بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد.
فإن للإيمان بالقدر مكانة عالية في دين الإسلام؛ فهو أحد أركان الإيمان الستة، وهي الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
ومما يدل على أهميته كثرة وروده في نصوص الشرع، وما يترتب على الإيمان به من الثمرات العظيمة، وما يترتب على الكفر به والضلال في فهمه من الشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة.
ولهذا فإن فهم هذا الباب _ ولو على سبيل الإجمال _ من الأهمية بمكان.
والإيمان بالقَدَر أمر فطري ومع ذلك فهو أصعب أبواب العقيدة.
ولا يمكن أن يفهم فهماً سليماً خالياً من الضلال والتعقيد إلا كما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، كما فهمه سلف هذه الأمة الكرام.
ولقد يسر الله لي كتابة مجلدٍ عنوانه =الإيمان بالقضاء والقدر+ وقد تكرم بقراءته وتقديمه سماحة الشيخ الإمام العلامة شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز ×.
وقد طبع ذلك الكتاب مراراً، ولله الحمد.
ورغبة في تقريبه، وزيادة نشره وتداوله، وحرصاً على أن يترجم إلى لغات أخرى _ جاءت فكرة اختصاره، وتلخيصه؛ حيث أشار بذلك غير واحد من الفضلاء.
وإليك أيها القارىء هذه الصفحات التي تبين مفهوم القدر، وتحل بعض الإشكالات فيه، وتوضح ثمرات الإيمان به.
ولأجل ألا يكبر حجم هذا الكتاب حذفت حواشيه، وتركت كثيراً من التفصيلات؛ فمن أراد الاستزادة، وذكر الهوامش والحواشي فليرجع إلى الكتاب الأصل؛ فإلى محتويات هذا الكتيب، والله المستعان، وعليه التكلان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
أورد الكاتب المشهور ( ديل كارنيجي) في كتابه الذائع الصيت: (دع القلق وابدأ الحياة) _مقالة بعنوان: (عشت في جنة الله) للكاتب المشهور (ر. ن. س. بودلي) الذي ألف كتابَي: (رياح على الصحراء) و(الرسول) وأربعة عشر كتاباً.(1/1)
يقول (بودلي): =في عالم 1918م وليت ظهري العالم الذي عرفته طيلة حياتي، ويممت شطر أفريقيا الشمالية الغربية، حيث عشت بين الأعراب في الصحراء، وقضيت هناك سبعة أعوام، وأتقنت خلالها لغة البدو، وكنت أرتدي زيهم، وآكل من طعامهم، وأتخذ مظاهرهم في الحياة، وغدوت مثلهم أمتلك أغناماً، وأنام كما ينامون في الخيام، وقد تعمقت في دراسة الإسلام، حتى أنني ألفت كتاباً عن محمد " عنوانه (الرسول) وكانت تلك الأعوام السبعة التي قضيتها مع هؤلاء البدو الرُّحل من أمتع سني عمري، وأحفلها بالسلام، والاطمئنان، والرضا بالحياة.
وقد تعلمت من عرب الصحراء كيف أتغلب على القلق؛ فهم بوصفهم مسلمين يؤمنون بالقضاء والقدر، وقد ساعدهم هذا الإيمان على العيش في أمان، وأخذ الحياة مأخذاً سهلاً هَيِّناً، فهم لا يتعجلون أمراً، ولا يلقون بأنفسهم بين براثن الهم قلقاً على أمر.
إنهم يؤمنون بأن ما قُدِّر يكون، وأن الفرد منهم لن يصيبه إلا ما كتب الله له.
وليس معنى هذا أنهم يتواكلون أو يقفون في وجه الكارثة مكتوفي الأيدي، كلا+.
ثم أردف قائلاً: =ودعني أضرب لك مثالاً لما أعنيه: هَبَّت ذات يوم عاصفة عاتية حملت رمال الصحراء وعبرت بها البحر الأبيض المتوسط، ورمت بها وادي (الرون) في فرنسا، وكانت عاصفة حارةً شديدة الحرارة، حتى أحسست أن شعر رأسي يتزعزع من منابته؛ لفرط الحر، وأحسست من فرط القيظ كأنني مدفوع إلى الجنون.
ولكنَّ العرب لم يشكوا إطلاقاً، فقد هزوا أكتافهم، وقالوا كلمتهم المأثورة: (قضاء ومكتوب).
لكنهم ما إن مرت العاصفة حتى اندفعوا إلى العمل بنشاط كبير، فذبحوا صغار الخراف قبل أن يودي القيظ بحياتها، ثم ساقوا الماشية إلى الجنوب نحو الماء.
فعلوا هذا كله في صمت وهدوء، دون أن تبدو من أحدهم شكوى.(1/2)
قال رئيس القبيلة _الشيخ_: لم نفقد الشيء الكبير؛ فقد كنا خليقين أن نفقد كل شيء، ولكن حمداً لله وشكراً؛ فإن لدينا نحو أربعين في المائة من ماشيتنا، وباستطاعتنا أن نبدأ العمل من جديد+.
ثم قال بودلي: =وثمة حادثة أخرى، فلقد كنا نقطع الصحراء بالسيارة يوماً، وانفجر أحد الإطارات، وكان السائق قد نسي استحضار إطار احتياطي، وتولاني الغضب، وانتابني القلق والهم، وسألت صحبي من الأعراب: ماذا عسى أن نفعل؟
فذكروني أن الاندفاع إلى الغضب لن يجدي فتيلاً، بل هو خليق أن يدفع الإنسان إلى الطيش والحمق.
ومن ثم درجت بنا السيارة وهي تجري على ثلاث إطارات ليس إلا، ولكنها ما لبثت أن كفت عن السير، وعلمت أن البنزين قد نفد.
وهنالك _أيضاً_ لم تثر ثائرة أحدٍ من رفاقي الأعراب، ولا فارقهم هدوؤهم، بل مضوا يذرعون الطريق سيراً على الأقدام. +
وبعد أن استعرض بودلي تجربته مع عرب الصحراء علق قائلاً: =قد أقنعتني الأعوام السبعة التي قضيتها في الصحراء بين الأعراب الرُّحل _أنَّ الملتاثين، ومرضى النفوس، والسِّكِّرين الذين تحفل بهم أمريكا وأوربا ما هم إلا ضحايا المدنية التي تتخذ السرعة أساساً لها.
وإنني لم أعانِ شيئاً من القلق قط وأنا أعيش في الصحراء، بل هنالك في جنة الله وجدت السكينة، والقناعة، والرضا. +
وأخيراً ختم كلامه بقول: =وخلاصة القول: أنني بعد انقضاء سبعة عشر عاماً على مغادرتي الصحراء _مازلت أتخذ موقف العرب حيال قضاء الله، فأقبل الحوادث التي لا حيلة لي فيها بالهدوء والامتثال، والسكينة.
ولقد أفلحت هذه الطباع التي اكتسبتها من العرب في تهدئة أعصابي أكثر مما تفلح آلف المسكنات والعقاقير الطبية. +
وبعد أن قرأت هذه القصة، إليك أيها القارئ تفصيلاً ميسراً موجزاً عن الإيمان بالقدر وبعض مسائله، وثمراته وغير ذلك في الصفحات التالية.
أولا: تعريف الإيمان بالقدر: يمكن أن يعرف بأحد التعريفات التالية:(1/3)
ا_ هو تقدير الله للكائنات حسب ما سبق به علمه، واقتضته حكمته.
ب_ هو علم الله المحيط، وكتابته، ومشيئته وخلقه لكل شيء.
ثانياً: مراتب القدر وأركانه: من خلال ما مضى يتبين لنا أن القدر يقوم على مراتب أربع تسمى أركان القدر أو مراتبه.
وهذه الأركان هي المدخل لفهم باب القدر، ولا يتم الإيمان به إلا بتحقيقها كلها، وهي:
المرتبة الأولى: العلم: وهو الإيمان بأن الله عالم بكل شيء جملةً وتفصيلاً ماضياً ومستقبلاً، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله، أو بأفعال عباده، أو بما يجري في الكون؛ فعلمه محيط بما كان، وما سيكون، وما لم يكن لوكان كيف يكون.
كما أنه يعلم خلقه قبل أن يخلقهم، ويعلم أرزاقهم، وآجالهم، وأعمالهم، وجميع حركاتهم وسكناتهم.
والأدلة على هذا المرتبة كثيرة جداً، قال الله _تعالى_: [عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ] سبأ: 3.
المرتبة الثانية: الكتابة: وهي الإيمان بأن الله كتب ما سبق به علمه من مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ.
قال الله _تعالى_:[أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ]الحج: 70.
وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص _رضي الله عنهما_ قال سمعت رسول الله " يقول: =كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. +
وقال ": =ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار، إلا وكتبت شقية أوسعيدة+ رواه مسلم.
