وحين عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام عليه لم يتردد في قبوله ولم يتلعثم بل أقبل عليه بكل جوارحه وقد أخبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :"وما عرضت الإسلام علىأحد إلا كانت له كبوة إلا أبا بكر فإنه لم يتلعثم"(1) .
بينما يروي الشيعة في قصة إسلام علي - رضي الله عنه - أنه تلعثم وتردد وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمهله وقال له :"إن هذا الدين مخالف دين أبي وأنا أنظر فيه" (2) -على حد زعم الشيعة أنفسهم-.
أما ادعاء الشيعة أن أبا بكر - رضي الله عنه - لم يكن مؤمنا حقيقة وأنه عاش مشكوكا في هدايته فكذب بإجماع المسلمين ولا يوجد دليل واحد في أي كتاب من كتبهم يؤيد هذه المزاعم الباطلة ولو كانت التهم تلقى جزافا لأمكن لمبغضي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يدعو فيه ما ادعى الشيعة في الصديق - رضي الله عنه - ولكن حاشاه وحاشا الصديق من أن ينسب إليهم ذلك بل هما والصحابة الكرام من سادات أولياء الله وأفضل الناس بعد أنبياء الله ورسله ...
ومما يشهد لكذب دعوى الشيعة عدم صدق إيمان الصديق - رضي الله عنه - ما تواتر عن اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم وشدة لصوقه به وما روي في شدة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم له ولم يكن عليه الصلاة والسلام يحب إلا طيبا- :
فقد أخرج البخاري وغيره من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أي الناس أحب إليك؟ قال : عائشة ، فقال من الرجال ؟ قال : أبوها"(3).
__________
(1) مسند أحمد 2/253-366 وسنن ابن ماجة 1/49 وسيرة ابن هشام 1/252 وتاريخ دمشق لابن عساكر 9/ 543 وانظر السيرة النبوية لابن كثير 1/433 ودر السحابة للشوكاني ص 142
(2) سعد السعود لابن طاووس ص 216
(3) صحيح البخاري 5/68 ك المناقب باب "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا"(20/23)
أما قبل الهجرة وقبل أن يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها فقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يعلمون أن الصديق أبا بكر - رضي الله عنه - أحب خلق الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه "لما توفيت خديجة رضي الله عنها قالت خولة بنت حكيم بن أمية الأوقص امرأة عثمان ابن مظعون - رضي الله عنه - -وذلك بمكة- : أي رسول الله ألا تتزوج ؟ فقال : ومن ؟ قالت : إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا . فقال صلى الله عليه وسلم : ومن البكر ومن الثيب؟ قالت : أما البكر فابنة أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر الصديق ..."(1).
وقال الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :"كان أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "(2).
فإذا كان الشيعة لا يتورعون عن توجيه أمثال هذه التهم إلى سيد الصحابة وأفضلهم وأقدمهم إسلاما وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن باب اولى أن لا يتورعون عن اتهام من دونه من فضلاء الصحابة بشتى انواع التهم .
فاحذر يا عبدالله أن تغتر بأقوالهم أو يقع في قلبك شيء من بهتانهم فإنها والله كذب كلها ليس من دليل عليها أملتها عليهم عقيدتهم في الصديق - رضي الله عنه - وما يعتمل في قلوبهم من حقد عليه وعلى إخوانه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اصطفاهم الله واختصهم من بين الناس كلهم لصحبة أفضل رسله وخير أنبيائه فإن أبغضت أبا بكر لقد أبغضت أحب الناس إلى قلب نبيك ورسولك صلى الله عليه وسلم ولو كنت تحب نبيك صلى الله عليه وسلم لأحببت من يحبه إذ علامة المحبة أن تحب ما أحب حبيبك صلى الله عليه وسلم .
ومن المطاعن :
__________
(1) أخرجه أحمد والحاكم وقال هذا صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي (مسند أحمد 6/210 والمستدرك للحاكم 2/167
(2) أخرجه الحاكم وقال صحيح على شرطهما ولم يخرجاه ووافقه الذهبي . (المستدرك للحاكم 3/66)(20/24)
ثانيا : زعم الشيعة أن أبا بكر يعتقد أن رسول الله ساحرا وليس رسولا :
يزعم الشيعة أنا أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كان يعتقد أن رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم ساحر وليس رسولا نبيا فقد روى الصفار والقمي والمفيد –من الشيعة- بأسنيدهم الشيعية عن خالد بن نجيح (1) قال : قلت لأبي عبدالله جعفر الصادق : جعلت فداك ! سمى رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر: الصديق ؟ قال : نعم . قال : فكيف ؟ قال حين كان معه في الغار قال رسول الله صلى الله عليه وآله إني لأرى سفينة جعفر بن أبي طالب تضطرب في البحر ضالة . قال : يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ! وإنك لتراها ؟ قال : نعم . قال : فتقدر أن ترينيها ؟ قال : أدنو مني . قال : فدنى منه فمسح على عينيه ثم قال انظر فنظر أبو بكر فرأى السفينة وهي تضظرب في البحر ثم نظر إلى قصور المدينة فقال في نفسه الآن صدقت أنك ساحر، فقال : رسول الله صلى الله عليه وآله :الصديق أنت (2).
ونسب الشيعة إلى أبي جعفر الباقر زورا وبهتانا أيضا نحوا من هذه الحكاية (3).
وزعم سليم بن قيس من الشيعة في كتابه السقيفة أنه سمع نحوا من هذه القصة من علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (4).
فهذا هو إذن السبب الذي لأجله لقب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق كما يزعم الشيعة.
__________
(1) شيعي ، حسن المامقاني –من علماء الشيعة- حديثه (تنقيح المقال للمامقاني 1/393)
(2) بصائر الدرجات الكبرى للصفار ص 444 وتفسير القمي ط حجرية ص 157 ط حديثة 1/290 والاختصاص للمفيد ص 19 وانظر مختصر بصائر الدرجات للحلي ص 29
(3) بصائر الدرجات الكبرى للصفار ص 444 وروضة الكافي للكليني ط حجرية ص 338 ط حديثة 218 وانظر تفسير الصافي للكاشاني 1/702 والبرهان للحراني 2 /125 – 126 ومرآة العقول –شرح الروضة- للمجلسي 4 /338
(4) السقيفة لسليم بن قيس ص 224 - 225(20/25)
والحق أن المرء ليعجب من سخافة عقول هؤلاء وسوء فهمهم وسهولة اختراعهم للقصص الباطلة دعما لمعتقدهم على الرغم مما فيها من تناقضات مكانية وزمانية يلحظها من أول وهلة من له أدنى إلمام بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة أصحابه رضوان الله عليهم أضف إلى ذلك تفاهة هذه القصص وتهافتها مع ما فيها من عجمة تدل على أصل واضعها والكلام مع الشيعة في هذا الإفك الذي نسبوه إلى أئمة أطهار بريئين منه ومنهم ذو وجهين :
أحدهما : يبين جهل الشيعة وتجاهلهم للسبب الحقيقي الذي لأجله لقب أبو بكر - رضي الله عنه - بالصديق والآخر يبين تفاهة ما استدلوا به وتهافته وتناقضه .
فلا تسلم للشيعة دعواهم أن سبب تلقيب أبا بكر بالصديق هو هذا الذي زعموه فالصديق إنما سمي بذلك لكونه سارع إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم وسبق غيره في ذلك .
قال الحافظ ابن حجر : لقب بالصديق لسبقه إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : كان ابتداء تسميته بذلك صبيحة الإسراء (1).
ويشمل بقول الحافظ ابن حجر ما رواه الإمام البخاري بسنده عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - وفيه يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق ففي هذا الحديث الشريف إشارة إلى أن الصديق - رضي الله عنه - سبق الصحابة جميعا إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) فتح الباري 7/9 وقد قال ابن الأثير وابن زنجويه نحوا من قوله .(مال الطالب لابن الأثير ص 274 والروض الأنيق لابن زنجويه ق 29أ(20/26)
وكذلك ما أخرج الحاكم في مستدركه وقال صحيح الإسناد من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه وسعوا في ذلك إلى أبي بكر فقالوا هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس قال : أو قال ذلك ؟ قالوا : نعم . قال : لإن كان قال ذلك لقد صدق . قال أتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح ؟ قال : نعم ، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك ، أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة . فلذلك سمي أبو بكر بالصديق (1).
والرسول صلى الله عليه وسلم قد لقب أبا بكر بالصديق في مواضع كثيرة وذكر أن معنى الصديق الذي يصدق ويصدق ولا يزال يصدق ويتحرى الصدق فقد أخرج الشيخان واللفظ لمسلم من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرا الصدق حتى يكتب عند الله صديقا (2).
وأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ليست فضيلته في مجرد تحري الصدق بل لأنه علم ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلا وصدق ذلك تصديقا كاملا وما زعمه الشيعة من أن الصديق - رضي الله عنه - إنما لقب بذلك لأنه أضمر –وهو في الغار- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساحر باطل لأدلة كثيرة منها:
__________
(1) المستدرك للحاكم 3/ 62-وصححه- وانظر در السحابة للشوكاني ص 150
(2) صحيح البخاري 8/46 ك الأدب ، باب قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) وصحيح مسلم 4/2013 ك البر باب قبح الكذب وحسن الصدق(20/27)
إن تعريف الصديق لغة : الدائم التصديق الذي يصدق قوله بالعمل ويوافق باطنه ظاهره والذي يكثر صدقه ويغلب عليه فهو للمبالغة في الصدق(1) .
وقد تقدم تعريفه الشرعي في حديث ابن مسعود المرفوع وهو الذي بصدق ويصدق ويتحرى الصدق .
والشيعة قد زعموا أن أبا بكر أضمر في نفسه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساحر ، واستدلوا بما زعموه على عدم صدق إيمانه ، وعلى مخالفة باطنه لظاهره .والرسول صلى الله عليه وسلم قد اطلع على خبايا نفسه –بزعمهم- فكافأه على ذلك بمنحه هذا اللقب العظيم الذي لا يمنح إلا لمن أكثر من الصدق وعرف به ..
فكيف جرى هذا والكاذب لا يكون صديقا كما رووا في كتبهم ، فقد روى صاحب كتاب "الأشعثيات" بسنده إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، يرفعه :"الكذاب لا يكون صديقا ولا شهيدا"(2).
إن الهجرة إلى الحبشة كانت قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ببضع سنين كما ذكر ذلك المؤرخون (3) فكيف رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة جعفر بن أبي طالب تعوم في البحر وأراها أبا بكر ، بالرغم من الفاصل الزمني الكبير بين الواقعتين ، إذ الهجرة إلى الحبشة حدثت قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعدة سنوات –كما أسلفنا-.
إن في سبب تلقيب أبي بكر في الصديق في الروايات الصحيحة المستفيضة عند أهل السنة ما يدمغ هذا الاحتجاج الكاذب ويبطله .وقد تقدم بعض هذه الروايات الصحيحة .
وبهذا الرد الموجز يتبين أن الصديق - رضي الله عنه - إنما حاز هذا اللقب الشريف لأنه صدق رسول اللهصلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر تصديقا كاملا في العلم والقصد والقول والعمل .
__________
(1) راجع الصحاح للجوهري 4/1506 والمحكم المحيط الأعظم لابن سيده 6/118 ومنال الطالب لابن الأثير ص 274
(2) الأشعثيات للأشعث الكوفي ص 80
(3) السيرة النبوية لابن هشام 1/321 والسيرة النبوية لابن كثير 2/3-9(20/28)
وهذان المطعنان اللذان ذكرتهما قليل من كثير من المطاعن التي وجهها الشيعة إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ، وهما غيض من فيض مما في كتبهم من المفتريات الموجهة إلى خير الناس بعد الأنبياء والمرسلين .
المجلس الخامس
موقف الشيعة الإثني عشرية من الفاروق أبي حفص عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
في الجاهلية والإسلام هيبته
في طي شدته أسرار رحمته
وبين جنبيه في أوفى صرامته
إن الذي برأ الفاروق نزهه
فذاك خلق من الفردوس طينته
لا الكبر يسكنها لا الظلم يصحبها
تثني الخطوب فلا تعلو عواديها
للعالمين ولكن ليس يعشيها
فؤاد والدة ترعى ذراريها
عن النقائص والأغراض تنزيها
الله أودع فيها ما ينقيها
لا الحقد يعرفها لا الحرص يغويها (1)
ذاكم هو الفاروق ، عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي أفضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصديق أبي بكر - رضي الله عنه - .
أسلم فكان إسلامه عزا للمسلمين ، وفتحا مبينا لهم ، فأعلنوا شعائر دينهم بعدما كانوا يخفونها ، وفرق الله بإسلامه بين الحق والباطل ولقبه الرسول صلى الله عليه وسلم يوم إذن بـ(الفاروق) (2).
كان قويا في دينه ، شديدا في الحق ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، ثاقب الرأي ، حاد الذكاء ، نير البصيرة ، جعل الله الحق على لسانه وقلبه .
تولى الخلافة بعد الصديق - رضي الله عنه - ، فكانت ولايته فتحا للإسلام ، ونصرا مؤزرا ، إذ تهاوت في أيامه عروش كسرى وقيصر ، وقضى على أعظم دولتين في ذلك الزمان .
__________
(1) من قصيدة طويلة للشاعر حافظ إبراهيم في الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه .
(2) طبقات ابن سعد 3/270(20/29)
وقد بلغ عدل عمر - رضي الله عنه - الآفاق وأصبح مضرب المثل ، فأحبه القاصي والداني ، وودوا لو مد الله في عمره من أعمارهم ، حتى تدوم ولايته ، ويدوم ما يتفيؤونه في ضلالها من الأمن والعدل ، وعز الإسلام ونصر المسلمين، إلا أن يد الغدر والحقد امتدت إليه لتضع حدا لحياة هذا العملاق العظيم، فقد قام المجوسي الخبيث أبو لؤلؤة بطعنه بخنجر له رأسان ، نصابه في وسطه، كان قد شحذه وأشبعه بالسم، ثم غدر بعمر - رضي الله عنه - وهو يصلي صلاة الفجر ، فطعنه في كتفه وخاصرته لينتقم لدولة المجوس التي أزالها ، ولنارهم التي أطفأها ، كان أمر الله قدرا مقدورا .
فرضي الله عن عمر ، لقد كان إسلامه عزا ، وخلافته فتحا ، ووفاته فجيعة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم .
ولا يزال المسلمون يذكرونه على مر العصور ، وتتابع الأزمان ، ويتحدثون عن فضائله ومناقبه ، ويشيدون بعدله الذي صار مضرب المثل . إلا الشيعة الإثني عشرية فإنهم رغم فضل عمر - رضي الله عنه - وسابقته وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد سلقوه بألسنة حداد ، ورموه بكل شين ونقيصة ، ووجهوا إليه شتى المطاعن . وسأقتصر على بيان بعضها .
فمنها :
أولا : زعم الشيعة أن عمر - رضي الله عنه - مصاب بداء دواؤه ماء الرجال :(20/30)
يزعم الشيعة أن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - كان مصابا بداء في دبره لا يهدأ إلا بماء الرجال (1).
ولم يكتف الشيعة بهذا التلميح، بل تعدوه إلى تصريح ، إذ صرحت بعض رواياتهم أن عمر - رضي الله عنه - كان ممن ينكح في دبره :
فقد روى العياشي -الشيعي- أن من تسمى بـ(أمير المؤمنين) فهو ممن يؤتى في دبره(2).
ومعلوم أن الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هو أول من تسمى بـ(أمير المؤمنين) (3).
__________
(1) أنظر الأنوار النعمانية للجزائري 1/63 ومثل هذا الكلام مذكور في كتاب آخر من كتب الشيعة المعاصرين يعرف بكتاب "الزهراء في السنة والتاريخ والأدب" لمحمد كاظم الكفائي طبع الجزء الأول منه عام 1369هـ وأراد المؤلف إلحاقه بأحد عشر جزءا فخرج الجزء الثاني من الطبع عام 1371هـ في 408 صفحات ولم يتمكن المؤلف من إخراج الأجزاء الباقية وقد عد آغا بزرك الطهراني الشيعي المعاصر هذا الكتاب من كتب الشيعة وذكره ضمن مصنفه : الذريعة إلى تصانيف الشيعة 12/67 وقد رأى هذا الكلام الخبيث في هذا الكتاب الأستاذ البشير الإبراهيمي شيخ علماء الجزائر، عند زيارته الأولى للعراق (أنظر الخطوط العريضة لمحب الدبن الخطيب ص 7 وسراب في إيران لأحمد الأفغاني ص 25
(2) نقله عنه الجزائري في الأنوار النعمانية 1/63
(3) الاستيعاب لابن عبدالبر 2/466 - 467(20/31)
وهذا الإفك وجهه الشيعة إلى من أحب الإمام الأول –المعصوم عندهم-، علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يلقى الله بمثل عمله (1)، وزوجه ابنته أم كلثوم(2) . فهل يحب الإمام المعصوم عندهم أن يلقى الله بمثل عمل من يؤتى في دبره؟ وكيف زوج الإمام المعصوم عندهم ابنته لمن يؤتى في دبره –على حد زعمهم- ؟. سؤال أترك الإجابة عليه أنفسهم .
ومن المطاعن :
ثانيا : زعم الشيعة نفاق وكفر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
يزعم الشيعة أن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان كافرا يبطن الكفر ويظهر الإسلام(3).
ويزعمون أن كفره مساويا لكفر إبليس إن لم يكن أشد منه (4).
ولا يكتفي الشيعة بمجرد القول بكفر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بل يلعنون كل من يشك في كفره ، ويزعمون أنه لا يشك في كفره عاقل :
قال المجلسي –شيخ الدولة الصفوية ومرجع الشيعة المعاصرين- :"لا مجال لعاقل أن يشك في كفر عمر. فلعنة الله ورسوله عليه ، وعلى كل من اعتبره مسلما ، وعلى كل من يكف عن لعنه "(5).
__________
(1) صحيح البخاري 5/77 ك المناقب باب مناقب عمر
(2) هذا الزواج ذكره الشيعة أنفسهم في مصنفاتهم (أنظر على سبيل المثال : الفروع من الكافي للكليني 6/115 والأشعثيات للأشعث الكوفي ص 109 والشافي للمرتضى ص 216 . وأوائل المقالات للمفيد ص 200 – 202 ، وبحار الأنوار للمجلسي 9/621- 625 ومصائب النواصب للتستري ص 169
(3) أنظر الصراط المستقيم للبياضي ض 3/129 ونفحات اللاهوت للكركي ق 49/ب – 52/أ وإحقاق الحق للتستري ص 284 وعقائد الإمامية للزنجاني 3/27
(4) أنظر : تفسير العياشي 2/ 223-224 والبرهان للبحراني 2/310 وبحار الأنوار للمجلسي 8/220
(5) جلاء العيون للمجلسي ص 45(20/32)
ومن العجب أن هذه التهم يوجهها الشيعة جزافا إلى من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان، بله الإيمان بالغيب في قوله لأصحابه ، وليس عمر بينهم :"بينما راع في غنمه، عدا عليه الذئب، فأخذ منها شاه، فطلبه الراعي، فألتفت إليه الذئب، فقال : من لها يوم السبع، يوم ليس لها راع غيري؟ وبينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها، فالتفتت إليه فكلمته فقالت : إني لم أخلق لهذا ولكني خلقت للحرث"، فلما سمع الصحابه منه ذلك، قالوا : سبحان الله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"فإني أؤمن بذلك، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما"(1).
قد أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر صلابة دينه في قوله :"بينما أنا نائم، رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص ، منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك ومر علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره".
فقال له الصحابة - رضي الله عنهم - : ما أولت يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم : "الدين" (2).
وذكر عليه الصلاة والسلام أن الشيطان يهرب من عمر - رضي الله عنه - إذا رآه في طريق (3)، وما ذاك إلا بسبب قوة دينه وشدة يقينه - رضي الله عنه -.
فإذا كان أفضل الصحابة بعد أبي بكر ، ومن وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقوة في الدين كافرا عند الشيعة ، فماذا يقولون فيمن هو دونه في الفضل والدين وقوة الإيمان واليقين؟!.
ومن المطاعن :
ثالثا : فرح الشيعة وابتهاجهم باستشهاد عمر - رضي الله عنه - ، واعتبارهم يوم مقتله يوم عيد لهم:
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 5/78 ك فضائل الصحابة باب مناقب عمر ومسلم في صحيحه 4/1857 – 1858 ك فضائل الصحابة باب : من فضائل أبي بكر الصديق
(2) صحيح اليخاري 5/79 ك فضائل الصحابة باب مناقب عمر
(3) صحيح البخاري 4/256 ك بدىء الخلق باب صفة إبليس(20/33)
الشيعة الإثنا عشرية يفرحون ويبتهجون بمقتل عمر - رضي الله عنه - ، ويعتبرون يوم مقتله عيدا من أكبر الأعياد ، ويعتبرون قاتله أبو لؤلؤة المحوسي الخبيث مسلما من أفضل المسلمين :
فقد روى محمد بن رستم الطبري -الشيعي- بسنده إلى الحسن بن الحسن السامري أنه قال :"كنت أنا ويحيى بن أحمد بن جريج البغدادي، فقصدنا أحمد بن إسحاق البغدادي(1)-وهو صاحب الإمام العسكري - عليه السلام -- بمدينة قم، فقرعنا عليه الباب، وخرجت إلينا من داره صبية عراقية ، فسألناها عنه ، فقالت : هو مشغول وعياله ، فإنه يوم عيد فقلنا : سبحان الله !!! الأعياد عندنا أربعة : عيد الفطر، وعيد النحر، والغدير، والجمعة ؟ قالت : روى سيدي أحمد بن إسحاق عن سيده العسكري، عن أبيه علي بن محمد عليهما السلام أن هذا يوم عيد، وهو خيار الأعياد عند أهل البيت وعند مواليهم ...-إلى أن ذكر خروج أحمد بن إسحاق إليهم، وروايته عن العسكري عن أبيه أن حذيفة بن اليمان دخل في يوم التاسع من ربيع الأول على رسول الله صلى الله عليه وآله ، فذكر له - عليه السلام - بعض فضائل هذا اليوم، ومثالب من يقتل فيه-. قال حذيفة : قلت يا رسول الله ! في أمتك وأصحابك من يهتك هذا الحرم ؟ قال صلى الله عليه وآله : جبت من المنافقين يظلم أهل بيتي، ويستعمل في أمتي الربا، ويدعوهم إلى نفسه، ويتطاول على الأمة من بعدي ، فيستجلب أموال الله من غير حله، وينفقها في غير طاعة ، ويحمل على كتفه درة الخزي ، ويضل الناس على سبيل الله، ويحرف كتابهم، ويغير سنتي ...-إلى أن قال :- ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله، فدهل بيت أم سلمة، فرجعت عنه أنا غير شاك في أمر الشيخ الثاني –يقصد عمر(2)
__________
(1) عده الكشي الشيعي من ثقات أصحاب الحسن العسكري –الإمام الحادي عشر عند الشيعة- أنظر اختيار معرفة الرجال للطوسي ص 557-558
(2) وكنوا عنه بالثاني : لأ،ه ثاني الغاصبين للخلافة من علي –على حد زعمهم- راجع المصادر الشيعية التالية : دلائل الإمامة لابن رستم الطبري ص 257-258 والصراط المستقيم للبياضي 2/26 وتفسير الصافي للكاشاني 2/570 والبرهان للبحراني 4/187 ومقدمة البرهان لأبي الحسن العاملي ص 171-249-260-270-341(20/34)
- ، حتى رأيته بعد رسول الله قد فتح الشر وأعاد الكفر والارتداد عن الدين وحرف القرآن... واستجاب الله دعاء مولاتي –فاطمة- على ذلك المنافق وأجر قتله على يد قاتله...-إلى أن ذكر دخوله على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يهنئه بمقتل عمر - رضي الله عنه - ، وإخبار علي له عن هذا العيد أن له أثنين وسبعين اسما، منها يوم تنفيس الكربة ويوم الثارات ويوم ندمة الظالم، ويوم فرح الشيعة ...إلخ-"(1).
ويترحم الشيعة الإثنا عشرية على أبي لؤلؤة المجوسي الخبيث ، ويعدونه رجلا مسلما من أفاضل المسلمين، ويذكرون أنه إنما قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه انتقاما لظلم أصابه منه، وإهانة ألحقها به (2).
ويصف الشيعة قاتل عمر بالشجاعة ، ويلقبونه بـ(بابا شجاع الدين) (3).
__________
(1) نقله عن ابن رستم كل من : البياضي في الصراط المستقيم 3/29 -مختصرا- والمجلسي في بحار الأنوار 20/330 ونعمة الله الجزائري في الأنوار النعمانية 1/108-111 وصاحب كتاب "عقد الدرر في بقر بطن عمر" ق 1-3 والنوري الطبرسي في فصل الخطاب ص 219 ومحمد صادق الطبطبائي في مجالس الموحدين ص 691 ومحمد رضا الحكيمي في شرح الخطبة الشقشقية ص 220 – 222 وكل هؤلاء الشيعة أوردوا القصة مطولة
(2) عقد الدرر في بقر بطن عمر ق 2-3-4
(3) الكنى والألقاب لعباس القمي 1/147(20/35)
ويظهر الشيعة الإثنا عشرية فرحتهم وابتهاجهم باستشهاد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : فإضافة لاعتبارهم يوم مقتله من أكبر الأعياد، نجدهم ينشدون الأناشيد فرحا وابتهاجا بما جرى له على يد قاتله المجوسي : فقد عقد صاحب كتاب "عقد الدرر في بقر بطن عمر"فصلا وضع له ألوانا قال فيه :"الفصل الرابع في وصف حال سرور هذا اليوم على التعيين، وهو من تمام فرح الشيعة المخلصين ، -ثم ذكر الأناشيد التي تقال في هذا اليوم ووصفها بقوله :- وهي كليمات رآقة، ولفيظات شائقة هو أنه لما طلع الإقبال من مطالع الآمال ، وهب نسيم الوصال بالاتصال بالغدو والآصال، بمقتل من لا يؤمن بالله واليوم الاخر: عمر بن الخطاب الفاجر الذي فتن العباد، ونتج في الأرض الفساد، إلى يوم الحشر والتناد، ملأت اقداح الأفراح، بالرحيق راح الأرواح، ممزوجة بسحيق تحقيق السرور وبماء رفيق توفيق الحبور..."(1).
ثم عقب على هذه الكلمات بذكر الأشعار الطوال التي قيلت ابتهاجا بمقتل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه (2).
وهذا المعتقد الشيعي في عمر - رضي الله عنه - يشم منه رائحة الشعوبية الحاقدة ، والانتصار للمجوسية أعداء الإسلام :
فمن ما لا شك فيه أن أبا لؤلؤة المجوسي كان كافرا ، وأن قتله لأمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - إنما كان ثأرا لدينه ووطنه، فعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان سببا في إطفاء نار المجوس وإزالة ملكهم.
فاندفع أبو لؤلؤة المجوسي بحقده الشخصي –إن قلنا إنه لم يكن مدفوعا من أحد- فقتل عمر، وقتل معه بضعة عشر صحابيا . وعلى هذا فانتصار الشيعة له إنما يعد انتصارا للكفار :
__________
(1) عقد الدرر في بقر بطن عمر ق 6
(2) المصدر السابق نفسه ق 6-11(20/36)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حاكيا عن الشيعة:" ولهذا تجد الشيعة ينتصرون لأبي لؤلؤة الكافر المجوسي، ومنهم من يقول : اللهم ارض عن أبي لؤلؤة واحشرني معه. ومنهم من يقول في بعض ما يفعله من محاربتهم : واثارات أبي لؤلؤة كما يفعلون في الصورة التي يقدرون فيها صورة عمر من الجبس وغيره، وأبو لؤلؤة كافر باتفاق أهل الإسلام كان مجوسيا من عباد النيران،... فقتل عمر بغضا في الإسلام وأهله ، وحيا للمجوس ، وانتقاما للكفار لما فعل بهم عمر حين فتح بلادهم ، وقتل رؤساءهم ، وقسم أموالهم "(1).
وليست تقتصر مطاعن الشيعة على ما ذكر، بل ما ذكرته يعد غيضا من فيض مما في كتب الشيعة من المطاعن المفتراة المواجهة إلى أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر وابنته (2).
المجلس السادس
موقف الشيعة الإثني عشرية من الشيخين معا ، أبي بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما :
ثلاثة برزوا بسبقهم
عاشوا بلا فرقة حياتهم
فليس من مسلم له بصر
نضرهم ربهم إذا نشروا
واجتمعوا في الممات إذا قبروا
ينكر من فضلهم إذا ذكروا
أتدرون من هؤلاء الثلاثة الذين عناهم حسان بن ثابت - رضي الله عنه - بقوله :"ثلاثة برزوا"؟
إنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصاحباه ، وصفياه، وخليلاه، ووزيراه من أهل الدنيا، أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما.
وقد تقدمت نماذج من المطاعن التي وجهها الشيعة إلى هذين الصاحبين الجليلين كل منها على حده. وللشيعة مطاعن أخرى مشتركة وجهوها إلى الشيخين معا ، وسأقتصر على بعض منهما :
فمن هذه المطاعن :
أولا : زعم الشيعة الإثني عشرية وجوب لعن الشيخين رضي الله عنهما والبراءة منهما:
يوجب الشيعة الإثنا عشرية لعن الشيخين ، أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ، ويزعمون أن بعض أئمتهم قد لعنهما :
__________
(1) منهاج السنة النبوية لابن تيمية 6/370-371
(2) صحيح البخاري 5/329 ك المغازي باب غزوة ذات السلاسل(20/37)
فقد نسبوا إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - -زورا وبهتانا- أنه لما قام إليه أحد الناس ، وطلب منه أن يبايعه على ما عمل أبو بكر وعمر ، قال :"فمد يده ، وقال له : اصفق ، لعن الله الإثنين"(1).
وزعم سليم بن قيس –من الشيعة- أن عليا كان يلعن الشيخين دائما (2).
وذكر بعض الشيعة أن الإمام جعفر الصادق رحمه الله كان يلعنهما رضي الله تعالى عنهما في دبر كل مكتوبة(3).
وقد أنشأ الشيعة أدعية عديدة في لعن الشيخين رضي الله تعالى عنهما ، ذكروها في كتبهم ، ووضعوا في فضلها أحاديث كثيرة، ترغيبا لشيعتهم في قراءتها ، والإكثار من ترديدها والدعاء بها .
وسأذكر منها :
الدعاء المسمى بـ"دعاء صنمي قريش" :
هذا الدعاء اعتبره الشيعة من الأدعية الخاصة في لعن الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وابنتيهما عائشة وحفصة زوجتي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والشيعة قد زعموا أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - -وحاشاه مما نسبه إليه الشبعة- كان يقنت في صلاة الوتر بهذا الدعاء(4) . ونسبوا إليه –زورا وبهتانا- أنه قال عنه :"إن الداعي به كالرامي مع النبي صلى الله عليه وآله في بدر وحنين بألف ألف سهم"، ونسبوا إليه كذلك قوله عنه :"إنه من غوامض الأسرار و كرائم الأذكار"(5).
وقد زعم الشيعة أنه –حاشاه عما نسبوا إليه- كان يواضب عليه في ليله ونهاره وأوقات أسحاره(6).
ونسبوا إلى بعض أئمتهم –زورا وبهتانا أيضا- في قضل هذا الدعاء :
__________
(1) رواه الصفار في بصائر الدرجات الكبرى ص 412 والمفيد في الاختصاص ص ص312
(2) السقيفة لسليم بن قيس
(3) نفحات اللاهوت للكركي ق 6/أ 74/ب
(4) البلد الأمين للكفعمي ص511 والمصباح له ص511 ونفحات اللاهوت للكركي ق74/ب وعلم اليقين للكاشاني 2/701 وفصل الخطاب للنوري الطبرسي ص 221 - 222
(5) المصادر السابقة نفسها
(6) المصادر السابقة نفسها(20/38)
أن من قرأه مرة واحدة "كتب الله له سبعين ألف حسنة، ومحى عنه سبعين ألف سيئة، ورفع له سبعين ألف درجة، ويقضى له سبعون ألف ألف حاجة"(1) وأن من يلعن أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في الصباح لم يكتب عليه ذنب حتى يمسي، ومن لعنهما في المساء لم يكتب عليه ذنب حتى يصبح (2).
واهتم الشيعة بهذا الدعاء اهتماما كبيرا، واعتبروه من الأدعية المشروعة (3)، وعمدوا إلى شرحه، فبلغت شروحه أكثر من عشر شروح(4) .
قد ذكر مصنفوا الشيعة هذا الدعاء ، -بعضه، أو كله- في مصنفاتهم، فممن ذكره كله : الكفعمي (5)، والكاشاني (6)، والنوري الطبرسي(7) ، وأسد الله الطهراني الحائري (8)، وسيد مرتضى حسين(9)، ومنظور بن حسين وغيرهم(10).
وممن ذكر مقتطفات من هذا الدعاء أو أشار إليه من مصنفي الشيعة :
__________
(1) ضياء الصالحين ص 513
(2) ضياء الصالحين ص 513
(3) الذريعة لآغا بزرك الطهراني 8/192
(4) راجع المصادر الشيعية التالية : البلد الأمين للكفعمي ص 511 والمصباح له ص 551 ونفحات اللاهوت للكركي ق 74/ب وعلم اليقين للكاشاني 2/701 وفصل الخطاب للنوري الطبرسي ص 221-222 والذريعة إلى تصانيف الشيعة لآغا بزرك الطهراني 8/192 وأمل الآمال للحر العاملي 2/32
(5) في البلد الأمين ص 511-514 وفي المصباح الجنة الواقية ص 548- 557
(6) في علم اليقين 2/701-703
(7) في فصل الخطاب ص 9-10
(8) في مفتاح الجنان ص 113-114
(9) في صحيفة علوية ص 200-202
(10) في تحفة العوام مقبول ص 213-214(20/39)
الكركي في "نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت"(1)، والكاشاني في "قرة العيون"(2)، والداماد الحسيني في "شرعة التسمية في زمن الغيبة"(3)، والمجلسي في "مرآة العقول"(4)، والتستري في "إحقاق الحق"(5)، وأبو الحسن العاملي في مقدمته على تفسير البرهان(6)، والحائري في "إلزام الناصب"(7)، والنوري الطبرسي في "فصل الخطاب"(8)، وعبدالله شبر في "حق اليقين"(9)، وغيرهم .
وقد سمى الشيعة هذا الدعاء بـ"دعاء صنمي قريش" كما تقدم ، لأن أوله :"اللهم صل على محمد وعلى آله محمد، والعن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما وإفكيهما، وابنتيهما...إلخ".
__________
(1) ق 6/أ 74/ب
(2) ص426
(3) ق 26/أ
(4) 4/356
(5) ص 58 ، 133-134
(6) ص 113-174 – 226-250-290-294-313-339
(7) 2/95
(8) 221-222
(9) 1/219(20/40)
ومرادهم -بصنمي قريش- : أبو بكر وعمر –رضي الله تعالى عنهما وعامل بعدله من يبغضهما- كما صرح الشيعة بذلك في العديد من مصنفاتهم، منهم : الكفعمي في شرحه لهذا الدعاء(1)، والكركي في نفحات اللاهوت (2)، والمجلسي(3)، والداماد الحسيني(4)، والتستري في إحقاق الحق(5)، والحائري في إلزام الناصب(6)، والنوري الطبرسي في فصل الخطاب(7).
وبعض الشيعة لم يصرحوا بأن المراد بهما أبو بكر وعمر، -وهذا من باب التقية التي يتعاملون بها مع أهل السنة- واكتفوا بالإشارة إلى ألقابهما، بحيث يدرك الشيعي الذي يعرف ألقابها أنهما المرادان بهذا الدعاء، فالكاشاني: ذكر أن المراد بهما: فرعون وهامان، فقال :"أرذل المخلوقات صنما قريش عليهما لعائن الله.. وهما فرعون وهامان"(8). وفرعون وهامان من الألقاب التي يطلقها الشيعة على الشيخين رضي الله تعالى عنهما كما سيأتي .
__________
(1) المصباح للكفعمي ح ص 552-554
(2) وكتابه نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت ، صنفه خصيصا في لعن الشيخين الجليلين صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما اللذان عناهما بقوله: الجبت والطاغوت ، وقد ذكر في هذا الكتاب أن عليا رضي الله عنه وحاشاه مما ينسبه إليه الشيعة –كان يقنت في الوتر يلعن صنمي قريش ، ثم قال : يريد بهما أبا بكر وعمر وقد ورد استحباب الدعاء على أعداء الله في الوتر ، نفحات اللاهوت للكركي ق 74/ب
(3) في مرآة العقول 4/356
(4) الذي أشار إلى دعاء صنمي قريش ، وقال : إن المراد بـ(صنمي قريش) الرجلان المدفونان مع رسول الله –شرعة التسمية في زمن الغيبة ق 26/أ-
(5) ص 133-134
(6) 2/95 ومما قاله :"صنما قريش هما : أبو بكر وعمر.... غصبا الخلافة بعد رسول الله ...."
(7) ص 9-10 وقال نحوا من قول الحائري
(8) قرة العيون للكاشاني ص 432-433(20/41)
وأشار أبو الحسن العاملي إلى أن المراد بهما : فلان وفلان، أو الجبت والطاغوت(1)، وكلهما من الألقاب التي يطلقها الشيعة على الشيخين .
والدعاء الذي وسمه الشيعة بـ"دعاء صنمي قريش" مليئ باللعن والسب، والشتم، والدعاء بالويل والنار على الشيخين رضي الله عنهما(2)، وهو مليء أيضا بالافتراءات المكذوبة، والإفك الواضح، والبهتان المبين، والإتهامات الباطلة الموجهه لأفضل الناس بعد النبيين ، الشيخين الجليلين أبي بكر وعمر، مثل : دعواهم أنهما أنكرا الوحي، وحرفا القرآن، وخالفا الشرع، وعطلا الأحكام، وخربا البلاد، وأفسدا العباد، وأخرب بيت النبوة، و...، و...، إلى آخر هذا الهذيان الكاذب، والإفك المفترى.الذي لا يسعفه برهان، ولا تؤيده حجة، ولا دليل. وهو يكشف بوضوح عما بعتمل في صدور الشيعة من حقد دفين، وبغض شديد، وكراهية شنيعة لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل ولأفضلهم على الإطلاق : الذين أمرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نقتدي بهما بعد موته.
أما عن عقيدة الشيعة في البراءة من الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما :
فإن البراءة منهما ومن عثمان ومعاوية - رضي الله عنهم - تعد من ضروريات مذهبهم، فمن لم يتبرأ منهم فليس من مذهب الشيعة في شيء.
قال المجلسي –مرجع الشيعة المعاصرين-:"ومن ضروريات دين الإمامية البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية ... (3).
__________
(1) مقدمة البرهان للعاملي ص 133
(2) وقد ختموا هذا الدعاء بقولهم :"ثم قل أربع مرات : اللهم عذبهم عذابا يستغيث منه أهل النار.."
(3) الاعتقادات للمجلسي ق 17(20/42)
بل والبراءة منهم تعتبر عند الشيعة من أسباب ذهاب الأسقام وشفاء الأبدان(1) ومن تبرأ منهم ومات في ليلته دخل الجنة روى الكليني في كتابه الكافي –الذي يعد أحد الأصول الأربعة المعتبرة عند الشيعة- بسنده عن أحدهما(2)- قال : من قال : اللهم إني أشهدك وأشهد ملائكتك المقربين وحملة عرشك المصطفين أنك أنت الله لا إله إلا أنت الرحمن الرحيم وأن محمدا عبدك ورسولك وأن فلان إمامي ووليي(3) وأنا أباه رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي والحسن والحسين وفلانا وفلانا –حتى ينتهي إليه(4)- أوليائي على ذلك أحيا عليه وأموت وعليه أبعث يوم القيامة وأبرأ من فلان وفلان وفلان فإن مات من ليلته دخل الجنة"(5).
وفلان وفلان وفلان هم أبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - .
وليس الشيعة وحدهم الذين يلعنون الشيخين الجليلين أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ويتبرأون منهما بل هناك خلق آخر –على حد زعم الشيعة- خلقهم الله للعن الشيخين والتبرئ منهما فقط .
فقد نسب الشيعة زورا وبهتانا إلى جعفر الصادق رحمه الله أنه قال :"إن من وراء عين شمسكم هذه أربعين عين شمس فيها خلق كثير وإن من وراء قمركم أربعين قمرا فيها خلق كثير لا يدرون أن الله خلق آدم أم لم يخلقه ألهموا إلهاما لعنة فلان وفلان.
__________
(1) إلزام الناصب للحائري 2/9
(2) مصطلح يستعمله الشيعة ويريدون به أحد الإمامين جعفر الصادق أو أباه الباقر
(3) ويسمى إمام زمانه
(4) أي : إلى إمام زمانه
(5) الأصول من الكافي للكليني 2/389(20/43)
وفي رواية الكليني صاحب الكافي : لم يعصوا الله طرفة عين يبرأون من فلان وفلان(1)
وقد علق المجلسي على هذه الرواية بقوله من فلان وفلان أي من أبي بكر وعمر(2).
وخلاصة القول : أن الشيعة الإثني عشرية مجمعون على لعن الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما والتبرئ منهما بل ويوجبون ذلك كما تقدم آنفا.
ولا ريب في مخالفة هذه الأقوال لما يعتقده أئمتهم في الشيخين رضي الله عنهما خصوصا وفي الصحابة عموما وستأتي بعض أقوالهم في ذلك ولا شك أن ما نسبوه إلى بعض أئمتهم من لعن الشيخين رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة والتبرئ منهم مكذوب على أولئك الأئمة وقد ورد عنهم ما يخالف ذلك :
فهذا أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه ينهى بعض من كان في جيشه عن سب معاوية رضي الله عنه –مع كونه دون الشيخين في الفضل باعتراف الشيعة أنفسهم- ويقول لهم : ما نسبه إليه الشيعة في كتبهم كرهت لكم أن تكونوا شتامين لعانين(3) فما كرهه لهم يكرهه لنفسه وهو الذي يعمل بما يقول وهو المعصوم –في نظرهم-.
وليس الأمر قاصرا على مجرد الكراهة بل إن أمير المؤمنين عليا - رضي الله عنه - أمر بقتل من يلعن الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .
__________
(1) رواه الصفار والكليني بسنديهما بصائر الدرجات الكبرى للصفار ص510-513 والروضة من الكافي للكليني ص 347 وانظر الخرايج والجرايح للراوندي ص 127 ومختصر بصائر الدرجات لحسن الحلي ص 12 . وقرة العيون للكاشاني ص 433 والبرهان للبحراني 1/48، 4/216 ومرآة العقول –شرح الروضة- للمجلسي 4/347 ، وقد أورد رجب البرسي هذه الرواية وزاد على الشيخين عثمان بن عفان.أنظر : مشارق الأنوار لرجب البرسي ص 42
(2) مرآة العقول –شرح الروضة- للمجلسي 4 /347
(3) أنظر المصادر الشيعية التالية : وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص 102 ، والأخبار الطوال للدينوري ص 1965 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11/92 والدرجات الرفيعة للشيرازي ص 424(20/44)
فقد روى أحمد و الطبراني(1) بسند حسن عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال :"يأتي قوم بعدنا ينتحلون شيعتنا وليسوا بشيعتنا لهم نبز (2) وآية ذلك أنهم يشتمون أبا بكر وعمر فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون"(3).
ولما بلغه رضي الله عنه أن بعض الناس يتناولون الشيخين رضي الله تعالى عنهما بالسب توعد من تكلم فيهم بسوء بحد المفتري ، ثمانين جلدة ، فقد روى الشيخ محمد بن عبدالواحد المقدسي بسنده أن أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه بلغه أن نفرا من الناس يتناولون أبا بكر وعمر ، فقال: لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل ، ثم صعد المنبر وخطب الناس خطبة بليغة جاء فيها :"ما بال أقوام يذكرون سيدي قريش، وأبوي المسلمين؟ أنا مما قالوا بريء وعلى ما قالوا معاقب ألا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن تقي ولا يبغضهما إلا فاجر ردي".
ثم ذكر كلاما طويلا أخبر فيه عن فضلهما ، وعن وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو راض عنهما وعن رضا الناس ببيعتهما ، وعن سيرتهما الحميدة في خلافتهما ثم ختم كلامه رضي الله تعالى عنه بقوله :"ألا فمن أحبني فليحبهما ومن لم يحبهما فقد أبغضني، وأنا بريء منه ، ولو كنت تقدمت إليكم في أمرهما لعاقبت على هذا أشد العقوبة ولكن لا ينبغي أن أعاقب قبل التقدم ، ألا فمن أتيت به يقول هذا بعد اليوم ، فإن عليه ما على المفتري ، الا وخير هذه الأمة بعد نبيها : أبو بكر وعمر ، ولو شئت لسميت الثالث ، وأستغفر الله لي ولكم"(4)
__________
(1) قال الهيثمي : رواه الطبراني وإسناده حسن . مجمع الزوائد للهيثمي 11/22
(2) النبز بالتحريك : اللقب . الصحاح للجوهري . ويريد بذلك تلقيبهم بـ(الرافضة
(3) فضائل الصحابة لأحمد 1/441
(4) كتاب النهي عن سب الأصحاب وما ورد فيه من الإثم والعقاب ق 4/ب-6/أ(20/45)
فما أحوج الشيعة إلى تأمل هذا الكلام العظيم من هذا الإمام الكريم، إنه لم يكتف بالنهي عن سبهما وبغضهما بل جعل حبهما رضي الله تعالى عنهما من علامات حبه رضي الله تعالى عنه وجعل بغضهما من علامات بغضه بل وفضلهما على نفسه الكريمة ، بجعلهما خير الناس بعد رسول الله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم .
وتفضيله لهما على نفسه رضي الله عنه بالتواتر مستفيض عنه من الوجوه الكثيرة أنه قال على منبر الكوفة ، واسمع من حضر : خير الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر (1).
وروى الإمام البخاري في صحيحه عن محمد بن الحنفية –وهو ابن علي رضي الله عنه من زوجته الحنفية- قال : قلت لأبي : أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أبو بكر ، قلت : ثم من ؟ قال : ثم عمر (2).
وعندما أظهر ابن سبأ الطعن في أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ، أمر علي بقتله ، ثم شفع فيه بعض الناس، فعدل عن قتله ونفاه إلى المدائن –كما اعترف احد الشيعة بذلك-(3).
فرضي الله عن أمير المؤمنين وجزاه ربه خيرا عن وضعه الحق في نصابه ومعرفته الفضل لأهله ، فإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل .
__________
(1) راجع منهاج السنة النبوية 1/11-12
(2) صحيح البخاري 5/7 ك فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب حدثنا الحميدي ومحمد بن عبدالله..
(3) فرق الشيعة للنوبختي ص 44(20/46)
وعلى معتقده في الشيخين كان معتقد شيعة الأوائل ، فإنهم لم ينازعوا في تفضيل أبي بكر وعمر عليه رضي الله عنهم أجمعين ، وهذا ما اعترف به علماء الشيعة الأكابر ، فقد ذكر أبو القاسم البلخي أن سائلا سأل شريك بن عبدالله بن أبي نمر –من كبار أصحاب علي رضي الله عنه- فقال له : أيهما أفضل : أبو بكر أو علي ؟ فقال له شريك : أبو بكر ، فقال السائل : أتقول هذا وأنت من الشيعة ؟ فقال : نعم ، إنما الشيعي من قال مثل هذا والله لقد رقى علي هذه الأعواد –يريد أعواد منبر مسجده في الكوفة- فقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر . أفكنا نرد قوله ؟ أكنا نكذبه؟ والله ما كان كذابا(1)!!
أما الإمام علي بن محمد ، أبو جعفر الباقر : فقد نهى عن اللعن والسب مطلقا وأخبر الله تعالى يبغض ذلك، فقال :"إن الله يبغض اللعان السباب الطعان الفحاش المتفحش"، وهذا ما اعترف به أحد الشيعة (2) فهل يفعل الإمام المعصوم -عندهم- ما يبغضه الله؟.
وقد أخبر عن نفسه –رحمه الله- أنه يتولى الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ، وأخبر أيضا أنه لم يكن أحد من أهل البيت يسبهما .
فعندما سأله جابر الجعفي عن الشيخين رضي الله تعالى عنهما :"أكان منكم أهل البيت أحد يسب أبا بكر وعمر؟ قال : لا، وأنا أحبهما وأتولاهما وأستغفر لهما"(3).
__________
(1) قال ابن تيمية في منهاج السنة 1/13-14 : ذكر هذا أبو القاسم البخلي في النقض على ابن الراوندي اعتراضه على الجاحظ، وقد نقله عته القاضي عبدالجبار الهمداني في كتابه "تثبيت دلائل النبوة 1/549
(2) وهو اليعقوبي في تاريخه 2/321
(3) طبقات ابن سعد 5/236(20/47)
أما الأمام جعفر الصادق رحمه الله –إمام القوم السادس- فلم يكن يتولاهما فحسب ، بل كان يأمر أتباعه بتوليتهما أيضا : فقد روى الكليتي –في كتاب الكافي الذي هو عند الشيعة بمنزلة صحيح البخاري عند أهل السنة- بسنده عن الصادق أنه قال لامرأة من الشيعة سألته عن أبي بكر وعمر ، أتتولاهما وتحبهما؟ : "توليهما" قالت : فأقول لربي إذا لقيته إنك أمرتني بولايتهما ؟ قال : نعم (1).
وأخبر زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أصحابه أنه لم يسمع أحدا من آبائه يتبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، كما نقل ذلك عن الشيعة (2)
وآباؤه –رضوان الله عليهم- الذين لم يسمع أحدا منهم يتبرأ من الشيخين هم : زين العابدين ، وعلى بن الحسين ، وأبوه الحسين بن علي، وجده علي بن أبي طالب.
أفلا يسع الشيعة ما وسع أئمتهم من تولي الشيخين والترضي عنهما ، وعدم التبرئ منهما ، ولعنهما؟!.
ولم يكتف زيد بن علي رضي الله عنهما بقوله هذا ، بل وافقه بفعله وذلك حين جاءه فوم ممن ينتحلون التشيع ومودة آل البيت ، وطلبوه منه أن يتبرأ من الشيخين ، أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، حتى يبايعوه –وذلك حينما خرج على الأمويين- ، فقال لهم كلمته الرائعة التي ألجمت أفواههم، وبينت لهم معنى التشيع الحق:"أنا أتبرأ ممن يتبرأ منهما"(3) ، "والبراءة من أبي بكر وعمر براءة من علي"(4) ، فقالوا له :"إذن نرفضك"(5).
__________
(1) الروضة من الكافي للكليني ص 101
(2) الانتقاضات الشيعية لهاشم الحسيني ص 497
(3) مرآة الجنان لليافعي ص 257
(4) الأنساب للبلاذري 3/241
(5) مرآة الجنان لليافعي ص 257 وانظر المصادر الشيعية : مروج الذهب للمسعودي 3/220 وروضات الجنات للخوانساري 1/324(20/48)
فهذه أقوال من يزعم الشيعة أنهم أئمة لهم ، وهذه حالهم، ويتولون أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، بل وسائر الصحابة ، ويترحمون عليهم ، ولا يتبرؤون منهم، بل ويأمرون الناس بتوليهم ومحبتهم ، ويحذرونهم من بغضهم وسبهم . فكيف يدعي من يزعم الانتساب إليهم والبراءة من الشيخين والصحابة واجبة؟!.
سؤال أترك الإجابة عليه للشيعة أنفسهم.
ثانيا : زعم الشيعة أن الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يرجعان
إلى الدنيا قبل يوم القيامة للإقتصاص منهما وإنزال أشد العقوبة بهما:
بعتقد الشيعة الإثنا عشرية أنا أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما يرجعان إلى الدنيا قبل يوم القيامة للإقتصاص منهما على يد قائم أهل البيت –مهدي الشيعة المنتظر- ويزعمون أن القرآن الكريم دل على رجعتهما وأخبر عنهما أنهما يذوقان شتى ألوان العذاب في الرجعة .. فقد استدلوا بقوله تعالى حاكيا عن قوم موسى - عليه السلام - وما وقع عليهم من فرعون وجنوده (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون)(1)
فزعموا أن المراد بـ (فرعون وهامان) في هذه الآية أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وحاشاهما مما بهتهما به الشيعة –يحيهم القائم قبل يوم القيامة ليشفي صدور شيعته منهما-.
__________
(1) سورة القصص الأيتان 5-6(20/49)
فقد أسند محمد بن الحسن الشيباني في كتابه كشف نهج الحق إلى محمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق رحمها الله وحاشاهما مما نسبه إليهما الشيعة –قولهما في تفسير هذه الآية –(إن فرعون وهامان هاهنا شخصان من جبابرة قريش(1) يحيهما الله تعالى عند قيام القائم من آل محمد - عليه السلام - في آخر الزمان فينتقم منهما بما أسلفا(2).
وقد صرح جمع من علماء الشيعة أن المراد بفرعون وهامان في هذه الآية : أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وزعموا أن قائمهم يحييهما ويصلبهما على جذع نخله ويقتلهما كل يوم ألف قتله جزاء بما قدما ظلم أهل البيت والاعتداء عليهم –على حد زعمهم-).
__________
(1) وضع الجزائري والحائري وشبر –من الشيعة-: أبا بكر وعمر بدل :"شخصان من جبابرة قريش" ، وعزو هذا القول إلى الصادق فقط."الأنوار النعمانية للجزائري2/89"وإلزام الناصب للحائري 2/366-274، وحق اليقين لشبر 2/10 –25-28
(2) نقله عنه البحراني في البرهان 3/220 وانظر الإيقاظ من الهجعة للحر العاملي ص 256-342 والأنوار النعمانية للجزائري 2/89، وإلزام الناصب للحائري 1/81-82، 2/266- 274-338 وحق اليقين لشبر 2/10 –25-28(20/50)
وممن صرح أن المراد بفرعون وهامان أبو بكر وعمر –رضي الله تعالى عنهما- وعامل بعدله من يبغضهما- .. البياضي(1) وحسن بن سليمان الحلي(2) والطبسي النجفي(3) والبحراني(4) والجزائري(5) وأحمد الأحسائي(6) وعلي الحائري(7) وعبدالله شبر (8) وغيرهم(9) .
وعلق المجلسي على رواية الكليني المسنده إلى جعفر الصادق وفيها القول المنسوب كذبا إلى أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - .. (وقد قتل الله الجبابرة على أفضل أحوالهم ... وأمات هامان وأهلك فرعون(10) بقوله : وأمات هامان أي عمر وأهلك فرعون أي أبا بكر ويحتمل العكس ويدل على أن المراد هذان الأشقيان)(11).
وبنحو قوله قال أبو الحسن العاملي(12) . وكنى الكاشاني عنهما بـ صنمي قريش (13).
__________
(1) في الصراط المستقيم
(2) في مختصر بصائر الدرجات ص 191
(3) في الشيعة والرجعة ص 139
(4) في البرهان 3/220
(5) في الأنوارالنعمانية 2/89
(6) في الرجعة ص 191
(7) في إلزام الناصب 2/266-274-337-338
(8) في حق اليقين 2/10 – 25-28
(9) ويلاحظ أن هؤلاء المذكورين كلهم من متأخريالشيعة ، ما بعد القرن التاسع الهجري ، إلى وقتنا الحاضر ، وقد نقل لاحقهم عن سابقهم ، وتواطؤوا فيما بينهم على ذلك ، ويجوز التواطؤ على الكذب -عقلا- إذا كان المتواطئون ينقلون ما يقوي مذهبهم ، وقد تبين لك أخي يا محب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحب أصحابه أن بغض الصحابة وسبهم من قواعد الشيعة وعقائدهم الأساسية فلا تغتر بتواطؤهم على نقل هذه الرواية الخبيثة ، ونسبتها إلى أئمتهم الطاهرين المبرئين مما يزعمه الشيعة ، إذ الشيعة قوم بهت ، دينهم الكذب
(10) الروضة من الكافي للكليني ص 277
(11) مرآة العقول –شرح الروضة- للمجلسي 4/277
(12) مقدمة البرهان للعاملي ص 263-341
(13) قرة العيون للكاشاني ص 432-433(20/51)
أما دعوى الشيعة إحياء قائمهم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وصلبهما فالمزاعم المفتراه والأكاذيب الملفقة عليها كثيرة في كتبهم وهم لا يتورعون عن الكذب على الله عز وجل الذي يقول سبحانه ..(ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا)(1) وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال في الحديث الصحيح المتواتر :"من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"(2).
فتراهم يزعمون كذبا أن الله تعالى قد أخبر نبيه بذلك ليلة الإسراء:
فقد أسند الصدوق إلى جعفر الصادق –زورا وبهتانا- قصة الإسراء والمعراج وفيها زعموا رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لأنوار الأئمة الإثنا عشر وفي وسطهما محمد بن الحسن قائم الشيعة وسؤال ربه عنهم .. يا رب ومن هؤلاء؟ قال : الأئمة وهذا القائم الذي يحلل حلالي ويحرم حرامي وبه انتقم من أعدائي وهو راحة لأوليائي ؟ وهو الذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين فيخرج اللات والعزى طريين فيحرقهما ، فلفتنة الناس يومئذ بهما أشد من فنتة العجل والسامري"(3).
__________
(1) سورة الأنعام الآية 21-93، وسورة هود الآية 18 وسورة العنكبوت الآية 68
(2) ذكر الزبيدي في "لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة" ص 261- 282 أن تسعة وتسعين صحابيا رووا هذا الحديث منهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي ا لله عنه الذي أخرج له هذا الحديث البخاري ومسلم وغيرهما
(3) إكمال الدين للصدوق ص 246 وانظر مقدمة البرهان لأبي الحسن العاملي ص 249(20/52)
والمراد بـ(اللات والعزى) عند الشيعة : أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ، ويشهد لذلك تعليق أحد علماء الشيعة السيد الداماد الحسيني -الشيعي- على رواية إخراج القائم للات والعزى بقوله :"تنبيه : لا يخفين على بصيرتك أن اللات والعزى هما صنما قريش اللذان دعا عليهم أمير المؤمنين - عليه السلام - في دعائه المشهور ودفنا في بيت رسول الله وفي حريم قبره ودون إذن منه ولا أهل بيته المطهرين القائمين بأمره صلى الله عليه وآله وسلم "(1).
__________
(1) شرعة التسمية في زمن الغيبة للداماد الحسيني ق26/أ(20/53)
ويزعم الشيعة –كذبا أن عليا رضي الله عنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: فقد أسند ابن رستم الطبري إلى أبي الطفيل عامر بن واثلة(1) أنه قال –وحاشاه أن يكون قال هذا الكذب المبين- :"رأيت أمير المؤمنين وهو في بعض أزقة المدينة يمشي وحده فسلمت عليه واتبعته جتى انتهى إلى دار الثاني(2) فاستأذن فأذن له فدخل فدخلت معه فسلم على الثاني عمر –وهو يومئذ خليفة فجلس فحين استقرت به الأرض قال له : من علمك الجهالة يا مغرور؟ أما والله لو ركبت القفر ولبست الشعر لكان خيرا لك من المجلس الذي جلسته ...- إلى أن قال : والله لكأني بك وبصاحبك-أبي بكر- قد أخرجتما طريين حتى تصلبا بالبيداء..- إلى أن قال له عمر .._ يا أبا الحسن إني لأعلم انك ما تقول إلا حقا فأسألك بالله أن رسول الله سماني وسمى صاحبي؟ فقال له : والله إن رسول الله سماك وسمى صاحبك ....إلخ "(3).
__________
(1) صحابي مات سنة نيف ومائة . راجع الاستيعاب لابن عبدالبر 4/115-118 . والإصابة لابن حجر 4/113
(2) عند الأحسائي "عمر" بدل –الثاني- الرجعة ص 130-133 ويقصدون بالثاني : أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، لأنه الثاني في الخلافة بعد الصديق رضي الله تعالى عنهما
(3) دلائل الإمامة لابن رستم الطبري ص 257-258 وانظر حلية الأبرار لهاشم البحراني 5/598-606 والرجعة للأحسائي ص 130-133 وانظر من كتب النصيرية : الهداية الكبرى للحسين بن حمدان الخضيبي ص 162-164(20/54)
وكتب الشيعة مملؤة بأخبار نسبوها –زورا وبهتانا- إلى عدد من الأئمة تدل على أنهم –أعني الشيعة- بعتقدون أن الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما يخرجان من قبريهما ويصلبان قبل يوم القيامة وبعذبان أشد العذاب .. فالروايات المنسوبة -كذبا- إلى أبي جعفر الباقر : زعموا أنها رواها عنه عدد من رواة الشيعة أمثال أبي بصير(1) والمفضل بن عمر(2) وسلام بن المستنير(3) وعبد الأعلى الحلبي(4) وغيرهم . وكل هذه الروايات المكذوبة المفتراه تدور حول معنى واحد هو إخراج الشيخين رضي الله نعالى عنهما من قبريهما غضيان طريين وصلبهما وافتتان الناس بهما .
والرويات المنسوبة –زورا وبهتانا- إلى أبي عبدالله الصادق زعموا أنها رواها عنه عدد من رواة الشيعة أمثال ابي الجارود (5).
__________
(1) سعد السعود لابن طاووس ص 116 وانظر من كتب النصيرية : اللفت الشريف-رواية المفضل بن عمر الجعفي ص 164
(2) انظر مختصر بصائر الدرجات للحلي ص 189.والإيقاظ من الهجعة للحر العاملي ص 286-288. ومقدمة البرهان لأبي الحسن العاملي ص 361. وإلزام الناصب للحائري 1/81-82
(3) إكمال الدين للصدوق ص 626
(4) تفسير العياشي 2/57-58.والبرهان للبحراني 2/81-83 وبحار الأنوار للمجلسي 13/188-189
(5) أنظر دلائل الإمامة لابن رستم الطبري ص 242. والرجعة لأحمد الأحسائي ص 128-129(20/55)
والمفضل بن عمر(1) وبشير النبال(2) وإسحاق بن عمار وغيرهم .
وكلها تدور حول نفس المعنى الذي دارت عليه الروايات السابقة .
أما محمد بن علي الجواد المعروف بأبي جعفر الثاني : فقد روى عنه قصة صلب القائم للشيخين رضي الله عنهما –على حد زعم الشيعة- عبدالعظيم بن عبدالله الحسني(3) .
وعن محمد بن الحسن العسكري –وهو قائم الشيعة الذي يصلب الشيخين كما يزعمون وهو لم يولد أصلا لعقم الحسن العسكري زعم الشيعة أنه رواها علي بن أبي إبراهيم بن مهزيار. وهي قصة طويلة مفتراه ذكروا فيها قول محمد بن الحسن المهدي المزعوم- :"... وأجيء إلى يثرب فأهدم الحجر وأخرج من بها وهما طريان فآمر بهما تجاه البقيع وآمر بخشبتين فيصلبان عليهما فتورقان من تحتهما فيفتتن الناس بهما أشد من الفتنة الأولى ...إلخ"(4).
__________
(1) أنظر إكمال الدين للصدوق ص 392 وعيون أخبار الرضا له 1/58 وحلية الأبرار لهاشم البحراني 2/652-676. وبحار الأنوار للمجلسي 52/379 ،53/1-38 وحق اليقين له -فارسي- ص 527 والأنوار التعمانية للجزائري 2/85 ومقدمة البرهان للعاملي ص 360-362 والرجعة للأحسائي ص 182-200 وحق اليقين لشبر 2/23 وإلزام الناصب للحائري 2/262-337. وبيان غيبة حضرة إمام موعود لمحمد كرئلائي ق48/ق55. والشيعة والرجعة للطبسي ص 139. ودوائر المعارف الشيعية لمحمد حسن الأعلمي 1/350-351.
(2) أسنده إليه المفضل بن شاذان في كتاب الرجعة كما ذكر ذلك المجلسي في بحار الأنوار 52/386
(3) إكمال الدين للصدوق ص 361 . وإعلام الورى للفضل الطبرسي ص 409 والاحتجاج لأحمد الطبرسي ص 446. والإيقاظ من الهجعة للحر العاملي ص 269 والبرهان للبحراني 1/165 وبحار الأنوار للمجلسي 52/283 والرجعة للأحسائي ص 128-129
(4) مختصر بصائر الدرجات للحلي ص 176-177.والإيقاظ من الهجعة للحر العاملي ص 286(20/56)
وهذا المعتقد الخبيث المخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين يعرف عن الشيعة بالرجعة ويزعمون أنها –أي الرجعة المزعومة- حشر للأبدان والأرواح تشبه حشر القيامة (1).
والرجعة من عقائد الشيعة الأساسية وقد استدلوا عليها بنحو مائة آية من كتاب الله أولوها بما لا يسعفه برهان ولا تقويه حجة .
ولا إمام عند الشيعة لمن لم يعتقد بالرجعة وليس من الشيعة في شيء من ينكرها-كما نسبوا ذلك إلى أئمتهم-(2).
وهي خاصة بمن كان مؤمنا خالصا أو منافقا خالصا فلا يرجع إلى من علت درجته في الإيمان أو بلغ الغاية في الكفر والنفاق .
ومعلوم أن الشيخين الجليلين أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ليس ممن محضن الإيمان –عند الشيعة- فهما إذا من الفريق الآخر بدليل :
إجماع الشيعة على أنهما يرجعان ويذوقون شتى أنواع العذاب على يد القائم-الذي بعث نقمه(3) من صلبها(4) وضربهما بسياط من نار(5) وقتلهما في كل يوم ألف قتلة(6) وحرقهما(7) ونسفهما في اليم نسفا كما فعل موسى عليه السلام بالعجل(8) بل وقتل كل من أحبهما(9) على حد زعم الشيعة الذين أوردوا كل هذه المفتريات في كتبهم-.
__________
(1) حق اليقين لشبر 2/13
(2) راجع الاعتقادات للمجلسي ق 23-ب
(3) أسنده الكليني إلى الصادق : الروضة من الكافي ص 347
(4) البرهان للبحراني 2/407 ومقدمة البرهان للعاملي ص 361 والإيقاظ من الهجعة للحر العاملي ص 269، وإلزام الناصب للحائري 2/167
(5) الرجعة للأحسائي ص214
(6) الإيقاظ من الهجعة للحر العاملي ص 287
(7) الإيقاظ للحر العاملي ص 269 والرجعة للأحسائي ص 129
(8) مقدمة البرهان لأبي الحسن العاملي ص 239
(9) إلزام الناصب للحائري 1/146. والرجعة للأحسائي ص187(20/57)
والمتصفح لكتاب الأدعية عند الشيعة يجدها مليئة بدعاء القائم كي يخرج وينتقم من أعداء آل البيت وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وحاشا أبا بكر وعمر(1) أن يكون في قلبيهما بغض لآل بيت رسولهم صلى الله عليه وسلم وكثيرا ما يكون دعاءه شعرا ولك كقول قائلهم (2):
يا حجة الله يا خير الأنام ويا
أرجو من الله ربي أن يبلغني
ينبشان كما قال النبي لنا
ويشهران بلا ريب ولا شبه
ويصلبان على جذعين من خشب
هناك تشفى قلوب طال ما ملئت
نور الظلام ويا ابن الأنجم الزهر
أرى اللعينين رؤيا العين بالنظر
من بعد دفنها في سائر الحفر
على رؤوس الملا من سائر البشر
ويحرقان بلا شك ولا نكر
هما وتصبح بعد الهم بالبشر
__________
(1) راجع المصباح للكفعمي ص 34-305-495. ومفتاح الجنان لعباس القمي ص 589
(2) وهو صاحب عقد الدرر في شرح بقر بطن عمر ق11(20/58)
ولا يقتصر زمن صلب الشيخين رضي الله تعالى عنهما على وقت الرجعة عند الشيعة –بل تراهم يزعمون أن أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما يصلبان في كل عام أيضا فقد روى الصفار والمفيد بسنديهما المسلسلين بالكذابين عن عيسى بن عبدالله بن أبي طاهر العلوي(1) يروي عن أبيه عن جده "أنه كان مع أبي جعفر محمد بن علي الباقر(2) بمنى وهو يرمي الجمرات وأن أبا جعفر - عليه السلام - رمى الجمرات قال : فاستتمها ثم بقي في يده بعد خمس حصيات فرمى اثنتين وثلاثة في ناحية فقال له جدي : جعلت فداك لقد رأيتك صنعت شيئا ما صنعه أحد قط . رأيتك رميت الجمرات ثم رميت بخمسة بعد ذلك ثلاثة في ناحية و اثنتين في ناحية ؟ قال : نعم إنه إذا كان كل موسم أخرج الفاسقين الغاصبين ثم يفرق بينهما هاهنا لا يراهما إلا إمام عادل فرميت الأول –أبا بكر- اثنتين والآخر -عمر- ثلاثة لأن الآخر أخبث من الأول"(3).
وهكذا لا يتورع الشيعة عن توجيه مثل هذا الاتهامات إلا اللذين هما أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وزيري رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف مكانتهما ومنزلتهما عنده وقد شهد لهما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بذلك :
__________
(1) وهو شيعي يبغض والشيخين والصحابة قال عنه المامقاني –من علماء الشيعة-:حسن . تنقيح المقال
(2) رحمه الله وحاشاه أن يكون قال شيئا من هذا الإفك
(3) بصائر الدرجات الكبرى للصفار ص 306-307. والاختصاص للمفيد ص 277 . وانظر : مختصر بصائر الدرجات للحلي ص 111. وبحار الأنوار للمجلسي 8/214(20/59)
فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال :"وضع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على سريره فتكنفه الناس يدعون ويصلون قبل أن يرفع وأنا فيهم فلم يرعني إلا رجل آخذ منكبي فإذا علي بن أبي طالب فترحم على عمر وقال ما خلفت أحد أحب إلي أن ألقى الله بمصل عمله منك. وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وحسبت أني كنت كثيرا أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر وإني كنت أظن أن يجعلك الله معهما"(1).
ولا ريب أن عقيدة الرجعة التي يعتقدها الشيعة مخالفة لنصوص الكتاب والسنة تمام المخالفة :
فهناك آيات كثيرة تبطل هذه العقيدة تماما منها قوله تعالى :"حتى جاء أحدهم الموت قال ربي ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن وارائهم برزخ إلى يوم يبعثون"(2) فالبقاء في البرزخ إلى يوم البعث الذي هو يوم القيامة بالاتفاق.
وهذه الاية قطعت كل أمل في الرجعة إلى الدنيا سواء أكانت للعمل الصالح أم لغيره .
وقد بين الرب تبارك وتعالى فيها استحالة الرجوع إلى الدنيا وعلل هذه الاستحالة بوجود برزخ لا يمكن لأخد أن يتجاوزه حجز بين الموت والبعث وبين الدنيا والآخرة(3).
أضف إلى ذلك وجود الأحاديث النبوية الكثيرة المصرحة بعدم الرجعة إلى الدنيا قبل يوم البعث ولا يتسع المقام لإيرادها .
ولكن لما كانت النصوص القرآنية والنبوية غير ذات أثر أو اعتبار عند الشيعة ناسب أن أسوق لهما بعض أقوال من يعتقدون إمامته في إبطال عقيدة الرجعة ليتبن بذلك كذب ما نسبوه إلى هؤلاء الأئمة الأبرار من أباطيل وترهات :
__________
(1) صحيح البخاري 5/77. وصحيح مسلم 4/1859. وكلاهما في ك فضائل الصحابة ، باب فضل عمر
(2) سورة المؤمنون 99-100
(3) تفسير ابن كثير 3/256 وفتح القدير للشوكاني 3/499(20/60)
فمنهم : أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الذي أخبر في عدة مواطن باستحالة رجوع من مات إلى الدنيا . من ذلك القول الذي نسبه إليه الشيعة في كتاب تهج البلاغة :"فبادروا العمل ، وخافوا بغتة الأجل ، فإنه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرزق"(1).
وكذا القول الذي نسبوه إليه أيضا: "ما بينكم وبين الجنة إلا الموت أن ينزل بكم"(2).
ومنهم : الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما الذي رد على من نقل إليه مزاعم القائلين بالرجعة علي - رضي الله عنه - إلى الدنيا فقال :"كذب أولئك الكاذبون لو علمنا ذلك ما تزوج نساؤه ولا قسمن ميراثه"(3).
ومنهم : زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب إمام الشيعة الرابع الذي قال :"جاءني رجل من أهل البصرة فقال : ما جئت حاجا ولا معتمرا . قال : قلت : ما جاء بك ؟ قال : أسألك متى يبعث علي ؟ قال : يبعث يوم القيامة وهمة نفسه"(4).
ومنهم : محمد بن علي بن الحسين إمام الشيعة الخامس الذي نص صراحة على أن أهل البيت - عليه السلام - مبرؤون من اعتقاد الرجعة ، لم يقل أحد منهم بها ، فقد أخرج ابن سعد بسنده عن زهير بن جابر قال :"قلت لمحمد بن علي : أكان منكم أهل البيت أحد يقر بالرجعة؟ قال : لا . قلت : أكان منكم أهل البيت أحد يسب أبا بكر وعمر؟ قال : لا ، فأحبهما ، وتولاهما و استغفر لهما"(5).
__________
(1) نهج البلاغة 1/226
(2) نهج البلاغة 1/110
(3) مسند الإمام أحمد 1/148 وصحح إسناده أحمد شاكر في طبعة أخرى بتعليقه 1/312 . وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/22 رواه عبدالله وإسناده جيد
(4) السنة لابن أبي عاصم 2/482 وصحح الألباني إسناده
(5) طبقات ابن سعد 5/321(20/61)
ومنهم : أبو عبدالله جعفر بن محمد الصادق ، إمام القوم السادس الذي رد على من يزعم رجعة محمد بن الحنفية –وهو ابن علي بن أبي طالب من زوجته الحنفية، فقال :"حدثني أبي أنه كان فيمن عاده في مرضه ، وفيمن أغمضه وفيمن أدخله في حفرته. وتزوج نساؤه، وقسم ميراثه"(1).
وهذا القول شيب بقول الحسن بن علي رضي الله عنهما عن أبيه مكذبا من زعم رجعته :"لو علمنا ذلك ما تزوج نساؤه ولا قسمنا ميراثه"(2).
ومنهم : علي بن موسى بن جعفر ، الملقب بـ(الرضا) إمام الشيعة الثامن الذي رد على من قال بغيبة أبيه –موسى الكاظم- ورجعته .
بقوله الذي نسبه الشيعة إليه :"بلى والله لقد مات وقسمت أمواله ونكحت جواريه"(3).
وغير هذه من الأقوال الكثير التي صدرت عن أولئك الأئمة الذين كذب عليهم الشيعة وهم عن كذبهم غافلون .
وبعد : فهذه أقوال من يزعم من الشيعة أنهم أئمة لهم ، وقد نسب أكثرها إلى هؤلاء الأئمة : الشيعة أنفسهم ، فكيف ينسبون إليهم ما يؤكد عقيدة الرجعة تارة ، ثم ينسبون إليهم ما يبطلها أخرى ؟!.سؤال أترك الإجابة عليه للشيعة أنفسهم إن كان عندهم على هذا التناقض البين جواب .
ثالثا : زعم الشيعة الإثني عشرية أن الشيخين الجليلين أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما يخلدان في النار يوم القيامة ، ويعذبان فيها أشد العذاب :
لا تقتصر مزاعم الشيعة الإثني عشرية على التصريح بكفر الشيخين رضي الله تعالى عنهما وتعذيب قائم الشيعة لهما في الدنيا قبل يوم القيامة بل يزعمون كذلك أن الشيخين رضي الله تعالى عنهما مخلدان في جهنم يوم القيامة يعذبان فيها عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين حتى ولا إبليس اللعين .
__________
(1) إكمال الدين للصدوق -الشيعي- ص 34-35
(2) تقدم
(3) إكمال الدين للصدوق ص 36-37 وعيون أخبار الرضا له أيضا 1/106(20/62)
فقد نسبوا في كتبهم –زورا وكذبا- إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن إبليس اللعين أخيره أنه لما أهبط بخطيئته إلى السماء الرابعة نادى : (إلهي وسيدي ما أحسبك خلقت خلقا هو أشقى مني؟ فأوحى الله تبارك وتعالى :بلى قد خلقت من هو أشقى منك فانطلق إلى (مالك) يريكه ، فانطلقت إلى مالك ، فقلت : السلام يقرأ عليك السلام ويقول : أرني من هو أشقى مني ، فانطلق بي مالك إلى النار فرفع الطبق الأعلى ، فخرجت نار سوداء ظننت أنها أكلتني وأكلت مالكا، فقال لها : اهدئي، فهدأت ثم انطلق بي إلى الطبق الثاني فخرجت نار سوداء هي أشد من تلك سوادا وأشد حمى فقال لها : اخمدي فخمدت ، إلى أن انطلق بي إلى الطبق السابع وكل نار تخرج من طبق هي أشد من الأولى فخرجت نار ظننت أنها أكلتني وأكلت مالكا وجميع ما خلقه الله عز وجل فوضعت يدي على عيني وقلت : مرها يا مالك أن تخمد وإلا خمدت فقال : إنك لن تخمد إلى الوقت المعلوم فأمرها فخمدت فرأيت رجلين في أعناقهما سلاسل النيران معلقين بها إلى فوق وعلى رؤوسهم قوم معهم مقامع النيران يقمعونهما بها ، فقلت : يا مالك من هذان؟ فقال : أو ما قرأت على ساق العرش ؟ -وكنت قبل قد قرأته قبل أن يخلق الله الدنيا بألفي عام- لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وأيدته ونصرته بعلي فقال : هذان من أعداء أولئك وظالميهم)(1).
وعلق المجلسي –شيخ الدولة الصفوية ، ومرجع الشيعة المعاصرين على هذه الرواية بقوله : (إنهما اللذان ظلماه أي أبي بكر وعمر)(2)
وهه الرواية فيها –مع اتثطاعها وضعف رواتها- إزراء وانتقاص لإمامهم المعصوم حيث جعلوا شيخه ابليس اللعين .
__________
(1) نسبه المفيد إلى جعفر الصادق يرويه عن أبيه عن علي . وفيه انقطاع كبير بين محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وعلي بن أبي طالب أضف إلى ذلك ما تسلسل به الرواة الكذابين ."الاختصاص للمفيد ص 108-109 وانظر حق اليقين للمجلسي ص 509-510
(2) حق اليقين للمجلسي ص 510(20/63)
وأسند أيضا الصفار الشيعي إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - -زورا وبهتانا- أنه سأل من حضر مجلسه : إن كانوا رأوا ما يرى ؟ ثم أخبرهم أنه رأى أبا بكر وعمر كل واحد على ترعة من ترع النار يقولان له : يا أبا الحسن استغفر لنا ، فلا يكلمهما وإنما يقول : لا غفر الله لهما (1)
ونسب الشيعة أيضا -كذبا- إلى بعض أئمتهم أنهم أخبروا عن الشيخين رضي الله تعالى عنهما أنهما يوضعان يوم القيامة في تابوتين من نار قد أحكم الرتاج عليهما في أحد أودية جهنم :
فقد أسند الصدوق والشعيري إلى اسحاق بن عمار الصيرفي – أحد رواة الشيعة – يروي عن موسى بن جعفر الكاظم خبرا طويلا ، ملخصه : (أن موسى الكاظم أخبره أن في النار واديا يقال له : سقر ، لو تنفس لأحرق ما على وجه الأرض وفي ذلك الوادي جبل وفي الجبل شعب وفي الشعب قليب وفي القليب حية (يتعوذ جميع أهل ذلك القليب من خبث هذه الحية ونتنها وقذرها وما أعد الله في أنيابها من السم لأهلها وإن في جوف تلك الحية لسبعة صناديق فيها خمسة من الأمم السالفةواثنان من هذه الأمة . قال : قلت : جعلت فداك ومن الخمسة؟ ومن الإثنان؟ قال : وأما الخمسة : فقابيل الذي قتل هابيل ، ونمرود الذي حاج إبراهيم في ربه فقال أنا أحيي وأميت وفرعون الذي قال أنا ربكم الأعلى وبهوذا الذي هود اليهود وبولس الذي نصر النصارى ومن هذه الأمة أعرابيان)(2)
وقد ذكر المجلسي أن المراد بالأعرابيين : أبو بكر وعمر (3)
__________
(1) بصائر الدرجات الكبرى ص 441
(2) الخصال للصدوق 2/398-399 وعقاب الأعمال له ص 483-487-488 وجامع الأخبار للشعيري ص 143-144 . وانظر البرهان للبحراني 4/527-528 وحق اليقين للمجلسي ص 502 . وحق اليقين لعبدالله شبر 2/171-172
(3) حق اليقين للمجلسي ص 502 وجلاء العيون له ص 160(20/64)
وهذه الأقوال المكذوبة التي نسبها الشيعة زورا وبهتانا إلى بعض الأئمة تخالف ال0-سنة الصحيحة التي أفادت أن الشيخين رضي الله عنهما لا يدخلان النار وأنهما من أهل الجنة بله الدرجات العالية الرفيعة فيها .
فلقد أخبر عليه الصلاة والسلام (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة)(1)
ومعلوم أم الشيخين رضي الله تعالى عنهما ممن بايع تحتها .
وبشر عليه السلام الشيخين رضي الله عنهما بالجنة بشارة عامة شاركهم فيها عدد من الصحابة : مثل حديث الحائط (2) وغيره من الأحاديث الكثيرة الصحيحة .
وبشرهما بشارة خاصة بهما ، مثل قوله عنهما : "إن هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا التبيين والمرسلين"(3) ومثل قوله :"إن أهل الدرجات العلا يراهم من هو أسفل منهم كما ترى الكواكب في أفق السماء، وأبو بكر وعمر فيهما وأنعما"(4).
والأحاديث في ذلك كثيرة جدا ولا يتسع المقام لذكرها وكلها تدل دلالة قطعية على أن الشيخين رضي الله تعالى عنهما من أهل الجنة بل ومن أهل الدرجات العلا فيها وهي بمجموعها تبلغ حد التواتر المعنوي وهي من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة .
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه 4/1942، ك فضائل الصحابة
(2) صحيح البخاري 5/72-74 ك فضائل الصحابة
(3) صحيح الجامع الصغير 2/75 والسلسة الصحيحة للألباني 2/492
(4) قال الهيثمي "أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة ورجاله رجال الصحيح إلا سلمة بن قتيبة وهو ثقة. مجمع الزوائد للهيثمي 9/54(20/65)
وفي هذه الأحاديث الكثيرة الدالة على فضل الشيخين رضي الله عنهما وما تقدم من أقوال أئمة أهل البيت في حبهما رضي الله عنهما وتوليهما والترضي عنهما إقامة للحجة على هؤلاء المبغضين لهما وبيان لمحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبي صحابته ومحبي أهل بيته أن لا يغتروا بقول الشيعة في الشيخين الجليلين رضي الله تعالى عنهما لئلا يقعوا في بغض رسول الله صلى الله عليه وسلمدون شعور منهم إذ من المعلوم أن مبغض أبي بكر وعمر مبغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاء أو أبى إذ هما حبيباه وصفياه من أهل الدنيا ووزيراه وضجيعاه وقد تقدم قوله –بأبي هو وأمي- فيهما بقية أصحابه رضوان الله تعالى عنهم أجمعين :"فمن أحبهم فبحبي أحبيهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم".
فإياك إياك يا محب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقع في قلبك بغض لواحد منهم سيما سيدا المسلمين وحبيبا رسول رب العالمين.
اللهم يا إله الأولين والاخرين، ويا رب كل شيء ومليكه احفظ علينا حبنا لرسولك وحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الأخيار البررة الأطهار كما ترضى يارب العالمين . آمين ،آمين، آمين .
المجلس السابع
موقف الشيعة الإثني عشرية من الخليفة الشهيد ذي النورين : عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه
عثمان بن عفان من الرعيل الأول من الصحابة ، ومن أفضلهم بعد الصديق والفاروق.
زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتيه الواحدة تلو الأخرى، فنال بذلك شرف مصاهرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف بـ"ذي النورين" بسبب ذلك.
كان حييا شديد الحياء ، رفيع التهذيب عالي التربية ، لين العريكة ، سمح النفس ، دمث العشرة ، لطيف الطبع، كثير الإحسان والحلم، من أحكم قريش عقلا وأفضلهم رأيا.
ولقد أحبه قومه بسبب أخلاقه الفاضلة وسيرته الحميدة وسلوكه المثلى ، حتى صار حبهم له مضرب المثل ، فقد كانت المرأة منهم ترقص ولدها قائلة له :
أحبك والرحمن ... ... ... حب قريش لعثمان(20/66)
أسلم فكان من أتقى الناس وأورع الناس وأجود الناس وأسخى الناي وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد وأبلى البلاء الحسن.
تولى الخلافة بعد أبي بكر وعمر فسار بالناس بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه وتأسى بهم فأجمعت الأمة عليه.
ونتيجة اتساع رقعة الفتوحات في عهده ودخول طوائف شتى وأجناس مختلفة في حظيرة الدولة الإسلامية جمعت بين صفوفها حثالة من الحاقدين على الأمة بدأ أعداء الإسلام الداخليون يحيكون المؤامرات ضد المسلمين، وقد تولى كير هذه المؤامرات اليهودي عبدالله بن سبأ الذي أخذ يؤلب الناس على عثمان بن عفان زاعما أنه غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فجمع حوله ثلة من الغوغاء من مطايا الشياطين فوافوا المدينة النبوية وقتلوا الخليفة الراشد والصحابة ينظرون ولكن لا يستطيعون له شيئا بسبب قسمه عليهم أن يكفوا أيديهم وأن لا يريقوا في سبيله قطرة دم . فبكت قلوبهم قبل عيونهم وحزنوا عليه حزن من قتل وحيدها بين يديها وهي تنظر إليه .
ولا يزال المسلمون كلهم منذ ذلك الحين يبكون على تتابع الأسام وتوالي الشهور ذلك الخليفة المظلوم الصابر الذي آثر أن يفدي المسلمين بنفسه ويعصم دماءهم بدمه ويترضون عنه ويترحمون عليه ويشهدون بمآثره وفضائله ومناقبه فرضي الله عن عثمان وأرضاه.
إلا الشيعة فإنهم رغم ذلك كله تراهم يسلقومه بألسنة حداد ويوجهون إليه العديد من المطاعن دون أن يرقبوا قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدة اختصاصه به .
ومن المطاعن التس وجهوها إليه :
أولا : طعنهم في أخلاقه رضي الله عنه :
حسن خلق عثمان رضي الله عنه من الأمور التي تضافرت الأدلة على إثباته فبلغت بمجموعها حد التواتر المعنوي حتى أنه لو أنكر إنسان حسن خلقه وسيرته الحميدة ومآثره النبيلة لقام الناس كلهم عليه وأشاروا بسباباتهم إليه : إن هذا القائل من الكاذبين .(20/67)
ولست أدري كيف يستحل الشيعة الكذب ويأتون بما يناقض ما تواتر لفظا أو معنى مما يجعل من يقرأ ما كتبوه يصمهم بالكذب إلا أن يقولوا أن ذلك من التقية فلا أظن أن التقية تسوغ لهم معارضة الأمور المتواترة .
لذلك نجدهم قد وجهوا العديد من المطاعن إلى أخلاق الحيي الكريم عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ووصفوه بأنه زان مخنق يلعب به همه بطنه وفرجه ... إلخ .
فقد أطلقوا عليه اسم (نعثل) وذكروا أنه من أسماء ذكور الضباع وزعموا أن أنهم إنما أطلقوا عليه هذا الاسم لأوجه الشبه بينه وبين ذكر الضباع ، فذكر الضباع –كما زعموا- "إذا صاد صيدا قاربه -جامعه- ثم أكله" وعثمان رضي الله عنه –وحاشاه أن يوصف بما رماه به الشيعة من الإفك- "أتى بامرأة لتحد، فقاربها -جامعها- ثم أمر برجمها" –على حد زعم الشيعة-(1) .
وليس الأمر قاصرا عند الشيعة على اتهام عثمان رضي الله عنه بالزنا ، بل تعدوه إلى زعمهم أنه كان ممن يلعب به وأنه كان مخنثا ..." (2).
وقد نسبوا إلى علي رضي الله عنه –زورا وبهتانا- أنه قال عن عثمان : همه بطنه وفرجه:
فقد روى الكليني بسنده –في كتاب الكافي أحد أصولهم المعتبرة- عن علي بن أبي طالب أنه قال في إحدى خطبه :"سبق الرجلان، وقام الثالث كالغراب همته بطنه وفرجه، ويا ويحه لو قص جناحاه وقطع رأسه لكان خيرا له"(3).
وذكر المجلسي في شرحها أن المراد بالثالث : عثمان بن عفان، وأن اللذين سبقاها هما أبو بكر وعمر (4).
وزعم الشيعة أيضا أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يكن يبالي أحلالا أكل أم حراما.
__________
(1) الصراط المستقيم للبياضي 3/30 وانظر إحقاق الحق للتستري ص 306
(2) الصراط المستقيم للبياضي 3/30 وانظر إحقاق الحق للتستري ص 306
(3) الروضة من الكافي للكليني ص 277-279 وانظر الجمل للمفيد ص 62. والطرائف لابن طاووس ص 417
(4) مرآة العقول شرح الروضة للمجلسي 4/278-279(20/68)
فقد أسند الكليني أيضا -كذبا- إلى جعفر الصادق أنه قال :"إن ولي عثمان لا يبالي أحلالا أكل أو حراما، لأن صاحبه كان كذلك"(1).
ومرادهم بصاحبه : عثمان بن عفان رضي الله عنه .
وهذه المطاعن التي وجهها الشيعة إلى أخلاق عثمان رضي الله عنه إنما وجههوها إلى من أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه أن الملائكة تستحي منه (2).
وإلى من أخبر عن نفسه أمام جمع كبير من الناس –كان يمكنهم أن يردوا عليه لو كان كاذبا- بأنه ما زنى قط في جاهلية ولا إسلام (3).
ثم الشيعة بعد هذا يزعمون أنه كان زانيا ومخنثا ويلعب به و .. ، و.. إلخ ما أوردوه من الأكاذيب .
أما ما نسبوه إلى علي ، زاعمين أنه قال عن عثمان :"همته بطنه وفرجه" فكذب كله والثابت عنه رضي الله عنه مدح عثمان والثناء عليه فقد قال عنه مرة :"إنه كان خيرنا وأوصلنا"(4) وقال عنه أخرى :"هو من الذين آمنوا ثم اتقوا ثم أمنوا ثم اتقوا ."(5).
وأقواله في مدح عثمان والثناء عليه كثيرة جدا وكلها تفند ما نسبه الشيعة إليه من قوله عن عثمان :"همه بطنه وفرجه" ، وتشهد بكذب الشيعة وافتراءاتهم على من يزعمون أنه إمام لهم .
ويرد ذلك ايضا ما ورد في سيرته رضي الله عنه في إمارته فقد ذكر عته أنه رضي الله تعالى عنه أنه كان يطعم الناس طعام الإمارة ويأكل هو الخل والزيت (6).
فهل يكون متهما ببطنه من كان طعامه الخل والزيت؟.
