني المغيرة استأذنوني أن ينكحوا عليًّا ابنتهم، وإني لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم، إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها) فلا يُظن بعلي رضي الله عنه أنه ترك الخطبة في الظاهر فقط، بل تركها بقلبه وتاب بقلبه عما كان طلبه وسعى فيه.
__________
(1) انظر: البخاري: (6/156)، ومسلم: (2/1110).(1/227)
وأما الحديث الذي رواه وهو قوله لها: (تقاتلين عليًّا وأنت ظالمة له) فهذا لا يُعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة، ولا له إسناد معروف، وهو بالموضوعات المكذوبات أشبه منه بالأحاديث الصحيحة، بل هو كذب قطعًا، فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال، وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين، وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أوْلى، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها.
وأما قوله: (وخالفت أمر الله في قوله تعالى: ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى))[الأحزاب:33]) فهي رضي الله عنه لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى، والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها، كما لو خرجت للحج وللعمرة أو خرجت مع زوجها في سفره، فإن هذه الآية قد نزلت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سافر بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كما سافر في حجة الوداع بعائشة رضي الله عنها وغيرها، وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه، وأعمرها من التنعيم.
وأما قوله: (إنها خرجت في ملأ من الناس تقاتل عليًّا على غير ذنب).
فهذا أولاً: كذب عليها؛ فإنها لم تخرج لقصد القتال، ولا كان أيضًا طلحة والزبير قصدهما قتال عليّ، ولو قدر أنهم قصدوا القتال، فهذا هو القتال المذكور في قوله تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيء إِلَى أَمْرِ الله فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم))[الحجرات:9-10] فجعلهم مؤمنين إخوة مع الاقتتال، وإذا كان هذا ثابتًا لمن هو دون أولئك المؤمنين فهم به أوْلى وأحرى.(1/228)
وأما قوله: (إن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان).
فجوابه من وجوه: أحدها: أن يقال: أولاً: هذا من أظهر الكذب وأَبينه ؛ فإن جماهير المسلمين لم يأمروا بقتله، ولا شاركوا في قتله، ولا رضوا بقتله.
أما أولاً: فلأن أكثر المسلمين لم يكونوا بالمدينة، بل كانوا بمكة واليمن والشام والكوفة والبصرة ومصر وخراسان، وأهل المدينة بعض المسلمين.
وأما ثانيًا: فلأن خيار المسلمين لم يدخل واحد منهم في دم عثمان لا قتل ولا أمر بقتله، وإنما قتله طائفة من المفسدين في الأرض من أوباش القبائل وأهل الفتن، وكان عليّ رضي الله عنه يحلف دائمًا: (إني ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله) ويقول: (اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل) وغاية ما يقال: إنهم لم ينصروه حق النصرة، وأنه حصل نوع من الفتور والخذلان، حتى تمكن أولئك المفسدون، ولهم في ذلك تأويلات، وما كانوا يظنون أن الأمر يبلغ إلى ما بلغ، ولو علموا ذلك لسدّوا الذريعة وحسموا مادة الفتنة.
الثاني: أن هؤلاء الرافضة في غاية التناقض والكذب؛ فإنه من المعلوم أن الناس أجمعوا على بيعة عثمان ما لم يجمعوا على قتله؛ فإنهم كلهم بايعوه في جميع الأرض، فإن جاز الاحتجاج بالإجماع الظاهر، فيجب أن تكون بيعته حقًا لحصول الإجماع عليها، وإن لم يجز الاحتجاج به، بطلت حجتهم بالإجماع على قتله، لا سيما ومن المعلوم أنه لم يباشر قتله إلا طائفة قليلة، ثم إنهم ينكرون الإجماع على بيعته، ويقولون: إنما بايع أهل الحق منهم خوفًا وكرهًا. ومعلوم أنهم لو اتفقوا كلهم على قتله، وقال قائل: كان أهل الحق كارهين لقتله لكن سكتوا خوفًا وتقيَّة على أنفسهم، لكان هذا أقرب إلى الحق، لأن العادة قد جرت بأن من يريد قتل الأئمة يخيف من ينازعه، بخلاف من يريد مبايعة الأئمة، فإنه لا يخيف المخالف، كما يخيف من يريد قتله، فإن المريدين للقتل أسرع إلى الشر وسفك الدماء وإخافة الناس من المريدين للمبايعة.(1/229)
فهذا لو قُدِّر أن جميع الناس ظهر منهم الأمر بقتله، فكيف وجمهورهم أنكروا قتله، ودافع عنه من دافع في بيته، كالحسن بن عليّ وعبد الله بن الزبير وغيرهما؟
ثم دعوى المدّعي الإجماع على قتل عثمان مع ظهور الإنكار من جماهير الأمة له وقيامهم في الانتصار له والانتقام ممن قتله، أظهر كذبًا من دعوى المدّعي إجماع الأئمة على قتل الحسين رضي الله عنه.
فلو قال قائل:إن الحسين قتل بإجماع الناس، لأن الذين قاتلوه وقتلوه لم يدفعهم أحد عن ذلك، لم يكن كذبه بأظهر من كذب المدّعي للإجماع على قتل عثمان؛فإن الحسين رضي الله عنه لم يعظم إنكار الأمة لقتله، كما عظم إنكارهم لقتل عثمان، ولا انتصر له جيوش كالجيوش الذين انتصرت لعثمان، ولا انتقم أعوانه من أعدائه كما انتقم أعوان عثمان من أعدائه، ولا حصل بقتله من الفتنة والشر والفساد ما حصل بقتل عثمان، ولا كان قتله أعظم إنكارًا عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من قتل عثمان؛فإن عثمان من أعيان السابقين الأولين من المهاجرين من طبقة عليّ وطلحة والزبير، وهو خليفة للمسلمين أجمعوا على بيعته، بل لم يُشْهر في الأمة سيفًا ولا قتل على ولايته أحدًا، وكان يغزو بالمسلمين الكفّار بالسيف، وكان السيف في خلافته كما كان في خلافة أبي بكر وعمر مسلولاً على الكفَّار، مكفوفًا عن أهل القبلة.
وأما قوله: (إن عائشة كانت في كل وقت تأمر بقتل عثمان، وتقول في كل وقت: اقتلوا نعثلاً، قتل الله نعثلاً، ولما بلغها قتله فرحت بذلك).
فيقال له: أولا: أين النقل الثابت عن عائشة بذلك؟
ويقال: ثانيًا: المنقول الثابت عنها يكذّب ذلك، ويبين أنها أنكرت قتله، وذمّت من قتله، ودعت على أخيها محمد وغيره لمشاركتهم في ذلك.(1/230)
ويقال: ثالثًا: هب أن واحدًا من الصحابة: عائشة أو غيرها قال في ذلك على وجه الغضب، لإنكاره بعض ما ينكر، فليس قوله حجة، ولا يقدح ذلك لا في إيمان القائل ولا المقول له، بل قد يكون كلاهما وليًّا لله تعالى من أهل الجنة، ويظن أحدهما جواز قتل الآخر، بل يظن كفره، وهو مخطئ في هذا الظن.
والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع ؛ فإن الرافضة تعمد إلى أقوام متقاربين في الفضيلة، تريد أن تجعل أحدهما معصومًا من الذنوب والخطايا، والآخر مأثومًا فاسقًا أو كافرًا، فيظهر جهلهم وتناقضهم، كاليهودي والنصراني إذا أراد أن يثبت نبوّة موسى أو عيسى، مع قدحه في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه يظهر عجزه وجهله وتناقضه.
وأما قوله: (إنها سألت من تولّى الخلافة؟ فقالوا: عليّ فخرجت لقتاله على دم عثمان، فأي ذنب كان لعليّ في ذلك؟).
فيقال له: أولاً: قول القائل: إن عائشة وطلحة والزبير اتهموا عليًّا بأنه قتل عثمان وقاتلوه على ذلك، كذب بيّن، بل إنما طلبوا القتلة الذين كانوا تحيّزوا إلى عليّ، وهم يعلمون أن براءة عليّ من دم عثمان كبراءتهم وأعظم، لكن القتلة كانوا قد أووا إليه، فطلبوا قتل القتلة، ولكن كانوا عاجزين عن ذلك هم وعليّ، لأن القوم كانت لهم قبائل يذبُّون عنهم.
والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، فصار الأكابر رضي الله عنهم عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها، وهذا شأن الفتن، كما قال تعالى: ((وَاتّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيَبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَةً))[الأنفال:25] وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله.
وأيضًا: قوله: (أي ذنب كان لعليّ في قتله؟).(1/231)
تناقض منه، فإنه يزعم أن عليًّا كان ممن يستحل قتله وقتاله، وممن ألَّب عليه وقام في ذلك، فإن عليًّا رضي الله عنه نسبه إلى قتل عثمان كثير من شيعته ومن شيعة عثمان، هؤلاء لبغضهم لعثمان وهؤلاء لبغضهم لعليّ، وأما جماهير المسلمين فيعلمون كذب الطائفتين عَلَى عليّ.
والرافضة تقول: إن عليًّا كان ممن يستحل قتل عثمان، بل وقتل أبي بكر وعمر، وترى أن الإعانة على قتله من الطاعات والقربات، فكيف يقول من هذا اعتقاده: أيّ ذنب كان لعليّ على ذلك؟ وإنما يليق هذا التنزيه لعليّ بأقوال أهل السنة، لكن الرافضة من أعظم الناس تناقضًا.
وأما قوله: (وكيف استجاز طلحة والزبير وغيرهما مطاوعته على ذلك؟ وبأي وجه يلقون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره وأخرجها من منزلها وسافر بها كان أشد الناس عداوة له).
فيقال: هذا من تناقض الرافضة وجهلهم ؛ فإنهم يرمون عائشة بالعظائم، ثم منهم من يرميها بالفاحشة التي برَّأها الله منها، وأنزل القرآن في ذلك.
ثم إنهم لفرط جهلهم يدّعون ذلك في غيرها من نساء الأنبياء، فيزعمون أن امرأة نوح كانت بَغِيًّا، وأن الابن الذي دعاه نوح لم يكن منه وإنما كان منها، وأن معنى قوله: ((إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح))[هود:46] أن هذا الولد من عملٍ غير صالح. ومنهم من يقرأ: ((وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ))[هود:42] يريدون: ابنها، ويحتجون بقوله: ((إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ))[هود:46] ويتأوّلون قوله تعالى: ((ضرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا))[التحريم:10] على أن امرأة نوح خانته في فراشه، وأنها كانت قَحبة.(1/232)
وضاهوا في ذلك المنافقين والفاسقين أهل الإفك الذين رموا عائشة بالإفك والفاحشة ولم يتوبوا، و فيهم خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا أيها الناس، من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلاً، والله ما علمت عليه إلا خيرًا)(1).
ومن المعلوم أنه من أعظم أنواع الأذى للإنسان أن يكذب على امرأته رجل ويقول: إنها بغى ويجعل الزوج زوج قحبة، فإن هذا من أعظم ما يشتم به الناس بعضهم بعضًا، حتى إنهم يقولون في المبالغة: شتمه بالزاي والقاف مبالغة في شتمه.
والرمي بالفاحشة – دون سائر المعاصي – جعل الله فيه حد القذف، لأن الأذى الذي يحصل به للمرمي لا يحصل مثله بغيره، فإنه لو رُمِيَ بالكفر أمكنه تكذيب الرامي بما يظهره من الإسلام، بخلاف الرمي بالفاحشة ؛ فإنه لا يمكنه تكذيب المفترى بما يضاد ذلك، فإن الفاحشة تخفى وتكتم مع تظاهر الإنسان بخلاف ذلك.
ثم من جهل الرافضة أنهم يعظّمون أنساب الأنبياء: آباءهم وأبناءهم ويقدحون في أزواجهم ؛ كل ذلك عصبية واتّباع هوى حتى يعظّمون فاطمة والحسن والحسين، ويقدحون في عائشة أم المؤمنين، فيقولون -أو من يقول منهم-: إن آزر أبا إبراهيم كان مؤمنًا، وإن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم كانا مؤمنَيْنِ، حتى لا يقولون: إن النبي يكون أبوه كافرًا، فإذا كان أبوه كافرًا أمكن أن يكون ابنه كافرًا، فلا يكون في مجرد النسب فضيلة.
وأما قوله: (كيف أطاعها على ذلك عشرات ألوف من المسلمين وساعدوها على حرب أمير المؤمنين، ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طلبت حقّها من أبي بكر رضي الله عنه، ولا شخص واحد كلَّمه بكلمة واحدة).
__________
(1) رواه البخاري: (3/173) وغيره وتقدم ص.(1/233)
فيقال: أولاً: هذا من أعظم الحجج عليك ؛ فإنه لا يشك عاقل أن القوم كانوا يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعظمونه ويعظمون قبيلته وبنته أعظم مما يعظمون أبا بكر وعمر، ولو لم يكن هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف إذا كان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم؟ولا يستريب عاقل أن العرب-قريشًا وغير قريش-كانت تدين لبني عبد مناف وتعظّمهم أعظم مما يعظّمون بني تيم وعدي، ولهذا لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولّى أبو بكر، قيل لأبي قحافة:مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:حدث عظيم، فمن ولي بعده؟ قالوا: أبو بكر. قال: أو رضيت بنو عبد مناف وبنو مخزوم؟ قالوا: نعم. قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، أو كما قال.
ولهذا جاء أبو سفيان إلى عليّ، فقال: أرضيتم أن يكون هذا الأمر في بني تيم؟ فقال: يا أبا سفيان، إن أمر الإسلام ليس كأمر الجاهلية، أو كما قال.
فإذا كان المسلمون كلهم ليس فيهم من قال: إن فاطمة رضي الله عنها مظلومة، ولا أن لها حقًا عند أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولا أنهما ظلماها، ولا تكلّم أحد في هذا بكلمة واحدة-دل ذلك على أن القوم كانوا يعلمون أنها ليست مظلومة، إذ لو علموا أنها مظلومة لكان تركهم لنصرتها: إما عجزًا عن نصرتها، وإما إهمالاً وإضاعة لحقها، وإما بغضًا فيها، إذ الفعل الذي يقدر عليه الإنسان إذا أراده إرادة جازمة فعله لا محالة، فإذا لم يرده – مع قيام المقتضي لإرادته –فإما أن يكون جاهلاً به، أو له معارض يمنعه من إرادته، فلو كانت مظلومة مع شرفها وشرف قبيلتها وأقاربها، وأن أباها أفضل الخلق وأحبهم إلى أمته، وهم يعلمون أنها مظلومة –لكانوا إما عاجزين عن نصرتها، وإما أن يكون لهم معارض عارض إرادة النصر مع بغضها، وكلا الأمرين باطل ؛ فإن القوم ما كانوا كلهم عاجزين أن يتكلم واحد منهم بكلمة حق، وهم كانوا أقدر على تغيير ما هو أعظم من هذا.(1/234)
وهذا وغيره مما يبيّن أن الأمر على نقيض ما تقوله الرافضة من أكاذيبهم، وأن القوم كانوا يعلمون أن فاطمة لم تكن مظلومة أصلاً، فكيف ينتصر القوم لعثمان حتى سفكوا دماءهم،، ولا ينتصرون لمن هو أحب إليهم من عثمان، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته؟!
(فصل)
قال الرافضي: (وسمّوها أم المؤمنين ولم يسمّوا غيرها بذلك، ولم يسمّوا أخاها محمد بن أبي بكر- مع عظم شأنه وقربه من منزلة أبيه وأخته عائشة أم المؤمنين - فلم يسموه خال المؤمنين، وسموا معاوية بن أبي سفيان خال المؤمنين، لأن أخته أم حبيبة بنت أبي سفيان إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وأخت محمد بن أبي بكر وأبوه أعظم من أخت معاوية ومن أبيها).
والجواب أن يقال: أما قوله: (إنهم سموا عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين ولم يسموا غيرها بذلك)).
فهذا من البهتان الواضح الظاهر لكل أحد، وما أدري هل هذا الرجل وأمثاله يتعمّدون الكذب، أم أعمى الله أبصارهم لفرط هواهم حتى خفى عليهم أن هذا كذب؟! وهم ينكرون على بعض النواصب أن الحسين لما قال لهم: أما تعلمون أني ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: والله ما نعلم ذلك، وهذا لا يقوله ولا يجحد نسب الحسين إلا متعمدًا للكذب والافتراء، ومن أعمى الله بصيرته باتّباع هواه حتى يخفى عليه مثل هذا؟ فإن عين الهوى عمياء، والرافضة أعظم جحدًا للحق تعمدًا، وأعمى من هؤلاء ؛ فإن منهم -من المنتسبين إليهم- كالنصيرية وغيرهم من يقول: إن الحسن والحسين ما كانا أولاد عليّ، بل أولاد سلمان الفارسي، ومنهم من يقول: إن عليًّا لم يمت، وكذلك يقولون عن غيره.(1/235)
ومنهم من يقول: إن أبا بكر وعمر ليسا مدفونين عند النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول: إن رقية وأم كلثوم زوجتي عثمان ليستا بنتي النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هما بنتا خديجة من غيره، ولهم في المكابرات وجحد المعلومات بالضرورة أعظم مما لأولئك النواصب الذين قتلوا الحسين، وهذا مما يبين أنهم أكذب وأظلم وأجهل من قتلة الحسين.
وذلك أنه من المعلوم أن كل واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها (أم المؤمنين) عائشة، وحفصة، وزينب بنت جحش، وأم سلمة، و سودة بنت زمعة، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وصفية بنت حي بن أخطب الهارونية، رضي الله عنهن، وقد قال الله تعالى: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ))[الأحزاب:6] وهذا أمر معلوم للأمة علمًا عامًا، وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح هؤلاء بعد موته على غيره، وعلى وجوب احترامهن؛فهن أمهات المؤمنين في الحرمة والتحريم، ولسن أمهات المؤمنين في المحرمية، فلا يجوز لغير أقاربهن الخلوة بهن، ولا السفر بهن، كما يخلو الرجل ويسافر بذوات محارمه.
وأما قوله: (وعظم شأنه).
فإن أراد عظم نسبه، فالنسب لاحرمة له عندهم؛ لقدحهم في أبيه وأخته، وأما أهل السنة فإنما يعظّمون بالتقوى، لا بمجرد النسب، قال تعالى: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُم))[الحجرات:13] وإن أراد عظم شأنه لسابقته وهجرته ونصرته وجهاده، فهو ليس من الصحابة: لا من المهاجرين ولا الأنصار، وإن أراد بعظم شأنه أنه كان من أعلم الناس وأَدْيَنهم، فليس الأمر كذلك.
وأما قوله: (وأخت محمد وأبوه أعظم من أخت معاوية وأبيها).(1/236)
فيقال: هذه الحجة باطلة على الأصلين، وذلك أن أهل السنة لا يفضلون الرجل إلا بنفسه، فلا ينفع محمدًا قربه من أبي بكر وعائشة، ولا يضر معاوية أن يكون ذلك أفضل نسبًا منه، وهذا أصل معروف لأهل السنة، كما لم يضر السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، كبلال وصهيب وخبّاب وأمثالهم، أن يكون من تأخر عنهم من الطلقاء وغيرهم، كأبي سفيان بن حرب وابنيه: معاوية ويزيد وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب ونحوهم، أعظم نسبًا منهم.
(فصل)
قال الرافضي: (مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن معاوية الطليق بن الطليق اللعين بن اللعين، وقال: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه، وكان من المؤلفة قلوبهم، وقاتل عليًّا وهو عندهم رابع الخلفاء، إمام حق، وكل من حارب إمام حق فهو باغٍ ظالم).
قال: (وسبب ذلك محبة محمد بن أبي بكر لعليّ عليه السلام، ومفارقته لأبيه، وبغض معاوية لعليّ ومحاربته له، وسموه كاتب الوحي ولم يكتب له كلمة واحدة من الوحي، بل كان يكتب له رسائل، وقد كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أربعة عشر نفسًا يكتبون الوحي، أولهم وأخصهم وأقربهم إليه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، مع أن معاوية لم يزل مشركًا بالله تعالى في مدة كون النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثًا يكذّب بالوحي ويهزأ بالشرع).
والجواب: أن يقال: أما ما ذكره من أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن معاوية وأمر بقتله إذا رؤي على المنبر، فهذا الحديث ليس في شيء من كتب الإسلام التي يرجع إليها في علم النقل، وهو عند أهل المعرفة بالحديث كذب موضوع مختلق على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الرافضي الراوي له لم يذكر له إسنادًا حتى ينظر فيه، وقد ذكره أبو الفرج ابن الجوزي في الموضوعات.(1/237)
ومما يبيّن كذبه أن منبر النبي صلى الله عليه وسلم قد صعد عليه بعد معاوية من كان معاوية خيرًا منه باتفاق المسلمين، فإن كان يجب قتل من صعد عليه لمجرد الصعود على المنبر، وجب قتل هؤلاء كلهم، ثم هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن مجرد صعود المنبر لا يبيح قتل مسلم، وإن أمر بقتله لكونه تولّى الأمر وهو لا يصلح، فيجب قتل كل من تولّى الأمر بعد معاوية ممن معاوية أفضل منه، وهذا خلاف ما تواترت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم من نهيه عن قتل ولاة الأمور وقتالهم، كما تقدم بيانه.
ثم الأمة متفقة على خلاف هذا ؛ فإنها لم تقتل كل من تولّى أمرها ولا استحلّت ذلك، ثم هذا يوجب من الفساد والهرج ما هو أعظم من ولاية كل ظالم، فكيف يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بشيء يكون فعله أعظم فسادًا من تركه؟!
وأما قوله: (إنه الطليق ابن الطليق).
فهذا ليس نعت ذم، فإن الطلقاء هم مسلمة الفتح، الذين أسلموا عام فتح مكة، وأطلقهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا نحوًا من ألفَيْ رجل، وفيهم من صار من خيار المسلمين، كالحارث بن هشام، وسهل بن عمرو، وصفوان بن أميّة، وعكرمة بن أبي جهل، ويزيد بن أبي سفيان، وحكيم بن حزام، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يهجوه ثم حسن إسلامه، وعتّاب بن أسيد الذي ولاّه النبي صلى الله عليه وسلم مكة لما فتحها، وغير هؤلاء ممن حَسُنَ إسلامه.(1/238)
ومعاوية ممن حَسُن إسلامه باتفاق أهل العلم، ولهذا ولاّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه موضع أخيه يزيد بن أبي سفيان لما مات أخوه يزيد بالشام، وكان يزيد بن أبي سفيان من خيار الناس، وكان أحد الأمراء الذين بعثهم أبو بكر وعمر لفتح الشام: يزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، مع أبي عُبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، فلما توفي يزيد بن أبي سفيان ولّى عمر مكانه أخاه معاوية، وعمر لم تكن تأخذه في الله لومة لائم، وليس هو ممن يحابى في الولاية، ولا كان ممن يحب أبا سفيان أباه، بل كان من أعظم الناس عداوة لأبيه أبي سفيان قبل الإسلام، حتى إنه لما جاء به العباس يوم فتح مكة كان عمر حريصًا على قتله، حتى جرى بينه وبين العباس نوع من المخاشنة بسبب بغض عمر لأبي سفيان، فتولية عمر لابنه معاوية ليس لها سبب دنيوي، ولولا استحقاقه للإمارة لما أمّره.
وأما قوله: (كان معاوية من المؤَلَّفة قلوبهم).
نعم وأكثر الطلقاء كلهم من المؤلفة قلوبهم، كالحارث بن هشام، وابن أخيه عكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وحكيم بن حزام، وهؤلاء من خيار المسلمين، والمؤلَّفة قلوبهم غالبهم حسُن إسلامه، وكان الرجل منهم يُسلم أول النهار رغبة منه في الدنيا، فلا يجيء آخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس.
وأما قوله: (وقاتل عليًّا وهو عندهم رابع الخلفاء إمام حق، وكل من قاتل إمام حقٍ فهو باغٍ ظالم).(1/239)
فيقال له: أولا: الباغي قد يكون متأوّلاً معتقدًا أنه على حق، وقد يكون متعمدًا يعلم أنه باغٍ، وقد يكون بَغْيُهُ مركّبًا من شبهة وشهوة، وهو الغالب، وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة ؛ فإنهم لا ينزّهون معاوية ولا من هو أفضل منه من الذنوب، فضلا عن تنزيههم عن الخطأ في الاجتهاد، بل يقولون: إن الذنوب لها أسباب تُدفع عقوبتها من التوبة والاستغفار، والحسنات الماحية، والمصائب المكفِّرة، وغير ذلك، وهذا أمر يعم الصحابة وغيرهم.
ويقال لهم: ثانيًا: أما أهل السنة فأصلهم مستقيم مطّرد في هذا الباب، وأما أنتم فمتناقضون، وذلك أن النواصب – من الخوارج وغيرهم – الذين يكفّرون عليًّا أو يفسِّقونه أو يشكّون في عدالته من المعتزلة والمروانية وغيرهم، لو قالوا لكم: ما الدليل على إيمان عليّ وإمامته وعدله؟ لم يكن لكم حجة ؛ فإنكم إن احتججتم بما تواتر من إسلامه وعبادته، قالوا لكم: وهذا متواتر عن الصحابة، والتابعين والخلفاء الثلاثة، وخلفاء بني أمية كمعاوية ويزيد وعبد الملك وغيرهم، وأنتم تقدحون في إيمانهم، فليس قدحنا في إيمان عليّ وغيره إلا وقدحكم في إيمان هؤلاء أعظم، والذين تقدحون أنتم فيهم أعظم من الذين نقدح نحن فيهم، وإن احتججتم بما في القرآن من الثناء والمدح، قالوا: آيات القرآن عامة تتناول أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم مثل ما تتناول عليًّا وأعظم من ذلك، وأنتم قد أخرجتم هؤلاء من المدح والثناء فإخراجنا عليًّا أيسر، وإن قلتم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائله: قالوا: هذه الفضائل روتها الصحابة الذين رووا فضائل أولئك، فإن كانوا عدولاً فاقبلوا الجميع، وإن كانوا فسَّاقا فإن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبيَّنوا، وليس لأحد أن يقول في الشهود: إنهم إن شهدوا لي كانوا عدولا، وإن شهدوا عليّ كانوا فسّاقًا، أو: إن شهدوا بمدح من أحببته كانوا عدولاً، وإن شهدوا بمدح من أبغضته كانوا فسَّاقًا.(1/240)
وأما قوله: (إن سبب ذلك محبة محمد بن أبي بكر لعليّ، ومفارقته لأبيه).
فكذب بيّن، وذلك أن محمد بن أبي بكر في حياة أبيه لم يكن إلا طفلاً له أقل من ثلاث سنين، وبعد موت أبيه كان من أشد الناس تعظيمًا لأبيه، وبه كان يتشرف، وكانت له بذلك حرمة عند الناس.
وأما قوله: (إن سبب قولهم لمعاوية: إنه خال المؤمنين دون محمد، إن محمدًا هذا كان يحب عليًّا، ومعاوية كان يبغضه).
فيقال: هذا كذب أيضًا؛ فإن عبد الله بن عمر كان أحق بهذا المعنى من هذا وهذا، وهو لم يقاتل لا مع هذا ولا مع هذا، وكان معظِّمًا لعليّ، محبًا له، يذكر فضائله ومناقبه، وكان مبايعًا لمعاوية لما اجتمع عليه الناس غير خارج عليه، وأخته أفضل من أخت معاوية، وأبوه أفضل من أبي معاوية، والناس أكثر محبة وتعظيمًا له من معاوية ومحمد، ومع هذا فلم يشتهر عنه أنه خال المؤمنين، فعُلم أنه ليس سبب ذلك ما ذكره.
(فصل)
وأما قول الرافضي: (وسمّوه كاتب الوحي ولم يكتب له كلمة واحدة من الوحي).
فهذا قول بلا حجة ولا علم، فما الدليل على أنه لم يكتب كلمة واحدة من الوحي، وإنما كان يكتب له رسائل؟
وقوله: (إن كتاب الوحي كانوا بضعة عشر أخصّهم وأقربهم إليه عليّ).
فلا ريب أن عليًّا كان ممن يكتب له أيضًا، كما كتب الصلح بينه وبين المشركين عام الحديبية، ولكن كان يكتب له أبو بكر وعمر أيضًا، ويكتب له زيد بن ثابت بلا ريب.
ففي الصحيحين أن زيد بن ثابت لما نزلت: ((لاَّ َيسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين))[النساء:95] كتبها له(1).وكتب له أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن الأرقم، وأبيّ بن كعب، وثابت بن قيس، وخالد بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع الأسدي، وزيد بن ثابت، ومعاوية، وشُرحبيل بن حسنة رضي الله عنهم.
وأما قوله: (إن معاوية لم يزل مشركًا مدة كون النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثًا).
__________
(1) انظر: البخاري:ج6/48)، ومسلم: (3/1508).(1/241)
فيقال: لا ريب أن معاوية وأباه وأخاه وغيرهم أسلموا عام فتح مكة، قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من ثلاث سنين، فكيف يكون مشركًا مدة المبعث، ومعاوية رضي الله عنه كان حين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم صغيرًا، كانت هند ترقِّصه، ومعاوية رضي الله عنه أسلم مع مسلمة الفتح، مثل: أخيه يزيد، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وأبي سفيان بن حرب، وهؤلاء كانوا قبل إسلامهم أعظم كفرًا ومحاربة للنبي صلى الله عليه وسلم من معاوية.
(فصل)
قال الرافضي: (وكان باليمن يوم الفتح يطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب إلى أبيه صخر بن حرب يعيّره بإسلامه، ويقول: أَصَبَوْتَ إلى دين محمد؟).
والجواب: أما قوله: (كان باليمن يطعن على النبي صلى الله عليه وسلم وكتب إلى أبيه صخر بن حرب يعيّره بإسلامه وكتب إليه الأبيات).
فهذا من الكذب المعلوم ؛ فإن معاوية إنما كان بمكة، لم يكن باليمن، وأبوه أسلم قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة بمر الظهران ليلة نزل بها، وقال له العباس: إن أبا سفيان يحب الشرف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن)(1).
وأما قوله: (إن الفتح كان في رمضان لثمان من مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة) فهذا صحيح.
وأما قوله: (إن معاوية كان مقيمًا على شِرْكِهِ هاربًا من النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان أهدر دمه، فهرب إلى مكة، فلما لم يجد له مأوى صار إلى النبي صلى الله عليه وسلم مضطرًا، فأظهر الإسلام، وكان إسلامه قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر).
__________
(1) رواه مسلم 3/1407).(1/242)
فهذا من أظهر الكذب ؛ فإن معاوية أسلم عام الفتح باتفاق الناس، وقد تقدّم قوله: (إنه من المؤلفة قلوبهم) والمؤلفة قلوبهم أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم عام حنين من غنائم هَوَازن، وكان معاوية ممن أعطاه منها، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتألّف السادة المطاعين في عشائرهم، فإن كان معاوية هاربًا لم يكن من المؤلفة قلوبهم، ولو لم يسلم إلا قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر لم يُعط شيئًا من غنائم حنين.
ومن كانت غايته أن يؤمن لم يحتج إلى تأليف.
ومما يبين كذب ما ذكره هذا الرافضي أنه لم يتأخر إسلام أحد من قريش إلى هذه الغاية، وأهل السير والمغازي متفقون على أنه لم يكن معاوية ممن أُهدر دمه عام الفتح.
وأما قوله: (إنه استحق أن يُوصف بذلك دون غيره).
ففرية على أهل السنة ؛ فإنه ليس فيهم من يقول: إن هذا من خصائص معاوية، بل هو واحد من كتاب الوحي. وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فارتد عن الإسلام، وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إنه عاد إلى الإسلام.
وأما قوله: (إنه نزل فيه: ((وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً))[النحل:106] الآية).
فهو باطل ؛ فإن هذه الآية نزلت بمكة، لما أُكره عمَّار وبلال على الكفر، وردة هذا كانت بالمدينة بعد الهجرة، ولو قُدِّر أنه نزلت فيه هذه الآية؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قَبِل إسلامه وبايعه.
وأما قوله: (وقد روى عبد الله بن عمر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: (يطلع عليكم رجل يموت على غير سنتي) فطلع معاوية، وقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا، فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد وخرج ولم يسمع الخطبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله القائد والمقود، أي: يوم يكون للأمة مع معاوية ذي الإساءة).(1/243)
فالجواب أن يقال: أولاً: نحن نطالب بصحة الحديث؛ فإن الاحتجاج بالحديث لا يجوز إلا بعد ثبوته، ونحن نقول هذا في مقام المناظرة، وإلا فنحن نعلم قطعًا أنه كذب.
ويقال: ثانيًا: هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث التي يُرجع إليها في معرفة الحديث، ولا له إسناد معروف.
وهذا المحتج به لم يذكر له إسنادًا. ثم من جهله أن يروي مثل هذا عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمر كان من أبعد الناس عن ثلب الصحابة، وأروى الناس لمناقبهم، وقوله في مدح معاوية معروف ثابت عنه، حيث يقول: (ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أَسْوَد من معاوية، قيل له: ولا أبو بكر وعمر؟ فقال: كان أبو بكر وعمر خيراً منه، وما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية).
قال أحمد بن حنبل: السيد الحليم -يعني معاوية- وكان معاوية كريمًا حليمًا.
ثم إن خطب النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن واحدة، بل كان يخطب في الجمع والأعياد والحج وغير ذلك. ومعاوية وأبوه يشهدان الخطب، كما يشهدها المسلمون كلهم، افتراهما في كل خطبة كانا يقومان ويُمَكَّنان من ذلك؟ هذا قدح في النبي صلى الله عليه وسلم وفي سائر المسلمين، إذ يمكِّنون اثنين دائمًا يقومان ولا يحضران الخطبة ولا الجمعة، وإن كانا يشهدان كل خطبة، فما بالهما يمتنعان من سماع خطبة واحدة قبل أن يتكلم بها؟
وأما قوله: (إنه بالغ في محاربة علي).
فلا ريب أنه اقتتل العسكران: عسكر علي ومعاوية بصفين، ولم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداءً، بل كان من أشد الناس حرصًا على أن لا يكون قتال، وكان غيره أحرص على القتال منه.(1/244)
(فصل)
إذا تبين هذا فيقال: قول الرافضة من أفسد الأقوال وأشدها تناقضًا؛ فإنهم يعظّمون الأمر على من قاتل عليًّا، ويمدحون من قتل عثمان، مع أن الذم والإثم لمن قتل عثمان أعظم من الذم والإثم لمن قتل عليًّا، فإن عثمان كان خليفة اجتمع الناس عليه، ولم يقتل مسلمًا، وقد قتلوه لينخلع من الأمر، فكان عذره في أن يستمر على ولايته أعظم من عذر عليّ في طلبه لطاعتهم له، وصَبَرَ عثمان حتى قُتل مظلومًا شهيدًا من غير أن يدفع عن نفسه، وعليّ بدأ بالقتال أصحاب معاوية، ولم يكونوا يقاتلونه، ولكن امتنع من بيعته.
وإن قيل: إن عثمان فعل أشياء أنكروها.
قيل: تلك الأشياء لم تبح خلعه ولا قتله، وإن أباحت خلعه وقتله كان ما نقموه على عليّ أوْلى أن يبيح ترك مبايعته.
وأما قوله: (الخلافة ثلاثون سنة) ونحو ذلك، فهذه الأحاديث لم تكن مشهورة شهرة يعلمها مثل أولئك ؛ إنما هي من نقل الخاصة لا سيما وليست من أحاديث الصحيحين وغيرهما، وإذا كان عبد الملك بن مروان خَفِيَ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: (لولا أن قومك حديث وعهد بالجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين)(1) ونحو ذلك حتى هدم ما فعله ابن الزبير، ثم لما بلغه ذلك قال: وددت أنّي وليته من ذلك ما تولاه، مع أن حديث عائشة رضي الله عنها ثابت صحيح متفق على صحته عند أهل العلم، فلأن يخفى على معاوية وأصحابه قوله: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكًا) بطريق الأوْلى، مع أن هذا في أول خلافة عليّ رضي الله عنه لا يدل على عليّ عينًا، وإنما عُلمت دلالته على ذلك لما مات رضي الله عنه، مع أنه ليس نصًّا في إثبات خليفة معيّن، وهم يقولون:
إذا كان لا ينصفنا إما تأويلاً منه وإما عجزًا منه عن نصرتنا، فليس علينا أن نبايع من نُظلم بولايته.
وأما قوله: (إن معاوية قتل جمعًا كثيرًا من خيار الصحابة).
__________
(1) الحديث في البخاري (2/146) ومسلم (2/968).(1/245)
فيقال: الذين قُتلوا قُتلوا من الطائفتين ؛ قتل هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء، وأكثر الذين كانوا يختارون القتال من الطائفتين لم يكونوا يطيعون لا عليًّا ولا معاوية، وكان عليّ ومعاوية رضى الله عنهما أطلب لكف الدماء من أكثر المقتتلين، لكن غُلبا فيما وقع، والفتنة إذا ثارت عجز الحكماء عن إطفاء نارها، وكان في العسكرين، مثل: الأشتر النخعي، وهاشم بن عُتبة المرقال، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وأبي الأعور السلمي، ونحوهم من المحرضين على القتال قوم ينتصرون لعثمان غاية الانتصار، وقوم ينفِّرون عنه، وقوم ينتصرون لعليّ وقوم ينفِّرون عنه.
وأما ما ذكره من لعن عليّ، فإن التلاعن وقع من الطائفتين كما وقعت المحاربة، وكان هؤلاء يلعنون رءوس هؤلاء في دعائهم، وهؤلاء يلعنون رءوس هؤلاء في دعائهم، وقيل: إن كل طائفة كانت تقنت على الأخرى، والقتال باليد أعظم من التلاعن باللسان.
ثم من العجب أن الرافضة تنكر سب عليّ، وهم يسبّون أبا بكر وعمر وعثمان ويكفِّرونهم ومن والاهم، ومعاوية رضي الله عنه وأصحابه ما كانوا يكفِّرون عليًّا، وإنما يكفِّره الخوارج المارقون، والرافضة شر منهم.
ولا ريب أنه لا يجوز سب أحد من الصحابة: لا عليّ ولا عثمان ولا غيرهما، ومن سب أبا بكر وعمر وعثمان فهو أعظم إثمًا ممن سب عليًّا، وإن كان متأولاً فتأويله أفسد من تأويل من سب عليًّا.
وأما قوله: (إن معاوية سمّ الحسن).
فهذا مما ذكره بعض الناس، ولم يثبت ذلك ببيِّنة شرعية، أو إقرار معتبر، ولا بنقل يُجزم به، وهذا مما لا يمكن العلم به، فالقول به قول بلا علم.
وأما قوله: (وقتل ابنه يزيد مولانا الحسين ونهب نساءه).(1/246)
فيقال: إن يزيد لم يأمر بقتل الحسين باتفاق أهل النقل، ولكن كتب إلى ابن زياد أن يمنعه عن ولاية العراق. والحسين رضي الله عنه كان يظن أن أهل العراق ينصرونه ويفون له بما كتبوا إليه، فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل، فلما قتلوا مسلمًا وغدروا به وبايعوا ابن زياد، أراد الرجوع فأدركته السرية الظالمة، فطلب أن يذهب إلى يزيد، أو يذهب إلى الثغر، أو يرجع إلى بلده، فلم يمكّنوه من شيء من ذلك حتى يستأسر لهم، فامتنع، فقاتلوه حتى قُتل شهيدًا مظلومًا رضي الله عنه، ولما بلغ ذلك يزيد أظهر التوجّع على ذلك، وظهر البكاء في داره، ولم يسب له حريمًا أصلاً، بل أكرم أهل بيته، وأجازهم حتى ردّهم إلى بلدهم.
وأما قوله: (وكسر أبوه ثنيّة النبي صلى الله عليه وسلم، وأكلت أمّه كبد حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم).
فلا ريب أن أبا سفيان بن حرب كان قائد المشركين يوم أُحُد، وكُسرت ذلك اليوم ثنيّة النبي صلى الله عليه وسلم، كسرها بعض المشركين، لكن لم يقل أحد: إن أبا سفيان باشر ذلك، وإنما كسرها عُتبة بن أبي وقاص، وأخذت هند كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تبلعها فلفظتها.
وكان هذا قبل إسلامهم، ثم بعد ذلك أسلموا وحسن إسلامهم وإسلام هند، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرمها، والإسلام يَجُبٌّ ما قبله، وقد قال الله تعالى: ((قُلْ ِللذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَر لَهُم مَا قَدْ سَلَفَ))[الأنفال:38].
(فصل)
قال الرافضي: (وسمّوا خالد بن الوليد سيف الله عنادًا لأمير المؤمنين، الذي هو أحق بهذا الاسم، حيث قتل بسيفه الكفّار).(1/247)
فيقال: أما تسمية خالد بن الوليد بسيف الله فليس هو مختصًا به، بل هو: (سيف من سيوف الله سلَّه الله على المشركين)(1) هكذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أول من سمّاه بهذا الاسم، كما ثبت في صحيح البخاري من حديث أيوب السختياني، عن حميد بن هلال، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم نَعَى زيدًا و جعفرًا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيه خبرهم، فقال: (أخذ الراية زيد فأُصيب، ثم أخذها جعفر فأُصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأُصيب وعيناه تذرفان، حتى أخذها سيف من سيوف الله خالد حتى فتح الله عليهم)(2).
وأما قوله: (عليّ أحق بهذا الاسم).
فيقال: أولاً: من الذي نازع في ذلك؟ ومن قال: إن عليًّا لم يكن سيفًا من سيوف الله، وقول النبي صلى الله عليه وسلم الذي ثبت في الصحيح يدل على أن لله سيوفًا متعددة، ولا ريب أن عليًّا من أعظمها، وما في المسلمين من يفضِّل خالدًا على عليّ، حتى يقال: إنهم جعلوا هذا مختصًّا بخالد، والتسمية بذلك وقعت من النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، فهو صلى الله عليه وسلم الذي قال: إن خالدًا سيف من سيوف الله.
ثم يقال: ثانيًا: عليّ أجلّ قدرًا من خالد، وأجلّ من أن تجعل فضيلته أنه سيف من سيوف الله ؛ فإن عليًّا له من العلم والبيان والدين والإيمان والسابقة ما هو به أعظم من أن تُجعل فضيلته أنه سيف من سيوف الله ؛ فإن السيف خاصته القتال، وعليّ كان القتال أحد فضائله ؛ بخلاف خالد فإنه كان هو فضيلته التي تميّز بها على غيره، لم يتقدم بسابقة ولا كثرة علم ولا عظيم زهد، وإنما تقدم بالقتال ؛ فلهذا عبّر عن خالد بأنه سيف من سيوف الله.
وقوله: (إن عليًّا قتل بسيفه الكفار).
__________
(1) أخرجه أحمد. انظر: المسند (1/173)طبعة المعارف.
(2) البخاري: (5/27) والمسند (3/113).(1/248)
فلا ريب أنه لم يقتل إلا بعض الكفّار، وكذلك سائر المشهورين بالقتال من الصحابة كعمر والزبير وحمزة والمقداد وأبي طلحة والبراء بن مالك وغيرهم رضي الله عنهم، ما منهم من أحد إلا قتل بسيفه طائفة من الكفّار، والبراء بن مالك قتل مائة رجل مبارزة، غير من شَرَكَ في دمه.
وأما قوله: (وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليّ سيف الله وسهم الله).
فهذا الحديث لا يُعرف في شيء من كتب الحديث، ولا له إسناد معروف، ومعناه باطل ؛ فإن عليًّا ليس هو وحده سيف الله وسهمه، وهذه العبارة يقتضي ظاهرها الحصر.
وكذلك ما نقل عن عليّ رضي الله عنه أنه قال على المنبر: (أنا سيف الله على أعدائه ورحمته لأوليائه).
فهذا لا إسناد له، ولا يُعرف له صحة، لكن إن كان قاله فمعناه صحيح، وهو قدر مشترك بينه وبين أمثاله.
وأما قوله: (وخالد لم يزل عدوًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكذِّبًا له)).
فهذا كان قبل إسلامه، كما كان الصحابة كلهم مكذِّبين له قبل الإسلام، من بني هاشم وغير بني هاشم، مثل: أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأخيه ربيعة، وحمزة عمه، وعقيل، وغيرهم.
وقوله: (وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني جَذِيمة ليأخذ منهم الصدقات، فخانه وخالفه على أمره وقتل المسلمين، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا بالإنكار عليه رافعًا يديه إلى السماء حتى شوهد بياض إبطيه، وهو يقول: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) ثم أنفذ إليه بأمير المؤمنين لتلافي فارطه، وأمره أن يسترضي القوم من فعله).(1/249)
فيقال: هذا النقل فيه من الجهل والتحريف ما لا يخفى على من يعلم السيرة ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله إليهم بعد فتح مكة ليسلموا، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا، فلم يقبل ذلك منهم، وقال: إن هذا ليس بإسلام، فقتلهم، فأنكر ذلك عليه من معه من أعيان الصحابة، كسالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمر، وغيرهما، ولما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء، وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) لأنه خاف أن يطالبه الله بما جرى عليهم من العدوان، وقد قال تعالى: ((فإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ))[الشعراء:216] ثم أرسل عليًّا وأرسل معه مالاً، فأعطاهم نصف الديات، وضمن لهم ما تلف حتى مِيلَغَة الكلب، ودفع إليهم ما بقي احتياطًا لئلا يكون بقي شيء لم يعلم به.
ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعزل خالدًا عن الإمارة، بل ما زال يؤمّره ويقدّمه، لأن الأمير إذا جرى منه خطأ أو ذنب أُمر بالرجوع عن ذلك، وأُقرّ على ولايته، ولم يكن خالدًا معاندًا للنبي صلى الله عليه وسلم، بل كان مطيعا له، ولكن لم يكن في الفقه والدين بمنزلة غيره، فخفي عليه حكم هذه القضية.
ويُقال: إنه كان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، وكان ذلك مما حرّكه على قتلهم، وعليّ كان رسولاً في ذلك.
وأما قوله: (إنه أمره أن يسترضي القوم من فعله).
فكلامُ جاهل ؛ فإنما أرسله لإنصافهم وضمان ما تلف لهم، لا لمجرد الاسترضاء.
وكذلك قوله عن خالد: (إنه خانه وخالف أمره وقتل المسلمين).
كذب على خالد ؛فإن خالدًا لم يتعمد خيانة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مخالفة أمره، ولا قتل من هو مسلم معصوم عنده، ولكنه أخطأ كما أخطأ أسامة بن زيد في الذي قتله بعد أن قال: لا إله إلا الله، وقتل السرية لصاحب الغنَيمْةَ الذي قال: أنا مسلم، فقتلوه وأخذوا غنمه.(1/250)
(فصل)
قال الرافضي: (ولما قُبض النبي صلى الله عليه وسلم وأنفذه أبو بكر لقتال أهل اليمامة قتل منهم ألفًا ومائتي نفر مع تظاهرهم بالإسلام، وقتل مالك بن نويرة صبرًا وهو مسلم، وعرَّس بامرأته، وسمّوا بني حنيفة أهل الردة؛ لأنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر لأنهم لم يعتقدوا إمامته، واستحلّ دماءهم وأموالهم ونساءهم حتى أنكر عمر عليه، فسمّوا مانع الزكاة مرتدًا، ولم يسمّوا من استحلّ دماء المسلمين ومحاربة أمير المؤمنين مرتدًا، مع أنهم سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عليّ، حربك حربي وسلمك سلمي، ومحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافر بالإجماع).
والجواب بعد أن يقال: الله أكبر على هؤلاء المرتدين المفترين، أتباع المرتدّين الذين برزوا بمعاداة الله ورسوله وكتابه ودينه، ومرقوا من الإسلام ونبذوه وراء ظهورهم، وشاقّوا الله ورسوله وعباده المؤمنين، وتولوا أهل الردة والشقاق، فإن هذا الفصل وأمثاله من كلامهم يحقق أن هؤلاء القوم المتعصبين على الصدّيق رضي الله عنه وحزبه من جنس المرتدّين الكفار، كالمرتدين الذين قاتلهم الصديق رضي الله عنه.(1/251)
وذلك أن أهل اليمامة هم بنو حنيفة الذين كانوا قد آمنوا بمسيلمة الكذاب، الذي ادّعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد قدم المدينة وأظهر الإسلام، وقال: إن جعل محمد لي الأمر من بعده آمنت به، ثم لما صار إلى اليمامة ادّعى أنه شريك النبي صلى الله عليه وسلم في النبوّة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صدّقه على ذلك، وشهد له الرَجَّال بن عُنْفُوة، وكان قد صنّف قرآنا يقول فيه: (والطاحنات طحنًا، فالعاجنات عجنًا، فالخابزات خبزًا، إهالة وسمنًا، إن الأرض بيننا و بين قريش نصفين، ولكن قريش قوم لا يعدلون). ومنه قوله لعنه الله: (يا ضفدع بنت ضفدعين، نقّي كم تنقّين، لا الماء تكدّرين، ولا الشارب تمنعين، رأسك في الماء وذنبك في الطين) ومنه قوله لعنه الله: (الفيل وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل، إن ذلك من خلق ربنا الجليل) ونحو ذلك من الهذيان السمج الذي قال فيه الصديق رضي الله عنه لقومه لما قرؤوه عليه: (ويلكم! أين يذهب بعقولكم، إن هذا كلام لم يخرج من إله).
وكان هذا الكذّاب قد كتب للنبي صلى الله عليه وسلم: (من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله. أما بعد: فإني قد أُشركت في الأمر معك) فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب) فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه أبو بكر خالد بن الوليد فقاتله بمن معه من المسلمين، بعد أن قاتل خالد بن الوليد طليحة الأسديّ، الذي كان أيضًا قد ادّعى النبوة، واتبعه طوائف من أهل نجد، فلما نصر الله المؤمنين على هؤلاء وهزموهم، وقُتل ذلك اليوم عُكاشة بن محصن الأسدي، وأسلم بعد ذلك طليحة الأسدي هذا، ذهبوا بعد ذلك إلى مسيلمة الكذّاب باليمامة، ولقي المؤمنون في حربه شدة عظيمة، وقتل في حربه طائفة من خيار الصحابة، مثل: زيد بن الخطاب، وثابت بن قيس بن الشمّاس، وأُسيد بن حضير وغيرهم.(1/252)
وفي الجملة فأمر مسيلمة الكذّاب وادعاؤه النبوة واتّباع بني حنيفة له باليمامة، وقتال الصدّيق لهم على ذلك، أمر متواتر مشهور، قد علمه الخاص والعام، كتواتر أمثاله، وليس هذا من العلم الذي تفرّد به الخاصّة، بل علم الناس بذلك أظهر من علمهم بقتال الجمل وصفِّين، فقد ذُكر عن بعض أهل الكلام أنه أنكر الجمل وصفِّين، وهذا الإنكار -وإن كان باطلاً- فلم نعلم أحدًا أنكر قتال أهل اليمامة، وأن مسيلمة الكذاب ادّعى النبوة، وأنهم قاتلوه على ذلك.
لكن هؤلاء الرافضة من جحدهم لهذا وجهلهم به بمنزلة إنكارهم لكون أبي بكر وعمر دفنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وإنكارهم لموالاة أبي بكر وعمر للنبي صلى الله عليه وسلم، ودعواهم أنه نصَّ على عليّ بالخلافة، بل منهم من ينكر أن تكون زينب ورقيَّة وأم كلثوم من بنات النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: إنهن لخديجة من زوجها الذي كان كافرًا قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من يقول: إن عمر غصب بنت عليّ حتى زوّجه بها، وأنه تزوج غصبًا في الإسلام، ومنهم من يقول: إنهم بعجوا بطن فاطمة حتى أُسقطت، وهدموا سقف بيتها على من فيه، وأمثال هذه الأكاذيب التي يعلم من له أدنى علم ومعرفة أنها كذب، فهم دائمًا يعمدون إلى الأمور المعلومة المتواترة ينكرونها، وإلى الأمور المعدومة التي لا حقيقة لها يثبتونها، فلهم أوفر نصيب من قوله تعالى: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ))[العنكبوت:68]، فهم يفترون الكذب ويكذّبون بالحق، وهذا حال المرتدين.
وهم يدّعون أن أبا بكر وعمر ومن اتّبعهما ارتدّوا عن الإسلام، وقد علم الخاص والعام أن أبا بكر هو الذي قاتل المرتدّين، فإذا كانوا يدّعون أن أهل اليمامة مظلومون قُتلوا بغير حق، وكانوا منكرين لقتال أولئك متأوّلين لهم، كان هذا مما يحقق أن هؤلاء الخلف تبع لهؤلاء السلف، وأن الصدّيق وأتباعه يقاتلون المرتدّين في كل زمان.(1/253)
وقوله: (إنهم سمّوا بني حنيفة مرتدين، لأنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر).
فهذا من أظهر الكذب وأبْيَنه ؛ فإنه إنما قاتل بني حنيفة لكونهم آمنوا بمسيلمة الكذَّاب، واعتقدوا نبوّته، وأما مانعو الزكاة فكانوا قومًا آخرين غير بني حنيفة، وهؤلاء كان قد وقع لبعض الصحابة شبهة في جواز قتالهم، وأما بنو حنيفة فلم يتوقف أحد في وجوب قتالهم، وأما مانعو الزكاة فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا خليفة رسول الله، كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقّها وحسابهم على الله) فقال أبو بكر: ألم يقل: (إلا بحقها) فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عَنَاقًا أو عُقالاً كانوا يؤدّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم عليه)(1).
وهؤلاء لم يقاتلوهم لكونهم لم يؤدوها إلى الصدّيق ؛ فإنهم لو أعطوها بأنفسهم لمستحقيها ولم يؤدوها إليه لم يقاتلهم، هذا قول جمهور العلماء، كأبي حنيفة وأحمد وغيرهما، وقالوا: إذا قالوا: نحن نؤديها بأنفسنا ولا ندفعها إلى الإمام، لم يكن له قتالهم، فإن الصدّيق رضي الله عنه لم يقاتل أحدًا على طاعته، ولا ألزم أحدًا بمبايعته، ولهذا لما تخلّف عن بيعته سعد لم يكرهه على ذلك.
فقول القائل: (سمّوا بني حنيفة أهل الردة؛ لأنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر، لأنهم لم يعتقدوا إمامته) من أظهر الكذب والفرية، وكذلك قوله: (إن عمر أنكر قتال بني حنيفة).
وأما قوله: (ولم يسمّوا من استحل دماء المسلمين، ومحاربة أمير المؤمنين، مرتدًا، مع أنهم سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عليّ، حربك حربي وسلمك سلمي) ومحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافر بالإجماع).
__________
(1) البخاري ج 9/93) ومسلم (1/51).(1/254)
فيقال في الجواب: أولاً: دعواهم أنهم سمعوا هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم أو عنه كذب عليهم، فمن الذي نقل عنهم أنهم سمعوا ذلك؟ وهذا الحديث ليس في شيء من كتب علماء الحديث المعروفة، ولا رُوي بإسناد معروف، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله لم يجب أن يكونوا قد سمعوه، فإنه لم يسمع كلٌّ منهم كل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف إذا لم يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، ولا روي بإسناد معروف؟ بل كيف إذا عُلم أنه كذب موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل العلم بالحديث؟
وعلي ّ رضي الله عنه لم يكن قتاله يوم الجمل وصفّين بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان رأيًا رآه.
وقال أبو داوُد في سننه: (حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم الهذلي، حدثنا ابن عليّه، عن يونس، عن الحسن، عن قيس بن عبّاد قال: قلت لعليّ رضي الله عنه: أخبرنا عن مسيرك هذا: أعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم رأي رأيتَه؟ قال: ما عهد إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، ولكنه رأى رأيته)(1).
ولو كان محارب عليّ محاربًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مرتدًا، لكان عليّ يسير فيهم السيرة في المرتدين. وقد تواتر عن عليّ يوم الجمل لما قاتلهم أنه لم يتّبع مدبرهم، ولم يُجهّز على جريحهم، ولم يغنم لهم مالاً، ولا سبى لهم ذرية، وأمر مناديه ينادي في عسكره: أن لا يُتّبع لهم مُدبر، ولا يُجهز على جريحهم، ولا تُغنم أموالهم، ولو كانوا عنده مرتدّين لأجهز على جريحهم واتّبع مدبرهم، وكانت عائشة فيهم، فإن قلتم: إنها ليست أمّنًا كفرتم بكتاب الله، وإن قلتم: هي أمنًا واستحللتم وطأها كفرتم بكتاب الله.
وإن كان أولئك مرتدين، وقد نزل الحسن عن أمر المسلمين، وسلّمه إلى كافر مرتد، كان المعصوم عندهم قد سلّم أمر المسلمين إلى المرتدين، وليس هذا من فعل المؤمنين، فضلاً عن المعصومين.
__________
(1) انظر: السنن (4/300).(1/255)
وأيضًا: فإن كان أولئك مرتدّين، والمؤمنون أصحاب عليّ، لكان الكفار المرتدّون منتصرين على المؤمنين دائمًا.
والله تعالى يقول في كتابه: ((إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يُقُومُ الأَشْهَاد))[غافر:51]، وأيضًا: فإن الله تعالى يقول في كتابه: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا))[الحجرات:9]، فقد جعلهم مؤمنين إخوة مع الاقتتال والبغي.
وأيضًا: فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تمرق مارقة على حين فُرقة من المسلمين تقتلهم أوْلى الطائفتين بالحق) وقال: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) وقال لعمّار: (تقتلك الفئة الباغية) لم يقل: الكافرة(1).
وهذه الأحاديث صحيحة عند أهل العلم بالحديث، وهي مروية بأسانيد متنوعة، لم يأخذ بعضهم عن بعض. وهذا مما يوجب العلم بمضمونها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الطائفتين المفترقتين مسلمتان، ومدح من أصلح الله به بينهما، وقد أخبر أنه تمرق مارقة وأنه تقتلها أدنى الطائفتين إلى الحق.
ثم يقال لهؤلاء الرافضة: لو قالت لكم النواصب: عليّ قد استحل دماء المسلمين، وقاتلهم بغير أمر الله ورسوله على رياسته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)(2)، وقال: (لا ترجعوا بعدي كفَّارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)(3) فيكون عليّ كافرًا لذلك، لم تكن حجتكم أقوى من حجتهم؛ لأن الأحاديث التي احتجّوا بها صحيحة.
__________
(1) سبقت هذه الأحاديث.
(2) انظر: البخاري (1/51) ومسلم (1/81).
(3) البخاري (1/31) ومسلم (1/81- 82).(1/256)
وأيضًا فيقولون: قتل النفوس فساد، فمن قتل النفوس على طاعته كان مريدًا للعلو في الأرض والفساد، وهذا حال فرعون والله تعالى يقول: ((تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ))[القصص:83] ؛ فمن أراد العلو في الأرض والفساد لم يكن من أهل السعادة في الآخرة، وليس هذا كقتال الصدّيق للمرتدين ولمانعي الزكاة ؛ فإن الصدّيق إنما قاتلهم على طاعة الله ورسوله، لا على طاعته، فإن الزكاة فرضٌ عليهم، فقاتلهم على الإقرار بها، وعلى أدائها، بخلاف من قاتل ليُطاع هو.
(فصل)
قال الرافضي: (وقد أحسن بعض الفضلاء في قوله: شر من إبليس من لم يسبقه في سالف طاعته، وجرى معه في ميدان معصيته، ولا شك بين العلماء أن إبليس كان أعبد من الملائكة, وكان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة, ولما خلق الله آدم وجعله خليفة في الأرض, وأمره بالسجود فاستكبر فاستحق اللعنة والطرد, ومعاوية لم يزل في الإشراك وعبادة الأصنام إلى أن أسلم بعد ظهور النبي صلى الله عليه وسلم بمدة طويلة, ثم استكبر عن طاعة الله في نصب أمير المؤمنين عليه إماماً, وبايعه الكل بعد قتل عثمان وجلس مكانه، فكان شرًا من إبليس).
فيقال: هذا الكلام فيه من الجهل والضلال والخروج عن دين الإسلام وكل دين بل وعن العقل الذي يكون لكثير من الكفار، ما لا يخفي على من تدبره.
أما أولاً: فلأن إبليس أكفر من كل كافر، وكل من دخل النار فمن أتباعه، كما قال تعالى: ((لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ))[ص:85]. وهو الآمر لهم بكل قبيح المزيّن لهم فكيف يكون أحد شرًا منه؟ لا سيما من المسلمين، لا سيما من الصحابة؟(1/257)
وقول هذا القائل: (شر من إبليس من لم يسبقه في سالف طاعة، وجرى معه في ميدان المعصية) يقتضي أن كل من عصى الله فهو شر من إبليس، لانه لم يسبقه في سالف طاعة, وجرى معه في ميدان المعصية، وحينئذٍ فيكون آدم وذريته شرًا من إبليس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون)(1).
ثم هل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر: أن من أذنب ذنبًا من المسلمين يكون شرًا من إبليس؟ أوليس هذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام؟وقائل هذا كافر كفرا معلوما بالضرورة من الدين، وعلى هذا فالشيعة دائمًا يذنبون، فيكون كل منهم شرًا من إبليس، ثم إذا قالت الخوارج: إن علياّ أذنب فيكون شرا من إبليس –لم يكن للروافض حجة إلا دعوى عصمته، وهم لا يقدرون أن يقيموا حجة على الخوارج بإيمانه وإمامته وعدالته، فكيف يقيمون حجة عليهم بعصمته؟ ولكن أهل السنة تقدر أن تقيم الحجة بإيمانه وإمامته, لأن ما تحتج به الرافضة منقوض ومعارض بمثله، فيبطل الاحتجاج به.
ثم إذا قام الدليل على قول الجمهور الذي دل عليه القرآن كقوله تعالى: ((وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى))[طه:121], لزم أن يكون آدم شرًا من إبليس.
وفي الجملة فلوازم هذا القول وما فيه من الفساد يفوق الحصر والتعداد.
وأما ثانيًا: فهذا الكلام كلام بلا حجة، بل هو باطل في نفسه، فلم قلت: إن شرًا من إبليس من لم يسبقه في سالف طاعة وجرى معه ميدان معصية؟ وذلك أن أحدًا لا يجري مع إبليس في ميدان معصيته كلها, فلا يتصور أن يكون في الآدميين من يساوي إبليس في معصيته، بحيث يضل الناس كلهم ويغويهم.
__________
(1) رواه الترمذي (4/70) وابن ماجة (2/1420) وغيريهما.(1/258)
وأما طاعة إبليس المتقدمة فهي حابطة بكفره بعد ذلك، فإن الردة تحبط العمل, فما تقدم من طاعته: إن كان طاعة فهي حابطة بكفره وردته، وما يفعله من المعاصي لا يماثله أحد فيه،فامتنع أن يكون أحد شرًا منه, وصار نظير هذا المرتد الذي يقتل النفوس ويزني ويفعل عامة القبائح بعد سابق طاعاته, فمن جاء بعده ولم يسبقه إلى تلك الطاعات الحابطة، وشاركه في قليل من معاصيه، لا يكون شرًا منه، فكيف يكون أحد شرًا من إبليس؟؟
وهذا ينقض أصول الشيعة: حقها وباطلها، وأقل ما يلزمهم أن يكون أصحاب علي الذين قاتلوا معه, وكانوا أحيانًا يعصونه, شرًا من الذين امتنعوا عن مبايعته من الصحابة، لأن هؤلاء عبدوا الله قبلهم، وأولئك جروا معهم في ميدان المعصية.
ويقال: ثالثًا: ما الدليل على أن إبليس كان أعبد الملائكة؟ وأنه كان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة؟ أو أنه كان من حملة العرش في الجملة؟ أو أنه كان طاوس الملائكة؟ أو أنه ما ترك في السماء رقعة ولا في الأرض بقعة إلا وله فيها سجدة وركعة؟ ونحو ذلك مما يقوله بعض الناس؟ فإن هذا أمر إنما يعلم بالنقل الصادق، وليس في القرآن شيء من ذلك ولا في ذلك خبر صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهل يحتج بمثل هذا في أصول الدين إلا من هو من أعظم الجاهلين؟!!
وأعجب من ذلك قوله: (ولا شك بين العلماء أن إبليس كان أعبد الملائكة).(1/259)
فيقال: من الذي قال هذا من علماء الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين؟ فضلاً عن أن يكون هذا متفقًا عليه بين العلماء؟ وهذا شيء لم يقله قط عالم يقبل قوله من علماء المسلمين، وهو أمر لا يعرف إلا بالنقل، ولم ينقل هذا أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، فإن كان قاله بعض الوعّاظ أو المصنفين في الرقائق، أو بعض من ينقل في التفسير من الإسرائيليات ما لا أسناد له, فمثل هذا لا يحتج به في جرزة بقل, فكيف يحتج به في جعل إبليس خيرًا من كل من عصى الله من بني آدم ويجعل الصحابة من هؤلاء الذين إبليس خير منهم؟
وما وصف الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم إبليس بخير قط ولا بعبادة متقدمة ولا غيرها، مع أنه لو كان له عبادة لكانت قد حبطت بكفره وردته.
وأعجب من ذلك قوله: (لا شك بين العلماء أنه كان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة) فياسبحان الله! هل قال ذلك أحد من علماء المسلمين المقبولين عند المسلمين؟ وهل يتكلم بذلك إلا مفرط في الجهل؟ فإن هذا لا يعرف -لو كان حقاً- إلا بنقل الأنبياء، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء.
ويقال: قد ثبت إسلام معاوية رضي الله عنه، والإسلام يَجُبُّ ما قبله، فمن ادّعى أنه ارتدّ بعد ذلك كان مدّعيًا دعوى بلا دليل لولم يُعلم كذب دعواه، فكيف إذا عُلم كذب دعواه، وأنه ما زال على الإسلام إلى أن مات، كما علم بقاء غيره على الإسلام؟ فالطريق الذي يُعلم به بقاء إسلام أكثر الناس من الصحابة وغيرهم، يُعلم به بقاء إسلام معاوية رضي الله عنه، والمدّعي لارتداد معاوية وعثمان وأبي بكر وعمر رضي الله عنهم ليس هو أظهر حجة من المدّعي لارتداد عليّ، فإن المدَّعي كان لارتداد عليّ كاذبًا، فالمدَّعي لارتداد هؤلاء أظهر كذبًا، لأن الحجة على بقاء إيمان هؤلاء أظهر، وشبهة الخوارج أظهر من شبهة الروافض.(1/260)
ويقال: هذه الدعوى إن كانت صحيحة، ففيها من القدح والغضاضة بعليّ والحسن وغيرهما ما لا يخفي، وذلك أنه كان مغلوبًا مع المرتدّين، وكان الحسن قد سلَّم أمر المسلمين إلى المرتدّين، فيكون نصر الله لخالد على الكفار أعظم من نصره لعليّ، والله سبحانه وتعالى عدل لا يظلم واحدًا منهما، فيكون ما استحقه خالد من النصر أعظم مما استحقه عليّ، فيكون أفضل عند الله منه.
ويقال: قوله: (وبايعه الكل بعد عثمان).
إن لم يكن هذا حجة فلا فائدة فيه، وإن كان حجة فمبايعتهم لعثمان كان اجتماعهم عليها أعظم، وأنتم لا ترون الممتنع عن طاعة عثمان كافرًا، بل مؤمنًا تقيًّا.
ويقال: اجتماع الناس على مبايعة أبي بكر كانت على قولكم أكمل، وأنتم وغيركم تقولون: إن عليًّا تخلف عنها مدة، فيلزم على قولكم أن يكون عليّ مستكبرًا عن طاعة الله في نصب أبي بكر عليه إمامًا، فيلزم حينئذٍ كفر عليّ بمقتضى حجتكم، أو بطلانها في نفسها، وكفر عليّ باطل، فلزم بطلانها.
ويقال: قولكم: (بايعه الكل بعد عثمان).
من أظهر الكذب، فإن كثيرًا من المسلمين: إما النصف، وإما أقل أو أكثر لم يبايعوه، ولم يبايعه سعد بن أبي وقاص ولا ابن عمر ولا غيرهما.
ويقال: قولكم: (إنه جلس مكانه).(1/261)
كذب؛ فإن معاوية لم يطلب الأمر لنفسه ابتداء، ولا ذهب إلى عليّ لينزعه عن إمارته، ولكن امتنع هو وأصحابه عن مبايعته، وبقي على ما كان عليه واليًا على من كان واليًا عليه في زمن عمر وعثمان، ولما جرى حكم الحكمين إنما كان متوليًا على رعيته فقط، فإن أريد بجلوسه في مكانه أنه استبد بالأمر دونه في تلك البلاد، فهذا صحيح، لكن معاوية رضي الله عنه يقول: إني لم أنازعه شيئًا هو في يده، ولم يثبت عندي ما يوجب عليّ دخولي في طاعته، وهذا الكلام سواء كان حقًا أو باطلاً لا يوجب كون صاحبه شرًّا من إبليس، ومن جعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شرًّا من إبليس، فما أبقى غاية في الافتراء على الله ورسوله والمؤمنين، والعدوان على خير القرون في مثل هذا المقام، والله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، والهوى إذا بلغ بصاحبه إلى هذا الحد فقد أخرج صاحبه عن ربقة العقل، فضلاً عن العلم والدين، فنسأل الله العافية من كل بليّة، وإن حقًّا على الله أن يذل أصحاب مثل هذا الكلام، وينتصر لعباده المؤمنين - من أصحاب نبيه وغيرهم - من هؤلاء المفترين الظالمين.(1/262)
(فصل)
قال الرافضي: (وتمادى بعضهم في التعصب حتى اعتقد إمامة يزيد بن معاوية مع ما صدر عنه من الأفعال القبيحة من قتل الإمام الحسين ونهب أمواله وسبى نسائه ودورانهم في البلاد على الجمال بغير قتب، ومولانا زين العابدين مغلول اليدين، ولم يقنعوا بقتله حتى رضُّوا أضلاعه وصدره بالخيول، وحملوا رءوسهم على القنا مع أن مشايخهم رووا أن يوم قتل الحسين مطرت السماء دمًا، وقد ذكر ذلك الرافعي في (شرح الوجيز) وذكر ابن سعد في (الطبقات) أن الحمرة ظهرت في السماء يوم قتل الحسين ولم تر قبل ذلك). وقال أيضًا: (ما رفع حجرًا في الدنيا إلا وتحته دم عبيط، ولقد مطرت السماء مطرًا بقي أثره في الثياب مدة حتى تقطعت). قال الزهري: ما بقي أحد من قاتلي الحسين إلا وعوقب في الدنيا: إما بالقتل وإما بالعمى أو سواد الوجه أو زوال الملك في مدة يسيرة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الوصية للمسلمين في ولديه الحسن والحسين، ويقول لهم: هؤلاء وديعتي عندكم، وأنزل الله تعالى: ((قُل لاَّ أسأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجرًا إلاَّ الْمَوَدَّةَ في القُرْبَى))[الشورى:23].
والجواب: أما قوله: (وتمادى بعضهم في التعصب حتى اعتقد إمامة يزيد بن معاوية).
إن أراد بذلك أنه اعتقد أنه من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، كأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، فهذا لم يعتقده أحد من علماء المسلمين، وإن اعتقد مثل هذا بعض الجهال، كما يحكى عن بعض الجهال من الأكراد ونحوهم أنه يعتقد أن يزيد من الصحابة، وعن بعضهم أنه من الأنبياء، وبعضهم يعتقد أنه من الخلفاء الراشدين المهديين، فهؤلاء ليسوا من أهل العلم الذين يحكى قولهم، وهم مع هذا الجهل خير من جهال الشيعة وملاحدتهم الذين يعتقدون إلاهية عليّ، أو نبوته، أو يعتقدون أن باطن الشريعة يناقض ظاهرها، كما تقول الإسماعيلية والنصيرية وغيرهم من أنه يسقط عن خواصهم الصوم والصلاة والحج والزكاة، وينكرون المعاد.(1/263)
وأما علماء أهل السنة الذين لهم قول يُحكى فليس فيهم من يعتقد أن يزيد وأمثاله من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، بل أهل السنة يقولون بالحديث الذي في السنن: (خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم تصير ملكًا)(1).
وإن أراد باعتقادهم إمامة يزيد، أنهم يعتقدون أنه كان ملك جمهور المسلمين وخليفتهم في زمانه صاحب السيف، كما كان أمثاله من خلفاء بني أمية وبني العباس، فهذا أمر معلوم لكل أحد، ومن نازع في هذا كان مكابرًا؛ فإن يزيد بويع بعد موت أبيه معاوية، وصار متوليًا على أهل الشام ومصر والعراق وخراسان وغير ذلك من بلاد المسلمين.
وهذا معنى كونه إمامًا وخليفة وسلطانًا، كما أن إمام الصلاة هو الذي يصلّي بالناس، فإذا رأينا رجلاً يصلّي بالناس كان القول بأنه إمام أمرًا مشهودًا محسوسًا لا يمكن المكابرة فيه، وأما كونه برًّا أو فاجرًا، أو مطيعًا أو عاصيًا، فذاك أمر آخر.
فأهل السنّة إذا اعتقدوا إمامة الواحد من هؤلاء: يزيد، أو عبد الملك، أو المنصور، أو غيرهم – كان بهذا الاعتبار. ومن نازع في هذا فهو شبيه بمن نازع في ولاية أبي بكر وعمر وعثمان، وفي ملك كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم من الملوك.
وأما كون الواحد من هؤلاء معصومًا، فليس هذا اعتقاد أحد من علماء المسلمين، وكذلك كونه عادلاً في كل أموره، مطيعًا لله في جميع أفعاله، ليس هذا اعتقاد أحد من أئمة المسلمين.
__________
(1) تقدمت الإشارة إليه.(1/264)
وأما مقتل الحسين رضي الله عنه فلا ريب أنه قُتل مظلومًا شهيدًا، كما قُتل أشباهه من المظلومين الشهداء، وقتل الحسين معصية لله ورسوله ممن قتله أو أعان على قتله أو رضي بذلك، وهو مصيبة أصيب بها المسلمون من أهله وغير أهله، وهو في حقِّه شهادة له، ورفع درجة، وعلو منزلة ؛ فإنه وأخاه سبقت لهما من الله السعادة، التي لا تُنال إلا بنوع من البلاء، ولم يكن لهما من السوابق ما لأهل بيتهما، فإنهما تربيا في حجر الإسلام، في عز وأمان، فمات هذا مسمومًا وهذا مقتولاً، لينالا بذلك منازل السعداء وعيش الشهداء.
وليس ما وقع من ذلك بأعظم من قتل الأنبياء ؛ فإن الله تعالى قد أخبر أن بني إسرائيل كانوا يقتلون النبيين بغير حق، وقتل النبي أعظم ذنبًا ومصيبة، وكذلك قتل عليّ رضي الله عنه أعظم ذنبًا ومصيبة، وكذلك قتل عثمان رضي الله عنه أعظم ذنبًا ومصيبة، إذا كان كذلك فالواجب عند المصائب الصبر والاسترجاع، كما يحبه الله ورسوله.
(فصل)
وصار الشيطان بسبب قتل الحسين رضي الله عنه يُحدث للناس بدعتين: بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء، من اللطم والصراخ والبكاء والعطش وإنشاد المراثي، وما يُفضي إليه ذلك من سبّ السلف ولعنتهم، وإدخال من لا ذنب له مع ذوي الذنوب، حتى يُسب السابقون الأولون، وتقرأ أخبار مصرعه التي كثير منها كذب، وكان قصد من سنّ ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة ؛ فإن هذا ليس واجبًا ولا مستحبًا باتفاق المسلمين، بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة من أعظم ما حرّمه الله ورسوله، وكذلك بدعة السرور والفرح.
وأما ما ذكره من سبي نسائه والذراري، والدوران بهم في البلاد، وحملهم على الجمال بغير أقتاب، فهذا كذب وباطل: ما سبى المسلمون -ولله الحمد- هاشميةً قط، ولا استحلت أمة محمد صلى الله عليه وسلم سبى بني هاشم قط، ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيرًا، كما تقول طائفة منهم: إن الحجاج قتل الأشراف، يعنون بني هاشم.(1/265)
(فصل)
قال الرافضي: (وتوقف جماعة ممن لا يقول بإمامته في لعنه مع أنه عندهم ظالم بقتل الحسين ونهب حريمه، وقد قال الله تعالى: ((أَلا لَعْنَةُ اللهِ على اَلظَّاِلمينَ))[هود:18] وقال أبو الفرج ابن الجوزي من شيوخ الحنابلة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أوحى الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم: إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفًا، وإني قاتل بابن بنتك سبعين ألفًا وسبعين ألفًا، وحكى السُدِّي وكان من فضلائهم قال: نزلت بكربلاء ومعي طعام للتجارة، فنزلنا على رجل فتعشينا عنده، وتذاكرنا قتل الحسين وقلنا: ما شرك أحد في قتل الحسين إلا ومات أقبح موته. فقال الرجل: ما أكذبكم، أنا شركت في دمه وكنت ممن قتله فما أصابني شيء، قال: فلما كان من آخر الليل إذا أنا بصائح، قلنا: ما الخبر؟ قالوا: قام الرجل يصلح المصباح فاحترقت إصبعه، ثم دب الحريق في جسده فاحترق. قال السدي: فأنا والله رأيته وهو حممة سوداء، وقد سأل مهنا بن يحيى أحمد بن حنبل عن يزيد، فقال: هو الذي فعل ما فعل. قلت: وما فعل؟ قال: نهب المدينة. وقال له صالح ولده يومًا: إن قومنا ينسبوننا إلى تولي يزيد. فقال: يا بني، وهل يتولى يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقال: لم لا تلعنه. فقال: وكيف لا ألعن من لعنه الله في كتابه؟ فقلت: وأين لعن يزيد؟ فقال: في قوله تعالى: ((فهلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمُ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أَوْلئِكَ الَّذينَ لَعَنَهُمْ اللهُ فأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ))[محمد:22-23] فهل يكون فساد أعظم من القتل ونهب المدينة ثلاثة أيام وسبي أهلها؟ وَقَتَلَ جمعًا من وجوه الناس فيها من قريش والأنصار والمهاجرين من يبلغ عددهم سبعمائة، وقتل من لم يعرف من عبدٍ أو حرٍ أو امرأة عشرة آلاف، وخاض الناس في الدماء حتى وصلت الدماء إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وامتلأت الروضة والمسجد، ثم ضرب الكعبة(1/266)
بالمنجنيق وهدمها وأحرقها).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن قاتل الحسين في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل النار وقد شُدَّ يداه ورجلاه بسلاسل من نار ينكس في النار حتى يقع في قعر جهنم، وله ريح يتعوذ أهل النار إلى ربهم من شدة نتن ريحه، وهو فيها خالد وذائق العذاب الأليم، كلما نضجت جلودهم بدَّل الله لهم الجلود حتى يذوقوا العذاب، لا يفتّر عنهم ساعة، ويسقى من حميم جهنم، الويل لهم من عذاب الله عز وجل، وقال عليه الصلاة والسلام: اشتد غضب الله وغضبي على من أراق دم أهلي وآذاني في عترتي).
والجواب: أن القول في لعنة يزيد كالقول في لعنة أمثاله من الملوك الخلفاء وغيرهم، ويزيد خير من غيره:خير من المختار بن أبي عبيد الثقفي أمير العراق، الذي أظهر الانتقام من قتلة الحسين ؛ فإن هذا ادّعى أن جبريل يأتيه، وخير من الحجاج بن يوسف ؛ فإنه أظلم من يزيد باتفاق الناس.
ومع هذا فيُقال: غاية يزيد وأمثاله من الملوك أن يكونوا فسّاقًا، فلعنة الفاسق المعيَّن ليست مأمورًا بها، إنما جاءت السنّة بلعنة الأنواع، كقول النبي: (لعن الله السارق؛ يسرق البيضة فتقطع يده)(1). وقوله: (لعن الله من أحدث حَدَثا أو آوى محدثًا)(2). وقوله: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه)(3) وقوله: (لعن الله المحَلِّلَ والمحَلَّلَ له)(4)، (لعن الله الخمر وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وساقيها، وشاربها، وآكل ثمنها)(5).
__________
(1) البخاري (8/159) ومسلم (3/1314).
(2) مسلم (3/1567).
(3) البخاري (7/169) ومسلم (3/1219).
(4) سنن أبي داود (2/307) والترمذي (2/294).
(5) سنن أبي داود (3/445).(1/267)
وأما ما فعله بأهل الحرَّة، فإنهم لما خلعوه وأخرجوا نوابه وعشيرته، أرسل إليهم مرة بعد مرة يطلب الطاعة، فامتنعوا، فأرسل إليهم مسلم بن عقبة المرّي، وأمره إذا ظهر عليهم أن يبيح المدينة ثلاثة أيام، وهذا هو الذي عظم إنكار الناس له من فعل يزيد، ولهذا قيل لأحمد: أتكتب الحديث عن يزيد؟ قال: لا ولا كرامة، أو ليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل؟
لكن لم يقتل جميع الأشراف، ولا بلغ عدد القتلى عشرة آلاف، ولا وصلت الدماء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا إلى الروضة، ولا كان القتل في المسجد، وأما الكعبة فإن الله شرفها وعظّمها وجعلها محرَّمة، فلم يمكِّن الله أحدًا من إهانتها لا قبل الإسلام ولا بعده، بل لما قصدها أهل الفيل عاقبهم الله العقوبة المشهورة.
وأما الحديث الذي رواه وقوله: (إن قاتل الحسين في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل النار، وقد شُدت يداه ورجلاه بسلاسل من نار، يُنَكَّس في النار حتى يقع في قعر جهنم، وله ريح يتعوّذ أهل النار إلى ربهم من شدة نتن ريحه، وهو فيها خالد) إلى آخره.
فهذا من أحاديث الكذّابين الذين لا يستحيون من المجازفة في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يكون على واحد نصف عذاب أهل النار؟ أو يُقدِّر نصف عذاب أهل النار؟ وأين عذاب آل فرعون وآل المائدة والمنافقين وسائر الكفار؟ وأين قتلة الأنبياء، وقتلة السابقين الأوَّلين؟
وقاتل عثمان أعظم إثمًا من قاتل الحسين، فهذا الغلو الزائد يقابل بغلو الناصبة، الذين يزعمون أن الحسين كان خارجيًا، وأنه كان يجوز قتله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتاكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرِّق جماعتكم، فاضربوا عنقه بالسيف كائنًا من كان) رواه مسلم(1).
__________
(1) انظر: مسلم: (3/1479).(1/268)
وأهل السنّة والجماعة يردّون غلو هؤلاء وهؤلاء، ويقولون: إن الحسين قُتل مظلومًا شهيدًا، وإن الذين قتلوه كانوا ظالمين معتدين، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي يأمر فيها بقتال المفارق للجماعة لم تتناوله ؛فإنه رضي الله عنه لم يفرّق الجماعة، ولم يُقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده، أو إلى الثغر، أو إلى يزيد، داخلاً في الجماعة، معرضًا عن تفريق الأمة، ولو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك، فكيف لا تجب إجابة الحسين إلى ذلك؟ ولو كان الطالب لهذه الأمور من هو دون الحسين لم يجز حبسه ولا إمساكه، فضلاً عن أسره وقتله.
وكذلك قوله: (اشتد غضب الله وغضبي على من أراق دم أهلي وآذاني في عترتي).
كلام لا ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينسبه إليه إلا جاهل. فإن العاصم لدم الحسن والحسين وغيرهما من الإيمان والتقوى أعظم من مجرد القرابة، ولو كان الرجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأتى بما يبيح قتله أو قطعه، كان ذلك جائزًا بإجماع المسلمين.
كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)(1) فقد أخبر أن أعز الناس عليه من أهله لو أتى بما يوجب الحد لأقامه عليه، فلو زنا الهاشمي وهو محصن رُجم حتى يموت باتفاق علماء المسلمين، ولو قتل نفسًا عمدًا عدوانًا محضًا لجاز قتله به، وإن كان المقتول من الحبشة أو الروم أو الترك أو الديلم.
__________
(1) انظر: البخاري: (5/23)، ومسلم: (3/1315).(1/269)
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون تتكافأ دماؤهم)(1) فدماء الهاشميين وغير الهاشميين سواء إذا كانوا أحرارًا مسلمين باتفاق الأمة، فلا فرق بين إراقة دم الهاشمي وغير الهاشمي إذا كان بحق، فكيف يخص النبي صلى الله عليه وسلم أهله بأن يشتد غضب الله على من أراق دماءهم.
فإن الله حرَّم قتل النفس إلا بحق، فالمقتول بحق لِمَ يشتد غضب الله على من قتله، سواء كان المقتول هاشميًا أو غير هاشمي؟
وإن قتل بغير حق، فمن يَقْتُل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا. فالعاصم للدماء والمبيح لها يشترك فيها بنو هاشم وغيرهم، فلا يضيف مثل هذا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا منافق يقدح في نبوته، أو جاهل لا يعلم العدل الذي بُعث به صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قوله: (من آذاني في عترتي) فإن إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام في عترته وأمته وسنته وغير ذلك.
(فصل)
قال الرافضي: (فلينظر العاقل أي الفريقين أحق بالأمن: الذي نزَّه الله وملائكته وأنبياءه وأئمته ؛ ونزَّه الشرع عن المسائل الردّية، ومن يبطل الصلاة بإهمال الصلاة على أئمتهم، ويذكر أئمة غيرهم، أم الذي فعل ضد ذلك واعتقد خلافه؟).
__________
(1) رواه أبو داود (3/107) وابن ماجة (2/895) وأحمد (2/199). أحمد شاكر.(1/270)
والجواب أن يقال: ما ذكرتموه من التنزيه إنما هو تعطيل وتنقيص لله ولأنبيائه، بيان ذلك أن قول الجهمية نفاة الصفات يتضمن وصف الله تعالى بسلب صفات الكمال التي يشابه فيها الجمادات والمعدومات، فإذا قالوا: إنه لا تقوم به حياة ولا علم ولا قدرة، ولا كلام ولا مشيئة، ولا حب ولا بغض، ولا رضا ولا سخط، ولا يُرى ولا يفعل بنفسه فعلاً، ولا يقدر أن يتصرف بنفسه، كانوا قد شبّهوه بالجمادات المنقوصات، وسلبوه صفات الكمال، فكان هذا تنقيصًا وتعطيلاً لا تنزيهًا، وإنما التنزيه أن ينزَّه عن النقائص المنافية لصفات الكمال، فينزَّه عن الموت والسِّنة والنوم، والعجز والجهل والحاجة، كما نزَّه نفسه في كتابه، فيُجمع له بين إثبات صفات الكمال، ونفي النقائص المنافية للكمال، وينزّه عن مماثلة شيء من المخلوقات له في شيء من صفاته، وينزّه عن النقائص مطلقًا، وينزّه في صفات الكمال أن يكون له فيها مثلٌ من الأمثال.
وأما الأنبياء فإنكم سلبتموهم ما أعطاهم الله من الكمال وعلو الدرجات، بحقيقة التوبة والاستغفار، والانتقال من كمال إلى ما هو أكمل منه، وكذّبتم ما أخبر الله به من ذلك وحرَّفتم الكلم عن مواضعه، وظننتم أن انتقال الآدمي من الجهل إلى العلم، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الغي إلى الرشاد، تنقّصًا، ولم تعلموا أن هذا من أعظم نعم الله وأعظم قدرته، حيث ينقل العباد من النقص إلى الكمال، وأنه قد يكون الذي يذوق الشر والخير ويعرفهما، يكون حبه للخير وبغضه للشر أعظم ممن لا يعرف إلا الخير، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما تُنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية).
وأما تنزيه الأئمة فمن الفضائح التي يُستحيا من ذكرها، لا سيما الإمام المعدوم الذي لا يُنتفع به لا في دين ولا دنيا.(1/271)
وأما تنزيه الشرع عن المسائل الردّية، فقد تقدم أن أهل السنّة لم يتفقوا على مسألة ردّية، بخلاف الرافضة ؛ فإن لهم من المسائل الردّية ما لا يوجد لغيرهم.
وأما قوله: (ومن يبطل الصلاة بإهمال الصلاة على أئمتهم، ويذكر أئمة غيرهم).
فإما أن يكون المراد بذلك أن تجب الصلاة على الأئمة الاثنى عشر، أو على واحد معيّن غير النبي صلى الله عليه وسلم منهم أو من غيرهم.
وإما أن يكون المراد وجوب الصلاة على آل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أراد الأول فهذا من أعظم ضلالهم وخروجهم عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فإنا نحن وهم نعلم بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر المسلمين أن يصلّوا على الاثنى عشر: لا في الصلاة، ولا في غير الصلاة، ولا كان أحد من المسلمين يفعل شيئا من ذلك على عهده، ولا نقل هذا أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، ولا كان يجب على أحد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أحدًا من الاثنى عشر إمامًا، فضلاً عن أن تجب الصلاة عليه في الصلاة.
وكانت صلاة المسلمين صحيحة في عهده بالضرورة والإجماع، فمن أوجب الصلاة على هؤلاء في الصلاة، وأبطل الصلاة بإهمال الصلاة عليهم، فقد غيَّر دين النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبدَّله، كما بدَّلت اليهود والنصارى دين الأنبياء.
وإن قيل: المراد أن يصلى على آل محمد، وهم منهم.
قيل: آل محمد يدخل فيهم بنو هاشم وأزواجه، وكذلك بنو المطلب على أحد القولين، وأكثر هؤلاء تذمّهم الإمامية؛ فإنهم يذمون ولد العباس، لاسيما خلفاؤهم، وهم من آل محمد صلى الله عليه وسلم، ويذمّون من يتولى أبا بكر وعمر، وجمهور بني هاشم يتولون أبا بكر وعمر، ولا يتبرأ منهم صحيح النسب من بني هاشم إلا نفر قليل بالنسبة إلى كثرة بني هاشم، وأهل العلم والدين منهم يتولون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.(1/272)
ومن العجب من هؤلاء الرافضة أنهم يدَّعون تعظيم آل محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وهم سعوا في مجيء التتر الكفّار إلى بغداد دار الخلافة، حتى قتلت الكفار من المسلمين ما لا يحصيه إلا الله تعالى من بني هاشم وغيرهم وقتلوا بجهات بغداد ألف ألف وثمانمائة ألف ونيفًا وسبعين ألفًا وقتلوا الخليفة العباسي، وسبوا النساء الهاشميات وصبيان الهاشميين.
فهذا هو البغض لآل محمد صلى الله عليه وسلم بلا ريب، وكان ذلك من فعل الكفار بمعاونة الرافضة، وهم الذي سعوا في سبي الهاشميات ونحوهم إلى يزيد وأمثاله، فما يعيبون على غيرهم بعيب إلا وهو فيهم أعظم.
(فصل)
قال الرافضي: (السادس: أن الإمامية لما رأوا فضائل أمير المؤمنين وكمالاته لا تحصى قد رواها المخالف والموافق، ورأوا الجمهور قد نقلوا عن غيره من الصحابة مطاعن كثيرة، ولم ينقلوا في عليّ طعنًا ألبتة، اتّبعوا قوله وجعلوه إمامًا لهم حيث نزّهه المخالف والموافق، وتركوا غيره، حيث روى فيه من يعتقد إمامته من المطاعن ما يطعن في إمامته، ونحن نذكر هنا شيئًا يسيرًا مما هو صحيح عندهم ونقلوه في المعتمد من قولهم وكتبهم، ليكون حجة عليهم يوم القيامة.
فمن ذلك: ما رواه أبو الحسن الأندلسي في (الجمع بين الصحاح الستة) موطأ مالك وصحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود وصحيح الترمذي وصحيح النسائي عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن قوله تعالى: ((إِنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيًرا))[الأحزاب:33]. أنزلت في بيتها وأنا جالسة عند الباب، فقلت: يا رسول الله، ألست من أهل البيت؟ فقال: (إنك على خير، إنك من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. قالت: وفي البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين فجللهم بكساء، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا).(1/273)
والجواب أن يقال: إن الفضائل الثابتة في الأحاديث الصحيحة لأبي بكر وعمر أكثر وأعظم من الفضائل الثابتة لعليّ، والأحاديث التي ذكرها هذا وذكر أنها في الصحيح عند الجمهور، وأنهم نقلوها في المعتمد من قولهم وكتبهم، وهو من أبْيَنَ الكذب على علماء الجمهور ؛ فإن هذه الأحاديث التي ذكرها أكثرها كذب أو ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث، والصحيح الذي فيها ليس فيه ما يدل على إمامة عليّ ولا فضيلته عَلَى أبي بكر وعمر، بل وليست من خصائصه، بل هي من فضائل شاركه فيها غيره، بخلاف ما ثبت من فضائل أبي بكر وعمر ؛ فإن كثيرًا منها خصائص لهما، لا سيما فضائل أبي بكر، فإن عامتها خصائص لم يشركه فيها غيره.
وأما ما ذكره من المطاعن، فلا يمكن أن يوجّه على الخلفاء الثلاثة من مطعن إلا وُجه عَلَى عليّ ما هو مثله وأعظم منه.
فتبين أن ما ذكره في هذا الوجه من أعظم الباطل، ونحن نبيّن ذلك تفصيلاً.
وأما قوله: (إنهم جعلوه إمامًا لهم حيث نزَّهه المخالف والموافق، وتركوا غيره حيث روى فيه من يعتقد إمامته من المطاعن ما يطعن في إمامته).
فيقال: هذا كذب بيّن ؛ فإن عليًّا رضي الله عنه لم ينزّهه المخالفون، بل القادحون في عليّ طوائف متعددة، وهم أفضل من القادحين في أبي بكر وعمر وعثمان، والقادحون فيه أفضل من الغلاة فيه، فإن الخوارج متفقون على كفره، وهم عند المسلمين كلهم خير من الغلاة الذين يعتقدون إلاهيته أو نبوته، بل هم -والذين قاتلوه من الصحابة والتابعين- خير عند جماهير المسلمين من الرافضة الاثنى عشرية، الذين اعتقدوه إمامًا معصومًا.(1/274)
وأبو بكر وعمر وعثمان ليس في الأمة من يقدح فيهم إلا الرافضة، والخوارج المكفِّرون لعليّ يوالون أبا بكر وعمر ويترضُّون عنهما، والمروانية الذين يَنْسبون عليًّا إلى الظلم، ويقولون: إنه لم يكن خليفة يوالون أبا بكر وعمر مع أنهما ليسا من أقاربهم، فكيف يُقال مع هذا: إن عليًّا نزَّهه المؤالف والمخالف بخلاف الخلفاء الثلاثة؟
ومن المعلوم أن المنزِّهين لهؤلاء أعظم وأكثر وأفضل، وأن القادحين في عليّ -حتى بالكفر والفسوق والعصيان - طوائف معروفة، وهم أعلم من الرافضة وأَدْيَن، والرافضة عاجزون معهم علمًا ويدًا، فلا يمكن الرافضة أن تقيم عليهم حجة تقطعهم بها، ولا كانوا معهم في القتال منصورين عليهم.