المرتبة الثالثة: المشيئة: وهذه المرتبة تقتضي الإيمان بمشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة؛ فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حركة ولا سكون ولا هداية، ولا إضلال إلا بمشيئته.(1/4)
قال الله _عزوجل_: [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ] القصص: 68.
وقال: [وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ] التكوير: 29.
وقال النبي": =إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحد يصرفها حيث يشاء+ رواه مسلم.
المرتبة الرابعة: الخلق: وهذه المرتبة تقتضي الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة بذواتها وصفاتها، وحركاتها، وأفعالها، وبأن كل من سوى الله مخلوق مُوْجَد من العدم، كائن بعد أنْ لم يكن.
والأدلة على هذه المرتبة كثيرة جداً، منها قول الله_تعالى_: [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور] الأنعام: 1.
وقال: [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] الملك: 2.
ومما يدخل في هذه المرتبة أفعال العباد؛ فهي داخلة في عموم خلقه _عز وجل_ فهي من الله خلقاً وإيجاداً وتقديراً، وهي من العباد فِعلاً وكسباً، فالله هو الخالق لأفعالهم، وهم الفاعلون لها.
قال الله _تعالى_: [اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ] الرعد: 16.
هذه هي مراتب القدر التي لا يتم الإيمان بالقدر إلا بها.
ينقسم التقدير الإلهي باعتبار عمومه وخصوصه إلى أربعة أقسام.
1_ التقدير العام: وهو تقدير الرب لجميع الكائنات بمعنى علمه بها وكتابته لها.
ويدل على هذا النوع أدلته كثيرة، منها قوله _تعالى_: [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] الحج:70.
وقال النبي ": =كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.+ رواه مسلم.
2_ التقدير العمري: وهو تقدير كل ما يجري على العبد في حياته إلى نهاية أجله، وكتابةُ شقاوته أو سعادته.(1/5)
وقد دل على ذلك قول النبي ": =إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك؛ فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وشقي أو سعيد.+ رواه البخاري ومسلم.
3_ التقدير السنوي: وذلك في ليلة القدر من كل سنة، ويدل عليه قوله _تعالى_: [فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ] الدخان :4.
وقوله _عز وجل_: [تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ[4] سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ[5] القدر :5.
قيل في تفسرها: يكتب فيها _أي في ليلة القدر_ ما يحدث في السنة من موت، وحياة، وعز، وذل، ورزق، ومطر حتى الحجاج يقال: يحج فلان، ويحج فلان.
4. التقدير اليومي: ويدل عليه قول الله _تعالى_: [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ]الرحمن: 29.
قيل في تفسيرها: شأنه أن يعز ويذل، ويرفع ويخفض، ويعطي ويمنع، ويغني ويُفقر، ويضحك ويبكي، ويميت ويحيي إلى غير ذلك.
دل على هذا الركن العظيم من أركان الإيمان _الكتاب، والسنة، والإجماع، والفطرة، والعقل، والحس.
أما أدلة القرآن الكريم: فكثيرة جداً وقد مر شيء من ذلك، ومن تلك الأدلة _زيادة على ما مضى_ قوله _تعالى_: [وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً] الأحزاب: 38، وقوله: [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ]القمر: 49، وقوله: [وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ]الحجر: 21.
وأما السنة: فكما قال " كما في حديث جبريل _عليه السلام_: =وتؤمن بالقدر خيره وشره. + رواه مسلم.
وروى مسلم _أيضاً_ عن طاووس قال: =أدركت ناساً من أصحاب رسول الله " يقولون: كل شيء بقدر، قال: وسمعت عبدالله بن عمر يقول: كل شيء بقدر حتى العجز والكيْس، أو الكيس والعجز. +(1/6)
وقال ": =وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَرُ اللهِ وما شاء فعل+ رواه مسلم.
أما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره من الله، قال النووي ×: =وقد تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة، وأهل الحل والعقد من السلف والخلف _على إثبات قدر الله _سبحانه وتعالى_. +
وقال ابن حجر ×: =ومذهب السف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله _تعالى_. +
أما الفطرة: فإن الإيمان بالقدر أمر معلوم بالفطرة قديماً وحديثاً، ولم ينكره إلا الشواذ من المشركين من الأمم، ولم يقع الخطأ في نفي القدر وإنكاره، وإنما وقع في فهمه على الوجه الصحيح؛ ولهذا قال _سبحانه_ من المشركين [سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا]الأنعام: 148، فهم أثبتوا المشيئة لله، ولكنهم احتجوا بها على الشرك، ثم بيَّن الله أن هذا هو شأنُ من كان قبلهم، فقال: [كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ] الأنعام: 148.
وكانت العرب في الجاهلية تعرف القدر ولا تنكره، ولم يكن هناك من يرى أن الأمر مستأنف.
ولم يقل أحد منهم بنفيه إطلاقاً، كما صرح بذلك أحد كبار علماء العربية، وهو العباس أحمد بن يحيى ثعلب × بقوله: =لا اعلم عربياً قدرياً، قيل له: يقع في قلوب العرب القول بالقدر؟ قال: معاذ الله، ما في العرب إلا مثبت القدر خيره وشره أهل الجاهلية والإسلام، وكلامهم كثير بيِّن+.
أما أدلة العقل: فهي أن العقل الصحيح يقطع بأن الله هو خالق هذا الكون، ومدبره، ومالكه، ولا يمكن أن يوجد على هذا النظام البديع، التناسق التآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب والمسببات هكذا صدفة؛ إذ الموجود صدفة ليس له نظام في أصل وجوده، فكيف يكون منتظماً بقائه وتطوره؟
فإذا تقرر عقلاً أن الله هو الخالق لزم ألا يقع شيء في ملكه إلا ما قد شاءه وقدَّره.(1/7)
ومما يدل على هذا التقرير قوله _تعالى_: [الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاواتٍ ومِنَ الأرْض مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أنَّ اللهَ عَلَى كُلِ شَيءٍ قدِيرٌ وأنَّ اللهَ قَدْ أحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلما] الطلاق 12.
ثم إن تفاصيل القدر لا ينكرها العقل، بل هي مما يتفق معه تمام الاتفاق، كما سيمر بنا قريباً.
أما دلالة الحس: فنحن نشاهد ونسمع، ونقرأ أن الناس تستقيم أمورهم بالإيمان بالقضاء والقدر، وقد مرَّ شيء من ذلك عند الحديث عن ثمرات الإيمان بالقدر، فالمؤمنون به حقاً هم أسعد الناس وأصبرهم، وأشجعهم، وأكرمهم، وأكملهم، وأعقلهم.
ثم إن القدر =هو نظام التوحيد+ كما قال ابن عباس _رضي الله عنهما_، والتوحيد لا يستقيم إلا بالإيمان بالقضاء والقدر.
ولعل فيما سيمر في آخر هذا الكتاب من قصص لأناس انحرفوا في باب القدر شاهداً على ذلك.
ثم إن فيما أخبرنا الله ورسوله " من أمور الغيب المستقبلية التي وقعت، كما جاء الخبر _دليلاً حسياً واضحاً على أن الإيمان بالقدر حق وصدق.
ورد عن السلف الصالح أقوال جميلة، وكلمات مضيئة، تبين معنى القدر، وتدل على أهميته، وتحث على الإيمان به، وتوصي بالرضا بما يقدره الله ويقضيه، وتحذر من ضد ذلك.
كما ورد شيء من ذلك على ألسنة بعض الشعراء والحكماء؛ فمن ذلك ما يلي:
1_ قال الوليد ابن الصحابي الجليل عبادة بن الصامت ÷: =دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه أوصني، واجتهد لي.
فقال: أجلسوني، فلما أجلسوه قال: يا بني، إنك لن تجد طعم الإيمان، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله _تبارك وتعالى_ حتى تؤمن بالقدر خيره وشره.
قلت: يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟(1/8)
قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني إني سمعت رسول الله " يقول: =إن أول ما خلق الله _تعالى_ القلم، ثم قال: اكتب، فجرى بتلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. +
يا بني إن مِتَّ ولستَ على ذلك دخلت النار. +
2_ قال ابن عباس ÷: =القدر نظام التوحيد؛ فمن وحَّد الله، وآمن بالقدر تم توحيده، ومن وحد الله، وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده. +
3_ وقال _أيضاً_ =كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك. +
4_ قال عكرمة: =سُئل ابن عباس: كيف تَفَقَّد سليمانُ الهدهدَ من بين الطير؟
قال: إن سليمان _صلوات الله عليه_ نزل منزلاً فلم يدر ما بُعدُ الماء، وكان الهدهد مهندساً، قال: فأراد أن يسأله عن الماء ففقده.