__________
(1) الروضة من الكافي للكليني ص 333
(2) صحيح مسلم 4/1866-1867 ك فضائل الصحابة باب من فضائل عثمان رضي الله عنه
(3) مسند أحمد 1/61-62-65 فضائل الصحابة له 1/464-465-466-495-496-508 وطبقات ابن سعد 3/67 وتاريخ المدينة لابن شبه 2/358
(4) فضائل الصحابة لأحمد 1/468
(5) نفس المصدر 1/474. وقد صححه محقق الكتاب
(6) ذكره المحب الطبري في الرياض النضرة وقال –خرجه صاحب الصفوة والملائي والفضائلي.-الرياض النضره 2/44-(20/69)
ثانيا : زعم الشيعة الإثني عشرية أن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه كان منافقا كافرا . وقولهم بوجوب لعنه والبراءة منه :
يزعم الشيعة أن عثمان رضي الله عنه كان منافقا يظهر الإسلام ويبطن النفاق .
قال نعمة الله الجزائري -الشيعي- :"إن عثمان كان في زمن النبي صلى الله عليه وآله ممن أظهر الإسلام وأبطن النفاق"(1).
وقال الكركي :"إن من لم يجد في قلبه عداوة لعثمان ولم يستحل عرضه ولم يعتقد كفره فهو عدو لله ورسوله ، كافر بما أنزل الله "(2).
إذا : ليس الأمر قاصرا على تكفير عثمان رضي الله عنه بل تكفير كل من لم يبغضه ويكفره ويشتمه ويخوض في عرضه ويعنونكم أنتم أيها المسلمون.
ولم يكتف الشيعة بالحكم على عثمان رضي الله عنه بالكفر بل أوجبوا لعنه والبراءة منه (3)، ومن يتصفح كتبهم يجد العجب العجاب .
ولا ريب أن هذا الصنيع يعد مخالفة صريحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد توعد الله من يخالف أمره بالفتنة في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة قال تعالى : (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)(4).
فالرسول صلى الله عليه وسلم بشر عثمان رضي الله تعالى عنه بالجنة (5) وزوجه ابنته رقية (6) فلما توفيت زوجه ابنته الأخرى أم كلثوم (7) فلما ماتت أم كلثوم وحزن عليها عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لو كانت عندي ثالثة زوجتها عثمان"(8).
__________
(1) الأنوار النعمانية للجزائري 1/81
(2) نفحات اللاهوت للكركي ق57/أ
(3) المصباح للكفعمي ص37. وعلم اليقين للكاشاني 2/768 والفصول المهمة للحر العاملي ص 170 ومفاتيح الجنان لعباس القمي ص212
(4) سورة النور 63
(5) صحيح البخاري 4/64 ك الوصايا باب إذا وقف أرضا
(6) صحيح البخاري 5/83 ك فضائل الصحابة باب مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه
(7) الذرية الطاهرة النبوية للجولابي ص59
(8) طبقات ابن سعد 3/56(20/70)
ومعلوم أن المنافق والكافر لا يدخل الجنة بل هي محرمة عليه فكيف يتفق حكم الشيعة على عثمان بالكفر والنفاق مع بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالجنة؟!
ثم كيف يزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان ابنتيه الواحدة تلو الأخرى وهو كافر منافق –كما زعم الشيعة-؟!.
فدل هذا على أن دعوى الشيعة قد خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بشر عثمان بالجنة ، وزوجه ابنتيه الواحدة تلو الأخرى لما عرف عنه من دين وخلق وفضل ، ومات عليه السلام وهو عنه راض(1).
ثالثا : زعم الشيعة الإثني عشرية أن عثمان رضي الله تعالى عنه قتل زوجته : ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
يزعم الشيعة الإثنا عشرية أن عثمان رضي الله تعالى عنه قتل رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويستدلون على هذه الفرية بآيات زعموا كذبا أنها نزلت فيه ، والايات هي : قوله تعالى :"أيحسب أن لايقدر عليه أحد يقول أهلكت مالا لبدا أيحسب أن لم يره أحد ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين"(2).
فقد روى القمي بسنده عن أبي جعفر الباقر –رحمه الله وحاشاه ان يكون صدر عنه شيء من هذا البهتان المبين- في تفسير هذه الآيات أنه قال :"قوله تعالى :"أيحسب أن لن يقدر عليه أحد" قال : يعني عثمان في قتله ابنة النبي صلى الله عليه وآله . "يقول أهلكت مالا لبدا" يعني الذي جهز به النبي من جيش العسرة "أيحسب أن لم يره أحد" قال : فساد كان في نفسه "ألم نجعل له عينين" يعني رسول الله : يعني رسول الله صلى الله عليه وآله . "ولسانا" يعني أمير المؤمنين (ع). "وشفتين" : يعني الحسن والحسين عليهما السلام."وهديناه النجدين" : إلى ولا يتهما..."(3).
__________
(1) صحيح البخاري 2/213 ك الجنائز باب ما جاء في قبر عمر رضي الله عنه
(2) سورة البلد 5-10
(3) تفسير القمي 2/423 وانظر تفسير الصافي للكاشاني 2/819 والبرهان للبحراني 4/463 ومقدمة البرهان لأبي الحسن العاملي ص74(20/71)
وأسند الكليني –في كتابه الكافي أحد المصادر الشيعية المعتبرة عند الشيعة- إلى أبي بصير قال :"قلت لأبي عبدالله (ع) : أيقلت من ضغطة القبر أحد؟ قال : نعوذ بالله منها، وما أقل من يفلت من ضغطة القبر، إن رقية لما قتلها عثمان وقف رسول الهل صلى الله عليه وآله على قبرها فرفع رأسه إلى السماء فدمعت عيناه ، وقال للناس: إني ذكرت هذه وما لقيت فرققت لها واستوهبتها من ضغطة القبر فوهبها لي"(1).
أما كيف قتلها –على حد كذبهم وافترائهم- : فقد زعم البياضي الشيعي أنه ضربها حتى ماتت (2).
ويزعم الشيعة أن رقية كانت خائفة من عثمان وكانت تدعو الله أن ينجيها منه ومن عمله.
فقد روى شرف الدين النجفي بسنده أن أبا عبدالله جعفر بن محمد بن علي الصادق قال في تفسير قوله تعالى :"وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين"(3) أنه قال : "هذا مثل ضربه الله لرقية بنت رسول الله التي تزوجها عثمان بن عفان . قال : "ونجني من فرعون وعمله" : يعني من الثالث ، عثمان"(4).
__________
(1) الفروع من الكافي للكليني –ط حجرية- 2/222 . وانظر : حق اليقين لعبدالله شبر 2/83
(2) الصراط المستقيم للبياضي 3/34
(3) سورة التحريم 11
(4) نقله عنه البحراني في البرهان 4/358 وقد وردت روايات أخرى أيضا ذكرت صراحة أن المراد بالثالث عند الشيعة : عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وقد أطلقوا عليه هذا اللقب لأنه ثالث الغاصبين بزعمهم. راجع تفسير القمي –ط حجرية-ص266 –ط حديثة- 2/107 وتفسير الصافي للكاشاني 2/173، 820 والبرهان للبحراني 3/133 ، 140-141 ، 4/463-464(20/72)
وقال هاشم معروف الحسني –وهو من الشيعة المعاصرين-:"وتشير المرويات الكثيرة(1) أن عثمان بن عفان لم يحسن صحبتها ولم يراع رسول الله فيها فتزوج عليها أكثر من امرأة وماتت على أثر ضربات قاسية منه أدت إلى كسر أضلاعها..."(2)
فالشيعة إذا سلفهم وخلفهم على أن عثمان رضي الله عنه قتل رقية.
ولا ريب أن مزاعم الشيعة هذه مزاعم باطلة تردها الأدلة الكثيرة :
– منها : ما عرف عنه رضي الله عنه من شدة وصدق حيائه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أرحم أمتي أبو بكر وأشدها في دين الله عمر وأصدقها حياء عثمان.."(3).
وقد تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفه بالحياء وأخبر أن الملائكة تستحي منه (4).
والحياء كله خير (5) كما قال الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام وهو لا يأتي إلى بخير(6) وهو من الإيمان(7) ما كان في شيء إلا زانه (8) وهو –أي الحياء- خلق يبعث على ترك القبيح (9) وقد أخبر صلى الله عليه وسلم "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت"(10)
فإذا فقد الإنسان الحياء فلا رادع يردعه عن عن فعل الفواحش وارتكاب المنهيات وإذا من الله عليه بالاتصاف بهذه الصفة الحميدة فقد أعطاه خيرا كثيرا .
__________
(1) يقصد المرويات الكثيرة المتضافرة على الكذب عند الشيعة
(2) سيرة الأئمة الإثني عشرية لهاشم الحسيني1/67
(3) أخرجه أحمد –بسند صحيح- ، وابن ماجه وغيرهما "سنن ابن ماجة 1/55 ، المقدمة ، باب فضائل الصحابة ، ومسند أحمد 1/74 ، 3/184-281 وفضائل الصحابة له 1/494
(4) والحديث في صحيح مسلم 4/1866-1867 ك فضائل الصحابة باب من فضائل عثمان بن عفان رضي الله عنه
(5) صحيح مسلم 1/64 ك الإيمان باب بيان عدد من شعب الإيمان
(6) صحيح البخاري 8/53 ك الأدب باب الحياء
(7) صحيح البخاري 8/53 ك الأدب باب الحياء
(8) جامع الترمذي -وحسنه- 4/346 ك البر
(9) فتح الباري لابن حجر 10/522
(10) صحيح البخاري 8/54 ك الأدب باب الحياء(20/73)
– والدليل الثاني : هو ما أخرجه أحمد والحاكم والدولابي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رقية رضي الله عنها قالت :"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندي آنفا ، فرجلت رأسه فقال : كيف تجدين أبا عبدالله، بعني عثمان؟ قالت : قلت : كخير الرجال ، قال : أكرميه، فإنه من أشبه أصحابي بي خلقا"(1).
وورد في رواية أخرى أن أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي التي قالت هذه المقالة (2).
فأين هذا من مزاعم الشيعة أن عثمان قتلها، وأنها كانت تدعو ربها جل وعلا أن ينجيها منه وغير ذلك من الافتراءات الواضحات.
فهذا الحديث ذكر فيه ثناء رقية رضي الله عنها على خلق عثمان وأنه عندها من خير الرجال وقد وافقها أبوها صلى الله عليه وسلم وضم إلى المزية التي ذكرتها مزية أخرى ، هي تشابه أخلاق عثمان رضي الله عنه مع أخلاقه عليه الصلاة والسلام.
فمن طعن في أخلاق عثمان رضي الله تعالى عنه فقد طعن بمن أشبهه عثمان في خلقه في المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى –فداه روحي ودمي-صلى الله عليه وسلم.
والدليل الثالث : هو تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان ابنته الأخرى ، أم كلثوم رضي الله عنها بعد موت أختها رقية رضي الله عنها وصلى على أبيها وآله وسلم.
وبعض الشيعة يعترفون بهذا ، أمثال الفضل بن الحسن الطبرسي الذي قال :"عثمان تزوج أم كلثوم بعد موت زوجه رقية"(3).
وأشار الكفعمي وعباس القمي إلى ذلك (4).
فإذا كان قد قتل واحدة من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف زوجه من الأخرى؟!
__________
(1) وقد صحح محقق كتاب فضائل الصحابة إسناد الروايتين اللتين أوردهما الإمام أحمد ."فضائل الصحابة لأحمد 1/510 ، 514 والمستدرك للحاكم 4/48 والذرية الطاهرة النبوية للدولابي ص 55-56
(2) الذرية الطاهرة للدولابي ص51
(3) إعلام الورى للفضل بن الحين الطبرسي ص148
(4) المصباح للكفعمي 37 ومفتاح الجنان لعباس القمي 212(20/74)
بل كيف قال لما ماتت الثانية :"لو كن عشرا لزوجتهن عثمان وما زوجته إلا بوحي السماء"(1).
وأسوق إليك فيما يلي –أخي القارئ- هذه الواقعة التي ذكرها علماء الرجال عند أهل السنة في كتبهم والتي تدلك على ان هذه المزاعم التي اختلقها الشيعة في عثمان رضي الله عنه –وحالها كحال بقية المطاعن التي ألصقوها بخيار عباد الله ، صحابة نبيك محمد عليه وعلى آله وأصحابه الصلاة والسلام- إنما هي من بنات أفكارهم وما تمليه عليهم معتقداتهم التي جبلت في قلوبهم فأشربتها ، وأنتجت بغضا لأفضل جيل عرفته البشرية.وحالها كحال بيت العنكبوت :
قال العقيلي ، وابن عدي بسنديهما عن عباد بن عباد أن يونس بن خباب الأسيدي –وكان رافضيا- قال له :"إن عثمان قتل بنتي النبي صلى الله عليه وسلم " فقال له عباد: "قتل واحدة فلم أنكحه الأخرى؟!"(2).
فبهت الرافضي ولم يجد جوابا.
وقد زعم بعض الشيعة أن التي قتلها عثمان كانت أم كلثوم ، فلم يزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها، قال نعمة الله الجزائري :"وأما أم كلثوم فتزوج عثمان بها أيضا بعد أختها رقية وتوفيت عنده ، وذلك أنه ضربها ضربا مبرحا فماتت منه"(3).
ولكن هذا القول غير مسلم عند الشيعة أنفسهم لمعارضته ما روي عن أئمتهم من أن التي قتلها عثمان هي رقية وليست أم كلثوم.
وقد تقدم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو كن عشرا لزوجتهن عثمان".
__________
(1) قال الهيثمي : رواه الطبراني في حديث طويل وفيه عبدالرحمن بن أبي الزناد وهو لين وبقية رجاله ثقات وذكر الهيثمي حديثا آخر هو قوله صلى الله عليه وسلم :"ما زوجت أم كلثوم من عثمان إلا بوحي من السماء" وقال –أي الهيثمي- :"وإسناده حسن لما تقدمه من الشواهد" مجمع الزوائد للهيثمي 9/83
(2) الضعفاء للعقيلي 4/458 والكامل لابن عدي 7/2629 وانظر ميزان الاعتدال للذهبي 4/479
(3) الأنوار النعمانية للجزائري 1/367(20/75)
وهذا يبطل ما زعموه من أنه عليه السلام امتنع عن تزويجه بعد ما قتل ابنته.
– وأما الدليل الرابع : فكون القصة لم ترد في أي كتاب من كتب أهل السنة، ولم يذكرها إلا الشيعة، .............. ولو كانت قد وقعت على حد زعم الشيعة لتناقلها رواة التاريخ والسير سيما وأنها قد وقعت في حياته صلى الله عليه وسلم وأمام سمعه وبصره ثم هو بعد ذلك تغافل عنها-كما يفهم من إيراد الشيعة لها- ولم يقم حد القتل على القاتل، وهو الذي لا يتوقف في إمضاء الحدود ولا يخاف في الله لومة لائم وهو القائل عليه الصلاة والسلام لما سرقت المخزومية ، وشفع فيها من شفع :"لو كانت فاطمة لقطعت يدها"(1).
– أما الايات التي استدل بها الشيعة على هذه المزاعم فقد نحوا في تفسيرها منحى التأويل الباطني الذي لا يعقله عندهم إلا الملك المقرب أو النبي المرسل ، أو العبد الذي امتحن الله قلبه للإيمان- كما هو مسطور في كتبهم (2) مع أن القرآن الكريم أنزل بلغة العرب وبها يفهم ، قال تعالى : "إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون"(3) ولكن تفسير الشيعة الباطني أبعد شيء عن عقول الرجال كما اعترفوا هم أنفسهم بذلك ، ونسبوه إلى أئمتهم(4).
والمنحى الباطني الدي نحوه في تأويل هذه الآيات واضح لمن تأمله ، فقد قالوا في خبر الله تعالى عن جنس الإنسان :"ألم نجعل له عينين، ولسانا وشفتين ، وهديناه النجدين" : إن العينين هما رسول الله واللسان علي بن أبي طالب والشفتين الحسن والحسين والنجدين ولا يتهما.
وهذا أبعد شيء عن عقول الرجال كما أقروا بذلك في كتبهم ولم ينزل القرآن الكريم بمثل هذه التأويلات الباطنية .
__________
(1) صحيح البخاري –ط سلفية- 3/28 ك فضائل الصحابة باب ذكر أسامة بن زيد
(2) راجع كتبهم التالية : بصائر الدرجات الكبرى للصفار ص 41-42 ومعاني الأخبار للصدوق ص 188-189 والأمالي له ص 4 وتفسير فرات الكوفي ص 161-162
(3) سورة يوسف 2
(4) الميزان في تفسير القرآن للطباطبائي 3/73(20/76)
ولم يقل أحد من المفسرين عن هذه الآيات أنها نزلت في عثمان رضي الله عنه كما زعم الشيعة(1).
وبهذا يتبين لك أخي المسلم ، يا محب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحب أهل بيته عليهم السلام ، ومحب صحابته عليهم الرضوان من الله الرضوان أن ما يورده الشيعة من اتهامات موجهة إلى خيار الصحابة وساداتهم إنما تمليه عليهم عقيدتهم المبنية على بغض الصحابة ، وسبهم والقول بوجوب لعنهم والبراءة منهم.
المجلس الثامن
موقف الشيعة الإثني عشرية من بقية الصحابة العشرة المبشرين بالجنة
فيا سائلي عن خيار العباد
خيار العباد جميعا قريش
وخير ذوي الهجرة السابقون
علي وعثمان ثم الزبير
وشيخان قد جاورا أحمدا
فمن كان بعدهما فاخرا
وعامر من فهر ثم ابن زيد
صادفت ذا العلم والخبره
وخير قريش ذوو الهجرة
ثمانية وحدهم نصره
وطلحة واثنان من زهره
وجاور قبراهما قبره
فلا تذكروا عندهم فخره
فقد أصبحوا يا أخي عشره
بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة من أفاضل أصحابة بالجنة ، بأنهم سيدخلونها بقوله :"عشرة في الجنة: أبو بكر في الجنة ، معمر في الجنة ، وعثمان في الجنة ، وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبدالرحمن بن عوف في الجنة ، وسعد في الجنة وسعيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة"(2).
__________
(1) راجع : جامع البيان للطبري 30/198-199 وتفسير ابن كثير 4/512-513، وفتح القدير للشوكاني 5/443-444
(2) الحديث مروي من عدد من الصحابة منهم ، سعيد بن زيد وقد أخرج حديثه أبو داود والترمذي – وقال : حسن صحيح ، وأخرجه أحمد في مسنده وصححه أحمد شاكر رحمه الله "سنن أبي داود 5/37-40 ك السنة وجامع الترمذي 5/651 ك المناقب(20/77)
وقد أنكرالشيعة هذا الحديث – رغم ثبوته وصحته- ونسبوه إلى الوضع (1) . ولم يكتفوا بذلك ، بل زعموا أن هؤلاء العشرة المبشرين بالجنة -عدا علي- كانوا من المنافقين وفعلوا أفعالهم .
وقد تقدمت بعض الاتهامات التي وجههوها إلى الخالفاء الراشدين المهددين الثلاثة ، أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم .
وسأقتصر هنا على بيان نماذج يسيرة من أقوالهم في بقية العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين .
وهم عدا الخلفاء الربعة الراشدين : طلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبدالرحمن بن عوف ، وأبو عبيدة عامر بن الجراح ، وسعيد بن زيد رضي الله تعالى عنهم وعن الصحابة أجمعين .
أولا : موقف الشيعة الإثني عشرية من طلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما :
طلحة بن عبيدالله التيمي القرشي ، والزبير بن العوام الأسدي القرشي من الرعيل الأول من الصحابة ، ومن العشرة المبشرين بالحنة .
بل هما جارا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها كما أخبر عنهما بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه :
فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : "سمعت إذني من في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : طلحة والزبير جاراي في الجنة"(2)
أسلما قديما ، ونصرا رسول الله صلى الله عليه وسلم باللسان والسنان ، وكلاهما شهدا المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبليا فيها البلاء الحسن ، وكل واحد منهما اختص بمناقب لم يختص بها غيره من الصحابة :
__________
(1) كفاية الأثر للخزاز ص 115 والاقتصاد للطوسي ص 364
(2) أخرجه الحاكم في مستدركه 3/364 وقال صحيح الإسناد(20/78)
فمما اختص به الزبير أنه كان أول من سل سيفا في سبيل الله (1)، وأنه حواري النبي صلى الله عليه وسلم (2) .
ومما اختص به طلحة : أنه وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بيده حتى شلت (3) ، وبرك لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد على ظهره حين انتهى إلى صخرة لم يستطع أن يصعدها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذاك : "أوجب طلحة"(4) ، أي فعل ما أوجب له الجنة .واستبسل في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووقاه بنفسه ، وحال بينه وبين سهام المشركين حتى أثخنته الجراح ، وكان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إذا ذكر يوم أحد قال : ذلك كله يوم طلحة (5).
ومناقبهما رضي الله تعالى عنهما كثيرة ، ولا يتسع المقام لذكرها .
والشيعة كدأبهم مخع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سيما سادتهم وكبارهم يحاولن طمس فضائلهم ، وإلصاق النقائص بهم ، وتوجيه المطاعن إليهم ، وهكذا فعلوا مع طلحة والزبير رضي الله تعالى عنهما .
وسأقتصر على نماذج يسيرة توضح موقف الشيعة منهما بإيجاز :
– زعم الشيعة أن طلحة والزبير رضي الله عنهما كانا إمامين من أئمة الكفر :
__________
(1) فضائل الصحابة للإمام أحمد 2/735. والاستيعاب لابن عبدالبر 1/581 والمستدرك للحاكم 3/360-361. وانظر در السحابة للشوكاني ص 241
(2) سنن الترمذي 5/646 ك المناقب باب مناقب الزبير وقال هذا حديث حسن صحيح. وفضائل الصحابة لأحمد 2/737 –738 وطبقات ابن سعد 105-106. والمعجم الكبير للطبراني 1/78. والمستدرك للحاكم 3/367 وقال صحيح ووافقه الذهبي
(3) صحيح البخاري 5/94 ك فضائل الصحابة باب ذكر طلحة
(4) جامع الترمذي 5/643 –644 ك المناقب باب مناقب طلحة- وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب. والمستدرك للحاكم 3/374 ومسند أحمد 1/165. وفضائل الصحابة له 2/744. وطبقات ابن سعد 3/218
(5) الرياض النضرة للمحب الطبري 2/252(20/79)
يزعم الشيعة أن طلحة والزبير رضي الله عنهما كانا إمامين من أئمة الكفر ، عاشا كافرين ، وماتا كذلك .
وقد استدلوا على أنهما كانا كذلك بما نسبوه –كذبا- إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، زاعمين أنه قال : "ألا إن أئمة الكفر في الإسلام خمسة : طلحة والزبير ومعاوية ، وعمرو بن العاص ، وأبو موسى الأشعري"(1) .
ولم يكتف الشيعة بهذه المزاعم المكذوبة ، بل ذكر علماؤهم صراحة –ورموا بالتقية وراء ظهورهم- أن طلحة والزبير رضي الله تعالى عنهما –وحاشاهما مما نسبه الشيعة إليهما- عاشا كافرين وماتا كافرين :
قال المفيد – وهو من كبار علمائهم- : "إن القوم ، طلحة والزبير وأشكالهما مضوا مصرين على أعمالهم غير نادمين عليها ، ولا تائبين منها"(2).
وقال محمد علي الحسني –وهو من الشيعة المعاصرين- :"إن الزبير باع دينه بدنياه ، واستباح كل شيء في سبيل أطماعه وشهواته ، ولم يكن لكلمة رسول الله أي عنده من قيمة..." (3).
وزعم الشيعة -كذبا- أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال للزبير :"أنا أشهد أني سمعت من رسول الله أنك من أهل النار"(4).
إلى آخر ما أورده الشيعة في ذلك من المطاعن ، مخالفين بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخبر عن طلحة و الزبير أنهما في الجنة (5) ، بل وجاراه فيها (6).
وهما رضي الله تعالى عنهما بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما بذلك :
__________
(1) الشافي في الإمامة للمرتضى ص 287 . وتلخيص الشافي للطوسي ص 462
(2) الجمل المفيد ص 225
(3) في ظلال التشيع لمحمد علي الحسني ص 112 -113
(4) إحقاق الحق للتستري ص 297
(5) تقدم تخريجه قبل صفحتين
(6) تقدم تخريجه قبل صفحتين(20/80)
فقد روى مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير ، فتحركت الصخرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اهدأ ، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد"(1).
فالصديق أبو بكر والشهداء عمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين .
وموت طلحة والزبير شهيدين يدل على أنهما من أهل الجنة بل له الدرجات العالية الرفيعة فيها ، فالله تبارك وتعالى قد أخبر أن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين في أعلى درحات الجنة ، فقال جل وعلا :"ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا"(2).
وطلحة والزبير رضي الله عنهما قد عاشا حميدين وماتا شهيدين ولم يذكر عنهما أنهما خالفا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور ، بل لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهما راض ، فرضي الله عنهما وأرضاهما ، وعامل بعدله من يبغضهما أو يضمر لهما غير الحسن الجميل .
– زعم الشيعة أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنه كان ابن زنا –حاشاه من ذلك- :
يزعم الشيعة أن طلحة رضي الله عنه كان ولد زنا.
وقد نسبوا إلى هشام بن محمد بن السائب الكلبي قوله عن أم طلحة ، الصعبة بنت الحضرمي (أنها كانت لها راية (3) بمكة وأنها استبضعت بأبي سفيان فوقع عليها ابو سفيان وتزوجت عبيدالله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم –والد طلحة- فجاءت بطلحة بن عبيد الله لستة أشهر ، فاختصم أبو سفيان وعبيد الله في طلحة فجعلا أمره إلى صعبة فألحلقته بعبيد الله ، فقيل لها : كيف تركت أبا سفيان، فقالت : يد عبيد الله طلقه ويد أبي سفيان تربة.-ثم قال الكلبي-
__________
(1) صحيح مسلم 4/1880 ك الفضائل باب من فضائل طلحة
(2) سورة النساء 69
(3) كناية عن من كانت تسافح في الجاهلية(20/81)
فصدقونا قومنا أنسابكم
لعبيد الله أنتم معشري
وأقيمونا على الأمر الجلي
أم أبي سفيان ذاك الأموي(1)
ولا ريب أن هذه المزاعم الكلبية فرية بلا مرية ، وإفك بلا شك والشيعة لم يفتروا هذه الفرية على طلحة وحده ، بل تعداه إلى أكثر الصحابة وزعموا أنهم كانوا أبناء زنا –حاشاهم من ذلك- .
ونسبتهم هذه الفرية إلى هشام الكلبي لا تبرؤهم منها :
فالكلبي شيعي باتفاق علماء الرجال عند الشيعة الذين قالوا عنه : "كان مختصا بمذهبنا"(2) وهو عند علماء أهل السنة : رافضي متروك ، ليس بالثقة ، ولا يقبل بقوله . قال الإمام أحمد : ما ظننت أن أحدا يحدث عنه (3).
لذا لا يحتج بقوله ، ولا بقول من نقلوا قوله ، ولا كرامة .
ثانيا : موقف الشعة الإثني عشرية من سعد بن أبي وقاص الزهري رضي الله تعالى عنه :
سعد بن أبي وقاص الزهري رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالحنة وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم .
فداه رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- بالأبوين، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال:"ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد غير سعد بن مالك فإنه جعل يقول له يوم أحد : ارم فداك أبي وأمي"(4).
وأخرج الإمامان البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال :"جمع لي النبي صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد"(5).
__________
(1) الطرائف لابن طاووس ص 495 وإحقاق الحق للتستري ص 296. والأنوار النعمانية للجزائري 1/65-66.
(2) الفهرست للنجاشي ص 306-307. ورجال الحلي ص 179
(3) ميزان الاعتدال للذهبي 4/304 وديوان الضعفاء ص 419
(4) صحيح مسلم 4/1876 ك الفضائل باب من فضائل سعد
(5) صحيح البخاري 5/94 ك المناقب باب مناقب سعد وصحيح مسلم 4/1876 ك الفضائل باب فضائل سعد(20/82)
وهو خال النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم قثد ؤوى النرمذي وحسنه من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال :"أقبل سعد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا خالي فليرني امرؤ خاله"(1).
وعقب الترمذي على هذا الحديث بقوله :"وكان سعد بن أبي وقاص من بني زهرة ، وكانت أم النبي صلى الله عليه وسلم من بني زهرة فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا خالي"(2).
وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاح ، ودعا له (3).
وفيه نزل قول الله تعالى (4):"ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه"(5) فلا يحتاج بعد تزكية ربه إلى تزكية من أحد .
وضائلة رضي الله تعالى عنه كثيرة جدا ولا يتسع المحل لذكرها.
بيد أن الشيعة وجهوا إليه المطاعن العديدة كدأبهم مع كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأذكر نماذج منها :
– زعمهم أنه قارون هذه الأمة :
قال أبو الحسن العامري : سعد بن أبي وقاص قارون هذه الأمة . وهذا ظاهر من جهة ارتداده وتكبره عن مبايعة أمير المؤمنين ( ع ) ... .)) (6).
وهذا من المزاعم الباطلة ومن أدل الدلائل على بطلانه ما فيه من تناقض إذ أن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ بايع علياً ولم يمتنع عن بيعته كما زعموا بل قد جاء في كتبهم وعلى لسان علي ما يبطل ذلك وهو علي قول لسعد ومن اعتزل القتال معه في الفتنة : كيف تخرجون من القتال معي وقد بايعتموني ؟! (7).
__________
(1) سنن الترمذي 5/649 ك المناقب باب مناقب سعد وانظر فضائل الصحابة لأحمد 2/751 والمستدرك للحاكم 3/498 وصححه ووافقه الذهبي
(2) سنن الترمذي 5/649
(3) صحيح مسلم 4/1875 ك الفضائل باب فضائل سعد
(4) الأنعام 52
(5) صحيح مسلم 4/1878 ك الفضائل باب فضائل سعد
(6) مقدمة البرهان لأبي الحسن العاملي ص 280
(7) السقيفة لسليم بن قيس ص 211. والجمل المفيد ص 45-46 والأمالي للطوسي 2/327(20/83)
وقوله لهم : ألستم على بيعتي ؟ قالوا : بلى . (1) وغير ذلك .
فهم قد بايعوه وبقوا على بيعته باعتراف الشيعة أنفسهم كما تبين من الأقوال التي ساقوها ونسبوها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فكيف تتفق فريتهم عن سعد وتعليلها بالامتناع عن بيعة علي مع إقرار علي ـ رضي الله عنه ـ ببيعته وثباته عليها في كتب الشيعة أنفسهم .
– زعمهم أن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أخبر سعداً ـ رضي الله عنه ـ أن على كل شعرة من لحيته شيطاناً جالساً .
أسند الملقب بالصدوق وهو من علماء الشيعة إلى الأصبغ بن نباتة (2) قوله بينا أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ يخطب الناس وهو يقول : سلوني قبل أن تفقدوني فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلا نبأتكم به . فقام إليه سعد بن أبي وقاص فقال : يا أمير المؤمنين : أخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة ؟ فقال له : أما والله لقد سألتني عن مسألة حدثني خليل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أنك ستسألني عنها وما في رأسك ولحيتك من شعرة إلا وفي أصلها شيطان جالس وإن في بيتك لسخلاً يقتل ابني وعمر بن سعد يومئذ يدرج بين يديه (3)
وعند التستري إن في شعرك ملكاً يلعنك وعلى كل طاقة من شعر لحيتك شيطاناً جالساً ...إلخ (4)
__________
(1) المصادر السابقة نفسها
(2) قال عنه الكشي الشيعي كان من خاصة أمير المؤمنين علي (ع)."اختيار معرفة الرجال للطوسي ص 5 –98-103
(3) الأمالي للصدوق ص 133
(4) إحقاق الحق للتستري ص 205(20/84)
وهذه القصة واحدة من القصص الكثيرة المكذوبة على أمير المؤمنين علي ـ رضي الله عنه ـ وآفاتها أصبغ بن نباتة وهو كذاب متروك الحديث يقول بالرجعة .قال عنه أبو بكر بن عياش : كذاب . وقال ابن معين : ليس بثقة . وفي قول آخر : ليس بشيء . وقال النسائي وابن حبان : متروك . وزاد ابن حبان : فُتِن بحب علي فأتى بالطامات فاستحق من أجلها الترك . وقال ابن عدي : بيّن الضعف . وقال أبو حاتم : لين الحديث . وقال العقيلي : كان يقول بالرجعة . وقال الدار قطني والساجي : منكر الحديث (1) وهذه القصة إضافة من إلى نكارتها فإنها تعارض ما ثبت من محبة علي ـ رضي الله عنه ـ لسعد وإشادته بفضائله ومآثره فعلي ـ رضي الله عنه ـ قد روى فضائل لسعد تقدم بعضها منها إخباره أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فدى سعداً بأبيه وأمه يوم أحد وغيرها من الفضائل .
ولو كان سمع من رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ما يناقضها على حد زعم الشيعة ما رواها ولا غرر الناس به .
أضف إلى هذا ما في هذه القصة من تناقض مكاني فهذه المقالة إنما قالها علي ـ رضي الله عنه ـ وهو على منبر الكوفة –كما زعم الشيعة- وسعد رضي الله عنه كان قد اعتزل في المدينة ولم يلتق بعلي رضي الله تعالى عنه في الكوفة .
__________
(1) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2/319 –320 وميزان الاعتدال للذهبي 1/271 وتهذيب التهذيب لابن حجر 1/362-363 وتقريب التهذيب له ص176(20/85)
أما تمسكهم بكون عمر بن سعد شارك في قتل الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وإيراد هذا المطعن في حق أبيه رضي الله عنه فأي ذنب كان لسعد في هذا ، وما حصل إنما حصل بعد موته رضي الله عنه ولو علم أن ابنه سيشارك في قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتمنى أنه مات قبل أن يتزوج أو يكون له ولد ، ولتمنى لو انشقت الأرض وابتلعته وولده ولتمنى أن لو كان نسيا منسيا لما عرف عنه من حبه للنبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته فلا ذنب لسعد ولا مسوغ للشيعة للطعن فيه والله سبحانه وتعالى يقول :"ولا تزر وازرة وزر أخرى"(1).
ثالثا : موقف الشيعة الإثني عشرية من عبدالرحمن بن عوف الزهري رضي الله عنه:
عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة وأخد السنة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض .
والشيعة كدأبهم مع كبار أصحاب رسول الله وخيارهم يوجهون إليهم المطاعن المفتراة ويسلقونهم بألسنة حداد.
وقد خصوا عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه ببعض مطاعنهم وافتروا عليه كما افتروا على غيره من الصحابة مالله يعلم أنه منه بريء وعباده المؤمنون يعلمون.
وسأذكر مثالا واحدا من كتبهم بين مدى الحقد الذي يعتمل في نفوسعم تجاه هذا الصحابي الجليل .
وهو : ما ادعوه من أن له بابا من أبواب النار يدخل منه مع فرعون وهامان :
فقد أسند الملقب الصدوق -كذبا- إلى جعفر الصادق أنه قال :"إن للنار سبعة أبواب بتب يدخل منه فرعون وفرعون وهامان وقارون .."(2).
وقد تقدم أن مرادهم بفرعون وهامان : أبو بكر وعمر رضي الله عنهما .
أما الكراد بـ(قارون) : فقد ذكر الكاشاني أن "عبدالرحمن بن عوف قارون هذه الأمة"(3).
__________
(1) سورة فاطر 18
(2) الخصال للصدوق 2/361-362 وانظر حق اليقين لعبدالله شبر 2/169
(3) علم اليقين للكاشاني 2/732(20/86)
وهذا الزعم من الشيعة –وهو قوله أن لعبدالرحمن رضي الله عنه بابا من أبواب النار يدخل منه- يعارض الحديث الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي أخبر فيه عليه الصلاة والسلام أن عبدالرحمن بن عوف في الجنة (1).
ويعارض أيضا ما ذكر في بعض كتب الشيعة من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو لعبدالرحمن ويقول :"اللهم اسق عبدالرحمن من سليل الجنة"(2).
مستدلا بهذا الحديث على إثبات مادة لغوية . وقد عقب على هذا الحديث بقوله :"والسليل هو صافي شرابها ... إلخ"(3).
ولو علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن عبدالرحمن بن عوف يدخل من باب من أبواب جهنم مع فرعون وهامان –كما زعم الشيعة- لما دعا الله له أن يسقيه من صافي شراب الجنة ، وأخبر أنه سيدخلها فهو عليه السلام لا ينطق عن الهوى ، إن هو غلا وحي يوحى .
رابعا : موقف الشيعة الإثني عشرية من أبي عبيدة : عامر بن الجراح القرشي الفهري رضي الله تعالى عنه :
أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه من الرعيل الأول من الصحابة ، أسلم قديما ، وشهد المشاهد كلها مع رسول اللهصلى الله عليه وسلم ، وبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ، وتوفي وهو عنه راض .
وفضائله رضي الله عنه كثيرة ، ولا يتسع المقام لذكرها ، ويكفيه فخرا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبه بـ" أمين هذه الأمة" :
فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أنس بن مالك الأنصاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لكل أمة أمينا ، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح "(4).
__________
(1) هو حديث العشرة المبشرين بالجنة تقدم تخريجه
(2) إكمال الدين للصدوق ص 243
(3) إكمال الدين للصدوق ص 243
(4) صحيح البخاري 5/100 ك المناقب باب مناقب أبي عبيدة وصحيح مسلم 4/1881 ك الفضائل باب فضائل أبي عبيدة(20/87)
ولكن الشيعة لم يعترفوا بفضلة ، ولم يراعوا حق صحبته ، بل أشرعوا سهامهم في وجهه ، كما فعلوا مع إخوانه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووجهوا إليه العديد من المطاعن والتهم ، سأقتصر على ذكر أحدها :
وهو : زعمهم أن تلقيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي عبيدة ب( أمين هذه الأمة ) مطعن ،لامدح فيه :
وذكروا في سبب إطلاق هذا اللقب عليه من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة مكذوبة ، ملخصها :
أن جماعة من الصحابة تآمروا فيما بينهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعطوا الخلافة لبني هاشم أبدا –يريدون بذلك حرمان علي وذريته منها على مزاعم الشيعة- وكتبوا في ذلك صحيفة ودفنوها في جوف الكعبة وكان كاتب هذه الصحيفة هو أبو عبيدة بن الجراح ، وهو الذي ذهب بها إلى مكة ودفنها في جوف الكعبة ، فأطلع الله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حد زعم الشيعة – على مؤامراتهم ، فقال لأبي عبيدة : أنت أمين قوم من هذه الأمة على باطلهم (1).
وتوجيه هذا القول – على حد زعمهم- أن المتآمرين ائتمنوه على الصحيفة ، وأودعوها عنده ، وأرسلوها إلى مكة نائبا عنهم كي يتولا دفنها في جوف الكعبة ، لذا سمي -على حد زعم الشيعة- أمين قوم من هذه الأمة على باطلهم ، وليس أمين الأمة بأسرها ، قال ذلك من الشيعة كل من : البيضاي ، الكاشاني ، البحراني ، التستري ، الجزائري، الشيرازي،(2).
__________
(1) الملاحظ أن لفظ الحديث الذي أوردوه مخالف تمام المخالفة للفظه الصحيح " وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح
(2) أنظر الصراط المستقيم للبياضي 1/296، 3/154 وعلم اليقين للكاشاني 2/658 وتفسير الصافي له 2/570 والبرهان للبحراني 4/187 والصوارم المهرقة للتستري ص 77-78 والأنوار النعمانية للجزائري 4/340 – 343 والدرجات الرفيعة للشيرازي ص 302-303(20/88)
ولم يكتف الشيعة بهذا ، بل وصفوا أبو عبيدة بأنه من أعداء آل محمد(1) ، وأحد المعينين لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، على اغتصاب الخلافة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه –على حد زعم الشيعة- (2).
واستشهد على صحتها كلام المستشرق الصليبي –البلجيكي المولد، الفرنسي الجنسية ، هنري لامنس حيث يقول :"إن الحزب القرشي الذي يرأسه أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح لم يكن وليد مفاجأة وارتجال ، وإنما كان وليد مؤامرة سرية مجرمة حيكت أصولها ورتبت أطرافها بإحكام وإتقان وإنما أبطال هذه المؤامرة أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح ومن أعضاء هذا الحزب عائشة وحفصة ...إلخ"(3).
مناقشة هذه المزاعم :
لا ريب أن ادعاء الشيعة أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي عبيدة :"أمين هذه الأمة طعن فيه : زعم باطل لا تساعدهم عليه اللغة ، ولا المناسبة ولا واقع الحال :
– فالأمين لغة هو الثقة الرضي . وإضافته إلى الأمة تدل على أنه مرضي من الأمة جميعها ثقة عنهم .
وهذا لا يتماشى مع قصة الصحيفة التي افتروها ، فإنها أفادت أنه ثقة عند جماعة قليلين هم المتواطئون على كتابة الصحيفة – على حد زعم الشيعة-
وقد تنبه الشيعة إلى هذا التناقض البين ، فعمدوا إلى تغيير لفظ الحديث الصحيح ليوافق أهواءهم ومعتقداتهم في الصحابة فوضعوا بدل "أمين هذه الأمة" : "أمين قوم من هذه الأمة على باطلهم".
وهذا كذب متعمد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي توعد بالنار من كذب عليه متعمدا ، وفي قوله في الحديث المتواتر الذي تقدم معنا : "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار".
__________
(1) الكشكول لحيدر الآملي ص160
(2) السقيفة لسليم بن قيس ص 76
(3) سيرة الأئمة الإثني عشر لهاشم الحسيني ص 281 وانظر كتاب المستشرق لامنس الذي نقل عنه هاشم الحسيني –الشيعي المعاصر- وهو بعنوان "الحكام الثلاثة : أبو بكر وعمر وأبو عبيدة" منوعات الكلية الشرقية 4، 1910(20/89)
– ثم إن المناسبة التي لأجلها قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحديث ، ولقب بسببها أبا عبيدة بهذا اللقب تبطل دعواهم ، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أنس رضي الله تعالى عنه :"أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا ابعث معنا رجلا يعلمنا السنة و الإسلام قال : فأخذ بيد أبي عبيدة فقال : "هذا أمين هذه الأمة"(1).
ولا يصح أن يرسل معهم ليعلمهم أمور الدين من هو عنده غير أمين ، وهو الناصح لأمته صلى الله عليه وآله وسلم الحريص عليها .
وكذا أخرج البخاري ومسلم أيضا في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال : "جاء أهل نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : يا رسول الله ! ابعث إلينا رجلا أمينا . فقال صلى الله عليه وآله وسلم : لأبعثن إليكم رجلا أمينا، حق أمين ، حق أمين". قال : فاستشرف لها الناس . قال : فبعث إبا عبيدة بن الجراح"(2).
ويعني بالناس في قوله : (فاستشرف لها الناس) : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم تطلعوا إلى الولاية ورغبوا فيها حرصا على تحصيل الصفة المذكورة ، وهي الأمانة ، لا على الولاية من حيث هي (3) ، حتى إن عمر رضي الله تعالى عنه –مع فضله وتقدمه على غيره- قال : ما أحببت الإمارة قط حبي إياه يومئذ رجاء أن أكون صاحبها"(4).
ولقد عرف الصحابة لأبي عبيدة هذا الفضل :
__________
(1) صحيح مسلم 4/1881 ك الفضائل باب فضائل أبي عبيدة
(2) صحيح البخاري 5/100 ك المناقب باب مناقب أبي عبيدة وصحيح مسلم 4/1882 ك الفضائل باب مناقب أبي عبيدة
(3) فتح البارس لابن حجر 7/93-94
(4) المصدر نفسه ، وانظر : الرياض النظرة في مناقب العشرة للمحب الطبري 2/347(20/90)
فقد روى أحمد بسنده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : "لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح فاستخلفته وما شاورت فيه ، فإن سئلت عنه ، قلت : استخلفت أمين الله وأمين رسوله"(1).
وفي رواية : "لو استخلفت أبا عبيدة بن الجراح فسألني عنه ربي : ما حملك على ذلك؟ لقلت : سمعت نبيك وهو يقول : إنه أمين هذه الأمة"(2).
أما استشهاد هاشم الحسيني –الشيعي المعاصر- كلام المستشرق لامنس على إثبات هذه الدعوى فهو استشهاد باطل ، فما كان لعداء الإسلام أن يكونوا شهداء على المسلمين .
ولا ريب أن المستشرقين اعتمدوا على مصادر الشيعة اعتمادا كبيرا في إلقاء الشبه والتشكيك في الدين ومن ثم إعطاء الفكرة المشوهه والمحرفة عن الفكر الإسلامي الأصيل.
خامسا : موقف الشيعة الإثني عشرية من سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه :
سعيد بن زيد بن نفيل العدوي القرشي من الرعيل الأول من الصحابة . ابن عم عمر بن الخطاب وصهره ، أسلم قديما قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم ، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة ، وتوفي وهو عنه راض (3).
كان مجاب الدعوة ، وقصته مع أروى بنت أويس في ذلك مشهورة :
وهي ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عروة بن الزبير قال : إن أروى بنت أويس ادعت على سعيد بن زيد أنه أخذ شيئا من أرضها .
__________
(1) فضائل الصحابة لأحمد 2/742-743 وانظر مسند أحمد 1/18 والمستدرك للحاكم 3/268
(2) فضائل الصحابة لأحمد 2/742-743 وانظر مسند أحمد 1/18 والمستدرك للحاكم 3/
(3) الاستيعاب لابن عبدالبر 2/2 والإصابة لابن حجر 2/46(20/91)
فخاصمته إلى مروان بن الحكم . فقال سعيد : أنا كنت آخذ من أرضها شيئا بعد الذي سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال : وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوق إلى سبع أراضين . فقال له مروان : لا أسألك بينة بعد هذا . فقال : اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واقتلها في أرضها ، قال : فما ماتت حتى ذهب بصرها وكانت تقول أصابتني دعوة سعيد بن زيد . ثم بينا هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت"(1).
والشيعة قد وجهوا إليه العديد من المطاعن :
فزعموا أنه من شر الأولين والآخرين (2) ، وأنه قارون هذه الأمة(3).
وزعموا أنه من أعداء آل محمد (4) .
وزعموا أنه كان يضع الحديث على رسول الله عليه السلام(5)، إلى غير ذلك من المزاعم الكثيرة والمطاعن المفتراة .
وزعم الشيعة أن سعيدا كان يضع الحديث كزعمهم كذب غيره من الصحابة المكثرين للرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإنما يزعمون هذا لإبطال الكتاب والسنة الذين نقلهما إلينا الصحابة رضي الله عنهم .
قال أبو زرعة الرازي رحمه الله :"إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق ، ولك أن رسول الله حق ، والقرآن حق ، وما جاء به حق، وإنما أدى ذلك كله إلينا الصحابة . وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة ، والجرح بهم أولى ، وهم زنادقة"(6).
__________
(1) صحيح مسلم 3/1230-1231 ك المساقاة باب تحريم الظلم
(2) الخصال للصدوق 2/457-،460
(3) الخصال للصدوق 2/457-،460
(4) الكشكول لحيدر الآملي ص 160
(5) الطرائف لابن طاوس 523
(6) الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص 49(20/92)
وهذا يتضح أن موقف الشيعة من العشرة المبشرين بالجنة واحد ، من حيث إنكارهم أن يكونوا من أهل الجنة ، ومن حيث القول بكفرهم ونسبتهم إلى الإرتداد –كباقي الصحابة- ، وإنكار عاداتهم ، وتوجيه المطاعن المفتراة إليهم –وغير ذلك .
المجلس التاسع
موقف الشيعة الإثني عشرية من الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها وعن أبيها
حصان رزان ما تزن بريبة
حليلة خير الناس دينا ومنصبا
مهذبة قد طيب الله خيمها
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
نبي الهدى والمكرمات الفواضل
وطهرها من كل شين وباطل
لا يخفى على المسلم فضل أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن وما خصهن الله به من نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوتهن ، وما تمتعن به من منزلة سامية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهن من أحب الناس إليه صلى الله عليه وسلم .
وأعزهن عنده عنده وأعرفهن بمطارح أنظاره ، وأسرعهن إلى التعلق بأسباب رضاه في كل ما تقر به عينه صلى الله عليه وسلم .
ولا ريب أن الصديقة بنت الصديق ، والحبيبة بنت الحبيب ، والطاهرة العفيفة المبرأة من فوق سبع سماوات ، عائشة رضي الله عنها أولاهن بهذه النعمة وأحظاهن بهذه الغنيمة وأخصهن من هذه الرحمة العميمة :
فقد حازت قصب السبق إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين سائر أزواجه ، فهي الحبيبة المدللة ، ابنت حبيبه وصديقه ولم يتزوج بكرا غيرها ، ولم ينزل عليه الوحي في فراش امرأة سواها ، كما نص على ذلك صلوات الله وسلامه بقوله لزوجه أم سلمة رضي الله عنها :"يا أم سلمة لا تؤاخذيني في عائشة فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها"(1).
__________
(1) صحيح البخاري 5/107 ك فضائل الصحابة باب فضائل عائشة(20/93)
وكان لعائشة رضي الله عنها شرف خدمة النبي صلى الله عليه وسلم وتمريضه في أيام حياته الأخيرة ، فما أن نزل مرضه الأخير الذي مات فيه حتى أخذ يسأل : أين أنا غدا ؟ أين أنا غدا ؟ يريد أن يكون في بيت عائشة (1)، ثم استأذن أزواجه أن يكون في بيتها ، فأذن له ، فبقي عندها ترعاه وتخدمه ، وتسهر عليه في مرضه إلى أن قبضه الله إليه وإن رأسه لفي حجرها بين سحرها ونحرها ، وحاقنتها وذاقنتها (2) ، وريقة قد خالط ريقها (3) ، فكان موته في بيت أحب الناس إليه ، كما ثبت عنه في الصحيح لما سأل : أي الناس أحب إليك؟ قال : "عائشة"(4).
وقبض وهو راض عنها ، وقبر في بيتها ، فرضي الله عن عائشة وأرضاها .
فهي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرب الناس إلى قلبه وأحبهم إليه .
والمؤمن يحب ما يحب الله ورسوله .
__________
(1) صحيح البخاري 5/107 ك فضائل الصحابة باب فضائل عائشة
(2) كناية عن أن رأسه عليه السلام كان مسندا إلى صدرها
(3) صحيح البخاري 6/31-36 ك المغازي باب ما جاء في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الشيعة يعترف أن ريقه صلى الله عليه وآله وسلم خالط ريقها قبل وفاته ، فقد أسند الأشعث في كتابه إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما أن أبا ذر أخبره أن رسول الله قبل أن يموت دعا بالسواك فأرسله إلى عائشة فقال : لتلينه لي بريقك ففعلت ثم أتي به فجعل يستاك به ويقول بذلك : ريقي بريقك يا حميراء ثم شخص يحرك شفتيه كالمخاطب ثم مات "الأشعثيات ص 212" وهذا يدل بمفهومه –لما تقدم من رغبته في أن يكون في بيتها ، تشرف عليه وترعاه ومن إقباله عليها عند موته ومخالطة ريقه الشريف لريقها على موتهصلى الله عليه وسلم وهو راض عنها
(4) صحيح البخاري 5/68 ك الفضائل باب فضائل أبي بكر(20/94)
فهل يحب أم المؤمنين عائشة ويحترمونها، وينزلونها المنزلة التي أنزل الله وأنزلها رسوله عليه السلام؟ المنزلة التي تستحقها لكونها زوجه سيد ولد آدم وخير الأولين والآخرين ولكونها أحب الناس وأقربهم إلى قلب هذا الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم ؟
والجواب : أن الشيعة يبغضون عائشة رضي الله عنها أشد البغض :
ويتجلى ذلك في سبها وإيذائها ونسبتها على ما برأها الله منه ، وطمس فضائلها وتوجيه العديد من المطاعن إليها .
وليس الأمر تحاملا على الشيعة أو تجنيا عليهم ، فكتبهم هي الشاهد على صدق هذه الدعوى .
والمطاعن التي وجهها الشيعة إلى عائشة رضي الله عنها كثيرة ، وسأقتصر على نماذج منها .
فمنها : أولا : ادعاء الشيعة كفرها وعدم إيمانها ، وزعمهم أنها من أهل النار :
أسند العياشي –وهو من علماء الشيعة- إلى جعفر الصادق – زورا وبهتانا- والقول في تفسير قوله تعالى :"ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.." (1) ، قال :"التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا: عائشة هي نكثت إيمانها"(2).
__________
(1) سورة النحل 92
(2) تفسير العياشي 2/269 وانظر البرهان للبحراني 2/383 وبحار الأنوار للمجلسي 7/454(20/95)
وتبدو النزعة الباطنية في هذا التفسير جلية ، فالشيعة قد نحوا منحى التأويل الباطني بتحريفهم معنى نقض الغزل إلى نقض الإيمان وزعمهم أن التي نقضت غزلها أي إيمانهم على حد قولهم هي عائشة رضي الله عنها ، بينما إجماع المفسرين على عكس ذلك فإنهم أجمعوا على أن المرأة التي نقضت غزلها امرأة خرقاء في أهل الجاهلية تسمى : ريطة ، كانت تغزل هي وجوار لها من الغداة إلى الظهر ، ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن. وكانت معروفة عنهم ، فضربها الله مثلا لهم ألا يتشبهوا بها فينقضوا العهود من بعد توكيدها فشبه نقض العهود بنقض الغزل . ولم يقل أحد منهم إن المرأة المعنية بهذه الآية هي الصديقة عائشة رضي الله عنها ، ولم يؤول واحد منهم نقض الغزل بنقض الإيمان ، ولم يشبهه به (1).
وزعم الشيعة أيضا أن لعائشة رضي الله عنها بابا من أبواب النار تدخل منه :
فقد أسند العياشي إلى جعفر الصادق –رحمه الله ، وحاشاه مما نسبه الشيعة إليه- أنه قال : في تفسير قوله تعالى حكاية عن النار :"لها سبعة أبواب"(2) : "يؤتى بجهنم لها سبعة أبواب .... والباب السادس لعسكر ... إلخ" (3).
وعسكر كناية عن عائشة رضي الله عنها ، كما زعم ذلك المجلسي (4) .
ووجه الكناية عن اسمها بعسكر ، كونها كانت تركب جملا –في موقعة الجمل- يقال له : عسكر . كما ذكر ذلك المجلسي أيضا .
ولم يكتف الشيعة بذلك ، بل لقبوا عائشة في كتبهم بـ(أم الشرور) (5)، وبـ(الشيطانة) (6).
__________
(1) أنظر تفسير ابن كثير 2/583-584 وفتح القدير للشوكاني 3/190 وروح المعاني للألوسي 14/221-222
(2) سورة الحجر 44
(3) تفسير العياشي 2/243 وانظر البرهان للبحراني 2/345 وبحار الأنوار للمجلسي 4/378، 8/220
(4) بحار الأنوار للمجلسي 4/378، 8/220
(5) الصراط المستقيم للبياضي 3/161
(6) المصدر نفسه 3/135(20/96)
وزعموا أنها كانت تكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ، وأن لقبها (حميراء) والألقاب التي يبغضها الله تعالى (2).
فعائشة رضي الله عنها إذن كافرة عند الشيعة ، وليست من أهل الإيمان ، وهي عندهم من أهل النار.
ومعلوم أن الشيعة يوجهون هذه المطاعن المفتراة المجردة عن الدليل إلى أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لا يحب إلا طيبا ، والكافر خبيث ولا يحب ، فكيف تتفق مزاعم الشيعة مع ما تواتر –تواترا معنويا- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حبه لعائشة الصديقة رضي الله عنها ؟!.
أخرج أحمد وأبو حاتم وغيرهما بأسانيدهم إلى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دخل على عائشة وهي تموت ، فقال لها : "كنت أحب نساء رسسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ، ولم يكن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا طيبا"(3).
وسمع عمار بن ياسر رضي الله عنهما رجلا ينال من عائشة رضي الله عنها ، فزجره ووبخه وقال له :"اغرب مقبوحا منبوحا، أتؤذي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم "(4).
وقد تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : من أحب الناس إليك ؟ فقال : عائشة (5).
ثم الشيعة بعد هذا كله يزعمون أنها كانت كافرة حاشاها بل هي من أفضل المؤمنين من عباد الله الصالحين .
وقد فضلها رسول الله صلى الله عليه وسلمعلى سائر النساء بقوله :"فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"(6).
__________
(1) الخصال للصدوق 1/190
(2) الأصول من الكافي للكليني 1/247
(3) راجع السمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين للمحب الطبري ص 30
(4) جامع الترمذي 5/707 ك المناقب باب فضل عائشة رضي الله عنها وقال الترمذي : هذا حديث حسن
(5) صحيح البخاري 5/68 ك الفضائل باب فضائل أبي بكر
(6) أخرجه البخاري 6/340 ك الأنبياء باب قول الله تعالى :"وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين(20/97)
ويتناقض ما زعمه الشيعة عن عائشة بكونها من أهل النار مع ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بشارته لها بالجنة بقوله :"لقد رأيت عائشة في الجنة لأني أنظر إلى بياض كفيها ليهون ذلك علي عند موتي"(1).
ويتناقض أيضا مع ما ثبت عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، من قوله عنها رضي الله عنها :"إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة"(2).
ثم الشيعة بعد هذه الأدلة الواضحة الصريحة قد خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخالفوا من زعموا أنه إمام لهم –علي بن أبي طالب رضي الله عنه- وزعموا أن عائشة رضي الله عنها أنها كافرة ، وأنها من أهل النار ، حاشاها من ذلك .
بل هي مؤمنة طاهرة ، من أهل الفردوس الأعلى في الجنة مع زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثانيا : الشيعة الإثنا عشرية ينسبون الصديقة بنت الصديق المبرأة من فوق سبع سموات إلى الفاحشة :
لما رمى رأس النفاق عبدالله بن أبي بن سلول الصديقة الطاهرة عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه ، غضب الله جل وعلا لانتهاك حرمة نبيه فنفى التهمة عن الصديقة، وأنزل تبرئتها من فوق سبع سموات آيات حوت الوعيد الشديد في الدنيا، والتوعد بالعذاب العظيم في الآخرة.
__________
(1) مسند أحمد 6/138 وفضائل الصحابة له 2/871 وطبقات ابن سعد 8/65 وانظر السمط الثمين للمحب الطبري ص 29
(2) تاريخ الطبري 5/225(20/98)
ولو فتشت في آيات القرآن ، وتأملت الآيات التي أوعد الله العصاة لما رأيته غلظ في عقوبة شيء تغليظه في عقوبة من رمي الصديقة عائشة رضي الله عنها بالإفك ، فالآيات والقوارع مشحونة بالوعيد الشديد ، والزجر العنيف ، واستعظام ما جاء به رأس النفاق ومن رددوا قوله من الإفك ، واستفضاع ما أقدموا عليه من التلقي بالألسنة والقول بالأفواه ، يحسبونه هينا وهو عند الله عظيم، فجعل القَذَفَةَ ملعونين في الدنيا والآخرة ، وتوعدهم بالعذاب الشديد في الآخرة وأخبر أن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ستشهد عليهم بإفكهم وبهتانهم ، وهذا ليس ظلما لهم ، بل هو جزاؤهم الحق الذي هم أهله بسبب خوضهم في عرض نبيه ، وتكلمهم على زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيها لهم على علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنافة محلة صلوات الله وسلامه علبه.
وقد انتهى ذلك الإفك بجلد الخائضين فيه ، وتوبتهم ، واعتذارهم إلى نبيهم وزوجه الطاهرة العفيفة .
وبعد ذلك بقرون أحدث الشيعة إفكا آخر اتهموا به العفيفة الطاهرة في عرضها مرة أخرى ، ولم يحاسبهم أحد إلا الله فإنه مطلع عليهم وهو يدافع عن رسوله وحبيبه ، ويذب عن عرض خليلة صلى الله عليه وسلم .
فقد زعم الشيعة أن قوله تعالى :"ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين قخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين"(1) مثل ضربه الله لعائشة وحفصة رضي الله عنهما.
وقد فسر بعضهم بالخيانة بارتكاب الفاخشة –والعياذ بالله تعالى-:
__________
(1) سورة التحريم 10(20/99)
قال القمي في تفسير هذه الآية :"والله ما عنى بقوله : (فخانتاهما) إلا الفاحشة(1)، وليقيمن الحد على (عائشة) (2) فيما أتت في طريق (البصرة) (3) وكان (طلحة) (4) يحبها، فلما أرادت أن تخرج إلى (البصرة) (5) قال لها فلان : لا يحل لك أن تخرجي من غير محرم فزوجت نفسها من (طلحة) (6).. (7).
ووجه إقامة الحد عليها –على حد زعم الشيعة- : كونها زوجت نفسها من آخر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع حرمة ذلك ، فالله تعالى قد حرم نكاح أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بعده أبدا .
فمن هي التي ارتكبت الفاحشة وتزوجت من طلحة من بين زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في طريقها إلى البصرة –كما زعم الشيعة-؟.
المثل مضروب لعائشة وحفصة معا –على حد زعم الشيعة المتقدم- .
وحفصة لم تخرج إلى البصرة والتي خرجت هي عائشة رضي الله عنها بإجماع الشيعة فهي إذن التي يقام عليها الحد –كما زعم الشيعة- لتزويجها نفسها من طلحة مع حرمة ذلك عليها.
ولا بد أن يقام هذا الحد عند رجعة الأئمة وأعدائهم ، حسب معتقد الشيعة الباطل في ذلك .
ومما يؤكد أن الشيعة الذين لم يذكروا اسم (عائشة) صراحة، عنوا بـ(فلانة) عائشة رضي الله عنها –مع أن الاخرين ذكروا اسمها صريحا كما تقدم- :
__________
(1) وليس هذا القول بدعا من القمي فقد سبقه إليه الكليني –شيخ الاسلام عند الشيعة ، ومرجعهم- ونسبه إلى أبي جعفر الباقر ، راجع البرهان للبحراني 4/357-358
(2) عند القمي فلانة بدل عائشة وهذا من باب التقية وقد صرح غيره باسمها فكشف ما حظرت التقية كشفه بزعمهم
(3) في الطبعة الحديثة (....)
(4) في نسخة أخرى فلان بدل طلحة وهو من التقية كما أسلفنا
(5) في الطبعة الحديثة (....)
(6) في نسخة أخرى فلان بدل طلحة
(7) تفسير القمي ط حجرية ص 341 ط حديثة 2/377 وانظر البرهان للبحراني 4/358 وتفسير عبدالله شبر ص 338 وقد ساقاها موضحة كما أثبتها في المتن(20/100)
ما رواه الشيعة في كتبهم من المزاعم المكذوبة التي جاء فيها : أنه "لم نزل قول الله تعالى :"النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم" (1)، وحرم الله نساء النبي صلى الله عليه وآله على المسلمين غضب طلحة، فقال : يحرم محمد علينا نساءه ويتزوج هو بنسائنا ، لئن أمات الله محمدا لنركضن بين خلاخيل نسائه كما ركض بين خلاخيل نسائنا – وفي رواية أخرى ذكروها : لأتزوجن عائشة (2)، - وفي رواية ثالثة – (وكان طلحة يريد عائشة) (3) ، فأنزل الله تعالى : "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلك كان عند الله عظيما"(4).
ولم يكتف الشيعة بهذا ، بل نسبوا إليه أقوالا في غاية الخسة والبذائة ، وقد ترددت في ذكرها ، وهممت أن لا أكتبها ، لولا ما ألزمت به نفسي من إعطاء صورة واضحة مختصرة عن نظرة الشيعة إلى الصحاية رضي الله تعالى عنهم ، لذا فإني أذكر بعضها، وأعرض عن بعضها الآخر :
فلقد ذكر رجب البرسي –وهو من علمائهم- أن عائشة جمعت أربعين دينارا من خيانة وفرقتها على مبغضي علي ) (5).
__________
(1) سورة الأحزاب 6
(2) تفسير القمي ط حجرية ص 290 ط حديثة 2/195-196 ومؤتمر علماء بغداد لمقاتل بن عطية ص 38 . والشافي للمرتضى ص 258. والطرائف لابن طاوس ص 492-493 . والصراط المستقيم للبياضي 3/23-35 ومنار الهدى لعلي البحراني ص 452 . ونفحات اللاهوت للكركي ق 36/ب وتفسير الصافي للكاشاني 2/363. والبرهان للبحراني 3/333 – 334. وإحقاق الحق للتستري ص 260-261. وفصل الخطاب للنوري الطبرسي ص 58. وعقائد الإمامية للزنجاني 3/56 وسيرة الإئمة الإثنا عشر لهاشم الحسيني 1/381 والشيعة والحاكمون لمحمد جواد مغنية ص 36
(3) الطرائف لابن طاووس ص 492-493 ونفحات اللاهوت للكركي ق 36/ب وفصل الخطاب للنوري الطبرسي ص 58
(4) سورة الأحزاب 53
(5) مشارق أنوار اليقين لرجب البرسي ص 86(20/101)
وذكر أحمد بن علي الطبرسي –وهو من علمائهم أيضا- أن عائشة "زينت يوما جارية كانت ، وقالت : لعلنا نصطاد شابا من شباب قريش بأن يكون مشغوفا بها"(1).
فقاتلهم الله كيف حفظوا النبي صلى الله عليه وسلم في زوجته وأحب الناس إليه ، لقد رموها بأشد مما رماها به رأس المنافقين وأتباعه من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
مناقشة هذه المفتريات :
لا يشك عاقل أن هذه المزاعم الشيعية من البهتان المبين والإفك المفترى ، فالله سبحانه وتعالى لم يضرب امرأة نوح وامرأة لوط مثلا لعائشة وحفصة رضي الله عنهما ، بل هو مثل مضروب للذين كفروا مطلقا ، كما قال الله تعالى في رأس الآية :"ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط" (2) ، والشيعة لما كانوا يحقدون على عائشة وحفصة رضي الله عنهما ، ويعتقدون كفرهما قصروا المثل الضروب عليهما وخصوا بهما .
ولم يقل أحد من مفسري أهل السنة أن الخيانة من امرأة نوح وامرأة لوط هي الوقوع في الفاحشة ، وإنما أولوها بأنها الخيانة في الدين (3) ، وقد أولها بعض الشيعة بذلك (4).
وفي ذلك يقول حبر هذه الأمة : عبد الله بن عباس رضي الله عنهما :"ما زنتا أما خيانة امرأة نوح فكانت تخبر أنه مجنون ، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل قومها على أضيافه". وتبعه على ذلك جميع المفسرين (5).
__________
(1) احتجاج الطبرسي ص 82
(2) سورة التحريم 10
(3) راجع : جامع البيان للطبري 28/169-171 وتفسير بن كثير 4/393. وفتح القدير للشوكاني 5/255-256
(4) كالبياضي في الصراط المستقيم 3/165 –166. والكاشاني في تفسير الصافي 2/720
(5) راجع : جامع البيان للطبري 28/ 169 – 171. وتفسير بن كثير 4/393 وفتح القدير للشوكاني 5/255 – 256. وغيرها من تفاسير أهل السنة فكلها أجمعت على ذلك(20/102)
والقصة التي افتراها الشيعة لا شك في كذبها ، وقد وقع واضعها في أخطاء تدل على كذبها ، منها : ادعاؤه أن عائشة خرجت دون محرم ، ولما أخبرت أن لا يجوز أنها خرجت بغير محرم زوجت نفسها من طلحة –على حد زعمهم- .
ودعوى أنها خرجت بغير محرم يبطلها ما أجمع عليه أهل السنة وجمهور الشيعة من أن ابن أختها عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما كان معها وفي عسكرها ، وما رواه الشيعة من أنه –أي ابن أختها- عبدالله هو الذي حرضها على المسير إلى البصرة وحرض أباها على محاربة علي رضي الله عنه ، وعندما عزم أبوه على الاقلاع عن حربه لما التقيا في البصرة أخذ يلح عليه حتى عاد إلى حربه وهذه كلها مزاعم ذكرها الشيعة في كتبهم (1).
فكيف يقال أنها خرجت من غير محرم ، وعبدالله بن الزبير ابن أختها هو محرمها؟.
لاشك أن قول الله تعالى :"إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا".
وقوله جل وعلا :"والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا"(2) .
منطبق على من قذفها ، لأن في قذفها من حيث كونها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم إيذاء لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقذفها من حيث كونها مؤمنة غافلة إيذاء لها ، ولمن اهتموا بها رضي الله عنهما .
وينبغي أن يعلم أن سب عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه يعتبر مروقا من الدين –حسبما تقرر في القواعد الشرعية- وسابها كافر ، وعلى هذا إجماع علماء المسلمين، مستدلين بقوله تعالى :"يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين"(3)، وبغيرها من آيات الكتاب الحكيم .
__________
(1) الاختصاص للمفيد ص 119 . وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/ 167-170 ، 4/ 480 ، 482- 483. وأحاديث أم المؤمنين عائشة لمرتضى العسكري 1/227-268 -269
(2) سورة الأحزاب 57-58
(3) سورة النور 17(20/103)
قال القاضي أبو يعلى : "من قذف عائشة رصي الله عنها بما برأها الله منه كفر بلا خلاف"(1).
و "روى عن محمد بن زيد بن علي بن الحسين أخي الحسن بن زيد أنه لما قدم عليه رجل من العراق فذكر عائشة بسوء، فقام إليه بعمود فضرب به دماغه فقتله، فقيل له : هذا من شيعتنا ومن بني الآباء ! فقال : هذا سمى جدي (2)قرنان، ومن سمى جدي قرنان استحق القتل"(3).
وروي عن أخيه الحسن بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب :"أنه كان بحضرته رجلا فذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة ، فقال : يا غلام اضرب عنقه ، فقال له العلويون : هذا رجل من شيعتنا ، فقال : معاذ الله ، هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال الله تعالى : (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات..)الآية(4)، فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم خبيث ، فهو كافر فاضربوا عنقه . فاضربوا عنقه ، وأنا حاضر -على حد قول الراوي-."(5).
وقال شيخ الاسلام ابن تيمية ومن رمى عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فقد مرق من الدين.. "(6).
وقال ابن حجر الهيتمي بعد ما ذكر حديث الإفك :"علم من حديث الإفك أن من نسب عائشة المشار إليه أن من نسب عائشة إلى الزنا كان كافرا، وقد صرح بذلك أئمتنا وغيرهم لأن في ذلك تكذيب النصوص القرآنية ، ومكذبها كافر بإجماع المسلمين، وبه يعلم القطع بكفر كثيرين من غلاة الروافض، لأنهم ينسبونها إلى ذلك قاتلهم الله أنى يؤفكون"(7).
__________
(1) نقله عنه ابن تيمية في الصارم المسلول ص571
(2) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3) ذكرها ابن تيمية في الصارم المسلول ص 566 - 567
(4) سورة النور 26
(5) ذكرها ابن تيمية في الصارم المسلول ص 566
(6) الصارم المسلول ص 568
(7) الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي 101(20/104)
وقال الشيخ محمد بن سليمان التميمي حاكيا عن عائشة رضي الله عنها :"والحاصل أن قذفها كيفما كان يوجب تكذيب الله تعالى في إخباره عن تبرئتها عما يقول القاذف فيها"(1).
ويقول في موضع آخر :"ومن كذب الله فقد كفر"(2).
ونقل قول بعض أهل البيت في ذلك :"وأما قذفها الآن فهو كفر وارتداد، ولا يكفي فيه الجلد، لأنه تكذيب لسبع عشرة آية في كتاب الله كما مر، فيقتل ردة ...ومن يقذف الطاهرة الطيبة أم المؤمنين زوجة رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة كما صح ذلك عنه فهو من ضرب عبدالله بن أبي بن سلول رأس المنافقين.." (3).
وأقوال علماء المسلمين كثيرة في هذا الباب وكلها متضافرة في كفر من رمى الصديقة بها برأها الله منه ، أو نسبها إلى الفاحشة -عياذا بالله- متبعين لكتاب ربهم الذي قرر أن الطيبين للطيبات والخبيثين للخبيثات وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم التي دلت دلالة قطعية على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الصديقة الطيبة عائشة حبا لم يساو بها فيه أحدا من الناس ، وكان صلى الله عليه وسلم لا يحب إلا طيبا .
ثالثا : مطاعن مشتركة وجهها الشيعة إلى عائشة بنت أبي بكر ، وحفصة بنت عمر رضي الله عنهم :
وجه الشيعة إلى عائشة و حفصة رضي الله عنهما العديد من المطاعن ، أكتفي بذكر بعضها . فمنها :
_ التبرؤ منهما ولعنهما :
ذكر الكركي و المجلسي – وهو من كبار علماء الشيعة – أن جعفر الصادق – رحمة الله ، وحاشاه من ذلك –كان يعلن في دبر كل مكتوبة أربعة من الرجال و أربعة من النساء : التيمي و العدوي – أبا بكر و عمر – وعثمان و معاوية يسميهم ، وعائشة و حفصة و هندا وأم الحكم أخت معاوية (4).
__________
(1) رسالة في الرد على الرافضة لمحمد التميمي ص 24-25
(2) المصدر نفسه
(3) المصدر نفسه
(4) نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت للكركي ق 74/ب وعين الحياة للمجلسي ص 599(20/105)
هذا في لعنهما ، أما التبرؤ منهما : فقد نقل ابن بابويه القمي –الملقب بالصدوق- والمجلسي إجماع الشيعة على ذلك ، فقالا -واللفظ للمجلسي- : "وعقيدتنا في التبرئ : أننا نتبرأ من الأصنام (1) الأربعة : ابي بكر وعمر وعثمان ومعاوية، ومن النساء الأربع : عائشة وحفصة وهند وأم الحكم، ومن جميع أتباعهم وأشياعهم ، وأنهم شر خلق الله على وجه الأرض(2)، وأنه لا يتم الإيمان بالله ورسوله والأئمة إلا بعد التبرئ من أعدائهم"(3).
فهم أذا يلعنون أبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية رضي الله عنهم ويتبرأون منهم ولا يكتفون بذلك ، بل ويلعنون ابنة ابي بكر ، عائشة ، وابنة عمر ، حفصة ، ويتبرأون منهما ، ويزعمون أنهم وأتباعهم وأشياعهم –يعنون أهل السنة- شر خلق الله على وجه الأرض.
ويعلم كل مسلم أنا أبا بكر وعمر وعثمان خير خلق الله على وجه الأرض بعد الأنبياء والمرسلين، وأن ابنتي أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة من خير خلق الله ، وزوجتا خير خلق الله ، وسيد ولد آدم وإمام الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم ، وأن معاوية رضي الله عنه صحابي من الصحابة الذين هم من خير خلق عز وجل . وأن أهل السنة القائمين بكتاب الله العاملين بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم السائرين على منهج صحابة رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم من خير خلق الله فكيف نجعل المسلمين كالمجرمين، بل وكيف نجعل المتقين كالفجار؟!.
– دعوى الشيعة أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما سقتا السم لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
يدعي الشيعة الإثنا عشرية أن عائشة وحفصة تآمرتا مع أبويهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأذاعتا سره وهتكتا ستره ، وسقتاه السم ، فكان ذلك سبب موته صلى الله عليه وسلم -على حد مزاعمهم الكاذبة- .
__________
(1) وضع الملقب بالصدوق (الأوثان) موضع "الأصنام"
(2) زاد الملقب بالصدوق : ونعتقد فيهم أنهم أعداء الله ورسوله
(3) الهداية للصدوق ق110/أ وحق اليقين للمجلسي ص 519(20/106)
والقصة الممكذوبة التي ذكر فيها الشيعة تآمر أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة على وضع السم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يزعمون –بالرغم من كذبها- أنها ثابتة ، واستدلةا على إثباتها بآية من القرآن الكريم حملوها ما لا تحتمل من المعاني لتوافق أهواؤهم ومعتقداتهم في الصحابة رضي الله عنهم ، وهذه الآية هي قوله تعالى :"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ..." الآية (1).
فقد أسند العياشي –بسنده المسلسل بالكاذبين- إلى أبي عبد الله جعفر الصادق –رحمه الله وحاشاه مما نسبه الشيعة إليه- أنه قال :"تدرون مات النبي صلى الله عليه وآله أو قتل ؟ إن الله يقول : (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) فسم قبل الموت ، إنهما سقتاه (2) قبل الموت، فقلنا : إنهما وأبويهما شر من خلق الله"(3).
ووصف المجلسي –شيخ الدولة الصفوية، ومرجع الشيعة المعاصرين- سند هذه الرواية المكذوبة بأنه معتبر ، وعلق عليها بقول :"إن العياشي روى بسند معتبر عن الصادق(ع) أن عائشة و حفصة لعنة الله عليهما وعلى أبويهما قتلتا رسول الله بالسم دبرتاه"(4).
__________
(1) سورة آل عمران 114
(2) زاد الكاشاني : "يعني المرأتين لعنهما الله وأبويهما" تفسير الصافي 1/305
(3) تفسير العياشي 1/200 وانظر تفسير الصافي للكاشاني 1/305 والبرهان للبحراني 1/320 وبحار الأنوار للمجلسي 6/504، 8/6
(4) حياة القلوب للمجلسي 2/700(20/107)
وقد نقل هذه الحادثة المكذوبة عدد كبير من مصنفي الشيعة ، وذكروا اسم عائشة و حفصة وأبويهما صراحة ، وزعموا أنهم وضعوا السم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فمات بسببه (1).
وهذه القصة من القصص الباطلة التي افتراها الشيعة ، وألصقوها بخيار الصحابة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ، ومات راضيا عنهم –كما تقدم ذلك كله- ولم يقل بها أحد من أهل السنة ، ولا غيرهم ،عدا الشيعة الذين يريدون إظهار خيار الصحابة –بما يلصقونه بهم من مفتريات كاذبة- بمظهر الخائنين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم .
ومن العجيب حقا أنهم يلقون التهم جزافا مجردة عن الدليل ، مخالفة للنقل المتواتر الصحيح.
ومن عرف حال أبي بكر وعمر وخصالهما ، وفضائلهما وشدة قربهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم واختصاصهما به ويقول بملء فيه : هذا بهتان مبين .
وعائشة و حفصة رضي الله عنهما قد ثبت علو درجاتهما ، وأنهما زوجتا نبينا صلى الله عليه وسلم في الجنة ، فقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والصحابي الجليل عمار بن ياسر رضي الله عنهما يحلفان بالله أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة (2).
__________
(1) راجع تفسير القمي ط حجرية ص 340 ، ط حديثة 2/375 – 376. وانظر الصراط المستقيم للبياضي 3/168- 169 . وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/457 . وإحقاق الحق للتستري ص 308 وتفسير الصافي للكاشاني 2/716-717. والبرهان للبحراني 1/320 ، 4/352- 353 والأنوار النعمانية للجزائري 4/336-337
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي . المستدرك 4/6 وانظر : تاريخ الطبري 5/225(20/108)
وكذا أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، فيما رواه عنه خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه : إن جبريل عليه السلام أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طلق حفصة وقال له :"إن الله يقرئك السلام، ويقول : إنها لزوجتك في الدنيا والآخرة ، فراجعها"(1).
فعائشة وحفصة رضي الله عنهما من أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه ، وأبواهما من أحب الناس إليه عليه السلام ، ومن أقربهم إلى قلبه صلى الله عليه وسلم .
ومن له أدنى إلمام بسيرة هؤلاء الصحابة الأخيار يجد نفسه عند قراءة ما بهتهم به الشيعة ، يقول : سبحانك هذا بهتان مبين .
المجلس العاشر
ذكر نماذج من المطاعن التي وجهها الشيعة الإثنا عشرية إلى بعض الصحابة الاخرين
موقف الشيعة الإثني عشرية من الصحابة متشابهة من حيث نسبتهم جميعا إلى الارتداد إلا ثلاثة ، وذمهم ، ولعنهم ، والتبرؤ منهم ، وإيراد المطاعن المفتراة وتوجيهها إليهم .
ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الشيعة من التعرض للصحابة بالذمة والشتم.
ولكثرة المطاعن التي وجهها الشيعة إلى الصحابة الاخرين ، أردت أن أقتصر على ذكر نماذج من تلك المطاعن يدرك القارئ عند قراءتها منزلة الصحابة رضي الله عنهم عند الشيعة الإثني عشرية ، فيدين الشيعة من فيها .
__________
(1) أخرجه ابن سعد والبزار والطبري في الأوسط والكبير والحاكم وصححه – وابن عساكر في الأربعين وحسنه- وذكره ابن عبدالبر والمحب الطبري وابن حجر وغيرهم . أنظر طبقات ابن سعد 8/84 والاستيعاب لابن عبدالبر 4/269. وحلية الأولياء لأبي نعيم 2/50 والمستدرك للحاكم 4/15 . والأربعين في مناقب أمهات المؤمنين لابن عساكر ص 91. والسمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين للمحب الطبري ص 68. ومجمع الزوائد للهيثمي 9/244. ودر السحابة للشوكاني ص 323.وغيرها(20/109)
وفيما يلي أورد نماذج من أقوالهم في معاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد رضي الله عن الصحابة أجمعين .
أولا : ذكر نماذج من المطاعن التي وجهها الشيعة الإثنا عشرية إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما :
طعنهم في صدق إسلامه ، وزعمهم أنه كان كافرا منافقا وأنه يخلد في النار يوم القيامة :
يدعي الشيعة أن معاوية رضي الله عنه (لم يزل في الإشراك وعبادة الأصنام إلى أن أسلم بعد ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمدة طويلة)(1)، وكان تظاهره بالإسلام (قبل موت النبي بخمسة أشهر) (2) ، (ولم يسلم إلا خوفا من السيف) (3)، لذلك (لم يكن مسلما إلا بالاسم) (4)، (إذ أنه بقي على جاهليته الأولى) (5)، ولم يمت (حتى علق الصليب في عنقه) (6)، -كما زعم الشيعة ذلك كله-.
__________
(1) منهاج الكرامة للحلي ص 116
(2) منهاج الكرامة للحلي ص 114 و إحقاق الحق للتستري ص 266. وعقائد الإمامية الإثني عشرية للزنجاني 3/61
(3) نفحات اللاهوت للكركي ق14/ب-15/أ – 26/أ
(4) في ظلال التشيع لمحمد علي الحسني ص 286
(5) مقدمة مرآة العقول لمرتضى العسكري 1/38
(6) الصراط المستقيم للبياضي 3/50(20/110)
ويزعمون أيضا كان شرا من إبليس (1) ، وأن (زندقته أشهر من كفر إبليس) (2) ، وأنه كان رأسا من رؤوس الضلالة(3) ، (إماما من أئمة الكفر) (4)، (فرعون هذه الأمة) (5)، طليقا ، منافقا ، معاندا لله ولرسوله وللمؤمنين(6) ، من أعداء آل محمد ، وخاصة علي بن أبي طالب منهم(7) .
ويزعم الشيعة أيضا أن معاوية رضي الله عنه مات كافرا ، لذلك فإنه يخلد في النار يوم القيامة.
واستدلوا على خلوده في النار بما أسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، -زورا وبهتانا- ، فزعموا –وكذبوا عليهم متعمدين- أنه قال : "إن الله عز وجل عرض علي في المنام مني القيامة وأهوالها، والجنة ونعيمها، والنار وما فيها وعذابها ، فاطلعت في النار إذا أنا بمعاوية وعمرو بن العاص قائمبن في جمر جهنم يرضخ رؤوسهما الزبانية بحجارة من جمر جهنم، يقولان لهما : هلا آمنتما بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام.." (8).
وأسند المفيد -كذبا- إلى جعفر الصادق أنه قال : "معاوية وعمرو بن العاص لا يطمعان في الخلاص من العذاب"(9).
__________
(1) منهاج الكرامة للحلي ص 116
(2) تنقيح المقال للمامقاني 3/222
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20/15
(4) الشافي للمرتضى ص 287. وتلخيص الشافي للطوسي ص 462
(5) الإيضاح للفصل بين شاذان ص 43 والخصال للصدوق 2/457-460 والملاحم لابن طاووس ص 90 . وسعد السعود له ص 133. والصراط المستقيم للبياضي 3/50 والكشكول لحيدر الآملي ص 200 وتفسير الصافي للكاشاني 2/740. ومقدمة البرهان لأبي الحسن العاملي ص 263 – 341 وأصل الشيعة وأصولها لكاشف الغطاء ص 45-47
(6) المصباح للكفعمي ص 552. والشيعة والحاكمون لمحمد جواد مغنية ص 39 وأبو طالب مؤمن قريش للخنيزي ص 51
(7) الجمل للمفيد ص 49 ومنهاج الكرامة للحلي ص 116 والكشكول للآملي 160 والشيعة في الميزان لمغنية ص255
(8) نقله البحراني في البرهان 4/477-478
(9) الاختصاص للمفيد ص 344(20/111)
ومعاوية رضي الله عنه في معتقد الشيعة يعذب في النار منذ مات ، وقد كذبوا على عدد من أئمتهم فنسبوا إليهم -كذبا- أنهم رأوه –أي معاوية – مغلولا في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا في واد في أودية جهنم .
فقد كذبوا على أبي جعفر الباقر، وزعموا أنه قال :"كنت خلف أبي ، وهو على بغلته ، فنفرت بغلته ، فإذا هو شيخ في عنقه سلسلة ، ورجل يتبعه فقال : يا علي بن الحسين اسقني؟ فقال الرجل : لا تسقه ، لا سقاه الله . -وكان الشيخ معاوية-"(1).
وزعم الشيعة أن نفس الواقعة جصلت مع أبي عبدالله جعفر الصادق ومع أبيه محمد الباقر(2).
وذكروا في الرواية التي نسبوها للباقر أن معاوية سأله أن يستغفر له ، فقال له الباقر ثلاث مرات : "لا غفر الله لك"(3).
ولأن معاوية رضي الله عنه ممن محض الكفر محضا –عند الشيعة- فإنه يرجع إلى الدنيا قبل يوم القيامة ، وينتقم منه أشد الانتقام -على حد زعم الشيعة- (4).
مناقشة هذه المزاعم:
لا شك أن زعم الشيعة تأخر إسلام معاوية رضي الله تعالى عنه ، إلى ما قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر لا يصح . بل الثابت أنه أسلم في عام الفتح في السنة الثامنة الهجرية ، أي قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بنحو من ثلاث سنين.
__________
(1) بصائر الدرجات الكبرى للصفار ص 304-307 والاختصاص للمفيد ص 275-277 وانظر : الخرايج والجرايح للراوندي ق 134. ومختصر بصائر الدرحات للحلي ص 111 . وتفسير الصافي للكاشاني 2/491 ، 740. والإيقاظ من الهجعة للحر العاملي ص 203-204 وحق اليقين لشبر 2/89
(2) المصادر الشيعية السابقة نفسها
(3) نفس المصادر
(4) مختصر بصائر الدرجات للحلي ص 29 والإيقاظ من الهجعة للحر العاملي ص 363 -364(20/112)
وعلى هذا القول جمهور علماء المغازي والسير(1)، وذلك بعضهم أنه أسلم قبل ذلك (2).
وقد أسند ابن سعد إلى معاوية رضي الله عنه أنه أخبر عن وقت إسلامه بقوله : "لقد أسلمت قبل عمرة القضية، ولكني كنت أخاف أن أخرج إلى المدينة لأن أمي كانت تقول لي : إن خرجت قطعنا عنك القوت. ولقد دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة في عمرة القضاء وإني لمصدق به، ثم لما دخل عام الفتح أظهرت إسلامي فجئته ، فرحب بي"(3).
وقد ذكر البياضي -وهو من الشيعة- أن معاوية أظهر إسلامه في عام الفتح، فقال : "قد صح من التاريخ أنه أظهر الإسلام سنة ثمانية من الهجرة"(4).
فهذا شاهد منهم ينقل أنه قد صح إظهار معاوية لإسلامه في السنة الثامنة –عام الفتح- وقوله حجة على من زعم تأخر ذلك .
وأقل أحوال معاوية أن يكون من الطلقاء أو المؤلفة قلوبهم ، وكونه منهم لا يقدح به لأن أكثر الطلقاء المؤلفة قلوبهم حين إسلامهم ، "وكان الرجل منهم يسلم أول النهار رغبة منه في الدنيا، فلا يجيء آخر النهار والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس"(5).
__________
(1) أنظر : الاستيعاب لابن عبدالبر 3/395 ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية 4/428-429 ، 436 ، 439. والبداية والنهاية لابن كثير 8/ 118 والإصابة لابن حجر العسقلاني 3/433. وتطهير الجنان لابن حجر الهيثمي ص8-11
(2) المصادر السابقة نفسها
(3) نقله الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 8/118 والحافظ ابن حجر في الإصابة 3/433
(4) الصراط المستقيم للبياضي 3/46
(5) منهاج السنة النبوية 4/384(20/113)
ومعاوية رضي الله عنه ممن حسن إسلامه ولذلك استعمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كتابة الوحي وهذا أمر مجمع عليه عند أهل السنة (1).
وقد أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا له بقوله :"اللهم اجعله هاديا مهديا، واهد به"(2)، وقوله :"اللهم علم معاوية الكتاب والحساب، وقه العذاب"(3).
فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا ربه أن يهدي معاوية ويهدي به ، وأن يقيه العذاب ، والشيعة مع ذلك يزعمون أن معاوية رضي الله عنه كان كافرا، وأنه يخلد في النار ذونما دليل صحيح ، وإنما اتباعا لأهوائهم وما تزينه لهم أنفسهم.
وما نسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إخباره عن معاوية أنه بخلد في النار، كذب متعمد عليه الصلاة والسلام ، ومن كذب عليه صلى الله عليه وسلم متعمدا فليتبوأ مقعده من النار-كما أخبر بذلك- فصلوات ربي وسلامه عليه- وفي الحديث المتواتر.
__________
(1) راجع في ذلك : تاريخ الطبري 6/179. وتاريخ الخليفة 1/77 والوزراء والكتاب للجهشياري ص 12 وتجارب الأمم لابن مسكوبة 1/291 والكامل في التاريخ لابن الأثير 4/385 والبداية والنهاية لابن كثير 5/350. وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم للأعظمي ص 103-105
(2) أخرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب . جامع الترمذي 5/687 ك المناقب باب مناقب معاوية
(3) روى الحديث بأسانيد متعددة يعضد بعضها البعض وتصل بالحديث إلى درجة الحسن لغيره-كما ذكر ذلك محقق كتاب فضائل الصحابة-."أنظر : فضائل الصحابة لأحمد 2/913-915. ومسند أحمد 4/127 . وتاريخ الفسوي 2/345. والاستيعاب لابن عبدالبر 3/401"(20/114)
والحق أنه لم تكن ثم عداوة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبين معاوية رضي الله عنه ، فمعاوية كان صغيرا حين أسلم ، ولم يحضر معركة ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يحاربه في أي موقعة ، ولكن الشيعة نقلوا عداوة أمه وابيه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد عفا عن أمه وأبيه، وهما ممن قد حسن إسلامه، وتابا توبة نصوحا ، والتوبة تجب ما قبلها .
(2) – زعم الشيعة وجوب بغض معاوية ولعنه والتبرؤ منه :
قل أن يخلو كتاب في كتب الشيعة ذكر فيه معاوية رضي الله عنه من لعنه رضي الله عنه والتبرؤ منه (1).
قال ابن أبي الحديد :"علي إذا برئ من احد من الناس برأنا منه كائنا من كان وقد برء من المغيرة وعمرو بن العاص، ومعاوية"(2).
وقال المجلسي :"من ضروريات دين الإمامية : البراءة من معاوية"(3).