والذين قدحوا في عليّ رضي الله عنه وجعلوه كافرًا وظالمًا ليس فيهم طائفة معروفة بالردة عن الإسلام، بخلاف الذين يمدحونه ويقدحون في الثلاثة، كالغالية الذين يدّعون إلاهيته من النصيرية وغيرهم، وكالإسماعيلية الملاحدة الذين هم شر من النصيرية، وكالغالية الذين يدّعون نبوَّته ؛ فإن هؤلاء كفار مرتدُّون، كفرهم بالله ورسوله ظاهر لا يخفى على عالم بدين الإسلام، فمن اعتقد في بشر الإلهية، أو اعتقد بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبيًا، أو أنه لم يكن نبيًا بل كان عليّ هو النبي دونه وإنما غلط جبريل ؛ فهذه المقالات ونحوها مما يظهر كفر أهلها لمن يعرف الإسلام أدنى معرفة.
بخلاف من يكفِّر عليًّا ويلعنه من الخوارج، وممن قاتله ولعنه من أصحاب معاوية وبني مروان وغيرهم ؛ فإن هؤلاء كانوا مقرّين بالإسلام وشرائعه: يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويصومون رمضان، ويحجون البيت العتيق، ويحرّمون ما حرم الله ورسوله، وليس فيهم كفر ظاهر، بل شعائر الإسلام وشرائعه ظاهرة فيهم معظمة عندهم، وهذا أمر يعرفه كل من عرف أحوال الإسلام، فكيف يدّعى مع هذا أن جميع المخالفين نزّهوه دون الثلاثة؟(1/275)
(فصل)
وأما حديث الكساء فهو صحيح رواه أحمد والترمذي من حديث أم سلمة، ورواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة، قالت:خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علّي فأدخله، ثم قال: ((إِنَّمَا يُرِيد ُاللهَ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرًا))[الأحزاب:33].
وهذا الحديث قد شركه فيه فاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم، فليس هو من خصائصه، ومعلوم أن المرأة لا تصلح للإمامة، فعُلم أن هذه الفضيلة لا تختص بالأئمة، بل يشركهم فيها غيرهم، ثم إن مضمون هذا لحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهم بأن يذهب عنهم الرجس ويطهّرهم تطهيرًا، وغاية ذلك أن يكون دعا لهم بأن يكونوا من المتّقين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم، واجتناب الرجس واجب على المؤمنين، والطهارة مأمور بها كل مؤمن.
قال الله تعالى: ((ماْ يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيد ُلِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمَ))[المائدة:6].
وقال: ((خذْ مِنْ أَمْوَالِهِم صَدَقةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا))[التوبة:103].
وقال تعالى: ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينْ))[البقرة:222].
فغاية هذا أن يكون هذا دعاء لهم بفعل المأمور وترك المحظور.
والصدّيق رضي الله عنه قد أخبر الله عنه بأنه: ((الأَتْقَى * الذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى))[الليل:17-21].(1/276)
وأيضًا فإن: ((السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم))[التوبة:100] لا بد أن يكونوا قد فعلوا المأمور وتركوا المحظور، فإن هذا الرضوان وهذا الجزاء إنما يُنال بذلك، وحينئذٍ فيكون ذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم من الذنوب بعض صفاتهم، فما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكساء هو بعض ما وصف الله به السابقين الأوّلين، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا لغير أهل الكساء بأن يصلّي الله عليهم، ودعا لأقوام كثيرين بالجنة والمغفرة وغير ذلك، مما هو أعظم من الدعاء بذلك، ولم يلزم أن يكون من دعا له بذلك أفضل من السابقين الأوّلين.
ولكن أهل الكساء لما كان قد أوجب عليهم اجتناب الرجس وفعل التطهير، دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعينهم على فعل ما أمرهم به لئلا يكونوا مستحقين للذم والعقاب، ولينالوا المدح والثواب.
(فصل)
قال الرافضي: (في قوله تعالى: ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُول فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً)) [المجادلة:12]. قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: لم يعمل بهذه الآية غيري، وبي خفف الله عن هذه الأمة أمر هذه الآية).
والجواب أن يقال: الأمر بالصدقة لم يكن واجبًا على المسلمين حتى يكونوا عصاة بتركه، وإنما أُمر به من أراد النجوى واتفق أنه لم يرد النجوى إذ ذاك إلا عليّ رضي الله عنه، فتصدّق لأجل المناجاة.
وهذا كأمره بالهَدْي لمن تمتع بالعمرة إلى الحج، وأمره بالهدي لمن أُحصر.(1/277)
(فصل)
قال الرافضي: (وعن محمد بن كعب القرظي قال: افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار وعباس بن عبد المطلب وعليٌّ بن أبي طالب، فقال طلحة بن شيبة: معي مفاتيح البيت، ولو أشاء بتُّ فيه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، ولو أشاء بتُّ في المسجد، وقال عليّ: ما أدري ما تقولان، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله تعالى: ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرَ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين))[التوبة:19]).
والجواب أن يقال: هذا اللفظ لا يعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة، بل دلالات الكذب عليه ظاهرة. منها: أن طلحة بن شيبة لا وجود له، وإنما خادم الكعبة هو شيبة بن عثمان بن طلحة، وهذا مما يبين لك أن الحديث لم يصح، ثم فيه قول العباس: (لو أشاء بتُّ في المسجد) فأيّ كبير أمره في مبيته في المسجد حتى يتبجح به؟.
ثم فيه قول عليّ: (صليت ستة أشهر قبل الناس) فهذا مما يُعلم بطلانه بالضرورة، فإن بين إسلامه وإسلام زيد وأبي بكرٍ وخديجة يومًا أو نحوه، فكيف يصلّي قبل الناس بستة أشهر؟!
وأيضا فلا يقول: أنا صاحب الجهاد، وقد شاركه فيه عدد كثير جدًا.
(فصل)
قال الرافضي: (ومنها: ما رواه أحمد بن حنبل عن أنس بن مالك، قال: قلنا لسلمان: سل النبي صلى الله عليه وسلم من وصيه، فقال له سلمان: يا رسول الله، من وصيك؟ فقال: يا سلمان، من كان وصّي موسى؟ فقال: يوشع بن نون. قال: فإن وصيي ووارثي يقضي ديْني وينجز موعدي عليّ بن أبي طالب).(1/278)
والجواب: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ليس هو في مسند الإمام أحمد بن حنبل. وأحمد قد صنَّف كتابًا في (فضائل الصحابة) ذكر فيه فضل أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وجماعة من الصحابة، وذكر فيه ما رُوي في ذلك من صحيح وضعيف للتعريف بذلك، وليس كل ما رواه يكون صحيحًا، ثم إن في هذا الكتاب زيادات من رواية القطيعي عن شيوخه، وهذه الزيادات التي زادها القطيعي غالبها كذب، كما سيأتي ذكر بعضها إن شاء الله، وشيوخ القطيعي يروون عن من في طبقة أحمد، وهؤلاء الرافضة جهَّال إذا رأوا فيه حديثًا ظنوا أن القائل لذلك أحمد بن حنبل، ويكون القائل لذلك هو القطيعى، وذاك الرجل من شيوخ القطيعى الذين يروون عن من في طبقة أحمد، وكذلك في المسند زيادات زادها ابنه عبد الله، لاسيما في مسند عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه زاد زيادات كثيرة.
(فصل)
قال الرافضي: (وعن يزيد بن أبي مريم عن عليّ رضي الله عنه قال: انطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتينا الكعبة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجلس، فصعد على منكبى، فذهبت لأنهض به، فرأى مني ضعفًا، فنزل وجلس لي نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال: اصعد على منكبى، فصعدت على منكبه. قال: فنهض بي، قال: فإنه تخيل لي أني لو شئت لنلت أفق السماء، حتى صعدت عَلَى البيت وعليه تمثال صفر أو نحاس، فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه، حتى استمكنت منه، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقذف به فقذفت به فتكسر كما تنكسر القوارير، ثم نزلت، فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نستبق حتى توارينا في البيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس).(1/279)
والجواب: أن هذا الحديث إن صح فليس فيه شيء من خصائص الأئمة ولا خصائص عليّ ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلّي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع على منكبه، إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها، وكان إذا سجد جاء الحسن فارتحله، ويقول: (إن ابني ارتحلني)(1) وكان يقبل زبيبة الحسن، فإذا كان يحمل الطفلة والطفل لم يكن في حمله لعلي ما يوجب أن يكون ذلك من خصائصه، بل قد أشركه فيه غيره، وإنما حمله لعجز عليّ عن حمله، فهذا يدخل في مناقب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضيلة من يحمل النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من فضيلة من يحمله النبي صلى الله عليه وسلم، كما حمله يوم أحد من حمله من الصحابة، مثل: طلحة بن عبيد الله، فإن هذا نفع النبي صلى الله عليه وسلم، وذاك نفعه النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن نفعه بالنفس والمال أعظم من انتفاع الإنسان بنفس النبي صلى الله عليه وسلم وماله.
(فصل)
قال الرافضي: (وعن ابن أبي ليلى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصدّيقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل ياسين، وحزقيل مؤمن آل فرعون، وعليّ بن أبي طالب وهو أفضلهم).
والجواب: أن هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه وصف أبا بكر رضي الله عنه بأنه صدّيق، وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدِّيقًا، وإياكم والكذب ؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذابًا)(2) فهذا يبيّن أن الصدِّيقين كثيرون.
__________
(1) رواه النسائي (2/182) وأحمد (3/493)حلبى.
(2) انظر: مسلم (4/2012-2013).(1/280)
وأيضًا: فقد قال تعالى عن مريم ابنة عمران: إنها صدِّيقة، وهي امرأة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع)(1) فالصديقون من الرجال كثيرون.
(فصل)
قال الرافضي: (وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي: (أنت مني وأنا منك)).
والجواب: أن هذا حديث صحيح أخرجاه في الصحيحين من حديث البراء بن عازب، لمّا تنازع عليّ وجعفر وزيد في ابنة حمزة، فقضى بها لخالتها، وكانت تحت جعفر، وقال لعليّ: (أنت مني وأنا منك) وقال لجعفر: (أشبهت خَلْقِي وخُلُقي). وقال ليزيد: (أنت أخونا ومولانا)(2).
لكن هذا اللفظ قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم لطائفة من أصحابه، كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قلت نفقة عيالهم في المدينة جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد، ثم قسموه بينهم بالسوية، هم مني وأنا منهم)(3).
وكذلك قال عن جليبيب: (هو مني وأنا منه) فروى مسلم في صحيحه، عن أبي برزة، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مغزى له، فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه: (هل تفقدون من أحد؟). قالوا: نعم، فلانًا وفلانًا، ثم قال: (هل تفقدون من أحد؟) قالوا: نعم، فلانًا وفلانًا وفلانًا، ثم قال: (هل تفقدون من أحد؟) قالوا: لا. قال: (لكني أفقد جُلَيْبِيبًا، فاطلبوه) فطلبوه في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه، فقال: (قتل سبعة ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه) قال: فوضعه على ساعديه، ليس له إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فحفر له فوضع في قبره، ولم يذكر غسلاً)(4).
__________
(1) انظر: البخاري: مع الفتح (6/446و471)،ومسلم: (4/1886).
(2) انظر: البخاري: (3/184) وغيره.
(3) انظر: البخاري (3/138) ومسلم (4/1944- 1945).
(4) انظر: مسلم (4/1918- 1919).(1/281)
فتبيّن أن قوله لعليّ: (أنت مني وأنا منك) ليس من خصائصه، بل قال ذلك للأشعريين، وقاله لجليبيب، وإذا لم يكن من خصائصه، بل قد شاركه في ذلك غيره من دون الخلفاء الثلاثة في الفضيلة، لم يكن دالاًّ على الأفضلية ولا على الإمامة.
(فصل)
قال الرافضي: (وعن عمرو بن ميمون قال: لعليّ بن أبي طالب عشر فضائل ليست لغيره، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: لأبعثن رجلاً لا يخزيه الله أبدًا، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فاستشرف إليها من استشرف. قال: أين عليّ بن أبي طالب؟. قالوا: هو أرمد في الرحا يطحن. قال: وما كان أحدهم يطحن. قال: فجاء وهو أرمد لا يكاد أن يبصر، قال: فنفثت في عينيه ثم هز الراية ثلاثًا وأعطاها إياه، فجاء بصفية بنت حييّ. قال: ثم بعث أبا بكر بسورة التوبة، فبعث عليًّا خلفه فأخذها منه، وقال: لا يذهب بها إلا رجل هو مني وأنا منه).
وقال لبني عمه: أيكم يواليني في الدنيا والآخرة؟ قال: وعليّ معهم جالس فأبَوْا، فقال عليّ: أنا أواليك في الدنيا والآخرة، قال: فتركه، ثم أقبل على رجل رجل منهم، فقال: أيكم يواليني في الدنيا والآخرة؟ فأَبَوْا، فقال عليّ: أنا أواليك في الدنيا والآخرة، فقال: أنت وليي في الدنيا والآخرة.
قال: وكان عليّ أول من أسلم من الناس بعد خديجة. قال: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه فوضعه على عليّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال: ((إِنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيًرا))[الأحزاب:33].
قال: وشرى عليّ نفسه ولبس ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام مكانه، وكان المشركون يرمونه بالحجارة.
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بالناس في غزاة تبوك، فقال له عليّ: أخرج معك؟ قال: لا فبكى عليٌّ، فقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنك لست بنبي، لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي.(1/282)
وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت وليي في كل مؤمن بعدي.
قال: وسدّ أبواب المسجد إلا باب عليّ. قال: وكان يدخل المسجد جُنبًا، وهو طريقه ليس له طريق غيره.
وقال له: من كنت مولاه فعليّ مولاه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا أنه بعث أبا بكر في براءة إلى مكة، فسار بها ثلاثًا، ثم قال لعليّ: (الحقه فردّه وبلغها أنت، ففعل، فلما قدم أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم بكى، وقال: يا رسول الله، حدث فيّ شيء؟ قال: لا، ولكن أمرت أن لا يبلغها إلا أنا أو رجل مني).
والجواب: أن هذا ليس مسندًا بل هو مرسل لو ثبت عن عمرو بن ميمون، وفيه ألفاظ هي كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنك لست بنبي، لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب غير مرة وخليفته على المدينة غير عليّ، كما اعتمر عمرة الحديبية وعليّ معه وخليفته غيره، وغزا بعد ذلك خيبر ومعه عليّ وخليفته بالمدينة غيره، وغزا غزوة الفتح وعليّ معه وخليفته في المدينة غيره، وغزا حُنَيْنًا والطائف وعليّ معه وخليفته بالمدينة غيره، وحج حجة الوداع وعليّ معه وخليفته بالمدينة غيره، وغزا غزوة بدر ومعه عليّ وخليفته بالمدينة غيره.
وكل هذا معلوم بالأسانيد الصحيحة وباتفاق أهل العلم بالحديث، وكان عليّ معه في غالب الغزوات وإن لم يكن فيها قتال.
فإن قيل: استخلافه يدل على أنه لا يستخلف إلا الأفضل، لزم أن يكون عليٌّ مفضولاً في عامة الغزوات، وفي عمرته وحجته، لا سيما وكل مرة كان يكون الاستخلاف على رجال مؤمنين، وعام تبوك ما كان الاستخلاف إلا على النساء والصبيان ومن عَذَرَ الله، وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا أو مُتَّهم بالنفاق، وكانت المدينة آمنة لا يُخاف على أهلها، ولا يحتاج المستخلِف إلى جهاد، كما يحتاج في أكثر الاستخلافات.(1/283)
وكذلك قوله: (وسد الأبواب كلها إلاَّ باب عليّ) فإن هذا مما وضعته الشيعة على طريق المقابلة، فإن الذي في الصحيح عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرضه الذي مات فيه: (إن أمّن الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً غير ربّي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودّته، لا يبقين في المسجد خَوْخة إلا سُدت إلا خوخة أبي بكر)(1). رواه ابن عباس أيضًا في الصحيحين، ومثل قوله: (أنت وليي في كل مؤمن بعدي) فإن هذا موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، والذي فيه من الصحيح ليس هو من خصائص الأئمة، بل ولا من خصائص عليّ، بل قد شاركه فيه غيره، مثل كونه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ومثل استخلافه وكونه منه بمنزلة هارون من موسى، ومثل كون عليّ مولى مَن النبي صلى الله عليه وسلم مولاه فإن كل مؤمن موالٍ لله ورسوله، ومثل كون (براءة) لا يبلِّغها إلا رجل من بني هاشم ؛ فإن هذا يشترك فيه جميع الهاشميين، لما رُوى أن العادة كانت جارية بأن لا ينقض العهود ويحلّها إلا رجل من قبيلة المطاع.
(فصل)
قال الرافضي: (ومنها ما رواه أخطب خوارزم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا عليّ، لو أن عبدًا عبد الله عز وجل مثل ما قام نوح في قومه، وكان له مثل أُحُد ذهبًا فأنفقه في سبيل الله، ومدّ في عمره حتى حج ألف عام على قدميه، ثم قُتل بين الصفا والمروة مظلوما، ثم لم يوالك يا علي، لم يشم رائحة الجنة ولم يدخلها).
وقال رجل لسلمان: ما أشدّ حبك لعليّ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحب عليًّا فقد أحبني، ومن أبغض عليًّا فقد أبغضني، وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلق الله من نور وجه عليّ سبعين ألف مَلَك يستغفرون له ولمحبيه إلى يوم القيامة).
__________
(1) انظر: البخاري (1/96- 97) و(ج5/4/1855).(1/284)
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب عليًّا قبل الله عنه صلاته وصيامه وقيامه واستجاب دعاءه. ألا ومن أحب عليًّا أعطاه الله بكل عرق من بدنه مدينة في الجنة: ألا ومن أحب آل محمد أمن من الحساب والميزان والصراط. ألا ومن مات على حب آل محمد فأنا كفيله في الجنة مع الأنبياء، ألا ومن أبغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبًا بين عينيه: (آيس من رحمة الله).
وعن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من زعم أنه آمن بي وبما جئت به وهو يبغض عليًّا فهو كاذب ليس بمؤمن.
وعن أبي برزة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جلوس ذات يوم: والذي نفسي بيده لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأله الله تبارك وتعالى عن أربع: عن عمره فيمَ أفناه، وعن جسده فيمَ أبلاه، وعن ماله ممَّ اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن حُبنا أهل البيت. فقال له عمر: فما آية حبكم من بعدكم؟ فوضع يده على رأس عليّ بن أبي طالب وهو إلى جانبه، فقال: إن حبي من بعدي حب هذا.
وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل: بأي لغة خاطبك ربك ليلة المعراج؟ فقال: خاطبني بلغة عليّ، فألهمني أن قلت: يا رب خاطبتني أم عليّ؟ فقال: يا محمد أنا شيء لست كالأشياء، لا أقاس بالناس ولا أوصف بالأشياء، خلقتك من نوري، وخلقت عليًّا من نورك، فاطلعت عَلَى سرائر قلبك، فلم أجد إلى قلبك أحبَّ من عليّ، فخاطبتك بلسانه كيما يطمئن قلبك.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أن الرياض أقلام، والبحر مداد، والجنّ حسّاب، والإنس كتّاب، ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب.(1/285)
وبالإسناد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى جعل الأجر عَلَى فضائل عليّ لا يُحصى كثرة، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرًّا بها غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، ومن كتب فضيلة من فضائله لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم، ومن استمع فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع، ومن نظر إلى كتاب من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر، ثم قال: النظر إلى وجه أمير المؤمنين عليّ عبادة، وذكره عبادة، لا يقبل الله إيمان عبدٍ إلاّ بولايته والبراءة من أعدائه.
وعن حكيم بن حزام عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لَمُبارزة عليّ لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة.
وعن سعد بن أبي وقاص قال: أمر معاوية بن أبي سُفيان سعدًا بالسبّ فأبى، فقال: ما منعك أن تسبّ عليّ بن أبي طالب؟ قال: ثلاث قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبّه، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعليّ وقد خلّفه في بعض مغازيه، فقال له عليٌّ: تخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي. وسمعته يقول يوم خيبر: لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. قال: فتطاولنا فقال: ادعوا لي عليًّا، فأتاه وبه رمد، فبصق في عينيه و دفع الراية إليه، ففتح الله عليه. وأنزلت هذه الآية: ((فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبنَاءَكُمْ))[آل عمران:61]. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا وفاطمة والحسن والحسين، فقال: (هؤلاء أهلي).(1/286)
والجواب: أن أخطب خوارزم هذا له مصنّف في هذا الباب فيه من الأحاديث المكذوبة ما لا يخفى كذبه على من له أدنى معرفة بالحديث، فضلاً عن علماء الحديث، وليس هو من علماء الحديث ولا ممن يُرجع إليه في هذا الشأن ألبتة، وهذه الأحاديث مما يعلم أهل المعرفة بالحديث أنها من المكذوبات، وهذا الرجل قد ذكر أنه يذكر ما هو صحيح عندهم، ونقلوه في المعتمد من قولهم وكتبهم،، فكيف يذكر ما أجمعوا على أنه كذب موضوع، ولم يُرو في شيء من كتب الحديث المعتمدة، ولا صححه أحد من أئمة الحديث.(1/287)
فالعشرة الأول كلها كذب إلى آخر حديث: قتله لعمرو بن عبد ودّ، وأما حديث سعد لما أمره معاوية بالسبّ فأبى، فقال: ما منعك أن تسبّ عليّ بن أبي طالب؟ فقال: ثلاث قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبّه، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إليَّ من حمر النعم.. الحديث. فهذا صحيح رواه مسلم في صحيحه(1) وفيه ثلاث فضائل لعليِّ لكن ليست من خصائص الأئمة ولا من خصائص عليّ، فإن قوله: وقد خلّفه في بعض مغازيه، فقال له عليّ: يا رسول الله، تخلّفني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ألا أنه لا نبي بعدي؟ ليس من خصائصه ؛ فإنه استخلف عَلَى المدينة غير واحد، ولم يكن هذا الاستخلاف أكمل من غيره، ولهذا قال له عليّ: أتخلفني مع النساء والصبيان؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في كل غزاة يترك بالمدينة رجالاً من المهاجرين والأنصار، إلا في غزوة تبوك فإنه أمر المسلمين جميعهم بالنفير، فلم يتخلف بالمدينة إلا عاصٍ أو معذور غير النساء والصبيان، ولهذا كره عليّ الاستخلاف، وقال: أتخلفني مع النساء والصبيان؟ يقول تتركني مخلفًا لا تستصحبني معك؟ فبيّن له النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستخلاف ليس نقصًا ولا غضاضة ؛ فإن موسى استخلف هارون على قومه لأمانته عنده، وكذلك أنت استخلفتك لأمانتك عندي، لكن موسى استخلف نبيًّا وأنا لا نبي بعدي، وهذا تشبيه في أصل الاستخلاف، فإن موسى استخلف هارون على جميع بني إسرائيل، والنبي صلى الله عليه وسلم استخلف عليًّا على قليل من المسلمين، وجمهورهم استصحبهم في الغزاة. وتشبيهه بهارون ليس بأعظم من تشبيهه أبي بكر وعمر، هذا بإبراهيم وعيسى، وهذا بنوح وموسى ؛ فإن هؤلاء الأربعة أفضل من هارون، وكل من أبي بكر وعمر شبه باثنين لا بواحد ؛ فكان هذا التشبيه أعظم من تشبيه عليّ، مع أن استخلاف عليّ له فيه أشباه وأمثال من الصحابة.
__________
(1) انظر: مسلم (4/1871).(1/288)
(فصل)
قال الرافضي: (وعن عامر بن واثلة قال: كنت مع عليّ عليه السلام يوم الشورى يقول لهم: لأحتجنّ عليكم بما لا يستطيع عربيّكم ولا عجميّكم تغيير ذلك، ثم قال: أنشدكم بالله أيها النفر جميعًا، أفيكم أحد وحّد الله تعالى قبلي؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له أخ مثل أخي جعفر الطيَّار في الجنة مع الملائكة غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله: هل فيكم أحد له عمّ مثل عمي حمزة أسد الله وأسد رسوله سيد الشهداء غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت محمد سيدة نساء أهل الجنة غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له سبطان، مثل سبطيّ الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد ناجى رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر مرات قدّم بين يدي نجواه صدقة غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، ليبلغ الشاهد الغائب غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإليّ يأكل معي من هذا الطير، فأتاه فأكل معه غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه) إذ رجع غيري منهزمًا غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني وكيعة: لتنتهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلا نفسه كنفسي وطاعته كطاعتي، ومعصيته كمعصيتي يفصلكم بالسيف غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب من زعم أنه يحبني(1/289)
ويبغض هذا غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد سلَّم عليه في ساعة واحدة ثلاثة آلاف من الملائكة: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل حيث جئت بالماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القليب غيري؟ قالوا:اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد نودي به من السماء: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا عليّ غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له جبريل هذه هي المواساة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه مني وأنا منه. فقال جبريل: وأنا منكما غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، على لسان النبي صلى الله عليه وسلم غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني قاتلت على تنزيل القرآن وأنت تقاتل على تأويله غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد رُدّت عليه الشمس حتى صلى العصر في وقتها غيري؟ قالوا: اللهم لا. قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ (براءة) من أبي بكر، فقال له أبو بكر: يا رسول الله، أنزل فيّ شيء؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لا يؤدّي عني إلا عليّ غيري؟ قالوا: اللهم لا).
قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق كافر غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله هل تعلمون أنه أمر بسدّ أبوابكم وفتح بابي فقلتم في ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا سددت أبوابكم ولا فتحت بابه، بل الله سد أبوابكم وفتح بابه غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله أتعلمون أنه ناجاني يوم الطائف دون الناس فأطال ذلك، فقلتم: ناجاه دوننا، فقال: ما أنا انتجيته بل الله انتجاه غيري؟ قالوا: اللهم نعم.(1/290)
قال: فأنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الحق مع عليّ وعليّ مع الحق يزول الحق مع عليّ كيفما زال؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: فأنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لن تضلوا ما استمسكتم بهما، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه من المشركين واضطجع في مضجعه غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد بارز عمر بن عبد ودّ العامري حيث دعاكم إلى البراز غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد نزل فيه آية التطهير حيث يقول: ((إِنّمَا يُريدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيًرا))[الأحزاب:33] غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت سيد المؤمنين غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما سألت الله شيئًا إلا وسألت لك مثله غيري؟ قالوا: اللهم لا.
ومنها: ما رواه أبو عمرو الزاهد عن ابن عباس قال: لعليّ أربع خصال ليست لأحد من الناس غيره، هو أوّل عربي وعجمي صلّى مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحف، وهو الذي صبر معه يوم حنين، وهو الذي غسَّله وأدخله قبره.(1/291)
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مررت ليلة المعراج بقوم تُشرشر أشداقهم، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: قوم يقطعون الناس بالغيبة، قال: ومررت بقوم وقد ضوضؤا، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الكفار. قال: ثم عدلنا عن الطريق فلما انتهينا إلى السماء الرابعة رأيت عليّا يصلّي، فقلت: يا جبريل، هذا عليّ قد سبقنا. قال: لا ليس هذا عليًّا. قلت: فمن هو؟ قال: إن الملائكة المقرَّبين والملائكة الكروبيين لما سمعت فضائل عليّ وخاصته وسمعت قولك فيه: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، اشتاقت إلى عليّ، فخلق الله تعالى مَلَكًا على صورة عليّ، فإذا اشتاقت إلى عليّ جاءت إلى ذلك المكان، فكأنها قد رأت عليًّا.
وعن ابن عباس قال: إن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم وهو نشيط: أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى. قال: فقوله: أنا الفتى -يعني: هو فتى العرب- وقوله: ابن الفتى، يعني إبراهيم من قوله تعالى: ((سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ))[الأنبيا:60]، وقوله: أخو الفتى، يعني عليًّا، وهو معنى قول جبريل في يوم بدر وقد عرج إلى السماء وهو فرح وهو يقول: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا عليّ.
وعن ابن عباس قال: رأيت أبا ذر وهو متعلق بأستار الكعبة وهو يقول: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر، لو صمتم حتى تكونوا كالأوتار، وصليتم حتى تكونوا كالحنايا، ما نفعكم ذلك حتى تحبوا عليًّا)).
والجواب: أما قوله عن عامر بن واثلة وما ذكره يوم الشورى، فهذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ولم يقل علي ّ رضي الله عنه يوم الشورى شيئًا من هذا ولا ما يشابهه، بل قال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: لئن أمرتك لتعدلنّ؟ قال: نعم. قال: وإن بايعت عثمان لتسمعن وتطيعن؟ قال: نعم. وكذلك قال لعثمان، ومكث عبد الرحمن ثلاثة أيام يشاور المسلمين.(1/292)
ففي الصحيحين وهذا لفظ البخاري(1) - عن عمرو بن ميمون في مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (فلما فُرغَ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، قال الزبير: قد جعلت أمري إلى عليّ، وقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن: أيكم تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه؟ فأُسْكِتَ الشيخان، فقال عبد الرحمن: أتجعلونه إليَّ والله عَلَيَّ أن لا آلو عن أفضلكم، قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما، فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمَّرتك لتعدلن ولئن أمَّرت عليك لتسمعن ولتطيعن، ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان).
وفي هذا الحديث الذي ذكره الرافضي أنواع من الأكاذيب التي نزّه الله عليًّا عنها، مثل احتجاجه بأخيه وعمه وزوجته، وعليّ رضي الله عنه أفضل من هؤلاء، وهو يعلم أن أكرم الخلق عند الله أتقاهم، ولو قال العباس: هل فيكم مثل أخي حمزة ومثل أولاد إخوتي محمد وعلي وجعفر؟! لكانت هذه الحجة من جنس تلك، بل احتجاج الإنسان ببني إخوته أعظم من احتجاجه بعمه، ولو قال عثمان: هل فيكم من تزوج بنتَي نبي لكان من جنس قول القائل: هل فيكم من زوجته كزوجتي؟ وكانت فاطمة قد ماتت قبل الشورى كما ماتت زوجتا عثمان، فإنها ماتت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ستة أشهر.
وكذلك قوله: (هل فيكم مَنْ له ولد كولدي؟).
وفيه أكاذيب متعددة، مثل قوله: (ما سألت الله شيئًا إلا وسألت لك مثله). وكذلك قوله: (لا يؤدّي عني إلا عليّ) من الكذب.
__________
(1) انظر: البخاري (5/15- 18).(1/293)
وقال الخطابي في كتاب (شعار الدين): (وقوله: لا يؤدّي عني إلا رجل من أهل بيتي) هو شيء جاء به أهل الكوفة عن زيد بن يُثَيْع، وهو متهم في الرواية منسوب إلى الرفض، وعامة من بلّغ عنه غير أهل بيته، فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة إلى المدينة يدعو الناس إلى الإسلام، ويعلّم الأنصار القرآن، ويفقههم في الدين، وبعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين في مثل ذلك، وبعث معاذًا وأبا موسى إلى اليمن، وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة، فأين قول من زعم أنه لا يبلِّغ عنه إلا رجل من أهل بيته؟!
وأما حديث ابن عباس ففيه أكاذيب: منها قوله: كان لواؤه معه في كل زحف، فإن هذا من الكذب المعلوم، إذ لواء النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم أُحد مع مصعب بن عمير باتفاق الناس، ولواؤه يوم الفتح كان مع الزبير بن العوام، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركز رايته بالحجون، فقال العباس للزبير بن العوام: أهاهنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية؟ أخرجه البخاري في صحيحه (1).
وكذلك قوله: (وهو الذي صبر معه يوم حُنين).
__________
(1) انظر: البخاري (5/121).(1/294)
وقد عُلم أنه لم يكن أقرب إليه من العباس بن عبد المطلب، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، والعباس آخذ بلجام بغلته، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابه، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ناد أصحاب السمرة) قال: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ فوالله كأن عطفتهم عليّ حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يالبيك يالبيك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) ونزل عن بغلته وأخذ كفًّا من حصى فرمى بها القوم، وقال: (انهزموا ورب الكعبة) قال العباس: (فوالله ما هو إلا أن رماهم فمازلت أرى حدّهم كليلاً وأمرهم مدبرًا، حتى هزمهم الله) أخرجاه في الصحيحين، وفي لفظ البخاري قال: (وأبو سفيان آخذ بلجام بغلته)، وفيه: (قال العباس: لزمت أنا وأبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنين فلم نفارقه)(1).
وأما غُسله صلى الله عليه وسلم وإدخاله قبره، فاشترك فيه أهل بيته، كالعباس وأولاده، ومولاه شقران، وبعض الأنصار، لكن عليٌّ كان يباشر الغسل، والعباس حاضر لجلالة العباس، وأن عليًّا أولاهم بمباشرة ذلك.
وكذلك قوله: (هو أوّل عربي وعجمي صلّى) يناقض ما هو المعروف عن ابن عباس.
(فصل)
وأما حديث المعراج وقوله فيه: إن الملائكة المقرَّبين والملائكة الكروبيين لما سمعت فضائل عليّ وخاصته، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟) اشتاقت إلى علي فخلق الله لها مَلَكًا على صورة عليّ)).
__________
(1) رواه البخاري في أماكن متعددة وانظر: المغازى الباب 56)، ومسلم: (3/1398).(1/295)
فالجواب: أن هذا من كذب الجُهّال الذين لا يحسنون أن يكذبوا، فإن المعراج كان بمكة قبل الهجرة بإجماع الناس، كما قال تعالى: ((سبحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير))[الإسراء:1] وكان الإسراء من المسجد الحرام.
وقال: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى))[النجم:1-4] إلى قوله: ((أفتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى))[النجم:12-14] إلى قوله تعالى: ((أَفَرَأَيْتُم الَّلات َوَالْعُزَّى))[النجم:19] وهذا كله نزل بمكة بإجماع الناس.
وقوله: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟) قاله في غزوة تبوك، وهي آخر الغزوات عام تسعٍ من الهجرة، فكيف يُقال: إن الملائكة ليلة المعراج سمعوا قوله: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟).
(فصل)
وكذلك الحديث المذكور عن ابن عباس: أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم وهو نشيط: (أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى) قال: فقوله: أنا الفتى: يعني فتى العرب، وقوله: ابن الفتى، يعني إبراهيم الخليل صلوات الله عليه، من قوله: ((سمعنا فتىً يَذْكُرُهُم يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيم))[الأنبياء:60]، وقوله: أخو الفتى، يعني عليًّا، وهو معنى قول جبريل في يوم بدر وقد عرج إلى السماء وهو فرح وهو يقول: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا عليّ.
فإن هذا الحديث من الأحاديث المكذوبة الموضوعة باتفاق أهل المعرفة بالحديث، وكذبه معروف من غير جهة الإسناد من وجوه.(1/296)
منها: أن لفظ (الفتى) في الكتاب والسنّة ولغة العرب ليس هو من أسماء المدح، كما ليس هو من أسماء الذم، ولكنه بمنزلة اسم الشاب والكهل والشيخ ونحو ذلك، والذين قالوا عن إبراهيم: سمعنا فتى يذكرهم يُقال له: إبراهيم، هم الكفار، ولم يقصدوا مدحه بذلك، وإنما الفتى كالشاب الحَدَث.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجلُّ من أن يفتخر بجده، وابن عمه.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخ عليًّا ولا غيره، وحديث المؤاخاة لعليّ، ومؤاخاة أبي بكر لعمر من الأكاذيب، وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار، ولم يؤاخ بين مهاجريّ ومهاجريّ.
ومنها: أن هذه المناداة يوم بدر كذب.
ومنها: أن ذا الفقار لم يكن لعليّ، وإنما كان سيفًا من سيوف أبي جهل غنمه المسلمون منه يوم بدر، فلم يكن يوم بدر ذو الفقار من سيوف المسلمين، بل من سيوف الكفّار، كما روى ذلك أهل السنن، فروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا الفَقَار يوم بدر(1).
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد النبوة كهلاً قد تعدّى سن الفتيان.
(فصل)
وأما حديث أبي ذر الذي رواه الرافضي فهو موقوف عليه ليس مرفوعًا، فلا يحتج به، مع أن نقله عن أبي ذر فيه نظر، ومع هذا فحب عليّ واجب، وليس ذلك من خصائصه، بل علينا أن نحبه، كما علينا أن نحب عثمان وعمر وأبا بكر، وأن نحب الأنصار.
ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)(2) وفي صحيح مسلم عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: (إنه لعهد النبي الأمّي إليّ أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق)(3).
__________
(1) انظر: سنن الترمذي (3/60-61) وسنن ابن ماجة (2/939) والمسند (4/146-147)تحقيق أحمد شاكر.
(2) انظر: البخاري (1/9) ومسلم (1/85).
(3) انظر: مسلم (1/86) وتقدم.(1/297)
(فصل)
قال الرافضي: (ومنها ما نقله صاحب (الفردوس) في كتابه عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((حب عليّ حسنة لا تضر معها سيئة، وبغضه سيئة لا ينفع معها حسنة).
والجواب: أن كتاب (الفردوس) فيه من الأحاديث الموضوعات ما شاء الله، ومصنفه شيرويه بن شهردار الديلمي وإن كان من طلبة الحديث ورواته، فإن هذه الأحاديث التي جمعها وحذف أسانيدها، نقلها من غير اعتبار لصحيحها وضعيفها وموضوعها؛ فلهذا كان فيه من الموضوعات أحاديث كثيرة جدًا.
وهذا الحديث مما يشهد المسلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقوله؛ فإن حب الله ورسوله أعظم من حب عليّ، والسيئات تضر مع ذلك، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب عبد الله بن حمار في الخمر، وقال: (إنه يحب الله ورسوله) وكل مؤمن فلا بد أن يحب الله ورسوله، والسيئات تضره، وقد أجمع المسلمون وعُلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الشرك يضر صاحبه ولا يغفره الله لصاحبه، ولو أحب عليّ بن أبي طالب ؛ فإن أباه أبا طالب كان يحبه وقد ضره الشرك حتى دخل النار، والغالية يقولون: إنهم يحبونه وهم كفّار من أهل النار.
وبالجملة فهذا القول كفر ظاهر يُستتاب صاحبه، ولا يجوز أن يقول هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر.
وكذلك قوله: (وبغضه سيئة لا ينفع معها حسنة) فإن من أبغضه إن كان كافرًا فكفره هو الذي أشقاه، وإن كان مؤمنًا نفعه إيمانه وإن أبغضه.
وكذلك الحديث الذي ذكره عن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حب آل محمد يومًا خير من عبادة سنة، ومن مات عليه دخل الجنة، وقوله عن عليّ: أنا وهذا حجة الله على خلقه -هما حديثان موضوعان عند أهل العلم بالحديث، وعبادة سنة فيها الإيمان والصلوات الخمس كل يوم وصوم شهر رمضان، وقد أجمع المسلمون على أن هذا لا يقوم مقامه حب آل محمد شهرًا، فضلاً عن حبهم يومًا).(1/298)
وكذلك حجة الله على عباده قامت بالرسل فقط، كما قال تعالى: ((لئلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل)) [النساء:165] ولم يقل: بعد الرسل والأئمة أو الأوصياء أو غير ذلك.
وكذلك قوله: (لو اجتمع الناس عَلَى حب عليّ لم يخلق الله النار) من أبين الكذب باتفاق أهل العلم والإيمان، ولو اجتمعوا على حب عليّ لم ينفعهم ذلك حتى يؤمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويعملوا صالحًا، وإذا فعلوا ذلك دخلوا الجنة، وإن لم يعرفوا عليًّا بالكلية، ولم يخطر بقلوبهم لا حبه ولا بغضه.
(فصل)
وكذلك الحديث الذي ذكره في العهد الذي عهده الله في علي، وأنه راية الهدى وإمام الأولياء، وهو الكلمة التي ألزمها للمتقين... إلخ.
فإن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث والعلم، ومجرد رواية صاحب (الحلية) ونحوه لا تفيد ولا تدل على الصحة ؛ فإن صاحب (الحلية) قد روى في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ والأولياء وغيرهم أحاديث ضعيفة بل موضوعة باتفاق العلماء، وهو وأمثاله من الحفاظ الثقات أهل الحديث ثقات فيما يروونه عن شيوخهم، لكن الآفة ممن هو فوقهم، وكذلك حديث عمَّار وابن عباس كلاهما من الموضوعات.
(فصل)
قال الرافضي: (وأما المطاعن في الجماعة فقد نقل الجمهور منها أشياء كثيرة حتى صنَّف الكلبي كتابًا (في مثالب الصحابة) ولم يذكر فيه منقصة واحدة لأهل البيت).(1/299)
والجواب أن يقال: قبل الأجوبة المفصلة عما يُذكر من المطاعن أن ما يُنقل عن الصحابة من المثالب فهو نوعان: أحدهما: ما هو كذب: إما كذب كله، وإما محرَّف قد دخله من الزيادة والنقصان ما يُخرجه إلى الذم والطعن، وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب يرويها الكذّابون المعروفون بالكذب، مثل: أبي مخنف لوط بن يحيى، ومثل: هشام بن محمد بن السائب الكلبي وأمثالهما من الكذّابين، ولهذا استشهد هذا الرافضي بما صنّفه هشام الكلبي في ذلك، وهو من أكذب الناس، وهو شيعي يروي عن أبيه وعن أبي مخنف، وكلاهما متروك كذّاب.
النوع الثاني: ما هو صدق، وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوبًا، وتجعلها من موارد الاجتهاد، التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب، وما قُدِّر من هذه الأمور ذنبًا محققًا، فإن ذلك لا يقدح فيما عُلم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الجنة، لأن الذنب المحقق يرتفع عقابه في الآخرة بأسباب متعددة.
منها: التوبة الماحية، وقد ثبت عن أئمة الإمامية أنهم تابوا من الذنوب المعروفة عنهم.
ومنها: الحسنات الماحية للذنوب ؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات، وقد قال تعالى: ((إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرُ عَنْكُم سَيِّئَاتِكُم))[النساء:31].
ومنها: المصائب المكفِّرة.
ومنها: دعاء المؤمنين بعضهم لبعض، وشفاعة نبيهم، فما من سبب يسقط به الذم والعقاب عن أحد من الأمة إلا والصحابة أحق بذلك، فهم أحق بكل مدح، ونفي كل ذم ممن بعدهم من الأمة.(1/300)
قال الرافضي: (وقد ذكر غيره منها أشياء كثيرة، ونحن نذكر منها شيئًا يسيرًا، منها: ما رووه عن أبي بكر أنه قال على المنبر: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتصم بالوحي، وإن لي شيطانا يعتريني، فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني، وكيف يجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه، مع أن الرعية تحتاج إليه؟).
والجواب أن يقال: هذا الحديث من أكبر فضائل الصديق رضي الله عنه وأدلها على أنه لم يكن يريد علوًا في الأرض ولا فسادًا، فلم يكن طالب رياسة، ولا كان ظالمًا، وإنه إنما كان يأمر الناس بطاعة الله ورسوله، فقال لهم: إن استقمت على طاعة الله فأعينوني عليها، وإن زغت عنها فقوّموني، كما قال أيضًا: أيها الناس… أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.
والشيطان الذي يعتريه يعتري جميع بني آدم ؛ فإنه ما من أحدٍ إلا وقد وكَّل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن.
ومقصود الصديق بذلك: إني لست معصومًا كالرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا حق، وقول القائل:كيف تجوز إمامة من يستعين على تقويمه بالرعية؟كلام جاهل بحقيقة الإمامة، فإن الإمام ليس هو ربًّا لرعيته حتى يستغني عنهم، ولا هو رسول الله إليهم حتى يكون هو الواسطة بينهم وبين الله، وإنما هو والرعية شركاء يتعاونون هم وهو على مصلحة الدين والدنيا؛ فلا بد له من إعانتهم، ولا بد لهم من إعانته، كأمير القافلة الذي يسير بهم في الطريق: إن سلك بهم الطريق اتّبعوه، وإن أخطأ عن الطريق نبّهوه وأرشدوه، وإن خرج عليهم صائل يصول عليهم تعاون هو وهم على دفعه، لكن إذا كان أكملهم علمًا وقدرة ورحمة كان ذلك أصلح لأحوالهم.
(فصل)
قال الرافضي: (وقال: أقيلوني فلست بخيركم، وعليٌّ فيكم، فإن كانت إمامته حقًّا كانت استقالته منها معصية، وإن كانت باطلة لزم الطعن).
والجواب: أن هذا كذب، ليس فيه شيء من كتب الحديث، ولا له إسناد معلوم.(1/301)
فإنه لم يقل: (وعليٌّ فيكم) بل الذي ثبت عنه في الصحيح أنه قال يوم السقيفة: بايعوا أحد هذين الرجلين: عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح. فقال له عمر: بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عمر: كنت والله لأن أُقدَّم فتُضرب عنقي، لا يقرّبني ذلك إلى إثم، أحب إليّ من تأمُّري على قوم فيهم أبو بكر(1).
ثم لو قال: (وعليٌّ فيكم) لاستخلفه مكان عمر ؛ فإن أمره كان مطاعًا.
وأما قوله: (إن كانت إمامته حقًّا كانت استقالته منها معصية).
فيقال: إن ثبت أنه قال ذلك، فإن كونها حقًا إما بمعنى كونها جائزة، والجائز يجوز تركه، وإما بمعنى كونها واجبة إذا لم يولّوا غيره ولم يقيلوه، وأما إذا أقالوه وولُّوا غيره لم تكن واجبة عليه.
والإنسان قد يعقد بيعًا أو إجارة، و يكون العقد حقًا، ثم يطلب الإقالة، وهو لتواضعه وثقل الحمل عليه قد يطلب الإقالة، و إن لم يكن هناك من هو أحق بها منه، وتواضع الإنسان لا يسقط حقه.
(فصل)
قال الرافضي: (وقال عمر: كانت بيعة أبي بكر فَلْتة وقى الله المسلمين شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، ولو كانت إمامته صحيحة لم يستحق فاعلها القتل، فيلزم تطرق الطعن إلى عمر، وإن كانت باطلة، لزم الطعن عليهما معًا).
والجواب: أن لفظ الحديث سيأتي، قال فيه: فلا يغترن امرؤ أن يقول: (إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت، ألا وإنّها قد كانت كذلك، ولكن وقى اللهُ شرَّها، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر) ومعناه أن بيعة أبي بكر بودر إليها من غير تريث ولا انتظار، لكونه كان متعيّنًا لهذا الأمر، كما قال عمر: (ليس فيكم من تُقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر).
__________
(1) تقدم تخريجه/93) وسيأتي/407) وتخريجه هناك.(1/302)
وكان ظهور فضيلة أبي بكر على من سواه، وتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم له على سائر الصحابة أمرًا ظاهرًا معلومًا، فكانت دلالة النصوص على تعيينه تُغني عن مشاورة وانتظار وتريث، بخلاف غيره ؛ فإنه لا تجوز مبايعته إلا بعد المشاورة والانتظار والتريث، فمن بايع غير أبي بكر عن غير انتظار وتشاور لم يكن له ذلك.
(فصل)
قال الرافضي: (وقال أبو بكر عند موته: ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل للأنصار في هذا الأمر حق ؛ وهذا يدل على أنه في شكٍ من إمامته ولم تقع صوابًا).
والجواب: أن هذا كذب على أبي بكر رضي الله عنه، وهو لم يذكر له إسنادًا، ومعلوم أن من احتج في أي مسألة كانت بشيء من النقل، فلابد أن يذكر إسنادًا تقوم به الحجة، فكيف بمن يطعن في السابقين الأوّلين بمجرد حكاية لا إسناد لها؟
ثم يقال: هذا يقدح فيما تدّعونه من النص على عليّ ؛ فإنه لو كان قد نصّ على عليّ لم يكن للأنصار فيه حق، ولم يكن في ذلك شك.
(فصل)
قال الرافضي: (وقال عند احتضاره: ليت أمي لم تلدني! يا ليتني كنت تبنة في لبنة، مع أنهم قد نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من محتضر يحتضر إلا ويرى مقعده من الجنة والنار).
والجواب: أن تكلمه بهذا عند الموت غير معروف، بل هو باطل بلا ريب، بل الثابت عنه أنه لما احتُضر، وتمثلت عنده عائشة بقول الشاعر:
لعُمرك ما يغني الثراءُ عن الفتى ... إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدرُ
فكشف عن وجهه، وقال: ليس كذلك، ولكن قولي: ((وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ))[ق:19].(1/303)
ولكن نقل عنه أنه قال في صحته: ليت أمي لم تلدني! ونحو هذا قاله خوفًا -إن صح النقل عنه- ومثل هذا الكلام منقول عن جماعة أنهم قالوه خوفًا وهيبة من أهوال يوم القيامة، حتى قال بعضهم: لو خُيِّرت بين أن أحاسب وأدخل الجنة، وبين أن أصير ترابًا، لاخترت أن أصير ترابًا، وروى الإمام أحمد عن أبي ذر أنه قال: والله لوددت أني شجرة تعضد.
(فصل)
قال الرافضي: (وقال أبو بكر: ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت بيدي على يد أحد الرجلين، فكان هو الأمير وكنت الوزير) قال: (وهو يدل على أنه لم يكن صالحًا يرتضي لنفسه الإمامة).
والجواب: أن هذا إن كان قاله فهو أدلّ دليل على أن عليًّا لم يكن هو الإمام ؛ وذلك أن قائل هذا إنما يقوله خوفًا من الله أن يضيع حق الولاية، وأنه إذا ولَّى غيَره وكان وزيرًا له، كان أبرأ لذمته؛ فلو كان عليّ هو الإمام، لكانت توليته لأحد الرجلين إضاعة للإمامة أيضا، وكان يكون وزيرًا لظالم غيره، وكان قد باع آخرته بدنيا غيره، وهذا لا يفعله من يخاف الله، ويطلب براءة ذمته.
(فصل)
قال الرافضي: (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته، مرة بعد أخرى، مكررًا لذلك: أنفذوا جيش أسامة، لعن الله المتخلف عن جيش أسامة. وكان الثلاثة معه، ومنع أبو بكر عمر من ذلك).(1/304)
والجواب: أن هذا من الكذب المتفق على أنه كذب عند كل من يعرف السيرة، ولم ينقل أحد من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر أو عثمان في جيش أسامة، وإنما رُوى ذلك في عمر، وكيف يرسل أبا بكر في جيش أسامة، وقد استخلفه يصلّي بالمسلمين مدة مرضه، وكان ابتداء مرضه من يوم الخميس إلى الخميس إلى يوم الإثنين، اثني عشر يومًا، ولم يقدّم في الصلاة بالمسلمين إلا أبا بكر بالنقل المتواتر، ولم تكن الصلاة التي صلاَّها أبو بكر بالمسلمين في مرض النبي صلى الله عليه وسلم صلاةً ولا صلاتين، ولا صلاة يوم ولا يومين، حتى يُظَنّ ما تدعيه الرافضة من التلبيس، وأن عائشة قدّمته بغير أمره، بل كان يصلِّي بهم مدة مرضه ؛ فإن الناس متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل بهم في مرض موته ولم يصل بهم إلا أبو بكر، وعلى أنه صلّى بهم عدة أيام. وأقل ما قيل: إنّه صلّى بهم سبع عشرة صلاة ؛ صلَّى بهم صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة، وخطب بهم يوم الجمعة. هذا ما تواترت به الأحاديث الصحيحة، ولم يزل يصلّي بهم إلى فجر يوم الإثنين، صلَّى بهم صلاة الفجر، وكشف النبي صلى الله عليه وسلم الستارة، فرآهم يصلّون خلف أبي بكر، فلما رأوه كادوا يفتنون في صلاتهم، ثُم أرخى الستارة، وكان ذلك آخر عهدهم به، وتوفي يوم الإثنين حين اشتد الضحى قريبًا من الزوال.
(فصل)
قال الرافضي: (وأيضًا لمْ يُوَلِّ النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ألبتة عملاً في وقته، بل ولَّى عليه عمرو بن العاص تارة وأسامة أخرى، ولما أنفذه بسورة (براءة) ردّه بعد ثلاثة أيام بوحي من الله، وكيف يرتضي العاقل إمامة من لا يرتضيه النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله لأداء عشر آيات من (براءة)؟!).(1/305)
والجواب: أن هذا من أَبْيَن الكذب ؛ فإنه من المعلوم المتواتر عند أهل التفسير والمغازى والسير والحديث والفقه وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج عام تسع، وهو أول حج كان في الإسلام من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قبله حج في الإسلام، إلا الحجة التي أقامها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية من مكة ؛ فإن مكة فتحت سنة ثمان، وأقام الحج ذلك العام عتاب بن أسيد، الذي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة ثم أمّر أبا بكر سنة تسع للحج، بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وفيها أَمَر أبا بكر بالمناداة في الموسم: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان، ولم يؤمِّر النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر على مثل هذه الولاية ؛ فولاية أبي بكر كانت من خصائصه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمِّر على الحج أحدًا كتأمير أبي بكر، ولم يستخلف على الصلاة أحدًا كاستخلاف أبي بكر، وكان عليٌّ من رعيته في هذه الحجة ؛ فإنه لحقه، فقال: أمير أو مأمور؟ فقال عليّ: بل مأمور، وكان عليّ يصلّي خلف أبي بكر مع سائر المسلمين في هذه الولاية، ويأتمر لأمره كما يأتمر له سائر من معه، ونادى عليٌّ مع الناس في هذه الحجة بأمر أبي بكر.
وأما ولاية غير أبي بكر فكانت مما يشاركه فيها غيره، كولاية عليّ وغيره؛ فلم يكن لعليّ ولاية إلا ولغيره مثلها، بخلاف ولاية أبي بكر، فإنها من خصائصه، ولم يولِّ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر لا أسامة بن زيد ولا عمرو بن العاص.
فأما تأمير أسامة عليه فمن الكذب المتفق على كذبه.(1/306)
وأما قصة عمرو بن العاص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أرسل عَمْرًا في سرية، وهي غزوة ذات السلاسل، وكانت إلى بني عذرة، وهم أخوال عمرو، فأمَّر عمرًا ليكون ذلك سببًا لإسلامهم، للقرابة التي له منهم، ثم أردفه بأبي عبيدة، ومعه أبو بكر وعمر و غيرهما من المهاجرين، و قال: (تطاوعا ولا تختلفا) فلما لحق عَمْرًا قال: أصلّي بأصحابي وتصلّي بأصحابك. قال: بل أنا أصلّي بكم؛ فإنما أنت مدد لي، فقال له أبو عبيدة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أطاوعك، فإن عصيتني أطعتك، قال: فإني أعصيك، فأراد عمرو أن ينازعه في ذلك، فأشار عليه أبو بكر أن لا يفعل، ورأى أبو بكر أن ذلك أصلح للأمر، فكانوا يصلّون خلف عمرو، مع علم كل أحد أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة أفضل من عمرو.
وأما قول الرافضي: إنه لما أنفذه ببراءة ردّه بعد ثلاثة أيام ؛ فهذا من الكذب المعلوم؟أنه كذب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمَّر أبا بكر على الحج، ذهب كما أمره، وأقام الحج في ذلك العام -عام تسع- للناس، ولم يرجع إلى المدينة حتى قضى الحج، وأنفذ فيه ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المشركين كانوا يحجون البيت، وكانوا يطوفون بالبيت عراة، وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهود مطلقة، فبعث أبا بكر وأمره أن ينادي: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان، فنادى بذلك من أمره أبو بكر بالنداء ذلك العام، وكان عليّ بن أبي طالب من جملة من نادى بذلك في الموسم بأمر أبي بكر، ولكن لما خرج أبو بكر أردفه النبي صلى الله عليه وسلم بعليّ بن أبي طالب لينبذ إلى المشركين العهود.(1/307)
قالوا: وكان من عادة العرب أن لا يعقد العهود ولا يفسخها إلا المطاع، أو رجل من أهل بيته، فَبَعَث عليًّا لأجل فسخ العهود التي كانت مع المشركين خاصة، لم يبعثه لشيء آخر، ولهذا كان عليّ يصلّي خلف أبي بكر، ويدفع بدفعه في الحج، كسائر رعية أبي بكر الذين كانوا معه في الموسم.
(فصل)
قال الرافضي: (وقطع يسار سارق، ولم يعلم أن القطع لليد اليمنى).
والجواب: أن قول القائل: إن أبا بكر يجهلُ هذا، من أظهر الكذب، ولوقدِّر أن أبا بكركان يجيز ذلك، لكان ذلك قولاً سائغًا ؛ لأن القرآن ليس في ظاهره ما يعيِّن اليمين، لكن تعيين اليمين في قراءة ابن مسعود: (فاقطعوا أيمانهما) وبذلك مضت السنة، ولكن أين النقل بذلك عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قطع اليسرى؟ وأين الإسناد الثابت بذلك؟ وهذه كتب أهل العلم بالآثار موجودة ليس فيها ذلك، ولا نقل أهل العلم بالاختلاف ذلك قولاً، مع تعظيمهم لأبي بكر رضي الله عنه.
(فصل)
قال الرافضي: (وأحرق الفجاءة السلمى بالنار، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحراق بالنار).
الجواب: أن الإحراق بالنار عن عليّ أشهر وأظهر منه عن أبي بكر، وأنه قد ثبت في الصحيح أن عليًّا أُتِيَ بقوم زنادقة من غلاة الشيعة، فحرَّقهم بالنار، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: لو كنت أنا لم أحرِّقهم بالنار، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعَذَّب بعذاب الله، ولضربت أعناقهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدَّل دينه فاقتلوه) فبلغ ذلك عليًّا، فقال: ويح ابن أم الفضل ما أسقطه عَلَى الهنات(1).
فعليّ حرق جماعة بالنار، فإن كان ما فعله أبو بكر منكرًا، ففعل عليّ أنكر منه، وإن كان فعل عليّ مما لا يُنكر مثله على الأئمة، فأبو بكر أوْلى أن لا يُنكر عليه.
__________
(1) انظر: البخاري (9/15).(1/308)
(فصل)
قال الرافضي: (وَخَفِيَ عليه أكثر أحكام الشريعة، فلم يعرف حكم الكلالة، وقال: أقول فيها برأيي، فإن يك صوابًا فمن الله، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، وقضى بالجد بسبعين قضية، وهو يدل على قصوره في العلم).
والجواب: أن هذا من أعظم البهتان، كيف يخفى عليه أكثر أحكام الشريعة، ولم يكن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من يقضي ويُفتى إلا هو؟! ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مشاورة لأحدٍ من الصحابة منه له ولعمر، ولم يكن أحدٌ أعظم اختصاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم منه ثم عمر.
وقد ذكر غير واحد، مثل: منصور بن عبد الجبّار السمعاني وغيره، إجماع أهل العلم على أن الصدّيق أعلم الأمة. وهذا بيِّنٌ، فإن الأمة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصلَّها هو بعلم يبيِّنه لهم، وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنة، كما بيَّن لهم موت النبي صلى الله عليه وسلم، وتثبيتهم على الإيمان، وقراءته عليهم الآية، ثم بيَّن لهم موضع دفنه، وبيَّن لهم قتال مانعي الزكاة لما استراب فيه عمر، وبيَّن لهم أن الخلافة في قريش في سقيفة بني ساعدة، لمّا ظن من ظن أنها تكون في غير قريش.
وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أول حجة حجت من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم. وعِلْمُ المناسك أدقّ ما في العبادات، لولا سعة علمه بها لم يستعمله، وكذلك الصلاة استخلفه فيها، ولولا علمه بها لم يستخلفه، ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة.
وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه أنس من أبي بكر، وهو أصح ما رُوي فيها، وعليه اعتمد الفقهاء.
وفي الجملة لا يُعرف لأبي بكر مسألة من الشريعة غلط فيها، وقد عُرف لغيره مسائل كثيرة، كما بسط في موضعه.
وأما قول الرافضي: (لم يعرف حكم الكلالة حتى قال فيها برأيه).(1/309)
فالجواب: أن هذا من أعظم علمه، فإن هذا الرأي الذي رآه في الكلالة قد اتفق عليه جماهير العلماء بعده ؛ فإنهم أخذوا في الكلالة بقول أبي بكر، وهو من لا ولد له ولا والد، والقول بالرأي هو معروف عن سائر الصحابة: كأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل، لكن الرأي الموافق للحق هو الذي يكون لصاحبه أجران، كرأي الصدِّيق، فإن هذا خير من الرأي الذي غاية صاحبه أن يكون له أجر واحد.
وقد قال قيس بن عُبَاد لعليّ: أرأيت مسيرك هذا: ألعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأى رأيته؟ فقال: بل رأى رأيته. رواه أبو داود وغيره(1).
فإن كان مثل هذا الرأي الذي حصل به من سفك الدماء ما حصل، لا يمنع صاحبه أن يكون إمامًا، فكيف بذلك الرأي الذي اتفق جماهير العلماء على حسنه.
وأما ما ذكره من قضائه في الجد بسبعين قضية، فهذا كذب، وليس هو قول أبي بكر، ولا نُقل هذا عن أبي بكر؛ بل نقل هذا عن أبى بكر يدل على غاية جهل هؤلاء الروافض وكذبهم.
(فصل)
قال الرافضي: فأي نسبة له بمن قال: (سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن طرق السماء فإني أعرف بها من طرق الأرض).
__________
(1) انظر: مسلم (4/2143) وسنن أبي داود (4/300).(1/310)
قال أبو البحتري: رأيت عليًّا صعد المنبر بالكوفة، وعليه مدرعة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدًا لسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم متعممًا بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أصبعه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد على المنبر، وكشف عن بطنه، فقال: سلوني من قبل أن تفقدوني، فإنما بين الجوانح مني علم جم، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا ما زقّني رسول الله صلى الله عليه وسلم زقًّا من غير وحي إليّ، فوالله لو ثُنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم، حتى يُنطق الله التوراة والإنجيل، فتقول: صدق عليّ، قد أفتاكم بما أنزل الله فيَّ، وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون)).
والجواب: أما قول عليّ: (سلوني) فإنما كان يخاطب بهذا أهل الكوفة ليعلّمهم العلم والدين ؛ فإن غالبهم كانوا جُهَّالاً لم يدركوا النبي صلى الله عليه وسلم، وأما أبو بكر فكان الذين حول منبره هم أكابر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين تعلَّموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم والدين، فكانت رعية أبي بكر أعلم الأمة وأَدْيَنها، وأما الذين كان عليّ يخاطبهم فهم من جملة عوام الناس التابعين، وكان كثير منهم من شرار التابعين. ولهذا كان عليّ رضي الله عنه يذمّهم ويدعو عليهم، وكان التابعون بمكة والمدينة والشام والبصرة خيرًا منهم.
وقد جمع الناس الأقضية والفتاوى المنقولة عن أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، فوجدوا أَصْوَبَها وأدلّها على علم صاحبها أمور أبي بكر ثم عمر، ولهذا كان ما يُوجد من الأمور التي وُجد نصٌ يخالفها عن عمر أقل مما وُجد عن عليّ، وأما أبو بكر فلا يكاد يوجد نصّ يخالفه، وكان هو الذي يفصل الأمور المشتبهة عليهم، ولم يكن يُعرف منهم اختلاف على عهده، وعامة ما تنازعوا فيه من الأحكام كان بعد أبي بكر.(1/311)
والحديث المذكور عن عليّ كذب ظاهر لا تجوز نسبة مثله إلى عليّ ؛ فإن عليًّا أعلم بالله وبدين الله من أن يحكم بالتوراة والإنجيل، إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لمسلم أن يحكم بين أحد إلا بما أنزل الله في القرآن، وإذا تحاكم اليهود والنصارى إلى المسلمين لم يجز لهم أن يحكموا بينهم إلا بما أنزل الله في القرآن.
وإذا كان من المعلوم بالكتاب والسنة والإجماع، أن الحاكم بين اليهود والنصارى لا يجوز أن يحكم بينهم إلا بما أنزل الله على محمد، سواء وافق ما بأيديهم من التوراة والإنجيل أو لم يوافقه، كان من نسب عليًّا إلى أنه يحكم بالتوراة والإنجيل بين اليهود والنصارى، أو يفتيهم بذلك، ويمدحه بذلك: إما أن يكون من أجهل الناس بالدين، وبما يُمدح به صاحبه، وإما أن يكون زنديقًا ملحدًا أراد القدح في عليّ بمثل هذا الكلام الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب، دون المدح والثواب.
(فصل)
قال الرافضي: (وروى البيهقي بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب، فأثبت له ما تفرَّق فيهم).
والجواب: أن يقال أولاً: أين إسناد هذا الحديث؟ والبيهقي يروي في الفضائل أحاديث كثيرة ضعيفة، بل موضوعة، كما جرت عادة أمثاله من أهل العلم.
ويقال ثانيًا: هذا الحديث كذب موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا ريب عند أهل العلم بالحديث، ولهذا لا يذكره أهل العلم بالحديث، وإن كانوا حراصًا على جمع فضائل عليّ، كالنسائي ؛ فإنه قصد أن يجمع فضائل عليّ في كتاب سماه (الخصائص)، والترمذي قد ذكر أحاديث متعددة في فضائله، وفيها ما هو ضعيف بل موضوع، ومع هذا لم يذكروا هذا ونحوه.(1/312)
(فصل)
قال الرافضي: (قال أبو عمر الزاهد: قال أبو العباس: لا نعلم أحدًا قال بعد نبيه: (سلوني) من شيثٍ إلى محمدٍ إلا عليّ، فسأله الأكابر: أبو بكر وعمر وأشباههما، حتى انقطع السؤال، ثم قال بعد هذا: يا كُمَيْل بن زياد، إن ههنا لعلمًا جمًا لو أصبت له حملة).
والجواب: أن هذا النقل إن صح عن ثعلب ؛ فثعلب لم يذكر له إسنادًا حتى يُحتج به، وليس ثعلب من أئمة الحديث الذين يعرفون صحيحه من سقيمه، حتى يُقال: قد صح عنده، كما إذا قال ذلك أحمد أو يحيى بن معين أو البخاري ونحوهم، بل من هو أعلم من ثعلب من الفقهاء يذكرون أحاديث كثيرة لا أصل لها، فكيف ثعلب؟! وهو قد سمع هذا من بعض الناس الذين لا يذكرون ما يقولون عن أحد.
وعليّ رضي الله عنه لم يكن يقول هذا بالمدينة، لا في خلافة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان، وإنما كان يقول هذا في خلافته في الكوفة، ليعلم أولئك الذين لم يكونوا يعلمون ما ينبغي لهم علمه، وكان هذا لتقصيرهم في طلب العلم، وكان عليّ رضي الله عنه يأمرهم بطلب العلم والسؤال.
وحديث كُمَيْل بن زياد يدل على هذا ؛ فإن كميلاً من التابعين لم يصحبه إلا بالكوفة، فدل عَلَى أنه كان يرى تقصيرًا من أولئك عن كونهم حملة للعلم، ولم يكن يقول هذا في المهاجرين والأنصار، بل كان عظيم الثناء عليهم.
وأما أبو بكر فلم يسأل عليًّا قط عن شيء، وأما عمر فكان يشاور الصحابة: عثمان وعليًّا وعبد الرحمن وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم، فكان عليّ من أهل الشورى.
(فصل)
قال الرافضي: (وأهمل حدود الله فلم يقتص من خالد بن الوليد ولا حدَّه حيث قتل مالك بن نويرة، وكان مسلمًا، وتزوج امرأته في ليلة قتله وضاجعها، وأشار عليه عمر بقتله فلم يفعل).(1/313)
والجواب أن يقال: أولاً: إن كان ترك قتل قاتل المعصوم مما يُنكر على الأئمة، كان هذا من أعظم حجة شيعة عثمان عَلَى عليّ ؛ فإن عثمان خير من ملء الأرض من مثل مالك بن نويرة، وهو خليفة المسلمين، وقد قُتل مظلومًا شهيدًا بلا تأويل مسوِّغ لقتله، وعليّ لم يقتل قَتَلَته، وكان هذا من أعظم ما امتنعت به شيعة عثمان عن مبايعة عليّ، فإنْ كان عليّ له عذر شرعي في ترك قتل قتلة عثمان، فعذر أبي بكر في ترك قتل قاتل مالك بن نويرة أقوى، وإن لم يكن لأبي بكر عذر في ذلك فعليّ أَوْلى أن لا يكون له عذر في ترك قتل قتلة عثمان.
وأما ما تفعله الرافضة من الإنكار على أبي بكر في هذه القضية الصغيرة، وترك إنكار ما هو أعظم منها عَلَى عليّ، فهذا من فرط جهلهم وتناقضهم.
وكذلك إنكارهم عَلَى عثمان كونه لم يقتل عُبيد الله بن عمر بالهرمزان، هو من هذا الباب.
وإذا قال القائل: عليّ كان معذورًا في ترك قتل قتلة عثمان، لأن شروط الاستيفاء لم توجد؛ إما لعدم العلم بأعيان القَتَلة، وإما لعجزه عن القوم لكونهم ذوي شوكة، ونحو ذلك.
قيل: فشروط الاستيفاء لم توجد في قتل قاتل مالك بن نويرة، وقتل قاتل الهرمزان، لوجود الشبهة في ذلك، والحدود تُدرأ بالشّبهات.
وإذا قالوا: عمر أشار عَلَى أبي بكر بقتل خالد بن الوليد، وعليّ أشار عَلَى عثمان بقتل عبيد الله بن عمر.
قيل: وطلحة والزبير وغيرهما أشاروا عَلَى عليّ بقتل قتلة عثمان، مع أن الذين أشاروا عَلَى أبي بكر بالقَوَد، أقام عليهم حجّة سلّموا لها، إما لظهور الحق معه، وإما لكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد.
وعليّ لما لم يوافق الذين أشاروا عليه بالقود، جرى بينه وبينهم من الحروب ما قد عُلم، وقتل قتلة عثمان أهون مما جرى بالجمل وصفِّين، فإذا كان في هذا اجتهاد سائغ، ففي ذلك أوْلى.
وإن قالوا: عثمان كان مباح الدم.(1/314)
قيل لهم: فلا يشك أحد في أن إباحة دم مالك بن نُويرة أظهر من إباحة دم عثمان، بل مالك بن نويرة لا يُعرف أنه كان معصوم الدم، ولم يثبت ذلك عندنا، وأما عثمان فقد ثبت بالتواتر ونصوص الكتاب والسنة أنه كان معصوم الدم، وبين عثمان ومالك بن نويرة من الفرق ما لا يحصى عدده إلا الله تعالى.
ومن قال: إن عثمان كان مباح الدم، لم يمكنه أن يجعل عليًّا معصوم الدم، ولا الحسين ؛ فإن عصمة دم عثمان أظهر من عصمة دم عليّ والحسين، وعثمان أبعد عن موجبات القتل من علي والحسين، وشُبهة قَتَلة عثمان أضعف بكثير من شبهة قَتَلَة عليّ والحسين ؛ فإن عثمان لم يقتل مسلمًا، ولا قاتل أحدًا على ولايته، ولم يطلب قتال أحد على ولايته أصلاً؛ فإن وجب أن يُقال: من قتل خلقًا من المسلمين على ولايته إنه معصوم الدم، وإنه مجتهد فيما فعله، فَلأَن يُقال: عثمان معصوم الدم، وإنه مجتهد فيما فعله من الأموال والولايات بطريق الأوْلى والأحرى.
ثم يُقال: غاية ما يُقال في قصة مالك بن نويرة: إنه كان معصوم الدم وإن خالدًا قتله بتأويل، وهذا لا يبيح قتل خالد، كما أن أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أسامة أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ يا أسامة أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟يا أسامة أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟)(1) فأنكر عليه قتله، ولم يوجب عليه قَوَدًا ولا دِية ولا كفَّارة.
__________
(1) انظر: مسلم (1/96- 97) وسنن أبي داود (3/61).(1/315)
وأما ما ذكره من تزوجه بامرأته ليلة قتله، فهذا مما لم يعرف ثبوته، ولو ثبت لكان هناك تأويل يمنع الرجم. والفقهاء مختلفون في عدة الوفاة: هل تجب للكافر؟ على قولين. وكذلك تنازعوا هل يجب على الذميّة عدة الوفاة؟ على قولين مشهورين للمسلمين، بخلاف عدة الطلاق، فإن تلك سببها الوطء, فلا بد من براءة الرحم، وأما عدة الوفاة فتجب بمجرد العقد، فإذا مات قبل الدخول بها فهل تعتد من الكافر أم لا؟ فيه نزاع، وكذلك إن دخل بها، وقد حاضت بعد الدخول حيضة.
هذا إذا كان الكافر أصليًا، وأما المرتد إذا قتل، أو مات على ردته، ففي مذهب الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد ليس عليها عدة وفاة بل عدة فرقة بائنة، لأن النكاح بطل بردة الزوج، وهذه الفرقة ليست طلاقًا عند الشافعي وأحمد، وهي طلاق عند مالك وأبي حنيفة، ولهذا لم يوجبوا عليها عدة وفاة، بل عدة فرقة بائنة، فإن كان لم يدخل بها فلا عدة عليها, كما ليس عليها عدة من طلاق.
ومعلوم أن خالدًا قتل مالك بن نويرة لأنه رآه مرتدًا، فإذا كان لم يدخل بإمرأته فلا عدة عليها عند عامة العلماء، وإن كان قد دخل بها فإنه يجب عليه استبراء بحيضة لا بعدة كاملة في أحد قوليهم، وفي الآخر بثلاث حيض، وإن كان كافرًا أصليًا فليس على امرأته عدة وفاة في أحد قوليهم، وإذا كان الواجب استبراء بحيضة فقد تكون حاضت. ومن الفقهاء من يجعل بعض الحيضة استبراء، فإذا كانت في آخر الحيض جعل ذلك استبراءً لدلالته على براءة الرحم.
وبالجملة فنحن لم نعلم أن القضية وقعت على وجه لا يسوغ فيها الاجتهاد والطعن بمثل ذلك من قول من يتكلم بلا علم، وهذا مما حرّمه الله ورسوله.
(فصل)
قال الرافضي: (وخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم في توريث بنت النبي صلى الله عليه وسلم ومنعها فدكًا، وتسمّى بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يستخلفه).(1/316)
والجواب: أما الميراث فجميع المسلمين مع أبي بكر في ذلك، ما خلا بعض الشيعة، وقد تقدم الكلام في ذلك، وبيّنا أن هذا من العلم الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن قول الرافضة باطل قطعًا.
وكذلك ما ذكر من فدك، والخلفاء بعد أبي بكر على هذا القول، وأبو بكر وعمر لم يتعلقا من فدك ولا غيرها من العقار بشيء ولا أعطيا أهلهما من ذلك شيئًا، وقد أعطيا بني هاشم أضعاف أضعاف ذلك.
ثم لو احتج محتج بأن عليًا كان يمنع المال ابن عباس وغيره من بني هاشم، حتى أخذ ابن عباس بعض مال البصرة وذهب به، لم يكن الجواب عن علي إلا بأنه إمام عادل قاصد للحق لا يتهم في ذلك.
وهذا الجواب هو في حق أبي بكر بطريق الأولى والأحرى، وأبو بكر أعظم محبة لفاطمة ومرعاة لها من علي لابن عباس، وابن عباس بعلي أشبه من فاطمة بأبي بكر، فإن فضل أبي بكر على فاطمة أعظم من فضل عليّ على ابن عباس.
(فصل)
وأما تسميته بخليفة رسول الله ؛ فإن المسلمين سمّوه بذلك، فإن كان الخليفة هو المستخلَف كما ادّعاه هذا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلفه، كما يقول ذلك من يقوله من أهل السنّة، وإن كان الخليفة هو الذي خَلَفَ غيرَه - وإن كان لم يستخلفه ذلك الغير كما يقوله الجمهور - لم يحتج في هذا الاسم إلى الاستخلاف.
والاستعمال الموجود في الكتاب والسنة يدل على أن هذا الاسم يتناول كل من خَلَفَ غيره: سواء استخلفه، أو لم يستخلفه، كقوله تعالى: ((ثمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ في الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلونَ))[يونس:14].(1/317)
(فصل)
قال الرافضي: (ومنها ما رووه عن عمر، روى أبو نُعيم الحافظ في كتابه (حلية الأولياء) أنه قال لما احتُضر: يا ليتني كنت كبشًا لقومي فسمنّوني ما بدا لهم، ثم جاءهم أحب قومهم إليهم فذبحوني، فجعلوا نصفي شواءً ونصفي قديدًا، فأكلوني، فأكون عذرة ولا أكون بشرًا، وهل هذا إلا مساوٍ لقول الكافر: ((يا لَيْتَني كُنْتُ تُرابًا))[النبأ:40].
قال: (وقال لابن عباس عند احتضاره: لو أن لي ملء الأرض ذهبًا ومثله معه لافتديت به نفسي من هول المطلع، وهذا مثل قوله: ((وَلَوْ أَنَّ للذِّينَ ظَلَمُوا مَا في الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَاب))[الزمر:1] فلينظر المنصف العاقل قولَ الرجلين عند احتضارهما، وقول عليّ:
متى ألقى الأحبة.. محمدًا وحزبه.
متى ألقاها.. متى يُبعث أشقاها.
وقوله حين قتله ابن ملجم: فزت ورب الكعبة).
والجواب: أن في هذا الكلام من الجهالة ما يدل على فرط جهل قائله؛ وذلك أن ما ذكره عن عليّ قد نُقل مثله عمَّن هو دون أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، بل نُقل مثله عمَّن يكفِّر عليّ بن أبي طالب من الخوارج، كقول بلال عتيق أبي بكر عند الاحتضار، وامرأته تقول: واحرباه، وهو يقول: واطرباه غدًا ألقى الأحبة محمدًا وحزبه.
وكان عمر قد دعا لما عارضوه في قسمة الأرض، فقال: (اللهم اكفني بلالاً وذويه) فما حال الحَوْل وفيهم عين تَطْرِفُ.(1/318)
وروى أبو نُعيم في (الحلية): (حدثنا القطيعى، حدثنا الحسن بن عبد الله، حدثنا عامر بن سيّار، حدثنا عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن الحارث بن عمير، قال: طُعن معاذ وأبو عبيدة وشُرحبيل بن حسنة وأبو مالك الأشعري في يوم واحد، فقال معاذ: إنه رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وقبض الصالحين قبلكم، اللهم آت آل معاذ النصيب الأوفر من هذه الرحمة، فما أمسى حتى طُعن ابنه عبد الرحمن بِكْرُه الذي كان يُكنَّى به، وأحب الخلق إليه، فرجع من المسجد فوجده مكروبًا، فقال: يا عبد الرحمن، كيف أنت؟ قال: يا أبتِ الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، قال: وأنا إن شاء الله ستجدني من الصابرين، فأمسكه لَيْلَهُ ثم دفنه من الغد، وطُعن معاذ، فقال حين اشتدَّ به النزع -نزع الموت- فنزع نزعًا لم ينزعه أحد، وكان كلما أفاق فتح طرفه، وقال: رب أخنقني خَنْقَك، فوعزتك إنك لتعلم أن قلبي يحبك)(1).
وكذلك قوله: فزت ورب الكعبة. قد قالها من هو دون عليّ، قالها عامر بن فُهيرة مَوْلَى أبي بكر الصديق لما قُتل يوم بئر معونة، وكان قد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مع سرية قِبَل نجد، قال العلماء بالسير: طعنه جبّار بن سَلْمى فأنفذه، فقال عامر: فزت والله. فقال جبّار: ما قوله: فزت والله؟ قال عروة بن الزبير: يرون أن الملائكة دفنته(2).
وشبيب الخارجي لما طُعن دخل في الطعنة، وجعل يقول: وعجلت إليك ربِ لترضى.
وأعرف شخصًا من أصحابنا لما حضرته الوفاة جعل يقول: حبيبي هاقد جئتك، حتى خرجت نفسه. ومثل هذا كثير.
وأما خوف عمر وخشيته من الله لكمال علمه ؛ فإن الله تعالى يقول: ((إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ))(3).
__________
(1) انظر: الحلية (1/240).
(2) انظر: الحلية (1/240).
(3) انظر: الحلية (1/240).(1/319)
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلِّي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء(1).
وأما قول الرافضي: (وهل هذا إلا مساوٍ لقول الكافر: ((يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا))[النبأ:40]).
فهذا جهل منه ؛ فإن الكافر يقول ذلك يوم القيامة، حين لا تُقبل توبة، ولا تنفع حسنة، وأما من يقول ذلك في الدنيا، فهذا يقوله في دار العمل على وجه الخشية لله، فيُثاب على خوفه من الله.
وقد قالت مريم: ((ياَلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا))[مريم:23] ولم يكن هذا كتمنِّي الموت يوم القيامة.
ولا يُجعل هذا كقول أهل النار، كما أخبر الله عنهم بقوله: ((وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ))[الزخرف:77] وكذلك قوله: ((وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا في الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنُ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ))[الزمر:47] ؛ فهذا إخبار عن حالهم يوم القيامة حين لا ينفع توبة ولا خشية.
وأما في الدنيا، فالعبد إذا خاف ربَّه كان خوفه مما يثيبه الله عليه، فمن خاف الله في الدنيا أمّنه يوم القيامة، ومن جعل خوف المؤمن من ربه في الدنيا كخوف الكافر في الآخرة، فهو كمن جعل الظلمات كالنور، والظل كالحرور، والأحياء كالأموات.
__________
(1) انظر: سنن النسائي (3/14) والمسند (4/25)، 26).(1/320)
(فصل)
قال الرافضي: (وروى أصحاب الصحاح الستة من مسند ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته:ائتوني بدواة و بياض أكتب لكم كتابًا لا تضلُّون به من بعدي، فقال عمر: إن الرجل لَيَهْجُر، حسبُنا كتاب الله، فكثر اللَّغَط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخْرُجُوا عني، لا ينبغي التنازع لديّ، فقال ابن عباس: الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عمر لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما مات محمد ولا يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم، فلما نهاه أبو بكر وتلا عليه: ((إنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ))[الزمر:30]، وقوله: ((أفَإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ))[آل عمران:144] قال: كأني ما سمعت هذه الآية).
والجواب: أن يقال: أما عمر فقد ثبت من علمه وفضله ما لم يثبت لأحد غير أبي يكر، ففي صحيح مسلم عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (قد كان في الأمم قبلكم مُحَدِّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر) قال ابن وهب: تفسير (محدِّثون): ملهمون(1).
وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدِّثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب) وفي لفظ للبخاري: (لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلِّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر)(2).
وفي الصحيح، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أنا نائم إذ رأيت قدحًا أتيت به فيه لبن، فشربت منه حتى إني لأرى الرِّيَّ يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب). قالوا: فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: (العلم)(3).
__________
(1) انظر: البخاري (5/11) وأماكن أُخر وانظر: مسلم (4/1864).
(2) انظر: ما تقدم قبل قليل.
(3) انظر: البخاري (1/23-24) و(ج9/35) ومسلم (4/1859).(1/321)
وفي الصحيحين، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم رأيت الناس يُعرضون عليَّ وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرُّه) قالوا: ما أوّلت ذلك يا رسول الله؟قال: (الدين)(1).
وأما قصة الكتاب الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يكتبه، فقد جاء مبيَّنا، كما في الصحيحين، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: (ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أوْلَى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)(2).
وفي صحيح البخاري عن القاسم بن محمد، قال: قالت عائشة: (وارأساه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كان وأنا حيّ فأستغفر لك وأدعو لك) قالت عائشة: (واثكلاه! والله إني لأظنك تحب موتي، فلو كان ذلك لظللت آخر يومك مُعَرِّسًا ببعض أزواجك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل أنا وارأساه! لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنُّون، ويدفع الله ويأبى المؤمنون)(3).
وأما عمر فاشتبه عليه هل كان قول النبي صلى الله عليه وسلم من شدة المرض، أو كان من أقواله المعروفة. والمرض جائز على الأنبياء، ولهذا قال: (ماله؟ أهجر؟) فشكَّ في ذلك ولم يجزم بأنه هجر، والشك جائز على عمر، فإنه لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما وقد شك بشبهة ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريضًا، فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض كما يعرض للمريض، أو كان من كلامه المعروف الذي يجب قبوله، وكذلك ظن أنه لم يمت حتى تبين أنه قد مات.
__________
(1) انظر: البخاري (5/12)، (9/35-36) ومسلم (4/1859).
(2) انظر: البخاري (7/119) و(ج9/80-81) ومسلم (4/1857).
(3) انظر: البخاري (9/80-81).(1/322)
والنبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة، فلما رأى أن الشك قد وقع، علم أن الكتاب لا يرفع الشك، فلم يبق فيه فائدة، وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه، كما قال: (ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر).
وقول ابن عباس: (إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب الكتاب) يقتضي أن هذا الحائل كان رزية، وهو رزية في حق من شك في خلافة الصدِّيق، أو اشتبه عليه الأمر ؛ فإنه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك، فأما من علم أن خلافته حق فلا رزّية في حقه، ولله الحمد.
ومن توهّم أن هذا الكتاب كان بخلافة عليّ فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة، أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه، وأما الشيعة القائلون بأن عليًّا كان هو المستحق للإمامة، فيقولون: إنه قد نصّ على إمامته قبل ذلك نصًّا جليًا ظاهرًا معروفًا، وحينئذٍ فلم يكن يحتاج إلى كتاب.
وإن قيل: إن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور، فلأن تكتم كتابًا حضره طائفة قليلة أوْلى وأحرى.
وأيضًا: فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك، فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته، لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبيّنه ويكتبه، ولا يلتفت إلى قول أحدٍ، فإنه أطوع الخلق له، فعُلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجبًا، ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذٍ، إذ لو وجب لفعله، ولو أن عمر رضي الله عنه اشتبه عليه أمر، ثم تبيّن له أوشك في بعض الأمور، فليس هو أعظم ممن يفتي ويقضي بأمور ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بخلافها، مجتهدًا في ذلك، ولا يكون قد علم حكم النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإن الشك في الحق أخف من الجزم بنقيضه.(1/323)
وكل هذا إذا كان باجتهاد سائغ كان غايته أن يكون من الخطأ الذي رفع الله المؤاخذة به، كما قضى عليٌّ في الحامل المتوفّى عنها زوجها أنها تعتدّ أبعد الأجلين، مع ما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قيل له: إن أبا السنابل بن بعكك أفتى بذلك لسبيعة الأسلمية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كذب أبو السنابل، بل حللتِ فانكحي من شئت)(1) فقد كذّب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الذي أفتى بهذا، وأبو السنابل لم يكن من أهل الاجتهاد، وما كان له أن يفتِيَ بهذا مع حضور النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما عليّ وابن عباس رضي الله عنهما وإن كانا أفتيا بذلك، لكن كان ذلك عن اجتهاد، وكان ذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن بلغهما قصة سُبَيْعة.
(فصل)
قال الرافضي: (ولما وعظت فاطمة أبا بكر في فَدَك، كتب لها كتابًا بها، وردها عليها، فخرجت من عنده، فلقيها عمر بن الخطاب فحرق الكتاب، فدعت عليه بما فعله أبو لؤلؤة به وعطّل حدود الله فلم يحدّ المغيرة بن شعبة، وكان يعطي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المال أكثر مما ينبغي، وكان يعطي عائشة وحفصة في كل سنة عشرة آلاف درهم، وغيَّر حكم الله في المنفيين، وكان قليل المعرفة في الأحكام).
والجواب: أن هذا من الكذب الذي لا يستريب فيه عالم، ولم يذكر هذا أحد من أهل العلم بالحديث، ولا يُعرف له إسناد، وأبو بكر لم يكتب فَدَكًا قط لأحد، لا لفاطمة ولا غيرها، ولا دعت فاطمة على عمر.
__________
(1) انظر: البخاري (5/80) ومسلم (2/1122).(1/324)
وما فعله أبو لؤلؤة كرامة في حق عمر رضي الله عنه، وهو أعظم ممّا فعله ابن ملجم بعليّ رضي الله عنه، وما فعله قتلة الحسين رضي الله عنه به، فإن أبا لؤلؤة كافرٌ قتل عمر كما يقتل الكافر المؤمن، وهذه الشهادة أعظم من شهادة من يقتله مسلم ؛ فإن قتيل الكافر أعظم درجةً من قتيل المسلمين، وقتل أبي لؤلؤة لعمر كان بعد موت فاطمة بمدة خلافة أبي بكر وعمر إلا ستة أشهر، فمن أين يُعرف أن قتله كان بسبب دعاء حصل في تلك المدة.
والداعي إذا دعا عَلَى مسلم بأن يقتله كافر، كان ذلك دعاء له لا عليه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لأصحابه بنحو ذلك، كقوله: (يغفر الله لفلان) فيقولون: لو أمتعتنا به! وكان إذا دعا لأحد بذلك استُشهد(1).
ولو قال قائل: إن عليًّا ظلم أهل صفِّين والخوارج حتى دعوا عليه بما فعله ابن ملجم، لم يكن هذا أبعد عن المعقول من هذا، وكذلك لو قال: إن آل سفيان بن حرب دعوا على الحسين بما فُعل به.
وأما قول الرافضي: (وعطّل حدود الله فلم يحدّ المغيرة بن شعبة).
فالجواب:أن جماهير العلماء على ما فعله عمر في قصة المغيرة، وأن البيّنة إذا لم تكمل حدّ الشهود، ومن قال بالقول الآخر لم ينازع في أن هذه مسألة اجتهاد، وقد تقدّم أن ما يرد على علي بتعطيل إقامة القصاص والحدود على قتلة عثمان أعظم، فإذا كان القادح في علّي مبطلا، فالقادح في عمر أولى بالبطلان.
وقوله: (وكان يعطي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المال أكثر مما ينبغي، وكان يعطي عائشة وحفصة من المال في كل سنة عشرة آلاف درهم).
__________
(1) انظر: البخاري (5/130) وغيره ومسلم (3/1427).(1/325)
فالجواب:أما حفصة فكان ينقصها من العطاء لكونها ابنته، كما نقص عبد الله بن عمر، وهذا من كمال احتياطه في العدل، وخوفه مقام ربه، ونهيه نفسه عن الهوى، وهو كان يرى التفضيل في العطاء بالفضل، فيعطي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أعظم مما يعطي غيرهن من النساء، كما كان يعطي بني هاشم من آل أبي طالب وآل العباس أكثر مما يعطي من عداهم من سائر القبائل، فإذا فضّل شخصًا كان لأجل اتصاله برسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لسابقته واستحقاقه، وكان يقول:ليس أحد أحق بهذا المال من أحد، وإنما هو الرجل وغناؤه، والرجل وبلاؤه، والرجل وسابقته، والرجل وحاجته، فما كان يعطي من يُتهم على إعطائه بمحاباة في صداقة أو قرابة، بل كان ينقص ابنه وابنته ونحوهما عن نظرائهم في العطاء، وإنما كان يفضِّل بالأسباب الدينية المحضة، ويفضِّل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على جميع البيوتات ويقدِّمهم.
وهذه السيرة لم يسرها بعده مثله لا عثمان ولا عليّ ولا غيرهما، فإن قُدح فيه بتفضيل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فليُقدح فيه بتفضيل رجال أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وتقديمهم على غيرهم.
(فصل)
وأما قوله: (وغيَّر حكم الله في المنفيين).
فالجواب: أن التغيير لحكم الله بما يناقض حكم الله، مثل: إسقاط ما أوجبه الله، وتحريم ما أحلّه الله، والنفي في الخمر كان من باب التعزير الذي يسوغ فيه الاجتهاد، وذلك أن الخمر لم يقدِّر النبي صلى الله عليه وسلم حدَّها: لا قَدْرُهُ ولا صفتُهُ، بل جوّز فيها الضرب بالجريد والنعال، وأطراف الثياب وعُثْكول النخل، والضرب في حد القذف والزنا إنما يكون بالسوط، وأما العدد في الخمر فقد ضرب الصحابة أربعين وضربوا ثمانين، وقد ثبت في الصحيح عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: (وكُلٌّ سُنَّة)(1).
__________
(1) انظر: صحيح مسلم (3/1331-1332) وسنن أبي داود (4/228).(1/326)
(فصل)
قال الرافضي: (وكان قليل المعرفة بالأحكام أمر برجم حامل، فقال له عليّ: إن كان لك عليها سبيل، فلا سبيل لك على ما في بطنها. فأمسك، وقال: لولا عليّ لهلك عمر).
والجواب: أن هذه القصة إن كانت صحيحة، فلا تخلو من أن يكون عمر لم يعلم أنها حامل، فأخبره عليٌّ بحملها. ولا ريب أن الأصل عدم العلم، والإمام إذا لم يعلم أن المستحقة للقتل أو الرجم حامل، فعرَّفه بعض الناس بحالها، كان هذا من جملة إخباره بأحوال الناس المغيَّبات، ومن جنس ما يشهد به عنده الشهود، وهذا أمر لا بد منه مع كل أحد من الأنبياء والأئمة وغيرهم، وليس هذا من الأحكام الكلية الشرعية.
وإما أن يكون عمر قد غاب عنه كون الحامل لا ترجم، فلما ذكَّره عليّ ذكر ذلك، ولهذا أمسك، ولو كان رأيه أن الحامل ترجم لرجمها، ولم يرجع إلى رأي غيره، و قد مضت سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الغامدية لما قالت: (إني حبلى من الزنا، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: اذهبي حتى تضعيه)(1) ولو قدِّر أنه خفى عليه علم هذه المسألة حتى عرفه، لم يقدح ذلك فيه، لأن عمر ساس المسلمين وأهل الذمّة، يعطي الحقوق، ويقيم الحدود، ويحكم بين الناس كلهم، وفي زمنه انتشر الإسلام، وظهر ظهورًا لم يكن قبله مثله، وهو دائمًا يقضي ويُفتي، ولولا كثرة علمه لم يُطق ذلك، فإذا خفيت عليه قضية من مائة ألف قضية ثم عرفها، أو كان نسيها فذكرها، فأي عيب في ذلك؟!
وعليّ رضي الله عنه قد خَفِيَ عليه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أضعاف ذلك، ومنها ما مات ولم يعرفه.
(فصل)
قال الرافضي: (وأمر برجم مجنونة، فقال له علي رضي الله عنه: إن القلم رُفع عن المجنون حتى يفيق، فأمسك. وقال: لولا عليّ لهلك عمر).
__________
(1) انظر: مسلم (3/1323) وسنن أبي داود (4/212-213).(1/327)
والجواب: أن هذه الزيادة ليست معروفة في هذا الحديث، ورجم المجنونة لا يخلو: إما أن يكون لم يعلم بجنونها فلا يقدح ذلك في علمه بالأحكام، أو كان ذاهلاً عن ذلك فذُكِّر بذلك، أو يظن الظان أن العقوبات لدفع الضرر في الدنيا، والمجنون قد يُعاقب لدفع عدوانه على غيره من العقلاء والمجانين، والزنا هو من العدوان، فيُعاقب على ذلك حتى يتبين له أن هذا من باب حدود الله تعالى التي لا تقام إلا على المكلف.
والشريعة قد جاءت بعقوبة الصبيان على ترك الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع)(1).