قلت: وكيف يكون مهندساً، والصبي ينصب له الحِبَالة فيصيده؟
قال: إذا جاء القدر حال دون البصر. +
5_ قال الحسن ×: =إن الله خلق خلقاً، فخلقهم بقدر، وقسَّم الآجال بقدر، وقسم أرزاقهم بقدر، والبلاء والعافية بقدر. +
6_ وقال _أيضاً_: =من كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام. +
7_ وقال في مرضه الذي مات فيه: =إن الله قدر أجلاً، وقدر معه مرضاً وقدر معه معافاة، فمن كذب بالقدر فقد كذب بالقرآن، ومن كذب بالقرآن فقد كذب بالحق. +
8_ وهذه أبيات جميلة للشافعي × تبين حقيقة الإيمان بالقدر، قال عنها الإمام ابن عبدالبر × في كتابه (الانتقاء): =إنها من شعره الذي لا يُخْتَلَفُ فيه، وهو أصح شيء عنه. +
وقال: =وهذه الأبيات من أثبت شيء في الإيمان بالقدر. +
والأبيات هي:
وما شئتَ كان وإنْ لم أشأ ... وما شئتُ إن لم تشأ لم يكنْ
خَلقتَ العبادَ على ما علمتَ ... وفي العلم يجري الفتى والمُسِنْ
على ذا مننتَ وهذا خذلتَ ... وهذا أعنت وذا لم تُعِن
فمنهم شقيٌّ ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح ومنهم حسنْ(1/9)
يقول: (وما شئت) أي أنت يا رب (كان) أي بأمرك لا محالة؛ لأن مشيئتك نافذة، و (إن لم أشأ) أنا أيها العبد، و(ما شئتُ) أنا (إن لم تشأ) يا رب (لم يكن) لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئتك.
(خلقت العباد على ما علمت): أي حسب ما سبق به علمك الأزلي، (وفي العلم يجري الفتى والمسن): أي بمقتضى هذا العلم السابق يجري ويعمل الصغير والكبير، ولا يخرج أحد عن ذلك.
(على ذا مننت) رحمةً وتفضلاً، (وهذا خذلت) حكمة وعدلاً، (وهذا أعنت) بمنك وفضلك، (وذا لم تعن) بحكمتك وعدلك؛ (فمنهم شقي) ممن سبقت له الشقاوة، (ومنهم سعيد) ممن سبقت له الحسنى والسعادة، (ومنهم قبيح ومنهم حسن) فالله _عز وجل_ هو الذي يصورهم في الأرحام كيف يشاء.
9_ قال الإمام أحمد _رحمه الله_: =القدر قدرة الله. +
قال ابن القيم تعليقاً على هذه الكلمة: =واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جداً، وقال: هذا يدل على دقة علم أحمد وتَبَحُّره في معرفة أصول الدين.
وهو كما قال أبو الوفاء؛ فإنَّ إنكار القدر إنكار لقدرة الرب على خلق أعمال العباد، وكتابتها، وتقديرها. +
الواجب على الإنسان في هذا الباب أن يؤمن بقضاء الله، وقدره، وأن يؤمن بشرع الله، وأمره ونهيه، فعليه تصديق الخبر، وطاعة الأمر.
فإذا أحسن حَمِدَ الله، وإذا أساء استغفر الله، وعلم أن ذلك كله بقضاء الله وقدره؛ فإن آدم _عليه السلام_ لمَاَّ أذنب تاب، فاجتباه ربه وهداه، وإبليس أصرَّ واحتج بالقدر فلعنه الله وأقصاه، فمن تاب كان آدمياً، ومن أصرَّ واحتجَّ بالقدر صار إبليسياً، فالسعداء يتبعون أباهم آدم، والأشقياء يتبعون عدوهم إبليس.(1/10)
وبالجملة فعلى الإنسان أن يؤمن بمراتب القدر الأربع السابقة؛ وأنه لا يقع شيء إلا وقد علمه الله، وكتبه، وشاءه، وخلقه، ويؤمن _أيضاً_ بأن الله أمر بطاعته، ونهى عن معصيته، فيفعل الطاعة، ويترك المعصية، فإذا وفقه الله لفعل الطاعة وترك المعصية فليحمدِ الله، وليستمر على ذلك، وإن خُذِل ووُكل إلى نفسه فَفَعل المعصية، وترك الطاعة فعليه أن يستغفر ويتوب.
ثم إن على العبد _أيضاً_ أن يسعى في مصالحه الدنيوية، ويسلك الطرق الصحيحة الموصلة إليها، فيضرب في الأرض، ويمشي في مناكبها، فإن أتت الأمور على ما يريد حمد الله، وإن أتت على خلاف ما يريد تعزى بقدر الله، وعلم أن ذلك كله واقع بقدر الله _عز وجل_ وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وإذا علم العبد من حيث الجملة أن لله فيما خلق وما أمر به حكمة عظيمة كفاه هذا، ثم كلما ازداد علماً وإيماناً ظهر له من حكمة الله ورحمته ما يبهر عقله، ويبين له تصديق ما أخبر الله به في كتابه.
ولا يلزم كل أحد أن يعلم تفاصيل الحديث عن الإيمان بالقدر، بل يكفي هذا الإيمان المجمل.
وهو _ولله الحمد_ مقتضى الأدلة الشرعية، والفطرية، والعقلية، والحسية، لا تناقض فيه، ولا لبس.
الإيمان بالقدر _ على ما مرَّ _ لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية، وأن يكون له قدرة عليها، فقد دل على ذلك الشرع والواقع.
أما الشرع: فالأدلة على ذلك كثيرة جداً ومنها قوله _تعالى_: [فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً] النبأ: 39، وقوله: [فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ]البقرة: 223.
أما الواقع: فكل إنسان يعلم أن له مشيئةً، وقدرة يفعل بها ويترك، ويفرق بين ما يقع بإرادته، كالمشي، وما يقع بغير إرادته كالارتعاش.(1/11)
لكنَّ مشيئته، وقدرته واقعتان بمشيئة الله وقدرته، لقوله _تعالى_: [لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ[28]وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[29] التكوير.
فعل الأسباب لا ينافي الإيمان بالقدر، بل إن مباشرتها من تمام الإيمان بالقضاء والقدر.
ولهذا يجب على الإنسان _مع الإيمان بالقدر_ الاجتهادُ في العمل، والأخذ بأسباب النجاة، والالتجاء إلى الله _تعالى_ بأن ييسر له أسباب السعادة وأن يعينه عليها.
ونصوص الكتاب والسنة حافلة بالأمر باتخاذ الأسباب المشروعة في مختلف شؤون الحياة؛ فقد أَمَرتْ بالعمل، والسعي في طلب الرزق، واتخاذ العدد لمواجهة الأعداء، والتزود للأسفار، وغير ذلك.
قال _تعالى_: [فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ] الجمعة:10، وقال:[فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا]الملك: 15، وقال: [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]الأنفال:60، وأمر المسافرين للحج بالتزود، فقال: [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]البقرة: 197، وأمر بالدعاء والاستعانة، فقال: [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] غافر: 60، وقال: [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ] البقرة: 45.
وأمر باتخاذ الأسباب الشرعية التي تؤدي إلى رضوانه، وجنته، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وغير ذلك.
وحياة الرسول " وأصحابه، بل حياة المسلمين جميعاً، والسائرين على نهجهم _كلها شاهدة على أخذهم بالأسباب، والجد، والاجتهاد.
الإيمان بالقدر لا يمنح العاصي حجة على ترك الواجبات، أو فعل المعاصي.(1/12)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتِّفاق المسلمين، وسائر أهل الملل، وسائر العقلاء؛ فإن هذا لو كان مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس، وأخذ الأموال وسائر أنواع الفساد في الأرض، ويحتج بالقدر.
ونفَّسُ المحتجِّ بالقدر إذا اعتُدي عليه، واحتج المعتدي بالقدر لم يُقْبَل منه، بل يتناقض، وتناقض القول يدل على فساده، فالاحتجاج بالقدر معلوم الفساد في بداية العقول+.
ومما يؤيد ما ذكر ويؤكده أننا نرى الإنسان يحرص على ما يلائمه في أمور دنياه حتى يدركه، ولا يعدل عنه إلى ما لا يلائمه ثم يحتج على عدوله بالقدر.
فلِمَا ذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر؟!
وإليك مثالاً يوضح ذلك: لو أراد إنسان السفر إلى بلد، وهذا البلد له طريقان، أحدهما آمن مطمئن، والآخر كله فوضى واضطراب، وقتل، وسلب، فأيهما سيسلك؟
لا شك أنه سيسلك الطريق الأول، فلماذا لا يسلك في أمر الآخرة طريق الجنة دون طريق النار؟
ومما يمكن أن يردُّ به على المحتج بالقدر على ترك الواجبات، وفعل المعاصي _بناء على مذهبه_ أن يقال له: لا تتزوج؛ فإن كان الله قد قضى لك بِوَلد فسيأتيك، وإلا فلن، ولا تأكل ولا تشرب؛ فإن قدَّر الله لك شبعاً ورياً فسيكون، وإلا فلن، وإذا هاجمك أسد ضارٍ فلا تفر منه؛ فإن قدَّر الله لك النجاة فستنحو، وإن لم يقدرها لك فلن ينفعك الفرار، وإذا مَرِضْت فلا تتداوَ؛ فإن قدَّر الله لك شِفاءً شُفيت، وإلا فلن ينفعك الدواء، وهكذا...