وكتب الأدعية عندهم من الشواهد على ذلك ، وخاصة ما يقرأ من الأدعية عند زيادة الأئمة ، سيما الحسين منهم ، فعلى سبيل المثال : ذكر الكفعمي دعاء يقرأوه الشيعة عند زيارتهم الحسين في يوم مقتله -يوم عاشوراء- هو :
"اللهم إن هذا يوم تبركت به بنو أمية ، وابن آكلة الأكباد(4)، اللعين ابن اللعين على لسانك ولسان نبيك في كل موطن وموقف وقف فيه نبيك. اللهم العن أبا سفيان ومعاوية ، ويزيد بن معاوية ، ومروان ، وآل مروان ..." (5).
وحكم لعن معاوية عند الشيعة كحكم لعن باقي الصحابة هو : الوجوب .
ولا شك أن سب معاوية رضي الله عنه ، وغيره من الصحابة يعد من الموبقات .
__________
(1) انظر مثلا : الاختصاص للمفيد ص 131 . والمصباح للكفعمي ص 484 – 485 . وكشف الغمة للأربلي 1/563 . ونفحات اللاهوت للكركي ق 26 /ب والرجعة للأحسائي ص 195
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20/35
(3) الاعتقادات للمجسلي ق 17
(4) مراده من آكلة الأكباد : هند بنت عتبة ، أم معاوية ، لأنها لاكت كبد حمزة يوم أحد.
(5) المصباح للكفعمي ص 484(20/115)
وقد نقل عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أنه ذكر عنده أن قوما يشتمون معاوية ، فقال : "ما لهم ولمعاوية؟ نسأل الله العافية"، ثم قال : إذا رأيت أحد يذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسوء فاتهمه على الإسلام"(1).
وقد نص رضي الله عنه على وجوب تعزير من يسبه واستتابته حتى يرجع بالجلد ، وإن لم ينته حبس حتى يموت أو يراجع . وقال : ما أراه على الإسلام ، وقال : "واتهمه على الإسلام ، وقال : أجبن عن قتله".
وبنحو قوله قال الإمام اسحاق بن راهويه رحمه الله (2).
وقال إبراهيم بن ميسرة (3) : ما رأيت عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه ضرب إنسانا قط إلا رجلا شتم معاوية فضربه أسواطا"(الاستيعاب لابن عبدالبر 3/403 والصارم المسلول لابن تيمية ص 569).
فشتم معاوية رضي الله عنه ، وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم لا يجوز ، وهو من الموبقات كما نص على ذلك سلف هذه الأمة فكيف بمن ينسبه إلى الكفر والزندقة -عياذا بالله تعالى- وقد تقدم من أقوال الشيعة في ذلك ، هناك أشد من ذلك أيضا مما يندة له الجبين ، نسأل الله العافية .
أما تمسك الشيعة بما وقع بين أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، وبين معاوية فلا ريب أن خصم معاوية أعني أمير المؤمنين خصم كريم ومن درس سيرته لمس ذلك بوضوح ، وهذا ما أكده الحافظ أبو زرعة الرازي رحمه الله لمن ادعى أنه يبغض معاوية :
__________
(1) الصارم المسلول لابن تيمية ص568
(2) الصارم المسلول لابن تيمية ص568
(3) الطائفي نزيل مكة . روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه نحوا من ستين حديثا أو أكثر . قال فيه سفيان الثوري : -لم تر عيناك والله مثله- "كان من أوثق الناس وأصدقهم" وقد أجمع العلماء على ثقته وعدله وضبطه . "الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2/133 وتقريب التهذيب لابن حجر 1/172"(20/116)
فقد روى الحافظ بن عساكر رحمه الله في كتابه "تاريخ دمشق" ، في ترجمة معاوية رضي الله عنه أن رجلا قال لأبي زرعة الرازي : "إني أبغض معاوية. فقال له أبو زرعة : ولم ؟ قال : لأنه قاتل عليا . فقال له أبو زرعة : ويحك !! إن رب معاوية رب رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فأيش دخولك أنت بينهما رضي الله عنهما".
ثانياً : ذكر نماذج من المطاعن التي وجهها الشيعة إلى عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ :
ومنها :
طعنهم في نسبه : زعم الشيعة أن عمرو بن العاص ابن زنا (1)
وذكروا أن أمهم من أصحاب الرايات في الجاهلية وأنه قد وقع عليها خمسة نفر فأتت بعمرو بن العاص على حد قول بعضهم (2) وفي ذلك يقول محمد جواد مغنية ـ وهو من الشيعة المعاصرين ـ : النابغة أمر عمرو بن العاص كانت بغياً فوقع عليها أبو لهب وأمية بن خلف وهشام بن المغيرة وأبو سفيان بن الحرب والعاص بن وائل فأتت بعمرو وادعاه الأربعة فقالت أمه : هو من العاص . ولما قيل لها : لماذا اخترت العاص ؟ قالت : كان ينفق علي وعلى أولادي أكثر منهم ، وكان عمرو أشبه بأبي سفيان (3)
ولم ينف الشيعة الآخرن هذه الفرية بل أكدوها إلا أنهم زعموا أنه قد وقع عليها ستة نفر لا خمسة فولدت عمراً(4)
__________
(1) الإيضاح للفضل بن شاذان ص 43
(2) الشيعة والحاكمون لمحمد جواد مغنية ص53 . وانظر عقائد الإمامية للزنجاني 3/66
(3) الشيعة والحاكمون لمحمد جواد مغنية ص53
(4) الدرجات الرفيعة للشيرازي ص 160(20/117)
قال من سمى نفسه عبد الواحد الأنصاري ـ وهو من الشيعة المعاصرين ـ عن عمرو بن العاص : لم يشك أحد من المؤرخين في أنه ولد سفاح ، اشترك في إخراجه من أعماق أمه ستة نفر : أبو سفيان ، وأمية بن خلف , العاص بن وائل ، وهشام بن المغيرة وأبو لهب وخلف الجمحي ، وادعاه كلهم فحكموا أمه فحكمت فيه للعاص بن وائل فكان ينفق عليها كثيراً ، وهيهات أن ينجب ابن الزنا . وقد ورث هذا المجرم ـ يقصد عمرو بن العاص ـ من آبائه الستة أخس الصفات وأرذل السمات ؛ فقد ورث من أبي سفيان الغدر والتهتك ، ومن أبي لهب الكفر والإلحاد ، ومن العاص لله ولرسوله ومن شابه أباه فما ظلم (1)
وهذه الافتراءات من الشيعة ليس لهم على إثباتها دليل وهي مجرد إفك محض ، وفرية بينة حملهم عليها حقد عظيم على الصحابة عموماً ، وعلى سادتهم وكبارهم خصوصاً ، وقد لحق عمرو من حقدهم وبغضهم من لحق غيره من كبار الصحابة ، وهو قد مات وانقطع عمله ، ولكن الله لم يشأ أن يقطع عنه الثواب
وهذه التهمة التي يريد الشيعة جزافاً يحاولون إلصاقها بأكثر الصحابة بل قل ما ذكروا صحابياً إلا حاولوا وصمه بهذه الفرية (2) وإذا لم تستح فاصنع ما شئت
نماذج من أقوال الشيعة في عمرو بن العاص :
أطلق الشيعة الإثنا عشرية سيما المعاصرين منهم مجموعة من الألقاب على عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه تحمل في طياتها حقدا يعتمل في صدورهم وسما ينفثونه على هذا الصحابي الجليل .
__________
(1) أضواء على خطوط محب الدين للأنصاري ص 81
(2) من أراد الاطلاع على ذلك فليراجع كتابي : موقف الشيعة الإثني عشرية من الصحابة رضي الله عنهم(20/118)
ومن الأقوال الخبيثة التي أطلقوها عليه على سبيل الاتهام له :"العاصي ابن العاصي (1)ابن العاهرة"(2)"الماكر"(3)"الخبيث" (4) "المنافق" (5) "ممن اشتهر نفاقهم ، وظهر شكهم في الدين وارتيابهم" (6) "المجرم" (7) "من شر الأولين والآخرين" (8) "يرفض الآخرة ويطلب الدنيا" (9) "من الذين عادوا النبي وآذوه وكادوا له وكذبوه"(10) إلى آخر ما أوردوه في ذلك من أقوال كثيرة مكذوبة.
__________
(1) أطلق عليه هذا اللقب : محمد جواد مغنية وهو من الشيعة المعاصرين في كتابه الشيعة والحاكمون ص 39
(2) وصفه بهذه الصفة محمد علي الحسني وهو من الشيعة المعاصرين في كتابه ظلال التشيع ص 188
(3) سماه بهذا الاسم محمد علي الحسني وهو من الشيعة المعاصرين في كتابه في ظلال التشيع ص 212
(4) سماه بهذا الاسم إبراهيم الموسوي الزنجاني وهو من الشيعة المعاصرين في كتابه : عقائد الإمامية الإثني عشرية 3/111
(5) وصفه بهذه الصفة الكفعمي في كتابه المصباح ص 552
(6) قال ذلك المرتضى في كتابه : الشافي في الإمامة ص 240
(7) أطلق عليه ذلك من سمى نفسه بالأنصاري وهو منالشيعة المعاصرين في كتابه : أضواء على خطوط محب الدين العريضة ص 112
(8) وصفه بهذا الوصف الملقب بالصدوق في كتابه : الخصال 2/457
(9) وصفه بهذه الصفة محمد علي الحسني وهو من الشيعة المعاصرين في كتابه : في ظلال التشيع ص 132
(10) اتهمه بذلك محمد جواد مغنية وهو من الشيعة المعاصرين في كتابه : الشيعة والحاكمون ص53(20/119)
والقارئ المنصف المتجرد يلاحظ أن هذه الأقوال مجردة عن الدليل ، فالشيعة لم ينسبوها لأحد ، حتى ولا لأئمتهم ، كما جرت العادة عندهم في نسبة الأقوال المكذوبة إليهم، ويرجع السبب في ذلك إلى صدور هذه الأقوال عن أناس معاصرين لم يجدوا في الكتب السابقة أقوالاً مكذوبة منسوبة إلى الأئمة تطعن في بعض الصحابة فاقتضت الضرورة أن يدلوا بدلوهم مقلدين سلفهم ومن سبقهم من علمائهم الوضاعين فيخترعوا ما يرونه مناسباً من قصص ملفقة أو تهم مزورة ثم يطلقونها جزافاً على الصحابة بمجموعهم أو بأعيانهم كما حدث في اتهام الصحابة في أنهم أبناء زنى وفي غير ذلك من الاتهامات .
وهذا يرشد القارئ اللبيب إلى أن أمثال هذه المطاعن قد صدرت عن هوى وأغراض شخصية ومن هنا احترز أئمة الجرح التعديل في الرواية عن المبتدعة سيما إذا رووا ما يقوي بدعتهم .
والشيعة ـ وخاصة المعاصرون منهم ـ والذي في طعنوا في عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ إنما وجهوا هذه المطاعن إلى من فرح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإسلامه عندما أسلم وأخبر بصدق إسلامه وأثنى عليه بعد ذلك ووصفه بالصلاح :
فقد روى الترمذي وأحمد وغيرهما بأسانيدهم عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص )) (1)
وهذا القول من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدل على أن عمراً ـ رضي الله تعالى عنه ـ لما جاء مسلماً جاء مصدقاً بقلبه ولسانه ، راغباً في العمل الصالح ، طامعاً في المغفرة من ربه .
__________
(1) قال محقق فضائل الصحابة اسناده صحيح . أنظر جامع الترمذي 5/687- مناقب الصحابة باب ومنمناقب عمرو بن العاص. وفضائل الصحابة لأحمد 2/912 وأسد الغابة لابن الأثير 4/117(20/120)
وقد طلب منه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يأتيه ذات يوم فلما جاءه قال له : (( يا عمرو : إني أريد أن أبعثك وجهاً فيسلمك الله ويغنمك أرغب لك من المال رغبة صالحة . قال : قلت : يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إني لم أسلم رغبة في المال وإنما أسلمت رغبة في الجهاد والكينونة معك . قال : يا عمرو! نعماً بالمال الصالح للمرء الصالح )) (1).
وهذا الحديث يدل على إيثار عمرو لما عند الله وعند رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويبين أنه ـ رضي الله عنه ـ لم يسلم رغبة في حطام الدنيا الفانية وإنما رغبة في الثواب والأجر من الله ، وطمعاً في مرضاة الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يرد على من زعم من الشيعة أن عمراً كان طالباً للدنيا رافضاً للآخرة .
ولقد أثنى عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى أهل بيته فقال فيه : (( إن عمرو بن العاص من صالح قريش )) (2)
وفيه وفي ابنه عبد الله وفي أم ولده عبد الله قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( نعم أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله )) (3)
فرحم الله الصحابي الجليل عمرو بن العاص ورضي الله عنه وعامل بعدله شانئيه ومبغضيه .
ثالثاً : الشيعة يقولون عن خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ : إنه سيف الشيطان المشلول :
__________
(1) أخرجه أحم دفي المسند 3/202 وفي الفضائل 2/912 – وقال محققه إسناده صحيح. والحاكم في المستدرك 2/2 وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي
(2) أخرجه الترمذي في جامعه 5/688 ك المناقب باب ومن مناقب عمرو.وأحمد في المسند 1/161ةوفي فضائل الصحابة 2/911-912-913 وانظر : مجمع الزوائد للهيثمي 9/354
(3) أخرجه الترمذي في جامعه 5/688 ك المناقب باب ومن مناقب عمرو.وأحمد في المسند 1/161ةوفي فضائل الصحابة 2/911-912-913 وانظر : مجمع الزوائد للهيثمي 9/354(20/121)
ينكر الشيعة أن يكون رسو ل الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد وصف خالداً ـ رضي الله عنه ـ بأنه سيف من سيوف الله ، ويزعمون أن هذه التسمية أتته نم قبل أهل السنة ، ويقولون : لو أن أهل السنة أنصفوا لسموه سيف الشيطان المشلول :
فهذا مقاتل بن عطية ، وهو من علمائهم يقول عن خالد : (( إنه سيف الشيطان المشلول )) ويزعم أن أهل السنة لقلة إنصافهم سموه بسيف الله المسلول ، ثم يذكر سبب تسميتهم له بذلك فيقول : (( حيث أنه كان عدواً لعلي بن أبي طالب ... سماه بعض السنة بسيف الله )) (1)
وبنحو قول مقاتل هذا قال الحلي (2) ـ وهو من علما ء الشيعة أيضاً ـ
ويرد عليهم بما يلي :
إن تسمية خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ بـ (( سيف الله )) لم تأت من قبل أهل السنة ، وأول من سماه بذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
__________
(1) مؤتمر علماء بغداد لمقاتل بن عطية ص 60
(2) منهاج الكرامة للحلي ص 115(20/122)
وكان بدء تسمية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ له بذلك في غزوة مؤتة في السنة الثامنة من الهجرة (1) فقد روى البخاري وغيره بأسانيدهم عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : (( إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نعى زيداً ، وجعفراً ، وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم ، فقال : أخذ الراية زيد فأصيب ، ثم أخذ جعفر فأصيب ، ثم أخذ بن رواحة فأصيب . ـ وعيناه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تذرفان ـ حتى أخذ ها سيف من سيوف الله عليهم )) وفي رواية : ـ (( حتى أخذها سيف من سوف الله ؛ خالد ... )) (2)
__________
(1) مؤتة قرية بأرض الشام بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها بعثا سنة ثمان من الهجرة –مغازي عروة بن الزبيرص 204. ومراصد الاطلاع للبغدادي 3/1330-
(2) صحيح البخاري 5/103 ك فضائل الصحابة باب مناقب خالد بن الوليد و 5/294 ك المغازي – باب غزوة مؤتة . ومسند أحمد 3/113 –117-118، 5/299 –300-301 . والحديث مروي أيضا عن أبي قتادة الأنصاري وعن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب . –أنظر : مسند أحمد ط الحلبي- 5/299 و 300-301 –و ط المعارف – 3/192-194 وانظر : البداية والنهاية لابن كثير 4/251-252 مجمع الزوائد للهيثمي 9/349(20/123)
ولقد كرر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إطلاق هذه التسمية على خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ في غير ما موضع . فمن ذلك : قوله ـ عليه السلام ـ : (( نعم عبد الله ، وأخذوا العشيرة خالد بن الوليد ، وسيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين )) (1) ولما بلغه ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ أن أحد الصحابة تكلم في خالد ، قا ل ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لا تؤذوا خالداً ، فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار )) (2).
وهذا الحديث حجة على الشيعة الذين يطعنون على خالد ، ويسبونه ، ويؤذونه بشتى أنواع الأذى .
فأهل السنة لم يسموا خالداً بـ (( سيف الله )) ابتداءً ، بل أول من سماه بذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن ثم أطلق أهل السنة هذا اللقب على سيف الله اقتداءً برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
__________
(1) الحديث مروي عن أبي بكر الصديق وأبي عبيدة بن الجراح وأبي هريرة رضي الله عنهم . فحديث أبي بكر أخرجه أحمد في المسند 1/8 . وفي فضائل الصحابة 2/ 815 –816 وقال المحقق : إسناده حسن والطبراني في المعجم الكبير 4/120 . وابن سعد في الطبقات 7/418. والحاكم في المستدرك 3/298. وانظر : الاستيعاب لابن عبدالبر1/408 والإصابة لابن حجر 1/474 . ومجمع الزوائد للهيثمي 9/348 . در السحابة للشوكاني ص 433 . وحديث أبي عبيدة أخرجه أحمد في مسنده 4/90 بإسناد قال عنه الشوكاني : رجاله رجال الصحيح . وانظر : مجمع الزوائد للهيثمي 9/348. ودر السحابة للشوكاني ص 433 – 434. وحديث أبي هريرة أخرجه الترمذي في جامعه وقال : حسن غريب 5/687 ك المناقب باب من مناقب خالد
(2) فضائل الصحابة لأحمد 2/815 – 817. وطبقات ابن سعد 7/395.والمعجم الكبير للطبراني 4/121 . والمستدرك للحاكم 3/298. وانظر : مجمع الزوائد للهيثمي 9/349. ودر السحابة للشوكاني ص 434(20/124)
وهناك مطاعن أخرى كثير مكذوبة نسجها الشيعة على منوال هذه المطاعن ووجهوها إلى عدد كبير من صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأخيار ، لكن التزامي الإيجاز في هذا الكتاب حال دون إيراد تلك المطاعن .
وخلاصة ما تقدم :
أن الشيعة الإثني عشرية سلفهم وخلفهم على عقيدة واحدة في الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ من حيث القول بكفرهم ، وارتدادهم بعد وفاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن حيث توجيه المطاعن المفتراة إلى ساداتهم وخيارهم :
فقد قالوا بكفر الشيخين : أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ وكفر عثمان ، وكفر بقية العشرة المبشرين بالجنة ـ عدا علي ـ
ولم يكتفوا بهذا ، بل نسبوا الصديقة بن الصديق عائشة إلى الفاحشة ، وأنكروا أن تكون آيات البراءة قد نزلت في شأنها .
واتهموا بقية الصحابة ، وطعنوا في صدق إيمانهم ، واستطالوا على أعراضهم ، وزعموا أن بعضهم من أبناء الزنا ، ومن يطالع كتبهم ، ويطلع على ما كتبوه في ذلك يجد العجب العجاب .
ولا ريب أن أئمة أهل البيت الطيبين الطاهرين بريؤون كل البراءة من كل ما ألصقه بهم الشيعة الإثنا عشرية من أكاذيب وترهات زعموا أنها صدرت منهم في حق صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم يحبون الصحابة ويحترمونهم وينزلونهم المنزلة التي أنزلهم الله تعالى إياها ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وينبغي على الشيعة علمائهم وعوامهم ـ إن كانوا يحبون أهل البيت ـ أن يحبوا صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذين كان يحبهم النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ويحبهم أهل بيته الطيبون الطاهرون ـ رحمه الله ورضي عنهم أجمعين ـ فإنما تعلم المحبة بالاتباع .
قال الشاعر :
لو كان حبُك صادقاً لأطعته إن المحب لمن أحب مطيع(20/125)
وفي الختام : أنقل إلى كل شيعي غرر به ، وهو في باطنه محب لأهل بيت نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ نصيحة صادقة خاطب الإمام الشوكاني ـ رحمه الله ـ من خلالها العقول ، بعد ما نقل إجماع أهل البيت من اثني عشر طريقاً على تحريم سب الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ وتحريم التكفير والتفسيق لأحد منهم ، يقول فيها ـ رحمه الله ـ : (( فيا من أفسد دينه بذم خير القرون ، وفعل بنفسه ما لا يفعله المجنون ! إن قلت : اقتديت في سبهم بالكتاب العزيز . كذبت في هذه الدعوى ؛ من كان له في معرفة القرآن أدنى تبريز ، إنه مصرح لأن اله ـ جل جلاله ـ قد رضي عنهم ، ومشحون بمناقبهم ، ومحاسن أفعالهم ومرشد إلى الدعاء لهم ، وإن قلت : اقتديت بسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المطهرة قام في وجه دعواك الباطلة ما في كتب السنة الصحيحة من مؤلفات أهل البيت وغيرهم من النصوص المصرحة بالنهي عن سبهم وعن أذية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك وأنهم خير القرون ، وأنهم من أهل الجنة ، وأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مات وهو راض عنهم وما في طي تلك الدفاتر الحديثية من ذكر مناقبهم الجمة كجهادهم بين يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبيعهم نفوسهم وأموالهم من الله ومفارقتهم الأهل والأوطان والأحباب والأخدان طلباً للدين وفراراً من مساكنة الجاحدين وكم يعد العاد من هذه المناقب التي لا تتسع له إلا مجلدات . ومن نظر في كتب السير والحديث عرف من ذلك ما لا يحيط به الحصر وإن قلت أيها الساب لخير هذه الأمة من الأصحاب : إنك اقتديت بأئمة أهل البيت في هذه القضية الفظيعة ، فقد حكينا لك في هذه الرسالة إجماعهم على خلاف ما أنت عليه من تلك الطرق ... (1) إلى آخر ما قال ـ رحمه الله ـ في ذلك المصنف القيم .
__________
(1) إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي صلى الله عليه وسلم ق 4 /ب(20/126)
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك عل سيدنا محمد وعلى آله وصحبة أفضل الصلاة وأتم التسليم ، والحمد لله رب العالمين ...
27 ذو القعدة 1410 هـ(20/127)
ثناء ابن تيمية رحمه الله
على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وأهل البيت رحمهم الله
جمع وترتيب
أبي خليفة علي بن محمد القُضيبي
1424هـ - 2003م
تقديم الشيخ
سليمان بن صالح الخراشي
شبكة الدفاع عن السنة
www.d-sunnah.net
ثناء ابن تيمية رحمه الله
على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وأهل البيت رحمهم الله
جمع وترتيب
أبي خليفة علي بن محمد القُضيبي
1424هـ - 2003م
تقديم الشيخ
سليمان بن صالح الخراشي
مؤلف هذا الكتاب كان على المذهب الشيعي ثم هداه الله إلى الحق
من أقوال ابن تيمية رحمه الله في الحسين رضي الله عنه
( والحسين رضي الله عنه قتل مظلوماً شهيداً ، وقتلته ظالمون معتدون ) مقتل الحسين وحكم قاتله – ص 77 .
( وأما من قتل الحسين ) أو أعان على قتله ، أو رضي بذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلا ً ) مجموع الفتاوى 4 / 487 – 488 .
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله والصلاة والسلام على من لانبي بعده وعلى آله وصحبه وسلم ...
أما بعد
فقد اطلعت على رسالة ( ثناء ابن تيمية رحمه الله على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأهل البيت رضي الله عنهم أجمعين ) للأخ الكريم / علي بن محمد القضيبي ثبتنا الله وإياه على الحق ، فوجدتها وافية بالمقصود في توضيح موقف شيخ الإسلام من علي وآل البيت رضي الله عنهم ، وهو موقف الحب والاحترام والتقدير والتبجل والترضي ، وإنزالهم المنزلة التي أنزلهم الله إياها .
دون جفاء وتقصير كما يفعل النواصب ، ولا غلو ومجاوزة للحد كما يفعل الشيعة ومن وافقهم من أهل البدع ، وقد آجاد الأخ علي في نقل كلام الشيخ من عقيدته الشهيرة ( الواسطية ) وكذلك من النقولات الواردة في رسالتي ( شيخ الإسلام لم يكن ناصبياً ) المطبوعة عام 1419هـ ، وأغلبها مأخوذه من ( منهاج السنة ) .(21/1)
أسأل الله أن يكتب الأجر للأخ علي في دفاعه عن أحد أعلام المسلمين ، وأن ينصر برسالته هذه شباب الشيعة ، لكي لا يكونوا مقلدين لمن يريد إضلالهم عن الحق والصراط المستقيم ، والله الهادي .
كتبه :
سليمان بن صالح الخراشي
في 5 / 7 / 1424هـ الرياض
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وسلم ...
وبعد .....
لقد تعالت صيحات الباطل والدعاوى المنكرة للتشكيك في الحق وأهله، ظناً منهم أنهم يطفئون نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يُتم نوره ولو كره المشركون.
فإن هذا الدين قد حمله من كل سلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، فهم رحمة الله للناس، يبصرونهم ويرشدونهم، ويجددون أمر هذا الدين.
وعلى رأس هؤلاء المصلحين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد كان إماماً متفرداً وبحراً زاخراً، شهد له القريب والبعيد، وتناقلت الصحف والكتب علومه وفهومه ومعارفه.
فقد كان شيخ الإسلام على طريقة الاعتدال يسير على طريق السلف الصالح في المعتقد، يدافع عنه، ويبين مزالق من حاد عنه مع تعظيمه للشريعة والسنة وآل البيت عليهم السلام.
فقد كثرت أقواله في بيان محامدهم وبلوغهم في العلم والمعرفة ، وتنوعت مقالاته في الدفاع عنهم ورفع منزلتهم.
فأحببت من خلال هذا الجمع أن أقدم بعضاً من أقواله في ذلك لعلها تبين الحقيقة التي يحاول أن يضلل عنها أهل البدع والضلال.
وان كان الأمر يتطلب بياناً كاملاً لرد المفتريات، ولكن هذا جهد المقل وكشيعي سابق ومن أهل السنة والجماعة حاليا ولله الحمد كنت أظن في الجاهلية أن أهل السنة يكنون العداوة لآل البيت عليهم السلام، فتبين لي أن أهل السنة أشد ما يكونون إعظاما وإكبارا واستفادة من آل البيت رضي الله عنهم
فنسأل الله لنا ولكم التوفيق.(21/2)
كتبها العبد الفقير إلى الله
أبو خليفة علي بن محمد القضيبي
ذم شيخ الإسلام ابن تيمية للنواصب
مما يدفع هذه الفرية عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه كان شديد الذم للنواصب بطوائفهم، والخوارج الذين اتخذوا بغض علي _ رضي الله عنه _ ديناً يدينون الله به، وتجرأ بعضهم على تكفيره، أو تفسيقه، أو سبه وشتمه، والعياذ بالله .
وكان - رحمه الله – يكثر من ذم هؤلاء في كتابه ( منهاج السنة النبوية ) فلو كان ناصبياً كما يزعم أعداؤه لأثنى عليهم، أو دافع عن مواقفهم، والتمس العذر لهم.
وأما أهل السنة فيتولون جميع المؤمنين، ويتكلمون بعلم وعدل، ليسوا من أهل الجهل ولا من أهل الأهواء، ويتبرؤن من طريقة الروافض والنواصب جميعاً، ويتولون السابقين الأولين كلهم، ويعرفون قدر الصحابة وفضلهم ومناقبهم، ويرعون حقوق أهل البيت عليهم السلام التي شرعها الله لهم ...... ).(1)
أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية في فضل علي – رضي الله عنه
لشيخ الإسلام – رحمه الله – مواضع عديدة يمدح فيها علياً رضي الله عنه، ويثني عليه، وينزله في المنزلة الرابعة بعد أبي بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم – كما هو منهج أهل السنة والجماعة، وهي واضحة صريحة تلوح لكل قارئ لكتب الشيخ، فلا أدري كيف زاغت عنها أبصار أهل البدعة والشائنين لشيخ الإسلام؟
وقد أحببت جمع بعضها في هذا المبحث ليقرأها كل منصف وطالب للحق من أولئك النفر، ولكي تقرّ بها أعين أهل السنة، فلا يحوك في صدر أحدهم وسواس أهل البدع تجاه شيخ الإسلام، عندما يطَّلعون على تلك الاتهامات الظالمة.
__________
(1) ... منهاج السنة النبوية : ( 2 / 71 ) ، راجع كتاب ( شيخ الإسلام لم يكن ناصبياً ) لسليمان الخراشي ( ص 69 )(21/3)
وقد أكثرتُ من النقل من كتاب ( منهاج السنة ) لأنه عمدة الطاعنين والمتهمين للشيخ بأن فيه عبارات توخي بانحرافه عن علي – رضي الله عنه – أو توهم تنقصه له، فوددت أن أبين لهؤلاء أنهم قومٌ لم يفقهوا مقاصد الشيخ من عباراته لأنهم ينظرون بعين السُخط وعين العداوة في الدين ومثل هذه الأعين لا يُفلح صاحبها.
وأبدأ هذه المواضيع بذكر مجمل عقيدته – رحمه الله – في الصحابة نقلاً عن ( العقيدة الواسطية ) وهي عقيدته الشهيرة التي كتبها بيده ونافح عنها في حياته أمام أهل البدع.
قال رحمه الله: [ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله في قوله تعالى: (والذين جاءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين ءامنوا ربنا انك رءوف رحيم) الحشر (10).
وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ).
ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم، ويفضلون من أنفق من قبل الفتح وقاتل – وهو صلح الحديبية – على من أنفق من بعده وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار، ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر – وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر -: ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة -.ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم كالعشرة، وثابت بن قيس بن شماس وغيرهم من الصحابة.(21/4)
ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ويثلثون بعثمان ويربعون بعلي رضي الله عنهم، كما دلت عليه الآثار، وكما أجمع على تقديم عثمان في البيعة، مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي – رضي الله عنهما – بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما - أيهما أفضل، فقدم قوم عثمان وسكتوا، و ربعوا بعلي، وقدم قوم علياً، وتوقفوا، لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي.
وإن كانت هذه المسألة – مسألة عثمان وعلي – ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة، وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد هؤلاء فهو أضل من حمار أهله ].(1)
وأما المواضع التي ذُكر فيها شيخ الإسلام فضل علي – رضي الله عنه - ودافع عنه:
فمن ذلك قوله – رحمه الله -:
[ فضل عليّ وولايته لله وعلو منزلته عند الله معلوم ،
ولله الحمد، من طرق ثابتة أفادتنا العلم اليقيني، لا يحتاج معها إلى كذب ولا إلى ما لا يُعلم صدقه ].(2)
ومن ذلك قوله رحمه الله :
[ وأما كون عليّ وغيره مولى كل مؤمن ، فهو وصف ثابت لعليّ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته، وبعد ممات عليّ، فعلي اليوم مولى كل مؤمن ، وليس اليوم متولياً على الناس، وكذلك سائر المؤمنين بعضهم أولياء بعض أحياءً وأمواتاً ].(3)
ومن ذلك قوله رحمه الله :
[ وأما علي رضي الله عنه فلا ريب أنه ممن يحب الله ويحبه الله ].(4)
__________
(1) ... العقيدة الواسطية ص (50 – 53) طبعة المكتب الإسلامي ط 4 عام 1405 هـ
(2) ... منهاج السنة : ( 8 / 165 ) .
(3) ... المصدر السابق : ( 7 / 325 ) .
(4) ... المصدر السابق : ( 7 / 218 ) .(21/5)
ومن ذلك قوله رحمه الله ـ :
[لا ريب أن موالاة علي واجبة على كل مؤمن، كما يجب على كل مؤمن موالاة أمثاله من المؤمنين ]. (1)
ومن ذلك قوله ـ رحمه الله ـ :
وكتب أهل السنة من جميع الطوائف مملوءة بذكر فضائله ومناقبه، وبذم الذين يظلمونه من جميع الفرق، وهم ينكرون على من سبَّه، وكارهون لذلك، وما جرى من التسابّ والتلاعن بين العسكرين، من جنس ما جرى من القتال، وأهل السنة من أشد الناس بغضاً وكراهة لأن يُتعرض له بقتال أو سب .
بل هم كلهم متفقون على أنه أجلّ قدراً، وأحق بالإمامة، وأفضل عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين
من معاوية وأبيه وأخيه الذي كان خيراً منه، وعليّ أفضل من الذين اسلموا عام الفتح وفي هؤلاء خلق كثير افضل من معاوية أهل الشجرة افضل من هؤلاء كلهم ، وعليّ أفضل جمهور الذين بايعوا تحت الشجرة، بل هو أفضل منهم كلهم إلا ثلاثة، فليس في أهل السنة من يقدم عليه أحداً غير الثلاثة، بل يفضلونه على جمهور أهل بدر وأهل بيعة الرضوان، وعلى السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار ].(2)
ويقول – رحمه الله – مبيناً شجاعة علي – رضي الله عنه - :
[لا ريب أن علياً رضي الله عنه كان من شجعان الصحابة، وممن نصر الله الإسلام بجهاده، ومن كبار السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار، ومن سادات من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، وممن قاتل بسيفه عدداً من الكفار ].(3)
ومن ذلك قوله:
[ وأما زهد عليّ رضي الله عنه في المال فلا ريب فيه، لكن الشأن أنه كان أزهد من أبي بكر وعمر ].(4)
ومن ذلك قوله:
__________
(1) ... المصدر السابق : ( 7 / 27 ) .
(2) ... منهاج السنة : ( 4 / 396 ) .
(3) ... منهاج السنة : ( 8 / 76 ) .
(4) ... المصدر السابق : ( 7 / 489 ) .(21/6)
[ نحن نعلم أن علياً كان أتقى لله من أن يتعمد الكذب، كما أن أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم كانوا أتقى لله من أن يتعمدوا للكذب ].(1)
...
ومن ذلك أنه – رحمه الله – يرى أن الذين لم يقاتلوا علياً – رضي الله عنه - هم أحب إلى أهل السنة ممن قاتله، وأن أهل السنة يدافعون عنه بقوة أمام اتهامات النواصب والخوارج، يقول:
[ وأيضاً فأهل السنة يحبون الذين لم يقاتلوا علياً أعظم مما يحبون من قاتله، ويفضلون من لم يقاتله على من قاتله كسعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم.
فهؤلاء أفضل من الذين قاتلوا علياً عند أهل السنة.
والحب لعليّ وترك قتاله خير بإجماع أهل السنة من بغضه وقتاله، وهم متفقون على وجوب موالاته ومحبته، وهم من أشد الناس ذبّاً عنه، ورداً على من طعن عليه من الخوارج وغيرهم من النواصب، ولكن لكل مقام مقال ].(2)
ومن ذلك أنه يُفَضِّل الصحابة الذين كانوا مع علي على الصحابة الذين كانوا مع معاوية – رضي الله عنهم أجمعين – يقول:
[ معلوم أن الذين كانوا مع علي من الصحابة مثل: عمار وسهل بن حنيف ونحوهما كانوا أفضل من الذين كانوا مع معاوية ].(3)
هذه مواضيع يسيرة مما نُقل عن شيخ الإسلام – رحمه الله – في فضل علي – رضي الله عنه – ودفاعه الحار عنه أمام أعداءه ، وتبرئته مما نسبوه إليه.
فهل يُقال بعد هذا كما قال هؤلاء المبتدعة الجائرون بأنه – رحمه الله – كان منحرفاً عن علي – رضي الله عنه -! أو أنه تنقصه في كتبه؟!.
__________
(1) ... المصدر السابق : ( 7 / 88 ) .
(2) ... منهاج السنة : ( 4 / 395 ) .
(3) ... مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية : ( ص 61 ) .(21/7)
سبحانك هذا بهتان عظيم! لا يقوله أدنى مسلم فضلاً عن شيخ الإسلام الذي تصرمت حبال أيامه في تقرير عقيدة السلف الصالح، من ضمنها تفضيل علي رضي الله عنه وجعله الخليفة الرابع الراشد، واعتقاد أنه على الحق أمام من حاربه وخالفه.
ولكن ذنب شيخ الإسلام عند هؤلاء المبتدعة أنه لم يَغلُ في عليٍّ كما غلوا، أو يتجاوز به قدره الذي أراده الله له. (1)
أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية في قتلة الحسين عليه السلام
قال – رحمه الله -:
[ وأما جواز الدعاء للرجل وعليه فبسط هذه المسألة في الجنائز، فإن موتى المسلمين يُصلى عليهم بَرهم وفاجرهم، وإن لُعِنَ الفاجر مع ذلك بعينه أو بنوعه، لكن الحال الأولى أوسط واعدل، وبذلك أحببت مُقدم المغل بولاي؛ لما قدموا دمشق في الفتة الكبيرة، وجرت بيني وبينه وبين غيره مخاطبات؛ فسألني فيما سألني: ما تقولون في يزيد؟ فقلت: لا نسبه ولا نحبه، فإنه لم يكن رجلاً صالحاً فنحبه، ونحن لا نسب أحداً من المسلمين بعينه.
فقال: أفلا تلعنونه؟ أما كان ظالماً؟ أما قتل الحسين؟
فقلت له: نحن إذا ذكر الظالمون كالحجاج بن يوسف وأمثاله: نقول كما قال الله في القرآن: ( ألا لعنة الله على الظالمين ) هود ( 18) .
ولا نحب أن نلعن أحداً بعينه؛ وقد لعنه قوم من العلماء؛ وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد، لكن ذلك القول أحب إلينا وأحسن.
وأما من قَتَلَ ( الحسين ) أو أعان على قتله، أو رضي بذلك: فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.
قال: فما تحبون أهل البيت؟
__________
(1) ... راجع كتاب ( ابن تيمية لم يكن ناصبياً ) لسليمان بن صالح الخراشي : ( 74 – 87 )(21/8)
قلت: محبتهم عندنا فرضٌ واجب، يؤجر عليه، فإنه قد ثبت عندنا في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يُدعى خمّاً، بين مكة والمدينة فقال: ( أيها الناس! إني تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله ) فذكر كتاب الله وحض عليه، ثم قال: ( وعترتي أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ) .
قلت لمقدم: ونحن نقول في صلاتنا كل يوم: ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ).
قال مقدم: فمن يُبغض أهل البيت؟
قلت: من أبغضهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.
ثم قلت: للوزير المغولي: لأي شيء قال عن يزيد، وهذا تترىٌ؟
قال: قد قالوا له إن أهل دمشق نواصب.
قلت بصوتٍ عالٍ: يكذب الذي قال هذا، ومن قال هذا: فعليه لعنة الله، والله ما في أهل دمشق نواصب، وما علمت فيهم ناصبياً، ولو تنقص أحداً علياً بدمشق لقام المسلمون عليه؛ لكن كان قديماً – لما كان بنو أمية ولاة البلاد – بعضُ بني أمية ينصب العداوة لعلي ويسبه، وأما اليوم فما بقي من أولئك أحداً ].(1)
مكانة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل السنة والجماعة
قال شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية :
ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم غدير خم: ( أذكركم الله في أهل بيتي ).(2)
وقال أيضاً للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم فقال: ( والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي ).(3)
__________
(1) ... مجموع الفتاوى : ( 4 / 487 – 488 ) وانظر كتاب ( ابن تيمية لم يكن ناصبياً ) لسليمان بن صالح الخراشي : ( ص 72 – 73 )
(2) ... رواه مسلم .
(3) ... رواه الإمام أحمد وغيره .(21/9)
وقال: ( إن الله اصطفى بني إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل كنانة واصطفى من كنانة قريشاً واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم ).(1)
قال الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله - في شرح كلام شيخ الإسلام - رحمه الله -
الشرح :
بين الشيخ - رحمه الله - في هذا مكانة اهل البيت عند اهل السنة والجماعة وانهم يحبون اهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل البيت هم آل النبي صلى الله عليه وسلم الذين حرمت عليهم الصدقة وهم آل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل العباس وبنوا الحارث بن عبدالمطلب وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته من اهل بيته كما قال تعالى ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ) الأحزاب : 33 )
فأهل السنة يحبونهم ويحترمونهم ويكرمونهم لان ذلك من احترام النبي صلى الله عليه وسلم وإكرامه ولان الله ورسوله قد أمرا بذلك قال تعالى ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) الشورى : 23 )
وجاءت نصوص السنة بذلك - منها ما ذكره الشيخ - وذلك إذا كانوا متبعين للسنة مستقيمين على الملة كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وبنيه - أما من خالف السنة ولم يستقم على الدين فإنه لا تجوز محبته ولو كان من اهل البيت .
وقوله : ( ويتولونهم ) اي يحبونهم من الولاية بفتح الواو وهي المحبة وقوله : ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم اي يعملون بها ويطبقونها ( حيث قال يوم غدير خم ) الغدير هنا مجمع السيل ( وخم ) قيل اسم رجل نسب الغدير اليه وقيل هو الغيظة أي الشجرة الملتف نسب الغدير اليها لانه واقع - وهذا الغدير كان في طريق المدينة مر به النبي صلى الله عليه وسلم في عودته من حجة الوداع وخطب فيه فكان من خطبته ما ذكره الشيخ ( اذكركم الله في اهل بيتي ) اي أذكركم ما أمر الله به في حق اهل بيتي من احترامهم واكرامهم والقيام بحقهم .
__________
(1) ... رواه أحمد ومسلم(21/10)
وقال ايضا : ( للعباس عمه ) هو العباس بن عبدالمطلب ابن هاشم بن عبد مناف ( وقد اشتكى اليه ) اي اخبره بما يكره ( ان بعض قريش يجفوه ) الجفاء ترك البر والصلة ( فقال ) اي النبي صلى الله عليه وسلم (( والذي نفسي بيده )) هذا قسم منه صلى الله عليه وسلم (( لا يؤمنون )) اي الإيمان الكامل الواجب (( حتى يحبوكم لله ولقرابتي )) اي لامرين :
الأول : التقرب الى الله بذلك لانهم من أوليائه .
الثاني : لكونهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك إرضاء له وإكرام له ( وقال ) النبي صلى الله عليه وسلم مبينا فضل بني هاشم الذين هم قرابته ( ان الله اصطفى ) اي اختار والصفوة الخيار ( بني إسماعيل ) بن إبراهيم الخليل عليهما السلام ( واصطفى من بني إسماعيل كنانة ) اسم قبيلة أبوهم كنانة بن خزيمة ( واصطفى من كنانة قريشا ) وهو أولاد مضر بن كنانة ( واصطفى من قريش بني هاشم ) وهو بنو هاشم بن عبد مناف ( واصطفاني من بني هاشم ) فهو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
والشاهد من الحديث : ان فيه دليلا على فضل العرب وان قريشا افضل العرب وان بني هاشم افضل قريش وان الرسول صلى الله عليه وسلم افضل بني هاشم فهو افضل الخلق نفسا أفضلهم نسبا وفيه فضل بني هاشم الذين هم قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم .
والمزيد انظر كتاب العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام أحمد ابن تيمية، شرح الشيخ: صالح بن فوزان الفوزان. ( ص 195 – 197 ) .
الخاتمة(21/11)
وبعد هذا العرض اليسير من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله هنا تتجلى الحقيقة وترد التهمة وأنها كذب وزور وأنهم يريدون التشكيك في علماء الأمة وإسقاط أقوالهم واجتهاداتهم ليتوصلوا إلى هدم الشريعة الغراء واستبدالها بأقوال أهل الضلال و البدع، ومن ادعى غير ذلك فقد كذب، والبينة على من ادعى.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله و صحبه أجمعين.
جمعها الفقير الى الله
أبو خليفة علي بن محمد القضيبي
شيعي سابقاً
المحتويات
تقديم ------------------------------------------------------------- 3
مقدمة -------------------------------------------------------- 5
ذم شيخ الإسلام ابن تيمية للنواصب -------------------------------- 8
أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية في فضل علي – رضي الله عنه -------10
أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية في قتلة الحسين - رضي الله عنه ---- 22
مكانة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل السنة والجماعة - 26
خاتمة ------------------------------------------------------- 31(21/12)
حقوق آل البيت
بين السنة والبدعة
لشيخ الإسلام
ابن تيميه
رحمه الله
هذه رسالة نادرة لشيخ الاسلام ابن تيمية –رحمه الله - قام بنشرها الشيخ ابو تراب الظاهرى – رحمه الله – وكذلك الاستاذ عبد القادر عطا – رحمه الله – وقد جمعنا تخريجهم للاحاديث الواردة فى الرسالة مع الاختصار واضفنا حكم العلامة الالبانى – رحمه الله – عليها .
وكانت مجلة التصوف الاسلامى قد نشرت الرسالة بتعليق الشيخ ابى تراب لكنها حذفت منها القسم الاخير المتعلق بالمشاهد والقبور !!!
ولقد ابقينا على العناوين الفرعية التى وضعها الاستاذ عبد القادر ، والمقدمة التى كتبها الشيخ ابى تراب .
والعنوان الذى نشرته مجلة التصوف هو (فضل اهل البيت وحقوقهم ) ولا ندرى هل هو من وضعهم ام من صنيع ابى تراب ؟
ولقد نشرها ايضا الشيخ العلامة بكر ابو زيد فى كتابه جامع الرسائل المنثورة 3/69-115 .
مقدمة الشيخ ابو تراب الظاهرى
قال ابو تراب :
هذه رسالة نادرة لشيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله وجدتها في كناشتى ، وهي على صغر حجمها جليلة القدر ، لملمت بين ثناياها أطراف موضوعها من جميع الجوانب ، كعادة ابن تيميه إذا تكلم في مسألة فهو بحر مواج يبعد عليك الوصول إلى ساحله .(22/1)
ومحتوى الرسالة كما أنبنا عنه عنوانها – بيان مذهب السلف في شعبة من شعب الإيمان – التي تتعلق بأعمال القلب وهي حب أهل بيت النبوة كما دل عليه القرآن والحديث ، وقد أوضح ذلك في هذه الرسالة أتم إيضاح ، وكلامه عن ذلك في الفتاوى الكبرى ( ج3 ص154 ) وهو في العقيدة الواسطية ما نصه : ( ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث قال يوم غدير خم : ( أذكركم الله في أهل بيتي ) ، وقال للعباس عمه – وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم- ( والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله أصطفى بني إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل كنانة ، واصطفى من كنانة قريشاً ، واصطفى من قريش بني هاشم ) .
وقال في الفتاوى ( ج3 ص407 ) وهو في الوصية الكبرى ( ص297 ) ما نصه : ( آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم من الحقوق ما يجب رعايتها ، فإن الله جعل لهم حقاً في الخمس والفيء ، وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لنا : ( قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ) ، وآل محمد هم الذين حرمت عليهم الصدقة هكذا قال الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما من العلماء رحمهم الله ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ) وقد قال الله في كتابه : (( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ))(22/2)
وحرم الله عليهم الصدقة لأنها أوساخ الناس . وفي المسانيد والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس – لما شكا إليه جفوة قوم لهم – ( والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي ) وفي الصحيح أنه قال : ( إن الله اصطفى .. الحديث المذكور ) .
وأورد شيخ الإسلام ابن تيميه في درجات اليقين ( ص149) قوله صلى الله عليه وسلم : ( أحبوا الله لما يغذوكم من نعمة وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي ) .
وقال ابن تيميه في اقتضاء الصراط ( ص 73 ) الحجة قائمة بالحديث . وقال في ( ص89 ) وانظر إلى عمر بن الخطاب حين وضع الديوان فبدأ بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونقل العلامة السيد حامد المحضار في الجزء الذي جمع فيه أقوال الشيخين ابن تيميه وابن القيم (ص23) قول شيخ الإسلام في رسالة ( رأس الحسين ) عقب حديث : ( والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي ) فإذا كانوا أفضل الخلق فلا ريب أن أعمالهم أفضل الأعمال.(22/3)
هذا والأحاديث في فضائل أهل البيت النبوي مستفيضة في المسانيد والمعاجم والسنن والمصنفات ، وفيها الضعيف والموضوع مع الصحيح ، وقد ميز بينها نقاد المحدثين ، ومعظمها في جامع المسانيد لابن كثير والجامع الكبير للسيوطي وكنز العمال للمتقى ، ونقد بعضها ابن كثير في تفسيره ( ج3 ص 483 ) ، وللمحب الطبري في ذلك تأليف مفرد سماه : ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى ، وانظر شرف بيت النبوة في جلاء الأفهام لابن القيم ( ص 177 ) ولغلاة الشيعة فيها تأليف مفردة فيها من المنكر شيء كثير ، وحسبنا ما صحت به الرواية ، وجاء به الحديث الثابت ، قال ابن كثير (ج4 ص 113 ) : ( ولا ننكر الوصاة بأهل البيت ، والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً وحسباً ونسباً ، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه ، وعليّ وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين ) .
وفي صحيح البخاري قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته .
وقال لعليّ رضي الله عنهما : والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ أن أصل من قرابتي ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للعباس : والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم ، لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب .
وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه خطب فقال : ( إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي ) ، ورواه الإمام أحمد والنسائي والترمذي ، وفي رواية ( كتاب الله وعترتي وإنهما لم يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما ) .(22/4)
وروى ذلك أيضاً أبو ذر وأبو سعيد وجابر وحذيفة بن أسيد رضي الله عنهم وأورده ابن تيميه في الفرقان ( ص 163 ) وفي لفظ مسلم : ( أذكركم الله في أهل بيتي ) .
قال الطيبي كما في تحفة الأحوذي ( ج4 ص 343 ) : لعل السر في هذه التوصية واقتران العترة بالقرآن أن إيجاب محبتهم لائح من معنى قوله تعالى : (( قل لا أسلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)) فإنه تعالى جعل شكر إنعامه وإحسانه بالقرآن منوطاً بمحبتهم على سبيل الحصر فكأنه صلى الله عليه وسلم يوصي الأمة بقيام الشكر ، وقيد تلك النعمة به ، ويحذرهم عن الكفران ، فمن أقام بالوصية ، وشكر تلك الصنيعة بحسن الخلافة فيهما لن يفترقا ، فلا يفارقانه في مواطن القيامة ومشاهدها حتى يردوا الحوض ، فشكر صنيعه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ هو بنفسه يكافئه ، والله تعالى يجزيه الجزاء الأوفى ، فمن أضاع الوصية وكفر النعمة فحكمه على العكس ، وعلى هذا التأويل حسن موقع قوله : ( فانظروا كيف تخلفوني فيهما ) ، أي : تأملوا وتفكروا واستعملوا الروية في استخلافي إياكم هل تكونون خلف صدق أو خلف سوء .
هذا وفي الرسالة فوائد يحرص أهل العلم على اقتناصها كمسألة إعطاء آل البيت من الزكوات .
وكمسألة تخصيص أصحاب الكساء من عموم أهل البيت الذين نزلت فيهم الآية المذكورة في الأحزاب : (( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً )) وهم ذوو قرباه وأزواجه اللاتي سيقت الآيات فيهن وفي مخاطبتهن وتنظير ذلك بالمسجد الذي أسس على التقوى ، وهو مسجد قباء وعلى الأخص مسجد النبي صلى الله عليه وسلم .
وكمسألة سيادة الحسن دون الحسين رضي الله عنهما وتنظير ذلك بإسحاق وإسماعيل عليهما السلام إلى غير ذلك مما تجده فيها .
بسم الله الرحمن الرحيم(22/5)
قال الشيخ الإمام العالم العامل فريد عصره ، مفتي الفرق ، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العالم شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة مجد الدين عبد السلام بن تيميه رضي الله عنه وأرضاه ، وأعلى درجته :
هذا الكتاب إلى من يصل إليه من الإخوان المؤمنين الذين يتولون الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون . الذين يحبون الله ورسوله ، ومن أحبه الله ورسوله ، ويعرفون من حق المتصلين برسول الله ما شرعه الله ورسوله ، فإن من محبة الله وطاعته محبة رسوله وطاعته ، ومن محبة رسوله وطاعته محبة من أحبه الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعة من أمر الرسول بطاعته ، كما قال تعالى : (( يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً )) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى أميري فقد عصاني ) 1 ، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( إنما الطاعة في المعروف ) 2 ، وقال : ( لا
1 رواه الإمام أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة .(22/6)
2 هذه قطعة حديث أخرجه البخاري ومسلم ، ونصه عند البخاري : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا ، فأغضبوه إلى شيء ، فقال : اجمعوا لي حطباً فجمعوا له ثم قال : أوقدوا ناراً فأوقدوا ثم قال : ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا ؟ قالوا : بلى ، قال : فادخلوها ، فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا : إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار ، فكانوا كذلك ، وسكن غضبه وطفئت النار فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف .
طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) 1 .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، وهو للحمد أهل وهو على كل شيء قدير ، ونصلي على إمام المتقين ، وخاتم النبيين عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً . أما بعد :
وحدة المسلمين بالكتاب والسنة
فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً بالكتاب والحكمة ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ، وقال الله تعالى : (( لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )) . وقال تعالى : (( واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به )) . وقال لأزواج نبيه صلى الله عليه وسلم : (( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة )) .
والذي كان يتلوه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه : كتاب الله والحكمة . فكتاب الله هو القرآن ، والحكمة هي ما كان يذكره من كلامه ، وهي سنته صلى الله عليه وسلم . فعلى المسلمين أن يتعلموا هذا وهذا .(22/7)
وفي الحديث المشهور الذي رواه الترمذي وغيره عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ستكون فتنة . قلت : فما المخرج يا رسول الله ؟ قال : كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسن ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم ) .2
1 رواه أحمد والحاكم والطيالسي عن عمران بن حصين والحكم والغفاري وعبد الله بن الصامت وله مخارج آخر ، وصححه الالبانى فى الصحيحة برقم 179
2 اخرجه الترمذى و الدارمى و احمد ، وضعفه الالبانى فى ضعيف سنن الترمذى حديث رقم 554
وقال الله تعالى في كتابه : (( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا )) ، وقال في كتابه : (( إن الذين تفرقوا وكانوا شيعا لست منهم في شيء )) . فذم الذين تفرقوا فصاروا أحزاباً وشيعاً ، وحمد الذين اتفقوا وصاروا معتصمين بحبل الله الذي هو كتابه شيعة واحدة للأنبياء كما قال تعالى : (( وإن من شيعته لإبراهيم )) ، وإبراهيم أبو الأنبياء ، كما قال : (( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين )) . وقال تعالى : (( إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفا ولم يكن من المشركين )) ، إلى أن قال : (( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركيين )) .(22/8)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أمته أن يقولوا إذا أصبحوا : ( أصبحنا على فطرة الإسلام ، وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وملة أبينا إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ) 1 . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، فلا ألفين رجلاً شبعان على أريكته يقول : بيننا وبينكم هذا القرآن ، فما وجدنا فيه من حلال حللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ، ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ) 2 .
فهذا الحديث موافق لكتاب الله ، فإن الله ذكر في كتابه أنه صلى الله عليه وسلم يتلو الكتاب والحكمة ، وهي التي أوتيها مع الكتاب ، وقد أمر في كتابه بالاعتصام بحبله جميعاً ، ونهى عن التفرق والاختلاف ، و (أمر) أن نكون شيعة واحدة ، لا شيعاً متفرقين ، وقال الله تعالى في كتابه : (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون )) فجعل المؤمنين إخوة ، وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل مع وجود الاقتتال والبغي .
1 أخرجه أحمد والطبراني والنسائي عن عبد الرحمن بن ابزى ، وصححه الالبانى فى الجامع 4550
2 رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حيان والحاكم عن أبي رافع، وأخرجه أحمد وأبو داود عن المقدام بن معد يكرب أيضاً ، صحيح المشكاة 162
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) 1 ، وقال : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ) 2 ، وشبك بين أصابعه .(22/9)
فهذه أصول الإسلام التي هي الكتاب والحكمة ، والاعتصام بحبل الله جميعاً ( واجب ) على أهل الإيمان للاستمساك بها .
اهل البيت وخصائصهم
من هم اهل البيت ؟
ولا ريب أن الله قد أوجب فيها من حرمة خلفائه وأهل بيته والسابقين الأولين ، والتابعين لهم بإحسان ما أوجب . قال الله تعالى : (( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً )) .
وقد روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أم سلمة : أن هذه الآية لما نزلت أدار النبي صلى الله عليه وسلم كساءه على عليّ وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم فقال : ( اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ) 3. وسنته تفسر كتاب الله وتبينه ، وتدل عليه ، وتعبر عنه . فلما قال : ( هؤلاء أهل بيتي ) مع أن سياق القرآن يدل على أن الخطاب مع أزواجه ، علمنا أن أزواجه وإن كن من أهل بيته كما دل عليه القرآن ، فهؤلاء أحق بأن يكونوا أهل بيته ، لأن صلة النسب أقوى من صلة الصهر ، والعرب تطلق هذا البيان للاختصاص بأصل الحكم ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، وإنما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يتفطن له يتصدق عليه ، ولا يسأل الناس إلحافاً ) .
بين بذلك : أن هذا مختص بكمال المسكنة ، بخلاف الطواف فإنه لا تكمل فيه المسكنة ، لوجود من يعطيه أحياناً ، مع أنه مسكين أيضاً . ويقال : هذا هو العالم ، وهذا هو العدو ، وهذا هو المسلم، لمن كمل فيه ذلك وإن شاركه غيره في ذلك وكان دونه .
1 رواه الشيخان و الإمام أحمد .
2 أخرجه البخاري ومسلم ، عن أبي موسى .
3 اخرجه الترمذى واحمد ، صحيح الترمذى 3435(22/10)
ونظير هذا في الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال : ( مسجدي هذا ) يعني مسجد المدينة . مع أن سياق القرآن في قوله عن مسجد الضرار : (( لا تقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين )) . يقتضى أنه مسجد قباء . فإنه قد تواتر أنه قال لأهل قباء: ( ماهذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به ؟ فقالوا : لأننا نستنجي بالماء ) .1 لكن مسجده أحق بأن يكون مؤسساً على التقوى من مسجد قباء ، وإن كان كل منهما مؤسساً على التقوى ، وهو أحق أن يقوم فيه من مسجد الضرار ، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم : أنه كان يأتي قباء كل سبت راكباً وماشياً ، فكان يقوم في مسجده القيام الجامع يوم الجمعة ، ثم يقوم بقباء يوم السبت 2، وفي كل منهما قد قام في المسجد المؤسس على التقوى .
ولما بين سبحانه أنه يريد أن يذهب الرجس عن أهل بيته ويطهرهم تطهيرا ، دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأقرب أهل بيته وأعظمهم اختصاصاً به ، وهم : علي ، وفاطمة ، رضي الله عنهما ، وسيدا شباب أهل الجنة ، جمع الله لهم بين أن قضى لهم بالتطهير ، وبين أن قضى لهم بكمال دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان في ذلك ما دلنا على أن إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم نعمة من الله ليسبغها عليهم ، ورحمة من الله وفضل لم يبلغوهما بمجرد حولهم وقوتهم ، إذ لو كان كذلك لاستغنوا بهما عن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، كما يظن من يظن أنه استغنى في هدايته وطاعته عن إعانة الله تعالى له ، وهدايته إياه .(22/11)
وقد ثبت أيضاً بالنقل الصحيح : أن هذه الآيات لما نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أزواجه ، وخيرهن كما أمره الله ، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، ولذلك أقرهن ، ولم يطلقهن، حتى مات عنهن 3 ، ولو أردن الحياة الدنيا وزينتها لكان يمتعهن ويسرحهن كما أمره الله سبحانه وتعالى، فإنه صلى الله عليه وسلم أخشى الأمة لربه وأعلمهم بحدوده .
ولأجل ما دلت عليه هذه الآيات من مضاعفة للأجور والوزر بلغنا عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين وقرة عين الإسلام أنه قال : ( إني لأرجو أن يعطي الله للمحسن منا أجرين ، وأخاف أن يجعل على المسيء منا وزرين ) .
1 اخرجه احمد وابن ماجه . صحيح ابن ماجه 1/62
2 رواه الشيخان
3 رواه الشيخان
وثبت في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أنه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يدعى ( خم ) بين مكة والمدينة فقال : ( وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ) . قيل لزيد بن أرقم : ومن أهل بيته ؟ قال : الذين حرموا الصدقة : آل علي ، وآل جعفر ، وآل عقيل ، وآل عباس . قيل لزيد : أكل هؤلاء أهل بيته ؟ قال : نعم ) 1 .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه صحاح أن الله لماأنزل عليه : (( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )) . سأل الصحابة : كيف يصلون عليه ؟ فقال : ( قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد )2 . وفي حديث صحيح : ( اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته ) .
مالهم وما عليهم :(22/12)
وثبت عنه أن ابنه الحسن لما تناول تمرة من تمر الصدقة قال له : ( كخ ، كخ ، أما علمت أنا آل البيت لا تحل لنا الصدقة ) 3 ، وقال : ( إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ) 4 وهذا والله أعلم من التطهير الذي شرعه الله لهم ، فإن الصدقة أوساخ الناس ، فطهرهم الله من الأوساخ ، وعوضهم بما يقيتهم من خمس الغنائم ، ومن الفيء الذي جعل منه رزق محمد حيث قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وغيره : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة ، حتى يعبد اللله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم ) 5 .
ولهذا ينبغي أن يكون اهتمامهم بكفاية أهل البيت الذين حرمت عليهم الصدقة أكثر من اهتمامهم بكفاية الآخرين من الصدقة ، لا سيما إذا تعذر أخذهم من الخمس والفيء ، إما لقلة ذلك ، وإما
1 رواه مسلم و أحمد والنسائي والترمذي .
2 رواه الشيخان .
3 رواه البخارى .
4 اخرجه الدارمى والنسائى ومالك ، صحيح صحيح الجامع 1660.
5 رواه البخارى تعليقا واحمد ، صحيح الجامع 2828 .
لظلم من يستولي على حقوقهم ، فيمنعهم إياها من ولاة الظلم ، فيعطون من الصدقة المفروضة ما يكفيهم إذا لم تحصل كفايتهم من الخمس والفيء 1 .
صفات اهل الفيء :
وعلى الآخذين من الفيء من ذوي القربى وغيرهم أن يتصفوا بما وصف الله به أهل الفيء في كتابه حيث قال : (( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل )) الآيات .
فجعل أهل الفيء ثلاثة أصناف : المهاجرين ، والأنصار ، والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين بقونا بإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربينا إنك رؤوف رحيم .(22/13)
وذلك أن الفيء إنما حصل بجهاد المهاجرين والأنصار وإيمانهم وهجرتهم ونصرتهم ، فالمتأخرون إنما يتناولونه مخلفا عن أولئك ، مشبها بتناول الوارث ميراث أبيه ، فإن لم يكن مواليا له لم يستحق الميراث ، ( فلا يرث المسلم الكافر )2 ، فمن لم يستغفر لأولئك بل كان مبغضا لهم خرج عن الوصف الذي وصف الله به أهل الفيء ، حتى يكون قلبه مسلما لهم ، ولسانه داعيا لهم ، ولو فرض أنه صدر من واحد منهم ذنب محقق فإن الله يغفره له بحسناته العظيمة ، أو بتوبة تصدر منه ، أو يبتليه ببلاء يكفر به سيئاته ، أو يقبل في شفاعة نبيه وإخوانه المؤمنين ، أو يدعو الله بدعاء يستجيب له .
سب الصحابة ... حرام على ال البيت وغيرهم :
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن حاطب بن أبي بلتعة كاتب كفار مكة لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزوهم غزوة الفتح ، فبعث إليهم إمرأة معها كتاب يخبرهم فيه بذلك ، فجاء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فبعث عليا والزبير فأحضروا الكتاب ، فقال : ( ما هذا يا حاطب ؟ ) فقال : والله يا رسول الله ما فعلت ذلك أذى ولا كفرا ، ولكن كنت امرأ ملصقا من قريش ، ولم أكن
1 قال أبو تراب : وقال بذلك أبو سعيد الأصطخري قال الرافعي : وكان محمد بن يحيى صاحب الغزالي يفتي بهذا . انظر شرح المهذب للنووي ج6 ص 227 .
2قال عبد القادر عطا :لانقطاع الموالاة بينهما لحديث اسامة بن زيد الذى اخرجه احمد والبخارى ومسلم والاربعة .(22/14)
من أنفسهم ، وكان من معك من أصحابك لهم قرابات يحمون بها أهليهم ، فأردت أن أتخذ عندهم يدا أحمي بها قرابتي ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق . فقال صلى الله عليه وسلم : ( إنه شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله قد اطلع عل أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) . وأنزل الله تعالى في ذلك : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة )) الآيات .
وثبت في صحيح مسلم أن غلام حاطب هذا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله والله ليدخلن حاطب النار ، وكان حاطب يسىء إلى مماليكه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كذبت ، إنه قد شهد بدرا والحديبية ) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخل النار واحد بايع تحت الشجرة ) 1 .
فهذا حاطب قد تجسس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فتح مكة التي كان صلى الله عليه وسلم يكتمها عن عدوه ، وكتمها عن أصحابه ، وهذا من الذنوب الشديدة جدا ، وكان يسيء إلى مماليكه ، وفي الحديث المرفوع ، ( لن يدخل الجنة سيء الملكة ) 2 . ثم مع هذا لما شهد بدرا والحديبية غفر الله له ورضي عنه ، فإن الحسنات يذهبن السيئات . فكيف بالذين هم أفضل من حاطب وأعظم إيماناً وعلما وهجرة وجهادا ، فلم يذنب أحد قريبا من ذنوبه ؟! .(22/15)
ثم إن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه روى هذا الحديث في خلافته ، ورواه عنه كاتبه عبيد الله بن أبي رافع ، وأخبر فيه أنه هو والزبير ذهبا لطلب الكتاب من المرأة الظعينة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لأهل بدر بما شهد ، مع علم أمير المؤمنين بما جرى ، ليكف القلوب والألسنة عن أن تتكلم فيهم إلا بالحسنى ، فلم يأت أحد منهم بأشد مما جاء به حاطب ، بل كانوا في غالب ما يأتون به مجتهدين ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر )3 .. وهذا حديث صحيح مشهور .
1 رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن جابر ومسلم عن أم بشر .
2 أخرجه الترمذي وابن ماجه واحمد ، ضعيف ضعيف ابن ماجه 3691 .
3 رواه الشيخان .
وثبت عنه أيضا أنه لما كان في غزوة الأحزاب فرد الله الأحزاب بغيظهم لم ينالوا خيرا ، وأمر نبيه بقصد بني قريظة قال لاصحابه( لايصلين احد منكم العصر إلافى بنى قريظة )1 ، فأدركتهم الصلاة في الطريق ، فمنهم قوم قالوا : لا نصليها إلا في بني قريظة ، ومنهم قوم قالوا : لم يرد منا تفويت الصلاة، إنما أراد المسارعة ، فصلوا في الطريق . فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين .
وكانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه موافقة لما ذكره الله سبحانه وتعالى حيث قال : (( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما )) فأخبر سبحانه وتعالى أنه خص أحد النبيين بفهم الحكم في تلك القضية ، وأثنى على كل منهما بما اتاه من العلم والحكم .
فهكذا السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ورضوا عنه ، كانوا فيما تنازعوا فيه مجتهدين طالبين للحق .
جهل الشيعة بمذهب الامام علي(22/16)
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة )2 . وروى عنه مولاه سفينة أنه قال : ( الخلافة ثلاثون سنة ، ثم تصير ملكا ) 3 . فكان آخر الثلاثين حين سلم سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحسن بن علي رضي الله عنهما الأمر إلى معاوية . وكان معاوية أول الملوك ، وفيه ملك ورحمة ، كما روى في الحديث : ( ستكون خلافة نبوة ، ثم يكون ملك ورحمة ، ثم يكون ملك وجبرية ، ثم يكون ملك عضوض ) 4.
وقد ثبت عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه من وجوه أنه لما قاتل أهل الجمل لم يسب لهم ذرة، ولم يغنم لهم مالا ، ولا أجهز على جريح ، ولا اتبع مدبرا ، ولا قتل أسيرا ، وأنه صلى على قتلى الطائفتين بالجمل وصفين ، وقال : ( إخواننا بغوا علينا )5 . وأخبر أنهم ليسوا بكفار ولا منافقين ، واتبع فيما قاله كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فإن الله سماهم
1رواه البخارى .
2رواه ابو داود و الترمذى وابن ماجه ، صحيح صحيح الترغيب 1/123 .
3رواه احمد ، صحيح صحيح الجامع 3336 .
4 اخرجه ابو داود والترمذى واحمد ، صحيح الصحيحة 5 .
5 رواه ابن ابى شيبة .
إخوة وجعلهم مؤمنين في الاقتتال و البغي كما ذكر في قوله : (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا )).
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح أنه قال : ( تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين ، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ) 1 .
وهذه المارقة هم أهل حروراء ، الذين قتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابه لما مرقوا من الإسلام ، وخرجوا عليه ، فكفروه ، وكفروا سائر المسلمين ، واستحلوا دمائهم وأموالهم .(22/17)
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق متواترة أنه وصفهم وأمر بقتالهم ، فقال : يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وقرآنه مع قرآنهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، لو يعلم الذين يقتلونهم ما لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل )2 . فقتلهم علي رضي الله عنه وأصحابه ، وسر أمير المؤمنين بقتلهم سرورا شديدا وسجد لله شكرا ، لما ظهر فيهم علامتهم وهو المخدج اليد ، الذي على يده مثل البضعة من اللحم ، عليها شعرات فاتفق جميع الصحابة على استحلال قتالهم ، وندم كثير منهم كابن عمر وغيره على ألا يكونوا شهدوا قتالهم مع أمير المؤمنين ، بخلاف ما جرى في وقعة الجمل وصفين ، فإن أمير المؤمنين كان متوجعا لذلك القتال ، متشكياً مما جرى ، يتراجع هو وابنه الحسن القول فيه ، ويذكر له الحسن أن رأيه ألا يفعله .
فلا يستوي ما سر قلب أمير المؤمنين وأصحابه وغبطه به من لم يشهده ، مع ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه وساءه وساء قلب أفضل أهل بيته ، حب النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي قال فيه : ( اللهم إني أحبه فأحبه ، وأحب من يحبه )3 . وإن كان أمير المؤمنين هو أولى بالحق ممن قاتله في جميع حروبه .
ولا يستوي القتلى الذين صلى عليهم و سماهم إخواننا ، والقتلى الذين لم يصل عليهم ، بل قيل له: من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ؟ فقال : هم أهل حروراء.
1 أخرجه مسلم وأبو داود عن أبي سعيد .
2 رواه الشيخان .
3 رواه البخارى .(22/18)
فهذا الفرق بين أهل حروراء وبين غيرهم الذي سماه أمير المؤمنين في خلافته بقوله وفعله موافقا فيه لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هو الصواب الذي لا معدل عنه لمن هدى رشده ، وإن كان كثير من علماء السلف والخلف لا يهتدون لهذا الفرقان ، بل يجعلون السير في الجميع واحدة . فإما أن يقصروا بالخوارج عما يستحقونه من البغض واللعن والقتل واما يزيدوا على غيرهم ما يستحقون من ذلك
عوامل الضلال
وسبب ذلك قلة العلم والفهم لكتاب الله وسنة رسوله الثابتة عنه ، وسيرة خلفائه الراشدين المهديين، وإلا فمن استهدى الله واستعانه ، وبحث عن ذلك ، وطلب الصحيح من المنقول ، وتدبر كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وسنة خلفائه رضي الله عنهم ، ولا سيما سيرة أمير المؤمنين الهادي المهدي التي جرى فيها ما اشتبه على خلق كثير فضلوا بسبب ذلك ، إما غلوا فيه ، وإما جفاء عنه ، كما روى عنه قال : ( يهلك في رجلان : محب غال يقرظني بما ليس في ، ومبغض قال يرميني بما نزهني الله منه )1 .
وحد ذلك وملاك ذلك شيئان : طلب الهدى ، ومجانبة الهوى ، حتى لا يكون الإنسان ضالا وغاويا ، بل مهتديا راشدا ، قال الله تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم : (( والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى )) . فوصفه بأنه ليس بضال – أي ليس بجاهل – ولا غاو – أي ولا ظالم – فإن صلاح العبد في أن يعلم الحق ويعمل به ، فمن لم يعلم الحق فهو ضال عنه . ومن علمه فخالفه واتبع هواه فهو غاو ، ومن علمه وعمل به كان من أولى الأيدي عملا ، ومن أولى الأبصار علما ، وهو الصراط المستقيم الذي أمرنا الله سبحانه في كل صلاة أن نقول : (( اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين )) .(22/19)
فالمغضوب عليهم : الذين يعرفون الحق ولا يتبعونه كاليهود ، والضالون : الذين يعملون أعمال القلوب و الجوارح بلا علم كالنصارى . ولهذا وصف الله اليهود بالغواية في قوله تعالى: (( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا )) .
1رواه احمد واسناده ضعيف وجاء عند ابن ابى عاصم ( يهلك في رجلان مفرط فى حبى ومفرط فى بغضى ) وحسنه الالبانى السنة لأبى عاصم 984 .
ووصف العالم الذي لم يعمل بعلمه في قوله تعالى : (( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه )) . ووصف النصارى بالضلال في قوله تعالى : (( ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل )) .
ووصف بذلك من يتبع هواه بغير علم حيث قال : (( وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين )) . وقال : (( ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله )) .
وأخبر من اتبع هداه المنزل فإنه لا يضل كما ضل الضالون ، ولا يشقى كما يشقى المغضوب عليهم فقال : (( فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى )) . قال ابن عباس : تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة .
ومن تمام الهداية : أن ينظر المستهدي في كتاب الله وفيما تواتر من سنة نبيه ، وسنة الخلفاء ، وما نقله الثقات الأثبات ، ويميز بين ذلك وبين ما نقله من لا يحفظ الحديث ، أو يتهم فيه بكذب لغرض من الأغراض ، فإن المحدث بالباطل إما أن يتعمد الكذب ، أو يكذب خطأ لسوء حفظه أو نسيانه ، أو لقلة فهمه وضبطه .(22/20)
ثم إذا حصلت للمستهدى المعرفة بذلك تدبر ذلك ، وجمع بين المتفق منه ، وتدبر المختلف منه ، حتى يتبين أنه متفق في الحقيقة وإن كان الظاهر مختلفا ، أو أن بعضه راجح يجب اتباعه ، والآخر مرجوح ليس بدليل في الحقيقة ، وإن كان في الظاهر دليلا .
أما غلط الناس فلعدم التمييز بين ما يعقل من النصوص والآثار ، أويعقل بمجرد القياس والاعتبار ، ثم إذا خالط الظن والغلط في العلم هوى النفوس ومناها في العمل صار لصاحبها نصيب من قوله تعالى: (( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى )) .
وهذا سبب ما خلق الإنسان عليه من الجهل في نوع العلم ، والظلم في نوع العمل فبجهله يتبع الظن ، وبظلمه يتبع ما تهوى الأنفس . ولما بعث الله رسله وأنزل كتبه ، لهدى الناس وإرشادهم ، صار أشدهم اتباعا للرسل أبعدهم عن ذلك ، كما قال تعالى : (( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم )) .
ولهذا صار ما وصف الله به الإنسان لا يخص غير المسلمين دونهم ، ولا يخص طائفة من الأمة ، لكن غير المسلمين أصابهم ذلك في أصول الإيمان التي صار جهلهم وظلمهم فيها كفراناً وخسرانا مبينا، ولذلك من ابتدع في أصول الدين بدعة جليلة أصابه من ذلك أشد مما يصيب من أخطأ في أمر دقيق أو أذنب فيه ، والنفوس لهجة بمعرفة محاسنها ، ومساويء غيرها .(22/21)
وأما العالم العادل فلا يقول إلا الحق ، ولا يتبع إلا إياه ، ولهذا من يتبع المنقول الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلفائه ، وأصحابه ، وأئمة أهل بيته ، مثل الإمام علي بن الحسين زين العابدين ، وابنه الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر ، وابنه الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق شيخ علماء الأمة ، ومثل أنس بن مالك ، والثوري وطبقتهما ، وجد ذلك جميعه متفقا مجتمعا في أصول دينهم ، وجماع شرائعهم ، ووجد في ذلك ما يشغله وما يغنيه عما أحدثه كثير من المتأخرين من أنواع المقالات التي تخالف ما كان عليه أولئك السلف وهؤلاء المتأخرين ، ممن ينتصب لعداوة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويبخسهم حقوقهم ، ويؤذيهم ، أو ممن يغلو فيهم غير الحق ، ويفتري عليهم الكذب ، ويبخس السابقين والطائعين حقوقهم ، ورأى أن في المأثور عن أولئك السلف في باب التوحيد والصفات ، وباب العدل والقدر ، وباب الإيمان والأسماء والأحكام ، وباب الوعيد والثواب ، والعذاب ، وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وما يتصل به من حكم الأمراء أبرارهم وفجارهم ، وحكم الرعية معهم ، والكلام في الصحابة والقرابة ما يبين لكل عاقل عادل أن السلف المذكورين لم يكن بينهم من النزاع في هذه الأبواب إلا من جنس النزاع الذي أقرهم عليه الكتاب والسنة كما تقدم ذكره ، وإن البدع الغليظة المخالفة للكتاب والسنة ، واتفاق أولي الأمر الهداة المهتدين إنما حدثت مع الأخلاف ، وقد يعزون بعض ذلك إلى بعض الأسلاف ، تارة بنقل غير ثابت ، وتارة بتأويل لشيء من كلامهم متشابه .(22/22)
ثم إن من رحمة الله أنه قل أن ينقل عنهم شيء من ذلك إلا وفي النقول الصحيحة الثابتة عنهم للقول المحكم الصريح ما يبين غلط الغالطين عليهم في النقل أو التأويل ، وهذا لأن الصراط المستقيم في كل الأمة بمنزلة الصراط في الملك ، فكمال الإسلام هو الوسط في الأديان والملك ، كما قال تعالى: (( وكذلك جعلناكم أمة وسطا )) لم ينحرفوا انحراف اليهود والنصارى والصابئين .
فكذلك أهل الاستقامة ، ولزوم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما عليه السلف ، تمسكوا بالوسط ، ولم ينحرفوا إلى الأطراف ، فاليهود مثلا جفوا في الأنبياء والصديقين حتى قتلوهم وكذبوهم ، كما قال الله تعالى : (( فريقا كذبتم وفريقا تقتلون )) ، والنصارى غلوا فيهم حتى عبدوهم كما قال تعالى : (( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق )) الآية .
واليهود انحرفوا في النسخ حتى زعموا أنه لا يقع من الله ولا يجوز عليه ، كما ذكر الله عنهم إنكاره في القرآن حيث قال : (( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها )) والنصارى قابلوهم فجوزوا للقسيسين والرهبان أن يوجبوا ما شاءوا ، ويحرموا ما شاءوا ، وكذلك تقابلهم في سائر الأمور .
فهدى الله المؤمنين إلى الوسط ، فاعتقدوا في الأنبياء ما يستحقونه ، ووقروهم ، وعزروهم ، وأحبوهم ، وأطاعوهم ، واتبعوهم ، ولم يردوهم كما فعلت اليهود ، ولا أطروهم ولا غلوا بهم فنزلوهم منزلة الربوبية كما فعلت النصارى ، وكذلك في النسخ ، جوزوا أن ينسخ الله ، ولم يجوزوا لغيره أن ينسخ ، فإن الله له الخلق والأمر ، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره .(22/23)
وهكذا أهل الاستقامة في الإسلام المعتصمون بالحكمة النبوية ، والعصبة الجماعية ، متوسطون في باب التوحيد والصفات بين النفاة المعطلة وبين المشبهة الممثلة ، وفي باب القدر والعدل والأفعال بين القدرية والجبرية والقدرية والمجوسية ، وفي باب الأسماء والأحكام بين من أخرج أهل المعاصي من الإيمان بالكلية كالخوارج أهل المنزلة ، وبين من جعل إيمان الفساق كإيمان الأنبياء والصديقين كالمرجئة والجهمية ، وفي باب الوعيد والثواب والعقاب بين الوعيديين الذين لا يقولون بشفاعة نبينا لأهل الكبائر ، وبين المرجئة الذين لا يقولون بنفوذ الوعيد . وفي باب الإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الذين يوافقون الولاة على الإثم والعدوان ، ويركنون إلى الذين ظلموا ، وبين الذين لا يرون أن يعاونوا أحدا على البر والتقوى، لا على جهاد ولا على جمعة ولا أعياد إلا أن يكون معصوما ، ولا يدخلوا فيما أمر الله به ورسوله إلا في طاعة من لا وجود له .
فالأولون يدخلون في المحرمات ، وهؤلاء يتركون واجبات الدين ، وشرائع الإسلام ، وغلاتهم يتركونها لأجل موافقة من يظنونه ظالماً ، وقد يكون كاملاً في علمه وعدله .
اهل الاستقامة ... عند المصيبة
وأهل الاستقامة والاعتدال يطيعون الله ورسوله بحسب الإمكان ، فيتقون الله ما استطاعوا ، ولا يتركون ما أمروا به لفعل غيرهم ما نهى عنه ، بل كما قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم )) . ولا يعاونون أحدا على المعصية ، ولا يزيلون المنكر بما هو أنكر منه ، ولا يأمرون بالمعروف إلا بالمعروف ، فهم وسط في عامة الأمور ، ولهذا وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم الطائفة الناجية لما ذكر اختلاف أمته وافتراقهم .(22/24)
ومن ذلك أن اليوم الذي هو يوم عاشوراء الذي أكرم الله فيه سبط نبيه ، وأحد سيدي شباب أهل الجنة بالشهادة على أيدي من قتله من الفجرة الأشقياء ، وكان ذلك مصيبة عظيمة من أعظم المصائب الواقعة في الإسلام . وقد روى الإمام أحمد وغيره عن فاطمة بنت الحسين وقد كانت شهدت مصرع أبيها ، عن أبيها الحسين بن علي رضي الله عنه ، عن جده رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من رجل يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدمت ، فيحدث لها استرجاعا إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها ) 1 .
1 أخرجه احمد وابن ماجه ، ضعيف جدا ضعيف ابن ماجه 1600 .
فقد علم الله أن مثل هذه المصيبة العظيمة سيتجدد ذكرها مع تقادم العهد ، فكان من محاسن الإسلام أن روى هذا الحديث صاحب المصيبة والمصاب به أولا ، ولا ريب أن ذلك إنما فعله الله كرامة للحسين رضي الله عنه ، ورفعا لدرجته ومنزلته عند الله ، وتبليغا له منزل الشهداء ، وإلحاقا له بأهل بيته الذين ابتلوا بأصناف البلاء ، ولم يكن الحسن والحسين حصل لهما من الابتلاء ما حصل لجدهما ولأمهما وعمهما ، لأنهما ولدا في عز الإسلام ، وتربيا في حجور المؤمنين ، فأتم الله نعمته عليهما بالشهادة ، أحدهما مسموما ، والآخر مقتولا ، لأن الله عنده من المنازل العالية في دار كرامته ما لا ينالها إلا أهل البلاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سل : أي الناس أشد بلاء ؟ فقال : ( الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ، وإن كان في دينه رقة خفف عنه ، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة ) 1 .(22/25)
وشقي بقتله من أعان عليه ، أو رضي به ، فالذي شرعه الله للمؤمنين عند الإصابة بالمصاب وإن عظمت أن يقولوا : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وقد روى الشافعي في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات وأصاب أهل بيته من المصيبة ما أصابهم ، سمعوا قائلا يقول : يا آل بيت رسول الله ، إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وخلفا من كل هالك ، ودركا من كل فائت ، فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب .. فكانوا يرونه الخضر جاء يعزيهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فأما اتخاذ المآتم في المصائب ، واتخاذ أوقاتها مآتم ، فليس من دين الإسلام ، وهو أمر لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد من السابقين الأولين ، ولا من التابعين لهم بإحسان ، ولا من عادة أهل البيت ، ولا غيرهم ، وقد شهد مقتل علي أهل بيته ، وشهد مقتل الحسين من شهده من أهل بيته ، وقد مرت على ذلك سنون كثيرة ، وهم متمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يحدثون مأتما ولا نياحة ، بل يصبرون ويسترجعون كما أمر الله ورسوله ، أو يفعلون ما لا بأس به من الحزن والبكاء عند قرب المصيبة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما كان من العين والقلب فمن الله ، وما كان من اليد واللسان
1 أخرجه الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن ماجة ، صحيح صحيح الترغيب 3/329 .
فمن الشيطان )1 ، وقال : ( ليس منا من لطم الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية )2، يعني مثل قول المصاب : يا سنداه يا ناصراه ، يا عضداه . وقال : ( إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة درعا من جرب ، وسربالا من قطران ) 3. وقال : ( لعن الله النائحة والمستمعة إليها )4 .(22/26)
وقد قال في تنزيله : (( يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم )) . وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم قوله : (( ولا يعصينك في معروف )) بأنها النياحة . وتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من الحالقة والصالقة . والحالقة : التي تحلق شعرها عند المصيبة ، والصالقة : التي ترفع صوتها عند المصيبة . وقال جرير بن عبد الله : كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام للناس من النياحة ، وإنما السنة : أن يصنع لأهل الميت طعام ، لأن مصيبتهم تشغلهم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما نعى جعفر بن أبي طالب لما استشهد بمؤتة فقال : ( اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد جاءهم ما يشغلهم ) 5.
وهكذا ما يفعل قوم آخرون يوم عاشوراء من الاكتحال والاختضاب أو المصافحة والاغتسال ، فهو بدعة أيضا لا أصل لها ، ولم يذكرها أحد من الأمة المشهورين ، وإنما روى فيها حديث : ( من اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض تلك السنة ، ومن اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد ذلك العام ) 6 ونحو ذلك ، ولكن الذي ثبت
1 اخرجه ابو نعيم ، وهو ضعيف جدا .
2 أخرجه الشيخان واحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة .
3 رواه مسلم .
4 اخرجه احمد وابو داود ، ضعيف ضعيف الجامع 4693 .
5 اخرجه الترمذى وابن ماجه ، حسن صحيح الجامع 1026 .
6 موضوع الضعيفة 2/89 .
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صام يوم عاشوراء ، وأمر بصيامه وقال صلى الله عليه وسلم : ( صومه يكفر سنة ) 1 ، وقرر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أنجى فيه موسى وقومه ، وأغرق فرعون وقومه ، وروى أنه كان فيه حوادث الأمم .. فمن كرامة الحسين أن الله جعل استشهاده فيه.(22/27)
وقد يجمع الله في الوقت شخصا أو نوعا من النعمة التي توجب شكرا ، أو المحنة التي توجب صبرا، كما أن سابع عشر شهر رمضان فيه كانت وقعة بدر ، وفيه كان مقتل علي .. وأبلغ من ذلك: أن يوم الاثنين في ربيع الأول مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه هجرته ، وفيه وفاته .
والعبد المؤمن يبتلى بالحسنات التي تسره ، والسيئات التي تسوءه في الوقت الواحد ، ليكون صبارا، شكورا ، فكيف إ‘ذا وقع مثل ذلك في وقتين متعددين من نوع واحد .
ويستحب صوم التاسع والعاشر ، ولا يستحب الكحل ، والذين يصنعونه من الكحل من أهل الدين لا يقصدون به مناصبة أهل البيت ، وإن كانوا مخطئين في فعلهم ، ومن قصد منهم أهل البيت بذلك أو غيره ، أو فرح ، أو استشفى بمصائبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي ) 2 ، لما شكا إ‘ليه العباس أن بعض قريش يجفون بني هاشم وقال : ( إن الله اصطفى قريشا من بني كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم ) 3 . وروى عنه أنه قال : ( أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة ، وأحبوني لحب الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبي ) 4 .
وهذا باب واسع يطول القول فيه .
1 أخرجه أحمد ومسلم والترمذي .
2 احمد والترمذى مع اختلاف فى الالفاظ , ضعيف ضعيف الترمذى 774 .
3 أخرجه مسلم والترمذي عن واثلة .
4 أخرجه الترمذي والحاكم ، ضعيف ضعيف الجامع 176.
بدع وضلالات(22/28)
وكان سبب هذه المواصلة أن بعض الإخوان قدم بورقة فيها ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر سادة أهل البيت ، وقد أجرى فيها ذكر النذور لمشهد المنتظر ، فخوطب من فضائل أهل البيت وحقوقهم ، بما سر قلبه ، وشرح صدره ، وكان ما ذكر بعض الواجب ، فإن الكلام في هذا طويل ، ولم يحتمل هذا الحامل أكثر من ذلك . وخوطب فيما يتعلق بالأنساب والنذور بما يجب في دين الله ، فسأل المكاتبة بذلك إلى من يذهب إليه من الإخوان ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الدين النصيحة ) ، قالوا لمن يا رسول الله ؟ قال : ( لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم) 1.
أما ورقة الأنساب والتواريخ ففيها غلط في مواضع متعددة ، مثل ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في صفر ، وأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن عمرو بن العلاء بن هاشم ، وأن جعفر الصادق توفي في خلافة الرشيد وغير ذلك .
فإنه لا خلاف بين أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في شهر ربيع الأول ، شهر مولده وشهر هجرته ، وأنه توفي يوم الاثنين وفيه ولد ، وفيه أنزل عليه . وجده هاشم بن عبد مناف ، وإنما كان هاشم يسمى عمرا ، ويقال له : عمرو العلا ، كما قال الشاعر :
عمر العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف
وأن جعفرا أبا عبد الله توفي في سنة ثمان وأربعين في إمارة أبي جعفر المنصور ، وأما المنتظر فقد ذكر طائفة من أهل العلم بأنساب أهل البيت : أن الحسن ابن علي العسكري لما توفي بعسكر سامراء لم يعقب ولم ينسل ، وقال من أثبته : إن أباه لما توفي في سنة ستين ومائتين كان عمره سنتين أو أكثر من ذلك بقليل ، وأنه غاب من ذلك الوقت وأنه من ذلك الوقت حجة الله على أهل الأرض ، لا يتم الإيمان إلا به ، وأنه هو المهدي الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه يعلم كل ما يفتقر إليه الدين .(22/29)
وهذا موضع ينبغي للمسلم أن يثبت فيه ، ويستهدي الله ويستعينه ، لأن الله قد حرم القول بغير
1 رواه الشيخان .
علم ، وذكر أن ذلك من خطوات الشيطان وحرم القول المخالف للحق ، ونصوص التنزيل شاهدة بذلك ، ونهى عن اتباع الهوى .
فأما المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم فقد رواه أهل العلم العالمون بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم ، الحافظون لها ، الباحثون عنها وعن رواتها ، مثل أبي داود ، والترمذي ، وغيرهما ، ورواه الإمام أحمد في مسنده .
فعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله رجلا من أهل بيتي ، يوطيء اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي ، يملأ الأرض قسطا وعدلا ، كما ملئت ظلما وجورا ) 1 .
وروى هذا المعنى من حديث أم سلمة وغيرها .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : ( المهدي من ولد ابني هذا ) . وأشار إلى الحسن.(22/30)
وقال صلى الله عليه وسلم : ( يكون في آخر الزمان خليفة يحثو المال حثوا ) 2 . وهو حديث صحيح . فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اسمه محمد بن عبد الله ، ليس محمد بن الحسن . ومن قال : إن أبا جده الحسين ، وإن كنيته الحسين أبو عبد الله فقد جعل الكنية اسمه ، فما يخفى على من يخشى الله أن هذا تحريف الكلم عن مواضعه ، وأنه من جنس تأويلا القرامطة ، وقول أمير المؤمنين صريح في أنه حسني لا حسيني ، لأن الحسن والحسين مشبهان من بعض الوجوه بإسماعيل وإسحاق ، وإن لم يكونا نبيين ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهما : ( أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة )3 . ويقول : ( إن إبراهيم كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق ) . وكان إسماعيل هو الأكبر والأحلم ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب على المنبر والحسن معه على المنبر : ( إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به فئتين عظيمتين من
1 أخرجه أبو داود واحمد والترمذى ، وانظر في أحاديث هذا الباب ، تحفة الأحوذي وله شواهد كثيرة وأنه من ولد فاطمة .صحيح الجامع 5180
2 رواه أحمد ومسلم .