والمجنون إذا صال ولم يندفع صياله إلا بقتله قُتل، بل البهيمة إذا صالت ولم يندفع صيالها إلا بقتلها قُتلت، وإن كانت مملوكة لم يكن على قاتلها ضمان للمالك عند جمهور العلماء، كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
وبالجملة فما ذكره من المطاعن في عمر وغيره يرجع إلى شيئين: إما نقص العلم، وإما نقص الدين، ونحن الآن في ذكره، فما ذكره من منع فاطمة ومحاباته في القَسْم ودرء الحد ونحو ذلك يرجع إلى أنه لم يكن عادلاً بل كان ظالمًا، ومن المعلوم للخاص والعام أن عدل عمر رضي الله عنه ملأ الآفاق، وصار يُضرب به المثل، كما قيل: سيرة العمرين، وأحدهما: عمر بن الخطاب، والآخر قيل: إنه عمر بن عبد العزيز، وهو قول أحمد بن حنبل وغيره من أهل العلم والحديث، وقيل: هو أبو بكر وعمر، وهو قول: أبي عبيدة وطائفة من أهل اللغة والنحو.
__________
(1) رواه أبو داود (1/193) وأحمد (10/217-218) تحقيق أحمد شاكر.(1/328)
بسم الله الرحمن الرحيم
مخُتْصَرُ مِنْهَاجِ السُّنَّة
لأبي العباس شيخ الإسلام أحمد بن تيمية
رحمه الله
اختصره
الشيخ عبد الله الغنيمان
المدرس بقسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة
1410هـ
الجزء الثاني
(فصل)
قال الرافضي: (وقال في خطبة له: من غالى في مهر امرأة جعلته في بيت المال. فقالت له امرأة: كيف تمنعنا ما أعطانا الله في كتابه حين قال: ((وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا)) [النساء:20] فقال: كل أحد أَفْقه من عمر حتى المخَدَّرات).
والجواب: أن هذه القصة دليل على كمال فضل عمر ودينه وتقواه، ورجوعه إلى الحق إذا تبين له، وأنه يقبل الحق حتى من امرأة، ويتواضع له، وأنه معترف بفضل الواحد عليه، ولو في أدنى مسألة، وليس من شرط الأفضل أن لا ينبهه المفضول لأمر من الأمور، فقد قال الهدهد لسليمان: ((أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِين)) [النمل:22] وقد قال موسى للخضر: ((هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)) [الكهف:66] . والفرق بين موسى والخضر أعظم من الفرق بين عمر وبين أشباهه من الصحابة، ولم يكن هذا بالذي أوجب أن يكون الخضر قريبًا من موسى، فضلاً عن أن يكون مثله، بل الأنبياء المتّبعون لموسى، كهارون ويوشع وداود وسليمان وغيرهم، أفضل من الخضر.
فالصحابة أعلم الأمة وأفقهها وأدينها، ولهذا أحسن الشافعي رحمه الله في قوله: (هم فوقنا في كل علم وفقهٍ ودين وهدى، وفي كل سبب يُنال به علم وهدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا) أو كلامًا هذا معناه.
وقال أحمد بن حنبل: (أصول السنة عندنا التمسك بما عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم).(2/329)
وما أحسن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: (أيها الناس من كان منكم مستنًّا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد كانوا أفضل هذه الأمة: أبرّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسّكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم).
وقال حذيفة رضي الله عنه: (يا معشر القرّاء استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم، فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، وإن أخذتم يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا).
(فصل)
قال الرافضي: (ولم يحدّ قدامة في الخمر، لأنه تلا عليه: ((لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا)) [المائدة:93] الآية. فقال له عليٌّ: ليس قدامة من أهل هذه الآية، فلم يدر كم يحدّه. فقال له أمير المؤمنين: حدّه ثمانين، إن شارب الخمر إذا شربها سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى).
والجواب: أن هذا من الكذب البين الظاهر على عمر رضي الله عنه؛ فإن علم ابن الخطاب بالحكم في مثل هذه القضية أَبْيَن من أن يحتاج إلى دليل، فإنه قد جَلَدَ في الخمر غير مرة هو وأبو بكر قبله، وكانوا يضربون فيها تارة أربعين وتارة ثمانين، وكان عمر أحيانًا يعزِّز فيها بحلق الرأس والنفي، وكانوا يضربون فيها تارة بالجريد، وتارة بالنعال والأيدي وأطراف الثياب.(2/330)
وأما قصة قدامة، فقد روى أبو إسحاق الجوزجاني وغيره عن ابن عباس، أن قدامة بن مظعون شرب الخمر، فقال له عمر: ما يحملك على ذلك؟ فقال:إن الله يقول: ((لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) [المائدة:93] وإني من المهاجرين الأوَّلين من أهل بدر وأحد. فقال عمر: أجيبوا الرجل، فسكتوا عنه، فقال لابن عباس: أجبه، فقال: إنما أنزلها الله عُذْرًا للماضين لمن شربها قبل أن تُحَرَّم، وأنزل: ((إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ)) [المائدة:90] حجة على الناس، ثم سأل عمر عن الحد فيها، فقال عليّ بن أبي طالب: إذا شرب هَذَى، وإذا هَذَى افترى، فاجلده ثمانين جلدة، فجلد عمر ثمانين) ففيه أن عليًا أشار بثمانين، وفيه نظر.
فإن الذي ثبت في الصحيح أن عليًا جَلَد أربعين عند عثمان بن عفان، لما جلد الوليد بن عقبة، وأنه أضاف الثمانين إلى عمر، وثبت في الصحيح أن عبد الرحمن بن عوف أشار بالثمانين، فلم يكن جلد الثمانين مما استفاد عمر من عليّ، وعليّ قد نُقل عنه أنه جلد في خلافته ثمانين، فدل عَلَى أنه كان يجلد تارة أربعين وتارة ثمانين، ورُوي عن عليّ أنه قال: ما كنت لأقيم حدًا على أحد فيموت، فأجد في نفسي، إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات لوديته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنّه لنا.
وهذا لم يقل به أحد من الصحابة، والفقهاء في الأربعين فما دونها، ولا ينبغي أن يحمل كلام عليّ على ما يخالف الإجماع.
(فصل)
قال الرافضي: (وأرسل إلى حامل يستدعيها فأسقطت خوفًا، فقال له الصحابة: نراك مؤدِّبا ولا شيء عليك. ثم سأل أمير المؤمنين فأوجب الدية على عاقلته).(2/331)
والجواب: أن هذه مسألة اجتهاد تنازع فيها العلماء، وكان عمر بن الخطاب يشاور الصحابة رضي الله عنهم في الحوادث، يشاور عثمان وعليًا وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم، حتى كان يشاور ابن عباس، وهذا كان من كمال فضله وعقله ودينه، ولهذا كان من أسدّ الناس رأيًا، وكان يرجع تارة إلى رأي هذا وتارة إلى رأي هذا. وقد أُوتي بامرأة قد أقرّت بالزنا، فاتفقوا على رجمها،وعثمان ساكت. فقال: مالك لا تتكلم؟ فقال: أراها تستهلُّ به استهلال من لا يعلم أن الزنا محرَّم، فرجع فأسقط الحدَّ عنها لما ذكره له عثمان، ومعنى كلامه: أنها تجهر به وتبوح به، كما يجهر الإنسان ويبوح بالشيء الذي لا يراه قبيحًا، مثل: الأكل والشرب والتزوج والتسرّي.
(فصل)
قال الرافضي: (وتنازعت امرأتان في طفل، ولم يعلم الحكم، وفزع فيه إلى أمير المؤمنين عليّ، فاستدعى أمير المؤمنين المرأتين ووعظهما فلم ترجعا، فقال: ائتوني بمنشار، فقالت المرأتان: ما تصنع به؟ فقال: أقُدُّه بينكما نصفين فتأخذ كل واحدة نصفًا. فرضيت واحدة، وقالت الأخرى: الله الله يا أبا الحسن، إن كان ولا بد من ذلك فقد سمحت لها به. فقال عليّ: الله أكبر! هو ابنك دونها، ولو كان ابنها لرقّت عليه، فاعترفت الأخرى أن الحق مع صاحبتها، ففرح عمر، ودعا لأمير المؤمنين).
والجواب: أن هذه القصة لم يذكر لها إسنادًا ولا يُعرف صحتها، ولا أعلم أحدًا من أهل العلم ذكرها، ولو كان لها حقيقة لذكروها، ولا تُعرف عن عُمر وعليّ، ولكن هي معروفة عن سليمان بن داود عليهما السلام.
(فصل)
قال الرافضي: (وأمر برجم امرأة ولدت لستة شهور، فقال له عليّ: إن خَاصَمَتْكَ بكتاب الله تعالى خَصَمَتْك، إن الله يقول: ((وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا)) [الأحقاف:15] ، وقال تعالى: ((وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنَ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)) [البقرة:233] .(2/332)
والجواب: أن عمر كان يستشير الصحابة، فتارة يشير عليه عثمان بما يراه صوابًا، وتارة يشير عليه عليّ، وتارة يشير عليه عبد الرحمن بن عوف، وتارة يشير عليه غيرهم، وبهذا مدح الله المؤمنين بقوله تعالى: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) [الشورى:38] والناس متنازعون في المرأة إذا ظهر بها حمل ولم يكن لها زوج ولا سيد ولا ادّعت شبهة: هل ترجم؟ فمذهب مالك وغيره من أهل المدينة والسلف: أنها تُرجم، وهو قول أحمد في إحدى الروايتين. ومذهب أبي حنيفة والشافعي: لا تُرجم، وهي الرواية الثانية عن أحمد. قالوا: لأنها قد تكون مستكرهة على الوطء، أو موطوءة بشبهة، أو حملت بغير وطء.
والقول الأول هو الثابت عن الخلفاء الراشدين، وقد ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب خطب الناس في آخر عمره، وقال: الرجم في كتاب الله حقّ على من زنى من الرجال والنساء، إذا قامت البيِّنة، أو كان الحَبَل، أو الاعتراف(1)، فجعل الحبل دليلاً على ثبوت الزنا كالشهود.
(فصل)
قال الرافضي: (وكان يفضِّل في الغنيمة والعطاء، وأوجب الله تعالى التسوية).
والجواب: أما الغنيمة لم يكن يقسّمها هو بنفسه، وإنما يقسّمها الجيش الغانمون بعد الخُمس يرسل إليه، كما يرسل إلى غيره، فيقسّمه بين أهله، ولم يقل عمر ولا غيره: إن الغنيمة يجب فيها التفضيل، ولكن تنازع العلماء: هل للإمام أن يفضِّل بعض الغانمين على بعض، إذا تبين له زيادة نفع؟
وفي الجملة فهذه مسألة اجتهاد، فإذا كان عمر يسوِّغ التفضيل للمصلحة، فهو الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه.
وأما التفضيل في العطاء فلا ريب أن عمر كان يفضّل فيه ويجعل الناس فيه على مراتب، ورُوي عنه أنه قال: لئن عشت إلى قابل لأجعلن الناس بابًا واحدًا، أي: نوعًا واحدًا.
وأما قول القائل: (إن الله أوجب التسوية فيه).
فهو لم يذكر على ذلك دليلاً، ولو ذكر دليلاً لتكلمنا عليه، كما نتكلم في مسائل الاجتهاد.
__________
(1) انظر: البخاري (8/168) ومسلم (3/1317).(2/333)
(فصل)
قال الرافضي: (وقال بالرأي والحدس والظن).
والجواب: أن القول بالرأي لم يختص به عمر رضي الله عنه، بل عليّ كان من أقولهم بالرأي، وكذلك أبو بكر وعثمان وزيد وابن مسعود وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقولون بالرأي، وكان رأي عليّ في دماء أهل القبلة ونحوه من الأمور العظائم، كما في سنن أبي داود وغيره عن الحسن، عن قيس بن عبّاد قال: قلت لعليّ: أخبرنا عن مسيرك هذا، أعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأي رأيته؟ قال: (ما عهد النبي صلى الله عليه وسلم إليّ شيئا ولكنه رأي رأيته)(1). وهذا أمر ثابت، ولهذا لم يرو عن عليّ رضي الله عنه في قتال الجمل وصفّين شيئًا. كما رواه في قتال الخوارج.
وما يتمارى في كمال سيرة عمر وعلمه وعدله وفضله من له أدنى مُسكة من عقل وإنصاف، ولا يطعن على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا أحد رجلين: إما رجل منافق زنديق ملحد عدو للإسلام، يتوصل بالطعن فيهما إلى الطعن في الرسول ودين الإسلام، وهذا حال المعلِّم الأول للرافضة، أول من ابتدع الرفض، وحال أئمة الباطنية، وإما جاهل مفرط في الجهل والهوى، وهو الغالب على عامة الشيعة، إذا كانوا مسلمين في الباطن.
وإذا قال الرافضي: عليٌّ كان معصومًا لا يقول برأيه، بل كل ما قاله فهو مثل نصّ الرسول، وهو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته من جهة الرسول، قيل له: نظيرك في البدعة الخوارج، كلُّهم يكفّرون عليًا، مع أنهم أعلم وأصدق وأَدْيَن من الرافضة، لا يستريب في هذا كل من عرف حال هؤلاء وهؤلاء.
(فصل)
قال الرافضي: (وجعل الأمر شورى بعده، وخالف فيه من تقدَّمه؛ فإنه لم يفوِّض الأمر فيه إلى اختيار الناس، ولا نصَّ على إمام بعده، بل تأسَّف على سالم مَوْلى أبي حذيفة، وقال: لو كان حيًا لم يختلجني فيه شك، وأمير المؤمنين عليٌّ حاضر.
__________
(1) انظر: سنن أبي داود (4/300).(2/334)
وجمع فيمن يختار بين الفاضل والمفضول، ومن حق الفاضل التقدّم على المفضول، ثم طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى، وأظهر أنه يكره أن يتقلَّد أمر المسلمين ميّتًا كما تقلَّده حيًا، ثم تقلَّده ميّتًا بأن جعل الإمامة في ستة، ثم ناقص فجعلها في أربعة، ثم في ثلاثة، ثم في واحد، فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار، بعد أن وصفه بالضعف والقصور، ثم قال: إن اجتمع أمير المؤمنين وعثمان فالقول ما قالاه، وإن صاروا ثلاثة فالقول قول الذي صار فيهم عبد الرحمن بن عوف، لعلمه أن عليًا وعثمان لا يجتمعان على أمر واحد، وأن عبد الرحمن لا يَعْدِل الأمر عن أخيه وهو عثمان وابن عمه، ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام، مع أنهم عندهم من العشرة المبشّرة بالجنة، وأمر بقتل من خالف الأربعة منهم، وأمر بقتل من خالف الثلاثة الذين بينهم عبد الرحمن، وكل ذلك مخالف للدين.
وقال لعليّ: وإن وليتها -وليسوا فاعلين- لتركبنَّهم على المحجّة البيضاء، وفيه إشارة إلى أنهم لا يولّونه إياها. قال لعثمان: إن وليتها لتركبنّ آل أبي معيط على رقاب الناس، وإن فعلت لتُقتلن، وفيه إشارة إلى الأمر بقتله).
والجواب: أن هذا الكلام كله لا يخرج عن قسمين: إما كذب في النقل، وإما قدح في الحق، فإن منه ما هو كذب معلوم الكذب أو غير معلوم الصدق، وما عُلم أنه صدق فليس فيه ما يوجب الطعن على عمر رضي الله عنه، بل ذلك معدود من فضائله ومحاسنه التي ختم الله بها عمله.(2/335)
ولكن هؤلاء القوم لفرط جهلهم وهواهم يقلبون الحقائق في المنقول والمعقول، فيأتون إلى الأمور التي وقعت وعُلم أنها وقعت، فيقولون: ما وقعت، وإلى أمور ما كانت ويُعلم أنها ما كانت، فيقولون: كانت، ويأتون إلى الأمور التي هي خير وصلاح، فيقولون: هي فساد، وإلى الأمور التي هي فساد، فيقولون: هي خير وصلاح؛ فليس لهم لا عقل ولا نقل، بل لهم نصيب من قوله: ((وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)) [الملك:10] .
وأما قول الرافضي: (وجعل الأمر شورى بعده وخالف فيه من تقدّمه).
فالجواب: أن الخلاف نوعان: خلاف تضاد، وخلاف تنّوع. فالأول: مثل أن يوجب هذا شيئًا ويحرّمه الآخر. والنوع الثاني: مثل القراءات التي يجوز كل منها، وإن كان هذا يختار قراءة، وهذا يختار قراءة، كما ثبت في الصحاح، بل استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن بطّة بالإسناد الثابت من حديث الزنجي بن خالد، عن إسماعيل بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: (لولا أنكما تختلفان عليَّ ما خالفتكما). وكان السلف متفقين على تقديمهما حتى شيعة عليّ رضي الله عنهما.
وروى ابن بطّة عن شيخه المعروف بأبي العباس بن مسروق، حدّثنا محمد بن حميد، حدثنا جرير، عن سفيان، عن عبد الله بن زياد بن حُدَير،قال: (قدم أبو إسحاق السبيعي الكوفة، قال لنا شمر بن عطية: قوموا إليه، فجلسنا إليه، فتحدّثوا، فقال أبو إسحاق: خرجت من الكوفة وليس أحد يشك في فضل أبي بكر وعمر وتقديمهما، وقدمت الآن وهم يقولون ويقولون، ولا والله ما أدري ما يقولون.
وقال: حدثنا النيسابوري، حدثنا أبو أسامة الحلبي، حدثنا أبي، حدثنا ضمرة، عن سعيد بن حسن، قال: سمعت ليث بن أبي سليم يقول: أدركت الشيعة الأولى وما يفضّلون عَلَى أبي بكر وعمر أحدًا.(2/336)
وقال أحمد بن حنبل: (حدَّثنا ابن عيينة، عن خالد بن سلمة، عن الشعبي، عن مسروق قال: حبُّ أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنّة. ومسروق من أجلّ تابعي الكوفة، وكذلك قال طاوس: (حبُّ أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة). وقد رُوي ذلك عن ابن مسعود.
وكيف لا تقدّم الشيعة الأولى أبا بكر وعمر، وقد تواتر عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر)(1) وقد روي هذا عنه من طرق كثيرة، قيل: إنها تبلغ ثمانين طريقًا.
وقد رواه البخاري عنه في صحيحه من حديث الهمدانيين الذين هم أخص الناس بعليّ حتى كان يقول:
ولو كنت بَّوابا على باب جنَّةٍ ... لقلتُ لهمدان: ادخلي بسلام
وقد رواه البخاري من حديث سفيان الثوري، وهو همداني، عن منذر وهو همداني، عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: يا أبت! من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا بُنَيَّ أو ما تعرف؟ فقلت: لا. قال: أبو بكر. فقلت: ثم من؟ قال: عمر) وهذا يقوله لابنه بينه وبينه، ليس هو مما يجوز أن يقوله تقيَّة ويرويه عن أبيه خاصة، وقاله على المنبر. وعنه أنه كان يقول: (لا أُوتى بأحد يفضِّلنى على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري).
وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقتدوا باللّذين من بعدي: أبي بكر وعمر)(2).
وعمر رضي الله عنه إمام، وعليه أن يستخلف الأصلح للمسلمين، فاجتهد في ذلك ورأى أن هؤلاء الستة أحقّ من غيرهم، وهو كما رأى؛ فإنه لم يقل أحد: إن غيرهم أحقّ منهم، وَجَعَل التعيين إليهم خوفًا أن يعيِّن واحدًا منهم ويكون غيره أصلح لهم، فإنه ظهر له رجحان الستة دون رجحان التعيين، وقال: الأمر في التعيين إلى الستة يعيِّنون واحدًا منهم.
__________
(1) انظر: البخاري (5/7)، وسنن أبي داود (4/288) وغير ذلك.
(2) انظر: سنن الترمذي (5/271-272)، وابن ماجة (1/37)، والمسند (5/382).(2/337)
وهذا أحسن اجتهاد إمام عالم عادل ناصح لا هوى له رضي الله عنه.
وأيضًا: فقد قال تعالى: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم)) [الشورى:38] ، وقال: ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)) [آل عمران:159] .فكان ما فعله من الشورى مصلحة، وكان ما فعله أبو بكر رضي الله عنه من تعيين عمر هو المصلحة أيضًا؛ فإن أبا بكر تبيَّن له من كمال عمر وفضله واستحقاقه للأمر ما لم يحتج معه إلى الشورى، وظهر أثر هذا الرأي المبارك الميمون على المسلمين. فإن كل عاقل منصف يعلم أن عثمان أو عليًا أو طلحة أو الزبير أو سعدًا أو عبد الرحمن بن عوف لا يقوم مقام عمر، فكان تعيين عمر في الاستحقاق كتعيين أبي بكر في مبايعتهم له.
ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أفرس الناس ثلاثة: بنت صاحب مدين حيث قالت: ((يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)) [القصص:26] ، وامرأة فرعون حيث قالت: ((عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا)) [القصص:9] وأبو بكر حيث استخلف عمر).
وأما عمر رضي الله عنه فرأى الأمر في الستة متقاربًا، فإنهم وإن كان لبعضهم من الفضيلة ما ليس لبعض، فلذلك المفضول مزية أخرى ليست للآخر، ورأى أنه إذا عين واحدًا فقد يحصل بولايته نوع من الخلل، فيكون منسوبا إليه، فترك التعيين خوفًا من الله تعالى، وعلم أنه ليس واحد أحق بهذا الأمر منهم فجمع بين المصلحتين؛ بين تعيينهم إذ لا أحقّ منهم، وترك تعيين واحد منهم لما تخوفه من التقصير.
ولا ريب أن الستة الذين تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، الذين عيّنهم عمر، لا يوجد أفضل منهم، وإن كان في كل منهم ما كرهه، فإن غيرهم يكون فيه من المكروه أعظم، ولهذا لم يتولّ بعد عثمان خير منه ولا أحسن سيرة، ولا تولّى بعد عليّ خير منه، ولا تولّى ملك من ملوك المسلمين أحسن سيرة من معاوية رضي الله عنه، كما ذكر الناس سيرته وفضائله.(2/338)
وإذا كان الواحد من هؤلاء له ذنوب، فغيرهم أعظم ذنوبًا، وأقل حسنات، فهذا من الأمور التي ينبغي أن تُعرف، فإن الجاهل بمنزلة الذباب الذي لا يقع إلا على العقير ولا يقع على الصحيح، والعاقل يزن الأمور جميعًا: هذا وهذا.
وهؤلاء الرافضة من أجهل الناس، يعيبون على من يذمونه ما يُعاب أعظم منه على من يمدحونه، فإذا سُلك معهم ميزان العدل تبين أن الذي ذموه أَوْلى بالتفضيل ممن مدحوه.
وأما ما يُروى من ذكره لسالم مولى أبي حذيفة؛ فقد عُلم أن عمر وغيره من الصحابة كانوا يعلمون أن الإمامة في قريش، كما استفاضت بذلك السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان) وفي لفظ: (ما بقي منهم اثنان)(1).
وأما قول الرافضي: (وجمع بين الفاضل والمفضول، ومن حق الفاضل التقدّم على المفضول).
فيقال له: أولاً: هؤلاء كانوا متقاربين في الفضيلة، ولم يكن تقدّم بعضهم على بعض ظاهرًا، كتقدم أبي بكر وعمر على الباقين، ولهذا كان في الشورى تارة يُؤخذ برأي عثمان، وتارة يؤخذ برأي علي، وتارة يؤخذ برأي عبد الرحمن، وكل منهم له فضائل لم يشركه فيها الآخر.
ثم يقال له: ثانيًا: وإذا كان فيهم فاضل ومفضول، فلم قلت: إن عليًا هو الفاضل، وعثمان وغيره هم المفضولون؟ وهذا القول خلاف ما أجمع عليه المهاجرون والأنصار، كما قال غير واحد من الأئمة، منهم: أيوب السختياني وغيره: (من قدّم عليًا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار).
وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: (كنّا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان). وفي لفظ: (ثم ندع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم)(2).
__________
(1) انظر: البخاري (4/179، 9/62)، ومسلم (2/944، 3/1468).
(2) انظر: البخاري (5/4، 14، 15).(2/339)
فهذا إخبار عمّا كان عليه الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان. وقد رُوي أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره.
وحينئذٍ فيكون هذا التفضيل ثابتًا بالنص، وإلا فيكون ثابتًا بما ظهر بين المهاجرين والأنصار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير، وبما ظهر لمّا تُوفي عمر؛ فإنهم كلهم بايعوا عثمان بن عفان من غير رغبة ولا رهبة، ولم ينكر هذه الولاية منكر منهم.
قال الإمام أحمد: (ولم يجتمعوا على بيعة أحد ما اجتمعوا على بيعة عثمان) وسئل عن خلافة النبوة؟ فقال: (كل بيعة كانت بالمدينة) وهو كما قال؛فإنهم كانوا في آخر ولاية عمر أعزّ ما كانوا وأظهر ما كانوا قبل ذلك.
وكلهم بايع عثمان بلا رغبة بذلها لهم ولا رهبة؛ فإنه لم يعط أحدًا على ولايته لا مالاً ولا ولاية، وعبد الرحمن الذي بايعه لم يولّه ولم يعطه مالاً، وكان عبد الرحمن من أبعد الناس عن الأغراض، مع أن عبد الرحمن شاور جميع الناس، ولم يكن لبني أمية شوكة، ولا كان في الشورى منهم أحد غير عثمان.
مع أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا كما وصفهم الله عز وجل: ((يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَومَةَ لاَئم)) [المائدة:54] قد بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقولوا الحق حيثما كانوا، لا يخافون في الله لومة لائم، ولم ينكر أحد منهم ولاية عثمان، بل كان في الذين بايعوه عمّار بن ياسر، وصهيب، وأبو ذر، وخبّاب، والمقداد بن الأسود، وابن مسعود. وقال ابن مسعود: ولّينا أعلانا ذا فوق ولم نألُ.
وفيهم العباس بن عبد المطلب، وفيهم من النقباء مثل: عبادة بن الصامت وأمثاله، وفيهم مثل: أبي أيوب الأنصاري وأمثاله.(2/340)
فلولا علم القوم بأن عثمان أحقهم بالولاية لما ولّوه، وهذا أمر كلما تدبّره الخبير ازداد به خبرة وعلمًا، ولا يشك فيه إلا من لم يتدبره من أهل العلم بالاستدلال، أو من هو جاهل بالواقع أو بطريق النظر والاستدلال.
وأما قول الرافضي: (إنه طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى، وأظهر أنه يكره أن يتقلّد أمر المسلمين ميّتًا كما تقلّده حيًا، ثم تقلّده بأن جعل الإمامة في ستة).
فالجواب: أن عمر لم يطعن فيهم طعن من يجعل غيرهم أحق بالإمامة منهم، بل لم يكن عنده أحق بالإمامة منهم، كما نصّ على ذلك، لكن بيَّن عذره المانع له من تعيين واحد منهم، وكره أن يتقلّد ولاية معيّن، ولم يكره أن يتقلد تعيين الستة، لأنه قد علم أنه لا أحدًا أحق بالأمر منهم، فالذي علمه وعلم أن الله يثيبه عليه ولا تبعة عليه فيه إن تقلّده هو اختيار الستة، والذي خاف أن يكون عليه فيه تبعة، وهو تعيين واحد منهم، تركه.
وهذا من كمال عقله ودينه رضي الله عنه، ليس كراهته لتقلّده ميّتًا كما تقلّده حيًّا لطعنه في تقلّده حيًا؛ فإنه إنما تقلّد الأمر حيًّا باختياره، وبأن تقلده كان خيرًا له وللأمة، وإن كان خائفًا من تبعة الحساب.
وأما قوله: (ثم ناقص فجعلها في أربعة، ثم في ثلاثة، ثم في واحد، فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار، بعد أن وصفه بالضعف والقصور).
فالجواب: أولاً: أنه ينبغي لمن احتجّ بالمنقول أن يثبته أولاً، وإذا قال القائل: هذا غير معلوم الصحة، لم يكن عليه حجة، والنقل الثابت في صحيح البخاري وغيره ليس فيه شيء من هذا، بل هو يدل على نقيض هذا، وأن الستة هم الذين جعلوا الأمر في ثلاثة، ثم الثلاثة جعلوا الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف واحد منهم، ليس لعمر في ذلك أمر.(2/341)
وفي الحديث الثابت عن عمرو بن ميمون، أن عمر بن الخطاب لما طُعن قال: (إن الناس يقولون: استخلف، وإن الأمر إلى هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ: عليّ وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن مالك، ويشهدهم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء، فإن أصابت الخلافة سعدًا،وإلا فليستعن به من وُلِّيَ، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة).ثم قال: (أوصي الخليفة من بعدي بتقوى الله تعالى، وأوصيه بالمهاجرين الأوّلين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم: أن يعرف لهم حقّهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار الذين تبوّأوا الدار والإيمان من قبلهم: أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرًا، فإنهم ردء الإسلام، وغيظ العدو، وجباة الأموال، لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضا منهم، وأوصيه بالأعراب خيرًا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام: أن يؤخذ منهم من حواشي أموالهم فترد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله ورسوله أن يوفّى لهم بعهدهم، ويقاتل من وراءهم، ولا يُكلَّفوا إلا طاقتهم)(1).
وأما قوله: ثم قال: إن اجتمع علي و عثمان فالقول ما قالاه، وإن صاروا ثلاثة، فالقول قول الذين صار فيهم عبد الرحمن، لعلمه أن عليًا وعثمان لايجتمعان على أمر، وأن عبد الرحمن لا يعدل بالأمر عن أخيه عثمان وابن عمه).
__________
(1) انظر: البخاري (5/17).(2/342)
فيقال له: من الذي قال: إن عمر قال ذلك؟ وإن كان قد قال ذلك فلا يجوز أن يُظَنَّ به أنه كان غرضه ولاية عثمان محاباة له، ومنع عليّ معاداة له، فإنه لو كان قصده هذا لولّى عثمان ابتداء، ولم ينتطح فيها عنزان. كيف والذين عاشوا بعده قدّموا عثمان بدون تعيين عمر له؟ فلو كان عمر عيّنه، لكانوا أعظم متابعة له وطاعة، سواء كانوا كما يقوله المؤمنون: أهل دين وخير وعدل، أو كانوا كما يقوله المنافقون الطاعنون فيهم: إن مقصودهم الظلم والشر. لا سيما وعمر كان في حال الحياة لا يخاف أحدًا، والرافضة تسمّيه: فرعون هذه الأمة؛ فإذا كان في حياته لم يخف من تقديم أبي بكر، والأمر في أوله، والنفوس لم تتوطن على طاعة أحد معيّن بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا صار لعمر أمر، فكيف يخاف من تقديم عثمان عند موته والناس كلهم مطيعوه، وقد تمرّنوا على طاعته؟
فعُلم أنه لو كان له غرض في تقديم عثمان لقدّمه، ولم يحتج إلى هذه الدورة البعيدة، ثم أي غرض يكون لعمر رضي الله عنه في عثمان دون عليّ؟ وليس بينه وبين عثمان من أسباب الصلة أكثر مما بينه وبين عليّ، لا من جهة القبيلة، ولا من غير جهة القبيلة.
وكذلك قول القائل: إنه عَلِم أن عليًا وعثمان لا يجتمعان عَلَى أمر، كذب عَلَى عمر رضي الله عنه، ولم يكن بين عثمان وعليّ نزاع في حياة عمر أصلاً، بل كان أحدهما أقرب إلى صاحبه من سائر الأربعة إليهما، كلاهما من بني عبد مناف، وما زال بنو عبد مناف يدًا واحدة.(2/343)
وقوله: (إن عمر علم أن عبد الرحمن لا يعدل الأمر عن أخيه وابن عمه) فهذا كذب بيِّن على عمر وعلى أنسابهم؛ فإن عبد الرحمن ليس أخًا لعثمان ولا ابن عمه ولا من قبيلته أصلاً، بل هذا من بني زهرة وهذا من بني أمية. وبنو زهرة إلى بني هاشم أكثر ميلاً منهم إلى بني أمية، فإن بني زهرة أخوال النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا خالي، فليرني امرؤ خاله)(1).
ولم يكن أيضًا بين عثمان وعبد الرحمن مؤاخاة ولا مخالطة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري، ولا بين أنصاري وأنصاري، وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وحديثه مشهور ثابت في الصحاح وغيرها، يعرفه أهل العلم بذلك، ولم يؤاخ قط بين عثمان وعبد الرحمن.
وأما قوله: (ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام).
فيقال: أولاً: من قال: إن هذا صحيح؟ وأين النقل الثابت بهذا؟ وإنما المعروف أنه أمر الأنصار أن لا يفارقوهم حتى يبايعوا واحدًا منهم.
ثم يقال: ثانيًا: هذا من الكذب على عمر، ولم يَنْقُل هذا أحدٌ من أهل العلم بإسناد يعرف، ولا أمر عمر قط بقتل الستة الذين يعلم أنهم خيار الأمة، وكيف يأمر بقتلهم، وإذا قُتلوا كان الأمر بعد قتلهم أشد فسادًا؟ ثم لو أمر بقتلهم لقال: ولُّوا بعد قتلهم فلانًا وفلانًا، فكيف يأمر بقتل المستحقِّين للأمر، ولا يولِّي بعدهم أحدًا؟
فهذا من اختلاق مفترٍ لا يدري ما يكتب لا شرعًا ولا عادة.
ثم من العجب أن الرافضة يزعمون أن الذين أمر عمر بقتلهم -بتقدير صحة هذا النقل- يستحقِّون القتل إلا عليًا، فإن عمر أمر بقتلهم، فلماذا ينكرون عليه ذلك، ثم يقولون: إنه كان يحابيهم في الولاية ويأمر بقتلهم؟ فهذا جمع بين الضدين.
وإن قلتم: كان مقصوده قتل عليّ.
__________
(1) انظر: سنن الترمذي ج5 ص 313 وقال: حسن غريب.(2/344)
قيل: لو بايعوا إلا عليًا لم يكن ذلك يضر الولاية، فإنما يقتل من يخاف، وقد تخلَّف سعد بن عبادة عن بيعة أبي بكر، ولم يضربوه ولم يحبسوه، فضلاً عن القتل.
وكذلك من يقول: إن عليًا وبني هاشم تخلّفوا عن بيعة أبي بكر ستة أشهر، يقول: إنهم لم يضربوا أحدًا منهم، ولا أكرهوه على البيعة، فإذا لم يكره أحد عَلَى مبايعة أبي بكر -التي هي عنده متعيّنة- فكيف يأمر بقتل الناس على مبايعة عثمان، وهي عنده غير متعيّنة؟ وأبو بكر وعمر مدة خلافتهما ما زالا مكرِّمين غاية الإكرام لعليّ وسائر بني هاشم يقدِّمونهم على سائر الناس، ويقول أبو بكر: أيها الناس! ارقبوا محمدًا في أهل بيته، وأبو بكر يذهب وحده إلى بيت عليّ، وعنده بنو هاشم، فيذكر لهم فضلهم، ويذكرون له فضله، ويعترفون له باستحقاقه الخلافة، ويعتذرون من التأخر، ويبايعونه وهو عندهم وحده.
والآثار المتواترة بما كان بين القوم من المحبة والائتلاف توجب كذب من نقل ما يخالف ذلك، ولو أراد أبو بكر وعمر في ولايتهما إيذاء عليّ بطريق من الطرق، لكانا أقدر عَلَى ذلك من صرف الأمر عنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
فهؤلاء المفترون يزعمون أنهم ظلموه في حال كان فيها أقدر على دفع الظلم عن نفسه، ومنعهما من ظلمه، وكانا أعجز عن ظلمه لو أراد ذلك، فهلاَّ ظلماه بعد قوّتهما ومطاوعة الناس لهما إن كانا مريدَيْن لظلمه؟
وكذلك قوله: (أمر بقتل من خالف الأربعة وأمر بقتل من خالف الثلاثة، منهم: عبد الرحمن).
فيقال: هذا من الكذب المفتَرَى، ولو قدِّر أنه فعل ذلك لم يكن عمر قد خالف الدين، بل يكون قد أمر بقتل من يقصد الفتنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرِّق جماعتكم، فاضربوا عنقه بالسيف كائنًا من كان)(1).
والمعروف عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقتل من أراد أن ينفرد عن المسلمين ببيعة بلا مشاورة لأجل هذا الحديث.
__________
(1) تقدم تخريجه قبل قليل.(2/345)
وأما قتل الواحد المتخلف عن البيعة إذا لم تقم فتنة، فلم يأمر عمر بقتل مثل هذا، ولا يجوز قتل مثل هذا.
وكذلك ما ذكره من الإشارة إلى قتل عثمان، ومن الإشارة إلى ترك ولاية عليّ، كذب بيِّن على عمر؛ فإن قوله: (لئن فعلت ليقتلنك الناس) إخبار عما يفعله الناس، ليس فيه أمر لهم بذلك.
وكذلك قوله: (لا يولّونه إياها).
إخبار عمّا سيقع، ليس فيه نهي لهم عن الولاية، مع أن هذا اللفظ بهذا السياق ليس بثابت عن عمر؛ بل هو كذب عليه. والله تعالى أعلم.(2/346)
(فصل)
قال الرافضي: (وأما عثمان فإنه ولَّى أمور المسلمين من لا يصلح للولاية، حتى ظهر من بعضهم الفسوق، ومن بعضهم الخيانة، وقسَّم الولايات بين أقاربه، وعُوتب على ذلك مرارًا فلم يرجع، واستعمل الوليد بن عقبة، حتى ظهر منه شرب الخمر، وصلّى بالناس وهو سكران، واستعمل سعيد بن العاص على الكوفة، وظهر منه ما أدّى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها، وولَّى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر حتى تظلَّم منه أهلها، وكاتبه أن يستمر على ولايته سرًا، خلاف ما كتب إليه جهرًا، وأمر بقتل محمد بن أبي بكر، وولَّى معاوية الشام، فأحدث من الفتن ما أحدث. وولَّى عبد الله بن عامر البصرة ففعل من المناكير ما فعل، وولَّى مروان أمره، وألقى إليه مقاليد أموره، ودفع إليه خاتمه، فحدث من ذلك قتل عثمان، وحدث من الفتنة بين الأمة ما حدث، وكان يُؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال، حتى إنه دفع إلى أربعة نفر من قريش -زوَّجهم بناته- أربعمائة ألف دينار، ودفع إلى مروان ألف ألف دينار، وكان ابن مسعود يطعن عليه ويكفّره، ولما حَكَم ضربه حتى مات، وضرب عمّارًا حتى صار به فتق، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: عمار جلدة بين عيني تقتله الفئة الباغية، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة، وكان عمَّار يطعن عليه، وطرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة، ومعه ابنه مروان، فلم يزل هو -وابنه- طريدًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما وَلِيَ عثمان آواه وردّه إلى المدينة، وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره، مع أن الله تعالى قال: ((لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ)) [المجادلة:22] نفى أبا ذر إلى الرَّبذَة، وضربه ضربًا وجيعًا، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حقه: ما أقلّت الغبراء ولا(2/347)
أظلّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، وقال: إن الله أوحى إليَّ أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم، فقيل: من هم يا رسول الله؟ قال: سيدهم عليّ وسلمان والمقداد وأبو ذر. وضيّع حدود الله فلم يقتل عبيد الله بن عمر حين، قتل الهرمزان مولى أمير المؤمنين بعد إسلامه، وكان أمير المؤمنين يطلب عبيد الله لإقامة القصاص عليه، فلحق بمعاوية، وأراد أن يعطِّل حد الشرب في الوليد بن عقبة حتى حدّه أمير المؤمنين، وقال: لا يبطل حد الله وأنا حاضر، وزاد الأذان الثاني يوم الجمعة، وهو بدعة، وصار سنة إلى الآن. وخالفه المسلمون كلهم حتى قُتل، وعابوا أفعاله، وقالوا له: غبتَ عن بدر، وهربت يوم أحد، ولم تشهد بيعة الرضوان، والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى).
والجواب: أن يقال: نُوَّاب عليّ خانوه وعصوه أكثر مما خان عمّال عثمان له وعصوه، وقد صنَّف الناس كتبًا فيمن ولاَّه عليٌّ فأخذ المال وخانه، وفيمن تركه وذهب إلى معاوية، وقد ولَّى عليٌّ رضي الله عنه زياد بن أبي سفيان أبا عبيد الله بن زياد قاتل الحسين، وولَّى الأشتر النخعي، وولَّى محمد بن أبي بكر وأمثال هؤلاء.
ولا يشك عاقل أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كان خيرًا من هؤلاء كلهم، ومن العجب أن الشيعة ينكرون عَلَى عثمان ما يدَّعون أن عليًا كان أبلغ فيه من عثمان، فيقولون: إن عثمان ولَّى أقاربه من بني أمية، ومعلوم أن عليًا ولَّى أقاربه من قِبَل أبيه وأمه، كعبد الله وعبيد الله ابني العبّاس، فولَّى عبيد الله بن عباس على اليمن، وولَّى على مكة والطائف قثم بن العباس، وأما المدينة، فقيل: إنه ولَّى عليها سهل بن حُنَيْف، وقيل: ثمامة بن العباس، وأما البصرة فولَّى عليها عبد الله بن عباس، وولَّى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي ربَّاه في حجره.
ثم إن الإمامية تدَّعي أن عليًا نص على أولاده في الخلافة، أو عَلَى ولده، وولد عَلَى ولده الآخر، وهَلُمَّ جرا.(2/348)
ومن المعلوم أنه إن كان تولية الأقربين منكرًا، فتولية الخلافة العظمى أعظم من إمارة بعض الأعمال، وتولية الأولاد أقرب إلى الإنكار من تولية بني العم. ولهذا كان الوكيل والولي الذي لا يشتري لنفسه لا يشتري لابنه أيضًا في أحد قولَيْ العلماء، والذي دفع إليه المال ليعطيه لمن يشاء لا يأخذه لنفسه ولا يعطيه لولده في أحد قوليهم.
وكذلك تنازعوا في الخلافة: هل للخليفة أن يوصي بها لولده؟ على قولين، والشهادة لابنه مردودة عند أكثر العلماء، ولا ترد الشهادة لبني عمه، وهكذا غير ذلك من الأحكام.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (أنت ومالك لأبيك)(1). وقال: (ليس لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهبه لولده)(2).
فإن قالوا: إن عليًا رضي الله عنه فعل ذلك بالنص.
قيل: أولاً: نحن نعتقد أن عليًا خليفة راشد، وكذلك عثمان، لكن قبل أن نعلم حجة كل منهما فيما فعل، فلا ريب أن تطرّق الظنون والتهم إلى ما فعله عليّ أعظم من تطرّق التهم والظنون إلى ما فعله عثمان.
وإذا قال القائل: لعليّ حجة فيما فعله.
قيل له: وحجة عثمان فيما فعله أعظم، وإذا ادُّعِيَ لعليّ العصمة ونحوها مما يقطع عنه ألسنة الطاعنين، كان ما يدَّعي لعثمان من الاجتهاد الذي يقطع ألسنة الطاعنين أقرب إلى المعقول والمنقول.
فإن الرافضي يجيء إلى أشخاص ظهر بصريح المعقول وصحيح المنقول بأن بعضهم أكمل سيرة من بعض، فيجعل الفاضل مذمومًا مستحقًا للقدح، ويجعل المفضول معصومًا مستحقًا للمدح، كما فعلت النصارى: يجيئون إلى الأنبياء صلوات الله عليهم، وقد فضَّل الله بعضهم على بعض، فيجعلون المفضول إلهًا والفاضل منقوصًا دون الحواريين الذين صحبوا المسيح، فيكون ذلك قلبًا للحقائق، وأعجب من ذلك أنهم يجعلون الحواريين الذين ليسوا أنبياء معصومين عن الخطأ، ويقدحون في بعض الأنبياء كسليمان وغيره.
__________
(1) رواه ابن ماجة (2/769).
(2) رواه أبو داود (3/394) والترمذي (3/299).(2/349)
ومعلوم أن إبراهيم ومحمدًا أفضل من نفس المسيح صلوات الله وسلامه عليهم بالدلائل الكثيرة، بل وكذلك موسى، فكيف يُجعل الذين صحبوا المسيح أفضل من إبراهيم ومحمد؟
وهذا من الجهل والغلو الذي نهاهم الله عنه، قال تعالى: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ)) [النساء:171] .
وكذلك الرافضة موصوفون بالغلو عند الأمة، فإن فيهم من ادّعى الإلهية في عليّ، وهؤلاء شرٌّ من النصارى، وفيهم من ادّعى النبوة فيه، ومن أثبت نبيًا بعد محمد فهو شبيه بأتباع مسيلمة الكذاب وأمثاله من المتنبئين، إلا أن عليًا رضي الله عنه بريء من هذه الدعوة، بخلاف من ادّعى النبوة لنفسه كمسيلمة وأمثاله.
وهؤلاء الإمامية يدَّعون ثبوت إمامته بالنص، وأنه كان معصومًا هو وكثير من ذريته، وأن القوم ظلموه وغصبوه.
ودعوى العصمة تضاهي المشاركة في النبوة؛ فإن المعصوم يجب اتّباعه في كل ما يقول، لا يجوز أن يخالف في شيء، وهذه خاصة الأنبياء، ولهذا أمرنا أن نؤمن بما أنزل إليهم، فقال تعالى: ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) [البقرة:136] ، فأمرنا أن نقول: آمنا بما أوتي النبيون.
فالإيمان بما جاء به النبيون مما أمرنا أن نقوله ونؤمن به. وهذا مما اتفق عليه المسلمون: أنه يجب الإيمان بكل نبي، ومن كفر بنبي واحد فهو كافر، ومن سبّه وجب قتله باتفاق العلماء.(2/350)
وليس كذلك من سوى الأنبياء، سواء سمُّوا أولياء أو أئمة أو حكماء أو علماء أو غير ذلك، فمن جعل بعد الرسول معصومًا يجب الإيمان بكل ما يقوله فقد أعطاه معنى النبوة، وإن لم يعطه لفظها.
ويقال لهذا: ما الفرق بين هذا وبين أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا مأمورين باتّباع شريعة التوراة؟
ومعلوم أن كل هذه الأقوال مخالفة لدين الإسلام: للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها، فإن الله تعالى يقول: ((وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأَوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) [النساء:59] ، فلم يأمرنا بالرد عند التنازع إلا إلى الله والرسول، فمن أثبت شخصًا معصومًا غير الرسول، أوجب ردّ ما تنازعوا فيه إليه، لأنه لا يقول عنده إلا الحق كالرسول، وهذا خلاف القرآن.
وأيضًا: فإن المعصوم تجب طاعته مطلقًا بلا قيد، ومخالفه يستحق الوعيد، والقرآن إنما أثبت هذا في حق الرسول خاصة، قال تعالى: ((وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُول فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)) [النساء:69] . وقال: ((وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)) [الجن:23] فدل القرآن في غير موضع على أن من أطاع الرسول كان من أهل السعادة، ولم يشترط في ذلك طاعة معصوم آخر.
ومن عصى الرسول كان من أهل الوعيد، وإن قدِّر أنه أطاع من ظنّ أنه معصوم، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فرّق الله به بين أهل الجنة وأهل النار، وبين الأبرار والفجّار، وبين الحق والباطل، وبين الغيّ والرشاد، والهدى والضلال، وجعله القسيم الذي قسم الله به عباده إلى شقيّ وسعيد، فمن اتّبعه فهو السعيد، ومن خالفه فهو الشقيّ، وليست هذه المرتبة لغيره.(2/351)
ولهذا اتفق أهل العلم -أهل الكتاب والسنة- على أن كل شخص سوى الرسول فإنه يؤخذ من قوله ويُترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل أمر، فإنه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وهو الذي يُسأل الناس عنه يوم القيامة، كما قال تعالى: ((فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)) [الأعراف:6] .
وهو الذي يمتحن به الناس في قبورهم، فيُقال لأحدهم: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ويُقال: ما تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيثبِّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول: هو عبد الله ورسوله، جاءنا بالبيِّنات والهدى فآمنّا به واتّبعناه، ولو ذكر بدل الرسول من ذكره من الصحابة والأئمة والتابعين والعلماء لم ينفعه ذلك، ولا يُمتحن في قبره بشخص غير الرسول.
والمقصود هنا أن ما يُعتذر به عن عليّ فيما أُنكر عليه يُعتذر بأقوى منه عن عثمان، فإن عليًّا قاتل على الولاية، وقُتل بسبب ذلك خلقٌ كثير عظيم، ولم يحصل في ولايته لا قتال للكفار، ولا فتح لبلادهم، ولا كان المسلمون في زيادة خير، وقد ولَّى من أقاربه من ولاّه، فولاية الأقارب مشتركة، ونوَّاب عثمان كانوا أطوع من نوَّاب عليّ وأبعد عن الشر.
وأما الأموال التي تأوَّل فيها عثمان، فكما تأوّل عليّ في الدماء، وأمر الدماء أخطر وأعظم.
ويقال: ثانيًا: هذا النصّ الذي تدّعونه، أنتم فيه مختلفون اختلافا يُوجب العلم الضروري بأنه ليس عندكم ما يُعتمد عليه فيه، بل كل قوم منكم يفترون ما شاءوا.
وأيضًا: فجماهير المسلمين يقولون: إنّا نعلم علمًا يقينًا -بل ضروريًا- كذب هذا النصّ، بطرق كثيرة مبسوطة في مواضعها.(2/352)
ويقال: ثالثًا: إذا كان كذلك ظهرت حجة عثمان؛ فإن عثمان يقول: إن بني أمية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعملهم في حياته، واستعملهم بعده من لا يُتهم بقرابة: فيهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعمر رضي الله عنه، ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمّال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من بني عبد شمس، لأنهم كانوا كثيرين، وكان فيهم شرف وسؤدد، فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم في عزّة الإسلام عَلَى أفضل الأرض (مكّة) عتّاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، واستعمل عَلَى نجران أبا سفيان بن حرب بن أمية، واستعمل أيضًا خالد بن سعيد بن العاص على صدقات بني مذحج وعلى صنعاء اليمن، فلم يزل عليها حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعمل عثمان بن سعيد بن العاص على تيماء وخيبر وقرى عُرَيْنة، واستعمل أبان بن سعيد بن العاص على بعض السرايا، ثم استعمله على البحرين فلم يزل عليها بعد العلاء بن الحضرمي حتى تُوفي النبي صلى الله عليه وسلم، واستعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط حتى أنزل الله فيه: ((إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ)) [الحجرات:6] فيقول عثمان: أنا لم استعمل إلا من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم منهم ومن جنسهم ومن قبيلتهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده، فقد ولَّى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان بن حرب في فتوح الشام، وأقرَّه عمر، ثم ولَّى عمر بعد أخاه معاوية.
وهذا النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في استعمال هؤلاء ثابت مشهور عنه، بل متواتر عند أهل العلم. ومنه متواتر عند علماء الحديث، ومنه ما يعرفه العلماء منهم، ولا ينكره أحد منهم.(2/353)
(فصل)
والقاعدة الكلية في هذا أن لا نعتقد أن أحدًا معصوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، بل الخلفاء وغير الخلفاء يجوز عليهم الخطأ، والذنوب التي تقع منهم قد يتوبون منها، وقد تُكَفَّر عنهم بحسناتهم الكثيرة، وقد يبتلون أيضًا بمصائب يكفّر الله عنهم بها، وقد يكفّر عنهم بغير ذلك.
فكل ما يُنقل عن عثمان غايته أن يكون ذنبًا أو خطًأ، وعثمان رضي الله عنه قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة، منها: سابقته وإيمانه وجهاده وغير ذلك من طاعاته.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له، بل بشَّره بالجنة على بلوى تصيبه.
ومنها: أنه تاب من عامة ما أنكروه عليه، وأنه ابتُلى ببلاء عظيم، فكفّر الله به خطاياه، وصبر حتى قُتل شهيدًا مظلومًا، وهذا من أعظم ما يكفِّر الله به الخطايا.
وكذلك عليّ رضي الله عنه: ما تنكره الخوارج وغيرهم عليه غايته أن يكون ذنبًا أو خطًأ، وكان قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة، منها: سابقته وإيمانه وجهاده، وغير ذلك من طاعته، وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة، ومنها: أنه تاب من أمور كثيرة أُنكرت عليه وندم عليها، ومنها: أنه قتل مظلومًا شهيدًا.
فهذه القاعدة تغنينا أن نجعل كل ما فعل واحد منهم هو الواجب أو المستحب من غير حاجة بنا إلى ذلك.
وحينئذ فقول الرافضي: إن عثمان ولَّى من لا يصلح للولاية، إما أن يكون هذا باطلاً، ولم يولّ إلا من يصلح. وإما أن يكون ولَّى من لا يصلح في نفس الأمر، لكنه كان مجتهدًا في ذلك، فظن أنه كان يصلح وأخطأ ظنه، وهذا لا يقدح فيه.(2/354)
وهذا الوليد بن عقبة الذي أُنكر عليه ولايته قد اشتهر في التفسير والحديث والسِّيَر أن النبي صلى الله عليه وسلم ولاَّه على صدقات ناسٍ من العرب، فلما قرب منهم خرجوا إليه، فظن أنهم يحاربونه، فأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يذكر محاربتهم له، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم جيشًا، فأنزل الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)) [الحجرات:6] .
فإذا كان حال هذا خَفِيَ على النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف لا يخفى على عثمان؟!
وإذا قيل: إن عثمان ولاّه بعد ذلك.
فيقال: باب التوبة مفتوح، وقد كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح ارتد عن الإسلام، ثم جاء تائبًا، وقَبِل النبي صلى الله عليه وسلم إسلامه وتوبته بعد أن كان أهدر دمه.
وعليّ رضي الله عنه تبين له من عمَّاله ما لم يكن يظنه فيهم، فهذا لا يقدح في عثمان ولا غيره، وغاية ما يُقال: إن عثمان ولَّى من يعلم أن غيره أصلح منه، وهذا من موارد الاجتهاد.
أو يقال: إن محبته لأقاربه ميَّلته إليهم، حتى صار يظنهم أحق من غيرهم، أو أن ما فعله كان ذنبًا، وقد تقدّم أن ذنبه لا يُعاقب عليه في الآخرة.
وقوله: حتى ظهر من بعضهم الفسق، ومن بعضهم الخيانة.
فيقال: ظهور ذلك بعد الولاية لا يدل على كونه كان ثابتًا حين الولاية، ولا على أن المولِّي علم ذلك. وعثمان رضي الله عنه لما علم أن الوليد بن عقبة شرب الخمر طلبه وأقام عليه الحد، وكان يعزل من يراه مستحقًا للعزل، ويقيم الحدّ على من يراه مستحقًا لإقامة الحد عليه.
وأما قوله: وقسَّم المال بين أقاربه.
فهذا غايته أن يكون ذنبًا لا يُعاقب عليه في الآخرة، فكيف إذا كان من موارد الاجتهاد؟
وبالجملة فعامّة من تولى الأمر بعد عمر كان يخصّ بعض أقاربه: إما بولاية، وإما بمالٍ، وعليّ ولّى أقاربه أيضًا.(2/355)
وأما قوله: استعمل الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر،وصلّى بالناس وهو سكران.
فيقال: لا جرم طَلَبَه وأقام عليه الحد بمشهد من عليّ بن أبي طالب، وقال لعليّ: قم فاضربه، فأمر عليّ الحسن بضربه، فامتنع. وقال لعبد الله بن جعفر: قم فاضربه، فضربه أربعين، ثم قال: أمسك، ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سنة، وهذا أحبّ إليّ) رواه مسلم وغيره(1).
فإذا أقام الحد برأي عليّ وأمره، فقد فعل الواجب.
وكذلك قوله: إنه استعمل سعيد بن العاص على الكوفة، وظهر منه ما أدَّى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها.
فيقال: مجرد إخراج أهل الكوفة لا يدل على ذنب يوجب ذاك، فإن القوم كانوا يقومون عل كل والٍ، قد أقاموا على سعد بن أبي وقاص، وهو الذي فتح البلاد، وكسر جنود كسرى، وهو أحد أهل الشورى، ولم يتول عليهم نائب مثله، وقد شكوا غيره مثل عمَّار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص، والمغيرة بن شعبة، وغيرهم، ودعا عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: اللهم إنهم قد لبَّسوا عليَّ فلبِّس عليهم.
وإذا قدِّر أنه أذنب ذنبًا، فمجرد ذلك لا يوجب أن يكون عثمان راضيًا بذنبه، ونوّاب عليّ قد أذنبوا ذنوبًا كثيرة، بل كان غير واحدٍ من نوّاب النبي صلى الله عليه وسلم يذنبون ذنوبًا كثيرة، وإنما يكون الإمام مذنبًا إذا ترك ما يجب عليه من إقامة حد، أو استيفاء حق، أو اعتداء ونحو ذلك.
وإذا قُدِّر أن هناك ذنبًا، فقد عُلم الكلام فيه.
وأما قوله: وولَّى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر حتى تظلَّم منه أهلها، وكاتبه أن يستمر على ولايته سرًا، خلاف ما كتب إليه جهرًا.
__________
(1) انظر: مسلم (3/1331-1332).(2/356)
والجواب: أن هذا كذب عَلَى عثمان، وقد حلف عثمان أنه لم يكتب شيئًا من ذلك، وهو الصادق البارّ بلا يمين، وغاية ما قيل: إن مروان كتب بغير علمه، وأنهم طلبوا أن يسلِّم إليهم مروان ليقتلوه، فامتنع؛ فإن كان قَتْلُ مروان لا يجوز، فقد فعل الواجب، وإن كان يجوز ولا يجب، فقد فعل الجائز، وإن كان قتله واجبًا، فذاك من موارد الاجتهاد؛ فإنه لم يثبت لمروان ذنب يُوجب قتله شرعًا، فإن مجرد التزوير لا يوجب القتل، وبتقدير أن يكون تَرَكَ الواجب فقد قدَّمنا الجواب العام.
وأما قوله: أمر بقتل محمد بن أبي بكر.
فهذا من الكذب المعلوم عَلَى عثمان، وكل ذي علم بحال عثمان وإنصاف له، يعلم أنه لم يكن ممن يأمر بقتل محمد بن أبي بكر ولا أمثاله، ولا عرف منه قط أنه قتل أحدًا من هذا الضرب، وقد سعوا في قتله، ودخل عليه محمد فيمن دخل، وهو لا يأمر بقتالهم دفعًا عن نفسه، فكيف يبتدئ بقتل معصوم الدم؟
وإن ثبت أن عثمان أمر بقتل محمد بن أبي بكر، لم يُطعن على عثمان، بل عثمان إن كان أمر بقتل محمد بن أبي بكر أَوْلى بالطاعة ممن طلب قتل مروان، لأن عثمان إمام هُدى، وخليفة راشد، يجب عليه سياسة رعيته، وقتل من لا يُدفع شرّه إلا بالقتل، وأما الذين طلبوا قتل مروان فقوم خوارج مفسدون في الأرض، ليس لهم قتل أحدٍ، ولا إقامة حد، وغايتهم أن يكونوا ظُلموا في بعض الأمور، وليس لكل مظلوم أن يقتل بيده كل من ظلمه، بل ولا يقيم الحد.
وليس مروان أَوْلى بالفتنة والشر من محمد بن أبي بكر، ولا هو أشهر بالعلم والدين منه، بل أخرج أهل الصحاح عدة أحاديث عن مروان، وله قول مع أهل الفتيا، واختُلف في صحبته.
وأما قوله: (ولّى معاوية الشام، فأحدث من الفتن ما أحدثه).(2/357)
فالجواب: أن معاوية إنما ولاّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان ولاّه عمر مكان أخيه، واستمر في ولاية عثمان، وزاده عثمان في الولاية، وكانت سيرة معاوية مع رعيته من خيار سير الولاة، وكانت رعيته يحبونه.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خيار أئمتكم الذين تحبّونهم ويحبونكم، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم)(1).
وإنما ظهر الأحداث من معاوية في الفتنة لما قُتل عثمان، ولما قُتل عثمان كانت الفتنة شاملة لأكثر الناس، لم يختص بها معاوية، بل كان معاوية أطلب للسلامة من كثيرٍ منهم، وأبعد عن الشر من كثير منهم.
ومعاوية كان خيرًا من الأشتر النخعي، ومن محمد بن أبي بكر، ومن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، ومن أبي الأعور السلمي، ومن هاشم بن هاشم بن هاشم المرقال، ومن الأشعث بن قيس الكندي، ومن بُسر بن أبي أرطأة، وغير هؤلاء من الذين كانوا معه ومع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما.
وأما قوله: (وولَّى عبد الله بن عامر البصرة، ففعل من المناكير ما فعل).
فالجواب: أن عبد الله بن عامر له من الحسنات والمحبة في قلوب الناس ما لا ينكر، وإذا فعل منكرًا فذنبه عليه. فمن قال: إن عثمان رضي بالمنكر الذي فعله؟
وأما قوله: (وولىّ مروان أمره، وألقى إليه مقاليد أموره، ودفع إليه خاتمه، وحدث من ذلك قتل عثمان، وحدث من الفتنة بين الأمة ما حدث).
__________
(1) انظر: صحيح مسلم (3/1481، 1482)، والمسند (6/24)، والترمذي (3/360)، والدرامى (2/324).(2/358)
فالجواب: أن قتل عثمان والفتنة لم يكن سببها مروان وحده، بل اجتمعت أمور متعددة، من جملتها أمور تُنكر من مروان، وعثمان رضي الله عنه كان قد كَبُر، وكانوا يفعلون أشياء لا يُعلمونه بها، فلم يكن آمرًا لهم بالأمور التي أنكرتموها عليه، بل كان يأمر بإبعادهم وعزلهم، فتارة يفعل ذلك، وتارة لا يفعل ذلك، وقد تقدم الجواب العام.
ولما قدم المفسدون الذين أرادوا قتل عثمان، وشكوا أمورًا، أزالها كلها عثمان، حتى إنه أجابهم إلى عزل من يريدون عزله، وإلى أن مفاتيح بيت المال تعطى لمن يرتضونه، وإنه لا يعطي أحدًا من المال إلا بمشورة الصحابة ورضاهم، ولم يَبْقَ لهم طلب، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: (مصصتموه كما يُمص الثوب، ثم عمدتم إليه فقتلتموه).
وقد قيل: إنه زُوِّر عليه كتابٌ بقتلهم، وأنهم أخذوه في الطريق، فأنكر عثمان الكتاب، وهو الصادق، وأنهم اتهموا به مروان، وطلبوا تسليمه إليهم، فلم يسلّمه.
وهذا بتقدير أن يكون صحيحًا، لا يبيح شيئًا مما فعلوه بعثمان، وغايته أن يكون مروان قد أذنب في إرادته قتلهم، ولكن لم يتم غرضه، ومن سعى في قتل إنسان ولم يقتله، لم يجب قتله، فما كان يجب قتل مروان بمثل هذا، نعم ينبغي الاحتراز ممن يفعل مثل هذا، وتأخيره وتأديبه، ونحو ذلك، أما الدم فأمر عظيم.
وأما قوله: (وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال، حتى إنه دفع إلى أربعة نفر من قريش، زوَّجهم بناته، أربعمائة ألف دينار، ودفع إلى مروان ألف ألف دينار).
فالجواب: أولاً: أن يُقال: أين النقل الثابت بهذا؟ نعم كان يعطي أقاربه عطاءً كثيرًا، ويعطي غير أقاربه أيضًا، وكان محسنًا إلى جميع المسلمين، وأما هذا القدر الكثير فيحتاج إلى نقل ثابت.(2/359)
ثم يقال: ثانيًا: هذا من الكذب البيّن، فإنه لا عثمان ولا غيره من الخلفاء الراشدين أعطوا أحدًا ما يقارب هذا المبلغ، ومن المعلوم أن معاوية كان يعطي من يتألّفه أكثر من عثمان، ومع هذا فغاية ما أعطى الحسن بن عليّ مائة ألف أو ثلاثمائة ألف درهم، وذكروا أنه لم يعط أحدًا قدر هذا قط.
نعم كان عثمان يعطي بعض أقاربه ما يعطيهم من العطاء الذي أُنكر عليه، وقد تقدم تأويله في ذلك، والجواب العام يأتي على ذلك.
وبالجملة، فلا بد لكل ذوي أمر من أقوام يأتمنهم على نفسه، ويدفعون عنه من يريد ضرره، فإن لم يكن الناس مع إمامهم كما كانوا مع أبي بكر وعمر، احتاج الأمر إلى بطانة يطمئن إليهم، وهم لا بد لهم من كفاية، فهذا أحد التأويلين.
والتأويل الثاني: أنه كان يعمل في المال، وقد قال الله تعالى: ((وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا)) [التوبة:60] والعامل على الصدقة الغني له أن يأخذ بعمالته باتفاق المسلمين.
وأما قوله: (وكان ابن مسعود يطعن عليه ويكفّره).
فالجواب: أن هذا من الكذب البيّن على ابن مسعود، فإن علماء أهل النقل يعلمون أن ابن مسعود ما كان يكفّر عثمان، بل لما وَلِيَ عثمان وذهب ابن مسعود إلى الكوفة قال: (ولَّينَا أعلانا ذا فوق ولم نأل).
وكان عثمان في السنين الأُوَل من ولايته لا ينقمون منه شيئًا، ولما كانت السنين الآخرة نقموا منه أشياء، بعضها هم معذورون فيه، وكثير منها كان عثمان هو المعذور فيه.
من جملة ذلك أمر ابن مسعود؛ فإن ابن مسعود بقي في نفسه من أمر المصحف، لما فوَّض كتابته إلى زيد دونه، وأمر الصحابة أن يغسلوا مصاحفهم، وجمهور الصحابة كانوا على ابن مسعود مع عثمان.
وعثمان أفضل من كل من تكلَّم فيه، هو أفضل من ابن مسعود وعمَّار وأبي ذر ومن غيرهم من وجوه كثيرة، كما ثبت ذلك بالدلائل الكثيرة.(2/360)
فليس جعل كلام المفضول قادحًا في الفاضل بأَوْلى من العكس، بل إن أمكن الكلام بينهما بعلم وعدل، وإلا تكلم بما يُعلم من فضلهما ودينهما، وكان ما شجر بينهما وتنازعا فيه أمره إلى الله.
ولهذا أوصوا بالإمساك عما شجر بينهم، لأنا لا نُسأل عن ذلك.
كما قال عمر بن عبد العزيز: (تلك دماء طهَّر الله منها يدي، فلا أحب أن أخضّب بها لساني) وقال آخر: ((تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [البقرة:134] .
لكن إذا ظهر مبتدع يقدح فيهم بالباطل، فلا بد من الذبّ عنهم، وذكر ما يبطل حجته بعلمٍ وعدل.
وكذلك ما نقل من تكلّم عمّار في عثمان، وقول الحسن فيه، ونقل عنه أنه قال: (لقد كَفَر عثمان كفرة صلعاء) وأن الحسن بن عليّ أنكر ذلك عليه، وكذلك عليّ، وقال له: (يا عمار، أتكفر بربٍّ آمن به عثمان؟).
وأما قوله: (إنه لما حكم ضرب ابن مسعود حتى مات).
فهذا كذب باتفاق أهل العلم، فإنه لما وَلِيَ أقرّ ابن مسعود على ما كان عليه من الكوفة، إلى أن جرى من ابن مسعود ما جرى، وما مات ابن مسعود من ضرب عثمان أصلاً.
وفي الجملة.. فإذا قيل: إن عثمان ضرب ابن مسعود أو عمَّارًا، فهذا لا يقدح في أحد منهم؛ فإنا نشهد أن الثلاثة في الجنة، وأنهم من أكابر أولياء الله المتقين، وقد قدَّمنا أن ولي الله قد يصدر منه ما يستحق عليه العقوبة الشرعية، فكيف بالتعزير؟
وأما قوله: (وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (عمّار جلدة بين عَيْنَيْ، تقتله الفئة الباغية، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة).
فيقال: الذي في الصحيح: (تقتل عمّار الفئة الباغية)(1)2) وطائفة من العلماء ضعفوا هذا الحديث، منهم: الحسين الكرابيسي وغيره، ونقل ذلك عن أحمد أيضًا.
__________
(1) انظر: البخاري (1/93)، (4/21) ومسلم (4/2235-2236).(2/361)
وأما قوله: (لا أنالهم الله شفاعتي) فكذب مزيد في الحديث، لم يروه أحد من أهل العلم بإسناد معروف.
وكذلك قوله: (عمّار جلدة بين عيني) لا يعرف له إسناد.
ولو قيل مثل ذلك، فقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها)(1) وفي الصحيح عنه أنه قال: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)(2) وثبت عنه في الصحيح أنه كان يحب أسامة، ثم يقول: (اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه)(3)، ومع هذا لما قتل ذلك الرجل أنكر عليه إنكارًا شديدًا، وقال: (يا أسامة! أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله) قال: فما زال يكررها عليّ حتى تمنّيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذٍ)(4).
كذلك عثمان فيمن أقام عليه حدًّا أو تعزيرًا هو أولى بالعلم والعدل منهم، وإذا وجب الذبّ عن عليّ لمن يريد أن يتكلم فيه بمثل ذلك، فالذبّ عن عثمان لمن يريد أن يتكلم فيه بمثل ذلك أَوْلى.
وقوله: (وطرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة، ومعه ابنه مروان، فلم يزل هو وابنه طريدين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما وَليَ عثمان آواه وردّه إلى المدينة، وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره؛ مع أن الله قال: ((لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) [المجادلة:22] .
__________
(1) البخاري (3/190)، (5/22-23)، ومسلم (4/1902-1904).
(2) البخاري (5/23) ومواضع أُخر ومسلم (3/1315 -1316).
(3) انظر: البخاري (5/21).
(4) انظر: صحيح مسلم (1/96-97) وسنن أبي داود (3/61).(2/362)
والجواب: أن الحكم بن أبي العاص كان من مسلمة الفتح، وكانوا ألفيْ رجل،ومروان ابنه كان صغيرًا إذ ذاك، فإنه من أقران ابن الزبير والمسور بن مخرمة، عمره حين الفتح سن التمييز: إما سبع سنين، أو أكثر بقليل، أو أقل بقليل، فلم يكن لمروان ذنب يُطرد عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان قد طرده، فإنما طرده من مكة لا من المدينة، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة، وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه، وقالوا: هو ذهب باختياره.
وأما استكتابه مروان، فمروان لم يكن له في ذلك ذنب، لأنه كان صغيرًا لم يجر عليه القلم، ومات النبي صلى الله عليه وسلم ومروان لم يبلغ الحُلُم باتفاق أهل العلم، بل غايته أن يكون عشر سنين أو قريب منها، وكان مسلمًا باطنًا وظاهرًا، يقرأ القرآن ويتفقه في الدين، ولم يكن قبل الفتنة معروفًا بشيء يُعاب به، فلا ذنب لعثمان في استكتابه.
وأما الفتنة فأصابت من هو أفضل من مروان، ولم يكن مروان ممن يحادّ الله ورسوله، وأما أبوه الحكم فهو من الطلقاء، والطلقاء حسن إسلام أكثرهم، وبعضهم فيه نظر، ومجرد ذنب يعزَّر عليه لا يوجب أن يكون منافقًا في الباطن.
وأما قوله: (إنه نفى أبا ذر إلىالرَّبذَة وضربه ضربًا وجيعًا، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حقه: ما أقلَّت الغبراء، ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر. وقال: إن الله أوحى إليّ أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم، فقيل له: من هم يا رسول الله؟ قال: عليّ سيدهم، وسلمان، والمقداد، وأبو ذر).(2/363)
فالجواب: أن أبا ذر سكن الربذة ومات بها لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس، فإن أبا ذر رضي الله عنه كان رجلاً صالحًا زاهدًا، وكان من مذهبه أن الزهد واجب، وأن ما أمسكه الإنسان فاضلاً عن حاجته فهو كنز يُكوى به في النار، ولما توفي عبد الرحمن بن عوف وخلف مالاً، جعل أبو ذر ذلك من الكنز الذي يُعاقب عليه، وعثمان يناظره في ذلك، حتى دخل كعب ووافق عثمان، فضربه أبو ذر، وكان قد وقع بينه وبين معاوية بالشام بهذا السبب.
وأما الخلفاء الراشدون وجماهير الصحابة والتابعين فعلى خلاف هذا القول.
فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة)(1). فنفى الوجوب فيما دون المائتين، ولم يشترط كون صاحبها محتاجًا إليها أم لا.
وقال جمهور الصحابة: الكنز هو المال الذي لم تؤدّ حقوقه.
وكان أبو ذر يريد أن يوجب على الناس ما لم يوجب الله عليهم، ويذمهم على ما لم يذمهم الله عليه، مع أنه مجتهد في ذلك، مثاب على طاعته رضي الله عنه، كسائر المجتهدين من أمثاله.
فكان اعتزال أبي در لهذا السبب، ولم يكن لعثمان مع أبي ذر غرض من الأغراض.
وأما كون أبي ذر من أصدق الناس، فذاك لا يوجب أنه أفضل من غيره، بل كان أبو ذر مؤمنًا ضعيفًا، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له: (يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمّرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم)(2).
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)(3).
وأهل الشورى مؤمنون أقوياء، وأبو ذر وأمثاله مؤمنون ضعفاء، فالمؤمنون الصالحون لخلافة النبوة، كعثمان وعليّ وعبد الرحمن بن عوف، أفضل من أبي ذر وأمثاله.
__________
(1) انظر: البخاري (2/107)، ومسلم (2/675).
(2) انظر: مسلم (3/1457).
(3) انظر: مسلم (4/2052).(2/364)
والحديث المذكور بهذا اللفظ الذي ذكره الرافضي ضعيف، بل موضوع، وليس له إسناد يقوم به.
وأما قوله: (إنه ضيّع حدود الله، فلم يقتل عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان مولى أمير المؤمنين بعد إسلامه، وكان أمير المؤمنين يطلب عبيد الله لإقامة القصاص عليه، فلحق بمعاوية، وأراد أن يعطّل حدّ الشرب في الوليد بن عقبة، حتى حدّه أمير المؤمنين، وقال: لا تبطل حدود الله وأنا حاضر).
فالجواب: أما قوله: (إن الهرمزان كان مولى عليّ).
فمن الكذب الواضح، فإن الهرمزان كان من الفرس الذين استنابهم كسرى على قتال المسلمين، فأسره المسلمون وقَدِموا به على عمر، فأظهر الإسلام، فمنّ عليه عمر وأعتقه، ولما قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان الذي قتله أبو لؤلؤة الكافر المجوسي مولى المغيرة بن شعبة، وكان بينه وبين الهرمزان مجانسة، وذُكر لعبيد الله بن عمر أنه رؤي عند الهرمزان حين قتل عمر، فكان ممن اتهم بالمعاونة على قتل عمر.
وقد قال عبد الله بن عباس لما قُتل عمر، وقال له عمر: قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة. فقال: إن شئت أن نقتلهم. فقال: (كذبت، أما بعد إذ تكلموا بلسانكم، وصلُّوا إلى قبلتكم)(1).
فهذا ابن عباس وهو أفقه من عُبَيْد الله بن عمر وأَدْيَن وأفْضَل بكثير يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقًا الذين كانوا بالمدينة، لما اتهموهم بالفساد اعتقد جواز مثل هذا، فكيف لا يعتقد عبيد الله جواز قتل الهرمزان؟ فلما استشار عثمان الناس في قتله، فأشار عليه طائفة من الصحابة أن لا تقتله، فإن أباه قتل بالأمس ويُقتل هو اليوم، فيكون في هذا فساد في الإسلام، وكأنهم وقعت لهم شبهة في عصمة الهرمزان، وهل كان من الصائلين الذين كانوا يستحقون الدفع؟ أو من المشاركين في قتل عمر الذين يستحقون القتل؟
__________
(1) انظر: البخاري (5/15-18).(2/365)
وإذا كان قتل عمر وعثمان وعليّ ونحوهم من باب المحاربة، فالمحاربة يشترك فيها الردء والمباشر عند الجمهور، فعلى هذا من أعان عَلَى قتل عمر -ولو بكلام- وجب قتله، وكان الهرمزان ممن ذُكر عنه أنه أعان عَلَى قتل عمر بن الخطاب.
وإذا كان الأمر كذلك كان قتله واجبًا، ولكن كان قتله إلى الأئمة، فافتات عبيد الله بقتله، وللإمام أن يعفو عمن افتات عليه.
وأما قوله: إن عليًا كان يريد قتل عبيد الله بن عمر، فهذا لو صح كان قدحًا في عليّ، والرافضة لا عقول لهم، يمدحون بما هو إلى الذم أقرب.
ثم يقال: يا ليت شعرى متى عزم عليٌّ عَلَى قتل عبيد الله؟ ومتى تمكن عليّ من قتل عبيد الله؟ أو متى تفرّغ له حتى ينظر في أمره؟
وعبيد الله كان معه ألوف مؤلفة من المسلمين مع معاوية، وفيهم خير من عبيد الله بكثير، وعليّ لم يمكنه عزل معاوية، وهو عزل مجرد، أفكان يمكنه قتل عبيد الله؟!
ومن العجب أن دم الهرمزان المتهم بالنفاق، والمحاربة لله ورسوله، والسعي في الأرض بالفساد، تُقام فيه القيامة، ودم عثمان يُجعل لا حرمة له، وهو إمام المسلمين المشهود له بالجنة، الذي هو –وإخوانه- أفضل الخلق بعد النبيين. ومن المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكفِّ الناس عن الدماء، وأصبر الناس على من نال من عرضه، وعلى من سعى في دمه، فحاصروه وسعوا في قتله، وقد عُرف إرادتهم لقتله، وقد جاءه المسلمون من كل ناحية ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم، وهو يأمر الناس بالكف عن القتال، ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم، ورُوي أنه قال لمماليكه: من كفَّ يده فهو حرّ، وقيل له: تذهب إلى مكة؟ فقال: لا أكون ممن ألحد في الحرم، فقيل له: تذهب إلى الشام؟ فقال: لا أفارق دار هجرتي، فقيل له: فقاتلهم، فقال: لا أكون أول من خلف محمدًا في أمته بالسيف.(2/366)
فكان صبر عثمان حتى قُتل من أعظم فضائله عند المسلمين، فمن قدح في عثمان بأنه كان يستحل إراقة دماء المسلمين بتعطيل الحدود، كان قد طرَّق من القدح في عليّ ما هو أعظم من هذا، وسوَّغ لمن أبغض عليًا وعاداه وقاتله أن يقول: إن عليًا عطَّل الحدود الواجبة على قتلة عثمان، وتعطيل تلك الحدود إن كانت واجبة أعظم فسادًا من تعطيل حدٍّ وجب بقتل الهرمزان.
وإذا كان من الواجب الدفع عن عليّ بأنه كان معذورًا باجتهاد أو عجز، فلأن يُدفع عن عثمان بأنه كان معذورًا بطريق الأَوْلى.
وأما قوله: (أراد عثمان تعطيل حد الشرب في الوليد بن عقبة، حتى حدّه أمير المؤمنين).
فهذا كذب عليهما، بل عثمان هو الذي أمر عليًّا بإقامة الحد عليه،كما ثبت ذلك في الصحيح(1)، وعليّ خفف عنه وجَلَده أربعين، ولو جلده ثمانين لم ينكر عليه عثمان.
وقول الرافضي: (إن عليًّا قال: لا يبطُل حدُّ الله وأنا حاضر).
فهو كذب، وإن كان صدقًا فهو من أعظم المدح لعثمان؛ فإن عثمان قَبِلَ قول عليّ ولم يمنعه من إقامة الحد، مع قدرة عثمان على منعه لو أراد، فإن عثمان كان إذا أراد شيئًا فعله، ولم يقدر عليّ عَلَى منعه، وإلا فلو كان عليّ قادرًا على منعه مما فعله من الأمور التي أُنكرت عليه ولم يمنعه مما هو عنده مُنْكَرٌ مع قدرته، كان هذا قدحًا في عليّ. فإذا كان عثمان أطاع عليًّا فيما أمره به من إقامة الحدّ دل ذلك على دِين عثمان وعدله.
وعثمان ولى الوليد بن عقبة هذا على الكوفة، وعندهم أن هذا لم يكن يجوز، فإن كان حرامًا وعليٌّ قادر على منعه، وجب عَلَى عليٍّ منعه، فإذا لم يمنعه دلّ على جوازه عند عليّ، أو عَلَى عجز عليّ، وإذا عجز عن منعه عن الإمارة، فكيف لا يعجز عن ضربه الحد؟ فعُلم أن عليًا كان عاجزًا عن حدّ الوليد، لولا عثمان أراد ذلك، فإذا أراده عثمان دلّ على دينه.
والرافضة تتكلم بالكلام المتناقض الذي ينقض بعضه بعضًا.
__________
(1) انظر: مسلم (3/1331) وغيره.(2/367)
وأما قوله: (إنه زاد الأذان الثاني يوم الجمعة، وهو بدعة، فصار سنة إلى الآن).
فالجواب: أن عليًّا رضي الله عنه كان ممن يوافق على ذلك في حياة عثمان وبعد مقتله، ولهذا لما صار خليفة لم يأمر بإزالة الأذان، كما أمر بما أنكره من ولاية طائفة من عمّال عثمان، بل أمر بعزل معاوية وغيره، ومعلوم أن إبطال هذه البدعة كان أهون عليه من عزل أولئك ومقاتلتهم التي عجز عنها، فكان على إزالة هذه البدعة، من الكوفة ونحوها من أعماله، أقدر منه على إزالة أولئك، ولو أزال ذلك لعلمه الناس ونقلوه.
فإن قيل: كان الناس لا يوافقونه على إزالتها.
قيل: فهذا دليل على أن الناس وافقوا عثمان على استحبابها واستحسانها، حتى الذين قاتلوا مع عليّ، كعمّار وسهل بن حنيف وغيرهما من السابقين الأَوَّلين، ثم من العجب أن الرافضة تنكر شيئًا فعله عثمان بمشهد من الأنصار والمهاجرين، ولم ينكروه عليه، واتبعه المسلمون كلهم عليه في أذان الجمعة، وهم قد زادوا في الأذان شعارًا لم يكن يعرف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك في الأذان، وهو قولهم: (حيّ على خير العمل).
ونحن نعلم بالاضطرار أن الأذان الذي كان يؤذنه بلال وابن أم مكتوم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأبو محذورة بمكة، وسعد القرظ في قباء، لم يكن فيه هذا الشعار الرافضي، ولو كان فيه لنقله المسلمون ولم يهملوه، كما نقلوا ما هو أيسر منه، فلما لم يكن في الذين نقلوا الأذان مَنْ ذَكَر هذه الزيادة، عُلم أنها بدعة باطلة.
وأما قوله: (وخالفه المسلمون كلهم حتى قُتل، وعابوا أفعاله، وقالوا له: غبت عن بدر، وهربت يوم أحد، ولم تشهد بيعة الرضوان، والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى).
فالجواب: أما قوله: (وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل).(2/368)
فإن أراد أنهم خالفوه خلافًا يبيح قتله، أو أنهم كلهم أمَروا بقتله، ورضوا بقتله، وأعانوا على قتله، فهذا مما يَعْلم كل أحد أنه من أظهر الكذب، فإنه لم يقتله إلا طائفة قليلة باغية ظالمة.
قال ابن الزبير: (لُعنت قتلة عثمان، خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية، فقتلهم الله كل قتلة، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب) يعني: هربوا ليلاً، وأكثر المسلمين كانوا غائبين، وكان أهل المدينة الحاضرين لم يكونوا يعلمون أنهم يريدون قتله حتى قتلوه.
وإن أراد أن كل المسلمين خالفوه في كل ما فعله، أو في كل ما أُنكر عليه، فهذا أيضًا كذب، فما من شيء أُنكر عليه إلا وقد وافقه عليه كثير من المسلمين، بل من علمائهم الذين لا يُتهمون بمداهنة، والذين وافقوا عثمان على ما أُنكر عليه أكثر وأفضل عند المسلمين من الذين وافقوا عليًّا على ما أُنكر عليه: إما في كل الأمور، وإما في غالبها.
وأما الساعون في قتله فكلهم مخطئون، بل ظالمون باغون معتدون، وإن قدِّر أن فيهم من قد يغفر الله له، فهذا لا يمنع كون عثمان قُتل مظلومًا.
والذي قال له: غبتَ عن بدر وبيعة الرضوان، وهربتَ يوم أحد، قليل جدًا من المسلمين، ولم يعيّن منهم إلا اثنان أو ثلاثة أو نحو ذلك، وقد أجابهم عثمان وابن عمر وغيرهما عن هذا السؤال، وقالوا: يوم بدر غاب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ليخلفه عن ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره.
ويوم الحديبية بايع النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان بيده، ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير له من يده لنفسه، وكانت البيعة بسببه، فإنه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى أهل مكة بلغه أنهم قاتلوه، فبايع أصحابه على أن لا يفروا، أو على الموت، فكان عثمان شريكًا في البيعة، مختصًّا بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم.(2/369)
وأما التولّي يوم أحد، فقد قال الله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)) [آل عمران:155] فقد عفا الله عن جميع المتَولِّين يوم أحد، فدخل في العفو من هو دون عثمان، فكيف لا يدخل هو فيه مع فضله وكثرة حسناته؟!
(فصل)
قال الرافضي: (وقد ذكر الشهرستاني وهو من أشد المتعصبين على الإمامية، أن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم، فأول تنازع وقع في مرضه ما رواه البخاري بإسناده إلى ابن عباس قال: (لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي توفي فيه فقال: ائتوني بدواة وقرطاس، أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده، فقال عمر: إن الرجل ليهجر، حسبنا كتاب الله، وكثر اللغط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا عني، لا ينبغي عندي التنازع).
الجواب: أن يُقال: ما ينقله الشهرستاني وأمثاله من المصنّفين في الملل والنحل، عامته مما ينقله بعضهم عن بعض، وكثير من ذلك لم يُحرر فيه أقوال المنقول عنهم، ولم يذكر الإسناد في عامة ما ينقله، بل هو يَنقل من كتب من صنّف المقالات قبله، مثل: أبي عيسى الورَّاق وهو من المصنّفين للرافضة، المتهمين في كثير مما ينقلونه، ومثل: أبي يحيى وغيرهما من الشيعة، ويَنقل أيضًا من كتب بعض الزيدية والمعتزلة الطاعنين في كثير من الصحابة.
وصاحب الهوى يقبل ما وافق هواه بلا حجة توجب صدقه، ويرد ما خالف هواه بلا حجة توجب رده.
وليس في الطوائف أكثر تكذيبًا بالصدق وتصديقًا بالكذب من الرافضة، فإن رءوس مذهبهم وأئمته الذين ابتدعوه وأسسوه كانوا منافقين زنادقة، كما ذكر ذلك عن غير واحد من أهل العلم، وهذا ظاهر لمن تأمله.(2/370)
وإذا كان كذلك فنقول: ما علم بالكتاب والسنة والنقل المتواتر، من محاسن الصحابة وفضائلهم، لا يجوز أن يُدفع بنقولٍ بعضها منقطع، وبعضها محرَّف، وبعضها لا يَقْدَح فيما عُلم، فإن اليقين لا يزول بالشك، ونحن قد تيقَّنا ما دلّ عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف قبلنا، وما يصدّق ذلك من المنقولات المتواترة من أدلة العقل، من أن الصحابة رضي الله عنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، فلا يقدح في هذا أمور مشكوك فيها، فكيف إذا علم بطلانها؟!
وأما قوله: (إن الشهرستاني من أشد المتعصبين على الإمامية).
فليس كذلك، بل يميل كثيرًا إلى أشياء من أمورهم، بل يذكر أحيانًا أشياء من كلام الإسماعيلية الباطنية منهم ويوجهه، ولهذا اتهمه بعض الناس بأنه من الإسماعيلية، وإن لم يكن الأمر كذلك، وقد ذكر من اتهمه شواهد من كلامه وسيرته، وقد يُقال: هو مع الشيعة بوجه، ومع أصحاب الأشعري بوجه.
وأما قول القائل: (إن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم).
فهذا من أظهر الكذب الباطل، فإنه إن كان قصده أن هذا أول ذنب أُذنب، فهذا باطل ظاهر البطلان.
وإن كان قصده أن هذا أول اختلاف وقع بعد تلك الشبهة، فهو باطل من وجوه:
أحدها: أن شبهة إبليس لم توقع خلافًا بين الملائكة، ولا سمعها الآدميون منه حتى يوقع بينهم خلافًا.
والثاني: أن الخلاف ما زال بين بني آدم من زمن نوح، واختلاف الناس قبل المسلمين أعظم بكثير من اختلاف المسلمين.(2/371)
الوجه الثالث: أن الذي وقع في مرضه كان أهون الأشياء وأَبْيَنِها، وقد ثبت في الصحيح أنه قال لعائشة في مرضه: (ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف عليه الناس من بعدي) ثم قال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) فلما كان يوم الخميس همَّ أن يكتب كتابًا، فقال عمر: (ماله أَهَجَر؟)(1) فشكّ عمر هل هذا القول من هَجْر الحمّى، أو هو مما يقول على عادته، فخاف عمر أن يكون من هَجْر الحمى، فكان هذا مما خفي على عمر، كما خفي عليه موت النبي صلى الله عليه وسلم، بل أنكره. ثم قال بعضهم: هاتوا كتابًا، وقال بعضهم: لا تأتوا بكتاب. فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الكتاب في هذا الوقت لم يبق فيه فائدة، لأنهم يشكون: هل أملاه مع تغيّره بالمرض؟ أم مع سلامته من ذلك فلا يرفع النزاع؛ فتركه.
ولم تكن كتابة الكتاب مما أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلّغه في ذلك الوقت، إذ لو كان كذلك لما ترك صلى الله عليه وسلم ما أمره الله به، لكن ذلك مما رآه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبي بكر.
ومن جهل الرافضة أنهم يزعمون أن ذلك الكتاب كان كتابه بخلافة عليّ، وهذا ليس في القصة ما يدل عليه بوجهٍ من الوجوه، ولا في شيء من الحديث المعروف عند أهل النقل أنه جعل عليًّا خليفة، كما في الأحاديث الصحيحة ما يدل عَلَى خلافة أبي بكر، ثم يدّعون مع هذا أنه كان قد نصّ على خلافة عليّ نصًّا جليًّا قاطعًا للعذر، فإن كان قد فعل ذلك فقد أغنى عن الكتاب، وإن كان الذين سمعوا ذلك لا يطيعونه فهم أيضًا لا يطيعون الكتاب. فأي فائدة لهم في الكتاب لو كان كما زعموا؟
وأما قوله: (الخلاف الثاني: الواقع في مرضه: أنه قال: جهِّزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف عنه، فقال قوم: يجب علينا امتثال أمره، وأسامة قد برز، وقال قوم: قد اشتد مرضه، ولا يسع قلوبنا المفارقة).
__________
(1) انظر: البخاري (7/199)، ومسلم (4/1857).(2/372)
فالجواب: أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالنقل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: (لعن الله من تخلَّف عنه) ولا نُقل هذا بإسناد ثبت، بل ليس له إسناد في كتب أهل الحديث أصلاً، ولا امتنع أحدٌ من أصحاب أسامة من الخروج معه لو خرج، بل كان أسامة هو الذي توقف في الخروج، لما خاف أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كيف أذهب وأنت هكذا، أسأل عنك الركبان؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم في المقام، ولو عزم عَلَى أسامة في الذهاب لأطاعه، ولو ذهب أسامة لم يتخلّف عنه أحد ممن كان معه، وقد ذهبوا جميعهم معه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتخلف عنه أحد بغير إذنه.
وأبو بكر رضي الله عنه لم يكن في جيش أسامة باتفاق أهل العلم، لكن روى أن عمر كان فيهم، وكان عمر خارجًا مع أسامة، لكن طلب منه أبو بكر أن يأذن له في المقام عنده لحاجته إليه، فأذن له، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات كان أحرص الناس على تجهيز أسامة هو وأبو بكر، وجمهور الصحابة أشاروا عليه بأن لا يجهّزه خوفًا عليهم من العدو، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لا أحل راية عقدها النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن أهل الفرية يزعمون أن الجيش كان فيه أبو بكر وعمر، وأن مقصود الرسول كان إخراجهما لئلا ينازعا عليًّا، وهذا إنما يكذبه ويفتريه من هو من أجهل الناس بأحوال الرسول والصحابة، وأعظم الناس تعمدًا للكذب، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم طول مرضه يأمر أبا بكر أن يصلّي بالناس، والناس كلهم حاضرون، ولو وَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس من ولاّه لأطاعوه، وكان المهاجرون والأنصار يحاربون من نازع أمر الله ورسوله، وهم الذين نصروا دينه أولاً وآخرًا.(2/373)
ولو أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستخلف عليًّا في الصلاة: هل كان يمكن أحدًا أن يرده؟ ولو أراد تأميره على الحج على أبي بكر ومن معه هل كان ينازعه أحد؟ ولو قال لأصحابه: هذا هو الأمير عليكم والإمام بعدي، هل كان يقدر أحد أن يمنعه ذلك؟
ومعه جماهير المسلمين من المهاجرين والأنصار كلهم مطيعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس فيهم من يبغض عليًّا، ولا من قتل عليّ أحدًا من أقاربه.
ولو أراد إخراجهما في جيش أسامة خوفًا منهما، لقال للناس: لا تبايعوهما؟ فيا ليت شعري ممن كان يخاف الرسول؟ فقد نصره الله وأعزّه، وحوله المهاجرون والأنصار الذين لو أمرهم بقتل آبائهم وأبنائهم لفعلوا.
وقد أنزل الله سورة براءة، وكشف فيها حال المنافقين، وعرّفهم المسلمين، وكانوا مدحوضين مذمومين عند الرسول وأمته.
وأبو بكر وعمر كانا أقرب الناس عنده، وأكرم الناس عليه، وأحبهم إليه، وأخصهم به، وأكثر الناس له صحبة ليلاً ونهارًا، وأعظمهم موافقة له ومحبة له، وأحرص الناس على امتثال أمره وإعلاء دينه. فكيف يُجَوِّز عاقلٌ أن يكون هؤلاء عند الرسول من جنس المنافقين، الذين كان أصحابه قد عرفوا إعراضه عنهم، وإهانته لهم، ولم يكن يقرِّب أحدًا منهم بعد سورة براءة.
هذا وأبو بكر عنده أعز الناس وأكرمهم وأحبهم إليه.
وأما قوله: (الخلاف الثالث في موته).(2/374)
فالجواب: لا ريب أن عمر خَفِيَ عليه موته أولاً، ثم أقرَّ به من الغد، واعترف بأنه كان مخطئًا في إنكار موته، فارتفع الخلاف، وليس لفظ الحديث كما ذكره الشهرستاني، ولكن في الصحيحين عن ابن عبَّاس أن أبا بكر خرج وعمر يكلِّم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى أن يجلس، فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر، فقال أبو بكر: (أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله تعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ)) [آل عمران:144] . قال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله قد أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها.
فأخبرني ابن المسيب أن عمر قال: (والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلّني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات)(1).
وأما قوله: (الخلاف الرابع: في الإمامة، وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذا ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان).
فالجواب: أن هذا من أعظم الغلط، فإنه -ولله الحمد- لم يُسلّ سيفٌ على خلافة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان، ولا كان بين المسلمين في زمنهم نزاع في الإمامة، فضلاً عن السيف، ولا كان بينهم سيف مسلول على شيء من الدين، والأنصار تكلّم بعضهم بكلام أنكره عليهم أفاضلهم، كأُسَيْد بن حضير وعبَّاد بن بشر وغيرهما ممن هو أفضل من سعد بن عبادة نفسًا وبيتًا.
__________
(1) البخاري (2/71-72) ومواضع أُخر والمسند (6/219-220).(2/375)
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيحين من غير وجه أنه قال: (خير دور الأنصار دار بني النجَّار، ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني الحارث بن الخزرج، ثم دار بني ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير) (1).