فهل سيوافقنا على هذا القول أَوْ لا؟ إن وافقنا عَلِمْنا فساد عقله، وإن خالفنا علمنا فساد قوله، وبطلان حجته.
وبالجملة فإن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، أو ترك الطاعات احتجاج باطل في الشرع، والعقل، والواقع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×عن المحتجِّين بالقدر: =هؤلاء القوم إذا أصروا على هذا الاعتقاد كانوا كانوا أكفر من اليهود والنصارى. +(1/13)
يسوغ الاحتجاج بالقدر عند المصائب التي تحل بالإنسان كالفقر، والمرض، وفقد القريب، وتلف الزرع، وخسارة المال، وقتل الخطأ، ونحو ذلك؛ فهذا من تمام الرضا بالله ربَّاً، فالاحتجاج إنما يكون على المصائب، لا المعائب، فالسعيد يستغفر من المعائب، ويصبر على المصائب، كما قال _تعالى_: [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ] غافر: 55.
والشقي يجزع عند المصائب، ويحتج بالقدر على المعائب.
ويوضح ذلك المثال الآتي: لو أن رجلاً قتل آخر عن طريق الخطأ، ثم لامه من لامه، واحتج القاتل بالقدر، لكان احتاجه مقبولاً، ولا يمنع ذلك من أن يؤاخذ.
ولو قتل رجلٌ رجلاً عن طريق العمد ثم قُرِّع القاتل ووُبِّخ على ذلك، ثم احتج بالقدر، لم يكن الاحتجاج منه مقبولاً.
هذا السؤال يرد كثيراً، وهناك ما يجيب على هذا السؤال بأن الإنسان مسير لا مخير، كما أن هناك من يجيب بأنه مخير لا مُسَيَّر.
والحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال بهذا الإطلاق خطأ؛ ذلك أن الإجابة تحتاج إلى بعض التفصيل.
ووجه الخطأ في الإجابة: = بأن الإنسان مسير لا مخير+ تكمن فيما يَرِدُ على هذه الإجابة من إشكال؛ فإذا قيل: إنه مسير بإطلاق قيل: كيف يحاسب وهو مسير؟ وكيف يكون مسيراً ونحن نرى أن له مشيئةً وقدرةً واختياراً؟ وما العمل بالنصوص التي تثبت له المشيئة، والقدرة، والاختيار؟
أما إذا أجيب بأنه =مخير لا مسير+ فيقال: كيف يكون مُخَيَّراً ونحن نرى أنه قد ولد بغير اختياره؟ ويمرض بغير اختياره؟ ويموت بغير اختياره؟ إلى غير ذلك من الأمور الخارجة عن إرادته.
فإذا قيل: إنه =مخير في أفعاله التي تقع بإرادته واختياره+ قيل: وأفعاله الختيارية كذلك؛ فقد يريد أمراً، ويعزم على فعله، وهو قادر على ذلك فيفعله، وقد لا يفعله؛ فقد يعوقه ما يعوقه؛ إذاً فليس كل ما أراد فِعْلَه فَعَلَهُ؛ وهذا شيء مشاهد.(1/14)
ومن هنا يتبين لنا وجه الخطأ في هذا الجواب؛ فلو كان الإنسان مُسَيَّراً بإطلاق لما كان له قدرةٌ ومشيئةٌ، ولو كان مخيراً بإطلاق لفعل كل ما شاءه؛ فمن قال بالتسيير بإطلاق فهو ألصق بمذهب الجبرية الذين قالوا إنَّ العبد مجبور على فعله، وأنكروا أن يكون له قدرة ومشيئة وفعل.
ومن قال بالتخيير بإطلاق فهو ألصق بمذهب القدرية النفاة الذين قالوا: بأن الأمر أُنُفٌ، وأن العبد هو خالق فعله، وأنه مستقل بالإرادة والفعل.
فما الجواب _إذاً_ عن هذا السؤال؟ وما المخرج من هذا الإشكال؟
الجواب: أن الحق وسط بين القولين، وهدى بين هاتين الضلالتين؛ فيقال _وبالله التوفيق_: إن الإنسان مخيَّر باعتبار، ومسيَّر باعتبار؛ فهو مخير باعتبار أن له مشيئةً يختار بها، وقدرة يفعل بها؛ لقوله _تعالى_ [فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ] الكهف: 29، وقوله:[وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ]البلد: 10، وقوله: [فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ]البقرة:223، وقوله: [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ]آل عمران: 133.
ولقوله " فيما رواه مسلم: =احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز... + الحديث.
وقوله في الحديث الذي رواه البخاري: =صلوا قبل المغرب+ قال في الثالثة: =لمن شاء+، إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة في هذا المعنى.
وهو مسير باعتبار أنه في جميع أفعاله داخل القدر، راجع إليه؛ لكونه لا يخرج عما قدَّره الله له؛ فلا يخرج في تخيير عن قدرة الله؛ لقوله _تعالى_: [هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ] يونس: 22، وقوله: [وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] القصص: 68.
ولقوله ": =كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة+.
إلى غير ذلك من الأدلة بهذا المعنى.(1/15)
ولهذا جمع الله بين هذين الأمرين _كون الإنسان مخيراً باعتبار ومسيراً باعتبار _كما في قوله _تعالى_: [لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ[28] وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [29] التكوير.
فأثبت _عز وجل_ أن للعبد مشيئة، وبيَّن أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله، واقعة بها.
وكذلك الرسول " كما في قوله: =ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار+.
قالوا: يا رسول الله: فَلِمَ نعمل؟ أفلا نتكل؟ قال: =لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له+.
فهذا الحديث دليل لما سبق، فهو يدل على أن الإنسان مخير؛ لقول " =اعملوا+ وعلى أنه لا يخرج في تخييره عن قدر الله؛ لقوله: =فكل ميسر لما خلق له+.
هذا مقتضى أدلة الشرع والواقع في هذه المسألة.
فلعل في هذا التقرير إجابة شافية، وجمعاً بين النصوص في هذه المسألة.
والجواب عن هذا الإشكال يسير بحمد الله، وقبل الدخول في ثنايا الإجابة لابد من تبيان مسألة مهمة، ألا وهي: أنه لا يمكن أن يتعارض صريح القرآن الكريم مع الواقع أبداً، وأنه إذا ظهر في الواقع ما ظاهره المعارضة فإما أن يكون الواقع مجرد دعوى لا حقيقة له، وإما أن يكون القرآن الكريم غير صريح في معارضته؛ لأن صريح القرآن الكريم، وحقيقة الواقع كلاهما قطعي، ولا يمكن تعارض القطعيين أبداً.
وهذا ما قرره العلماء في القديم والحديث، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية × بنى كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) على هذه القاعدة.
ولقد صرح بذلك كثير من الكتاب الغربيين المنصفين، ومنهم الكاتب الفرنسي (موريس بوكاي) كما في كتابه (التوراة والإنجيل والقرآن والعلم)؛ حيث بين في هذا الكتاب أن التوراة المحرَّفة، والإنجيل المحرَّف الموجودين اليوم يتعارضان مع الحقائق العلمية، في الوقت الذي سجل فيه هذا الكاتب شهادات تَفوُّق للقرآن الكريم سبق بها القرآنُ العلمَ الحديث.(1/16)
وأثبت من خلال ذلك أن القرآن لا يتعارض أبداً مع الحقائق العلمية، بل إنه يتفق معها تمام الاتفاق.
وإذا تقرر ذلك نأتي إلى حل ذلك الإشكال فيقال:
1_ أن اختصاص علم الله _تعالى_ بما في الأرحام لا يقتصر على علمه بما فيها من ذكر أو أنثى فحسب، بل هو أعم من ذلك؛ فيشمل ما في الرحم في كل لحظة وفي كل طور، من فيض وغيض وحمل، وحتى حين لا يكون للحمل حجم ولا جرم، ويشمل العلم بملامح الجنين، وخواصه، واستعداداته.
ويشمل _أيضاً_ العلم برزقه هل هو قليل أو كثير؟ وصفة ذلك الرزق هل هو حرام أو حلال؟ ويشمل العلم بأجله أقصير هو أم طويل؟ ويشمل العلم بعمله هل هو صحيح أو فاسد؟ ويشمل العلم بشقاوته من سعادته.
فهذا من علم ما في الأرحام، وهو مما اختص الله _تبارك وتعالى_ بعلمه، فلا يُظهر عليه أحداً إلا من ارتضى من رسول أو ملك أو غيرهما.