3 رواه البخارى .
المسلمين ) 1 .
فكما أن غالب الأنبياء كانوا من ذرية إسحاق ، فهكذا كان غالب السادة الأئمة من ذرية الحسين ، وكما أن خاتم الأنبياء الذي طبق أمره مشارق الأرض ومغاربها كان من ذرية إسماعيل ، فكذلك الخليفة الراشد المهدي الذي هو آخر الخلفاء يكون من ذرية الحسن .
وأيضا فإن من كان ابن سنتين كان في حكم الكتاب والسنة مستحقا أن يحجر عليه في بدنه ، ويحجر عليه في ماله ، حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد ، فإنه يتيم ، وقد قال الله تعالى :
(( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم )) .
فمن لم تفوض الشريعة إليه أمر نفسه كيف تفوض إليه أمر الأمة ؟(22/31)
وكيف يجوز أن يكون إماما على الأمة من لا يرى ولا يسمع له خبر ؟ مع أن الله لا يكلف العباد بطاعة من لا يقدرون على الوصول إليه ، وله أربعمائة وأربعون سنة ينتظره من ينتظره وهو لم يخرج، إذ لا وجود له .
وكيف لم يظهر لخواصه وأصحابه المأمونين عليه كما ظهر آباؤه ، وما الموجب لهذا الاختفاء الشديد دون غيره من الآباء ؟
وما زال العقلاء قديما وحديثا يضحكون بمن يثبت هذا ، ويعلق دينه به ، حتى جعل الزنادقة هذا وأمثاله طريقا إلى القدح في الملة ، وتسفيه عقول أهل الدين إذا كانوا يعتقدون مثل هذا .
لهذا قد اطلع أهل المعرفة على خلق كثير منافقين زنادقة بإظهار هذا وأمثاله ، ليستميلوا قلوب وعقول الضعفاء ، وأهل الأهواء ، ودخل بسبب ذلك من الفساد ما الله به عليم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، والله يصلح أمر هذه الأمة ويهديهم ويرشدهم .
النذور للمشاهد والمساجد :
وكذلك ما يتعلق بالنذور للمساجد والمشاهد ، فإن الله في كتابه وسنة نبيه التي نقلها السابقون والتابعون من أهل بيته وغيرهم قد أمر بعمارة المساجد ، وإقامة الصلوات فيها بحسب الإمكان ، ونهى عن بناء المساجد على القبور ، ولعن من يفعل ذلك ، قال الله تعالى :
(( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )) .
1 أخرجه البخاري .
وقال تعالى :
(( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين )) .
وقال تعالى :
(( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة )) .
وقال : (( وإن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا )) .
وقال : (( ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا )) .(22/32)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة ) 1 .
وقال : ( وبشر المشائين في ظلم الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ) 2 .
وقال : ( من غدا إلى المسجد أو راح ، أعد الله له نزلا كلما غدا أو راح ) 3 .
وقال : ( صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين درجة )4 .
وقال : ( من تطهر في بيته فأحسن الطهور ، وخرج إلى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة ، كانت خطوتاه إحداهما ترفع درجة ، والأخرى تضع خطيئة )5 .
وقال : ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ، وماكان أكثر أحب إلى الله ) 6 .
وقال : ( سيكون عليكم أمراء يؤخرن الصلاة عن وقتها ، فصلوا الصلاة لوقتها ، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة )7 .
1 رواه مسلم .
2 اخرجه ابن ماجه ، صحيح صحيح الجامع 2820 .
3 أخرجه البخاري .
4 أخرجه البخاري .
5 أخرجه البخاري .
6 أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي ، صحيح صحيح ابو داود 1/111 .
7 أخرجه مسلم .
وقال : ( يصلون لكم ، فإن أحسنوا فلكم ، وإن أساءوا فلكم وعليهم ) .
وهذا باب واسع جدا .
وقال أيضا : ( لعن الله اليهود ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) 1. يحذر مما فعلوا . قالوا : ولولا ذلك لأبرز قبره ، ولكن كره أن يتخذ مسجدا . وهذا قاله في مرضه .
وقال قبل موته بخمس : ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ، ألا فلا تتخذون القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك ) 2 .
ولما ذكر كنيسة الحبشة قال : ( أولئك إذا مات الرجل فيهم بنوا على قبره مسجدا ، وصوروا فيه تلك التصاوير ، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ) 3 .
وكل هذه الأحاديث في الصحاح المشاهير .
وقال أيضا : ( لعن الله زوارات القبور ، والمتخذين عليها المساجد والسرج )4 . رواه الترمذي وغيره وقال : حديث حسن .(22/33)
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد لعن الذين يتخذون على القبور والمساجد ، ويسرجون عليها الضوء ، فكيف يستحل مسلم أن يجعل هذا طاعة وقربة ؟!!
وفي صحيح مسلم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ( بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني ألا أدع قبر مشرفا إلا سويته ، ولا تمثالا إلا طمسته ) .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ) 5 .
وقال : ( لا تتخذوا قبري عيدا ، وصلوا عليّ حيثما كنتم ، فإن صلاتكم تبلغني ) 6 .
فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاجتماع عند قبره .
وأمر بالصلاة عليه في جميع المواضع ، فإن الصلاة عليه تصل إليه من جميع المواضع .
وهذه الأحاديث رواها أهل بيته ، مثل : علي بن الحسين عن أبيه عن جده علي ، ومثل : عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب .
1 رواه الشيخان .
2 رواه الشيخان .
3 رواه الشيخان .
4 اخرجه الترمذى ، ضعيف الضعيفة 225 . والجملة الاولى ثابتة عن النبى عليه الصلاة والسلام .
5 رواه مالك واحمد ، صحيح تحذير الساجد 18 .
6 رواه ابو داود واحمد ، صحيح صحيح ابو داود 1/383 .
فكانوا هم وجيرانهم من علماء أهل المدينة ينهون عن البدع التي عند قبره أو غير قبر غيره ، امتثالا لأمره ، ومتابعة لشريعته .
فإن من مبدأ عبادة الأوثان : العكوف على الأنبياء و الصالحين ، والعكوف على تماثيلهم ، وإن كانت وقعت بغير ذلك .
وقد ذكر الله في كتابه عن المشركين أنهم قالوا :
(( لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا )) .
وقد روى طائفة من علماء السلف أن هؤلاء كانوا قوما صالحين ، فلما ماتوا بنوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم .(22/34)
وكذلك قال ابن عباس في قوله : (( أفرأيتم اللات والعزى . ومنات الثالثة الأخرى )) . قال ابن عباس : كان اللات رجلا يلت السويق للحجاج ، فلما مات عكفوا على قبره ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ) . ونهى أن يصلى عند قبره .
ولهذا لما بنى المسلمون حجرته حرفوا مؤخرها ، وسنموه لئلا يصلي إليه احد فإنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تجلسوا على القبور ، ولا تصلوا إليها ) رواه مسلم .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى أهل البقيع يسلم عليهم ، ويدعو لهم .
وعلم أصحابه أن يقولوا إذا زاروا القبور : ( سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين ، وإن شاء الله بكم لاحقون ، ويرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين ، نسأل الله لكم العافية ، اللهم آجرهم ، ولا تفتنا بعدهم ، واغفر لنا ولهم ) 1 .
هذا مع أن في البقيع إبراهيم وبناته أم كلثوم ورقية ، وسيدة نساء العالمين فاطمة ، وكانت إحداهن دفنت فيه قديما قريبا من غزوة بدر ، ومع ذلك فلم يحدث على أولئك السادة شيئا من هذه المنكرات ، بل المشروع التحية لهم ، والدعاء بالاستغفار وغيره .
وكذلك في حقه ، أمر بالصلاة والسلام عليه من القرب والبعد ، وقال : ( أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة ، فإن صلاتكم معروضة علي . قالوا : كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ يعني : بليت . قال : إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء )2 .
وقال : ( ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ) 3 .
1 أخرجه مسلم .
2 أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة في كتاب والدارمي صحيح صحيح ابو داود 1/196
3 ضعيف رواه ابن الجوزى فى العلل المتناهية و ضعفه .
وكل هذه الأحاديث ثابتة عن أهل المعرفة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم .(22/35)
فالدعاء والاستغفار يصل إلى الميت عند قبره وغير قبره ، وهو الذي ينبغي للمسلم أن يعامل به موتى المسلمين من الدعاء لهم بأنواع الدعاء ، كما كان في حياته يدعو لهم .
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا أن نصلي عليه ونسلم تسليما في حياته ومماته ، وعلى آل بيته .
وأمرنا أن ندعو للمؤمنين والمؤمنات في محياهم ومماتهم ، عند قبورهم وغير قبورهم .
ونهانا الله أن نجعل لله أندادا ، أو نشبه بيت المخلوق الذي هو قبره ببيت الله الذي هو الكعبة البيت الحرام ، فإن الله أمرنا أن نحج ونصلي إليه ، ونطوف به ، وشرع لنا أن نستلم أركانه ، ونقبل الحجر الأسود الذي جعله الله بمنزلة يمينه .
قال ابن عباس : ( الحجر الأسود يمين الله في الأرض ، فمن استلمه وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه )1 .
وشرع كسوة الكعبة ، وتعليق الستار عليها ، وكان يتعلق من يتعلق بأستار الكعبة كالمتعلق بأذيال المستجير به ، فلا يجوز أن تضاهى بيوت المخلوقين ببيت الخالق .
ولهذا كان السلف ينهون من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبله ، بل يسلم عليه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ، ويصلي عليه كما كان السلف يفعلون .
فإذا كان السلف أعرف بدين الله وسنة نبيه وحقوقه ، وحقوق السابقين والتابعين من أهل البيت وغيرهم ، ولم يفعلوا شيئا من هذه البدع التي تشبه الشرك وعبادة الأوثان ، لأن الله ورسوله نهاهم عن ذلك ، بل يعبدون الله وحده لا شريك له ، مخلصين له الدين كما أمر الله به ورسوله ، ويعمرون بيوت الله بقلوبهم وجوارحهم من الصلاة والقراءة ، والذكر والدعاء وغير ذلك .
فكيف يحل للمسلم أن يعدل عن كتاب الله ، وشريعة رسوله ، وسبيل السابقين من المؤمنين ، إلى ما أحدثه ناس آخرون ، إما عمدا وإما خطأ .(22/36)
فخوطب حامل هذا الكتاب بأن جميع هذه البدع التي على قبور الأنبياء والسادة من آل البيت والمشايخ المخالفة للكتاب والسنة ، ليس للمسلم أن يعين عليها ، هذا إذا كانت القبور صحيحة ، فكيف وأكثر هذه القبور مطعون فيها ؟ .
وإذا كانت هذه النذور للقبور معصية قد نهى الله عنها ورسوله والمؤمنون السابقون ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من نذر أن يعطي الله فليطعمه ، ومن نذر أن يعصى الله فلا
1 هذا الاثر منكر الضعيفة 1/350 .
يعصيه )1 .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( كفارة النذر كفارة اليمين ) 2 . وهذا الحديث في الصحاح .
فإذا كان النذر طاعة لله ورسوله ، مثل أن ينذر صلاة أو صوما أو حجا أو صدقة أو نحو ذلك ، فهذا عليه أن يعني به .
وإذا كان المنذر معصية كفرا أو غير كفر ، مثل : أن ينذر للأصنام كالنذور التي بالهند ، ومثلما كان المشركون ينذرون لآلهتهم ، مثل : اللات التي كانت بالطائف ، والعزى التي كانت بعرفة قريبا من مكة ، ومناة الثالثة الأخرى التي كانت لأهل المدينة .
وهذه المدائن الثلاث هي مدائن أرض الحجاز ، كانوا ينذرون لها النذور ، ويتعبدون لها ، ويتوسلون بها إلى الله في حوائجهم ، كما أخبر عنهم بقوله :
(( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى )) . ومثلما ينذر الجهال من المسلمين لعين ماء ، أو بئر من الآبار ، أو قناة ماء أو مغارة ، أو حجر ، أو شجرة من الأشجار ، أو قبر من القبور ، وإن كان قبر نبي أو رجل صالح ، أو ينذر زيتا أو شمعا أو كسوة أو ذهبا ، أو فضة لبعض هذه الأشياء ، فإن هذا كله نذر معصية لا يوفى به .
لكن من العلماء من يقول : على صاحبه كفارة يمين ، لما روى أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا نذر في معصية ، وكفارته كفارة يمين )3
وفي الصحيح عنه أنه قال : ( كفارة النذر كفارة يمين ) 4 .(22/37)
وإذا صرف من ذلك المنذور شيء في قربة من القربات المشروعة كان حسنا ، مثل : أن يصرف الدهن إلى تنوير بيوت الله ، ويصرف المال والكسوة إلى من يستحقه من المسلمين ومن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسائر المؤمنين ، وفي سائر المصالح التي أمر الله بها ورسوله .
1 أخرجه البخاري .
2 أخرجه مسلم .
3 رواه مسلم .
4 رواه مسلم .
وإذا اعتقد بعض الجهال أن بعض هذه النذور المحرمة قد قضت حاجته بجلب المنفعة من المال والعافية ونحو ذلك ، أو بدفع المضرة من العدو ونحوه ، فقد غلط في ذلك .
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال : ( إنه لا يأتي بخير ، ولكنه يستخرج به من البخيل ) 1 .
فعد النذر مكروها ، وإن كان الوفاء به واجبا إذا كان المنذور طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن النذر لا يأتي بخير ، وإنما يستخرج من البخيل ، وهذا المعنى قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه ، فيما كان قربة محضة لله ، فكيف بنذر شرك ؟ فإنه لا يجوز نذره ولا الوفاء به .
وهذا وإن كان قد عمر الإسلام ، وكثر العكوف على القبور التي هي للصالحين من أهل البيت وغيرهم ، فعلى الناس أن يطيعوا الله ورسوله ، ويتبعوا دين الله الذي بعث به نبيه ، صلى الله عليه وسلم ، ولا يشرعوا من الدين مالم يأذن به الله ، فإن الله إنما أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله ، وليعبدوا الله وحده لا شريك له .
كما قال تعالى :
(( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون )) .
وقال تعالى :
(( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب )) .
وقال تعالى :(22/38)
(( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة )) وقال تعالى في حق الذين كانوا يدعون الملائكة والنبيين :
(( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا . أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا )) .
وقال : (( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا من دون الله أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون )) .
1 أخرجه البخاري
ورد على من اتخذ شفعاء من دونه فقال :
(( أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون . وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون . قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون )) .
وقال : (( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون )) .
وقال تعالى :
(( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه )) .
وقال :
(( وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى )) .
وقال تعالى :
(( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى )) .
قال :
(( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له )) .
وكتب الله من أولها إلى آخرها تأمر بإخلاص الدين لله ، ولا سيما الكتاب الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أو الشريعة التي جاء بها ، فإنها كملت الدين .
قال تعالى :
(( اليوم أكملت لكم دينكم )) .
وقال :
(( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون )) .(22/39)
وقد جعل قوام الأمر بالإخلاص لله ، والعدل في الأمور كلها ، كما قال تعالى :
(( قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون . فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة )) .
ولقد خلص النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد من دقيق الشرك وجليله ، حتى قال : ( من حلف بغير الله فقد أشرك )1 رواه الترمذي وصححه .
وقال : ( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت )2 . وهذا مشهور في الصحاح .
وقال : ( ولا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن قولوا : ما شاء الله ، ثم شاء محمد )3 .
وقال له رجل : ما شاء الله وشئت ، فقال : ( أجعلتني لله ندا ؟ بل ما شاء الله وحده ) 4 .
وروي عنه أنه قال : ( الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل ) 5 .
وروي عنه أن الرياء شرك 6 .
وقال تعالى :
(( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا )) .
وعلّم بعض أصحابه أن يقول : ( اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم ) .
ومن هذا الباب الذين يسألون الصدقة أو يعطونها لغير الله ، مثل من يقول : لأجل فلان ، إما بعض الصحابة ، أو بعض أهل البيت ، حتى يتخذ السؤال بذلك ذريعة إلى أكل أموال الناس بالباطل، ويصير قوم ممن ينتسب إلى السنة يعطي الآخرين ، والشيطان قد استحوذ على الجميع ، فإن الصدقة وسائر العبادات لا يشرع أن تفعل إلا لله ، كما قال تعالى :
(( وسيجنبها الأتقى . الذي يؤتي ماله يتزكى . وما لأحد عنده من نعمة تجزى . إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى . ولسوف يرضى )) .
وقال تعالى :
(( وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون )) .
وقال : (( مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة(22/40)
1 أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي و أحمد ، صحيح صحيح الجامع 6080 .
2 أخرجه أحمد والترمذي ، صحيح صحيح الجامع 1919 .
3 أخرجه الدارمي وابن ماجة و أحمد ، صحيح الصحيحة 1/264 .
4 أخرجه الإمام أحمد ، حسن الصحيحة 1/266 .
5 أخرجه الإمام أحمد ، صحيح صحيح الجامع 3624 . .
6 أخرجه الترمذي وابن ماجة والإمام أحمد ، صحيح صحيح الترغيب 1/120.
أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل )) .
وقال :
(( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا )) .
وقال تعالى كلمة جامعة :
(( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة . وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة )) .
وعبادته تجمع الصلاة وما يدخل فيها من الدعاء والذكر ، وتجمع الصدقة والزكاة بجميع الأنواع، من الطعام واللباس والنقد وغير ذلك .
والله يجعلنا وسائر اخواننا المؤمنين مخلصين له الدين ، نعبده ولا نشرك به شيئا ، معتصمين بحبله ، متمسكين بكتابه ، متعلمين لما أنزل من الكتاب والحكمة ، ويصرف عنا شياطين الجن و الإنس ، ويعيذنا أن تفرق بنا عن سبيله ، ويهدينا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما كثيرا .
الفهرس
مقدمة الشيخ ابو تراب ............................................….. 3
اول كتاب حقوق ال البيت .............................................. 6
وحدة المسلمين بالكتاب والسنة .......................................... 7
اهل البيت و خصائصهم ................................................. 9(22/41)
صفات اهل الفيء ....................................................... 12
سب الصحابة حرام على اهل البيت وغيرهم ............................ 12
جهل الشيعة بمذهب الامام على .......................................... 14
عوامل الضلال .......................................................... 16
اهل الاستقامة عند المصيبة ............................................... 19
بدع وضلالات ......................................................... 23(22/42)
حقوق آل البيت
بين السنة والبدعة
لشيخ الإسلام
ابن تيميه
رحمه الله
هذه رسالة نادرة لشيخ الاسلام ابن تيمية –رحمه الله - قام بنشرها الشيخ ابو تراب الظاهرى – رحمه الله – وكذلك الاستاذ عبد القادر عطا – رحمه الله – وقد جمعنا تخريجهم للاحاديث الواردة فى الرسالة مع الاختصار واضفنا حكم العلامة الالبانى – رحمه الله – عليها .
وكانت مجلة التصوف الاسلامى قد نشرت الرسالة بتعليق الشيخ ابى تراب لكنها حذفت منها القسم الاخير المتعلق بالمشاهد والقبور !!!
ولقد ابقينا على العناوين الفرعية التى وضعها الاستاذ عبد القادر ، والمقدمة التى كتبها الشيخ ابى تراب .
والعنوان الذى نشرته مجلة التصوف هو (فضل اهل البيت وحقوقهم ) ولا ندرى هل هو من وضعهم ام من صنيع ابى تراب ؟
ولقد نشرها ايضا الشيخ العلامة بكر ابو زيد فى كتابه جامع الرسائل المنثورة 3/69-115 .
مقدمة الشيخ ابو تراب الظاهرى
قال ابو تراب :
هذه رسالة نادرة لشيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله وجدتها في كناشتى ، وهي على صغر حجمها جليلة القدر ، لملمت بين ثناياها أطراف موضوعها من جميع الجوانب ، كعادة ابن تيميه إذا تكلم في مسألة فهو بحر مواج يبعد عليك الوصول إلى ساحله .(23/1)
ومحتوى الرسالة كما أنبنا عنه عنوانها – بيان مذهب السلف في شعبة من شعب الإيمان – التي تتعلق بأعمال القلب وهي حب أهل بيت النبوة كما دل عليه القرآن والحديث ، وقد أوضح ذلك في هذه الرسالة أتم إيضاح ، وكلامه عن ذلك في الفتاوى الكبرى ( ج3 ص154 ) وهو في العقيدة الواسطية ما نصه : ( ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث قال يوم غدير خم : ( أذكركم الله في أهل بيتي ) ، وقال للعباس عمه – وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم- ( والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله أصطفى بني إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل كنانة ، واصطفى من كنانة قريشاً ، واصطفى من قريش بني هاشم ) .
وقال في الفتاوى ( ج3 ص407 ) وهو في الوصية الكبرى ( ص297 ) ما نصه : ( آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم من الحقوق ما يجب رعايتها ، فإن الله جعل لهم حقاً في الخمس والفيء ، وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لنا : ( قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ) ، وآل محمد هم الذين حرمت عليهم الصدقة هكذا قال الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما من العلماء رحمهم الله ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ) وقد قال الله في كتابه : (( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ))(23/2)
وحرم الله عليهم الصدقة لأنها أوساخ الناس . وفي المسانيد والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس – لما شكا إليه جفوة قوم لهم – ( والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي ) وفي الصحيح أنه قال : ( إن الله اصطفى .. الحديث المذكور ) .
وأورد شيخ الإسلام ابن تيميه في درجات اليقين ( ص149) قوله صلى الله عليه وسلم : ( أحبوا الله لما يغذوكم من نعمة وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي ) .
وقال ابن تيميه في اقتضاء الصراط ( ص 73 ) الحجة قائمة بالحديث . وقال في ( ص89 ) وانظر إلى عمر بن الخطاب حين وضع الديوان فبدأ بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونقل العلامة السيد حامد المحضار في الجزء الذي جمع فيه أقوال الشيخين ابن تيميه وابن القيم (ص23) قول شيخ الإسلام في رسالة ( رأس الحسين ) عقب حديث : ( والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي ) فإذا كانوا أفضل الخلق فلا ريب أن أعمالهم أفضل الأعمال.(23/3)
هذا والأحاديث في فضائل أهل البيت النبوي مستفيضة في المسانيد والمعاجم والسنن والمصنفات ، وفيها الضعيف والموضوع مع الصحيح ، وقد ميز بينها نقاد المحدثين ، ومعظمها في جامع المسانيد لابن كثير والجامع الكبير للسيوطي وكنز العمال للمتقى ، ونقد بعضها ابن كثير في تفسيره ( ج3 ص 483 ) ، وللمحب الطبري في ذلك تأليف مفرد سماه : ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى ، وانظر شرف بيت النبوة في جلاء الأفهام لابن القيم ( ص 177 ) ولغلاة الشيعة فيها تأليف مفردة فيها من المنكر شيء كثير ، وحسبنا ما صحت به الرواية ، وجاء به الحديث الثابت ، قال ابن كثير (ج4 ص 113 ) : ( ولا ننكر الوصاة بأهل البيت ، والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً وحسباً ونسباً ، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه ، وعليّ وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين ) .
وفي صحيح البخاري قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته .
وقال لعليّ رضي الله عنهما : والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ أن أصل من قرابتي ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للعباس : والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم ، لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب .
وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه خطب فقال : ( إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي ) ، ورواه الإمام أحمد والنسائي والترمذي ، وفي رواية ( كتاب الله وعترتي وإنهما لم يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما ) .(23/4)
وروى ذلك أيضاً أبو ذر وأبو سعيد وجابر وحذيفة بن أسيد رضي الله عنهم وأورده ابن تيميه في الفرقان ( ص 163 ) وفي لفظ مسلم : ( أذكركم الله في أهل بيتي ) .
قال الطيبي كما في تحفة الأحوذي ( ج4 ص 343 ) : لعل السر في هذه التوصية واقتران العترة بالقرآن أن إيجاب محبتهم لائح من معنى قوله تعالى : (( قل لا أسلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)) فإنه تعالى جعل شكر إنعامه وإحسانه بالقرآن منوطاً بمحبتهم على سبيل الحصر فكأنه صلى الله عليه وسلم يوصي الأمة بقيام الشكر ، وقيد تلك النعمة به ، ويحذرهم عن الكفران ، فمن أقام بالوصية ، وشكر تلك الصنيعة بحسن الخلافة فيهما لن يفترقا ، فلا يفارقانه في مواطن القيامة ومشاهدها حتى يردوا الحوض ، فشكر صنيعه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ هو بنفسه يكافئه ، والله تعالى يجزيه الجزاء الأوفى ، فمن أضاع الوصية وكفر النعمة فحكمه على العكس ، وعلى هذا التأويل حسن موقع قوله : ( فانظروا كيف تخلفوني فيهما ) ، أي : تأملوا وتفكروا واستعملوا الروية في استخلافي إياكم هل تكونون خلف صدق أو خلف سوء .
هذا وفي الرسالة فوائد يحرص أهل العلم على اقتناصها كمسألة إعطاء آل البيت من الزكوات .
وكمسألة تخصيص أصحاب الكساء من عموم أهل البيت الذين نزلت فيهم الآية المذكورة في الأحزاب : (( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً )) وهم ذوو قرباه وأزواجه اللاتي سيقت الآيات فيهن وفي مخاطبتهن وتنظير ذلك بالمسجد الذي أسس على التقوى ، وهو مسجد قباء وعلى الأخص مسجد النبي صلى الله عليه وسلم .
وكمسألة سيادة الحسن دون الحسين رضي الله عنهما وتنظير ذلك بإسحاق وإسماعيل عليهما السلام إلى غير ذلك مما تجده فيها .
بسم الله الرحمن الرحيم(23/5)
قال الشيخ الإمام العالم العامل فريد عصره ، مفتي الفرق ، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العالم شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة مجد الدين عبد السلام بن تيميه رضي الله عنه وأرضاه ، وأعلى درجته :
هذا الكتاب إلى من يصل إليه من الإخوان المؤمنين الذين يتولون الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون . الذين يحبون الله ورسوله ، ومن أحبه الله ورسوله ، ويعرفون من حق المتصلين برسول الله ما شرعه الله ورسوله ، فإن من محبة الله وطاعته محبة رسوله وطاعته ، ومن محبة رسوله وطاعته محبة من أحبه الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعة من أمر الرسول بطاعته ، كما قال تعالى : (( يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً )) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى أميري فقد عصاني ) 1 ، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( إنما الطاعة في المعروف ) 2 ، وقال : ( لا
1 رواه الإمام أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة .(23/6)
2 هذه قطعة حديث أخرجه البخاري ومسلم ، ونصه عند البخاري : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا ، فأغضبوه إلى شيء ، فقال : اجمعوا لي حطباً فجمعوا له ثم قال : أوقدوا ناراً فأوقدوا ثم قال : ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا ؟ قالوا : بلى ، قال : فادخلوها ، فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا : إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار ، فكانوا كذلك ، وسكن غضبه وطفئت النار فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف .
طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) 1 .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، وهو للحمد أهل وهو على كل شيء قدير ، ونصلي على إمام المتقين ، وخاتم النبيين عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً . أما بعد :
وحدة المسلمين بالكتاب والسنة
فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً بالكتاب والحكمة ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ، وقال الله تعالى : (( لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )) . وقال تعالى : (( واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به )) . وقال لأزواج نبيه صلى الله عليه وسلم : (( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة )) .
والذي كان يتلوه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه : كتاب الله والحكمة . فكتاب الله هو القرآن ، والحكمة هي ما كان يذكره من كلامه ، وهي سنته صلى الله عليه وسلم . فعلى المسلمين أن يتعلموا هذا وهذا .(23/7)
وفي الحديث المشهور الذي رواه الترمذي وغيره عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ستكون فتنة . قلت : فما المخرج يا رسول الله ؟ قال : كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسن ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم ) .2
1 رواه أحمد والحاكم والطيالسي عن عمران بن حصين والحكم والغفاري وعبد الله بن الصامت وله مخارج آخر ، وصححه الالبانى فى الصحيحة برقم 179
2 اخرجه الترمذى و الدارمى و احمد ، وضعفه الالبانى فى ضعيف سنن الترمذى حديث رقم 554
وقال الله تعالى في كتابه : (( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا )) ، وقال في كتابه : (( إن الذين تفرقوا وكانوا شيعا لست منهم في شيء )) . فذم الذين تفرقوا فصاروا أحزاباً وشيعاً ، وحمد الذين اتفقوا وصاروا معتصمين بحبل الله الذي هو كتابه شيعة واحدة للأنبياء كما قال تعالى : (( وإن من شيعته لإبراهيم )) ، وإبراهيم أبو الأنبياء ، كما قال : (( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين )) . وقال تعالى : (( إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفا ولم يكن من المشركين )) ، إلى أن قال : (( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركيين )) .(23/8)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أمته أن يقولوا إذا أصبحوا : ( أصبحنا على فطرة الإسلام ، وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وملة أبينا إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ) 1 . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، فلا ألفين رجلاً شبعان على أريكته يقول : بيننا وبينكم هذا القرآن ، فما وجدنا فيه من حلال حللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ، ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ) 2 .
فهذا الحديث موافق لكتاب الله ، فإن الله ذكر في كتابه أنه صلى الله عليه وسلم يتلو الكتاب والحكمة ، وهي التي أوتيها مع الكتاب ، وقد أمر في كتابه بالاعتصام بحبله جميعاً ، ونهى عن التفرق والاختلاف ، و (أمر) أن نكون شيعة واحدة ، لا شيعاً متفرقين ، وقال الله تعالى في كتابه : (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون )) فجعل المؤمنين إخوة ، وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل مع وجود الاقتتال والبغي .
1 أخرجه أحمد والطبراني والنسائي عن عبد الرحمن بن ابزى ، وصححه الالبانى فى الجامع 4550
2 رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حيان والحاكم عن أبي رافع، وأخرجه أحمد وأبو داود عن المقدام بن معد يكرب أيضاً ، صحيح المشكاة 162
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) 1 ، وقال : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ) 2 ، وشبك بين أصابعه .(23/9)
فهذه أصول الإسلام التي هي الكتاب والحكمة ، والاعتصام بحبل الله جميعاً ( واجب ) على أهل الإيمان للاستمساك بها .
اهل البيت وخصائصهم
من هم اهل البيت ؟
ولا ريب أن الله قد أوجب فيها من حرمة خلفائه وأهل بيته والسابقين الأولين ، والتابعين لهم بإحسان ما أوجب . قال الله تعالى : (( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً )) .
وقد روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أم سلمة : أن هذه الآية لما نزلت أدار النبي صلى الله عليه وسلم كساءه على عليّ وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم فقال : ( اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ) 3. وسنته تفسر كتاب الله وتبينه ، وتدل عليه ، وتعبر عنه . فلما قال : ( هؤلاء أهل بيتي ) مع أن سياق القرآن يدل على أن الخطاب مع أزواجه ، علمنا أن أزواجه وإن كن من أهل بيته كما دل عليه القرآن ، فهؤلاء أحق بأن يكونوا أهل بيته ، لأن صلة النسب أقوى من صلة الصهر ، والعرب تطلق هذا البيان للاختصاص بأصل الحكم ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، وإنما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يتفطن له يتصدق عليه ، ولا يسأل الناس إلحافاً ) .
بين بذلك : أن هذا مختص بكمال المسكنة ، بخلاف الطواف فإنه لا تكمل فيه المسكنة ، لوجود من يعطيه أحياناً ، مع أنه مسكين أيضاً . ويقال : هذا هو العالم ، وهذا هو العدو ، وهذا هو المسلم، لمن كمل فيه ذلك وإن شاركه غيره في ذلك وكان دونه .
1 رواه الشيخان و الإمام أحمد .
2 أخرجه البخاري ومسلم ، عن أبي موسى .
3 اخرجه الترمذى واحمد ، صحيح الترمذى 3435(23/10)
ونظير هذا في الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال : ( مسجدي هذا ) يعني مسجد المدينة . مع أن سياق القرآن في قوله عن مسجد الضرار : (( لا تقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين )) . يقتضى أنه مسجد قباء . فإنه قد تواتر أنه قال لأهل قباء: ( ماهذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به ؟ فقالوا : لأننا نستنجي بالماء ) .1 لكن مسجده أحق بأن يكون مؤسساً على التقوى من مسجد قباء ، وإن كان كل منهما مؤسساً على التقوى ، وهو أحق أن يقوم فيه من مسجد الضرار ، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم : أنه كان يأتي قباء كل سبت راكباً وماشياً ، فكان يقوم في مسجده القيام الجامع يوم الجمعة ، ثم يقوم بقباء يوم السبت 2، وفي كل منهما قد قام في المسجد المؤسس على التقوى .
ولما بين سبحانه أنه يريد أن يذهب الرجس عن أهل بيته ويطهرهم تطهيرا ، دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأقرب أهل بيته وأعظمهم اختصاصاً به ، وهم : علي ، وفاطمة ، رضي الله عنهما ، وسيدا شباب أهل الجنة ، جمع الله لهم بين أن قضى لهم بالتطهير ، وبين أن قضى لهم بكمال دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان في ذلك ما دلنا على أن إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم نعمة من الله ليسبغها عليهم ، ورحمة من الله وفضل لم يبلغوهما بمجرد حولهم وقوتهم ، إذ لو كان كذلك لاستغنوا بهما عن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ، كما يظن من يظن أنه استغنى في هدايته وطاعته عن إعانة الله تعالى له ، وهدايته إياه .(23/11)
وقد ثبت أيضاً بالنقل الصحيح : أن هذه الآيات لما نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أزواجه ، وخيرهن كما أمره الله ، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، ولذلك أقرهن ، ولم يطلقهن، حتى مات عنهن 3 ، ولو أردن الحياة الدنيا وزينتها لكان يمتعهن ويسرحهن كما أمره الله سبحانه وتعالى، فإنه صلى الله عليه وسلم أخشى الأمة لربه وأعلمهم بحدوده .
ولأجل ما دلت عليه هذه الآيات من مضاعفة للأجور والوزر بلغنا عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين وقرة عين الإسلام أنه قال : ( إني لأرجو أن يعطي الله للمحسن منا أجرين ، وأخاف أن يجعل على المسيء منا وزرين ) .
1 اخرجه احمد وابن ماجه . صحيح ابن ماجه 1/62
2 رواه الشيخان
3 رواه الشيخان
وثبت في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أنه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يدعى ( خم ) بين مكة والمدينة فقال : ( وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ) . قيل لزيد بن أرقم : ومن أهل بيته ؟ قال : الذين حرموا الصدقة : آل علي ، وآل جعفر ، وآل عقيل ، وآل عباس . قيل لزيد : أكل هؤلاء أهل بيته ؟ قال : نعم ) 1 .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه صحاح أن الله لماأنزل عليه : (( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )) . سأل الصحابة : كيف يصلون عليه ؟ فقال : ( قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد )2 . وفي حديث صحيح : ( اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته ) .
مالهم وما عليهم :(23/12)
وثبت عنه أن ابنه الحسن لما تناول تمرة من تمر الصدقة قال له : ( كخ ، كخ ، أما علمت أنا آل البيت لا تحل لنا الصدقة ) 3 ، وقال : ( إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ) 4 وهذا والله أعلم من التطهير الذي شرعه الله لهم ، فإن الصدقة أوساخ الناس ، فطهرهم الله من الأوساخ ، وعوضهم بما يقيتهم من خمس الغنائم ، ومن الفيء الذي جعل منه رزق محمد حيث قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وغيره : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة ، حتى يعبد اللله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم ) 5 .
ولهذا ينبغي أن يكون اهتمامهم بكفاية أهل البيت الذين حرمت عليهم الصدقة أكثر من اهتمامهم بكفاية الآخرين من الصدقة ، لا سيما إذا تعذر أخذهم من الخمس والفيء ، إما لقلة ذلك ، وإما
1 رواه مسلم و أحمد والنسائي والترمذي .
2 رواه الشيخان .
3 رواه البخارى .
4 اخرجه الدارمى والنسائى ومالك ، صحيح صحيح الجامع 1660.
5 رواه البخارى تعليقا واحمد ، صحيح الجامع 2828 .
لظلم من يستولي على حقوقهم ، فيمنعهم إياها من ولاة الظلم ، فيعطون من الصدقة المفروضة ما يكفيهم إذا لم تحصل كفايتهم من الخمس والفيء 1 .
صفات اهل الفيء :
وعلى الآخذين من الفيء من ذوي القربى وغيرهم أن يتصفوا بما وصف الله به أهل الفيء في كتابه حيث قال : (( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل )) الآيات .
فجعل أهل الفيء ثلاثة أصناف : المهاجرين ، والأنصار ، والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين بقونا بإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربينا إنك رؤوف رحيم .(23/13)
وذلك أن الفيء إنما حصل بجهاد المهاجرين والأنصار وإيمانهم وهجرتهم ونصرتهم ، فالمتأخرون إنما يتناولونه مخلفا عن أولئك ، مشبها بتناول الوارث ميراث أبيه ، فإن لم يكن مواليا له لم يستحق الميراث ، ( فلا يرث المسلم الكافر )2 ، فمن لم يستغفر لأولئك بل كان مبغضا لهم خرج عن الوصف الذي وصف الله به أهل الفيء ، حتى يكون قلبه مسلما لهم ، ولسانه داعيا لهم ، ولو فرض أنه صدر من واحد منهم ذنب محقق فإن الله يغفره له بحسناته العظيمة ، أو بتوبة تصدر منه ، أو يبتليه ببلاء يكفر به سيئاته ، أو يقبل في شفاعة نبيه وإخوانه المؤمنين ، أو يدعو الله بدعاء يستجيب له .
سب الصحابة ... حرام على ال البيت وغيرهم :
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن حاطب بن أبي بلتعة كاتب كفار مكة لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزوهم غزوة الفتح ، فبعث إليهم إمرأة معها كتاب يخبرهم فيه بذلك ، فجاء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فبعث عليا والزبير فأحضروا الكتاب ، فقال : ( ما هذا يا حاطب ؟ ) فقال : والله يا رسول الله ما فعلت ذلك أذى ولا كفرا ، ولكن كنت امرأ ملصقا من قريش ، ولم أكن
1 قال أبو تراب : وقال بذلك أبو سعيد الأصطخري قال الرافعي : وكان محمد بن يحيى صاحب الغزالي يفتي بهذا . انظر شرح المهذب للنووي ج6 ص 227 .
2قال عبد القادر عطا :لانقطاع الموالاة بينهما لحديث اسامة بن زيد الذى اخرجه احمد والبخارى ومسلم والاربعة .(23/14)
من أنفسهم ، وكان من معك من أصحابك لهم قرابات يحمون بها أهليهم ، فأردت أن أتخذ عندهم يدا أحمي بها قرابتي ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق . فقال صلى الله عليه وسلم : ( إنه شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله قد اطلع عل أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) . وأنزل الله تعالى في ذلك : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة )) الآيات .
وثبت في صحيح مسلم أن غلام حاطب هذا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله والله ليدخلن حاطب النار ، وكان حاطب يسىء إلى مماليكه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كذبت ، إنه قد شهد بدرا والحديبية ) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخل النار واحد بايع تحت الشجرة ) 1 .
فهذا حاطب قد تجسس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فتح مكة التي كان صلى الله عليه وسلم يكتمها عن عدوه ، وكتمها عن أصحابه ، وهذا من الذنوب الشديدة جدا ، وكان يسيء إلى مماليكه ، وفي الحديث المرفوع ، ( لن يدخل الجنة سيء الملكة ) 2 . ثم مع هذا لما شهد بدرا والحديبية غفر الله له ورضي عنه ، فإن الحسنات يذهبن السيئات . فكيف بالذين هم أفضل من حاطب وأعظم إيماناً وعلما وهجرة وجهادا ، فلم يذنب أحد قريبا من ذنوبه ؟! .(23/15)
ثم إن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه روى هذا الحديث في خلافته ، ورواه عنه كاتبه عبيد الله بن أبي رافع ، وأخبر فيه أنه هو والزبير ذهبا لطلب الكتاب من المرأة الظعينة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لأهل بدر بما شهد ، مع علم أمير المؤمنين بما جرى ، ليكف القلوب والألسنة عن أن تتكلم فيهم إلا بالحسنى ، فلم يأت أحد منهم بأشد مما جاء به حاطب ، بل كانوا في غالب ما يأتون به مجتهدين ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر )3 .. وهذا حديث صحيح مشهور .
1 رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن جابر ومسلم عن أم بشر .
2 أخرجه الترمذي وابن ماجه واحمد ، ضعيف ضعيف ابن ماجه 3691 .
3 رواه الشيخان .
وثبت عنه أيضا أنه لما كان في غزوة الأحزاب فرد الله الأحزاب بغيظهم لم ينالوا خيرا ، وأمر نبيه بقصد بني قريظة قال لاصحابه( لايصلين احد منكم العصر إلافى بنى قريظة )1 ، فأدركتهم الصلاة في الطريق ، فمنهم قوم قالوا : لا نصليها إلا في بني قريظة ، ومنهم قوم قالوا : لم يرد منا تفويت الصلاة، إنما أراد المسارعة ، فصلوا في الطريق . فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين .
وكانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه موافقة لما ذكره الله سبحانه وتعالى حيث قال : (( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما )) فأخبر سبحانه وتعالى أنه خص أحد النبيين بفهم الحكم في تلك القضية ، وأثنى على كل منهما بما اتاه من العلم والحكم .
فهكذا السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ورضوا عنه ، كانوا فيما تنازعوا فيه مجتهدين طالبين للحق .
جهل الشيعة بمذهب الامام علي(23/16)
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة )2 . وروى عنه مولاه سفينة أنه قال : ( الخلافة ثلاثون سنة ، ثم تصير ملكا ) 3 . فكان آخر الثلاثين حين سلم سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحسن بن علي رضي الله عنهما الأمر إلى معاوية . وكان معاوية أول الملوك ، وفيه ملك ورحمة ، كما روى في الحديث : ( ستكون خلافة نبوة ، ثم يكون ملك ورحمة ، ثم يكون ملك وجبرية ، ثم يكون ملك عضوض ) 4.
وقد ثبت عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه من وجوه أنه لما قاتل أهل الجمل لم يسب لهم ذرة، ولم يغنم لهم مالا ، ولا أجهز على جريح ، ولا اتبع مدبرا ، ولا قتل أسيرا ، وأنه صلى على قتلى الطائفتين بالجمل وصفين ، وقال : ( إخواننا بغوا علينا )5 . وأخبر أنهم ليسوا بكفار ولا منافقين ، واتبع فيما قاله كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فإن الله سماهم
1رواه البخارى .
2رواه ابو داود و الترمذى وابن ماجه ، صحيح صحيح الترغيب 1/123 .
3رواه احمد ، صحيح صحيح الجامع 3336 .
4 اخرجه ابو داود والترمذى واحمد ، صحيح الصحيحة 5 .
5 رواه ابن ابى شيبة .
إخوة وجعلهم مؤمنين في الاقتتال و البغي كما ذكر في قوله : (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا )).
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح أنه قال : ( تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين ، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ) 1 .
وهذه المارقة هم أهل حروراء ، الذين قتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابه لما مرقوا من الإسلام ، وخرجوا عليه ، فكفروه ، وكفروا سائر المسلمين ، واستحلوا دمائهم وأموالهم .(23/17)
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق متواترة أنه وصفهم وأمر بقتالهم ، فقال : يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وقرآنه مع قرآنهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، لو يعلم الذين يقتلونهم ما لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل )2 . فقتلهم علي رضي الله عنه وأصحابه ، وسر أمير المؤمنين بقتلهم سرورا شديدا وسجد لله شكرا ، لما ظهر فيهم علامتهم وهو المخدج اليد ، الذي على يده مثل البضعة من اللحم ، عليها شعرات فاتفق جميع الصحابة على استحلال قتالهم ، وندم كثير منهم كابن عمر وغيره على ألا يكونوا شهدوا قتالهم مع أمير المؤمنين ، بخلاف ما جرى في وقعة الجمل وصفين ، فإن أمير المؤمنين كان متوجعا لذلك القتال ، متشكياً مما جرى ، يتراجع هو وابنه الحسن القول فيه ، ويذكر له الحسن أن رأيه ألا يفعله .
فلا يستوي ما سر قلب أمير المؤمنين وأصحابه وغبطه به من لم يشهده ، مع ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه وساءه وساء قلب أفضل أهل بيته ، حب النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي قال فيه : ( اللهم إني أحبه فأحبه ، وأحب من يحبه )3 . وإن كان أمير المؤمنين هو أولى بالحق ممن قاتله في جميع حروبه .
ولا يستوي القتلى الذين صلى عليهم و سماهم إخواننا ، والقتلى الذين لم يصل عليهم ، بل قيل له: من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ؟ فقال : هم أهل حروراء.
1 أخرجه مسلم وأبو داود عن أبي سعيد .
2 رواه الشيخان .
3 رواه البخارى .(23/18)
فهذا الفرق بين أهل حروراء وبين غيرهم الذي سماه أمير المؤمنين في خلافته بقوله وفعله موافقا فيه لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هو الصواب الذي لا معدل عنه لمن هدى رشده ، وإن كان كثير من علماء السلف والخلف لا يهتدون لهذا الفرقان ، بل يجعلون السير في الجميع واحدة . فإما أن يقصروا بالخوارج عما يستحقونه من البغض واللعن والقتل واما يزيدوا على غيرهم ما يستحقون من ذلك
عوامل الضلال
وسبب ذلك قلة العلم والفهم لكتاب الله وسنة رسوله الثابتة عنه ، وسيرة خلفائه الراشدين المهديين، وإلا فمن استهدى الله واستعانه ، وبحث عن ذلك ، وطلب الصحيح من المنقول ، وتدبر كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وسنة خلفائه رضي الله عنهم ، ولا سيما سيرة أمير المؤمنين الهادي المهدي التي جرى فيها ما اشتبه على خلق كثير فضلوا بسبب ذلك ، إما غلوا فيه ، وإما جفاء عنه ، كما روى عنه قال : ( يهلك في رجلان : محب غال يقرظني بما ليس في ، ومبغض قال يرميني بما نزهني الله منه )1 .
وحد ذلك وملاك ذلك شيئان : طلب الهدى ، ومجانبة الهوى ، حتى لا يكون الإنسان ضالا وغاويا ، بل مهتديا راشدا ، قال الله تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم : (( والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى )) . فوصفه بأنه ليس بضال – أي ليس بجاهل – ولا غاو – أي ولا ظالم – فإن صلاح العبد في أن يعلم الحق ويعمل به ، فمن لم يعلم الحق فهو ضال عنه . ومن علمه فخالفه واتبع هواه فهو غاو ، ومن علمه وعمل به كان من أولى الأيدي عملا ، ومن أولى الأبصار علما ، وهو الصراط المستقيم الذي أمرنا الله سبحانه في كل صلاة أن نقول : (( اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين )) .(23/19)
فالمغضوب عليهم : الذين يعرفون الحق ولا يتبعونه كاليهود ، والضالون : الذين يعملون أعمال القلوب و الجوارح بلا علم كالنصارى . ولهذا وصف الله اليهود بالغواية في قوله تعالى: (( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا )) .
1رواه احمد واسناده ضعيف وجاء عند ابن ابى عاصم ( يهلك في رجلان مفرط فى حبى ومفرط فى بغضى ) وحسنه الالبانى السنة لأبى عاصم 984 .
ووصف العالم الذي لم يعمل بعلمه في قوله تعالى : (( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه )) . ووصف النصارى بالضلال في قوله تعالى : (( ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل )) .
ووصف بذلك من يتبع هواه بغير علم حيث قال : (( وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين )) . وقال : (( ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله )) .
وأخبر من اتبع هداه المنزل فإنه لا يضل كما ضل الضالون ، ولا يشقى كما يشقى المغضوب عليهم فقال : (( فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى )) . قال ابن عباس : تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة .
ومن تمام الهداية : أن ينظر المستهدي في كتاب الله وفيما تواتر من سنة نبيه ، وسنة الخلفاء ، وما نقله الثقات الأثبات ، ويميز بين ذلك وبين ما نقله من لا يحفظ الحديث ، أو يتهم فيه بكذب لغرض من الأغراض ، فإن المحدث بالباطل إما أن يتعمد الكذب ، أو يكذب خطأ لسوء حفظه أو نسيانه ، أو لقلة فهمه وضبطه .(23/20)
ثم إذا حصلت للمستهدى المعرفة بذلك تدبر ذلك ، وجمع بين المتفق منه ، وتدبر المختلف منه ، حتى يتبين أنه متفق في الحقيقة وإن كان الظاهر مختلفا ، أو أن بعضه راجح يجب اتباعه ، والآخر مرجوح ليس بدليل في الحقيقة ، وإن كان في الظاهر دليلا .
أما غلط الناس فلعدم التمييز بين ما يعقل من النصوص والآثار ، أويعقل بمجرد القياس والاعتبار ، ثم إذا خالط الظن والغلط في العلم هوى النفوس ومناها في العمل صار لصاحبها نصيب من قوله تعالى: (( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى )) .
وهذا سبب ما خلق الإنسان عليه من الجهل في نوع العلم ، والظلم في نوع العمل فبجهله يتبع الظن ، وبظلمه يتبع ما تهوى الأنفس . ولما بعث الله رسله وأنزل كتبه ، لهدى الناس وإرشادهم ، صار أشدهم اتباعا للرسل أبعدهم عن ذلك ، كما قال تعالى : (( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم )) .
ولهذا صار ما وصف الله به الإنسان لا يخص غير المسلمين دونهم ، ولا يخص طائفة من الأمة ، لكن غير المسلمين أصابهم ذلك في أصول الإيمان التي صار جهلهم وظلمهم فيها كفراناً وخسرانا مبينا، ولذلك من ابتدع في أصول الدين بدعة جليلة أصابه من ذلك أشد مما يصيب من أخطأ في أمر دقيق أو أذنب فيه ، والنفوس لهجة بمعرفة محاسنها ، ومساويء غيرها .(23/21)
وأما العالم العادل فلا يقول إلا الحق ، ولا يتبع إلا إياه ، ولهذا من يتبع المنقول الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلفائه ، وأصحابه ، وأئمة أهل بيته ، مثل الإمام علي بن الحسين زين العابدين ، وابنه الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر ، وابنه الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق شيخ علماء الأمة ، ومثل أنس بن مالك ، والثوري وطبقتهما ، وجد ذلك جميعه متفقا مجتمعا في أصول دينهم ، وجماع شرائعهم ، ووجد في ذلك ما يشغله وما يغنيه عما أحدثه كثير من المتأخرين من أنواع المقالات التي تخالف ما كان عليه أولئك السلف وهؤلاء المتأخرين ، ممن ينتصب لعداوة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويبخسهم حقوقهم ، ويؤذيهم ، أو ممن يغلو فيهم غير الحق ، ويفتري عليهم الكذب ، ويبخس السابقين والطائعين حقوقهم ، ورأى أن في المأثور عن أولئك السلف في باب التوحيد والصفات ، وباب العدل والقدر ، وباب الإيمان والأسماء والأحكام ، وباب الوعيد والثواب ، والعذاب ، وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وما يتصل به من حكم الأمراء أبرارهم وفجارهم ، وحكم الرعية معهم ، والكلام في الصحابة والقرابة ما يبين لكل عاقل عادل أن السلف المذكورين لم يكن بينهم من النزاع في هذه الأبواب إلا من جنس النزاع الذي أقرهم عليه الكتاب والسنة كما تقدم ذكره ، وإن البدع الغليظة المخالفة للكتاب والسنة ، واتفاق أولي الأمر الهداة المهتدين إنما حدثت مع الأخلاف ، وقد يعزون بعض ذلك إلى بعض الأسلاف ، تارة بنقل غير ثابت ، وتارة بتأويل لشيء من كلامهم متشابه .(23/22)
ثم إن من رحمة الله أنه قل أن ينقل عنهم شيء من ذلك إلا وفي النقول الصحيحة الثابتة عنهم للقول المحكم الصريح ما يبين غلط الغالطين عليهم في النقل أو التأويل ، وهذا لأن الصراط المستقيم في كل الأمة بمنزلة الصراط في الملك ، فكمال الإسلام هو الوسط في الأديان والملك ، كما قال تعالى: (( وكذلك جعلناكم أمة وسطا )) لم ينحرفوا انحراف اليهود والنصارى والصابئين .
فكذلك أهل الاستقامة ، ولزوم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما عليه السلف ، تمسكوا بالوسط ، ولم ينحرفوا إلى الأطراف ، فاليهود مثلا جفوا في الأنبياء والصديقين حتى قتلوهم وكذبوهم ، كما قال الله تعالى : (( فريقا كذبتم وفريقا تقتلون )) ، والنصارى غلوا فيهم حتى عبدوهم كما قال تعالى : (( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق )) الآية .
واليهود انحرفوا في النسخ حتى زعموا أنه لا يقع من الله ولا يجوز عليه ، كما ذكر الله عنهم إنكاره في القرآن حيث قال : (( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها )) والنصارى قابلوهم فجوزوا للقسيسين والرهبان أن يوجبوا ما شاءوا ، ويحرموا ما شاءوا ، وكذلك تقابلهم في سائر الأمور .
فهدى الله المؤمنين إلى الوسط ، فاعتقدوا في الأنبياء ما يستحقونه ، ووقروهم ، وعزروهم ، وأحبوهم ، وأطاعوهم ، واتبعوهم ، ولم يردوهم كما فعلت اليهود ، ولا أطروهم ولا غلوا بهم فنزلوهم منزلة الربوبية كما فعلت النصارى ، وكذلك في النسخ ، جوزوا أن ينسخ الله ، ولم يجوزوا لغيره أن ينسخ ، فإن الله له الخلق والأمر ، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره .(23/23)
وهكذا أهل الاستقامة في الإسلام المعتصمون بالحكمة النبوية ، والعصبة الجماعية ، متوسطون في باب التوحيد والصفات بين النفاة المعطلة وبين المشبهة الممثلة ، وفي باب القدر والعدل والأفعال بين القدرية والجبرية والقدرية والمجوسية ، وفي باب الأسماء والأحكام بين من أخرج أهل المعاصي من الإيمان بالكلية كالخوارج أهل المنزلة ، وبين من جعل إيمان الفساق كإيمان الأنبياء والصديقين كالمرجئة والجهمية ، وفي باب الوعيد والثواب والعقاب بين الوعيديين الذين لا يقولون بشفاعة نبينا لأهل الكبائر ، وبين المرجئة الذين لا يقولون بنفوذ الوعيد . وفي باب الإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الذين يوافقون الولاة على الإثم والعدوان ، ويركنون إلى الذين ظلموا ، وبين الذين لا يرون أن يعاونوا أحدا على البر والتقوى، لا على جهاد ولا على جمعة ولا أعياد إلا أن يكون معصوما ، ولا يدخلوا فيما أمر الله به ورسوله إلا في طاعة من لا وجود له .
فالأولون يدخلون في المحرمات ، وهؤلاء يتركون واجبات الدين ، وشرائع الإسلام ، وغلاتهم يتركونها لأجل موافقة من يظنونه ظالماً ، وقد يكون كاملاً في علمه وعدله .
اهل الاستقامة ... عند المصيبة
وأهل الاستقامة والاعتدال يطيعون الله ورسوله بحسب الإمكان ، فيتقون الله ما استطاعوا ، ولا يتركون ما أمروا به لفعل غيرهم ما نهى عنه ، بل كما قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم )) . ولا يعاونون أحدا على المعصية ، ولا يزيلون المنكر بما هو أنكر منه ، ولا يأمرون بالمعروف إلا بالمعروف ، فهم وسط في عامة الأمور ، ولهذا وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم الطائفة الناجية لما ذكر اختلاف أمته وافتراقهم .(23/24)
ومن ذلك أن اليوم الذي هو يوم عاشوراء الذي أكرم الله فيه سبط نبيه ، وأحد سيدي شباب أهل الجنة بالشهادة على أيدي من قتله من الفجرة الأشقياء ، وكان ذلك مصيبة عظيمة من أعظم المصائب الواقعة في الإسلام . وقد روى الإمام أحمد وغيره عن فاطمة بنت الحسين وقد كانت شهدت مصرع أبيها ، عن أبيها الحسين بن علي رضي الله عنه ، عن جده رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من رجل يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدمت ، فيحدث لها استرجاعا إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها ) 1 .
1 أخرجه احمد وابن ماجه ، ضعيف جدا ضعيف ابن ماجه 1600 .
فقد علم الله أن مثل هذه المصيبة العظيمة سيتجدد ذكرها مع تقادم العهد ، فكان من محاسن الإسلام أن روى هذا الحديث صاحب المصيبة والمصاب به أولا ، ولا ريب أن ذلك إنما فعله الله كرامة للحسين رضي الله عنه ، ورفعا لدرجته ومنزلته عند الله ، وتبليغا له منزل الشهداء ، وإلحاقا له بأهل بيته الذين ابتلوا بأصناف البلاء ، ولم يكن الحسن والحسين حصل لهما من الابتلاء ما حصل لجدهما ولأمهما وعمهما ، لأنهما ولدا في عز الإسلام ، وتربيا في حجور المؤمنين ، فأتم الله نعمته عليهما بالشهادة ، أحدهما مسموما ، والآخر مقتولا ، لأن الله عنده من المنازل العالية في دار كرامته ما لا ينالها إلا أهل البلاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سل : أي الناس أشد بلاء ؟ فقال : ( الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ، وإن كان في دينه رقة خفف عنه ، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة ) 1 .(23/25)
وشقي بقتله من أعان عليه ، أو رضي به ، فالذي شرعه الله للمؤمنين عند الإصابة بالمصاب وإن عظمت أن يقولوا : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وقد روى الشافعي في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات وأصاب أهل بيته من المصيبة ما أصابهم ، سمعوا قائلا يقول : يا آل بيت رسول الله ، إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وخلفا من كل هالك ، ودركا من كل فائت ، فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب .. فكانوا يرونه الخضر جاء يعزيهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فأما اتخاذ المآتم في المصائب ، واتخاذ أوقاتها مآتم ، فليس من دين الإسلام ، وهو أمر لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد من السابقين الأولين ، ولا من التابعين لهم بإحسان ، ولا من عادة أهل البيت ، ولا غيرهم ، وقد شهد مقتل علي أهل بيته ، وشهد مقتل الحسين من شهده من أهل بيته ، وقد مرت على ذلك سنون كثيرة ، وهم متمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يحدثون مأتما ولا نياحة ، بل يصبرون ويسترجعون كما أمر الله ورسوله ، أو يفعلون ما لا بأس به من الحزن والبكاء عند قرب المصيبة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما كان من العين والقلب فمن الله ، وما كان من اليد واللسان
1 أخرجه الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن ماجة ، صحيح صحيح الترغيب 3/329 .
فمن الشيطان )1 ، وقال : ( ليس منا من لطم الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية )2، يعني مثل قول المصاب : يا سنداه يا ناصراه ، يا عضداه . وقال : ( إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة درعا من جرب ، وسربالا من قطران ) 3. وقال : ( لعن الله النائحة والمستمعة إليها )4 .(23/26)
وقد قال في تنزيله : (( يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ألا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم )) . وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم قوله : (( ولا يعصينك في معروف )) بأنها النياحة . وتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من الحالقة والصالقة . والحالقة : التي تحلق شعرها عند المصيبة ، والصالقة : التي ترفع صوتها عند المصيبة . وقال جرير بن عبد الله : كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام للناس من النياحة ، وإنما السنة : أن يصنع لأهل الميت طعام ، لأن مصيبتهم تشغلهم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما نعى جعفر بن أبي طالب لما استشهد بمؤتة فقال : ( اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد جاءهم ما يشغلهم ) 5.
وهكذا ما يفعل قوم آخرون يوم عاشوراء من الاكتحال والاختضاب أو المصافحة والاغتسال ، فهو بدعة أيضا لا أصل لها ، ولم يذكرها أحد من الأمة المشهورين ، وإنما روى فيها حديث : ( من اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض تلك السنة ، ومن اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد ذلك العام ) 6 ونحو ذلك ، ولكن الذي ثبت
1 اخرجه ابو نعيم ، وهو ضعيف جدا .
2 أخرجه الشيخان واحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة .
3 رواه مسلم .
4 اخرجه احمد وابو داود ، ضعيف ضعيف الجامع 4693 .
5 اخرجه الترمذى وابن ماجه ، حسن صحيح الجامع 1026 .
6 موضوع الضعيفة 2/89 .
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صام يوم عاشوراء ، وأمر بصيامه وقال صلى الله عليه وسلم : ( صومه يكفر سنة ) 1 ، وقرر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أنجى فيه موسى وقومه ، وأغرق فرعون وقومه ، وروى أنه كان فيه حوادث الأمم .. فمن كرامة الحسين أن الله جعل استشهاده فيه.(23/27)
وقد يجمع الله في الوقت شخصا أو نوعا من النعمة التي توجب شكرا ، أو المحنة التي توجب صبرا، كما أن سابع عشر شهر رمضان فيه كانت وقعة بدر ، وفيه كان مقتل علي .. وأبلغ من ذلك: أن يوم الاثنين في ربيع الأول مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه هجرته ، وفيه وفاته .
والعبد المؤمن يبتلى بالحسنات التي تسره ، والسيئات التي تسوءه في الوقت الواحد ، ليكون صبارا، شكورا ، فكيف إ‘ذا وقع مثل ذلك في وقتين متعددين من نوع واحد .
ويستحب صوم التاسع والعاشر ، ولا يستحب الكحل ، والذين يصنعونه من الكحل من أهل الدين لا يقصدون به مناصبة أهل البيت ، وإن كانوا مخطئين في فعلهم ، ومن قصد منهم أهل البيت بذلك أو غيره ، أو فرح ، أو استشفى بمصائبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي ) 2 ، لما شكا إ‘ليه العباس أن بعض قريش يجفون بني هاشم وقال : ( إن الله اصطفى قريشا من بني كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم ) 3 . وروى عنه أنه قال : ( أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة ، وأحبوني لحب الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبي ) 4 .
وهذا باب واسع يطول القول فيه .
1 أخرجه أحمد ومسلم والترمذي .
2 احمد والترمذى مع اختلاف فى الالفاظ , ضعيف ضعيف الترمذى 774 .
3 أخرجه مسلم والترمذي عن واثلة .
4 أخرجه الترمذي والحاكم ، ضعيف ضعيف الجامع 176.
بدع وضلالات(23/28)
وكان سبب هذه المواصلة أن بعض الإخوان قدم بورقة فيها ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر سادة أهل البيت ، وقد أجرى فيها ذكر النذور لمشهد المنتظر ، فخوطب من فضائل أهل البيت وحقوقهم ، بما سر قلبه ، وشرح صدره ، وكان ما ذكر بعض الواجب ، فإن الكلام في هذا طويل ، ولم يحتمل هذا الحامل أكثر من ذلك . وخوطب فيما يتعلق بالأنساب والنذور بما يجب في دين الله ، فسأل المكاتبة بذلك إلى من يذهب إليه من الإخوان ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الدين النصيحة ) ، قالوا لمن يا رسول الله ؟ قال : ( لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم) 1.
أما ورقة الأنساب والتواريخ ففيها غلط في مواضع متعددة ، مثل ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في صفر ، وأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن عمرو بن العلاء بن هاشم ، وأن جعفر الصادق توفي في خلافة الرشيد وغير ذلك .
فإنه لا خلاف بين أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في شهر ربيع الأول ، شهر مولده وشهر هجرته ، وأنه توفي يوم الاثنين وفيه ولد ، وفيه أنزل عليه . وجده هاشم بن عبد مناف ، وإنما كان هاشم يسمى عمرا ، ويقال له : عمرو العلا ، كما قال الشاعر :
عمر العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف
وأن جعفرا أبا عبد الله توفي في سنة ثمان وأربعين في إمارة أبي جعفر المنصور ، وأما المنتظر فقد ذكر طائفة من أهل العلم بأنساب أهل البيت : أن الحسن ابن علي العسكري لما توفي بعسكر سامراء لم يعقب ولم ينسل ، وقال من أثبته : إن أباه لما توفي في سنة ستين ومائتين كان عمره سنتين أو أكثر من ذلك بقليل ، وأنه غاب من ذلك الوقت وأنه من ذلك الوقت حجة الله على أهل الأرض ، لا يتم الإيمان إلا به ، وأنه هو المهدي الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه يعلم كل ما يفتقر إليه الدين .(23/29)
وهذا موضع ينبغي للمسلم أن يثبت فيه ، ويستهدي الله ويستعينه ، لأن الله قد حرم القول بغير
1 رواه الشيخان .
علم ، وذكر أن ذلك من خطوات الشيطان وحرم القول المخالف للحق ، ونصوص التنزيل شاهدة بذلك ، ونهى عن اتباع الهوى .
فأما المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم فقد رواه أهل العلم العالمون بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم ، الحافظون لها ، الباحثون عنها وعن رواتها ، مثل أبي داود ، والترمذي ، وغيرهما ، ورواه الإمام أحمد في مسنده .
فعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله رجلا من أهل بيتي ، يوطيء اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي ، يملأ الأرض قسطا وعدلا ، كما ملئت ظلما وجورا ) 1 .
وروى هذا المعنى من حديث أم سلمة وغيرها .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : ( المهدي من ولد ابني هذا ) . وأشار إلى الحسن.(23/30)
وقال صلى الله عليه وسلم : ( يكون في آخر الزمان خليفة يحثو المال حثوا ) 2 . وهو حديث صحيح . فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اسمه محمد بن عبد الله ، ليس محمد بن الحسن . ومن قال : إن أبا جده الحسين ، وإن كنيته الحسين أبو عبد الله فقد جعل الكنية اسمه ، فما يخفى على من يخشى الله أن هذا تحريف الكلم عن مواضعه ، وأنه من جنس تأويلا القرامطة ، وقول أمير المؤمنين صريح في أنه حسني لا حسيني ، لأن الحسن والحسين مشبهان من بعض الوجوه بإسماعيل وإسحاق ، وإن لم يكونا نبيين ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهما : ( أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة )3 . ويقول : ( إن إبراهيم كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق ) . وكان إسماعيل هو الأكبر والأحلم ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب على المنبر والحسن معه على المنبر : ( إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به فئتين عظيمتين من
1 أخرجه أبو داود واحمد والترمذى ، وانظر في أحاديث هذا الباب ، تحفة الأحوذي وله شواهد كثيرة وأنه من ولد فاطمة .صحيح الجامع 5180
2 رواه أحمد ومسلم .
3 رواه البخارى .
المسلمين ) 1 .
فكما أن غالب الأنبياء كانوا من ذرية إسحاق ، فهكذا كان غالب السادة الأئمة من ذرية الحسين ، وكما أن خاتم الأنبياء الذي طبق أمره مشارق الأرض ومغاربها كان من ذرية إسماعيل ، فكذلك الخليفة الراشد المهدي الذي هو آخر الخلفاء يكون من ذرية الحسن .
وأيضا فإن من كان ابن سنتين كان في حكم الكتاب والسنة مستحقا أن يحجر عليه في بدنه ، ويحجر عليه في ماله ، حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد ، فإنه يتيم ، وقد قال الله تعالى :
(( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم )) .
فمن لم تفوض الشريعة إليه أمر نفسه كيف تفوض إليه أمر الأمة ؟(23/31)
وكيف يجوز أن يكون إماما على الأمة من لا يرى ولا يسمع له خبر ؟ مع أن الله لا يكلف العباد بطاعة من لا يقدرون على الوصول إليه ، وله أربعمائة وأربعون سنة ينتظره من ينتظره وهو لم يخرج، إذ لا وجود له .
وكيف لم يظهر لخواصه وأصحابه المأمونين عليه كما ظهر آباؤه ، وما الموجب لهذا الاختفاء الشديد دون غيره من الآباء ؟
وما زال العقلاء قديما وحديثا يضحكون بمن يثبت هذا ، ويعلق دينه به ، حتى جعل الزنادقة هذا وأمثاله طريقا إلى القدح في الملة ، وتسفيه عقول أهل الدين إذا كانوا يعتقدون مثل هذا .
لهذا قد اطلع أهل المعرفة على خلق كثير منافقين زنادقة بإظهار هذا وأمثاله ، ليستميلوا قلوب وعقول الضعفاء ، وأهل الأهواء ، ودخل بسبب ذلك من الفساد ما الله به عليم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، والله يصلح أمر هذه الأمة ويهديهم ويرشدهم .
النذور للمشاهد والمساجد :
وكذلك ما يتعلق بالنذور للمساجد والمشاهد ، فإن الله في كتابه وسنة نبيه التي نقلها السابقون والتابعون من أهل بيته وغيرهم قد أمر بعمارة المساجد ، وإقامة الصلوات فيها بحسب الإمكان ، ونهى عن بناء المساجد على القبور ، ولعن من يفعل ذلك ، قال الله تعالى :
(( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين )) .
1 أخرجه البخاري .
وقال تعالى :
(( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين )) .
وقال تعالى :
(( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة )) .
وقال : (( وإن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا )) .
وقال : (( ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا )) .(23/32)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة ) 1 .
وقال : ( وبشر المشائين في ظلم الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ) 2 .
وقال : ( من غدا إلى المسجد أو راح ، أعد الله له نزلا كلما غدا أو راح ) 3 .
وقال : ( صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين درجة )4 .
وقال : ( من تطهر في بيته فأحسن الطهور ، وخرج إلى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة ، كانت خطوتاه إحداهما ترفع درجة ، والأخرى تضع خطيئة )5 .
وقال : ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ، وماكان أكثر أحب إلى الله ) 6 .
وقال : ( سيكون عليكم أمراء يؤخرن الصلاة عن وقتها ، فصلوا الصلاة لوقتها ، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة )7 .
1 رواه مسلم .
2 اخرجه ابن ماجه ، صحيح صحيح الجامع 2820 .
3 أخرجه البخاري .
4 أخرجه البخاري .
5 أخرجه البخاري .
6 أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي ، صحيح صحيح ابو داود 1/111 .
7 أخرجه مسلم .
وقال : ( يصلون لكم ، فإن أحسنوا فلكم ، وإن أساءوا فلكم وعليهم ) .
وهذا باب واسع جدا .
وقال أيضا : ( لعن الله اليهود ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) 1. يحذر مما فعلوا . قالوا : ولولا ذلك لأبرز قبره ، ولكن كره أن يتخذ مسجدا . وهذا قاله في مرضه .
وقال قبل موته بخمس : ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ، ألا فلا تتخذون القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك ) 2 .
ولما ذكر كنيسة الحبشة قال : ( أولئك إذا مات الرجل فيهم بنوا على قبره مسجدا ، وصوروا فيه تلك التصاوير ، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ) 3 .
وكل هذه الأحاديث في الصحاح المشاهير .
وقال أيضا : ( لعن الله زوارات القبور ، والمتخذين عليها المساجد والسرج )4 . رواه الترمذي وغيره وقال : حديث حسن .(23/33)
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد لعن الذين يتخذون على القبور والمساجد ، ويسرجون عليها الضوء ، فكيف يستحل مسلم أن يجعل هذا طاعة وقربة ؟!!
وفي صحيح مسلم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ( بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني ألا أدع قبر مشرفا إلا سويته ، ولا تمثالا إلا طمسته ) .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ) 5 .
وقال : ( لا تتخذوا قبري عيدا ، وصلوا عليّ حيثما كنتم ، فإن صلاتكم تبلغني ) 6 .
فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاجتماع عند قبره .
وأمر بالصلاة عليه في جميع المواضع ، فإن الصلاة عليه تصل إليه من جميع المواضع .
وهذه الأحاديث رواها أهل بيته ، مثل : علي بن الحسين عن أبيه عن جده علي ، ومثل : عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب .
1 رواه الشيخان .
2 رواه الشيخان .
3 رواه الشيخان .
4 اخرجه الترمذى ، ضعيف الضعيفة 225 . والجملة الاولى ثابتة عن النبى عليه الصلاة والسلام .
5 رواه مالك واحمد ، صحيح تحذير الساجد 18 .
6 رواه ابو داود واحمد ، صحيح صحيح ابو داود 1/383 .
فكانوا هم وجيرانهم من علماء أهل المدينة ينهون عن البدع التي عند قبره أو غير قبر غيره ، امتثالا لأمره ، ومتابعة لشريعته .
فإن من مبدأ عبادة الأوثان : العكوف على الأنبياء و الصالحين ، والعكوف على تماثيلهم ، وإن كانت وقعت بغير ذلك .
وقد ذكر الله في كتابه عن المشركين أنهم قالوا :
(( لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا )) .
وقد روى طائفة من علماء السلف أن هؤلاء كانوا قوما صالحين ، فلما ماتوا بنوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم .(23/34)
وكذلك قال ابن عباس في قوله : (( أفرأيتم اللات والعزى . ومنات الثالثة الأخرى )) . قال ابن عباس : كان اللات رجلا يلت السويق للحجاج ، فلما مات عكفوا على قبره ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ) . ونهى أن يصلى عند قبره .
ولهذا لما بنى المسلمون حجرته حرفوا مؤخرها ، وسنموه لئلا يصلي إليه احد فإنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تجلسوا على القبور ، ولا تصلوا إليها ) رواه مسلم .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى أهل البقيع يسلم عليهم ، ويدعو لهم .
وعلم أصحابه أن يقولوا إذا زاروا القبور : ( سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين ، وإن شاء الله بكم لاحقون ، ويرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين ، نسأل الله لكم العافية ، اللهم آجرهم ، ولا تفتنا بعدهم ، واغفر لنا ولهم ) 1 .
هذا مع أن في البقيع إبراهيم وبناته أم كلثوم ورقية ، وسيدة نساء العالمين فاطمة ، وكانت إحداهن دفنت فيه قديما قريبا من غزوة بدر ، ومع ذلك فلم يحدث على أولئك السادة شيئا من هذه المنكرات ، بل المشروع التحية لهم ، والدعاء بالاستغفار وغيره .
وكذلك في حقه ، أمر بالصلاة والسلام عليه من القرب والبعد ، وقال : ( أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة ، فإن صلاتكم معروضة علي . قالوا : كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ يعني : بليت . قال : إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء )2 .
وقال : ( ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ) 3 .
1 أخرجه مسلم .
2 أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة في كتاب والدارمي صحيح صحيح ابو داود 1/196
3 ضعيف رواه ابن الجوزى فى العلل المتناهية و ضعفه .
وكل هذه الأحاديث ثابتة عن أهل المعرفة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم .(23/35)
فالدعاء والاستغفار يصل إلى الميت عند قبره وغير قبره ، وهو الذي ينبغي للمسلم أن يعامل به موتى المسلمين من الدعاء لهم بأنواع الدعاء ، كما كان في حياته يدعو لهم .
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا أن نصلي عليه ونسلم تسليما في حياته ومماته ، وعلى آل بيته .
وأمرنا أن ندعو للمؤمنين والمؤمنات في محياهم ومماتهم ، عند قبورهم وغير قبورهم .
ونهانا الله أن نجعل لله أندادا ، أو نشبه بيت المخلوق الذي هو قبره ببيت الله الذي هو الكعبة البيت الحرام ، فإن الله أمرنا أن نحج ونصلي إليه ، ونطوف به ، وشرع لنا أن نستلم أركانه ، ونقبل الحجر الأسود الذي جعله الله بمنزلة يمينه .
قال ابن عباس : ( الحجر الأسود يمين الله في الأرض ، فمن استلمه وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه )1 .
وشرع كسوة الكعبة ، وتعليق الستار عليها ، وكان يتعلق من يتعلق بأستار الكعبة كالمتعلق بأذيال المستجير به ، فلا يجوز أن تضاهى بيوت المخلوقين ببيت الخالق .
ولهذا كان السلف ينهون من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبله ، بل يسلم عليه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ، ويصلي عليه كما كان السلف يفعلون .
فإذا كان السلف أعرف بدين الله وسنة نبيه وحقوقه ، وحقوق السابقين والتابعين من أهل البيت وغيرهم ، ولم يفعلوا شيئا من هذه البدع التي تشبه الشرك وعبادة الأوثان ، لأن الله ورسوله نهاهم عن ذلك ، بل يعبدون الله وحده لا شريك له ، مخلصين له الدين كما أمر الله به ورسوله ، ويعمرون بيوت الله بقلوبهم وجوارحهم من الصلاة والقراءة ، والذكر والدعاء وغير ذلك .
فكيف يحل للمسلم أن يعدل عن كتاب الله ، وشريعة رسوله ، وسبيل السابقين من المؤمنين ، إلى ما أحدثه ناس آخرون ، إما عمدا وإما خطأ .(23/36)
فخوطب حامل هذا الكتاب بأن جميع هذه البدع التي على قبور الأنبياء والسادة من آل البيت والمشايخ المخالفة للكتاب والسنة ، ليس للمسلم أن يعين عليها ، هذا إذا كانت القبور صحيحة ، فكيف وأكثر هذه القبور مطعون فيها ؟ .
وإذا كانت هذه النذور للقبور معصية قد نهى الله عنها ورسوله والمؤمنون السابقون ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من نذر أن يعطي الله فليطعمه ، ومن نذر أن يعصى الله فلا
1 هذا الاثر منكر الضعيفة 1/350 .
يعصيه )1 .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( كفارة النذر كفارة اليمين ) 2 . وهذا الحديث في الصحاح .
فإذا كان النذر طاعة لله ورسوله ، مثل أن ينذر صلاة أو صوما أو حجا أو صدقة أو نحو ذلك ، فهذا عليه أن يعني به .
وإذا كان المنذر معصية كفرا أو غير كفر ، مثل : أن ينذر للأصنام كالنذور التي بالهند ، ومثلما كان المشركون ينذرون لآلهتهم ، مثل : اللات التي كانت بالطائف ، والعزى التي كانت بعرفة قريبا من مكة ، ومناة الثالثة الأخرى التي كانت لأهل المدينة .
وهذه المدائن الثلاث هي مدائن أرض الحجاز ، كانوا ينذرون لها النذور ، ويتعبدون لها ، ويتوسلون بها إلى الله في حوائجهم ، كما أخبر عنهم بقوله :
(( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى )) . ومثلما ينذر الجهال من المسلمين لعين ماء ، أو بئر من الآبار ، أو قناة ماء أو مغارة ، أو حجر ، أو شجرة من الأشجار ، أو قبر من القبور ، وإن كان قبر نبي أو رجل صالح ، أو ينذر زيتا أو شمعا أو كسوة أو ذهبا ، أو فضة لبعض هذه الأشياء ، فإن هذا كله نذر معصية لا يوفى به .
لكن من العلماء من يقول : على صاحبه كفارة يمين ، لما روى أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا نذر في معصية ، وكفارته كفارة يمين )3
وفي الصحيح عنه أنه قال : ( كفارة النذر كفارة يمين ) 4 .(23/37)
وإذا صرف من ذلك المنذور شيء في قربة من القربات المشروعة كان حسنا ، مثل : أن يصرف الدهن إلى تنوير بيوت الله ، ويصرف المال والكسوة إلى من يستحقه من المسلمين ومن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسائر المؤمنين ، وفي سائر المصالح التي أمر الله بها ورسوله .
1 أخرجه البخاري .
2 أخرجه مسلم .
3 رواه مسلم .
4 رواه مسلم .
وإذا اعتقد بعض الجهال أن بعض هذه النذور المحرمة قد قضت حاجته بجلب المنفعة من المال والعافية ونحو ذلك ، أو بدفع المضرة من العدو ونحوه ، فقد غلط في ذلك .
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال : ( إنه لا يأتي بخير ، ولكنه يستخرج به من البخيل ) 1 .
فعد النذر مكروها ، وإن كان الوفاء به واجبا إذا كان المنذور طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن النذر لا يأتي بخير ، وإنما يستخرج من البخيل ، وهذا المعنى قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه ، فيما كان قربة محضة لله ، فكيف بنذر شرك ؟ فإنه لا يجوز نذره ولا الوفاء به .
وهذا وإن كان قد عمر الإسلام ، وكثر العكوف على القبور التي هي للصالحين من أهل البيت وغيرهم ، فعلى الناس أن يطيعوا الله ورسوله ، ويتبعوا دين الله الذي بعث به نبيه ، صلى الله عليه وسلم ، ولا يشرعوا من الدين مالم يأذن به الله ، فإن الله إنما أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله ، وليعبدوا الله وحده لا شريك له .
كما قال تعالى :
(( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون )) .
وقال تعالى :
(( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب )) .
وقال تعالى :(23/38)
(( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة )) وقال تعالى في حق الذين كانوا يدعون الملائكة والنبيين :
(( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا . أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا )) .
وقال : (( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا من دون الله أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون )) .
1 أخرجه البخاري
ورد على من اتخذ شفعاء من دونه فقال :
(( أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون . وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون . قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون )) .
وقال : (( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون )) .
وقال تعالى :
(( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه )) .
وقال :
(( وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى )) .
وقال تعالى :
(( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى )) .
قال :
(( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له )) .
وكتب الله من أولها إلى آخرها تأمر بإخلاص الدين لله ، ولا سيما الكتاب الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أو الشريعة التي جاء بها ، فإنها كملت الدين .
قال تعالى :
(( اليوم أكملت لكم دينكم )) .
وقال :
(( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون )) .(23/39)
وقد جعل قوام الأمر بالإخلاص لله ، والعدل في الأمور كلها ، كما قال تعالى :
(( قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون . فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة )) .
ولقد خلص النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد من دقيق الشرك وجليله ، حتى قال : ( من حلف بغير الله فقد أشرك )1 رواه الترمذي وصححه .
وقال : ( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت )2 . وهذا مشهور في الصحاح .
وقال : ( ولا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن قولوا : ما شاء الله ، ثم شاء محمد )3 .
وقال له رجل : ما شاء الله وشئت ، فقال : ( أجعلتني لله ندا ؟ بل ما شاء الله وحده ) 4 .
وروي عنه أنه قال : ( الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل ) 5 .
وروي عنه أن الرياء شرك 6 .
وقال تعالى :
(( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا )) .
وعلّم بعض أصحابه أن يقول : ( اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم ) .
ومن هذا الباب الذين يسألون الصدقة أو يعطونها لغير الله ، مثل من يقول : لأجل فلان ، إما بعض الصحابة ، أو بعض أهل البيت ، حتى يتخذ السؤال بذلك ذريعة إلى أكل أموال الناس بالباطل، ويصير قوم ممن ينتسب إلى السنة يعطي الآخرين ، والشيطان قد استحوذ على الجميع ، فإن الصدقة وسائر العبادات لا يشرع أن تفعل إلا لله ، كما قال تعالى :
(( وسيجنبها الأتقى . الذي يؤتي ماله يتزكى . وما لأحد عنده من نعمة تجزى . إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى . ولسوف يرضى )) .
وقال تعالى :
(( وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون )) .
وقال : (( مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة(23/40)
1 أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي و أحمد ، صحيح صحيح الجامع 6080 .
2 أخرجه أحمد والترمذي ، صحيح صحيح الجامع 1919 .
3 أخرجه الدارمي وابن ماجة و أحمد ، صحيح الصحيحة 1/264 .
4 أخرجه الإمام أحمد ، حسن الصحيحة 1/266 .
5 أخرجه الإمام أحمد ، صحيح صحيح الجامع 3624 . .
6 أخرجه الترمذي وابن ماجة والإمام أحمد ، صحيح صحيح الترغيب 1/120.
أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل )) .
وقال :
(( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا )) .
وقال تعالى كلمة جامعة :
(( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة . وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة )) .
وعبادته تجمع الصلاة وما يدخل فيها من الدعاء والذكر ، وتجمع الصدقة والزكاة بجميع الأنواع، من الطعام واللباس والنقد وغير ذلك .
والله يجعلنا وسائر اخواننا المؤمنين مخلصين له الدين ، نعبده ولا نشرك به شيئا ، معتصمين بحبله ، متمسكين بكتابه ، متعلمين لما أنزل من الكتاب والحكمة ، ويصرف عنا شياطين الجن و الإنس ، ويعيذنا أن تفرق بنا عن سبيله ، ويهدينا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما كثيرا .
الفهرس
مقدمة الشيخ ابو تراب ............................................….. 3
اول كتاب حقوق ال البيت .............................................. 6
وحدة المسلمين بالكتاب والسنة .......................................... 7
اهل البيت و خصائصهم ................................................. 9(23/41)
صفات اهل الفيء ....................................................... 12
سب الصحابة حرام على اهل البيت وغيرهم ............................ 12
جهل الشيعة بمذهب الامام على .......................................... 14
عوامل الضلال .......................................................... 16
اهل الاستقامة عند المصيبة ............................................... 19
بدع وضلالات ......................................................... 23
موقع فيصل نور(23/42)
حقيقة الاحتفال بالمولد النبوي
عبدالرحمن بن عبدالخالق
- الاختلاف حول الاحتفال بالمولد النبوي ليس اختلافاً بين من يحب الرسول ويعظمه وبين من يبغضه ويهمل شأنه بل الأمر على العكس من ذلك تماماً.
- الفاطميون الإسماعيليون هم أول من ابتدع بدعة الاحتفال بالمولد النبوي.
- (الحقيقة المحمدية) في الفكر الصوفي تختلف تماماً عما نؤمن به نحو النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
مقدمة
اطلعت على بعض المقالات التي يروج أصحابها لفكرة الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، واتخاذ يوم ولادته عيداً ليكون ملتقى روحياً للمسلمين -على حد تعبيرهم- ومحاسبة النفس على مدى الاتباع والتمسك بالدين الإسلامي كما يزعمون..
وبالرغم من أن هذا الموضوع قديم، وقد كتب فيه المؤيدون والمعارضون، ولن يزال الخلاف فيه -الا ما شاء الله- إلا أنني رأيت من واجبي تجلية بعض الحقائق التي تغيب عن جمهور الناس عند نقاش هذه القضية.. وهذا الجمهور هو الذي يهمني الآن أن أضع مجموعة من الحقائق بين يديه ليعلم حقيقة الدعوة إلى الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم.. ولماذا ترفض هذه الدعوى من أهل التوحيد والدين الخالص والإسلام الصحيح.
ماذا يريد الدعاة
إلى الاحتفال بالمولد النبوي على التحديد؟
يصور دعاة الاحتفال والاحتفاء بيوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه هو مقتضى المحبة والتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يوم مولده يوم مبارك ففيه أشرقت شمس الهداية، وعم النور هذا الكون، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم الاثنين، ولما سئل عن ذلك قال: [هذا يوم ولدت فيه وترفع الأعمال إلى الله فيه، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم]، وأنه إذا كان العظماء يحتفل بمولدهم ومناسباتهم فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى لأنه أعظم العظماء وأشرف القادة..(24/1)
ويعرض دعاة الاحتفال بالمولد هذه القضية على أنها خصومة بين أحباب الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أعدائه وخلاف بين من يعظمون الرسول صلى الله عليه وسلم ويقدرونه وينتصرون له، وبين من يهملونه، ولا يحبونه ولا يضعونه في الموضع اللائق به.
ولا شك أن عرض القضية على هذا النحو هو من أعظم التلبيس وأكبر الغش لجمهور الناس، وعامة المسلمين، فالقضية ليست على هذا النحو بتاتاً فالذين لا يرون جواز الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم خوفاً من الإبتداع في الدين هم أسعد الناس حظاً بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته، فهم أكثر الناس تمسكاً بسنته، واقتفاءاً لآثاره، وتتبعاً لحركاته وسكناته، وإقتداء به في كل أعماله صلى الله عليه وسلم، وهم كذلك أعلم الناس بسنته وهديه ودينه الذي أرسل به، وأحفظ الناس لحديثه، وأعرف الناس بما صح عنه وما افتراه الكذابون عليه، ومن أجل ذلك هم الذابون عن سنته، والمدافعون في كل عصر عن دينه وملته وشريعته بل إن رفضهم للإحتفال بيوم مولده وجعله عيداً إنما ينبع من محبتهم وطاعتهم له فهم لا يريدون مخالفة أمره، ولا الإفتئات عليه، ولا الإستدراك على شريعته لأنهم يعلمون جازمين أن إضافة أي شيء إلى الدين إنما هو استدراك على الرسول صلى الله عليه وسلم لأن معني ذلك أنه لم يكمل الدين، ولم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم كل ما أنزل الله إليه أو أنه استحيا أن يبلغ الناس بمكانته ومنزلته، وما ينبغي له، وهذا أيضا نقص فيه، لأن وضع الرسول صلى الله عليه وسلم في مكانته من الدين الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغه وقد فعل صلى الله عليه وسلم، فقد بين ما يجب على الأمة نحوه أتم البيان فقال مثلا [لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين] (أخرجه البخاري ومسلم)(24/2)
* وقال عمر بن الخطاب: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال : [لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك] فقال -أي عمر- : فأنت الآن أحب إلي من نفسي، فقال: [الآن يا عمر] (أخرجه البخاري)..
والشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستحي من بيان الحق، ولا يجوز له كتمانه، ولا شك أن من أعظم الحق أن يشرح للناس واجبهم نحوه، وحقه عليهم، ولو كان من هذا الحق الذي له أن يحتفلوا بيوم مولده لبينه وأرشد الأمة إليه.
وأما كونه كان يصوم يوم الاثنين وأنه علل ذلك أنه يوم ولد فيه، ويوم ترفع الأعمال إلي الله فيه، فإن أحباب الرسول صلى الله عليه وسلم على الحقيقة يصومون هذا اليوم من كل أسبوع اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
وأما أولئك الملبسون فإنهم يجعلون الثاني عشر من ربيع الأول يوم عيد ولو كان خميساً أو ثلاثاءً أو جمعةً.
وهذا لم يقله ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت أنه صام الثاني عشر من ربيع الأول، ولا أمر بصيامه.
فاستنادهم إلى إحياء ذكرى المولد، وجعل الثاني عشر من ربيع الأول عيداً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صام يوم الاثنين تلبيس على عامة الناس وتضليل لهم.
والخلاصة:
أن الذين يُتهمون بأنهم أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم ومنكرو فضله، وجاحدوا نعمته، كما يدّعي الكذابون هم أسعد الناس حظا بإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحبته، وهم الذين علموا دينه وسنته على الحقيقة.
وأما أولئك الدعاة إلي الاحتفال بالمولد فدعوتهم هذه نفسها هي أول الحرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول الكذب عليه، والاستهانة بحقه.
لأنها مزاحمةٌ له في التشريع واتهام له أنه ما بيّن الدين كما ينبغي، وترك منه ما يستحسن، وأهمل ما كان ينبغي ألا يغفل عنه من شعائر محبته وتعظيمه وتوقيره، وهذا أبلغ الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(24/3)
وهذه نقطة الفصل في هذه القضية، وبداية الطريق لمعرفة من اهتدى ومن ضل فيها.