فأهل الدور الثلاثة المفضَّلة: دار بني النجّار، وبني عبد الأشهل، وبني الحارث بن الخزرج لم يُعرف منهم من نازع في الإمامة، بل رجال بني النجّار كأبي أيوب الأنصاري وأبي طلحة وأبَيّ بن كعب وغيرهم، كلهم لم يختاروا إلا أبا بكر.
وأُسيد بن حضير هو الذي كان مقدّم الأنصار يوم فتح مكة، عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر عن يمينه، وهو كان من بني عبد الأشهل، وهو كان يأمر ببيعة أبي بكر رضي الله عنه، وكذلك غيره من رجال الأنصار.
وإنما نازع سعد بن عبادة والحُبَاب بن المنذر وطائفة قليلة، ثم رجع هؤلاء وبايعوا الصدِّيق، ولم يُعرف أنه تخلّف منهم إلا سعد بن عبادة.
وسعد وإن كان رجلاً صالحًا، فليس هو معصومًا، بل له ذنوب يغفرها الله، وقد عرف المسلمون بعضها، وهو من أهل الجنّة السابقين الأوّلين من الأنصار، رضي الله عنهم وأرضاهم.
فما ذكره الشهرستاني من أن الأنصار اتفقوا على تقديمهم سعد بن عبادة هو باطل باتفاق أهل المعرفة بالنقل، والأحاديث الثابتة بخلاف ذلك، وهو وأمثاله وإن لم يتعمدوا الكذب، لكن ينقلون من كتب من ينقل عمَّن يتعمد الكذب.
وكذلك قول القائل: إن عليًّا كان مشغولاً بما أمره النبي صلى الله عليه وسلم من دفنه وتجهيزه وملازمة قبره، فكذب ظاهر، وهو مناقض لما يدَّعونه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُدفن إلا بالليل، لم يدفن بالنهار، وقيل: إنه إنما دُفن من الليلة المقبلة، ولم يأمر أحدًا بملازمة قبره، ولا لازم عليٌّ قبره، بل قُبِرَ في بيت عائشة، وعليٌّ أجنبي منها.
ثم كيف يأمر بملازمة قبره، وقد أمر -بزعمهم- أن يكون إمامًا بعده؟
__________
(1) انظر: سنن أبي داود (4/300).(2/376)
ولم يشتغل بتجهيزه عليٌّ وحده، بل عليٌّ، والعباس، وبنو العباس، ومولاه شقران، وبعض الأنصار، وأبو بكر وعمر، وغيرهما عَلَى باب البيت، حاضرين غسله وتجهيزه، لم يكونوا حينئذٍ في بني ساعدة.
لكن السنّة أن يتولّى الميت أهله، فتولّى أهله غسله، وأخّروا دفنه ليصلِّي المسلمون عليه، فإنهم صلُّوا عليه أفرادًا، واحد بعد واحد، رجالهم ونساؤهم: خلق كثير، فلم يتسع يوم الإثنين لذلك مع تغسيله وتكفينه، بل صلّوا عليه يوم الثلاثاء، ودفن يوم الأربعاء.
وأيضًا: فالقتال الذي كان في زمن عليّ لم يكن على الإمامة، فإن أهل الجمل وصفّين والنهروان لم يقاتلوا عَلَى نصب إمامٍ غير عليّ، ولا كان معاوية يقول: أنا الإمام دون عليّ، ولا قال ذلك طلحة والزبير.
فلم يكن أحد ممن قاتل عليًّا قبل الحكمَيْن نَصَب إمامًا يقاتل عَلَى طاعته، فلم يكن شيء من هذا القتال على قاعدة من قواعد الإمامة المنازع فيها، لم يكن أحد من المقاتلين يقاتل طعنًا في خلافة الثلاثة، ولا ادعاء للنص على غيرهم، ولا طعنًا في جواز خلافة عليّ.
فالأمر الذي تنازع فيه الناس من أمر الإمامة، كنزاع الرافضة والخوارج والمعتزلة وغيرهم، ولم يقاتل عليه أحد من الصحابة أصلاً، ولا قال أحد منهم: إن الإمام المنصوص عليه هو عليّ، ولا قال: إن الثلاثة كانت إمامتهم باطلة، ولا قال أحد منهم: إن عثمان وعليًّا وكل من والاهما كافر.
فدعوى المدّعى أن أول سيف سُلَّ بين أهل القبلة كان مسلولا على قواعد الإمامة التي تنازع فيها الناس، دعوى كاذبة ظاهرة الكذب، يُعرف كذبها بأدنى تأمل، مع العلم بما وقع.
وإنما كان القتال قتال فتنة عند كثير من العلماء، وعند كثير منهم هو من باب قتال أهل العدل والبغي، وهو القتال بتأويل سائغ لطاعة غير الإمام، لا على قاعدة دينية.
ولو أن عثمان نازعه منازعون في الإمامة وقاتلهم، لكان قتالهم من جنس قتال عليّ، وإن كان ليس بينه وبين أولئك نزاع في القواعد الدينية.(2/377)
ولكن أول سيف سُلَّ على الخلاف في القواعد الدينية سيف الخوارج، وقتالهم من أعظم القتال،وهم الذين ابتدعوا أقوالاً خالفوا فيها الصحابة وقاتلوا عليها، وهم الذين تواترت النصوص بذكرهم، كقوله صلى الله عليه وسلم: (تمرق مارقة على حين فُرقة من المسلمين، تقتلهم أَوْلى الطائفتين بالحق)(1).
وعليّ رضي الله عنه لم يقاتل أحدًا على إمامة من قاتله، ولا قاتله أحدٌ على إمامته نفسه، ولا ادّعى أحدٌ قط في زمن خلافته أنه أحقُّ بالإمامة منه: لا عائشة، ولا طلحة، ولا الزبير، ولا معاوية وأصحابه، ولا الخوارج، بل كل الأمة كانوا معترفين بفضل عليّ وسابقته بعد قتل عثمان، وأنه لم يبق في الصحابة من يماثله في زمن خلافته، كما كان عثمان كذلك، لم ينازع قط أحدٌ من المسلمين في إمامته وخلافته، ولا تخاصم اثنان في أن غيره أحق بالإمامة منه، فضلا عن القتال على ذلك، وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
وبالجملة فكل من له خبرة بأحوال القوم يعلم علمًا ضروريًا أنه لم يكن بين المسلمين مخاصمة بين طائفتين في إمامة الثلاثة، فضلاً عن قتالٍ.
وكذلك عليٌّ: لم يتخاصم طائفتان في أن غيره أحق بالإمامة منه، وإن كان بعض الناس كارهًا لولاية أحدٍ من الأربعة، فهذا لا بد منه، فإن من الناس من كان كارهًا لنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف من لا يكون فيهم من يكره إمامة بعض الخلفاء؟
ثم قد تبين أن الصحابة لم يقتتلوا على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان والنزاع بينهم، فتبين أن خلافتهم كانت بلا سيف مسلول أصلاً، وإنما كان السيف مسلولا في خلافة عليّ، فإن كان هذا قدحًا، فالقدح يختص بمن كان السيف في زمانه بين الأمة.
__________
(1) انظر: صحيح مسلم (2/ 745-746)، وسنن أبي داود (4/300).(2/378)
وهذه حجة للخوارج، وحجتهم أقوى من حجة الشيعة، كما أن سيوفهم أقوى من سيوف الشيعة،ودينهم أصح، وهم صادقون لا يكذبون، ومع هذا فقد ثبت بالسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفاق أصحابه أنهم مبتدعون مخطئون ضُلاَّل، فكيف بالرافضة، الذين هم أبعد منهم عن العقل والعلم والدين والصدق والشجاعة والورع وعامة خصال الخير؟!
ولم يعرف في الطوائف أعظم من سيف الخوارج، ومع هذا فلم يقاتل القوم على خلافة أبي بكر وعمر، بل هم متفقون على إمامتهما وموالاتهما.
وقوله: (الخلاف الخامس: في فَدَك والتوارث، رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء لا نُورث، ما تركناه صدقة).
فيقال: هذا أيضًا اختلاف في مسألة شرعية، وقد زال الخلاف فيها والخلاف في هذه دون الخلاف في ميراث الإخوة مع الجد، وميراث الجدة مع ابنها، وحجب الأم بالأخوين، وجعل الجد مع الأم كالأب، وأمثال ذلك من مسائل الفرائض التي تنازعوا فيها.
وقد تولّى عليّ بعد ذلك، وصار فدك وغيرها تحت حكمه، ولم يعطها لأولاد فاطمة، ولا أخذ من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم،ولا ولد العباس شيئًا من ميراثه.
فلو كان ذلك ظلما وقدر على إزالته، لكان هذا أهون عليه من قتال معاوية وجيوشه. أفتراه يقاتل معاوية مع ما جرى في ذلك من الشر العظيم، ولا يعطي هؤلاء قليلاً من المال، وأمره أهون بكثير؟
وأما قوله: (الخلاف السادس: في قتال مانعي الزكاة، قاتلهم أبو بكر، واجتهد عمر في أيام خلافته، فردّ السبايا والأموال إليهم، وأطلق المحبوسين).
فهذا من الكذب الذي لا يخفى على من عرف أحوال المسلمين؛ فإن مانعي الزكاة اتفق أبو بكر وعمر على قتالهم، بعد أن راجعه عمر في ذلك.(2/379)
كما في الصحيحين عن أبي هريرة أن عمر قال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، كيف تقاتل الناس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)؟
فقال أبو بكر: ألم يقل إلا بحقِّها وحسابهم على الله؟ فإن الزكاة من حقّها. والله لو منعوني عَنَاقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فو الله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق(1).
فعمر وافق أبا بكر على قتال أهل الردة مانعي الزكاة، وكذلك سائر الصحابة، وأقرّ أولئك بالزكاة بعد امتناعهم منها، ولم تسب لهم ذرية، ولا حبس منهم أحد، ولا كان بالمدينة حَبْس لا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا على عهد أبي بكر، فكيف يموت وهم في حبسه؟
وقوله: (الخلاف السابع: في تنصيص أبي بكر على عمر في الخلافة، فمن الناس من قال: ولّيت علينا فظًّا غليظًا).
والجواب: أن يُقال: من جَعَل مثل هذا خلافًا فقد كان مثل هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: قد طعن بعض الصحابة في إمارة زيد بن حارثة، وبعضهم في إمارة أسامة ابنه، وقد كان غير واحد يطعن فيمن يولّيه أبو بكر وعمر، ثم إن القائل لها: كان طلحة وقد رجع عن ذلك، وهو من أشد الناس تعظيمًا لعمر، كما أن الذين طعنوا في إمارة زيد وأسامة رجعوا عن طعنهم طاعة لله ورسوله.
وقوله: (الخلاف الثامن: في إمرة الشورى، واتفقوا بعد الاختلاف على إمامة عثمان).
__________
(1) انظر: البخاري (9/15)، ومسلم (1/51).(2/380)
والجواب: أن هذا من الكذب الذي اتفق أهل النقل على أنه كذب؛ فإنه لم يختلف أحد في خلافة عثمان، ولكن بقي عبد الرحمن يشاور الناس ثلاثة أيام، وأخبر أن الناس لا يعدلون بعثمان، وأنه شاور حتى العذارى في خدورهن، وإن كان في نفس أحد كراهة، لم يَنْقل – أو قال – أحدٌ شيئًا ولم ينقل إلينا.
فمثل هذا قد يجري في مثل هذه الأمور، والأمر الذي يتشاور فيه الناس لا بد فيه من كلام، لكن لا يمكن الجزم بذلك بمجرد الحزر.
وأما قوله: ووقعت اختلافات كثيرة، منها: ردّه الحَكَم بن أمية إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يُسمَّى طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن كان يشفع إلى أبي بكر وعمر أيام خلافتهما، فما أجاباه إلى ذلك، ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخًا).
فيقال: مثل هذا إن جعله اختلافًا جعل كلما حكم خليفة بحكم ونازعه فيه قوم اختلافًا، وقد كان ذكرك لما اختلفوا فيه من المواريث والطلاق وغير ذلك أصح وأنفع، فإن الخلاف في ذلك ثابت منقول عند أهل العلم، ينتفع الناس بذكره والمناظرة فيه، وهو خلاف في أمر كلّي يصلح أن تقع فيه المناظرة.
وأما هذه الأمور فغايتها جزئية، ولا تُجعل مسائل خلاف يتناظر فيها الناس.
هذا مع أن فيما ذكره كذبًا كثيرًا، منه ما ذكره من أمر الحَكَم، وأنه طرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يسمى طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه استشفع إلى أبي بكر وعمر أيام خلافتهما فما أجاباه إلى ذلك، وأن عمر نفاه من مقامه باليمن أربعين فرسخًا، فمن الذي نقل ذلك؟ وأين إسناده؟ ومتى ذهب هذا إلى اليمن؟ وما الموجب لنفيه إلى اليمن وقد أقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم على ما يدعونه بالطائف، وهي أقرب إلى مكة والمدينة من اليمن؟ فإذا كان رسول الله أقرّه قريبًا منه، فما الموجب لنفيه بعد ثبوته إلى اليمن؟(2/381)
وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن نفي الحَكَم باطل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينفه إلى الطائف، بل هو ذهب بنفسه، وذكر بعض الناس أنه نفاه، ولم يذكروا إسنادًا صحيحًا بكيفية القصة وسببها.
وقوله: (ومنها نفيه أبا ذر إلى الربذة،وتزويجه ابنته مروان بن الحكم، وتسليمه خمس غنائم إفريقية، وقد بلغت مائتى ألف دينار).
فيقال: أما قصة أبي ذر فقد تقدم ذكرها، وأما تزويجه مروان ابنته فأي شيء في هذا مما يجعل اختلافًا؟ وأما إعطاؤه خمس غنائم أفريقية؛ فمن الذي نقل هذا، وتقدم قوله: أعطاه ألف ألف دينار، والمعروف أن خمس أفريقية لم يبلغ ذلك.
وقوله: ومنها إيواؤه عبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد أن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، وتوليته مصر.
فالجواب: إن كان المراد أنه لم يزل مهدر الدم حتى ولاه عثمان -كما يفهم من الكلام- فهذا لا يقوله إلا مفرط في الجهل بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته؛ فإن الناس كلهم متفقون على أنه في عام فتح مكة، بعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دم جماعة، منهم: عبد الله بن سعد، أتى عثمان به النبي صلى الله عليه وسلم وبايعه النبي صلى الله عليه وسلم بعد مراجعة عثمان له في ذلك، وحقن دمه، وصار من المسلمين المعصومين، له ما لهم، وعليه ما عليهم.
وأما قوله: (كان عامل جنوده معاوية بن أبي سفيان عامل الشام، وعامل الكوفة سعيد بن العاص، وبعده عبد الله بن عامر، والوليد بن عقبة عامل البصرة).
فيقال: أمّا معاوية فولاّه عمر بن الخطاب لما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان مكانه، ثم ولاّه عثمان رضي الله عنه الشام كله، وكانت سيرته في أهل الشام من أحسن السير، وكانت رعيته من أعظم الناس محبةً له.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبّونكم، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم)(1).
وكان معاوية تحبه رعيته وتدعو له، وهو يحبها ويدعو لها.
__________
(1) تقدم تخريجه.(2/382)
وأما توليته لسعيد بن العاص فأهل الكوفة كانوا دائمًا يشكون من ولاتهم، وَلِيَ عليهم سعد بن أبي وقاص، وأبو موسى الأشعري، وعمَّار بن ياسر، والمغيرة بن شعبة،وهم يشكون منهم، وسيرهم في هذا مشهورة؛ ولا شك أنهم كانوا يشكون في زمن عثمان أكثر، وقد عُلم أن عثمان وعليًّا رضي الله عنهما كل منهما ولَّى أقاربه، وحصل له بسبب ذلك من كلام الناس وغير ذلك ما حصل.
وأما قوله: (الخلاف التاسع: في زمن أمير المؤمنين عليه السلام بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له، فأوّلاً: خروج طلحة والزبير إلى مكة، ثم حمل عائشة إلى البصرة، ثم نصب القتال معه، ويُعرف ذلك بحرب الجمل، والخلاف بينه وبين معاوية وحرب صفين، ومغادرة عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري، وكذا الخلاف بينه وبين الشراة المارقين بالنهروان، وبالجملة كان عليّ مع الحق والحق معه، وظهر في زمانه الخوارج عليه، مثل: الأشعث بن قيس، ومِسْعَر بن فَدَكى التميمي، وزيد بن حصين الطائي وغيرهم، وظهر في زمنه الغلاة كعبد الله بن سبأ، ومن الفرقتين ابتدأت الضلالة والبدع، وصدق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يهلك فيك اثنان: محبٌّ غالٍ، ومبغضٌ قالٍ).
فانظر بعين الإنصاف إلى كلام هذا الرجل، هل خرج موجب الفتنة عن المشايخ أو تعدّاهم؟)
والجواب: أن يقال: هذا الكلام مما يبين تحامل الشهرستاني في هذا الكتاب مع الشيعة كما تقدم، وإلا فقد ذكر أبا بكر وعمر وعثمان، ولم يذكر من أحوالهم أن الحقّ معهم دون من خالفهم، ولما ذكر عليًّا قال: (وبالجملة كان الحق مع عليّ وعليّ مع الحق) والناقل الذي لا غرض له: إما أن يحكي الأمور بالأمانة، وإما أن يعطي كل ذي حقٍ حقّه. فأما دعوى المدّعي أن الحق كان مع عليّ وعليّ مع الحق، وتخصيصه بهذا دون أبي بكر وعمر وعثمان، فهذا لا يقوله أحد من المسلمين غير الشيعة.(2/383)
ومما يبين فساد هذا الكلام قوله: (إن الاختلاف وقع في زمن عليّ بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له) ومن المعلوم أن كثيرًا من المسلمين لم يكونوا بايعوه، حتى كثير من أهل المدينة ومكة الذين رأوه لم يكونوا بايعوه، دع الذين كانوا بعيدين، كأهل الشام ومصر والمغرب والعراق وخراسان.
وكيف يقال مثل هذا في بيعة عليّ، ولا يقال في بيعة عثمان التي اجتمع عليها المسلمون كلهم ولم يتنازع فيها اثنان؟
وكذلك ما ذكره من التعريض بالطعن على طلحة والزبير وعائشة من غير أن يذكر لهم عذرًا ولا رجوعًا. وأهل العلم يعلمون أن طلحة والزبير لم يكونا قاصدين قتال عليّ ابتداءً، وكذلك أهل الشام لم يكن قصدهم قتاله، وكذلك عليّ لم يكن قصده قتال هؤلاء ولا هؤلاء.
ولكن حرب الجمل جرى بغير اختياره ولا اختيارهم، فإنهم كانوا قد اتفقوا على المصالحة وإقامة الحدود على قتلة عثمان، فتواطأت القتلة على إقامة الفتنة آخرا كما أقاموها أولاً، فحملوا على طلحة والزبير وأصحابهما، فحملوا دفعًا عنهم، وأشعروا عليًّا أنهما حملا عليه، فحمل عليٌّ دفعًا عن نفسه، وكان كل منهما قصده دفع الصيال لا ابتداء القتال، هكذا ذكر غير واحد من أهل العلم بالسير، فإن كان الأمر قد جرى على وجه لا ملام فيه فلا كلام، وإن كان قد وقع خطأٌ أو ذنب من أحدهما أو كليهما فقد عرف أن هذا لا يمنع ما دل عليه الكتاب والسنة من أنهم من خيار أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين، وعباده الصالحين، وأنهم من أهل الجنة.
وقول هذا الرافضي: (انظر بعين الإنصاف إلى كلام هذا الرجل هل خرج موجب الفتنة عن المشايخ أو تعدّاهم؟)
فالجواب: أن يُقال: أمّا الفتنة فإنما ظهرت في الإسلام من الشيعة، فإنهم أساس كل فتنة وشر، وهم قطب رحى الفتن، فإن أول فتنة كانت في الإسلام قتل عثمان.(2/384)
وقد روى الإمام أحمد في مسنده، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من نجا منهن فقد نجا: موتي، وقتل خليفة مضطهد بغير حق، والدجَّال) (1).
ومن استقرأ أخبار العالم في جميع الفرق تبين له أنه لم يكن قط طائفة أعظم اتفاقًا على الهدى والرشد، وأبعد عن الفتنة والتفرق والاختلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين هم خير الخلق بشهادة الله لهم بذلك، إذ يقول: ((كُنتُم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران:110] .
وأبعد الناس عن الطائفة المهدية المنصورة هم الرافضة، لأنهم أجهل وأظلم طوائف أهل الأهواء المنتسبين إلى القبلة، وخيار هذه الأمة هم الصحابة، فلم يكن في الأمة أعظم اجتماعًا على الهدى ودين الحق ولا أبعد عن التفرق والاختلاف منهم، وكل ما يذكر عنهم مما فيه نقص فهذا إذا قيس إلى ما يوجد في غيرهم من الأمة كان قليلاً من كثير.
وأما ما يقترحه كل أحد في نفسه مما لم يُخلق، فهذا لا اعتبار به، فهذا يقترح معصومًا من الأئمة، وهذا يقترح ما هو كالمعصوم وإن لم يسمه معصومًا، فيقترح في العالم والشيخ والأمير والملك ونحو ذلك، مع كثرة علمه ودينه ومحاسنه، وكثرة ما فعل الله على يديه من الخير، يقترح مع ذلك أن لا يكون قد خَفِيَ عليه شيء ولا يخطئ في مسألة، وأن يخرج عن حد البشرية فلا يغضب، بل كثير من هؤلاء يقترح فيهم ما لا يقترح في الأنبياء.
__________
(1) المسند (4/105، 109)، (5/33، 288).(2/385)
وقد أمر الله تعالى نوحًا ومحمدًا أن يقولا: ((لاَ أَقُولُ لَكُم عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ)) [هود:31] فيريد الجهال من المتبوع أن يكون عالمًا بكل ما يُسأل عنه، قادرًا على كل ما يُطلب منه، غنيًّا عن الحاجات البشرية كالملائكة، وهذا الاقتراح من ولاة الأمر كاقتراح الخوارج في عموم الأمة، أن لا يكون لأحدهم ذنب، ومن كان له ذنب كان عندهم كافرًا مخلدًا في النار.
وكل هذا باطل خلاف ما خلقه الله، وخلاف ما شرعه الله.
فليس الضلال والغيّ في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في الرافضة، كما أن الهدى والرشاد والرحمة ليس في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في أهل الحديث والسنة المحضة، الذين لا ينتصرون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم خاصته، وهو إمامهم المطلق الذي لا يتبعون قول غيره إلا إذا اتّبع قوله، ومقصودهم نصر الله ورسوله.
وإذا كان الصحابة، ثم أهل الحديث والسنة المحضة، أوْلى بالهدى ودين الحق وأبعد الطوائف عن الضلال والغيّ، فالرافضة بالعكس.
وقد تبين أن هذا الكلام الذي ذكره هذا الرجل فيه من الباطل ما لا يخفى على عاقل، ولا يحتج به إلا من هو جاهل، وأن هذا الرجل كان له بالشيعة إلمام واتصال، وأنه دخل في هواهم بما ذكره في هذا الكتاب، مع أنه ليس من علماء النقل والآثار، وإنما هو من جنس نقلة التواريخ التي لا يعتمد عليها أولو الأبصار.(2/386)
ومن نظر في كتب الحديث والتفسير والفقه والسير علم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وأن أصل كل فتنة وبَلٍيَّة هم الشيعة ومن انضوى إليهم، وكثير من السيوف التي سُلَّت في الإسلام إنما كانت من جهتهم، وعلم أن أصلهم ومادتهم منافقون، اختلقوا أكاذيب، وابتدعوا آراء فاسدة، ليفسدوا بها دين الإسلام، ويستزلّوا بها مَن ليس مِن أُولى الأحلام، فسعوا في قتل عثمان، وهو أول الفتن، ثم انزووا إلى عليٍّ، لا حبًا فيه ولا في أهل البيت، لكن ليقيموا سوق الفتنة بين المسلمين.
ولهذا تجد الشيعة ينتصرون لأعداء الإسلام المرتدين، كبني حنيفة أتباع مُسَيْلمة الكذَّاب، ويقولون: إنهم كانوا مظلومين، كما ذكر صاحب هذا الكتاب، وينتصرون لأبي لؤلؤة الكافر المجوسي.
وقد روي أنه طلب من عمر أن يكلِّم مولاه في خراجه، فتوقَّف عمر، وكان من نيَّته أن يكلّمه، فقتل عمر بُغضًا في الإسلام وأهله، وحبًّا للمجوس، وانتقاما للكفَّار، لما فعل بهم عمر حين فَتَحَ بلادهم، وقَتَلَ رؤساءهم، وقسَّم أموالهم.
فهل ينتصر لأبي لؤلؤة مع هذا إلا من هو أعظم الناس كفرًا بالله ورسوله، وبغضًا في الإسلام، ومفرط في الجهل لا يعرف حال أبي لؤلؤة؟
ودع ما يُسمع ويُنقل عمَّن خلا، فلينظر كل عاقل فيما يحدث في زمانه، وما يقرب من زمانه من الفتن والشرور والفساد في الإسلام، فإنه يجد معظم ذلك من قِبَل الرافضة، وتجدهم من أعظم الناس فتنًا وشرًا، وأنهم لا يقعدون عمَّا يمكنهم من الفتن والشر وإيقاع الفساد بين الأمة.(2/387)
ونحن نعرف بالعيان والتواتر العام وما كان في زماننا، من حين خرج جنكزخان ملك الترك الكفَّار، وما جرى في الإسلام من الشر. فلا يشك عاقل أن استيلاء الكفّار المشركين على بلاد الإسلام وعلى أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم، كذريَّة العبّاس وغيرهم، بالقتل وسفك الدماء، وسبي النساء واستحلال فروجهن، وسبي الصبيان واستعبادهم وإخراجهم عن دين الله إلى الكفر، وقتل أهل العلم والدين من أهل القرآن والصلاة، وتعظيم بيوت الأصنام – التي يسمُّونها البذخانات والبيَع والكنائس – على المساجد، ورفع المشركين وأهل الكتاب من النصارى وغيرهم على المسلمين، بحيث يكون المشركون وأهل الكتاب أعظم عزًّا، وأنفذ كلمة، وأكثر حرمة من المسلمين، إلى أمثال ذلك مما لا يشك عاقل أن هذا أضر على المسلمين من قتال بعضهم بعضًا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما جرى على أمته من هذا، كان كراهته له، وغضبه منه، أعظم من كراهته لاثنين مسلمين تقاتلا على الملك، ولم يسب أحدهما حريم الآخر، ولا نفع كافرًا، ولا أبطل شيئًا من شرائع الإسلام المواترة، وشعائره الظاهرة.
ثم مع هذا الرافضة يعاونون أولئك الكفار، وينصرونهم على المسلمين، كما قد شاهده الناس، لمّا دخل هولاكو ملك الكفّار الترك الشام سنة ثمان وخمسين وستمائة، فإن الرافضة الذين كانوا بالشام بالمدائن والعواصم من أهل حلب وما حولها ومن أهل دمشق وما حولها وغيرهم، كانوا من أعظم الناس أنصارًا وأعوانًا على إقامة ملكه، وتنفيذ أمره في زوال ملك المسلمين.
وهكذا يعرف الناس -عامةً وخاصةً- ما كان بالعراق لمّا قَدمَ هولاكو إلى العراق، وقتل الخليفة، وسفك فيها من الدماء ما لا يحصيه إلا الله، فكان وزير الخليفة ابن العلقمي، والرافضة هم بطانته، الذين أعانوه على ذلك بأنواع كثيرة، باطنة وظاهرة، يطول وصفها.(2/388)
وهكذا ذُكر أنهم كانوا مع جنكزخان، وقد رآهم المسلمون بسواحل الشام وغيرها، إذا اقتتل المسلمون والنصارى هواهم مع النصارى، ينصرونهم بحسب الإمكان، ويكرهون فتح مدائنهم، كما كرهوا فتح عكا وغيرها، ويختارون إدالتهم على المسلمين، حتى إنهم لما انكسر عسكر المسلمين سنة غازان -سنة تسع وتسعين وخمسمائة- وخلت الشام من جيش المسلمين، عاثوا في البلاد، وسعوا في أنواع من الفساد، من القتل وأخذ الأموال، وحمل راية الصليب، وتفضيل النصارى على المسلمين، وحمل السبي والأموال والسلاح من المسلمين إلى النصارى، أهل الحرب بقبرص وغيرها.
فهذا -وأمثاله- قد عاينه الناس، وتواتر عند من لم يعاينه، ولو ذكرت أنا ما سمعتُه ورأيتُه من آثار ذلك لطال الكتاب ,وعند غيري من أخبار ذلك وتفاصيله ما لا أعلمه.
فهذا أمر مشهود من معاونتهم للكفار على المسلمين، ومن اختيارهم لظهور الكفر وأهله على الإسلام وأهله. ولو قُدِّر أن المسلمين ظلمة فسقة، ومظهرون لأنواع من البدع التي هي أعظم من سبِّ عليٍّ وعثمان، لكان العاقل ينظر في خير الخَيْرين وشر الشَّرين.
ألا ترى أن أهل السنة وإن كانوا يقولون في الخوارج والروافض وغيرهما من أهل البدع ما يقولون، لكن لا يعاونون الكفّار على دينهم، ولا يختارون ظهور الكفر وأهله على ظهور بدعةٍ دون ذلك؟
والرافضة إذا تمكّنوا لا يتّقُون، وانظر ما حصل لهم في دولة السلطان خدابندا، الذي صنَّف له هذا الكتاب، كيف ظهر فيهم من الشرّ، الذي لو دام وقوي أبطلوا به عامة شرائع الإسلام ! لكن يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وأما الخلفاء والصحابة فكل خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة -من الإيمان والإسلام، والقرآن والعلم، والمعارف والعبادات، ودخول الجنة، والنجاة من النار، وانتصارهم على الكفار، وعلو كلمة الله- فإنما ببركة ما فعله الصحابة، الذين بلّغوا الدين، وجاهدوا في سبيل الله.(2/389)
وكل مؤمن آمن بالله فللصحابة رضي الله عنهم عليه فضل إلى يوم القيامة، وكل خير فيه الشيعة وغيرهم فهو ببركة الصحابة، وخير الصحابة تبع لخير الخلفاء الراشدين، فهم كانوا أَقْوَم بكل خير في الدين والدنيا من سائر الصحابة، فكيف يكون هؤلاء منبع الشر، ويكون أولئك الرافضة منبع الخير؟!
ومعلوم أن الرافضي يوالي أولئك الرافضة ويعادي الصحابة، فهل هذا إلاّ من شر من أعمى الله بصيرته؟ ((فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ))[الحج:46] .
(فصل)
قال الرافضي: (الفصل الثالث: في الأدلة الدالة على إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. الأدلة في ذلك كثيرة لا تحصى، لكن نذكر المهم منها، وننظم أربعة مناهج: المنهج الأول: في الأدلة العقلية، وهي خمسة:
الأول: أن الإمام يجب أن يكون معصومًا، ومتى كان ذلك كان الإمام هو عليًا عليه السلام.
أما المقدمة الأولى: فلأن الإنسان مدنيّ بالطبع، لا يمكن أن يعيش منفردًا، لافتقاره في بقائه إلى ما يأكل ويشرب ويلبس ويسكن، ولا يمكن أن يفعلها بنفسه، بل يفتقر إلى مساعدة غيره، بحيث يفزع كل واحد منهم إلى ما يحتاج إليه صَاحبه، حتى يتم قيام النوع، ولما كان الاجتماع في مظنّة التغالب والتغابن، بأن كل واحد من الأشخاص قد يحتاج إلى ما في يد غيره، فتدعوه قوته الشهوانية إلى أخذه وقهره عليه وظلمه فيه، فيؤدي ذلك إلى وقوع الهرج والمرج وإثارة الفتن، فلا بد من نصب إمامٍ معصوم يصدّهم عن الظلم والتعدّي، ويمنعهم عن التغالب والقهر، وينصف المظلوم من الظالم، ويوصِّل الحق إلى مستحقّه، لا يجوز عليه الخطأ ولا السهو ولا المعصية، وإلا لافتقر إلى إمام آخر، لأن العلة المُحْوِجة إلى نصب الإمام هي جواز الخطأ على الأمة، فلو جاز الخطأ عليه لاحتاج إلى إمام آخر، فإن كان معصومًا كان هو الإمام، وإلا لزم التسلسل.(2/390)
أما المقدمة الثانية فظاهرة، لأن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا معصومين اتفاقًا، وعليّ معصوم، فيكون هو الإمام).
والجواب عن ذلك: أن نقول: كلتا المقدمتين باطلة، أما الأولى: فقوله: (ولا بد من نصب إمام معصوم يصدّهم عن الظلم والتعدّي، ويمنعهم عن التغالب والقهر، وينصف المظلوم من الظالم، ويوصِّل الحق إلى مستحقِّه، لا يجوز عليه الخطأ ولا السهو ولا المعصية).
فيقال له: نحن نقول بموجب هذا الدليل إن كان صحيحًا، فإن الرسول هو المعصوم وطاعته واجبة في كل زمان على كل أحد، وعلم الأمة بأمره ونهيه أتم من علم آحاد الرعية بأمر الإمام الغالب، كالمنتظر ونحوه، بأمره ونهيه. فهذا رسول صلى الله عليه وسلم إمام معصوم، والأمة تعرف أمره ونهيه، ومعصومهم ينتهي إلى الغائب المنتظر، الذي لو كان معصومًا لم يعرف أحدٌ لا أمره ولا نهيه، بل ولا كانت رعية عليّ تعرف أمره ونهيه، كما تعرف الأمة أمر نبيّها ونهيه، بل عند أمة محمد صلى الله عليه وسلم من علم أمره ونهيه ما أغناهم عن كل إمام سواه، بحيث أنهم لا يحتاجون قط إلى المتولّى عليهم في شيء من معرفة دينهم، ولا يحتاجون في العمل إلى ما يحتاجون فيه إلى التعاون، وهم يعلمون أمره ونهيه أعظم من معرفة آحاد رعيّة المعصوم، ولو قُدِّر وجوده بأمره، فإنه لم يتولّ على الناس ظاهرًا من ادُّعيت له العصمة إلا عليٌّ.
ونحن نعلم قطعًا أنه كان في رعيته باليمن وخراسان وغيرهما من لا يدري بماذا أمر ولا عمَّاذا نهى، بل نوّابه كانوا يتصرفون بما لا يعرفه هو.
وأما الورثة الذين ورثوا علم محمد صلى الله عليه وسلم فهم يعرفون أمره ونهيه، ويَصْدُقُون في الإخبار عنه، أعظم من علم نواب عليّ بأمره ونهيه، ومن صِدْقهِم في الإخبار عنه، وهم إنما يريدون أنه لا بد من إمام معصوم حيّ.
فنقول: هذا الكلام باطل من وجوه:(2/391)
أحدها: أن هذا الإمام الموصوف لم يوجد بهذه الصفة، أما في زماننا فلا يُعرف إمام معروف يُدَّعى فيه هذا، ولا يدعي لنفسه، بل مفقود غائب عند متّبعيه، ومعدوم لا حقيقة له عند العقلاء، ومثل هذا لا يحصل به شيء من مقاصد الإمامة أصلاً، بل من وَلِيَ على الناس، ولو كان فيه بعض الجهل وبعض الظلم، كان أنفع لهم ممن لا ينفعهم بوجه من الوجوه.
وهؤلاء المنتسبون إلى الإمام المعصوم لا يوجدون مستعينين في أمورهم إلا بغيره، بل هم ينتسبون إلى المعصوم، وإنما يستعينون بكفور أو ظلوم، فإذا كان المصدِّقون لهذا المعصوم المنتظر لم ينتفع به أحد منهم لا في دينه ولا في دنياه، لم يحصل لأحد به شيء من مقاصد الإمامة.
وإذا كان المقصود لا يحصل منه شيء، لم يكن بنا حاجة إلى إثبات الوسيلة؛ لأن الوسائل لا تُراد إلا لمقاصدها. فإذا جزمنا بانتفاء المقاصد كان الكلام في الوسيلة من السعي الفاسد، وكان هذا بمنزلة من يقول: الناس يحتاجون إلى من يطعمهم ويسقيهم، وينبغي أن يكون الطعام صفته كذا، والشراب صفته كذا، وهذا عند الطائفة الفلانية، وتلك الطائفة قد عُلم أنها من أفقر الناس، وأنهم معروفون بالإفلاس.
وأي فائدة في طلب ما يُعلم عدمه، واتباع ما لا ينتفع به أصلاً؟ والإمام يُحتاج إليه في شيئين، إما في العلم لتبليغه وتعليمه، وإما في العمل به ليعين الناس على ذلك بقوته وسلطانه.
وهذا المنتظر لا ينتفع لا بهذا ولا بهذا؛ بل ما عندهم من العلم فهو من كلام مَنْ قَبْله، ومن العمل، إن كان ممّا يوافقهم عليه المسلمون استعانوا بهم، وإلا استعانوا بالكفّار والملاحدة ونحوهم، فهم أعجز الناس في العمل، وأجهل الناس في العلم، مع دعواهم ائتمامهم بالمعصوم، الذي مقصوده العلم والقدرة، ولم يحصل لهم لا علم ولا قدرة، فعلم انتفاء هذا مما يدّعونه.
وأيضًا فالأئمة الاثنا عشر لم يحصل لأحدٍ من الأمة بأحد منهم جميع مقاصد الإمامة.(2/392)
أما من دون عليّ فإنما كان يحصل للناس من علمه ودينه مثل ما يحصل من نظرائه، وكان عليّ بن الحسين وابنه جعفر بن محمد يعلّمون الناس ما علّمهم الله، كما علمه علماء زمانهم، وكان في زمنهم من هو أعلم منهم وأنفع للأمة.
وهذا معروف عند أهل العلم، ولو قدِّر أنهم كانوا أعلم وأَدْيَن، فلم يحصل من أهل العلم و الدين ما يحصل من ذوي الولاية والقوة والسلطان، وإلزام الناس بالحق،ومنعهم باليد عن الباطل.
وأما بعد الثلاثة كالعسكريَيْن، فهؤلاء لم يظهر عليهم علم تستفيده الأمة، ولا كان لهم يد تستعين بها الأمة، بل كانوا كأمثالهم من الهاشميين لهم حرمة ومكانة، وفيهم من معرفة ما يحتاجون إليه في الإسلام والدين ما في أمثالهم، وهو ما يعرفه كثير من عوام المسلمين.
وأما ما يختص به أهل العلم، فهذا لم يعرف عنهم، ولهذا لم يأخذ عنهم أهل العلم، كما أخذوا عن أولئك الثلاثة، ولو وجدوا ما يُستفاد لأخذوا، ولكن طالب العلم يعرف مقصوده.
وإذا كان للإنسان نسب شريف، كان ذلك مما يعينه على قبول الناس منه، ألا ترى أن ابن عبّاس لما كان كثير العلم عَرَفت الأمة له ذلك، واستفادت منه، وشاع ذكره بذلك في الخاصة والعامة.
وكذلك الشافعي لما كان عنده من العلم والفقه ما يُستفاد منه، عرف المسلمون له ذلك، واستفادوا ذلك منه، وظهر ذكره بالعلم والفقه.
ولكن إذا لم يجد الإنسان مقصوده في محل لم يطلبه منه، ألا ترى أنه لو قيل عن أحد: إنه طبيب أو نحوي، وعُظِّم حتى جاء إليه الأطباء أو النحاة، فوجدوه لا يعرف من الطب والنحو ما يطلبون، أعرضوا عنه، ولم ينفعه مجرد دعوى الجهّال وتعظيمهم؟
وهؤلاء الإمامية أخذوا عن المعتزلة أن الله يجب عليه الإقدار والتمكين واللطف، بما يكون المكلَّف عنده أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، مع تمكّنه في الحالين.(2/393)
ثم قالوا: والإمامة واجبة، وهي أوجب عندهم من النبوة، لأن بها لطفًا في التكاليف، قالوا: إنّا نعلم يقينًا بالعادات واستمرار الأوقات أن الجماعة متى كان لهم رئيس مهيب مطاع متصرّف منبسط اليد كانوا بوجوده أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإذا لم يكن لهم رئيس وقع الهرج والمرج بينهم، وكانوا عن الصلاح أبعد، ومن الفساد أقرب، وهذه الحال مشعرة بقضية العقل معلومة لا ينكرها إلا من جهل العادات، ولم يعلم استمرار القاعدة المستمرة في العقل. قالوا: وإذا كان هذا لطفًا في التكليف لزم وجوبه، ثم ذكروا صفاته من العصمة وغيرها.
ثم أورد طائفة منهم على أنفسهم سؤالاً، فقالوا: إذا قلتم: إن الإمام لطف، وهو غائب عنكم، فأين اللطف الحاصل مع غيبته؟ وإذا لم يكن لطفه حاصلاً مع الغيبة، وجاز التكليف، بطل أن يكون الإمام لطفًا في الدين، وحينئذٍ يفسد القول بإمامة المعصوم.
وقالوا في الجواب عن هذا السؤال: إنَّا نقول: إن لطف الإمام حاصل في حالة الغيبة للعارفين به في حال الظهور، وإنما فات اللطف لمن لم يَقُل بإمامته، كما أن لطف المعرفة لم يحصل لمن لم يعرف الله تعالى، وحصل لمن كان عارفا به، قالوا: وهذا يُسقط هذا السؤال، ويوجب القول بإمامة المعصومين.
فقيل لهم: لو كان اللطف حاصلاً في حال الغيبة كحال الظهور، لوجب أن يستغنوا عن ظهوره، ويتبعوه إلى أن يموتوا، وهذا خلاف ما يذهبون إليه.
فأجابوا بأنّا نقول: إن اللطف في غيبته عند العارف به من باب التنفير والتبعيد عن القبائح مثل حال الظهور، لكن نوجب ظهوره لشيء غير ذلك، وهو رفع أيدي المتغلّبين عن المؤمنين، وأخذ الأموال ووضعها في مواضعها من أيدي الجبابرة، ورفع ممالك الظلم التي لا يمكننا رفعها إلا بطريقه، وجهاد الكفار الذي لا يمكن إلا مع ظهوره.(2/394)
فيقال لهم: هذا كلام ظاهر البطلان، وذلك أن الإمام الذي جعلتموه لطفًا، هو ما شهدت به العقول والعادات، وهو ما ذكرتموه، قلتم: إن الجماعة متى كان لهم رئيس مهيب مطاع متصرِّف منبسط اليد، كانوا بوجوده أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، واشترطتم فيه العصمة. قلتم: لأن مقصود الانزجار لا يحصل إلا بها، ومن المعلوم أن الموجودين الذين كانوا قبل المنتظر، لم يكن أحد منهم بهذه الصفة، لم يكن أحد منهم منبسط اليد ولا متصرفًا.
وعليّ رضي الله عنه تولّى الخلافة، ولم يكن تصرفه وانبساطه تصرف من قبله وانبساطهم، وأما الباقون فلم تكن أيديهم منبسطة ولا متصرّفون، بل كان يحصل بأحدهم ما يحصل بنظرائه.
وأما الغائب فلم يحصل به شيء، فإن المعترِف بوجوده إذا عَرَف أنه غاب من أكثر من أربعمائة سنة وستين سنة، وأنه خائف لا يمكنه الظهور، فضلاً عن إقامة الحدود، ولا يمكنه أن يأمر أحدًا ولا ينهاه، لم يزل الهرج والفساد بهذا.
ولهذا يوجد طوائف الرافضة أكثر الطوائف هرجًا وفسادًا، واختلافًا بالألسن والأيدي، ويوجد من الاقتتال والاختلاف وظلم بعضهم لبعض، ما لا يوجد فيمن لهم متولٍّ كافر، فضلاً عن متولٍّ مسلم، فأي لطف حصل لمتبعيه به؟
وأما قولهم: إن اللطف به يحصل للعارفين به، كما يحصل في حال الظهور، فهذه مكابرة ظاهرة؛ فإنه إذا ظهر حصل به من إقامة الحدود والوعظ وغير ذلك، ما يوجب أن يكون في ذلك لطفٌ لا يحصل مع عدم الظهور.
وتشبيههم معرفته بمعرفة الله في باب اللطف، وأن اللطف به يحصل للعارف دون غيره، قياس فاسد؛ فإن المعرفة بأن الله موجود حيّ قادر، يأمر بالطاعة ويثيب عليها، وينهى عن المعصية ويعاقب عليها، من أعظم الأسباب في الرغبة والرهبة منه، فتكون هذه المعرفة داعية إلى الرغبة في ثوابه، بفعل المأمور وترك المحظور، والرهبة من عقابه إذا عصى، لعلم العبد بأنه عالم قادر، وأنه قد جرت سنته بإثابة المطيعين وعقوبة العاصين.(2/395)
وأما شخص يعرف الناس أنه مفقود من أكثر من أربعمائة سنة، وأنه لم يعاقب أحدًا، وأنه لم يثب أحدًا، بل هو خائف على نفسه إذا ظهر، فضلاً عن أن يأمر وينهى، فكيف تكون المعرفة به داعية إلى فعل ما أمر وترك ما حظر، بل المعرفة بعجزه وخوفه توجب الإقدام على فعل القبائح، لا سيما مع طول الزمان وتوالي الأوقات وقتًا بعد وقت، وهو لم يعاقب أحدًا ولم يثب أحدًا.
بل لو قُدِّر أنه يظهر في كل مائة سنة مرة فيعاقب، لم يكن ما يحصل به من اللطف مثل ما يحصل بآحاد ولاة الأمر، بل ولو قيل: إنه يظهر في كل عشر سنين، بل ولو ظهر في السنة مرة، فإنه لا تكون منفعته كمنفعة ولاة الأمور الظاهرين للناس في كل وقت، بل هؤلاء – مع ذنوبهم وظلمهم في بعض الأمور – شرع الله بهم، وما يفعلونه من العقوبات، وما يبذلونه من الرغبات في الطاعات، أضعاف ما يقام بمن يظهر بعد كل مدة، فضلاً عمَّن هو مفقود، يعلم جمهور العقلاء أنه لا وجود له،والمقرّون به يعلمون أنه عاجز خائف لم يفعل قط ما يفعله آحاد الناس، فضلاً عن ولاة أمرهم.
وأي هيبة لهذا؟ وأي طاعة؟ وأي تصرّف؟ وأي يد منبسطة؟ حتى إذا كان للناس رئيس مهيب مطاع متصرّف منبسط اليد، كانوا أقرب إلى الصلاح بوجوده.
ومن تدبر هذا علم أن هؤلاء القوم في غاية الجهل والمكابرة والسفسطة، حيث جعلوا اللطف به في حال عجزه وغيبته مثل اللطف به في حال ظهوره، وأن المعرفة به مع عجزه وخوفه وفقده لطف، كما لو كان ظاهرًا قادرًا آمناص، وأن مجرد هذه المعرفة لطف، كما أن معرفة الله لطف.
الوجه الثاني: أن يقال: قولكم: لا بد من نصب إمامٍ معصوم يفعل هذه الأمور، أتريدون أنه لا بد أن يخلق الله ويقيم من يكون متصفًا بهذه الصفات؟ أم يجب على الناس أن يبايعوا من يكون كذلك؟(2/396)
فإن أردتم الأول، فالله لم يخلق أحدًا متصفًا بهذه الصفات؛ فإن غاية ما عندكم أن تقولوا: إن عليًّا كان معصومًا لكن الله لم يمكّنه ولم يؤيّده لا بنفسه ولا بجند خلقهم له حتى يفعل ما ذكرتموه.
بل أنتم تقولون: إنه كان عاجزًا مقهورًا مظلومًا في زمن الثلاثة، ولما صار له جند قام له جند آخرون قاتلوه، حتى لم يتمكن أن يفعل ما فعل الذين كانوا قبله، الذين هم عندكم ظلمة.
فيكون الله قد أيد أولئك الذين كانوا قبله، حتى تمكنوا من فعل ما فعلوه من المصالح، ولم يؤيّده حتى يفعل ذلك.
وحينئذٍ فما خلق الله هذا المعصوم المؤيِّد الذي اقترحتموه على الله.
وإن قلتم: إن الناس يجب عليهم أن يبايعوه ويعاونوه.
قلنا: أيضًا فالناس لم يفعلوا ذلك، سواء كانوا مطيعين أو عصاة، وعلى كل تقدير فما حصل لأحد من المعصومين عندكم تأييد، لا من الله ولا من الناس، وهذه المصالح التي ذكرتموها لا تحصل إلا بتأييد، فإذا لم يحصل ذلك لم يحصل ما به تحصل المصالح، بل حصل أسباب ذلك، وذلك لا يفيد المقصود.
الوجه الثالث: أن يقال: إذا كان لم يحصل مجموع ما به تحصل هذه المطالب، بل فات كثير من شروطها، فلم لا يجوز أن يكون الفائت هو العصمة؟ وإذا كان المقصود فائتًا: إما بعدم العصمة، وإما بعجز المعصوم، فلا فرق بين عدمها بهذا أو بهذا، فمن أين يُعلم بدليل العقل أنه يجب على الله أن يخلق إمامًا معصومًا؟
وهو إنما يخلقه ليحصل به مصالح عباده، وقد خلقه عاجزًا لا يقدر على تلك المصالح، بل حصل به من الفساد ما لم يحصل إلا بوجوده، وهذا يتبين بـ:
الوجه الرابع: وهو أنه لو لم يخلق هذا المعصوم، لم يكن يجري في الدنيا من الشر أكثر مما جرى، إذا كان وجوده لم يدفع شيئًا من الشر، حتى يُقال: وجوده دفع كذا، بل وجوده أوجب أن كذَّب به الجمهور، وعادوا شيعته، وظلموه وظلموا أصحابه، وحصل من الشرور التي لا يعلمها إلا الله، بتقدير أن يكون معصومًا.(2/397)
فإنه بتقدير أن لا يكون عليّ رضي الله عنه معصومًا ولا بقية الاثنى عشر ونحوهم، لا يكون ما وقع من تولية الثلاثة وبني أمية وبني العباس فيه من الظلم والشر ما فيه، بتقدير كونهم أئمة معصومين، وبتقدير كونهم معصومين فما أزالوا من الشر إلا ما يزيله من ليس بمعصوم، فصار كونهم معصومين إنما حصل به الشر لا الخير.
فكيف يجوز على الحكيم أن يخلق شيئًا ليحصل به الخير، وهو لم يحصل به إلا الشر لا الخير؟
وإذا قيل: هذا الشر حصل من ظلم الناس له.
قيل: فالحكيم الذي خلقه إذا كان خلقه لدفع ظلمهم، وهو يعلم أنه إذا خلقه زاد ظلمهم، لم يكن خلقه حكمة بل سفهًا، وصار هذا كتسليم إنسانٍ ولدَه إلى من يأمره بإصلاحه، وهو يعلم أنه لا يطيعه بل يفسده، فهل يفعل هذا حكيم؟
الوجه الخامس: إذا كان الإنسان مدنيًا بالطبع، وإنما وجب نصب المعصوم ليزيل الظلم والشر عن أهل المدينة، فهل تقولون: إنه لم يزل في كل مدينة خلقها الله تعالى معصوم يدفع ظلم الناس أم لا؟
فإن قلتم بالأول، كان هذا مكابرة ظاهرة، فهل في بلاد الكفّار من المشركين وأهل الكتاب معصوم؟ وهل كان في الشام عند معاوية معصوم؟
وإن قلتم: بل نقول: هو في كل مدينة واحد،وله نوّاب في سائر المدائن.
قيل: فكل معصوم له نوّاب في جميع مدائن الأرض أم في بعضها؟
فإن قلتم:في الجميع،كان هذا مكابرة. وإن قلتم:في البعض دون البعض.
قيل: فما الفرق إذا كان ما ذكرتموه واجبًا على الله، وجميع المدائن حاجتهم إلى المعصوم واحدة؟
الوجه السادس: أن يُقال: هذا المعصوم يكون وحده معصومًا؟ أو كلٌّ من نوابه معصومًا؟ وهم لا يقولون بالثاني، والقول به مكابرة، فإن نوّاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا معصومين، ولا نوّاب عليّ، بل كان في بعضهم من الشر والمعصية ما لم يكن مثله في نوّاب معاوية لأميرهم، فأين العصمة؟
وإن قلت: يشترط فيه وحده.(2/398)
قيل: فالبلاد الغائبة عن الإمام -لا سيما إذا لم يكن المعصوم قادرًا على قهر نوابه بل هو عاجز- ماذا ينتفعون بعصمة الإمام، وهم يصلّون خلف غير معصوم، ويحكم بينهم غير معصوم، ويطيعون غير معصوم، ويأخذ أموالهم غير معصوم؟
فإن قيل: الأمور ترجع إلى المعصومين.
قيل: لو كان المعصوم قادرًا ذا سلطان، كما كان عمر وعثمان ومعاوية وغيرهم، لم يتمكن أن يوصّل إلى كل من رعيته العدل الواجب الذي يعلمه هو، وغاية ما يقدر عليه أن يولِّي أفضل من يقدر عليه، لكن إذا لم يجد إلا عاجزًا أو ظالمًا، كيف يمكنه تولية قادر عادل؟
فإن قالوا: إذا لم يخلق الله إلا هذا سقط عنه التكليف.
قيل: فإذًا لم يجب على الله أن يخلق قادرًا عادلاً مطلقا، بل أوجب على الإمام أن يفعل ما يقدر عليه، فكذلك الناس عليهم أن يولّوا أصلح من خلقه الله تعالى، وإن كان فيه نقص:إما من قدرته، وإما من عدله.
وقد كان عمر رضي الله عنه يقول: (اللهم إليك أشكو جَلَدَ الفاجر وعجز الثقة)، وما ساس العالم أحدٌ مثل عمر، فكيف الظن بغيره؟
هذا إذا كان المتولّي نفسه قادرًا عادلاً، فكيف إذا كان المعصوم عاجزًا؟ بل كيف إذا كان مفقودًا؟ من الذي يوصل الرعية إليه حتى يخبروه بأحوالهم؟ ومن الذي يُلْزمها بطاعته حتى تطيعه؟ وإذا أظهر بعض نوّابه طاعته حتى يولّيه، ثم أخذ ما شاء من الأموال، وسكن في مدائن الملوك، فأي حيلة للمعصوم فيه؟
فعلم أن المعصوم الواحد لا يحصل به المقصود، إذا كان ذا سلطان، فكيف إذا كان عاجزًا مقهورًا؟ فكيف إذا كان مفقودًا غائبا لا يمكنه مخاطبة أحد؟ فكيف إذا كان معدومًا لا حقيقة له؟(2/399)
الوجه السابع: أن يُقال: صَدُّ غيره عن الظلم وإنصاف المظلوم منه، وإيصال حق غيره إليه فرع على منع ظلمه، واستيفاء حقِّه، فإذا كان عاجزًا مقهورًا لا يمكنه دفع الظلم عن نفسه، ولا استيفاء حقّه من ولايةٍ ومال، ولا حق امرأته من ميراثها، فأي ظلم يَدْفع؟ وأي حق يُوصِّل؟ فكيف إذا كان معدومًا أو خائفًا لا يمكنه أن يظهر في قرية أو مدينة خوفًا من الظالمين أن يقتلوه، وهو دائمًا على هذا الحال أكثر من أربعمائة وستين سنة، والأرض مملوءة من الظلم والفساد، وهو لا يقدر أن يعرّف بنفسه، فكيف يدفع الظلم عن الخلق،أو يُوصِّل الحق إلى المستحق؟ وما أخلق هؤلاء بقوله تعالى: ((أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَاْلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)) [الفرقان:44] !
الوجه الثامن: أن يُقال:حاجة الإنسان إلى تدبير بدنه بنفسه، أعظم من حاجة المدينة إلى رئيسها، وإذا كان الله تعالى لم يخلق نفس الإنسان معصومةً، فكيف يجب عليه أن يخلق رئيسًا معصومًا؟
مع أن الإنسان يمكنه أن يكفر بباطنه، ويعصي بباطنه، وينفرد بأمور كثيرة من الظلم والفساد، والمعصوم لا يعلمها، وإن علمها لا يقدر على إزالتها، فإذا لم يجب هذا فكيف يجب ذاك؟
الوجه التاسع: أن يقال: هل المطلوب من الأئمة أن يكون الصلاح بهم أكثر من الفساد، وأن يكون الإنسان معهم أقرب إلى المصلحة وأبعد عن المفسدة، مما لو عدموا ولم يقم مقامهم؟ أم المقصود بهم وجود صلاحٍ لا فساد معه؟ أم مقدار معين من الصلاح؟(2/400)
فإذا كان الأول، فهذا المقصود حاصل لغالب ولاة الأمور، وقد حصل هذا المقصود على عهد أبي بكر وعمر وعثمان، أعظم مما حصل على عهد عليّ، وهو حاصل بخلفاء بني أمية وبني العباس، أعظم مما هو حاصل بالاثني عشر. وهذا حاصل بملوك الروم والترك والهند، أكثر مما هو حاصل بالمنتظر الملقّب صاحب الزمان، فإنه ما من أمير يتولى ثم يُقدَّر عدمه بلا نظير، إلا كان الفساد في عدمه أعظم من الفساد في وجوده، لكن قد يكون الصلاح في غيره أكثر منه، كما قد قيل: (ستون سنة مع إمام جائر خير من ليلة واحدة بلا إمام).
وإن قيل: بل المطلوب وجود صلاحٍ لا فساد معه.
قيل: فهذا لم يقع، ولم يخلق الله ذلك، ولا خلق أسبابًا توجب ذلك لا محالة، فمن أوجب ذلك، وأوجب ملزوماته على الله، كان إمّا مكابرًا لعقله، وإما ذامًّا لربّه، وخَلْقُ ما يمكن معه وجود ذلك، لا يحصل به ذلك، إن لم يخلق ما يكون به ذلك.
ومثل هذا يقال في أفعال العباد، لكن القول في المعصوم أشد،لأن مصلحته تتوقف على أسباب خارجة عن قدرته، بل عن قدرة الله عند هؤلاء، الذين هم معتزلة رافضة، فإيجاب ذلك على الله أفسد من إيجاب خلق مصلحة كل عبد له.
الوجه العاشر: أن يقال: قوله: (لو لم يكن الإمام معصومًا لافتقر إلى إمام آخر، لأن العلة المحوجة إلى إمام هي جواز الخطأ على الأمة، فلو جاز الخطأ عليه لاحتاج إلى إمام آخر).
فيقال له: لم لا يجوز أن يكون إذا أخطأ الإمام كان في الأمة من ينبهه على الخطأ، بحيث لا يحصل اتفاق المجموع على الخطأ، لكن إذا أخطأ بعض الأمة، نبهه الإمام أو نائبه أو غيره، وإن أخطأ الإمام أو نائبه نبهه آخر كذلك، وتكون العصمة ثابتة للمجموع، لا لكل واحد من الأفراد، كما يقوله أهل الجماعة؟(2/401)
وهذا كما أن كل واحد من أهل خبر التواتر يجوز عليه الخطأ، وربما جاز عليه تعمد الكذب، لكن المجموع لا يجوز عليهم ذلك في العادة، وكذلك الناظرون إلى الهلال أو غيره من الأشياء الدقيقة، قد يجوز الغلط على الواحد منهم، ولا يجوز على العدد الكثير.
وكذلك الناظرون في الحساب والهندسة، ويجوز على الواحد منهم الغلط في مسألة أو مسألتين، فأما إذا كثر أهل المعرفة بذلك، امتنع في العادة غلطهم.
ومن المعلوم أن ثبوت العصمة لقوم اتفقت كلمتهم، أقرب إلى العقل والوجود من ثبوتها لواحدٍ، فإن كانت العصمة لا تمكن للعدد الكثير، في حال اجتماعهم على الشيء المعيّن، فأن لا تمكن للواحد أَولى، وإن أمكنت للواحد مفردًا، فلإن تمكن له ولأمثاله مجتمعين بطريق الأَوْلى والأحرى.
فعُلم أن إثبات العصمة للمجموع أَوْلى من إثباتها للواحد، وبهذه العصمة يَحْصُل المقصود المطلوب من عصمة الإمام، فلا تتعين عصمة الإمام.
ومن جهل الرافضة إنهم يوجبون عصمة واحد من المسلمين، ويجوّزون على مجموع المسلمين الخطأ إذا لم يكن فيهم واحد معصوم، والمعقول الصريح يشهد أن العلماء الكثيرين، مع اختلاف اجتهاداتهم، إذا اتفقوا على قولٍ كان أولى بالصواب من واحد، وأنه إذا أمكن حصول العلم بخبرٍ واحد، فحصوله بالأخبار المتواترة أَوْلى.
ومما يبيّن ذلك أن الإمام شريك الناس في المصالح العامة، إذ كان هو وحده لا يقدر أن يفعلها، إلا أن يشترك هو وهم فيها، فلا يمكنه أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق، ولا يوفّيها، ولا يجاهد عدوًا إلا أن يعينوه، بل لا يمكنه أن يصلّي بهم جمعة ولا جماعة إن لم يصلّوا معه، ولا يمكن أن يفعلوا ما يأمرهم به إلا بقواهم وإرادتهم، فإذا كانوا مشاركين له في الفعل والقدرة، لا ينفرد عنهم بذلك، فكذلك العلم والرأي لا يجب أن ينفرد به بل يشاركهم فيه، فيعاونهم ويعاونونه، وكما أن قدرته تعجز إلا بمعاونتهم، فكذلك علمه يعجز إلا بمعاونتهم.(2/402)
الوجه الحادي عشر: أن يُقال: العلم الديني الذي يحتاج إليه الأئمة والأمة نوعان: علم كلّي: كإيجاب الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، والزكاة، والحج، وتحريم الزنا والسرقة والخمر ونحو ذلك، وعلم جزئي: كوجوب الزكاة على هذا، ووجوب إقامة الحد على هذا، ونحو ذلك.
فأما الأول، فالشريعة مستقلة به، لا تحتاج فيه إلى الإمام، فإن النبي إما أن يكون قد نصّ على كليات الشريعة التي لا بد منها، أو ترك منها ما يحتاج إلى القياس، فإن كان الأول ثبت المقصود، وإن كان الثاني، فذلك القدر يحصل بالقياس.
وإن قيل: بل ترك فيها ما لا يُعلم بنصّه ولا بالقياس، بل بمجرد قول المعصوم، كان هذا المعصوم شريكًا في النبوّة لم يكن نائبًا؛ فإنه إذا كان يُوجب ويحرّم من غير إسناد إلى نصوص النبي، كان مستقلاً، لم يكن متّبعا له، وهذا لا يكون إلا نبيًّا، فأما من لا يكون إلا خليفة لنبيّ، فلا يستقل دونه.
وأيضًا: فالقياس إن كان حجةً جاز إحالة الناس عليه، وإن لم يكن حجةً وجب أن ينصّ النبي على الكليّات.
وأيضًا: فقد قال تعالى: ((اليَوْمَ أَكْملْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ اْلإِسْلاَمَ دِينًا)) [المائدة:3].
وهذا نصٌ في أن الدين كامل لا يحتاج معه إلى غيره.
وأما الجزئيات فهذه لا يمكن النصّ على أعيانها، بل لا بد فيها من الاجتهاد المسمّى بتحقيق المناط، كما أن الشارع لا يمكن أن ينصَّ لكل مصلٍّ على جهة القبلة في حقِّه، ولكل حاكم على عدالة كل شاهد، وأمثال ذلك.
وإذا كان كذلك، فإن ادّعوا عصمة الإمام في الجزئيات، فهذه مكابرة، ولا يدَّعيها أحد، فإن عليًّا رضي الله عنه كان يولِّي من تبين له خيانته وعجزه وغير ذلك، وقد قطع رجلا بشهادة شاهدين، ثم قالا: أخطأنا. فقال: لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما.(2/403)
وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين عنه أنه قال: (إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار) (1).
الوجه الثاني عشر: أن يُقال: العصمة الثابتة للإمام: أهي فعل للطاعات باختياره وتركه للمعاصي باختياره، مع أن الله تعالى عندكم لا يخلق اختياره؟ أم هي خلق الإرادة له؟ أم سلبه القدرة على المعصية؟
فإن قلتم بالأول وعندكم أن الله لا يخلق اختيار الفاعلين، لزمكم أن الله لا يقدر على خلق معصوم.
وإن قلتم بالثاني بطل أصلكم الذي ذهبتم إليه في القدرة.
وإن قلتم: سَلْبُ القدرة على المعصية، كان المعصوم عندكم هو العاجز عن الذنب، كما يعجز الأعمى عن نقط المصاحف، والمُقعد عن المشي.
والعاجز عن الشيء لا يُنهى عنه ولا يؤمر به، وإذا لم يُؤمر وُينه لم يستحق ثوابًا على الطاعة، فيكون المعصوم عندكم لا ثواب له على ترك معصية، بل ولا على فعل طاعة، وهذا غاية النقص.
وحينئذٍ فأيّ مسلم فُرض كان خيرًا من هذا المعصوم، إذا أذنب ثم تاب، لأنه بالتوبة محيت سيئاته، بل بُدِّل بكل سيئة حسنة مع حسناته المتقدمة، فكان ثواب المكلَّفين خيرًا من المعصوم عند هؤلاء، وهذا يناقض قولهم غاية المناقضة.
وأما المقدمة الثانية: فلو قدر أنه لابد من معصوم، فقولهم ليس بمعصومٍ غير عليٍّ اتفاقًا ممنوع، بل كثير من الناس من عبَّادهم وصوفيتهم وجندهم وعامتهم يعتقدون في كثير من شيوخهم من العصمة، من جنس ما تعتقده الرافضة في الاثني عشر، وربما عبَّروا عن ذلك بقولهم: (الشيخ محفوظ).
وإذا كانوا يعتقدون هذا في شيوخهم، مع اعتقادهم أن الصحابة أفضل منهم، فاعتقادهم ذلك في الخلفاء من الصحابة أَوْلى.
وكثير من الناس فيهم من الغلو في شيوخهم من جنس ما في الشيعة من الغلو في الأئمة.
__________
(1) انظر: البخاري (3/180)، (9/25)، ومسلم (3/1337-1338).(2/404)
وأيضًا: فالإسماعيلية يعتقدون عصمة أئمتهم، وهم غير الاثني عشر.
وأيضًا: فكثير من أتباع بني أمية – أو كثرهم – كانوا يعتقدون أن الإمام لا حساب عليه ولا عذاب، وأن الله لا يؤاخذهم على ما يطيعون فيه الإمام، بل تجب عليهم طاعة الإمام في كل شيء، والله أمرهم بذلك، وكلامهم في ذلك معروف كثير.
وقد أراد يزيد بن عبد الملك أن يسير بسيرة عمر بن عبد العزير، فجاء إليه جماعة من شيوخهم، فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو، أنه إذا ولَّى اللّهُ على الناس إمامًا تقبل اللََََََََّهُ منه الحسنات وتجاوز عنه السيئات.
ولهذا تجد في كلام كثير من كبارهم الأمر بطاعة وليّ الأمر مطلقًا، وأن من أطاعه فقد أطاع الله، ولهذا كان يُضرب بهم المثل، يقال: (طاعة شاميّة).
وحينئذٍ فهؤلاء يقولون: إن إمامهم لا يأمرهم إلا بما أمرهم الله به، وليس فيهم شيعة، بل كثير منهم يبغض عليًّا ويسبُّه.
ومن كان اعتقاده أن كل ما يأمر الإمام به فإنه مما أمر الله به، وأنه تجب طاعته، وأن الله يثيبه على ذلك، ويعاقبه على تركه، لم يحتج مع ذلك إلى معصوم غير إمامه.
وحينئذٍ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن يُقال: كلٌّ من هذه الطوائف إذا قيل لها: إنه لا بد لها من إمام معصومٍ، تقول: يكفيني عصمة الإمام الذي ائتممت به، لا أحتاج إلى عصمة الاثني عشر: لا عليّ ولا غيره، ويقول هذا: شيخي وقدوتي، وهذا يقول: إمامي الأموي والإسماعيلي، بل كثير من الناس يعتقدون أن من يطيع الملوك لا ذنب له في ذلك، كائنًا من كان، ويتأوَّلون قوله: ((أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي اْلأَمْرِ مِنْكُمْ)) [النساء:59] .
فإن قيل: هؤلاء لا يعتدّ بخلافهم.
قيل: هؤلاء خيرٌ من الرافضة والإسماعيلية.
وأيضًا: فإن أئمة هؤلاء وشيوخهم خير من معدوم لا يُنتفع به بحال، فهم بكل حال خير من الرافضة.
وأيضًا: فبطلت حجة الرافضة بقولهم:لم تدّع العصمة إلا في عليّ وأهل بيته.(2/405)
فإن قيل:لم يكن في الصحابة من يدّعي العصمة لأبي بكر وعمر وعثمان.
قيل: إن لم يكن فيهم من يدّعي العصمة لعليّ بطل قولكم، وإن كان فيهم من يدّعي العصمة لعليّ، لم يمتنع أن يكون فيهم من يدعي العصمة للثلاثة، بل دعوى العصمة لهؤلاء أَوْلى، فإنّا نعلم يقينًا أن جمهور الصحابة كانوا يفضّلون أبا بكر وعمر، بل عليّ نفسه كان يفضلهما عليه، كما تواتر عنه، وحينئذٍ فدعواهم عصمة هذين أولى من دعوى عصمة عليّ.
فإن قيل: فهذا لم يُنقل عنهم.
قيل لهم: ولا نُقل عن واحدٍ منهم القول بعصمة عليّ، ونحن لا نثبت عصمة لا هذا ولا هذا، لكن نقول: ما يمكن أحدًا أن ينفي نقل قول أحدٍ منهم بعصمة أحد الثلاثة، مع دعواهم أنهم كانوا يقولون بعصمة علي، فهذا الفرق لا يمكن أحدا أن يدّعيه، ولا ينقله عن واحد منهم، وحينئذٍ فلا يُعلم زمان ادّعي فيه العصمة لعليّ أو لأحدٍ من الاثني عشر، ولم يكن من ذلك الزمان من يدّعي عصمة غيرهم، فبطل أن يحتج بانتفاء عصمة الثلاثة ووقوع النزاع في عصمة عليّ.
الوجه الثالث عشر: أن يقال: إما أن يجب وجود المعصوم في كل زمان، وإما أن لا يجب، فإن لم يجب بطل قولهم، وإن وجب لم نسلّم على هذا التقدير أن عليًّا كان هو المعصوم دون الثلاثة، بل إذا كان هذا القول حقًّا، لزم أن يكون أبو بكر وعمر وعثمان معصومين، فإن أهل السنّة متفقون على تفضيل أبي بكر وعمر، وأنهما أحق بالعصمة من عليّ، فإن كانت العصمة ممكنة، فهي إليهما أقرب، وإن كانت ممتنعة، فهي عنه أبعد.
وليس أحد من أهل السنّة يقول بجواز عصمة عليّ دون أبي بكر وعمر، وهم لا يسلّمون انتفاء العصمة عن الثلاثة، إلا مع انتفائها عن عليّ، فأما انتفاؤها عن الثلاثة دون عليّ، فهذا ليس قول أحدٍ من أهل السنة.
وإذا قال: أنتم تعتقدون انتفاء العصمة عن الثلاثة.(2/406)
قلنا: نعتقد انتفاء العصمة عن عليّ، ونعتقد أن انتفاءها عنه أَوْلى من انتفائها عن غيره، وأنهم أحق بها منه إن كانت ممكنة، فلا يمكن مع هذا أن يحتج علينا بقولنا.
وأيضًا: فنحن إنما نسلّم انتفاء العصمة عن الثلاثة، لاعتقادنا أن الله لم يخلق إمامًا معصومًا، فإن قُدِّر أن الله خلق إمامًا معصومًا فلا يُشك أنهم أحق بالعصمة من كل من جاء بعدهم، ونفينا لعصمتهم لاعتقادنا هذا التقدير.
وهنا جواب ثالث عن أصل الحجة،وهو أن يُقال: من أين علمتم أن عليًّا معصوم، ومن سواه ليس بمعصوم. فإن قالوا بالإجماع على ثبوت عصمة عليّ وانتفاء عصمة غيره كما ذكروه من حجتهم.
قيل لهم: إن لم يكن الإجماع حجة بطلت هذه الحجة، وإن كان حجة في إثبات عصمة عليّ – التي هي الأصل – أمكن أن يكون حجة في المقصود بعصمة من حفظ الشرع ونقله، ولكن هؤلاء يحتجّون بالإجماع، ويردّون كون الإجماع حجة، فمن أين علموا أن عليًّا هو المعصوم دون من سواه؟
فإن ادّعوا التواتر عندهم عن النبي في عصمته، كان القول في ذلك كالقول في تواتر النص على إمامته، وحينئذٍ فلا يكون لهم مستند آخر.
الجواب الرابع: أن يُقال: الإجماع عندهم ليس بحجة، إلا أن يكون قول المعصوم فيه، فإن لم يعرفوا ثبوت المعصوم إلا به لزم الدور، فإنه لا يُعرف أنه معصوم إلا بقوله، ولا يُعرف أن قوله حجة إلا إذا عُرف أنه معصوم، فلا يثبت واحد منهما.
فعُلم بطلان حجتهم على إثبات المعصوم، وهذا يبين أن القوم ليس لهم مستند علمي أصلاً فيما يقولون.
فإذا قيل لهم: بم عرفتم أنه معصوم، وأن من سواه ليسوا معصومين؟
قالوا: بأنه قال: أنا معصوم، ومن سواي ليس بمعصوم، وهذا مما يمكن كل أحد أن يقوله، فلا يكون حجة.
فإذا قدِّر أن الحاجة إلى المعصوم ثابتة، فالكلام في تعيّنه، فإذا طُولب الإسماعيلي بتعيين معصومه، وما الدليل على أن هذا هو المعصوم دون غيره، لم يأت بحجة أصلاً، وتناقضت أقواله.(2/407)
وكذلك الرافضي أخذ من القدرية كلامهم في وجوب رعاية الأصلح، وبنى عليه أنه لا بد من معصوم، وهي أقوال فاسدة، ولكن إذا طُولب بتعيينه، لم يكن له حجة أصلاً، إلا مجرد قول من لم تثبت بعد عصمته: إني معصوم.
فإن قيل: إذا ثبت بالعقل أنه لا بد من معصوم، فإذا قال عليّ: إني معصوم، لزم أن يكون هو المعصوم، لأنه لم يدّع هذا غيره.
قيل لهم: لو قُدِّر ثبوت معصوم في الوجود، لم يكن مجرد قول شخص: أنا معصوم مقبولاً؛ لإمكان كون غيره هو المعصوم، وإن لم نعلم نحن دعواه، وإن لم يُظهر دعواه، بل يجوز أن يسكت عن دعوى العصمة وإظهارها على أصلهم، كما جاز للمنتظر أن يخفي نفسه خوفًا من الظَّلَمَة.
ومع هذا كله بتقدير دعوى عليّ العصمة، فإنما يُقبل هذا لو كان عليّ قال ذلك، وحاشاه من ذلك.
وهذا جواب خامس: وهو أنه إذا لم تكن الحجة على العصمة إلا قول المعصوم: إني معصوم، فنحن راضون بقول عليٍّ في هذه المسألة، فلا يمكن أحد أن يَنْقلَ عنه بإسناد ثابت أنه قال ذلك، بل النقول المتواترة عنه تنفي اعتقاده في نفسه العصمة.
وهذا جواب سادس: فإن إقراره لقضاته على أن يحكموا بخلاف رأيه، دليل على أنه لم يعدّ نفسه معصومًا.
(فصل)
قال الرافضي: (الوجه الثاني: أن الإمام يجب أن يكون منصوصًا عليه، لما بيَّنَّا من بطلان الاختيار، وأنه ليس بعض المختارين لبعض الأمة أَوْلى من البعض المختار الآخر، ولأدائه إلى التنازع والتشاجر، فيؤدّي نصب الإمام إلى أعظم أنواع الفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبنا نصبه، وغير عليٍّ من أئمتهم لم يكن منصوصًا عليه بالإجماع فتعيّن أن يكون هو الإمام).
والجواب: عن هذا بمنع المقدمتين أيضًا، لكن النزاع هنا في الثانية أظهر وأَبْيَن، فإنه قد ذهب طوائف كثيرة من السلف والخلف، من أهل الحديث والفقه والكلام، إلى النصّ على أبي بكر، وذهبت طائفة من الرافضة إلى النصّ على العباس.(2/408)
وحينئذٍ فقوله: (غير عليّ من أئمتهم لم يكن منصوصًا عليه بالإجماع) كذب متيقن؛ فإنه لا إجماع على نفي النصّ عن غير عليّ، وهذا الرافضي المصنِّف وإن كان من أفضل بني جنسه، ومن المبرّزين على طائفته، فلا ريب أن الطائفة كلها جُهَّال، وإلا فمن له معرفة بمقالات الناس كيف يدَّعي مثل هذا الإجماع؟!
ونجيب هنا بجواب ثالث مركَّب، وهو أن نقول: لا يخلو إما أن يُعتبر النص في الإمامة وإما أن لا يُعتبر؛ فإن اعتُبر منعنا المقدمة الثانية، إن قلنا: إن النص ثابت لأبي بكر، وإن لم يُعتبر بطلت المقدمة الأولى.
وهنا جواب رابع: وهو أن نقول: الإجماع عندكم ليس بحجة، وإنما الحجة قول المعصوم، فيعود الأمر إلى إثبات النصّ بقول الذي يُدَّعى له العصمة، ولم يثبت بعد لا نص ولا عصمة، بل يكون قول القائل: (لم يُعرف صحة قوله: أنا المعصوم، وأنا المنصوص على إمامتي) حجة، وهذا من أبلغ الجهل، وهذه الحجة من جنس التي قبلها.
وجواب خامس: وهو أن يُقال: ما تعني بقولك: (يجب أن يكون منصوصًا عليه)؟. لأنه لا بد من أن يقول: هذا هو الخليفة من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا، فيكون الخليفة بمجرد هذا النص أم لا يصير هذا إمامًا حتى تُعقد له الإمامة مع ذلك؟
فإن قلت بالأول. قيل: لا نسلّم وجوب النص بهذا الاعتبار، والزيدية مع الجماعة تنكر هذا النص، وهم من الشيعة الذين لا يُتَّهَمون عَلَى عليٍّ.
وأما قوله: (إنه إذا لم يكن كذلك أدّى إلى التنازع والتشاجر).
فيقال: النصوص التي تدل على استحقاقه الإمامة وتُعلم دلالتها بالنظر والاستدلال، يحصل بها المقصود في الأحكام، فليست كل الأحكام منصوصة نصًا جليًا يستوي في فهمه العام والخاص، فإذا كانت الأمور الكلية التي تجب معرفتها في كل زمان يُكتفى فيها بهذا النص، فَلأَن يكتفى بذلك في القضية الجزئية، وهو تولية إمام معيّن، بطريق الأَوْلى والأحرى، فإنّا قد بينا أن الكليات يمكن نصّ الأنبياء عليها، بخلاف الجزئيات.(2/409)
وأيضًا: فيه إذا كانت الأدلة ظاهرة في أن بعض الجماعة أحق بها من غيره استغنى بذلك عن استخلافه.
والدلائل الدالّة على أن أبا بكر كان أحقهم بالإمامة ظاهرة بيّنة، لم ينازع فيها أحد من الصحابة، ومن نازع من الأنصار لم ينازع في أن أبا بكر أفضل المهاجرين، وإنما طلب أن يُولَّى واحدٌ من الأنصار مع واحدٍ من المهاجرين.
فإن قيل: إن كان لهم هوًى مُنعوا ذلك بدلالة النصوص.
قيل: وإذا كان لهم هوىً عصوا تلك النصوص وأعرضوا عنها، كما ادعيتم أنتم عليهم، فمع قصدهم القصد الحق يحصل المقصود بهذا وبهذا، ومع العناد لا ينفع هذا لا هذا.
وجواب سادس: أن يقال: النص على الأحكام على وجهين: نص كلي عام يتناول أعيانها، ونص على الجزئيات.
فإذا قلتم: لا بد من النصّ على الإمام، إن أردتم النصّ على العام الكلي: عَلَى ما يشترط للإمام،وما يجب عليه، وما يجب له، كالنص على الحكّام والمفتين والشهود وأئمة الصلاة والمؤذنين وأمراء الجهاد، وغير هؤلاء ممن يتقلّد شيئًا من أمور المسلمين – فهذه النصوص ثابتة – ولله الحمد – كثيرة، كما هي ثابتة على سائر الأحكام.
وجواب سابع: وهو أن يقال: أنتم أوجبتم النص، لئلا يفضي إلى التشاجر، المفضي إلى أعظم أنواع الفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبتم نصبه.
فيقال: الأمر بالعكس، فإن أبا بكر رضي الله عنه تولّى بدون هذا الفساد، وعمر وعثمان توليا بدون هذا الفساد، فإنما عَظُم هذا الفساد في الإمام الذي ادّعيتم أنه منصوص عليه دون غيره، فوقع في ولايته من أنواع التشاجر والفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبتم نصبه، فكان ما جعلتموه وسيلة إنما حصل معه نقيض المقصود، وحصل المقصود بدون وسيلتكم، فبطل كون ما ذكرتموه وسيلة إلى المقصود.
وهذا لأنهم أوجبوا على الله ما لا يجب عليه،وأخبروا بما لم يكن، فلزم من كذبهم وجهلهم هذا التناقض.
وجواب ثامن: وهو أن يقال: النصّ الذي يزيل هذا الفساد يكون على وجوه:(2/410)
أحدها: أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بولاية الشخص ويثني عليه في ولايته، فحينئذ تعلم الأمة أن هذا إن تولّى كان محمودًا مرضيًا، فيرتفع النزاع، وإن لم يقل: وَلُّوه.
وهذا النص وقع لأبي بكر وعمر.
الثاني: أن يخبر بأمور تستلزم صلاح الولاة، وهذه النصوص وقعت في خلافة أبي بكر وعمر.
الثالث: أن يأمر من يأيه أن يأتي بعد موته شخصًا يقوم مقامه، فيدل على أنه خليفة من بعده، وهذا وقع لأبي بكر.
الرابع: أن يريد كتابة كتاب، ثم يقول: إن الله والمؤمنين لا يولُّون إلا فلانًا، وهذا وقع لأبي بكر.
الخامس: أن يأمر بالاقتداء بعده بشخص، فيكون هو الخليفة بعده.
السادس: أن يأمر باتّباع سنّة خلفائه الراشدين المهديين، ويجعل خلافتهم إلى مدة معينة، فيدل على أن المتولين في تلك المدة هم الخلفاء الراشدون.
السابع: أن يخص بعض الأشخاص بأمر يقضي أنه هو المقدَّم عنده في الاستخلاف، وهذا موجود لأبي بكر.
كما في الصحيحين أنه قال لعائشة: (ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف عليه الناس من بعدي)، ثم قال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)(1).
فعلم أن الله لا يولّي إلا أبا بكر، والمؤمنون لا يبايعون إلا أبا بكر، وكذلك سائر الأحاديث الصحيحة تدلّ على أنه علم ذلك، وإنما كان ترك الأمر مع علمه أفضل، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الأمة إذا ولّته طوعًا منها بغير إلزام - وكان هو الذي يرضاه الله ورسوله - كان أفضل للأمة، ودلّ على علمها ودينها.
(فصل)
قال الرافضي: (الثالث: إن الإمام يجب أن يكون حافظًا للشرع، لانقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم، وقصور الكتاب والسنة عن تفاصيل الأحكام الجزئية الواقعة إلى يوم القيامة، فلا بد من إمام منصوب من الله تعالى، معصوم من الزلل والخطأ، لئلا يترك بعض الأحكام، أو يزيد فيها عمدًا أو سهوًا. وغير عليّ لم يكن كذلك بالإجماع).
__________
(1) تقدم تخريجه.(2/411)
والجواب من وجوه: أحدها: أنّا لا نسلم أنه يجب أن يكون حافظًا للشرع، بل يجب أن تكون الأمة حافظة للشرع، وحفظ الشرع يحصل بمجموع الأمة كما يحصل بالواحد، بل الشرع إذا نقله أهل التواتر كان خيرًا من أن ينقله واحد منهم. وإذا كان كل طائفة تقوم بهم الحجة تنقل بعضه، حصل المقصود، وعصمة أهل التواتر حصل في نقلهم أعظم عند بني آدم كلهم من عصمة من ليس بنبي، فإن أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا -ولو قيل: إنهم معصومون- فما نقله المهاجرون والأنصار أبلغ مما نقله هؤلاء.
وأيضًا: فإن كان أكثر الناس يطعنون في عصمة الناقل لم يحصل المقصود، فكيف إذا كان كثير من الأمة يكفّره؟
والتواتر يحصل بأخبار المخبرين الكثيرين وإن لم تعلم عدالتهم.
الوجه الثاني: أن يقال: أتريد به من يكون حافظًا للشرع وإن لم يكن معصومًا؟ أو من يكون معصومًا؟ فإن اشترطت العصمة فهذا هو الوجه الأول، وقد كررته، وتقدم الجواب عليه، وإن اشترطت مجرد الحفظ، فلا نسلم أن عليًّا كان أحفظ للكتاب والسنة، وأعلم بهما من أبي بكر وعمر، بل هما كانا أعلم بالكتاب والسنة منه، فبطل ما ادّعاه من الإجماع.
الوجه الثالث: أن يقال: أتعني بكونه حافظًا للشرع معصومًا أنه لا يُعلم صحة شيء من الشرع إلا بنقله؟ أم يمكن أن يُعلم صحة شيء من الشرع بدون نقله؟
إن قلت بالثاني لم يحتج لا إلى حفظه ولا إلى عصمته، فإنه إذا أمكن حفظ شيء من الشرع بدونه، أمكن حفظ الآخر، حتى يُحفظ الشرع كله من غير حاجة إليه.
وإن قلت: بل معناه أنه لا يمكن معرفة شيء من الشرع إلا بحفظه.
فيقال: حينئذٍ لا تقوم حجة على أهل الأرض إلا بنقله، ولا يُعلم صحة نقله حتى يُعلم أنه معصوم، ولا يُعلم أنه معصوم إلا بالإجماع على نفي عصمة من سواه، فإن كان الإجماع معصومًا أمكن حفظ الشرع به، وإن لم يكن معصومًا لم تُعلم عصمته.(2/412)
الوجه الرابع: أن يُقال: لماذا لا يجوز أن تكون العصمة في الحفظ والبلاغ ثابتة لكل طائفة بحسب ما حملته من الشرع، فالقرَّاء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه، والمحدثون معصومون في حفظ الحديث وتبليغه والفقهاء معصومون في فهم الكلام والاستدلال على الأحكام.
وهذا هو الواقع المعلوم الذي أغنى الله به عن واحد معدوم.
الوجه الخامس: أنه إذا كان لا يحفظ الشرع ويبلّغه إلا واحدٌ بعد واحد، معصوم عن معصوم،وهذا المنتظر له أكثر من أربعمائة وستين سنة لم يأخذ عنه أحدٌ شيئًا من الشرع، فمن أين علمتم القرآن من أكثر من أربعمائة سنة؟ ولم لا يجوز أن يكون هذا القرآن الذي تقرءونه ليس فيه شيء من كلام الله؟
وكذلك من أين لكم العلم بشيء من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه، وأنتم لم تسمعوا شيئًا من ذلك من معصوم، لأن المعصوم إما مفقود وإما معدوم؟
فإن قالوا: تواتر ذلك عند أصحابنا بنقلهم عن الأئمة المعصومين.
قيل: فإذا كان تواتر أصحابكم عن الأئمة يوجب حفظ الشرع ونقله، فلماذا لا يجوز أن يكون تواتر الأمة كلها عن نبيها أَوْلى بحفظ الشرع ونقله، من غير احتياج إلى نقل واحد عن واحد؟
الوجه السادس: أن يقال: قولك: (لانقطاع الوحي وقصور النصوص عن تفاصيل الأحكام) أتريد به قصورها عن بيان جزئي جزئى بعينه؟ أو قصورها عن البيان الكليّ المتناول للجزئيات؟
فإن ادّعيت الأول، قيل لك: وكلام الإمام وكل أحد بهذه المنزلة، فإن الأمير إذا خاطب الناس فلا بد أن يخاطبهم بكلام عام يعمّ الأعيان والأفعال وغير ذلك، فإنه من الممتنع أن يعيّن بخطابه كل فعل من كل فاعل في كل وقت، فإن هذا غير ممكن، فإذًا لا يمكنه إلا الخطاب العام الكليّ، والخطاب العام الكلي ممكن من الرسول.
وإن ادّعيت أن نفس نصوص الرسول ليست عامة كلية.(2/413)
قيل لك: هذا ممنوع، وبتقدير أن يُمنع هذا في نصوص الرسول الذي هو أكمل من الإمام، فمنع ذلك من نصوص الإمام أَوْلى وأحرى، فأنت مضطر في خطاب الإمام إلى أحد أمرين: إما ثبوت عموم الألفاظ، وإما ثبوت عموم المعاني بالاعتبار، وأيّهما كان أمكن إثباته في خطاب الرسول، فلا يحتاج في بيانه الأحكام إلى الإِمام.
الوجه السابع: أن يُقال: وقد قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)) [إبراهيم:4] ، وقال تعالى: ((لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل)) [النساء:165] ، وقال تعالى: ((وَمَا عَلَى الرَّسُول إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبينَ)) [النور:54] . وأمثال ذلك.
فيقال: وهل قامت الحجة على الخلق ببيان الرسول أم لا؟
فإن لم تقم بطلت هذه الآيات وما كان في معناها، وإن قامت الحجة ببيان الرسول عُلم أنه لا يحتاج إلى معيّن آخر يفتقر الناس إلى بيانه، فضلاً عن حفظ تبليغه، وأن ما جعل الله في الإنسان من القوة الناقلة لكلام الرسول وبيانه كافية من ذلك، لا سيما وقد ضمن الله حفظ ما أنزله من الذكر، فصار ذلك مأمونًا أن يبدَّل أو يغيَّر.
وبالجملة دعوى هؤلاء المخذولين أن دين الإسلام لا يُحفظ ولا يُفهم إلا بواحدٍ معيّن، من أعظم الإفساد لأصول الدين، وهذا لا يقوله -وهو يعلم لوازمه- إلا زنديق ملحد، قاصد لإبطال الدين، ولا يُروج هذا إلا على مفرط في الجهل والضلال.
الوجه الثامن: أن يُقال: قد عُلم بالاضطرار أن أكثر المسلمين بلغهم القرآن والسنة بدون نقل عليّ، فإن عمر رضي الله عنه لما فتح الأمصار بعث إلى الشام والعراق من علماء الصحابة من علَّمهم وفقههم، واتصل العلم من أولئك إلى سائر المسلمين، ولم يكن ما بلّغه عليّ للمسلمين أعظم مما بلّغه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وأمثالهما.(2/414)
وهذا أمر معلوم، ولو لم يُحفظ الدين إلا بالنقل عن عليّ لبطل عامة الدين؛ فإنه لا يمكن أن يُنقل عن عليّ إلا أمر قليل لا يحصل به المقصود والنقل عنه ليس متواترًا، وليس في زماننا معصوم يمكن الرجوع إليه، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وما أسخف عقول الرافضة!
(فصل)
قال الرافضي: (الرابع: أن الله تعالى قادر على نصب إمام معصوم، وحاجة العالم داعية إليه، ولا مفسدة فيه، فيجب نصبه، وغير عليّ لم يكن كذلك إجماعًا، فتعيّن أن يكون الإمام هو عليّ، أما القدرة فظاهرة، وأما الحاجة فظاهرة أيضًا لما بّيّنا من وقوع التنازع بين العالم، وأما انتفاء المفسدة فظاهر، لأن المفسدة لازمة لعدمه، وأما وجوب نصبه، فلأن ثبوت القدرة والداعي وانتفاء الصارف يجب الفعل).
والجواب: أن هذا هو الوجه الأول بعينه ولكن قرّره، وقد تقدمت الأجوبة عنه بمنع المقدمة الأولى وبيان فساد هذا الاستدلال، فإن مبناه على الاحتجاج بالإجماع، فإن كان الإجماع معصومًا أغنى عن عصمة عليّ، وإن لم يكن معصومًا بطلت دلالته على عصمة عليّ، فبطل الدليل على التقديرين.
ومن العجب أن الرافضة تثبت أصولها على ما تدَّعيه من النص والإجماع، وهم أبعد الأمة عن معرفة النصوص والإجماعات، والاستدلال بها، بخلاف السنّة والجماعة؛ فإن السنّة تتضمن النص، والجماعة تتضمن الإجماع، فأهل السنّة والجماعة هم المتّبعون للنص والإجماع.
ونحن نتكلم على هذا التقدير ببيان فساده، وذلك من وجوه:
أحدها: أن يقال: لا نسلم أن الحاجة داعية إلى نصب إمام معصوم، وذلك لأن عصمة الأمة مغنية عن عصمته، وهذا مما ذكره العلماء في حكمة عصمة الأمة.
الثاني: إن أُريد بالحاجة أن حالهم مع وجوده أكمل، فلا ريب أن حالهم مع عصمة نوّاب الإمام أكمل، وحالهم مع عصمة أنفسهم أكمل. وليس كل ما تقدّره الناس أكمل لكل منهم يفعله الله، ولا يجب عليه فعله.(2/415)
وأيضًا فجعل غير النبي مماثلاً للنبي في ذلك، قد يكون من أعظم الشُّبَهْ والقدح في خاصة النبي، فإنه إذا وجب أن يؤمن بجميع ما يقوله هذا، كما يجب الإيمان بجميع ما يقوله النبي، لم تظهر خاصة النبوة، فإن الله أمرنا أن نؤمن بجميع ما أتى به النبيون، فلو كان لنا من يساويهم في العصمة، لوجب الإيمان بجميع ما يقوله، فيبطل الفرق.
الوجه الثالث: أن يقال: المعصوم الذي تدعو الحاجة إليه: أهو القادر على تحصيل المصالح وإزالة المفاسد؟ أم هوعاجز عن ذلك؟ الثاني ممنوع؛ فإن العاجز لا يحصل به وجود المصلحة ولا دفع المفسدة، بل القدرة شرط في ذلك، فإن العصمة تفيد وجود داعية إلى الصلاح،لكن حصول الداعي بدون القدرة لا يوجب حصول المطلوب.
وإن قيل: بل المعصوم القادر.
قيل: فهذا لم يوجد، وإن كان هؤلاء الاثنا عشر قادرين على ذلك ولم يفعلوه، لزم أن يكونوا عصاة لا معصومين، وإن لم يقدروا لزم أن يكونوا عاجزين، فأحد الأمرين لازم قطعًا أو كلاهما: العجز وانتفاء العصمة، وإذا كان كذلك، فنحن نعلم بالضرورة انتفاء ما استدل به على وجوده، والضروريات لا تعارض بالاستدلال.
ففي الجملة لا مصلحة في وجود معصوم بعد الرسول إلا وهي حاصلة بدونه وفيه من الفساد ما لا يزول إلا بعدمه، فقولهم: (الحاجة داعية إليه) ممنوع، وقولهم: (المفسدة فيه معدومة) ممنوع.