وليس في قوله _تعالى_: [وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ] لقمان: 34 تصريح بذكر العلم بالذكورة والأنوثة، وكذلك لم تأت السنة بذلك. +
2_ أما معرفة ما في الرحم هل هو ذكر أو أنثى فإنه لا يعلم إلا بعد تخليق الجنين.
أما المدة التي لم يُخَلَّق فيها الجنين فلا يعلم أحد فيها ذكورة الجنين من أنوثته؛ لأن ذلك من علم الغيب.
وقد اتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر.
ونفخ الروح في الجنين لا يكون إلا بعد تمام صورته، أي بعد تخليقه.
وبعد تخليقه لا يكون العلم بذكوريته أو أنوثيته من علم الغيب؛ لأنه بتخليقه صار من علم الشهادة، إلا أنه مستتر في الظلمات التي لو أزيلت لتبين أمره.
ولا يبعد أن يكون فيما خلق الله _تعالى_ من الأشعة أشعة قوية تخترق الظلمات حتى تبين الجنين ذكراً أو أنثى.(1/17)
ولذلك فلا غرابة أن يعرف الجنين بعد أن يتخلق من خلال الأشعة الصوتية؛ فهذا من علم الشهادة، ومن العلم بظاهر من الحياة الدنيا، والله _عز وجل_ لم ينف ذلك عن البشر، بل أثبته لهم كما في قوله: [يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] الروم: 7.
قال ابن كثير × في تفسير آية لقمان: [وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ [34] =وكذلك لا يعلم مما يريد أن يخلقه _تعالى_ سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكراً أو أنثى، أو شقياً أو سعيداً علم الملائكة الموكلون بذلك، ومن شاء من خلقه. +
فهذا مقتضى دلالة الشرع والواقع.
أما دلالة الشرع فكما جاء في الصحيحين عن أنس ÷ أن النبي " قال: =وكَّل الله بالرحم ملكاً يقول: أي ربِّ! مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقاً قال: يارب!، أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب ذلك في بطن أمه. +
أما دلالة الواقع فكما مر من أن الجنين يعرف بعد أن يُخَلَّق عن طريق الأشعة الصوتية.
الشر لا ينسب إلى الله _ سبحانه _ فهو منزه عن الشر، ولا يفعل إلا الخير، والقدر من حيث نسبتُه إلى الله لا شر فيه بوجه من الوجوه؛ فإن علم الله، وكتابته، ومشيئته، وخلقه، وذلك خيرٌ محضٌ؛ فالشر إنما هو في المقضي لا في القضاء، وفي مفعولات الله لا في أفعاله _ عز وجل_.
ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن النبي " كان يثني على ربه بتنزيهه عن الشر بدعاء الاستفتاح بقوله: =لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك.+
نعم لله _عز وجل_ الحكمة البالغة في كل فعل من أفعاله، وقد تظهر لنا الحكمةُ، وقد تخفى، ولا يلزم أن ندرك حكمته _عز وجل_ في كل شيء، أو أن يدرك ذلك كل أحد.(1/18)
وإليك مثالاً يسيراً ألا وهو خلق المصائب والآلام؛ فكثير من الناس لا يدرك الحكمة من ذلك مع أن فيه حكماً عظيمة كثيرة منها حصول الأجر، وتكفير السيئات، وتقوية المبتلى، وزيادة إيمانه، وحصول الإخلاص، وحصول رحمة أهل البلاء، والسلامة من الغرور والكبر، ومعرفة قدر العافية، والعلم بحقارة الدنيا، إلى غير ذلك من الحكم.
هذا وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة في الفقرة التالية عند الحديث عن ثمرات الإيمان بالقدر.
الإيمان بالقضاء والقدر _على الوجه الصحيح_ يثمر ثمراتٍ جليلة، وأخلاقاً جميلة، وعبودياتٍ متنوعة، يعود أثرها على الفرد والجماعة في الدنيا والآخرة، فمن تلك الثمرات ما يلي:
1_ أداء عبادة الله _عز وجل_: فالإيمان بالقدر مما تَعَبَّدنا الله به، وكمال المخلوق في تحقيقه العبودية لربه، وكلما ازداد تحقيقاً للعبودية ازداد كمالُه، وعلت درجتُه، وكان كلُّ ما يجري عليه مما يكرهه خيراً له، وحصل له من جَرَّاء ذلك الإيمانِ عبودياتٌ كثيرة، سيأتي ذكرٌ لشيء منها.
2_ الإخلاص: فالإيمان بالقدر يحمل صاحبه على الإخلاص، فيكون الباعث له في جميع أعماله امتثال أمر الله؛ ذلك أن المؤمن بالقدر يعلم أن الأمر أمر الله، وأن الملك ملكه، وأن ما شاءه الله كان، وما لم يشأه لم يكن، لا راد لفضله، ولا معقب لحكمه، فيقوده ذلك إلى إخلاص العمل لله، وتصفيته من كل شائبة تشوبه،؛ لأن الحامل على عدم الإخلاص أو قِلَّته مراءاةُ الناس، أو طلب التزيُّن في قلوبهم، أو طلب مدحهم والهرب من ذمهم، أو طلب أموالهم أو خدمتهم أو محبتهم، أو نحو ذلك من الشوائب والعلل التي يجمعها إرادة ما سوى الله في العمل.(1/19)
فإذا أيقن العبد أن هذه الأمور لا تُنال إلا بتقدير الله _عز وجل_ وأن الناس ليس لهم من الأمر شيء في أنفسهم ولا في غيرهم _ لم يعد يبالي بالناس، ولم يَسْعَ إلى إرضائهم بسخط الله، فينقاد إلى إيثار الحق على الخلق، وإلى الإخلاص والتفريد، بعيداً عن كل رياء وتنديد.
3_ التوكل: فالتوكل على الله هو لُبُّ العبادة، ولا يصح التوكل ولا يستقيم إلا لمن آمن باقدر على الوجه الصحيح.
قال ابن القيم ×: =قال شيخنا _يعني ابن تيمية ×_: ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف، ولا من القدرية النفاة القائلين بأنه يكون من ملكه ما يشاء، ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات. +
والتوكل في لسان الشرع إنما يراد به توجه القلب إلى الله حال العمل، واستمداد المعونة منه، والاعتماد عليه وحده، فذلك سر التوكل وحقيقته.
والشريعة أمرت العامل بأن يكون قلبه مطوياً على سراج التوكل والتفويض.
والذي يحقق التوكل هو القيام بالأسباب المأمور بها؛ فمن عَطَّلها لم يصحَّ توكله.
فإذا توكل العبد على ربه، وسلَّم له، وفوض إليه أمره أمده الله بالقوة، والعزيمة، والصبر، وصرف عنه الآفات التي هي عُرضَةُ اختيار العبد لنفسه، وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه.
4_ الخوف من الله: فالمؤمن بالقدر تجده دائماً على خوفٍ من الله، وعلى حذر من سوء الخاتمة؛ إذ لا يدري ما يُفعل به، ولا يأمن مكر الله.
ومن هنا يستقل عمله، ولا يغتر به مهما كان؛ فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبهما حيثُ شاء، والخواتيم علمهما عند الله _عز وجل_.
5_ قوة الرجاء وإحسان الظن بالله: فالمؤمن بالقدر حَسَنُ الظن بالله، قويُّ الرجاء به؛ لعلمه بأن الله لا يقضي قضاءً إلا وفيه تمام العدل والرحمة والحكمة.(1/20)
فلا يتهم ربه فيما يجريه عليه من أقضية وأقدار، وذلك يوجب له استواء الحالات عنده، ورضاه بما يختاره له سيده، كما يوجب له انتظار الفرج وترقبه، وذلك يخفف حمله المشقة، ولا سيما مع قوة الرجاء أو القطع بالفرج؛ فإنه يجد في حشو البلاء من رَوْح الفرج ونسيمه وراحته ما هو من خفي الألطاف، وما هو فرج مُعَجَّل.
6_ الصبر وقوة الاحتمال: فالإيمان بالقدر يثمر لصاحبه عبودية الصبر على الأقدارِ المؤلمةِ، والصبرُ من جميل الخلال، ومن محمود الخصال، له فوائده الجمَّة، وعوائده الكريمة، وله عواقبه الجميلة، وآثاره الحميدة.
وكل أحد من الناس لابد له من الصبر على بعض ما يكره، إما اختياراً وإما اضطراراً؛ فالكريم يصبر اختياراً؛ لعلمه بحسن عاقبة الصبر، وأنه يُحمد عليه، ويُذَمُّ على العجز، وأنه إن لم يصبر لم يردَّ عليه الجزعُ فائتاً، ولم ينتزع من مكروهاً؛ فمن لم يصبر صَبْر الكرام سلا سلوَّ البهائم.