فدعاة المولد -بدعوتهم إليه- مخالفون لأمره صلى الله عليه وسلم، مفتئتون عليه، مستدركون على شريعته، ونفاة المولد متبعون للرسول صلى الله عليه وسلم، متابعون لسنته، محبون له، معظمون لأمره غاية التعظيم متهيبون أن يستدركوا عليه ما لم يأمر به، لأنه هو نفسه صلى الله عليه وسلم حذرهم من ذلك فقال : [من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد] (أخرجه البخاري ومسلم) و [من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد] (أخرجه البخاري ومسلم)
مَنْ هَؤُلاَءِ؟ ومَنْ هَؤُلاَءِ؟
وهنا يأتي السؤال من الداعون إلى المولد ومن الرافضون له؟ والجواب أن الرافضين للمولد هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الكرام، ونقول الرافضين -تجوزاً- فالمولد هذا ما كان في عصرهم قط، ولم يعرفوه أبدا، ولا خطر ببالهم أصلا، وعلى هذا كان التابعون وتابعوهم وأئمة السلف جميعاً ومنهم الأئمة الأربعة أعلام المذاهب الفقهية المشهورة.
وعلماء الحديث قاطبةً إلا من شذ منهم في عصور متأخرة عن القرون الثلاثة الأولى قرون الخير، وكل من سار على دربهم ومنوالهم إلى يومنا هذا.
وهؤلاء هم السلف والأمة المهتدية الذين أمرنا الله باتباعهم والترضي عنهم، وفيهم الخلفاء الراشدون المهديون الذين أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع سنتهم فقال : [عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة] (أخرجه ابن أبي عاصم في (السنة) والترمذي وابن ماجه من حديث العرباض بن سارية وصححه الألباني)
فهل كان هؤلاء من جعل يوم مولده عيداً، ومن خصه بشيء من العبادات أو العادات أو التذكير أو الخطب، أو المواعظ.(24/4)
وإذا كانت الأمة الصالحة هي ما ذكرنا وهي التي لم تحتفل بيوم مولده، وتركت ذلك تعظيماً للرسول صلى الله عليه وسلم لا إهانة له، ومعرفة بحقه لا جحوداً لحقه، فمن إذن الذين ابتدعوا الاحتفال بمولده، وأرادوا -في زعمهم- أن يعظموا الرسول صلى الله عليه وسلم بما يعظمه به سلف الأمة الصالح، وأرادوا أن يحيُّوُهُ صلى الله عليه وسلم بما لم يُحَيِّه به الله؟
والجواب: أن أول من ابتدع ذلك هم ملوك الدولة الفاطمية في القرن الرابع الهجري ومن تسمى منهم باسم (المعز لدين الله) ومعلوم أنه وقومه جميعا إسماعيليون زنادقة، متفلسفون. أدعياء للنسب النبوي الشريف، فهم من ذرية عبد الله بن ميمون القداح اليهودي الباطني وقد ادعوا المهدية وحكموا المسلمين بالتضليل والغواية، وحولوا الدين الى كفر وزندقة وإلحاد، فهذا الذي تسمى (بالحاكم بأمر الله)، هو الذي ادعى الألوهية وأسس جملة من المذاهب الباطنية الدرزية احدها، وأرغم المصريين على سب أبي بكر وعمر وعائشة وعلق ذلك في مساجد المسلمين ومنع المصريين من صلاة التراويح، ومن العمل نهاراً إلى العمل ليلاً ونشر الرعب والقتل واستحل الأموال وأفسد في الأرض، مما تعجز المجلدات عن الإحاطة به. وفي عهد هؤلاء الفاطميين أيضا وبإفسادهم في الأرض أكل المصريون القطط والكلاب وأكلوا الموتى، بل وأكلوا أطفالهم.
وفي عهد هؤلاء الذين ابتدعوا بدعة المولد تمكن الفاطميون والقرامطة من قتل الحجاج وتخريب الحج، وخلع الحجر الأسود.(24/5)
والخلاصة: أن بدعة المولد نشأت من هنا، وهل يقول عاقل أن هؤلاء الزنادقة الملحدون قد اهتدوا إلي شيء من الحق لم يعرفه الصديق والفاروق وعثمان وعلي والصحابة والسلف الأئمة وأهل الحديث؟ هل يكون كل هؤلاء على باطل وأولئك الكفرة الملاعين على الحق؟ وإذا كان قد اغتر بدعوتهم بعض من أهل الصلاح والتقوى وظن -جهلاً منه- أن المولد تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم ومحبة له هل يكون الجاهلون المغفلون حجة في دين الله؟!
ماذا في المولد؟ وما الذي يصنع فيه؟
ونأتي الآن إلى سؤال هام: وماذا في المولد؟ وما الذي يصنع فيه؟
والجواب: أن الذين يحتفلون بالمولد هم في أحسن أحوالهم مبتدعون، مفتئتون على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستدركون عليه. مجهلون لسلف الأمة وأئمتها. هذا في أحسن الأحوال إذا صنعوا معروفا في الأصل لتذكر لنعمة الله بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقراءة في سيرته وصلاةٍ وسلامٍ عليه، وإظهارٍ للفرح والسرور بمبعثه، ونحو ذلك مما هو من الدين في الجملة ولكنه لم يشرع في هذه المناسبة. ولكن الحق أن أهل الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم هم في العموم ليسوا على شيء من هذا أصلا.
فالمولد عندهم بدعة أنشأت بدعاً منكرة، بل شركاً وزندقة، فالاحتفال بالمولد عند أهله المبتدعين نظام وتقليد معين، واحتفال مخصوص بشعائر مخصوصة وأشعار تقرأ على نحو خاص، وهذه الأشعار تتضمن الشرك الصريح، والكذب الواضح، وعند مقاطع مخصوصة من هذا الشعر يقوم القوم قياماً على أرجلهم زاعمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل عليهم في هذه اللحظة ويمدون أيديهم للسلام عليه، وبعضهم يُطفئ الأنوار، ويضعون كذلك كأساً للرسول صلى الله عليه وسلم ليشرب منه، فهم يضيفونه في هذه الليلة!! ويضعون مكاناً خاصاً له ليجلس فيه بزعمهم - إما وسط الحلقة، وإما بجانب كبيرهم.. الذي يدَّعي بدوره أنه من نسله...(24/6)
ثم يقوم (الذِكر) فيهم علي نظام مخصوص بهز الرأس والجسم يميناً وشمالاً وقوفاً على أرجلهم، وفي أماكن كثيرة يدخل حلقات (الذِكر) هذه الرجال والنساء جميعاً.
وتذكر المرأة هزاً علي ذلك النحو حتى تقع في وسط الجميع ويختلط الحابل بالنابل حتى أن شعوباً كثيرة ممن ابتليت بهذه البدعة المنكرة اذا أرادت أن تصف أمرا بالفوضى وعدم النظام يقولون (مولد) يعنون أن هذا الأمر في الفوضى وعدم النظام يشبه الموالد.
والعجيب أن هذه الزندقة التي ابتلي به العالم الإسلامي منذ الفاطميين وإلى يومنا هذا -وإن كان قد خف شرها كثيراً- والتي ابتدعها القوم تعظيما للرسول صلى الله عليه وسلم في زعمهم لم يقصروها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل جعلوا لكل أفاكٍ منهم مولداً، ولكل زنديق مدع للولاية مولداً، وبعض هؤلاء يعظم مولد هؤلاء ما لا يعظمون مولد الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذا مولد من يسمى (بالسيد البدوي) الذي لا يعرف له اسم ولا نسب والذي لم يثبت قط أنه صلى جمعة أو جماعة والذي لا يعرف أيضاً أكان ذكراً أم أنثى حيث أنه لم يكشف وجهه قط!! وكان ملثماً أبداً!! هذا (السيد البدوي) والذي أنكر أهل مكة أن يكون منهم أو يعرفوه - يحتفل بمولده أعظم من الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإلى اليوم يجتمع بمولده في أسبوع واحد أكثر من سبعة ملايين شخص وهو عدد أعظم من العدد الذي يجتمع في الحج.
فإذا كان أمثال هؤلاء تُعظم موالدهم واحتفالاتهم على نحو ذلك، فهل يكون هذا أيضاً من تعظيم الرسول؟!(24/7)
وهل من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل (المعز الفاطمي) وهو الذي ابتدع بدعة المولد النبوي. لنفسه مولداً كمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فهل أراد تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته حقا؟! وإذا كانوا قد نافسوه في هذه العظمة بل احتفلوا بغيره أعظم من احتفالهم به صلى الله عليه وسلم فهل هذا دليل محبتهم وتوقيرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
فليتهم اذا ابتدعوا بدعة المولد أن يكونوا قد حرموها على غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصروها عليه لمنزلته ومكانته، ولكنهم ابتدعوه قنطرة يقفزون عليها لتعظيم أنفسهم واتباع أهوائهم، وجعل هذا مناسبة لترويج مذاهب بعينها وعقائد مخصوصة يعرفها من قرأ شيئا عن الفكر الصوفي والفكر الباطني..
عقيدة الأمة في الرسول غير عقيدة هؤلاء!
والحق أن عقيدة الأمة الإسلامية المهتدية في الرسول صلى الله عليه وسلم غير عقيدة هؤلاء المبتدعين.. فرسول الله صلى الله عليه وسلم عند المسلم الحقيقي هو النبي والرسول الذي تجب طاعته قبل كل أحد وبعد كل أحد، ولا تجوز معصيته، والذي يجب محبته فوق كل أحد والذي لا دخول للجنة إلا بمحبته وطاعته واقتفاء أثره، وأنه النبي الخاتم الذي جاء بالتوحيد والإيمان والدين الصحيح الذي يعبد به الله وحده لا شريك له..(24/8)
وأما أولئك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عندهم غير ذلك تماما فالرسول صلى الله عليه وسلم عند هؤلاء هو أول من خلق الله من الهباء -في زعمهم- وهو المستوي على عرش الله، والذي من نوره هُوَ خلق العرش والكرسي والسموات والأرض، والملائكة والجن والإنس وسائر المخلوقات وهذه عقيدة ابن عربي (صاحب الفصوص والفتوحات المكية)، واقرأ في ذلك (الذهب الإبريز لعبد العزيز بن مبارك السجلماسي) وانظر كتابنا (الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة) باب: (الحقيقة المحمدية) (ص 151) وانظر فيه ما قاله محمد عبده البرهامي في كتابه (تبرئة الذمة في نصح الأمة)!!
والذي يدعي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لجبريل من يأتيك بالوحي يا جبريل؟ فقال جبريل تمتد يد من خلف الحجاب فتعطني الآيات فآتيك بها.. فكشف الرسول صلى الله عليه وسلم في زعمهم - عن يده وقال مثل هذه يا جبريل؟! فقال جبريل متعجبا : (منك وإليك يا محمد) فانظر هذه هي عقيدتهم في الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أنزل الوحي من السماء وتلقاه في الأرض.
وقد فصَّل هذه العقيدة عبد الكريم الجيلي الصوفي الزنديق في كتابه (الإنسان الكامل).. فانظره إن شئت. فالرسول صلى الله عليه وسلم عندهم ليس هو الرسول عندنا بل هو عند أساطينهم ومحققيهم هو الله المستوي على العرش، وعند جهلائهم وأغبيائهم هو المخلوق من نور العرش، أو من نور الله وهؤلاء ربما يعتقدون أن الله موجود قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن العرش مخلوق قبل الرسول صلى الله عليه وسلم.. ولكن أولئك (المحققين في زعمهم) يعتقدون أن وجود الرسول صلى الله عليه وسلم سابق على وجود العرش بل وجود كل مخلوق لأنه أول (التعينات) أي أول من أصبح عيناً أي شيئاً معيناً ومن نوره تخلقت كل الخلائق بعد ذلك.(24/9)
وأما المغفلون منهم فيقول يا أول خلق الله ظانين أنه مخلوق قبل كل البشر فهو عندهم مخلوق قبل آدم نفسه وأولئك يقولون يا أول خلق الله على الأرض قبل العرش والكرسي والسموات والأرض والجنة والنار بل كل هذه في زعمهم خلقت من نور الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن هذا كفر وهذا كفر، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد خُلِق بشَراً كما يُخلق سائر البشر وكان خلقه في وقت تكونه نطفة فعلقة فمضغة.. ووليداً {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ} (الكهف:110)
ولا يخفى أيضاً أن هؤلاء المبتدعين لم يخطئوا فقط في حقيقة النبي صلى الله عليه وسلم بل كذلك أخطئوا في إعطاء كل ما يجب لله أعطوه للرسول صلى الله عليه وسلم، من دعاء له واستغاثة به، وعبادة بكل معاني العبادة.
وهذه أمور لا يتسع المقام لذكرها.
والخلاصة: أننا يجب أن نفهم هذا الأمر الذي يبدو صغيراً في أوله ولكنه عظيم جداً في نهايته فالاحتفال بالمولد: أوله بدعة وآخره كفر وزندقة.
والاختلاف فيه ليس كما يصوره الداعون إلى المولد أنهم ورَّاث الرسول صلى الله عليه وسلم وأحبابه يدافعون عن شرف النبي صلى الله عليه وسلم ويخاصمون من يتركون فضله ومنزلته، بل الأمر على العكس تماماً: إن المنكرين للمولد منكرون للبدعة، محبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يريدون مخالفة أمره، والاستدراك عليه، متبعون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين، والأئمة المهديين وأما أولئك فهم على سنة الزنادقة الإسماعيلية سائرون وببدعتهم وكفرهم معتقدون، فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون.
هذا والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة في العالمين إلى يوم الدين.(24/10)
دلائل محبة الرسول صلى الله عليه وسلم
بين السنة والبدعة
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
إن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصل عظيم من أصول الدين، فلا إيمان لمن لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم- أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.
* قال الله تعالى: (( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين))[ التوبة:24].
قال القاضي عياض في شرح الآية: »فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها -صلى الله عليه وسلم-، إذ قرّع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله وتوعدهم بقوله تعالى: ((فتربصوا حتى يأتي الله بأمره))، ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله« (1).
* وقال الله تعالى: ((النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم))[ الأحزاب: 6].
* وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: »لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين« (2).
* وقال أيضاً: »والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده« (3).
* وعن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: »لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك«، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: »الآن يا عمر« (4).
آثار محبته -صلى الله عليه وسلم-:
المحبة عمل قلبي اعتقادي تظهر آثاره ودلائله في سلوك الإنسان وأفعاله ومن علامات ذلك:
أولاً تعزير النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوقيره:(25/1)
قال الله تعالى: ((إنا أرسلناك شاهداْ ومبشراْ ونذيراْ لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاْ))[ الفتح:9].
ذكر ابن تيمية أن التعزير: »اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه«. والتوقير: »اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار« (5).
وتوقير النبي -صلى الله عليه وسلم- له دلائل عديدة، منها:
1 - عدم رفع الصوت فوق صوته:
قال الله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون))[ الحجرات: 2].
وعن السائب بن يزيد قال: »كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، قال: من أنتما أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله ص« (6).
2 -الصلاة عليه:
قال الله تعالى: ((إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماْ))[ الأحزاب: 57].
قال ابن عباس: يصلون: يُبرّكون (7).
وفي الآية أمر بالصلاة عليه، والأمر يقتضي الوجوب، لهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: »البخيل من ذكرتُ عنده فلم يصل عليّ« (8).
وقال: »رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ« (9).
ثانياً الذ ب عنه وعن سنته:
إن الذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونصرته، آية عظيمة من آيات المحبة والإجلال، قال الله تعالى: ((للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاْ من الله ورضواناْ وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون))[ الحشر: 8].(25/2)
ولقد سطر الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة وأصدق الأعمال في الذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفدائه بالأموال والأولاد والأنفس، في المنشط والمكره، في العسر واليسر، وكتب السير عامرة بقصصهم وأخبارهم التي تدل على غاية المحبة والإيثار، وما أجمل ما قاله أنس بن النضر يوم أحد لما انكشف المسلمون: »اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس بن مالك: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه (10).
ومن الذب عن سنته -صلى الله عليه وسلم-: حفظها وتنقيحها، وحمايتها من انتحال المبطلين وتحريف الغالين وتأويل الجاهلين، ورد شبهات الزنادقة والطاعنين في سنته، وبيان أكاذيبهم ودسائسهم، وقد دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنضارة لمن حمل هذا اللواء بقوله: »نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مُبلّغ أوعى من سامع« (11).
والتهاون في الذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو الذب عن سنته وشريعته، من الخذلان الذي يدل على ضعف الإيمان، أو زواله بالكلية، فمن ادعى الحب ولم تظهر عليه آثار الغيرة على حرمته وعرضه وسنته، فهو كاذب في دعواه.
ثالثاً تصديقه فيما أخبر:
من أصول الإيمان وركائزه الرئيسة، الإيمان بعصمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلامته من الكذب أو البهتان، وتصديقه في كل ما أخبر من أمر الماضي أو الحاضر أو المستقبل، قال الله تعالى: ((والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى))[ النجم: 14].(25/3)
والجفاء كل الجفاء، بل الكفر كل الكفر اتهامه وتكذيبه فيما أخبر، ولهذا ذم الله المشركين بقوله: ((وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين، أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين))[يونس: 37-39].
ومن لطائف هذا الباب التي تدل على منزلة الشيخين الجليلة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: »بينما راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة فطلبها حتى استنقذها، فالتفت إليه الذئب، فقال له: من لها يوم السبع ليس لها راع غيري؟ وبينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها، فالتفتت إليه فكلمته فقالت: إني لم أخلق لهذا، ولكني خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله! قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: »فإني أومن بذلك وأبو بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما« (12).
رابعاً اتباعه وطاعته والاهتداء بهديه:
الأصل في أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقواله أنها للاتباع والتأسي، قال الله تعالى: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراْ))[ الأحزاب: 21].
قال ابن كثير: »هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر الله تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل« (13).
وجاء أمر الله سبحانه وتعالى في وجوب طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)) [ الحشر: 7].(25/4)
وجعل الله عز وجل طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من طاعته سبحانه، فقال: ((من يطع الرسول فقد أطاع الله))[ النساء: 80].
وأمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول، فقال: ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)) [ النساء: 59].
وتواترت النصوص النبوية في الحث على اتباعه وطاعته، والاهتداء بهديه والاستنان بسنته، وتعظيم أمره ونهيه، ومن ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: »فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة« (14).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: »صلوا كما رأيتموني أصلي« (15).
وقال: »لتأخذوا عني مناسككم« (16).
فطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي المثال الحي الصادق لمحبته عليه الصلاة والسلام فكلما ازداد الحب، زادت الطاعات، ولهذا قال الله عز وجل: ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله))[ ال عمران: 31].
فالطاعة ثمرة المحبة، وفي هذا يقول أحد الشعراء:
تعصى الإله وأنت تزعم حبه *** ذاك لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته *** إن المحب لمن أحب مطيع
خامساً التحاكم إلى سنته وشريعته:
إن التحاكم إلى سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- أصل من أصول المحبة والاتباع، فلا إيمان لمن لم يحتكم إلى شريعته، ويسلم تسليماً، قال الله تعالى: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاْ مما قضيت ويسلموا تسليماْ))[النساء: 65].(25/5)
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن من علامات الزيغ والنفاق الإعراض عن سنته، وترك التحاكم إليها، قال الله تعالى: ((ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاْ بعيداْ، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداْ)) [ النساء: 60،61].
الغلو في محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
انحرف بعض الناس عن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحدثوا في دين الله عز وجل ما ليس منه، وغيروا وبدلوا، وغلوا في محبتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- غلواً أخرجهم عن جادة الصراط المستقيم، الذي قال الله عز وجل فيه: ((وأن هذا صراطي مستقيماْ فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله))[ الأنعام: 153].
وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حريصاً على حماية جناب التوحيد، فكان يحذر تحذيراً شديداً من الغلو والانحراف في حقه، ودلائل ذلك كثيرة جداً منها:
* عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: »لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله« (17).
* وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: »لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد إلا أني أنهاكم عن ذلك يحذر ما صنعوا« (18).
* وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ما شاء الله وشئت، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: »جعلتني لله عدلاً، بل قل ما شاء الله وحده« (19).(25/6)
* وعن أنس أن رجلاً قال: يا محمد، يا سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: »قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل« (20).
ونظائر هذه النصوص كثيرة جداً، وثمرتها كلها بيان أن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه لا تكون إلا بالهدي الذي ارتضاه وسنه لنا، ولهذا قال عليه أفضل الصلاة والسلام: »من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌ« (21).
حقيقة المولد النبوي:
ظهرت هذه الفكرة في عصر الدولة العبيدية الباطنية، إظهاراً منهم لدعوى محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم انتشرت في كثير من دول العالم الإسلامي، إلى يومنا هذا فأصبح اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول عيداً مشهوداً عند كثير من المبتدعة يجتمعون فيه لإنشاد المدائح النبوية والأوراد الصوفية، وإقامة الحفلات والرقصات، وقد يقترن بذلك بعض الشركيات من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- والاستغاثة به، وقد يحدث الاختلاط بين الرجال والنساء والاستماع إلى الملاهي.
إن تحويل الإسلام إلى طقوس وثنية من الأهازيج الشعرية والطبول والمزامير والتمايل والرقص، وبالتالي الانحراف به عن صفائه ونقائه، هو من قبيل جعله إلى العبث والخرافة أقرب منه إلى الدين الحق.
وحينما تكون هذه العقلية الساذجة المنحرفة حاكمة للعالم الإسلامي يكون رد الفعل الرئيس لدخول خيول نابليون إلى الأزهر الشريف هو اجتماع الشيوخ للتبرك بقراءة حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- من صحيح البخاري! وكلما ازدادت الدائرة على المسلمين ازدادت الدروشة، وتمايلت الرؤوس وبحت الأصوات بالأناشيد والأوراد والمدائح النبوية.(25/7)
إن الاحتفال بالمولد النبوي أصبح عند بعض الناس من العامة والخاصة الآية الرئيسة لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأذكر أنني كنت قبل سنوات في بلد إسلامي في أوائل شهر ربيع الأول، والناس منهمكون في التجهيز والإعداد لليوم الثاني عشر، تحدثت مع أحد كبار الأساتذة الجامعيين عن هذه البدعة، وبعد أن بح صوتي بذكر الأدلة والشواهد، قال لي: هذا صحيح، ولكن هذا سيدنا النبي!! عندها تذكرت قول غلاة الصوفية: »من أراد التحقيق فليترك العقل والشرع!« (22)، وصدق ابن تيمية حينما قال عن غلاتهم: »كلما كان الشيخ أحمق وأجهل، كان بالله أعرف، وعندهم أعظم«(23).
ومن المفارقات التي تدعو إلى التأمل، أن بعض الناس قد يعصى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلاً ونهاراً، ويتهاون في تعظيم أوامره، فضلاً عن الالتزام بسنته، ومع ذلك فهو يحتفي بيوم المولد، ويوالي فيه ويعادي، وكأن غاية الحب عنده هو إحياء هذا اليوم بالمدائح والأوراد، وبعد ذلك ليفعل ما يشاء...؟! يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: »من تتبع التاريخ يعلم أن أشد المؤمنين حباً واتباعاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- أقلهم غلواً فيه ولاسيما أصحابه رضي الله عنهم ومن يليهم من خير القرون، وأن أضعفهم إيماناً وأقلهم اتباعاً له هم أشد غلواً في القول وابتداعاً في العمل«.
وليس عجيباً أن يحظى هذا اليوم باحتفاء رسمي من الحكومات العلمانية وتسخر له كافة الإمكانات الرسمية، وتجري تغطية فعالياته من جميع وسائل الإعلام، لأنها تعلم يقيناً أن غاية هؤلاء الدراويش لا تتجاوز الأوراد والمدائح حتى إن النذور والقرابين التي ترمى على القبور والأضرحة والمزارات أصبحت مصدر دخل رئيس لوزارات الأوقاف والسياحة، ولهذا كان حافظ إبراهيم يقول متهكماً:
أحياؤنا لا يرزقون بدرهم وبألف ألف يرزق الأموات(25/8)
من لي بحظ النائمين بحفرة قامت على أحجارها الصلوات؟!(24)
إن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عقيدة راسخة في قلوب المؤمنين، ثمرتها الاقتداء والبذل والعطاء والتضحية والجهاد في سبيل نصرة دينه وإعلاء لوائه وحماية سنته، ولا يوجد بين محبي الرسول -صلى الله عليه وسلم- مكان للعجزة النائحين، وما أجمل قول أنس بن النضر رضي الله عنه لما مر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه«(25).
===========
هوامش:
(1)الشفا بتعريف أحوال المصطفى 2/18.
(2)أخرجه البخاري 1/58، ومسلم 1/67.
(3)أخرجه البخاري 1/58.
(4)أخرجه البخاري 11/523.
(5)الصارم المسلول على شاتم الرسول ص422.
(6)أخرجه البخاري 1/560.
(7)أخرجه البخاري تعليقاً مجزوماً به 8/532.
(8)أخرجه أحمد 201، والترمذي 5/551.
(9)أخرجه أحمد 2/254، والبخاري في الأدب المفرد ص 220، والترمذي 5/550.
(10)أخرجه البخاري 6/21 و 7/354.
(11)أخرجه أحمد 1/437، والترمذي 5/34، وابن ماجة 1/85.
(12)أخرجه البخاري في عدة مواضع منها: 6/152 و 7/18 و 42.
(13) تفسير القرآن العظيم 3/475.
(14)أخرجه أحمد 4/126،127، وأبو داود 5/13-15، والترمذي 5/44، وابن ماجة 1/16.
(15)أخرجه البخاري 2/111 و 10/438.
(16)أخرجه مسلم 2/943.
(17)أخرجه البخاري في عدة مواضع منها 6/478.
(18)أخرجه البخاري 8/140، ومسلم 1/377.
(19)أخرجه أحمد 1/214 و 283 و 347.
(20)أخرجه أحمد 3/153 و 241.
(21)أخرجه مسلم 3/1344.
(22) مجموع الفتاوى 11/243.
(23) مجموع الفتاوى 2/174.
(24)الديوان، ج1، ص 318.
(25)أخرجه البخاري 6/21 و 7/355 ومسلم 3/1512.
* من تعليقاته على كتاب »صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان« للسهسواني.(25/9)
رحماء بينهم
التراحم بين آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وبين بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
صالح بن عبد الله الدرويش
القاضي بالمحكمة الكبرى بالقطيف
ص .ب 31911
البريد الإلكتروني :
Sale7_d@hotmail .com
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلا هادي له
أما بعد ...
فإن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - سيد ولد آدم ، وهذه حقيقة شرعية يتفق عليها أهل الإسلام جميعا ، وهذا الاتفاق نعمة كبرى على هذه الأمة ولله الحمد والمنة .
ولا عبرة لمن شذ من الأمة في تفضيل بعض الأئمة على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في العلم أو غيره (1) ، فهذه الروايات المدونة في الكتب تجد من يؤولها أو يضعفها ..
إن وضوح منزلة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومكانته وأنه صاحب الشفاعة الكبرى والحوض المورود ، وصاحب المنزلة الرفيعة في الدنيا والآخرة ، وهذه الحقائق لا ينكرها أحد ..
لقد انتقلت بركات رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى أقاربه آل البيت وأصحابه رضي الله عن الجميع .
نعم منزلة آل البيت كبيرة ، وقد جاءت آيات كثيرة وأحاديث متواترة في بيان ذلك ، وهي تشمل من صحب منهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وتشمل ذرياتهم وفيها بيان فضلهم ومنزلتهم .
وكذلك كل ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم فإن آل البيت –عليهم السلام -الذين فازوا بصحبة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم - هم أول من يشمله ذلك ...
__________
(1) بوب المجلسي في بحار الأنوار بابا سماه : "باب أن الأئمة أعلم من الأنبياء" ج2 ص82 ، وانظر أصول الكافي ج1 ص 227 .(26/1)
وقد سبق في الرسالة الأولى الحديث عن صحبة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وفي هذه الوريقات سوف أتحدث عن الرحمة بين هؤلاء الأصحاب - رضي الله عنهم أجمعين - وينبغي علينا عدم السآمة من الحديث عن صُّحبة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم - وفضلها ؛ والتلازم بين صاحب البركات الذي بمجرد الإيمان به وصُحبته فاز الأصحاب بلقب "صحابي" واختلفت منازلهم ودرجاتهم في جنات النعيم بأعمالهم وجهادهم مع سيد المرسلين ، وكذلك منازلهُم في الدنيا من المهاجرين والأنصار ومن جاء بعدهم وكلاً وعد الله الحُسنى قال الله تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وَكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير } [الحديد 10] .
نعم ، الجميع لهم فضلهم ومنزلتهم ، وعلينا إدراك عِظم الصُّحبة ، وأنها منزلة قائمة بذاتها . ومنازلهم بحسب أعمالهم فهم طبقات : السابقون الأولون لهم أعلى المنازل ، ومن جمع الله له بين الصحبة والقربى –وهم آله الأطهار فسلام عليهم ورضي الله عنهم أجمعين- فلهم منزلة الصحبة وحق القربى ، ومنازلهُم بحسب أعمالهم .
أيها القارئ الكريم :
إن البحث عن أسباب الافتراق في الأمة وعلاجها مطلبٌ شرعي ، وحديثي عن قضية كُبرى ، ولها آثارها التي عصفت بالأمة ، وسوف أختصر الكلام عن الرحمة بين أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم– من آل البيت – عليهم السلام – وسائر الناس ، فمع ما جرى بينهم من حروب إلا أنهم رحماء بينهم ، وهذه حقيقة وإن تجاهلها القصاصون ، وسكت عنها رواة الأخبار ، فستبقى تلك الحقيقة ناصعة بيضاء تردّ على أكثر أصحاب الأخبار أساطيرهم وخيالاتهم ، التي استغلها أصحاب الأهواء والأطماع السياسية ، والأعداءُ لتحقيق مصالحهم وتأصيل الافتراق والاختلاف في هذه الأمة .
نداء :(26/2)
إلى الباحثين والكَتَبة عن تاريخ الأمةُ بل إلى الداعين إلى وحدة الكلمة وتوحيد الصف .
إلى الذين يتحدثون عن خطورة العولمة وآثارها ووجوب توحيد الصف لمواجهة آثارها .
بل إلى كل غيور على هذه الأمة ، أقول : لماذا نثير قضايا ومسائل تاريخية لها آثارها السلبية وتؤصل العداوة من غير بحث ونظر ؟؟ لأجل جماهير العوام ، أو لأجل تقليد أعمى أو كسب مادي !!
إنك تعجب من كثير من الكتاب والباحثين الذين يقضون أوقاتاً ويبذلون جهوداً كبيرة في مسائل تاريخية أو فكرية هي مبنية على روايات ضعيفة واهية أو أهواءٍ ونحو ذلك ، بل منهم من يعتقد أنه يحسن صنعاً وأنه وصل إلى حقائق علمية !!! وما وصلوا إليه فيه تفريق للأمة ، وإذا سألتهم عن ثمار عملهم وجهدهم لا تجد جواباً !! وأحسنهم حالاً من يقول لك لأجل العلم وكفى !!! وأين هنا الأساس العلمي الذي اعتمد عليه ؟؟ .
سبق في رسالة الصحبة بيان التلازم بين رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه الكرام ، وأن من مهام الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - تزكية الذين آمنوا به وهم الأميون الذين أكرمهم الله بالإيمان بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وصُحبته ، وقال الله تعالى : { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } . [الجمعة 4]
فهؤلاء هم الذين قام رسول الرحمة والهدى بتربيتهم ( تزكيتهم ) وتعليمهم .
سبق الحديث عن التلازم بين الرسول القائد – صلى الله عليه وآله وسلم – وبين جنده .
والرسول القدوة – صلى الله عليه وآله وسلم - والذين أخذوا عنه .
والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - الجار والذين جاوروه وعاشوا معه .
والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - الإمام الذي كانوا تحت سلطانه هم رعيته وهم أصحابه .(26/3)
سبق الحديث عن التلازم في الرسالة الأولى وإن شئت فقل في الفصل الأول(1) .
أيها القارئ الكريم : لا شك ولا ريب لديك بأن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قام خير قيام بما أمره الله سبحانه وتعالى من إبلاغ الرسالة ، وتزكية أصحابه وتعليمهم وغير ذلك ، ومن ثمار هذه التزكية تلك الخصال الحميدة التي أصبحت سجّية للصحابة - رضي الله عنهم - .
ويكفي أنهم خير أمة أخرجت للناس ، قال الله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس }[آل عمران 110]
وتأمل قوله سبحانه : { أخرجت } ، مَن الذي أخرجهم وجعل لهم هذه المنزلة ؟ وهذا مثل قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً }[البقرة148]
والآيات التي أنزلها الله تعالى في وصفهم والثناء عليهم وذِكْرهم كثيرة جداً ، سبق الحديث عن بعض مواقفهم وما نزل فيها من آيات فلا داعي للتكرار .
من صفات أصحاب الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -
أيها القارئ الكريم :
تذكر أن هؤلاء جيلٌ فريد حصلت لهم مزايا لا يمكن أن تحصل لغيرهم ، فقد فازوا بشرف الصُحبة نعم صحبة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - .
وهو الذي ربّاهم وعلّمهم وأدبهم ، وبهم جاهد الكفار ، وهم الذين نصروه .
ونقف مع صفة واحدة من صفاتهم ينبغي أن تدرس وتشرح . ويسود ذكرها . وتصبح معلومة لدى المسلمين على اختلاف فرقهم وطوائفهم !
أتدري ما هي تلك الصفة ؟؟
إنها الرحمة .
والسؤال : لماذا الحديث عن تلك الصفة ؟
هل فكرت معي أيها المطالع الكريم عن سر هذه الصفة العزيزة ؟ إنك ستجد ولا شك أسباباً كثيرة للحديث عنها ، ولكني أذكر لك هاهنا عدة أسباب بُغية الاختصار لهذه الرسالة .
__________
(1) 1 ) الرسالة الأولى بعنوان : ( صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )(26/4)
أما السبب الأول : فهو لذات الصفة وما فيها من معاني ، وما ورد فيها من آيات وأحاديث وآثار عن سيد الأبرار صلوات الله عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ، فرّبنا سبحانه وتعالى هو الرحمن الرحيم .
وقال سبحانه في وصف الحبيب - صلى الله عليه وآله وسلم - { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } [التوبة 128] وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : " من لا يَرحم لا يُرحم " متفق عليه .
والحديث عن ذات الصفة يطول . والنصوص الواردة فيها كثيرة لا تخفى عليك .
السبب الثاني : أن الله سبحانه وتعالى اختار هذه الصفة في الثناء على أصحاب رسول الله - صلى الله عيه وآله وسلم - وفي اختيار هذه الصفة دون غيرها حِكمٌ وفوائد بالغة الأهمية ، ومن الإعجاز العلمي وصفهم بتلك الصفة .
ومن تأمل فيها ظهر الإعجاز ، ذلك أن النص جاء في تخصيص ذكر صفة الرحمة الموجودة فيما بينهم ، لماذا ذكر الله تلك الصفة دون غيرها ؟؟
لأن فيها الرد على الطعون التي لم تكن قد ظهرت وسُطرت في الكتب ، وأصبحت فيما بعد أحاديث القصاصين ومَن جاء بعدهم والله أعلم .
قال الله تعالى { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فظلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود } [الفتح 29]
السبب الثالث : أن تقرير هذه الحقيقة أعني أن أصحابه رحماء بينهم ، وأن صفة الرحمة متأصلة في قلوبهم هذه الحقيقة ترد الروايات والأوهام والأساطير التي صَوَّرت أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم - أنهم وحوش فيما بينهم ، وأن العداوة بينهم هي السائدة !!(26/5)
نعم ، إذا تأصل لديك أن الصحابة رحماء بينهم ، واستقر ذلك في سويداء قلبك اطمأن القلب ، وخرج ما فيه من غلِّ للذين أمر الله تعالى بالدعاء لهم ، قال الله تعالى : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } [الحشر 10] .
السبب الرابع : من الأصول المعتمدة لدى الباحثين الاهتمام بالمتن مع السند ، والبحث في متون الروايات بعد ثبوت أسانيدها وعرض الروايات على نصوص القرآن والأصول الكُلية في الإسلام ، وكذلك الجمعُ بين الروايات هذا منهج الراسخين في العلم .
ولا بد من اعتماد هذا المنهج في دراسة الروايات التاريخية ، ولكن للأسف الشديد قد أهمل الباحثون دراسة الأسانيد واكتفوا بوجود الروايات في بطون كتب التاريخ والأدب !! والذين اهتموا بالأسانيد منهم من غَفَل عن النظر في المتون ومعارضتها للقرآن .
أيها القارئ الكريم :
قبل أن تحكم ، وتتعجل في توزيع الاتهامات بل والأحكام معتمداً على رصيدك التاريخي والمعلومات الأسرية بل والشحن العاطفي .
تمهل وطالع الأدلة التي ذكرتها هنا وهي غير مألوفة مع وضوحها ، وقربها ، وقوة معانيها ، ودلالاتها فهي تستند إلى الواقع المحسوس وكذلك قوة النص القرآني آخر آية في سورة الفتح : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع يغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيماً }[الفتح 29] .
وقال تعالى { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } [الحشر 10] .(26/6)
اتل الآية ، وتأمل في معانيها يا رعاك الله .
المبحث الأول :
دلالة التسمية
الاسمُ له إشارة على المسمى ، وهو عنوانه الذي يُميزه عن غيره ، وجرت عادة الناس على العمل به . ولا يشك عاقل في أهمية الاسمُ إذ به يعرف المولود ويتميز عن إخوانه وغيرِهم ، ويصبح علماً عليه وعلى أولاده من بعده ، ويفنى الإنسان ويبقى اسمه
والاسم مشتق من السمو ، بمعنى العلو ، أو من الوَسْم ، وهو العلامة .
وكلها تدل على أهمية الاسم للمولود .
وأهمية الاسم للولد لا تخفى ، منها الدلالة على دينه وعقله فهل سمعت بأن النصارى أو اليهود تسمي أولادها بمحمد – صلى الله عليه وآله وسلم - ؟؟؟
أو يسمي المسلمون أولادهم باللات والعزى إلا من شذ ؟ .
ويرتبط الابن بأبيه من خلال الاسم وينادي الأب والأهلُ وَلَدَهُم باسمه الذي اختاروه ، فيكثر استعمال الاسم بين أفراد الأسرة وقديماً قيل : ( من اسمك أَعرفُ أباك )(1).
أهمية الاسم في الإسلام
ويكفي لمعرفة أهمية الاسم اهتمام الشريعة بالأسماء فقد غيّر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أسماء بعض الصحابة من الرجال والنساء ، بل غيّر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - اسم مدينته التي كانت تسمى يثرب إلى المدينة ونهى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- عن التسمية بملك الأملاك ونحوه ، قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : " إن أخنع اسمٍ عند الله رجلٌ تسمى ملك الأملاك " وأرشد الحبيب –صلى الله عليه وآله وسلم- إلى التسمية باسم عبد الله وعبد الرحمن ونحوهما الذي فيه إشعار المسمى بعبوديته لله عز وجل ، وكذلك تعبيد المرء لله عز وجل .
__________
(1) 1 ) انظر تسمية المولود للعلامة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد .(26/7)
قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – " أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن " ورسولنا – صلى الله عليه وآله وسلم - يعجبه الاسم الحسن ، ويتفاءل به ، وهذا معروف من هديه عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام .
ومن المقرر لدى علماء الأصول واللغة أن الأسماء لها دلالات ومعانٍ ، وبحث تلك المسألة في كتب اللغة وأصول الفقه ، وأطال العلماء رحمهم الله في بحث المسألة وما يتعلق بها ويتفرع عنها من مسائل كثيرة .
هل يعقل .. ؟
أيها القارئ الكريم : لا تعجل ولا تستغرب ، وَاصِل معيَ القراءة وإجابات الأسئلة :
بماذا تسمي ولدك ؟؟
هل تختار لولدك اسماً له معنى محبب عندك أو عند أمه أو أهله ؟
هل تسمي ولدك بأسماء أعدائك ؟
يا سبحان الله !!
نختار لأنفسنا أسماء لها دلالة ومعنى لدينا ، والذين هم من خير الناس نرفض ذلك في حقِّهم ونقول : لا ؟! هم اختاروا أسماء أولادهم لأسباب سياسية ، واجتماعية على غير ما اعتاده الناس !! اختيار الأسماء عندهم لا دلالة له !!
عقلاء الأمة ، وسادتها وأصحاب العزة في أنسابهم وأنفسهم يُحرمون من أبسط المعاني الإنسانية ، فلا يسمح لهم أن يسموا أولادهم بأسماء أحبابهم ، وإخوانهم اعترافاً بفضلهم ومحبتهم بل يسمون بعض أولادهم – بأسماء أعدائهم !! هل تصدق ذلك ؟؟
وللعلم فليست التسمية عابرة لفرد ، بل مجموعة أولاد وليست بعد نسيان العداوة بعد قرون لا بل جاءت التسمية في وقت ذروة العداوة - هكذا زعموا - ونحن نقول بل في وقت ذروة المحبة .. وهذه مسألة هامة لا بد من دراستها والاهتمام بها ، لأن فيها دلالات كبيرة جداً وفيها الرد على الأساطير والأوهام ، والقصص الخيالية ، وفيها مخاطبة للنفس والعاطفة وفيها إقناع للعقلاء . ولا يمكن ردها ولا تأويلها .
وبعد ذلك إليك المقصود :
1-3 سيدنا علي – عليه السلام - من فرط محبته للخلفاء الثلاثة قبله سمى بعض أولاده بأسمائهم وهم :(26/8)
_ أبو بكر بن علي بن أبي طالب : شهيد كربلاء مع أخيه الحسين عليهم وعلى جدهم أفضل الصلاة والسلام .
_ عمر بن علي بن أبي طالب : شهيد كربلاء مع أخيه الحسين عليهم وعلى جدهم أفضل الصلاة والسلام .
_ عثمان بن علي بن أبي طالب : شهيد كربلاء مع أخيه الحسين عليهم وعلى جدهم أفضل الصلاة والسلام .
4-6 سمى الحسن - عليه السلام - أولاده بأبي بكر بن الحسن ، وبعمر بن الحسن ، وطلحة بن الحسن ، وكلهم شهدوا كربلاء مع عمهم الحسين- عليه السلام- .
7 - والحسين عليه السلام سمى ولده عمر بن الحسين .
8- 9 سيد التابعين علي بن الحسين زين العابدين الإمام الرابع - عليه السلام - سمى ابنته عائشة ، وسمى عمر وله ذرية من بعده (1) .
وكذلك غيرهم من آل البيت من ذرية العباس بن عبد المطلب ، وذرية جعفر بن أبي طالب ، ومسلم بن عقيل ، وغيرهم ، وليس هنا محل استقصاء الأسماء ، بل المراد ذِكر ما يدل على المقصود ، وقد سبق ذكر أولاد علي والحسن والحسين - عليهم السلام - .
المناقشة
من الشيعة من ينكر : أن علياً وأولاده – عليهم السلام – سموا أولادهم بهذه الأسماء ، وهذا صنيع من لا عِلم له بالأنساب والأسماء ، وصلته بالكتب محدودة . وهم قلة ولله الحمد .
وقد رد عليهم كبار أئمة وعلماء الشيعة لأن الأدلة على وجود هذه الأسماء قطعية من الواقع ، ومن وجود ذرياتهم ، ومن خلال كتب الشيعة المعتمدة حتى الروايات في مأساة كربلاء ، حيث استشهد مع الإمام الحسين أبو بكر بن علي بن أبي طالب ، وكذلك أبو بكر بن الحسن بن علي عليهم السلام . ومن سبق ذكرهم .
__________
(1) 1 ) انظر كشف الغمة 2/334 الفصول المهمة 283وكذلك سائر الأئمة الاثني عشر تجد هذه الأسماء في ذريتهم وقد تحدث علماء الشيعة عن ذلك وذكروا الأسماء يوم الطف من 17 إلى 185 . انظر على سبيل المثال : ( أعلام الورى للطبرسي 203 والإرشاد للمفيد 186 وتاريخ اليعقوبي 2/213)(26/9)
نعم هؤلاء شهداء مع الحسين ، وقد ذكر ذلك الشيعة في كتبهم ، ولا تقل أنك لا تسمع هذه الأسماء في الحسينيات ، وفي المأتم أيام عاشوراء ، فعدم ذكرهم لا يعني عدم وجودهم . وكان عمر بن علي بن أبي طالب وعمر بن الحسن من الفرسان المشهود لهم بالبلاء في هذا اليوم .
المهم أن مسألة ( تسمية الأئمة عليهم السلام أولادهم بأبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وغيرهم من كبار الصحابة ) هذه المسألة لا نجد لها جواباً شافياً مقنعاً عند الشيعة فلا يمكن أن نجعل الأسماء لا دلالة لها ولا معنى ، ولا يمكن أن نجعل المسألة ( دسيسة ) قام بها أهل السنة في كتب الشيعة ! لأن معنى ذلك الطعن في جميع الروايات في كل الكتب ، فكل رواية لا تُعجب الشيعة يمكن أن يقولوا ( هي دسيسة وكذب ) بل يطّرد القول في كل رواية لا توافق هوى ذاك العالم فيردَّها بكل بساطة ويقول : ( هي دسيسة ) !! لا سيما أن لكل عالم الحق في قبول الروايات أو ردها فلا ضابط لذلك عندهم ومن الطرائف المضحكة المبكية أنه قيل بأن التسمية بأسماء كبار الصحابة الذين تقدم ذكرهم لأجل سبّهم وشتمهم !!! وقيل بأن التسمية لأجل كَسْب قلوب العامة فالإمام سمى أولاده لكي يشعر الناس بمحبته للخلفاء ورضاه عنهم !!! ( أي تقية ) .
يا سبحان الله هل يجوز لنا أن نقول بأن الإمام يفعل أعمالاً يغرر أصحابه وعامة الناس بها . ؟؟
وكيف يقوم الإمام بالإضرار بذريته لأجل هذا ؟؟
ومن هم الذين يداريهم الإمام بهذه الأسماء ؟ تأبى شجاعته وعزته – عليه السلام – أن يهين نفسه وأولاده لأجل بني تيم أو بني عدي أو بني أمية . والدارس لسيرة الإمام يدرك حق اليقين بأن الإمام من أشجع الناس بخلاف الروايات المكذوبة التي تجعل منه جباناً لا يثأر لدينه ولا لعرضه ولا لكرامته ، وما أكثرها للأسف الشديد .
النتيجة :(26/10)
إن ما قام به الأئمة : علي وبنوه - عليهم السلام - من أقوى الأدلة العقلية والنفسية والواقعية على صدق محبة آل البيت للخلفاء الراشدين وسائر أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأنت بنفسك تعيش هذا الواقع فلا مجال لرده وهذا الواقع مصدّق لقوله تعالى : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فظلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود }[الفتح 29]
أيها القارئ الكريم غير مأمور أعد تلاوة الآية وتدبر في معانيها ، وتأمل في صفة الرحمة .
المبحث الثاني :
المصاهرة
أيها القارئ الكريم : فلذة كبدك ، ابنتك ثمرة الفؤاد ، تجعلها عند من ؟ هل ترضى أن تجعلها عند فاجر مجرم بل قاتل أمها أو أخيها ؟ ماذا تعني لك كلمة صهري ، نسيبي ؟
المصاهرة لغةً : صاهر مصدر ، يقال : صاهرت القوم إذا تزوجت منهم ، قال الأزهري الصهر يشتمل على قرابات النساء ذوي المحارم وذوات المحارم كالأبوين والأخوة ...الخ ومن كان من قبل الزوج من ذوي قرابته المحارم فهم أصهار المرأة أيضاً .
فصهر الرجل قرابة امرأته ، وصهر المرأة قرابة زوجها .
الخلاصة أن المصاهرة في اللغة : قرابة المرأة وقد تطلق على قرابة الرجل ، وجعل الله سبحانه وتعالى ذلك من آياته ، قال الله تعالى : { وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديرا } [الفرقان 54] .
تأمل في الآية وكيف أن ذلك الإنسان بشراً جعله الله يرتبط بغيره بالنسب والمصاهرة ، فالمصاهرة رباط شرعي جعله الله قرين النسب ، والنسب هم قرابة الأب ، ومن العلماء من يرى أن النسب مطلقُ القرابة .
تذكر أن الله قرن بين النسب والصهر وهذا له دلالات عظيمة فلا تغفل عنها .
المصاهرة تاريخياً :(26/11)
لها لدى العرب منزلة خاصة ، فهم يرون التفاخر بالأنساب ، ومنه التفاخر بأزواج بناتهم ومنزلتهم . والعرب لا يزوّجون من يرونه أقل منزلة منهم ، وهذا المشهور عنهم ، بل يوجد ذلك لدى طوائف كثيرة من العجم ويعتبر التميز العنصري اليوم أشد المشاكل الاجتماعية لدى الغرب .
والعرب تغار على نسائها مما قاد بعضهم إلى وأد بناته الصغيرات خوفاً من العار ، وكانت تراق الدماء وتنشب الحروب لأجل ذلك . وهذه إشارة تغني عن طول العبارة . ولا تزال آثارها إلى اليوم باقية كما لا يخفى عليك أيها القارئ .
المصاهرة في الإسلام .
وجاء الإسلام فقرر معالي الأمور والصفات الحميدة ونهى عن القبيح ، وبيّن الله سبحانه وتعالى أن العبرة بالتقوى قال الله تعالى :{ إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [الحجرات 12] وهذا في الميزان الشرعي .
وتجد الفقهاء رحمهم الله قد بحثوا موضوع الكفاءة في الدين والنسب والحرفة وما يتعلق بها في مباحث مطولة وهل تعتبر الكفاءة شرطاً لصحة العقد أو لزومه ؟ ، وهل هي حق للزوجة أو يشاركها الأولياء ؟ ، وغير ذلك من المباحث في كلامهم عن النكاح .
أما في مسألة صيانة العِرض والغيرة على النساء فإن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جعل المقتول دون عرضه شهيدا ، وقاد الحرب بنفسه - عليه السلام - لأجل المرأة التي عبث اليهود بسترها والقصة مشهورة في نقض بني قينقاع العهد بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وخلاصتها أن يهودياً طلب من فتاة تشتري منه ذهباً أن تكشف عن وجهها فرفضت ، فقام بعقد طرف ثوبها وهي جالسة لا تشعر فلما قامت انكشفت ، فصرخت تطلب الغوث ، وكان بالقرب منها شاب مسلم فقام إلى اليهودي فقتله واجتمع اليهود عليه فقتلوه ، مع أسباب أخرى ظهرت منهم دلت على نقضهم العهد .(26/12)
أيها القارئ الكريم : تأمل في بعض الأحكام الشرعية مثل اشتراط الولي في عقد النكاح والإشهاد عليه ، بل وحد القذف ، وحد الزنا ، وغيرها من الأحكام التي فيها حفظ العِرض .
ومن خلال التفكير في تلك الأحكام وما فيها من حِكم وآثار ، وما فيها من تشريعات بديعة يظهر لك أهمية هذا الموضوع .
والمصاهرة تترتب عليها الأحكام الكثيرة ، وتأمل في تشريع عقد النكاح ( الميثاق الغليظ ) يقوم الرجل بالخطبة ولها أحكامها .
فقد يُقبل أو يرد ، ويستعين الخاطب بأهله وأصحابه لأجل الحصول على الموافقة ، ويسأل الأهل وأولياء المرأة عن الخاطب ، ولهم الحق في قبوله أو رده حتى ولو دفع هدايا أو عَجَّل بدفع المهر ونحو ذلك فلهم رد الخاطب مادام العقد لم يتم .
والعقد لا بد فيه من شهود ، وإشهار النكاح مطلب شرعي ، لماذا ؟؟؟ لما يترتب على النكاح من أحكام فهو يقرب البعيد ويجعلهم أصهاراً . ويحرم على الزوج نساءٌ بسبب النكاح على التأييد ، أو مادامت الزوجة بذمته ، ولا يسمح منهج هذه الرسالة بإطالة البحث ، والمقصود التذكير بأهمية الموضوع لأجل ما بعده فتأمل في الآتي :-
أخت الحسن والحسين زوّجها أبوها علي - عليهم السلام أجمعين - لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فهل نقول بأن علياً - عليه السلام - زوج ابنته خوفاً من عمر ؟! أين شجاعته ؟ وأين حبه لابنته ؟؟ أيضع ابنته عند ظالم ؟؟ أين غيرته على دين الله ؟ أسئلة كثيرة لا تنتهي ، أم تقول بأن علياً - عليه السلام - زوّج ابنته لعمر رغبة بعمر وقناعة به ، نعم ، تزوج عمر ببنت رسول - صلى الله عليه وآله وسلم - زواجاً شرعياً صحيحاً لا تشوبه شائبة(1) ويدل هذا الزواج على ما بين الأسرتين من تواصل ومحبة كيف لا وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - زوجاً لبنت عمر فالمصاهرة قائمة بين الأسرتين قبل زواج عمر بأم كلثوم .
__________
(1) 1 ) وسوف أذكر لك نقولات عن علماء الشيعة تؤكد هذا الزواج وترد على كل المطاعن .(26/13)
المثال الثاني : يكفي قول الإمام جعفر الصادق – عليه السلام - : " ولدني أبو بكر مرتين " هل تعرف من هي أم جعفر ؟ إنها فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر (1) .
أيها اللبيب : لماذا قال جعفر –عليه السلام– أبو بكر ولم يقل محمد بن أبي بكر ؟؟؟ نعم صرح باسم أبي بكر لأن بعض الشيعة ينكر فضله ، وأما ابنه محمد فالشيعة متفقون على فضله ، فبالله عليك بمن يفتخر الإنسان ؟! .
أيها القارئ الكريم : التداخل بين أنساب الصحابة من المهاجرين والأنصار يعرفه كل من له اطلاع على أنسابهم ، حتى الموالي منهم ، نعم . حتى الموالي تزوجوا من سادات قريش وأشرافهم فهذا زيد بن حارثة -رضي الله عنه– هو الصحابي الوحيد الذي جاء ذكر اسمه في القرآن في سورة الأحزاب من هي زوجته ؟ إنها أم المؤمنين زينب بنت جحش .
وهذا أسامة بن زيد زوجه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بفاطمة بنت قيس وهي قرشية(2) . وهذا سالم مولى ، زوّجه أبو حذيفة - رضي الله عنهم - ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة ووالدها سيد من سادات قريش (3) .
والحديث عن المصاهرة بين الصحابة يطول جداً ، واكتفي بذكر أمثلة يسيرة في التزاوج بين آل البيت والخلفاء الراشدين .
هل تعلم بأن سيدنا عمر - رضي الله عنه - تزوج بنت فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عليها وعلى أبيها أفضل الصلاة والسلام .
[أ م] جعفر الصادق – عليه السلام – سبق ذكرها ، ومن هي جدته الكبرى ؟ كلتاهما حفيدة لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - .
__________
(1) 1 ) وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر انظر عمدة الطالبين ص195 ط طهران ، والكافي ج ا ص 472
(2) 2 ) مسلم عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها .
(3) 3 ) البخاري عن عائشة رضي الله عنها .(26/14)
أيها القارئ الكريم : دع عنك وسوسة الشياطين ، عليك بالتفكير الجاد والعميق ، فأنت مسلم و منزلة العقل لا تخفى عليك ، والآيات التي فيها الحث والأمر بالتدبر والتفكر كثيرة وليس هنا محل بسطها .
لذا علينا أن نفكر بعقولنا ، ونترك التقليد والحذر أن يعبث العابثون بعقولنا نعوذ بالله السميع العليم من شياطين الإنس والجن .
أيها القارئ الحبيب : هل ترضى أن يُسب أبوك وأجدادك وأن يقال بأن سيدة نسائك تزوجت بالقوة بالرغم عن أنوف عشيرتك كلهم ؟
هل ترضى أن يقال بأن ذلك فَرج غصبناه ؟؟ الأسئلة لا تنتهي ، أي عقل يرضى بهذا الهراء وأي قلب يقبل هذه الرواية ! فنسأل الله أن لا يجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا اللهم ارزقنا محبة الصالحين من عبادك أجمعين ، اللهم آمين يا رب العالمين .
وقبل المبحث الثالث : إليك بعض النصوص من كتب الشيعة المعتمدة لديهم ومن علمائهم المعتبرين التي فيها إثبات زواج عمر من أم كلثوم بنت علي رضي الله عن الجميع .
قال الإمام صفي الدين محمد بن تاج الدين - المعروف بابن الطقطقي الحسني ت 709هـ نسابة ومؤرخ وإمام- في كتابه الذي أهداه إلى أصيل الدين حسن بن نصير الدين الطوسي صاحب هولاكو وسمي الكتاب باسمه - قال في ذكر بنات أمير المؤمنين علي - عليه السلام - " وأم كلثوم أمها فاطمة بنت رسول الله تزوجها عمر بن الخطاب فولدت له زيداً ثم خلف عليها عبد الله بن جعفر " ص58 وانظر كلام المحقق السيد مهدي الرجائي فقد نقل نقولات ومنها تحقيق العلامة أبو الحسن العمري نسبة إلى عمر بن علي بن الحسين في كتابه المجدي قال :والمعول عليه من هذه الروايات ما رأيناه آنفا من أن العباس بن عبد المطلب زوجها عمر برضى أبيها - عليه السلام - وإذنه ، وأولدها عمر زيد ا .هـ .
وذكر المحقق أقوالا كثيرة منها أن التي تزوجها عمر شيطانة أو أنه لم يدخل بها أو أنه تزوجها بالقوة والغصب .....الخ(26/15)
وقال العلامة المجلسي " ... وكذا إنكار المفيدِ أصلَ الواقعة ؛ إنما هو لبيان أنه لم يثبت ذلك من طرقهم وإلا فبعد ورود تلك الأخبار وما سيأتي بأسانيد أن علياً - عليه السلام – لما توفي عمر أتى أم كلثوم فانطلق بها إلى بيته وغير ذلك مما أوردته في كتاب بحار الأنوار ، إنكار عجيب والأصل في الجواب هو أن ذلك وقع على سبيل التقية والاضطرار … " الخ (ج2ص45 من مرآة العقول)
قلت : قد ذكر صاحب الكافي في كافيه عدة أحاديث منها ( باب المتوفى عنها زوجها المدخول بها أين تعتد وما يجب عليها : حميد بن زياد عن ابن سماعة عن محمد بن زياد عن عبد الله بن سنان ومعاوية بن عمار عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : سألته عن المرأة المتوفى عنها زوجها أتعتد في بيتها أو حيث شاءت ؟ قال : بل حيث شاءت ، إن عليا - عليه السلام - لما توفي عمر أتى أم كلثوم فانطلق بها إلى بيته ) انظر الفروع من الكافي ج6 ص 115 .
أيها القارئ الكريم ..لقد خاطبت بعض علماء الشيعة المعاصرين عن الزواج ، ومن أجمل الردود ما سطره قاضي محكمة الأوقاف والمواريث الشيخ عبد الحميد الخطي قال ما نصه : " وأما تزويج الإمام علي - عليه السلام -فارس الإسلام ابنته أم كلثوم فلا نشاز فيه ، وله برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أسوة حسنة ، ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أسوة حسنة لكل واحد من المسلمين ، وقد تزوج رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أم حبيبة رضي الله عنها بنت أبي سفيان ، وما كان أبو سفيان بمنزلة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وما يشار حول الزواج من غبار فلا مبرر له على الإطلاق .
وأما قولكم .. إن شيطانه تتشكل للخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لتقوم مقام أم كلثوم ، فهذا قول مضحك مبكٍ ، لا يستحق أن يعنى به ولا يقام له .
ولو تتبعنا مثل هذه الخرافات التي تنسج ، لَرَأَينا منها الشيء الكثير الذي يضحك ويبكي " ا .هـ(26/16)
ولم يتعرض الشيخ لقضية البحث وهي دلالة المصاهرة في الترابط الأسري وأنها لا تكون إلا عن قناعة وفيها دلالة على المحبة والأخوة والتآلف بين الأصهار .
ولا يخفى عليك أيها القارئ الكريم بأن الفرق في غاية الوضوح بين زواج المسلم من كتابية فهذا جائز ، وزواج الكتابي من مسلمة لا يجوز .. فتأمل ذلك .
الخلاصة :
إن المصاهرة بين أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم - في غاية الوضوح ، ولا سيما بين ذرية الإمام علي - عليه السلام - وذرية الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - ، وكذلك المصاهرة مشهورة بين بني أمية وبين بني هاشم قبل الإسلام وبعده وأشهرها زواج الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم - من بنت أبي سفيان - رضي الله عنهم أجمعين – ( انظر الملاحق آخر الكتاب ) .
والمقصود هنا الإشارة إلى شيء من الآثار النفسية والاجتماعية الناجمة من المصاهرة والتي من أعظمها المحبة بين الصهرين ، وإلا فإن الآثار كثيرة ، ولعل فيما سبق كفاية وغنية عما لم يُذكر ، وبالله التوفيق .
المبحث الثالث :
دلالة الثناء
أيها القارئ الكريم :
هل عشت في غربة مع رفقةٍ من أهلك وعشيرتك بل من قريتك ؟ كيف عشتم سنوات الغربة ؟؟
هل عشت في ثكنة عسكرية مع هؤلاء أو مع أحبابك ؟؟
أيها القارئ الكريم : هل عشت في فقر ، واضطهاد مع أصحابك الذين اجتمعت معهم برباط عقائدي يجمع بين العقل والعاطفة ؟ ما رأيك فيمن عاش هذه المواقف كلها ؟ وكانوا كلهم رفقة أصحاباً في السراء والضراء ، بل معهم خير البشر محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ؟ أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا سيما السابقين عاشوا تلك المواقف ، نعم حياتهم الاجتماعية مختلفة لها طابعها الخاص يعرفها كل من درس السيرة ، أو كان له اهتمام بسيط بحياة الحبيب – صلى الله عليه وآله وسلم - .(26/17)
أيها القارئ الكريم : لعلك وأنت تقرأُ هذه الأسطر تنتقل معي إلى أعماق التاريخ ، لمّا كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في مكة في دار الأرقم والدعوة سرية ، ثم لمّا ظهر الإسلام هناك ، ثم لما هاجر أصحابه الكرام إلى الحبشة بلاد الغربة وبعدها إلى المدينة ، وتركوا الأهل والأموال والوطن ، تأمل حالهم في الأسفار البعيدة الشاقة وهم على الإبل وسيراً على الأقدام ، عاشوا جميعاً الخوف والحصار في المدينة في غزوة الخندق ، وقطعوا البيداء والقفار في غزوة تبوك ، عاشوا مرحلة الانتصارات في بدر ، والخندق ، وخيبر ، و حنين وقبلها مكة وغيرها .
تأمل في الآثار النفسية : نعم كيف تكون المودة والصحبة بينهم ولا يغب عن ذهنك أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - معهم ، وهو القائد لهم والمربي والمعلم ، وليكن حاضراً في ذهنك أن القرآن ينزل من رب السماوات والأرض إلى قائد هذه المجموعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، تأمل في هؤلاء . اجتمعت قلوبهم على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، تأمل في الآثار النفسية بمجموعةٍ تآلفت قلوبهم واجتمعت على رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم - وقام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بتربيتهم وعاش معهم والقرآن ينزل عليهم . تصور معي تلك المواقف والأيام ، ولقد سبق الحديث عنها في الرسالة الأولى صحبة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - .
لا شك أن الوفاق والوئام والمحبة هي السائدة بينهم قال الله تعالى { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً ... } الآية [آل عمران 103] .
لو تكرمت تَدَبَّر في معانيها : شهادة من الله سبحانه وتعالى لأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم - بأنه { ألف بين قلوبهم } هذه منّة من الله تعالى على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا راد لفضل الله .(26/18)
نعم كانت العدواة بين الأوس والخزرج مشتعلة ، ولكن الله سبحانه وتعالى أزال هذه العدواة وجعل بدلا منها محبة ووئاما .
أيها القاري الكريم :ما يضرك أن تؤمن بهذا وأن تحسن الظن بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ربهم سبحانه يَشْهَد لهم وَيُذَكِّرهُم بفضله عليهم ، وأنهم أصبحوا إخوة قلوبهم صافية استقر بها التآلف والمحبة والوئام ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ويدل على العموم الآية التالية : قال الله تعالى : { وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم }[الأنفال 62-63]
أيها القارئ الكريم :تأمل في الآية كرر تلاوتها ، ففيها ذكر الفضل من الله – سبحانه وتعالى - على رسوله – صلى الله عليه وآله وسلم - بالنصر وبالمؤمنين ، والذي يهمنا هنا أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لو أنفق مال الأرض جميعاً ما حصل له ذلك ، ولكن الله سبحانه هو صاحب الفضل ، ومع ذلك يوجد من ينكر ذلك وتأبى نفسه إلا مخالفة النصوص والزعم أن العداوة هي السائدة بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - .
الله عز وجل يخبرنا بأنه ألّف بين قلوبهم ، وألف بينهم ، وجعلهم إخواناً ، وجعلهم رحماء بينهم ، ومع ذلك تكرر الأساطير والأخبار بأن العداوة بينهم قائمة !!
جاءت آيات كثيرة سبق ذكر بعضها في الثناء على الصحابة - رضي الله عنهم - ، وآيات في ذكر أوصافهم وأفعالهم ، ومنها الإيثار الناتج عن المحبة(26/19)
قال الله تعالى : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوأوا والدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون }[الحشر 8-9] .
وما سبق فيه إشارة إلى بعض النصوص القرآنية وهي كثيرة ، وقد اقتصرنا على ما يدل على المحبة ، ويؤكد وجودها ، وأنها متأصلة في قلوب أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم - وكما لا يخفى عليك فإن الإيثار ، والأخوة ، والموالاة ، وألفة القلوب ، كل هذه المعاني وردت فيها نصوص قرآنية وهي تؤكد على صفة المحبة وقد جاء أكثر من نص قرآني صريح فيها ، تأمل الآية السابقة ففيها إثبات محبة الأنصار للمهاجرين وتأمل في آخر آية من سورة الفتح .
وبعد إليك هذه القصة التي رواها علي الأربلي في كتابه كشف الغمة ( ( ج2/ 78 ط إيران ) ) عن الإمام علي بن الحسين - عليهما السلام – قال : ( ( جاء إلى الإمام نفر من العراق فقالوا في أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - ، فلما فرغوا من كلامهم قال لهم : ألا تخبرونني ؟ أأنتم المهاجرون الأولون { الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً أولئك هم الصادقون } ؟ قالوا : لا قال : فأنتم الذين { تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } ؟ قالوا :لا ، قال : أما أنتم قد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين ، وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم : { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا } اخرجوا عني ، فعل الله بكم . ا .هـ(26/20)
هذا فهم زين العابدين علي بن الحسين - عليهما السلام - وهو من التابعين ، وقد امتلأت الكتب في ثناء بعضهم على بعض كتب أهل السنة وكذلك كتب الشيعة والدارس لكتاب نهج البلاغة يجد خطباً كثيرة وإشارات صريحة كلها في الثناء على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - . واخترت واحدة لما فيها من اقتباس من القرآن الكريم .
وقال الإمام علي - عليه السلام - : لقد رأيت أصحاب محمد – صلى الله عليه وآله وسلم - فما أرى أحداً يشبههم منكم ، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً وقد باتوا سجداً وقياماً ، يراوحون بين جباههم وخدودهم ، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم ، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ، ورجاء للثواب ا .هـ
وكلامه - عليه السلام - في الثناء عليهم يطول ، ولحفيده الإمام زين العابدين رسالة ضمّنها الدعاء لهم والثناء عليهم وتجد لكل إمام من الأئمة – عليهم السلام - أقوالاً كثيرة في الثناء على الصحابة - رضي الله عنهم - وقد جاءت روايات كثيرة عنهم فيها التصريح بالثناء على الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين وغيرهم ولو جمعت لجاءت في مجلدات .(26/21)
أيها القارئ الكريم : لقد أكثرت عليك الكلام مع حرصي على الاختصار فأرجوا المعذرة وأسأل الله الكريم أن ينفعني وإياك به ، ولكن لا بد من بيان الحقيقة متكاملة ، وآمل أن تصبر معي قليلاً ؛ فإن الرسالة أوشكت على الانتهاء ، بقيت وقفة مختصرة لبيان منزلة آل البيت لدى أهل السنة والجماعة لكي تعلم وفقك الله تعالى بأن أهل السنة يحرصون كل الحرص على التمسك والعمل بالقرآن الكريم ( الثقل الأكبر ) ، وهم كذلك يتمسكون بآل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ( العترة ) وهذه المسألة تحتاج إلى دراسة مستقلة وفيما سبق تأكيد للرحمة بين أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كلهم ، وفيهم أقاربه وخواصه الذين دخلوا معه في الكساء ، وفي الوقفة الآتية إيضاح لبعض حقوقهم كما قررها علماء السنة رحمهم الله تعالى .
موقف أهل السنة من آل البيت – عليهم السلام –
مطلب في التعريف اللغوي والاصطلاحي : آل البيت أهل الرجل ، والتأهل : التزويج قاله الخليل(1) وأهل البيت : سكانه ، وأهل الإسلام : من يدين به(2)
أما الآل : فجاء في معجم مقاييس اللغة قوله : آل الرجل : أهل بيته(3)
__________
(1) 1 ) انظر كتاب العين 4/89
(2) 2 ) الصحاح 4 / 1628 ولسان العرب 11/ 28
(3) 3 ) معجم مقاييس اللغة ( 1/ 161 )(26/22)
وقال ابن منظور : " وآل الرجل أهله ، وآل الله ورسوله : أولياؤه ، أصلها ( أهل ) ثم أبدلت الهاء همزة ، فصار في التقدير ( أأل ) فلما توالت الهمزتان أبدلت الثانية ألفاً "(1) وهو لا يضاف إلاّ فيما فيه شرف غالباً فلا يقال ( آل الحائك ) خلافاً لأهل ، فيقال : أهل الحائك . وبيت الرجل داره وشرفه(2) ، وإذا قيل البيت انصرف إلى بيت الله الكعبة لأن القلوب قلوب المؤمنين تهوي إليه ، والنفوس تسكن فيه ، وهو القبلة ، وإذا قيل أهل البيت في الجاهلية انصرف إلى سكانه خاصة ، وبعد الإسلام إذا قيل أهل البيت فالمراد آل رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-(3) .
ما المراد بآل الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -
اختلف العلماء في تحديد آل بيت الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - على أقوال ، أشهرها :
1- هم الذين حرمت عليهم الصدقة . قاله الجمهور .
2- هم ذرية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وزوجاته ، واختاره ابن العربي في أحكام القرآن وانتصر له ومن القائلين بهذا القول من أخرج زوجاته .
3- إن آل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هم أتباعه إلى يوم القيامة وانتصر له الإمام النووي في شرحه على مسلم ، وكذلك صاحب الإنصاف ، ومن العلماء من حصره في الأتقياء من أتباع المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - ، والراجح القول الأول .
سؤال : من هم الذين حرموا الصدقة ؟؟
__________
(1) 4 ) لسان العرب ( 11/ 31 ونحوه من لأصفهاني في المفردات في غريب القرآن ( 30 )
(2) 5 ) لسان العرب 2/15
(3) 6 ) المفردات في غريب القرآن 29 وقد أطال شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله في مصنف خاص بهذا الشأن جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام فارجع إليه وإلى مقدمة المحقق فقد ذكر الكتب التي صنفت في هذا الموضوع وهذا يدلك على اهتمام علماء السنة بهذا .(26/23)
هم بنو هاشم وبنو المطلب ، وهذا الراجح ، وبه قال الجمهور ، ومن العلماء من قصره على بني هاشم فقط دون بني المطلب .
والمراد بآل الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية هم الأئمة الاثني عشر فقط دون غيرهم ولهم تفصيلات وتفريعات ليس هنا محل بسطها فإن الخلاف بين فِرَقهم كبير في هذه المسألة ولأجلها حصل التفرق . ( راجع كتاب فرق الشيعة للنوبختي ) .
عقيدة أهل السنة في آل الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -
لا تكاد تجد كتاباً من كتب العقيدة التي فيها شمول لمسائل الاعتقاد وإلا وتجد فيها النص على هذه المسألة وذلك لما لها من أهمية فجعلها العلماء من مسائل الاعتقاد وكتب فيها العلماء رسائل مستقلة لأهميتها .
وخلاصة الكلام في عقيدة أهل السنة ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية ورسالته مختصرة جداً ، ومع ذلك قال فيها رحمه الله : ويحبون أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم– ويتولونهم ، ويحفظون فيهم وصية رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حيث قال يوم غدير خم : " أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي "(1) وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أيضاً للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفوا بني هاشم : " والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي "(2) ، وقال : " إن الله اصطفى بني إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل كنانة واصطفى من كنانة قريشاً واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم "(3)ا .هـ
وأكتفي بهذا النص عن إمام يرى كثير من الشيعة أنه من أشد أهل السنة عدواة لهم لأجل كتابه منهاج السنة وهو في الرد على ابن المطهر الحلي .
__________
(1) 1 ) مسلم وغيره . كتاب فضائل الصحابة باب فضل علي عليه السلام ج 15/ 188
(2) 2 ) رواه أحمد في فضائل الصحابة ، وأطال محققه الكلام فيه ، المهم أن معناه صحيح لدلالة الآية عليه .
(3) 3 ) رواه مسلم .(26/24)
وتفصيل حقوقهم على النحو الآتي :
أولاً : حق المحبة والموالاة
أيها القارئ الكريم : لا يخفى عليك بأن محبة كل مؤمن ومؤمنة واجب شرعي وما سبق ذكره من محبة وموالاة آل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - .فهذه محبة وموالاة خاصة لا يشاركهم فيها غيرهم ، لقوله – صلى الله عليه وآله وسلم – ( لقرابتي ) . أما الأولى التي لله وهي الأخوة الإيمانية والموالاة فهذه للمسلمين عامة ، فإن المسلم أخو المسلم فتشمل جميع المسلمين بما فيهم آل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وجعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لقرابته محبة خاصة بهم لأجل قرابتهم من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال الله تعالى : { قل لا أسائلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } [الشورى 23] . وهذا معنى الحديث السابق على المعنى الصحيح في الآية لأن من المفسرين من قال : تحبونني لقرابتي فيكم . لأن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - له قرابة بجميع بطون قبائل قريش ، المقصود أن محبتهم وموالاتهم وتوقيرهم : لأجل قرابتهم لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ثابتة وهي غير الموالاة العامة لأهل الإسلام .
ثانياً : حق الصلاة عليهم
وكذلك الصلاة عليهم قال الله تعالى : { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } [الأحزاب 56](26/25)
... روى مسلم في صحيحه عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال : " أتاني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشر بن سعد أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك ؟ قال : فسكت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، حتى تمنينا أنه لم يسأله ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : قولوا اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمد ، وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم في العالمين ، إنك حميدٌ مجيد ، والسلام كما قد علمتم "(1) . ومثله حديث أبي حميد الساعدي المتفق عليه والأدلة على ذلك كثيرة ، قال ابن القيم رحمه الله : إنها حق لهم دون سائر الأمة ، بغير خلاف بين الأئمة . ا .هـ(2) وهذا في الصلاة الإبراهيمية .
ثالثاً : حق الخمس
وكذلك لهم الحق في الخُمس قال الله تعالى { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } [الأنفال 41] . والأحاديث كثيرة وهذا سهم خاص بذي القربى ، وهو ثابت لهم بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو قول جمهور العلماء ، وهو الصحيح(3) .
فائدة : الحقوق كثيرة ، وأشرنا إلى أهم تلك الحقوق ، ويستحقها من ثبت إسلامه ونسبه فلا بد من ذلك ، ولا بد من حسن العمل .
__________
(1) 1 ) مسلم كتاب الصلاة باب الصلاة على النبي بعد التشهد 1 / 305 رقم 405 .
(2) 2 ) جلاء الأفهام ، وبسط القول في ذلك رحمه الله .
(3) 3 ) انظر المغني 9 /288 وفي رسالة صغيرة لشيخ الإسلام ابن تيمية في حقوق آل البيت المثني بها أبو تراب الظاهري .(26/26)
وكان رسولنا - صلى الله عليه وآله وسلم - يحذر من الاعتماد على النسب وفعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في مكة في القصة المشهورة لما قال عليه - الصلاة و السلام - : " يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لا أغني عنك من الله شيئا ، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئتِ لا أغني عنك من الله شيئاً " رواه البخاري ، ومعلوم ما نزل في أبي لهب نعود بالله من النار .
موقف أهل السنة والجماعة من النواصب
فائدة : من إتمام الكلام عن مكانة آل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عندنا معشر أهل السنة والجماعة نشير إلى بيان موقف أهل السنة والجماعة من النواصب وذلك فيما يلي :
النصب لغة : إقامة الشيء ورَفعِهِ ، ومنه ناصِبَةُ الشرِّ والحرب .
وفي القاموس :" النواصب والناصبة وأهل النصب المتدينون بِبُغض علي - عليه السلام- ؛ لأنهم نصبوا له ، أي عادوه " .
وهذا أصل التسمية فكل من أبغض آل البيت فهو من النواصب ..
أيها القارئ الكريم :
كلام علماء الإسلام صريح وواضح في الثناء على الإمام علي وبنيه - عليهم السلام - ، وعقيدتنا أننا نشهد بأن عليا والحسن والحسين – عليهم السلام - في جنات النعيم ، وهذا ظاهر ولله الحمد .
وأشير هنا إلى موقف أهل السنة من النواصب وبراءة أهل السنة من النصب ، وهذه مسألة مهمة جدا ؛ لأنها من أسباب الفرقة والاختلاف في الأمة ، وتوجد طائفة من المستفيدين والمنتفعين بهذه الفرقة تتحدث بما يشعل الفرقة ويزيدها في كل مناسبة ، بل وبدون مناسبة ، بكل كلام يذكي وقودها ويشعل نارها وهذا الكلام من البهتان والزور والكذب المحض .(26/27)
فتجد المتحدث يتهم أهل السنة بكراهية الإمام علي وبنيه –عليهم السلام- ، ويطلق للسانه العنان في اختلاق الكذب ، وأحسن أحواله أن يكرر ويردد الروايات والقصص الخيالية عن بغض أهل السنة للإمام علي - عليه السلام- .
وأهل السنة يروون الأحاديث الكثيرة في فضائله ، فلا تجد كتابا في الحديث إلا وفيه ذكر فضائل الإمام علي - عليه السلام- ومناقبه .
أيها القارئ الكريم :
كلام أهل السنة في النواصب واضح ، وأكتفي بنقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - وهذا العالم يرى الشيعة أنه أشد علماء السنة عداوة لهم ، وقد صنف أكبر موسوعة سنية في الرد على الشيعة - .
قال رحمه الله :"وكان سب علي ولعنه من البغي الذي استحقت به الطائفة أن يقال لها : الطائفة الباغية ؛ كما رواه البخاري في صحيحه عن خالد الحذَّاء عن عكرمة قال : قال لي ابن عباس ولابنه علي : انطلقا إلى أبي سعيد واسمعا من حديثه ! فانطلقنا ، فإذا هو في حائط يصلحه فأخذ رداءه فاحتبى به ثم أنشأ يحدثنا ، حتى إذا أتى على ذكر بناء المسجد فقال : كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين ، فرآه النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - فجعل ينفض التراب عنه ويقول :"ويح عمار ! تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار" قال : يقول عمار : أعوذ بالله من الفتن .
ورواه مسلم عن أبي سعيد أيضا قال : " أخبرني من هو خير مني أبو قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمار –حين جعل يحفر الخندق- جعل يمسح رأسه ويقول : "بؤس ابن سمية تقتله فئة باغية" .
ورواه مسلم أيضا عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : "تقتل عمارا الفئة الباغية" .(26/28)
وهذا أيضا يدل على صحة إمامة علي ، ووجوب طاعته ، وأن الداعية إلى طاعته داع إلى الجنة والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار-وإن كان متأولا- وهو دليل على أنه لم يكن يجوز قتال علي ، وعلى هذا فمقاتله مخطئ وإن كان متأولا أو باغ بلا تأويل ، وهو أصح القولين لأصحابنا ، وهو الحكم بتخطئة من قاتل عليا وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين "(1) .
وتأمل في قوله الآتي :
قال رحمه الله - بعد أن بسط القول في كلام أهل السنة في يزيد ، وحرر المسألة ، وبين اختلاف الناس فيه- قال ما نصه :"وأما من قتل الحسين ، أو أعان على قتله ، أو رضي بذلك ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين "(2) .
فهل يمكن بعد ذلك لخطيب أو متعالم أن يطعن في أهل السنة ويقول بأنهم نواصب ، فهذا كلام إمام من أئمة السلف .
وقفة
أخي المبارك : ربما ثار في نفسك تساؤلات كثيرة حول ما قرأت في هذه الرسالة ، وما ثبت تاريخيا من وجود قتال في صفين والجمل بين الصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم - ؛ إذ إن في كل فريق طائفة منهم ، وعامتهم أو أكثرهم مع علي ومن معه من آل بيته - عليهم السلام - وهذه تحتاج إلى رسالة خاصة أسأل الله أن يعينني على إخراجها لبيان حقيقةِ تلك القضايا وغيرها .
وأذكر نفسي وإياك بقول الله سبحانه : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين . إنما المؤمنون إخوة ... } [الحجرات 9-10] .
فأثبت لهم الإيمان مع وجود الاقتتال .. والآية صريحة لا تحتاج إلى تعليق ولا تفسير ، فكلهم مؤمنون وإن حصل الاقتتال بينهم .
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى 4/ 437 .
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى 4/ 487 .(26/29)
وكذلك قوله سبحانه : { ... فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف ... } [البقرة 178] وهذا في قتل العمد .. والله سبحانه وتعالى أثبت الأخوة الإيمانية بين القاتل وأولياء الدم ، فجريمة القاتل الشنيعة والتي ذكر الله عقوبتها الشديدة لم تخرجهم من دائرة الإيمان ، وهم مع أولياء المقتول إخوة والله يقول : { إنما المؤمنون إخوة } .
والموضوع يحتاج إلى رسالة مستقلة - كما سبق ذكره - لعل الله أن ييسر إخراجها قريبا إن شاء الله تعالى .
الخاتمة
الحمد لله الذي من علينا بحب النبي صلى الله عليه وآله الطيبين ، وأصحابه الأخيار .
أيها الحبيب ..
بعد أن عشنا مع آل رسول الله الأطهار عليهم صلوات الله وسلامه ، وأصحابه الأخيار عليهم رضوان الله تعالى ، بعد أن عشنا معهم وأدركنا تراحمهم وما بينهم من صلة رحم ومصاهرة ، ومودة ، وأخوة ، وتآلف قلوب ، ذكرها الله في القرآن الكريم ..(26/30)
فعلينا أن نجتهد في دعاء رب العالمين أن يوفقنا لما يحب ويرضى ، وأن يجعلنا من الذين قال فيهم في كتابه الكريم - بعد أن أثنى على المهاجرين والأنصار - قال سبحانه : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } وكما قال زين العابدين - عليه السلام - : " جاء إلى الإمام نفر من العراق ، فقالوا في أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - ، فلما فرغوا من كلامهم قال لهم : ألا تخبرونني ؟ أأنتم المهاجرون الأولون { الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً أولئك هم الصادقون } ؟ قالوا : لا قال : فأنتم الذين { تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } ؟ قالوا :لا ، قال : أما أنتم قد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين ، وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم : { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا } اخرجوا عني ، فعل الله بكم . ا .هـ " ( كشف الغمة ج2 ص78 ط إيران ) .
إنه مهما ظهرت البينات ووضحت الحجة ، فإن الإنسان لا يستغني عن مولاه عز وجل ، ومن المعلوم أن الله عز وجل أيد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم- بالمعجزات الباهرة ، وبالقرآن الكريم الذي وصفه الله بالنور المبين ، ومع حسن خلق الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وقوة بيانه وفصاحته وما هو عليه من حسن مظهر ومخبر ، ومعرفة أهل مكة له من طفولته إلى بعثته ، ومع ذلك كله بقي كثير من أهل مكة على كفرهم حتى جاء الفتح فعلينا أن نجتهد في الدعاء وطلب التوفيق والثبات على الحق واتباعه أينما كان ؛ لأن الهداية من الله عز وجل .
أخي الكريم ..(26/31)
تذكر أنك مطالب بما أمرك الله به ، والله محاسبك على ذلك .. فاحذر أن تقدم كلام أي أحد من البشر على كلام الله سبحانه وتعالى ، والله قد أنزل لك القرآن بلسان عربي مبين وجعله هدى وشفاء للمؤمنين ، وجعله عمى على غيرهم ؛ كما قال سبحانه : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى } [فصلت 44] . فاهتد بهذا القرآن واجعله نصب عينيك وفقك الله لمرضاته .
أيها المبارك : حساب الخلق كلهم على الله - سبحانه وتعالى - وليس لبشر ذلك ، بل لأهل الصلاح الشفاعة بشروطها .. وعلينا أن نبتعد عن التطاول على المولى سبحانه وتعالى والحكم على عباده .
إنه لا يضرنا أن نحب آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وبقية أصحابه - رضي الله عنهم أجمعين - بل هو الموافق للقرآن الكريم ، والموافق للروايات الصحيحة .. فتأمل .
وفي الختام : علينا أن نجتهد في دعاء المولى سبحانه وتعالى أن ينزع ما في قلوبنا من كراهية لهم وأن يبصرنا بالحق ، وأن يعيننا على أنفسنا وعلى الشيطان .. إنه ولي ذلك والقادر عليه ، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
المصاهرات بين البيت الهاشمي وبين بقية العشرة المبشرين بالجنة
المراجع
غيرهم
البيت الهاشمي
م
المصادر كلها
عائشة بنت الصديق
حفصة بنت عمر
رملة بنت أبي سفيان
رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -
1
مصادر كثيرة جداً وسبق النقل منها حديثاً
أم كلثوم بنت علي
عمر بن الخطاب
2
الأصل في أنساب الطالبين ص 65 لابن الطقطقي
عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ص118 لابن عتبة وغيرهما
عبد الله بن عمرو بن عثمان ابن عفان
فاطمة بنت الحسين
3
كافة المراجع الشيعية والسنية
العوام بن خويلد ، وولدت له الزبير بن العوام قبل الإسلام
صفية بنت عبد المطلب
عمة الرسول عليه الصلاة والسلام
4
منتهى الآمال ص341 للشيخ عباس القمي(26/32)
وتراجم النساء للشيخ محمد حسين الحائري ص346 ، وغيرهما
تزوجها عبد الله بن الزبير
وبقيت معه حتى مات عنها
وبعد قتله أخذها أخوها زيد معه
أم الحسن بنت الحسن بن علي بن أبي طالب
5
منتهى الآمال ص 342لعباس القمي
وتراجم النساء لمحمد الأعلى ص 346 ، وغيرهما
تزوجها عمرو بن الزبير بن العوام
رقية بنت الحسن بن علي بن أبي طالب
6
تراجم النساء ص 361 لمحمد الأعلى
تزوج خالدة بنت حمزة بن مصعب ابن الزبير
الحسين الأصغر بن زين العابدين
7
وغير ذلك كثير وقصة زواج سكنية بنت الحسين من مصعب بن الزبير تكفي شهرتها عن الخوض فيها ، والمصاهرات من تتبعها وترجم لها فسيجد ما يملأ مجلدات وهي كثيرة جدا .
الفهرس
الصفحة
الموضوع
مقدمة
نداء
من صفات أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
دلالة التسمية
هل يعقل
المناقشة
المصاهرة
دلالة الثناء
موقف أهل السنة من آل البيت عليهم السلام
عقيدة أهل السنة في آل الرسول صلى الله عليه واله وسلم
موقف أهل السنة من النواصب
وقفة
المصاهرات بين البيت الهاشمي وبين بقية العشرة المبشرين بالجنة
الخاتمة(26/33)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده سبحانه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلا هادي له .. أما بعد
فإن الأمة الإسلامية تعيش صحوة مباركة أسأل الله سبحانه أن يجعل ثمارها يانعة ، ولا يمكن أن يدع الكفار الأمة تصحو وإن صحت فسوف يمنعونها من النهوض. ولن تنهض إلا بعد أن تصابر الأعداء ، وتصبر الصبر كله بأنواعه ، وتتقي الله ربها ، حينئذ تنال الأمة الإمامة والقيادة وتكون نهضتها مباركة بإذن الله تعالى . ومن كيد الأعداء استغلال افتراق الأمة وشتاتها، واختلاف شعوبها وقيادتها.
ومن أهم أسباب الاختلاف وهو وقوده ومادة اشتعاله: ذلك الركام التاريخي الهائل ، وقد أجاد القصاص فن سبكه وحبكه ، وأتقن أصحاب المصالح استغلاله في تحريك العواطف وكسب التأييد ، وتحريك الجماهير، وكسب الأموال ، وأصبح الرصيد التاريخي السلّم الذي يرتقونه ليصلوا إلى أهدافهم.
وينبغي على المسلمين لا سيما طلبة العلم بيان الحق والذب
-3-
عنه ودعوة أهل الإيمان إلى الاعتصام بالكتاب والسنة ونبذ الفرقة وإفشال خطط الأعداء في تمزيق الأمة وجعل بأسها بينها. ولا يخفى على القارئ الكريم بأن الشرارة التي جعل منها القصاصون ناراً ما حصل بين الصحابة - رضي الله عنهم - بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إسهاماً في تجلية الحقيقة والدعوة إلى الله تعالى ، كتبت هذه الرسالة للمسلمين عامة رجالاً ونساءاً صغاراً وكباراً . على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم ، مع الحرص على الأدلة العقلية والنقلية لاسيما من القرآن ا لكريم مع إثارة العواطف والإقناع العقلي لعل الله سبحانه وتعالى أن ينفع بذلك. والصواب من توفيق الله وأستغفر الله من تقصيري وكل ذنب وخطيئة. وأملي في القارئ أن لا ينسانا من الاقتراحات المفيدة، والتوجيهات السديدة.
كتبها
صالح بن عبد الله الدرويش(27/1)
القاضي بالمحكمة الكبرى بالقطيف
ص ب 31911
-4-
من مهام الرسول صلى الله عليه وسلم
قال تعالى ( رَبّنَا وَابْعَث فِيهِمْ رَسولاً مِّنهُمْ يَتْلُوا عَلَيهِمْ ءَايَتِك وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَب وَ الحِْكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنّك أَنت الْعَزِيزُ الحَْكِيمُ ) [ البقرة 129 ]
وقال تعالى ( هُوَ الّذِى بَعَث فى الأُمِّيِّينَ رَسولاً مِّنهُمْ يَتْلُوا عَلَيهِمْ ءَايَتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَب وَ الحِْكْمَةَ وَ إِن كانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضلَلٍ مُّبِينٍ ) [ الجمعة 2 ]
نصوص صريحة وواضحة الدلالة على التلازم بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام (1) ، ومن مهام الرسول صلى الله عليه وسلم التي لأجلها أُرسل ما ذكره الله عز وجل هنا ، وهي من الواجبات الشرعية عليه ومن الحكم البالغة في رسالته وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك خير قيام . أنقذ اللهُ به الناس من الضلال المبين ، ومن الشرك والكفر إلى الإيمان والتوحيد .
نعم عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قومه في مكة وبعثه الله فيهم
---
(1) القول المختار في الصحابي أنه من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه ولو فترة من الزمن ومات على ذلك وطول الصحبة أثرها في المنزلة .