بل الأمر بالعكس؛ فالمفسدة معه موجودة، والمصلحة معه منتفية، وإذا كان اعتقاد وجوده قد أوجب من الفساد ما أوجب، فما الظن بتحقيق وجوده؟
(فصل)
قال الرافضي: (الخامس: إن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته، وعليّ أفضل أهل زمانه على ما يأتي، فيكون هو الإِمام لقُبْح تقديم المفضول على الفاضل عقلاً ونقلاً. قال تعالى: ((أَفَمَن يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهْدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)) [يونس:35] .(2/416)
والجواب من وجوه: أحدها: منع المقدمة الثانية الكبرى، فإنا لا نسلم أن عليًّا أفضل أهل زمانه. بل خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عثمان، كما ثبت ذلك عن عليّ وغيره. وسيأتي الجواب عمَّا ذكروه، وتقرير ما ذكرناه.
الثاني: أن الجمهور من أصحابنا وغيرهم، وإن كانوا يقولون: يجب تولية الأفضل مع الإمكان، لكن هذا الرافضي لم يذكر حجة على هذه المقدمة، وقد نازعه فيها كثير من العلماء، وأما الآية المذكورة فلا حجة فيها له، لأن المذكور في الآية: من يهدي إلى الحق، ومن لا يَهِدِّي إلا أن يهدى، والمفضول لا يجب أن يُهدى إلا أن يهديه الفاضل، بل قد يحصل له هدىً كثير بدون تعلّم من الفاضل،وقد يكون الرجل أعلم ممن هو أفضل منه، وإن كان ذلك الأفضل قد مات، وهذا الحي الذي هو أفضل منه لم يتعلم منه شيئًا.
وأيضًا: فالذي يهدي إلى الحق مطلقًا هو الله، والذي لا يَهدِّي إلا أن يُهدى صفة كل مخلوق لا يهدى إلا أن يهديه الله تعالى، وهذا هو المقصود بالآية وهي أن عبادة الله أولى من عبادة خلقه.
كما قال في سياقها: ((قُلْ هْل مِنْ شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهْدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى)) [يونس:35] .
فافتتح الآيات بقوله: ((قُلْ مَن يَرْزقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَاْلأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَاْلأَبْصَارَ وَمَن يخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)) [يونس:31] .إلى قوله: ((قُلْ هْل مِنْ شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ)) [يونس:35] .
وأيضًا: فكثير من الناس يقول: ولاية الأفضل واجبة، إذا لم تكن في ولاية المفضول مصلحة راجحة، ولم يكن في ولاية الأفضل مفسدة.
وهذه البحوث يبحثها من يرى عليًّا أفضل من أبي بكر وعمر، كالزيدية وبعض المعتزلة، أو من يتوقف في ذلك، كطائفة من المعتزلة.(2/417)
وأما أهل السنّة فلا يحتاجون إلى منع هذه المقدمة، بل الصدِّيق عندهم أفضل الأمة، لكن المقصود أن نبيّن أن الرافضة، وإن قالوا حقًا، فلا يقدرون أن يدلُّوا عليه بدليل صحيح، لأنهم سدُّوا على أنفسهم كثيرًا من طرق العلم، فصاروا عاجزين عن بيان الحق، حتى إنه لا يمكنهم تقرير إيمان عليّ عَلَى الخوارج، ولا تقرير إمامته على المروانية، ومن قاتله فإن ما يستدل به على ذلك قد أطلق جنسه على أنفسهم، لأنهم لا يدرون ما يلزم أقوالهم الباطلة من التناقض والفساد، لقوة جهلهم، واتباعهم الهوى بغير علم.
قال الرافضي: (المنهج الثاني: في الأدلة المأخوذة من القرآن، والبراهين الدّالة على إمامة عليّ من الكتاب العزيز كثيرة.(2/418)
الأول: قوله تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينّ آمَنُوا الَّذِينَ يقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) [المائدة:55] وقد أجمعوا أنها نزلت في عليّ. قال الثعلبي في إسناده إلى أبي ذر: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهاتين وإلا صمتا، ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول: (عليٌّ قائد البررة، وقاتل الكفرة، فمنصور من نصره، ومخذول من خذله) أَمَا إِنِّي صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد، فلم يعطه أحدٌ شيئًا، فرفع السائل يده إلى السماء، وقال: اللهم إنك تشهد أنّي سألت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعطني أحدٌ شيئًا، وكان عليٌّ راكعًا، فأومأ بخنصره اليمنى، وكان متختمًا فيها، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم، وذلك بعين النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء، وقال: (اللهم إن موسى سألك وقال: ((رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي*وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي* وَاجْعَل لّي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي))[طه:25-32] فأنزلت عليه قرآنًا ناطقًا: ((سَنَشُد عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا)) [القصص:35] .اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك، اللهم فاشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيرًا من أهلي، عليًّا اشدد به ظهري) قال أبو ذر: فما استتم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه جبريل من عند الله فقال: يا محمد اقرأ، قال: وما أقرأ؟ قال: اقرأ: ((إِنَّمَا ولِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) [المائدة:55] .(2/419)
ونقل الفقيه ابن المغازلي الواسطي الشافعي أن هذه نزلت في عليّ، والوليّ هو المتصرف، وقد أثبت له الولاية في الآية، كما أثبتها الله تعالى لنفسه ولرسوله).
والجواب من وجوه: أحدها: أن يقال: ليس فيما ذكره ما يصلح أن يقبل ظنًا، بل كل ما ذكره كذب وباطل، من جنس السفسطة، وهو لو أفاده ظنونًا كان تسميته براهين تسمية منكرة؛ فإن البرهان في القرآن وغيره يطلق على ما يفيد العلم واليقين، كقوله تعالى: ((وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) [البقرة:111] .
وقال تعالى: ((أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَاْلأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) [النمل:64] .
فالصادق لا بد له من برهان على صدقه، والصدق المجزوم بأنه صدق هو المعلوم.
وهذا الرجل جميع ما ذكره من الحجج فيها كذب، فلا يمكن أن يذكر حجة واحدة جميع مقدماتها صادقة، فإن المقدمات الصادقة يمتنع أن تقوم على باطل، وسنبين إن شاء الله تعالى عند كل واحدة منها ما يبين كذبها، فتسمية هذه براهين من أقبح الكذب.
ثم إنه يعتمد في تفسير القرآن على قول يحكى عن بعض الناس، مع أنه قد يكون كذبًا عليه، وإن كان صدقًا فقد خالفه أكثر الناس، فإن كان قول الواحد الذي لم يُعلم صدقه، وقد خالفه الأكثرون برهانًا، فإنه يقيم براهين كثيرة من هذا الجنس على نقيض ما يقوله، فتتعارض البراهين فتتناقض، والبراهين لا تتناقض.(2/420)
بل سنبين إن شاء الله تعالى قيام البراهين الصادقة التي لا تتناقض على كذب ما يدّعيه من البراهين، وأن الكذب في عامتها كذب ظاهر، لا يخفى إلا على من أعمى الله قلبه، وأن البراهين الدالّة على نبوة الرسول حق، وأن القرآن حق، وأن دين الإسلام حق – تناقض ما ذكره من البراهين، فإن غاية ما يدّعيه من البراهين إذا تأمله اللبيب، وتأمل لوازمه وجده يقدح في الإيمان والقرآن والرسول.
ثم نقول: ثانيًا: الجواب عن هذه الآية حق من وجوه: الأول: أنّا نطالبه بصحة هذا النقل، أولاً: يذكر هذا الحديث على وجهٍ تقوم به الحجة؛ فإن مجرد عزوه إلى تفسير الثعلبي، أو نقل الإجماع على ذلك من غير العالمين بالمنقولات، الصادقين في نقلها، ليس بحجة باتفاق أهل العلم، إن لم نعرف ثبوت إسناده، وكذلك إذا روى فضيلة لأبي بكر وعمر، لم يجز اعتقاد ثبوت ذلك بمجرد ثبوت روايته باتفاق أهل العلم.
الثاني: قوله: (قد أجمعوا أنها نزلت في عليّ) من أعظم الدعاوى الكاذبة بل أجمع أهل العلم بالنقل، على أنها لم تنزل في عليّ بخصوصه، وأن عليًّا لم يتصدق بخاتمه في الصلاة، وأجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع.
وأما ما نقله من تفسير الثعلبي، فقد أجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبي يروي طائفة من الأحاديث الموضوعات، كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة عن أبي أمامة في فضل تلك السورة، وكأمثال ذلك، ولهذا يقولون: (هو كحاطب ليل).
وهكذا الواحدي تلميذه، وأمثالهما من المفسرين ينقلون الصحيح والضعيف.
وإنما المقصود هنا بيان افتراء هذا المصنّف أو كثرة جهله، حيث قال: (وقد أجمعوا أنها نزلت في عليّ) فياليت شعري من نقل هذا الإجماع من أهل العلم العالمين بالإجماع في مثل هذه الأمور؟ فإن نقل الإجماع في مثل هذا لا يُقبل من غير أهل العلم بالمنقولات، وما فيها من إجماع واختلاف.(2/421)
فالمتكلم والمفسّر والمؤرخ ونحوهم، لو ادّعى أحدهم نقلاً مجردًا بلا إسناد ثابت لم يُعتمد عليه، فكيف إذا ادّعى إجماعًا؟!
الوجه الثالث: أن يقال: هؤلاء المفسرون الذين نَقَل من كتبهم، هم -ومن هم أعلم منهم- قد نقلوا ما يناقض هذا الإجماع المدَّعَى، والثعلبي قد نقل في تفسيره أن ابن عباس يقول: نزلت في أبي بكر، ونقل عن عبد الملك: قال: سألت أبا جعفر، قال: هم المؤمنون. قلت: فإن ناسًا يقولون: هو عليّ. قال: فعليٌّ من الذين آمنوا، وعن الضحاك مثله.
الوجه الرابع: أنّا نعفيه من الإجماع، ونطالبه أن ينقل ذلك بإسناد واحد صحيح، وهذا الإسناد الذي ذكره الثعلبي إسناده ضعيف، فيه رجال متهمون، وأما نقل ابن المغازلي الواسطي فأضعف وأضعف، فإن هذا قد جمع في كتابه من الأحاديث الموضوعات ما لا يخفى أنه كذب عَلَى من له أدنى معرفة بالحديث، والمطالبة بإسناد يتناول هذا وهذا.
الوجه الخامس: أن يُقال: لو كان المراد بالآية أن يؤتي الزكاة حال ركوعه، كما يزعمون أن عليًّا تصدق بخاتمه في الصلاة، لوجب أن يكون ذلك شرطًا في الموالاة، وأن لا يتولى المسلمون إلا عليًّا وحده، فلا يُتَوَلَّى الحسن ولا الحسين ولا سائر بني هاشم، وهذا خلاف إجماع المسلمين.
الوجه السادس: أن قوله: (الذين) صيغة الجمع، فلا يصدق عَلَى عليٍّ وحده.
الوجه السابع: أن الله تعالى لا يثني على الإنسان إلا بما هو محمود عنده: إما واجب، وإما مستحب. والصدقة والعتق والهدية والهبة والإجارة والنكاح والطلاق، وغير ذلك من العقود في الصلاة، ليست واجبة ولا مستحبة باتفاق المسلمين، بل كثير منهم يقول: إن ذلك يبطل الصلاة وإن لم يتكلم، بل تبطل بالإشارة المفهمة، وآخرون يقولون: لا يحصل المِلْك بها لعدم الإيجاب الشرعي، ولو كان هذا مستحبًا، لكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ويحض عليه أصحابه، ولكان عليّ يفعله في غير هذه الواقعة.(2/422)
فلما لم يكن شيء من ذلك، عُلم أن التصدُّق في الصلاة ليس من الأعمال الصالحة، وإعطاء السائل لا يفوت، فيمكن المتصدق إذا سلَّم أن يعطيه، وإن في الصلاة لشغلاً.
الوجه الثامن: أنه لو قُدِّر أن هذا مشروع في الصلاة، لم يختص بالركوع، بل يكون في القيام والقعود أَوْلى منه في الركوع، فكيف يُقال: لا وليّ لكم إلا الذين يتصدقون في حال الركوع، فلو تصدّق المتصدّق في حال القيام والقعود: أما كان يستحق هذه الموالاة؟
الوجه التاسع: أن يُقال: قوله: ((وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)) [المائدة:55] على قولهم يقتضي أن يكون آتى الزكاة في حال ركوعه، وعليّ رضي الله عنه لم يكن ممن تجب عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان فقيرًا، وزكاة الفضة إنما تجب عَلَى من ملك النصاب حولاً، وعليٌّ لم يكن من هؤلاء.
الوجه العاشر: إن إعطاء الخاتم في الزكاة لا يجزئ عند كثير من الفقهاء، إلا إذا قيل بوجوب الزكاة في الحُليّ. وقيل: إنه يخرج من جنس الحلى، ومن جوَّز ذلك بالقيمة، فالتقويم في الصلاة متعذّر، والقيم تختلف باختلاف الأحوال.
الوجه الحادي عشر: أن هذه الآية بمنزلة قوله: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)) [البقرة:43] ، هذا أمر بالركوع.
وكذلك قوله: ((يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)) [آل عمران:43] وهذا أمر بالركوع.
الوجه الثاني عشر: أنه من المعلوم المستفيض عند أهل التفسير، خلفًا عن سلف، أن هذه الآية نزلت في النهي عن موالاة الكفار،والأمر بموالاة المؤمنين، لما كان بعض المنافقين، كعبد الله بن أُبَيّ، يوالي اليهود، ويقول: إني أخاف الدوائر، فقال بعض المؤمنين، وهو عبادة بن الصامت: إنّي يا رسول الله أتولّى الله ورسوله، وأبرأ إلى الله ورسوله من حِلف هؤلاء الكفّار وولايتهم.(2/423)
الوجه الثالث عشر: أن سياق الكلام يدل على ذلك لمن تدبّر القرآن، فإنه قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) [المائدة:51] . فهذا نهي عن موالاة اليهود والنصارى.
ثم قال: ((فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ)) إلى قوله: ((فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ)). فهذا وصف الذين في قلوبهم مرض، الذين يوالون الكفار كالمنافقين.
ثم قال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) [المائدة:54] فذكر فعل المرتدّين وأنهم لن يضروا الله شيئًا، وذكر من يأتي به بدلهم.
ثم قال: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)).
فتضمن هذا الكلام ذكر أحوال من دخل في الإسلام من المنافقين، وممن يرتد عنه، وحال المؤمنين الثابتين عليه ظاهرًا وباطنًا.(2/424)
فهذا السياق -مع إثباته بصيغة الجمع- مما يوجب لمن تدبّر ذلك علمًا يقينًا لا يمكنه دفعه عن نفسه: أن الآية عامّة في كل المؤمنين المتصفين بهذه الصفات، لا تختص بواحد بعينه: لا أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا عليّ، ولا غيرهم، لكن هؤلاء أحقّ الأمة بالدخول فيها.
الوجه الرابع عشر: أن الألفاظ المذكورة في الحديث مما يُعلم أنها كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن عليًّا ليس قائدًا لكل البررة، بل القائد لهذه الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا هو أيضًا قاتلاً لكل الكفرة، بل قتل بعضهم، كما قتل غيره بعضهم، وما أحد من المجاهدين القاتلين لبعض الكفّار، إلا وهو قاتل لبعض الكفرة.
وكذلك قوله: (منصور من نصره، مخذول من خذله) هو خلاف الواقع، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقًّا، لا سيما عَلَى قول الشيعة، فإنهم يدَّعون أن الأمة كلها خذلته إلى قتل عثمان.
فمن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يشد أزره بشخص من الناس، كما سأل موسى أن يشد أزره بهارون، فقد افترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخسه حقَّه، ولا ريب أن الرفض مشتق من الشرك والإلحاد والنفاق، لكن تارة يظهر لهم ذلك فيه وتارة يخفى.
الوجه الخامس عشر: أن يُقال: غاية ما في الآية أن المؤمنين عليهم موالاة الله ورسوله والمؤمنين، فيوالون عليًّا. ولا ريب أن موالاة عليّ واجبة عَلَى كل مؤمن، كما يجب على كل مؤمن موالاة أمثاله من المؤمنين.
قال تعالى: ((وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ)) [التحريم:4] فبيّن الله أن كل صالحٍ من المؤمنين فهو مَوْلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله مولاه، وجبريل مولاه،وليس في شيء من هذه النصوص أن من كان وليًّا للآخر كان أميرًا عليه دون غيره، وأنه يتصرف فيه دون سائر الناس.(2/425)
الوجه السادس عشر: أنه لو أراد الولاية التي هي الإمارة لقال: (إنما يتولى عليكم الله ورسوله والذين آمنوا)، ولم يقل: ومن يتولى الله ورسوله، فإنه لا يقال لمن ولي عليهم والٍ: إنهم تولوه. بل يقال: تولى عليهم.
الوجه السابع عشر: أن الله سبحانه لا يُوصف بأنه متولٍ على عباده، وأنه أمير عليهم، جلّ جلاله، وتقدّست أسماؤه، فإنه خالقهم ورازقهم، وربهم ومليكهم، له الخلق والأمر، ولا يُقال: إن الله أمير المؤمنين، كما يسمَّى المتولّي، مثل عليّ وغيره: أمير المؤمنين، بل الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا لا يُقال: إنه متولٍّ على الناس، وأنه أمير عليهم، فإن قَدْرَهُ أجلّ من هذا، بل أبو بكر الصديق رضي الله عنه لم يكونوا يسمونه إلا خليفة رسول الله، وأول من سمِّي من الخلفاء (أمير المؤمنين) هو عمر رضي الله عنه.
الوجه الثامن عشر: أنه ليس كل من تولّى عليه إمام عادل يكون من حزب الله، ويكون غالبًا؛ فإن أئمة العدل يتولُّون على المنافقين والكفّار، كما كان في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم تحت حكمه ذّميون ومنافقون.
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الثاني: قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)) [المائدة:67] ، اتفقوا على نزولها في عليّ، وروى أبو نُعيم الحافظ -من الجمهور- بإسناده عن عطية قال: نزلت هذه الآية عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عليّ بن أبي طالب، ومن تفسير الثعلبي قال: معناه: بلِّغ ما أُنزل إليك من ربك في فضل عليّ، فلما نزلت هذه الآية أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد عليّ، فقال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه.
والنبي صلى الله عليه وسلم مولى أبي بكر وعمر وباقي الصحابة بالإجماع، فيكون عليٌّ مولاهم، فيكون هو الإمام.(2/426)
ومن تفسير الثعلبي: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير خُم نادى الناس فاجتمعوا، فأخذ بيد عليّ، وقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه) فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته، حتى أتى الأبطح، فنزل عن ناقته وأناخها فعقلها، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ملأٍ من الصحابة، فقال: يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقبلنا منك، وأمرتنا أن نصلّي خمسًا فقبلناه منك، وأمرتنا أن نزكّي أموالنا فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصوم شهرًا فقبلناه منك، وأمرتنا أن نحج البيت فقبلناه منك، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بِضَبْعَىْ ابن عمك وفضلتَه علينا، وقلتَ: من كنت مولاه فعليّ مولاه، وهذا منك أم من الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: والله الذي لا إله إلا هو، هو من أَمْرِ الله، فولّى الحارث يريد راحلته، وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله، وأنزل الله تعالى: ((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ* لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللَّهِ))[المعارج:1-3] . وقد روى هذه الرواية النقَّاش من علماء الجمهور في تفسيره).
والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا أعظم كذبًا وفرية من الأول، كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى، وقوله: (اتفقوا على نزولها في عليّ) أعظم كذبًا مما قاله في تلك الآية، فلم يقل لا هذا ولا ذاك أحد من العلماء، الذين يدرون ما يقولون.(2/427)
وأما ما يرويه أبو نُعيم في (الحلية) أو في (فضائل الخلفاء) والنقَّاش والثعلبي والواحدي ونحوهم في التفسير، فقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن فيما يروونه كثيرًا من الكذب الموضوع، واتفقوا على أن هذا الحديث المذكور الذي رواه الثعلبي في تفسيره هو من الموضوع، وسنبين أدلة يُعرف بها أنه موضوع، وليس الثعلبي من أهل العلم بالحديث.
ولكن المقصود هنا أنَّا نذكر قاعدة فنقول: المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب، والمرجع في التمييز بين هذا وهذا إلى أهل علم الحديث، كما نرجع إلى النحاة في الفرق بين نحو العرب ونحو غير العرب، ونرجع إلى علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة، وكذلك علماء الشعر والطب وغير ذلك، فلكل علم رجال يُعرفون به، والعلماء بالحديث أجل هؤلاء قدرًا، وأعظمهم صدقًا، وأعلاهم منزلة، وأكثرهم دينًا.
الوجه الثاني: أن نقول: في نفس هذا الحديث ما يدل على أنه كذب من وجوه كثيرة، فإن فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان بغدير إلى آخره.
فيقال: أجمع الناس كلهم على أن ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم بغدير خم كان مرجعه من حجة الوداع، والشيعة تسلم بهذا وتجعل ذا اليوم عيدًا وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يرجع إلى مكة بعد ذلك، بل رجع من حجة الوداع إلى المدينة، وعاش تمام ذي الحجة، والمحرم وصفر وتوفي في أول ربيع الأول.
وفي هذا الحديث يذكر أنه بعد أن قال هذا بغدير خُم وشاع في البلاد، جاءه الحارث وهو بالأبطح،والأبطح بمكة، فهذا كذب جاهل لم يعلم متى كانت قصة غدير خم.
وأيضًا: فإن هذه السورة -سورة سأل سائل- مكيّة باتفاق أهل العلم، نزلت بمكة قبل الهجرة، فهذه نزلت قبل غدير خُم بعشر سنين أو أكثر من ذلك، فكيف تكون نزلت بعده؟(2/428)
وأيضًا: قوله: ((وَإِذْ قَالُوا الَّلهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ)) [الأنفال:32] في سورة الأنفال، وقد نزلت عقيب بدر بالاتفاق قبل غدير خُم بسنين كثيرة، وأهل التفسير متفقون على أنها نزلت بسبب ما قاله المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، كأبي جهل وأمثاله، وأن الله ذكَّر نبيَّه بما كانوا يقولونه بقوله: ((وَإِذْ قَالُوا الَّلهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ)). أي: اذكر قولهم.
وأيضًا: فقد ذكر في هذا الحديث أن هذا القائل أُمر بمباني الإسلام الخمس، وعلى هذا فقد كان مسلمًا فإنه قال: فقبلناه منك، ومن المعلوم بالضرورة أن أحدا من المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يصبه هذا.
وأيضًا: فهذا الرجل لا يُعرف في الصحابة، بل هو من جنس الأسماء التي يذكرها الطرقية، من جنس الأحاديث التي في سيرة عنتر ودلهمة.
الوجه الثالث: أن يُقال: أنتم ادّعيتم أنكم أثبتم إمامته بالقرآن، والقرآن ليس في ظاهره ما يدل على ذلك أصلا؛ فإنه قال: ((بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ)) [المائدة:67] وهذا اللفظ عام في جميع ما أُنزل إليه من ربِّه، لا يدل على شيء معيَّن.
فدعوى المدّعي أن إمامة عليّ هي مما بلَّغها، أو مما أمر بتبليغها، لا تثبت بمجرد القرآن؛ فإن القرآن ليس فيه دلالة على شيء معين، فإن ثبت ذلك بالنقل كان ذلك إثباتًا بالخبر لا بالقرآن، فمن ادّعى أن القرآن يدل على أنّ إمامة عليّ مما أُمر بتبليغه، فقد افترى على القرآن، فالقرآن لا يدل على ذلك عموما ولا خصوصًا.
الوجه الرابع: أن يُقال: هذه الآية، مع ما عُلم من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، تدل على نقيض ما ذكروه، وهو أن الله لم ينزّلها عليه،ولم يأمره بها، فإنها لو كانت مما أمره الله بتبليغه، لبلّغه، فإنه لا يعصي الله في ذلك.(2/429)
ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: (من زعم أن محمدًا كتم شيئًا من الوحي فقد كذب، والله تعالى يقول: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)) [المائدة:67] .
لكن أهل العلم يعلمون بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلِّغ شيئًا من إمامة عليّ، ولهم على هذا طرق كثيرة يثبتون بها هذا العلم.
منها: أن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان له أصل لنُقل، كما نُقل أمثاله من حديثه، لا سيما مع كثرة ما يُنقل في فضائل عليّ، من الكذب الذي لا أصل له، فكيف لا يُنقل الحق الصدق الذي قد بُلِّغ للناس؟!
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أمته بتبليغ ما سمعوا منه، فلا يجوز عليهم كتمان ما أمرهم الله بتبليغه.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات، وطلب بعض الأنصار أن يكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير، فأُنكِر ذلك عليه، وقالوا: الإمارة لا تكون إلا في قريش، وروى الصحابة في مواطن متفرقة الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن: (الإمامة في قريش).
ولم يرو واحد منهم: لا في المجلس ولا غيره، ما يدل على إمامة عليّ.
وبايع المسلمون أبا بكر، وكان أكثر بني عبد مناف -من بني أمية وبني هاشم وغيرهم- لهم ميل قوي إلى عليّ بن أبي طالب يختارون ولايته، ولم يذكر أحد منهم هذا النص، وهكذا أُجري الأمر في عهد عمر وعثمان، وفي عهده أيضًا لما صارت له ولاية، ولم يذكر هو ولا أحدٌ من أهل بيته ولا من الصحابة المعروفين هذا النص، وإنما ظهر هذا النص بعد ذلك.(2/430)
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الثالث: قوله تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا)) [المائدة:3] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الرب برسالتي، وبالولاية لعليٍّ من بعدي، ثم قال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من ولاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله).
والجواب من وجوه: أحدها: أن المستدّل عليه بيان صحة الحديث، ومجرد عزوه إلى رواية أبي نُعيم لا تفيد الصحة باتفاق الناس: علماء السنّة والشيعة؛ فإن أبا نعيم روى كثيرًا من الأحاديث التي هي ضعيفة، بل موضوعة، باتفاق علماء أهل الحديث: السنّة والشيعة، وهو وإن كان حافظًا، كثير الحديث، واسع الرواية، لكن روى، كما هي عادة المحدِّثين أمثاله يروون جميع ما في الباب، لأجل المعرفة بذلك.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالموضوعات، وهذا يعرفه أهل العلم بالحديث، والمرجع إليهم في ذلك، ولذلك لا يوجد هذا في شيء من كتب الحديث التي يرجع إليها.(2/431)
الوجه الثالث: أنه قد ثبت في الصحاح والمسانيد والتفسير أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة، وقال رجل من اليهود لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتَّخذنا ذلك اليوم عيدًا، فقال له عمر: أيّ آية هي؟ قال: قوله: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا)) [المائدة:3] . فقال عمر: إني لأعلم أي يوم نزلت، وفي أي مكان نزلت، نزلت يوم عرفة بعرفة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة(1) وهذا مستفيض من وجوه أخر، وهو منقول في كتب المسلمين: الصحاح والمسانيد والجوامع والسير والتفسير وغير ذلك.
وهذا اليوم كان قبل يوم غدير خُم بتسعة أيام؛ فإنه كان يوم الجمعة تاسع ذي الحجة، فكيف يُقال: إنها نزلت يوم الغدير؟!
الوجه الرابع: أن هذه الآية ليس فيها دلالة عَلَى عليٍّ ولا إمامته بوجه من الوجوه، بل فيها إخبار الله بإكمال الدين وإتمام النعمة على المؤمنين، ورضا الإسلام دينًا، فدعوى المدَّعي أن القرآن يدل على إمامته من هذا الوجه كذب ظاهر.
الوجه الخامس: أن هذا اللفظ، وهو قوله: (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله) كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
وأما قوله: (من كنت مولاه فعليٌّ مولاه) فلهم فيه قولان: وسنذكره إن شاء الله تعالى في موضعه.
الوجه السادس: أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مجاب، وهذا الدعاء ليس بمجابٍ، فعُلم أنه ليس من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه من المعلوم أنه لما تولّى كان الصحابة وسائر المسلمين ثلاثة أصناف: صنف قاتلوا معه، وصنف قاتلوه، وصنف قعدوا عن هذا وهذا، وأكثر السابقين الأوَّلين كانوا من القعود.
__________
(1) انظر: البخاري (1/14) ومواضع أُخر ومسلم (4/2312-2313).(2/432)
ثم إن هؤلاء الذين قاتلوه لم يُخذلوا، بل ما زالوا منصورين يفتحون البلاد، ويقتلون الكفّار.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق،لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله) قال معاذ بن جبل: (وهم بالشام)(1).
والعسكر الذين قاتلوا مع معاوية ما خُذِلوا قط، بل ولا في قتال عليّ، فكيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم اخذل من خذله وانصر من نصره) والذين قاتلوا معه لم يُنصروا على هؤلاء، بل الشيعة الذين تزعمون أنهم مختصّون بعليّ ما زالوا مخذولين مقهورين لا يُنصرون إلا مع غيرهم: إما مسلمين، وإما كفّار،وهم يدّعون أنهم أنصاره، فأين نصر الله لمن نصره؟! وهذا وغيره مما يبيّن كذب هذا الحديث.
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الرابع:قوله تعالى: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى))[النجم:1-2] ، روى الفقيه عليّ بن المغازلي الشافعي بإسناده عن ابن عباس، قال: كنت جالسًا مع فتية من بني هاشم عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ انقض كوكبٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من انقض هذا النجم في منزله، فهو الوصي من بعدي) فقام فتية من بني هاشم، فنظروا، فإذا الكوكب قد انقضّ في منزل علي، قالوا: يا رسول الله، قد غويت في حب عليّ، فأنزل الله تعالى: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى))[النجم:1-2] .
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحته -كما تقدم- وذلك أن القول بلا علم حرام بالنص والإجماع.
قال تعالى: ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) [الإسراء:36] .
__________
(1) مسلم (3/1523) والبخاري (9/82) ومواضع أُخر.(2/433)
وقال: ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَاْلإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَالاَ تَعْلَمُونَ)) [الأعراف:33] .
فما جاءت به الرسل عن الله فهو سلطان، فالقرآن سلطان، والسنّة سلطان، لكن لا يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء به إلا بالنقل الصادق عن الله، فكل من احتج بشيء منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم فعليه أن يعلم صحته، قبل أن يعتقد موجبه ويستدل به، وإذا احتج به على غيره، فعليه بيان صحته، وإلا كان قائلاً بلا علم، مستدلاً بلا علم.
فكيف يحتج في مسائل الأصول، التي يقدح فيها في خيار القرون وجماهير المسلمين وسادات أولياء الله المقرَّبين، بحيث لا يعلم المحتج به صدقه؟
وهو لو قيل له: أتعلم أن هذا وقع؟ فإن قال: أعلم ذلك، فقد كذب، فمن أين يعلم وقوعه؟ ويُقال له: من أين علمت صدق ذلك، وذلك مما لا يُعرف إلا بالإسناد ومعرفة أحوال الرواة؟ وأنت لا تعرفه، ولو أنك عرفته لعرفت أن هذا كذب.
وإن قال: لا أعلم ذلك، فكيف يسوغ لك الاحتجاج بما لا تعلم صحته؟
الثاني: أن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالحديث، وهذا المغازلي ليس من أهل الحديث، كأبي نعيم وأمثاله، ولا هو أيضًا من جامعي العلم الذين يذكرون ما غالبه حق وبعضه باطل،كالثعلبي وأمثاله، بل هذا لم يكن الحديث من صنعته، فعمد إلى ما وجده من كتب الناس من فضائل عليّ فجمعها، كما فعل أخطب خوارزم، وكلاهما لا يعرف الحديث، وكل منهما يروي فيما جمعه من الأكاذيب الموضوعة، ما لا يخفى أنه كذب على أقل علماء النقل والحديث.(2/434)
الوجه الثالث: أنه مما يبيّن أنه كذب أن فيه ابن عباس شهد نزول سورة النجم حين انقض الكوكب في منزل عليّ، وسورة النجم باتفاق الناس من أول ما نزل بمكة، وابن عبّاس حين مات النبي صلى الله عليه وسلم كان مراهقًا للبلوغ لم يحتلم بعد، هكذا ثبت عنه في الصحيحين، فعند نزول هذه الآية: إما أن ابن عباس لم يكن وُلد بعد، وإما أنه كان طفلاً لا يميّز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر كان لابن عباس نحو خمس سنين، والأقرب أنه لم يكن ولد عند نزول سورة النجم، فإنها من أوائل ما نزل من القرآن.
الوجه الرابع: أنه لم ينقضّ قط كوكب إلى الأرض بمكة ولا بالمدينة، ولا غيرهما، ولما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم كثر الرمي بالشهب، ومع هذا فلم ينزل كوكب إلى الأرض، وهذا ليس من الخوارق التي تُعرف في العالم، بل هو من الخوارق التي لا يُعرف مثلها في العالم، ولا يَرْوي مثل هذا إلا من هو أوقح الناس، وأجرئهم على الكذب، وأقلهم حياءً ودينًا، ولا يَرُوج إلا عَلَى من هو من أجهل الناس وأحمقهم، وأقلهم معرفة وعلمًا.
الوجه الخامس: أن نزول سورة النجم كان في أول الإسلام،وعليّ إذ ذاك كان صغيرًا، والأظهر أنه لم يكن احتلم ولا تزوّج بفاطمة، ولا شُرع بعد فرائض الصلاة أربعًا وثلاثًا واثنين، ولا فرائض الزكاة، ولا حج البيت، ولا صوم رمضان، ولا عامة قواعد الإسلام.
وأمر الوصية بالإمامة لو كان حقًّا إنما يكون في آخر الأمر كما ادعوه يوم غدير خُم، فكيف يكون قد نزل في ذلك الوقت؟
الوجه السادس: أن أهل العلم بالتفسير متفقون على خلاف هذا، وأن النجم المقسم به: إما نجوم السماء، وإما نجوم القرآن، ونحو ذلك، ولم يقل أحد: إنه كوكب نزل في دار أحد بمكة.
الوجه السابع: أن من قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (غويت) فهو كافر، والكفّار لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالفروع قبل الشهادتين والدخول في الإسلام.(2/435)
الوجه الثامن: أن هذا النجم إن كان صاعقة، فليس نزول الصاعقة في بيت شخص كرامة له، وإن كان من نجوم السماء فهذه لا تفارق الفلك، وإن كان من الشُّهب فهذه يُرمى بها رجوما للشياطين، وهي لا تنزل إلى الأرض. ولو قُدِّر أن الشيطان الذي رُمِيَ بها وصل إلى بيت عليّ حتى احترق بها، فليس هذا كرامة له، مع أن هذا لم يقع قط.
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الخامس: قوله تعالى: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) [الأحزاب:33] .فروى أحمد بن حنبل في مسنده عن واثلة بن الأسقع قال: طلبت عليًّا في منزله،فقالت فاطمة رضي الله عنها: ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجاءا جميعًا فدخلا ودخلت معهما، فأجلس عليًّا عن يساره،وفاطمة عن يمينه، والحسن والحسين بين يديه، ثم التفع عليهم بثوبه،وقال: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) [الأحزاب:33] اللهم إن هؤلاء أهلي حقًّا.
وعن أم سلمة قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيتها، فأتته فاطمة رضي الله عنها ببرمة، فيها حريرة، فدخلت بما عليه، فقال: ادعي زوجك وابنَيْك، قالت: فجاء عليّ والحسن والحسين فدخلوا وجلسوا يأكلون من تلك الحريرة، وهو وهم على منام له عليٍّ، وكان تحته كساء خَيْبَري، قالت: وأنا في الحجرة أصلّي، فأنزل الله تعالى هذه الآية: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)) قالت: فأخذ فضل الكساء وكساهم به، ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء، وقال: هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا. وكرّر ذلك، قالت: فأدخلت رأسي وقلت: وأنا معهم يا رسول الله، قال: إنك إلى خير.(2/436)
وفي هذه الآية دلالة على العصمة، مع التأكيد بلفظة: (إنما) وإدخال اللام في الخبر، والاختصاص في الخطاب بقوله: (أهل البيت)، والتكرير بقوله: (ويطهّركم)، والتأكيد بقوله (تطهيرًا)، وغيرهم ليس بمعصوم، فتكون الإمامة في عليّ، ولأنه ادّعاها في عدة من أقواله، كقوله: والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، وهو يعلم أن محلّي منها محل القطب من الرحا، وقد ثبت نفي الرجس عنه، فيكون صادقًا، فيكون هو الإمام).
والجواب: أن هذا الحديث صحيح في الجملة؛ فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعليّ وفاطمة وحسن وحسين: (اللهم إن هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرًا).
وروى ذلك مسلم عن عائشة قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غداةً وعليه مرط مرحّل من شعر أسود، فجاء الحسن بن عليّ فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه، ثم جاء عليّ فأدخله، ثم قال: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)(1) وهو مشهور من رواية أم سلمة من رواية أحمد والترمذي، لكن ليس في هذا دلالة على عصمتهم ولا إمامتهم.
وتحقيق ذلك في مقامين أحدهما: أن قوله: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا))، كقوله: ((مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ)) [المائدة:6] ، وكقوله: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) [البقرة:185] ، وكقوله: ((يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا))[النساء:26-27] .
__________
(1) انظر: مسلم (4/1883) وانظر: المسند (6/292، 298، 304) والترمذي (5/30، 328).(2/437)
فإن إرادة الله في هذه الآيات متضمنة لمحبة الله لذلك المراد ورضاه به، وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به، ليس في ذلك أنه خلق هذا المراد، ولا أنه قضاه وقدَّره، ولا أنه يكون لا محالة.
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا) فطلب من الله لهم إذهاب الرجس والتطهير، فلو كانت الآية تتضمن إخبار الله بأنه قد أذهب عنهم الرجس وطهّرهم، لم يحتج إلى الطلب والدعاء.
فإن قيل: فهب أن القرآن لا يدل على وقوع ما أريد من التطهير وإذهاب الرجس، لكن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك يدل على وقوعه، فإن دعاءه مستجاب.
قيل: المقصود أن القرآن لا يدل على ما ادّعاه من ثبوت الطهارة وإذهاب الرجس فضلا، عن أن يدل على العصمة والإمامة.
وأما الاستدلال بالحديث فذاك مقام آخر.
ثم نقول في المقام الثاني: هب أن القرآن دل على طهارتهم وإذهاب الرجس عنهم، كما أن الدعاء المستجاب لا بد أن يتحقق معه طهارة المدعو لهم وإذهاب الرجس عنهم، لكن ليس في ذلك ما يدل على العصمة من الخطأ.
والدليل عليه: أن الله لم يرد بما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يصدر من واحدة منهن خطأ، فإن الخطأ مغفور لهن و لغيرهن، وسياق الآية يقتضي أنه يريد ليذهب عنهم الرجس – الذي هو الخبث كالفواحش – ويطهرهم تطهيرا من الفواحش وغيرها من الذنوب.
ولفظ (الرجس) عام يقتضي أن الله يريد أن يذهب جميع الرجس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بذلك.
وبالجملة فالتطهير الذي أراده الله، والذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو العصمة بالاتفاق، فإن أهل السنّة عندهم لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم، والشيعة يقولون: لا معصوم غير النبي صلى الله عليه وسلم والإمام، فقد وقع الاتفاق على انتفاء العصمة المختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم والإمام عن أزواجه وبناته وغيرهن من النساء.(2/438)
وإذا كان كذلك امتنع أن يكون التطهير المدعو به للأربعة متضمنًا للعصمة التي يختص بها النبي صلى الله عليه وسلم والإمام عندهم، فلا يكون من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بهذه العصمة: لا لعليّ ولا لغيره، فإنه دعا له بالطهارة لأربعة مشتركين لم يختص بعضهم بدعوة.
وأما قوله: (إن عليًّا ادّعاها وقد ثبت نفي الرجس عنه فيكون صادقًا).
فجوابه من وجوه: أحدها: أنّا لا نسلم أن عليًّا ادّعاها، بل نحن نعلم بالضرورة علمًا متيقنًا أن عليًّا ما ادّعاها قط حتى قُتل عثمان، وإن كان قد يميل بقلبه إلى أن يُوَلَّى، لكن ما قال: إني أنا الإمام، ولا إني معصوم، ولا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلني الإمام بعده، ولا أنه أوجب على الناس متابعتي، ولا نحو هذه الألفاظ.
بل نحن نعلم بالاضطرار أن من نقل هذا ونحوه فهو كاذب عليه، ونحن نعلم أن عليًّا كان أتقى لله من أن يدَّعي الكذب الظاهر، الذي تعلم الصحابة كلهم أنه كذب.
وأما نقل الناقل عنه أنه قال: (لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى).
فنقول: أولاً: أين إسناد هذا النقل، بحيث ينقله ثقة عن ثقة متصلاً إليه؟ وهذا لا يوجد قط، وإنما يُوجد هذا في كتاب (نهج البلاغة) وأمثاله، وأهل العلم يعلمون أن أكثر خطب هذا الكتاب مفتراة عَلَى عليّ، ولهذا لا يوجد غالبها في كتاب متقدّم، ولا لها إسناد معروف، فهذا الذي نقلها من أين نقلها؟(2/439)
ونحن في هذا المقام ليس علينا أن نبيّن أن هذا كذب، بل يكفينا المطالبة بصحة النقل، فإن الله لم يوجب على الخلق أن يصدّقوا بما لم يقم دليل على صدقه، بل هذا ممتنع بالاتفاق، لا سيما على القول بامتناع تكليف ما لا يطاق؛ فإن هذا من أعظم تكليف ما لا يطاق، فكيف يمكن الإِنسان أن يثبت ادعاء عليّ للخلافة بمثل حكاية ذكرت عنه في أثناء المائة الرابعة، لما كثر الكذّابون عليه، وصار لهم دولة تقبل منهم ما يقولون، سواء كان صدقًا أو كذبًا، وليس عندهم من يطالبهم بصحة النقل، وهذا الجواب عمدتنا في نفس الأمر، وفيما بيننا وبين الله تعالى.
وأيضًا: فنحن نعلم أن عليًّا كان أتقى لله من أن يتعمد الكذب، كما أن أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم كانوا أتقى لله من أن يتعمدوا الكذب، لكن لو قيل لهذا المحتج بالآية: أنت لم تذكر دليلاً على أن الكذب من الرجس، وإذا لم تذكر على ذلك دليلاً لم يلزم من إذهاب الرجس إذهاب الكذبة الواحدة، إذا قُدِّر أن الرجس ذاهب، فهو فيمن يحتج بالقرآن، وليس في القرآن ما يدل على إذهاب الرجس، ولا ما يدل على أن الكذب والخطأ من الرجس، ولا أن عليًّا قال ذلك، ولكن هذا كله لو صح شيء منه، لم يصح إلا بمقدمات ليست في القرآن، فأين البراهين التي في القرآن على الإمامة؟ وهل يدّعي هذا إلا من هو من أهل الخزي والندامة؟(2/440)
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان السادس: في قوله تعالى: ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَاْلآصَالِ * رِجَالٌ)) إلى قوله: ((يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَاْلأَبْصَارُ))[النور:36-37] قال الثعلبي بإسناده عن أنس وبُريدة قالا: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فقام رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ فقال: (بيوت الأنبياء) فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله! هذا البيت منها؟ يعني بيت عليّ وفاطمة، قال: نعم. من أفضلها، وصف فيها الرجال بما يدل على أفضليتهم، فيكون عليّ هو الإمام، وإلا لزم تقديم المفضول على الفاضل).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة هذا النقل، ومجرد عزو ذلك إلى الثعلبي ليس بحجة باتفاق أهل السنة والشيعة، وليس كل خبر رواه أحدٌ من الجمهور يكون حجة عند الجمهور، بل علماء الجمهور متفقون على أن ما يرويه الثعلبي وأمثاله لا يحتجون به، لا في فضيلة أبي بكر وعمر، ولا في إثبات حكم من الأحكام، إلا أن يُعلم ثبوته بطريق، فليس له أن يقول: إنّا نحتج عليكم بالأحاديث التي يرويها واحد من الجمهور، فإن هذا بمنزلة من يقول: أنا أحكم عليكم بمن يشهد عليكم من الجمهور، فهل يقول أحد من علماء الجمهور: إن كل من شهد منهم فهو عدل، أو قال أحد من علمائهم: إن كل من روى منهم حديثًا كان صحيحًا.
ثم علماء الجمهور متفقون على أن الثعلبي وأمثاله يروون الصحيح والضعيف، ومتفقون على أن مجرد روايته لا توجب اتّباع ذلك، ولهذا يقولون في الثعلبي وأمثاله: إنه حاطب ليل يروي ما وجد، سواء كان صحيحًا أو سقيمًا. فتفسيره وإن كان غالب الأحاديث التي فيه صحيحة، ففيه ما هو كذب موضوع باتفاق أهل العلم.(2/441)
الثاني: أن هذا الحديث موضوع عند أهل المعرفة بالحديث، ولهذا لم يذكره علماء الحديث في كتبهم التي يعتمد في الحديث عليها، كالصحاح والسنن والمسانيد، مع أن في بعض هذه ما هو ضعيف، بل ما يُعلم أنه كذب، لكن هذا قليل جدًا، وأما هذا الحديث وأمثاله فهو أظهر كذبًا من أن يذكروه في مثل ذلك.
الثالث: أن يُقال: الآية باتفاق الناس هي في المساجد، كما قال: ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَاْلآصَالِ)) [النور:36] . وبيت عليّ وغيره ليس موصوفًا بهذه الصفة.
الرابع: أن يُقال: بيت النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من بيت عليّ باتفاق المسلمين، ومع هذا لم يدخل في هذه الآية، لأنه ليس في بيته رجال، وإنما فيه هو والواحدة من نسائه، ولما أراد بيت النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ)) [الأحزاب:53] وقال: ((وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ)) [الأحزاب:34] .
الوجه الخامس: أن قوله: (هي بيوت الأنبياء) كذب، فإنه لو كان كذلك لم يكن لسائر المؤمنين فيها نصيب. وقوله: ((يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وِاْلآصَالِ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ))[النور:36-37] متناول لكل من كان بهذه الصفة.
الوجه السادس: أن قوله: ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)) نكرة موصوفة ليس فيها تعيين، وقوله: ((أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)): إن أراد بذلك مالا يختص به المساجد من الذكر في البيوت والصلاة فيها، دخل في ذلك بيوت أكثر المؤمنين المتصفين بهذه الصفة، فلا تختص بيوت الأنبياء بها.
وإن أراد بذلك ما يختص به المساجد من وجود الذكر في الصلوات الخمس ونحو ذلك، كانت مختصة بالمساجد، وأما بيوت الأنبياء فليس فيها خصوصية المساجد، وإن كان لها فضل بسكنى الأنبياء فيها.(2/442)
الوجه السابع: أن يُقال: إن أريد بيوت الأنبياء ما سكنه النبي صلى الله عليه وسلم،فليس في المدينة من بيوت الأنبياء إلا بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يدخل فيها بيت عليّ، وإن أُريد ما دخله الأنبياء، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد دخل بيوت كثير من الصحابة.
وأي تقدير قُدِّر في الحديث لا يمكن تخصيص بيت عليّ بأنه من بيوت الأنبياء، دون بيت أبي بكر وعمر وعثمان ونحوهم، وإذا لم يكن له اختصاص، فالرجال مشتركون بينه وبين غيره.
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان السابع:قوله تعالى: ((قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)) [الشورى:23] .روى أحمد بن حنبل في مسنده عن ابن عباس قال: لما نزلت: ((قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)) قالوا: يا رسول الله، من قرابتك الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: (عليّ وفاطمة وابناهما، وكذا في تفسير الثعلبي، ونحوه في الصحيحين، وغير عليّ من الصحابة والثلاثة لا تجب مودته، فيكون عليّ أفضل، فيكون هو الإِمام، ولأن مخالفته تنافي المودة، وبامتثال أوامره تكون مودته، فيكون واجب الطاعة، وهو معنى الإمامة).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة هذا الحديث. وقوله: (إن أحمد روى هذا في مسنده) كذب بيّن، فإن هذا مسند أحمد موجود، به من النسخ ما شاء الله، وليس فيه هذا الحديث، وأظهر من ذلك كذبًا قوله: إن نحو هذا في الصحيحين، وليس هو في الصحيحين، بل فيهما وفي المسند ما يناقض ذلك.
ولا ريب أن هذا الرجل وأمثاله جهّال بكتب أهل العلم، لا يطالعونها ولا يعلمون ما فيها.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، وهم المرجوع إليهم في هذا. وهذا لا يوجد في شيء من كتب الحديث التي يرجع إليها.(2/443)
الوجه الثالث: أن هذه الآية في سورة الشورى وهي مكيّة باتفاق أهل السنّة، بل جميع آل حم مكيّات، وكذلك آل طس، ومن المعلوم أن عليًّا إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد غزوة بدر، والحسن ولد في السنة الثالثة من الهجرة، والحسين في السنة الرابعة، فتكون هذه الآية قد نزلت قبل وجود الحسن والحسين بسنين متعددة، فكيف يفسر النبي صلى الله عليه وسلم الآية بوجوب مودة قرابة لا تعرف ولم تخلق بعد؟!
الوجه الرابع: أن تفسير الآية الذي في الصحيحين عن ابن عباس يناقض ذلك، ففي الصحيحين عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن قوله تعالى: ((قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)) [الشورى:23] ، فقلت: أن لا تؤذوا محمدًا في قرابته، فقال ابن عباس: عجلتَ، إنه لم يكن بطن من قريش إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة، فقال: لا أسألكم عليه أجرًا، لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم.
فهذا ابن عباس ترجمان القرآن، وأعلم أهل البيت بعد عليّ،يقول: ليس معناها مودة ذوي القربى، لكن معناها: لا أسألكم يا معشر العرب ويا معشر قريش عليه أجرًا، لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم، فهو سأل الناس الذين أُرسل إليهم أولاً أن يصلوا رحمه، فلا يعتدوا عليه حتى يبلّغ رسالة ربه.
الوجه الخامس: أنه قال: لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى، لم يقل: إلا المودة للقربى، ولا المودة لذوى القربى، فلو أراد المودة لذوي القربى لقال: المودة لذوي القربى.(2/444)
الوجه السادس: أن يُقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل على تبليغ رسالة ربه أجرًا ألبتة، بل أجره على الله، كما قال ((قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)) [ص:86] .وقوله: ((أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ)) [الطور:40] ،وقوله: ((قُلْ مَا سَأَلْتُكُم عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِن أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ)) [سبأ:47] .
ولكن الاستثناء هنا منقطع، كما قال: ((قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً)) [الفرقان:57] .
ولا ريب أن محبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم واجبة، لكن لم يثبت وجوبها بهذه الآية، ولا محبتهم أجر للنبي صلى الله عليه وسلم، بل هو مما أمرنا الله به، كما أمرنا بسائر العبادات.
فمن جعل محبة أهل بيته أجرًا له يوفِّيه إياه فقد أخطأ خطًأ عظيمًا، ولو كان أجرًا له لم نثب عليه نحن، لأنَّا أعطيناه أجره الذي يستحقّه بالرسالة، فهل يقول مسلم مثل هذا؟!
الوجه السابع: أن القربى معرّفة باللام، فلا بد أن يكون معروفًا عند المخاطبين الذين أُمر أن يقول لهم: ((قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا)).
وأما قوله: (والثلاثة لا تجب موالاتهم) فممنوع، بل يجب أيضًا مودتهم وموالاتهم، فإنه قد ثبت أن الله يحبهم، ومن كان الله يحبه وجب علينا أن نحبه، فإن الحب في الله والبغض في الله واجب، وهو أوثق عرى الإيمان، وكذلك هم من أكابر أولياء الله المتقين، وقد أوجب الله موالاتهم، بل قد ثبت أن الله رضي عنهم ورضوا عنه بنصّ القرآن، وكل من رضي الله عنه فإنه يحبه.
والمقصود أن قوله: (وغير عليّ من الثلاثة لا تجب مودته) كلام باطل عند الجمهور، بل مودة هؤلاء أوجب عند أهل السنّة من مودة عليّ، لأن وجوب المودة عَلَى مقدار الفضل فكل من كان أفضل كانت مودته أكمل.(2/445)
وأما قوله: (إن مخالفته تنافي المودة، وامتثال أوامره هو مودته، فيكون واجب الطاعة، وهو معنى الإمامة).
فجوابه من وجوه: أحدها: إن كان المودة توجب الطاعة فقد وجبت مودة ذوي القربى فتجب طاعتهم، فيجب أن تكون فاطمة أيضًا إمامًا، وإن كان هذا باطلاً فهذا مثله.
الثاني: أن المودة ليست مستلزمة للإمامة في حال وجوب المودة، فليس من وجبت مودته كان إمامًا حينئذٍ، بدليل أن الحسن والحسين تجب مودتهما قبل مصيرهما إمامين، وعليٌّ تجب مودته في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن إمامًا، بل تجب وإن تأخرت إمامته إلى مقتل عثمان.
وهؤلاء القوم مع أهل السنة بمنزلة النصارى مع المسلمين، فالنصارى يجعلون المسيح إلهًا، ويجعلون إبراهيم وموسى ومحمدًا أقل من الحواريين الذين كانوا مع عيسى، وهؤلاء يجعلون عليًّا هو الإمام المعصوم، أو هو النبي أو إله، والخلفاء الأربعة أقل من مثل الأشتر النخعي وأمثاله الذين قاتلوا معه، ولهذا كان جهلهم وظلمهم أعظم من أن يوصف: ويتمسكون بالمنقولات المكذوبة، والألفاظ المتشابهة، والأقيسة الفاسدة، ويدعون المنقولات الصادقة بل المتواترة، والنصوص البيّنة، والمعقولات الصريحة.(2/446)
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الثامن: قوله تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)) [البقرة:207]. قال الثعلبي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة خلف عليّ بن أبي طالب لقضاء ديونه ورد الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خرج إلى الغار، وقد أحاط المشركون بالدار، أن ينام على فراشه، فقال له: يا عليّ اتشح ببردي الحضرمي الأخضر، ونم على فراشي، فإنه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله تعالى، ففعل ذلك، فأوحى الله تعالى إلى جبريل وميكائيل أني قد آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة، فأوحى الله إليها: ألا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد عليه الصلاة والسلام فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة؟ اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه، فنزلا، فكان جبريل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، فقال جبريل: بخٍ بخٍ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة؟ فأنزل الله عز وجل عَلَى رسوله صلى الله عليه وسلم وهو متوجه إلى المدينة في شأن عليّ: ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)) [البقرة:207] . وقال ابن عباس: إنما نزلت في عليّ لما هرب النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين إلى الغار، وهذه فضيلة لم تحصل لغيره تدل على أفضلية عليّ على جميع الصحابة، فيكون هو الإمام).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة هذا النقل، ومجرد نقل الثعلبي وأمثاله لذلك، بل روايتهم، ليس بحجة باتفاق طوائف أهل السنّة والشيعة، لأن هذا مرسل متأخر، ولم يذكر إسناده، وفي نقله من هذا الجنس للإسرائيليات والإسلاميات أمور يُعلم أنها باطلة، وإن كان هو لم يتعمد الكذب.
ثانيها: أن هذا الذي نقله من هذا الوجه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث والسيرة، والمرجع إليهم في هذا الباب.(2/447)
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر هو وأبو بكر إلى المدينة لم يكن للقوم غرض في طلب عليّ، وإنما كان مطلوبهم النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وجعلوا في كل واحد منهما ديته لمن جاء به، كما ثبت ذلك في الصحيح(1) الذي لا يستريب أهل العلم في صحته، وترك عليًّا في فراشه ليظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم في البيت فلا يطلبوه، فلما أصبحوا وجدوا عليًّا فظهرت خيبتهم، ولم يؤذوا عليًّا، بل سألوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم أنه لا علم له به، ولم يكن هناك خوف عَلَى عليّ من أحد، وإنما كان الخوف على النبي صلى الله عليه وسلم وصدِّيقه، ولو كان لهم في عليّ غرض لتعرضوا له لما وجدوه، فلما لم يتعرضوا له دلّ على أنهم لا غرض لهم فيه، فأي فداء هنا بالنفس؟
والذي كان يفديه بنفسه بلا ريب، ويقصد أن يدفع بنفسه عنه، ويكون الضرر به دونه، هو أبو بكر، كان يذكر الطلبة فيكون خلفه، ويذكر الرصد فيكون أمامه، وكان يذهب فيكشف له الخبر، وإذا كان هناك ما يُخاف أحب أن يكون به لا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وغير واحد من الصحابة قد فداه بنفسه في مواطن الحروب، فمنهم من قُتل بين يديه، ومنهم من شلّت يده، كطلحة بن عبيد الله، وهذا واجب على المؤمنين كلهم، فلو قدِّر أنه كان هناك فداء بالنفس لكان هذا من الفضائل المشتركة بينه وبين غيره من الصحابة، فكيف إذا لم يكن هناك خوف عَلَى عليٍّ؟
وأيضًا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (اتّشح ببردي هذا الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك منهم رجل بشيء تكرهه) فوعده، وهو الصادق، أنه لا يخلص إليه مكروه، وكان طمأنينته بوعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) انظر: البخاري: (5/58-60).(2/448)
الرابع: أن هذا الحديث فيه من الدلائل على كذبه ما لا يخفى، فإن الملائكة لا يقال فيهم مثل هذا الباطل الذي لا يليق بهم، وليس أحدهما جائعًا فيؤثره الآخر بالطعام، ولا هناك خوف فيؤثر أحدهما صاحبه بالأمن، فكيف يقول الله لهما: أيّكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ ولا للمؤاخاة بين الملائكة أصل، بل جبريل له عمل يختص به دون ميكائيل، وميكائيل له عمل يختص به دون جبريل، كما جاء في الآثار أن الوحي والنصر لجبريل، وأن الرزق والمطر لميكائيل.
الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخ عليًّا ولا غيره، بل كل ما رُوي في هذا فهو كذب.
وحديث المؤاخاة الذي يُروى في ذلك -مع ضعفه وبطلانه- إنما فيه مؤاخاته له في المدينة، هكذا رواه الترمذي، فأما بمكة فمؤاخاته له باطلة على التقديرين.
وأيضًا: فقد عرف أنه لم يكن فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة باتفاق علماء النقل.
السادس: أن هبوط جبريل وميكائيل لحفظ واحد من الناس من أعظم المنكرات؛ فإن الله يحفظ من يشاء من خلقه بدون هذا، وإنما رُوي هبوطهما يوم بدر للقتال، وفي مثل تلك الأمور العظام، ولو نزلا لحفظ واحد من الناس لنزلا لحفظ النبي صلى الله عليه وسلم وصدّيقه، اللذين كان الأعداء يطلبونهما من كل وجه، وقد بذلوا في كل واحد منهما ديته، وهم عليهما غلاظ شداد سود الأكباد.
السابع: أن هذه الآية في سورة البقرة، وهي مدنية بلا خلاف، وإنما نزلت بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، لم تنزل وقت هجرته. وقد قيل: إنها نزلت لما هاجر صهيب وطلبه المشركون، فأعطاهم ماله، وأتى المدينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ربح البيع أبا يحيى) وهذه القصة مشهورة في التفسير، نقلها غير واحد.
الثامن: أن قوله: (هذه فضيلة لم تحصل لغيره فدل على أفضليته فيكون هو الإمام).(2/449)
فيقال: لا ريب أن الفضيلة التي حصلت لأبي بكر في الهجرة لم تحصل لغيره من الصحابة بالكتاب والسنّة والإجماع، فتكون هذه الأفضلية ثابتة له دون عمر وعثمان وعليّ وغيرهم من الصحابة، فيكون هو الإمام.
فهذا هو الدليل الصدق الذي لا كذب فيه، يقول الله: ((إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) [التوبة:40] .
ومثل هذه الفضيلة لم تحصل لغير أبي بكر قطعًا، بخلاف الوقاية بالنفس، فإنها لو كانت صحيحة فغير واحد من الصحابة وقى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، وهذا واجب على كل مؤمن، ليس من الفضائل المختصة بالأكابر من الصحابة.
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان التاسع:قوله تعالى: ((فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِين)) [آل عمران:61] . نقل الجمهور كافة أن (أبناءنا) إشارة إلى الحسن والحسين، و(نساءنا) إشارة إلى فاطمة، و(أنفسنا) إشارة إلى عليّ، وهذه الآية دليل على ثبوت الإمامة لعليّ؛ لأنه تعالى قد جعل نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاتحاد محال، فيبقى المراد بالمساواة له الولاية، وأيضًا لو كان غير هؤلاء مساويًا لهم وأفضل منهم في استجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم معه؛ لأنه في موضع الحاجة، وإذا كانوا هم الأفضل تعيّنت الإمامة فيهم. وهل تخفى دلالة هذه الآية على المطلوب إلا على من استحوذ الشيطان عليه، وأخذ بمجامع قلبه، وحُبّبت إليه الدنيا التي لا ينالها إلا بمنع أهل الحق من حقهم؟)(2/450)
والجواب أن يقال: أما أخذه عليًّا وفاطمة والحسن والحسين في المباهلة فحديث صحيح، رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص، قال في حديث طويل لما نزلت هذه الآية: ((فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِين)) [آل عمران:61] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا وفاطمة وحسنًا وحسينًا فقال: (اللهم هؤلاء أهلي)(1).
ولكن لا دلالة في ذلك على الإمامة ولا على الأفضلية.
وقوله: (وقد جعله الله نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاتحاد محال، فبقي المساواة له، وله الولاية العامة، فكذا لمساويه).
قلنا: لا نسلم أنه لم يبق إلا المساواة، ولا دليل على ذلك، بل حمله على ذلك ممتنع، لأن أحدًا لا يساوي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عليًّا ولا غيره.
وهذا اللفظ في لغة العرب لا يقتضي المساواة، قال تعالى في قصة الإفك: ((لَّوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا)) [النور:12] ، ولم يوجب ذلك أن يكون المؤمنون والمؤمنات متساوين.
والمباهلة إنما تحصل بالأقربين إليه، وإلا فلو باهلهم بالأبعدين في النسب، وإن كانوا أفضل عند الله، لم يحصل المقصود؛ فإن المراد أنهم يدعون الأقربين، كما يدعو هو الأقرب إليه.
وأما قول الرافضي: (لو كان غير هؤلاء مساويًا لهم، أو أفضل منهم في استجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم معه، لأنه في موضع الحاجة).
فيقال في الجواب: لم يكن المقصود إجابة الدعاء؛ فإن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وحده كافٍ، ولو كان المراد بمن يدعوه معه أن يستجاب دعاؤه، لدعا المؤمنين كلهم ودعا بهم، كما كان يستسقى بهم، وكما كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، وكان يقول: (وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟ بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم؟).
__________
(1) انظر: صحيح مسلم (4/1871).(2/451)
ومن المعلوم أن هؤلاء، وإن كانوا مجابين،فكثرة الدعاء أبلغ في الإجابة، لكن لم يكن المقصود دعوة من دعاه لإجابة دعائه، بل لأجل المقابلة بين الأهل والأهل، ونحن نعلم بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم لو دعا أبا بكر وعمر وعثمان، وطلحة والزبير، وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وغيرهم للمباهلة، لكانوا من أعظم الناس استجابة لأمره، وكان دعاء هؤلاء وغيرهم أبلغ في إجابة الدعاء، لكن لم يأمره الله سبحانه بأخذهم معه، لأن ذلك لا يحصل به المقصود.
فإن المقصود أن أولئك يأتون بمن يشفقون عليه طبعًا، كأبنائهم ونسائهم ورجالهم الذين هم أقرب الناس إليهم. فلو دعا النبي صلى الله عليه وسلم قومًا أجانب لأتى أولئك بأجانب، ولم يكن يشتد عليهم نزول البهلة بأولئك الأجانب، كما يشتد عليهم نزولها بالأقربين إليهم، فإن طبع البشر يخاف على أقربيه ما لا يخاف على الأجانب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو قرابته، وأن يدعو أولئك قرابتهم.
فقد تبيّن أن الآية لا دلالة فيها أصلاً على مطلوب الرافضي، لكنه وأمثاله ممن في قلبه زيغ، كالنصارى الذين يتعلقون بالألفاظ المجملة ويدعون النصوص الصريحة، ثم قدحه في خيار الأمة بزعمه الكاذب، حيث زعم أن المراد بالأنفس: المساوون، وهو خلاف المستعمل في لغة العرب.
ومما يبين ذلك أن قوله: (نساءنا) لا يختص بفاطمة، بل من دعاه من بناته كانت بمنزلتها في ذلك، لكن لم يكن عنده إذ ذاك إلا فاطمة، فإن رقيَّة وأم كلثوم وزينب كن قد توفين قبل ذلك.
فكذلك (أنفسنا) ليس مختصا بعليّ، بل هذه صيغة جمع، كما أن (نساءنا) صيغة جمع، وكذلك (أبناءنا) صيغة جمع، وإنما دعا حسنًا وحسينًا لأنه لم يكن ممن ينسب إليه بالنبوة سواهما.(2/452)
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان العاشر: قوله تعالى: ((فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ)) [البقرة:37] . روى الفقيه ابن المغازلي الشافعي بإسناده عن ابن عباس، قال: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، قال: سأله بحق محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين أن يتوب عليه، فتاب عليه، وهذه فضيلة لم يلحقه أحد من الصحابة فيها، فيكون هو الإمام، لمساواته النبي صلى الله عليه وسلم في التوسل به إلى الله تعالى).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة هذا النقل، فقد عُرف أن مجرد رواية ابن المغازلي لا يسوغ الاحتجاج بها باتفاق أهل العلم.
الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم، وذكره أبو الفرج ابن الجوزي في (الموضوعات).
الثالث: أن الكلمات التي تلقاها آدم قد جاءت مفسّرة في قوله تعالى: ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) [الأعراف:23] .
وقد رُوي عن السلف هذا وما يشبهه، وليس في شيء من النقل الثابت عنهم ما ذكره من القسم.
الرابع: أنه معلوم بالاضطرار أن من هو دون آدم من الكفّار والفساق إذا تاب أحدهم إلى الله تاب الله عليه، وإن لم يقسم عليه بأحد، فكيف يحتاج آدم في توبته إلى مالا يحتاج إليه أحد من المذنبين: لا مؤمن ولا كافر؟
الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدًا بالتوبة بمثل هذا الدعاء، بل ولا أمر أحدًا بمثل هذا الدعاء في توبة ولا غيرها، بل ولا شرع لأمته أن يقسموا على الله بمخلوق، ولو كان هذا الدعاء مشروعًا لشرعه لأمته.
السادس: أن الإقسام على الله بالملائكة والأنبياء أمر لم يرد به كتاب ولا سنة، بل قد نصّ غير واحد من أهل العلم -كأبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما- على أنه لا يجوز أن يقسم على الله بمخلوق. وقد بسطنا الكلام على ذلك.(2/453)
السابع: أن هذا لو كان مشروعًا فآدم نبيّ كريم، كيف يقسم على الله بمن هو أكرم عليه منه؟ ولا ريب أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من آدم، لكن آدم أفضل من عليّ وفاطمة وحسن وحسين.
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الحادي عشر: قوله تعالى: ((إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي)) [البقرة:124] ،روى الفقيه ابن المغازلي الشافعي عن ابن مسعود، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: انتهت الدعوة إليّ وإلى عليّ، لم يسجد أحدنا لصنم قط، فاتخذني نبيًا واتخذ عليًًّا وصيًا، وهذا نص في الباب).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة هذا كما تقدّم.
الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع بإجماع أهل العلم بالحديث.
الثالث: أن قوله: (انتهت الدعوة إلينا) كلام لا يجوز أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه إن أريد: أنها لم تُصب من قبلنا كان ممتنعًا؛ لأن الأنبياء من ذرية إبراهيم دخلوا في الدعوة.
الوجه الرابع: أن كون الشخص لم يسجد لصنم فضيلة يشاركه فيها جميع من ولد على الإسلام، مع أن السابقين الأوَّلين أفضل منه، فكيف يجعل المفضول مستحقًا لهذه المرتبة دون الفاضل؟
الخامس: أنه لو قيل: إنه لم يسجد لصنم؛ لأنه أسلم قبل البلوغ، فلم يسجد بعد إسلامه، فهكذا كل مسلم، والصبّي غير مكلف، وإن قيل: إنه لم يسجد قبل إسلامه، فهذا النفي غير معلوم، ولا قائله ممن يوثق به.(2/454)
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الثاني عشر: قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)) [مريم:96] ، روى الحافظ أبو نُعيم الأصبهاني بإسناده إلى ابن عباس، قال: نزلت في عليّ، والوُدُّ محبة في القلوب المؤمنة. وفي تفسير الثعلبي عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ: يا عليّ قل: اللهم اجعل لي عندك عهدًا، واجعل لي في صدور المؤمنين مودة، فأنزل الله: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)) [مريم:96] ، ولم يثبت لغيره ذلك، فيكون هو الإمام).
والجواب من وجوه: أحدها: أنه لا بد من إقامة الدليل على صحة المنقول، وإلا فالاستدلال بما لا تثبت مقدماته باطل بالاتفاق، وهو من القول بلا علم، ومن قفو الإنسان ما ليس به علم، ومن المحاجّة بغير علم، والعزو المذكور لا يفيد الثبوت باتفاق أهل السنّة والشيعة.
الوجه الثاني: أن هذين الحديثين من الكذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
الثالث: أن قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) [مريم:96] عامّ في جميع المؤمنين، فلا يجوز تخصيصها بعليّ، بل هي متناولة لعليّ وغيره، والدليل عليه: أن الحسن والحسين وغيرهما من المؤمنين الذين تعظّمهم الشيعة داخلون في الآية، فعُلم بذلك الإجماع على عدم اختصاصها بعليّ.
وأما قوله: (ولم يثبت مثل ذلك لغيره من الصحابة) فممنوع كما تقدم، فإنهم خير القرون، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات فيهم أفضل منهم في سائر القرون، وهم بالنسبة إليهم أكثر منهم في كل قرن بالنسبة إليه.(2/455)
الرابع: أن الله قد أخبر أنه سيجعل للذين آمنوا وعملوا الصالحات ودّا، وهذا وعد منه صادق، ومعلوم أن الله قد جعل للصحابة مودّة في قلب كل مسلم، لا سيما الخلفاء رضي الله عنهم، لا سيما أبو بكر وعمر، فإن عامّة الصحابة والتابعين كانوا يودُّونهما، وكانوا خير القرون.
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الثالث عشر: قوله تعالى: ((إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)) [الرعد:7] .من كتاب (الفردوس) عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا المنذر وعليّ الهادي، بك يا عليّ يهتدي المهتدون، ونحوه رواه أبو نُعيم، وهو صريح في ثبوت الولاية والإمامة).
والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا لم يقم دليل على صحته، فلا يجوز الاحتجاج به، وكتاب (الفردوس) للديلمي فيه موضوعات كثيرة أجمع أهل العلم على أن مجرد كونه رواه لا يدل على صحة الحديث، وكذلك رواية أبي نُعيم لا تدل على الصحة.
الثاني: أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث، فيجب تكذيبه ورده.
الثالث: أن هذا الكلام لا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قوله: أنا المنذر وبك يا عليّ يهتدي المهتدون، ظاهره أنهم بك يهتدون دوني، وهذا لا يقوله مسلم؛ فإن ظاهره أن النذارة والهداية مقسومة بينهما، فهذا نذيرٌ لا يهتدى به، وهذا هادٍ وهذا لا يقوله مسلم.
الرابع: أن الله تعالى قد جعل محمدًا هاديًا، فقال: ((وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم * صِرَاطِ اللَّهِ))[الشورى:52-53] . فكيف يُجعل الهادي من لم يوصف بذلك دون من وصف به؟!(2/456)
الخامس: أن قوله: (بك يهتدي المهتدون) ظاهره أن كل من اهتدى من أمة محمد فبه اهتدى، وهذا كذب بيّن؛ فإنه قد آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم خلق كثير، واهتدوا به، ودخلوا الجنة، ولم يسمعوا من عليّ كلمة واحدة، وأكثر الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واهتدوا به لم يهتدوا بعليّ في شيء، وكذلك لما فتحت الأمصار وآمن واهتدى الناس بمن سكنها من الصحابة وغيرهم، كان جماهير المؤمنين لم يسمعوا من عليّ شيئًا، فكيف يجوز أن يُقال:بك يهتدي المهتدون؟!
السادس: أنه قد قيل معناه: إنما أنت نذير ولكل قوم هاد، وهو الله تعالى، وهو قول ضعيف، وكذلك قول من قال: أنت نذير وهادٍ لكل قوم، قول ضعيف، والصحيح أن معناها: إنما أنت نذير، كما أُرسل من قبلك نذيرٌ، ولكل أمة نذير يهديهم -أي: يدعوهم- كما في قوله: ((وَإِنْ مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ)) [فاطر:24] . وهذا قول جماعة من المفسرين، مثل قتادة وعكرمة وأبي الضحى وعبد الرحمن بن زيد.
وأما تفسيره بعليّ فإنه باطل، لأنه قال: ((وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ))، وهذا يقتضي أن يكون هادي هؤلاء غير هادي هؤلاء، فيتعدد الهداة، فكيف يُجْعل عليّ هاديًا لكل قوم من الأوَّلين والآخرين؟!
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الرابع عشر: قوله تعالى: ((وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ)) [الصافات:24] من طريق أبي نُعيم عن الشعبي عن ابن عباس، قال في قوله تعالى: ((وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ)) عن ولاية عليّ، وكذا في كتاب (الفردوس) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا سئلوا عن الولاية وجب أن تكون ثابتة له، ولم يثبت لغيره من الصحابة ذلك، فيكون هو الإمام).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة النقل، والعزو إلى (الفردوس) وإلى أبي نُعيم لا تقوم به حجة باتفاق أهل العلم.
الثاني: أن هذا كذب موضوع بالاتفاق.(2/457)
الثالث: أن الله تعالى قال: ((اَحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ* مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُون))[الصافات:22-26] .
فهذا خطاب عن المشركين المكذِّبين بيوم الدين، وهؤلاء يسألون عن توحيد الله والإيمان برسله واليوم الآخر. وأي مدخل لحب عليٍّ في سؤال هؤلاء؟ تراهم لو أحبّوه مع هذا الكفر والشرك أكان ذلك ينفعهم؟ أو تراهم لو أبغضوه أين كان بغضهم له في بغضهم لأنبياء الله ولكتابه ودينه؟
وما يفسر القرآن بهذا، ويقول: النبي صلى الله عليه وسلم فسَّره بمثل هذا، إلا زنديق ملحد، متلاعب بالدين، قادح في دين الإسلام، أو مفرط في الجهل، لا يدري ما يقول، وأي فرق بين حب عليّ وطلحة والزبير وسعد وأبي بكر وعمر وعثمان؟!
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الخامس عشر: قوله تعالى: ((وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)) [محمد:30] . روى أبو نُعيم بإسناده، عن أبي سعيد الخدري في قوله تعالى: ((وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)) قال: ببغضهم عليًّا، ولم يثبت لغيره من الصحابة ذلك، فيكون أفضل منهم، فيكون هو الإمام).
والجواب: المطالبة بصحة النقل أولاً.
والثاني: أن هذا من الكذب على أبي سعيد عند أهل المعرفة بالحديث.
الثالث: أن يُقال: لو ثبت أنه قال، فمجرد قول أبي سعيد قول واحدٍ من الصحابة، وقول الصاحب إذا خالفه صاحبٌ آخر ليس بحجة باتفاق أهل العلم، وقد عُلم قدح كثير من الصحابة في عليٍّ، وإنما احتج عليهم بالكتاب والسنّة، لا بقول آخر من الصحابة.
الرابع: أنّا نعلم بالاضطرار أن عامة المنافقين لم يكن ما يُعرفون به من لحن القول هو بغض عليّ، فتفسير القرآن بهذا فرية ظاهرة.(2/458)
(فصل)
قال الرافضي: البرهان السادس عشر: قوله تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ))[الواقعة:10-11]. روى أبو نُعيم عن ابن عباس في هذه الآية: سابق هذه الأمة عليّ بن أبي طالب، روى الفقيه ابن المغازلي الشافعي، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: ((وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ)) قال: سبق يوشع بن نون إلى موسى، وسبق موسى إلى هارون، وسبق صاحب يَس إلى عيسى، وسبق عليّ إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وهذه الفضيلة لم تثبت لغيره من الصحابة، فيكون هو الإمام).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة النقل، فإن الكذب كثير فيما يرويه هذا وهذا.
الثاني: أن هذا باطل عن ابن عباس، ولو صح عنه لم يكن حجة إذا خالفه من هو أقوى منه.
الثالث: أن الله تعالى يقول: ((وَالسَّابِقُونَ اْلأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَاْلأَنْصَار وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا اْلأَنْهَارُ)) [التوبة:100] . وقال تعالى: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِاْلخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ)) [فاطر:32] .
والسابقون الأوّلون هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، الذين هم أفضل ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل. ودخل فيهم أهل بيعة الرضوان، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فكيف يُقال: إن سابق هذه الأمة واحدٌ؟!(2/459)
الرابع: قوله: (وهذه الفضيلة لم تثبت لغيره من الصحابة) ممنوع؛ فإن الناس متنازعون في أول من أسلم، فقيل: أبو بكر أول من أسلم، فهو أسبق إسلامًا من عليّ. وقيل: إن عليًا أسلم قبله، لكن عليّ كان صغيرًا،وإسلام الصبي فيه نزاع بين العلماء، ولا نزاع في أن إسلام أبي بكر أكمل وأنفع، فيكون هو أكمل سبقًا بالاتفاق، وأسبق على الإطلاق على القول الآخر، فكيف يُقال: عليٌّ أسبق منه بلا حجة تدل على ذلك.
(فصل)
قال الرافضي: البرهان السابع عشر: قوله تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ)) [التوبة:20] روى رزين بن معاوية في (الجمع بين الصحاح الستة) أنها نزلت في عليّ لما افتخر طلحة بن شيبة والعباس، وهذه لم تثبت لغيره من الصحابة، فيكون أفضل، فيكون هو الإمام).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة النقل، ورزين قد ذكر في كتابه أشياء ليست في الصحاح.
الثاني: أن الذي في الصحيح ليس كما ذكره عن رزين، بل الذي في الصحيح ما رواه النعمان بن بشير، قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل:لا أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر:لا أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمّر المسجد الحرم، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر وقال:لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوم الجمعة،ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله تعالى: ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) [التوبة:19] أخرجه مسلم(1).
__________
(1) انظر: مسلم (3/1449) والمسند (4/269).(2/460)
وهذا الحديث يقتضي أن قول عليّ الذي فضَّل به الجهاد على السدانة والسقاية أصح من قول من فضّل السدانة والسقاية، وأن عليًّا كان أعلم بالحق في هذه المسألة ممن نازعه فيها، وهذا صحيح.
وأما التفضيل بالإيمان والهجرة والجهاد، فهذا ثابت لجميع الصحابة الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا، فليس هاهنا فضيلة اختصّ بها عليّ، حتى يقال: إن هذا لم يثبت لغيره.
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الثامن عشر: قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً)) [المجادلة:12] من طريق الحافظ أبي نُعيم إلى ابن عباس، قال: إن الله حرّم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بتقديم الصدقة، وبخلوا أن يتصدّقوا قبل كلامه، وتصدَّق عليٌ، ولم يفعل ذلك أحد من المسلمين غيره، ومن تفسير الثعلبي قال ابن عمر: كان لعليّ ثلاثة(1) لو كانت لي واحدة منهن كانت أحبّ إليّ من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى، وروى رزين بن معاوية في (الجمع بين الصحاح الستة) عن عليّ: ما عمل بهذه الآية غيري، وبي خفف الله عن هذه الأمة، وهذا يدل على فضيلته عليهم، فيكون هو أحق بالإمامة).
__________
(1) هكذا في الأصل والصواب ثلاث.(2/461)
والجواب أن يُقال: أما الذي ثبت فهو أن عليًّا رضي الله عنه تصدَّق وناجى، ثم نُسخت الآية قبل أن يعمل بها غيره، لكن الآية لم توجب الصدقة عليهم، لكن أمرهم إذا ناجوا أن يتصدّقوا، فمن لم يناج لم يكن عليه أن يتصدقٌّ. وإذا لم تكن المناجاة واجبة، لم يكن أحد ملومًا إذا ترك ما ليس بواجب، ومن كان فيهم عاجزًا عن الصدقة، ولكن لو قَدَرَ لناجى فتصدّق، فله نيته وأجره، ومن لم يعرض له سبب يناجي لأجله لم يُجعل ناقصًا، ولكن من عرض له سبب اقتضى المناجاة فتركه بخلاً، فهذا قد ترك المستحب، ولا يمكن أن يُشهد على الخلفاء أنهم كانوا من هذا الضرب، ولا يُعلم أنهم كانوا ثلاثتهم حاضرين عند نزول هذه الآية، بل يمكن غيبة بعضهم، ويمكن حاجة بعضهم، ويمكن عدم الداعي إلى المناجاة.
ولم يطل زمان عدم نسخ الآية، حتى يُعلم أن الزمان الطويل لا بد أن يعرض فيه حاجة إلى المناجاة.
وبتقدير أن يكون أحدهم ترك المستحب، فقد بيّنا غير مرة أن من فعل مستحبًا لم يجب أن يكون أفضل من غيره مطلقًا.
وفي الترمذي مرفوعًا: (لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمَّهم غيره)(1).
وتجهيز عثمان بألف بعير أعظم من صدقة عليّ بكثير كثير؛ فإن الإنفاق في الجهاد كان فرضًا، بخلاف الصدقة أمام النجوى فإنه مشروط بمن يريد النجوى، فمن لم يردها لم يكن عليه أن يتصدق.
وقد أنزل الله في بعض الأنصار: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) [الحشر:9] .
وبالجملة فباب الإنفاق في سبيل الله وغيره، لكثير من المهاجرين والأنصار، فيه من الفضيلة ما ليس لعليّ، فإنه لم يكن له مالٌ عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) انظر: سنن الترمذي (5/276).(2/462)
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان التاسع عشر: ((وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا)) [الزخرف:45] . قال ابن عبد البر، وأخرجه أبو نُعيم أيضًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به جمع الله بينه وبين الأنبياء، ثم قال: سلهم يا محمد عَلاَم بُعثتم؟ قالوا: بعثنا على شهادة أن لا إله إلا الله، وعلى الإقرار بنبوّتك والولاية لعليّ بن أبي طالب، وهذا صريح بثبوت الإمامة لعليّ).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة في هذا وأمثاله بالصحة، وقولنا في هذا الكذب القبيح وأمثاله: المطالبة بالصحة، ليس بشك منا في أن هذا وأمثاله من أسمج الكذب وأقبحه، لكن على طريق التنزل في المناظرة، وأن هذا لو لم يعلم أنه كذب لم يجز أن يُحتج به حتى يثبت صدقه؛ فإن الاستدلال بما لا تُعلم صحته لا يجوز بالاتفاق، فإنه قول بلا علم، وهو حرام بالكتاب والسنّة والإجماع.
الوجه الثاني: أن مثل هذا مما اتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع.
الوجه الثالث: أن هذا مما يعلم من له علم ودين أنه من الكذب الباطل الذي لا يُصدق به من له عقل ودين، وإنما يختلق مثل هذا أهل الوقاحة والجراءة في الكذب، فإن الرسل صلوات الله عليهم كيف يسألون عمَّا لا يدخل في أصل الإيمان؟
وقد أجمع المسلمون على أن الرجل لو آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وأطاعه، ومات في حياته قبل أن يعلم أن الله خلق أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا لم يضره ذلك شيئًا، ولم يمنعه ذلك من دخول الجنة، فإذا كان هذا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يقال: إن الأنبياء يجب عليهم الإيمان بواحد من الصحابة؟!(2/463)
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان العشرون: قوله تعالى: ((وَتَعِيهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)) في تفسير الثعلبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سألت الله عز وجل أن يجعلها أذنك يا عليّ. ومن طريق أبي نُعيم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عليّ! إن الله أمرني أن أُدْنِيك وأعلّمك، يا عليّ! إن الله أمرني أن أدنيك وأعلمك لتعِيَ، وأُنزلت عَلَيَّ هذه الآية: ((وَتَعِيهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)) فأنت أذن واعية، وهذه الفضيلة لم تحصل لغيره، فيكون هو الإمام).
والجواب من وجوه: أحدها: بيان صحة الإسناد. والثعلبي وأبو نعيم يرويان مالا يُحتج به بالإجماع.
الثاني: أن هذا موضوع باتفاق أهل العلم.
الثالث: أن قوله: ((لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُم فِي الْجَارِيَةَ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيهَا أُذُنٌ وَاعِيَة))[الحاقة:11-12] لم يرد به أذن واحدٍ من الناس فقط، فإن هذا خطاب لبني آدم.
وحملهم على السفينة من أعظم الآيات، قال تعالى: ((وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ))[يس:41-42] ،وقال: ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيكُم مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)) [لقمان:31] ، فكيف يكون ذلك كله ليعي ذلك واحد من الناس؟
نعم. أذن عليّ من الآذان الواعية، كأذن أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم، وحينئذٍ فلا اختصاص لعليّ بذلك. وهذا مما يُعلم بالاضطرار، أن الآذان الواعية ليست أذن عليّ وحدها، أترى أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست واعية؟ ولا أذن الحسن والحسين وعمّار وأبي ذر والمقداد وسلمان الفارسي وسهل بن حنيف وغيرهم ممن يوافقون عَلَى فضيلتهم وإيمانهم؟
وإذا كانت الآذان الواعية له ولغيره، لم يجز أن يُقال: هذه الأفضلية لم تحصل لغيره.(2/464)
ولا ريب أن هذا الرافضي الجاهل الظالم يبني أمره على مقدمات باطلة؛ فإنه لا يُعلم في طوائف أهل البدع أوْهَى من حجج الرافضة، بخلاف المعتزلة ونحوهم، فإن لهم حججًا وأدلة قد تشتبه على كثير من أهل العلم والعقل. وأما الرافضة فليس لهم حجة قط تنفق إلا على جاهل أو ظالمٍ صاحب هوى، يقبل ما يوافق هواه، سواء كان حقًّا أو باطلاً.
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الحادي والعشرون: سورة (هل أتى) في تفسير الثعلبي من طرق مختلفة قال: مرض الحسن والحسين، فعادهما جدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وعامة العرب، فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولديك، فنذر صوم ثلاثة أيام، وكذا نذرت أمهما فاطمة وجاريتهم فضة، فبرئا، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فاستقرض عليّ ثلاثة آصع من شعير، فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته، وخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد منهم قرصًا، وصلّى عليّ مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه، إذ أتاهم مسكين، فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد صلى الله عليه وسلم، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فسمعه عليّ، فأمر بإعطائه، فأعطوه الطعام، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئًا إلا الماء القراح.
فلما كان اليوم الثاني قامت فاطمة فخبزت صاعًا، وصلّى عليّ مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه، فأتاهم يتيم، فوقف بالباب، وقال: السلام عليكم أهل بيت محمد صلى الله عليه وسلم، يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي يوم العقبة، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فسمعه عليّ، فأمر بإعطائه، فأعطوه الطعام، ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا إلا الماء القراح.(2/465)
فلما كان اليوم الثالث قامت فاطمة إلى الصاع الثالث، فطحنته وخبزته، وصلّى عليّ مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل فوُضع الطعام بين يديه، إذ أتى أسير فقال: أتأسروننا وتشردوننا ولا تطعموننا، أطعموني فإني أسير محمد أطعمكم الله من موائد الجنة، فسمعه عليّ فأمر بإعطائه، فأعطوه الطعام، ومكثوا ثلاثة أيام بلياليها لم يذوقوا شيئًا إلا الماء القراح.
فلما كان اليوم الرابع، وقد وفّوا نذورهم، أخذ عليّ الحسن بيده اليمنى، والحسين بيده اليسرى، وأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، فلما بَصَرَهما النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا الحسن، ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم، انطلق بنا إلى منزل ابنتي فاطمة، فانطلقوا إليها وهي في حجرتها، قد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع، وغارت عيناها، فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم قال: واغوثاه، بالله أهل بيت محمد يموتون جوعًا!
فهبط جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، خذ ما هنَّأك الله في أهل بيتك، فقال: ما آخذ يا جبريل؟ فأقرأه: ((هَلْ أَتَى عَلَى اْلإِنْسَانِ حِينٌ)).
وهي تدل على فضائل جمة لم يسبقه إليها أحد، ولا يلحقه أحد، فيكون أفضل من غيره، فيكون هو الإمام).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة النقل، كما تقدم، ومجرد رواية الثعلبي والواحدي وأمثالهما لا تدل على أنه صحيح باتفاق أهل السنّة والشيعة، ولو تنازع اثنان في مسألة من مسائل الأحكام والفضائل،واحتج أحدهما بحديث لم يذكر ما يدل على صحته، إلا رواية الواحد من هؤلاء له في تفسيره،لم يكن ذلك دليلاً على صحته، ولا حجة على منازعه باتفاق العلماء.
الثاني: أن هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، الذين هم أئمة هذا الشأن وحكامه. وقول هؤلاء هو المنقول في هذا الباب.(2/466)
الوجه الثالث: أن الدلائل على كذب هذا كثيرة، منها: أن عليًّا إنما تزوج فاطمة بالمدينة، ولم يدخل بها إلا بعد غزوة بدر، كما ثبت ذلك في الصحيح، والحسن والحسين وُلدا بعد ذلك، سنة ثلاث أو أربع، والناس متفقون على أن عليَّا لم يتزوج فاطمة إلا بالمدينة ولم يولد له ولد إلا بالمدينة، وهذا من العلم العام المتواتر، الذي يعرفه كل من عنده طرف من العلم بمثل هذه الأمور.
وسورة (هل أتى) مكيّة باتفاق أهل التفسير والنقل، لم يقل أحد منهم: إنها مدنية، وهي على طريقة السور المكيّة في تقرير أصول الدين المشتركة بين الأنبياء، كالإيمان بالله واليوم الآخر، وذكر الخلق والبعث.
وإذا كانت السورة نزلت بمكة قبل أن يتزوج عليّ بفاطمة، تبين أن نقل أنها نزلت بعد مرض الحسن والحسين من الكذب والمين.
الوجه الرابع: أن سياق هذا الحديث وألفاظه من وضع جهّال الكذابين، فمنه قوله: (فعادهما جدهما وعامة العرب) فإن عامة العرب لم يكونوا بالمدينة، والعرب الكفّار ما كانوا يأتونهما يعودونهما.
ومنه قوله: (فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك) وعليّ لا يأخذ الدّين من أولئك العرب، بل يأخذه من النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان هذا أمرًا بطاعة فرسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يأمره به من أولئك العرب، وإن لم يكن طاعة لم يكن عليّ يفعل ما يأمرون به، ثم كيف يقبل منهم ذلك من غير مراجعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك؟!
الوجه الخامس: أن في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر، وقال: (إنه لا يأتي بخير، وإنما يُستخرج به من البخيل)(1).
فإن كان عليّ وفاطمة وسائر أهلهما لم يعلموا مثل هذا، وعلمه عموم الأمة، فهذا قدح في علمهم، فأين المدِّعي للعصمة؟
__________
(1) انظر: البخاري (8/124-125) ومسلم (3/1260-1261).(2/467)
وإن كانوا علموا ذلك، وفعلوا ما لا طاعة فيه لله ولرسوله، ولا فائدة لهما فيه، بل قد نُهيا عنه: إما نهي تحريم، وإما نهي تنزيه -كان هذا قدحًا إما في دينهم وإما في عقلهم وعلمهم.
الوجه السادس: أن عليًّا وفاطمة لم يكن لهما جارية اسمها فضة، بل ولا لأحدٍ من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نعرف أن بالمدينة جارية اسمها فضة، ولا ذكر ذلك أحد من أهل العلم، الذين ذكروا أحوالهم دقها وجلها.
الوجه السابع: أنه قد ثبت في الصحيح عن بعض الأنصار أنه آثر ضيفه بعشائهم، ونوم الصبيّة، وبات هو وامرأته طاويين، فأنزل الله سبحانه وتعالى: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) [الحشر:9] .
وهذا المدح أعظم من المدح بقوله: ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا)) [الإنسان:8] ، فإن هذا كقوله: ((وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ)) [البقرة:177] .
الثامن: أن في هذه القصة ما لا ينبغي نسبته إلى عليّ وفاطمة رضي الله عنهما؛ فإنه خلاف المأمور به المشروع، وهو إبقاء الأطفال ثلاثة أيام جياعًا، ووصالهم ثلاثة أيام، ومثل هذا الجوع قد يفسد العقل والبدن والدين.
وليس هذا مثل قصة الأنصاري؛ فإن ذلك بيَّتهم ليلة واحدة بلا عشاء، وهذا قد يحتمله الصبيان، بخلاف ثلاثة أيام بلياليها.
التاسع: أن في هذه القصة أن اليتيم قال (استشهد والدي يوم العقبة) وهذا من الكذب الظاهر، فإن ليلة العقبة لم يكن فيها قتال، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بايع الأنصار ليلة العقبة قبل الهجرة، وقبل أن يُؤمر بالقتال.
وهذا يدل على أن الحديث، مع أنه كذب، فهو من كذب أجهل الناس بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم، ولو قال: (استشهد والدي يوم أُحد) لكان أقرب.(2/468)
العاشر: أن يُقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكفي أولاد من قُتل معه، ولهذا قال لفاطمة لما سألته خادمًا: (لا أدع يتامى بدر وأعطيكِ).
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الثاني والعشرون: قوله تعالى: ((وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون)) [الزمر:33] من طريق أبي نُعيم عن مجاهد في قوله: ((وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ)) محمد صلى الله عليه وآله، ((وَصَدَّقَ بِهِ)): قال: عليّ بن ابي طالب، ومن طريق الفقيه الشافعي عن مجاهد: ((وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ))ِ قال: جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وصَدَّق به عليّ، وهذه فضيلة اختص بها، فيكون هو الإمام).
والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا ليس منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقول مجاهد وحده ليس بحجة يجب اتباعها على كل مسلم، لو كان هذا النقل صحيحًا عنه، فكيف إذا لم يكن ثابتًا عنه؟! فإنه قد عُرف بكثرة الكذب(1).
والثابت عن مجاهد خلاف هذا، وهو أن الصدق هو القرآن، والذي صدَّق به هو المؤمن الذي عمل به، فجعلها عامة.
الوجه الثاني: أن هذا معارض بما هو أشهر منه عند أهل التفسير، وهو أن الذي جاء بالصدق: محمد، والذي صدَّق به: أبو بكر، فإن هذا يقوله طائفة، وذكره الطبري(2) بإسناده إلى عليّ.
الثالث: ان يُقال: لفظ الآية عام مطلق لا يختص بأبي بكر ولا بعليّ، بل كل من دخل في عمومها دخل في حكمها، ولا ريب أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا أحق هذه الأمة بالدخول فيها، لكنها لا تختص بهم.
__________
(1) يعني الناقل عن مجاهد.