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ÷: =وجدنا خير عيشنا بالصبر. +
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ÷: =الصبر مطية لا تكبوا. +
وقال الحسن ×: =الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده. +
وصدق من قال:
والصبر مثل اسمه مرٌّ مذاقته ... لكنْ عواقبُه أحلى من العسل
ولهذا تجد المؤمن بالقدر صبوراً متجلداً، ويتحمل المشاق، ويقوم بالأعباء.
بخلاف ضعيف الإيمان بالقدر، الذي لا يقوى على احتمال، ولا يصبر على أدنى شيء يعترضه؛ بسبب ضعف إيمانه، ورخاوة نفسه، وانزعاجها العظيم للشيء الحقير؛ فما إنْ يصاب بالتافه من الأمر حتى تراه حَرِج الصدر، لهيف القلب، كاسف الوجه، ناكس البصر، تتناجى الهموم في صدره فتقض مضجعه، وتؤرق جفنه، وهي وأكبر منها لو حدثت لمن هو أقوى منه إيماناً واحتمالاً _لم يُلقِ لها بالاً، ولم تحرك منه نفساً، ولَنَامَ ملء جفونه، رضيَّ البال، قرير العين.(1/21)
فالذين لا يؤمنون بالقدر يجزعون لأتفه الأسباب، بل ربما أدى بهم الجزع إلى الجنون، والوسوسة، وتعاطي المخدرات، وقتل النفس.
ولذلك يكثر الانتحار في البلاد التي لا يؤمن أهلها بالقضاء والقدر، كأمريكا، والسويد، والنرويج، وغيرها، بل لقد وصل الأمر ببعض البلاد إلى فتح مستشفيات للانتحار، والعجيب في الأمر أن يكون للانتحار أنصار يؤيدون حق الراغبين بذلك، ويسعون في تقديم الطرق المناسبة اليسيرة غير المؤلمة.
ولو بحثنا عن أسباب انتحارهم لوجدناها تافهةً جداً، لا تستدعي سوى التغافل وغض البصر عنها؛ فبعضهم ينتحر؛ لتخلي خطيبته عنه، وبعضهم بسبب رسوبه في الامتحان، وبعضهم بسبب وفاة المطرب الذي يحبه، أو الشخص الذي يعجبه، أو بسبب هزيمة الفريق الذي يميل إليه، وهكذا...
وقد يكون الانتحار جماعياً، والعجيب في الأمر أن أغلبية المنتحرين ليسوا من طبقة الفقراء حتى يقال: انتَحَروا؛ لضيق المعيشة.
بل إنهم من الطبقة الغنية المغرقة في النعيم، بل ويقع الانتحار من المشاهير، بل ومن الأطباء النفسيين الذي يُظَنُّ أنهم يجلبون السعادة، ويحلون المشكلات!
6_ محاربة اليأس: فالذي لا يؤمن بالقدر يصيبه اليأس ويدِبُّ إلى روعه القنوط؛ فإذا أصيب ببلية ظن أنها قاصمة ظهره، وإذا نزلت به نازلة حسب أنها ضرب لازب لن تبارحه.
وكذلك إذا رأى ما عليه الباطل من صولة وجولة، وما عليه أهل الحق من ضعف وتخاذل ظن أن الباطل سيستمر، وأن الحق سيضمحل؛ فاليأس سمٌّ قاتل، وسجن مظلم، يُعَبِّسُ الوجه، ويصد النفس عن الخير، ولا يزال بالإنسان حتى يهلكه أو ينغص عليه حياته.
أما المؤمن بالقدر فلا يعرف اليأس، ولا تراه متفائلاً في جميع أحواله، منتظراً الفرج من ربه، عالماً بأن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسراً.(1/22)
وتراه موقناً تمام اليقين بأن العاقبة للتقوى، وللمتقين، وأن قَدَرَ الله في ذلك نافذ لا محالة، فلا يتسلل إليه اليأس مهما احلولكت ظلمة الباطل؛ فاعتماد القلب على قدرة الله، ولطفه، وكرمه يستأصل جراثيم اليأس، ومنابت الكسل، ويشد ظهر الأمل الذي يَلجُ به الساعي أغوار البحار العميقة، ويقارع به السباعَ الضارية في فلواتها.
7_ الرضا: فالمؤمنُ بالقدرِ قد تَسمُو بهِ الحال فيصل إلى منزلة الرضا، فمن رضي عن الله رضي الله عنه، بل إن رضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عنه؛ فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده: رضاً قبله أوجب له أن يرضى عنه، ورضاً بعده هو ثمرة رضاه عنه.
ولذلك كان الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين، وقرة عيون المشتاقين.
قال ابن القيم ×: =مَنْ ملأ قلبه من الرضا بالقَدَر ملأ الله صدره غنىً، وأمناً، وقناعةً، وفرَّغ قلبه لمحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه.
ومن فاته حظه من الرضا امتلأ قلبه بضد ذلك، واشتغل عما فيه سعادته، وفلاحه. +
قيل ليحيى بن معاذ: متى يبلغ العبد مقام الرضا؟
فقال: إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه؛ فيقول: إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت.
8_ الشكر: فالمؤمن بالقدر يعلم أن ما به من نعمة فهي من الله وحده، وأن الله هو الدافع لكل مكروه ونِقْمَة، فيبعثه ذلك إلى إفراد الله بالشكر؛ فإذا نزل به ما يحب شكر الله عليه؛ إذ هو المنعم المتفضل، وإذا نزل به ما يكرهه شكر الله على ما قدره عليه؛ كظماً للغيظ، وستراً للشكوى، ورعاية للأدب، وسلوكاً لمسلك العلم؛ فإن العلم بالله والأدب مع الله يأمران بشكر الله على المحاب والمكاره، وإن كان الشكر على المكاره أشقَّ وأصعبَ؛ ولذلك كان الشكر أعلى من الرضا.(1/23)
فإذا لزم الإنسان الشكر قرت نِعَمه ودرَّت؛ فالشكر قيد النعم الموجودة، وصيد النعم المفقودة، والله _تبارك وتعالى_ يقول: [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] إبراهيم: 7.
فمتى لم تر حالك في مزيد فاستقبل الشكر.
9_ الفرح: فالمؤمن بالقدر يفرح بهذا الإيمان الذي حرم منه أكثر الخلق، قال تعالى: [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] يونس: 58.
ثم إن المؤمن بالقدر قد يرتقي به الحال من الرضا بقضاء الله والشكر له فيما يُقَّدره حتى يصل إلى منزلة الفرح، فيفرح بكل ما يقدره الله يقضيه عليه.
10_ التواضع: فالإيمان بالقَدَر يحمل صاحبه على التواضع مهما أوتي من قوة، أومال، أو جاه، أو علم أو شهرة، أو نحو ذلك؛ لعلمه بأن ما أوتيه إنما هو بقدر الله، وأنه _عز وجل_ لو شاء لانتزعه منه.
ومن هنا يتواضع لله _عز وجل_ ويتواضع لبني جنسه، وينأى بنفسه عن الكبر والخيلاء.
وإذا تواضع الإنسان كَمُل سؤدده، وعلا قدره، وتناهى فضله، وعظم في القلوب وقاره، وزاده الله شرفاً ورفعة؛ فمن تواضع لله رفعه، وإذا رفع الله عبداً فمن ذا الذي سيخفضه؟
وأحسن أخلاق الفتى وأتمها ... تواضعه للناس وهو رفيع
11_ الكرم والسخاء: ذلك أن المؤمن بالقدر يعلم علم اليقين بأن الله هو الرزاق، وهو الذي قسم بين الخلق معيشتهم؛ فكل له نصيبه، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، ولن يفتقر أحد إلا بقدر الله _عز وجل_.
وهذا الإيمان يشرح صدر صاحبه للإنفاق في وجوه الخير، فيؤثرها بجانب من ماله ولو كان به خصاصة؛ ثقة بالله، واستجابة لأمره _عز وجل_ بالإنفاق، وشعوراً بأن للحياة الفاضلة مطالبَ يبذل في سبيلها المال غير مأسوف عليه، ولعلمه بأن المال مال الله؛ فَتَعَيَّنَ وَضْعُهُ حيث أمر الله وَضْعَهُ.(1/24)
ثم إن الإيمان بالقدر يطفئ حِدَّةَ الشَّرَهِ من قلب المؤمن، فلا يتكالب على الدنيا، ولا يريق ماء وجهه طلباً لها، بل يتكرم ويسخو عما في أيدي الناس؛ فمن أنواع السخاء سخاءُ الإنسان عما في أيدي الناس.
12_ الشجاعة والإقدام، واطرح الخور والجبن: فالإيمان بالقدر يملأ قلب صاحبه شجاعةً وإقداماً، ويُفْرِغُه من كل خور وجبن؛ لأن المؤمن بالقدر يعلم أنه لن يموت قبل يومه، ولن يصيبه إلا ما كُتب له، وأن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لن يضروه إلا بشيء قد كتبه الله له.