- 5 -
ولا تجد بطناً من بطون قريش إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة ، وحتى الأنصار !! منهم أخوال عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو النجار ؟؟
قال الله تعالى ( رَسُولاً مِّنْهُمْ ) .(27/2)
نعم اختار الله للمصطفى عليه السلام أشرف نسب فجعله من ذرية إبراهيم عليه السلام ، وبعثه في خير البقاع مكة المكرمة ، والنبي عليه السلام دعوة أبيه إبراهيم عليهما السلام ، وهو سيد ولد آدم عليه السلام ولا فخر ، وصاحب المقام المحمود ، والحوض المورود ، والشفاعة الكبرى يوم القيامة ، والمنزلة الرفيعة ، وسيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم خير البشر ، وإمام المرسلين أجمعين باتفاق الأمة ولله الحمد والمنة .
ومن كمال نعمة الله على الرسول صلى الله عليه وسلم أن اختار الله له خير الأصحاب فهماً ورجولة وشجاعة ، ولا غرو في ذلك فهم أقاربه وعشيرته ، وخير الناس نسباًَ ، وأكرم الناس خُلقاً . وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " (1) .
---
(1) البخاري 6/298 ومسلم برقم 2526 باب خيار الناس .
-6-
ولا يخفى عليك بأن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش الذين فازوا بالشرف وعلوا المنزلة وحظوا بها باصطفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ، فهم أصحاب الشعب الذين حوصروا فيه مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم الذين لا تصح لهم الصدقة ومنهم آل الرسول صلى الله عليه وسلم (1) ومنهم اختار الله محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً للعالمين .
أخي القارئ الكريم تأمل وتدبر :
قال الله تعالى : ( وَيُزَكّيِهِمْ ) وهم من خيرة الناس وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتربيتهم وتزكيتهم . فهل يعقل الطعنُ فيهم ؟؟؟ وتأمل في تقديم التزكية على التعليم ! فهي الفته لغوية لها دلالاتها .
وقال الله تعالى : ( وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَب وَ الحِْكْمَةَ ) وقد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم الواجب عليه ، فهل يمكن لعاقلٍ منصفٍ يخاف الله أن يصف طلاب الرسول صلى الله عليه وسلم بالجهل ؟!(27/3)
أيها القارئ الكريم : لا تعجل وقف مع الآيات وتدبر في معانيها ( هُوَ الّذِى بَعَث فى الأُمِّيِّينَ رَسولاً مِّنهُمْ يَتْلُوا عَلَيهِمْ ءَايَتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَب وَ الحِْكْمَةَ وَ إِن كانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضلَلٍ مُّبِينٍ ) الجمعة 2
وتأمل في الآية بعدها ( ذَلِك فَضلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ )
---
(1) سيأتي بيان المراد بآل الرسول صلى الله عليه وسلم وفضلهم في الرسالة القادمة – إن شاء الله - .
-7-
فإن صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم نعمة كبرى وفضل من الله تعالى ، نعم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وبها فاز الصحابة رضي الله عنهم، وسبقوا غيرهم..
نعم إنه الترابط بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام الذين عاش بينهم ومعهم، وفي مقدمتهم أهل بيته الأطهار، وزوجاته أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. يفرح الرسول صلى الله عليه وسلم بالجلوس معهم، ويأنس بهم، وهم جنده ووزراؤه، وطلابه الذين أخذوا العلم عنه، وبينهم عاش وعندهم مات عليه السلام.
نعم إن الذين يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبه يقتدون، يعتقدون بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أدى الأمانة وبلغ الرسالة وقام بما أمره الله به، ومن ذلك أنه بلغ أصحابه العلم وزكاهم، وهم الذين أخذوا القرآن والسنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، وعنهم أخذ التابعون، والحكم بعدالتهم من الدين، ومن الشهادة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قام بما أمره الله به .
والطعن فيهم يعني الطعن بإمامهم وقائدهم ومعلمهم سيد المرسلين ولا حول ولا قوة إلا بالله!
فكر وتأمل
فإن القضية فيها تلازم لا محالة. لذا فإن توجيه اللوم وتخطئة الناقد لأصحاب رسوله الله صلى الله عليه وسلم أو الناقل هي عين الصواب باتفاق العقلاء وإليك شرح ذلك باختصار.
- 8-
تأملات
لا تعجل أيها القارئ الكريم وتأمل معي:(27/4)
إذا خلوت بنفسك أو مع من تثق بعقله فتفكر وتأمل وهذا من الدين.
قال الله تعالى : ( قُلْ إِنّمَا أَعِظكُم بِوَحِدَةٍ أَن تَقُومُوا للّهِ مَثْنى وَ فُرَدَى ثُمّ تَتَفَكرُوا مَا بِصاحِبِكم مِّن جِنّةٍ ... ) [ سبأ 46 ].
أرأيتم لو أن رئيساً أو رمزاً لبلد أو لقومية من القوميات ثم جاء من أتباعه الذين ينسبون أنفسهم له من يزعم أو يقرر بأن هذا الزعيم أحاط به ناسٌ من الانتهازيين ، لا بل من الخونة ، وممن يحارب فكر المعلم. وهؤلاء الخونة هم أقرب الناس له وهم خاصته، وأهل مشورته وبيته وبينه وبينهم نسبٌ وصهر ورحم ، وهم الذين حملوا فكره ونشروه.
تأمل وفكر !!
ولا تعجل في الجواب وماذا تقول لو أن ذلك الإمام والرمز مدح أصحابه وأثنى عليهم، وذم من يقدح بهم أو يقلل من
-9-
شأنهم؟؟.
هل يوجد حاكم له سلطان ويُسبّ مستشاروه ووزراؤه ويوصفون بأنهم خونة وأنهم... وأنهم... وهو راض بذلك؟؟
تأمل وفكر!!
ماذا تقول في عالم بذل كل جهده وعلمه في تعليم طلابه الذين صحبوه وعاشوا معه في السراء والضراء وتركوا الأهل والوطن، والمال، لأجل صحبته وملازمته، والأخذ عنه، والتأسي به، ثم جاء الجيلُ الذي بعدهم وطعن في هؤلاء الطلاب ووصفهم بالجهل وكتم العلم؟؟
ماذا تقول في العالم الذي أخذوا عنه العلم؟؟
نعم ماذا يُقال عن هذا المعلم، وبم يوصف من هؤلاء طلابه وبذل جهده معهم؟؟ هل العيب فيه؟
أو العيب في الطلاب الذين تركوا أولادهم وأموالهم وديارهم لأجل صحبة المعلم والأخذ عنه والتأسي به، ومحبته عندهم فوق محبة الأولاد والأهل والمال والوطن ودليل ذلك فعلهم في هجرتهم إليه..
-10 –
أو العيب في الناقد الذي طعن في هؤلاء الطلاب ولم يَدر في خلده أن الطعن قد يشمل المعلم ، أو يرجع إليه هو أي إلى الطاعن الناقد ؟
تأمل في حال المعلم والطلاب والناقد ، وفكر وتأمل!!
أخي القارئ الكريم:(27/5)
تأمل في إمام أهل التربية والتوجيه، وهو القدوة بين الأنام وصحبه أتباعه ومؤيدوه، وعاشوا معه السراء والضراء، الحرب والسلم، الرخاء والشدة، وعصفت معه المحن بهم ، وبلغت غايتها حتى بلغت القلوب الحناجر وهم معه ولم يتخلوا عنه ولم يتركوه وبه يقتدون.
نعم أخذوا أقواله من فمه مباشرة، وعاشوا الدقائق والثواني بكنفه ، لم يفرطوا في مجالسه وأنفاسه، بل يتسابقون إلى شعره ، وبصاقه ، وتولى المربي بنفسه توجيههم وتربيتهم ، تارة يخاطب الجميع ، وأحياناً يخص بعضهم بالموعظة وتجده ينبه المخطئ إذا أخطأ، ويشكر المحسن إذا أحسن، بذل طاقته، واستفرغ جهده ووقته في تربيتهم، ولم يترك شيئا فيه مصلحتهم ونفع لهم إلا فعله وحثهم عليه ولا ترك شيئا فيه مضرة لهم إلا حذرهم منه.
-11-
نعم يعجز القلم عن وصف حال المربي مع أصحابه ومحبيه وأتباعه بين يديه وبأمره يعملون وبه يقتدون ، يشاهدون تصرفاته وأفعاله، ويسمعون أقواله وتوجيهاته. أخذوا من المنبع الصافي من غير واسطة ولا كدر.
فهل يعقل بعد ذلك وصف هؤلاء بأنهم نكصوا على أعقابهم إلا النادر منهم؟؟ يعني الغالبية لم تنتفع بالتربية والتوجيه!! كل ذلك الجهد ذهب سدى ، وباعوا دينهم لأجل مال ، من أخذه ؟؟.
ومن الذي دفعه ؟؟.
تقول: لا بل لأجل جاه وشرف ما هو ذلك ؟ وهل يعادل شرف صحبة الإمام وخدمته ؟ لماذا نكصوا ؟ لا أدري.
المهم أن الناقد يطعن في عدالتهم وأنهم غير تقاة ، وأقل ما يصف الطاعنُ هؤلاء الذين تربوا على يد الإمام القدوة بأنهم ضعاف الإيمان، نعم هذا أضعف وصف.
قل لي بربك العيب في الإمام المربي أم في الذين بذل جهده في تربيتهم، ومدحهم، وزكاهم وعلمَّهَم... و...؟
أم العيب في الناقد الطاعن؟؟
لا تتعجل في الجواب فكر وتأمل !!
فكر في جهادهم مع الإمام المجاهد، وصبرهم معه، وبذل
-12-(27/6)
أموالهم، بل محاربة أقرب الناس لهم لأجل إعلاء كلمة الله، وميدان الجهاد من أوسع ميادين التربية العملية، شاركوا الإمام في كل ميادين الجهاد. جهاد النفس، وجهاد المال، وجهاد الدعوة، وفي كل أوجه الخير تسابقوا، وبعد أن فازوا ونالوا مرتبة الرضا ورضي الله عنهم. بعدها رجعوا يا سبحان الله!!
أخي الكريم لا تعجل اصبر معي قليلاً ، وبعد التأمل احكم ومن معروفك أن ترسل لي كل ما يخطر ببالك من ملاحظات فأنا مستعد للرجوع والزيادة والحذف في الطبعات القادمة إن شاء الله ، المهم واصل معي القراءة في تأمل واحكم بعد ذلك.
أنت تتفق معي بأن الإمام القائد، القدوة، المعلم، المربي، لا يمكن أن يُتهم بتقصير أو ما هو دون ذلك وإذا جعلنا العيب والخلل والضعف في الأتباع وأن عامتهم قد خانوا ولم يستفيدوا، إلى آخر الطعن الموجه لهم فلا شك بأن ذلك يؤثر على الإمام لا سيما إذا قلنا بأن الخونة والجهال هم خاصة الإمام ومن يجلس معهم، وهم الذين أحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم فهم الأهل والمستشارون.
لماذا جعلنا العيب في ناقل النقد- الواسطة في النقل ما يسميه العلماء "السند"- أو ذات الطاعن الذي تكلم وطعن وهذا هو عين
-13-
الصواب وإليك المثال وبعده يتضح المراد.
من المتفق عليه بين المؤرخين أن الإمام علي رضي الله عنه خرج عليه طائفة من جنده أصبح مصطلح "الخوارج " علَماً عليهم ، وبعد مناظرات ومناقشات، ونفذ صبر الإمام رضي الله عنه لما اعتدوا على المسلمين الآمنين وقتلوا عبدالله بن خباب بعدها قام الإمام بمحاربتهم.
فهل يسوغ لعاقل أن يتهم الإمام علي بسبب هذه الفئة من جنده، ويطعن في أصحاب الإمام الذين بايعوه وأصبح خليفة للمسلمين ثم شاركوا معه في القتال هل يطعن فيهم ناقد بسبب فئة من جنده خرجت على الإمام.(27/7)
وهل يمكن أن يقال بأن عامة الذين بايعوا الإمام كفار، أو فسقة أو جهال، أو خانوا الإمام بعد وفاته، وغير ذلك من الأوصاف لأجل فئة من الناس قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجهم وأن فيهم علامة وأنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية.
أخي القارئ:
تتفق معي بأن توجيه النقد للإمام علي لا يمكن وكذلك توجيه الاتهام للذين بايعوه انحراف عن الصواب وبدعة شنيعة يخشى
-14-
على صاحبها، بل بيعة الإمام متفق على صحتها فلا جدال في ذلك، ومن انتقد الإمام أو الذين بايعوه فإن النقد يرجع عليه وتخطئته هي عين الصواب، وإذا هِبت نقد القائل لسمعته ولشهرته فعليك أن تنظر في السند، فقد يُنسب نقد الإمام إلى إمام من أئمة الإسلام من باب البهتان والزور، وهذا في غاية الوضوح.
فكر معي وتأمل:
أعتقد أنك تتفق معي فيما قررته سابقاً بأن النقد لا يمكن أن يوجه للإمام علي رضي الله عنه ولا للذين بايعوه وناصروه بل يوجه للناقد أو للناقل عنه.
هل لك اعتراض على ذلك ؟ ما هو ؟
نعم تتفق معي هذه هي النتيجة الصحيحة أليس كذلك ؟
مما لا جدال فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من علي رضي الله عنه، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الأصحاب، وآله عليه السلام خير آل ، وما قيل فيما مضى يقال هنا بل هنا أولى وأولى.
الرسول صلى الله عليه وسلم هو المعلم ، وصحبه الكرام هم الطلاب الذين
-15-
تعلموا على يديه وفي مقدمتهم آل الرسول عليهم السلام. الرسول صلى الله عليه وسلم هو القائد، وصحبه الكرام هم الجند الذين بذلوا أنفسهم بين يديه وفي مقدمتهم آل الرسول عليهم السلام.
الرسول صلى الله عليه وسلم هو المربي ، وصحبه الكرام هم الجيل الذين تولى بنفسه تربيتهم وفي مقدمتهم ذريته وأهل بيته عليهم السلام.
الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحاكم، وخاصته من المستشارين والوزراء من أصحابه الكرام لا سيما الأصهار والأرحام.(27/8)
الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ رسالة ربه، وصحبه الكرام هم الذين حملوها عنه وفي مقدمتهم آل الرسول صلى الله عليه وسلم .
إنه التلازم والترابط بين الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام لا ينفك أحدهما عن الآخر وفي مقدمتهم أهل بيته عليهم السلام.
توجيه اللوم والتقصير للنبي صلى الله عليه وسلم كفر باتفاق الأمة.
-16-
حقائق
تأمل وفكر قبل أن تحكم!
لماذا يحرص أهل السنة جميعاً على عدالة الصحابة والتشديد في القضية؟
سل نفسك وفكر في الجواب. وإليك بعض الخطوط العريضة في المسألة التي تفيدك في معرفة الجواب:
الطعن في صحابة رسول صلى الله عليه وسلم يفتح الباب على مصراعيه لأعداء الإسلام لماذا ؟
أقول أولاً : إذا تم الطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن توجيه سهام النقد والتشهير بغيرهم من باب أولى . نعم من باب أولى لما يأتي:
أ - الصحابة رضي الله عنهم أنزل الله في فضلهم آيات تتلى إلى يوم القيامة.
ب - مدحهم المصطفى عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة.
-17-
جـ - التلازم والتلاحم بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام لا انفكاك منه فهو المربي والمعلم والقائد لهم..... و .... و.. كما سبق بيانه.
د - لأن المتفق عليه بين الفرق الإسلامية أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وهو إمام المرسلين والأئمة المصلحين فإذا لم يقم عليه الصلاة والسلام بتربية فئة تحمل أعباء هذا الدين وتتمثله سلوكا، وعملاً ، واعتقاداً ، فإن غيره لن يستطيع القيام بهذا مهما كانت منزلته.
هـ - شهد التاريخ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قادة الفتح الإسلامي وهم الذين حملوا لواء الإسلام ونشروه وضربوا أروع الأمثلة في حسن الخلق وقوة الإيمان. وغير ذلك من الأسباب التي تجعل منزلة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فوق منزلة جميع أصحاب الرسل والأئمة عليهم السلام.(27/9)
ثانياً : من خلال الطعن في الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين يتم لأعداء الدين الطعن في القرآن الكريم. أين التواتر في تبليغه ؟ أين الأمانة والعدالة في حملة القرآن ؟
ثالثاً: الطعن في الصحابة هو الطعن فتي سنة النبي صلى الله عليه وسلم المطهرة
-18-
وسيرته الشريفة ، لأن الصحابة رضي الله عنهم هم الذين رووا السنة والسيرة.
رابعاً : يجد الأعداء ميداناً خصباً للقول بأن الإسلام مبادئ ومثل لم يتم تطبيقها ويستحيل الالتزام بها ، لأن الذين شهدوا تنزيل القرآن ، ورباهم سيد الأنام نكص أكثرهم على أعقابهم.
خامساً : يتم تشويه أمجاد الإسلام وحضارته وغير ذلك من الأسباب التي يطول ذكرها وهي تعينك على الجواب.
ربنا لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا واغفر لنا وإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، اللهم ارزقنا صفاء القلوب ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم وآله الأطهار وصحبه الأخيار أجمعين يا أرحم الراحمين.
-19-
خاتمة الفصل الأول
أخي الكريم:
اعلم بأن هذه المسألة في غاية الأهمية، والاختلاف فيها من أهم أسباب افتراق الأمة، وهي مع بساطتها ووضوح الحجة العقلية والنقلية فيها مع ذلك خالف فيها طوائف وفرق فتجد طائفة تكفر الإمام علي رضي الله عنه ومن معه نسأل الله العافية.
ونجد آخرين يكفرون عامة الصحابة ولا حول ولا قو ة إلا بالله. وتجد من يقف في المسألة حائراً مع أن المسألة في غاية البيان كما لا يخفى عليك، وأن الطعن في الصحابة طعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو المربي والمعلم والقائد لهم كما سبق بيانه. لذا تجب محبتهم، والشهادة بعدالتهم لأنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفى بذلك شرفاً وفخراً.
اللهم ارزقنا محبتهم، والثناء عليهم يا أرحم الراحمين.
-20-
أخي الكريم:(27/10)
الحذر الحذر أن يصدك عن الحق ما عليه الناس ، أين عقلك ! أين شخصيتك وفكرك ؟ لا تقل أبناء الطائفة أو الأهل أو العلماء لهم رأي وأنا تبع لهم؟؟
فأنت يوم القيامة ستسأل عن نفسك، وستدخل القبر فرداً.
فكر وتأمل واسأل ربك الهداية وأنت صادق في الدعاء، والله الهادي إلى سواء السبيل، وتذكر منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم عند الله، ومنزلة الصحابة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن لم تقنع بما مضى فعليك التأمل في الأدلة التالية.
-21-
الفصل الثاني
بعض المواقف التي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه الكرام
مطلب في ذكر الأدلة
أخي الكريم:
إن الدارس للقرآن الكريم يجد آيات كثيرة أُنزلت في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وفيها تفصيل للمواقف التي عاشها وأحكامها، وما يتعلق بها، فهل عاش الرسول صلى الله عليه وسلم حياته مفرداً ؟ لا خلاف بأن الرسول صلى الله عليه وسلم عاش بين أصحابه وأهل بيته الكرام - رضي الله عنهم أجمعين-.
لذا فإن الآيات التي أنزلت فيهم كثيرة جداً ، وإليك عرض سريع لبعض المواقف وما أُنزل فيها من آيات لكي تدرك الترابط بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ، وفضل تلك الصحبة، والفضل الذي لا حد له لمن عاش هذه المواقف مع المصطفى عليه السلام.
-23-
غزوة بدر
أنزل الله عز وجل في أحداثها سورة الأنفال، وقد تضمنت لطائف ودلالات على ما ذكرناه وهي كثيرة نقف مع ثلاث آيات منها.
-23-
قال الله تعالى: ( إِذْ يُغَشيكُمُ النّعَاس أَمَنَةً مِّنْهُ وَ يُنزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السمَاءِ مَاءً لِّيُطهِّرَكُم بِهِ وَ يُذْهِب عَنكمْ رِجْزَ الشيْطنِ وَ لِيرْبِط عَلى قُلُوبِكمْ وَ يُثَبِّت بِهِ الأَقْدَامَ ) [ الأنفال: 11 ].(27/11)
تأمل في الآية وتدبر معانيها، فكر في معنى التطهير وإذهاب رجس الشيطان، والآية التي بعدها شهد الله لهم بالإيمان ( فَثَبِّتُوا الّذِينَ ءَامَنُوا ) لذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم : العل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" (1).
فائدة هامة: أجمع كل من كتب في السيرة من الذين يشهدون بأن محمداً رسول الله وغيرهم أجمعوا بأن النفاق قد حصل بعد موقعة بدر ولم يكن قبلها نفاق فتنبه لهذا.
أخي القارئ الكريم:
قف وأمعن النظر والتأمل في آخر السورة
فالله سبحانه حكم بأن المهاجرين والأنصار بعضهم أولياء بعض. وفكر في دلالات قوله تعالى: ( الّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَ جَهَدُوا في سبِيلِ اللّهِ وَ الّذِينَ ءَاوَوا وّ نَصرُوا أُولَئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّا
---
(1) البخاري 7/140 ، المغازي باب فتح مكة وباب فضل من شهد بدراً وغير ذلك ومسلم رقم 2494 من فضائل بدر .
-24-
لهُّم مّغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَ الّذِينَ ءَامَنُوا مِن بَعْدُ وَ هَاجَرُوا وَ جَهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئك مِنكمْ وَ أُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في كِتَبِ اللّهِ إِنّ اللّهَ بِكلِّ شيْءٍ عَلِيمُ ) [ الأنفال 75،74 ]، الله أكبر هنيئاً لهم أي وربي إنها والله الشهادة من المولى سبحانه للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بالإيمان وتأمل في قوله ( حقاً ) تأكيد ثم قال سبحانه: ( لهُّم مّغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) فهل لمؤمن أن يطعن بهم مع هذه الشهادة والتأكيدات؟
-25-
غزوة أحد
في أحداثها وما يتعلق بها أنزل الله سبحانه وتعالى على نبيه ستين آية من سورة آل عمران وما تضمنته السورة من الثناء على الصحابة يستحق دراسة موسعة مفردة.(27/12)
ومن أول آية تجد الترابط بين الرسول صلى الله عليه وسلم وجنده والشهادة لهم من الله تعالى بالإيمان قال الله تعالى : ( وَإِذْ غَدَوْت مِنْ أَهْلِك تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَعِدَ لِلْقِتَالِ ... ) الآية ، ثم تمضي الآيات وفيها بيان لما حصل وحتى في آية العتاب التي فيها ذكر أسباب الهزيمة تجد قوله سبحانه (عفا عنكم ) العفو من الله لهم ، وتأمل في وصف حالهم بعد نهاية المعركة، بل النصر المبين الذي حصل لهم، وهروب قريش منهم. ورجع المؤمنون بفضل الله.
-25-
قال الله تعالى: ( الّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاس إِنّ النّاس قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَناً وَقَالُوا حَسبُنَا اللّهُ وَ نِعْمَ الْوَكيلُ (173) فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَ فَضلٍ لّمْ يَمْسسهُمْ سوءٌ وَ اتّبَعُوا رِضوَنَ اللّهِ وَ اللّهُ ذُو فَضلٍ عَظِيمٍ ) آل عمران: 173، 1174 شهادة المولى لهم بزيادة الإيمان، وأنهم اتبعوا رضوان الله، ولا يخفى عليك بأن جميع الذين شهدوا غزوة أحد ساروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد (1) هم الذين نزلت فيهم الآيات.
وتأمل فيما ذكره الله في ختام الآية مما يدل على سعة رحمة الله.
---
(1) موقع بعد المدينة بعدة أميال على طريق مكة وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغه أن قريشاً بعد انصرافهم من أحد أجمعوا الرجوع إلى المدينة مرة أخرى فنادى منادي الجهاد ولا يخرج إلا من شهد الواقعة فخرج الصحابة رضي الله عنهم مع جراحهم وآلامهم ولم يخرج معهم أَحد من الذين تخلفوا عن أُحد إلا جابر بن عبدالله رضي الله عنه وقد ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم عذره في عدم شهود أحد وأذن المصطفى عليه السلام له بالخروج معهم.
-26-
غزوة الخندق
نزلت فيها آيات من سورة الأحزاب ومع قصرها إلا أن فيها تصوير بليغ للترابط بين الصحابة رضي الله عنهم مع الوصف
-26-(27/13)
الدقيق لحالتهم النفسية، وما أصابهم من جهدٍ وجوع وخوف وحرصهم على ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أخي القارئ :
تأمل في الآيات من آية 9 من سورة الأحزاب التي نادى الله بها المؤمنين وذكر نعمته عليهم في تلك المواقف: ( يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسلْنَا عَلَيهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لّمْ تَرَوْهَا ) الآيات ثم ذكر المولى نعمته عليهم مرة أخرى بكف يد العدو عن القتال وشهد لهم بالإيمان بقوله سبحانه ( وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ) ثم ذكر الله آيتين فيهما بيان لما حصل لبني قريظة القبيلة اليهودية المشهورة.
فتأمل في الآيات وتلاوتها بتدبرٍ وقف عند قوله تعالى : ( وَلَمّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَاب قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسولُهُ وَصدَقَ اللّهُ وَرَسولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَناً وَتَسلِيماً ) وفضل الله سبحانه وتعالى واسع لا يمكن أن يقال بأن هذا خاص بأفراد مع الرسول صلى الله عليه وسلم .
من هم الذين قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله ؟ ومن هم الذين حفروا الخندق مع الرسول عليه السلام ؟
-27-
وتأمل في شهادة المولى لهم بالإيمان وزيادته. وكذلك فضل الله عليهم في الدنيا الذي ذكره الله في هذه السورة.
من هم الذين ورثوا بني قريظة ؟ ومن هم الذين حاربوا اليهود ؟(27/14)
قال الله تعالئ: ( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضهُمْ وَ دِيَرَهُمْ وَ أَمْوَلهَُمْ وَ أَرْضاً لّمْ تَطئُوهَا وَ كانَ اللّهُ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيراً ) لأحزاب: 27 ، بعد أن ذكر فضله على المؤمنين بفتح حصون اليهود وإنزال الرعب في قلوب اليهود ، وقتل اليهود وأسرهم. هلا قمت بتلاوة الآيات من أول القصة ( يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسلْنَا عَلَيهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لّمْ تَرَوْهَا وَ كانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ) حتى النهاية ( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضهُمْ وَ دِيَرَهُمْ وَ أَمْوَلهَُمْ وَ أَرْضاً لّمْ تَطئُوهَا وَ كانَ اللّهُ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيراً ) من سورة الأحزاب تدبر معانيها وعش في ظلالها وتأمل التلاحم والترابط بين القائد وجنده والخطاب من الله لهم جميعا.
-28-
صلح الحديبية
أيها القارئ الكريم: لا يخفى عليك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا ذكرها الله في سورة الفتح ( لّقَدْ صدَقَ اللّهُ رَسولَهُ الرّءْيَا
-28-
بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنّ الْمَسجِدَ الْحَرَامَ ) إلى آخر الآية. ورؤى الأنبياء عليهم السلام حق كما تعلم ، وكانت هذه بشارة للمؤمنين بعد البلاء الشديد الذي أصابهم في غزوة الخندق. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بها ونادى بالمسير إلى العمرة ، نعم يريد مكة معتمراً ، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
وسار النبي صلى الله عليه وسلم بالسابقين من المهاجرين والأنصار وعددهم ألف وأربعمائة مقاتل.
تخلف كثير من الأعراب عن المشاركة ولم يشارك من المنافقين إلا رجل واحد.
فكر وتأمل في الحكمة ؟
سار الركب الراشد ، وجنبات البيداء تردد معهم صدى التكبير والتهليل.(27/15)
وقامت قريش بالاستعداد لمنعهم من دخول مكة. وفي الحديبية حصلت البيعة ، بايع المهاجرون والأنصار الركب الراشد ، بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصبر وعدم الفرار وهي بيعة ا لرضوان.
الاشتياق إلى مكة يفوق الوصف، وعندهم البشارة
-29-
بدخولها ، ولكن محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته والتأسي به والزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله ، هي سمة ذلك الجيل. وأكرمهم الله سبحانه وتعالى بما أنزل فيهم من آيات.
أيها القارئ الكريم : تأمل وأنت تتلو سورة الفتح وتدبر في معانيها. قال الله عز وجل: ( إِنّا فَتَحْنَا لَك فَتْحاً مّبِيناً (1) لِّيَغْفِرَ لَك اللّهُ مَا تَقَدّمَ مِن ذَنبِك وَ مَا تَأَخّرَ وَ يُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْك وَ يهْدِيَك صِرَطاً مّستَقِيماً (2) وَ يَنصرَك اللّهُ نَصراً عَزِيزاً ) الفتح : 1، 2، 3، يذكر الله سبحانه فضله على الحبيب عليه السلام ثم يبين المولى عز وجل فضله علي الصحابة الكرام وما حصل لهم من السكينة التي أثمرت زيادة الإيمان.
ثم ذكر المولى سبحانه وتعالى بيعة الرضوان ، قال الله تعالى: ( لّقَدْ رَضيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَك تحْت الشجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فى قُلُوبهِمْ فَأَنزَلَ السكِينَةَ عَلَيهِمْ وَ أَثَبَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ) .
إنها حقيقة يعجز الإنسان عن وصفها مهما أوتي من بلاغة وفصاحة.
نعم رب العالمين - سبحانه وتعالى- رحم هذه الفئة المؤمنة وأوحى إلى سيد البشر عليه السلام بما حصل منهم وذكر أدق الأوصاف وأخفى الأسرار ( مَا فِي قُلُوبِهِمْ ) .
-30-
وإن الصحابة بلغوا الغاية في الصدق والإخلاص وطلب رضوان المولى ، فنالوا الفوز المبين- رضي الله عنهم- كل فرد منهم بايع تحت الشجرة- مكان البيعة- يعلم بأنه داخل في الخطاب ويمشي علي الأرض وهو يعلم بأنه نال الشرف والسعادة ، والفوز المبين في الآخرة والغنائم في الدنيا.(27/16)
تأمل في الآيات! وقل معي كيف يسوغ لعاقل أن يتكلم فيهم ؟؟
أو قولهم بأن الله عز وجل بدا له السخط بعد الرضا يا سبحان الله!
ولا أطيل في النقاش واكتفي بالرد علي هذه التأويلات بآية من كتاب الله فتأمل في الآية وتدبر في معانيها، وهي في غاية الوضوح والبيان، وفيها شفاء لما في الصدور، والطاعنون في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاروا فيها ، وعجز خيالهم نعم حتى الخيال في الرد علي الآية أو وضع تأويل لها لم يستطع ، وارتد خاسئاً وهو حسير، ولم أقف لهم علي قولٍ فيها.
ولكن المراء والجدال ، واتباع الهوى ، منع الناس من اتباع الحق.
-31-
وإليك الآية قال الله تعالى: ( وَالسابِقُونَ الأَوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الأَنصارِ وَ الّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسانٍ رّضىَ اللّهُ عَنهُمْ وَ رَضوا عَنْهُ وَ أَعَدّ لهَُمْ جَنّتٍ تَجْرِى تحْتَهَا الأَنْهَرُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِك الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) التوبة: 100
فتأمل فيها وفي العموم في قوله سبحانه ( السابِقُونَ الأَوّلُونَ ) منهم؟
جاء البيان بقوله سبحانه : ( مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الأَنصارِ ) نعم الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم والذين نصروا هم السابقون بنص القرآن فلا يمكن الرد أو التأويل وكن من الصنف الثالث تفز يا عبد الله ( الّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسانٍ ) فإن الصحابة أئمة يقتدى بهم رضي الله عنهم (1).
وتأمل في التأكيدات والمبشرات ( رّضىَ اللّهُ عَنهُمْ ) و ( وَ رَضوا عَنْهُ ) وقوله ( وَأَعَدّ ) بصيغة الماضي والتمليك ( لهَُمْ ) والخلود والتأبيد ( خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ) .
---(27/17)
(1) ودليل اتباعهم بإحسان ما ورد في قوله تعالى : ( وَالّذِينَ جَاءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَ لاخْوَنِنَا الّذِينَ سبَقُونَا بِالايماَنِ ... ) الآية. فعليك بالدعاء لهم. والخلاف في حجية قول الصحابي وفعله من المسائل الأصولية المشهورة ولبس هنا محل بسطها.
-32-
وتأمل في ذكر الأعراب والمنافقين في سياق الآيات نعم لا يمكن لمن يقرأ الآية وهو يؤمن بأن القرآن كلام الله ويفهم لغة العرب لا يمكنه إلا التسليم بفضل الصحابة.
أيها القارئ الكريم : اسمح لي بالإطالة اليسيرة هنا عند قوله تعالى: ( محَمّدٌ رّسولُ اللّهِ وَ الّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلى الْكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنهُمْ تَرَاهُمْ رُكّعاً سجّداً يَبْتَغُونَ فَضلاً مِّنَ اللّهِ وَ رِضوَناً سِيمَاهُمْ فى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السجُودِ ذَلِك مَثَلُهُمْ فى التّوْرَاةِ وَ مَثَلُهُمْ فى الانجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شطئَهُ فَئَازَرَهُ فَاستَغْلَظ فَاستَوَى عَلى سوقِهِ ) الفتح: 29، نعم ورد ذكر الصحابة في التوراة والإنجيل. وبيان خصالهم الحميدة ، وصفاتهم التي تميزوا بها.
محمد صلى الله عليه وسلم إمام المرسلين ، وأصحابه هم خير الأصحاب ( وَالّذِينَ مَعَهُ ) حقيقة الموالاة ، والإخاء، والتآلف معه في السراء والضراء ، ( أَشِدّاءُ عَلى الْكُفّارِ ) من الآباء والأهل والعشيرة وذلك لله وهم ( رُحَمَاءُ بَيْنهُمْ ) الدارس للسيرة يُدرك ما وصلوا إليه من محبة وإخاء في الدين ، والتطبيق العملي للرحمة بينهم لا حصر لها من: إيثار على النفس : ( وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بهِمْ خَصاصةٌ ) وموالاة صادقة ، ( فبعضهم أولياء بعض ) وقال تعالى
-33-(27/18)
( بعضهم من بعض ) بهذا وصفهم الله سبحانه وتعالى ، والواجب الأخذ بما ورد في القرآن في وصفهم ( رُحَمَاءُ بَيْنهُمْ ) وأن الموالاة بينهم والتراحم هو الأصل لأن الله سبحانه وصفهم به فعلينا الأخذ به وترك ما ذكره أصحاب الأساطير التاريخية وهذه مسألة في غاية الأهمية عندنا آيات محكمات ويقابلها روايات الله أعلم بسندها ومتنها مضاد للقرآن. فتأمل في الآيات وفيما تعتقد هل هو مطابق للقرآن ؟ أم أنت متأثر بأساطير التاريخية ؟
والصحابة هم أصحاب العبادة وهي سمتهم فهم كما قال الله تعالى ( تَرَاهُمْ رُكّعاً سجّداً ) وهذا الوصف فيه تكريم لهم حيث ذكر أهم حالات العبادة الركوع والسجود والتعبير يشعرك كأنما هذه هيئتهم الدائمة، وهي كذلك لأن محبة الركوع والسجود مستقرة في قلوبهم، وقلوبهم معلقة بالمساجد.
فكأنهم يقضون زمانهم كله ركعاً سجدا والدليل على ذلك قوله سبحانه في الثناء على قلوبهم وصدق نياتهم قال الله تعالى : ( يَبْتَغُونَ فَضلاً مِّنَ اللّهِ وَ رِضوَناً ) هذه مشاعرهم ، ودوافعهم ورغباتهم ، كل ما يشغل بالهم طلب فضل الله ورضوانه.
فليس للدنيا في قلوبهم محل ، وهذه رغبة ظهرت أثارها على
-34-
محياهم فلا كبر ولا خيلاء ، ولا غرور، بل التواضع والخضوع ، والخشوع لله سبحانه وتعالى وإشراقة نور الإيمان على سيماهم ، وليس المراد ما قد يتبادر إلى الذهن أن المراد العلامة في الجبهة التي تكون من أثر السجود ، وليس ثمة مانع من دخولها(1) بل ذكرها بعض السلف.
وتأمل: هذه صفاتهم عند اليهود في التوراة. ومقابل هذه الصفات ورد في الإنجيل صفاتهم عند النصارى فهم أقوياء أشداء ، مثل الزرع فهو ينبت ضعيفاً ثم يشتد وينمو. من المراد بالزرع؟
ومن هو الزارع ؟
ومن هم الذين يسؤهم حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفعلهم ( لِيَغِيظ بهِمُ الْكُفّارَ ) .(27/19)
وقد أكد الله المغفرة لهم وأن لهم أجراً عظيماً بقوله سبحانه : ( وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ مِنهُم مّغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيمَا ) ومن في قوله ( مِنهُم ) لبيان الجنس كقوله ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان )
---
(1) انظر تفسير ابن جرير وغيره للآية.
-35-
فتأمل ذلك
تأمل وفكر انظر إلى هذه الصور الفريدة في بيان واقع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وهذا مثلهم في التوراة والإنجيل ، وأنهم رحماء بينهم ، وتقرير الموالاة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام حقيقة جاء توكيدها في القرآن في آيات كثيرة كما سبق بيانه ، وهي من أعظم نعم الله على الصحابة قال تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنّ فِيكُمْ رَسولَ اللّهِ ... ) الآية الحجرات.
وهذه السورة فيها دلالات عظيمة على فضل الصحابة وستأتي إشارة لذلك.
-36-
استقبال الوفود
سورة الحجرات فيها آيات في غاية الوضوح على فضل الصحابة وقد اشتملت السورة على كليات في الاعتقاد والشريعة ، وحقائق الوجود الإنساني وفيها بيان لمعالم المجتمع المسلم وتقرير الأخوة الإيمانية ومحاربة كل ما يضادها ويضعف كيانها.
نقف وقفتين مختصرتين مع الآيات التي تخص بحثنا.
أولاً : الآداب التي ينبغي التأدب بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبيان ما عليه الأعراب.
-36-
تبدأ السورة بمناداة المؤمنين بوصفهم لأجل التسليم لأمر الله ورسوله وعدم التقدم بين يديه بل عليهم الرضا والتسليم وعدم التعجل في الاقتراحات على الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعليهم ألا يقولوا في أمرٍ قبل بيان الله سبحانه وتعالى ومن باب أولى الفعل.
وانظر إلى الأدب الرفيع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية الكلام وعدم رفع الصوت وتأمل في التفريق بين توجيه المولى سبحانه وتعالى للصحابة وما ذكره عز وجل عن الأعراب وهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.(27/20)
وهذه لها دلالات من أهمها اختلاف منازل الصحابة رضي الله عنهم.
فتأمل وتدبر :
في الآيات صور حية من واقع حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه الكرام.
ثانياً : ما تضمنته الآيات من فضل الصحابة ففيها النص الصريح على النعمة الكبرى وجود النبي صلى الله عليه وسلم بينهم ( وَاعْلَمُوا أَنّ فِيكُمْ رَسولَ اللّهِ ) ماذا يعني ذلك؟ أن الوحي ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو معهم اتصال بين الخلق هذه الفئة المؤمنة مع الخالق رب
-37-
العالمين سبحانه وتعالى بواسطة الرسول الأمين عليه السلام.
يأتيهم خبرهم وما هم عليه ، وحتى ما في قلوبهم، والفصل في النوازل التي تنزل بهم والحكم فيها.
حتى القضايا الفردية: ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ) ورضي الله عن أم هانئ لما بكت على انقطاع الوحي وبكى من عندها من الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في القصة المشهورة لما زارها الصديق ومن معه تأسياً بزيارة النبي صلى الله عليه وسلم لها.
ثم تأمل وفكر في الآية.
( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ) نعم الفضل من الله جعل الإيمان في قلوبهم راسخاً فطرياً ومحبتهم له أشد من محبتهم للشهوات وتأمل في التأكيد ، ( وزينه في قلوبكم ) ، وذكر ما يضاده وينقص منه، وكره إليكم الكفر ، والفسوق ، والعصيان ، فقد فطر الله الصحابة رضوان الله عليهم على كراهية كل ما ينقص الإيمان ، الله أكبر تأمل في الآية وختامها ( أُولَئك هُمُ الراّشِدُونَ ) ، وفضل الله على هذه الفئة أن اختارهم الله لصحبة نبيه عليه السلام وهداهم للإيمان، وزينه في قلوبهم، وجعلهم أهلاً لصحبة الرسول عليه السلام، فهم يكرهون الكفر، والفسوق،
-38-
والعصيان. ولحكمة بالغة جاء النص مشتملاً على الأسماء الثلاثة الكفر، الفسوق، العصيان. فلم يترك شيئاً.(27/21)
وصدق عبدالله بن مسعود رضي الله عنه في وصفهم " إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه وبعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم ] والأنبياء [ ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون عن دينه ".
نعم هذه آية لها دلالات في فضل الصحابة وعدالتهم واستحقاقهم وما لهم من فضل عند الله عز وجل.
تأمل في كلام المولى ( أُولَئك هُمُ الرّاشِدُونَ ) ثم عقب المولى على ذلك بقوله سبحانه ( فَضلاً مِّنَ اللّهِ وَ نِعْمَةً وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) نعم صحبة الرسول نعمة من الله تفضّل الله بها على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو العليم الحكيم ومن حكمته سبحانه أن اختار محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً وجعله خير الرسل عليهم السلام وكذلك اختار له أصحاباً وجعلهم خير الصحب رضي الله عنهم أجمعين ومنزلة الصحابة لأجل الصحبة والقيام بحقوقها.
-39-
عزوة تبوك
وقد أنزل الله سبحانه وتعالى سورة التوبة في أحداث الغزوة وما قبلها وما بعدها، وهي من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها تفصيلات جليلة للمجتمع النبوي.
ودراستها مهمة جداً لأنها نزلت بعد فتح مكة وفيها بيان لواقع المجتمع المسلم وهذا الذي يهمنا في هذه الدراسة فهو صلب الموضوع وعليك أن تتأمل وأنت تتلو آيات السورة ، تجد ذكر أحوال المنافقين بالتفصيل، وبيان صفاتهم وحالهم وأن من أهل المدينة مردوا على النفاق، وأنهم تخلفوا عن الخروج ، ولم يشاركوا في النفقات، بل لمزوا المطوعين من المؤمنين، وأنهم أصحاب مصالح ، ويبادرون للحلف، ويتمسكون بأدنى شبهة ويجعلونها حجة لهم ، فهل منهم العشرة المبشرون بالجنة أو غيرهم من السابقين؟
أخي الكريم :(27/22)
تأمل في صفات المنافقين وانظر فيما ذكره الله عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وعليك أن تفرح بما ذكره الله سبحانه وتعالى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجد في السورة ذكر الأعراب وأنهم ليسوا سواء بل منهم كما قال الله
-40-
تعالى: ( وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَ يَترَبّص بِكمُ الدّوَائرَ عَلَيْهِمْ دَائرَةُ السوْءِ وَ اللّهُ سمِيعٌ عَلِيمٌ ) التوبة: 98، هذا صنف من الأعراب عاصر النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الصنف الآخر ( وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الاَخِرِ وَ يَتّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَتٍ عِندَ اللّهِ وَ صلَوَتِ الرّسولِ أَلا إِنهَا قُرْبَةٌ لّهُمْ سيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فى رَحْمَتِهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ ) التوبة: 99.
وتجد ذكر الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشاركوا في جيش العسرة، والذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
التفصيلات واضحة ودقيقة وفيها بيان لواقع المجتمع ولا تجد ذكر المهاجرين والأنصار إلا بخير وذلك في القرآن كله وتجد البشارة الناصعة في الآيات المحكمة. التي شملت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام في نسق واحد إنه التلازم بين الحبيب صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام اقرأ وتأمل.
( لّقَد تّاب اللّهُ عَلى النّبىِّ وَ الْمُهَجِرِينَ وَ الأَنصارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فى ساعَةِ الْعُسرَةِ مِن بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوب فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمّ تَاب عَلَيْهِمْ إِنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رّحِيمٌ ) التوبة: 117.
هذه لجميع المهاجرين والأنصار، تأمل في التوبة عليهم أول
-41-(27/23)
الآية ثم في وسطها وعقب ذلك قوله سبحانه وتعالى ( إِنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رّحِيمٌ ) فما بالك بقوم تولاهم الله برحمته، والمولى بهم رءوف رحيم. نعم جاء في الآية التي قبلها ذكر مزايا وخصائص للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. وفيها لطائف كثيرة سبق الإشارة إلى بعضها.
السؤال من هم السابقون ؟ كل من صلى القبلتين فهو من السابقين وقال آخرون كل من بايع تحت الشجرة فهو من السابقين، على كل حال فإن الآية تدل على أن الصحابة رضي الله عنهم طبقات ولكل طبقة منزلة ومكانة وخير الصحابة هم السابقون الأولون. وهم أصحاب بدر وأحد والخندق وبعدهم أصحاب البيعة بيعة الرضوان.
ولو أن أحداً من هؤلاء - وحاشاهم رضي الله عنهم- نافق لجاء البيان، يا سبحان الله تخلفوا وصدقوا وهم ثلاثة جاءت الآيات ببيان ما لهم، وكذلك في بيان حال الضعفة الذين لا يجدون ما ينفقون، وسكت الله عن غيرهم الذين فيهم الخطر وهم رأس النفاق ! كما يزعم الذين في قلوبهم مرض. الدارس للسورة يجزم بأنه لا يمكن أن يوجد في المجتمع النبوي من هو
-42-
مستخف على شرٍ أو فيه خطر على الإسلام والمسلمين إلا وقد ورد ما يفضحهم في سورة التوبة ونزل كشف حالهم، كيف لا وهي السورة الفاضحة والكاشفة ؟.
-43-
تقسيمات المجتمع من خلال السورة
1- السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار قال الله تعالى: ( وَالسابِقُونَ الأَوّلُونَ مِنَ الْمُهاَجِرِينَ وَ الأَنصارِ وَ الّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسانٍ رّضىَ اللّهُ عَنهُمْ ... ) الآية ، التوبة :100 .
2- ذكر الله سبحانه وتعالى النبي والذين معه على العموم أي من السابقين ومن غيرهم من المؤمنين قال الله تعالى: ( لَكِنِ الرّسولُ وَ الّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ جَهَدُوا بِأَمْوَلهِِمْ وَ أَنفُسِهِمْ وَ أُولَئك لهَُمُ الْخَيرَت وَ أُولَئك هُمُ ) التوبة: 88.(27/24)
3- ذكر الله سبحانه المهاجرين والأنصار من غير ذكر الأولين وجاءت الآية الأخرى صريحة في البيان قال الله تعالى: ( لا يَستَوِى مِنكم مّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْح وَ قَتَلَ أُولَئك أَعْظمُ دَرَجَةً مِّنَ الّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَ قَتَلُوا وَ ُكلاً وَعَدَ اللّهُ الحُْسنى وَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) الحد يد: 100.
فهنا التفريق واضح والله سبحانه وعدهم جميعاً بالحسنى
-43-
والله سبحانه صاحب الفضل، وذكر المولى سبحانه أحداث أفراد من المجتمع وهم الثلاثة الذين تخلفوا عن الغزوة وكذلك الذين لا يجدون ما ينفقون.
4- ذكر الله سبحانه الذين خلطوا عملاً صالحا وآخر سيئا وأثنى الله على أصحاب المسجد الذي أسس على التقوى. فتأمل في ذكر التفصيلات الدقيقة وهؤلاء كلهم من المؤمنين.
5- وذكر الله سبحانه وتعالى المنافقين وفصل في أحوالهم وصفاتهم وأن منهم ومنهم وذكر صفات أفراد منهم فتأمل في ذلك : وتدبر في ذكر التفصيلات عن المؤمنين ، والأعراب ( وفيهم من هو مؤمن صادق ومن هو منافق كاذب) والمنافقين وكما سبق الإشارة هل يتصور عاقل أن تَرد تلك التفصيلات ويتم السكوت عن من هو أخطر؟
-44-
قبل الختام
قال الله تعالى ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم )
الله عز وجل يأمر نبيه بالصبر مع طائفة من أصحابه.
تأمل في الآية، وانظر إلى هذا الشرف.. النبي صلى الله عليه وسلم مع منزلته يأمره الله بالصبر مع الذين يدعون ربهم. من هم هؤلاء ؟ إنه التلازم بين النبي وأصحابه الكرام.
وقال الله تعالى: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنت لَهُمْ وَ لَوْ كُنت فَظاّ غَلِيظ الْقَلْبِ لانفَضوا مِنْ حَوْلِك فَاعْف عَنهُمْ وَ استَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فى الأَمْرِ ) آل عمران، الآية: 159، من رحمة الله ما حصل للصحابة من لين رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم واستغفاره لهم والدعاء لهم ومشاورتهم..(27/25)
أخي الكريم : تأمل في معاني الآية الرسول صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي من رب السموات والأرض وهو مسدد في أفعاله وأقواله ، وهو خير البشر يأتيه الأمر بمشاورة أصحابه الكرام، لهذا دلالات منها أهمية المشورة في الإسلام والشاهد من الآية منزلة الذين شاورهم
-45-
الرسول صلى الله عليه وسلم .
نعم يدرك ذلك من كان له قلب وبصيرة. تأمل في منزلة المصطفى تدرك مكانة الذين شاورهم، وتأمل في استغفار الحبيب عليه السلام لهم رضي الله عنهم فهنيئا لهم هذا الاستغفار من الحبيب وتلك المنزلة التي حصلوا عليها لأجل مصاحبة الرسول صلى الله عليه وسلم .
أخي القارئ الكريم: إن الدارس للقرآن الكريم يجد كثرة ما نزل من آيات في النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام على سبيل العموم ذكرنا بعض ما نزل على سبيل الإجمال والاختصار وفيه قناعة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
-46-
الخاتمة
أيها القارئ الكريم تذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل وتأمل في الآيات التي مرت بك ، والمواقف التي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه الكرام في السراء والضراء ، والرخاء والشدة...
تأمل في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع من قضاها ؟
من هم طلابه الذين أخذوا العلم عنه عليه السلام ؟
من هم جنده الذين حارب بهم أعداءه عليه السلام ؟
من هم جلساؤه الذين يشاورهم عليه السلام ؟
من هم الذين يأكل معهم ويشرب ويأنس بهم ويفرحون به عليه السلام ؟
من هم الذين يصلون خلفه ويستمعون مواعظه وخطبه عليه السلام؟
من هم الذين يزورهم ويزورونه عليه السلام؟
من هم الذين ينفقون أموالهم بين يديه عليه السلام؟
من هم الذين يبذلون أرواحهم رخيصة بين يديه عليه السلام؟
من هم الذين نقلوا القرآن عنه عليه السلام؟
من هم الذين تحملوا الرسالة وبلغوها عنه عليه السلام؟
-47-(27/26)
من هم الذين صحبهم وصحبوه وعاش معهم وبعد أن قضى حياته مات بينهم عليه السلام وصلوا عليه، وحزنوا على فراقه عليه السلام، ونالوا أجر مصيبتهم في فقده كما نالوا أجر العيش معه عليه السلام.
وبعد.
لقد ذكر الذين وفقهم الله للتوبة من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والطعن فيهم ما حصل لهم من طمأنينة ولذة عيش وأنهم شعروا حقيقة لذة الإيمان.
وكيف كانت حالهم قبل توبتهم وبعدها.
عاشوا حقيقة قوله تعالى : ( وَلا تجْعَلْ فى قُلُوبِنَا غِلاّ لِّلّذِينَ ءَامَنُوا رَبّنَا إِنّك رَءُوفٌ رّحِيمٌ ) ارتفع الغل من قلوبهم ، أحبوا آل البيت الأطهار وسائر الصحابة الكرام ، والجمع بين محبة آل البيت والصحابة عين الصواب وبه يجتمع شتات القلب ويشعر المؤمن بالسعادة والطمأنينة ويأتي - بإذن الله تعالى- يوم القيامة بقلب سليم.
فاحرص على سلامة قلبك، وانزع ما فيه من غلٍ "وكراهية " للمؤمنين عامة ، وللصحابة ومنهم آل البيت على وجه الخصوص الذين فازوا بفضل الصحبة وحق القرابة.
اللهم ربنا لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.
-48-(27/27)
فضائل آل البيت
---
قال الشيخ : مقبل الوادعي رحمه الله في كتابه تحفة المجيب عن أسئلة الحاضر والغريب في فصل " فضائل آل بيت النبوة " :
الحمد لله، وسلام على عباده الّذين اصطفى ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الكرام الشرفاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله... أما بعد:
فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: { يا أيّها النّبيّ قل لأزواجك إن كنتنّ تردن الحياة الدّنيا وزينتها فتعالين أمتّعكنّ وأسرّحكنّ سراحًا جميلاً * وإن كنتنّ تردن الله ورسوله والدّار الآخرة فإنّ الله أعدّ للمحسنات منكنّ أجرًا عظيمًا * يا نساء النّبيّ من يأت منكنّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرًا * ومن يقنت منكنّ لله ورسوله وتعمل صالحًا نؤتها أجرها مرّتين وأعتدنا لها رزقًا كريمًا * يانساء النّبيّ لستنّ كأحد من النّساء إن اتّقيتنّ فلا تخضعن بالقول فيطمع الّذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفًا * وقرن في بيوتكنّ ولا تبرّجن تبرّج الجاهليّة الأولى وأقمن الصّلاة وآتين الزّكاة وأطعن الله ورسوله إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرًا * واذكرن ما يتلى في بيوتكنّ من آيات الله والحكمة إنّ الله كان لطيفًا خبيرًا }.
وروى الإمام مسلم في " صحيحه " عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( وأنا تارك فيكم ثقلين أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنّور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ثمّ قال: وأهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي ).(28/1)
وروى البخاري في " صحيحه " عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه موقوفًا عليه: ارقبوا محمّدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أهل بيته. وقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لأن أصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحبّ إليّ من أن أصل قرابتي .
ففي هذا دليل على علو منْزلة أهل بيت النبوة، وروى الإمام مسلم في " صحيحه " عن عائشة رضي الله عنها: دعا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فاطمة وحسنًا وحسينًا فجلّلهم بكساء وعليّ خلف ظهره فجلّله بكساء ثمّ قال: ( اللهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرًا ).
وهذا الحديث من طريق مصعب بن شيبة وقد قال فيه النسائي: إنه منكر الحديث، لكن الحديث مروي عن سلمه بن الأكوع بهذا المعنى، وجاء أيضًا عن جماعه من الصحابة كما في "تفسير ابن كثير"، ومصعب بن شيبة وإن كان قال فيه النسائي: إنه منكر الحديث، فقد وثقه غيره، وزيادة على هذا أن الدارقطني انتقد على البخاري ومسلم أحاديث، ولم ينتقد هذا الحديث.
وهذا الحديث من الأحاديث التي تدل على منْزلة أهل بيت النبوة الرفيعة وذلك الفضل في زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبعده إلى أن يأتي المهدي، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول في شأن المهدي وهو من ولد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أي ينتسب إلى فاطمة وعلي ( إنّه سيخرج ويملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت ظلمًا وجورًا ).
وفي هذا الحديث رد على من قال إن أهل بيت النبوة قد انقرضوا وأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يخلف أحدًا، واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: { ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم } يقولون : فعلى هذا فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يخلف أحدًا ولا يجوز أن ينتسب إليه أحد.(28/2)
ولكن هذه للحسن والحسين ولمن انتسب إليهما، فقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( إنّ ابني هذا سيّد ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ).
وهذا الحديث يعتبر علمًا من أعلام النبوة، فقد حقن الله دماء المسلمين بسبب الحسن بن علي فقد وجد جيشان جيش مع الحسن وجيش مع معاوية، فرأى الحسن أنه سيفني المسلمون وتنازل لله عز وجل وترك الإمارة لمعاوية. فهذا دليل على أن الحسن والحسين ينتسبان إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وجاء في " مسند الإمام أحمد " عن ابن عبّاس قال: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المنام بنصف النّهار أشعث أغبر معه قارورة فيها دم يلتقطه أو يتتبّع فيها شيئًا، قال: قلت: يا رسول الله ما هذا؟ قال: ( دم الحسين وأصحابه، لم أزل أتتبّعه منذ اليوم ).
فهذا دليل على أن الحسنين تجوز نسبتهما إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بخلاف بقية الناس فإن الشاعر يقول:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد
يعني: بنونا أولاد أبنائنا هم أولادنا، أما بناتنا إذا تزوّجن فأولادهن أولاد أزواجهن. لكن هذه خصوصية للحسنين.
وجاء في " مسند الإمام أحمد " : كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطبنا فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثمّ قال: ( صدق الله ورسوله: { إنّما أموالكم وأولادكم فتنة } نظرت إلى هذين الصّبيّين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتّى قطعت حديثي ورفعتهما ).(28/3)
وجاء في " صحيح البخاري" : أن رجلاً سأل ابن عمر عن دم البعوض إذا قتله الشخص وهو محرم فأصابه الدم فقال: ممّن أنت، فقال: من أهل العراق، قال: انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وسمعت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ( هما ريحانتاي من الدّنيا ).
وجاء في " صحيح البخاري" من حديث البراء رضي الله عنه قال: رأيت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم والحسن بن عليّ على عاتقه يقول: ( اللّهمّ إنّي أحبّه فأحبّه ). وجاء في "جامع الترمذي" من حديث حذيفة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ( الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ).
فمنْزلتهما رفيعة، وقد ذكر العلماء رحمهم الله الشيء الكثير من مناقب أهل بيت النبوة. فالحسن والحسين وذريتهم المستقيمين منْزلتهم رفيعة.
أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ( ألا ترضى أن تكون منّي بمنْزلة هارون من موسى إلاّ أنّه ليس نبيّ بعدي ). رواه البخاري.
فهذا الحديث يدل على فضل علي، ولا يدل على أنه أحق بالخلافة، فإن هارون كان نبيًا. ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعلي: ( أنت منّي وأنا منك ).
ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( عليّ منّي وأنا منه وهو يقضي ديني ).(28/4)
ودعا بعض الأمويين سعد بن أبي وقاص ليسب عليًا، فما فعل، قالوا: ما منعك أن تسب عليًا؟ قال: أمّا ما ذكرت ثلاثًا قالهنّ له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلن أسبّه؛ لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النّعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول له خلّفه في بعض مغازيه، فقال له عليّ: يا رسول الله خلّفتني مع النّساء والصّبيان!! فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( ألا ترضى أن تكون منّي بمنْزلة هارون من موسى إلاّ أنّه ليس نبيّ بعدي ) ، وسمعته يقول يوم خيبر: ( لأعطينّ الرّاية رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله ) قال: فتطاولنا لها، فقال: ( ادعوا لي عليًّا ) فأتي به أرمد فبصق في عينه ودفع الرّاية إليه، ففتح الله عليه ولمّا نزلت هذه الآية { فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم } دعا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليًّا وفاطمة وحسنًا وحسينًا، فقال: ( اللّهمّ هؤلاء أهلي ) .
أما الحديث الأول فهو في " الصحيحين " من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال يوم خيبر: ( لأعطينّ الرّاية غدًا رجلاً يفتح على يديه يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ) ، فبات النّاس ليلتهم أيّهم يعطى، فغدوا كلّهم يرجوه ، فقال: ( أين عليّ ) ؟ فقيل: يشتكي عينيه ، فبصق في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه، فقال : أقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا. فقال: ( انفذ على رسلك حتّى تنْزل بساحتهم ثمّ ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم ، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من أن يكون لك حمر النّعم ) . وهذا الحديث يعتبر علمًا من أعلام النبوة.(28/5)
وفي " مسند الإمام أحمد " قال : حدّثنا زيد بن الحباب، حدّثني الحسين بن واقد، حدّثني عبدالله بن بريدة، حدّثني أبي بريدة، قال: حاصرنا خيبر فأخذ اللّواء أبوبكر فانصرف ولم يفتح له، ثمّ أخذه من الغد فخرج فرجع ولم يفتح له، وأصاب النّاس يومئذ شدّة وجهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( إنّي دافع اللّواء غدًا إلى رجل يحبّه الله ورسوله، ويحبّ الله ورسوله، لا يرجع حتّى يفتح له ) فبتنا طيّبة أنفسنا أنّ الفتح غدًا، فلمّا أن أصبح رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلّى الغداة ثمّ قام قائمًا فدعا باللّواء، والنّاس على مصافّهم، فدعا عليًّا وهو أرمد فتفل في عينيه ودفع إليه اللّواء، وفتح له. قال بريدة: وأنا فيمن تطاول لها.
وجاء في " مسند أبي يعلى " من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخذ الرّاية فقال: ( من يأخذها ) ؟ فقال الزّبير: أنا ، فقال: ( أمط ) ، ثمّ قال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( من يأخذها ) ؟ فقال رجل : أنا. فقال له النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( أمط ) ثمّ قال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( من يأخذها ) ؟ فقال رجل آخر: أنا. فقال: ( أمط ) فأعطاها علي بن أبي طالب وفتح الله على يديه خيبر.
وقد خرج مرحب وهو سيّد أهل خيبر يخطر بسيفه ويقول:
قد علمت خيبر أنّي مرحب شاكي السّلاح بطل مجرّب
فخرج عليّ فقال:
أنا الّذي سمّتني أمّي حيدره كليث غابات كريه المنظره
قال: فضرب رأس مرحب فقتله، ثمّ كان الفتح على يديه.
وهكذا عمرو بن ود العامري فقد قتله علي بن أبي طالب وشارك في قتل ثلاثة من صناديد قريش وأنزل الله عز وجل: { هذان خصمان اختصموا في ربّهم }.(28/6)
فهذا هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه والذي اجتمعت فيه الشجاعة والفقه في الدين والزهد في الدنيا، وارتفعت منْزلته حتى صار مستشارًا لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما بسبب ما أعطاه الله من الفقه.
ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في علي بن أبي طالب: ( من كنت مولاه فعليّ مولاه ) . رواه الترمذي من حديث زيد بن أرقم. وجاء عن ستة من الصحابة: ( من كنت وليّه فعليّ وليّه ) .
وليس في هذا الحديث أن عليًا أحق بالخلافة، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يوص بالخلافة، وإنما أشار إشارات أنّها لأبي بكر الصديق وهو حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ( ادعي لي أباك وأخاك، حتّى أكتب كتابًا، فإنّي أخاف أن يتمنّى متمنّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر ) .
وهذا كما يقول الإمام الشافعي والطحاوي رحمهما الله: إن الحديث لا يدل على أن عليًا أحق بالخلافة، وإنما هو ولاء الإسلام كقوله تعالى: { إنّما وليّكم الله ورسوله والّذين آمنوا الّذين يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة وهم راكعون }، وكقوله تعالى: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } فإن قال قائل: فلم خصّ علي؟. فالجواب: أن خصوصية علي دليل على منْزلته الرفيعة.
ففرق بين علو المنْزلة، وبين الاستحقاق للخلافة، فقد يكون رجلاً من أعلم الناس، ولكن ليس لديه بصيرة بالخلافة، فهل تسلم الخلافة إلى هذا الشخص الذي يعتبر من أعلم الناس، وقد يكون من أشجع الناس، ولكنه قد لا يكون لديه بصيرة لسياسة الرعية. فالسياسة شيء والعلم والزهد والشجاعة شيء آخر. فهذه بعض الأحاديث الواردة في فضل علي رضي الله عنه.
وأما فاطمة فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ( فاطمة بضعة منّي يغضبني ما يغضبها، ويريبني ما أرابها ) . رواه البخاري من حديث مسور بن مخرمة.(28/7)
ويقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( أفضل نساء أهل الجنّة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، رضي الله عنهنّ أجمعين ) .
وجاء في " مسند الإمام أحمد " من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأنّ مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ( مرحبًا بابنتي ) ثمّ أجلسها عن يمينه، أو عن شماله، ثمّ إنّه أسرّ إليها حديثًا فبكت، فقلت لها: استخصّك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حديثه ثمّ تبكين؟! ثمّ إنّه أسرّ إليها حديثًا فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحًا أقرب من حزن ، فسألتها عمّا قال ، فقالت : ما كنت لأفشي سرّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. حتّى إذا قبض النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم سألتها فقالت: إنّه أسرّ إليّ فقال: ( إنّ جبريل عليه السّلام كان يعارضني بالقرآن في كلّ عام مرّةً ، وإنّه عارضني به العام مرّتين ، ولا أراه إلاّ قد حضر أجلي ، وإنّك أوّل أهل بيتي لحوقًا بي ، ونعم السّلف أنا لك ) فبكيت لذلك، ثمّ قال ( ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الأمّة ، أو نساء المؤمنين )؟ قالت: فضحكت لذلك.
فهذه فاطمة التي كانت في غاية من الزهد واختار الله عز وجل لها علي ابن أبي طالب، فقد خطبها غير واحد، منهم: أبوبكر، وخطبها بعده عمر، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ( إنّها صغيرة ) ثم خطبها علي بن أبي طالب فزوجه بها. وكان مهرها درع علي بن أبي طالب الحطمية.
فهذه الأدلة المتكاثرة تدل على فضل أهل بيت النبوة.
وبقي: من هم أهل بيت النبوة؟.(28/8)
إنّهم: آل علي، وآل عقيل، وآل عباس، ومن حرمت عليهم الصدقة، فإن قال قائل: فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ( اللهمّ هؤلاء أهل بيتي ) وأشار إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين، فهذا يدل على منْزلتهم الرفيعة، ولكنه لا يدل على أن الآخرين ليسوا من أهل البيت، ونساؤه أيضًا داخلات في أهل البيت، لأنّهن في السياق، حتى كان عكرمة مولى ابن عباس يخرج في الأسواق ويصيح: من شاء باهلته أن أهل بيت النبوة هم نساؤه. فلا، ليس الأمر كما يقول عكرمة، بل نساؤه من أهل بيته.
وقال بعضهم: لو كان نساؤه من أهل بيته لقال الله سبحانه وتعالى: ( إنّما يريد الله ليذهب عنكنّ الرّجس ) ، ولأتى بضمير المؤنث. فالجواب: أن أهل البيت ذكور وإناث، وغلّب الذكور كشأن كثير من الآيات كقوله تعالى: { وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة }، يشمل الرجال والنساء.
وهذه الفضائل المتقدمة هل هي تشمل من لم يكن مستقيمًا؟ فإما أن يكون مبغضًا للسنة، وإما أن يكون هاشميًا وقد أصبح شيوعيًا، أو بعثيًا، أو مرتشيًا، أو مديرًا للضرائب والجمارك، أو موظفا في البنك الربوي، فهل يشمله هذا؟ فأقول: إننا لا نستطيع أن ننفي نسبه إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لكن الفضيلة لا تشمله. بل الفضيلة للمتمسكين بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أهل بيت النبوة، وأسعد الناس من كان من أهل بيت النبوة وهو من أهل السنة.
فنحن ندعوهم إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أما إذا كان من أهل بيت النبوة وهو مقدام في الشر، فبنو هاشم هم أول من أدخل التلفزيون إلى منطقة (دماج)، وهم أول من أتى بنسائهم إلى الانتخابات في (دماج)، وأما القبائل فقد أصبحوا يستحيون من هذا الفعل.(28/9)
فإذا كان الأمر كذلك فهل نقول: إن هؤلاء لهم شرف أهل بيت النبوة؟ لا، لا، لا، قال الله سبحانه وتعالى في شأن نوح عند أن قال: { ربّ إنّ ابني من أهلي وإنّ وعدك الحقّ وأنت أحكم الحاكمين * قال يانوح إنّه ليس من أهلك إنّه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين}. وقال سبحانه وتعالى: { فإذا نفخ في الصّور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون }.
وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: { يانساء النّبيّ من يأت منكنّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين}. وقال الله سبحانه وتعالى: { ضرب الله مثلاً للّذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئًا وقيل ادخلا النّار مع الدّاخلين }.
والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ( من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه ) ، ويقول أيضًا لبني هاشم: ( لا يأتيني النّاس بأعمالهم، وتأتوني بأنسابكم ) . وفي " الصحيحين " من حديث عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ( إنّ آل أبي فلان ليسوا بأوليائي ، إنّما وليّي الله وصالح المؤمنين، ولكن لهم رحم أبلّها ببلاها ) يعني أصلها بصلتها.
وأما حديث: ( كلّ سبب ونسب ينقطع إلاّ سببي ونسبي ) ، وظاهره التعارض مع قول الله عز وجل: { فإذا نفخ في الصّور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون }، وهو حديث صحيح وقد كنت أقول بضعفه، لأنني لم أستوعب طرقه. وهذا الحديث يدل على أن من كان مستقيمًا في هذا الزمن، فإنه يشمله هذا الحديث، وليس مجرد زهد وهو يختلس أموال الناس بالحروز والعزائم.
فنريد أن نسلك مسلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفاطمة الزاهدة التقية، وهكذا الحسن والحسين رضي الله عنهما.(28/10)
والذي يسب الصحابة ليس له نصيب في هذه الفضيلة ، يقول الله سبحانه وتعالى في شأن الصحابة: { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجةً من الّذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى }.
فلا يشغلوك بمعاوية ولا بفلان وفلان بل اشتغل بنفسك فهل أنت راض عن نفسك؟ ولقد أحسن من قال:
بنفسي عن ذنوب بني أميّة إليه علم ذلك لا إليّه
إذا ما الله يغفر ما لديّه لعمرك إن في ذنبي لشغلاً
لى ربي حسابهم جميعًا وليس بضائري ما قد أتوه
أما مسألة سب الصحابة فإن الله عز وجل يقول: { والسّابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنّات تجري تحتها الأنْهار خالدين فيها أبدًا }. ويقول: { لقد تاب الله على النّبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثمّ تاب عليهم }.
فالذي يسب صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يدخل في هذه الفضيلة، وكذلك الذي يسب السنة ويتبرم من السنة ويؤذي أهل السنة. ومازال العلماء في اليمن منذ القدم وهم يعانون الأذى من الشيعة. وأول من أدخل التشيع والاعتزال إلى اليمن هو الهادي المقبور بصعدة ، وقد دخل في زمن عبدالرزاق قبل الهادي، لكنه دخل دخولاً خصوصيًا لعبدالرزاق نفسه، أما الذي نشره في اليمن فهو الهادي .
أما بالنسبة للتشيع فيجب أن نكون كلنا من شيعة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لأن التشيع بمعنى الإتباع، فنحن من أتباع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(28/11)
وأما حديث: ( ياعليّ أنت وشيعتك في الجنة ) ، فإنه حديث موضوع، ذكره ابن الجوزي في " الموضوعات ". وأما الاعتزال فهو نسف للعقيدة ، فإن المعتزلة لا يؤمنون بأسماء الله وصفاته كما هي ، وهم قريبون من الخوارج يحكمون على صاحب الكبيرة بأنه مخلد في النار ، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ( يخرج من النّار من قال: لا إله إلاّ الله ، وفي قلبه وزن ذرّة من خير ) .
فهذه الأدلة المتقدمة خير من الأكاذيب والترهات التي تلقى علينا من أمثال: ( أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق وهوى ) ، ومثل: ( عليّ خير البشر، من أبى فقد كفر ) . وعلى قولهم هذا فعليّ خير من الأنبياء والناس أجمعين.
وهذا الذي تقدم من فضائل أهل بيت النبوة هو قطرة من مطرة، لأن محاضرة واحدة لن تستوعب فضائل أهل بيت النبوة، فقد ألف الدولابي كتابًا بعنوان " الذرية الطاهرة "، وألف الإمام أحمد كتابًا في فضائل الصحابة وذكر الشيء الكثير من فضائل أهل بيت النبوة، وألف المحب الطبري كتابًا بعنوان " ذخائر العقبى في فضائل ذوي القربى "، وهو كتاب جمع فيه الصحيح والضعيف والموضوع وما لا أصل له، لأن صاحبه ليس بمحدث، والشوكاني له كتاب بعنوان " در السحابة في فضائل الصحابة والقرابة "، ولم يتحر الأحاديث الصحيحة. من أجل هذا نتمنى أن الله يوفق طالب علم ويكتب في فضائل أهل بيت النبوة بعنوان " الصحيح المسند من فضائل أهل بيت النبوة " .(28/12)
فأهل السنة يحبون أهل بيت النبوة حبًّا شرعيًا، فهم يحبون علي بن أبي طالب ويحبون الحسنين وفاطمة، وعلي بن الحسين الملقب بزين العابدين، ومحمد بن علي الملقب بالباقر وجعفر الصادق وزيد بن علي، يحبونهم حبًا شرعيًا، ونعتبرهم من أئمتنا ، فلم يكن عندهم تشيع ولا اعتزال ، من أجل هذا فقد روى البخاري ومسلم لعلي بن الحسين، ومحمد الباقر وروى مسلم لجعفر الصادق، وروى أصحاب السنن لزيد بن علي رضي الله عنهم جميعًا، وقد ذكرنا شيئًا من فضائلهم وثناء أهل العلم عليهم في كتابنا " إرشاد ذوي الفطن لإبعاد غلاة الروافض من اليمن ".
أما كفانا أن أحمد بن سليمان من أئمة الزيدية له كتابان بعنوان " الحكمة الدرية " والثاني " حقائق المعرفة "، فيهما السب الصراح لأبي بكر وعمر، حتى نستورد من كتب أهل إيران، ولكن هذه الكتب التي تستورد من كتب أهل إيران تعتبر دعوة لأهل السنة لأن فيها الكفر والشرك ، ففيها: أن الشمس قالت لعلي بن أبي طالب: السلام عليك يا أول ياآخر يا ظاهر يا باطن يا من هو بكل شيء عليم.
وفيها أيضًا أن علي بن طالب قال: وحاشا عليًا أن يقول : أما تعلم أنني أعلم السر وأخفى ، وأنني أعلم ما في الأرحام. وإذا أردت أن تحصل على الكتاب الذي فيه هذا الكلام ، فكلم شخصًا حالق لحية، مغبّر يديه كأنه يشتغل في الأسمنت، فإنّهم لن يعطوك إذا كنت ذا لحية، ثم يذهب إلى المكتبات في صعدة ويقول لهم: أريد كتاب " عيون المعجزات "، وكذلك كتاب " سلوني قبل أن تفقدوني "، وهو كتاب في مجلدين، وهذا الكتاب الضال فيه، وهو يصف علي بن أبي طالب
أهلك عادًا وثمود بدواهيه كلّم موسى فوق طور إذ يناجيه
وفيه أن رجلين اختصما: هل علي أفضل أم أبوبكر؟ ورضيا بأول داخل يدخل من الباب أنه الحكم، فدخل داخل وقالا له: إننا قد اختصمنا أيهما أفضل أبوبكر أم علي؟ فقال: علي أفضل لأنه خلق أبا بكر!(28/13)
والكتاب يباع، في صنعاء ( مكتبة اليمن الكبرى )، عجل الله بإحراقها، فإنّها تريد أن تزعزع عقيدة اليمنيين.
فيا أهل السنة تمسكوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فأهل السنة أنعم الله عليهم والفضل في هذا لله وحده، ليس بحولنا ولا بقوّتنا. فأهل بيت النبوة نحبهم حبًا شرعيًا ونعترف بفضائلهم حتى من كان موجودًا الآن وهو مستقيم يجب أن نحترمه ونرعى حقه، ونعرف له منْزلته وقربه من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما الذي أصبح يسب الدعاة إلى الله ويقول: هؤلاء وهّابية جاءوا بدين جديد، وهو لا يعرف شيئًا عن الدين، وقلبه معلق بالمحكمة، ولصّ من اللصوص في اختلاس أموال الناس. فقد كان هناك حاكم ( بالصفراء) يأكل أموال القبائل، فقيل له: حرام عليك! فقال: لا، فالقبيلي يقول: هو يهودي ما يفعل، ويفعل، والقبيلي يقول: امرأته طالق ما يفعل، ويفعل، والقبيلي يقول كذا وكذا، فأموالهم حلال لنا. وأعظم من هذا أن المهدي صاحب " المواهب " يعتبر بلاد اليمن بلادًا خراجية بمعنى أنّها ملكهم لأنّهم طهروها من المطرفيّة.
وهكذا علم الكلام، واقرءوا " الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم " إذ يقول عن القاسم العياني: إن القاسم العياني يقول: كلامي أنفع للناس من كلام الله، لأنّهم قد أجمعوا على أن علم الكلام أشرف العلوم، وأنا أفضل من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأني أعلم منه بعلم الكلام.
علم الكلام الذي يقول فيه الإمام الشافعي: حكمي أن يضرب أهل علم الكلام بالجريد ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة.
ودخل البلاء حتى على المذهب، فهم يقولون: إنّهم الفرقة الناجية، وعلى مفهومهم هذا فالفرقة الناجية من منطقة (العمشية) إلى ( ضحيان)، وهي التي ستدخل الجنة.(28/14)
أما العلماء الأفاضل كمحمد بن إبراهيم الوزير ومحمد بن إسماعيل الأمير وهما من أهل بيت النبوة ولهم ردود على كتب الزيدية والمعتزلة، حتى أن محمد ابن إسماعيل الأمير كان يقول لأصحابه: لا ندري من نحن متبعون؟ فتارة يقولون للهادي، وأخرى لزيد بن علي .
ويقول بعضهم: ائتني بزيديّ صغير أخرج لك منه رافضيًا كبير.
فطغت علينا كتب الرافضة من العراق، فالقاضي جعفر بن أحمد بن عبدالسلام، لعله من علماء القرن السادس أو السابع ذهب يدرس في العراق، والذي أرسله هو أحمد بن سليمان وما رجع إلا بشر مستطير، أهل العراق الذين يعتبرون من عبدة قبر الحسين وقبر علي بن أبي طالب ومن الغلاة في جعفر، حتى إن هارون بن سعد العجلي يقول وقد كان شيعيًّا:
فكلهم في جعفر قال منكرًا طوائف سمته النّبيّ المطهرابرئت إلى الرحمن ممن تجفّرابصير بعين الكفر بالدين أعوراعليها وأن يغدوا إلى الحق قصّرا ولو قيل زنجيّ تحوّل أحمرا إذا هو وجه للإقبال وجه أدبرا كما قال في عيسى الفرى من تنصّرا
والمتأخرون غيّروا وبدّلوا وظلموا المتمسكين بالسنة ، وما انتشرت السنة إلا في هذه الأزمنة، وهذا من فضل الله تعالى، فأهل بيت النبوة يقول الله تعالى فيهم: { إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرًا }. والرجس: الإثم والعصيان، ولكن هل هذه إرادة كونية أم إرادة شرعية؟ والجواب: أنّها إرادة شرعية، ولو كانت إرادة كونية لوقعت كما أراد ربنا عز وجل.
والذي أنصح به إخواننا الأفاضل من أهل بيت النبوة أن يحمدوا الله فإننا ندعوهم إلى التمسك بسنة جدهم، ولا نقول لهم: تمسكوا بسنة جدنا، فمن نحن ولا نستحق أن ندعو إلى التمسك بسنتنا، ولا بسنة أجدادنا، لكن نقول لهم: تعالوا حتى نتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الذي هو جدكم ويعتبر شرفًا لكم.(28/15)
كما ننصحهم أن يلتحقوا بمعاقل العلم ويدرسوا الكتاب والسنة، فما رفع الله شأن محمد بن إبراهيم الوزير ومحمد بن إسماعيل الأمير، وحسين بن مهدي النعمي، وهؤلاء الثلاثة من أهل بيت النبوة، ومحمد بن علي الشوكاني وهو قاض، ما رفع الله شأنهم إلا بالعلم وتمسكهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما التحكم والكبر فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ( لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر ).
فترى الرجل منهم له بنات ربما يعجّزن ولا يزوّج القبائل، ولقد قال محمد ابن إسماعيل الأمير، عند أن ذكر أن الكفاءة في الدين: اللهم إنا نبرأ إليك من شرط ربّاه الهوى، وولده الجهل والكبرياء، شرط ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولقد حرمت الفاطميات في يمننا ما أحل الله لهن، ثم ذكر حديث فاطمة بنت قيس التي قال لها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( أنكحي أسامة ) وأسامة ليس بقرشي .
ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه )، وكان أبا هند رجلاً حجّامًا. ولقد قرأت في كتاب اسمه " المحبّر "، وإذا جمْع من النساء الفاطميات قد تزوّجن بمن ليس بفاطمي، وهذا أمر يخالف حتى المذهب الزيدي، على أننا نقول: إن المذهب الزيدي مبنيّ على الهيام ولنا شريط في ذلك، ففي ما قرأناه في " متن الأزهار ": ( والكفاءة في الدين، قيل: إلا الفاطمية)، بصيغة التمريض: ( قيل: إلا الفاطمية)، وإلا فالكفاءة في الدين يقول الله تعالى: { يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم }، وعلي بن أبي طالب زوج ابنته بعمر بن الخطاب. والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم زوج ابنته بعثمان فلما توفيت زوّجه الأخرى، فلما توفيت الثانية قال: ( لو أنّ لنا غيرها لزوّجناك ياعثمان ).(28/16)
فهذا ظلم للفاطميات، وهم يسمونها عندنا ( شريفة )، لكن إذا جاءت الانتخابات خرجوا إليها وهم أول من سن هذه السنة السيئة.
فإذا أراد إخواننا أهل بيت النبوة أن نحبهم وأن نعظمهم فليسلكوا مسلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
تنبيه: قد يسأل سائل عن معنى كلمة ناصبي، فنقول: هو من نصب العداوة لآل بيت محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو الحرب سواء بيده أم بلسانه، فهذا معنى الناصبي . والمحدثون وأهل السنة يعدون الناصبي مبتدعًا، كما يعدون الشيعي مبتدعًا.
تنبيه آخر: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما، كائنًا من كان )، وقد كان بويع لعلي بن أبي طالب، ثم خرج عليه من خرج رضوان الله عليهم أجمعين، ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( أبشر عمّار تقتلك الفئة الباغية ).
فمعاوية وأصحابه يعتبرون بغاة لأنّهم خرجوا على علي بن أبي طالب وهو أحق بالخلافة، لكن لا يخرجهم بغيهم عن الإسلام قال الله سبحانه وتعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما }، فسماهم مؤمنين. وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النّار ) فسماهم مسلمين.
ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الخوارج الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يقول في آخر الحديث: ( تقتلهم أولى الطّائفتين بالحقّ )، فقتلهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
فعلي بن أبي طالب هو المصيب في جميع حروبه، ورحم الله عمر بن عبدالعزيز وقد سئل عن هذه الفتن فقال: تلك فتنة طهّر الله منها سيوفنا، فلا نقذّر بها ألسنتنا.(28/17)
فضلُ أهل البيت وعلوُّ مكانتِهم
عند أهل السُّنَّة والجماعة
إعداد
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن سلك سبيلَه، واهتدى بهديه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فلأهميَّةِ بيان مكانة آل بيت النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ألقيتُ في الموضوع محاضرةً في قاعة المحاضرات بالجامعة الإسلامية بالمدينة قبل ستة عشر عاماً، وقد رأيتُ لعمومِ الفائدةِ كتابةَ رسالةٍ مختصرةٍ في هذا الموضوعِ، سَمَّيتُها:
فضلُ أهل البيت وعلوُّ مكانتِهم عند أهل السُّنَّة والجماعة
وهي تشتمل على عشرة فصول:
الفصل الأول: مَن هم أهل البيت؟
الفصل الثاني: مُجمل عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في أهل البيت.
الفصل الثالث: فضائل أهل البيت في القرآن الكريم.
الفصل الرابع: فضائل أهل البيت في السنَّة المطهَّرة.
الفصل الخامس: علوُّ مكانة أهل البيت عند الصحابة وتابعيهم بإحسان.
الفصل السادس: ثناء بعض أهل العلم على جماعة من الصحابة من أهل البيت.
الفصل السابع: ثناء بعض أهل العلم على جماعة من الصحابيات من أهل البيت.
الفصل الثامن: ثناء بعض أهل العلم على جماعة من التابعين وغيرهم من أهل البيت.
الفصل التاسع: مقارنة بين عقيدة أهل السُّنَّة وعقيدة غيرهم في أهل البيت.
الفصل العاشر: تحريم الانتساب بغير حق إلى أهل البيت.
... المؤلف
... 1 ـ ربيع الثاني ـ 1422
الفصل الأول: مَن هم أهل البيت؟(29/1)
القولُ الصحيحُ في المرادِ بآل بيت النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - هم مَن تَحرُم عليهم الصَّدقةُ، وهم أزواجُه وذريَّتُه، وكلُّ مسلمٍ ومسلمةٍ من نَسْل عبد المطلب، وهم بنُو هاشِم بن عبد مَناف؛ قال ابن حزم في جمهرة أنساب العرب (ص:14): (( وُلِد لهاشم بن عبد مناف: شيبةُ، وهو عبد المطلب، وفيه العمود والشَّرف، ولَم يبْقَ لهاشم عَقِبٌ إلاَّ مِن عبد المطلب فقط )).
وانظر عَقِبَ عبد المطلب في: جمهرة أنساب العرب لابن حزم (ص:14 ـ 15)، والتبيين في أنساب القرشيِّين لابن قدامة (ص:76)، ومنهاج السنة لابن تيمية (7/304 ـ 305)، وفتح الباري لابن حجر (7/78 ـ 79).
ويدلُّ لدخول بنِي أعمامه في أهل بيته ما أخرجه مسلم في صحيحه (1072) عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب أنَّه ذهب هو والفضل بن عباس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلبان منه أن يُولِّيهما على الصَّدقةِ ليُصيبَا مِن المال ما يتزوَّجان به، فقال لهما - صلى الله عليه وسلم -: (( إنَّ الصَّدقة لا تنبغي لآل محمد؛ إنَّما هي أوساخُ الناس ))، ثمَّ أمر بتزويجهما وإصداقهما من الخمس.
وقد ألْحَق بعضُ أهل العلم منهم الشافعي وأحمد بنِي المطلب بن عبد مَناف ببَنِي هاشم في تحريم الصَّدقة عليهم؛ لمشاركتِهم إيَّاهم في إعطائهم من خمس الخُمس؛ وذلك للحديث الذي رواه البخاري في صحيحه (3140) عن جُبير بن مُطعم، الذي فيه أنَّ إعطاءَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لبَنِي هاشم وبنِي المطلب دون إخوانِهم من بنِي عبد شمس ونوفل؛ لكون بنِي هاشم وبَنِي المطلب شيئاً واحداً.(29/2)
فأمَّا دخول أزواجه رضي الله عنهنَّ في آلِه - صلى الله عليه وسلم -، فيدلُّ لذلك قول الله عزَّ وجلَّ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن ءَايَاتِ اللهِ وَالحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا}.
فإنَّ هذه الآيةَ تدلُّ على دخولِهنَّ حتماً؛ لأنَّ سياقَ الآيات قبلها وبعدها خطابٌ لهنَّ، ولا يُنافي ذلك ما جاء في صحيح مسلم (2424) عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: (( خرج النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - غداةً وعليه مِرْطٌ مُرَحَّل من شَعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثمَّ جاء الحُسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمةُ فأدخلها، ثمَّ جاء عليٌّ فأدخله، ثمَّ قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} ))؛ لأنَّ الآيةَ دالَّةٌ على دخولِهنَّ؛ لكون الخطابِ في الآيات لهنَّ، ودخولُ عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم في الآيةِ دلَّت عليه السُّنَّةُ في هذا الحديث، وتخصيصُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لهؤلاء الأربعة رضي الله عنهم في هذا الحديث لا يدلُّ على قَصْرِ أهل بيته عليهم دون القرابات الأخرى، وإنَّما يدلُّ على أنَّهم مِن أخصِّ أقاربه.(29/3)
ونظيرُ دلالة هذه الآية على دخول أزواج النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في آله ودلالة حديث عائشة رضي الله عنها المتقدِّم على دخول عليٍّ وفاطمة والحسن والحُسين رضي الله عنهم في آله، نظيرُ ذلك دلالةُ قول الله عزَّ وجلَّ: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} على أنَّ المرادَ به مسجد قباء، ودلالة السُّنَّة في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه (1398) على أنَّ المرادَ بالمسجد الذي أُسِّس على التقوى مسجدُه - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكر هذا التنظيرَ شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة (( فضلُ أهل البيت وحقوقُهم )) (ص:20 ـ 21).
وزوجاتُه - صلى الله عليه وسلم - داخلاتٌ تحت لفظ (( الآل ))؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( إنَّ الصَّدقةَ لا تَحلُّ لمحمَّدٍ ولا لآل محمَّد ))، ويدلُّ لذلك أنَّهنَّ يُعطَيْن من الخُمس، وأيضاً ما رواه ابن أبي شيبة في مصنّفه (3/214) بإسنادٍ صحيح عن ابن أبي مُلَيكة: (( أنَّ خالد بنَ سعيد بعث إلى عائشةَ ببقرةٍ من الصَّدقةِ فردَّتْها، وقالت: إنَّا آلَ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - لا تَحلُّ لنا الصَّدقة )).(29/4)
ومِمَّا ذكره ابن القيِّم في كتابه (( جلاء الأفهام )) (ص:331 ـ 333) للاحتجاج للقائلِين بدخول أزواجه - صلى الله عليه وسلم - في آل بيته قوله: (( قال هؤلاء: وإنَّما دخل الأزواجُ في الآل وخصوصاً أزواجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تشبيهاً لذلك بالنَّسَب؛ لأنَّ اتِّصالَهُنَّ بالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - غيرُ مرتفع، وهنَّ محرَّماتٌ على غيرِه في حياتِه وبعد مَمَاتِه، وهنَّ زوجاتُه في الدنيا والآخرة، فالسَّببُ الذي لهنَّ بالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قائمٌ مقامَ النَّسَب، وقد نصَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - على الصلاةِ عليهنَّ، ولهذا كان القولُ الصحيح ـ وهو منصوص الإمام أحمد رحمه الله ـ أنَّ الصَّدقةَ تحرُمُ عليهنَّ؛ لأنَّها أوساخُ الناسِ، وقد صان اللهُ سبحانه ذلك الجَنَابَ الرَّفيع، وآلَه مِن كلِّ أوساخِ بَنِي آدَم.
ويا لله العجب! كيف يدخلُ أزواجُه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اللَّهمَّ اجعل رزقَ آل محمَّد قوتاً)، وقوله في الأضحية: (اللَّهمَّ هذا عن محمد وآل محمد)، وفي قول عائشة رضي الله عنه: (ما شبع آلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خُبز بُرٍّ)، وفي قول المصلِّي: (اللَّهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد)، ولا يَدخُلْنَ في قوله: (إنَّ الصَّدقة لا تَحلُّ لمحمَّد ولا لآل محمَّد)، مع كونِها من أوساخِ الناس، فأزواجُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أولى بالصِّيانةِ عنها والبُعدِ منها؟!
فإن قيل: لو كانت الصَّدقةُ حراماً عليهنَّ لَحَرُمت على مواليهنَّ، كما أنَّها لَمَّا حرُمت على بَنِي هاشِم حرُمَت على موالِيهم، وقد ثبت في الصحيح أنَّ بريرةَ تُصُدِّق عليها بلَحمٍ فأكلته، ولَم يُحرِّمه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وهي مولاةٌ لعائشة رضي الله عنها.