(2) انظر: تفسير الطبري (3/24).(2/469)
(فصل)
قال الرافضي: البرهان الثالث والعشرون: قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ)) [الأنفال:62] من طريق أبي نُعيم، عن أبي هريرة قال: مكتوب على العرش لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد عبدي ورسولي أيدته بعليّ بن أبي طالب، وذلك قوله في كتابه: ((هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ))، يعني: بعليّ، وهذه من أعظم الفضائل التي لم تحصل لغيره من الصحابة، فيكون هو الإمام).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة النقل، وأما مجرد العزو إلى رواية أبي نُعيم فليس حجة بالاتفاق. وأبو نُعيم له كتاب مشهور في (فضائل الصحابة)، وقد ذكر قطعة من الفضائل في أول (الحلية)، فإن كانوا يحتجّون بما رواه، فقد روى في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان ما ينقض بنيانهم ويهدم أركانهم، وإن كانوا لا يحتجون بما رواه فلا يعتمدون على نقله، ونحن نرجع فيما رواه -هو وغيره- إلى أهل العلم بهذا الفن، والطرق التي بها يُعلم صدق الحديث وكذبه، من النظر في إسناده ورجاله، وهل هم ثقات سمع بعضهم من بعض أم لا؟ وننظر إلى شواهد الحديث وما يدل عليه على أحد الأمرين، لا فرق عندنا بين ما يُروى في فضائل عليّ أو فضائل غيره، فما ثبت أنه صدق صدَّقناه، وما كان كذبا كذََّبناه.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث، وهذا الحديث -وأمثاله- مما جزمنا أنه كذب موضوع نشهد أنه كذب موضوع، فنحن -والله الذي لا إله إلا هو- نعلم علمًا ضروريًا في قلوبنا، لا سبيل لنا إلى دفعه، أن هذا الحديث كذب ما حدَّث به أبو هريرة، وهكذا نظائره مما نقول فيه في مثل ذلك.(2/470)
الثالث: أن الله تعالى قال: ((هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ))[الأنفال:62-63] وهذا نص في أن المؤمنين عدد مؤلف بين قلوبهم، وعليّ واحد منهم ليس له قلوب يؤلف بينها، والمؤمنون صيغة جمع، فهذا نص صريح لا يحتمل أنه أراد به واحدًا معيَّنا، وكيف يجوز أن يُقال: المراد بهذا عليٌّ وحده؟.
الوجه الرابع: أن يُقال: من المعلوم بالضرورة والتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان قيام دينه بمجرد موافقة عليّ، فإن عليًّا كان من أول من أسلم، فكان الإسلام ضعيفًا، فلولا أن الله هدى من هداه إلى الإيمان والهجرة والنصرة، لم يحصل بعليّ وحده شيء من التأييد، ولم يكن إيمان الناس ولا هجرتهم ولا نصرتهم على يد عليّ، ولم يكن عليّ منتصبًا لا بمكة ولا بالمدينة للدعوة إلى الإيمان، كما كان أبو بكر منتصبًا لذلك، ولم يُنقل أنه أسلم عَلَى يد عليّ أحدٌ من السابقين الأوَّلين، لا من المهاجرين ولا الأنصار، بل لا نعرف أنه أسلم على يد عليٍّ أحدٌ من الصحابة، لكن لمّا بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قد يكون أسلم على يديه من أسلم، إن كان وقع ذلك، وليس أولئك من الصحابة، وإنما أسلم أكابر الصحابة على يد أبي بكر، ولا كان يدعو المشركين ويناظرهم، كما كان أبو بكر يدعوهم ويناظرهم، ولا كان المشركون يخافونه، كما يخافون أبا بكر وعمر.(2/471)
الوجه الخامس: أنه لم يكن لعلي في الإسلام أثر حسن، إلا ولغيره من الصحابة مثله، ولبعضهم آثار أعظم من آثاره، وهذا معلوم لمن عرف السيرة الصحيحة الثابتة بالنقل، وأما من يأخذ بنقل الكذَّابين وأحاديث الطرقيّة، فباب الكذب مفتوح، وهذا الكذب يتعلق بالكذب على الله، ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جّاءَهُ)) [العنكبوت:68] .
فكيف يكون تأييد الرسول بواحدٍ من أصحابه دون سائرهم والحال هذه؟ وأين تأييده بالمؤمنين كلهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين بايعوه تحت الشجرة والتابعين لهم بإحسان؟.
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الرابع والعشرون: قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّه وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) [الأنفال:64] . من طريق أبي نعيم قال: نزلت في عليّ، وهذه فضيلة لم تحصل لأحدٍ من الصحابة غيره، فيكون هو الإمام).
والجواب من وجوه: أحدها: منع الصحة.
الثاني: أن هذا القول ليس بحجة.
الثالث: أن يُقال: هذا الكلام من أعظم الفرية على الله ورسوله، وذلك أن قوله: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّه وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) [الأنفال:64] معناه: أن الله حسبك وحسب من اتّبعك من المؤمنين، فهو وحده كافيك وكافي من معك من المؤمنين، وهذا كما تقول العرب: حسبك وزيدًا درهم.
ومنه قول الشاعر: فحسبك والضاحك سيف مهند، أي: يكفيك والضاحك.
وقد ظن بعض الغالطين أن معنى الآية: أن الله والمؤمنين حسبك، ويكون: ((وَمَنِ اتَّبَعَكَ)) رفعًا عطفًا على الله، وهذا خطأ قبيح مستلزم للكفر؛ فإن الله وحده حسب جميع الخلق.(2/472)
وإذا تبين هذا، فهؤلاء الرافضة رتّبوا جهلاً على جهل، فصاروا في ظلمات بعضها فوق بعض، فظنوا أن قوله: ((حَسْبُكَ اللَّه وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) معناه: أن الله ومن اتبعك من المؤمنين حسبك، ثم جعلوا المؤمنين الذين اتّبعوه هم عليّ بن أبي طالب.
وجهلهم في هذا أظهر من جهلهم في الأول؛ فإن الأول قد يشتبه على بعض الناس، وأما هذا فلا يخفى على عاقل، فإن عليًّا لم يكن وحده من الخلق كافيًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن معه إلا عليّ لما أقام دينه. وهذا عليٌّ لم يغن عن نفسه ومعه أكثر جيوش الأرض، بل لمّا حاربه معاوية مع أهل الشام، كان معاوية مقاومًا له أو مستظهرًا، سواء كان ذلك بقوة قتال، أو قوة مكرِ واحتيال، فالحرب خدعة.
فإذا لم يغن عن نفسه بعد ظهور الإسلام واتباع أكثر أهل الأرض له، فكيف يغني عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل الأرض كلهم أعداؤه؟!
وإذا قيل: إن عليًّا إنما لم يغلب معاوية ومن معه لأن جيشه لا يطيعونه، بل كانوا مختلفين عليه.
قيل: فإذا كان من معه من المسلمين لم يطيعوه، فكيف يطيعه الكفّار الذين يكفرون بنبيه وبه؟!
ومن المعلوم قطعًا أن الناس بعد دخولهم في دين الإسلام أتبع للحق منهم قبل دخولهم فيه، فمن كان مشاركًا لله في إقامة دين محمد، حتى قهر الكفّار وأسلم الناس، كيف لا يفعل هذا في قهر طائفة بغوا عليه، هم أقل من الكفار الموجودين عند بعثة الرسول، وأقل منهم شوكة، وأقرب إلى الحق منهم؟!
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الخامس والعشرون: قوله تعالى: ((فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)) [المائدة:54] قال الثعلبي: إنما نزلت في عليّ، وهذا يدل عَلَى أنه أفضل، فيكون هو الإمام).(2/473)
والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا كذب على الثعلبي، فإنه قال في تفسيره في هذه الآية: (قال عليّ وقتادة والحسن: إنهم أبو بكر وأصحابه، وقال مجاهد: هم أهل اليمن). وذكر حديث عياض بن غنم: أنهم أهل اليمن، وذكر الحديث: (أتاكم أهل اليمن)(1). فقد نقل الثعلبي أن عليًّا فسَّر هذه الآية بأنهم أبو بكر وأصحابه.
الثاني: أن هذا قول بلا حجة، فلا يجب قبوله.
الثالث: أن هذا معارَض بما هو أشهر منه وأظهر، وهو أنها نزلت في أبي بكر وأصحابه، الذين قاتلوا معه أهل الردة، وهذا هو المعروف عند الناس كما تقدم، لكن هؤلاء الكذّابون أرادوا أن يجعلوا الفضائل التي جاءت في أبي بكر يجعلونها لعليّ، وهذا من المكر السيئ الذي لا يحيق إلا بأهله.
الرابع: أن يقال: إن الذي تواتر عند الناس أن قاتل أهل الردّة هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه،الذي قاتل مسيلمة الكذاب المدّعي للنبوة وأتباعه بني حنيفة وأهل اليمامة، وقد قيل: كانوا نحو مائة ألف أو أكثر، وقاتل طليحة الأسدي، وكان قد ادّعى النبوة بنجد، واتّبعه من أسد وتميم وغطفان ما شاء الله، وادّعت النبوة سجاح، امرأة تزوّجها مسيلمة الكذّاب، فتزوج الكذّاب بالكذّابة.
والمقاتلون للمرتدّين هم من الذين يحبهم الله ويحبونه، وهم أحق الناس بالدخول في هذه الآية، وكذلك الذين قاتلوا سائر الكفّار من الروم والفرس، وهؤلاء أبو بكر وعمر ومن اتبعهما من أهل اليمن وغيرهم، ولهذا رُوي أن هذه الآية لمّا نزلت سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء، فأشار إلى أبي موسى الأشعري، وقال: (هم قوم هذا)(2).
__________
(1) انظر: البخاري كتاب المغازي باب قدوم الأشعريين.
(2) انظر: تفسير الطبري (10/414-415) تحقيق محمود شاكر.(2/474)
فهذا أمر يعرف بالتواتر والضرورة، أن الذين أقاموا الإسلام وثبتوا عليه حين الردة، وقاتلوا المرتدين والكفّار، هم داخلون في قوله: ((فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ)) [المائدة:54] وأما عليّ رضي الله عنه فلا ريب أنه ممن يحب الله ويحبه الله، لكن ليس بأحق بهذه الصفة من أبي بكر وعمر وعثمان، ولا كان جهاده للكفّار والمرتدّين أعظم من جهاده هؤلاء، ولا حصل به من المصلحة للدين أعظم مما حصل بهؤلاء، بل كل منهم له سعي مشكور وعمل مبرور وآثار صالحة في الإسلام، والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خير جزاء، فهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.
وأما أن يأتي إلى أئمة الجماعة الذين كان نفعهم في الدين والدنيا أعظم، فيجعلهم كفَّارًا أو فسَّاقًا ظلمة، ويأتي إلى من لم يجر على يديه من الخير مثل ما جرى على يد واحد منهم، فيجعله الله أو شريكًا لله، أو شريك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الإمام المعصوم الذي لا يؤمن إلا من جعله معصومًا منصوصًا عليه، ومن خرج عن هذا فهو كافر، ويجعل الكفّار المرتدّين الذي قاتلهم أولئك كانوا مسلمين، ويجعل المسلمين الذين يصلّون الصلوات الخمس، ويصومون شهر رمضان، ويحجّون البيت، ويؤمنون بالقرآن يجعلهم كفّارًا لأجل قتال هؤلاء.
فهذا عمل أهل الجهل والكذب والظلم والإلحاد في دين الإسلام، عمل من لا عقل له ولا دين ولا إيمان.(2/475)
الوجه الخامس: أن يقال: هب أن الآية نزلت في عليّ،أيقول القائل: إنها مختصة به، ولفظها يصرح بأنهم جماعة؟ قال تعالى: ((مَن يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)) [المائدة:54] إلى قوله: ((لَوْمَةَ لاَئِمٍ)) أفليس هذا صريحًا في أن هؤلاء ليسوا رجلاً، فإن الرجل لا يسمّى قومًا في لغة العرب: لا حقيقة ولا مجازًا.
ولو قال: المراد هو وشيعته.
لقيل: إذا كانت الآية أَدْخَلت مع عليّ غيره، فلا ريب أن الذين قاتلوا الكفّار والمرتدين أحق بالدخول فيها ممن لم يقاتل إلا أهل القبلة، فلا ريب أن أهل اليمن الذين قاتلوا مع أبي بكر وعمر وعثمان، أحق بالدخول فيها من الرافضة، الذين يوالون اليهود والنصارى والمشركين، ويعادون السابقين الأوَّلين.
الوجه السادس: قوله: ((فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)) لفظ مطلق ليس فيه تعيين، وهو متناول لمن قام بهذه الصفات كائنًا ما كان، لا يختص ذلك بأبي بكر ولا بعليّ، وإذا لم يكن مختصًا بأحدهما، لم يكن هذا من خصائصه، فبطل أن يكون بذلك أفضل ممن يشاركه فيه، فضلاً عن أن يستوجب بذلك الإمامة.
بل هذه الآية تدلّ على أنه لا يرتدُّ أحد عن الدين إلى يوم القيامة إلا أقام الله قومًا يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون هؤلاء المرتدّين.(2/476)
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان السادس والعشرون: قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) [الحديد:19] . روى أحمد بن حنبل بإسناده عن ابن أبي ليلى عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصدِّيقون ثلاثة: حبيب بن موسى النجار مؤمن آل ياسين، الذي قال: يا قوم اتّبعوا المرسلين. وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله. وعليّ بن أبي طالب الثالث، وهو أفضلهم. ونحوه رواه ابن المغازلي الفقيه الشافعي وصاحب كتاب (الفردوس). وهذه فضيلة تدل على إمامته).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة الحديث، وهذا ليس في مسند أحمد، ومجرد روايته له في الفضائل لو كان رواه لا يدل على صحته عنده باتفاق أهل العلم، فإنه يروي ما رواه الناس، وإن لم تثبت صحته، وكل من عرف العلم يعلم أنه ليس كل حديث رواه أحمد في الفضائل ونحوه يقول: إنه صحيح، بل ولا كل حديث رواه في مسنده يقول: إنه صحيح، بل أحاديث مسنده هي التي رواها الناس عمَّن هو معروف عند الناس بالنقل ولم يظهر كذبه، وقد يكون في بعضها علّة تدل على أنه ضعيف، بل باطل؛ لكن غالبها وجمهورها أحاديث جيدة يحتجّ بها، وهي أجود من أحاديث سنن أبي داود، وأما ما رواه في الفضائل فليس من هذا الباب عنده.
فكيف وهذا الحديث لم يروه أحمد: لا في المسند ولا في كتاب (الفضائل) وإنما هو من زيادات القطيعي.
الثاني: أن هذا الحديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثالث: أن في الصحيح من غير وجه تسمية غير عليّ صدّيقًا، كتسمية أبي بكر الصدّيق، فكيف يُقال: الصدّيقون ثلاثة؟(2/477)
وفي الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أُحُدًا، وتبعه أبو بكر وعمر وعثمان، فَرَجَف بهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اثبت أُحُد فما عليك إلا نبيّ وصدّيق وشهيدان)(1).
الوجه الرابع: أن الله تعالى قد سمَّى مريم صدِّيقة، فكيف يُقال:الصديقون ثلاثة؟!
الوجه الخامس: أن قول القائل: الصديقون ثلاثة، إن أَرَاد به أنه لا صدّيق إلا هؤلاء، فإنه كذب مخالف للكتاب والسنّة وإجماع المسلمين، وإن أراد أن الكامل في الصديقية هم الثلاثة، فهو أيضًا خطأ، لأن أمتنا خير أمة أخرجت للناس، فكيف يكون المصدِّق بموسى ورسل عيسى أفضل من المصدِّقين بمحمد؟!
الوجه السادس: أن الله تعالى قال: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) [الحديد:19] وهذا يقتضي أن كل مؤمن آمن بالله ورسله فهو صدّيق.
السابع: أن يُقال: إن كان الصدّيق هو الذي يستحق الإمامة، فأحق الناس بكونه صدِّيقًا أبو بكر؛ فإنه الذي ثبت له هذا الاسم بالدلائل الكثيرة، وبالتواتر الضروري عند الخاص والعام، حتى أن أعداء الإسلام يعرفون ذلك، فيكون هو المستحق للإمامة، وإن لم يكن كونه صدِّيقًا يستلزم الإمامة بطلت الحجة.
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان السابع والعشرون: قوله تعالى: ((الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً)) [البقرة:274] . من طريق أبي نُعيم بإسناده إلى ابن عباس نزلت في عليّ، كان معه أربعة دراهم، فأنفق درهمًا بالليل، ودرهمًا بالنهار، ودرهما سرًا، ودرهما علانية، وروى الثعلبي ذلك، ولم يحصل لغيره، فيكون أفضل، فيكون هو الإمام).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة النقل، ورواية أبي نُعيم والثعلبي لا تدل على الصحة.
__________
(1) انظر: البخاري كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم (لو كنت متخذًا خليلًا) إلخ. وانظر: مسلم (4/1855).(2/478)
الثاني: أن هذا كذب ليس بثابت.
الثالث: أن الآية عامة في كل ما ينفق بالليل والنهار سرًا وعلانية، فمن عمل بها دخل فيها، سواء كان عليًّا أو غيره، ويمتنع أن لا يُراد بها إلا واحدٌ معيّن.
الرابع: أن ما ذُكر من الحديث يناقض مدلول الآية؛ فإن الآية تدل على الإنفاق في الزمانين اللذين لا يخلو الوقت عنهما، وفي الحالين اللذين لا يخلو الفعل منهما، فالفعل لا بد له من زمان، والزمان إما ليلاً وإما نهارًا. والفعل إما سرًّا وإما علانية، فالرجل إذا أنفق بالليل سرًّا، كان قد أنفق ليلا سرًّا، وإذا أنفق علانية نهارًا، كان قد أنفق علانية نهارًا.
الخامس: أنّا لو قدرنا أن عليًّا فعل ذلك، ونزلت فيه الآية، فهل هنا إلا إنفاق أربعة دراهم في أربعة أحوال؟! وهذا عمل مفتوح بابه ميسر إلى يوم القيامة، والعاملون بهذا وأضعافه أكثر من أن يُحصوا، وما من أحدٍ فيه خير إلا ولا بد أن ينفق إن شاء الله، تارة بالليل وتارة بالنهار، وتارة في السر وتارة في العلانية، فليس هذا من الخصائص، فلا يدل على فضيلة الإمامة.
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الثامن والعشرون: ما رواه أحمد بن حنبل عن ابن عباس قال: ليس من آية في القرآن: ((يا أيها الذين آمنوا)) إلا وعليّ رأسها وأميرها، وشريفها وسيدها، ولقد عاتب الله تعالى أصحاب محمد في القرآن، وما ذكر عليًّا إلا بخير. وهذا يدل على أنه أفضل فيكون هو الإمام).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة النقل، وليس هذا في مسند أحمد، ولا مجرد روايته له - لو رواه - في (الفضائل) يدل على أنه صدق، فكيف ولم يروه أحمد: لا في المسند، ولا في (الفضائل) وإنما هو من زيادات القطيعي(1).
__________
(1) انظر: فضائل الصحابة (2/654).(2/479)
الثاني: أن هذا كذب على ابن عباس،والمتواتر عنه أنه كان يفضّل عليه أبا بكر وعمر، وله معايبات يعيب بها عليًّا، ويأخذ عليه في أشياء من أموره، حتى أنه لما حرق الزنادقة الذين ادّعوا فيه الإلهية قال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذَّب بعذاب الله، ولضربت أعناقهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدَّل دينه فاقتلوه). رواه البخاري(1) وغيره، ولما بلغ عليًّا ذلك قال: ويح أم ابن عباس.
الثالث: أن هذا الكلام ليس فيه مدح لعليّ؛ فإن الله كثيرًا ما يخاطب الناس بمثل هذا في مقام عتاب، كقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ))[الصف:2-3] ، فإن كان عليّ رأس هذه الآية، فقد وقع منه هذا الفعل الذي أنكره الله وذمه.
الرابع: هو ممن شمله لفظ الخطاب، وإن لم يكن هو سبب الخطاب فلا ريب أن اللفظ شمله كما يشمل غيره. وليس في لفظ الآية تفريق بين مؤمن ومؤمن.
الخامس: أن قول القائل عن بعض الصحابة: إنه رأس الآيات وأميرها وشريفها وسيدها، كلام لا حقيقة له. فإن أُريد أنه أول من خوطب بها، فليس كذلك؛ فإن الخطاب يتناول المخاطبين تناولاً واحدًا، لا يتقدم بعضهم بما تناوله عن بعض.
وغاية ما عندكم أن تذكروا أن ابن عباس كان يفضّل عليًّا، وهذا مع أنه كذب على ابن عباس، وخلاف المعلوم عنه، فلو قُدِّر أنه قال ذلك -مع مخالفة جمهور الصحابة-لم يكن حجّة.
السادس: أن قول القائل: لقد عاتب الله أصحاب محمد في القرآن وما ذكر عليًّا إلا بخير كذب معلوم، فإنه لا يُعرف أن الله عاتب أبو بكر في القرآن، بل ولا أنه ساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل رُوي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في خطبته: (أيها الناس اعرفوا لأبي بكر حقَّه، فإنه لم يسؤني يومًا قط).
__________
(1) انظر: البخاري (9/15).(2/480)
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان التاسع والعشرون: قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) [الأحزاب:56] . من صحيح البخاري عن كعب بن عجرة قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت، فإن الله علمنا كيف نسلّم؟. قال: (قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد)(1). وفي صحيح مسلم:قلنا: يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: (قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد،كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم)(2). ولا شك أن عليًّا أفضل آل محمد، فيكون أولى بالإمامة).
والجواب: أنه لا ريب أن هذا الحديث صحيح متفق عليه، وأن عليًّا من آل محمد الداخلين في قوله: (اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد)، ولكن ليس هذا من خصائصه؛ فإن جميع بني هاشم داخلون في هذا، كالعباس وولده، والحارث بن عبد المطلب وولده، وكبنات النبي صلى الله عليه وسلم زوجتي عثمان: رقية وأم كلثوم، وبنته فاطمة، وكذلك أزواجه، كما في الصحيحين عنه قوله: (اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى أزواجه وذريته)(3) بل يدخل فيه سائر أهل بيته إلى يوم القيامة، ويدخل فيه إخوة عليّ كجعفر وعقيل.
ومعلوم أن دخول كل هؤلاء في الصلاة والتسليم لا يدل على أنه أفضل من كل من لم يدخل في ذلك، ولا أنه يصلح بذلك للإمامة، فضلاً عن أن يكون مختصًّا بها.
__________
(1) انظر: البخاري (4/146- 147) ومواضع أُخر، ومسلم (1/305-306).
(2) انظر: البخاري (164) ومسلم (1/306).
(3) انظر: البخاري (4/146) ومسلم (1/306).(2/481)
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الثلاثون: قوله تعالى: ((مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ))[الرحمن:19-20]. من تفسير الثعلبي وطريق أبي نُعيم عن ابن عبّاس في قوله: ((مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ))[الرحمن:19] قال: عليّ وفاطمة ((بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ))[الرحمن:20] النبي صلى الله عليه وآله: ((يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ)) [الرحمن:22]: الحسن والحسين، ولم يحصل لغيره من الصحابة هذه الفضيلة، فيكون أولى بالإمامة).
والجواب: أن هذا وأمثاله إنما يقوله من لا يعقل ما يقول، وهذا بالهذيان أشبه منه بتفسير القرآن، وهو من جنس تفسير الملاحدة والقرامطة الباطنية للقرآن، بل هو شر من كثير منه، والتفسير بمثل هذا طريق للملاحدة على القرآن والطعن فيه، بل تفسير القرآن بمثل هذا من أعظم القدح فيه والطعن فيه.
وهو من إلحادات الرافضة كقولهم: ((وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)) [يس:12] ، على، وكقولهم: ((وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)) [الزخرف:4] : إنه عليّ بن أبي طالب، ((وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرَآنِ)) [الإسراء:60] : بنو أمية، وأمثال هذا الكلام الذي لا يقوله من يرجو لله وقارًا، ولا يقوله من يؤمن بالله وكتابه.
ومما يبيّن كذب ذلك وجوه: أحدها: أن هذا في سورة الرحمن،وهي مكية بإجماع المسلمين، والحسن والحسين إنما ولدا بالمدينة.
الثاني: أن تسمية هذين بحرين، وهذا لؤلؤًا، وهذا مرجانًا، وجعل النكاح مرجًا- أمر لا تحتمله لغة العرب بوجه، لا حقيقة ولا مجازًا، بل كما أنه كذب على الله وعلى القرآن، فهو كذب على اللغة.
الثالث: أنه ليس في هذا شيء زائد على ما يوجد في سائر بني آدم، فإن كل من تزوج امرأة ووُلد لهما ولدان فهما من هذا الجنس.(2/482)
الرابع: أن الله ذكر أنه مرج البحرين في آية أخرى، فقال في الفرقان: ((وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلحٌ أُجَاجٌ)) [الفرقان:53] فلو أريد بذلك عليّ وفاطمة لكان ذلك ذمًا لأحدهما، وهذا باطل بإجماع أهل السنة والشيعة.
الخامس: أنه قال: ((بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ)) فلو أريد بذلك عليّ وفاطمة لكان البرزخ هو النبي صلى الله عليه وسلم -بزعمهم- أو غيره هو المانع لأحدهما أن يبغي على الآخر، وهذا بالذم أشبه منه بالمدح.
السادس: أن أئمة التفسير متفقون على خلاف هذا الذي ذكره، كما ذكره ابن جرير وغيره.
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الحادي والثلاثون: قوله تعالى: ((وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)) [الرعد:43] . من طريق أبي نُعيم عن ابن الحنفية قال: هو عليّ بن أبي طالب، وفي تفسير الثعلبي عن عبد الله بن سلام قال: قلت: من هذا الذي عنده علم الكتاب؟ قال: ذلك عليّ بن أبي طالب، وهذا يدل على أنه أفضل، فيكون هو الإمام).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة النقل عن ابن سلام وابن الحنفية.
الثاني: أنه بتقدير ثبوته ليس بحجة مع مخالفة الجمهور لهما.
الثالث: أن هذا كذب عليهما.
الرابع: أن هذا باطل قطعًا، وذلك أن الله تعالى قال: ((قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)) [الرعد:43] ، ولو أُريد به عليّ لكان المراد أن محمدًا يستشهد على ما قاله بابن عمه عليّ، ومعلوم أن عليًّا لو شهد له بالنبوة وبكل ما قال، لم ينتفع محمد بشهادته له، ولا يكون ذلك حجة له على الناس، ولا يحصل بذلك دليل المستدل، ولا ينقاد بذلك أحد، لأنهم يقولون: من أين لعليّ ذلك؟ وإنما هو استفاد ذلك من محمد، فيكون محمد هو الشاهد لنفسه.
ومنها أن يُقال: إن هذا ابن عمه ومن أول من آمن به، فيُظن به المحاباة والمداهنة.(2/483)
فهذا الجاهل الذي جعل هذا فضيلة لعليّ قَدَحَ بها فيه وفي النبيّ الذي صار به عليّ من المؤمنين، وفي الأدلة الدالة على الإسلام، ولا يقول هذا إلا زنديق أو جاهل مفرط في الجهل.
وإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
الخامس: أن الله سبحانه وتعالى قد ذكر الاستشهاد بأهل الكتاب في غير آية، كقوله تعالى: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ)) [الأحقاف:10] أفترى عليًّا هو من بني إسرائيل؟!
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الثاني والثلاثون: قوله تعالى: ((يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)) [التحريم:8]. روى أبو نُعيم مرفوعًا إلى ابن عباس قال: أول من يُكسى من حلل الجنة: إبراهيم عليه السلام بخلته من الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صفوة الله، ثم علي يزف بينهما إلى الجنان، ثم قرأ ابن عباس: ((يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)) قال: عليّ وأصحابه، وهذا يدل على أنه أفضل من غيره، فيكون هو الإمام).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة النقل، لا سيما في مثل هذا الذي لا أصل له.
الثاني: أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
الثالث: أن هذا باطل قطعًا؛ لأن هذا يقتضي أن يكون عليّ أفضل من إبراهيم ومحمد، لأنه وسط وهما طرفان. وأفضل الخلق إبراهيم ومحمد، فمن فَضَّل عليهما عليًّا كان أكفر من اليهود والنصارى.
الرابع: أنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم)(1) وليس فيه ذكر محمد ولا عليّ، وتقديم إبراهيم بالكسوة لا يقتضي أنه أفضل من محمد مطلقًا.
__________
(1) انظر: البخاري (4/ 139، 168) ومواضع أُخر، ومسلم (4/2194-2195).(2/484)
الخامس: أن قوله تعالى: ((يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [التحريم:8] وقوله: ((يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [الحديد:12] . نصٌّ عامٌ في المؤمنين الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم، وسياق الكلام يدل على عمومه والآثار المروية في ذلك تدل على عمومه.
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الثالث والثلاثون: قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةَ)) [البينة:7]. روى الحافظ أبو نُعيم بإسناده إلى ابن عباس لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ: تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين، ويأتي خصماؤك غضابًا مفحمين، وإذا كان خير البريّة، وجب أن يكون هو الإمام).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة النقل، وإن كنّا غير مرتابين في كذب ذلك، لكن مطالبة المدعي بصحة النقل لا يأباه إلا معاند، ومجرد رواية أبي نُعيم ليست بحجة باتفاق طوائف المسلمين.
الثاني: أن هذا مما هو كذب موضوع باتفاق العلماء وأهل المعرفة بالمنقولات.(2/485)
الثالث: أن يُقال: هذا معارض بمن يقول: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم النواصب، كالخوارج وغيرهم. ويقولون: إن من تولاّه فهو كافر مرتد، فلا يدخل في الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويحتجّون على ذلك بقوله: ((وَمَنْ لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) [المائدة:44] .قالوا: ومن حكَّم الرجال في دين الله فقد حكم بغير ما أنزل الله فيكون كافرًا، ومن تولّى الكافر فهو كافر، لقوله: ((وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)) [المائدة:51] وقالوا: إنه هو وعثمان ومن تولاهما مرتدون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، فأقول؛ أي رب! أصحابي أصحابي. فيُقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم)(1).
قالوا: وهؤلاء هم الذين حكموا في دماء المسلمين وأموالهم بغير ما أنزل الله.
واحتجوا بقوله: (لا ترجعوا بعدي كفَّارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)(2). قالوا: والذين ضرب بعضهم رقاب بعض رجعوا بعده كفارًا. فهذا وأمثاله من حجج الخوارج، وهو وإن كان باطلاً بلا ريب فحجج الرافضة؛ أبطل منه، والخوارج أعقل وأصدق وأتبع للحق من الرافضة؛ فإنهم صادقون لا يكذبون، أهل دين ظاهرًا وباطنًا، لكنهم ضالون جاهلون مارقون، مرقوا من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة، وأما الرافضة فالجهل والهوى والكذب غالب عليهم، وكثير من أئمتهم وعامتهم زنادقة ملاحدة، ليس لهم غرض في العلم ولا في الدين، بل ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى اْلأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهمُ الْهُدَى)) [النجم:23] .
الوجه الرابع: أن يُقال: قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتَ)) [البينة:7] عام في كل من اتصف بذلك، فما الذي أوجب تخصيصه بالشيعة.
__________
(1) انظر: مسلم (1/218).
(2) انظر: البخاري (1/31) ومسلم (1/81-82).(2/486)
فإن قيل: لأن من سواهم كافر.
قيل: إن ثبت كفر من سواهم بدليل، كان ذلك مغنيًا لكم عن هذا التطويل، وإن لم يثبت لم ينفعكم هذا الدليل، فإنه من جهة النقل لا يثبت، فإن أمكن إثباته بدليل منفصل، فذاك هو الذي يعتمد عليه لا هذه الآية.
الوجه الخامس: أن يُقال: من المعلوم المتواتر أن ابن عباس كان يوالي غير شيعة عليّ أكثر مما يوالي كثيرًا من الشيعة، حتى الخوارج كان يجالسهم ويفتيهم ويناظرهم، فلو اعتقد أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الشيعة فقط، وأن من سواهم كفّار، لم يعمل مثل هذا.
الوجه السادس: أنه قال قبل ذلك: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ)) [البينة:6] . ثم قال: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةَ)) [البينة:7]
وهذا يبين أن هؤلاء من سوى المشركين وأهل الكتاب، وفي القرآن مواضع كثيرة ذكر فيها الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وكلها عامة، فما الموجب لتخصيص هذه الآية دون نظائرها؟
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الرابع والثلاثون: قوله تعالى: ((وَهوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا)) [الفرقان:54] . في تفسير الثعلبي عن ابن سيرين قال: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وعليّ بن أبي طالب، زوَّج فاطمة عليًّا، وهو الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا، ولم يثبت لغيره ذلك، فكان أفضل، فيكون هو الإمام).
والجواب من وجوه: أولاً: المطالبة بصحة النقل.
وثانيًا: أن هذا كذب على ابن سيرين بلا شك.
وثالثًا: أن مجرد قول ابن سيرين الذي خالفه فيه الناس ليس بحجة.
الرابع: أن يُقال: هذه الآية في سورة الفرقان، وهي مكية، وهذا من الآيات المكية باتفاق الناس قبل أن يتزوج عليّ بفاطمة، فكيف يكون ذلك قد أُريد به عليّ وفاطمة؟!(2/487)
الخامس: أن الآية مطلقة في كل نسب وصهر، لا اختصاص لها بشخص دون شخص.
السادس: أنه لو فرض أنه أُريد بذلك مصاهرة عليّ، فمجرد المصاهرة لا تدل على أنه أفضل من غيره باتفاق أهل السنة والشيعة، فإن المصاهرة ثابتة لكل من الأربعة، مع أن بعضهم أفضل من بعض، فلو كانت المصاهرة توجب الأفضلية للزم التناقض.
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الخامس والثلاثون: قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوْا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) [التوبة:119] أوجب الله علينا الكون مع المعلوم منهم الصدق، وليس إلا المعصوم لتجويز الكذب في غيره، فيكون هو عليًّا، إذ لا معصوم من الأربعة سواه، وفي حديث أبي نُعيم عن ابن عباس أنها نزلت في عليّ).
والجواب من وجوه: أحدها: أن الصدِّيق مبالغة في الصادق، فكل صدِّيق صادق وليس كل صادق صدّيقًا. وأبو بكر رضي الله عنه قد ثبت أنه صدِّيق بالأدلة الكثيرة، فيجب أن تتناوله الآية قطعًا وأن تكون معه، بل تناولها له أَوْلى من تناولها لغيره من الصحابة، وإذا كنّا معه مقرّين بخلافته، امتنع بأن نقرَّ بأنَّ عليًّا كان هو الإمام دونه، فالآية تدل على نقيض مطلوبهم.
الثاني: أن يُقال: هذه الآية نزلت في قصة كعب بن مالك لمّا تخلف عن غزوة تبوك، وصَدَقَ النبي صلى الله عليه وسلم في أنه لم يكن له عذر، وتاب الله عليه ببركة الصدق.
الثالث: أن هذه الآية نزلت في هذه القصة، ولم يكن أحد يُقال: إنه معصوم، لا علي ولا غيره، فعُلم أن الله أراد ((مَعَ الصَّادِقِينَ)) ولم يشترط كونه معصومًا.
الرابع: أنه قال: ((مَعَ الصَّادِقِينَ)) وهذه صيغة جمع، وعليٌّ واحد، فلا يكون هو المراد وحده.
الخامس: أن قوله تعالى: ((مَعَ الصَّادِقِينَ)) إما أن يُراد: كونوا معهم في الصدق وتوابعه، فاصدقوا كما يصدق الصادقون، ولا تكونوا مع الكاذبين، كما في قوله: ((وَارْكَعُوْا مَعَ الرَّاكِعِينَ)) [البقرة:43] .(2/488)
وإما أن يراد به: كونوا مع الصادقين في كل شيء، وإن لم يتعلق بالصدق.
والثاني باطل؛ فإن الإنسان لا يجب عليه أن يكون مع الصادقين في المباحات، كالأكل والشرب واللباس ونحو ذلك. فإذا كان الأول هو الصحيح، فليس في هذا أمر بالكون مع شخص معيّن، بل المقصود: اصدقوا ولا تكذبوا.
الوجه السادس: أن يُقال: إذا أُريد: كونوا مع الصادقين مطلقًا، فذلك لأن الصدق مستلزم لسائر البرّ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر) الحديث. وحينئذٍ فهذا وصف ثابت لكل من اتصف به.
الوجه السابع: هب أن المراد: مع المعلوم فيهم الصدق، لكن العلم كالعلم في قوله: ((فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ)) [الممتحنة:10] ، والإيمان أخفى من الصدق، فإذا كان العلم المشروط هناك يمتنع أن يُقال فيه: ليس إلا العلم بالمعصوم، كذلك هنا يمتنع أن يُقال: لا يُعلم إلا صدق المعصوم.
الوجه الثامن: أنه لو قُدِّر أن المراد به: المعصوم، لا نسلّم الإجماع على انتفاء العصمة من غير عليّ، كما تقدّم بيان ذلك؛ فإن كثيرًا من الناس الذين هم خير من الرافضة يدَّعون في شيوخهم هذا المعنى، وإن غيَّروا عبارته، وأيضًا: فنحن لا نسلم انتفاء عصمتهم مع ثبوت عصمته، بل إما انتفاء الجميع وإما ثبوت الجميع.
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان السادس والثلاثون: قوله تعالى: ((وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)) [البقرة:43] من طريق أبي نُعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ خاصة، وهما أول من صلّى وركع. وهذا يدل على فضيلته فيدل على إمامته).
الجواب من وجوه: أحدها: أنّا لا نسلم صحة هذا، ولم يذكر دليلاً على صحته.
الثاني: أن هذا كذب موضوع
باتفاق أهل العلم بالحديث.
الثالث: أنه لو كان المراد الركوع معها لانقطع حكمها بموتهما، فلا يكون أحدٌ مأمورًا أن يركع مع الراكعين.(2/489)
الرابع: أن قول القائل: علي أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ممنوع. بل أكثر الناس على خلاف ذلك، وأن أبا بكر صلى قبله.
الخامس: أنه لو كان أمرًا بالركوع معه، لم يدل ذلك على أن من ركع معه يكون هو الإمام، فإن عليًّا لم يكن إمامًا مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان يركع معه.
(فصل)
قال الرافضي: البرهان السابع والثلاثون: قوله تعالى: ((وَاجْعَلْ لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي)) [طه:29] من طريق أبي نُعيم عن ابن عباس قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد عليّ وبيدي ونحن بمكة، وصلَّى أربع ركعات، ورفع يده إلى السماء، فقال: اللهم موسى بن عمران سألك، وأنا محمد نبيك أسألك أن تشرح لي صدري، وتحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي،واجعل لي وزيرًا من أهلي، عليّ بن أبي طالب أخي، أُشدد به أزري، وأشركه في أمري، قال ابن عباس سمعت مناديًا ينادي: يا أحمد، قد أوتيت ما سألت، وهذا نص في الباب).
والجواب:المطالبة بالصحة كما تقدّم أولاً.
الثاني: أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل العلم والحديث، بل هم يعلمون أن هذا من أسمج الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة في أكثر الأوقات لم يكن ابن عباس قد وُلد، و ابن عباس ولد وبنو هاشم في الشعب محصورون، ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ابن عباس بلغ سن التمييز، ولا كان ممن يتوضأ ويصلّي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو لم يحتلم بعد.(2/490)
الرابع: أنّا قد بيّنا فيما تقدم وجوهًا متعددة في بطلان مثل هذا، فإن هذا الكلام كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة، ولكن هنا قد زادوا فيه زيادات كثيرة لم يذكروها هناك، وهي قوله: ((وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي))، فصرّحوا هنا بأن عليًّا كان شريكه في أمره، كما كان هارون شريك موسى، وهذا قول من يقول بنبّوته، وهذا كفر صريح، وليس هو قول الإمامية، وإنما هو من قول الغالية.
وليس الشريك في الأمر هو الخليفة من بعده، فإنهم يدّعون إمامته بعده، ومشاركته له في أمره في حياته.
وهذا الرافضي الكذّاب يقول: (وهذا نصٌّ في الباب).
فيقال له: يا دُبَيْر! هذا نص في أن عليًّا شريكه في أمره في حياته، كما كان هارون شريكا لموسى، فهل تقول بموجب هذا النص؟ أم ترجع عن الاحتجاج بأكاذيب المفترين، وترهات إخوانك المبطلين؟!
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الثامن والثلاثون: قوله تعالى: ((إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ)) [الحجر:47] . من مسند أحمد بإسناده إلى زيد بن أبي أوفى قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده، فذكر قصة مؤاخاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليّ: لقد ذهبت روحي، وانقطع ظهري، حين فعلت بأصحابك، فإن كان هذا من سخط الله عليَّ، فلك العقبى والكرامة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق نبيًّا، ما اخترتك إلا لنفسي، فأنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي، وأنت أخي ووارثي، وأنت معي في قصري في الجنة، ومع ابنتي فاطمة، فأنت أخي ورفيقي، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم (إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ))، المتحابين في الله ينظر بعضهم إلى بعض، والمؤاخاة تستدعي المناسبة والمشاكلة، فلما اختص عليّ بمؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام).(2/491)
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة هذا الإسناد، وليس هذا الحديث في مسند أحمد، ولا رواه أحمد قط لا في المسند ولا في (الفضائل) ولا ابنه، فقول هذا الرافضي: (من مسند أحمد) كذب وافتراء على المسند، وإنما هو من زيادات القطيعي التي فيها من الكذب الموضوع ما اتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع، رواه القطيعي عن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثنا حسين بن محمد الذارع، حدثنا عبد المؤمن بن عباد، حدثنا يزيد بن معن، عن عبد الله بن شرحبيل، عن زيد بن أبي أوفى(1).
وهذا الرافضي لم يذكره بتمامه، فإن فيه عند قوله: وأنت أخي ووارثي. قال: وما أرث منك يا رسول الله؟ قال: ما ورَّث الأنبياء من قبلي. قال: وما ورث الأنبياء من قبلك؟ قال: كتاب الله وسنة نبيهم.
وهذا الإسناد مظلم! انفرد به عبد المؤمن بن عباد أحد المجروحين، ضعّفه أبو حاتم عن يزيد بن معن،ولا يدرى من هو، فلعله الذي اختلقه عن عبد الله بن شرحبيل،وهو مجهول، عن رجل من قريش، عن زيد بن أبي أوفى.
الوجه الثاني: أن هذا مكذوب مفترى باتفاق أهل المعرفة.
الثالث: أن أحاديث المؤاخاة بين المهاجرين بعضهم مع بعض، والأنصار بعضهم مع بعض، كلها كذب. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخ عليًّا، ولا آخى بين أبي بكر وعمر ولا بين مهاجري ومهاجري، لكن آخى بين المهاجرين والأنصار، كما آخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وبين سلمان الفارسي وأبي الدرداء،وبين عليّ وسهل بن حنيف.
وكانت المؤاخاة في دور بني النجار، كما أخبر بذلك أنس في الحديث الصحيح، لم تكن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، كما ذكر في الحديث الموضوع، وإنما كانت في دار كان لبعض بني النجار، وبناه في محلتهم.
__________
(1) انظر: الفضائل (2/638-639).(2/492)
الرابع: أن قوله في هذا الحديث: أنت أخي ووارثي، باطل على قول أهل السنة والشيعة، فإنه إن أراد ميراث المال بطل قولهم: إن فاطمة ورثته، وكيف يرث ابن العم مع وجود العم وهو العباس؟ وما الذي خصّه بالإرث دون سائر بني العم الذين هم في درجة واحدة؟
الوجه الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت الأخوة لغير عليّ، كما في الصحيحين أنه قال لزيد: (أنت أخونا ومولانا)(1). وقال له أبو بكر لما خطب ابنته:ألست أخي؟ قال: (أنا أخوك،وبنتك حلالٌ لي)(2).
لكن المقصود أن هذه الأحاديث الصحيحة تبيّن أن أبا بكر كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عليّ، وأعلى قدرًا عنده منه ومن كل من سواه،وشواهد هذه كثيرة.
وقد روى بضعة وثمانون نفسًا عن عليّ أنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيّها أبو بكر ثم عمر). رواه البخاري في الصحيح(3).
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان التاسع والثلاثون:قوله تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِم وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)) [الأعراف:172] . في كتاب (الفردوس) لابن شيرويه يرفعه عن حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو يعلم الناس متى سُمّي عليٌّ أمير المؤمنين ما أنكروا فضله، سُمِّي أمير المؤمنين وآدم بين الروح والجسد. قال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِم وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)) [الأعراف:172] قالت الملائكة:بلى، فقال تبارك وتعالى: أنا ربكم، ومحمد نبيّكم، وعليّ أميركم. وهو صريح في الباب).
__________
(1) تقدم هذا الحديث (ص689).
(2) البخاري (7/5).
(3) انظر: البخاري (5/7).(2/493)
والجواب من وجوه: أحدها: منع الصحة، والمطالبة بتقريرها. وقد أجمع أهل العلم بالحديث على أن مجرد رواية صاحب (الفردوس) لا تدل على أن الحديث صحيح، فابن شيرويه الديلمي الهمذاني ذكر في هذا الكتاب أحاديث كثيرة صحيحة وأحاديث حسنة وأحاديث موضوعة،وإن كان من أهل العلم والدين، ولم يكن ممن يكذب هو، لكنه نقل ما في كتب الناس، والكتب فيها الصدق والكذب، ففعل كما فعل كثير من الناس في جمع الأحاديث: إما بالأسانيد، وإما محذوفة الأسانيد.
الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث.
الثالث:أن الذي في القرآن أنه قال: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)) ليس فيه ذكر النبي ولا الأمير، وفيه قوله: ((أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ)) [الأعراف:173] . فدلَّ على أنه ميثاق التوحيد خاصة، ليس فيه ميثاق النبوة، فكيف ما دونها؟!
الرابع: أن الأحاديث المعروفة في هذا التي في المسند والسنن والموطأ وكتب التفسير وغيرها، ليس فيها شيء من هذا، ولو كان ذلك مذكورا في الأصل لم يهمله جميع الناس، وينفرد به من لا يُعرف صدقه، بل يُعرف أنه كذب.
الخامس: أن الميثاق أُخذ على جميع الذريّة، فيلزم أن يكون عليٌّ أميرًا على الأنبياء كلهم، من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا كلام المجانين؛ فإن أولئك ماتوا قبل أن يخلق الله عليًّا، فكيف يكون أميرًا عليهم؟!
وغاية ما يمكن أن يكون أميرًا على أهل زمانه، أما الإمارة على من خُلق قبله، وعلى من يخلق بعده، فهذا من كذب من لا يعقل ما يقول، ولا يستحي فيما يقول.(2/494)
(فصل)
قال الرافضي: (البرهان الأربعون: قوله تعالى: ((فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ))[التحريم:4] . أجمع المفسرون أن صالح المؤمنين هو عليّ، روى أبو نُعيم بإسناده إلى أسماء بنت عميس،قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: ((وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ)) [التحريم:4] : قال: صالح المؤمنين عليّ بن أبي طالب، واختصاصه بذلك يدل على أفضليته، فيكون هو الإمام، والآيات في هذا المعنى كثيرة، اقتصرنا على ما ذكرنا للاختصار).
والجواب من وجوه: أحدها:قوله: (أجمع المفسرون على أن صالح المؤمنين هو عليّ) كذب مبين، فإنهم لم يجمعوا على هذا، ولا نقل الإجماع عَلَى هذا أحدٌ من علماء التفسير،ولا علماء الحديث ونحوهم، ومن نقل هذا الإجماع؟
الثاني: أن يُقال: كتب التفسير مملوءة بنقيض هذا، قال ابن مسعود وعكرمة ومجاهد والضحّاك وغيرهم: هو أبو بكر وعمر. وذكر هذا جماعة من المفسرين، كابن جرير الطبري وغيره.
الثالث: أن يقال: لم يثبت هذا القول بتخصيص علي به عمن قوله حجة، والحديث المذكور كذب موضوع، وهو لم يذكر دلالة على صحته، ومجرد رواية أبي نعيم له لا تدل على الصحة.
الرابع: أن يُقال: قوله: ((وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ)) اسم يعم كل صالح من المؤمنين، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين)(1).
الخامس: أن يُقال: إن الله جعل في هذه الآية صالح المؤمنين مولى رسول صلى الله عليه وسلم، كما أخبر أن الله مولاه، والمولى يمنع أن يُراد به الموالي عليه، فلم يبق المراد به إلا الموالي.
__________
(1) انظر: البخاري (8/6)، ومسلم (1/197).(2/495)
وأما قوله: (والآيات في هذا المعنى كثيرة) فغايته أن يكون المتروك من جنس المذكور، والذي ذكره خلاصة ما عندهم، وباب الكذب لا ينسد، ولهذا كان من الناس من يقابل كذبهم بما يقدر عليه من الكذب، ولكن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، وللكذّابين الويل مما يصفون.
(فصل)
قال الرافضي: (المنهج الثالث في الأدلة المستندة إلى السنّة، المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي اثنا عشر:
الأول: ما نقله الناس كافة أنه لمّا نزل قوله تعالى: ((وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اْلأَقْرَبِينَ)) [الشعراء:214] جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب في دار أبي طالب، وهم أربعون رجلاً، وأمر أن يَصْنَع لهم فخذ شاة مع مُدٍّ من البر ويُعِدُّ لهم صاعًا من اللبن، وكان الرجل منهم يأكل الجذعة في مقعد واحد، ويشرب الفَرَق من الشراب في ذلك المقام، فأكلت الجماعة كلهم من ذلك الطعام اليسير حتى شبعوا، ولم يتبين ما أكلوه، فبهرهم النبي صلى الله عليه وسلم وآله بذلك، وتبين لهم آية نبوته، فقال: يا بني عبد المطلب،إن الله بعثني بالحق إلى الخلق كافة، وبعثني إليكم خاصة، فقال: ((وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اْلأَقْرَبِينَ)) وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان، ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأمم، وتدخلون بهما الجنة، وتنجون بهما من النار: شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله، فمن يجيبني إلى هذا الأمر، ويؤازرني على القيام به يكن أخي ووزيري، ووصيي ووارثي، وخليفتي من بعدي، فلم يجبه أحد منهم، فقال أمير المؤمنين: أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر. فقال: اجلس. ثم أعاد القول على القوم ثانية فصمتوا. فقال عليّ: فقمت فقلت مثل مقالتي الأولى، فقال: اجلس، ثم أعاد القول ثالثة، فلم ينطق أحد منهم بحرف، فقمت فقلت: أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر. فقال: اجلس فأنت أخي ووزيري، ووصيي ووارثي،(2/496)
وخليفتي من بعدي، فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب: ليهنئك اليوم أن دخلت في دين ابن أخيك، فقد جعل ابنك أميرًا عليك).
والجواب من وجوه: الأول: المطالبة بصحة النقل، وما ادّعاه من نقل الناس كافة فمن أظهر الكذب عند أهل العلم بالحديث، فإن هذا الحديث ليس في شيء من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل: لا في الصحاح ولا في المسانيد والسنن والمغازي والتفسير التي يذكر فيها الإسناد والذي يحتج به، وإذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل منها الصحيح والضعيف، مثل: تفسير الثعلبي والواحدي والبغوي،بل وابن جرير وابن أبي حاتم، لم يكن مجرد رواية واحد من هؤلاء دليلاً على صحته باتفاق أهل العلم، فإنه إذا عرف أن تلك المنقولات فيها صحيح وضعيف، فلا بد من بيان أن هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف.
الثاني: أنّا نرضى منه من هذا النقل العام بأحد شيئين: إما بإسنادٍ يذكره مما يحتج به أهل العلم في مسائل النزاع، ولو أنه مسألة فرعية، وإما قول رجل من أهل الحديث الذين يعتمد الناس على تصحيحهم.
فإنه لو تناظر فقيهان في فرع من الفروع، لم تقم الحجة على المناظرة إلا بحديث يُعلم أنه مسند إسنادًا تقوم به الحجة، أو يصححه من يُرجع إليه في ذلك، فأما إذا لم يُعلم إسناده، ولم يثبته أئمة النقل، فمن أين يُعلم؟ لا سيما في مسائل الأصول التي يُبنى عليها الطعن في سلف الأمة وجمهورها، ويُتوسل بذلك إلى هدم قواعد الملة، فكيف يقبل في مثل ذلك حديث لا يُعْرَف إسناده ولا يثبته أئمة النقل ولا يعرف أن عالمًا صححه.
الثالث: أن هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث، فما من عالم يعرف الحديث إلا وهو يعلم أنه كذب موضوع، ولهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يُرجع إليها في المنقولات، لأن من له أدنى معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب.(2/497)
الرابع: أن بني عبد المطلب لم يبلغوا أربعين رجلاً حين نزلت هذه الآية؛ فإنها نزلت بمكة في أول الأمر، ولا بلغوا أربعين رجلاً في مدّة حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
الخامس: قوله: (إن الرجل منهم كان يأكل الجذعة ويشرب الفَرَق من اللبن) فكذب على القوم، ليس بنو هاشم معروفين بمثل هذه الكثرة في الأكل، ولا عُرف فيهم من كان يأكل جذعة ولا يشرب فرقًا.
السادس: أن قوله للجماعة: (من يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني على القيام به يكن أخي ووزيري ووصيي وخليفتي من بعدي) كلامٌ مفترًى على النبي صلى الله عليه وسلم، لا يجوز نسبته إليه، فإن مجرد الإجابة إلى الشهادتين والمعاونة على ذلك لا يوجب هذا كله؛ فإن جميع المؤمنين أجابوا إلى هاتين الكلمتين، وأعانوه على هذا الأمر،وبذلوا أنفسهم وأموالهم في إقامته وطاعته، وفارقوا أوطانهم، وعادوا إخوانهم، وصبروا على الشتات بعد الألفة، وعلى الذل بعد العز، وعلى الفقر بعد الغنى،وعلى الشدة بعد الرخاء، وسيرتهم معروفة مشهورة، ومع هذا فلم يكن أحد منهم بذلك خليفة له.
وأيضًا: فإن كان عرض هذا الأمر على أربعين رجلاً أمكن أن يجيبوه –أو أكثرهم أو عدد منهم– فلو أجابه منهم عدد من كان الذي يكون الخليفة بعده.
السابع: أن حمزة وجعفرًا وعبيدة بن الحارث أجابوا إلى ما أجابه عليّ من الشهادتين والمعاونة على هذا الأمر.(2/498)
الثامن: أن الذي في الصحاح من نزول هذه الآية غير هذا، ففي الصحيحين عن ابن عمر وأبي هريرة - واللفظ له - عن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت: ((وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اْلأَقْرَبِينَ)) [الشعراء:214] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا، فاجتمعوا،فخصَّ وعم، فقال: (يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني مُرَّة بن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة بنت محمد! أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها)(1).
(فصل)
قال الرافضي:الثاني:الخبر المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما نزل قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ)) [المائدة:67] خطب الناس في غدير خُم وقال للجمع كله: يا أيها الناس، ألست أَوْلى منكم بأنفسكم؟ قالوا: بلى. قال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه.
اللهم وال من ولاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله. فقال عمر:بخٍ بخٍ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، والمراد بالمولى هنا الأَوْلى بالتصرف لتقدّم التقرير منه صلى الله عليه وسلم بقوله: ألست أوْلى منكم بأنفسكم؟
والجواب: عن هذه الآية والحديث المذكور قد تقدّم، وبيَّنا أن هذا كذب، وأن قوله: ((بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ)) [المائدة:67] نزل قبل حجة الوداع بمدة طويلة.
ويوم الغدير إنما كان ثامن عشر ذي الحجة بعد رجوعه من الحج، وعاش بعد ذلك شهرين وبعض الثالث.
فعلم أنه لم يكن في غدير خم أمر يشرع نزل إذ ذاك، لا في حقّ عليّ ولا غيره، لا إمامته ولا غيرها.
__________
(1) انظر: البخاري (6/111- 112) ومسلم (1/192).(2/499)
لكن حديث الموالاة قد رواه الترمذي وأحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كنت مولاه فعليّ مولاه)(1). وأما الزيادة وهي قوله: (اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه …) إلخ، فلاريب أنه كذب.
وكذلك قوله: أنت أَوْلى بكل مؤمن ومؤمنة، كذب أيضًا.
وأما قوله: (من كنت مولاه فعليّ مولاه) فليس في الصحاح، لكن هو مما رواه العلماء، وتنازع الناس في صحته، فنُقل عن البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم بالحديث أنهم طعنوا فيه وضعَّفوه، ونُقل عن أحمد بن حنبل أنه حسَّنه كما حسَّنه الترمذي. وقد صنَّف أبو العباس بن عُقْدَة مصنَّفا في جمع طرقه.
ونحن نجيب بالجواب المركّب، فنقول: إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فلا كلام، وإن كان قاله فلم يرد به قطعًا الخلافة بعده، إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه، ومثل هذا الأمر العظيم يجب أن يبلَّغ بلاغًا مبينًا.
وليس في الكلام ما يدل دلالة بيّنة على أن المراد به الخلافة، وذلك أن المولى كالولي، والله تعالى قال: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا)) [المائدة:55] ، وقال: ((وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)) [التحريم:4] فبيّن أن الرسول ولي المؤمنين، وأنهم مواليه أيضًا، كما بيّن أن الله وليّ المؤمنين، وأنهم أولياؤه، وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض.
فالموالاة ضد المعاداة، وهي تثبت من الطرفين، وإن كان أحد المتواليين أعظم قدرًا، وولايته إحسان وتفضل، وولاية الآخر طاعة وعبادة، كما أن الله يحب المؤمنين، والمؤمنون يحبونه.
__________
(1) انظر: سنن الترمذي (5/297) والمسند (4/281) وأماكن أخرى منه.(2/500)
وهو وليّ المؤمنين وهو مولاهم يخرجهم من الظلمات إلى النور، وإذا كان كذلك فمعنى كون الله وليّ المؤمنين ومولاهم، وكون الرسول وليهم ومولاهم، وكون عليّ مولاهم، هي الموالاة التي هي ضد المعاداة.
والمؤمنون يتولون الله ورسوله الموالاة المضادة للمعاداة، وهذا حكم ثابت لكل مؤمن، فعليٌّ رضي الله عنه من المؤمنين الذين يتولون المؤمنين ويتولونه.
وفي الجملة فرق بين الوليّ والمولى ونحو ذلك وبين الوالي، فباب الولاية -التي هي ضدّ العداوة- شيء، وباب الولاية -التي هي الإمارة- شيء.
والحديث إنما هو في الأولى دون الثانية، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: من كنت واليه فعليّ واليه. وإنما اللفظ (من كنت مولاه فعليّ مولاه).
وأما كون المولى بمعنى الوالي، فهذا باطل. فإن الولاية تثبت من الطرفين؛ فإن المؤمنين أولياء الله، وهو مولاهم.
وأما كونه أَوْلى بهم من أنفسهم، فلا يثبت إلا من طرفه صلى الله عليه وسلم، وكونه أَوْلى بكل مؤمن من نفسه من خصائص نبوته.
(فصل)
قال الرافضي: الثالث: قوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي. أثبت له (عليه السلام) جميع منازل هارون من موسى عليه السلام للاستثناء، ومن جملة منازل هارون أنه كان خليفة لموسى، ولو عاش بعده لكان خليفة أيضًا، وإلا لزم تطرّق النقض إليه، ولأنه خليفته مع وجوده وغيبته مدة يسيرة، فبعد موته وطول مدة الغَيْبَة، أَوْلى بأن يكون خليفته).
والجواب: أن هذا الحديث ثبت في الصحيحين بلا ريب وغيرهما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذلك في غزوة تبوك، وكان صلى الله عليه وسلم كلما سافر في غزوة أو عُمرة أو حج يستخلف على المدينة بعض الصحابة، كما استخلف على المدينة في غزوة ذي أمر عثمان، وفي غزوة بني قَيْنُقاع بشير بن عبد المنذر، ولما غزا قريشًا ووصل إلى الفُرْع استعمل ابن أم مكتوم، وذكر ذلك محمد بن سعد وغيره.(2/501)
وبالجملة.. فمن المعلوم أنه كان لا يخرج من المدينة حتى يستخلف، وقد ذكر المسلمون من كان يستخلفه، فقد سافر من المدينة في عُمرتين: عُمرة الحديبية وعُمرة القضاء، وفي حجة الوداع، وفي مغازيه -أكثر من عشرين غزاة- وفيها كلها استخلف، وكان يكون بالمدينة رجال كثيرون يستخلف عليهم من يستخلفه،فلما كان في غزوة تبوك لم يأذن لأحد في التخلف عنها، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم، ولم يجتمع معه أحد كما اجتمع معه فيها، فلم يتخلف عنه إلا النساء والصبيان، أو من هو معذور لعجزه عن الخروج، أو من هو منافق، وتخلّف الثلاثة الذين تِيب عليهم، ولم يكن في المدينة رجال من المؤمنين يستخلف عليهم، كما كان يستخلف عليهم في كل مرة، بل كان هذا الاستخلاف أضعف من الاستخلافات المعتادة منه.
وفي كل مرة يكون بالمدينة أفضل ممن بقي في غزوة تبوك، فكان كل استخلاف قبل هذه يكون على أفضل ممن استخلف عليه عليًّا، فلهذا خرج إليه عليٌّ رضي الله عنه يبكي،وقال: أتخلّفني مع النساء والصبيان؟
ولم يكن هذا الاستخلاف كاستخلاف هارون، لأن العسكر كان مع هارون، وإنما ذهب موسى وحده.
وأما استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فجميع العسكر كان معه، ولم يُخَلَّف بالمدينة - غير النساء والصبيان إلا معذورٌ أو عاصٍ.(2/502)
وقول القائل: (هذا بمنزلة هذا، وهذا مثل هذا) هو كتشبيه الشيء بالشيء، وتشبيه الشيء بالشيء يكون بحسب ما دلَّ عليه السياق، لا يقتضي المساواة في كل شيء، ألا ترى إلى ما ثبت في الصحيحين من قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأسارى لمّا استشار أبا بكر،وأشار بالفداء، واستشار عمر، فأشار بالقتل. قال: (سأخبركم عن صاحبيكم. مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم إذ قال: ((فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [إبراهيم:36] ،ومثل عيسى إذ قال: ((إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) [المائدة:118]. ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال: ((رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اْلأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)) [نوح:26] ، ومثل موسى إذ قال: ((رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ اْلأَلِيمَ)) [يونس:88] .
فقوله لهذا: مثلك كمثل إبراهيم وعيسى، ولهذا: مثل نوح وموسى -أعظم من قوله- أنت مني بمنزلة هارون من موسى؛ فإن نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى أعظم من هارون، وقد جعل هذين مثلهم، ولم يرد أنهما مثلهم في كل شيء، لكن فيما دلّ عليه السياق من الشدة في الله واللين في الله.
وكذلك هنا إنما هو بمنزلة هارون فيما دلّ عليه السياق، وهو استخلافه في مغيبه، كما استخلف موسى هارون، وهذا الاستخلاف ليس من خصائص عليّ، بل ولا هو مثل استخلافاته، فضلاً عن أن يكون أفضل منها.
وأما إذا كان التخصيص لسبب يقتضيه، فلا يُحتج به باتفاق الناس، فهذا من ذلك؛ فإنه إنما خصَّ عليًّا بالذكر لأنه خرج إليه يبكي ويشتكي تخليفه مع النساء والصبيان.(2/503)
ومن استخلفه سوى عليّ، لما لم يتوهموا أن في الاستخلاف نقصًا،لم يحتج أن يخبرهم بمثل هذا الكلام. والتخصيص بالذكر إذا كان لسبب يقتضي ذاك لم يقتض الاختصاص بالحكم، فليس في الحديث دلالة على أن غيره لم يكن منه بمنزلة هارون من موسى.
وقول القائل: إنه جعله بمنزلة هارون في كل الأشياء إلا في النبوة باطل؛ فإن قوله: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟) دليل على أنه يسترضيه بذلك ويطيّب قلبه لِمَا توهم من وهن الاستخلاف ونقص درجته، فقال هذا على سبيل الجبر له.
وقوله: (بمنزلة هارون من موسى) أي: مثل منزلة هارون، فإن نفس منزلته من موسى بعينها لا تكون لغيره، وإنما يكون له ما يشابهها، فصار هذا كقوله: هذا مثل هذا، وقوله عن أبي بكر مثله مثل إبراهيم وعيسى، وعمر، مثله مثل نوح وموسى.
ومما يبين ذلك: أن هذا كان عام تبوك، ثم بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر أميرًا على الموسم، وأردفه بعليّ، فقال لعليّ: أمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور، فكان أبو بكر أميرًا عليه، وعليّ معه كالمأمور مع أميره، يصلّي خلفه، ويطيع أمره وينادي خلفه مع الناس بالموسم: ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان.
وأما قوله: (لأنه خليفته مع وجوده وغيبته مدة يسيرة، فبعد موته وطول مدة الغيبة أَوْلى بأن يكون خليفته).
فالجواب: أنه مع وجوده وغيبته قد استخلف غير عليّ استخلافًا أعظم من استخلاف عليّ، واستخلف أولئك عَلَى أفضل من الذين استخلف عليهم عليًّا، وقد استخلف بعد تبوك على المدينة غير عليّ في حجة الوداع، فليس جعل عليّ هو الخليفة بعده لكونه استخلفه على المدينة بأَوْلى من هؤلاء الذين استخلفهم على المدينة كما استخلفه، وأعظم مما استخلفه، وآخر الاستخلاف كان عَلَى المدينة كان عام حجة الوداع، وكان عليّ باليمن، وشهد معه الموسم، لكن استخلف عليها في حجة الوداع غير عليّ.(2/504)
فإن كان الأصل بقاء الاستخلاف، فبقاء من استخلفه في حجة الوداع أولى من بقاء استخلاف من استخلفه قبل ذلك.
وبالجملة فالاستخلافات على المدينة ليست من خصائص عليّ، ولا تدل على الأفضلية ولا على الإمامة، فقد استخلف عددًا غيره، ولكن هؤلاء جهَال يجعلون الفضائل العامة المشتركة بين عليّ وغيره خاصة بعليّ وإن كان غيره أكمل منه فيها، كما فعلوا في النصوص والوقائع.
(فصل)
قال الرافضي: (الرابع: أنه صلى الله عليه وسلم استخلفه عَلَى المدينة مع قصر مدة الغَيْبَة، فيجب أن يكون خليفة له بعد موته، وليس غير عليّ إجماعًا، ولأنه لم يعزله عن المدينة، فيكون خليفة له بعد موته فيها، وإذا كان خليفة فيها كان خليفة في غيرها إجماعًا).
والجواب: أن هذه الحجة وأمثالها من الحجج الداحضة، التي هي من جنس بيت العنكبوت، والجواب عنها من وجوه:
أحدها: أن نقول على أحد القولين: إنه استخلف أبا بكر بعد موته كما تقدم، وإذا قالت الرافضة: بل استخلف عليًّا. قيل: الراوندية من جنسكم قالوا: استخلف العبّاس، وكل من كان له علم بالمنقولات الثابتة يعلم أن الأحاديث الدالّة على استخلاف أحدٍ بعد موته إنما تدل على استخلاف أبي بكر، ليس فيها شيء يدل على استخلاف عليّ ولا العباس، بل كلها تدل على أنه لم يستخلف واحدًا منهما. فيقال حينئذ: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أحدًا فلم يستخلف إلا أبا بكر، وإن لم يستخلف أحدًا فلا هذا ولا هذا.
الوجه الثاني: أن نقول: أنتم لا تقولون بالقياس، وهذا احتجاج بالقياس، حيث قستم الاستخلاف في الممات على الاستخلاف في المغيب، وأما نحن إذا فرضنا على أحد القولين فنقول: الفرق بينهما ما نبّهنا عليه في استخلاف عمر في حياته، وتوقفه في الاستخلاف بعد موته، لأن الرسول في حياته شاهد على الأمة، مأمور بسياستها بنفسه أو نائبه، وبعد موته انقطع عنه التكليف.(2/505)
كما قال المسيح: ((وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ)) [المائدة:117]. الآية، لم يقل: كان خليفتي الشهيد عليهم. وهذا دليل على أن المسيح لم يستخلف، فدل على أن الأنبياء لا يجب عليهم الاستخلاف بعد الموت.
وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فأقول كما قال العبد الصالح: ((وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ))(1).
الوجه الثالث: أن يُقال: الاستخلاف في الحياة واجبٌ على كل وليّ أمر؛ فإن كل ولي أمر -رسولاً كان أو إمامًا- عليه أن يستخلف فيما غاب عنه من الأمور، فلا بد له من إقامة الأمر: إما بنفسه، وإما بنائبه؛ فما شهده من الأمر أمكنه أن يقيمه بنفسه، وأما ما غاب عنه فلا يمكنه إقامته إلا بخليفة يستخلفه عليه، فيولّي عَلَى مَنْ غاب عنه مِن رعيته مَنْ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويأخذ منهم الحقوق، ويقيم فيهم الحدود، ويعدل بينهم في الأحكام، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلف في حياته على كل ما غاب عنه، فيولِّي الأمراء على السرايا: يصلّون بهم، ويجاهدون بهم، ويسوسونهم، ويؤمِّر أمراء على الأمصار، بخلاف الاستخلاف بعد الموت، فإنه قد بلَّغ الأمة، وهو الذي يجب عليهم طاعته بعد موته، فيمكنهم أن يعينوا من يؤمِّرونه عليهم، كما يمكن ذلك في كل فروض الكفاية التي تحتاج إلى واحد معيّن – عُلم أنه لا يلزم من وجوب الاستخلاف في الحياة وجوبه بعد الموت.
الرابع: أن الاستخلاف في الحياة واجبٌ في أصناف الولايات، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلف على من غاب عنهم من يقيم فيهم الواجب.
ومعلوم أن هذا الاستخلاف لا يجب بعد الموت باتفاق العقلاء، بل ولا يمكن، فإنه لا يمكن أن يعيِّن للأمة بعد موته من يتولّى كل أمر جزئي، فإنهم يحتاجون إلى واحدٍ بعد واحد، وتعيين ذلك متعذر.
__________
(1) انظر: البخاري (4/168) ومواضع أُخر.(2/506)
الوجه الخامس: أن ترك الاستخلاف بعد مماته كان أَوْلى من الاستخلاف كما اختاره الله لنبيه، فإنه لا يختار له إلا أفضل الأمور.
فعُلم أن ترك الاستخلاف من النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت أكمل في حق الرسول من الاستخلاف، وأن من قاس وجوب الاستخلاف بعد الممات على وجوبه في الحياة كان من أجهل الناس.
وأبو بكر لم يكن يعلم أن الأمة يولُّون عمر إذا لم يستخلفه أبو بكر، فكان ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم هو اللائق به لفضل علمه، وما فعله صدِّيق الأمة هو اللائق به إذ لم يعلم ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه السادس: أن يُقال: هب أن الاستخلاف واجب، فقد استخلف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على قول من يقول: إنه استخلفه، ودلّ على استخلافه على القول الآخر.
وقوله: (لأنه لم يعزله عن المدينة).
قلنا: هذا باطل، فإنه لمّا رجع النبي صلى الله عليه وسلم انعزل عليٌّ بنفس رجوعه، كما كان غيره ينعزل إذا رجع، وقد أرسله بعد هذا إلى اليمن، حتى وافاه بالموسم في حجة الوداع، واستخلف عَلَى المدينة في حجة الوداع غيره.
أفترى النبي صلى الله عليه وسلم فيها مقيمًا وعليّ باليمن، وهو خليفة بالمدينة؟!
ولا ريب أن كلام هؤلاء كلام جاهل بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم، كأنهم ظنّوا أن عليًّا ما زال خليفة عَلَى المدينة حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعلموا أن عليًّا بعد ذلك أرسله النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع مع أبي بكر لنبذ العهود، وأمَّر عليه أبا بكر، ثم بعد رجوعه مع أبي بكر أرسله إلى اليمن، كما أرسل معاذًا وأبا موسى.
(فصل)
قال الرافضي: (الخامس: ما رواه الجمهور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأمير المؤمنين: أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي دَيْني، وهو نصٌّ في الباب).(2/507)
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة هذا الحديث، فإن هذا الحديث ليس في شيء من الكتب التي تقوم الحجة بمجرد إسناده إليها، ولا صححه إمام من أئمة الحديث.
وقوله: (رواه الجمهور): إن أراد بذلك أن علماء الحديث رووه في الكتب التي يُحتج بما فيها، مثل كتاب البخاري ومسلم ونحوهما،وقالوا: إنه صحيح - فهذا كذب عليهم؛ وإن أراد بذلك أن هذا يرويه مثل: أبي نُعيم في (الفضائل) والمغازلي وخطيب خوارزم ونحوهم، أو يُروى في كتب الفضائل، فمجرد هذا ليس بحجة باتفاق أهل العلم في مسألة فروع، فكيف في مسألة الإمامة، التي قد أقمتم عليها القيامة؟!
الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث، وقد تقدّم كلام ابن حزم أن سائر هذه الأحاديث موضوعة، يعلم ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلتها، وقد صدق في ذلك؛ فإن من له أدنى معرفة بصحيح الحديث وضعيفه، ليعلم أن هذا الحديث ومثله ضعيف، بل كذب موضوع.
الوجه الثالث: أن دَيْنَ النبي صلى الله عليه وسلم لم يقضه عليّ بل في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقًا من شعير ابتاعها لأهله(1)، فهذا الدين الذي كان عليه يقضى من الرهن الذي رهنه، ولم يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم دَيْن آخر.
وفي الصحيح عنه أنه قال: (لا يقتسم ورثتي دينارًا ولا درهمًا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة)(2) فلو كان عليه دَيْن قُضِيَ مما تركه، وكان ذلك مقدَّمًا على الصدقة، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح.
__________
(1) انظر: البخاري (4/141) وغيره.
(2) انظر: البخاري (4/12)، ومسلم (3/ 1382).(2/508)
(فصل)
قال الرافضي: (السادس: حديث المؤاخاة، روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يوم المباهلة، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وعليٌّ واقف يراه ويعرفه، ولم يؤاخ بينه وبين أحد، فانصرف باكيًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعل أبو الحسن؟ قالوا: انصرف باكي العين، قال: يا بلال اذهب فائتني به، فمضى إليه، ودخل منزله باكي العين، فقالت له فاطمة: ما يبكيك؟ قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، ولم يؤاخ بيني وبين أحد. قالت: لا يخزيك الله،لعله إنما أدخرك لنفسه، فقال بلال: يا عليّ أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى فقال: ما يبكيك يا أبا الحسن؟ فأخبره، فقال: إنما ادَّخرك لنفسي، ألا يسرك أن تكون أخا نبيك؟ قال: بلى، فأخذ بيده، فأتى المنبر، فقال: اللهم هذا مني وأنا منه، ألا إنه مني بمنزلة هارون من موسى، ألا من كنت مولاه فعليّ مولاه، فانصرف فأتبعه عمر، فقال: بخٍ بخٍ يا أبا الحسن، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم، فالمؤاخاة تدل على الأفضلية، فيكون هو الإمام).
والجواب: أولاً: المطالبة بتصحيح النقل، فإنه لم يعز هذا الحديث إلى كتاب أصلاً، كما عادته يعزو، وإن كان عادته يعزو إلى كتبٍ لا تقوم بها الحجة، وهنا أرسله إرسالاً على عادة أسلافه شيوخ الرافضة، يكذبون ويروون الكذب بلا إسناد، وقد قال ابن المبارك: الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، فإذا سُئل: وقف وتحيّر.
الثاني: أن هذا الحديث موضوع عند أهل الحديث، لا يرتاب أحد من أهل المعرفة بالحديث أنه موضوع، وواضعه جاهل، كذب كذبًا ظاهرًا مكشوفًا، يعرف أنه كذب من له أدنى معرفة بالحديث، كما سيأتي بيانه.
الثالث: أن أحاديث المؤاخاة لعلي كلها موضوعة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخ أحدًا، ولا آخى بين مهاجري ومهاجري، ولا بين أبي بكر وعمر، ولا بين أنصاري وأنصاري، ولكن آخى بين المهاجرين والأنصار في أول قدومه المدينة.(2/509)
وأما المباهلة فكانت لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر من الهجرة.
الرابع: أن دلائل الكذب على هذا الحديث بيّنة، منها: أنه قال: (لما كان يوم المباهلة وآخى بين المهاجرين والأنصار) والمباهلة كانت لما قدم وفد نجران النصارى، وأنزل الله سورة آل عمران، وكان ذلك في آخر الأمر سنة عشر أو سنة تسع.
الخامس: أن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار كانت في السنة الأولى من الهجرة في دار بني النجار،وبين المباهلة وذلك عدة سنين.
السادس: أنه كان قد آخى بين المهاجرين والأنصار، والنبي صلى الله عليه وسلم وعليٌّ كلاهما من المهاجرين، فلم يكن بينهما مؤاخاة، بل آخى بين عليّ وسهل بن حنيف.
السابع: أن قوله: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) إنما قاله في غزوة تبوك مرة واحدة، لم يقل ذلك في غير ذلك المجلس أصلاً باتفاق أهل العلم بالحديث.
(فصل)
قال الرافضي: السابع: ما رواه الجمهور كافة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر خيبر تسعًا وعشرين ليلة، وكانت الراية لأمير المؤمنين عليّ، فلحقه رمد أعجزه عن الحرب، وخرج مرحب يتعرض للحرب، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فقال له: خذ الراية، فأخذها في جمع من المهاجرين، فاجتهد ولم يغن شيئًا، ورجع منهزمًا، فلما كان من الغد تعرَّض لها عمر، فسار غير بعيد، ثم رجع يخبر أصحابه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: جيئوني بعليّ، فقيل: إنه أرمد، فقال: أرونيه أروني رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ليس بفرَّار، فجاءوا بعليّ، فتفل في يده ومسحها على عينيه ورأسه فبرِئ، فأعطاه الراية،ففتح الله على يديه، وقتل مرحبًا، وَوَصْفُهُ عليه السلام بهذا الوصف يدل على انتفائه عن غيره، وهو يدل على أفضليته فيكون هو الإمام).(2/510)
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بتصحيح النقل، وأما قوله: (رواه الجمهور فإن الثقات الذين رووه لم يرووه هكذا، بل الذي في الصحيح أن عليًّا كان غائبًا عن خيبر، لم يكن حاضرًا فيها، تخلَّف عن الغزاة لأنه كان أرمد، ثم إنه شقَّ عليه التخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلحقه،فقال النبي صلى الله عليه وسلم قبل قدومه: (لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله،يفتح الله على يديه)(1) ولم تكن الراية قبل ذلك لأبي بكر ولا لعمر، ولا قربها واحدٌ منهما، بل هذا من الأكاذيب، ولهذا قال عمر: (فما أحببت الإمارة إلا يومئذ، وبات الناس كلهم يرجون أن يعطاها، فلما أصبح دعا عليًّا، فقيل له: إنه أرمد، فجاء فتفل في عينيه حتى برأ، فأعطاه الراية).
وكان هذا التخصيص جزاء مجيء عليّ مع الرمد، وكان إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وعليّ ليس بحاضر لا يرجونه من كراماته صلى الله عليه وسلم، فليس في الحديث تنقيص بأبي بكر وعمر أصلاً.
الثاني: أن إخباره أن عليّا كان يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله حق، وفيه رد على النواصب، لكن الرافضة الذين يقولون: إن الصحابة ارتدُّوا بعد موته لا يمكنهم الاستدلال بهذا، لأن الخوارج تقول لهم: هو ممن ارتد أيضًا، كما قالوا لمَّا حكم الحكمين: إنك قد ارتددت عن الإسلام فعد إليه.
وقول القائل: (إن هذا يدل على انتفاء هذا الوصف عن غيره).
فيه جوابان: أحدهما: أنه إن سلَّم ذلك، فإنه قال: (لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه)، فهذا المجموع اختصّ به، وهو أن ذلك الفتح كان على يديه، ولا يلزم إذا كان ذلك الفتح المعيّن على يديه أن يكون أفضل من غيره، فضلاً عن أن يكون مختصًّا بالإمامة.
__________
(1) انظر: البخاري (5/18) ومسلم (4/1871- 1872).(2/511)
الثاني: أن يُقال: لا نسلِّم أن هذا يوجب التخصيص، كما لو قيل: لأعطين هذا المال رجلاً فقيرًا، أو رجلاً صالحًا، أو لأعودن اليوم رجلاً مريضًا صالحًا، أو لأعطين هذه الراية رجلاً شجاعًا، ونحو ذلك - لم يكن في هذه الألفاظ ما يوجب أن تلك الصفة لا توجد إلا في واحد، بل هذا يدل على أن ذلك الواحد موصوف بذلك.
الثالث: أنه لو قُدِّر ثبوت أفضليته في ذلك الوقت، فلا يدل ذلك على أن غيره لم يكن أفضل منه بعد ذلك.
الرابع: أنه لو قدَّرنا أفضليته، لم يدل ذلك على أنه إمام معصوم منصوص عليه، بل كثير من الشيعة الزيدية ومتأخري المعتزلة وغيرهم يعتقدون أفضليته، وأن الإمام هو أبو بكر، وتجوز عندهم ولاية المفضول.
(فصل)
قال الرافضي: (الثامن: خبر الطائر، روى الجمهور كافة أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بطائر، فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإليّ يأكل معي من هذا الطائر، فجاء عليّ، فدق الباب، فقال أنس: إن النبي صلى الله عليه وسلم على حاجة، فرجع، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أولاً، فدق الباب،فقال أنس: ألم أقل لك إنه على حاجة؟ فانصرف، فعاد النبي صلى الله عليه وسلم، فعاد عليّ فدق الباب أشد من الأولين، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له بالدخول، وقال: ما أبطأك عني؟ قال: جئتك فردني أنس، ثم جئت فردني أنس، ثم جئت فردني الثالثة، فقال: يا أنس ما حملك على هذا؟ فقال: رجوت أن يكون الدعاء لرجل من الأنصار، فقال: يا أنس أوفي الأنصار خير من عليّ؟ أو في الأنصار أفضل من عليّ؟ فإذا كان أحب الخلق إلى الله، وجب أن يكون هو الإمام).(2/512)
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بتصحيح النقل، وقوله: (روى الجمهور كافة) كذب عليهم؛ فإن حديث الطير لم يروه أحد من أصحاب الصحيح، ولا صححه أئمة الحديث، ولكن هو مما رواه بعض الناس، كما رووا أمثاله في فضل غير عليّ، بل قد رُوي في فضائل معاوية أحاديث كثيرة، وصُنِّف في ذلك مصنفات، وأهل العلم بالحديث لا يصححون لا هذا ولا هذا.
الثاني: أن حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل، قال أبو موسى المديني: (قد جمع غير واحد من الحفاظ طرق أحاديث الطير للاعتبار والمعرفة كالحاكم النيسابوري، وأبي نعيم، وابن مردويه، وسئل الحاكم عن حديث الطير فقال: لا يصح، هذا مع أن الحاكم منسوب إلى التشيع.
الثالث: أن أكل الطير ليس فيه أمر عظيم يناسب أن يجيء أحب الخلق إلى الله ليأكل منه، فإن إطعام الطعام مشروع للبرّ والفاجر، وليس في ذلك زيادة وقربة عند الله لهذا الأكل، ولا معونة على مصلحة دين ولا دنيا، فأي أمر عظيم هنا يناسب جعل أحب الخلق إلى الله يفعله؟!
الرابع: أن هذا الحديث يناقض مذهب الرافضة؛ فإنهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن عليًّا أحب الخلق إلى الله، وأنه جعله خليفة من بعده، وهذا الحديث يدل على أنه ما كان يعرف أحب الخلق إلى الله.
الخامس: أن يُقال: إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف أن عليًّا أحب الخلق إلى الله، أو ما كان يعرف، فإن كان يعرف ذلك، كان يمكنه أن يرسل يطلبه،كما كان يطلب الواحد من الصحابة، أو يقول:اللهم ائتني بعليّ فإنه أحب الخلق إليك، فأي حاجة إلى الدعاء والإِبهام في ذلك؟!ولو سَمَّى عليًّا لاستراح أنس من الرجاء الباطل،ولم يغلق الباب في وجه عليّ.
وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف ذلك، بطل ما يدَّعونه من كونه كان يعرف ذلك، ثم إن في لفظه: (أحب الخلق إليك وإليّ) فكيف لا يعرف أحب الخلق إليه؟!(2/513)
السادس: أن الأحاديث الثابتة في الصحاح التي أجمع أهل الحديث على صحتها وتلقّيها بالقبول، تناقض هذا، فكيف تعارض بهذا الحديث المكذوب الموضوع الذي لم يصححوه؟!
(فصل)
قال الرافضي: (التاسع:ما رواه الجمهور أنه أمر الصحابة بأن يسلّموا عَلَى عليّ بإمرة المؤمنين، وقال: إنه سيد المسلمين، وإمام المتٌّقين، وقائد الغرّ المحجّلين، وقال: هذا وليّ كل مؤمن بعدي، وقال في حقّه: إنَّ عليًّا مني وأنا منه، أولى بكل مؤمن ومؤمنة، فيكون عليّ وحده هو الإمام لذلك، وهذه نصوص في الباب).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بإسناده وبيان صحته، وهو لم يعزه إلى كتاب على عادته، فأما قوله: (رواه الجمهور) فكذب، فليس هذا في كتب الأحاديث المعروفة: لا الصحاح، ولا المسانيد، ولا السنن وغير ذلك. فإن كان رواه بعض حاطبي الليل كما يُروى أمثاله، فعِلْم مثل هذا ليس بحجة يجب اتباعها باتفاق المسلمين.
والله تعالى قد حرّم علينا الكذب، وأن نقول عليه ما لا نعلم، وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كَذَبَ عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)(1).
الوجه الثاني: أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، وكل من له أدنى معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب موضوع لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث في كتاب يعتمد عليه: لا الصحاح، ولا السنن، ولا المسانيد المقبولة.
الثالث: أن هذا مما لا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم،فإن قائل هذا كاذب، والنبي صلى الله عليه وسلم منزّه عن الكذب، وذلك أن سيد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغرّ المحجلين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق المسلمين.
فإن قيل: عليّ هو سيدهم بعده.
__________
(1) انظر: البخاري (1/33)، ومسلم (4/2298-2299).(2/514)
قيل: ليس في لفظ الحديث ما يدل على هذا التأويل، بل هو مناقض لهذا، لأن أفضل المسلمين المتّقين المحجّلين هم القرن الأول، ولم يكن لهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم سيد ولا إمام ولا قائد غيره، فكيف يخبر عن شيء لم يحضر، ويترك الخبر عما هم أحوج إليه، وهو حكمهم في الحال؟
ثم القائد يوم القيامة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن يقود عليّ؟
وأيضًا: فعند الشيعة جمهور المسلمين المحجّلين كفّار أو فسّاق، فلمن يقود؟
ثم كون عليّ سيدهم وإمامهم وقائدهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يُعلم بالاضطرار أنه كذب، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئًا من ذلك، بل كان يفضّل عليه أبا بكر وعمر تفضيلاً بيِّنًا ظاهرًا عرفه الخاصة والعامة، حتى أن المشركين كانوا يعرفون منه ذلك.
وكذلك قوله: (هو وليّ كل مؤمن بعدي) كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو في حياته وبعد مماته وليّ كل مؤمن، وكل مؤمن وليّه في المحيا والممات، فالولاية التي هي ضد العداوة لا تختص بزمان.
وأما قوله لعليّ: (أنت مني وأنا منك) فصحيح في غير هذا الحديث.
فقال للأشعريين: (هم مني وأنا منهم) كما قال لعليّ: (أنت مني وأنا منك)وقال لجليبيب: (هذا مني وأنا منه)(1) فعُلم أن هذه اللفظة لا تدل على الإمامة، ولا على أن من قيلت له كان هو أفضل الصحابة.
(فصل)
قال الرافضي: (العاشر: ما رواه الجمهور من قول النبي صلى الله عليه وسلم: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.
وقال: أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح: من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق، وهذا يدل على وجوب التمسك بقول أهل بيته، وعليٌّ سيدهم، فيكون واجب الطاعة على الكل، فيكون هو الإمام).
__________
(1) انظر: صحيح مسلم (4/1918-1919).(2/515)
والجواب من وجوه: أحدها: أن لفظ الحديث الذي في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا بماءٍ يدعى خُمًّا بين مكة والمدينة، فقال: (أما بعد: أيها الناس إنما أنا بشر فيكم يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ربي، وإني تارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به) فحثّ على كتاب الله، ورغّب فيه. ثم قال: (وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)(1). وهذا اللفظ يدل على أن الذي أُمرنا بالتمسك به وجُعل المتمسك به لا يضل هو كتاب الله.
وهكذا جاء في غير هذا الحديث، كما في صحيح مسلم عن جابر في حجّة الوداع لما خطب يوم عرفة، وقال: (قد تركت فيكم ما لن تضلّوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون؟) قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت وأدّيت ونصحت، فقال بإصبعه السَّبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس: (اللهم اشهد) ثلاث مرات(2).
وأما قوله: (وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض(3) فهذا رواه الترمذي، وقد سئل عنه أحمد بن حنبل فضعّفه، وضعفّه غير واحد من أهل العلم، وقالوا: لا يصح، وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على أن أهل بيته كلهم لا يجتمعون على ضلالة.
قالوا: ونحن نقول بذلك، كما ذكر الناس القاضي أبو يعلى وغيره.
لكن أهل البيت لم يتفقوا -ولله الحمد- على شيء من خصائص مذهب الرافضة، بل هم المبرّؤون المنزّهون عن التدنس بشيء منه.
وأما قوله: (مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح) فهذا لا يعرف له إسناد صحيح، ولا هو في شيء من كتب الحديث التي يُعتمد عليها، فإن كان قد رواه مثل من يروي أمثاله من حطّاب الليل الذين يروون الموضوعات فهذا مما يزيده وَهْنًا.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه.(2/516)
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن عترته: إنها والكتاب لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وهو الصادق المصدوق، فيدل على إجماع العترة حجة، وهذا قول طائفة من أصحابنا، وذكره القاضي في (المعتمد). لكن العترة هم بنو هاشم كلهم: ولد العباس، وولد عليّ، وولد الحارث بن عبد المطلب، وسائر بني أبي طالب وغيرهم. وعليٌّ وحده ليس هو العترة، وسيد العترة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثالث: أن العترة لم تجتمع على إمامته ولا أفضليته، بل أئمة العترة كابن عباس وغيره يقدّمون أبا بكر وعمر في الإمامة والأفضلية.
الوجه الرابع: أن هذا معارض بما هو أقوى منه، وهو أن إجماع الأمة حجة بالكتاب والسنّة والإجماع، والعترة بعض الأمة، فيلزم من ثبوت إجماع الأمة إجماع العترة، وأفضل الأمة أبو بكر كما تقدم ذكره ويأتي.
(فصل)
قال الرافضي: (الحادي عشر: ما رواه الجمهور من وجوب محبته وموالاته، روى أحمد بن حنبل في مسنده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد حسن وحسين، فقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما فهو معي في درجتي يوم القيامة.(2/517)
وروى ابن خالويه عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يتمسك بقصبة الياقوت التي خلقها الله بيده ثم قال لها: كوني، فكانت، فليتولّ عليّ بن أبي طالب من بعدي، وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ: حبك إيمان وبغضك نفاق، وأول من يدخل الجنة محبّك، وأول من يدخل النار مبغضك، وقد جعلك الله أهلاً لذلك، فأنت مني وأنا منك، ولا نبي بعدي. وعن شقيق بن سلمة عن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عليّ وهو يقول: هذا وليّي وأنا وليّه، عاديت من عادى، وسالمت من سالم، وروى أخطب خوارزم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاءني جبريل من عند الله بورقة خضراء مكتوب فيها ببياض: إني قد افترضت محبة عليّ على خلقي فبلّغهم ذلك عني، والأحاديث في ذلك لا تحصى كثرة من طرق المخالفين، وهي تدل على أفضليته واستحقاقه للإمامة).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بتصحيح النقل، وهيهات له بذلك، وأما قوله: (رواه أحمد) فيقال: أولاً: أحمد له المسند المشهور، وله كتاب مشهور في (فضائل الصحابة) روى فيه أحاديث، لا يرويها في المسند لما فيها من الضعف، لكونها لا تصلح أن تُروى في المسند، لكونها من مراسيل أو ضعافًا بغير الإرسال، ثم إن هذا الكتاب زاد فيه ابنه عبد الله زيادات، ثم إن القطيعي – الذي رواه عن ابنه عبد الله – زاد عن شيوخه زيادات، وفيها أحاديث موضوعة باتفاق أهل المعرفة.
وهذا الرافضي وأمثاله من شيوخ الرافضة جهال، فهم ينقلون من هذا المصنّف، فيظنون أن كل ما رواه القطيعي أو عبد الله قد رواه أحمد نفسه، ولا يميّزون بين شيوخ أحمد وشيوخ القطيعي.(2/518)
مع أن هذا الحديث الأول من زيادات القطيعي، رواه عن نصر بن علي الجهضمي عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر، والحديث الثاني ذكره ابن الجوزي في (الموضوعات) وبيّن أنه موضوع، وأما رواية ابن خالويه فلا تدل على أن هذا الحديث صحيح باتفاق أهل العلم، وكذلك رواية خطيب خوارزم؛ فإن في روايته من الأكاذيب المختلفة ما هو من أقبح الموضوعات باتفاق أهل العلم.
الوجه الثاني: أن هذه الأحاديث التي رواها ابن خالويه كذب موضوعة عند أهل الحديث.
وكذلك قوله: أول من يدخل النار مبغضك، فهل يقول مسلم: إن الخوارج يدخلون النار قبل أبي جهل بن هشام وفرعون وأبي لهب وأمثالهم من المشركين؟!
وكذلك قوله: أول من يدخل الجنة محبّك، فهل يقول عاقل: إن الأنبياء والمرسلين سبب دخولهم الجنة أولاً هو حبّ عليّ دون حبّ الله ورسوله وسائر الأنبياء والرسل، وحب الله ورسله ليس هو السبب في ذلك؟
(فصل)
قال الرافضي:الثاني عشر: روى أخطب خوارزم بإسناده، عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ناصب عليًّا الخلافة فهو كافر، وقد حارب الله ورسوله، ومن شكَّ في عليّ فهو كافر. وعن أنس قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فرأى عليًّا مقبلاً، فقال: أنا وهذا حجة الله على أمتي يوم القيامة، وعن معاوية بن حَيْدة القشيري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعليّ: من مات وهو يبغضك مات يهوديًا أو نصرانيًا).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بتصحيح النقل، وهذا على سبيل التنزل،فإن مجرد رواية الموفق خطيب خوارزم لا تدل على أن الحديث ثابت قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لو لم يُعلم ما في الذي جمعه من الأحاديث من الكذب والفِرية، فأما من تأمَّل ما في جمع هذا الخطيب فإنه يقول: سبحانك هذا بهتان عظيم !
الثاني: أن كل من له معرفة بالحديث يشهد أن هذه الأحاديث كذب مفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/519)
الثالث: أن هذه الأحاديث إن كانت مما رواه الصحابة والتابعون فأين ذكرها بينهم؟ ومن الذي نقلها عنهم؟ وفي أي كتاب وُجد أنهم رووها؟ ومن كان خبيرًا بما جرى بينهم علم بالاضطرار أن هذه الأحاديث مما ولّدها الكذّابون بعدهم، وأنها مما عملت أيديهم.