ومما ينسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ÷ قوله:
أي يوميَّ مِن الموت أفِرْ ... يوم لا يُقْدَرُ أم يوم قدِرْ
يوم لا يقدر لا أرهبه ... وإذا قدِّر لا ينجي الحذر
وكان معاوية ÷ يتمثل بهذين البيتين:
كأنَّ الجبانَ يرى أنه ... سيقتل قبل انقضاء الأجل
وقد تدرك الحادثات الجبان ... ويسلم منها الشجاعُ البطل
قال ابن القيم ×: =الذي يحسم مادة الخوف هو التسليم لله؛ فمن سلَّمَ لله، واستسلم له، وعلم أنه ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب له _لم يبقَ لخوف المخلوقين في قلبه موضع؛ فإن نفسه التي يخاف عليها قد سلمها إلى وليها ومولاها، وعلم أنه لا يصيبها إلا ما كُتِب، وأن ما كتب لها _أيضاً_ لابد أن يصيبها؛ فلا معنى للخوف من غير الله بوجه.
وفي التسليم _أيضاً_ فائدة لطيفة، وهي أنه إذا سلمها لله فقد أودعها عنده، وأحرزها في حرزه، وجعلها تحت كنفه، حيث لا تنالها يدُ عدوٍّ عادٍ، ولا بغيُ باغٍ عاتٍ. +
13_ القناعة وعزة النفس: فالمؤمن بالقدر يعلم بأن رزقه مكتوب، وأنه لن يموت حتى يستوفيه، وأن الرزق لا يجلبه حرص حريص، ولا يمنعه حَسَدُ حاسدٍ، وأن الخلق مهما حاولوا إيصالَ الرزقِ إليه، أو مَنْعَهُ عنه فلن يستطيعوا إلا بشيء قد كتبه الله له.(1/25)
ومن هنا ينبعث إلى القناعة بما أوتي، وإلى عزة النفس والإجمال في الطلب، وإلى التحرر من رق الخلق ومنَّتِهم.
ولا يعني ذلك أن نفسه لا تطمح إلى المعالي، وإنما يعني القناعة بما يأتيه من عرض الدنيا بعد فعل الأسباب، بعيداً عن الشح، والهلع والتكالب، وإراقة ماء الوجه.
وإذا رزق العبد القناعة أشرقة عليه شمس السعادة.
وإن كان بعكس ذلك تنغصت حياته، وازدادت آلامه وحسراته، بسبب نفسه الجشعة الشرهة، ولو مسَّتها القناعة لقلَّت مصائبه؛ لأن الشَّرِهَ سجين المطالب، أسير الشهوات.
ثم إن القناعة تضفي على صاحبها عزة النفس، وتُحْرزُ له وقاراً في العيون، وجلالة في القلوب، وترفعه من مواضع الذل والمهانة، فيبقى مهيب الجناب، موفور الكرامة، مرفوع الرأس، مرتاح الضمير، سالماً من الهوان، متحرراً من رق الأهواء ومن ذُلِّ الطمع، فلا ينطلق في مجاري التملق والمداهنة، ولا يسير إلا وَفْقَ ما يمليه عليه إيمانه، والحق الذي يحمله.
وبالجملة فالذي يحسم مادة رجاء المخلوقين من القلب هو الرضا بقسم الله _عز وجل_ فمن رضي بحكم الله وقسمه لم يبق لرجاء الخلق موضع في قلبه.
ومن جميل ما يذكر في هذا الشأن ما ينسب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ÷ وهو قوله:
أفادتني القناعة كلَّ عزٍّ ... وهل عِزٌّ أعزُّ من القناعةْ
فصيرها لنفسِك رأسَ مالٍ ... وصيِّرْ بعدها التقوى بضاعةْ
تَحُزْ ربحاً وتَغنى عن بخيلٍ ... وتنعم في الجنان بصبر ساعةْ
وقال الشافعي ×:
رأيت القناعة كنز الغنى ... فصرت بأذيالها مُمْتَسك
فلا ذا يراني على بابه ... ولا ذا يراني به منهمك
وصرت عنياً بلا درهمٍ ... أمُرُّ على الناس شبه الملك
وقال الثعالبي: =ومن أحسن ما سمعت في القناعة قول ابن طباطبا العلوي:
كن بما أوتيته مقتنعاً ... تستدِم عسر القنوع المكتفي
إن في نيل المنى وشْكَ الردى ... وهلاك المرء في ذا السرف(1/26)
14_ علو الهمة: فعلو الهمة يعني استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، ودنو الهمة بالعكس من ذلك؛ فهو إيثار الدَّعة، والرِّضا بالدُّون، والقعود عن معالي الأمور.
والإيمان بالقدر يحمل أهله على علو الهمم، وينأى بهم عن القعود، والإخلاد إلى الأرض، والاستسلام للأقدار.
ولهذا تجد المؤمن بالقدر _حقيقة_ عالي الهمة، كبير النفس، متطلباً للكمالات، مترفعاً عن السفاسف المحقرات، فلا يرضى لنفسه بالدُّون، ولا يقنع بالواقع المرِّ الأليم، ولا يستسلم للمعائب محتجاً بالقدر على وقوعها.
بل إن إيمانه يُحتِّم عليه أن يسعى سعيه للنهوض بنفسه، ولتغيير الواقع المرِّ الأليم إلى الأفضل بالطرق المشروعة وإلى التخلص من المعَائب والنقائص؛ فَإلاحْتِجَاج بالقدر إنما يكون عند المصائب لا المعائب.
15_ الحزم والجد في الأمور: فالمؤمن بالقدر حازم في أموره، منتهز للفرص التي تمر به، حريص على كل خير ديني أو دنيوي؛ إذ الإيمان بالقدر يدعو إلى ذلك؛ فلم يكن داعية إلى البطالة، والإقلال من العمل البتة.
بل لقد كان له عظيم الأثر في إقدام عظماء الرجال على جلائل الأعمال، التي لم يسبق إلى ظنونهم أن استطاعتهم وما لديهم من الأسباب الحاضرة يَقْصُران عن إدراكها.
قال النبي ": =احرص على ما ينفعك، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت، كان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَرُ الله وما شاء فعل. + رواه مسلم
16_ الاعتدال حال السراء والضراء: فالإيمان بالقدر يحمل على الاعتدال في سائر الأحوال؛ ذلك أن الإنسان في هذا الحياة الدنيا يتقلب في أحوال عديدة؛ فقد يُبْتَلى بالفقر، وقد ينال نصيباً وافراً من الدنيا، وقد ينعم بالصحة، وقد يُبْتَلى بالأمراض، وقد ينال ولايةً وشهرةً وبُعْدَ صيتٍ، وقد يَعْقِبُ ذلك عزلٌ، وذلٌّ، وخمولُ ذكرٍ.(1/27)
ولهذه الأمور وأمثالها أثرٌ على النفس؛ فالفقر قد يقود إلى الذلة والخنوع، والغنى قد يتغير به الطبع، فلا تبقى الأخلاق على اعتدال، ولا يَقْدُر معه المرء على احتمال.
وكذا الولاية قد تحدث في الأخلاق تغيراً، وعلى الخلطاء تنكُّراً، إما من لؤم طبع، وإما من ضيق صدر.
وفي مقابل ذلك العزلُ، فقد يسوء به الخلق، ويضيق به الصدر؛ إما لشدة أسف، أو لقلة صبر.
وهكذا لا تستقيم الأحوال على حد الاعتدال؛ لأن في العباد قصوراً، وجهلاً، وضعفاً، ونقصاً.
إلا من آمن بالقدر حقيقة؛ فلا تبطره النعمة، ولا تُقَنِّطه المصيبة؛ فلا تطيش به الولاية في زهو، ولا ينزل به العزل في حسرة، ولا يحمله الغنى على الأشر والبطر، ولا ينحط به الفقر إلى الذلة والخضوع.
فالمؤمنون بالقدر حقيقة يتلقون المسارَّ والمحابَّ بقبول لها، وشكر لله عليها، واستعانة بها على أمور الدين والدنيا، فيحصل لهم من جراء ذلك من الخيرات والبركات ما تتضاعف به مسراتهم.
ويتلقون المكاره بالرضا، والاحتساب، والتحمل، والمقاومة لما يمكنهم مقاومته، وتخفيف ما يمكن تخفيفه، وبالصبر الجميل لما لابد لهم منه؛ فيحصل لهم بسبب ذلك خيراتٌ عظيمةٌ تضمحل معها المكاره، وتحل محلها المسار والآمال الطيبة.
17_ السلامة من الحسد والاعتراض: فالإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تفتك بالمجتمعات، وتزرع الأحقاد بينها، وذلك مثل رذيلة الحسد، فالمؤمن بالقدر لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله؛ لإيمانه بأن الله هو الذي رزقهم وقدر لهم أرزاقهم، فأعطى من شاء، ومنع من شاء، ابتلاءً، وامتحاناً، وبذلك يدرك المؤمن أنه حين يحسد غيره إنما يعترض على قدر الله.