قيل: هذا هو شبهةُ مَن أباحَها لأزواج النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.(29/5)
وجوابُ هذه الشُّبهةِ أنَّ تحريمَ الصَّدقةِ على أزواجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ليس بطريق الأصالةِ، وإنَّما هو تَبَعٌ لتَحريمها عليه - صلى الله عليه وسلم -، وإلاَّ فالصَّدقةُ حلالٌ لهنَّ قبل اتِّصالِهنَّ به، فهنَّ فرعٌ في هذا التحريمِ، والتحريمُ على المولَى فرعُ التَّحريمِ على سيِّدِه، فلمَّا كان التَّحريمُ على بَنِي هاشِم أصلاً استتبَع ذلك مواليهم، ولَمَّا كان التَّحريمُ على أزواجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تَبَعاً لَم يَقْوَ ذلك على استِتْبَاعِ مواليهنَّ؛ لأنَّه فرعٌ عن فرعٍ.
قالوا: وقد قال الله تعالى: {يَا نِسَآءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} وساق الآيات إلى قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن ءَايَاتِ اللهِ وَالحِكْمَةِ}، ثم قال: فدخَلْنَ في أهل البيت؛ لأنَّ هذا الخطابَ كلَّه في سياق ذِكرهنَّ، فلا يجوز إخراجُهنَّ مِن شيءٍ منه، والله أعلم )).
ويدلُّ على تحريم الصَّدقة على موالِي بَنِي هاشِم ما رواه أبو داود في سننه (1650)، والترمذي (657)، والنسائي (2611) بإسنادٍ صحيح ـ واللفظ لأبي داود ـ عن أبي رافع: (( أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً على الصَّدقة مِن بَنِي مخزوم، فقال لأبي رافع: اصْحَبنِي فإنَّك تُصيبُ منها، قال: حتى آتِي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأسأله، فأتاه فسأله، فقال: مولَى القوم مِن أنفسِهم، وإنَّا لا تَحِلُّ لنا الصَّدقة )).
الفصل الثاني: مُجملُ عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في أهل البيت(29/6)
عقيدةُ أهل السُّنَّة والجماعة وسَطٌ بين الإفراطِ والتَّفريط، والغلُوِّ والجَفاء في جميعِ مسائل الاعتقاد، ومِن ذلك عقيدتهم في آل بيت الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّهم يَتوَلَّونَ كلَّ مسلمٍ ومسلمةٍ من نَسْل عبد المطلِّب، وكذلك زوجات النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - جميعاً، فيُحبُّون الجميعَ، ويُثنون عليهم، ويُنْزلونَهم منازلَهم التي يَستحقُّونَها بالعدلِ والإنصافِ، لا بالهوى والتعسُّف، ويَعرِفون الفضلَ لِمَن جَمع اللهُ له بين شرِف الإيمانِ وشرَف النَّسَب، فمَن كان من أهل البيت من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّهم يُحبُّونَه لإيمانِه وتقواه، ولصُحبَتِه إيَّاه، ولقرابَتِه منه - صلى الله عليه وسلم -.
ومَن لَم يكن منهم صحابيًّا، فإنَّهم يُحبُّونَه لإيمانِه وتقواه، ولقربه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويَرَون أنَّ شرَفَ النَّسَب تابعٌ لشرَف الإيمان، ومَن جمع اللهُ له بينهما فقد جمع له بين الحُسْنَيَيْن، ومَن لَم يُوَفَّق للإيمان، فإنَّ شرَفَ النَّسَب لا يُفيدُه شيئاً، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}، وقال - صلى الله عليه وسلم - في آخر حديث طويلٍ رواه مسلم في صحيحه (2699) عن أبي هريرة رضي الله عنه: (( ومَن بطَّأ به عملُه لَم يُسرع به نسبُه )).(29/7)
وقد قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرح هذا الحديث في كتابه جامع العلوم والحكم (ص:308):
(( معناه أنَّ العملَ هو الذي يَبلُغُ بالعبدِ درجات الآخرة، كما قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}، فمَن أبطأ به عملُه أن يبلُغَ به المنازلَ العاليةَ عند الله تعالى لَم يُسرِع به نسبُه، فيبلغه تلك الدَّرجات؛ فإنَّ اللهَ رتَّب الجزاءَ على الأعمال لا على الأنساب، كما قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ}، وقد أمر الله تعالى بالمسارعةِ إلى مغفرتِه ورحمتِه بالأعمال، كما قال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ} الآيتين، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} )).(29/8)
ثمَّ ذَكَرَ نصوصاً في الحثِّ على الأعمالِ الصالِحَة، وأنَّ ولايةَ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - إنَّما تُنالُ بالتقوى والعمل الصَّالِح، ثمَّ ختَمها بحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه في صحيح البخاري (5990) وصحيح مسلم (215)، فقال:
(( ويشهد لهذا كلِّه ما في الصحيحين عن عمرو بن العاص أنَّه سمع النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( إنَّ آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، وإنَّما وليِّيَ اللهُ وصالِحُ المؤمنين ))، يشير إلى أنَّ ولايتَه لا تُنال بالنَّسَب وإن قَرُب، وإنَّما تُنال بالإيمان والعمل الصالح، فمن كان أكملَ إيماناً وعملاً فهو أعظم ولايةً له، سواء كان له منه نسبٌ قريبٌ أو لم يكن، وفي هذا المعنى يقول بعضُهم:
... لعمرُك ما الإنسانُ إلاَّ بدينه
... فلا تترك التقوى اتِّكالاً على النَّسب
... لقد رفع الإسلامُ سلمانَ فارسٍ
... وقد وضع الشركُ النَّسِيبَ أبا لهب )).
الفصل الثالث: فضائلُ أهل البيت في القرآن الكريم(29/9)
قال الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ الله أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا يَا نِسَآءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا يَا نِسَآءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِن ءَايَاتِ اللهِ وَالحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا}.
فقولُه: {إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} دالٌّ على فضل قرابةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم الذين تحرم عليهم الصَّدقة، ومِن أخَصِّهم أزواجه وذريّته، كما مرَّ بيانُه.
والآياتُ دالَّةٌ على فضائل أخرى لزوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أوّلها: كونهنَّ خُيِّرْن بين إرادة الدنيا وزينتها، وبين إرادة الله ورسوله والدار الآخرة، فاخترنَ اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرة، رضي الله عنهنَّ وأرضاهنَّ.(29/10)
ويدل على فضلهنَّ أيضاً قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}؛ فقد وصفهنَّ بأنَّهنَّ أمّهات المؤمنين.
وأمَّا قولُه عزَّ وجلَّ: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى}، فالصحيحُ في معناها أنَّ المرادَ بذلك بطونُ قريشٍ، كما جاء بيانُ ذلك في صحيح البخاري (4818) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما؛ فقد قال البخاري: حدَّثني محمد بن بشار، حدَّثنا محمد بن جعفر، حدَّثنا شعبة، عن عبد الملك بن مَيسرة قال: سمعتُ طاوساً، عن ابن عباس: (( أنَّه سُئل عن قوله {إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى}، فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال ابن عباس: عجلتَ؛ إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بطنٌ من قريش إلاَّ كان له فيهم قرابة، فقال: إلاَّ أن تَصِلُوا ما بيني وبينكم من قرابة )).
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (( أي قل يا محمد! لهؤلاء المشركين من كفار قريش: لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم مالاً تُعْطُونِيه، وإنَّما أَطلبُ منكم أن تكفُّوا شرَّكم عنِّي وتَذَرُونِي أبلِّغ رسالات ربِّي، إن لَم تَنصرونِي فلا تؤذوني بِما بينِي وبينكم من القرابةِ ))، ثم أورد أثرَ ابن عباس المذكور.
وأمَّا تخصيصُ بعض أهل الأهواءِ {القُرْبَى} في الآية بفاطمة وعلي رضي الله عنهما وذريَّتهما فهو غيرُ صحيح؛ لأنَّ الآيةَ مكيَّةٌ، وزواجُ عليٍّ بفاطمةَ رضي الله عنهما إنَّما كان بالمدينة، قال ابن كثير رحمه الله: (( وذِكرُ نزول الآية بالمدينة بعيدٌ؛ فإنَّها مكيَّةٌ، ولم يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولادٌ بالكليَّة؛ فإنَّها لَم تتزوَّج بعليٍّ رضي الله عنه إلاَّ بعد بدر من السنة الثانية مِن الهجرة، والحقُّ تفسيرُ هذه الآية بما فسَّرها به حَبْرُ الأمَّة وتُرجمان القرآن عبدُ الله بنُ عباس رضي الله عنهما ، كما رواه البخاري )).(29/11)
ثم ذكر ما يدلُّ على فضل أهل بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - من السُّنَّة ومن الآثار عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
* * *
الفصل الرابع: فضائل أهل البيت في السُّنَّة المطَهَّرة
ـ روى مسلمٌ في صحيحه (2276) عن واثلةَ بنِ الأسْقَع رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
(( إنَّ اللهَ اصطفى كِنانَةَ مِن ولدِ إسماعيل، واصطفى قريشاً من كِنَانَة، واصطفى مِن قريشٍ بَنِي هاشِم، واصطفانِي مِن بَنِي هاشِم )).
ـ وروى مسلمٌ في صحيحه (2424) عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: (( خرج النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - غداةً وعليه مِرْطٌ مُرَحَّل مِن شَعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثمَّ جاء الحُسين فدخل معه، ثمَّ جاءت فاطمةُ فأدخلَها، ثمَّ جاء عليٌّ فأدخله، ثمَّ قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} )).
ـ وروى مسلم (2404) من حديث سَعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه قال: (( لَمَّا نزلت هذه الآيةُ {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} دعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عليًّا وفاطمةَ وحَسناً وحُسيناً، فقال: اللَّهمَّ هؤلاء أهل بيتِي )).(29/12)
ـ وروى مسلم في صحيحه (2408) بإسناده عن يزيد بن حيَّان قال: (( انطلقتُ أنا وحُصين بن سَبْرة وعمر بنُ مسلم إلى زيد بنِ أرقم، فلمَّا جلسنا إليه، قال له حُصين: لقد لقيتَ ـ يا زيد! ـ خيراً كثيراً؛ رأيتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وسمعتَ حديثَه، وغزوتَ معه، وصلَّيتَ خلفه ،لقد لقيتَ
ـ يا زيد! ـ خيراً كثيراً، حدِّثْنا ـ يا زيد! ـ ما سَمعتَ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال: يا ابنَ أخي! والله! لقد كَبِرَتْ
سِنِّي، وقَدُم عهدِي، ونسيتُ بعضَ الذي كنتُ أعِي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما حدَّثتُكم فاقبلوا، وما لا فلا تُكَلِّفونيه، ثمَّ قال: قام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فينا خطيباً بماءٍ يُدعى خُمًّا، بين مكة والمدينة، فحمِد اللهَ وأثنى عليه، ووعظ وذكَّر، ثم قال: أمَّا بعد، ألا أيُّها الناس! فإنَّما أنا بشرٌ يوشك أن يأتي رسولُ ربِّي فأُجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثَقَلَيْن؛ أوَّلُهما كتاب الله، فيه الهُدى والنُّور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به، فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال: وأهلُ بَيتِي، أُذكِّرُكم اللهَ في أهل بيتِي، أُذكِّرُكم اللهَ في أهل بيتِي، أُذكِّرُكم اللهَ في أهل بيتِي، فقال له حُصين: ومَن أهلُ بيتِه يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيتِه؟ قال: نساؤه مِن أهل بيتِه، ولكن أهلُ بيتِه مَن حُرِم الصَّدقةُ بعده، قال: ومَن هم؟ قال: هم آلُ عليٍّ، وآلُ عَقيل، وآلُ جعفر، وآلُ عبَّاس، قال: كلُّ هؤلاء حُرِم الصَّدقة؟ قال: نعم! )).
وفي لفظ: (( فقلنا: مَن أهلُ بيتِه؟ نساؤه؟ قال: لا، وايمُ الله! إنَّ المرأةَ تكون مع الرَّجل العصرَ من الدَّهر، ثم يُطلِّقها، فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيتِه أصلُه وعَصَبتُه الذين حُرِموا الصَّدقة بعده )).
وهنا أنبِّه على أمور:(29/13)
الأول: أنَّ ذِكرَ عليٍّ وفاطمةَ وابنيهِما رضي الله عنهم في حديث الكِساء وحديث المباهلة المتقدِّمَين لا يدلُّ على قَصْر أهل البيت عليهم، وإنَّما يدلُّ على أنَّهم من أخصِّ أهل بيته، وأنَّهم مِن أَوْلَى مَن يدخل تحت لفظ (أهل البيت)، وتقدَّمت الإشارةُ إلى ذلك.
الثاني: أنَّ ذِكرَ زيد رضي الله عنه آلَ عَقيل وآلَ عليٍّ وآلَ جعفر وآلَ العبَّاس لا يدلُّ على أنَّهم هم الذين تحرُم عليهم الصَّدقةُ دون سواهم، بل هي تحرُم على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ من نسل عبد المطلب، وقد مرَّ حديثُ عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب في صحيح مسلم، وفيه شمول ذلك لأولاد ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب.
الثالث: تقدَّم الاستدلالُ من الكتاب والسُّنَّة على كون زوجات النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - من آل بيته، وبيان أنَّهنَّ مِمَّن
تحرُم عليه الصَّدقة، وأمَّا ما جاء في كلامِ زَيدٍ المتقدِّم
من دخولِهنَّ في الآل في الرواية الأولى، وعدم دخولهنَّ
في الرواية الثانية، فالمعتبَرُ الروايةُ الأولى، وما ذكره من عدم الدخول إنَّما ينطبِق على سائر الزوجات سوى زوجاتِه - صلى الله عليه وسلم -.
أمَّا زوجاتُه رضي الله عنهنَّ، فاتِّصالُهنَّ به شبيهٌ بالنَّسَب؛ لأنَّ اتِّصالَهُنَّ به غيرُ مرتفع، وهنَّ زوجاتُه في الدنيا والآخرة، كما مرَّ توضيحُ ذلك في كلام ابن القيم رحمه الله.
الرابع: أنَّ أهلَ السُّنَّة والجماعة هم أسعَدُ الناس بتنفيذ وصيَّة النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في أهل بيتِه التي جاءت في هذا الحديث؛ لأنَّهم يُحبُّونَهم جميعاً ويتوَلَّونَهم، ويُنزلونَهم منازلَهم التي يستحقُّونَها بالعدلِ والإنصافِ، وأمَّا غيرُهم فقد قال ابن تيمية في مجموع فتاواه (4/419): (( وأبعدُ الناسِ عن هذه الوصيَّة الرافضةُ؛ فإنَّهم يُعادُون العبَّاس وذُريَّتَه، بل يُعادون جمهور أهل البيت ويُعينون الكفَّارَ عليهم )).(29/14)
ـ وحديث: (( كلُّ سببٍ ونسبٍ منقطعٌ يوم القيامةِ إلاَّ سبَبِي ونسبِي ))، أورده الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (2036) وعزاه إلى ابن عباس وعمر وابن عمر والمِسور بن مخرمة رضي الله عنهم، وذكر مَن خرَّجه عنهم، وقال: (( وجملةُ القول أنَّ الحديثَ بمجموع هذه الطرق صحيحٌ، والله أعلم )).
وفي بعض الطرق أنَّ هذا الحديث هو الذي جعل عمر رضي الله عنه يرغبُ في الزواج من أمِّ كلثوم بنت عليٍّ من فاطمة رضي الله عن الجميع.
ـ وروى الإمام أحمد في مسنده (5/374) عن
عبد الرزاق، عن مَعمر، عن ابن طاوس، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن رجل من أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان يقول: (( اللَّهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وعلى أهل بيته وعلى أزواجِه وذريَّتِه، كما صلَّيتَ على آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيدٌ، وبارِك على محمَّدٍ وعلى أهل بيته وعلى أزواجِه وذريَّتِه، كما بارَكتَ على آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيدٌ ))، قال ابن طاوس: وكان أبي يقول مثلَ ذلك.
ورجال الإسناد دون الصحابيِّ خرَّج لهم البخاري ومسلمٌ وأصحابُ السنن الأربعة، وقال الألبانيُّ في صفة صلاة النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (( رواه أحمد والطحاوي بسندٍ صحيح )).
وأمَّا ذِكرُ الصلاة على الأزواج والذريَّة، فهو ثابتٌ في الصحيحين أيضاً من حديث أبي حُميد الساعدي رضي الله عنه.
لكن ذلك لا يدلُّ على اختصاص آل البيت بالأزواج والذريَّة، وإنَّما يدلُّ على تأكُّد دخولِهم وعدم خروجهم، وعطفُ الأزواجِ والذريَّة على أهل بيته في الحديث المتقدِّم من عطف الخاصِّ على العام.(29/15)
قال ابن القيم بعد حديث فيه ذكر أهل البيت والأزواج والذريَّة ـ وإسناده فيه مقال ـ: (( فجمع بين الأزواج والذريَّة والأهل، وإنَّما نصَّ عليهم بتعيينهم؛ ليُبيِّن أنَّهم حقيقون بالدخول في الآل، وأنَّهم ليسوا بخارجين منه، بل هم أحقُّ مَن دخل فيه، وهذا كنظائره من عطف الخاصِّ على العام وعكسه؛ تنبيهاً على شرفه، وتخصيصاً
له بالذِّكر من بين النوع؛ لأنَّه أحقُّ أفراد النوع بالدخول فيه )). جلاء الأفهام (ص:338).
ـ وقال - صلى الله عليه وسلم -: (( إنَّ الصَّدقةَ لا تنبغي لآل محمد، إنَّما هي أوساخ الناس ))، أخرجه مسلمٌ في صحيحه من حديث عبد المطلب بن ربيعة (1072)، وقد تقدَّم.
الفصل الخامس:علوُّ مكانة أهل البيت عند الصحابة وتابعيهم بإحسان
أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
روى البخاري في صحيحه (3712) أنَّ أبا بكر رضي الله عنه قال لعليٍّ رضي الله عنه: (( والذي نفسي بيدِه لَقرابةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحبُّ إليَّ أنْ أَصِلَ من قرابَتِي )).
وروى البخاريُّ في صحيحه أيضاً (3713) عن ابن عمر، عن أبي بكر رضي الله عنه قال: (( ارقُبُوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - في أهل بيته )).
قال الحافظ ابن حجر في شرحه: (( يخاطِبُ بذلك الناسَ ويوصيهم به، والمراقبةُ للشيء: المحافظةُ عليه، يقول: احفظوه فيهم، فلا تؤذوهم ولا تُسيئوا إليهم )).
وفي صحيح البخاري (3542) عن عُقبة بن الحارث رضي الله عنه قال: (( صلَّى أبو بكر رضي الله عنه العصرَ، ثم خرج يَمشي، فرأى الحسنَ يلعبُ مع الصِّبيان، فحمله على عاتقه، وقال:
بأبي شبيهٌ بالنبي لا شبيهٌ بعلي
وعليٌّ يضحك )).
قال الحافظ في شرحه: (( قوله: (بأبي): فيه حذفٌ تقديره أفديه بأبي ))، وقال أيضاً: (( وفي الحديث فضلُ أبي بكر ومَحبَّتُه لقرابةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - )).
عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما:(29/16)
روى البخاري في صحيحه (1010)، و(3710) عن أنس رضي الله عنه: (( أنَّ عمر بن الخطاب كان إذا قُحِطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللَّهمَّ إنَّا كنَّا نتوسَّل إليك بنبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - فتسقينا، وإنَّا نتوسَّلُ إليك بعمِّ نبيِّنا فاسقِنا، قال: فيُسقَوْن )).
والمرادُ بتوسُّل عمر رضي الله عنه بالعباس رضي الله عنه التوسُّلُ بدعائه كما جاء مبيَّناً في بعض الروايات، وقد ذكرها الحافظ في شرح الحديث في كتاب الاستسقاء من فتح الباري.
واختيار عمر رضي الله عنه للعباس رضي الله عنه للتوسُّل بدعائه إنَّما هو لقرابتِه مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قال رضي الله عنه في توسُّله: (( وإنَّا نتوسَّل إليك بعمِّ
نبيِّنا ))، ولم يقل: بالعباس. ومن المعلوم أنَّ عليًّا رضي الله عنه أفضلُ من العباس، وهو من قرابة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكن العباس أقربُ، ولو كان النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُورَث عنه المال لكان العباس هو المقدَّم في ذلك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( أَلحِقوا الفرائض بأهلها، فما أبقتِ الفرائضُ فلأولَى رجل ذَكر ))، أخرجه البخاري ومسلم، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قولُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لعمر عن عمِّه العباس: (( أمَا عَلِمتَ أنَّ عمَّ الرَّجلِ صِنْوُ أبيه )).
وفي تفسير ابن كثير لآيات الشورى: قال عمر بن الخطاب للعباس رضي الله تعالى عنهما: (( والله لإِسلاَمُك يوم أسلمتَ كان أحبَّ إليَّ من إسلامِ الخطاب لو أسلَمَ؛ لأنَّ إسلامَك كان أحبَّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إسلام الخطاب ))، وهو عند ابن سعد في الطبقات (4/22، 30).(29/17)
وفي كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (1/446) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (( أنَّ عمر بنَ الخطاب رضي الله عنه لَمَّا وضع ديوان العَطاءِ كتب الناسَ على قَدْرِ أنسابِهم، فبدأ بأقربِهم فأقربهم نسباً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا انقضت العربُ ذكر العَجَم، هكذا كان الديوان على عهد الخلفاء الراشدين، وسائر الخلفاء من بَنِي أُميَّة ووَلَدِ العباس إلى أن تغيَّر الأمرُ بعد ذلك )).
وقال أيضاً (1/453): (( وانظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين وضع الديوان، وقالوا له: يبدأ أميرُ المؤمنين بنفسِه، فقال: لا! ولكن ضَعُوا عمر حيث وضعه الله، فبدأ بأهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمَّ مَن يليهِم، حتى جاءت نوْبَتُه في بَنِي عديٍّ، وهم متأخِّرون عن أكثر بطون قريش )).
وتقدَّم في فضائل أهل البيت من السُّنَّة حديث: (( كلُّ سبب ونَسبٍ منقطعٌ يوم القيامة إلاَّ سبَبِي ونسبِي ))، وأنَّ هذا هو الذي دفع عمر رضي الله عنه إلى خِطبَة أمِّ كلثوم بنت عليٍّ، وقد ذكر الألباني في السلسلة الصحيحة تحت (رقم:2036) طرقَ هذا الحديث عن عمر رضي الله عنه.
ومن المعلوم أنَّ الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله عنهم هم أصهارٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما حصل لهما زيادة الشَّرَف بزواج النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - من بنتيهِما: عائشة وحفصة، وعثمان وعلي رضي الله عنهما حصل لهما زيادة الشَّرَف بزواجهما من بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتزوَّج عثمان رضي الله عنه رُقيَّة، وبعد موتها تزوَّج أختَها أمَّ كلثوم، ولهذا يُقال له: ذو النُّورَين، وتزوَّج عليٌّ رضي الله عنه فاطمةَ رضي الله عنها.(29/18)
وفي سير أعلام النبلاء للذهبي وتهذيب التهذيب لابن حجر في ترجمة العبَّاس: (( كان العبَّاسُ إذا مرَّ بعمر أو بعثمان، وهما راكبان، نزلاَ حتى يُجاوِزهما إجلالاً لعمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )).
عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
في طبقات ابن سعد (5/333)، و(5/387 ـ 388) بإسناده إلى فاطمة بنت علي بن أبي طالب أنَّ عمر بن عبد العزيز قال لها: (( يا ابنة علي! والله ما على ظهر الأرض أهلُ بيت أحبُّ إليَّ منكم، ولأَنتم أحبُّ إليَّ مِن أهل بيتِي )).
أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله:
في تهذيب الكمال للمزي في ترجمة علي بن الحسين، قال أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله: (( أصحُّ الأسانيد كلِّها: الزهري، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي )).
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(29/19)
قال ابنُ تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية:
(( ويُحبُّون (يعني أهل السُّنَّة والجماعة) أهلَ بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتوَلَّوْنَهم، ويحفظون فيهم وصيَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال يوم غدير خُمّ: (أُذكِّرُكم الله في أهل بيتِي)، وقال أيضاً للعباس عمّه ـ وقد اشتكى إليه أنَّ بعضَ قريش يجفو بَنِي هاشم ـ فقال: (والذي نفسي بيده، لا يؤمنون حتَّى يُحبُّوكم لله ولقرابَتِي)، وقال: (إنَّ اللهَ اصطفى مِن بَنِي إسماعيل كِنانَةَ، واصطفى من كنَانَة قريشاً، واصطفى مِن قريشٍ بَنِي هاشِم، واصطفانِي مِن بَنِي هاشِم)، ويتوَلَّون أزواجَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمَّهات المؤمنين، ويؤمنون بأنَّهنَّ أزواجُه في الآخرة، خصوصاً خديجة رضي الله عنها، أمُّ أكثر أولاده، وأوَّل مَن آمن به وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية، والصدِّيقة بنت الصدِّيق رضي الله عنها، التي قال فيها النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (فضلُ عائشة على النساء كفضل الثَّريد على سائر الطعام)، ويتبرَّؤون من طريقة الروافض الذين يُبغضون الصحابةَ ويَسبُّونَهم، وطريقةِ النَّواصب الذين يُؤذون أهلَ البيت بقول أو عمل )).
وقال أيضاً في الوصيَّة الكبرى كما في مجموع فتاواه (3/407 ـ 408): (( وكذلك آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم من الحقوق ما يجب رعايتُها؛ فإنَّ الله جعل لهم حقًّا في الخمس والفيء، وأمر بالصلاةِ عليهم مع الصلاةِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لنا: (قولوا: اللَّهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ، وبارِك على محمد وعلى آل محمد كما بارَكتَ على آل إبراهيم، إنَّك حميدٌ مجيدٌ).(29/20)
وآلُ محمَّدٍ هم الذين حرُمت عليهم الصَّدقة، هكذا قال الشافعيُّ وأحمد بنُ حنبل وغيرُهما من العلماء رحمهم الله؛ فإنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنَّ الصَّدقةَ لا تَحِلُّ لمحمَّدٍ ولا لآلِ محمَّد)، وقد قال الله تعالى في كتابه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}، وحرَّم الله عليهم الصَّدقة؛ لأنَّها أوساخُ الناس )).
وقال أيضاً كما في مجموع فتاواه (28/491):
(( وكذلك أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجبُ مَحبَّتُهم وموالاتُهم ورعايةُ حقِّهم )).
الإمام ابن القيِّم رحمه الله:
قال ابن القيم في بيان أسباب قبول التأويل الفاسد:
(( السبب الثالث: أن يَعْزُو المتأوِّلُ تأويلَه إلى جليلِ القَدْر، نبيلِ الذِّكر، مِن العقلاء، أو مِن آل بيت النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أو مَن حصل له في الأمَّة ثناءٌ جميل ولسانُ صِدق؛ ليُحلِّيه بذلك في قلوب الجُهَّال، فإنَّه من شأن الناسِ تعظيمُ كلامِ مَن يَعظُمُ قدْرُه في نفوسهم، حتى إنَّهم لَيُقدِّمون كلامَه على كلام الله ورسوله، ويقولون: هو أعلمُ بالله منَّا!
وبهذا الطريق توصَّل الرافضةُ والباطنيَّةُ والإسماعليَّةُ والنُّصيريَّة إلى تنفيقِ باطلهم وتأويلاتِهم حين أضافوها إلى أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لِمَا علموا أنَّ المسلمين متَّفقون على مَحبَّتِهم وتعظيمِهم، فانتمَوا إليهم وأظهروا مِن مَحبَّتِهم وإجلالهم وذِكر مناقبهم ما خُيِّل إلى السَّامع أنَّهم أولياؤهم، ثم نفقوا باطلَهم بنسبتِه إليهم.
فلا إله إلاَّ الله! كم مِن زندقَةٍ وإلحادٍ وبدعةٍ قد نفقت في الوجود بسبب ذلك، وهم بُرآءُ منها.(29/21)
وإذا تأمَّلتَ هذا السَّببَ رأيتَه هو الغالب على أكثر النفوس، فليس معهم سوى إحسان الظنِّ بالقائل، بلا بُرهان من الله قادَهم إلى ذلك، وهذا ميراثٌ بالتعصيب من الذين عارضوا دين الرُّسل بما كان عليه الآباء والأسلاف، وهذا شأنُ كلِّ مقلِّدٍ لِمَن يعظمه فيما خالف فيه الحقَّ إلى يوم القيامة )). مختصر الصواعق المرسلة (1/90).
الحافظ ابن كثير رحمه الله:
قال ابن كثير في تفسيره لآية الشورى بعد أن بيَّن أنَّ الصحيحَ تفسيرُها بأنَّ المرادَ بـ {القُرْبَى} بطونُ قريش، كما جاء ذلك في تفسير ابن عباس للآية في صحيح البخاري، قال رحمه الله: (( ولا نُنكرُ الوُصاةَ بأهل البيت والأمرَ بالإحسان إليهم واحترامِهم وإكرامِهم؛ فإنَّهم من ذريَّةٍ طاهرَةٍ، مِن أشرف بيتٍ وُجِد على وجه الأرض، فخراً وحسَباً ونَسَباً، ولا سيما إذا كانوا متَّبعين للسُّنَّة النَّبويَّة الصحيحة الواضحة الجليَّة، كما كان سلفُهم، كالعباس وبنيه، وعليٍّ وأهل بيته وذريَّتِه، رضي الله عنهم أجمعين )).
وبعد أن أورد أثرَين عن أبي بكر رضي الله عنه، وأثراً عن عمر رضي الله عنه في توقير أهل البيت وبيان علوِّ مكانتِهم، قال: (( فحالُ الشيخين رضي الله عنهما هو الواجبُ على كلِّ أحدٍ أن يكون كذلك، ولهذا كانا أفضلَ المؤمنين بعد النَّبيِّين والمرسَلين، رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين )).
الحافظ ابن حجر رحمه الله:
قال ابن حجر في فتح الباري (3/11) في حديث في إسنادِه علي بن حسين، عن حسين بن علي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، قال: (( وهذا من أصحِّ الأسانيد، ومن أشرف التراجم الواردةِ فيمَن روى عن أبيه، عن جدِّه )).
شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:(29/22)
وأمَّا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فله ستَّةُ بنين وبنت واحدة، وهم عبد الله وعلي وحسن وحسين وإبراهيم وعبد العزيز وفاطمة، وكلُّهم بأسماء أهل البيت ما عدا عبد العزيز، فعبد الله وإبراهيم ابنا النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والباقون علي وفاطمة وحسن وحسين: صهره وبنته - صلى الله عليه وسلم - وسبطاه.
واختياره تسمية أولاده بأسماء هؤلاء يدلُّ على مَحبَّته لأهل بيت النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وتقديره لهم، وقد تكرَّرت هذه الأسماء في أحفادِه.
وفي ختام هذا الفصل أقول: لقد رزقنِي الله بنين وبنات، سميت باسم علي والحسن والحسين وفاطمة، وبأسماء سَبْعٍ من أمهات المؤمنين، والمسمَّى بأسمائهم جمعوا بين كونهم صحابة وقرابة.
والحمد لله الذي أنعم عليَّ بمَحبَّة صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته، وأسأل اللهَ أن يُديم عليَّ هذه النِّعمةَ، وأن يحفظَ قلبِي من الغِلِّ على أحدٍ منهم، ولساني من ذِكرهم بما لا ينبغي، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
* * *
الفصل السادس: ثناءُ بعض أهل العلم على جماعة من الصحابة من أهل البيت
عمُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه:
قال الذهبيُّ في سير أعلام النبلاء (2/79 ـ80):
(( كان مِن أطولِ الرِّجال، وأحسنِهم صورة، وأبهاهم، وأجهرِهم صوتاً، مع الحِلْمِ الوافر والسُّؤْدد ...
قال الزبير بن بكَّار: كان للعباس ثوبٌ لعاري بنِي هاشم، وجفنةٌ لجائعهم، ومِنظرة لجاهلهم، وكان يمنع الجارَ، ويَبذُل المالَ، ويُعطي في النوائب )).
وقوله: (( مِنظرة )): في تهذيب تاريخ ابن عساكر: مِقطرة، وهي ما يُربَط به مَن يحصل منه اعتداءٌ وظلم. (انظر: حاشية السير).(29/23)
عمُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه:
قال ابن عبد البر في الاستيعاب (1/270 حاشية الإصابة): (( حمزة بن عبد المطلب بن هاشم عمُّ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، كان يُقال له: أسد الله وأسد رسوله، يكنى أبا عمارة وأبا يعلى أيضاً )).
وقال فيه الذهبي: (( الإمام البَطل الضِّرغام أسد الله أبو عُمارة وأبو يعلى القرشي الهاشمي المكي ثم المدني البدري الشهيد، عمُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخوه من الرَّضاعة )). السير (1/172).
أمير المؤمنين علي بن أبى طالب رضي الله عنه:
روى مسلمٌ في صحيحه (276) بإسناده إلى شُريح بن هانئ قال: (( أتيتُ عائشةَ أسألها عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بابن أبي طالب فَسَلْه؛ فإنَّه كان يُسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألناه، فقال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثةَ أيامٍ ولياليَهنَّ للمسافر، ويوماً وليلةً للمقيم )).
وفي رواية له قالت: (( ائتِ عليًّا؛ فإنَّه أعلمُ بذلك منِّي، فأتيتُ عليًّا، فذكر عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمثلِه )).
وقال ابن عبد البر رحمه الله في الاستيعاب (3/51 حاشية الإصابة): (( وقال أحمد بن حنبل وإسماعيل بن إسحاق القاضي: لَم يُرْوَ في فضائل أحدٍ من الصحابةِ بالأسانيد الحسان ما رُوي في فضائل عليِّ بن أبي طالب، وكذلك أحمد بن شعيب بن علي النسائي رحمه الله )).
وقال أيضاً (3/47): (( وسُئل الحسن بن أبي الحسن البصري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ فقال:
كان عليٌّ والله! سَهماً صائباً من مرامي الله على عدوِّه، وربَّانيَّ هذه الأمَّة، وذا فضلها وذا سابقتها وذا قرابتِها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لَم يكن بالنومة عن أمر الله، و لا بالملومة في دين الله، ولا بالسروقة لمال الله، أعطى القرآن عزائمَه، ففاز منه برياضٍ مونِقة، ذلك عليُّ بن أبي طالب يا لُكَع! )).(29/24)
وقال أيضاً (3/52): (( روى الأصمُّ، عن عباس الدوري، عن يحيى بن معين أنَّه قال: خيرُ هذه الأمَّة بعد نبيِّنا: أبو بكر وعمر ثم عثمان ثم علي، هذا مذهبُنا وقولُ أئمَّتِنا )).
وقال أيضاً (3/65): (( وروى أبو أحمد الزبيري وغيرُه عن مالك بن مِغوَل، عن أُكَيْل، عن الشَّعبي قال: قال لي علقمة: تدري ما مَثَلُ عليٍّ في هذه الأمَّة؟ قلت: وما مثله؟ قال: مَثَلُ عيسى بن مريم؛ أحبَّه قومٌ حتى هلكوا في حبِّه، وأبغضه قومٌ حتى هلكوا في بغضه )).
ومرادُ علقمة بالمشبَّه به اليهود والنصارى، وفي المشبَّه الخوارج والرافضة.
وقال أيضاً (3/33): (( وأجمعوا على أنَّه صلَّى القبلتين وهاجر، وشهد بدراً والحديبية وسائر المشاهد، وأنَّه أبلى ببدرٍ وبأُحدٍ وبالخندق وبخيبر بلاءً عظيماً، وأنَّه أغنى
في تلك المشاهد، وقام فيها المقامَ الكريم، وكان لواءُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده في مواطن كثيرة، وكان يوم بدر بيده على اختلاف في ذلك، ولَمَّا قُتل مصعب بن عُمير يوم أُحُد وكان اللِّواءُ بيده دفعه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عليٍّ رضي الله عنه )).(29/25)
وقال ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة (6/178): (( وعليٌّ رضي الله عنه ما زالاَ ـ أي أبو بكر وعمر ـ مُكرِمَين له غايةَ الإكرام بكلِّ طريق، مُقدِّمَيْن له بل ولسائر بَنِي هاشِم على غيرهم في العَطاءِ، مُقدِّمَيْن له في المرتبةِ والحرمةِ والمَحبَّةِ والموالاة والثناءِ والتعظيمِ، كما يفعلان بنُظرائه، ويُفضِّلانه بما فضَّله الله عزَّ وجلَّ به على مَن ليس مثله، ولَم يُعرَف عنهما كلمةُ سوءٍ في عليٍّ قطُّ، بل ولا
في أحد من بَنِي هاشِم )) إلى أن قال: (( وكذلك عليٌّ رضي الله عنه قد تواتر عنه مِن مَحبَّتِهما وموالاتِهما وتعظيمِهما وتقديمِهما على سائر الأمَّة ما يُعلم به حالُه في ذلك، ولَم يُعرف عنه قطُّ كلمةُ سوءٍ في حقِّهما، ولا أنَّه كان أحقَّ بالأمر منهما، وهذا معروفٌ عند مَن عرف الأخبارَ الثابتةَ المتواترةَ عند الخاصَّة والعامة، والمنقولة بأخبار الثقات )).
وقال أيضاً (6/18): (( وأمَّا عليٌّ رضي الله عنه، فأهل السُّنَّة يُحبُّونَه ويتولَّونه، ويشهدون بأنَّه من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديِّين )).
وقال ابن حجر رحمه الله في التقريب: (( عليُّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، حَيْدَرَة، أبو تُراب، وأبو الحَسنَيْن، ابنُ عمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجُ ابنته، من السابقين الأوَّلين، ورجَّح جمعٌ أنَّه أوَّلُ مَن أَسلَم، فهو سابقُ العرب، وهو أحدُ العشرة، مات في رمضان سنة أربعين، وهو يومئذٍ أفضلُ الأحياء مِن بَنِي آدَم بالأرض، بإجماع أهل السُّنَّة، وله ثلاثٌ وستون سنة على الأرجح )).
ولعليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه مِن الولد خمسة عشر من الذُّكور، وثمان عشرة من الإناث، ذكر ذلك العامريُّ في (( الرياض المستطابة في جملة مَن رَوَى في الصحيحين من الصحابة )) (ص:180)، ثم ذكرهم وذكر أمَّهاتهم، ثم قال: (( والعَقِبُ من ولَد عليٍّ كان في الحسن والحسين ومحمد وعمر والعباس )).(29/26)
سِبطُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحسنُ بنُ علي بن أبي طالب رضي الله عنهما:
قال ابن عبد البر رحمه الله في الاستيعاب (1/369 حاشية الإصابة): (( وتواترت الآثارُ الصحاحُ عن النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أنَّه قال في الحسن بن علي: (إنَّ ابنِي هذا سيِّدٌ، وعسى الله أن يُبقيه حتى يُصلِح به بين فئتَين عظيمتَين من المسلمين)، رواه جماعةٌ من الصحابة، وفي حديث أبي بكرة في ذلك: (وأنَّه رَيْحانَتِي من الدنيا).
ولا أَسْوَد مِمَّن سَمَّاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سيِّداً، وكان رحمة الله عليه حليماً ورِعاً فاضلاً، دعاه ورعُه وفضلُه إلى أن تَرَك المُلْكَ والدنيا رغبةً فيما عند الله، وقال: (والله! ما أحببتُ ـ منذُ علمتُ ما ينفعُنِي ويضُرُّنِي ـ أن أَلِيَ أمرَ أمَّة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - على أن يُهراق في ذلك محجمة دم)، وكان من المبادرين إلى نصر عثمان رحمه الله والذَّابِّين عنه )).
وقال فيه الذهبيُّ في السير (3/245 ـ 246): (( الإمامُ السيِّد، رَيحانةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسِبطُه، وسيِّد شباب أهل الجَنَّة، أبو محمد القرشي الهاشمي المدني الشهيد )).
وقال أيضاً (3/253): (( وقد كان هذا الإمامُ سيِّداً، وَسيماً، جميلاً، عاقِلاً، رَزيناً، جَوَاداً، مُمَدَّحاً، خيِّراً، دَيِّناً، وَرِعاً، مُحتشِماً، كبيرَ الشأنِ )).
وقال فيه ابنُ كثير في البداية والنهاية (11/192 ـ 193): (( وقد كان الصِّدِّيقُ يُجِلُّه ويُعظِّمُه ويُكرمُه ويتفدَّاه، وكذلك عمر بنُ الخطاب )) إلى أن قال:
(( وكذلك كان عثمان بن عفان يُكرِمُ الحسن والحُسين ويُحبُّهما، وقد كان الحسن بن علي يوم الدار ـ وعثمان بن عفان محصورٌ ـ عنده ومعه السيف متقلِّداً به يُجاحف عن عثمان، فخشي عثمان عليه، فأقسم عليه ليَرجِعنَّ إلى منزلهم؛ تطييباً لقلب عليٍّ وخوفاً عليه، رضي الله عنهم )).(29/27)
سِبطُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما:
قال ابنُ عبد البر رحمه الله في الاستيعاب (1/377 حاشية الإصابة): (( وكان الحسين فاضلاً ديِّناً كثيرَ الصَّومِ والصلاةِ والحجِّ )).
وقال ابن تيمية كما في مجموع فتاواه (4/511):
(( والحسين رضي الله عنه أكرمه اللهُ تعالى بالشهادةِ في هذا اليوم (أي يوم عاشوراء)، وأهان بذلك مَن قتله أو أعان على قتلِه أو رضيَ بقتلِه، وله أسوةٌ حسنةٌ بِمَن سبقه من الشهداء؛ فإنَّه (هو) وأخوه سيِّدَا شباب أهل الجَنَّة، وكانا قد تربَّيَا في عزِّ الإسلامِ، لَم ينالاَ من الهجرة والجهاد والصَّبر على الأذى في الله ما ناله أهلُ بيتِه، فأكرمهما اللهُ تعالى بالشَّهادةِ تكميلاً لكرامتِهما، ورَفعاً لدرجاتِهما.
وقتلُه مصيبةٌ عظيمةٌ، والله سبحانه قد شرع الاسترجاعَ عند المصيبة بقوله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ} )).
وقال فيه الذهبيُّ ـ رحمه الله ـ في السير (3/280):
(( الإمام الشريفُ الكاملُ، سِبطُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورَيْحانتُه من الدنيا ومَحبوبُه، أبو عبد الله الحسين بن أمير المؤمنين أبى الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم ابن عبد مَناف بن قُصَي القرشي الهاشمي )).
وقال ابنُ كثير ـ رحمه الله ـ في البداية والنهاية (11/476): (( والمقصودُ أنَّ الحسين عاصَر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وصَحِبَه إلى أن توفي وهو عنه راضٍ، ولكنَّه كان صغيراً، ثم كان الصِّدِّيقُ يُكرمُه ويُعظِّمه، وكذلك عمر وعثمان، وصحب أباه وروى عنه، وكان معه في مغازيه كلِّها، في الجَمَل وصِفِّين، وكان معظَّماً مُوَقَّراً )).(29/28)
ابنُ عمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عبَّاس رضي الله عنهما:
روى البخاريُّ في صحيحه (4970) عن ابن عباس قال: (( كان عمرُ يُدخِلُنِي مع أشياخ بَدر، فكأنَّ بعضَهم وَجَد في نفسه، فقال: لِمَ تُدخلُ هذا معنا ولنا أبناء مثلُه؟ فقال عمرُ: إنَّه مِن حيث علِمتُم، فدعا ذات يومٍ فأدخله معهم، فما رُئِيتُ أنَّه دعانِي إلاَّ ليُريهم، قال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ}؟ فقال بعضُهم: أُمِرنا نَحمدُ الله ونستغفرُه إذا نُصِرنا وفُتِح علينا، وسكت بعضُهم فلَم يَقُل شيئاً، فقال لي: أكذاك تقول يا ابنَ عبَّاس؟ فقلتُ: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أَجَلُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَعْلَمَه له، قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ}، وذلك علامةُ أَجَلِكَ، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}، فقال عمر: ما أعلمُ منها إلاَّ ما تقول )).
وفي الطبقات لابن سعد (2/369) عن سَعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه أنَّه قال: (( ما رأيتُ أحضَرَ فهْماً ولا أَلَبَّ لُبًّا ولا أكثرَ علماً ولا أوسَعَ حِلْماً من ابن عباس، ولقد رأيتُ عمر بنَ الخطاب يدعوه للمعضلات )).
وفيها أيضاً (2/370) عن طلحة بن عُبيد الله أنَّه قال: (( لقد أُعطِي ابنُ عباس فهماً ولقناً وعلماً، ما كنتُ أرى عمرَ بنَ الخطاب يُقدِّم عليه أحداً )).
وفيها أيضاً (2/370) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّه قال حين بلغه موتُ ابنِ عباس ـ وصفَّق بإحدى يديه على الأخرى ـ: (( مات أعلمُ الناس، وأحلَمُ الناس، ولقد أُصيبَتْ به هذه الأمَّة مُصيبة لا تُرتق )).
وفيها أيضاً عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: (( لَمَّا مات ابنُ عباس قال رافع بن خديج: مات اليوم مَن كان يَحتاج إليه مَن بين المشرق والمغرب في العِلم )).(29/29)
وفي الاستيعاب لابن عبد البر (2/344 ـ 345) عن مجاهد أنَّه قال: (( ما سمعتُ فُتيا أحسنَ من فتيا ابن عباس، إلاَّ أن يقول قائلٌ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروي مثلُ هذا عن القاسم بن محمد )).
وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في البداية والنهاية (12/88): (( وثبت عن عمر بن الخطاب أنَّه كان يُجلِسُ ابنَ عباس مع مشايخ الصحابة، ويقول: نِعمَ ترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وكان إذا أقبل يقول عمر: جاء فتى الكهول، وذو اللِّسان السَّئول، والقلبِ العَقول )).
ابنُ عمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه:
في صحيح البخاري (3708) من حديث أبي هريرة، وفيه: (( وكان أخْيَرَ النَّاس للمساكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلبُ بنا فيُطعِمُنا ما كان في بيتِه، حتى إن كان ليُخرِج إلينا العُكَّة التي ليس فيها شيء فيَشُقُّها، فنلعق ما فيها )).
قال الحافظ ابن حجر في شرحه (الفتح 7/76):
(( وهذا التقييد يُحمَل عليه المطلقُ الذي جاء عن عكرمة، عن أبي هريرة وقال: (ما احتذى النِّعالَ ولا ركب المطايا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضلُ مِن جعفر بن أبي طالب) أخرجه الترمذي والحاكم بإسنادٍ صحيح )).
وقال فيه الذهبي في السير (1/206): (( السيِّد الشهيد الكبيرُ الشأن، عَلَمُ المجاهدين، أبو عبد الله، ابن عمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدِ مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصيّ الهاشمي، أخو عليّ بن أبي طالب، وهو أسنُّ من عليّ بعشرِ سنين.
هاجر الهجرتين، وهاجر من الحبشة إلى المدينة، فوافى المسلمين وهم على خيبر إِثْرَ أخذها، فأقام بالمدينة أشهُراً ثمَّ أمَّرَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على جيش غزوة مؤتة بناحية الكَرَك، فاستُشهد، وقد سُرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كثيراً بقدومه، وحزن ـ والله! ـ لوفاته )).(29/30)
وفي التقريب لابن حجر أنَّه قال: (( جعفر بن أبي طالب الهاشمي، أبو المساكين، ذو الجناحين، الصحابيّ الجليل ابن عمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، استُشهد في غزوة مؤتة سنة ثمان من الهجرة، وَرَدَ ذكرُه في الصحيحين دون رواية له )).
ويُقال له ذو الجناحين؛ لأنَّه عُوِّض عن يديه لَمَّا قُطِعتا في غزوة مؤتة جناحين يطير بهما مع الملائكة، ففي صحيح البخاري (3709) بإسناده إلى الشعبي: (( أنَّ ابنَ عمر رضي الله عنهما كان إذا سلَّم على ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابنَ ذي الجناحين )).
قال الحافظ في شرحه: (( كأنَّه يشير إلى حديث
عبد الله بن جعفر، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هنيئاً لك؛ أبوك يطير مع الملائكة في السماء) أخرجه الطبراني بإسنادٍ حسنٍ )).
ثمَّ ذكر طرقاً أخرى عن أبي هريرة وعليّ وابن عباس، وقال في طريقٍ عن ابن عباس: (( إنَّ جعفر يطير مع جبريل وميكائيل، له جناحان؛ عوَّضه اللهُ مِن يديه ))، وقال:
(( وإسناد هذه جيِّد )).
ابنُ ابنِ عمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما:
في صحيح مسلم (2428) عن عبد الله بن جعفر قال: (( كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفرٍ تُلُقِّي بصبيانِ أهل بيته، قال: وإنَّه قدم من سفرٍ فسُبق بي إليه، فحملنِي بين يديه، ثمَّ جيء بأَحَدِ ابْنَي فاطمة فأردفه خلفه، قال: فأُدخلنا المدينة ثلاثةً على دابَّة )).
قال فيه الذهبي ـ رحمه الله ـ في السير (3/456):
(( السيِّد العالِمُ، أبو جعفر القرشي الهاشمي، الحبشي المولد، المدني الدار، الجَواد بن الجواد ذي الجناحين، له صحبةٌ وروايةٌ، عِدَادُه في صغار الصحابة، استُشهد أبوه يوم مؤتة، فكفَلَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ونشأ في حِجْرِه )).
وقال أيضاً: (( وكان كبيرَ الشأن، كريماً جواداً، يَصلحُ للإمامة )).(29/31)
وفي الرياض المستطابة للعامريّ (ص:205): (( وصلّى عليه أبان بن عثمان، وكان يومئذٍ واليَ المدينة، وحمل أبانُ سريرَه ودموعُه تنحدر وهو يقول: كنتَ ـ والله! ـ خيراً لا شرَّ فيك، وكنتَ ـ والله! ـ شريفاً فاضلاً برًّا )).
ومن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين هم مِن أهل بيته:
أبو سفيان ونوفل وربيعة وعبيدة بنو الحارث بن عبد المطلب.
وعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب.
والحارث والمغيرة ابنا نَوفل بن الحارث بن عبد المطلب.
وجعفر وعبد الله ابنا أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.
ومعتِّب وعتبة ابنا أبي لهب عبد العزّى بن عبد المطلب.
والفضل وعبيد الله ابنا العباس بن عبد المطلب.
* *
الفصل السابع:
ثناءُ بعض أهل العلم على جماعةٍ من الصحابيات من أهل البيت
ابنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة رضي الله عنها:
عن عائشة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها قالت: (( ما رأيتُ أحدًا أشبهَ سَمْتاً ودَلاًّ وهَدْياً برسولِ الله في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... )) رواه أبو داود (5217) والترمذي (3872)، وإسناده حسن.
وقال أبو نعيم في الحلية (2/39): (( ومن ناسكات الأصفياء، وصفيَّات الأتقياء: فاطمة رضي الله تعالى عنها، السيِّدةُ البَتول، البَضْعَة الشبيهةُ بالرسول، أَلْوَطُ أولاده بقلبه لُصوقاً، وأوَّلهم بعد وفاته به لحوقاً، كانت عن الدنيا ومتعتها عازفة، وبغوامض عيوب الدنيا وآفاتها عارفة )).(29/32)
وقال الذهبي ـ رحمه الله ـ في السير (2/118 ـ 119): (( سيِّدةُ نساء العالمين في زمانها، البَضْعَةُ النَّبويّة والجهة المصطفويّة، أمُّ أبيها، بنتُ سيِّد الخلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشية الهاشمية، وأمُّ الحسنين ))، وقال أيضاً: (( وقد كان النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يحبُّها ويكرمُها ويُسِرُّ إليها، ومناقبها غزيرةٌ، وكانت صابرةً ديِّنةً خيِّرةً صيِّنةً قانعةً شاكرةً لله )).
وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في البداية والنهاية (9/485): (( وتُكَنَّى بأمِّ أبيها ))، وقال: (( وكانت أصغرَ بنات النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - على المشهور، ولَم يبق بعده سواها، فلهذا عظُمَ أجرُها؛ لأنَّها أُصيبت به عليه الصلاة والسلام )).
أمُّ المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها:
قال الذهبي في السير (2/109 ـ110): (( أمُّ المؤمنين وسيِّدة نساء العالمين في زمانها ... أمّ أولاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (سوى إبراهيم)، وأوَّلُ مَن آمن به وصدَّقه قبل كلِّ أحد، وثبَّتتْ جَأشَه ... ومناقبُها جَمَّة، وهي مِمَّن كمُل من النساء، كانت عاقلةً جليلةً ديِّنةً مصونةً كريمةً، من أهل الجنَّة، وكان النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُثني عليها ويفضِّلها على سائر أمّهات المؤمنين، ويُبالغ في تعظيمها ...
ومِن كرامتها عليه - صلى الله عليه وسلم - أنَّها لَم يتزوَّج امرأةً قبلها، وجاءه منها عدّةُ أولادٍ، ولَم يتزوّج عليها قطُّ، ولا تَسَرَّى إلى أن قضت نَحْبَها، فوَجَدَ لفَقْدها؛ فإنَّها كانت نِعمَ القرين ... وقد أمره اللهُ أن يبشِّرَها ببيتٍ في الجنّة من قصَب، لا صخَبَ فيه ولا نصَب )).(29/33)
ومِمَّا قاله ابنُ القيِّم في جلاء الأفهام (ص:349) أنَّ مِن خصائصها أنَّ اللهَ بعث إليها السلام مع جبريل عليه السلام، وقال: (( وهذه لَعَمرُ الله خاصَّة لَم تكن لسواها! )).
وقال قبل ذلك: (( ومنها (أي من خصائصها): أنَّها خيرُ نساء الأمَّة، واختُلف في تفضيلها على عائشة رضي الله عنهما على ثلاثة أقوال: ثالثُها: الوقف، وسألتُ شيخَنا ابن تيمية رحمة الله عليه؟ فقال: اختصَّ كلُّ واحدةٍ منهما بخاصَّة، فخديجةُ كان تأثيرُها في أوَّل الإسلام، وكانت تُسَلِّي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وتُثبِّتُه وتُسكنه، وتَبذُلُ دونه مالَها، فأدركت غرة الإسلام، واحتملتِ الأذى في الله تعالى وفي رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت نُصرتُها للرَّسول - صلى الله عليه وسلم - في أعظمِ أوقات الحاجة، فلها من النُّصرةِ والبذل ما ليس لغيرها، وعائشة رضي الله عنها تأثيرُها في آخر الإسلام، فلها من التفقُّه في الدِّين وتبليغه إلى الأمَّة وانتفاع بَنيها بِما أدَّت إليهم من العلم ما ليس لغيرها، هذا معنى كلامِه )).
أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
قال فيها الذهبي في السير (2/140): (( ... ولَم يتزوَّج النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بكراً غيرها، ولا أحَبَّ امرأةً حُبَّها، ولا أعلمُ في أُمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - ـ بل ولا في النساء مطلقاً ـ امرأةً أعلمَ منها )).
وفي السير أيضاً (2/181) عن عليِّ بن الأقْمَر قال:
(( كان مسروق إذا حدَّث عن عائشة قال: حدَّثتنِي الصِّدِّيقةُ بنتُ الصِّدِّيق، حبيبةُ حبيبِ الله، المُبرَّأةُ من فوق سبع سماوات، فلَم أكذبها )).(29/34)
وذكر ابن القيم في جلاء الأفهام (ص:351 ـ 355) جملةً من خصائصها، مُلخَّصُها: (( أنَّها كانت أحبَّ الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه لَم يتزوَّج بِكراً غيرها، وأنَّ الوحيَ كان ينزل عليه وهو في لِحافِها، وأنَّه لَمَّا نزلت عليه آيةُ التَّخيير بدأ بها، فخيَّرها، فاختارت اللهَ ورسولَه، واستنَّ بها بقيَّةُ أزواجِه، وأنَّ اللهَ برَّأها بِما رماها به أهلُ الإفك، وأنزل في عُذرِها وبراءَتِها وَحْياً يُتلَى في محاريب المسلمين وصلواتِهم إلى يوم القيامة، وشهد لها بأنَّها مِن الطيِّبات، ووعدها المغفرةَ والرِّزقَ الكريم، ومع هذه المنزلة العليَّة تتواضعُ لله وتقول: (ولَشأنِي في نفسي أهونُ مِن أن يُنزل الله فِيَّ قرآناً يُتلى)، وأنَّ أكابرَ الصحابةِ رضي الله عنهم إذا أشكل عليهم الأمرُ من الدِّين استفتَوْها، فيجِدون علمَه عندها، وأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي في بيتها، وفي يومِها، وبين سَحْرِها ونَحرِها، ودُفن في بيتِها، وأنَّ المَلَكَ أَرَى صورتَها للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يتزوَّجها في سَرَقة حرير، فقال: (إن يكن هذا من عند الله يُمضِه)، وأنَّ الناسَ كانوا يَتحرَّونَ بهداياهم يومَها مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيُتحِفونَه بما يُحبُّ في منزلِ أحبِّ نسائه إليه رضي الله عنهم أجمعين )).
أمُّ المؤمنين سَوْدَة بنت زَمْعَة رضي الله عنها:
قال الذهبيُّ ـ رحمه الله ـ في السير (2/265 ـ 266): (( وهي أوَّلُ مَن تزوَّج بها النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعد خديجة، وانفردت به نحواً من ثلاث سنين أو أكثر، حتى دخل بعائشة، وكانت سيِّدةً جليلةً نبيلةً ضخمةً ... وهي التي وَهبتْ يومَها لعائشة؛ رِعايَةً لقلبِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... )).(29/35)
وقال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في جلاء الأفهام (ص:350): (( ... وكبرت عنده، وأراد طلاَقَها، فوهبتْ يومَها لعائشة رضي الله عنها فأمسَكَها، وهذا مِن خواصِّها، أنَّها آثَرَت بيَومِها حِبَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، تقرُّباً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحُبًّا له، وإيثاراً لِمُقامِها معه، فكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقسِمُ لنسائه، ولا يَقسِمُ لها، وهي راضيةٌ بذلك، مُؤثِرةٌ لرضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رضي الله عنها )).
أمُّ المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها:
قال الذهبيُّ في السير (2/227): (( السِّتْرُ الرَّفيعُ، بنتُ أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب، تزوَّجها النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعد انقضاءِ عِدَّتِها من خُنيس بن حُذافة السَّهمي
ـ أحد المهاجرين ـ في سنة ثلاثٍ من الهجرة.
قالت عائشةُ: هي التي كانت تُسامِينِي من أزواج النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - )).
أمُّ المؤمنين أمُّ سلمة هند بنتُ أبي أُميَّة رضي الله عنها:
قال الذهبيُّ في السير (2/201 ـ 203): (( السيِّدةُ المُحجَّبَةُ الطَّاهرةُ ... من المهاجرات الأُوَل ... وكانت تُعدُّ من فقهاء الصحابيات )).
وقال يحيى بن أبي بكر العامري في الرياض المستطابة (ص:324): (( وكانت فاضلةً حليمةً، وهي التي أشارت على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يوم الحُديبية (أي بِحَلْقِ رأسِه ونَحْرِ هَديِه)، ورأت جبريلَ في صورة دِحية )).
أمُّ المؤمنين زينب بنت خُزَيْمة الهلاليَّة رضي الله عنها:
ذكر الذهبيُّ في السير (2/218) أنَّها تُدعى أمَّ المساكين؛ لكثرة معروفها.
وقال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ في جلاء الأفهام (ص:376): (( وكانت تُسمَّى أمَّ المساكين؛ لكثرة إطعامِها المساكين، ولَم تلبَث عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ يسيراً: شهرين أو ثلاثة، وتوفيت رضي الله عنها )).(29/36)
أمُّ المؤمنين جُوَيْرِية بنت الحارث رضي الله عنها:
هي أمُّ المؤمنين وحليلةُ سيِّد المرسَلين - صلى الله عليه وسلم -، ويكفيها ذلك فضلاً وشرَفاً، قال ابن القيِّم في جلاء الأفهام (ص:376 ـ 377): (( وهي التي أعتق المسلمون بسببها مئة أهل بيتٍ من الرَّقيق، وقالوا: أصهارُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك مِن برَكَتِها على قومِها رضي الله عنها )).
أمُّ المؤمنين صفيَّةُ بنت حُيَيّ رضي الله عنها:
في جامع الترمذي (3894) بإسنادٍ صحيح من حديث أنس رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها: (( إنَّكِ لابْنَةُ نبِيٍّ، وإنَّ عمَّكِ لَنبِيٌّ، وإنَّكِ لتحت نَبِيٍّ )).
قال الذهبيُّ في السير (2/232): (( وكانت شريفةً عاقلةً، ذاتَ حَسَبٍ وجمال ودِينٍ رضي الله عنها )).
وقال أيضاً (2/235): (( وكانت صفيَّةُ ذاتَ حِلمٍ ووَقارٍ )).
وقال ابن القيم في جلاء الأفهام (ص:377):
(( وتزوَّج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفيَّةَ بنت حُيَيّ مِن ولَدِ هارون بن عمران أخي موسى عليهما السَّلام )).
وقال أيضاً: (( ومِن خصائصِها أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعتَقَها، وجعل عِتقَها صداقَها، قال أنس: (أمهرها نفسَها)، وصار ذلك سُنَّةً للأمَّة إلى يوم القيامة، يجوز للرَّجلِ أن يجعلَ عِتقَ جاريَتِه صداقَها، وتصيرَ زوجتَه، على منصوصِ الإمام أحمد رحمه الله )).
أمُّ المؤمنين أمُّ حبيبة رَمْلَةُ بنت أبي سفيان رضي الله عنها:
قال الذهبيُّ في السير (2/218): (( السيِّدةُ المُحجَّبة )).
وقال أيضاً (2/222): (( وقد كان لأمِّ حبيبة حُرمةٌ وجلالةٌ، ولا سيما في دولة أخيها، ولمكانه منها قيل له: خال المؤمنين )).
وقال ابنُ كثير في البداية والنهاية (11/166): (( وقد كانت من سيِّدات أمَّهات المؤمنين، ومن العابدات الورِعات رضي الله عنها )).
أمُّ المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها:(29/37)
في السير (2/244) عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( أمَا إنَّها مِن أتقانا لله، وأَوْصَلنا للرَّحِم )).
وقال الذهبي (2/239): (( وكانت مِن سادات النِّساء )).
أمُّ المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها:
في صحيح مسلم من حديث طويلٍ (2442) عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( وهي التي كانت تُسامينِي منهنَّ في المنزلة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولَم أرَ امرأةً قطُّ خيراً في الدِّين من زينب، وأتقى لله، وأصدقَ حديثاً، وأوْصَل للرَّحِم، وأعظمَ صدقة، وأشدَّ ابتذالاً لنفسِها في العمل الذي تصدَّق به وتقرَّب به إلى الله تعالى، ما عدا سَوْرَةً مِن حَدٍّ كانت فيها، تُسرع منها الفَيْئَة )).
قال الذهبيُّ في السير (2/211): (( فزوَّجها اللهُ تعالى بنبيِّه بنصِّ كتابه، بلا ولِيٍّ ولا شاهدٍ، فكانت تَفخَرُ بذلك على أمَّهات المؤمنين، وتقول: زوَّجَكنَّ أهاليكُنَّ، وزوَّجَنِي اللهُ من فوق عرشه ))، والحديث في صحيح البخاري (7402).
وقال أيضاً: (( وكانت مِن سادة النِّساءِ دِيناً ووَرَعاً وجُوداً ومعروفاً، رضي الله عنها )).
وقال أيضاً (2/217): (( وكانت صالِحةً صوَّامةً قوَّامةً بارَّةً، ويُقال لها: أمّ المساكين )).
عَمَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفيَّةُ بنت عبد المطلب رضي الله عنها:
قال الذهبيُّ في السير (2/269): (( صفيَّةُ عمَّةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنت عبد المطلب، الهاشميَّة، وهي شقيقة حمزة، وأمُّ حواريِّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: الزبير )).
وقال أيضاً (1/270): (( والصحيح أنَّه ما أسلم مِن عمَّات النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سواها، ولقد وَجَدت على مَصرَع أخيها حمزة، وصبرت واحتسبت، وهي من المهاجرات الأُوَل )).
ومن الصحابيات من أهل البيت:
بناتُه - صلى الله عليه وسلم -: زينب ورُقيَّة وأمُّ كلثوم.
وأمُّ كلثوم وزينب ابنتا عليِّ بن أبي طالب، وأمُّهما فاطمة.(29/38)
وأمامة بنت أبي العاص بن الربيع، وأمُّها زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَحمِلُها في الصلاة.
وأمُّ هانئ بنت أبي طالب بن عبد المطلب.
وضُباعة وأمُّ الحَكَم ابنتا الزبير بن عبد المطلب، جاء ذكرُهما في حديث عنهما، أخرجه أبو داود تحت رقم: (2987)، وضُباعةُ هي صاحبةُ حديث الاشتراط في الحجِّ، التي قال لها النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (( قولِي: فإن حَبَسَنِي حابِسٌ فمحلِّي حيث حَبَستَنِي )).
وأمامة بنت حمزة بن عبد المطلب.
الفصل الثامن: ثناءُ بعض أهل العلم على جماعة من التابعين وغيرهم من أهل البيت
محمد بن علي بن أبي طالب (المشهور بابن الحنفيَّة) رحمه الله:
قال ابن حبان في ثقات التابعين (5/347): (( وكان من أفاضل أهل بيته )).
وفي ترجمته في تهذيب الكمال للمزي: (( قال أحمد بن عبد الله العجلي: تابعيٌّ ثقة، كان رجلاً صالِحاً ... وقال إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد: لا نعلم أحداً أسند عن عليٍّ، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أكثر ولا أصحَّ مِمَّا أسند محمد بن الحنفية )).
وفي السير للذهبي (4/115) عن إسرائيل، عن عبد الأعلى (هو ابن عامر): (( أنَّ محمد بن علي كان يُكْنَى أبا القاسم، وكان ورِعاً كثيرَ العلم )).
وقال فيه أيضاً (4/110): (( السيِّدُ الإمامُ، أبو القاسم وأبو عبد الله )).
عليُّ بنُ الحُسين بنِ علي بن أبي طالب رحمه الله:
قال ابنُ سعد في الطبقات (5/222): (( وكان عليُّ ابنُ حُسين ثقةً مأموناً كثيرَ الحديث، عالياً رفيعاً ورِعاً )).
وقال ابن تيمية في منهاج السنة (4/48): (( وأمَّا عليُّ ابنُ الحُسين، فمِن كبار التابعين وساداتهم علماً ودِيناً )).
وفي ترجمته في تهذيب الكمال للمزي: (( وقال سفيان ابن عيينة، عن الزهري: ما رأيتُ قرشيًّا أفضل مِن عليِّ بنِ الحُسين )).(29/39)
ونقل معناه عن أبي حازم وزيد بن أسلم ومالك ويحيى بن سعيد الأنصاري رحمهم الله.
وقال العجلي: عليُّ بنُ الحُسين مدنيٌّ تابعيٌّ ثقة.
وقال الزهري: كان عليُّ بنُ الحُسين من أفضلِ أهلِ بيتِه وأحسنِهم طاعة، وأحبِّهم إلى مروان بن الحَكَم وعبد الملك بن مروان )).
وقال الذهبي في السير (4/386): (( السيِّدُ الإمامُ، زَين العابدين، الهاشميُّ العلويُّ المدني )).
وقال ابن حجر في التقريب: (( ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ فقيهٌ فاضلٌ مشهور )).
محمد بن علي بنِ الحُسين بن علي بنِ أبى طالب رحمه الله:
مِن إجلالِ جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما له ما جاء في صحيح مسلم (1218) في إسناد حديثه الطويل في صفة الحج من حديث جعفر بن محمد (وهو ابن علي بن الحسين)، عن أبيه قال: (( دخلنا على جابر بن عبد الله، فسأل عن القوم حتى انتهى إليَّ، فقلتُ: أنا محمد بنُ علي بنِ حُسين، فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زِرِّي الأعلى، ثمَّ نزع زِرِّي الأسفل، ثمَّ وضع كفَّه
بين ثديَيَّ وأنا يومئذٍ غلامٌ شاب، فقال: مرحباً بكَ يا
ابنَ أخي! سَلْ عمَّا شئتَ ... فقلتُ: أخبِرنِي عن حَجَّةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )).
فحدَّثه بحديثه الطويل في صفة حجَّة النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وقال ابنُ تيمية في منهاج السنة (4/50):(( وكذلك أبو جعفر محمد بن علي مِن خيار أهل العلم والدِّين، وقيل: إنَّما سُمِّي الباقر؛ لأنَّه بَقَر العلمَ، لا لأجل بَقْر السجود جبهتَه )).
وقال المزيُّ في ترجمته في تهذيب الكمال: (( قال العجلي: مدنيٌّ تابعيُّ ثقةٌ، وقال ابنُ البرقي: كان فقيهاً فاضلاً )).(29/40)
وقال الذهبي في السير (4/401 ـ 402): (( هو السيّدُ الإمام، أبو جعفر محمد بن علي بن الحُسين بن علي العلوي الفاطمي المدني، ولَدُ زَين العابدين ... وكان أحدَ مَن جَمَع بين العلمِ والعملِ والسُّؤْدد والشَّرف والثقة والرَّزانة، وكان أهلاً للخلافة، وهو أحدُ الأئمَّة الاثني عشر الذين تُبجِّلُهم الشيعةُ الإماميَّةُ، وتقول بعِصمَتِهم وبمعرِفتِهم بجميع الدِّين، فلا عِصمة إلاَّ للملائكة والنبيِّين، وكلُّ أحدٍ يُصيب ويُخطئ، ويُؤخذ من قوله ويُترك سوى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّه معصومٌ مُؤيَّدٌ بالوحي، وشُهر أبو جعفر بالباقر؛ مِن بَقَر العلمَ، أي: شَقَّه، فعرَفَ أصلَه وخفيَّه، ولقد كان أبو جعفر إماماً مجتهِداً، تالياً لكتاب الله، كبيرَ الشأن ... )).
وقال أيضاً (ص:403): (( وقد عدَّه النسائيُّ وغيرُه في فقهاء التابعين بالمدينة، واتَّفق الحفاظ على الاحتجاج بأبي جعفر )).
جعفر بنُ محمد بنِ علي بنِ الحُسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله:
قال الإمام ابنُ تيمية في منهاج السنة (4/52 ـ 53): (( وجعفر الصادق رضي الله عنه من خيار أهلِ العلم والدِّين ... وقال عمرو بن أبي المقدام: كنتُ إذا نظرتُ إلى جعفر بن محمد علمتُ أنَّه مِن سُلالة النَّبيِّين )).
ووصفه في رسالته في فضل أهل البيت وحقوقهم، فقال في (ص:35): (( شيخ علماء الأمَّة )).
وقال الذهبي في السير (6/255): (( الإمام الصادق، شيخ بَنِي هاشم، أبو عبد الله القرشي الهاشمي العلوي النبوي المدني، أحد الأعلام )).
وقال عنه وعن أبيه: (( وكانا مِن جِلَّة علماء المدينة )).
وقال في تذكرة الحفاظ (1/150): (( وثَّقه الشافعيُّ ويحيى بنُ معين، وعن أبي حنيفة قال: ما رأيتُ أفقهَ مِن جعفر بن محمد، وقال أبو حاتم: ثقة، لا يُسأل عن مِثلِه )).
عليُّ بنُ عبد الله بنِ عباس رحمه الله:(29/41)
قال ابن سعد في الطبقات (5/313): (( وكان عليُّ ابنُ عبد الله بن عباس أصغرَ ولدِ أبيه سِنًّا، وكان أجملَ قرشيٍّ على وجه الأرض، وأوسَمَه، وأكثرَه صلاة، وكان يُقال له السجَّاد؛ لعبادتِه وفضلِه )).
وقال أيضاً (ص:314): (( وكان ثقةً قليلَ الحديث )).
وفي تهذيب الكمال للمزي: (( وقال العجلي وأبو زرعة: ثقة، وقال عمرو بن علي: كان مِن خيار الناس، وذكره ابنُ حبان في الثقات )).
وقال الذهبي في السير (5/252): (( الإمامُ السيِّدُ أبو الخلائف، أبو محمد الهاشمي السجَّاد ... كان رحمه الله عالِماً عامِلاً، جسيماً وَسِيماً، طُوَالاً مَهيباً ... )).
* * *
الفصل التاسع: مقارنة بين عقيدة أهل السُّنَّة وعقيدة غيرهم في أهل البيت
تبيَّن مِمَّا تقدَّم أنَّ عقيدةَ أهل السُّنَّة والجماعة في آل بيت النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَسَطٌ بين الإفراط والتفريط، والغُلُوِّ والجفاء، وأنَّهم يُحبُّونَهم جميعاً، ويتوَلَّونَهم، ولا يَجْفُون أحداً منهم، ولا يَغلُون في أحدٍ، كما أنَّهم يُحبُّون الصحابةَ جميعاً ويتوَلَّونَهم، فيجمعون بين مَحبَّة الصحابةِ والقرابة، وهذا بخلاف غيرِهم من أهل الأهواءِ، الذين يَغلون في بعض أهل البيت، ويَجفُون في الكثير منهم وفي الصحابة رضي الله عنهم.
ومِن أمثلة غُلُوِّهم في الأئمَّة الاثني عشر من أهل البيت وهم عليٌّ والحسن والحُسين رضي الله عنهم، وتسعة من أولاد الحُسين ما اشتمل عليه كتاب الأصول من الكافي للكُليني من أبوابٍ منها:
ـ باب: أنَّ الأئمة عليهم السلام خلفاء الله عزَّ وجلَّ في أرضه، وأبوابُه التي منها يُؤتى (1/193).
ـ باب: أنَّ الأئمة عليهم السلام هم العلامات التي ذكرها عزَّ وجلَّ في كتابه (1/206):(29/42)
وفي هذا الباب ثلاثة أحاديث من أحاديثهم تشتمل على تفسير قوله تعالى: {وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}، بأنَّ النَّجمَ: رسول الله صلى الله عليه وآله، وأن العلامات الأئمَّة.
ـ باب: أنَّ الأئمَّة عليهم السلام نور الله عزَّ وجلَّ (1/194).
ويشتمل على أحاديث من أحاديثهم، منها حديث ينتهي إلى أبي عبد الله (وهو جعفر الصادق) في تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} قال ـ كما زعموا ـ: (( {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ}: فاطمة عليها السلام، {فِيهَا مِصْبَاحٌ}: الحسن، {المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ}: الحسين، {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِيٌّ}: فاطمة كوكب دُرِيٌّ بين نساء أهل الدنيا، {تُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ}: إبراهيم عليه السلام، {زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ}: لا يهودية ولا نصرانية، {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ}: يكاد العلم ينفجر بها، {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ}: إمام منها بعد إمام، {يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ}: يهدي الله للأئمَّة مَن يشاء ... )).
ـ باب: أنَّ الآيات التي ذكرها الله عزَّ وجلَّ في كتابه هم الأئمَّة (1/207).
وفي هذا الباب تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ} بأنَّ الآيات: الأئمَّة!!
وفيه تفسير قوله تعالى: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا} بأنَّ الآيات: الأوصياء كلُّهم!!!
ومعنى ذلك أنَّ العقابَ الذي حلَّ بآل فرعون سببُه تكذيبهم بالأوصياء الذين هم الأئمَّة!!
ـ باب: أنَّ أهلَ الذِّكر الذين أمر اللهُ الخلقَ بسؤالِهم هم الأئمَّة عليهم السلام (1/210).
ـ باب: أنَّ القرآن يهدي للإمام (1/216).
وفي هذا الباب تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} بأنَّه يهدي إلى الإمام!!(29/43)
وفيه تفسيرُ قول الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ عَقَّدَتْ أَيْمَانُكُمْ} بأنَّه إنَّما عنى بذلك الأئمَّة عليهم السلام، بهم عقَّد الله عزَّ وجلَّ أيمانكم!!
ـ باب: أنَّ النِّعمة التي ذكرها الله عزَّ وجلَّ في كتابه الأئمَّة عليهم السلام (1/217).
وفيه تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا} بالزعم بأنَّ عليًّا رضي الله عنه قال: (( نحن النِّعمة التي أنعم الله بها على عباده، وبنا يفوز مَن فاز يوم القيامة ))!!
وفيه تفسير قول الله عزَّ وجلَّ في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، قال: (( أبالنَّبِيِّ أم بالوصيِّ تكذِّبان؟!! )).
ـ باب: عرض الأعمال على النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله، والأئمَّة عليهم السلام (1/219).
ـ باب: أنَّ الأئمَّة عليهم السلام عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عزَّ وجلَّ، وأنَّهم يعرفونها على اختلاف ألسنتِها (1/227).
ـ باب: أنَّه لَم يجمع القرآنَ كلَّه إلاَّ الأئمَّة عليهم السلام، وأنَّهم يعلَمون علمَه كلَّه (1/228).
ـ باب: أنَّ الأئمَّة عليهم السلام يعلمون جميعَ العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرُّسل عليهم السلام (1/255).
ـ باب: أنَّ الأئمَّة عليهم السلام يعلمون متى يموتون وأنَّهم لا يموتون إلاَّ باختيارٍ منهم. (1/258).
ـ باب: أنَّ الأئمَّة عليهم السلام يعلمون علمَ ما كان وما يكون، وأنَّه لا يخفى عليهم الشيءُ صلوات الله عليهم (1/260).
ـ باب: أنَّ الله عزَّ وجلَّ لَم يُعلِّم نبيَّه علماً إلاَّ أمره أن يُعلِّمَه أمير المؤمنين عليه السلام، وأنَّه كان شريكَه في العلم (1/263).
ـ باب: أنَّه ليس شيءٌ من الحقِّ في يد الناسِ إلاَّ ما خرج من عند الأئمَّة عليهم السلام، وأنَّ كلَّ شيء لم يخرج من عندهم فهو باطلٌ (1/399).(29/44)
وهذه الأبوابُ تشتمل على أحاديث من أحاديثهم، وهي منقولةٌ من طبعة الكتاب، نشر مكتبة الصدوق بطهران، سنة (1381هـ).
ويُعتبَرُ الكتابُ مِن أجَلِّ كتبِهم إن لَم يكن أجَلَّها، وفي مقدِّمة الكتاب ثناءٌ عظيمٌ على الكتاب وعلى مؤلِّفِه، وكانت وفاتُه سنة (329هـ)، وهذا الذي نقلتُه منه نماذج من غلوِّ المتقدِّمين في الأئمَّة، أمَّا غلُوُّ المتأخرين فيهم، فيتَّضح من قول أحد كُبرائهم المعاصرين الخميني في كتابه (( الحكومة الإسلامية )) (ص:52) من منشورات المكتبة الإسلامية الكبرى ـ طهران ـ: (( وثبوتُ الولاية والحاكمية للإمام (ع) لا تَعنِي تجردَه عن منزلتِه التي هي له عند الله، ولا تجعله مثلَ مَن عداه مِن الحُكَّام؛ فإنَّ للإمام مقاماً محموداً ودرجةً سامية وخلافة تكوينيَّة تخضعُ لولايتها وسيطرتِها جميعُ ذرَّات هذا الكون، وإنَّ مِن ضروريات مذهبنا أنَّ لأئمَّتنا مقاماً لا يبلغه مَلَكٌ مُقرَّبٌ ولا نَّبِيٌّ مرسَلٌ، وبموجِب ما لدينا من الروايات والأحاديث فإنَّ الرَّسول الأعظم (ص) والأئمة (ع) كانوا قبل هذا العالَم أنواراً، فجعلهم الله بعرشِه مُحدقين، وجعل لهم من المنزلة والزُّلفَى ما لا يعلمه إلاَّ الله، وقد قال جبرائيل كما ورد في روايات المعراج: لو دنوتُ أنْمُلة لاحترقتُ، وقد ورد عنهم (ع): إنَّ لنا مع اللهِ حالاتٍ لا يسعها مَلَكٌ مقرَّبٌ ولا نَبِيٌّ مرسَل ))!!!
ولا يَملكُ المرءُ وهو يرى أو يسمعُ مثلَ هذا الكلام إلاَّ أن يقول: {ربَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ}.
وكلُّ من له أدنى بصيرة يجزم أنَّ ما تقدَّم نقله عنهم وما يشبهه كذبٌ وافتراءٌ على الأئمَّة، وأنَّهم بُرآءُ من الغلاة فيهم وغلوِّهم.
الفصل العاشر: تحريم الانتساب بغير حق إلى أهل البيت(29/45)
أشرفُ الأنساب نسَبُ نبيِّنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأشرف انتسابٍ ما كان إليه - صلى الله عليه وسلم - وإلى أهل بيتِه إذا كان الانتسابُ صحيحاً، وقد كثُرَ في العرب والعجم الانتماءُ إلى هذا النَّسب، فمَن كان من أهل هذا البيت وهو مؤمنٌ، فقد جمَع الله له بين شرف الإيمان وشرف النَّسب، ومَن ادَّعى هذا النَّسبَ الشريف وهو ليس من أهله فقد ارتكب أمراً محرَّماً، وهو متشبِّعٌ بِما لَم يُعط، وقد قال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
(( المتشبِّعُ بِما لَم يُعْطَ كلابس ثوبَي زور ))، رواه مسلمٌ في صحيحه (2129) من حديث عائشة رضي الله عنها.
وقد جاء في الأحاديث الصحيحة تحريمُ انتساب المرء إلى غير نسبِه، ومِمَّا ورد في ذلك حديثُ أبي ذر رضي الله عنه أنَّه سَمع النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( ليس مِن رجلٍ ادَّعى لغير أبيه وهو يَعلَمه إلاَّ كفر بالله، ومَن ادَّعى قوماً ليس له فيهم نسبٌ فليتبوَّأ مقعَدَه من النار ))، رواه البخاريُّ (3508)، ومسلم (112)، واللفظ للبخاري.
وفي صحيح البخاري (3509) من حديث واثلة بن الأَسْقع رضي الله عنه يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( إنَّ مِن أعظَمِ الفِرى أن يَدَّعيَ الرَّجلُ إلى غير أبيه، أو يُري عينَه ما لَم تَرَ، أو يقولَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لَم يقل ))، ومعنى الفِرى: الكذب، وقوله: (( أو يُري عينَه ما لَم تَرَ ))، أي: في المنام.
وفي مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (31/93) أنَّ الوقفَ على أهل البيت أو الأشراف لا يستحقُّ الأخذَ منه إلاَّ مَن ثبت نسبُه إلى أهل البيت، فقد سُئل عن الوقف الذي أُوقِف على الأشراف، ويقول: (إنَّهم أقارب)، هل الأقاربُ شرفاء أم غير شرفاء؟ وهل يجوز أن يتناولوا شيئاً من الوقف أم لا؟(29/46)
فأجاب: (( الحمد لله، إن كان الوقفُ على أهل بيتِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أو على بعض أهل البيت، كالعلويِّين والفاطميِّين أو الطالبيِّين، الذين يدخل فيهم بنو جعفر وبنو عَقيل، أو على العبَّاسيِّين ونحوِ ذلك، فإنَّه لا يستحقُّ مِن ذلك إلاَّ مَن كان نسبُه صحيحاً ثابتاً، فأمَّا مَن ادَّعى أنَّه منهم أو عُلِم أنَّه ليس منهم، فلا يستحقُّ مِن هذا الوقفِ، وإن ادَّعى أنَّه منهم، كبَنِي عبد الله بن ميمون القدَّاح؛ فإنَّ أهلَ العلمِ بالأنسَاب وغيرَهم يعلمون أنَّه ليس لهم نسبٌ صحيحٌ، وقد شهد بذلك طوائفُ أهل العلم من أهل الفقه والحديث والكلام والأنساب، وثبت في ذلك محاضرُ شرعيَّة، وهذا مذكورٌ في كتب عظيمة مِن كتب المسلمين، بل ذلك مِمَّا تواتر عند أهل العلم.
وكذلك مَن وقف على الأشراف، فإنَّ هذا اللفظ في العُرف لا يدخل فيه إلاَّ مَن كان صحيح النَّسَب من أهل بيت النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وأمَّا إن وقف واقفٌ على بني فلانٍ أو أقارب فلانٍ ونحو ذلك، ولم يكن في الوقف ما يقتضي أنَّه لأهل البيت النبويِّ، وكان الموقوف مُلكاً للواقف يصح وقفُه على ذريّة المعيَّن، لم يدخل بنو هاشم في هذا الوقف )).
وإلى هنا انتهت هذه الرسالةُ المختصرةُ في فضل أهل البيت وعلُوِّ مكانتهم عند أهل السنَّة والجماعة، وأسأل اللهَ التوفيقَ لما فيه رضاه، والفقهَ في دينه، والثباتَ على الحقّ إنَّه سَميعٌ مُجيبٌ، وصلَّى اللهُ وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمد وعلى آله
وأصحابه أجمعين
المحتويات
مقدمة ... 3
الفصل الأول: مَن هم أهل البيت؟ ... 6
الفصل الثاني: مُجمل عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في أهل
البيت ... 13
الفصل الثالث: فضائل أهل البيت في القرآن الكريم ... 17
الفصل الرابع: فضائل أهل البيت في السنَّة المطهَّرة ... 21
الفصل الخامس: علوُّ مكانة أهل البيت عند الصحابة وتابعيهم
بإحسان ... 28(29/47)
الفصل السادس: ثناء بعض أهل العلم على جماعة من الصحابة
من أهل البيت ... 40
الفصل السابع: ثناء بعض أهل العلم على جماعة من الصحابيات
من أهل البيت ... 56
الفصل الثامن: ثناء بعض أهل العلم على جماعة من التابعين
وغيرهم من أهل البيت ... 68
الفصل التاسع: مقارنة بين عقيدة أهل السُّنَّة وعقيدة غيرهم في
أهل البيت ... 75
الفصل العاشر: تحريم الانتساب بغير حق إلى أهل البيت ... 82(29/48)
كتاب زواج عمر بن الخطاب من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب
تأليف أبومعاذ الإسماعيلي
مقدمة
الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.... أما بعد...
فهذه رسالة بديعة في بابها، وأحسب أن المؤلف لم يسبق في موضوعها وقد أجاد وأفاد مع حسن العبارة والأدب مع المخالف في الحوار والنقاش وهذه ظاهرة في عموم الرسالة ونحن في أمس الحاجة إلى الحوار الهادي والوصول إلى الحقيقة بأسلوب علمي وأدب إسلامي رصين....
أيها القارئ الكريم الأحداث التاريخية التي لها آثار كبيرة في افتراق الأمة كثيرة وللأسف الشديد يهتم من الخطباء بل والكتاب على ترديدها ونشرها من غير تمحيص ولا تدقيق وهذا الصنيع له آثاره الكبيرة في تأصيل الافتراق وإذكاء العداوة واستمرارها ونجد من ضمن هؤلاء الخطباء من يرفع صوته داعياً لتوحيد الكلمة بين المسلمين وضرورة وقوفهم صفاً واحداً أمام اليهود والنصارى وسائر الكفار وهو بأفعاله يناقض أقواله وما لا خلاف فيه أن الاجتماع على الحق واجب شرعي وأمنية كل مسلم غيور وهذه الرسالة في صميم الأحداث التاريخية التي تعين في جلاء ووضوح الترابط الترابط الأسري بين آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه الكرام وإبراز هذا الحدث التاريخي وأمثاله، طلب شرعي لأنه يتفق مع النصوص الكثيرة الواردة في الكتاب والسنة التي فيها الثناء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي مقدمتهم أهله الأطهار.
ثانياً: أن إبراز الأحداث التاريخي التي تبين وحدة الأمة الإسلامية وترابطها يساهم في وحدة الصف في هذا العصر والأمة في أمس الحاجة لهذه الوحدة.
ثالثاً: أن القصص التاريخية لها وقع في النفس وهي الوسيلة الحسنة التي يستفيد المسلمون منها والحديث عن أهمية هذا الموضوع يطول وليس هنا محل بسطه...(30/1)
أيها القارئ الكريم لكثرة من تحدث عن هذا الزواج ما كنت أحسب أن أحداً أنكره لكثرة من أثبته من علماء السنة والشيعة وقد أجاد المؤلف في الرد على من أنكر هذا الزواج أو تأوله وينبغي أن تقرأ الرسالة بإنصاف وبدون أحكام مسبقة وهذا لا يمنع من رد الحجة بالحجة والحوار الهادئ الهادف للوصول إلى الحقيقة وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا الصواب والسداد وأن يجزل الأجر والثواب للمؤلف...
صالح بن عبدالله الدرويش
القاضي بالمحكمة الشرعية الكبرى بالقطيف
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد:
فقد قال الله تعالى< يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيباً> [سورة النساء آية 1]
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: <كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري>(1)
وقال الله تعالى < يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً. يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً> [سورة الأحزاب 70-71]
وقال أيضاً عزَّ وجلّ < يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون> [201 سورة آل عمران ]
هذا كلام الله عزَّ وجلَّ وهدي رسوله يوصينا بالتقوى وقول الحق ويبيِّن لنا نعمه وآلاءه التي لا تحصى بأن خلق لنا من أنفسنا ما تسكن إليه وترتاح لديه.(30/2)
وإني قد عزمت حمداً وشكراً لهذه النعم في أول السنة الهجرية غرة المحرم عام 1241هـ الموافق السادس من شهر أبريل من السنة الميلادية 0002م، على الابتداء في بحثي هذا، وسميته (زواج عمر من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب ـ حقيقة وليس افتراءً ـ) وقد سميته بذلك ليكون مدخلاً للسرور لنفس المؤمن، فالمسألة هذه شائكة محيرة، حيَّرت كثيراً من علماء الشيعة وألف وصنَّف فيها كثيرون معظمهم من علماء الشيعة يردون هذا النكاح وينكرونه، لعلل كثيرة يدرك أولوا الألباب وأصحاب البصائر.
وقد يتساءل القارئ، لماذا يرهق باحث نفسه لإثبات زواج عمر بن الخطاب من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم؟!! وما الذي يعنينا من هذا الزواج؟!! ولا يتصل مثل هذا الأمر بعقيدة ما أو تشريع؟!!
والجواب عن ذلك أن كثيراً من علماء الشيعة الإمامية الاثنى عشرية ينكرون هذا النكاح، ويشككون في حدوثه أصلاً، ويذهبون في تأويلهم لهذا النكاح كل مذهب، والروايات التي وردت فيه مذاهب شتى <سوف أستعرضها جميعها في بحثي هذا> ـ إن شاء الله ـ، وغرضهم من هذا بيان أن الخصومة والكراهية والتنافر دائمة وظاهرة بين الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ خاصة بين عليَّ ـ رضي الله عنه ـ وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إذ يعتقد الإمامية أن الأخير(2) وغيره من الصحابة ممن تولوا خلافة المسلمين الراشدة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا ظالمين لعلي ومغتصبين حق الخلافة منه، وأن الخلافة حق لعلي بالنص، وأن ما نحن عليه حتى الآن من ضلال وفساد إنما يرجع إلى غصب أهل البيت حقوقهم وتنحيتهم عن الخلافة الراشدة ابتداء من غصب أبي بكر الصديق للخلافة من علي ثم مَنْ بعده.
ولذلك تنصبُّ لعنات الشيعة على أول ظالم لأهل البيت وثاني ظالم لهم وثالث ورابع... إلخ وذلك في أدعيتهم وأذكارهم، حتى بلغ بهم الأمر ذكر هذه الأوراد في بيت الخلاء(3).(30/3)
ومن هنا كان لِزاماً عليهم <أي علماء الشيعة الإمامية> إنكار أي علاقة نسب أو مصاهرة بين الصحابة وأهل البيت، خاصة من يرونهم أعداء لأهل البيت ومغتصبين لحقوقهم مثل آل الخطاب وآل الزبير وآل طلحة وبني أمية، ومن هنا أنكروا تلك المصاهرات بين أهل البيت ومن سلف ذكرهم. وكان أول ما أنكروه زواج عمر من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، ثم زواج السيدة سكينة بنت الحسين من مصعب بن الزبير ثم مصاهرات أخرى كثيرة سنأتي على ذكرها ـ إن شاء الله ـ في نهاية بحثنا هذا.