الوجه الرابع: أن يُقال: علمنا بأن المهاجرين والأنصار كانوا مسلمين يحبون الله ورسوله، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبّهم ويتولاهم، وأن أبا بكر الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعظم من علمنا بصحة شيء من هذه الأحاديث، فكيف يجوز أن يُرد ما علمناه بالتواتر المتيقن بأخبار هي أقل وأحقر من أن يُقال لها: أخبار آحاد لا يُعلم لها ناقل صادق، بل أهل العلم بالحديث متفقون على أنها من أعظم المكذوبات، ولهذا لا يوجد منها شيء في كتب الأحاديث المعتمدة، بل أئمة الحديث كلهم يجزمون بكذبها.
الوجه الخامس: أن القرآن يشهد في غير موضع برضا الله عنهم وثنائه عليهم، كقوله تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)) [التوبة:100] .
الوجه السادس: أن هذه الأحاديث تقدح في عليّ، وتوجب أنه كان مكذّبًا بالله ورسوله، فيلزم من صحتها كفر الصحابة كلهم: هو وغيره، أما الذين ناصبوه الخلاف فإنهم في هذا الحديث المفترى كفّار، وأما عليّ فإنه لم يعمل بموجب هذه النصوص، بل كان يجعلهم مؤمنين مسلمين، وشر من قاتلهم عليّ هم الخوارج، ومع هذا فلم يحكم فيهم بحكم الكفّار، بل حرّم أموالهم وسبيهم، وكان يقول لهم قبل قتالهم: إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ولا حقكم من فيئنا. ولما قتله ابن ملجم قال: إن عشت فأنا وليّ دمي، ولم يجعله مرتدًا بقتله.(2/520)
وأما أهل الجمل فقد تواتر عنه أنه نهى عن أن يتّبع مدبرهم، وأن يجهز على جريحهم، وأن يقتل أسيرهم، وأن تغنم أموالهم، وأن تسبى ذراريهم، فإن كان هؤلاء كفّارا بهذه النصوص، فعليّ أول من كذّب بها، فيلزمهم أن يكون عليّ كافرًا.
وكذلك أهل صفّين كان يصلّي على قتلاهم، ويقول: إخواننا بَغَوْا علينا طهّرهم السيف، ولو كانوا عنده كفّارًا لما صلّى عليهم، ولا جعلهم إخوانه، ولا جعل السيف طُهرًا لهم.
وليس المقصود هنا الكلام في التكفير، بل التنبيه على أن هذه الأحاديث مما يُعلم بالاضطرار أنها كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها مناقضة لدين الإسلام، وأنها تستلزم تكفير عليّ وتكفير من خالفه، وأنه لم يقلها من يؤمن بالله واليوم الآخر، فضلاً عن أن تكون من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إضافتها -والعياذ بالله- إلى رسول الله من أعظم القدح والطعن فيه.
ولا شك أن هذا فعل زنديق ملحد لقصد إفساد دين الإسلام، فلعن الله من افتراها، وحسبه ما وعده به الرسول حيث قال: (من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار).
(فصل)
قال الرافضي: (قالت الإمامية: إذا رأينا المخالف لنا يورد مثل هذه الأحاديث، ونقلنا نحن أضعافها عن رجالنا الثقات، وجب علينا المصير إليها، وحرم العدول عنها).
والجواب أن يقال: لا ريب أن رجالكم الذين وثّقتموهم غايتهم أن يكونوا من جنس من يروي هذه الأحاديث من الجمهور، فإذا كان أهل العلم يعلمون بالاضطرار أن هؤلاء كذّابون، وأنتم أكذب منهم وأجهل، حَرُم عليكم العمل بها والقضاء بموجبها، والاعتراض على هذا الكلام من وجوه:(2/521)
أحدها: أن يقال لهؤلاء الشيعة: من أين لكم أن الذين نقلوا هذه الأحاديث في الزمان القديم ثقات، وأنتم لم تدركوهم ولم تعلموا أحوالهم ولا لكم كتب مصنَّفة تعتمدون عليها في أخبارهم التي يُميّز بها بين الثقة وغيره، ولا لكم أسانيد تعرفون رجالها؟ بل علمكم بكثير مما في أيديكم شر من علم كثير من اليهود والنصارى بما في أيديهم، بل أولئك معهم كتب وضعها لهم هلال وشماس وليس عند جمهورهم ما يعارضها.
وأما أنتم فجمهور المسلمين دائمًا يقدحون في روايتكم، ويبينون كذبكم، وأنتم ليس لكم علم بحالهم، ثم قد عُلم بالتواتر الذي لا يمكن حجبه كثرة الكذب وظهوره في الشيعة من زمن عليّ وإلى اليوم، وأنتم تعلمون أن أهل الحديث يبغضون الخوارج، ويروون فيهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة صحيحة، وقد روى البخاري بعضها، وروى مسلم عشرة منها، وأهل الحديث متدينون بما صح عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فلم يحملهم بغضهم للخوارج على الكذب عليهم، بل جرّبوهم فوجدوهم صادقين، وأنتم يشهد عليكم أهل الحديث والفقهاء والمسلمون والتجّار والعامة والجند، وكل من عاشركم وجربكم قديمًا وحديثًا، أن طائفتكم أكذب الطوائف، وإذا وُجد فيها صادق، فالصادق في غيرها أكثر، وإذا وجد في غيرها كاذب، فالكاذب فيها أكثر.
ولا يخفى هذا على عاقل منصف، وأما من اتّبع هواه فقد أعمى الله قلبه، ومن يضلل الله فلن تجد له وليًا مرشدًا.
(فصل)
قال الرافضي: (المنهج الرابع: في الأدلة الدالّة على إمامته المستنبطة من أحواله وهي اثنا عشر).
ثم ذكر: كان أزهد الناس وأعبدهم وأعلمهم وأشجعهم، وذكر أنواعًا من خوارق العادات له، واجتماع الفضائل على أوجه تقدّم بها عليهم، فقال:
(الأول: أنه كان أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم).(2/522)
والجواب: المنع؛ فإن أهل العلم بحالهما يقولون: أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الزهد الشرعي: أبو بكر وعمر، وذلك أن أبا بكر كان له مال يكتسبه فأنفقه كله في سبيل الله،وتولّى الخلافة، فذهب إلى السوق يبيع ويكتسب، فلقيه عمر وعلى يده أبراد، فقال له: أين تذهب؟ فقال: أظننت أنّي تارك طلب المعيشة لعيالي؟ فأخبر بذلك أبا عبيدة والمهاجرين، ففرضوا له شيئًا، فاستحلف عمر وأبا عبيدة، فحلفا لهُ أنه يُباح له أخذ درهمين كل يوم، ثم ترك ماله في بيت المال، ثم لما حضرته الوفاة أمر عائشة أن تردّ إلى بيت المال ما كان قد دخل في ماله من مال المسلمين، فوجدت جرد قطيفة لا يساوي خمس دراهم، وحبشية ترضع ابنه، أو عبدًا حبشيًا وبعيرًا ناضحًا، فأرسلت بذلك إلى عمر، فقال عبد الرحمن بن عوف له: أتسلب هذا عيال أبي بكر؟ فقال: كلا ورب الكعبة، لا يتأثّم منه أبو بكر في حياته، وأتحمله أنا بعد موته.
وقال بعض العلماء: عليّ كان زاهدًا، ولكن الصدّيق أزهد منه؛ لأن أبا بكر كان له المال الكثير في أول الإسلام والتجارة الواسعة، فأنفقه في سبيل الله، وكان حاله في الخلافة ما ذُكر، ثم ردّ ما تركه لبيت المال.
فصح بالبرهان الضروري أن أبا بكر رضي الله عنه أزهد من جميع الصحابة، ثم عمر رضي الله تعالى عنه.
(فصل)
قال الرافضي: علي قد طلق الدنيا ثلاثًا، وكان قوته جريش الشعير، وكان يختمه لئلا يضع الإمامان فيه أُدْماُ، وكان يلبس خشن الثياب وقصيرها، ورقّع مدرعته حتى استحى من رقعها،وكان حمائل سيفه ليفا وكذا نعله.(2/523)
وروى أخطب خوارزم عن عمّار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا عليّ! إنَّ الله زيّنك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب إلى الله منها: زَّهَدك في الدنيا، وبغَّضها إليك، وحبَّب إليك الفقراء، فرضيت بهم أتباعًا، ورضوا بك إمامًا. يا عليّ! طوبى لمن أحبك وصدق عليك، والويل لمن أبغضك وكذب عليكِ، أما من أحبّك وصدق عليك فإخوانك في دينك، وشركاؤك في جنتك، وأما من أبغضك وكذب عليك فحقيق على الله أن يقيمهم مقام الكذّابين.(2/524)
قال سويد بن غفلة: دخلت على عليّ العصر، فوجدته جالسًا بين يديه صفحة فيها لبن حار، وأجد ريحه من شدة حموضته، وفي يده رغيف أرى قشار الشعير في وجهه وهو يكسر بيده أحيانًا، فإذا غلبه كسره بركبته، فطرحه فيه، فقال: ادن فأَصِب من طعامنا هذا. فقلت: إني صائم. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من منعه الصيام عن طعام يشتهيه كان حقًّا على الله أن يطعمه من طعام الجنة ويسقيه من شرابها. قال: قلت لجاريته وهي قائمة: ويحك يا فضة، ألا تتقين الله في هذا الشيخ؟ ألا تنخلين طعامه مما أرى فيه من النخال؟ فقالت: لقد عهد إلينا أن لا ننخل له طعامًا. قال: ما قُلْتَ لها؟ فَأَخْبَرْتُهُ. قال: بأبي وأمي من لم يُنخل له طعام، ولم يشبع من خبز البُرّ ثلاثة أيام حتى قبضه الله عز وجل، واشترى يومًا ثوبين غليظين، فخيّر قنبرًا فيهما فأخذ واحدًا ولبس هو الآخر، ورأى في كمّه طولاً عن أصابعه فقطعه، وقال ضرار بن ضمرة: دخلت على معاوية بعد قتل أمير المؤمنين عليّ، فقال: صف لي عليًّا. فقلت: أعفني. فقال: لا بد من ذلك. فقلت: أما إذ لا بد، فإنه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزينتها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما قشب، وكان فينا كأحدنا: يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن –والله– مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلّمه هيبة له، يعظّم أهل الدين، ويقرّب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييئس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لقد رَأَيْتُه وهو يقول: يا دنيا غرِّي غيري. أَلِيَ تعرضت؟ أم إليّ تشوفت؟ هيهات ! قد أبنتك ثلاثا، لا رجعة فيك، عمرك قصير، وخطرك كثير، وعيشك حقير.(2/525)
آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق ! فبكى معاوية، وقال: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك، فما حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذُبح ولدها في حجرها، فلا ترقأ عبرتها، ولا يسكن حزنها).
والجواب: أما زهد عليّ رضي الله عنه في المال فلا ريب فيه، لكن الشأن أنه كان أزهد من أبي بكر وعمر، وليس فيما ذكره ما يدل على ذلك، بل ما كان فيه حقًّا فلا دليل فيه على ذلك، والباقي: إما كذب، وإما ما لا مدح فيه.
أما كونه طلق الدنيا ثلاثا: فمن المشهور عنه أنه قال: (يا صفراء، يا بيضاء، قد طلقتك ثلاثا، غُرِّي غيري، لا رجعة لي فيك) لكن هذا لا يدل على أنه أزهد ممن لم يقل هذا؛ فإن نبينا وعيسى بن مريم وغيرهما كانوا أزهد منه، ولم يقولوا هذا. ولأن الإنسان إذا زهد لم يجب أن يقول بلسانه: قد زهدت، وليس كل من قال: زهدت، يكون قد زهد، فلا عدم هذا الكلام يدل على عدم الزهد، ولا وجوده يدل على وجوده، فلا دلالة فيه.
وأما قوله: إنه كان دائمًا يقتات جريش الشعير بلا أُدم.
فلا دلالة في هذا لوجهين: أحدهما: أنه كذب. والثاني: أنه لا مدح فيه. فرسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الزهّاد كان لا يردّ موجودًا، ولا يتكلف مفقودًا، بل إن حضر لحم دجاج أكله، أو لحم غنم أكله، أو حلواء أو عسل أو فاكهة أكله، وإن لم يجد شيئًا لم يتكلّفه، وكان إذا حضر طعامًا: فإن اشتهاه أكله وإلا تركه، ولا يتكلف ما لا يحضر، وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع، وقد كان يقيم الشهر والشهرين لا يُوقد في بيته نارٌ.
وأما قوله: (كان حمائل سيفه ليفًا، ونعله ليفًا).
فهذا أيضًا كذب ولا مدح فيه؛ فقد رُوي أن نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من الجلود، وحمائل سيف النبي صلى الله عليه وسلم كانت ذهبًا وفضة، والله قد يسَّر الرزق عليهم، فأي مدح في أن يعدلوا عن الجلود مع تيسيرها؟ وإنما يمدح هذا عند العدم.(2/526)
كما قال أبو أمامة الباهلي: (لقد فتح البلاد أقوام كانت خُطُم خيلهم ليفًا، وركْبِهم العَلاَبِيّ) رواه البخاري(1).
وحديث عمّار عن الموضوعات، وكذلك حديث سويد بن غفلة ليس مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(فصل)
قال الرافضي: (وبالجملة زهده لم يلحقه أحد فيه، ولا سبقه أحد إليه، وإذا كان أزهد كان هو الإمام، لامتناع تقدم المفضول عليه).
والجواب: أن كلتا القضيتين باطلة: لم يكن أزهد من أبي بكر وعمر، ولا كل من كان أزهد كان أحقَّ بالإمامة، وذلك أن عليًّا كان له من المال والسراري ولأهله ما لم يكن لأبي بكر وعمر.
(فصل)
قال الرافضي: (الثاني: أنه كان أعبد الناس: يصوم النهار، ويقوم الليل، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل ونوافل النهار، وأكثر العبادات والأدعية المأثورة عنه تستوعب الوقت، وكان يصلّي في ليله ونهاره ألف ركعة، ولم يخل في صلاة الليل - حتى في ليلة الهرير.
وقال ابن عباس: رأيته في حربه وهو يرقب الشمس، فقلت: يا أمير المؤمنين ماذا تصنع؟ قال: انظر إلى الزوال لأصلّي. فقلت: في هذا الوقت؟ فقال: إنما نقاتلهم على الصلاة.
فلم يغفل عن فعل العبادات في أول وقتها في أصعب الأوقات.
وكان إذا أُريد إخراج الحديد من جسده يترك إلى أن يدخل في الصلاة، فيبقى متوجهًا إلى الله غافلاً عمَّا سواه، غير مدرك للآلام التي تفعل به.
وجمع بين الصلاة والزكاة، وتصدق وهو راكع، فأنزل الله تعالى فيه قرآنًا يُتلى.
وتصدّق بقوته وقوت عياله ثلاثة أيام، حتى أنزل الله فيهم: ((هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ)) [الإنسان:1] وتصدق ليلاً ونهارًا، وسرًا وعلانية، وناجى الرسول فقدَّم بين يدي نجواه صدقة، فأنزل الله فيه قرآنًا وأعتق ألف عبدٍ من كسب يده، وكان يؤجر نفسه وينفق على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، وإذا كان أعبد الناس كان أفضل، فيكون هو الإمام).
__________
(1) انظر: البخاري (4/39).(2/527)
والجواب: أن يُقال: هذا الكلام فيه من الأكاذيب المختلقة ما لا يخفى إلا على أجهل الناس بأحوال القوم. ومع أنه كذب ولا مدح فيه ولا في عامة الأكاذيب، فقوله: إنه كان يصوم النهار ويقوم الليل كذب عليه، وقد تقدّم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
وفي الصحيحين عن علي، قال: طرقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة، فقال: (ألا تقومان فتصليان؟ فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله، إذا شاء أن يبعثنا بعثنا: قال: فولى وهو يضرب فخذه ويقول: ((وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً))(1). فهذا الحديث دليل على نومه في الليل مع إيقاظ النبي صلى الله عليه وسلم، ومجادلته حتى ولّى وهو يقول: ((وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)).
وقول القائل: (ومنه تعلم الناس صلاة الليل ونوافل النهار).
إن أراد بذلك: أن بعض المسلمين تعلّم ذلك منه، فهكذا كلٌّ من الصحابة علّم بعض الناس.
وإن أراد أن المسلمين تعلّموا ذلك منه، فهذا من الكذب البارد، فأكثر المسلمين ما رأَوْه، وقد كانوا يقومون الليل ويتطوعون بالنهار، فأكثر بلاد المسلمين التي فُتحت في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما، كالشام ومصر والمغرب وخُراسان ما رَأوْه، فكيف يتعلّمون منه؟ والصحابة كانوا كذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه تعلّموا ذلك، ولا يمكن أن يُدَّعى ذلك إلا في أهل الكوفة.
ومعلوم أنهم كانوا تعلّموا ذلك من ابن مسعود رضي الله عنه وغيره قبل أن يقدم إليهم، وكانوا من أكمل الناس علمًا ودينًا قبل قدوم عليّ رضي الله عنه إليهم، والصحابة كانوا كذلك،وأصحاب ابن مسعود كانوا كذلك قبل أن يقدم إليهم العراق.
وأما قوله: (الأدعية المأثورة عنه تستوعب الوقت).
__________
(1) انظر: البخاري (6/88) ومواضع أُخر.(2/528)
فعامتها كذب عليه، وهو كان أجلّ قدرًا من أن يدعو بهذه الأدعية التي لا تليق بحاله وحال الصحابة، وليس لشيء من هذه إسناد، والأدعية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أفضل ما دعا به أحد، وبها يدعو خيار هذه الأمة من الأوّلين والآخرين.
وكذلك قوله: (إنه كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة).
من الكذب الذي لا مدح فيه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مجموع صلاته في اليوم والليلة أربعين ركعة فرضًا ونفلاً، والزمان لا يتسع لألف ركعة لمن وَلِيَ أمر المسلمين، مع سياسة الناس وأهله، إلا أن تكون صلاته نقرًا كنقر الغراب، وهي صلاة المنافقين التي نزّه الله عنها عليًّا.
وأما ليالي صفّين، فالذي ثبت في الصحيح أنه قال: الذكر الذي علّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة: قال: ما تركته منذ سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم. قيل: ولا ليلة صفّين؟ قال: ولا ليلة صفين، ذكرته من السحر فقلته(1).
وما ذَكَرَ من إخراج الحديد من جسده فكذب، فإن عليًّا لم يُعرف أنه دخل فيه حديد، وما ذَكَره من جمعه بين الصلاة والزكاة، فهذا كذب كما تقدّم ولا مدح فيه، فإن هذا لو كان مستحبًّا لشُرع للمسلمين، ولو كان يستحب للمسلمين أن يتصدّقوا وهم في الصلاة لتصدّقوا، فلما لم يستحب هذا أحدٌ من المسلمين علمنا أنه ليس عبادة بل مكروه.
وكذلك ما ذَكَره من أمر النذر والدراهم الأربعة قد تقدّم أن هذا كله كذب،وليس فيه كبير مدح.
وقوله: (أعتق ألف عبد من كسب يده).
من الكذب الذي لا يروج إلا على أجهل الناس؛ فإن عليًّا لم يعتق ألف عبد، بل ولا مائة، ولم يكن له كسب بيده يقوم بعُشْر هذا؛ فإنه لم تكن له صناعة يعملها، وكان مشغولا: إما بجهاد وإما بغيره.
وكذلك قوله: (كان يؤجر نفسه وينفق على النبي صلى الله عليه وسلم في الشعب).
كذب بيِّنٌ من وجوه:
__________
(1) انظر: الحديث في المسند تحقيق أحمد شاكر الأرقام (838، 1228، 1249).(2/529)
أحدها: أنهم لم يكونوا يخرجون من الشعب، ولم يكن في الشعب من يستأجره.
والثاني: أن أباه أبا طالب كان معهم في الشعب، وكان ينفق عليه.
والثالث: أن خديجة كانت موسرة تنفق من مالها.
والرابع: أن عليًّا لم يؤجر نفسه بمكة قط، وكان صغيرًا حين كان في الشعب: إما مراهقًا، وإما محتلمًا، فكان عليٌّ في الشعب ممن يُنفق عليه: إما النبي صلى الله عليه وسلم وإما أبوه، لم يكن ممن يمكنه أن ينفق على نفسه، فكيف ينفق على غيره؟
(فصل)
قال الرافضي: (الثالث: أنه كان أعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم).
والجواب: أن أهل السنّة يمنعون ذلك ويقولون ما اتفق عليه علماؤهم: إن أعلم الناس بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر، وقد ذكر غير واحد الإجماع على أن أبا بكر أعلم الصحابة كلهم، ودلائل ذلك مبسوطة في موضعها؛ فإنه لم يكن أحدٌ يقضي ويخطب ويُفتي بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر رضي الله عنه، ولم يشتبه على الناس شيء من أمر دينهم إلا فصّله أبو بكر؛ فإنهم شكّوا في موت النبي صلى الله عليه وسلم فبيّنه أبو بكر، ثم شكّوا في مدفنه فبيّنه، ثم شكّوا في قتال مانعي الزكاة فبيّنه أبو بكر، وبيّن لهم النص في قوله تعالى: ((لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)) [الفتح:27] ، وبيّن لهم أن عبدًا خيّره الله بين الدنيا والآخرة،ونحو ذلك.
وفسَّر الكلالة فلم يختلفوا عليه.
وكان عليٌّ وغيره يروون عن أبي بكر، كما في السنن عن عليّ قال: كنت إذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، فإذا حدّثني غيره استحلفته فإذا حلف لي صدّقته، وحدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يذنب ذنبًا ثم يتوضأ ويصلّي ركعتين يستغفر الله تعالى إلا غفر له)(1).
__________
(1) انظر: سنن أبي داود (2/114-115) والترمذي (4/296) وابن ماجة (1/446).(2/530)
وقد نقل غير واحد الإجماع على أن أبا بكر أعلم من عليّ، منهم: الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني المروزي أحد أئمة الشافعية. وذكر في كتابه (تقويم الأدلة) الإجماع من علماء السنة: أن أبا بكر أعلم من عليّ، كيف وأبو بكر كان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم يُفتي ويأمر وينهى ويخطب، كما كان يفعل ذلك إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم - هو وإياه – يدعو الناس إلى الإسلام، ولما هاجرا، ويوم حنين، وغير ذلك من المشاهد، وهو ساكت يقرّه، ولم تكن هذه المرتبة لغيره.
وأما قوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقضاكم عليّ. والقضاء يستلزم العلم والدين).
فهذا الحديث لم يثبت، وليس له إسناد تقوم به الحجة.
وقوله: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) أقوى إسنادًا منه،والعلم بالحلال والحرام ينتظم للقضاء أعظم مما ينتظم للحلال والحرام.
وهذا الثاني قد رواه الترمذي(1) وأحمد، والأول لم يروه أحد في السنن المشهورة، ولا المسانيد المعروفة، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، وإنما يروى من طريق من هو معروف بالكذب.
وحديث: (أنا مدينة العلم وعليّ بابها) أضعف وأوهى، ولهذا إنما يعدّ في الموضوعات، وإن رواه الترمذي(2)، وذكره ابن الجوزي وبيّن أن سائر طرقه موضوعة، والكذب يعرف من نفس متنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مدينة العلم، ولم يكن لها إلا باب واحد، فسد أمر الإسلام، ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلّغ عنه العلم واحدًا، بل يجب أن يكون المبلّغون أهل التواتر، الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب.
وإذا قالوا: ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخبره.
__________
(1) انظر: الترمذي (5/330) والمسند (3/ 154، 281).
(2) انظر: سنن الترمذي (5/301).(2/531)
قيل لهم: فلا بد من العلم بعصمته أولاً. وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن يُعلم عصمته، فإنه دَوْر، ولاتثبت بالإجماع، فإنه لا إجماع فيها، وعند الإمامية إنما يكون الإجماع حجة، لأن فيهم الإمام المعصوم، فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه، فعُلم أن عصمته لو كانت حقًّا لا بد أن تُعلم بطريق آخر غير خبره.
فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلا هو، لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين، فعُلم أن هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل ظنّه مدحًا، وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام؛ إذ لم يبلّغه إلا واحد.
ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر؛ فإن جميع مدائن الإسلام بَلَغَهم العلم عن الرسول من غير عليّ.
(فصل)
قال الرافضي: وفيه نزل قوله تعالى: ((وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)).
والجواب: أنه حديث موضوع باتفاق أهل العلم، ومعلوم بالاضطرار أن الله تعالى لم يرد بذلك أن لا تعيها إلا أُذن واعية واحدة من الآذان، ولا أُذن شخص معين، لكن المقصود النوع، فيدخل في ذلك كل أُذن واعية.
(فصل)
قال الرافضي: (وكان في غاية الذكاء، شديد الحرص على التعلم، ولازم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أكمل الناس ملازمة ليلاً ونهارًا، من صغره إلى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
والجواب: أن يُقال: من أين علم أنه أذكى من عمر ومن أبي بكر، وأنه كان أرغب في العلم منهما أو أن استفادته من النبي صلى الله عليه وسلم أكثر منهما؟
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر)(1) والمحدث الملهم يلهمه الله، وهذا قدر زائد على تعليم البشر.
__________
(1) تقدم تخريجه.(2/532)
ولا ريب أن أبا بكر كان ملازمًا للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عليّ، ومن كل أحد، وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أكثر اجتماعًا بالنبي صلى الله عليه وسلم من عليّ بكثير، فكان يسمر معهما في أمر المسلمين. والمسائل التي تنازع فيها عمر وعليّ في الغالب يكون فيها قول عمر أرجح، كمسألة الحامل المتوفى عنها زوجها، ومسألة الحرام. كما تقدم.
(فصل)
قال الرافضي: (وقال صلى الله عليه وسلم: العلم في الصغر كالنقش في الحجر، فتكون علومه أكثر من علوم غيره، لحصول القابل الكامل، والفاعل التام).
والجواب: أن هذا من عدم علم الرافضي بالحديث؛ فإن هذا مَثَلٌ سائر، ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه أيّدهم الله تعالى، فتعلموا الإيمان والقرآن والسنن، ويسَّر الله ذلك عليهم، وكذلك عليّ؛ فإن القرآن لم يكمل حتى صار لعليّ نحوًا من ثلاثين سنة، فإنما حفظ أكثر ذلك في كبره لا في صغره، وقد اختُلف في حفظه لجميع القرآن على قولين.
والأنبياء أعلم الخلق، ولم يبعث الله نبيًّا إلا بعد الأربعين، إلا عيسى صلى الله عليه وسلم، وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم كان مطلقًا، لم يكن يخص به أحدًا، ولكن بحسب استعداد الطالب، ولهذا حفظ عنه أبو هريرة في ثلاث سنين وبعض أخرى ما لم يحفظه غيره، وكان اجتماع أبي بكر به أكثر من سائر الصحابة.
وأما قوله: (إن الناس منه استفادوا العلوم).
فهذا باطل؛ فإن أهل الكوفة -التي كانت داره- كانوا قد تعلّموا الإيمان، والقرآن وتفسيره والفقه والسنّة من ابن مسعود وغيره، قبل أن يقدم عليٌّ الكوفة.
وإذا قيل: إن أبا عبد الرحمن قرأ عليه، فمعناه: عرض عليه، وإلا فأبو عبد الرحمن كان قد حفظ القرآن قبل أن يقدم عليّ الكوفة.
(فصل)
قال الرافضي: (وأما النحو فهو واضعه، قال لأبي الأسود: الكلام كله ثلاثة أشياء: اسم، وفعل، وحرف. وعلَّمه وجوه الإعراب).(2/533)
والجواب: أن يُقال: أولاً: هذا ليس من علوم النبوة، وإنما هو علم مستنبط، وهو وسيلة في حفظ قوانين اللسان، الذي نَزَل به القرآن، ولم يكن في زمن الخلفاء الثلاثة لحنٌ، فلم يُحتَج إليه، فلما سكن عليٌّ الكوفة، وبها الأنباط، رُوي أنه قال لأبي الأسود الدؤلي: (الكلام اسم وفعل وحرف)، وقال: (انح هذا النحو) ففعل هذا للحاجة. كما أن من بعد عليّ أيضًا استخرج للخط النقط والشكل، وعلامة المد والشد، ونحوه للحاجة.
ثم بعد ذلك بَسَط النحو نحاة الكوفة والبصرة، والخليل استخرج علم العروض.
(فصل)
قال الرافضي: (وفي الفقه: الفقهاء يرجعون إليه).
والجواب: أن هذا كذب بيِّن؛ فليس في الأئمة الأربعة -ولا غيرهم من أئمة الفقهاء- من يرجع إليه في فقهه.
(فصل)
قال الرافضي: (الرابع: أنه كان أشجع الناس، وبسيفه ثبتت قواعد الإسلام، وتشيَّدت أركان الإيمان، ما انهزم في مواطن قطّ، ولا ضرب بسيفٍ إلاّ قطّ، طالما كشف الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفرّ كما فرّ غيره، ووقاه بنفسه لما بات على فراشه، مستترًا بإزاره، فظنّه المشركون إيَّاه، وقد اتفق المشركون على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحدقوا به وعليهم السلاح، يرصدون طلوع الفجر ليقتلوه ظاهرًا، فيذهب دمه، لمشاهدة بني هاشم قاتليه من جميع القبائل، ولا يتم لهم الأخذ بثأره لاشتراك الجماعة في دمه، ويعود كل قبيل عن قتال رهطه، وكان ذلك سبب حفظ دم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمَّت السلامة، وانتظم به الغرض في الدعاء إلى الملة، فلما أصبح القوم، ورأوا الفتك به، ثار إليهم، فتفرَّقوا عنه حين عرفوه، وانصرفوا وقد ضلت حيلتهم، وانتقض تدبيرهم).(2/534)
والجواب: أنه لا رَيْب أن عليًّا رضي الله عنه كان من شجعان الصحابة، وممن نصر الله الإسلام بجهاده، ومن كبار السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار، ومن سادات من آمن بالله واليوم الآخر و جاهد في سبيل الله، وممن قتل بسيفه عددًا من الكفّار، لكن لم يكن هذا من خصائصه، بل غير واحد من الصحابة شاركه في ذلك، فلا يثبت بهذا فضله في الجهاد على كثير من الصحابة، فضلاً عن أفضليته على الخلفاء، فضلاً عن تعيينه للإمامة.
وأما قوله: (إنه كان أشجع الناس).
فهذا كذب، بل كان أشجع الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قِبَل الصوت، فتلقّاهم النبي صلى الله عليه وسلم راجعًا وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري، في عنقه السيف، وهو يقول: (لن تراعوا).
قال البخاري: استقبلهم وقد استبرأ الخبر(1).
وفي المسند عن عليّ رضي الله عنه قال: (كان إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو كان أقرب إلى العدوّ منا)(2).
وكان عليّ وغيره يتّقون برسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه أشجع منهم، وإن كان أحدهم قد قتل بيده أكثر مما قتل النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) البخاري (4/39، 52) و(8/13)، ومسلم (4/ 1802-1803).
(2) البخاري (4/39) وأماكن أُخر ومسلم (4/1082).(2/535)
والمقصود هنا أن أبا بكر كان أشجع الناس، ولم يكن بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أشجع منه، ولهذا لما مات النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت بالمسلمين أعظم نازلة نزلت بهم، حتى أوهنت العقول، وطيّشت الألباب، واضطربوا اضطراب الأرشية في الطَّوَيِّ البعيدة القعر، فهذا ينكر موته، وهذا قد أُقعد، وهذا قد دُهش فلا يعرف من يمر عليه ومن يسلّم عليه، وهؤلاء يضجون بالبكاء، وقد وقعوا في نُسْخَة القيامة، وكأنها قيامة صغرى مأخوذة من القيامة الكبرى، وأكثر البوادي قد ارتدوا عن الدين، وذلّت كُمَاتُهُ، فقام الصدِّيق رضي الله عنه بقلب ثابت، وفؤاد شجاع، فلم يجزع، ولم ينكل، قد جُمع له بين الصبر واليقين، فأخبرهم بموت النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله اختار له ما عنده، وقال لهم: (من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت).
فالشجاعة المطلوبة من الإمام لم تكن في أحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل منها في أبي بكر، ثم عمر، وأما القتل فلا ريب أن غير عليّ من الصحابة قتل من الكفّار أكثر مما قتل عليّ، فإن كان من قتل أكثر يكون أشجع، فكثير من الصحابة أشجع من عليّ، فالبراء بن مالك -أخو أنس- قتل مائة رجل مبارزةً، غير من شورك في دمه، وأما خالد بن الوليد فلا يُحْصِي عدد من قتله إلا الله، وقد انكسر في يده في غزوة مؤتة تسعة أسياف، ولا ريب أنه قتل أضعاف ما قتله عليّ.
(فصل)
قلت: وأما قوله: (بسيفه ثبت قواعد الإسلام وتشيدت أركان الدين).
فهذا كذب ظاهر لكل من عرف الإسلام، بل سيفه جزء من أجزاء كثيرة، جزء من أجزاء أسباب تثبيت قواعد الإسلام، وكثير من الوقائع التي ثبت بها الإسلام لم يكن لسيفه فيها تأثير، كيوم بدر كان سيفًا من سيوف كثيرة.
(فصل)
وأما قوله: (ما انهزم قط).(2/536)
فهو في ذلك كأبي بكر وعمر وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، فالقول في أنه ما انهزم كالقول في أن هؤلاء ما انهزموا قط، ولم يعرف لأحدٍ من هؤلاء هزيمة، وإن كان قد وقع شيء في الباطن ولم يُنقل، فيمكن أن عليًّا وقع منه ما لم يُنقل.
والمسلمون كانت لهم هزيمتان: يوم أحد، ويوم حنين، ولم يُنقل أن أحدًا من هؤلاء انهزم، بل المذكور في السِّيَر والمغازي أن أبا بكر وعمر ثبتا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ويوم حنين، ولم ينهزما مع من انهزم. ومن نَقَلَ أنهما انهزما يوم حُنين فكذبه معلوم، وإنما الذي انهزم يوم أُحد عثمان، وقد عفا الله عنه، وما نقل من انهزام أبي بكر وعمر بالراية يوم حُنين فمن الأكاذيب المختلقة التي افتراها المفترون.
وقوله: (ما ضرب بسيفه إلا قط).
فهذا لا يعلم ثبوته ولا انتفاؤه، وليس معنا في ذلك نقل يعتمد عليه. ولو قال قائل في خالد والزبير والبراء بن مالك وأبي دجانة وأبي طلحة ونحوهم: إنه ما ضرب بسيفه إلا قط، كان القول في ذلك كالقول في عليّ، بل صدق هذا في مثل خالد والبراء بن مالك أَوْلى.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خالد سيف من سيوف الله سلَّه الله على المشركين). فإذا قيل فيمن جعله الله من سيوفه: إنه ما ضرب إلا قطّ، كان أقرب إلى الصدق، مع كثرة ما عُلم من قتل خالد في الحروب، وأنه لم يزل منصورًا.
وأما قوله: (وطالما كشف الكروب عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم).
فهذا كذب بيّن، من جنس أكاذيب الطرقيّة؛ فإنه لا يعرف أن عليًّا كشف كربة عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم قط، بل ولا يُعرف ذلك عن أبي بكر وعمر، وهما كانا أكثر جهادًا منه، بل هو صلى الله عليه وسلم الذي طالما كشف عن وجوههم الكرب.
لكن أبو بكر دفع عنه لما أراد المشركون أن يضربوه ويقتلوه بمكة، جعل يقول: (أتقتلون رجلاً أن يقول: رَبِّيَ الله) حتى ضربوا أبا بكر، ولم يعرف أن عليًّا فَعَل مثل هذا.(2/537)
وأمّا كون المشركين أحاطوا به حتى خلّصه أبو بكر أو عليّ بسيفه، فهذا لم ينقله أحد من أهل العلم ولا حقيقة له.
وما ذكره من مبيته على فراشه، فقد قدمنا أنه لم يكن هناك خوف عَلَى عليّ أصلاً.
(فصل)
قال الرافضي: (وفي غزاة بدر، وهي أول الغزوات، كانت على رأس ثمانية عشر شهرًا من مقدمه إلى المدينة، وعمره سبع وعشرون سنة، قتل منهم ستة وثلاثين رجلا بانفراده، وهم أعظم من نصف المقتولين، وشَرَك في الباقين).
والجواب: أن هذا من الكذب البيِّن المفترى باتفاق أهل العلم العالمين بالسير والمغازي، ولم يذكر هذا أحدٌ يعتمد عليه في النقل، وإنما هو من وضع جهَّال الكذَّابين.
وغاية ما ذكره ابن هشام، وقبله موسى بن عقبة، وكذلك الأموي، جميع ما ذكروه أحد عشر نفسًا، واختُلف في ستة أنفس، هل قتلهم هو أو غيره، وشارك في ثلاثة، هذا جميع ما نقله هؤلاء الصادقون.
(فصل)
قال الرافضي: (وفي غَزاة أُحد لمّا انهزم الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ علي بن أبي طالب، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرٌ يسير، أولهم: عاصم بن ثابت، وأبو دجانة، وسهل بن حنيف، وجاء عثمان بعد ثلاثة أيام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد ذهبت فيها عريضة، وتعجبت الملائكة من شأن عليّ، فقال جبريل وهو يعرج إلى السماء.
لا سيف إلا ذو الفقار ... ولا فتى إلا عليّ
وقتل أكثر المشركين في هذه الغزاة، وكان الفتح فيها على يده، وروى قيس بن سعد قال: سمعت عليًّا يقول: أصابني يوم أحد ستة عشر ضربة، سقطت إلى الأرض في أربع منهن، فجاءني رجلٌ حسن الوجه حسن اللَّمة طيّب الريح، فأخذ بضبعيّ، فأقامني، ثم قال: أقبل عليهم فقاتل في طاعة الله وطاعة رسوله، فهما عنك راضيان. قال عليّ: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته. فقال: يا عليّ! أما تعرف الرجل؟ قلت: لا، ولكن شبّهته بدِحْيَة الكلبي. فقال: يا عليّ أقر الله عينيك، كان ذاك جبريل).(2/538)
والجواب: أن يُقال: قد ذكر في هذه من الأكاذيب العظام التي لا تنفق إلا على من لا يعرف الإسلام، وكأنه يخاطب بهذه الخرافات من لا يعرف ما جرى في الغزوات.
كقوله: (إن عليًًّا قتل أكثر المشركين في هذه الغزاة، وكان الفتح فيها على يده).
فيقال: آفة الكذب الجهل، وهل كان في هذه الغزاة فتح؟ بل كان المسلمون قد هزموا العدو أولاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد وكَّل بثغرة الجبل الرماة، وأمرهم بحفظ ذلك المكان، وأن لا يأتوهم سواء غلبوا أو غُلبوا. فلما انهزم المشركون صاح بعضهم: أي قوم الغنيمة! فنهاهم أميرهم عبد الله بن جبير، ورجع العدو عليهم، وأمير المشركين إذ ذاك خالد بن الوليد، فأتاهم من ظهورهم، فصاح الشيطان: قُتل محمد. واستشهد في ذلك اليوم نحو سبعين، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم إلا اثنا عشر رجلاً، فيهم: أبو بكر وعمر.
وأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟ والحديث في الصحيحين، وقد تقدّم لفظه. وكان يوم بلاء وفتنة وتمحيص، وانصرف العدوّ عنهم منتصرًا، حتى هم بالعَوْد إليهم، فندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين لِلِحَاقِهِ.
وقيل إن في هؤلاء نزل قوله تعالى: ((الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ)) [آل عمران:172] وكان في هؤلاء المنتَدبين: أبو بكر والزبير، قالت عائشة لابن الزبير: أبوك وجدُّك ممن قال الله فيهم: ((الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ))، ولم يقتل يومئذٍ من المشركين إلا نفرٌ قليل، وقصد العدو رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتهدوا في قتله، وكان ممن ذبَّ عنه يومئذ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وجعل يرمي عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (ارم فداك أبي وأمي).(2/539)
وفي الصحيحين عن سعد قال: جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبويه يوم أحد، وكان سعد مجاب الدعوة مسدّد الرمية.
وكان فيهم أبو طلحة راميًا، وكان شديد النزع، وطلحة بن عبيد الله: وقى النبي صلى الله عليه وسلم بيده فشُلّت يده. وظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين، وقُتل دونه نفر.
قال ابن إسحاق في (السيرة) في النفر الذين قاموا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ترّس دون النبي صلى الله عليه وسلم أبو دجانة بنفسه: يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه، حتى كثر فيه النبل، ورمى سعد بن أبي وقاص دون النبي صلى الله عليه وسلم، قال سعد: فلقد رأيته يناولني النبل، ويقول: (ارم فداك أبي وأمي)، حتى إنه ليناولني السهم ما له نصل، فيقول: (ارم).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين غشيه القوم: (من رجل يشري لنا نفسه؟)... فقام زياد بن السكن في نفر: خمسة من الأنصار -وبعض الناس يقول: إنما هو عمارة بن زيد بن السكن- فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً، ثم رجلاً، يُقتلون دونه، حتى كان آخرهم زياد أو عمارة، فقاتل حتى أثبتته الجراحة، ثم فاءت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أدنوه مني) فأدنوه منه، فوسَّده قدمه، فمات وخده على قدم النبي)(1).
قال: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى اندقت سِيَتُها، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده، وأصيبت يومئذٍ عين قتادة بن النعمان،حتى وقعت على وجنته، وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّها بيده وكانت أحسن عينيه وأحدّهما).
ولم يكن عليّ ولا أبو بكر ولا عمر من الذين كانوا يدفعون عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانوا مشغولين بقتال آخرين، وجرح النبي صلى الله عليه وسلم في جبينه، ولم يجرح عليّ.
__________
(1) انظر: مختصر السيرة لابن هشام (3/87-91).(2/540)
فقوله: (إن عليًًّا قال: أصابتني يوم أحد ست عشرة ضربة، سقطت إلى الأرض في أربع منهن).
كذب عَلَى عليّ، وليس هذا الحديث في شيء من الكتب المعروفة عند أهل العلم، فأين إسناد هذا؟ ومن الذي صححه من أهل العلم؟ وفي أي كتاب من الكتب التي يُعتمد على نقلها ذكر هذا؟ بل الذي جُرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثير من الصحابة.
قال ابن إسحاق: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فَم الشِّعب خرج عليّ بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس فجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منه، فوجد له ريحًا، فعافه فلم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول: (اشتد غضب الله على من أدمى وجه نبيه).
وقوله: (إن عثمان جاء بعد ثلاثة أيام) كذب آخر.
وقوله: (إن جبريل قال وهو يعرج:
لا سيف إلا ذو الفقار ... ولا فتى إلا عليّ
كذب باتفاق الناس؛ فإن ذا الفقار لم يكن لعليّ، ولكن كان سيفًا لأبي جهل غنمه المسلمون يوم بدر، فروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس قال: تنفّل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، قال: (رأيت في سيفي ذي الفقار فلاً، فأوَّلتُه فلاً يكون فيكم، ورأيت أني مُردفُ كبشًا، فأولته كبش الكتيبة، ورأيت أنّي في درع حصينة، فأوّلتها المدينة، ورأيت بقرًا تذبح، فبقر والله خير)(1). فكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الكذب المذكور في ذي الفقار من جنس كذب بعض الجهّال، أنه كان له سيف يمتدّ إذا ضرب به كذا وكذا ذراعًا، فإن هذا مما يعلم العلماء أنه لم يكن قط: لا سيف عليّ ولا غيره، ولو كان سيفه يمتدُّ لمدَّه يوم قاتل معاوية.
__________
(1) انظر: سنن ابن ماجة (2/939)، والمسند (3/66-67، 351) ومختصر السيرة (3/66-67).(2/541)
(فصل)
قال الرافضي: (وفي غزاة الأحزاب، وهي غزاة الخندق لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من عمل الخندق فأقبلت قريش يقدمها أبو سفيان وكنانة وأهل تهامة في عشرة آلاف، وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد، ونزلوا من فوق المسلمين ومن تحتهم، كما قال تعالى: ((إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)) [الأحزاب:10] ، فخرج عليه الصلاة والسلام بالمسلمين مع ثلاثة آلاف، وجعلوا الخندق بينهم، واتفق المشركون مع اليهود، وطمع المشركون بكثرتهم وموافقة اليهود، وركب عمرو بن عبد ودّ وعكرمة بن أبي جهل، ودخلا من مضيق في الخندق إلى المسلمين، وطلبا المبارزة، فقام عليّ وأجابه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه عمرو، فسكت: ثم طلب المبارزة ثانيًا وثالثًا، وكل ذلك يقوم عليّ، ويقول له النبي صلى الله عليه وسلم: إنه عمرو، فأَذِن له في الرابعة، فقال له عمرو: ارجع يا ابن أخي فما أحب أن أقتلك. فقال له عليّ: كنت عاهدت الله أن لا يدعوك رجلٌ من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه، وأنا أدعوك إلى الإسلام. قال عمرو: لا حاجة لي بذلك. قال: أدعوك إلى البراز. قال: ما أحب أن أقتلك. قال عليّ: بل أنا أحب أن أقتلك فحَمِيَ عمرو، ونزل عن فرسه، وتجاولا، فقتله عليّ، وانهزم عكرمة، ثم انهزم باقي المشركين واليهود. وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قتل عليّ لعمرو بن عبد ودّ أفضل من عبادة الثقلين).
والجواب: أن يقال: أولاً: أين إسناد هذا النقل وبيان صحته؟
ثم يقال: ثانيًا: قد ذكر في هذه الغزوة أيضًا عدة أكاذيب. منها قوله: إن قريشًا وكنانة وأهل تهامة كانوا في عشرة آلاف، فالأحزاب كلهم من هؤلاء، ومن أهل نجد: تميم وأسد وغطفان، ومن اليهود: كانوا قريبًا من عشرة آلاف. والأحزاب كانوا ثلاثة أصناف: قريش وحلفاؤها، وهم أهل مكة ومن حولها، وأهل نجد: تميم وأسد وغطفان ومن دخل معهم، واليهود بنو قريظة.(2/542)
وقوله: إن عمرو بن عبد ودّ وعكرمة بن أبي جهل ركبا، ودخلا من مضيق في الخندق.
وقوله: إن عمرًا لما قتل وانهزم المشركون واليهود.
هذا من الكذب البارد، فإن المشركين بقوا محاصرين للمسلمين بعد ذلك هم واليهود، حتى خبّب بينهم نعيم بن مسعود، وأرسل الله عليهم الريح الشديدة: ريح الصبا، والملائكة من السماء.
كما قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا* إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظَّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا))[الأحزاب:9-12] . إلى قوله: ((وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ)) [الأحزاب:25] .
وهذا يبين أن المؤمنين لم يقاتلوا فيها، وأن المشركين ما ردّهم الله بقتال، وهذا هو المعلوم المتواتر عند أهل العلم بالحديث والتفسير والمغازي والسير والتاريخ.
فكيف يقال بأنه باقتتال علي وعمرو بن عبد ود وقتله له انهزم المشركون؟
والحديث الذي ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قتل عليّ لعمرو بن عبد ودّ أفضل من عبادة الثقلين، من الأحاديث الموضوعة، ولهذا لم يروه أحد من علماء المسلمين في شيء من الكتب التي يُعتمد عليها، بل ولا يعرف له إسناد صحيح ولا ضعيف.
وهو كذب لا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا يجوز أن يكون قتل كافر أفضل من عبادة الجن والإنس.(2/543)
(فصل)
قال الرافضي: (وفي غزاة بني النضير قتل عليّ رامي ثنيّة النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل بعده عشرة، وانهزم الباقون).
والجواب: أن يُقال: ما تذكره في هذه الغزاة وغيرها من الغزوات من المنقولات لا بد من ذكر إسناده أولاً، وإلا فلو أراد إنسان أن يحتج بنقل لا يُعرف إسناده في جزرة بقل لا يقبل منه، فكيف يحتج به في مسائل الأصول؟!
ثم يقال: ثانيًا: هذا من الكذب الواضح، فإن بني النضير هم الذين أنزل الله فيهم سورة الحشر باتفاق الناس، وكانوا من اليهود، وكانت قصتهم قبل الخندق وأُحد، ولم يذكر فيها مصافة ولا هزيمة ولا رمى أحد ثنية النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وإنما أصيبت ثنيته يوم أُحد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في غزاة بني النضير قد حاصروهم حصارًا شديدًا، وقطعوا نخيلهم.
(فصل)
قال الرافضي: (وفي غزوة السلسلة جاء أعرابي فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن جماعة من العرب قصدوا أن يكبسوا عليه بالمدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من للوائي؟ فقال أبو بكر: إنه له، فدفع إليه اللواء، وضم إليه سبعمائة، فلما وصل إليهم، قالوا: ارجع إلى صاحبك فإنّا في جمع كثير، فرجع، فقال في اليوم الثاني: من للوائي؟ فقال عمر: أنا، فدفع إليه الراية، ففعل كالأول، فقال في اليوم الثالث أين عليّ؟ فقال عليّ: أنا ذا يا رسول الله. فدفع إليه الراية، ومضى إلى القوم، ولقيهم بعد صلاة الصبح فقتل منهم ستة أو سبعة، وانهزم الباقون، وأقسم الله تعالى بفعل أمير المؤمنين فقال: ((وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا)) [العاديات:1] .(2/544)
فالجواب: أن يُقال له: أجهل الناس يقول لك: بيّن لنا سند هذا، حتى نثبت أن هذا نقل صحيح، والعالم يقول له: إن هذه الغزاة -وما ذكر فيها- من جنس الكذب الذي يحكيه الطرقيّة، الذين يحكون الأكاذيب الكثيرة من سيرة عنترة، والبطّال، وإن كان عنترة له سيرة مختصرة، والبطّال له سيرة يسيرة، وهي ما جرى له في دولة بني أمية وغزوة الروم، لكن ولّدها الكذّابون حتى صارت مجلدات، وحكايات الشطّار، كأحمد الدنف، والزيبق المصري، وصاروا يحكون حكايات يختلقونها عن الرشيد وجعفر، فهذه الغزاة من جنس هذه الحكايات، لم يعرف في شيء من كتب المغازي والسير المعروفة عند أهل العلم ذكر هذه الغزاة، ولم يذكرها أئمة هذا الفن فيه، كموسى بن عقبة، وعُروة بن الزبير، والزهري، وابن إسحاق وشيوخه، والواقدي ويحيى بن سعيد الأموي، والوليد بن مسلم، ومحمد بن عائذ، وغيرهم، ولا لها ذكر في الحديث، ولا نزل فيها شيء من القرآن.
وبالجملة مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم -لا سيما غزوات القتال- معروفة ومشهورة، مضبوطة متواترة عند أهل العلم بأحواله، مذكورة في كتب أهل الحديث والفقه والتفسير والمغازي والسير ونحو ذلك، وهي مما تتوفر الدواعي على نقلها، فيمتنع عادة وشرعًا أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم غزاة يجري فيها مثل هذه الأمور لا ينقلها أحد من أهل العلم بذلك، كما يمتنع أن يكون قد فرض في اليوم والليلة أكثر من خمس صلوات، أو فرض في العام أكثر من صوم شهر رمضان ولم ينقل ذلك، وكما يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد غزا الفرس بالعراق، وذهب إلى اليمن، ولم ينقل ذلك أحد، وكما يمتنع أمثال ذلك مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله لو كان ذلك موجودًا.(2/545)
(فصل)
قال الرافضي: وقتل من بني المصطلق مالكًا وابنه وسبى كثيرًا، من جملتهم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، فاصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءها أبوها في ذلك اليوم، فقال: يا رسول الله: ابنتي كريمة لا تسبى، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخيّرها، فقال: أحسنت وأجملت، ثم قال: يا بنيّة لا تفضحي قومك، قالت اخترت الله ورسوله).
والجواب أن يقال: أولاً: لا بد من بيان إسناد كل ما يحتج به من المنقول، أو عزوه إلى كتاب تقوم به الحجة. وإلا فمن أين يُعلم أن هذا وقع؟ ثم يقول من يعرف السيرة: هذا كله من الكذب، من أخبار الرافضة التي يختلقونها؛ فإنه لم ينقل أَحَدٌ أن عليًّا فعل هذا في غزوة بني المصطلق، ولا سبى جُوَيْرية بنت الحارث، وهي لما سُبيت كاتبت على نفسها، فأدَّى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وعُتقت من الكتابة، وأعتق الناس السبى لأجلها، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقدم أبوها أصلاً ولا خيّرها.
(فصل)
قال الرافضي: (وفي غزوة خيبر كان الفتح فيها على يد أمير المؤمنين، ودفع الراية إلى أبي بكر فانهزم، ثم إلى عمر فانهزم، ثم إلى عليّ وكان أرمد، فتفل في عينيه، وخرج فقتل مرحبًا، فانهزم الباقون، وغلقوا عليهم الباب، فعالجه أمير المؤمنين فقلعه، وجعله جسرًا على الخندق، وكان الباب يغلقه عشرون رجلاً، ودخل المسلمون الحصن ونالوا الغنائم، وقال عليه السلام: والله ما قلعه بقوة خمسمائة رجل ولكن بقوة ربانية، وكان فتح مكة بواسطته).
والجواب: بعد أن يُقال: لعنة الله على الكاذبين، أن يُقال: من ذكر هذا من علماء النقل؟ وأين إسناده وصحته؟ وهو من الكذب؛ فإن خيبر لم تُفتح كلها في يوم واحد، بل كانت حصونًا متفرقة، بعضها فُتح عنوة، وبعضها فُتح صلحًا، ثم كتموا ما صالحهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فصاروا محاربين، ولم ينهزم فيها أبو بكر ولا عمر.(2/546)
وقد رُوي أن عليًّا اقتلع باب الحصن، وأما جعله جسرًا فلا.
وقوله: (كان فتح مكة بواسطته).
من الكذب أيضًا؛ فإن عليًّا ليس له في فتح مكة أثر أصلاً، إلا كما لغيره ممن شهد الفتح.
والأحاديث الكثيرة المشهورة في غزوة الفتح تتضمن هذا، وقد عزم عليّ عَلَى قتل حموين لأخته أجارتهما أخته أم هانئ، فأجار رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجارت، وقد هم بتزوج بنت أبي جهل، حتى غضب النبي صلى الله عليه وسلم فتركه.
(فصل)
قال الرافضي: (وفي غزاة حنين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجهًا في عشرة آلاف من المسلمين فعانهم أبو بكر، وقال لن نغلب اليوم من كثرة، فانهزموا، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا تسعة من بني هاشم، وأيمن ابن أم أيمن، وكان أمير المؤمنين يضرب بين يديه بالسيف، وقتل من المشركين أربعين نفسًا فانهزموا).
والجواب: بعد المطالبة بصحة النقل.
أما قوله: (فعانهم أبو بكر) فكذب مفترى، وهذه كتب الحديث والسير والمغازي والتفسير لم يذكر أحد قوله: إن أبا بكر عانهم، واللفظ المأثور: لن نغلب اليوم من قلة، فإنه قد قيل: إنه قاله بعض المسلمين.
وكذلك قوله: (لم يبق معه إلا تسعة من بني هاشم) وهو كذب أيضًا.
وقوله: (إن عليًّا كان بين يديه يضرب بالسيف، وإنه قتل أربعين نفسًا).
فكل هذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث والمغازي والسير.
(فصل)
قال الرافضي: (الخامس: إخباره بالغائب والكائن قبل كونه، فأخبر أن طلحة والزبير لما استأذناه في الخروج إلى العمرة قال: لا والله ما تريدان العمرة وإنما تريدان البصرة. وكان كما قال.
وأخبر وهو بذي قار جالس لأخذ البيعة يأتيكم من قِبَل الكوفة ألف رجل لا يزيدون ولا ينقصون، يبايعونني على الموت، وكان كذلك، وكان آخرهم أُوَيْس القرني.
وأخبر بقتل ذي الثدية، وكان كذلك.(2/547)
وأخبر شخص بعبور القوم في قصة النهروان، فقال: لن يعبروا، ثم أخبره آخر بذلك، فقال: لم يعبروا، وإنه -والله- لمصرعهم، فكان كذلك.
وأخبر بقتل نفسه الشريفة.
وأخبر شهربان بأن اللعين يقطع يديه ورجليه ويصلبه، ففعل به معاوية ذلك، وأخبر مِيثَم التَّمار بأنه يُصلب على باب دار عمرو بن حريث عاشر عشرة، وهو أقصرهم خشبة، وأراه النخلة التي يُصلب عليها، فوقع كذلك.
وأخبر رُشَيْد الهجري بقطع يديه ورجليه، وصلبه، وقطع لسانه، فوقع.
وأخبر كُمَيْل بن زياد أن الحجاج يقتله، وأن قنبرًا يذبحه الحجاج فوقع.
وقال للبراء بن عازب: إن ابني الحُسَيْن يقتل ولا تنصره فكان كما قال، وأخبره بموضع قتله.
وأخبر بملك بني العباس، وأخذ الترك الملك منهم، فقال: ملك بني العباس يسير لا عسر فيه، لو اجتمع عليهم الترك والديلم والهند والبربر والطيلسان على أن يزيلوا ملكهم ما قدروا أن يزيلوه حتى يشذ عنهم مواليهم وأرباب دولتهم، ويُسلط عليهم مَلِكٌ من الترك يأتي عليهم من حيث بدأ ملكهم، لا يمر بمدينة إلا فتحها، ولا يُرفع له راية إلا نكَّسها، الويل ثم الويل لمن ناوأه، فلا يزال كذلك حتى يظفر بهم، ثم يدفع ظفره إلى رجل من عترتي يقول بالحق ويعمل به، ألا وإن الأمر كذلك حيث ظهر هولاكو من ناحية خُراسان، ومنه ابتدأ ملك بني العباس حتى بايع لهم أبو مسلم الخراساني).
والجواب: أن يُقال: أما الإخبار ببعض الأمور الغائبة فمن هو دون عليّ يخبر بمثل ذلك، فعليٌّ أجلُّ قدرًا من ذلك، وفي أتباع أبي بكر وعمر وعثمان من يخبر بأضعاف ذلك، وليسوا ممن يصلح للإمامة، ولا هم أفضل أهل زمانهم، ومثل هذا موجود في زماننا وغير زماننا.
وحذيفة بن اليمان، وأبو هريرة، وغيرهما من الصحابة كانوا يحدّثون الناس بأضعاف ذلك، وأبو هريرة يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحذيفة تارة يسنده وتارة لا يسنده، وإن كان في حكم المسند.(2/548)
وما أخبر به هو وغيره قد يكون مما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون مما كُوشف هو به، وعمر رضي الله عنه قد أخبر بأنواع من ذلك.
والكتب المصنّفة في كرامات الأولياء وأخبارهم، مثل ما في كتاب (الزهد) للإمام أحمد و(حلية الأولياء) و(صفوة الصفوة) و(كرامات الأولياء) لأبي محمد الخلاّل وابن أبي الدنيا واللالكائي فيها من الكرامات عن بعض أتباع أبي بكر وعمر، كالعلاء بن الحضرمي نائب أبي بكر، وأبي مسلم الخولاني بعض أتباعهما، وأبي الصهباء، وعامر بن عبد قيس، وغير هؤلاء ممن عَلِيٌّ أعظم منه، وليس في ذلك ما يدل على أنه يكون هو الأفضل من أحدٍ من الصحابة، فضلاً عن الخلفاء.
وهذه الحكايات التي ذكرها عن عليّ لم يذكر لشيء منها إسنادًا، وفيها ما يعرف صحته، وفيها ما يعرف كذبه، وفيها ما لا يُعرف: هل هو صدق أم كذب؟
فالخبر الذي ذكره عن مَلِك الترك كذب عَلَى عليّ؛ فإنه لم يدفع ظفره إلى رجل من العترة، وهذا مما وضعه متأخروهم.
ودعوى الغلاة الذين كانوا يدعون علم عليّ بالمستقبلات مطلقًا كذب ظاهر، فالعلم ببعضها ليس من خصائصه، والعلم بها كلها لم يحصل له ولا لغيره.
(فصل)
قال الرافضي: (السادس: أنه كان مستجاب الدعاء، دعا على بُسر بن أرطأة بأن يسلبه الله عقله فخُولط فيه، ودعا على العَيْزَار بالعمى فعمي، ودعا على أنس لما كتم شهادته بالبَرَص فأصابه، وعلى زيد بن أرقم بالعمى فعمي).(2/549)
والجواب: أن هذا موجود في الصحابة أكثر منه، وممن بعد الصحابة، مادام في الأرض مؤمن، وكان سعد بن أبي وقاص لا تخطئ له دعوة، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم سدد رميته وأجب دعوته)(1). وفي صحيح مسلم أن عمر لما أرسل إلى الكوفة من يسأل عن سعد، فكان الناس يثنون خيرًا، حتى سُئل عنه رجل من بني عبس فقال: أما إذ أنشدتمونا سعدًا، فكان لا يخرج في السريّة، ولا يعدل في الرعيّة، ولا يقسم بالسويّة. فقال سعد: (اللهم إن كان كاذبًا قام رياء وسمعة فأطل عمره، وعظّم فقره، وعرضه للفتن) فكان يرى وهو شيخ كبير، تدلّى حاجباه من الكبر، يتعرض للجواري يغمزهن في الطرقات، ويقول: (شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد)(2).
مع أن هذه القصص المذكورة عن عليّ لم يذكر لها إسنادًا، فتتوقف على معرفة الصحة، مع أن فيها ما هو كذب لا ريب فيه، كدعائه على أنس بالبَرَص، ودعائه على زيد بن أرقم بالعمى.
(فصل)
قال الرافضي: (السابع: أنه لما توجّه إلى صفِّين لحق أصحابه عَطَشٌ، فعَدَل بهم قليلاً، فلاح لهم دير، فصاحوا بساكنه، فسألوه عن الماء، فقال: بيني وبينه أكثر من فرسخين، ولولا أني أوتى ما يكفيني كل شهر على التقتير لتلفت عطشًا، فأشار أمير المؤمنين إلى مكان قريب من الدير، وأمر بكشفه، فوجدوا صخرة عظيمة، فعجزوا عن إزالتها، فقلعها وحده، ثم شربوا الماء، فنزل إليهم الراهب، فقال: أنت نبي مرسل أو مَلَك مقرب؟ فقال: لا، ولكني وصيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم على يده، وقال: إن هذا الدير بُني على طالب هذه الصخرة، ومخرج الماء من تحتها، وقد مضى جماعة قبلي لم يدركوه. وكان الراهب من جملة من استشهد معه، ونظم القصة السيد الحميري في قصيدته).
__________
(1) قالمحب الطبري أخرجه أبو عمر وأبو الفرج في الصفوة انظر: الرياض (4/324). رواه الحاكم في المستدرك (3/500).
(2) مسلم (1/334).(2/550)
والجواب: أن هذا من جنس أمثاله من الأكاذيب التي يظنها الجهّال من أعظم مناقب عليّ، وليست كذلك. بل الذي وضع هذه كان جاهلاً بفضل عليّ، وبما يستحقه من الممادح؛ فإن الذي فيه من المنقبة أنه أشار إلى صخرةٍ فوجدوا تحتها الماء، وأنه قلعها.
ومثل هذا يجري لخلق كثير، عليّ رضي الله عنه أفضل منهم، بل في المحبّين لأبي بكر وعمر وعثمان من يجري لهم أضعاف هذا، وأفضل من هذا وهذا، وإن كان إذا جرى على يد بعض الصالحين كان نعمة من الله وكرامة له، فقد يقع مثل ذلك لمن ليس من الصالحين كثيرًا.
وأما سائر ما فيها، مثل قوله: (إن هذا الدير بني على طالب هذه الصخرة، ومخرج الماء من تحتها).
فليس هذا من دين المسلمين، وإنما تُبنى الكنائس والديّارات والصوامع على أسماء المقتدية بسير النصارى، فأما المسلمون فلا يبنون معابدهم -وهي المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه- إلا على اسم الله، لا على اسم مخلوق.
وما فيه من قول علي: (ولكني وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم) هو مما يبين أنه كذب عَلَى علي، وأن عليًا لم يدع هذا قط لا في خلافة الثلاثة ولا ليالي صفين.
(فصل)
قال الرافضي: (الثامن: ما رواه الجمهور: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بني المصطلق، حيث خرجوا عن الطريق، وأدركه الليل، بقرب وادٍ وعر، فهبط جبريل وأخبره أن طائفة من كفّار الجن قد استبطنوا الوادي يريدون كيده وإيقاع الشر بأصحابه، فدعا بعليّ وعوَّذه، وأمره بنزول الوادي، فقتلهم).
والجواب: أن يقال: أولاً: عليّ أجلّ قدرًا من هذا، وإهلاك الجن موجود لمن هو دون عليّ، لكن هذا الحديث من الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عليّ عند أهل المعرفة بالحديث، ولم يجر في غزوة بني المصطلق شيء من هذا.
وقوله: (إن هذا رواه الجمهور) إن أُريد بذلك أنه مروي بإسناد ثابت، أو في كتاب يُعتمد على مجرد نقله، أو صححه من يرجع إلى تصحيحه فليس كذلك.(2/551)
وإن أراد أن جمهور العلماء رووه، فهذا كذب، وإن أراد أنه رواه من لا يقوم بروايته حجة؛ فهذا لا يفيد.
(فصل)
قال الرافضي: (التاسع: رجوع الشمس له مرتين: إحداهما: في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والثانية: بعده. أما الأولى فروى جابر وأبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عليه جبريل يومًا يناجيه من عند الله، فلما تغشّاه الوحي توسّد فخذ أمير المؤمنين، فلم يرفع رأسه حتى غابت الشمس، فصلّى عليّ العصر بالإيماء، فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: سل الله تعالى يرد عليك الشمس لتصلي العصر قائمًا، فدعا، فرُدت الشمس، فصلّى العصر قائمًا.
وأما الثانية: فلما أراد أن يعبر الفرات ببابل اشتغل كثير من أصحابه بتعبير دوابهم، وصلَّى لنفسه في طائفة من أصحابه العصر، وفات كثير منهم، فتكلّموا في ذلك، فسأل الله رد الشمس فردت. ونظمه الحميري، فقال:
رُدت عليه الشمس لما فاتَهُ ... وقتُ الصلاةِ وقد دنت للمَغْربِ
حتى تبلَّجَ نورُهَا في وقتِها ... للعصر ثم هَوَتْ هُوِيَّ الكوكبِ
وعليه قد رُدَّت ببابل مرةً ... أُخرى وما رُدت لخَلْقٍ مُعْرِبِ
والجواب: أن يُقال: فضل عليّ وولايته لله وعلو منزلته عند الله معلوم، ولله الحمد، من طرق ثابتة أفادتنا العلم اليقيني، لا يُحتاج معها إلى كذب ولا إلى ما لا يُعلم صدقه، وحديث رد الشمس له قد ذكره طائفة، كالطحاوي والقاضي عياض وغيرهما، وعدُّوا ذلك من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، لكنْ المحققون من أهل العلم والمعرفة بالحديث يعلمون أن هذا الحديث كذب موضوع، كما ذكره ابن الجوزي في كتاب (الموضوعات).
قال أبو الفرج: هذا حديث موضوع بلا شك وقد اضطرب الرواة فيه.(2/552)
وأما الثاني ببابل فلا ريب أن هذا كذب وإنشاد الحميري لا حجة فيه؛ لأنه لم يشهد ذلك والكذب قديم، وقد سمعه فنظمه وأهل الغلو في المدح والذم ينظمون ما لا تتحقق صحته لا سيما والحميري معروف بالغلو، فإن الذي فاتته العصر إن كان مفرّطًا لم يسقط ذنبه إلا بالتوبة ومع التوبة لا يحتاج إلى ردّ، وإن لم يكن مفرطًا كالنائم والناسي فلا ملام عليه في الصلاة بعد الغروب.
وأيضًا: فمثل هذه القضية من الأمور العظام الخارجة عن العادة التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها، فإذا لم ينقلها إلا الواحد والاثنان علم بيان كذبهم في ذلك.
(فصل)
قال الرافضي: (العاشر: ما رواه أهل السير: أن الماء زاد بالكوفة، وخافوا الغرق، ففزعوا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فركب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج الناس معه، فنزل على شاطئ الفرات فصلّى، ثم دعا وضرب صفحة الماء بقضيب كان في يده، فغاص الماء، فسلم عليه كثير من الحيتان، ولم ينطق الجرِّيُّ ولا المرماهي، فسئل عن ذلك، فقال: أنطق الله ما طهّره من السمك، وأسكت ما أنجسه وأبعده).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بأن يقال: أين إسناد هذه الحكاية الذي يدل على صحتها وثبوتها؟ وإلا فمجرد الحكايات المرسلة بلا إسناد، يقدر عليه كل أحد، لكن لا يفيد شيئًا.
الثاني: أن بغلة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن عنده.
الثالث: أن هذا لم ينقله أحد من أهل الكتب المعتمد عليهم، ومثل هذه القصة لو كانت صحيحة لكانت مما تتوفر الهمم والدواعي على نقلها، وهذا الناقل لم يذكر لها إسنادًا فكيف يُقبل ذلك بمجرد حكاية لا إسناد لها؟!
الرابع: أن السمك كله مباح، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر: (هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته).
وقد قال تعالى: ((أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وِللسَّيَّارَةِ)) [المائدة:96] .(2/553)
وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على حلّ السمك كله، وعليٌّ مع سائر الصحابة يحلّون هذه الأنواع، فكيف يقولون: إن الله أنجسه؟!
ولكن الرافضة جهّال يحرّمون ما أحل الله بمثل هذه الحكاية المكذوبة.
(فصل)
قال الرافضي: (الحادي عشر: روى جماعة أهل السير أن عليًّا كان يخطب على منبر الكوفة، فظهر ثعبان فرقى المنبر، وخاف الناس، وأرادوا قتله، فمنعهم، فخاطبه، ثم نزل، فسأل الناس عنه، فقال: إنه حاكم الجن، التبست عليه قصة، فأوضحتها له، وكان أهل الكوفة يسمّون الباب الذي دخل منه الثعبان: (باب الثعبان) فأراد بنو أمية إطفاء هذه الفضيلة، فنصبوا على ذلك الباب قتلى مدة حتى سمي باب القتلى).
والجواب: أنه لا ريب أن من دون عليّ بكثير تحتاج الجن إليه وتستفتيه وتسأله، وهذا معلوم قديمًا وحديثًا، فإن كان هذا قد وقع، فقدره أجلّ من ذلك، وهذا من أدنى فضائل من هو دونه، وإن لم يكن وقع، لم ينقص فضله بذلك.
وإنما يحتاج أن يثبت فضيلة عليّ بمثل هذه الأمور من يكون مجدبًا منها، فأمّا من باشر أهل الخير والدين، الذين لهم أعظم من هذه الخوارق، أو رأى في نفسه ما هو أعظم من هذه الخوارق، لم يكن هذا مما يوجب أن يُفضَّل بها عليّ.
(فصل)
قال الرافضي: (الفصل الرابع في إمامة باقي الأئمة الاثني عشر. لنا في ذلك طرق: أحدها: النصّ، وقد توارثته الشيعة في البلاد المتباعدة، خلفًا عن سلف، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للحسين: (هذا إمام ابن إمام أخو إمام، أبو أئمة تسعة، تاسعهم قائمهم، اسمه كاسمي، وكنيته كنيتي، يملأ الأرض عدلاً وقسطًا، كما ملئت جورًا وظلمًا).(2/554)
والجواب من وجوه: أحدها: أن يُقال: أولاً: هذا كذب على الشيعة؛ فإن هذا لا ينقله إلا طائفة من طوائف الشيعة، وسائر طوائف الشيعة تكذّب هذا، والزيدية بأسرها تكذّب هذا، وهم أعقل الشيعة وأعلمهم وخيارهم. والإسماعيلية كلهم يكذّبون بهذا، وسائر فرق الشيعة تكذب بهذا، إلا الإثنى عشرية، وهم فرقة من نحو سبعين فرقة من طوائف الشيعة.
وبالجملة فالشيعة فرق متعددة جدًا، وفرقهم الكبار أكثر من عشرين فرقة، كلهم تكذّب هذا إلا فرقة واحدة، فأين تواتر الشيعة؟!
الثاني: أن يُقال: هذا معارض بما نقله غير الإثني عشرية من الشيعة من نصّ آخر يناقض هذا، كالقائلين بإمامة غير الاثني عشر، وبما نقله الراوندية أيضًا؛ فإن كلاً من هؤلاء يدّعي من النص غير ما تدعيه الإثنا عشرية.
الثالث: أن يُقال: علماء الشيعة متقدمون ليس فيهم من نقل هذا النص، ولا ذكره في كتاب، ولا احتج به في خطاب، وأخبارهم مشهورة متواترة، فعلم أن هذا من اختلاق المتأخرين، وإنما اختُلق هذا لما مات الحسن بن عليّ العسكري، وقيل: إن ابنه محمدًا غائب، فحينئذٍ ظهر هذا النص، بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من مائتين وخمسين سنة.
الرابع: أن يُقال: أهل السنة وعلماؤهم أضعاف أضعاف الشيعة، كلهم يعلمون أن هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم علمًا يقينيًا لا يخالطه الريب، ويباهلون الشيعة على ذلك، كعوام الشيعة مع عليّ، فإن ادّعى علماء الشيعة أنهم يعلمون تواتر هذا لم يكن هذا أقرب من دعوى علماء السنة بكذب هذا.(2/555)
الخامس: أن يُقال: إن من شرط التواتر حصول من يقع به العلم من الطرفين والوسط، وقبل موت الحسن بن عليّ العسكري لم يكن أحد يقول بإمامة هذا المنتظر، ولا عُرف من زمن عليّ ودولة بني أميّة أحدٌ ادّعى إمامة الاثني عشر وهذا القائم، وإنما كان المدَّعون يدَّعون النصّ على عليّ، أو على ناسٍ بعده. وأما دعوى النص على الاثني عشر وهذا القائم فلا يُعرف أحد قاله متقدمًا، فضلاً عن أن يكون نقله متقدمًا.
الوجه السادس: أن يُقال: قد علم أهل العلم أن أول ما ظهرت الشيعة الإمامية المدّعية للنص في أواخر أيام الخلفاء الراشدين، وافترى ذلك عبد الله بن سبأ وطائفته الكذّابون، فلم يكونوا موجودين قبل ذلك، فأي تواتر لهم؟!
السابع: أن الأحاديث التي نقلها الصحابة في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان أعظم تواترًا عند العامة والخاصة من نقل هذا النص، فإن جاز أن يُقدح في نقل جماهير الصحابة لتلك الفضائل، فالقدح في هذا أَوْلى، وإن كان القدح في هذا معتذرًا ففي تلك أَوْلى، وإذا ثبتت فضائل الصحابة التي دلّت عليها تلك النصوص الكثيرة المتواترة امتنع اتفاقهم على مخالفة هذا النصّ، فإن مخالفته -لو كان حقًا- من أعظم الإثم والعدوان.
الثامن: أنه ليس أحد من الإمامية ينقل هذا النص بإسناد متصل، فضلاً عن أن يكون متواترًا، وهذه الألفاظ تحتاج إلى تكرير، فإن لم يدرس ناقلوها عليها لم يحفظوها، وأين العدد الكبير الذين حفظوا هذه الألفاظ كحفظ ألفاظ القرآن، وحفظ التشهد والأذان، جيلاً بعد جيل إلى الرسول؟
ونحن إذا ادّعينا التواتر في فضائل الصحابة: ندّعي تارة التواتر من جهة المعنى، كتواتر خلافة الخلفاء الأربعة، ووقعة الجمل وصفّين، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة وعليّ بفاطمة، ونحو ذلك مما لا يحتاج فيه إلى نقل لفظ معين يحتاج إلى درس، وكتواتر ما للصحابة من السابقة والأعمال وغير ذلك، وتارة التواتر في نقل ألفاظ حفظها من يحصل العلم بنقله.(2/556)
الوجه التاسع: أن المنقول بالنقل المتواتر عن أهل البيت يكذّب مثل هذا النقل، وأنهم لم يكونوا يدّعون أنهم منصوص عليهم، بل يكذّبون من يقول ذلك، فضلاً عن أن يثبتوا النص على اثني عشر.
(فصل)
وأما الحديث الذي رواه: عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرج في آخر الزمان رجلٌ من ولدي اسمه كاسمي، وكنيته كنيتي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا، وذلك هو المهدي).
فالجواب: أن الأحاديث التي يحتجّ بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة، رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم، من حديث ابن مسعود وغيره.
كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن مسعود: (لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم لطوّل الله ذلك اليوم، حتى يخرج فيه رجل منّي، أو من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطًا وعدلاً، كما ملئت جورًا وظلمًا). رواه الترمذي وأبو داود من رواية أم سلمة(1).
وأيضًا فيه: (المهدي من عترتي من ولد فاطمة). رواه أبو داود من طريق أبي سعيد، وفيه: (يملك الأرض سبع سنين).
ورواه عن عليّ رضي الله عنه أنه نظر إلى الحسن وقال: (إن ابني هذا سيد، كما سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيخرج من صلبه رجل يُسمَّى باسم نبيكم، يشبهه في الخُلُق ولا يشبهه في الخَلْق، يملأ الأرض قسطًا)(2).
__________
(1) انظر: السنن لأبي داود (4/151-153) وانظر: ابن ماجة (2/1368) والترمذي (4/505) الحديث رقم (2230).
(2) انظر: سنن (أبي داود (4/153).(2/557)
وهذه الأحاديث غلط فيها طوائف: طائفة أنكروها، واحتجّوا بحديث ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا مهدي إلا عيسى بن مريم)(1) وهذا الحديث ضعيف، وقد اعتمد محمد بن الوليد البغدادي وغيره عليه وليس مما يعتمد عليه، ورواه ابن ماجة عن يونس عن الشافعي، والشافعي رواه عن رجل من أهل اليمن، يُقال له: محمد بن خالد الجَنَدِيّ، وهو ممن لا يحتج به، وليس هذا في مسند الشافعي، وقد قيل: إن الشافعي لم يسمعه من الجَنَدي، وأن يونس لم يسمعه من الشافعي.
الثاني: أن الإثني عشرية الذين ادّعوا أن هذا هو مهديهم، مهديهم اسمه محمد بن الحسن، والمهدي المنعوت الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم اسمه محمد بن عبد الله.
(فصل)
قال الرافضي: (الثاني: أنّا قد بينّا أنه يجب في كل زمان إمام معصوم، ولا معصوم غير هؤلاء إجماعًا).
والجواب من وجوه: أحدها: منع المقدمة الأولى كما تقدّم.
والثاني: منع طوائف لهم المقدمة الثانية.
الثالث: أن هذا المعصوم الذي يدّعونه في وقتٍ ما، له مُذ وُلد عندهم أكثر من أربعمائة وخمسين سنة؛ فإنه دخل السرداب عندهم سنة ستين ومائتين، وله خمس سنين عند بعضهم، وأقل من ذلك عند آخرين، ولم يظهر عنه شيء مما يفعله أقل الناس تأثيرًا، مما يفعله آحاد الولاة والقضاة والعلماء، فضلاً عمّا يفعله الإمام المعصوم، فأي منفعة للوجود في مثل هذا لو كان موجودًا؟ فكيف إذا كان معدومًا؟!
(فصل)
قال الرافضي: (الثالث: الفضائل التي اشتمل كل واحد منهم عليها الموجبة لكونه إمامًا).
والجواب من وجوه: أحدها: أن تلك الفضائل غايتها أن يكون صاحبها أهلاً أن تُعقد له الإمامة، لكنه لا يصير إمامًا بمجرد كونه أهلاً، كما أنه لا يصير الرجل قاضيًا بمجرد كونه أهلاً لذلك.
الثاني: أن أهليّة الإمامة ثابتة لآخرين من قريش كثبوتها لهؤلاء، وهم أهل أن يتولّوا الإمامة، فلا موجب للتخصيص، ولم يصيروا بذلك أئمة.
__________
(1) انظر: سنن ابن ماجة (2/1340-1341).(2/558)
الثالث: أن الثاني عشر منهم معدوم عند جمهور العقلاء، فامتنع أن يكون إمامًا.
الرابع: أن العسكريّين ونحوهما من طبقة أمثالهما لم يُعلم لهما تبريز في علمٍ أو دين كما عرف لعليّ بن الحسين، وأبي جعفر، وجعفر بن محمد.
(فصل)
قال الرافضي: (الفصل الخامس: أن من تقدّمه(1) لم يكن إمامًا، ويدل عليه وجوه).
قلت: والجواب: أنّه إن أريد بذلك أنهم لم يتولّوا على المسلمين، ولم يبايعهم المسلمون، ولم يكن لهم سلطان يقيمون به الحدود، ويوفون به الحقوق، ويجاهدون به العدو، ويصلّون بالمسلمين الجمع والأعياد، وغير ذلك مما هو داخل في معنى الإمامة - فهذا بُهت ومكابرة، فإن هذا أمر معلوم بالتواتر، والرافضة وغيرهم يعلمون ذلك، ولو لم يتولوا الإمامة لم تقدح فيهم الرافضة.
لكن هم يطلقون ثبوت الإمامة وانتفاءها ولا يفصِّلون: هل المراد ثبوت نفس الإمامة ومباشرتها؟ أو نفس استحقاق ولاية الإمامة؟
ويطلقون لفظ (الإمام) على الثاني، ويوهمون أنه يتناول النوعين، وإن أُريد بذلك أنهم لم يكونوا يصلحون للإمامة، وأن عليًّا كان يصلح لها دونهم، أو أنه كان أصلح لها منهم - فهذا كذب، وهو مورد النزاع.
ونحن نجيب في ذلك جوابًا عامّا كلياّ، ثم نجيب بالتفصيل.
أما الجواب العام الكلّي، فنقول: نحن عالمون بكونهم أئمة صالحين للإمامة علمًا يقينيًا قطعيًا، وهذا لا يتنازع فيه اثنان من طوائف المسلمين غير الرافضة، بل أئمة الأمة وجمهورها يقولون: إنّا نعلم أنهم كانوا أحق بالإمامة، بل يقولون: إنّا نعلم أنهم كانوا أفضل الأمة.
وهذا الذي نعلمه ونقطع به ونجزم به لا يمكن أن يُعارض بدليل قطعي ولا ظنّي.
أما القطعيّ: فلأن القطعيات لا يتناقض موجبها ومقتضاها، وأما الظنيّات: فلأن الظنّي لا يُعارض القطعي.
__________
(1) يعني عليّ بن أبي طالب.(2/559)
وجملة ذلك: أن كل ما يورده القادح فلا يخلو عن أمرين: إما نقلٌ لا نعلم صحته، أو لا نعلم دلالته على بطلان إمامتهم، وأي المقدمتين لم يكن معلوما لم يصلح لمعارضة ما عُلم قطعًا.
وإذا قام الدليل القطعيّ على ثبوت إمامتهم، لم يكن علينا أن نجيب عن الشُّبَه المفصِّلة، كما أن ما علمناه قطعًا لم يكن علينا أن نجيب عمّا يعارضه من الشبه السوفسطائية.
وليس لأحد أن يدفع ما عُلم يقينًا بالظن، سواء كان ناظرًا أو مناظرًا، بل إن تبيّن له وجه فساد الشبهة وبيّنه لغيره، كان ذلك زيادة علم ومعرفة وتأييد للحق في النظر والمناظرة، وإن لم يتبين ذلك لم يكن له أن يدفع اليقين بالشك، وسنبين إن شاء الله تعالى الأدلة الكثيرة على استحقاقهم للإمامة، وأنهم كانوا أحقَّ بها من غيرهم.
(فصل)
قال الرافضي: الأول: (قول أبي بكر: إن لي شيطانًا يعتريني، فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوّموني. ومن شأن الإمام تكميل الرعية، فكيف يُطلب منهم الكمال؟)
والجواب من وجوه: أحدها: أن المأثور عنه أنه قال: (إن لي شيطانًا يعتريني) يعني: عند الغضب (فإذا اعتراني فاجتنبوني لا أؤثر في أبشاركم). وقال: (أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم) وهذا الذي قاله أبو بكر رضي الله عنه من أعظم ما يُمدح به، كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى.
الثاني: أن الشيطان الذي يعتريه قد فُسِّر بأنه يعرض لابن آدم عند الغضب، فخاف عند الغضب أن يعتدي على أحدٍ من الرعيّة، فأمرهم بمجانبته عند الغضب.
كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان)(1). فنهى عن الحكم عند الغضب، وهذا هو الذي أراده أبو بكر: أراد أن لا يحكم وقت الغضب، وأمرهم أن لا يطلبوا منه حكمًا، أو يَحْمِلوه على حكمٍ في هذه الحال، وهذا من طاعته لله ورسوله.
__________
(1) انظر: البخاري (9/65)، ومسلم (3/1342- 1343).(2/560)
الثالث: أن يُقال: الغضب يعتري بني آدم كلهم، حتى قال سيد ولد آدم: (اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر، وإني اتخذت عندك عهدًا لن تخلفنيه:أيّما مؤمن آذيته أو سَبَبْتُه أو جلدته فاجعلها له كفّارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة) أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة(1).
وأما قوله: (فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوّموني) فهذا من كمال عدله وتقواه، وواجب على كل إمام أن يُقتدى به في ذلك، وواجب على الرعيّة أن تعامل الأئمة بذلك، فإن استقام الإمام أعانوه على طاعة الله تعالى، وإن زاغ وأخطأ بيّنوا له الصّواب ودلّوه عليه، وإن تعمّد ظلمًا منعوه منه بحسب الإمكان، فإذا كان منقادًا للحق، كأبي بكر فلا عذر لهم في ترك ذلك، وإن كان لا يمكن دفع الظلم إلا بما هو أعظم فسادًا منه، لم يدفعوا الشر القليل بالشر الكثير.
وأما قول الرافضي: (ومن شأن الإمام تكميل الرعية، فكيف يطلب منهم التكميل؟).
عنه أجوبة: أحدها: أنّا لا نسلّم أن الإمام يكمّلهم وهم لا يكمّلونه أيضًا، بل الإمام والرعية يتعاونون على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان، بمنزلة أمير الجيش والقافلة والصلاة والحج، والدين قد عرف بالرسول، فلم يبق عند الإمام دين ينفرد به، ولكن لا بد من الاجتهاد في الجزئيات، فإن كان الحق فيها بيِّنًا أمر به، وإن كان متبيِّنًا للإمام دونهم بيّنه لهم، وكان عليهم أن يطيعوه، وإن كان مشتبهًا عليهم اشتوروا فيه حتى يتبين لهم، وإن تبيَّن لأحد من الرعية دون الإمام بيّنه له، وإن اختلف الاجتهاد فالإمام هو المتَّبَع في اجتهاده، إذ لا بد من الترجيح، والعكس ممتنع.
__________
(1) البخاري (8/ 77)، ومسلم (4/2008).(2/561)
الثاني: أن هذا الكلام من أبي بكر ما زاده عنده الأمة إلا شرفًا وتعظيمًا، ولم تعظِّم الأمة أحدًا بعد نبيِّها كما عظَّمت الصديق، ولا أطاعت أحدًا كما أطاعته، من غير رغبة أعطاهم إياها، ولا رهبة أخافهم بها، بل الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة بايعوه طوعًا، مقرِّين بفضيلته واستحقاقه، ثم مع هذا لم نعلم أنهم اختلفوا في عهده في مسألة واحدة في دينهم إلا وأزال الاختلاف ببيانه لهم، ومراجعتهم له، وهذا أمر لا يشركه فيه غيره.
وكان عمر أقرب إليه في ذلك، ثم عثمان.
وأما عليّ فقاتلهم وقاتلوه، فلا قوّمهم ولا قوّموه، فأي الإمامين حصل به مقصود الإمامة أكثر؟ وأي الإمامين أقام الدين، ورد المرتدين، وقاتل الكافرين، واتفقت عليه الكلمة، كلمة المؤمنين؟ هل يشبِّه هذا بهذا إلا من هو في غاية النقص من العقل والدين؟!
(فصل)
قال الرافضي: (الثاني: قول عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة، وَقَى الله المسلمين شرّها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، وكونها فلتة يدلّ على أنها لم تقع عن رأي صحيح، ثم سأل وقاية شرّها، ثم أمر بقتل من يعود إلى مثلها، وكان ذلك يوجب الطعن فيه).(2/562)
والجواب: أن لفظ عمر ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس، من خطبة عمر التي قال فيها: (ثم إنه قد بلغني أن قائلاً منكم يقول: (والله لو مات عمر بايعت فلانًا) فلا يغترنَّ امرؤٌ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن قد وَقَى الله شرّها، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر،ومن بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرَّة أن يقتلا، وإنه كان من خبرنا حين توفّى الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث وفيه: أن الصديق قال: (وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها، كان - والله - أن أقدّم فيُضرب عنقي لا يقرِّبني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمّر على قومٍ فيهم أبو بكر، اللهم إلاّ أن تسول لي نفسي شيئًا عند الموت لا أجده الآن) وقد تقدّم الحديث بكماله(1).
ومعنى ذلك أنها وقعت فجأة لم تكن قد استعددنا لها ولا تهيأنا، لأن أبا بكر كان متعيّنًا لذلك، فلم يكن يحتاج في ذلك إلى أن يجتمع لها الناس، إذ كلهم يعلمون أنه أحق بها، وليس بعد أبي بكر من يجتمع الناس على تفضيله واستحقاقه كما اجتمعوا على ذلك في أبي بكر، فمن أراد أن ينفرد ببيعة رجل دون ملأ من المسلمين فاقتلوه، وهو لم يسأل وقاية شرّها، بل أخبر أن الله وَقَى شر الفتنة بالاجتماع.
(فصل)
قال الرافضي: (الثالث: قصورهم في العلم والتجاؤهم في أكثر الأحكام إلى عليّ).
__________
(1) تقدم تخريجه.(2/563)
والجواب: أن هذا من أعظم البهتان، أما أبو بكر فما عُرف أنه استفاد من عليّ شيئًا أصلاً، وعليٌّ قد رَوَى عنه واحتذى حذوه واقتدى بسيرته، وأما عمر فقد استفاد عليٌّ منه أكثر مما استفاد عمر منه، وأما عثمان فقد كان أقل علمًا من أبي بكر وعمر، ومع هذا فما كان يحتاج إلى عليّ، حتى إن بعض الناس شكا إلى عليّ بعض سعاة عمّال عثمان، فأرسل إليه بكتاب الصدقة، فقال عثمان: لا حاجة لنا به.
وصدَق عثمان؛ وهذه فرائض الصدقة ونصبها التي لا تعلم إلا بالتوقيف فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من أربع طرق: أصحها عند علماء المسلمين كتاب أبي بكر الذي كتبه لأنس بن مالك، وهذا هو الذي رواه البخاري(1)، وعمل به أكثر الأئمة، وبعده كتاب عمر(2).
وأما الكتاب المنقول عن عليّ ففيه أشياء لم يأخذ بها أحد من العلماء، مثل قوله: (في خمس وعشرين خُمس شاة) فإن هذا خلاف النصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان ما رُوي عن عليّ: إما منسوخ، وإما خطأ في النقل.
والرابع: كتاب عمرو بن حزم، كان قد كتبه لمّا بعثه إلى نجران. وكتاب أبي بكر هو آخر الكتب، فكيف يقول عاقل: إنهم كانوا يلجأون إليه في أكثر الأحكام، وقضاته لم يكونوا يلجئون إليه، بل كان شريح القاضي وعبيدة السلماني ونحوهما من القضاة الذين كانوا في زمن عليّ يقضون بما تعلّموه من غير عليّ.
(فصل)
قال الرافضي: (الرابع: الوقائع الصادرة عنهم، وقد تقدّم أكثرها).
قلنا: الجواب قد تقدّم عنها مجملاً ومفصلاً، وبيان الجواب عمّا يُنكر عليهم أيسر من الجواب عمّا ينكر عَلَى عليّ، وأنه لا يمكن أحد له علمٌ وعدل أن يحرّجهم ويزكّي عليًّا، بل متى زكّى عليًّا كانوا أوْلى بالتزكية، وإن جرَّحهم كان قد طرق الجرح إلى عليّ بطريق الأَوْلى.
__________
(1) انظر: البخاري (2/116) وغيره.
(2) انظر: سنن أبي داود (2/132).(2/564)
والرافضة إن طردت قولها لزمها جرح عليّ أعظم من جرح الثلاثة، وإن لم تطرده تبيّن فساده وتناقضه، وهو الصواب.
(فصل)
قال الرافضي: (الخامس: قوله تعالى: ((لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)) [البقرة:124] أخبر بأن عهد الإمامة لا يصل إلى الظالم. والكافر ظالم؛ لقوله: ((وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) [البقرة:254] . ولا شك في أن الثلاثة كانوا كفَّارًا يعبدون الأصنام، إلى أن ظهر النبي صلى الله عليه وسلم).
والجواب من وجوه: أحدها: أن يُقال: الكفر الذي يعقبه الإيمان الصحيح لم يبق على صاحبه منه ذم، هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، بل من دين الرسل كلهم.
كما قال تعالى: ((قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)) [الأنفال:38] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الإسلام َيجُبُّ ما قبله) -وفي لفظ: (يهدم ما كان قبله، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن الحج يهدم ما كان قبله)(1).
الثاني: أنه ليس كل من وُلِد على الإسلام بأفضل ممن أسلم بنفسه، بل قد ثبت بالنصوص المستفيضة أن خير القرون القرن الأول، وعامتهم أسلموا بأنفسهم بعد الكفر، وهم أفضل من القرن الثاني الذين وُلدوا على الإسلام.
والرافضة لهم في هذا الباب قولٌ فارقوا به الكتاب والسنّة وإجماع السلف ودلائل العقول، والتزموا لأجل ذلك ما يُعلم بطلانه بالضرورة، كدعواهم إيمان آزر، وأبوي النبي وأجداده وعمّه أبي طالب وغير ذلك.
الثالث: أن يُقال: قبل أن يبعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن أحدٌ مؤمنًا من قريش: لا رجل ولا صبيّ ولا امرأة، ولا الثلاثة، ولا عليّ، وإذا قيل عن الرجال: إنهم كانوا يعبدون الأصنام، فالصبيان كذلك: عليّ وغيره.
الرابع: أن من قال: إن المسلم بعد إيمانه كافر، فهو كافر بإجماع المسلمين، فكيف يقال عن أفضل الخلق إيمانًا: إنهم كفّار لأجل ما تقدم.
__________
(1) انظر: المسند (4/199، 204، 205).(2/565)
(فصل)
قال الرافضي: (السادس: قول أبي بكر: (أقيلوني فلست بخيركم، ولو كان إمامًا لم يجز له طلب الإقالة).
والجواب: أن هذا: أولاً: كان ينبغي أن يبيّن صحته، وإلا فما كل منقول صحيح، والقدح بغير الصحيح لا يصح.
وثانيًا: إن صح هذا عن أبي بكر لم تجز معارضته بقول القائل: الإمام لا يجوز له طلب الإقالة؛ فإن هذه دعوى مجردة لا دليل عليها، فلم لا يجوز له طلب الإقالة إن كان قال ذلك؟ بل إن كان قاله لم يكن معنا إجماع على نقيض ذلك ولا نصّ، فلا يجب الجزم بأنه باطل، وإن لم يكن قاله فلا يضرّ تحريم هذا القول.