فإذا آمن بالقدر سَلِم من الحسد، وسَلِم من الاعتراض على أحكام الله الشرعية، وأقداره الكونية، وسَلَّم لله في جميع أموره.(1/28)
18_ العلم بحكمة الله _عز وجل_: فالإيمان بالقدر على وجه الحقيقة يكشف للإنسان حكمة الله _عز وجل_ فيما يقدره من خير أو شر، فيعلم أن وراء تفكيره، وتخيلاته من هو أعظم وأعلم، وأحكم.
ولهذا كثيراً ما يقع الشيء فنكرهه وهو خير لنا؛ وكثيراً ما نرى الشيء مصلحة ظاهرة فنحبه، ونرغب فيه، ولكن الحكمة لا تقتضيه؛ فالمدبر للإنسان أعلم بمصالحه وعاقبة أمره، كيف وقد قال _سبحانه_: [وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ] البقرة: 216.
ومن أسرار هذا الآية وحِكَمها أنها تقتضي من العبد التفويضَ إلى من يعلم عواقب الأمور، والرضا بما يقضيه عليه؛ لما يرجوه من حسن عاقبته.
ومن أسرارها ألا يقترح على ربه، ولا يسأله ما ليس له به علم، فلعل مضرته فيه وهو لا يعلم؛ فلا يختار على ربه، بل يسأله حسن العاقبة فيما يختاره له، فلا أنفع له من ذلك.
ولهذا من لطف الله بعبده أنه ربما طمحت نفسه لسبب من الأسباب الدنيوية التي يظن أن بها إدراكَ بغيته، فيعلم الله أنها تضره، وتصده عما ينفعه، فيحول بينه وبينها، فيظل العبد كارهاً، ولم يَدْرِ أن الله قد لطف به؛ حيث أبقى له الأمر النافع، وصرف عنه الأمر الضار.
فكم من الناس _على سبيل المثال_ من يندم ويتحسَّرُ إذا فاته موعد إقلاع الطائرة، وما هي إلا مدة يسيرة، ثم يُعْلن عن سقوط الطائرة، ووفاة جميع ركابها.
وكم من الناس من يتبرم ويضيق صدره؛ لفوت محبوب؛ أو نزول مكروب.
وما إن ينكشف الأمر ويستبين سرُّ القدر إلا وتجده جذلاً مسروراً؛ لأن العاقبة كانت حميدة بالنسبة له.
وما أجمل قول من قال:
كم نعمةٍ لا تستقل بشكرها ... لله في طي المكاره كامنه
وقول الآخر:
تجري الأمور على حكم القضاء وفي
طيِّ الحوادث محبوب ومكروه
وربما سرَّني ما كنت أحذره
وربما ساءني ما كنت أرجوه(1/29)
19_ تحرير العقول من الخرافات ولأباطيل: فمن بدهيات الإيمان بالقدر الإيمان بأن ما جرى وما يجري، وما سيجري في هذا الكون إنما هو بقدر الله _عز وجل_ وأن قدر الله سرٌّ مكتومٌ، لا يعلمه إلا هو، ولا يُطْلِع عليه أحداً إلا من ارتضى من رسول؛ فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً.
ومن هذا المنطلق تجد المؤمن بالقدر لا يعتمد على الدجالين والمشعوذين، ولا يذهب إلى الكهان والمنجمين والعرافين؛ فلا يعتد بأقوالهم، ولا ينطلي عليه زيفهم ودجلهم؛ فيعيش سالماً من زيف هذه الأقاويل متحرراً من جميع تلك الخرافات والأباطيل.
20_ سكون القلب وطمأنينة النفس، وراحة البال: فهذه الأمور من ثمرات الإيمان بالقدر، وهي داخلة في كثير مما مضى ذكره من الثمرات، وهي مطلبٌ مُلِحٌّ، وهدف منشود وغاية مُبْتَغاةٌ؛ فكل ما في الأرض يبتغيها، ويبحث عنها، ويسعى لها سعيها، ولكن كما قيل:
كل من في الوجود يطلب صيداً
غير أن الشباك مختلفاتُ
فلا يدرك هذه الأمور، ولا يجد حلاوتها، ولا يعلم ثمرتها_ إلا من آمن بالله وقضائه وقدره؛ فالمؤمن بالقدر ساكن القلب، مطمئن النفس، مرتاح البال، لا يفكر كثيراً في احتمال الشر، ثم إن وقع لم يَطِرْ له قَلْبه شَعَاعاً، بل يحتمل ذلك بثبات وصبر؛ إنْ مرضَ لم يُضَاعف مرضه بوهمه، وإن نزل به مكروه قابله بجأش رابط فخفف حِدَّته؛ فمن الحكمة ألا يجمع الإنسان على نفسه بين الألم بتوقع الشر، والألم بحصول الشر.
بل يسعد ما دامت أسباب الحزن بعيدة عنه، فإذا حدثت قابلها بشجاعة واعتدال.
وإنك لتجد عند خواصِّ المسلمين من العلماء العاملين والعباد القانتين المتبعين من سكون القلب وطمأنينة النفس ما لا يخطر ببال، ولا يدور حول ما يشبهه خيال؛ فلهم في ذلك الشأن القِدْحُ المعلى، والنصيب الأوفى.
فهذا أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز _رحمه الله ورضي عنه_ يقول: =أصبحت وما لي سرور إلا في القضاء والقدر. +(1/30)
وهذا شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية × يقول: =إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.+
ويقول مقولته المشهورة عندما زجَّ به في السجن: =ما يصنع أعدائي بي؛ أنا جنتي وبستاني في صدري؛ أين رُحْت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة. +
بل إنك واجد عند عوام المسلمين من سكون القلب وراحة البال، وبرد اليقين ما لا تجده عند كبار المفكرين والكتاب الأطباء من غير المسلمين؛ فكم من الأطباء من غير المسلمين _على سبيل المثال_ من يعجب، ويذهب به العجب كل مذهب إذا هو أشرف على علاج مريض مسلم، وتبين له انه مصاب بداء خطير _كالسرطان مثلاً_ فتراه يقدِّم رِجلاً ويؤخر أخرى، وتجده يمهد الطريق، ويضع المقدمات، كل ذلك خشيةً من شدة تأثر المريض بسماع هذا الخبر.
وما إن يُعلِمهُ بمرضه، ويصارحه بعلته _إلا يفاجأ بأن هذا المريض يستقبل الخبر بنفس راضية، وصدر رحب، وسكينة عجيبة.
لقد أدهش كثيراً من غير المسلمين إيمان المسلمين بالقضاء والقدر، فكتبوا في هذا الشأن معبرين عن دهشتهم، مسجلين شهاداتهم بقوة عزائم المسلمين، وكبر نفوسهم، وحسن استقبالهم لصعوبات الحياة.
فهذه شهادة حق من قوم حرموا الإيمان بالله، وبقضائه وقدره.
وما منعهم من ذلك إلا إعراضهم عن ربهم، وبعدهم عن الدين الحق، ألا وهو الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده، وختم به الأديان السماوية.
وبعد هذه الجولة في مسائل القدر وقضاياه يتبين لنا عظم هذا الركن العظيم، وجميل فوائده وعوائده.
ويتبين من خلال ذلك عظم دين الإسلام، وإحكامُ عقائده، وشرائعه، وسلامتها من التناقض، وكفالتها السعادة لمن اعتقدها، وأخذ بها.
وفي الختام آمل أن أكون قد وفقت لتوضيح مسألة القدر، وتقريبها للأفهام، وأسأل الله _عز وجل_ أن ينفع بهذا العمل، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم، إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(1/31)
مقدمة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله ابن باز× لأصل الكتاب ... 4
المقدمة ... 5
قصة في الإيمان بالقدر ... 8
تعريف الإيمان بالقدر ومراتبه ... 13
أقسام التقدير ... 17
أدلة الإيمان بالقدر ... 19
كلمات مضيئة في القدر ... 23
ما الواجب على الإنسان في باب القدر؟ ... 28
هل الإيمان بالقدر ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية؟ ... 30
هل فعل الأسباب ينافِي الإيمان بالقضاء والقدر؟ ... 31
هل الإيمان بالقدر يمنح العاصي حجةٌ على ترك الواجبات أو فعل المعاصي؟ ... 33
متى يسوغ الاحتجاج بالقدر؟ ... 35
هل الإنسان مسيَّر أو مخيَّر؟ ... 37
كيف نوفق بين استئثار الله بعلم ما في الأرحام وبين علم الأطباء بذكورة الجنين في الرحم من أنوثته؟ ... 41
هل الشر ينسب إلى الله _عز وجل_؟ ... 45
هل لله حكمة فيما يقدره ويقضيه؟ ... 46
ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر ... 47
الخاتمة ... 70
الفهرس ... 71(1/32)