(فصل)
قال الرافضي: (السابع: قول أبي بكر عند موته: ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل للأنصار في هذا الأمر حق؟ وهذا يدلّ على شكّه في صحة بيعة نفسه، مع أنه الذي دفع الأنصار يوم السقيفة لما قالوا: منا أمير ومنكم أمير، بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم: الأئمة من قريش).
والجواب: أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش)(1) فهو حق، ومن قال: إن الصدّيق شك في هذا، أو في صحة إمامته فقد كذب.
ومن قال: إن الصديق قال: ليتني كنت سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل للأنصار في الخلافة نصيب؟ فقد كذب، فإن المسألة عنده وعند الصحابة أظهر من أن يُشَكَّ فيها، لكثرة النصوص فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على بطلان هذا النقل.
(فصل)
قال الرافضي: (الثامن: قوله في مرض موته: ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكبسه، وليتني كنت في ظلهة بني ساعدة ضربت على يد أحد الرجلين، وكان هو الأمير، وكنت الوزير، وهذا يدل على إقدامه على بيت فاطمة عند اجتماع أمير المؤمنين والزبير وغيرهما فيه).
__________
(1) تقدم ذكره.(2/566)
والجواب: أن القدح لا يُقبل حتى يثبت اللفظ بإسناد صحيح، ويكون دالاً دلالة ظاهرة على القدح، فإذا انتفت إحداهما انتفى القدح، فكيف إذا انتفى كلٌ منهما. ونحن نعلم يقينًا أن أبا بكر لم يقدم على عليّ والزبير بشيء من الأذى، بل ولا على سعد بن عبادة المتخلف عن بيعته أولاً وآخرًا.
وغاية ما يُقال: إنه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال الله الذي يقسمه، وأ، يعطيه لمستحقه، ثم رأى أنه لو تركه لهم لجاز؛ فإنه يجوز أن يعطيهم من مال الفيء.
وأما إقدامه عليهم أنفسهم بأذى، فهذا ما وقع فيه قط باتفاق أهل العلم والدين، وإنما ينقل مثل هذا جهال الكذابين، ويصدقه حمقى العالمين، الذين يقولون: إن الصحابة هدموا بيت فاطمة، وضربوا بطنها حتى أسقطت.
وهذا كله دعوى مختلقة، وإفك مفترى، باتفاق أهل الإسلام، ولا يروج إلا على من هو من جنس الأنعام.
وأما قوله: (ليتني كنت ضربت على يد أحد الرجلين) فهذا لم يذكر له إسناد، ولم يبين صحته، فإن كان قاله فهو يدل على زهده وورعه وخوفه من الله تعالى.
(فصل)
قال الرافضي: (التاسع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جهزوا جيش أسامة، وكرّر الأمر بتنفيذه، وكان فيهم أبو بكر وعمر وعثمان، ولم ينفذ أمير المؤمنين؛ لأنه أراد منعهم من التوثب على الخلافة بعده، فلم يقبلوا منه).
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة النقل، فإن هذا لا يُروى بإسناد معروف، ولا صححه أحد من علماء النقل. ومعلوم أن الاحتجاج بالمنقولات لا يسوغ إلا بعد قيام الحجة بثبوتها، وإلا فيمكن أن يقول كل أحد ما شاء.(2/567)
الثاني: أن هذا كذب بإجماع علماء النقل، فلم يكن في جيش أسامة: لا أبو بكر ولا عثمان، وإنما قد قيل: إنه كان فيه عمر. وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استخلف أبا بكر على الصلاة حتى مات، وصلى أبو بكر رضي الله عنه الصبح يوم موته، وقد كشف سجف الحجرة، فرآهم صفوفًا خلف أبي بكر، فسُرّ بذلك. فكيف يكون مع هذا قد أمره أن يخرج في جيش أسامة؟!
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أراد تولية علي لكان هؤلاء أعجز أن يدفعوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكان جمهور المسلمين أطْوَع لله ورسوله من أن يدعوا هؤلاء يخالفون أمره، لا سيما وقد قاتل ثلث المسلمين أو أكثر مع علي لمعاوية وهم لا يعلمون أن معه نصًا، فلو كان معه نص لقاتل معه جمهو المسلمين.
الرابع: أنه أمر أبا بكر أن يصلي بالناس ولم يأمر عليًا، فلو كان علي هو الخليفة لكان يأمره بالصلاة بالمسلمين، فكيف ولم يؤمِّر عليًا على أبي بكر قط.
(فصل)
قال الرافضي: (العاشر: إنه لم يول أبا بكر شيئًا من الأعمال، وولّى عليه).
والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا باطل. بل الولاية التي ولاّها أبا بكر لم يشركه فيها أحد، وهي ولاية الحج. وقد ولاّه غير ذلك.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ولّى من هو بإجماع أهل السنّة والشيعة من كان عنده دون أبي بكر، مثل: عمرو بن العاص، والوليد بن عقبة، وخالد بن الوليد، فعُلم أنه لم يترك ولايته لكونه ناقصًا عن هؤلاء.
الثالث: أن عدم ولايته لا يدل على نقصه، بل قد يترك ولايته لأنه عنده أنفع له منه في تلك الولاية، وحاجته إليه في المقام عنده وغنائه عن المسلمين أعظم من حاجته إليه في تلك الولاية، فإنه هو وعمر كانا مثل الوزيرَيْن له.(2/568)
(فصل)
قال الرافضي: (الحادي عشر: أنه صلى الله عليه وسلم أنفذه لأداء سورة براءة، ثم أنفذ عليًّا، وأمره بردّه، وأن يتولى هو ذلك، ومن لا يصلح لأداء سورة أو بعضها فكيف يصلح للإمامة العامة المتضمنة لأداء الأحكام إلى جميع الأمة؟!)
والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا كذب باتفاق أهل العلم وبالتواتر العام؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج سنة تسع، ولم يردّه ولا رجع، بل هو الذي أقام للناس الحج ذلك العام، وعليٌّ من جملة رعيته: يصلي خلفه، ويدفع بدفعه، ويأتمر بأمره كسائر من معه.
وهذا من العلم المتواتر عند أهل العلم: لم يختلف اثنان في أن أبا بكر هو الذي أقام الحج ذلك العام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. فكيف يُقال: إنه أمره بردّه؟!
ولكن أردفه بعليّ لينبذ إلى المشركين عهدهم، لأن عادتهم كانت جاريةً أن لا يعقد العقود ولا يحلّها إلا المُطاع، أو رجل من أهل بيته، فلم يكونوا يقبلون ذلك من كل أحد.
ولا ريب أن هذا الرافضي ونحوه من شيوخ الرافضة من أجهل الناس بأحوال الرسول وسيرته وأموره ووقائعه، يجهلون من ذلك ما هو متواتر معلوم لمن له أدنى معرفة بالسيرة، ويجيئون إلى ما وقع فيقلبونه، ويزيدون فيه وينقصون.
وهذا القدر، وإن كان الرافضي لم يفعله، فهو فعل شيوخه وسلفه الذين قلّدهم،ولم يحقق ما قالوه، ويراجع ما هو المعلوم عند أهل العلم المتواتر عندهم، المعلوم لعامتهم وخاصتهم.
الثاني أن قوله: (الإمامة العامة متضمنة لأداء جميع الأحكام إلى الأمة).
قول باطل؛ فالأحكام كلها قد تلقتها الأمة عن نبيّها، لا تحتاج فيها إلى الإمام إلا كما تحتاج إلى نظائره من العلماء.
الثالث: أن القرآن بلّغه عن النبي صلى الله عليه وسلم كلُّ أحدٍ من المسلمين، فيمتنع أن يقال: إن أبا بكر لم يكن يصلح لتبليغه.
الرابع: أنه لا يجوز أن يظن أن تبليغ القرآن يختص بعليّ، فإن القرآن لا يثبت بخبر الآحاد، بل لا بد أن يكون منقولاً بالتواتر.(2/569)
(فصل)
قال الرافضي: (الثاني عشر: قول عمر: إن محمدًا لم يمت، وهذا يدل على قلة علمه، وأمر برجم حامل، فنهاه عليّ، فقال: لولا عليّ لهلك عمر، وغير ذلك من الأحكام التي غلط فيها وتلوَّن فيها).
والجواب أن يقال: أولاً: ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قد كان قبلكم في الأمم محدِّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر)(1) ومثل هذا لم يقله لعليّ.
وأنه قال: (رأيت أنّي أُتيت بقدح فيه لبن، فشربت حتى أني لأرى الرِّيَّ يخرج من أظفاري، ثم ناولت فضلي عمر) قالوا: فما أوّلته يا رسول الله؟ قال: (العلم)(2).
فعمر كان أعلم الصحابة بعد أبي بكر.
وأما كونه ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت، فهذا كان ساعةً، ثم تبيّن له موته، ومثل هذا يقع كثيرًا: قد يشكّ الإنسان في موت ميّتٍ ساعة أو أكثر، ثم يتبيّن له موته، وعليّ قد تبيّن له أمورٌ بخلاف ما كان يعتقده فيها أضعاف ذلك، بل ظنّ كثيرًا من الأحكام على خلاف ما هي عليه، ومات على ذلك، ولم يقدح ذلك في إمامته، كفُتياه في المفوّضة التي ماتت ولم يُفرض لها، وأمثال ذلك مما هو معروف عند أهل العلم.
وأما الحامل، فإن كان لم يَعْلَم أنها حامل، فهو من هذا الباب؛ فإنه قد يكون أمر برجمها ولم يعلم أنها حامل، فأخبره عليّ أنها حامل، فقال: لولا أن عليًّا أخبرني بها لرجمتُها، فقتلت الجنين، فهذا هو الذي خاف منه.
وصاحب العلم العظيم إذا رجع إلى من هو دونه في بعض الأمور، لم يقدح هذا في كونه أعلم منه، فقد تعلّم موسى من الخضر ثلاث مسائل، وتعلّم سليمان من الهدهد خبر بلقيس.
__________
(1) انظر: البخاري (4/174) و(5/12).
(2) انظر: البخاري (1/23-24) ومواضع أُخر ومسلم (4/1859-1860).(2/570)
(فصل)
قال الرافضي: (الثالث عشر: أنه ابتدع التراويح، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيها الناس إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة جماعة بدعة، وصلاة الضحى بدعة، فإن قليلاً في سُنَّةٍ خيرٌ من كثير في بدعة، ألا وإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة سبيلها إلى النار، وخرج عمر في شهر رمضان ليلاً، فرأى المصابيح في المساجد، فقال: ما هذا؟ فقيل له: إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع. فقال: بدعة ونعمت البدعة، فاعترف بأنها بدعة).
فيقال: ما رؤي في طوائف أهل البدع والضلال أجرأ من هذه الطائفة الرافضة على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقولها عليه ما لم يقله، والوقاحة المفرطة في الكذب، وإن كان فيهم من لا يعرف أنها كذب، فهو مفرط في الجهل كما قال:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة. فيقال: ما الدليل على صحة هذا الحديث؟ وأين إسناده؟ وفي أي كتاب من كتب المسلمين روي هذا؟ ومن قال من أهل العلم بالحديث: إن هذا صحيح؟
الثاني: أن جميع أهل المعرفة بالحديث يعلمون علمًا ضروريًا أن هذا من الكذب الموضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن له أدنى معرفة بالحديث يعلم أنه كذب، لم يروه أحدٌ من المسلمين في شيء من كتبه: لا كتب الصحيح، ولا السنن، ولا المسانيد، ولا المعجمات، ولا الأجزاء، ولا يعرف له إسناد: لا صحيح، ولا ضعيف، بل هو كذب بيّن.
الثالث: أنه قد ثبت أن الناس كانوا يصلّون بالليل في رمضان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت أنه صلّى بالمسلمين جماعةً ليلتين أو ثلاثًا.
وهذا الاجتماع العام لما لم يكن قد فعل سماه بدعة؛ لأن ما فعل ابتداءً يسمى بدعة في اللغة، وليس ذلك بدعة شرعية، فإن البدعة الشرعية التي هي ضلالة هي ما فعل بغير دليل شرعي.(2/571)
الرابع: أن هذا لو كان قبيحًا منهيًا عنه لكان عليّ أبطله لما صار أمير المؤمنين وهو بالكوفة، فلما كان جاريًا في ذلك مجرى عمر دل على استحباب ذلك، بل رُوي عن عليّ أنه قال: نور الله على عمر قبرَه كما نور علينا مساجدنا.
(فصل)
قال الرافضي: (الرابع عشر: أن عثمان فعل أمورًا لا يجوز فعلها، حتى أنكر عليه المسلمون كافة، واجتمعوا على قتله أكثر من اجتماعهم على إمامته، وإمامة صاحبيه.
والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا من أظهر الكذب؛ فإن الناس كلهم بايعوا عثمان في المدينة وفي جميع الأمصار، لم يختلف في إمامته اثنان، ولا تخلّف عنها أحد، ولهذا قال الإمام أحمد وغيره: إنها كانت أوكد من غيرها باتفاقهم عليها.
وأما الذين قتلوه فنفر قليل، قال ابن الزبَيْر يعيب قتلة عثمان: (خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية، فقتلهم الله كل قتلة، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب) يعني: هربوا ليلاً.
الثاني: أن يُقال: الذين أنكروا عَلَى عليّ وقاتلوه أكثر بكثير من الذين أنكروا على عثمان وقتلوه؛ فإن عليًّا قاتله بقدر الذين قتلوا عثمان أضعافًا مضاعفة، وقطعة كبيرةٌ من عسكره: خرجوا عليه وكفّروه، وقالوا: أنت ارتددت عن الإسلام، لا نرجع إلى طاعتك حتى تعود إلى الإسلام.
الثالث: أن يُقال: قد عُلم بالتواتر أن المسلمين كلهم اتفقوا على مبايعة عثمان، لم يتخلف عن بيعته أحد، مع أن بيعة الصدِّيق تخلَّف عنها سعد بن عبادة، ومات ولم يبايعه ولا بايع عمر، ومات في خلافة عمر، ولم يكن تخلّف سعد عنها قادحًا فيها، لأن سعدًا لم يقدح في الصديق، ولا في أنه أفضل المهاجرين، بل كان هذا معلومًا عندهم، لكن طلب أن يكون من الأنصار أمير.(2/572)
وقد ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الأئمة من قريش)(1) فكان ما ظنّه سعد خطًأ مخالفًا للنص المعلوم، فعُلم أن تخلّفه خطأٌ بالنصّ، وإذا علم الخطأ بالنص لم يُحتج فيه إلى الإجماع.
وأما بيعة عثمان فلم يتخلّف عنها أحد، مع كثرة المسلمين وانتشارهم، وأما عليّ فمن حين تولّى تخلّف عن بَيعته قريبٌ من نصف المسلمين من السابقين الأوَّلين، من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ممن قعد عنه فلم يقاتل معه ولا قاتله، مثل: أُسامة بن زيد، وابن عمر، ومحمد بن سلمة، ومنهم من قاتله.
ثم كثير من الذين بايعوه رجعوا عنه، منهم من كفّره واستحلّ دمه، ومنهم من ذهب إلى معاوية، كعقيل أخيه وأمثاله.
ولم تزل شيعة عثمان القادحين في عليّ تحتج بهذا عَلَى أن عليًّا لم يكن خليفة راشدًا، وما كانت حجتهم أعظم من حجة الرافضة، فإذا كانت حجتهم داحضة، وعليٌّ قتل مظلومًا، فعثمان أَوْلى بذلك.
(فصل)
قال الرافضي: (الفصل السادس: في فسخ حججهم على إمامة أبي بكر، احتجوا بوجوه: الإجماع، والجواب منع الإجماع؛ فإن جماعة من بني هاشم لم يوافقوا على ذلك، وجماعة من أكابر الصحابة، كسلمان وأبي ذر والمقداد وعمّار وحُذيفة وسعد بن عبادة وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد وخالد بن سعيد بن العاص وابن عباس.
حتى إن أباه أنكر ذلك، وقال: من استُخلف على الناس؟ فقالوا: ابنك. فقال: وما فعل المستضعفان؟ إشارة إلى عليّ والعبّاس، قالوا: اشتغلوا بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا أن ابنك أكبر الصحابة سنًّا، فقال: أنا أكبر منه.
وبنو حنيفة كافة لم يحملوا الزكاة إليه، حتى سمّاهم أهل الردة، وقتلهم وسباهم، فأنكر عمر عليه، وردَّ السبايا أيام خلافته).
__________
(1) انظر: البخاري (9/52) ومسلم (3/1452-1454).(2/573)
والجواب: بعد أن يقال: الحمد لله الذي أظهر من أمر هؤلاء إخوان المرتدّين ما تحقق به عند الخاص والعام أنهم إخوان المرتدّين حقًّا، وكشف أسرارهم، وهتك أستارهم بألسنتهم؛ فإن الله لا يزال يطلع على خائنة منهم، تبيّن عداوتهم لله ورسوله، ولخيار عباد الله وأوليائه المتّقين، ومن يُرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا.
فنقول: من كان له أدنى علم بالسيرة، وسمع مثل هذا الكلام، جزم بأحد أمرين: إما بأن قائله من أجهل الناس بأخبار الصحابة، وإما أنه من أجرأ الناس على الكذب، فظنّي أن هذا المصنف وأمثاله من شيوخ الرافضة ينقلون ما في كتب سلفهم، من غير اعتبار منهم لذلك، ولا نظر في أخبار الإسلام، وفي الكتب المصنفة في ذلك، حتى يعرف أحوال الإسلام، فيبقى هذا وأمثاله في ظلمة الجهل بالمنقول والمعقول.
ولا ريب أن المفترين للكذب من شيوخ الرافضة كثيرون جدًا وغالب القوم ذوو هوىً أو جهل، فمن حدَّثهم بما يوافق هواهم صدّقوه، ولم يبحثوا عن صدقه وكذبه، ومن حدّثهم بما يخالف أهواءهم كذّبوه، ولم يبحثوا عن صدقه وكذبه، ولهم نصيب وافر من قوله تعالى: ((فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ)) [الزمر:32] ، كما أن أهل العلم والدين لهم نصيب وافر من قوله تعالى: ((وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) [الزمر:33] .
ومن أعظم ما في هذا الكلام من الجهل والضلال جعله بني حنيفة من أهل الإجماع؛ فإنهم لمّا امتنعوا عن بيعته ولم يحملوا إليه الزكاة سمَّاهم أهل الردة، وقتلهم وسباهم، وقد تقدَّم مثل هذا في كلامه.
وبنو حنيفة قد علم الخاص والعام أنهم آمنوا بمسَيْلمة الكذّاب، الذي ادّعى النبوة باليمامة، وادّعى أنه شريك النبي صلى الله عليه وسلم في الرسالة، وادّعى النبوة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم.(2/574)
وأمر مسَيْلمة وادّعاؤه النبوة واتّباع بني حنيفة له أشهر وأظهر من أن يخفى، إلا على من هو أبعد الناس عن المعرفة والعلم.
ومن أعظم فضائل أبي بكر عند الأمة – أولهم وآخرهم – أنه قاتل المرتدّين، وأعظم الناس ردّة كان أبو حنيفة، ولم يكن قتاله لهم على منع الزكاة، بل قاتلهم على أنهم آمنوا بمسَيْلمة الكذاب، وكانوا فيما يُقال نحو مائة ألف.
والحنفِية أم محمد بن الحنفية سَرِّيةُ عليّ كانت من بني حنيفة، وبهذا احتجّ من جَوَّز سبي المرتدّات إذا كان المرتدّون محاربين، فإذا كانوا مسلمين معصومين، فكيف استجاز عليّ أن يسبي نساءهم، ويطأ من ذلك السبي؟
وأما قول الرافضي: أن عمر أنكر قتال أهل الردة.
فمن أعظم الكذب والافتراء على عمر، بل الصحابة كانوا متفقين على قتال مسيلمة وأصحابه، ولكن كانت طائفة أخرى مقرين بالإسلام، وامتنعوا عن أداء الزكاة، فهؤلاء حصل لعمر أولاً شبهة في قتالهم حتى ناظره الصدِّيق، وبيّن وجوب قتالهم، فرجع إليه والقصة في ذلك مشهورة.
فإن جاز أن يطعن في الصديق والفاروق أنهما قاتلا لأخذ المال فالطعن في غيرهما أوجه، فإذا وجب الذب عن عثمان وعليّ فهو عن أبي بكر وعمر أوجب.
وعليّ يقاتل ليطاع ويتصرف في النفوس والأموال فكيف يجعل هذا قتالاً على الدِّين؟ وأبو بكر يقاتل من ارتدّ عن الإسلام ومن ترك ما فرض الله، ليطيع الله ورسوله فقط، ولا يكون هذا قتالاً على الدين؟
وأما الذين عدّهم هذا الرافضي أنهم تخلّفوا عن بيعة الصدّيق من أكابر الصحابة، فذلك كذب عليهم، إلاّ على سعد بن عبادة، فإن مبايعة هؤلاء لأبي بكر وعمر أشهر من أن تنكر، وهذا مما اتفق عليه أهل العلم بالحديث والسير والمقولات، وسائر أصناف أهل العلم، خلفًا عن سلف.
وأسامة بن زيد ما خرج في السريّة حتى بايعه، ولهذا يقول له: (يا خليفة رسول الله).(2/575)
وكذلك جميع من ذكره بايعه، لكن خالد بن سعيد كان نائبًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا أكون نائبًا لغيره) فترك الولاية، وإلا فهو من المقرِّين بخلافة الصدِّيق، وقد عُلم بالتواتر أنه لم يتخلّف عن بيعته إلا سعد بن عبادة.
وأما عليّ وبنو هاشم فكلهم بايعه باتفاق الناس، لم يمت أحدٌ منهم إلا وهو مبايعٌ له.
لكن قيل: عليٌّ تأخرت بيعته ستة أشهر، وقيل: بل بايعه ثاني يوم، وبكل حال فقد بايعوه من غير إكراه.
ثم جميع الناس بايعوا عمر، إلاّ سعدًا، ولم يتخلّّف عن بيعة عمر أحدٌ: لا بنو هاشم ولا غيرهم.
وأما بيعة عثمان فاتفق الناس كلهم عليها.
وما ذكره عن أبي قحافة فمن الكذب المتفق عليه، ولكن أبو قحافة كان بمكة، وكان شيخًا كبيرًا أسلم عام الفتح، أَتَى به أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورأسه ولحيته مثل الثغامة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أقررت الشيخ مكانه لأتيناه)(1) إكرامًا لأبي بكر.
وقوله: (إنهم قالوا لأبي قحافة: إن ابنك أكبر الصحابة سنًّا) كذب ظاهر، وفي الصحابة خلق كثير أسنُّ من أبي بكر، مثل: العبّاس، فإن العبّاس كان أسنّ من النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أسنَّ من أبي بكر.
وحينئذ فالجواب عن منعه الإجماع من وجوه:
أحدها: أن هؤلاء الذين ذكرهم لم يتخلّف منهم إلا سعد بن عبادة، وإلاّ فالبقية كلهم بايعوه باتفاق أهل النقل، وطائفة من بني هاشم قد قيل: إنها تخلّفت عن مبايعته أولاً، ثم بايعته بعد ستة أشهر من غير رهبة ولا رغبة.
__________
(1) انظر: المسند (3/160).(2/576)
ولا ريب أن الإجماع المعتبر في الإمامة لا يضرّ فيه تخلف الواحد والاثنين والطائفة القليلة، فإنه لو اعتبر ذلك لم يكد ينعقد إجماع عَلَى إمامة، فإن الإمامة أمر معيّن، فقد يتخلّف الرجل لهوىً لا يُعلم، كتخلّف سعد، فإنه كان قد استشرف إلى أن يكون هو أميرًا من جهة الأنصار، فلم يحصل له ذلك، فبقي في نفسه بقية هوىً، ومن ترك الشيء لهوىً، لم يؤثر تركه.
الثاني: أنه لو فرض خلاف هؤلاء الذين ذكرهم، وبقدرهم مرتين لم يقدح في ثبوت الخلافة، فإنه لا يشترط في الخلافة إلا اتفاق أهل الشوكة والجمهور الذين يقام بهم الأمر، بحيث يمكن أن يقام بهم مقاصد الإمامة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة)(1).
الثالث: أن يُقال: إجماع الأمة على خلافة أبي بكر كان أعظم من اجتماعهم على مبايعة عليّ؛ فإن ثلث الأمة -أو أقل أو أكثر- لم يبايعوا عليًّا؛ بل قاتلوه، والثلث الآخر لم يقاتلوا معه، وفيهم من لم يبايعه أيضًا، والذين لم يبايعوه منهم من قاتلهم، ومنهم من لم يقاتلهم، فإن جاز القدح في الإمامة بتخلّف بعض الأمة عن البيعة، كان القدح في إمامة عليّ أولى بكثير.
فلا طريق يثبت بها كون عليّ مستحقًا للإمامة، إلا وتلك الطريق يثبت بها أن أبا بكر مستحق للإمامة، وأنه أحق للإمامة من عليّ وغيره، وحينئذٍ فالإجماع لا يُحتاج إليه في الأولى(2) ولا في الثانية،وإن كان الإجماع حاصلاً.
(فصل)
قال الرافضي: (وأيضًا الإجماع ليس أصلاً في الدلالة، بل لا بد أن يستند المجمعون إلى دليل على الحكم حتى يجتمعوا عليه، وإلا كان خطًأ، وذلك الدليل إما عقلي، وليس في العقل دلالة على إمامته، وإما نقلي، وعندهم أن النبي صلى الله عليه وسلم مات من غير وصية، ولا نصّ على إمام، والقرآن خالٍ منه، فلو كان الإجماع متحققًا كان خطًأ فتنتفى دلالته).
__________
(1) انظر: سنن الترمذي (3/316).
(2) يعني وجود خلافته ووقوعها.(2/577)
والجواب من وجوه: أحدها: أن قوله: (الإجماع ليس أصلاً في الدلالة).
إن أراد به أن أمر المجتمعين لا تجب طاعته لنفسه، وإنما تجب لكونه دليلاً على أمر الله ورسوله، فهذا صحيح. ولكن هذا لا يضر؛ فإن أمر الرسول كذلك لم تجب طاعته لذاته، بل لأن من أطاع الرسول فقد أطاع الله، ففي الحقيقة لا يطاع أحد لذاته إلا الله، له الخلق والأمر، وله الحكم، وليس الحكم إلا لله، وإنما وجبت طاعة الرسول لأن طاعته طاعة الله، ووجبت طاعة المؤمنين المجتمعين؛ لأن طاعتهم طاعة الله والرسول، ووجب تحكيم الرسول، لأن حكمه حكم الله، وكذلك تحكيم الأمة؛ لأن حكمها حكم الله.
وإن أراد به أنه قد يكون موافقًا للحق، وقد يكون مخالفًا له، وهذا هو الذي أراده، فهذا قدح في كون الإجماع حجة، ودعوى أن الأمة قد تجتمع على الضلالة والخطأ، كما يقول ذلك من يقوله من الرافضة الموافقين للنّظام.
وحينئذ فيُقال: كون عليّ إمامًا ومعصومًا وغير ذلك من الأصول، الإمامية أثبتوه بالإجماع، إذ عمدتهم في أصول دينهم علَى ما يذكرونه من العقليات وعلى الإجماع، وعلى ما ينقلونه، فهم يقولون: عُلم بالعقل لأنه لا بد للناس من إمام معصوم وإمام منصوص عليه، وغير عليّ ليس معصومًا ولا منصوصًا عليه بالإجماع، فيكون المعصوم هو عليًّا، وغير ذلك من مقدمات حججهم.
فيقال لهم: إن لم يكن الإجماع حجة، فقد بطلت تلك الحجج، فبطل ما بنوه على الإجماع من أصولهم، فبطل قولهم، وإذا بطل ثبت مذهب أهل السنّة.
وإن كان الإجماع حقًّا، فقد ثبت أيضًا مذهب أهل السنّة، فقد تبين بطلان قولهم سواء قالوا: الإجماع حجة أم لم يقولوا، وإذا بطل قولهم ثبت مذهب أهل السنّة وهو المطلوب.
وإن قالوا: نحن لم ندع الإجماع ولا نحتج به في شيء من أصولنا، وإنما عمدتنا العقل والنقل عن الأئمة المعصومين.(2/578)
قيل لهم: إذا لم تحتجوا بالإجماع لم يبق معكم حجة سمعية غير النقل المعلوم عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن ما ينقلونه عن عليّ وغيره من الأئمة لا يكون حجة حتى نعلم عصمة الواحد من هؤلاء، وعصمة الواحد من هؤلاء لا تثبت إلا بنقل عمّن عُلم عصمته، والمعلوم عصمته هو الرسول، فما لم يثبت نقل معلوم عن الرسول بما يقولونه، لم يكن معهم حجة سمعية أصلاً: لا في أصول الدين ولا في فروعه، وحينئذٍ فيرجع الأمر إلى دعوى خلافة عليّ بالنص، فإن أثبتم النصّ بالإجماع فهو باطل، لنفيكم كون الإجماع حجة، وإن لم تثبتوه إلا بالنقل الخاص الذي يذكره بعضكم، فقد تبيّن بطلانه من وجوه، وتبين أن ما ينقله الجمهور وأكثر الشيعة مما يناقض هذا القول يُوجب علمًا يقينيا بأن هذا كذب.
(فصل)
قال الرافضي: (وأيضًا: الإجماع إما أن يُعتبر فيه قول كل الأمة، ومعلوم أنه لم يحصل، بل ولا إجماع أهل المدينة أو بعضهم، وقد أجمع أكثر الناس على قتل عثمان).
والجواب: أن يُقال: أما الإجماع على الإمامة: فإن أريد به الإجماع الذي تنعقد به الإمامة، فهذا يعتبر فيه موافقة أهل الشوكة، بحيث يكون متمكنًا بهم من تنفيذ مقاصد الإمامة، حتى إذا كان رءوس الشوكة عددًا قليلاً، ومن سواهم موافق لهم، حصلت الإمامة بمبايعتهم له، هذا هو الصواب الذي عليه أهل السنّة، وهو مذهب الأئمة، كأحمد وغيره.
وأما أهل الكلام فقدّرها كل منهم بعدد، وهي تقديرات باطلة.
وإن أريد به الإجماع على الاستحقاق والأولوية، فهذا يُعتبر فيه: إما الجميع، وإما الجمهور، وهذه الثلاثة حاصلة في خلافة أبي بكر.
وأما عثمان فلم يتفق على قتله إلا طائفة قليلة، لا يبلغون نصف عُشر عُشر عشر الأمة.
(فصل)
قال الرافضي: (وأيضًا: كل واحد من الأمة يجوز عليه الخطأ، فأي عاصم لهم عن الكذب عند الإجماع؟).(2/579)
والجواب: أن يُقال: من المعلوم أن الإجماع إذا حصَل، حصل له من الصفات ما ليس للآحاد، لم يجز أن يُجعل حكم الواحد حكم الاجتماع؛ فإن كل واحد من المخبرين يجوز عليه الغلط والكذب، فإذا انتهى المخبرون إلى حد التواتر امتنع عليهم الكذب والغلط.
وأيضًا: فإن كان الإجماع قد يكون خطًأ، لم يثبت أن عليًّا معصوم كما زعموا؛ فإنه إنما عُلمت عصمته بالإجماع على أنه لا معصوم سواه، فإذا جاز كون الإجماع أخطأ، أمكن أن يكون في الأمة معصوم غيره، وحينئذ فلا يُعلم أنه هو المعصوم.
فتبين أن قدحهم في الإجماع يُبطل الأصل الذي اعتمدوا عليه في إمامة المعصوم، وإذا بطل أنه معصوم بطل أصل مذهب الرافضة، فتبين أنهم إن قدحوا في الإجماع بطل أصل مذهبهم، وإن سلّموا أنه حجة بطل مذهبهم، فتبين بطلان مذهبهم على التقديرين.
(فصل)
قال الرافضي: (وقد بيّنا ثبوت النصّ الدالّ على إمامة أمير المؤمنين، فلو أجمعوا على خلافه لكان خطأ، لأن الإجماع الواقع على خلاف النص يكون عندهم خطأ).
والجواب من وجوه: أحدها: أنه قد تقدّم بيان بطلان كل ما دل على أنه إمام قبل الثلاثة.
الثاني: أن النصوص إنما دلت على خلافة الثلاثة قبله.
الثالث: أن يُقال: الإجماع المعلوم حجة قطعية لا سمعية، لا سيما مع النصوص الكثيرة الموافقة له، فلو قدِّر ورود خبر يخالف الإجماع كان باطلاً: إما لكون الرسول لم يقله، وإما لكونه لا دلالة فيه.
الرابع: أنه يمتنع تعارض النص المعلوم والإجماع المعلوم، فإن كليهما حجة قطعية، والقطعيات لا يجوز تعارضها، لوجوب وجود مدلولاتها، فلو تعارضت لزم الجمع بين النقيضين.
وقد دل الإجماع المعلوم والنص المعلوم على خلافة الصدّيق رضي الله عنه وبطلان غيرهما، ونصّ الرافضة مما نحن نعلم كذبه بالاضطرار، وعلى كذبه أدلة كثيرة.(2/580)
(فصل)
قال الرافضي: (الثاني: ما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر. والجواب: المنع من الرواية، ومن دلالتها على الإمامة؛ فإن الاقتداء بالفقهاء لا يستلزم كونهم أئمة، وأيضًا: فإن أبا بكر وعمر قد اختلفا في كثير من الأحكام فلا يمكن الاقتداء بهما، وأيضًا: فإنه معارض لما رووه من قوله: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، مع إجماعهم على انتفاء إمامتهم).
والجواب من وجوه: أحدها: أن يُقال: هذا الحديث بإجماع أهل العلم بالحديث أقوى من النص الذي يروونه في إمامة عليّ؛ فإن هذا أمر معروف في كتب أهل الحديث المعتمدة، ورواه أبو داود في سننه، وأحمد في مسنده، والترمذي في جامعه(1).
وأما النص على عليّ فليس في شيء من كتب أهل الحديث المعتمدة، وأجمع أهل الحديث على بطلانه، حتى قال أبو محمد ابن حزم: (ما وجدنا قط رواية عن أحدٍ في هذا النصّ المدّعى إلا رواية واهية عن مجهول إلى مجهول يكنى أبا الحمراء،لا نعرف من هو في الخلق)(2).
فيمتنع أن يُقدح في هذا الحديث مع تصحيح النص عَلَى عليّ.
وأما الدلالة، فالحجة في قوله: (باللذين من بعدي) أخبر أنهما من بعده، وأمر بالاقتداء بهما، فلو كانا ظالمَيْن أو كافرين في كونهما بعده لم يأمر بالاقتداء بهما، فإنه لا يأمر بالاقتداء بالظالم، فإن الظالم لا يكون قدوة يؤتم به؛ بدليل قوله: ((لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)) [البقرة:124] ، فدل على أن الظالم لا يؤتم به، والائتمام هو الاقتداء، فلما أمر بالاقتداء بمن بعده، والاقتداء هو الائتمام، مع إخباره أنهما يكونان بعده، دلّ على أنهما إمامان قد أمر بالائتمام بهما بعده، وهذا هو المطلوب.
__________
(1) انظر: سنن الترمذي (5/271-272) وابن ماجة (1/37) ومسند الإمام أحمد (5/382-399-402).
(2) انظر: الفصل (4/161-162).(2/581)
وأما قوله: (اختلفا في كثير من الأحكام) فليس الأمر كذلك، بل لا يكاد يعرف اختلاف أبي بكر وعمر إلا في الشيء اليسير، والغالب أن يكون عن أحدهما فيه روايتان، كالجد مع الإخوة، فإن عمر عنه فيه روايتان إحداهما كقول أبي بكر.
وأما قوله: (أصحابي كالنجوم... إلخ) فهذا الحديث ضعيف، ضعفه أهل الحديث، قال البزار: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هو في كتب الحديث المعتمدة، وأيضًا: فليس فيه لفظ بعدي، والحجة هناك قوله: بعدي، وأيضًا ليس فيه الأمر بالاقتداء بهم، وهذا فيه الأمر بالاقتداء بهم.
(فصل)
قال الرافضي: (الثالث: ما ورد فيه من الفضائل كآية الغار، وقوله تعالى: ((وَسَيُجَنَّبُهَا اْلأَتْقَى)) [الليل:17] ، وقوله: ((قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ اْلأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)) [الفتح:17] . والداعي هو أبو بكر: كان أنيس رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش يوم بدر، وأنفق على النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدم في الصلاة).
قال: (والجواب: أنه لا فضيلة له في الغار، لجواز أن يستصحبه حذرًا منه لئلا يظهر أمره.
وأيضًا: فإن الآية تدل على نقيضه لقوله: ((لاَ تَحْزَنْ)) فإنه يدل على خوره وقلة صبره، وعدم يقينه بالله تعالى، وعدم رضاه بمساواته النبي صلى الله عليه وسلم، و بقضاء الله وقدره،ولأن الحزن إن كان طاعة استحال أن ينهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان معصية كان ما ادعوه من الفضيلة رذيلة.
وأيضًا: فإن القرآن حيث ذكر إنزال السكينة على رسول الله شرك معه المؤمنين إلا في هذا الموضوع، ولا نقص أعظم منه.(2/582)
وأما: ((وَسَيُجَنَّبُهَا اْلأَتْقَى)) فإن المراد أبو الدحداح، حيث اشترى نخلة شخص لأجل جاره، وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم على صاحب النخلة نخلة في الجنة، فأبى، فسمع أبو الدحداح فاشتراها ببستان له، ووهبها الجار، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عوضها له بستانًا في الجنة.
وأما قوله تعالى: ((قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ اْلأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)) [الفتح:17] . يريد سندعوكم إلى قوم، فإنه أراد الذين تخلفوا عن الحديبية، والتمس هؤلاء أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر، فمنعهم الله تعالى بقوله: ((قُل لَّن تَتَّبِعُونَا)) [الفتح:15] ، لأنه تعالى جعل غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، ثم قال: ((قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ اْلأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ)). يريد:سندعوكم فيما بعد إلى قتال قوم أولي بأسٍ شديد، وقد دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوات كثيرة: كمؤتة، وحنين، وتبوك، وغيرها، فكان الداعي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأيضًا: جاز أن يكون عليّ هو الداعي، حيث قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وكان رجوعهم إلى طاعته إسلامًا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: يا عليّ حربك حربي وحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر.
وأما كونه أنيسه في العريش يوم بدر فلا فضل فيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أنسه بالله تعالى مغنيًا له عن كل أنيس، لكن لما عرف النبي صلى الله عليه وسلم أن أمره لأبي بكر بالقتال يؤدي إلى فساد الحال، حيث هرب عدة مرات في غزواته،وأيّما أفضل: القاعد عن القتال، أو المجاهد بنفسه في سبيل الله؟(2/583)
وأما إنفاقه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذب؛ لأنه لم يكن ذا مال؛ فإن أباه كان فقيرًا في الغاية، وكان يُنادى على مائدة عبد الله بن جدعان بمدٍّ كل يوم يقتات له، فلو كان أبو بكر غنيًا لكفى أباه، وكان أبو بكر في الجاهلية معلّمًا للصبيان، وفي الإسلام كان خيّاطًا، ولما ولي أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة، فقال: إني محتاج إلى القوت، فجعلوا له كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قبل الهجرة غنيًا بمال خديجة، ولم يحتج إلى الحرب وتجهيز الجيوش، وبعد الهجرة لم يكن لأبي بكر ألبتة شيء، ثم لو أنفق لوجب أن ينزل فيه قرآن، كما نزل في عليّ: ((هَلْ أَتَى)) [الإنسان:1] .
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف من الذين تصدّق عليهم أمير المؤمنين، والمال الذي يدّعون إنفاقه أكثر، فحيث لم ينزل فيه قرآن دل على كذب النقل.
وأما تقديمه في الصلاة فخطأ، لأن بلالاً لما أذن بالصلاة أمرته عائشة أن يقدم أبا بكر، ولما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم سمع التكبير، فقال: من يصلي بالناس؟ فقالوا: أبو بكر، فقال: أخرجوني، فخرج بين عليّ والعباس فنحاه عن القبلة وعزله عن الصلاة وتولّى هو الصلاة).
قال الرافضي: (فهذه حال أدلة القوم، فلينظر العاقل بعين الإنصاف وليقصد اتّباع الحق دون اتّباع الهوى، ويترك تقليد الآباء والأجداد، فقد نهى الله تعالى في كتابه عن ذلك، ولا تلهيه الدنيا عن إيصال الحق إلى مستحقه، ولا يمنع المستحق عن حقه، فهذا آخر ما أردنا إثباته في هذه المقدمة).
والجواب: أن يُقال: في هذا الكلام من الأكاذيب والبُهت والفرية ما لا يُعرف مثله لطائفة من طوائف المسلمين، ولا ريب أن الرافضة فيهم شبه قوي من اليهود، فإنهم قومٌ بُهتٌ، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.(2/584)
وظهور فضائل شيخي الإسلام: أبي بكر وعمر، أظهر بكثير عند كل عاقل من فضل غيرهما، فيريد هؤلاء الرافضة قلب الحقائق، ولهم نصيب من قوله تعالى: ((فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ)) [الزمر:32] ، وقوله: ((فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ)) [يونس:17] ، ونحو هذه الآيات.
فإن القوم من أعظم الفرق تكذيبًا بالحق، وتصديقًا بالكذب، وليس في الأمة من يماثلهم في ذلك.
أما قوله: (لا فضيلة له في الغار).
فالجواب: أن الفضيلة في الغار ظاهرة بنصّ القرآن، لقوله تعالى: ((إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) [التوبة:40] ، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله معه ومع صاحبه، كما قال لموسى وهارون: ((إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)) [طه:46] .
وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث أنس عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رءوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا؛ فقال: (يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما)(1).
وهذا الحديث مع كونه مما اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقّيه بالقبول والتصديق، فلم يختلف في ذلك اثنان منهم، فهو مما دل القرآن على معناه، يقول: ((إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) [التوبة:40] .
__________
(1) انظر: البخاري (5/4) وغيره، ومسلم (4/1854).(2/585)
وهذا غاية المدح لأبي بكر؛ إذ دل على أنه ممن شهد له الرسول بالإيمان، المقتضي نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي بيّن الله فيها غناه عن الخلق، فقال: ((إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ)) [التوبة:40] ، ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره: إن الله عاتب الخلق جميعهم في نبيه إلا أبا بكر، وقال: من أنكر صحبة أبي بكر فهو كافر؛ لأنه كذب القرآن، وقال طائفة من أهل العلم كأبي القاسم السهيلي وغيره: هذه المعية لم تثبت لغير أبي بكر.
وكذلك قوله: (ما ظنّك باثنين الله ثالثهما) بل ظهر اختصاصهما في اللفظ كما ظهر في المعنى، فكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (محمد رسول الله) فلما تولى أبو بكر بعده صاروا يقولون: (خليفة رسول الله) فيضيفون الخليفة إلى رسول الله، المضاف إلى الله، والمضاف إلى المضاف إلى الله مضاف إلى الله تحقيقًا لقوله: (إن الله معنا)، ما ظنك باثنين الله ثالثهما، ثم لما تولى عمر بعده صاروا يقولون: (أمير المؤمنين) فانقطع الاختصاص الذي امتاز به أبو بكر عن سائر الصحابة.
ومن تأمّل هذا وَجَد فضائل الصدِّيق التي في الصحاح كثيرة، وهي خصائص، مثل: حديث المخالّة، وحديث: إن الله معنا، وحديث: إنه أحب الرجال إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث: الإتيان إليه بعده، وحديث كتابة العهد إليه بعده، وحديث: تخصيصه بالتصديق ابتداءً والصحبة، وتركه له، وهو قوله: (فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟)، وحديث دفعه عنه عقبة بن أبي معيط لمّا وضع الرداء في عنقه حتى خلّصه أبو بكر،وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟! وحديث استخلافه في الصلاة وفي الحج،وصبره وثباته بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقياد الأمة له، وحديث: الخصال التي اجتمعت فيه في يومٍ، وما اجتمعت في رجل إلا وجبت له الجنة، وأمثال ذلك(1).
__________
(1) تقدمت هذه كلها.(2/586)
والمقصود هنا بيان اختصاصه في الصحبة الإيمانية بما لم يشركه مخلوق، لا في قدرها ولا في صفتها ولا في نفعها، فإنه لو أحصى الزمان الذي كان يجتمع فيه أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم، والزمان الذي كان يجتمع به فيه عثمان أو عليّ أو غيرهما من الصحابة، لوُجد ما يختص به أبو بكر أضعاف ما اختص به واحد منهم، لا أقول ضعفه.
وأما المشترك بينهم فلا يختص به واحد.
وأما كمال معرفته ومحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وتصديقه له، فهو مبرّز في ذلك على سائرهم تبريزًا باينهم فيه مباينة لا تخفى على من كان له معرفة بأحوال القوم، ومن لا معرفة له بذلك لم تُقبل شهادته.
وأما نفعه للنبي صلى الله عليه وسلم ومعاونته له على الدين فكذلك.
فهذه الأمور التي هي مقاصد الصحبة ومحامدها، التي بها يستحق الصحابة أن يُفضَّلوا بها على غيرهم، لأبي بكر فيها من الاختصاص بقدرها ونوعها وصفتها وفائدتها ما لا يشركه فيه أحد.
كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر، فقال: (إنَّ عبدًا خيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده) فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أمنّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام، لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر، وفي رواية للبخاري: لو كنت متخذًا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام ومودته)(1).
__________
(1) مضى ذكر مواضعه في الصحيحين.(2/587)
وروى البخاري من حديث ابن عباس قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبًا رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: (إنه ليس أحدٌ من الناس أمنّ عليَّ في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذًا من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن خلة الإسلام أفضل،سدّوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر)(1).
وفي رواية: (لو كنت متخذًا من هذه الأمة خليلاً لاتخذته، ولكن أخوة الإسلام أفضل).
وفي رواية: (ولكن أخي وصاحبي).
فهذه النصوص كلها مما تبيّن اختصاص أبي بكر من فضائل الصحبة ومناقبها والقيام بها وبحقوقها بما لم يشركه فيه أحد، حتى استوجب أن يكون خليله دون الخلق، لو كانت المخالّة ممكنة.
وهذه النصوص صريحة بأنه أحب الخلق إليه، وأفضلهم عنده، كما صرّح بذلك في حديث عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، قال: (فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: (عائشة). قلت: فمن الرجال؟ قال: (أبوها). قلت: ثم من؟ قال: عمر وعدّ رجالً)، وفي رواية للبخاري: (قال: فَسكَتُّ مخافة أن يجعلني آخرهم)(2).
(فصل)
ومما يبيّن من القرآن فضيلة أبي بكر في الغار: أن الله تعالى ذكر نصره لرسوله في هذه الحال التي يُخذل فيها عامة الخلق إلا من نصره الله: ((إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ)) [التوبة:40] . أي: أخرجوه في هذه القلة من العدد، لم يصحبه إلا الواحد، فإن الواحد أقل ما يوجد، فإذا لم يصحبه إلا واحدٌ دلّ على أنه في غاية القلّة.
__________
(1) انظر: البخاري -الجمعة- الباب الثامن والعشرون (من قفي الخطبة أما بعد)، انظر: الفتح (2/404).
(2) انظر: البخاري (5/5 و136) ومسلم (4/1856).(2/588)
ثم قال: ((إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) [التوبة:40] . وهذا يدلّ على أن صاحبه كان مشفقًا عليه محبًّا له ناصرًا له حيث حزن، وإنما يحزن الإنسان حال الخوف على من يحبّه، وأما عدوه فلا يحزن إذا انعقد سبب هلاكه.
فلو كان أبو بكر مبغِضًا كما يقول المفترون لم يحزن ولم ينه عن الحزن، بل كان يضمر الفرح والسرور، ولا كان الرسول يقول له: (لا تحزن إن الله معنا).
فإن قال المفتري: إنه خَفِيَ على الرسول حاله لمّا أظهر له الحزن، وكان في الباطن مبغضًا.
قيل له: فقد قال: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) فهذا إخبار بأن الله معهما جميعًا بنصره، ولا يجوز للرسول أن يخبر بنصر الله لرسوله وللمؤمنين وأن الله معهم، ويجعل ذلك في الباطن منافقًا، فإنه معصوم في خبره عن الله، لا يقول عليه إلا الحق.
وأيضًا: فمعلوم أن أضعف الناس عقلاً لا يخف عليه حال من يصحبه في مثل هذا السفر، الذي يعاديه فيه الملأ الذين هو بين أظهرهم، ويطلبون قتله، وأولياؤه هناك لا يستطيعون نصره، فكيف يصحب واحدًا ممن يظهر له موالاته دون غيره، وقد أظهر له هذا حزنه، وهو مع ذلك عدوّ في الباطن، والمصحوب يعتقد أنه وليه، وهذا لا يفعله إلا أحمق الناس وأجهلهم.
فقبَّح الله من نَسَبَ رسوله، الذي هو أكمل الخلق عقلاً وعلمًا وخبرة، إلى مثل هذه الجهالة والغباوة.
(فصل)
وأما قول الرافضي: (يجوز أن يستصحبه لئلا يظهر أمره حذرًا منه).
والجواب: أن هذا باطل من وجوه كثيرة لا يمكن استتقصاؤها.
أحدها: أنه قد علم بدلالة القرآن موالاته له ومحبته لا عداوته، فبطل ادعاؤه.(2/589)
الثاني: أنه قد علم بالتواتر المعنوي أن أبا بكر كان محبًا للنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، ومن أعظم الخلق اختصاصًا به، أعظم مما تواتر من شجاعة عنترة، ومن سخاء حاتم ومن موالاة عليّ ومحبته له، ونحو ذلك من التواترات المعنوية التي اتفق فيها الأخبار الكثيرة على مقصود واحد، والشك في محبة أبي بكر كالشك في غيره وأشد، ومن الرافضة من ينكر كون أبي بكر وعمر مدفونين في الحجرة النبوية، وبعض غلاتهم ينكر أن يكون هو صاحبه الذي معه في الغار، وليس هذا من بهتانهم ببعيد، فإن القوم قوم بهت، يجحدون المعلوم ثبوته بالاضطرار ويدعون ثبوت ما يعلم انتفاؤه بالاضطرار في العقليات والنقليات.
الوجه الثالث: أن قوله: (استصحبه حذرًا من أن يظهر أمره).
كلام من هو من أجهل الناس بما وقع؛ فإن أمر النبي صلى الله عليه وسلم في خروجه من مكة ظاهر، عرفه أهل مكة، وأرسلوا الطلب، فإنه في الليلة التي خرج فيها عرفوا في صبيحتها أنه خرج، وانتشر ذلك، وأرسلوا إلى أهل الطرق يبذلون الدِّية فيه وفي أبي بكر، بذلوا الدية لمن يأتي بأبي بكر، فأي شيء كان يخاف؟ وكون المشركين بذلوا الدية لمن يأتي بأبي بكر دليل على أنهم كانوا يعلمون موالاته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان عدوهم في الباطن، ولو كان معهم في الباطن لم يفعلوا ذلك.
الرابع: أنه إذا كان خرج ليلاً، كان وقت الخروج لم يعلم به أحد، فما يصنع بأبي بكر واستصحابه معه؟
فإن قيل: فلعله علم خروجه دون غيره؟
قيل: أولاً: قد كان يمكنه أن يخرج في وقت لا يشعر به، كما خرج في وقت لم يشعر به المشركون، وكان يمكنه أن لا يعينه، فكيف وقد ثبت في الصحيحين أن أبا بكر استأذنه في الهجرة فلم يأذن له حتى هاجر معه، والنبي صلى الله عليه وسلم أعلمه بالهجرة في خلوة(1).
__________
(1) انظر: البخاري (5/49) مطبعة النهضة.(2/590)
الوجه الخامس: أنه لما كان في الغار كان يأتيه بالأخبار عبد الله بن أبي بكر وكان معهما عامر بن فهيرة كما تقدم ذلك، فكان يمكنه أن يعلمهم بخبره.
السادس: أنه إذا كان كذلك، والعدو قد جاء إلى الغار،ومشوا فوقه، كان يمكنه حينئذ أن يخرج من الغار، وينذر العدو به،وهو وحده ليس معه أحد يحميه منه ومن العدو، فمن يكون مبغضًا لشخص، طالبًا لإهلاكه، ينتهز الفرصة في مثل هذه الحال، التي لا يظفر فيها عدوٌ بعدوه إلا أخذه، فإنه وحده في الغار.
(فصل)
وأما قول الرافضي: (الآية تدل على نقصه، لقوله تعالى: ((لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) [التوبة:40] فإنه يدل على خوره، وقلة صبره، وعدم يقينه وعدم رضاه بمساواته للنبي صلى الله عليه وسلم، وبقضاء الله وقدره).
فالجواب: أولاً: أن هذا يناقض قولكم: (إنه استصحبه حذرًا منه لئلا يظهر أمره) فإنه إذا كان عدوه، وكان مبطنًا لعِداه الذين يطلبونه، كان ينبغي أن يفرح ويسرّ ويطمئن إذا جاء العدو، وأيضًا: فالعدو قد جاءوا ومشوا فوق الغار، فكان ينبغي أن ينذرهم به.
وأيضًا: فكان الذي يأتيه بأخبار قريش ابنه عبد الله، فكان يمكنه أن يأمر ابنه أن يخبر بهم قريشًا.
وأيضًا: فغلامه عامر بن فهيرة هو الذي كان معه رواحلهما، فكان يمكنه أن يقول لغلامه: أخبرهم به.
فكلامهم في هذا يبطل قولهم: إنه كان منافقًا، ويثبت أنه كان مؤمنًا به.
واعلم أنه ليس في المهاجرين منافق، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار، لأن أحدًا لم يهاجر إلا باختياره، والكافر بمكة لم يكن يختار الهجرة، ومفارقة وطنه وأهله لنصر عدوه.(2/591)
وإذا كان هذا الكلام يستلزم إيمانه، فمعلوم أن الرسول لا يختار لمصاحبته في سفر هجرته، الذي هو أعظم الأسفار خوفًا، وهو السفر الذي جُعل مبدأ التاريخ لجلالة قدره في النفوس، ولظهور أمره؛ فإن التاريخ لا يكون إلا بأمر ظاهر معلوم لعامة الناس - لا يستصحب الرسول فيه من يختص بصحبته، إلا وهو من أعظم الناس طمأنينة إليه، ووثوقًا به.
ويكفي هذا في فضائل الصدِّيق، وتمييزه على غيره، وهذا من فضائل الصدّيق التي لم يشركه فيها غيره، ومما يدل على أنه أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده.
(فصل)
وأما قوله: (إنه يدل على نقصه).
فنقول: أولاً: النقص نوعان: نقص ينافي إيمانه، ونقصٌ عمَّن هو أكمل منه.
فإن أراد الأول، فهو باطل، فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)) [النحل:127] .
وقال للمؤمنين عامة: ((وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَنْتُمُ اْلأَعْلَوْنَ)) [آل عمران:139] .
وقال: ((وَلَقَدْ أَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمُ * لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ))[الحجر:87-88] . فقد نهى نبيه عن الحزن في غير موضع، ونهى المؤمنين جملة، فعُلم أن ذلك لا ينافي الإيمان.(2/592)
وإن أراد بذلك أنه ناقص عمَّن هو أكمل منه، فلا ريب أن حال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من حال أبي بكر، وهذا لا ينازع فيه أحدٌ من أهل السنّة، ولكن ليس في هذا ما يدل على أن عليًّا أو عثمان أو عمر أو غيرهم أفضل منه، لأنهم لم يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال، ولو كانوا معه لم يُعلم حالهم يكون أكمل من حال الصدِّيق، بل المعروف من حالهم دائمًا وحاله، أنهم وقت المخاوف يكون الصدِّيق أكمل منهم كلهم يقينًا وصبرًا، وعند وجود أسباب الريب يكون الصديق أعظم يقينًا وطمأنينة، وعندما يتأذّى منه النبي صلى الله عليه وسلم يكون الصديق أتبعهم لمرضاته، وأبعدهم عما يؤذيه.
هذا هو المعلوم لكل من استقرأ أحوالهم في محيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته.
وأيضًا: فقصة يوم بدر في العريش، ويوم الحديبية في طمأنينته وسكينته معروفة، برز ذلك على سائر الصحابة، فكيف ينسب إلى الجزع؟!
وأيضًا: فقيامه بقتال المرتدّين ومانعي الزكاة، وتثبيت المؤمنين، مع تجهيز أسامة، مما يبيّن أنه أعظم الناس طمأنينة ويقينًا.
والسنُّي لا ينازع في فضله عَلَى عمر وعثمان، ولكن الرافضي الذي ادّعى أن عليًّا كان أكمل من الثلاثة في هذه الصفات دعواهُ بُهت وكذب وفرية؛ فإن من تدبّر سيرة عمر وعثمان علم أنهما كانا في الصبر والثابت وقلة الجزع في المصائب أكمل من عليّ،فعثمان حاصروه وطلبوا خلعه من الخلافة أو قتله، ولم يزالوا به حتى قتلوه، وهو يمنع الناس من مقاتلتهم، إلى أن قُتل شهيدًا، وما دافع عن نفسه، فهل هذا إلا من أعظم الصبر على المصائب؟!
ومعلوم أن عليًّا لم يكن صبره كصبر عثمان، بل كان يحصل له من إظهار التأذّي من عسكره الذين يقاتلون معه، ومن العسكر الذين يقاتلهم، ما لم يكن يظهر مثله، لا من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان.(2/593)
(فصل)
قال الرافضي: (إن الآية تدل على خَوَرِهِ وقلة صبره، وعدم يقينه بالله، وعدم رضاه بمساواته للنبي صلى الله عليه وسلم، وبقضاء الله وقدره).
فهذا كله: كذب منه ظاهر، ليس في الآية ما يدل على هذا، وذلك من وجهين:
أحدهما: أن النهي عن الشيء لا يدل على وقوعه، بل يدل على أنه ممنوع منه، لئلا يقع فيما بعد، كقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ)) [الأحزاب:1] ، فهذا لا يدل على أنه كان يطيعهم.
الثاني: أنه بتقدير أن يكون حزن، فكان حزنه على النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يُقتل فيذهب الإسلام، وكان يوّد أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة، كان يمشي أمامه تارة، ووراءه تارة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: (أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون وراءك) رواه أحمد.
وحينئذ لم يكن يرضى بمساواة النبي صلى الله عليه وسلم: لا بالمعنى الذي أراده الكاذب المفتري عليه: أنه لم يرض بأن يموتا جميعًا، بل كان لا يرضى بأن يُقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيش هو، بل كان يختار أن يفديه بنفسه وأهله وماله.
وهذا واجب على كل مؤمن، والصدّيق أَقْوَم المؤمنين بذلك، قال تعالى: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)) [الأحزاب:6] . وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)(1) وحزنه على النبي صلى الله عليه وسلم يدل على كمال موالاته ومحبته، ونصحه له، واحتراسه عليه، وذبّه عنه،ودفع الأذى عنه، وهذا من أعظم الإيمان.
__________
(1) انظر: البخاري (1/9)، مطبعة النهضة، ومسلم (1/67).(2/594)
(فصل)
وأما قوله: (إنه يدل على قلة صبره).
فباطل، بل ولا يدل على انعدام شيء من الصبر المأمور به، فإن الصبر على المصائب واجب بالكتاب والسنّة، ومع هذا فحزن القلب لا ينافي ذلك.
كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يؤاخذ على دمع العين، ولا على حزن القلب، ولكن يؤاخذ على هذا -يعني: اللسان- أو يرحم)(1).
وقوله: (إنه يدل على عدم يقينه بالله).
كذب وبهت؛ فإن الأنبياء قد حزنوا، ولم يكن ذلك دليلا على عدم يقينهم بالله، كما ذكر الله عن يعقوب. وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم قال: (تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون)(2).
وقد نهى الله عن الحزن نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)) [النحل:127] .
وكذلك قوله: (يدل على الخور وعدم الرضا بقضاء الله وقدره). هو باطل، كما تقدم نظائره.
(فصل)
وقوله: (وإن كان الحزن طاعة استحال نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وإن كان معصية كان ما ادّعوه فضيلةً رذيلة).
والجواب: أولاً: أنه لم يدع أحد أن مجرد الحزن كان هو الفضيلة، بل الفضيلة ما دلّ عليه قوله تعالى: ((إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) [التوبة:40] .
فالفضيلة كونه هو الذي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال، واختصّ بصحبته، وكان له كمال الصحبة مطلقًا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (إن الله معنا) وما يتضمنه ذلك من كمال موافقته للنبي صلى الله عليه وسلم، ومحبته وطمأنينته، وكمال معونته للنبي صلى الله عليه وسلم وموالاته، ففي هذه الحال من كمال إيمانه وتقواه ما هو الفضيلة.
__________
(1) انظر: البخاري (2/84) ومسلم (2/636).
(2) انظر: البخاري (2/83-84) ومسلم (4/1807-1808).(2/595)
وكمال محبته ونصره للنبي صلى الله عليه وسلم هو الموجب لحزنه، إن كان حَزِنَ، مع أن القرآن لم يدل على أنه حَزِنَ كما تقدم.
ويقال: ثانيًا: هذا بعينه موجود في قوله عز وجل لنبيّه: ((وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)) [النحل:127] ، وقوله: ((لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)) [الحجر:88] ونحو ذلك، بل في قوله تعالى لموسى: ((خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى)) [طه:21] .
فيقال: إن كان الخوف طاعة فقد نهى عنه، وإن كان معصية فقد عصى.
ويقال: إنه أمر أن يطمئن ويثبت، لأن الخوف يحصل بغير اختيار العبد، إذا لم يكن له ما يوجب الأمن، فإذا حصل ما يوجب الأمن زال الخوف.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لصدِّيقه: ((لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) نهى عن الحزن مقرون بما يوجب زواله، وهو قوله: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) وإذا حصل الخبر بما يوجب زوال الحزن والخوف زال، وإلا فهو يهجم على الإنسان بغير اختياره.
ويقال: ثالثًا: ليس في نهيه عن الحزن ما يدل على وجوده كما تقدم، بل قد ينهى عنه لئلا يوجد إذا وجد مقتضيه، وحينئذ فلا يضرنا كونه معصية لو وجد، وإن وجد، فالنهي قد يكون نهي تسلية وتعزية وتثبيت وإن لم يكن المنهي عنه معصية بل قد يكون مما يحصل بغير اختيار المنهي، وقد يكون الحزن من هذا الباب.
ويقال: رابعًا: عامة عقلاء بني آدم إذا عاشر أحدهم الآخر مدة يتبين له صداقته من عداوته،فالرسول يصحب أبا بكر بمكة بضع عشرة سنة، ولا يتبين له هل هو صديقه أو عدوه، وهو يجتمع معه في دار الخوف؟! وهل هذا إلا قدح في الرسول؟(2/596)
ثم يقال: جميع الناس كانوا يعرفون أنه أعظم أوليائه من حين المبعث إلى الموت، فإنه أول من آمن به من الرجال الأحرار،ودعا غيره إلى الإيمان به حتى آمنوا، وبذل أمواله في تخليص من كان آمن به من المستضعفين، مثل بلال وغيره، وكان يخرج معه إلى الموسم فيدعو القبائل إلى الإيمان به، ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم إلى بيته: إما غدوة وإما عشية، وقد آذاه الكفّار على إيمانه، حتى خرج من مكة فلقيه ابن الدغنة أمير من أمراء العرب -سيد القارة- وقال: إلى أين؟ وقد تقدم حديثه، فهل يشك من له أدنى مسكة من عقل أن مثل هذا لا يفعله إلا من هو في غاية الموالاة والمحبة للرسول ولما جاء به وأن موالاته ومحبته بلغت به إلى أن يعادي قومه، ويصبر على أذاهم، وينفق أمواله على من يحتاج إليه من إخوانه المؤمنين.
ولم يكن يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم أذى قط من أبي بكر مع خلوته به واجتماعه به ليلاً ونهارًا، وتمكنه مما يريد المخادع من إطعام سم، أو قتل أو غير ذلك.
وأيضًا: فكان حفظ الله لرسوله وحمايته له يوجب أن يطلعه على ضميره السيئ، لو كان مضمرًا له سوءًا، وهو قد أطلعه الله على ما في نفس أبي عزة لما جاء مظهرًا للإيمان بنية الفتك به، وكان ذلك في قعدة واحدة، وكذلك أطلعه على ما في نفس الحجبي يوم حنين، لما انهزم المسلمون، وهم بالسوأة وأطلعه على ما في نفس عُمير بن وهب لما جاء من مكة مظهرا للإسلام يريد الفتك به، وأطلعه الله على المنافقين في غزوة تبوك، لما أرادوا أن يحلوا حزام ناقته.(2/597)
وأبو بكر معه دائمًا ليلاً ونهارًا، حضرًا وسفرًا، في خلوته وظهوره، ويوم بدر يكون معه وحده في العريش، ويكون في قلبه ضمير سيئ، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم ضمير ذلك قط، ومن له أدنى نوع فطنة يعلم ذلك في أقل من هذا الاجتماع، فهل يَظُن ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدِّيقه إلا من هو -مع فرط جهله وكمال نقص عقله- من أعظم الناس تنقّصًا للرسول، وطعنًا فيه، وقدحًا في معرفته؟ فإن كان هذا الجاهل - مع ذلك - محبًا للرسول، فمن له أدنى خبرة بدين الإسلام يعلم أن مذهب الرافضة مناقض له(1).
(فصل)
وأما قول الرافضي: أن القرآن حيث ذكر إنزال السكينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم شرك معه المؤمنين إلا في هذا الموضع، ولا نقص أعظم منه.
فالجواب: أولاً: أن هذا يوهم أنه ذَكَر ذلك في مواضع متعددة، وليس كذلك، بل لم يذكر ذلك إلا في قصة حُنين.
كما قال تعالى: ((وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا))[التوبة:25-26] فذكر إنزال السكينة على الرسول والمؤمنين، بعد أن ذكر توليتهم مدبرين.
وقد ذكر إنزال السكينة على المؤمنين وليس معهم الرسول في قوله: ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا)) [الفتح:1] إلى قوله: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ)) [الفتح:4] الآية، وقوله: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ)) [الفتح:18] .
__________
(1) أي مناقض للإسلام كما هو الواقع لمن عرف مذهبهم ونظر أحوالهم.(2/598)
ويقال: ثانيًا: الناس قد تنازعوا في عَوْد الضمير في قوله تعالى: ((فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ)) [التوبة:40] . فمنهم من قال: إنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: إنه عائد إلى أبي بكر، لأنه أقرب المذكورين، ولأنه كان محتاجًا إلى إنزال السكينة، فأنزل السكينة عليه، كما أنزلها على المؤمنين الذين بايعوه تحت الشجرة.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان مستغنيا عنها في هذه الحال لكمال طمأنينته، بخلاف إنزالها يوم حنين، فإنه كان محتاجا إليها لانهزام جمهور أصحابه، وإقبال العدو نحوه، وسوقه ببغلته إلى العدو.
وعلى القول الأول يكون الضمير عائدًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما عاد الضمير إليه في قوله: ((وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا)) [التوبة:40] . ولأن سياق الكلام كان في ذكره، وإنما ذكر صاحبه ضمنًا وتبعًا.
لكن يقال: على هذا لما قال لصاحبه: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) والنبي صلى الله عليه وسلم هو المتبوع المطاع، وأبو بكر تابع مطيع، وهو صاحبه، والله معهما، فإذا حصل للمتبوع في هذه الحال سكينة وتأييد، كان ذلك للتابع أيضًا بحكم الحال، فإنه صاحب تابع لازم، ولم يحتج أن يذكر هنا أبو بكر لكمال الملازمة والمصاحبة، التي توجب مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في التأييد.
(فصل)
قال الرافضي: (وأما قوله: ((وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى)) [الليل:17] ، فإن المراد به أبو الدحداح حيث اشترى نخلة لشخص لأجل جاره، وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم على صاحب النخلة نخلة في الجنة، فسمع أبو الدحداح، فاشتراها ببستان له ووهبها الجار، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم له بستانًا عوضها في الجنة).(2/599)
والجواب: أن يُقال: لا يجوز أن تكون هذه الآية مختصة بأبي الدحداح دون أبي بكر باتفاق أهل العلم بالقرآن وتفسيره وأسباب نزوله، وذلك أن هذه السورة مكيَّة باتفاق العلماء، وقصة أبي الدحداح كانت بالمدينة باتفاق العلماء؛ فإنه من الأنصار، والأنصار إنما صحبوه بالمدينة، ولم تكن البساتين – وهي الحدائق التي تسمى بالحيطان – إلا بالمدينة، فمن الممتنع أن تكون الآية لم تنزل إلا بعد قصة أبي الدحداح، بل إن كان قد قال بعض العلماء: إنها نزلت فيه، فمعناه أنه ممن دخل في الآية، وممن شمله حكمها وعمومها، فإن كثيرًا ما يقول بعض الصحابة والتابعين: (نزلت هذه الآية في كذا) ويكون المراد بذلك أنها دلّت على هذا الحكم وتناولته، وأريد بها هذا الحكم.
ومنهم من يقول: بل قد تنزل الآية مرتين: مرة لهذا السبب، ومرة لهذا السبب.
فعلى قول هؤلاء يمكن أنها نزلت مرة ثانية في قصة أبي الدحداح، وإلا فلا خلاف بين أهل العلم أنها نزلت بمكة قبل أن يسلم أبو الدحداح، وقبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أنها نزلت في قصة أبي بكر، فذكر ابن جرير في تفسيره بإسناده عن عبد الله بن الزبير وغيره أنها نزلت في أبي بكر.
وكذلك ذكره ابن أبي حاتم والثعلبي، أنها نزلت في أبي بكر عن عبد الله وعن سعيد بن المسيب.
ويدل على أنها نزلت في أبي بكر وجوه:
أحدها: أنه قال: ((وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى)) [الليل:17] ، وقال: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) [الحجرات:13] . فلا بد أن يكون أتقى الأمة داخلاً في هذه الآية، وهو أكرمهم عند الله، ولم يقل أحد: إن أبا الدحداح ونحوه أفضل وأكرم من السابقين الأوّلين من المهاجرين.(2/600)
الوجه الثاني: أنه إذا كان الأتقى هو الذي يؤتي ماله يتزكى، وأكرم الخلق أتقاهم، كان هذا أفضل الناس. والقولان المشهوران في هذه الآية: قول أهل السنة أن أفضل الخلق أبو بكر، وقول الشيعة عليّ، فلم يجز أن يكون الأتقى الذي هو أكرم الخلق على الله واحدًا غيرهما، وليس منهما واحد يدخل في الأتقى، وإذا ثبت أنه لا بد من دخول أحدهما في (الأتقى) وجب أن يكون أبا بكر داخلاً في الآية، ويكون أوْلى بذلك من عليّ لأسباب:
أحدها: أنه قال: ((الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)) [الليل:18] . وقد ثبت في النقل المتواتر – في الصحاح وغيرها – أن أبا بكر أنفق ماله، وأنه مقدَّم في ذلك على جميع الصحابة.
وأما عليّ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمونه لما أخذه من أبي طالب لمجاعة حصلت بمكة، وما زال عليّ فقيرًا حتى تزوّج بفاطمة وهو فقير، وهذا مشهور معروف عند أهل السنة والشيعة، وكان في عيال النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن له ما ينفقه، ولو كان له مال لأنفقه، لكنه كان منفقًا عليه لا منفِقًا.
السبب الثاني: قوله: ((وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِعْمَةٍ تُجْزَى)) [الليل:19] . وهذه لأبي بكر دون عليّ، لأن أبا بكر كان للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة الإيمان أن هداه الله به، وتلك النعمة لا يجزى بها الخلق، بل أجر الرسول فيها على الله، كما قال تعالى: ((قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)) [ص:86] ، وقال: ((قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ)) [سبأ:47] .
وأما النعمة التي يُجزى بها الخلق فهي نعمة الدنيا، وأبو بكر لم تكن للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة الدنيا، بل نعمة دين، بخلاف عليّ، فإنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة دنيا يمكن أن تُجزى.(2/601)
الثالث: أن الصدِّيق لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم سبب يواليه لأجله، ويخرج ماله، إلا الإيمان، ولم ينصره كما نصره أبو طالب لأجل القرابة، وكان عمله كاملاً في إخلاصه لله تعالى، كما قال: ((إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ اْلأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى)).
(فصل)
قال الرافضي: (وأما قوله تعالى: ((قُلْ لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ)) [الفتح:16] . فإنه أراد الذين تخلّفوا عن الحديبية، والتمس هؤلاء أن يخرجوا إلى غنيمة خيْبَر، فمنعهم الله تعالى بقوله: ((قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا)) [الفتح:15] ، لأنه تعالى جعل غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، ثم قال تعالى: ((قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ اْلأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)) [الفتح:16] . وقد دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوات كثيرة كمؤتة وحُنين وتبوك وغيرها، وكان الداعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضًا جاز أن يكون عليًّا حيث قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وكان رجوعهم إلى طاعته إسلامًا، لقوله صلى الله عليه وسلم: (يا عليّ حربك حربي، وحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر).(2/602)
فالجواب: أما الاستدلال بهذه الآية على خلافة الصديق ووجوب طاعته، فقد استدل بها طائفة من أهل العلم، منهم: الشافعي والأشعري وابن حزم وغيرهم، واحتجّوا بأن الله تعالى قال: ((فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا)) [التوبة:83] قالوا: فقد أمر الله رسوله أن يقول لهؤلاء: لن تخرجوا معي أبدًا، ولن تقاتلوا معي عدوًا، فعُلم أن الداعي لهم إلى القتال ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجب أن يكون من بعده، وليس إلا أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، الذين دعوا الناس إلى قتال فارس والروم وغيرهم أو يسلمون، حيث قال: ((تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)).
فوجه الاستدلال من الآية أن يقال: قوله تعالى: ((سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)) [الفتح:16] يدل على أنهم متصفون بأنهم أولو بأس شديد، وبأنهم يقاتلون أو يسلمون. قالوا: فلا يجوز أن يكون دَعَاهُم إلى قتال أهل مكة وهوازن عقيب عام الفتح؛ لأن هؤلاء هم الذين دعوا إليهم عام الحديبية، ومن لم يكن منهم فهو من جنسهم، ليس هو أشد بأسًا منهم، كلهم عربٌ من أهل الحجاز، وقتالهم من جنس واحد، وأهل مكة ومن حولها كانوا أشد بأسًا وقتالاً للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر وأحد والخندق من أولئك، وكذلك في غير ذلك من السرايا.
وما ذكره في الحديث من قوله (حربك حربي) لم يذكر له إسنادًا، فلا يقوم به حجة، فكيف وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث.
وأما قول الرافضي: (إن الداعي جاز أن يكون عليًّا – دون من قبله من الخلفاء – لمّا قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين) يعني: أهل الجمل وصفين والحرورية والخوارج.
فيقال له: هذا باطل قطعًا من وجوه:(2/603)
أحدها: أن هؤلاء لم يكونوا أشد بأسًا من بني جنسهم، بل معلوم أن الذين قاتلوه يوم الجمل كانوا أقل من عسكره، وجيشه كانوا أكثر منهم.
وكذلك الخوارج كان جيشه أضعافهم، وكذلك أهل صفّين كان جيشه أكثر منهم، وكانوا من جنسهم، فلم يكن في وصفهم بأنهم أولو بأسٍ شديد ما يوجب امتيازهم عن غيرهم.
ومعلوم أن بني حنيفة وفارس والروم كانوا في القتال أشدُّ بأسًا من هؤلاء بكثير، ولم يحصل في أصحاب عليّ من الخوارج من استحرار القتل ما حصل في جيش الصدِّيق، الذين قاتلوا أصحاب مسيلمة، وأما فارس والروم فلا يشك عاقل أن قتالهم كان أشد من قتال المسلمين العرب بعضهم بعضًا، وإن كان قتال العرب للكفّار في أول الإسلام كان أفضل وأعظم، فذاك لقلة المؤمنين وضعفهم في أول الأمر، لا أن عدوهم كان أشدّ بأسًا من فارس والروم.
الوجه الثاني: أن عليًّا لم يدع ناسًا بعيدين منه إلى قتال أهل الجمل وقتال الخوارج، ولما قدم البصرة لم يكن في نيّته قتال أحدٍ، بل وقع القتال بغير اختيار منه ومن طلحة والزبير، وأما الخوارج فكان بعض عسكره يكفيهم، لم يدع أحدًا إليهم من أعراب الحجاز.
الثالث: أنه لو قُدِّر أن عليًّا تجب طاعته في قتال هؤلاء، فمن الممتنع أن يأمر الله بطاعة من يقاتل أهل الصلاة لردهم إلى طاعة وليّ الأمر، ولا يأمر بطاعة من يقاتل الكفار ليؤمنوا بالله ورسوله.
ومعلوم أن من خرج من طاعة عليّ ليس بأبعد عن الإيمان بالله ورسوله ممن كذّب الرسول والقرآن، ولم يقرّ بشيء مما جاء به الرسول، بل هؤلاء أعظم ذنبًا، ودعاؤهم إلى الإسلام أفضل، وقتالهم أفضل، إن قُدِّر أن الذين قاتلوا عليًّا كفّار.
وإن قيل: هم مرتدّون، كما تقوله الرافضة، فمعلوم أن من كانت ردّته إلى أن يؤمن برسولٍ آخر غير محمد، كأتباع مسيلمة الكذّاب، فهو أعظم ردة ممن لم يقرّ بطاعة الإمام،مع إيمانه بالرسول.(2/604)
فبكل حال لا يُذكر ذنبٌ لمن قاتله عليٌّ إلا وذنب من قاتله الثلاثة أعظم، ولا يُذكر فضلٌ ولا ثواب لمن قاتل مع عليّ إلا والفضل والثواب لمن قاتل مع الثلاثة أعظم.
هذا بتقدير أن يكون من قاتله عليّ كافرًا، ومعلوم أن هذا قول باطل، لا يقوله إلا حثالة الشيعة، وإلا فعقلاؤهم لا يقولون ذلك، وقد علم بالتواتر عن عليّ وأهل بيته أنهم لم يكونوا يكفّرون من قاتل عليًّا، وهذا كله إذا سُلِّم أن ذلك القتال كان مأمورًا به، كيف وقد عُرف نزاع الصحابة والعلماء بعدهم في هذا القتال: هل كان من باب قتال البغاة الذي وجد في شرط وجوبه القتال فيه، أم لم يكن من ذلك لانتفاء الشرط الموجب للقتال؟!
والذي عليه أكابر الصحابة والتابعين أن قتال الجمل وصفّين لم يكن من القتال المأمور به، وأن تركه أفضل من الدخول فيه، بل عدُّوه قتال فتنة.
وعلى هذا جمهور أهل الحديث، وجمهور أئمة الفقهاء.
الوجه الرابع: أن الآية لا تتناول القتال مع علي قطعًا؛ لأنه قال: ((تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)) فوصفهم بأنهم لا بد فيهم من أحد أمرين: المقاتلة، أو الإسلام، ومعلوم أن الذين دعا إليهم عليّ فيهم خلق لم يقاتلوه ألبتة، بل تركوا قتاله فلم يقاتلوه ولم يقاتلوا معه، فكانوا صنفًا ثالثًا: لا قاتلوه ولا قاتلوا معه ولا أطاعوه، وكلهم مسلمون، وقد دل على إسلامهم القرآن والسنة وإجماع الصحابة: عليٌّ وغيره.
قال تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) [الحجرات:9] ، فوصفهم بالإيمان مع الاقتتال والبغي، وأخبَر أنهم إخوة وأن الأُخوّة لا تكون إلا بين المؤمنين، لا بين مؤمن وكافر.(2/605)
وأما تكفير هذا الرافضي وأمثاله لهم، وجعل رجوعهم إلى طاعة عليّ إسلامًا، لقوله صلى الله عليه وسلم -فيما زعمه-: يا عليّ حربك حربي.
فيقال: من العجائب وأعظم المصائب على هؤلاء المخذولين أن يثبتوا مثل هذا الأصل العظيم، بمثل هذا الحديث الذي لا يوجد في شيء من دواوين أهل الحديث التي يعتمدون عليها، لا هو في الصحاح ولا السنن ولا المسانيد ولا الفوائد، ولا غير ذلك مما يتناقله أهل العلم بالحديث ويتداولونه بينهم، ولا هو عندهم لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف، بل هو أخسّ من ذلك، وهو من أظهر الموضوعات كذبًا، فإنه خلاف المعلوم المتواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنه جعل الطائفتين مسلمين، وأنه جعل ترك القتال في تلك الفتنة خيرًا من القتال فيها، وأنه أثنى على من أصلح به بين الطائفتين.
(فصل)
قال الرافضي: (وأما كونه أنيسه في العريش يوم بدر فلا فضل فيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أنسه بالله مغنيًا له عن كل أنيس، لكن لما عرف النبي صلى الله عليه وسلم أن أمره لأبي بكر بالقتال يؤدي إلى فساد الحال، حيث هرب عدة مرار في غزواته، وأيّما أفضل: القاعد عن القتال، أو المجاهد بنفسه في سبيل الله؟).
الجواب: أن يُقال لهذا المفتري الكذّاب: ما ذكرته من أظهر الباطل من وجوه:
أحدها: أن قوله: (هرب عدة مرار في غزواته) يقال له: هذا الكلام يدل على أن قائله من أجهل الناس بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحواله، والجهل بذلك غير منكر من الرافضة؛ فإنهم من أجهل الناس بأحوال الرسول، وأعظمهم تصديقًا بالكذب فيها، وتكذيبًا بالصدق منها.
وذلك أن غزوة بدر هي أوّل مغازي القتال، لم يكن قبلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأبي بكر غزاة مع الكفّار أصلاً.(2/606)
الثاني: أن أبا بكر رضي الله عنه لم يهرب قط، حتى يوم أُحد لم ينهزم لا هو ولا عمر، وإنما كان عثمان تولّى، وكان من عفا الله عنه، وأما أبو بكر وعمر فلم يقل أحد قط: إنهما انهزما مع من انهزم، بل ثبتا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حُنين، كما تقدّم ذلك عن أهل السيرة، لكن بعض الكذّابين ذكر أنهما أخذا الراية يوم حُنين، فرجعا ولم يُفتح عليهما، ومنهم من يزيد في الكذب ويقول: إنهما انهزما مع من انهزم، وهذا كذب كله.
الثالث: أنه لو كان في الجبن بهذه الحال لم يخصّه النبي صلى الله عليه وسلم دون أصحابه بأن يكون معه في العريش، بل لا يجوز استصحاب مثل هذا في الغزو، فإنه لا ينبغي للإمام أن يستصحب مخذلاً ولا مرجفًا، فضلاً عن أن يقدِّم على سائر أصحابه، ويجعله معه في عريشه.
الرابع: أن يُقال: قد علم كل من علم السيرة أن أبا بكر كان أقوى قلبًا من جميع الصحابة، لا يقاربه في ذلك أحد منهم، فإنه من حين بعث الله رسوله إلى أن مات أبو بكر لم يزل مجاهدًا ثابتًا مقدامًا شجاعًا، لم يُعرف قط أنه جبن عن قتال عدوّ، بل لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعفت قلوب أكثر الصحابة، وكان هو الذي يثبّتهم، حتى قال أنس: (خطبنا أبو بكر ونحن كالثعالب، فما زال يشجّعنا حتى صرنا كالأسود).
ورُوي أن عمر قال: يا خليفة رسول الله، تألّف الناس! فأخذ بلحيته وقال: يا ابن الخطاب: أجبّار في الجاهلية خوّار في الإسلام؟! علام أتألفهم: على حديث مفترى أم على شعر مفتعل؟!
الخامس: قوله: (أيّما أفضل: القاعد عن القتال أو المجاهد بنفسه في سبيل الله؟).
فيقال: بل كونه مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال هو من أفضل الجهاد؛ فإنه هو الذي كان العدو يقصده، فكان ثُلُثُ العسكر حوله يحفظونه من العدو، وثلثه اتّبع المنهزمين، وثلثه أخذوا الغنائم، ثم إن الله قسمها بينهم كلهم.
السادس قوله: (إن أنس النبي صلى الله عليه وسلم بربّه كان مُغنيًا له عن كل أنيس).(2/607)
فيقال: قول القائل: إنه كان أنيسه في العريش، ليس هو من ألفاظ القرآن والحديث، ومن قاله -وهو يدري ما يقول- لم يُرد به أنه يؤنسه لئلا يستوحش، بل المراد أنه كان يعاونه على القتال، كما كان من هو دونه يعاونه على القتال.
ففضيلة الصدِّيق مختصة به لم يشركه فيها غيره، وفضيلة عليّ مشتركة بينه وبين سائر الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين.
الوجه السابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم - هو وأبو بكر - خرجا بعد ذلك من العريش، ورماهم النبي صلى الله عليه وسلم الرمية التي قال الله فيها: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)) [الأنفال:17] والصدِّيق قاتلهم حتى قال له ابنه عبد الرحمن: قد رأيتك يوم بدر فصدفت عنك، فقال: لكنّي لو رأيتك لقتلتك.
(فصل)
قال الرافضي: (وأما إنفاقه على النبي صلى الله عليه وسلم فكذب، لأنه لم يكن ذا مال، فإن أباه كان فقيرًا في الغاية، وكان يُنادى على مائدة عبد الله بن جُدعان كل يوم بمدّ يقتات به، ولو كان أبو بكر غنيًا لكفى أباه، وكان أبو بكر معلمًا للصبيان في الجاهلية، وفي الإسلام كان خيّاطًا، ولما وَلِيَ أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة، فقال: إني محتاج إلى القوت، فجعلوا له كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال).
والجواب: أن يقال: أولاً: من أعظم الظلم والبهتان أن ينكر الرجل ما تواتر به النقل، وشاع بين الخاص والعام، وامتلأت به الكتب: كتب الحديث الصحاح، والمسانيد والتفسير، والفقه، والكتب المصنّفة في أخبار القوم وفضائلهم، ثم يدَّعي شيئًا من المنقولات التي لا تُعلم إلا بمجرد قوله، ولا ينقله بإسناد معروف ولا أضافه إلى كتاب يعرف يوثق به، ولا يذكر ما قاله، فلو قدَّرنا أنه ناظر أجهل الخلق لأمكنه أن يقول له: بل الذي ذكرت هو الكذب، والذي قاله منازعوك هو الصدق، فكيف تخبر عن أمر كان بلا حجة أصلاً، ولا نقل يُعرف به ذلك؟ ومن الذي نقل من الثقات ما ذكره عن أبي بكر؟(2/608)
ثم يُقال: أما إنفاق أبي بكر ماله، فمتواتر منقول في الحديث الصحيح من وجوه كثيرة، حتى قال: (ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر)(1). وقال: (إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر)(2). وثبت عنه أنه اشترى المعذَّبين من ماله: بلالا، وعامر بن فهيرة، اشترى سبعة أنفس.
وأما قول القائل: (إن أباه كان يُنادى على مائدة عبد الله بن جُدعان).
فهذا لم يذكر له إسنادًا يُعرف به صحته، ولو ثبت لم يضر؛ فإن هذا كان في الجاهلية قبل الإسلام، فإن ابن جدعان مات قبل الإسلام، وأما في الإسلام فكان لأبي قحافة ما يغنيه، ولم يُعرف قط أن أبا قحافة كان يسأل الناس، وقد عاش أبو قحافة إلى أن مات أبو بكر، وورث السدس، فردَّه على أولاده لِغِنَاه عنه.
وقوله: (إن أبا بكر كان معلّما للصبيان في الجاهلية).
فهذا: من المنقول الذي لو كان صدقًا لم يقدح فيه، بل يدلّ على أنه كان عنده علم ومعرفة.
ولكن كلام الرافضة من جنس كلام المشركين الجاهلية، يتعصبون للنسب والآباء، لا للدين، ويعيبون الإنسان بما لا ينقص إيمانه وتقواه، وكل هذا من فعل الجاهلية، ولهذا كانت الجاهلية ظاهرة عليهم، فهم يشبهون الكفّار من وجوه خالفوا بها أهل الإيمان والإسلام.
وقوله: (إن الصديق كان خيّاطًا في الإسلام، ولما وَلِيَ أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة).
كذب ظاهر، يعرف كل أحد أنه كذب، وإن كان لا غضاضة فيه لو كان حقًّا؛ فإن أبا بكر لم يكن خيَّاطًا، وإنما كان تاجرًا، تارة يسافر في تجارته، وتارة لا يسافر، وقد سافر إلى الشام في تجارته في الإسلام، والتجارة كانت أفضل مكاسب قريش، وكان خيار أهل الأموال منهم أهل التجارة، وكانت العرب تعرفهم بالتجارة. ولما ولي أراد أن يتّجر لعياله، فمنعه المسلمون، وقالوا: هذا يشغلك عن مصالح المسلمين.
__________
(1) تقدم مرارًا.
(2) تقدم تخريجه.(2/609)
(فصل)
وقوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة غنيًا بمال خديجة، ولم يحتج إلى الحرب).
والجواب: أن إنفاق أبي بكر لم يكن نفقة على النبي صلى الله عليه وسلم في طعامه وكسوته؛ فإن الله قد أغنى رسوله عن مال الخلق أجمعين، بل كان معونةً له على إقامة الإيمان، فكان إنفاقه فيما يحبه الله ورسوله، لا نفقة على نفس الرسول، فاشترى المعذَّبين، مثل: بلال، وعامر بن فهيرة،وزنّيرة، وجماعة.
(فصل)
وقوله: (وبعد الهجرة لم يكن لأبي بكر شيء ألبتة).
فهذا. كذب ظاهر، بل كان يعين النبي صلى الله عليه وسلم بماله، وقد حثّ النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فجاء بماله كله، وأصحاب الصُّفة كانوا فقراء، فحث النبي صلى الله عليه وسلم على طعمتهم، فذهب بثلاثة، كما في الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: إن أصحاب الصفة كانوا ناسًا فقراء، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس وسادس -أو كما قال- وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة، وذكر الحديث(1).
(فصل)
وأما قوله: (ثم لو أنفق لوجب أن ينزل فيه قرآن، كما أنزَلَ في عليّ: ((هَلْ أَتَى)))
والجواب: أما نزول: ((هَلْ أَتى)) في عليّ، فمما اتفق أهل العلم بالحديث عَلَى أنه كذب موضوع، وإنما يذكره من المفسّرين من جرت عادته بذكر أشياء من الموضوعات.
__________
(1) انظر: البخاري (1/120) و(4/194).(2/610)
والدليل الظاهر على أنه كذب: أن سورة ((هَلْ أَتى)) مكيّة باتفاق الناس، نزلت قبل الهجرة، وقبل أن يتزوج عليّ بفاطمة، ويولد الحسن والحسين، وقد بُسط الكلام على هذه القضية في غير موضع،ولم ينزل قط قرآن في إنفاق عليّ بخصوصه، لأنه لم يكن له مال، بل كان قبل الهجرة في عيال النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد الهجرة كان أحيانًا يؤجّر نفسه: كل دلو بتمرة، ولما تزوّج بفاطمة لم يكن له مهر إلا درعه، وإنما أنفق على العرس ما حصل له من غزوة بدر.
وأما الصدِّيق رضي الله عنه فكل آية نزلت في مدح المنفقين في سبيل الله فهو أول المرادين بها من الأمة، مثل قوله تعالى: ((لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا)) [الحديد:10] ، وأبو بكر أفضل هؤلاء وأولهم.
وكذلك قوله: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِم وَأَنْفُسِهِم)) [التوبة:20] .
وقوله: ((وَسَيُجَنَّبُهُا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)) [الليل:18] ، فذكر المفسِّرون، مثل: ابن جرير الطبري، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وغيرهما، بالأسانيد عن عروة بن الزبير وعبد الله بن الزبير وسعيد بن المسيب وغيرهم، أنها نزلت في أبي بكر(1).
(فصل)
قال الرافضي: (وأما تقديمه في الصلاة فخطأ، لأن بلالاً لمّا أذن بالصلاة، أمرت عائشة أن يُقدم أبا بكر، فلما أفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع التكبير، فقال: من يصلِّي بالناس، فقالوا: أبو بكر. فقال: أخرجوني، فخرج بين عليّ والعباس، فنحّاه عن القبلة، وعزله عن الصلاة، وتولى هو الصلاة).
والجواب: أن هذا من الكذب المعلوم عند جميع أهل العلم بالحديث.
__________
(1) انظر: تفسير الطبري (30/228).(2/611)
ويقال له: أولاً: من ذكر ما نقلته بإسناد يوثق به وهل هذا إلا في كتب من نقله مرسلاً من الرافضة، الذين هم من أكذب الناس وأجهلهم بأحوال الرسول؟ مثل: المفيد بن النعمان، والكراجكي، وأمثالهما من الذين هم من أبعد الناس عن معرفة حال الرسول وأقواله وأعماله.
ويقال: ثانيًا: هذا كلام جاهل يظن أن أبا بكر لم يصّل بهم إلا صلاةً واحدة، وأهل العلم يعلمون أنه لم يزل يصلّي بهم حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذنه واستخلافه له في الصلاة، بعد أن راجعته عائشة وحفصة في ذلك، وصلّى بهم أيامًا متعددة.
وفي أول الأمر أرسل إليه رسلاً فأمروه بذلك، ولم تكن عائشة هي المبلّغة لأمره، ولا قالت لأبيها: إنه أمره، كما زعم هؤلاء الرافضة المفترون.
فقول هؤلاء الكذّابين: إن بلالاً لما أذّن أمرته عائشة أن يقدّم أبا بكر، كذب واضح: لم تأمره عائشة أن يقدّم أبا بكر، ولم تأمره بشيء ولا أخذ بلال ذلك عنها، بل هو الذي آذنه بالصلاة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لكل من حضره لبلال وغيره: (مروا أبا بكر فليصلّ بالناس) فلم يخصّ عائشة بالخطاب، ولا سمع ذلك بلال منها.
وقوله: (فلما أفاق سمع التكبير، فقال: من يصلي بالناس؟ فقالوا: أبو بكر. فقال: أخرجوني).
فهو كذب ظاهر؛ فإنه قد ثبت بالنصوص المستفيضة التي اتفق أهل العلم بالحديث على صحتها أن أبا بكر صلّى بهم أيامًا قبل خروجه، كما صلّى بهم أيامًا بعد خروجه، وأنه لم يصلّ بهم في مرضه غيره.
ثم يقال: من المعلوم المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم مرض أيامًا متعددة، عجز فيها عن الصلاة بالناس أيامًا، فمن الذي كان يصلّي بهم تلك الأيام غير أبي بكر؟ ولم ينقل أحد قط -لا صادق ولا كاذب- أنه صلّى بهم غير أبي بكر، لا عمر ولا عليّ ولا غيرهما، وقد صلُّوا جماعة، فعُلم أن المصلّي بهم كان أبا بكر.(2/612)
ومن الممتنع أن يكون الرسول لم يعلم ذلك، ولم يستأذنه المسلمون فيه؛ فإن مثل هذا ممتنع عادةً وشرعًا، فعُلم أن ذلك كان بإذنه، والله أعلم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وأزواجه ورضي الله عن أبي بكر وعمر وجميع أصحاب نبيه أتم تسليم وأزكى صلاة وحشرنا الله في زمرتهم.(2/613)