ولما سبق لزمهم إنكار هذا النكاح، إذ كيف يزوج علي ابنته لعمر بن الخطاب وهو الذي اغتصب الخلافة من علي، والشيعة يلعنونه، بل ويكفرونه فكيف يجيزون الزواج من كافر، بل يروي نعمة الله الجزائري في كتابه (الأنوار النعمانية) عن تعجب إبليس ممن هو أشد منه عذاباً ومكبل بالأصفاد والسلاسل ثم يكشف لنا الجزائري في روايته عن المفاجأة التي ادخرها لنهاية القصة إذ أن هذا الذي هو أشد عذاباً من إبليس ليس سوى عمر بن الخطاب...(4).
هذا ويورد غيرهم من اللعنات والسباب على عمر بن الخطاب والصحابة عامة ما لا يمكن إيجازه هنا(5).
ومن هنا صنف علماء الشيعة الكتب المنفصلة لبيان إنكارهم لهذا الزواج.
وذهبوا في هذا مذاهب شتى منها ما لا يتخيله عقل إبليس فضلاً عن عقول البشر، ومنها ما لا يقبله منطق وترده كتب الأنساب والتواريخ.
ومما لايتخيله عقل إبليس ما ادَّعاه الجزائري في <الأنوار النعمانية> وغيره من علماء الإمامية من أن عمر لم يتزوج بأم كلثوم ابنة علي، وإنما زوجه علي بشيطانة تشبه أم كلثوم تماماً استدعاها علي من نجران لهذا الأمر، ثم بعد أن مات عمر حوت ميراثه ورجعت إلى مقرها <نجران>.
ولعمري أي عقل يتقبل مثل هذا القول؟!
وهل عندما مات عمر بن الخطاب وعادت أم كلثوم إلى بيت أبيها بعد وفاة زوجها، وتزوجت بعده ابن عمها هل التي خرجت لبيت أبيها كانت الشيطانة أم أم كلثوم!؟(30/4)
وهل عندما أنجبت أم كلثوم لعمر بن الخطاب رقية وزيداً هل كانا من شيطانة؟!
أما ما لا يقبله منطق وترده كتب الأنساب والتواريخ فهو ادِّعاء أحدهم أن أم كلثوم التي تزوجها عمر ليست هي ابنة علي، بل هي أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق.
وهذا والله من المضحكات المبكيات، لأمرين واضحين جليين لكل ذي بصر وبصيرة، أولهما: أن أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق تزوجها طلحة بن عبيدالله وعلى هذا كل كتب الأنساب والتواريخ.
ثانيهما: أن أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق عندما تولى عمر خلافة المسلمين كانت في بطن أمها فقد مات الصديق ولم تكن وُلدت أم كلثوم بعد، وإنما ولدت بعد مماته ـ رضي الله عنه ـ وليس هاهنا موضع البيان والتفصيل وإنما أردت أن يتنبه القارئ العزيز لأهمية مسألة هذا النكاح وإثباته ورد الشبهات التي تدور حوله أو التي يطرحها علماء الشيعة الإمامية في هذه المسألة بشكل خاص، وغيرها من المسائل التي تتعلق بالمصاهرات.
فلو صحَّ ما ثبت فعلاً من نكاح عمر بن الخطاب من أم كلثوم لتبيَّن أن هذه المصاهرة إنما كانت لما بين عمر وعلي من مودة ومحبة وصفاء وإلا ما قبل أن يزوجه ابنته. وهذا فيما أرى أنصع دليل وأوضح برهان على أنه لا ظلم أو تظالم أو كراهية أو لعن أو سباب بين علي وعمر رضي الله عنهما، فقد كان علي وزيراً لأبي بكر وعمر في خلافتهما يشاورانه في الأمور ويدلي برأيه ومشورته وكثيراً ما أخذ بها <الصديق> و<الفاروق> ومن بعدهما <ذو النورين>.
لقد كانت الأواصر والعلاقات بين الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ أشد عمقاً وترابطاً فهم كما وصفهم ومدحهم الله عز وجل في كتابه العزيز <محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم...> (الفتح).
وختاماً قد أكون أسأت وأخطأت في هذا البحث، وذلك مرده إلى تقصيري وغواية الغوي وقد أكون أحسنت وأصبت فهذا من فضل الله وبتوفيقه عليه أتوكل وإليه أنيب.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.(30/5)
ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا
ربنا ولا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا به
واعف عنَّ واغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
كتبه الفقير إلى رحمة ربه
أبو مُعاذ الإسماعيلي
أرض الكنانة
غرة محرم 1241هـ ـ السادس من أبريل 0002م
الهوامش
(1)الحديث في صحيح الجامع الصغير وزيادته، للألباني ج2، ص 838.
(2)اعتقاد الشيعة الإمامية بكفر عمر بن الخطاب والصديق أبي بكر وعثمان بن عفان أمر عقائدي معلوم لا ينكره أحد، ومن أراد أن يراجع من مراجعهم <بحار الأنوار> للمجلسي في المجلدات الثلاثة (الملاحم والفتن) رقم (92، 03، 13) والمجلدات هذه مخصصة للطعن في هؤلاء الثلاثة من الصحابة وعائشة وحفصة ـ رضوان الله عليهم وكذا بني أمية.
(3) انظر نص الدعاء هذا في لئالي الأخبار لمحمد التوسيركاني 4/29.
(4) أوردت ما يذكره الشيعة في سب ولعن الشيخين وهناك نص دعاء صنمي قريش وهو مشهور جداً وانظر دعاء زيارة عاشوراء، والدعاء الوارد في (زيارات وارث) ودعاء التاج وروضة المحتاج، والمصباح للكفعمي ص237 ط/ الأعلمي 4991م.
(5)انظر الأنوار النعمانية، للجزائري. ج1 ص38 ـ 48 فصل نور مرتضوى.
تمهيد
النكاح سنة نبوية
لا شك أن النكاح من سنن الهدى، وقد دعا الرسول الكريم إلى النكاح وجعله من سننه صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد استنَّ صحابته ـ رضوان الله عليهم ـ بسنته في النكاح مَنْ استطاع منهم إلى ذلك سبيلاً، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزوج من أصحابه الفقراء غير المقتدرين وغير المرغوب فيهم بين الناس، إما لفقرهم أو نسبهم أو حسبهم.
وقد دعانا القرآن الكريم إلى النكاح فقال عز وجل: <وأَنكحوا الأيامى منكم> (النور:23).(30/6)
وقال أيضاً: <يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً> (النساء:1).
فالنكاح سنة تحفظ المجتمع المسلم من الانهيار والفوضى.
وقد مدح الله الرسل والأنبياء فقال: <ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية>، فذكر ذلك في معرض الامتنان وإظهار الفضل.
وكذا كان دعاء الأنبياء والرسل، قال تعالى: <والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين>.
وأشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله، إلى النكاح وأهميته في إحصان المسلم، وذلك في العديد من الأحاديث النبوية الشريفة.
وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم وآله يتزوج من أصحابه ويزوجهم ليوثق أواصر المودة والمحبة بينه وبين صحابته، فتزوج من عائشة بنت أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنهم ـ وأبو بكر رفيق رسول الله في الهجرة، وموضع سره ووزيره في أموره السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفضائله من الصعب علينا إحصاؤها هنا.
وتزوج من حفصة بنت الفاروق عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما.
كما زوج ابنتيه رقيه وأم كلثوم إلى عثمان بن عفان، وزوج ابنته زينب إلى العاص بين الربيع، وزوج علي بن أبي طالب وهو ابن عمه ابنته فاطمة الزهراء ـ رضوان الله عليهما ـ وهي قرة عينه وأحب بناته إليه، ولقد عاشت بعده وابتليت بفقده، فصبرت، وكانت أول أهل بيته لحوقاً به في الرفيق الأعلى، وكان منها ذريته الباقية إلى يوم القيامة وولداها الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وحِب رسول الله وريحانتاه صلى الله عليه وآله وسلم وآله.
فالرسول الكريم تزوج من صحابته وزوجهم فما ترفع عنهم ولا فارقهم أو أبعدهم عن مجلسه وأهله وإنما صاهرهم وصاهروه.(30/7)
ومن بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله رغب الصحابة الكرام في أن يكون لهم صلة وسبب برسول الله لما ورد في الحديث الشريف عنه: <كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلى نسبي وصهري> (الحديث في صحيح الجامع الصغير ج2 ص 838).
ومن هنا رغب علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بعد وفاة السيدة فاطمة الزهراء ـ وبنصح منها في التزوج بأمامة بنت العاص بن الربيع وأمها هي السيدة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله، فما أنكر أحد هذا الزوج، ولا تأول فيه وهو ثابت عند كل الطوائف والفرق.
ومن هنا أيضاً رغب عمر بن الخطاب في الزواج من أم كلثوم بنت علي وأمها فاطمة الزهراء ـ رضوان الله عليهم جميعاً ـ وذلك ليكون له سبب ونسب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله.
وكان ذلك في السنة السابعة عشرة من الهجرة.
وقد نصَّت الروايات عند أهل السنة على هذا الزواج، وأن ثمرته كانت رقية وزيداً، وكذلك في مراجع ومصادر الشيعة الإمامية حتى عهد الشيخ المفيد ت314هـ الذي بدأ رفع راية التشكيك في تمام هذا الزواج وتبعه من بعده علماء وأئمة دون انتباه أو التفات لما سلف في مصادرهم من روايات.
وسوف نعرض لكل ما أثير حول هذا الزواج في بحثنا هذا، ليصل القارئ الكريم إلى الحقيقة وليميز الحق من الباطل.
أولاً: زواج عمر من أم كلثوم بنت علي
في مصادر أهل السنة
أجمعت مصادر أهل السنة على زواج عمر من أم كلثوم ولا تكاد تجد اختلافاً في الروايات المختلفة والأسانيد التي ذكرت هذا الزواج.
ومن الروايات التي ذكرت هذا الزواج رواية <الطبري> ت 310هـ في تاريخه.(1)
ورواية الطبري ذكرها مختصرة ابن كثير الدمشقي ت477هـ في البداية والنهاية(2) في ذكر زوجات عمر وأولاده ونسائه وبناته.
وكذلك ذكر الزواج في موضع آخر في الحديث عن علي بن أبي طالب في ذكر زوجاته وبنية وبناته.(30/8)
قال: <فأول زوجة تزوجها علي ـ رضي الله عنه ـ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنى بها بعد وقعة بدر، فولدت الحسن وحسيناً ويقال: ومحسناً ومات وهو صغير وولدت له زينب الكبرى وأم كلثوم وهذه تزوج بها عمر بن الخطاب...>(3).
وذكر الزواج <الذهبي> ت847هـ في تاريخ الإسلام في أحداث سنة سبع عشر قال: <وفيها تزوج عمر بأم كلثوم بنت فاطمة الزهراء وأصدقها أربعين ألف درهم فيما قيل>(4).
وذكر الذهبي أيضاً هذا الزواج في <سير أعلام النبلاء> في ذكر نساء عمر بن الخطاب وأولاده قال: <وتزوج أم كلثوم بنت فاطمة الزهراء وأصدقها أربعين ألفاً فولدت له زيداً ورقية>(5).
وذكر هذا الزواج أيضاً ابن الجوزي ت795هـ في كتابه <المنتظم> في ذكر أزواج وأولاد عمر بن الخطاب قال: <كان له من الولد: عبدالله، وعبدالرحمن، وحفصة وأمهم زينب بنت مظعون بن حبيب، وزيد الأكبر ورقية وأمهم أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وأمها فاطمة بنت رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم وزيد الأصغر وعبيد الله وأمهما أم كلثوم بنت جرول....>(6).
وذكر هذا الزواج الدياربكري في <تاريخ الخميس> وغيره من المؤرخين والمحققين في العديد من المصنفات ولم يختلف من هؤلاء المؤرخين واحد في حدوث هذا الزواج، وبأم كلثوم بنت علي ابنة فاطمة الزهراء وبأنها ولدت لعمر زيداً ورقية.
ولولا خشية الإطالة لنقلنا هنا كل هذه الروايات، ولكن ما سلف فيه الكفاية لمن أراد الهداية.
أما كتب التراجم المختلفة فقد ذكرت هذا الزواج سواء في ترجمة عمر بن الخطاب أو ترجمة أم كلثوم بنت علي أو ترجمة أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق.
ولا تجد أيضاً أيّ اختلاف في ذكر هذا الزواج وبأنه كان بأم كلثوم بنت علي لا غيرها مع كثرة من تسمين بأم كلثوم.(30/9)
ولنبدأ من كتب التراجم بكتاب <الإصابة في تمييز الصحابة> لابن حجر العسقلاني ت258هـ فمكانة ابن حجر العسقلاني لا تجهل وتبحره في الحديث والتراجم ومعرفة الرجال وأحوالهم لا تنكر.
قال ابن حجر في ترجمة أم كلثوم بنت علي:
<... وقال ابن وهب عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده تزوج عمر أم كلثوم على مهر أربعين ألفا وقال الزبير ولدت لعمر ابنيه زيدا ورقية وماتت أم كلثوم وولدها في يوم واحد أصيب زيد في حرب كانت بين بني عدي فخرج ليصلح بينهم فشجه رجل وهو لا يعرفه في الظلمة فعاش أياماً وكانت أمه مريضة فماتا في يوم واحد....>(7).
وقال أيضاً: <وذكر ابن سعد عن أنس بن عياض عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر خطب أم كلثوم إلى علي فقال إنما حبست بناتي على بني جعفر فقال زوجنيها فوالله ما على ظهر الأرض رجل يرصد من كرامتها ما أرصد قال قد فعلت فجاء عمر إلى المهاجرين فقال زفوني فزفوه فقالوا بمن تزوجت قال بنت علي إني سمعت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال كل نسب وسبب سيقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وكنت قد صاهرت فاحببت هذا أىضاً ومن طريق عطاء الخراساني أن عمر أمهرها أربعين ألفا وأخرج بسند صحيح أن ابن عمر صلى على أم كلثوم وابنها زيد فجعله مما يليه وكبر أربعاً وساق بسند آخر أن سعيد بن العاص هو الذي أبهم عليها>(8).
ـ وفي (أسد الغابة) في معرفة الصحابة) لابن الأثير ت630هـ ذكر الروايات نفسها مع اختلاف طفيف في اللفظ قال:
<أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب ، أمها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولدت قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ....
وتوفيت أم كلثوم وابنها زيد في وقت واحد، وكان زيد قد أصيب في حرب كانت بين بني عدي، خرج ليصلح بينهم، فضربه رجل منهم في الظلمة فشجه وصرعه، فعاش أياماً ثم مات هو وأمه، وصلى عليهما عبدالله بن عمر، قدمه حسن بن علي....>(9).(30/10)
والروايات السابقة نفسها تجدها باختلاف طفيف في اللفظ في طبقات ابن سعد، وعيون الأخبار لابن قتيبة وغيرها من المراجع.
ولقد ذكرت في ثنايا هذا البحث عشرات المراجع التي أشارت لهذا الزواج ونقلت النصوص المبينة لذلك نقلاً حرفياً.
وأود أن أشير هنا إلى ما سبق بيانه من روايات:
أولاً: نخرج من رواية الطبري وهو من أقدم المؤرخين توفي سنة 310هـ أن عمر بن الخطاب خطب أولاً أم كلثوم بنت أبي بكر ونظراً لشدة عمر المعروفة خشيت أم كلثوم بنت أبي بكر من الحياة معه فأبته فتدخل عمرو بن العاص لرفع الحرج عن عائشة أم المؤمنين لما قبلت العرض أول مرة وكان من عمرو ما كان من الإشارة للزواج من أم كلثوم بنت علي.
ثانياً: في رواية ابن كثير عن المدائني وأظنه اختصر الرواية من تاريخ الطبري ولم يضف إليها شيئاً يذكر.
المبحث الأول
ادعاء علماء الشيعة أن عمر تزوج
أم كلثوم بنت أبي بكر وليس بنت علي بن أبي طالب
من التي تزوجها عمر بن الخطاب؟
يحاول بعض علماء الشيعة إنكار ما تم من نكاح عمر بن الخطاب لأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، لأن مثل هذا الزواج وثبوته، يبين خطأ معتقدهم من أن علياً كان يلعن من اغتصبوا منه خلافته التي هو أحق الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ويذهب بعض علماء الشيعة مذاهب شتى لإنكار هذا الزواج، وقد ضاقت بهم السبل حتى طلع منهم عالم ليحل هذا الإشكال وكان مفتاح حله لهذا اللغز المستعصي هو أنه رأى فعلاً زواج عمر من أم كلثوم لكنها ليست أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، ولكنها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، ومن هنا كان المخرج الذي اهتدى له عقله.(30/11)
لقد ذكر هذا العالم الجليل القدر وهو السيد/ ناصر الحسين الموسوي اللكنوي الهندي ابن صاحب (عبقات الأنوار) ـ رأيه هذا في كتاب له سماه (إفحام الخصوم في نفي تزويج أم كلثوم) والكتاب لم ينشر بعد وهو مخطوط ولم أطلع عليه وإن كنت قرأت ما كتبه آية الله النجفي المرعشي المحقق لكتاب (إحقاق الحق) فقد أسهب في تعريفه وتعرضه للمسألة فمما قاله: <ثم ليعلم أن أم كلثوم التي تزوجها الثاني(1) كانت بنت أسماء وأخت محمد هذا(2) فهي ربيبة مولانا أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ولم تكن بنته كما هو المشهور بين المؤرخين والمحدثين. وقد حققنا ذلك وقامت الشواهد التاريخية في ذلك، واشتبه الأمر على الكثير من الفريقين وإنى بعد ما ثبت وتحقق لدي أن الأمر كان كذلك استوحشت التصريح به في كتاباتي لزعم التفرد في هذا الشأن إلى أن وقفت على تأليف في هذه المسألة للعلامة المجاهد سيف الله المقتضي على أعداء آل الرسول آية الباري مولانا السيد ناصر الحسين الموسوي اللكنوي الهندي ابن الآية الباهرة صاحب العبقات ورأيته قدس الله سره أبان عن الحق وأسفر وسمى كتابه: (إفحام الخصوم في نفي تزويج أم كلثوم) ولعل الله تعالى شأنه يوفق أهل الخير لطبعه ونشره والنسخة موجودة في مكتبته العامرة الوحيدة عند نجله الأكرم حجة الإسلام السيد محمد سعيد آل العبقات أدام الله بركته ولعلنا نشير في المباحث الآتية إلى هذا الأمر ونتعرض لبعض تلك الأدلة والشواهد إن شاء الله>(3).
الرد والجواب:(30/12)
أولاً: يبدو أن علماء الشيعة الإمامية لديهم عقدة نفسية في مسألة البنوة هذه، فكلما تعرضوا لمسألة مصاهرة وزواج كان مخرجهم أن التي تزوجت ليست ابنته إنما هي ربيبته فأم كلثوم التي زوجها علي لعمر ليست ابنته وإنما هي ربيبته وهي أخت شقيقة لمحمد بن أبي بكر ومن قبل ادعى علماء الشيعة في مسألة زواج بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زينب وأم كلثوم ومن قبلها رقية ـ أنهن لسن بنات رسول الله وإنما هن ربائبه، وليس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ابنة واحدة وهي فاطمة ـ رضي الله عنها ـ.
لقد ذكر ذلك العلامة جعفر مرتضى العاملي(4) وتبعه آخرون وسبقه آخرون هذا على الرغم من مخالفة هؤلاء لعلماء من الشيعة كثيرين من أمثال: الشيخ المفيد.
وقد انتقد عالم من علماء الشيعة جعفر مرتضى هذا وبين عوار رأيه فكان من كلامه: <.. وفي ضوء هذه الرؤية خالف السيد مرتضى العاملي وبجرأة ما عليه العلماء وخاصة الشيخ المفيد في مسألة بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يجد بأساً في الخروج على اتفاقهم، فنفى أن يكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من البنات غير السيدة الزهراء (ع) مع أن كلمات أعلام الشيعة منذ عهد الشيخ المفيد إلى ما يقرب عصرنا متضافرة على أن له من البنات غيرها، وإن لم نقل عن السيد مرتضى أنه يميل إلى عدم زواج السيدة خديجة (ع) من غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم...>(5).
ـ وانتقد أيضاً نظرته هذه في موضع آخر من كتابه هذا(6).
ومال إلى هذا الرأي كثير من علماء الشيعة الإمامية وسيأتي تفصيل رأيهم والرد عليهم وإنما عرضنا ذلك هنا للمناسبة.
وهكذا كلما حدثت مصاهرة أو نكاح اكتشف علماء الشيعة أنهن لسن بناته بل ربائبه حدث هذا في تبريرهم تزويج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنته زينب من أبي العاص بن الربيع وابنتيه رقية وأم كلثوم لعثمان بن عفان.(30/13)
وهم الآن يكتشفون الحادثة نفسها والفكرة الألمعية نفسها فأم كلثوم التي زوجها علي لعمر ليست ابنته وإنما هي ربيبته.
أقول (شنشنة أعرفها من أخزم) هذه عادة قديمة دأب عليها علماء الشيعة وإن شاء الله نبين بطلانها.
ثانياً: هل توجد ابنة لأبي بكر اسمها (أم كلثوم):
الجواب نعم ولكنها ابنته من (حبيبة بنت خارجة الخزرجية) وليس من أسماء بنت عميس وعلى هذا كتب التاريخ والأنساب كلها قاطبة لم يشذ واحد.
- أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق
من الواضح أن الكلام كله يدور حول هذه الشخصية التي يدعي الشيعة أو أحد علمائهم أنها هي التي تزوجها عمر بن الخطاب وزوجه إياها علي بن أبي طالب.
إنها أم كلثوم بنت أبي بكر نعم هي أخت محمد بن أبي بكر من أبيه الصديق لكن أمها حبيبة بنت خارجة وأم محمد أسماء بنت عميس الخثعمية، ولم تلد أسماء لأبي بكر إلا محمداً هذا.
مولد أم كلثوم بنت أبي بكر:
من الثابت عند علماء السير والتاريخ أنها ولدت بعد وفاة أبي بكر الصديق وهي أصغر بناته قال الحافظ ابن حجر <أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق التيمية تابعية مات أبوها وهي حمل فوضعت بعد وفاة أبيها>(7).
هذا ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتقل إلى جوار ربه يوم الاثنين 31 ربيع الأول سنة 11هـ. 8 يونيه سنة 236م. ورسول الله على رأس الثالثة والستين من عمره(8).
ـ ثم تولى أبو بكر الصديق الخلافة وكانت مدة خلافته عامين ونصف أي كانت وفاة أبي بكر الصديق في السنة الثالثة عشرة من الهجرة وتوفى وهو في سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رأس ثلاث وستين سنة وكان مولد الصديق بعد عام الفيل بعامين وأشهر.
ـ ثم تولى الخلافة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في السنة الثالثة عشرة من الهجرة حتى السنة الثالثة والعشرين أي من (31 ـ 32هـ)، (436 ـ 446م).(30/14)
وكانت مدة خلافته عشر سنين وستة أشهر وتوفى في شهر ذي الحجة سنة 32هـ كما سبق بيان ذلك وكان عمره عند الوفاة الثالثة والستين أيضاً.
والواضح من التواريخ السابقة أن أم كلثوم ابنة أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ولدت حتماً في السنة الرابعة عشر من الهجرة على رأسها أو فى أواخر السنة الثالثة عشرة من الهجرة بعد وفاة الصديق مباشرة، فقد أوصى أبو بكر بها عند موته.
وتولى عمر بن الخطاب الخلافة من السنة الثالثة عشرة حتى السنة الثالثة والعشرين وأشهر فهل يمكننا أن نقطع جازمين بزواج عمر بن الخطاب من أم كلثوم ابنة أبي بكر الصديق وسنها عند وفاة عمر لم يبلغ تسع سنوات أو عشر، على أقصى تقدير، ولو صح ذلك فمتى أنجبت له (زيداً ورقية) كما تبين كتب الأنساب والتواريخ.
ـ إن عمر بن الخطاب خطب أم كلثوم عام سبعة عشر هجرياً أي بعد توليه الخلافة بأربع سنوات وهذا يعني أن أم كلثوم بنت أبي بكر كان عمرها أربع سنوات على أقصى تقدير. فكيف يُعقل أن يخطب خليفة المسلمين طفلة عمرها أربع سنوات، بينما أم كلثوم بنت علي وُلدت قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهي أكبر سناً وعلى أقل احتمال بالنسبة لفارق السن يرجح أن الخليفة خطب أم كلثوم بنت علي وليس بنت أبي بكر.(9)
وعلماء السير والتاريخ ذكروا من سيرة أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق أمرين ذي أهمية بالنسبة لموضوعنا وبحثنا هذا وهما:
مولدها بعد وفاة أبي بكر.
وزواجها من طلحة بن عبيد الله وقد ولدت له محمداً وزكريا وعائشة.
وهاك بيان المراجع التي ذكرت ذلك ونصوصاً من كلام العلماء:
نص: قال ابن حجر <حبيبة بنت خارجة بن زيد أو بنت زيد بن خارجة الخزرجية زوج أبي بكر الصديق ووالدة أم كلثوم ابنته التي مات أبو بكر وهي حامل بها>(10).
- ونقل صاحب (نساء من عصر التابعين):(30/15)
<ومن الجدير بالذكر أن أبابكر ـ رضي الله عنه ـ قد ورثه أبوه (أبو قحافة) وزوجتاه: أسماء بنت عميس، وحبيبة بنت خارجة وأولاده: عبدالرحمن، ومحمد، وعائشة وأسماء وأم كلثوم<(11).
- نص: قال ابن خلكان في وفيات الأعيان عن أم كلثوم: <تزوجها طلحة بن عبيد الله فولدت له محمداً وكان عاملاً على مكة، وولدت له زكريا وعائشة ثم قتل عنها فتزوجها عبدالرحمن بن عبدالله بن أبي ربيعة المخزومي>(12).
- ونقل الشيخ الشبلنجي في كتابه (نور الأبصار) في حديثه عن أبي بكر الصديق:
<أم كلثوم أصغر بناته أمها حبيبة بنت خارجة بن زيد توفى عنها أبو بكر وهي حُبلى بأم كلثوم فولدت بعد وفاته وتزوجها طلحة بن عبيدالله>(13).
- قال ابن قتيبة في المعارف (أخبار أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ):
<وأما أم كلثوم بنت أبي بكر> فخطبها عمر إلى عائشة فأنعمت له وكرهته أم كلثوم فاحتالت حتى أمسك عنها وتزوجها طلحة بن عبيدالله فولدت له: زكريا وعائشة ثم قتل عنها...>(14).
ـ وقال في موضع آخر في أخبار ولد طلحة بن عبيدالله:
<... ومنهم زكريا بن طلحة وأمه أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق وأخته لأبيه وأمه عائشة بنت طلحة<(15).
- وقال صاحب (الروضة الفيحاء في تواريخ النساء): <أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق أمها حبيبة بنت خارجة بن زيد الأنصاري وهي أصغر بنات الصديق توفى أبو بكر وأمها حمل بها... فتزوجها طلحة ـ رضي الله عنه ـ...>(16).
- وقال ابن الجوزي في (المنتظم) عند ذكر زوجات أبي بكر الصديق <والزوجة الثانية: حبيبة بنت خارجة بن زيد فولدت له أم كلثوم بعد وفاته، وكان أبو بكر لما هاجر إلى المدينة نزل على أبيها خارجة بن زيد...>(17).
- وقال الذهبي في تاريخ الإسلام عن قصة تصدق طلحة بمال أتاه:(30/16)
<قال أبو إسماعيل الترمذي ثنا سليمان بن أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة التميمي حدثني أبي عن جدي عن موسى بن طلحة أن أباه أتاه مال من (حضر موت) سبعمائة ألف فبات ليلته يتململ فقالت له زوجته: مالك؟ فقال: تفكرت فقلت: ما ظن رجل بربه يبيت وهذا المال في بيته قالت: فأين أنت عن بعض أخلائك فإذا أصبحت فاقسمها. فقال: إنك موفقة وهي أم كلثوم بنت الصديق. فقسمها بين المهاجرين والأنصار فبعث إلى على منها وأعطى زوجه ما فضل فكان نحو ألف درهم>(18).
سادساً: الشكل التالي يوضح نسب أبي بكر الصديق وأولاده ذكوراً وإناثاً(19)
مناقشة الروايات التي ذكرت خطبة عمر لأم كلثوم بنت أبي بكر
مما يؤكد أن عمر بن الخطاب لم يخطب أم كلثوم بنت أبي بكر ضعف الروايات التي ذكرت ذلك وهذه الروايات هي:
ـ رواية ابن جرير الطبري ت310هـ وفيها <قال المدائني: وكان قد خطب أم كلثوم ابنة أبي بكر الصديق وهي صغيرة وراسل فيها عائشة فقالت أم كلثوم: لا حاجة لي فيه...>.(20)
ـ والرواية نفسها ينقلها ابن كثير الدمشقي ت447هـ في البداية والنهاية دون الإشارة إلى أنه نقلها بتمامها من ابن جرير الطبري.
وفيها <قال المدائني: وكان قد خطب أم كلثوم ابنة أبي بكر وهي صغيرة...>(21).
وقد وردت الرواية في (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني، والعقد الفريد لابن عبدربه الأندلسي. وكلا العالمين يدور في قدحهما كلام كثير(22).
ولكن كلامنا هنا يدور حول سند الرواية.
فالمتأمل في الرواية لا يجد لها سنداً متصلاً سوى (قال المدائني) دون ذكر أي سند فمن أين نقل المدائني الرواية وعمن أخذها؟
وكذلك ذكر محمد بن جرير الطبري للرواية بـ (قال المدائني) فلم يصرح بالسماع منه ولا حتى بلقائه فأين الواسطة بين الطبري والمدائني وبين المدائني ومن نقل عنه!؟
ومعلوم أن وفاة الطبري سنة 310هـ.
ووفاة المدائني سنة 422هـ وقيل 522هـ.(30/17)
فبين وفاة المدائني ووفاة الطبري ست وثمانون سنة.
ـ وإضافة إلى ما سبق فالمدائني يروي معظم أخباره دون سند وهو ليس بالقوي.
قال الذهبي في (ميزان الاعتدال):
<علي بن محمد أبو الحسن المدائني الإٍخباري صاحب التصانيف ذكره ابن عدي في الكامل فقال: علي بن محمد بن عبدالله بن أبي سيف المدائني مولى عبدالرحمن بن سُمرة ليس بالقوي في الحديث وهو صاحب الأخبار قلَّ ماله من الروايات المسندة...>(23).
الهوامش :
(1) يقصد بالثاني عمر بن الخطاب (حسب ترتيب الخلافة وتوليها).
(2) يقصد أسماء بنت عميس الخثعمية وقد تزوجها أولاً جعفر الطيار وولدت له ثم تزوجها بعده أبو بكر الصديق وولدت له، ثم تزوجها بعده علي بن أبي طالب وولدت له، والمقصود بمحمد: محمد بن أبي بكر الصديق الذي ولاه علي مصر ثم قتله معاوية بن خديج (مرسل من قبل معاوية وقائد الجيش) ويقال أنه وضعه في جيفة حمار ثم أحرقه، كان محمد (حسب روايات المؤرخين) ممن نقموا على عثمان بن عفان، ولم يباشر قتله على الرأي الصواب عند أهل السنة. ويبدو أنه أخطأ وجعل أم كلثوم ابنة أبي بكر من أسماء والمعروف أنها ابنته من زوجة أخرى سيأتي ذكرها.
(3) الفقرة منقولة بتمامها من (هامش إحقاق الحق وإزهاق الباطل) نور الله التستري، كتبها محقق الكتاب ج2 ص673 ط قديمة.
(4) راجع رأيه في الصحيح من سيرة النبي ج1 ص321 ـ 621 تحت عنوانين (زوجتا عثمان هل هما بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟!، هل زينب ابنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أم ربيبته.
(5) انظر (هوامش نقدية على كتاب مأساة الزهراء) السيد محمد الحسيني ص93 ـ 04. وهذا الكتاب على صغر حجمه إلا أنه من أفضل الكتب التي أوصي القارئ الكريم بمطالعتها ليدرك خزعبلات وخرافات السيد جعفر مرتضى في التاريخ بشكل خاص.
(6) انظر المرجع نفسه ص01.
(7) المرجع السابق ص362 نقلاً من ابن حجر في الإصابة4/964.(30/18)
(8) على ذلك كتب التاريخ وإن وجد اختلافات فهي طفيفة جداً. راجع تاريخ الإسلام، د. حسن إبراهيم ج1 ص051.
(9) هذه كلها افتراضات يحتمها العقل مع أننا مؤمنين لما ثبت عندنا من سير وتواريخ رواه الثقات أن عمر بن الخطاب تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وليس أم كلثوم بنت أبي بكر، ولكن هذه الافتراضات الجدلية لمجاراة الخصم في فكره وعناده.
(10) أعظم رجل، نقلاً من الإصابة 4/962.
(11) نساء من عصر التابعين ج2 ص21 نقلاً من الطبقات (3/013)، تاريخ الإسلام للذهبي (3/021).
(12) أعظم رجل، مرجع سابق ص362 نقلاً من وفيات الأعيان 3/07.
(13) نور الأبصار ص701 نقلاً من ابن قتيبة وغيره.
(14) المعارف ص571.
(15) المرجع السابق ص332.
(16) الروضة الفيحاء في تواريخ النساء ص072.
(17) المنتظم لابن الجوزي ص65 ج4.
(18) تاريخ الإسلام للذهبي ص625 عهد الخلفاء الراشدين. والرواية نفسها في سير أعلام النبلاء 1/13 وتهذيب تاريخ دمشق 7/48 وفيه <موفقة بنت موفق<.
(19) استعنت في عمل الجدول (الشكل) بكتب الأنساب المختلفة، وكذلك كتاب (أطلس تاريخ الإسلام) د. حسين مؤنس، وقد أضفت للشكل الذي رسمه ص98 بعض الإضافات حسب الحاجة.
(20) تاريخ الطبري ص 85، أحداث سنة ثلاث وعشرين تحت ذكر أسماء ولده ونسائه (أي عمر ابن الخطاب)
(21) انظر الرواية في البداية والنهاية جـ5 ص 022.
(22) أبو الفرج الأصفهاني مختلف فيه هل ولاؤه لبني أمية أم أنه شيعي، وقد صنف من الكتب ما يجعل العلماء يشكون في ولائه ومذهبه فقد ألف في أنساب الأمويين وصنف <مقاتل الطالبيين> وعدَّه بعض علماء الرجال عند الشيعة من الشيعة بينما ينفي الخوانساري كونه شيعياً، وقد امتلأ كتابه (الأغاني) بالكثير من المجون والسخف والتصريح بشرب الخمور واللهو مما يقدح في عدالته.(30/19)
أما ابن عبدربه الأندلسي فقد اتهمه ابن كثير وغيره بالتشيع لموقفه من عبدالله القسري ولما سبق أعرضنا عما ذكره الرجلان من روايات فهما مقدوحان عند كلا الفريقين.
(23) ميزان الاعتدال، الذهبي جـ3، ص 351، ترجمة رقم 1295
المبحث الثاني
إدعاء علماء الشيعة
أن عمر تزوج من شيطانة أو جنية تشبه (أم كلثوم)
هل تزوج عمر من جنية؟!
من الوجوه والمخارج التي يراها علماء الشيعة لتفسير زواج عمر من أم كلثوم أن التي تزوجها عمر إنما هي جنية من نجران تشبهت بأم كلثوم بنت علي بعد أن استدعاها أمير المؤمنين علي وأمرها بالامتثال له والتزوج من عمر بن الخطاب.
وهذه الرواية مذكورة في أكثر من كتاب من أمهات كتب الشيعة الإمامية، ويلهج بها أكثر من عالم، لذا رأيت بيانها.
ـ نقل نعمة الله الجزائري في (الأنوار النعمانية) هذا الوجه ونص كلامه:(30/20)
<وأما الثاني وهو الوجه الخاص فقد رواه السيد العالم بهاء الدين علي بن عبدالحميد الحسيني النجفي في المجلد الأول من كتابه المسمى بالأنوار المضيئة قال: مما جاز لي روايته عن الشيخ السعيد محمد بن محمد بن النعمان المفيد (ره) رفعه إلى عمر بن أذينة قال قلت لأبي عبدالله ـ عليه السلام ـ إن الناس يحتجون علينا أن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ زوج فلاناً ابنته أم كلثوم ـ وكان عليه السلام متكئاً فجلس، وقال: أتقبلون أن علياً ـ عليه السلام ـ أنكح فلاناً ابنته، إن قوماً يزعمون ذلك ما يهتدون إلى سواء السبيل ولا الرشاد، ثم صفق بيده وقال: سبحان الله ـ أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ يقدر أن يحول بينه وبينها كذبوا لم يكن ما قالوا. إن فلاناً خطب إلى علي ـ عليه السلام ـ بنته أم كلثوم فأبى فقال للعباس: والله لئن لم يزوجني لأنزعن منك السقاية وزمزم فأتى العباس علياً ـ عليه السلام ـ فكلمه فأبى عليه فألح عليه العباس فلما رأى أمير المؤمنين عليه السلام مشقة كلام الرجل على العباس وأنه سيفعل معه ما قال أرسل إلى جنية من أهل نجران يهودية يقال لها: سحيقة بنت حريرية فأمرها فتمثلت في مثال (أم كلثوم) وحجبت الأبصار عن أم كلثوم بها، وبعث بها إلى الرجل فلم تزل عنده حتى أنه استراب بها يوماً، وقال: ما في الأرض أهل بيت أسحر من بني هاشم، ثم أراد أن يظهر للناس فقتل، فأخذت الميراث وانصرفت إلى نجران وأظهر أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أم كلثوم ـ وأقول وعلى هذا فحديث أول فرج غصبناه محمول على التقية والاتقاء من عوام الشيعة كما لا يخفى...>(1).
ـ وهذا النص ذكره غير واحد من علماء الشيعة في تفسير هذا الزواج ذكر نعمة الله الجزائري منهم: بهاء الدين علي بن عبدالحميد الحسني النجفي في الأنوار المضيئة. والشيخ محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالمفيد.
ـ ولاحظ قوله (والاتقاء من عوام الشيعة) فحتى عوام الشيعة أنفسهم يجوز التقية عليهم.(30/21)
الرد والجواب:
ـ أيها القارئ الكريم هل يقبل عقلك هذه الرواية بكل ما تحويه؟!
أولاً: لقد دأب نعمة الله الجزائري على رواية الخرافات والسخافات في كتابه هذا الأنوار النعمانية، فمرة يروي أن العصفور يجب قتله لأنه سني يحب فلاناً وفلاناً ولا يتولى عليا ـ عليه السلام ـ ومن هنا وجب قتله [انظر الأنوار النعمانية ج1 ص53].
ومرة يروي عن مسخ بني أمية وزغاً [انظر الأنوار النعمانية ج4 ص56]، ورواياته كثيرة جداً هذا بخلاف ما يذكره من مجون ومن يطالع الفصل الذي عقده تحت عنوان (نور في المزاح والمطايبات والمضحكات)(2) يدرك ميل الرجل غير الطبيعي لروايات مثيرة للشهوة ومحركة لبواعث الغرائز هذا بخلاف كتابه (زهر الربيع) والفصل المعقود في نهاية الجزء الأول منه والذي يعف لساننا عن ذكر عنوانه(3).
وأنقل شهادة واحد من علماء الإمامية في كتابات العلامة: نعمة الله الجزائري حيث كتب محقق الكتاب (الأنوار النعمانية) في هامش ص801 تعليقاً على ما يذكره الجزائري وينقله في فصل (نور في المزاح والمطايبات والمضحكات).
قال: <والعجب من المصنف (ره) من نقله أمثال هذه الحكايات القبيحة في كتابه، ولذا حدثني من أثق به أن المجتهد الأكبر الفقيه المتضلع الكبير الحاج ميرزا أبو الحسن الشهير بـ (انكجي) رحمه الله كان يقول: لا يجوز مطالعة بعض الأبواب من كتب السيد الجزائري كهذا الباب من هذا الكتاب وسائر كتبه كزهر الربيع>(4).
فهذه شهادة من واحد من علماء القوم وهو محقق كتاب الأنوار النعمانية(5).
فهل يستوعب القارئ بعدما يطالع خرافات الجزائري في مجلداته الأربعة من الأنوار النعمانية هذه الخرافة أن علياً زوج عمر بن الخطاب جنية تشبه (أم كلثوم).(30/22)
ثانياً: ومما يعجب له الحليم ويتحير له اللبيب ذكر اسم الجنية التي استدعاها علي ـ رضي الله عنه ـ فاسمها سحيقة واسم أبيها أو أمها حريرية ولا أعلم السبب وراء ذكر الاسم غير إتقان الحبكة في القصة الخرافية.
ثالثاً: لماذا يرسل علي لجنية من أهل نجران، ولماذا يهودية؟!!
هل الجنيات المسلمات لا يطاوعن علياً ـ رضي الله عنه ـ؟!
أو أن علياً ـ رضي الله عنه ـ ليس له سلطان إلا على الجنيات اليهوديات؟!
ولماذا الجنية من أهل نجران؟!
ألا يوجد جنيات في الأماكن المجاورة للمدينة؟!!
إن هذا أمر يدعو للعجب فلو كان لعلي فعلاً سلطان على الجن فكان من الممكن أن يأمر إحدى الجنيات من مكان قريب لتتشبه بأم كلثوم..؟!!
رابعاً: لو صدقنا قدرة علي ـ رضي الله عنه ـ وسلطانه على الجن من حيث استدعائهم وامتثالهم لأمره فيكون علي ـ رضي الله عنه ـ بذلك أفضل من سليمان عليه السلام ـ إذ كان لسليمان سلطان على الجن، ولعلي أيضاً سلطان، ولكن يفضله علي بمزية ـ وهي أن الله عز وجل لم يستجب لدعاء سليمان إذ دعا ربه <قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب> (ص/53 ـ 04).
والنص واضح لا يحتاج إلى شرح فالله عز وجل استجاب لدعاء سليمان عليه السلام وجعل له بإذن الله سلطاناً على الريح والجن... لكن يبدو أنه حدث استثناء بعد ذلك حيث رأينا هنا سلطاناً على الجن من قبل علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ كما تزعم الرواية.
ـ بل إن علياً بهذه الرواية يصبح أفضل من رسول الله وخاتم المرسلين ـ محمد صلى الله عليه وآله وسلم ـ فلم يكن للرسول سلطان على الجن احتراماً لدعوة سليمان ـ عليه السلام ـ.(30/23)
قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا إسحق بن إبراهيم أخبرنا روح ومحمد بن جعفر عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: >إن عفريتاً من الجن تفلت علي البارحة ـ أو كلمة نحوها ـ ليقطع على الصلاة فأمكنني الله تبارك وتعالى منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ >رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي< قال روح: فرده خاسئاً>(6).
ـ فهل يعقل أن علياً ـ رضي الله عنه ـ أفضل من سليمان عليه السلام ـ وأفضل من خاتم المرسلين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
نعم هناك بين علماء الشيعة خلاف في هل الأئمة المنصوص عليهم من علي بن أبي طالب حتى المهدي المنتظر أفضل من كل الأنبياء والرسل بما فيهم أولي العزم أم بغير أولي العزم على خلاف عند الشيعة الإمامية. وليس هذا موضع تفصيل هذا المعتقد لكن المراد أنه لم يقل أحد من علماء الشيعة على حد علمي أن علياً أفضل من رسول الله ـ أو لم يصرح أحد بذلك(7) فكيف نتقبل أن لعلي سلطان على الجن ولم يكن لرسول الله سلطان مثله؟!!
خامساً: ذكرت كتب التاريخ والسير أن أم كلثوم ولدت لعمر بن الخطاب زيداً ورقية فهل ولدتهم الجنية أيضاً أم أم كلثوم الحقيقية.
وسيأتي ذكر المراجع من أمهات كتب الشيعة التي تذكر ذلك بل وتذكر النكاح ذاته وكذلك مراجع أهل السنة في ذلك.
سادساً: في الرواية <فأخذت الميراث وانصرفت> وهل مات عمر بن الخطاب عن زوجته الجنية المزعومة دون غيرها من زوجات وأبناء أشهرهم من علماء المسلمين وصحابة رسول الله: عبدالله بن عمر، وأخته أم المؤمنين السيدة حفصة وكذا زوجات عمر بن الخطاب فهل يمكن أن يحتال عليهم لتأخذ الجنية الميراث وترحل إلى نجران؟!!(30/24)
ـ إن عجبي ليس من هذه الرواية الخيالية بل الخرافية، وإنما شدة عجبي ممن يصدقون مثل هذه الروايات!! كيف تدخل عقولهم أصلاً؟!!
ـ سابعاً: في رواية الجزائري السابقة اسم الجنية (سحيقة بنت جريرية) وفي روايات أخرى يوردون اسمها (سحيقة بنت حريرية)(8).
فلا يعلم ما اسمها الحقيقي بنت جريرية أم بنت حريرية، وهذا فيما أرى مهم جداً، ولولا أنه لا يوجد في مكتبتي ولا تحت يدي مراجع تختص بضبط أسماء أعلام الجنيات لعرفنا ضبط الاسم وما حدث فيه من تصحيف وتحريف.
الهوامش :
(1) الأنوار النعمانية ج1 ص38 ـ 48 فصل: نور مرتضوى.
(2) الفصل في الأنوار النعمانية ج4 ابتداءً من ص69 ـ 851.
(3) عنوان الفصل: (كتاب الأيك في معرفة .... علم لا منفعة فيه ولا ضرر) ص147 طبعة حديثة، 214 طبعة حجرية.
(4) الأنوار النعمانية ج4 ص801 الهامش.
(5) الذي كتب التعليقات في الهوامش العلامة: محمد علي القاضي الطباطبائي بن الحاج ميرزا باقر بن القاضي بن ميرزا محمد علي القاضي.
(6) الحديث في البخاري ورواه مسلم والنسائي من حديث شعبة وراجع تفسير ابن كثير فقد نقل الروايات كلها في تفسير الآية ج4 ص73 تفسير سورة ص.
(7) مع أن نعمة الله الجزائري كما ذكر في الأنوار النعمانية يقارن بين شجاعة علي وشجاعة رسول الله ويرى أن علياً أشجع وراجع في الأنوار النعمانية ذلك ج1 ص71 (نور نبوي).
(8) انظر تراجم أعلام النساء ص203 س5.
المبحث الثالث
إنكار الشيخ المفيد لهذا الزواج أصلاً
وتفصيل الرد عليه ومن تبعه
- ذهب بعض من علماء الشيعة إلى إنكار هذا الزواج أصلاً وأن عمر لم يتزوج أم كلثوم بنت علي وأن الروايات التي نقلت ذلك من طريق العامة والنواصب خاصة من النسابة الزبير بن بكار وهو من آل الزبير ومعروف عداوتهم لأهل البيت فهذه دعواهم.(30/25)
ولما نظرت في علماء الشيعة وجدت أن أقدم من تحدث في هذه المسألة وأولهم هو (أبو القاسم علي بن أحمد الكوفي) المتوفى سنة 253هـ ثم من بعده الشيخ المفيد المتوفى سنة 314هـ ثم تبع الشيخ المفيد في إنكاره حيناً وتأويله على فرض صحة النكاح حيناً آخر تلميذه الشريف المرتضى في كتابه (الشافي).
ثم كل من جاءوا بعدهم ساروا على النهج نفسه متمسكين بالأدلة نفسها والبراهين ذاتها حتى المعاصرين نهجوا النهج نفسه.
ولمكانة الشيخ المفيد عند علماء الشيعة ولتفصيله للمسألة وما ذكره من براهين وأدلة واهية خاوية، ولتعلق الخاصة من علماء الشيعة والعامة منهم أيضاً باسم الشيخ المفيد، لذا رأيت عرض رأيه تفصيلاً أولاً وبيان الرد عليه.
وهاك رأى الشيخ المفيد كما ذكره في (المسائل السروية) في المسألة العاشرة(1) منقول بنصه وهوامشه(2) ثم يليه الرد المفصل على كلامه.
الرد والجواب:
ـ يذكر أولاً الشيخ المفيد تشكيكه في زواج عمر من أم كلثوم بنت علي، لأن هذا الخبر في نظره غير ثابت لأن طريقه من الزبير بن بكار، والزبير كما هو معلوم ينتهي نسبه إلى الزبير بن العوام والشيعة يدعون أن آل الزبير يكرهون علياً ويبغضونه لذلك ينفون أي علاقة زواج مع آل الزبير مثل زواج السيدة سكينة بنت الحسين من مصعب بن الزبير بن العوام.
فالزبير بن بكار أو (بكار الزبيري) صاحب كتاب الموفقيات وكان نسابة وعمه أيضاً نسابة وهو مصعب بن عبدالله بن الزبير وقد أخذ بكار منه كثيراً ـ وهما عند الشيعة غير موثوق في نقلهما ولا مأمونين وجوابنا على ذلك:
أولاً: هناك مصاهرات بين أهل البيت وآل الزبير وقد ذكر هذه المصاهرات علماء الأنساب من الشيعة والسنة ومنها:(30/26)
عبدالله بن الزبير بن العوام كانت تحته حتى مقتله على يد الحجاج بن يوسف الثقفي واحدة عن أهل البيت وهي (أم الحسن) بنت الحسن بن علي بن أبي طالب قال ذلك واحد من أكابر علماء النسب (أبو الحسن العمري) في المجدي، وكذلك خرجت رقية بنت الحسن بن علي بن أبي طالب إلى عمرو بن المنذر بن الزبير بن العوام، وكذلك السيدة سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب تزوجها مصعب بن الزبير بن العوام وهذا مشهور معروف وراجع: هامش صفحة 88 من (عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب) لابن عنبه وهو شيعي نسابة معروف (847هـ ـ 828هـ) والكتاب طبعته مؤسسات الشيعة. فأين العداوة مع هذه المصاهرات بين آل الزبير وآل أبي طالب من ولد علي ـ رضي الله عنه ـ.
ثانياً: لقد ذكر هذا الزواج كثير من علماء الأنساب من الشيعة أىضاً ومن السنة فيكون خبر هذا الزواج ورد من أكثر من طريق حتى وصل إلى أكثر من حد التواتر فكيف يمكننا إنكار خبر متواتر على نقله من قبل علماء هذا المنهج وهم النسابون.
وهاك بياناً بما ورد من خبر تزويج أم كلثوم من عمر بن الخطاب:
1 ـ ذكر خبر تزويجها من عمر بن الخطاب صاحب (تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس) الشيخ حسين بن محمد بن الحسن الدياربكري (ص482 ـ 582) والروايات التي ذكرها سندها وطريقها ابن قتادة من عاصم بن عمرو عن ابن إسحاق ثم رواية ذكرها: أبو عمرو، ثم ما أخرجه الإمام أحمد في المناقب عن طريق ابن السمان ثم رواية عن واقد بن محمد بن عبدالله بن عمر خرجها الدولابي، وخرج ابن السمان معناها مع اختصار اللفظ.
ثم رواية عن أسلم خرجها أبو عمرو والدولابي وابن السمان وهي عن مهر عمر لأم كلثوم وقدره أربعين ألف درهم.
ثم رواية عن أبي هريرة قال: <أم كلثوم بنت علي من فاطمة تزوجها عمر بن الخطاب فولدت له زيد بن عمر بن الخطاب>.
وروايات أخرى كثيرة تحكي موتها وابنها زيد في ساعة واحدة وزواج أم كلثوم بعد عمر...(30/27)
والروايات معظمها عن ابن إسحاق والدولابي وابن السمان وعمار بن أبي عمار وأبو عمرو وأبو هريرة ولم يذكر في كل هذه الروايات (الزبير بن بكار) بل هناك من سبقوه وهم أعلم منه بالتاريخ والأنساب فالزبير بن بكار توفي سنة 652هـ.
وقد وردت روايات عن ابن إسحاق (أبو عبدالله محمد بن إسحق بن يسار بن خيار) وهو من أصل فارسي توفي سنة 151هـ على أصح تقدير(3).
فابن اسحاق سابق للزبير بن بكار بل وسابق لعمه مصعب بن عبدالله بن الزبير بن العوام بل وابن هشام(4) صاحب السيرة النبوية وهو أجل تلامذة ابن اسحاق ونقل السيرة عنه توفي سنة 312 أو 812هـ أي قبل الزبير بن بكار أيضاً.
ومما سبق يُعلم أن خبر التزويج ورد من طرق عديدة غير الزبير بن بكار (الذي لا يثق الشيعة والشيخ المفيد في أمانة نقله) ومن هذه الطرق ابن اسحاق والناقل عنه ابن هشام وكلاهما توفيا قبل الزبير بن بكار فيعتبر من جاء بعدهما عنهما نقل ومنهما أخذ ونهج بل الزبير بن بكار في طبقة جاءت بعدهم ونهلت من علومهم وقد ذكر ترتيب طبقات الرواة والنسابين صاحب (تاريخ آداب العرب) فراجع(5) ـ غير مأمور.
2 ـ ذكر واحد من علماء النسب الشيعة الذين لهم مكانة مرموقة زواج أم كلثوم من عمر بن الخطاب وهذا العالم هو (أبو الحسن العمري) في كتابه (المجدي) يقول عنه صاحب مقدمة كتاب (عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب) لابن عنبه:(30/28)
<من النسابين الأوائل الشيعة الشيخ العمري (أبو الحسن علي الصوفي نجم الدين أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن محمد ينتهي نسبه إلى عمر بن علي زين العابدين (ع)، ولذلك قيل له العمري ويعرف بابن الصوفي النسابة كان حياً إلى ما بعد سنة 344هـ وعاصر السيدين المرتضى والرضى وبينه وبين ابن عنبه ثلاثة قرون تقريباً وله كتاب (المجدي في أنساب الطالبيين)(6) فأبو الحسن العمري إذاً من النسابين الشيعة بل هو شيخ هؤلاء النسابين ينقل عنه ابن عنبه وأبو نصر البخاري وغيرهما من نسابي الشيعة.
يقول صاحب مقدمة كتاب (سر السلسلة العلوية) لأبي نصر البخاري، والكتاب جمعه وعلق عليه العلامة السيد/ محمد صادق بحر العلوم وهو من علماء الشيعة المعاصرين.
يقول صاحب المقدمة عن مؤلف الكتاب (أبو نصر البخاري):
>ومؤلف الكتاب، ينقل كثيراً عن أبي الحسن النسابة العمري الذي ينتهي نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب(7)<..
فهذا هو أبو الحسن العمري النسابة الشيعي لا يشك في ذلك أحد يقول في كتابه الشهير (المجدي) عن بنات علي بن أبي طالب: <أم كلثوم من فاطمة (ع) واسمها رقية خرجت إلى عمر بن الخطاب فأولدها زيداً...>(8).
ـ فهل يمكننا بعد ذلك أن نذهب مذهب الشيخ المفيد والذي قد يؤخذ من قوله في الفقه ونترك قول إمام النسابين (أبي الحسن العمري) الذي صرح بزواج أم كلثوم من عمر بن الخطاب، وإن كان تعبيره بـ (خرجت إلى عمر بن الخطاب) يوحي بكثير من المرارة والأسى لخروجها هذا، وكأنه خروج من ملة الإسلام مما يدل على حدوث هذا الزواج وتألم الشيعة له وذهابهم في تأويله ـ بعدما أعياهم إنكاره ـ كل مذهب.
3 ـ ذكر صاحب (الروضة الفيحاء في تواريخ النساء) تحت اسم أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب:(30/29)
أمها فاطمة الزهراء ولدت على عهد رسول الله(9) صلى الله عليه وآله وسلم تزوجها عمر ـ رضي الله عنه ـ ثم تزوجها بعده محمد بن جعفر بن أبي طالب ومات وتزوجها أخوه عون بن جعفر(10) فقتل ثم تزوجها عبدالله بن جعفر فماتت عنده وتوفيت هي وولدها زيد بن عمر ـ رضي الله عنه ـ في يوم واحد ولم يُعلم أيهما مات أولاً وصلى عليهما عبدالله بن عمر ـ رضي اله عنه ـ قدمه الحسين ـ رضي الله عنه ـ فكان بها سنتان لم يورث أحدهما من الآخر...>(11).
ـ وذكرها مرة أخرى فقال: <بنت علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وأمها فاطمة الزهراء ـ رضي الله عنها تزوجها الإمام عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في السنة السابعة عشرة وأصدقها أربعين ألف درهم فولدت له زيداً الأكبر ورقية وتوفى عنها..> ص133.
4 ـ وهاك ضربة قاصمة للظهر ظهر الشيخ المفيد ومن تبعه من علماء الشيعة وعوامهم إذ نقل أمين الإسلام (وهذا لقبه) الطبرسي زواج عمر من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب في كتابه المشهور (إعلام الورى بأعلام الهدى) يقول:
>وأما أم كلثوم فهي التي تزوجها عمر بن الخطاب وقال أصحابنا إنه عليه السلام إنما تزوجها منه بعد مدافعة كثيرة وامتناع شديد واعتلال عليه بشيء بعد شيء حتى ألجأته الضرورة إلى أن رد أمرها إلى العباس بن عبدالمطلب فزوجها إياه...> (ص402)(12).
ومعلوم عند الحاضر والغائب والقاصي والداني أن أبا الفضل بن الحسن الطبرسي الملقب بأمين الإسلام صاحب (إعلام الورى) من أجل علماء الشيعة وقد قال بهذا الزواج فهل ينكره منكر أو يرده جاحد وهو ليس من آل الزبير ولا هو بمقدوح أو مجروح عند علماء الشيعة!!(30/30)
5 ـ وذكر قصة زواج عمر بن الخطاب من أم كلثوم بنت علي أيضاً صاحب (العقد الفريد) ابن عبدربه الأندلسي، وإن كان كتابه كتاب أدب وشعر وليس دين وفقه أو علم نسب ولكن ذكره هنا للاستئناس لا أكثر ذكر ذلك في المجلد السادس صفحة 09 وروايته: >.. وكان علي قد عزل بناته لولد جعفر بن أبي طالب فلقيه عمر فقال: يا أبا الحسن انكحني ابنتك أم كلثوم بنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: قد حبستها لابن جعفر قال عمر: إنه والله ما على الأرض أحد يرضيك من حُسن صحبتها بما أرضيك به فأنكحني يا أبا الحسن. فقال علي: قد أنكحتكها يا أمير المؤمنين. فأقبل عمر فجلس في الروضة بين القبر والمنبر واجتمع إليه المهاجرون والأنصار فقال: زفوني. قالوا: بمن يا أمير المؤمنين؟ قال: بأم كلثوم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: <كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي<(13) وقد تقدمت لي صحبة فأحببت أن يكون لي معها سبب فولدت له أم كلثوم زيد بن عمر ورقية بنت عمر...>(14).
6 ـ وهاك ضربة أخرى قاصمة للظهر ذكرها صاحب كتاب (الأصيلي) العلامة النسابة المؤرخ صفي الدين محمد بن تاج الدين علي المعروف بابن الطقطقي الحسني ت/907هـ وقبل أن نورد هذه القاصمة لظهر من ينكر زواج عمر من أم كلثوم نعلق على الكتاب ومصنفه ومحققه ليتبين للقارئ ممن ننقل الآراء والأقوال.
أما المصنف للكتاب فهو:
صفي الدين بن محمد بن تاج الدين علي المعروف بابن الطقطقي الحسني توفي سنة 907هـ وهو من كبار علماء الشيعة خاصة في علم الأنساب كتب عنه آية الله العظمى السيد شهاب الدين الحسيني المرعشي النجفي:
>هو السيدالشريف صفي الدين أبو عبدالله محمد بن تاج الدين أبي الحسن علي بن شمس الدين علي بن الحسن... ينتهي نسبه إلى الحسن المثنى بن الحسن المجتبى بن علي بن أبي طالب..<.
وأبوه وأمه:(30/31)
قال السيد المرعشي في مقدمة كتاب (اللباب) ص07 عن والده الشريف تاج الدين محمد <كان علامة نسابة جليلاً ولي نقابة العلويين بالنجف وكربلاء والحلة له من الكتب مشجر في النسب>.
ـ وقد مدح المصنف علماء كثيرين.
قال كحالة في معجم المؤلفين: <محمد بن علي المعروف بابن الطقطقي مؤرخ من أهل الموصل خلف أباه في نقابة العلويين بالحلة والنجف>(15).
ـ وقال آية الله شهاب الدين المرعشي النجفي عنه أيضاً في مقدمة اللباب ص97:
<كان علامة في جميع الفنون مؤرخاً نسابة متضلعاً في علم النسب ولي نقابة العلويين<(2).
ـ وقال عنه النسابة ابن عنبة في عمدة الطالب: <نقيب النقباء تاج الدين علي بن محمد بن رمضان يعرف بابن الطقطقي..>.(16)
أما مشايخ المصنف وتلامذته:
فهم كثر ويكفي أن نذكر أن من مشايخه:
ـ العلامة علي بن عيسى الأربلي صاحب كشف الغمة..
ـ السيد شرف الدين أبو جعفر بن محمد بن تمام بن علي بن تمام العبيدلي وغيرهما كثير. وقد عدد صاحب التحقيق من شيوخه ثلاثة وعشرين شيخاً(17).
وكذلك تلامذته ومن تحدث عنه ومؤلفاته. ورحلاته إلى شيراز والموصل ومراغة وفراهان وبرزآبان وترجم له الشيخ عباس القمي في الكنى والألقاب(18).
وكانت ولادته سنة 066هـ ووفاته سنة 907هـ وقيل 207هـ.
أما بالنسبة للكتاب: فقد أثنى عليه المحقق ثناءً عطراً وذكر مدح شيخه علامة الأنساب في عصرنا الحالي المرعشي النجفي ووصايته تلميذه بالاطلاع الدائم على هذا الكتاب يقول المحقق: <وكان شيخنا ومعتمدنا في علم الأنساب العلامة النسابة الفقيه المرحوم السيد المرعشي النجفي قدس سره يعتمد على هذا ا لكتاب كثيراً وكان يوصيني بمطالعة الكتاب واستخراج ما فيه من الأنساب>(19).
>وقال قدس سره في مقدمة كتاب لباب الأنساب للبيهقي: وكتاب الأصيلي مشجر ويعرف بالمشجر الأصيلي ألفه لأصيل الدين حسن بن الخواجة نصير الدين الطوسي...<(20).
سبب تأليفه الكتاب:(30/32)
وقد ألف ابن الطقطقي كتابه هذا وأهداه إلى أصيل الدين حسن بن الخواجة نصير الدين الطوسي بل وسماه على اسمه نسبة إليه وهو من كبار علماء الشيعة أما والده الخواجة نصير الدين الطوسي فتعامله مع التتار لا ينكره أحد من علماء الشيعة بل يذكرون كونه سبباً في جريان دماء المسلمين كالأنهار في نكبة التتار وراجع كتب الشيعة إن شئت لتعرف حقيقة الرجل(21).
يقول صاحب المقدمة <وأما أصيل الدين أبو محمد الحسن الطوسي فقال في أعيان الشيعة 5/962 توفي في صفر سنة 517هـ قال في الدرر الكامنة : كان أصيل الدين بن الخواجة محمد بن محمد الطوسي كبير القدر عند المغول ووالي نظر الأوقاف والرصد>(22)... ثم ذكر تمجيد ابن الطقطقي له..
الخلاصة:
يستخلص القارئ اللبيب مما سبق أن مصنف كتاب (الأصيلي) وهو ابن الطقطقي من كبار علماء الشيعة وكذلك شيوخه وتلامذته.
ـ وأن الكتاب مهدى إلى ابن نصير الدين الطوسي والأولى تسميته بخائن الدين صاحب مذبحة بغداد وراجع إن أردت التحقق ما كتب عنه في تاريخ الطبري والبداية والنهاية لابن كثير، والكامل لابن الأثير وغيرها من كتب لتعلم أفعال نصير الدين هذا والكتاب مهدى لابنه (أصيل الدين) وهو كما يقرر صاحب الدرر الكامنة وقد نقل منه صاحب التحقيق أنه كان كبير القدر عند المغول أي: مثله مثل أبيه ولله در الشاعر القائل:
بأبه اقتدى عدي في الكرم
ومن يشابه أبه فما ظلم
ـ وأما محقق الكتاب ومن جمعه ورتبه فهو السيد/ مهدي الرجائي أحد التلامذة النجباء لأحد المراجع وهو آية الله العظمي شهاب الدين المرعشي النجفي.
ـ وأما من تكفل بنشر وطبع الكتاب فهي مكتبة آية الله العظمي المرعشي النجفي في قم ـ إيران.
- فالمصنف وكتابه والمهدى إليه والمحقق وأستاذه وشيخه والمكتبة التي أصدرت الكتاب كل هؤلاء لا شك أنهم شيعة إمامية.(30/33)
- والآن إلى قاصمة الظهر يقول المصنف ابن الطقطقي في ذكر (بنات أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ) <عدتهن ثماني وعشرون بنتاً: زينب العقيلة لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تزوجها عبدالله بن جعفر فولدت له علياً وجعفراً وعوناً وعباساً، وأم كلثوم الصغرى لم تبرز وأم كلثوم أمها فاطمة الزهراء ـ عليها السلام ـ تزوجها عمر بن الخطاب فولدت له زيداً ثم خلف عليها عبدالله بن جعفر...>(23).
هذا نص كلام ابن الطقطقي الذي يثبت زواج عمر من أم كلثوم وقد علق المحقق السيد/ مهدي الرجائي في هامش الصفحة فقال:
<قال في المجدي ص71: <خرجت أم كلثوم بنت علي من فاطمة واسمها رقية ـ عليها السلام ـ إلى عمر بن الخطاب فأولدها زيداً ومات هو وأمه في يوم واحد> وكان الشريف الزاهد النقيب الأخباري ببغداد أبو محمد الحسن بن القاسم بن محمد العويد العلوي المحمدي ـ يروي أن التي تزوجها عمر شيطانة وآخرون من أهلنا يزعمون أنه لم يدخل بها والمعول عليه من هذه الروايات ما رأيناه آنفاً من أن العباس بن عبدالمطلب زوجها عمر برضاء أبيها عليه السلام وإذنه وأولدها عمر زيداً.
وقال الشريف المرتضى علم الهدى في رسائله 3/941. والذي يجب أن يعتمد عليه في نكاح أم كلثوم أن هذا النكاح لم يكن عن اختيار ولا إيثار ولكن بعد مراجعة ومدافعة كادت تقضي إلى المخارجة والمجاهرة.(30/34)
فإنه روى أن عمر بن الخطاب استدعى العباس بن عبدالمطلب، فقال له: مالي؟ أبى بأس؟ فقال له ما يجب أن يقال لمثله في الجواب عن هذا الكلام، فقال له: خطبت إلى ابن أخيك على بنته أم كلثوم فدافعني ومانعني وأنف من مصاهرتي، والله لأعورن زمزم ولأهد من السقاية ولا تركت لكم يا بني هاشم منقبة إلا وهدمتها ولأقيمن عليه شهوداً يشهدون عليه بالسرق وأحكم بقطعه فمضى العباس إلى أمير المؤمنين ـ ع ـ فأخبره بما جرى وخوفه من المكاشفة التي كان ـ عليه السلام ـ يتحاماها ويفتديها بركوب كل صعب وذلول فلما رأى ثقل ذلك عليه قال له العباس رد أمرها إلي حتى أعمل أنا ما أراه ففعل ـ عليه السلام ـ ذلك وعقد عليها العباس. وهنا كلام طويل في النقض والإبرام لا مجال هنا لذكره>(24).
هذا نص كلام المحقق وقد نقل أولاً كلام (العمري) في المجدي وهو شيخ النسابين وقد سبق بيانه في (ثالثاً) وقد ترجم له المحقق نفسه في الهامش فقال: <هو أبو الحسن العمري كان سيداً جليلاً نسابة فاضلاً مصنفاً محققاً صنف مبسوط نسب الطالبيين وهو كتاب كبير يكون في مجلدات كثيرة وصنف كتاب المجدي في الأنساب، نقيب مصر ولد بالبصرة سنة 843هـ ومات بالموصل سنة 064هـ>(25).
ورأى شيخ النسابين هذا (العمري) الذي ذكرناه آنفاً وذكره محقق الكتاب في الهامش يتوافق تماماً مع رأي ابن الطقطقي في الأصيلي.
ولكن المحقق هنا ذكر الحكاية المعتمدة عند الشيعة كما ذكرها (العمري) في المجدي.(30/35)
وقد جمع في إيجاز الآراء الثلاثة السابقة الذكر فرأى يقول: تزوج عمر شيطانة وقد نقضناه وبينا فساده، ورأى يقول: أنه لم يدخل بها وهذا أمر جديد، وكيف ولدت له زيداً ورقية إن لم يدخل بها وعلى هذا كتب الأنساب والتاريخ من السنة والشيعة كما ذكرنا آنفاً ولسوف نذكر عشرات المراجع الأخرى، ورأى يقول: هو أول فرج غصب في الإسلام لله درهم وهل الفروج تغتصب؟! ألم يكن في استطاعة علي وهو المحارب الشجاع المغوار الذي ما كسر له سيف ـ ألم يكن في استطاعته رد عمر بن الخطاب!؟
وهل يمكن لعمر بن الخطاب حسب نص الرواية المزعومة أن يهدم زمزم والسقاية ويتهم علياً بالسرقة ويحضر على ذلك شهوداً، وأين هذا كله من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليتركوا أحداً يهدم زمزم والسقاية!
ـ إن أقل الرجال مروءةً وشجاعةً وغنىً واعتداداً بالنفس إذا تقدم لزواج ابنته أو أخته من لا يرضاه أو لا يراه كُفِئاً رده دون خوف أو جزع فالعرب بشكل خاص في المسائل المتعلقة بالأنساب والفروج لا يخشون أحداً.
ـ لقد حاول علماء آخرون ممن أنكروا هذا الزواج أن يؤولوا حديث <هذا فرج غصبناه> بأنه ورد تقية لمجاراة العامة وهم أهل السنة وكذلك عامة الشيعة.
وأنا والله في أشد العجب كيف يستخدمون التقية مع عامة الشيعة أنفسهم؟!!
يقول نعمة الله الجزائري: <.. أقول وعلى هذا فحديث <أول فرج غصبناه> محمول على التقية والاتقاء من عوام الشيعة كما لا يخفى>(26).
فسبحان الله يستخدم علماء الشيعة التقية مع أهل السنة وعوام الشيعة أيضاً وسيأتي نقض كل ذلك وبيان بهتانه وزوره حيث ذكر الشيعة أنفسهم العلماء منهم من الأحاديث الصحيحة ما يبين فساد مذهبهم وضعف رأيهم بل وعقلهم.(30/36)
ـ أما كون علي ـ رضي الله عنه ـ لم يباشر بنفسه تزويج أم كلثوم بل ترك الأمر لعمه العباس على حد زعم الرواية. فهذا عجيب جداً ولنا أن نتساءل لماذا يترك الأمر لعمه ليتولى تزويجها مع وجوده هو ووجود أخويها الحسن والحسين؟!
وهل هناك كبير فرق بين أن يزوجها علي ويباشر العقد بنفسه كولي لها وبين أن يوكل العباس عمه فيزوجها هو ويباشر العقد بالوكالة عنه؟!! اللهم لا، لأنه في كلا الأمرين ظاهراً يكون راضياً.
ـ المهم لدينا أن الزواج تم وأن أم كلثوم ولدت لعمر زيداً ورقية كما ذكرت كتب الأنساب وكما نص علماء الشيعة أنفسهم.
7 ـ وهذا عالم آخر وإن كان من علماء السنة إلا أن ميله واضح للشيعة ويستشهد الشيعة أنفسهم بما يذكره وهو محب الدين الطبري صاحب (ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربى) يقول عند ذكره بنات علي ـ رضي الله عنه ـ.
>وتزوج بنات علي بنو عقيل وبنو العباس ما خلا زينب بنت فاطمة كانت تحت عبدالله بن جعفر وأم كلثوم بنت فاطمة كانت تحت عمر بن الخطاب فمات عنها فتزوجها عون بن جعفر وماتت عنده..>(27).
8 ـ وهذا عالم آخر من كبار علماء النسب نعم ينتهي نسبه إلى الزبير بن العوام ـ لكن بعد أن بينا المصاهرات بين أهل البيت وآل الزبير تكشفت لنا الخدعة في الادعاء القائل بعداوة آل الزبير لعلي وأهل البيت.
لقد ذكر علماء الشيعة أنفسهم هذه المصاهرات.
يقول الشيخ عباس القمي في كتابه (منتهى الآمال في تواريخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والآل):
<وأما بنات الإمام الحسن فقد تزوج بعضهن واشتهرن وهن: الأولى أم الحسن وكانت مع زيد من أم واحدة تزوجها عبدالله بن الزبير بن العوام وبعد مقتل عبدالله أخذها زيد معه إلى المدينة الثانية:... الثالثة:...... الرابعة: رقية وكانت زوجاً لعمرو بن الزبير بن العوام..>(28).(30/37)
ـ وهذا العالم الذي نود نقل رأيه من كبار علماء الأنساب قاطبة وهو (أبو عبدالله بن مصعب بن عبدالله بن ثابت بن عبدالله بن الزبير بن العوام) 651/ 632هـ.
قال في كتابه (نسب قريش) وهو عمدة كتب الأنساب:
>وزينب ابنة على الكبرى ولدت لعبدالله بن جعفر بن أبي طالب، وأم كلثوم الكبرى ولدت لعمر بن الخطاب، وأمهم فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم...>(29).
ولنا تعليق على إدعاء الشيعة عداوة آل الزبير لأهل البيت فبعد ذكر المصاهرات التي سجلها علماء الشيعة أنفسهم إن ابن النديم في الفهرست وهو شيعي متزمت عندما ذكر ترجمة مصعب بن عبدالله الزبير، قال: <أبو عبدالله بن مصعب بن عبدالله بن ثابت بن عبدالله بن الزبير بن العوام. حجازي نزل بغداد راوية أديب محدث وهو عم الزبير بن أبي بكر وكان شاعراً وكان أبوه عبدالله من شرار الناس متحاملاً على ولد علي ـ ع ـ وخبره مع يحيى بن عبدالله معروف...>(30).
هذا هو تحامل ابن النديم على هذا النسابة الجليل مع أنه لم يلمزه هو وإنما لمز أبوه عبدالله لكنه عند ذكره قال <راوية أديب محدث>.
ومع هذا فعند ترجمة ابن النديم للزبير بن بكار نفسه لم يطعن فيه مع أن ابن النديم معروف بشدة تشيعه ولكنه قال عنه <الزبير بن بكار: أبو عبدالله الزبير بن أبي بكر بكار بن عبدالله بن مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير بن العوام من أهل المدينة أخباري أحد النسابين وكان شاعراً صدوقاً راوية نبيل القدر وولي قضاء مكة...>(31).
لقد وصفه ابن النديم بأنه صدوق وراوية نبيل القدر مع شدة تشيعه فهل خفى على ابن النديم أن يبين عداوته لأهل البيت وهي في جملة أو عبارة واحدة.(30/38)
ـ والخلاصة التي نخرج بها من ذلك كله إن الشيخ (المفيد) كان متحاملاً على الزبير بن بكار وعمه مصعب هذا صاحب (نسب قريش) لمجرد أن والد مصعب وهو عبدالله بن مصعب بن ثابت وهو جد الزبير بن بكار كان بينه وبين أحد أحفاد الحسين وهو (يحيى بن عبدالله) مشاكسات فرأوا أنه عدو لدود للعلويين، وعلى فرض صحة ذلك فهل العداوة تورث للأبناء والأحفاد ثم تسحب بشكل عام فيقال عداوة آل الزبير لأهل البيت وللعلويين خاصة!؟؟
ـ ثم إننا نشكك في وجود العداوة أصلاً، لأن الذي ذكر هذه العداوة بين يحيى بن عبدالله (أحد أحفاد الحسين) وبين عبدالله بن مصعب بن ثابت أحد أحفاد الزبير هو أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني والطبري في تاريخه وكلاهما لنا عليهما كلام كثير.
أما أبو الفرج الأصفهاني فأول كتاب ألفه هو (مقاتل الطالبيين) وقيل عنه في كتب التراجم ومن العجيب أن مروانياً يتشيع وعده كثير من علماء الشيعة، وإن كان الرجل مذبذب في عصر كان هناك تحولات كثيرة ووردت آراء كثيرة حوله.
قال القاضي أبو علي المحسن بن أبي القاسم التنوخي: <ومن الرواة المتشيعين الذين شاهدناهم أبو الفرج الأصفهاني>.
وقال محمد بن أبي الفوارس (833/ 214هـ) <وكان أموياً وكان يتشيع>.
وقال ابن الأثير: <وكان شيعياً وهذا من العجب>.
وقال الذهبي: <ومن العجائب أن مروانياً يتشيع>.
وقال أىضاً: <شيعي وهذا نادر في أموي>.
وقال ابن الجوزي: <وكان يتشيع ومثله لا يوثق به وبروايته>.
وقال ابن حجر <شيعي زيدي وهذا نادر في أُموي>(32).
والحق أقول إنه وجد من علماء الشيعة من شكك في نسبة الرجل للتشيع مثل: الخوانساري في (روضات الجنات).
لكن على أقل تقدير بعضهم رآه من رجال الشيعة وأنكره آخرون فلا نقبل قوله لا هنا ولا هناك على أقل افتراض للانصاف.
ولكني أشير هنا إلى مرجعين من أهم المراجع لمعرفة حقيقة الرجل:(30/39)
ـ كتاب (صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني) للدكتور محمد أحمد خلف الله ط1 دار الكاتب ـ القاهرة 8691 طبعة ثالثة.
ـ وكتاب (أبو الفرج الأصفهاني: عصره سيرة حياته ـ مؤلفاته) للدكتور حسين عاصي ط دار الكتب العلمية ـ بيروت 3141هـ ـ 3991م.
وكلا الكتابين على النقيض تماماً في رؤيتهم لشخصية الأصفهاني من حيث مذهبه فبينما يؤكد د. محمد أحمد خلف الله تشيعه نجد على الجانب الآخر يؤكد د. حسين عاصي أمويته وعداوته لأهل البيت.
وأياً كان الرأي نحن لا نثق في روايات الرجل لا لنا ولا علينا.
ـ أما الطبري في تاريخه فقد جمع الروايات دون بيان صحتها أو كذبها فهو نقل وجمع دون تحقيق أو تمحيص. ثم هو اعتمد في معظم رواياته (أكثر من 006 رواية) في تاريخه على روايات أبي مخنف لوط بن يحيى وهو شيعي متزمت ضعفه أهل العلم ولم يقبلوا روايته(33).
قال أبو حاتم: <أبو مخنف متروك الحديث>.
وقال ابن معين: <ليس بثقة، ليس بشيء>.
وقال الدارقطني: <أبو مخنف إخباري ضعيف>.
وقال الذهبي: <لوط بن يحيى أبو مخنف متروك>.
وقال ابن حجر: <لوط بن يحيى إخباري تالف لا يوثق به تركه أبو حاتم وغيره>.
وقال الكناني: <كذاب تالف>.
وقال ابن تيمية: <لوط بن يحيى معروف بالكذب عند أهل العلم>.
- وفصل ابن كثير شأن الرجل في ذكره لمقتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ فقال: <وللشيعة والرافضة في صفة مصرع الحسين كذب كثير وأخبار باطلة وفيما ذكرنا كفاية، وفي بعض ما أوردناه نظر، ولولا أن ابن جرير وغيره من الحفاظ والأئمة ذكروه ما سقته وأكثره من رواية أبي محنف لوط بن يحيى وقد كان شيعياً وهو ضعيف الحديث عند الأئمة ولكنه إخباري حافظ عنده من هذه الأشياء ما ليس عند غيره، ولهذا يترامى عليه كثير من المصنفين في هذا الشأن ممن بعده والله أعلم>(34)(30/40)
ـ فهذا قول العلماء في لوط بن يحيى (أبو مخنف) الذي اعتمد عليه ابن جرير الطبري كثيراً في تاريخه(35) وهنا نجد أن الأصفهاني والطبري وكلاهما ذكر هذه العداوة بين أبي مصعب الزبيري صاحب (نسب قريش) وبين يحيى بن عبدالله أحد أحفاد الحسين.
فهل من العدل أو الإنصاف أن نأخذ بقولهما هذا وقد بينا على ما اعتمداه؟!
وهل من العدل والإنصاف أن نجعل مصعب الزبيري مثل أبيه في العداوة لأهل البيت والعلويين خاصة؟!!
ثم نجعل هذه العداوة تنتقل لأحد أحفاد الزبير بن العوام وهو الزبير بن بكار صاحب (الموفقيات)؟!!
لا شك أن العاقل سيتدبر وينكر ما أورده الشيخ المفيد من رد قول الزبير بن بكار وإن كنا نقلنا خبر التزويج من أكثر من طريق غيره ومازال بقية.
9 ـ وهاك ضربة أخرى قاصمة لظهر الشيخ المفيد ومن نحا نحوه فهذا واحد من علماء الشيعة القدماء الذين سبقوا الشيخ المفيد وهو لا شك أقرب عهداً بالحادثة والعالم هو (أبو القاسم علي بن أحمد الكوفي) صاحب (الاستغاثة في بدع الثلاثة) توفي سنة 253هـ بينما الشيخ المفيد توفي سنة 314هـ وقد صرح (الكوفي) بحدوث هذا الزواج وإن كان رآه غصباً وإكراهاً فكان مما قاله:
>... فجمع عمر الناس فقال: إن هذا العباس عم علي بن أبي طالب وقد جعل إليه أمر ابنته أم كلثوم وقد أمره أن يزوجني منها فزوجه العباس بعد مدة يسيرة فحملوها إليه<(36).
ـ وكأن المحقق عز عليه مثل هذا التصريح فذكر في الهامش تعليقاً على القصة فقال: <هذا رأي صاحب الكتاب في وجه تزويج علي ـ عليه السلام ـ ابنته أم كلثوم من عمر. وقال الشيخ الجليل المفيد...>(37). ثم ذكر كلام الشيخ المفيد في المسألة.
01 ـ ثم هاك ضربة قاصمة لظهر الشيخ المفيد المنكر لهذا الزواج وهذه الضربة من واحد هو أعظم علماء الشيعة الذين جمعوا الأحاديث وكتابه أعظم الكتب على الإطلاق.(30/41)
إنه الكليني وكتابه (الكافي) ولولا خشية الإطالة لذكرت أقوال العلماء في الكليني الملقب بثقة الإسلام وفي (الكافي) وأحاديثه التي قال عنها عبدالحسين شرف الدين ـ مقطوع بصحة مضماينها وقال الإمام الحادي عشر عن الكافي (هذا كافٍ لشيعتنا) ومن أراد الاستزادة فعليه بكتب التراجم واختصاراً مقدمة (أصول الكافي) ليقرأ جمل الثناء على الكليني وكتابه (الكافي)، وأحاديث الكافي تزيد على عشرة آلاف حديث...
ـ لقد ذكر الكليني في (الكافي) أربعة أحاديث كلها تثبت زواج عمر من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وهذه الأحاديث بسندها هي:
باب تزويج أم كلثوم:
1 ـ علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم وحماد عن زرارة عن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ في تزويج أم كلثوم فقال: إن ذلك فرجٌ غصبناه.
2 ـ محمد بن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ قال: لما خطب إليه قال له أمير المؤمنين: إنها صبية. قال: فلقي العباس فقال له: مالي أبي بأس؟ قال وما ذاك؟ قال خطبت إلى ابن أخيك فردني أما والله لأعورن زمزم ولا أدع لكم مكرمة إلا هدمتها ولأقيمن عليه شاهدين بأنه سرق ولأقطعن يمينه. فأتاه العباس فأخبره وسأله أن يجعل الأمر إليه فجعله إليه>(38).
وقد كتب المحقق تعليقاً في الهامش يشير إلى أن أم كلثوم المقصودة هي أم كلثوم بنت علي أمير المؤمنين ثم يشير إلى رأى الشيخ المفيد في المسائل السروية وكأن سلطان الشيخ المفيد ورأيه فوق أحاديث الكافي حتى وإن صحت.
ـ وهاك حديثان آخران ذكرهما الكليني في باب (المتوفى عنها زوجها المدخول بها أين تعتد وما يجب عليها).
1 ـ حميد بن زياد عن ابن سماعة عن محمد بن زياد عن عبدالله بن سنان ومعاوية بن عمار عن أبي عبدالله (ع) قال: سألته عن المرأة المتوفى عنها زوجها أتعتد في بيتها أو حيث شاءت؟ قال: بل حيث شاءت، إن علياً (ع) لما توفى عمر أتى أم كلثوم فانطلق بها إلى قومه.(30/42)
2 ـ محمد بن يحيى، وغيره عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد عن هشام بن سالم عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبدالله (ع) عن امرأة توفى زوجها أين تعتد؟ في بيت زوجها تعتد أو حيث شاءت؟ قال: بلى حيث شاءت ثم قال: إن علياً (ع) لما مات عمر أتى أم كلثوم فأخذ بيدها فانطلق بها إلى بيته>(39).
- هذه أربعة أحاديث أوردها الكليني في (الكافي) تثبت ما أنكره الشيخ المفيد ومن تبعه.
ـ وهاك ضربة قاصمة للظهر أيضاً اختم بها ما أريد سوقه من أدلة وبراهين في إثبات زواج عمر من أم كلثوم.
ـ فقد يدعي باحث إن أحاديث الكافي ليست كلها صحيحة والصواب أن فيها الصحيح والحسن والموثق والضعيف وأن العلماء حققوا ذلك وبينوا عدد الأحاديث الصحيحة والحسنة والموثقة والضعيفة وأن هذا مسطور في الكتب.
نعم سلمنا بذلك وإن بالغ بعض العلماء كعبدالحسين شرف الدين وغيره لكن المعتدلين من علماء الشيعة بينوا وصرحوا أن في الكافي أحاديث ضعيفة وهذا هو الصواب.
والجواب عن ذلك أن واحداً من كبار علماء الإمامية وهو خاتمة المحدثين باقر علوم أهل البيت محمد باقر المجلسي ذكر في (مرآة العقول شرح أخبار آل الرسول) وهو شرح لأحاديث الكافي أن الحديثين في (تزويج أم كلثوم) الأول حسن والثاني حسن(40) وأن الحديثين في باب (المتوفى عنها زوجها المدخول بها أين تعتد وما يجب عليها).
الحديث الأول: موثق والحديث الثاني: صحيح(41).
ـ فعلى الأقل هناك حديث واحد صحيح من الأحاديث الأربعة وآخر موثق واثنان في مرتبة الحسن وليس فيها حديث ضعيف(42).
ـ ولقد رد المجلسي على رأي الشيخ المفيد ومن تبعه الشريف المرتضى في إنكارهم زواج عمر من أم كلثوم على الرغم من وجود أحاديث صحيحة نصت على ذلك.
وهاك رأى المجلسي ننقله نصاً وهو مصور بالملاحق ومنه:(30/43)
>.. ولعل الفاضلين إنما ذكرا ذلك استظهاراً على الخصم وكذا إنكار المفيد (ره) أصل الواقعة إنما هو لبيان أنه لم يثبت ذلك من طرقهم، وإلا فبعد ورود تلك الأخبار وما سيأتي بأسانيد أن علياً ـ عليه السلام ـ لما توفى عمر أتى أم كلثوم فانطلق بها إلى بيته وغير ذلك مما أوردته في كتاب بحار الأنوار إنكار عجيب، والأصل في الجواب هو أن ذلك وقع على سبيل التقية والاضطرار ولا استبعاد في ذلك فإن كثيراً من المحرمات تنقلب عند الضرورة أحكامها وتصير من الواجبات...> ج2 ص54 (مرآة العقول).
11 ـ وهذا عالم آخر من كبار علماء الشيعة يذكر عدة مصاهرات منها هذه المصاهرة وإن كان كلامه غير واضح إلا أنه يدل على وجود مثل هذه المصاهرات.
يقول في (مناقب آل أبي طالب): <... ثم إن أولاده (أي أولاد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من ذرية فاطمة الزهراء ـ رضي الله عنها) يتزوجون في الناس ولا يزوجون فيهم إلا اضطراراً، اجتهد عمر بن الخطاب في خطبة أم كلثوم اجتهاداً وروى في ذلك أخبار وتزوج الحجاج ابنة عبدالله بن جعفر فاستأجل منه سنة حتى خلص نفسه من أذاه، وتزوج المأمون بفاطمة بنت محمد بن علي النقي ـ عليه السلام ـ والكبراء يزوجونهم رغبة فيهم كما زوج المأمون ابنته من محمد بن علي بن موسى بن جعفر ـ عليه السلام ـ ورغب عبدالملك في (مصاهرة) زين العابدين فأبى وزوج الصاحب من شريف معدم...>(43).
21 ـ وهذا واحد من كبار علماء الأنساب وأقدمهم من أعلام القرن الثالث الهجري وهو أحمد بن يحيى البلاذري صاحب (أنساب الأشراف).
يقول: <وأم كلثوم تزوجها عمر بن الخطاب فولدت له زيد بن عمر وقتل عنها فخلف عليها محمد بن جعفر بن أبي طالب فتوفى عنها فخلف عليها عبدالله بن جعفر بعد زينب وتوفيت أم كلثوم وابنها زيد في يوم واحد فصلى عليهما عبدالله بن عمر...>(44).(30/44)
ـ وفي النسخة التي بتحقيق الشيخ محمد باقر المحمودي من كبار علماء الشيعة المعاصرين ما نصه في (أنساب الأشراف ج2):
>وقال ابن الكلبي: ولدت أم كلثوم بنت علي لعمر: زيد بن عمر ورقية بنت عمر، فمات زيد وأمه في يوم واحد وكان موته من شجة أصابته وخلف على أم كلثوم بعد عمر عون بن جعفر بن أبي طالب ثم محمد بن جعفر ثم عبدالله بن جعفر<(45).
تعليقنا على خبر ابن الكلبي في (أنساب الأشراف) للبلاذري:
ـ لكي نزيد القارئ الكريم بياناً ووضوحاً نشير إلى ما يلي:
قد اعتمدنا في نقلنا على نسختين أحدهما بتحقيق الشيخ محمد باقر المحمودي وهو من علماء الشيعة.
ـ والرواية التي يذكرها البلاذري نقلاً عن (ابن الكلبي) لا يمكننا التشكيك فيها لأن ابن الكلبي نسابة من كبار علماء الشيعة وترجم له علماء الرجال من الشيعة أنفسهم.
قال ابن النديم في (الفهرست) أخبار محمد بن السائب الكلبي وهشام الكلبي:
<من علماء الكوفة بالتفسير والأخبار وأيام الناس ويتقدم الناس بعلم الأنساب... وتوفي محمد بن السائب الكلبي بالكوفة سنة ست وأربعين ومائة..>(46).
وفي أخبار هشام الكلبي قال: <قال عنه الواقدي: عالم بالنسب وأخبار العرب وأيامها ومثالبها ووقائعها... وتوفى هشام سنة ست ومائتين>(47).
ـ وهذا عالم شيعي آخر وهو الشيخ عباس القمي في كتابه (منتهى الآمال) يقول عن ابن الكلبي:
<هشام بن محمد بن السائب الكلبي أبو المنذر عالم اشتهر بفضله وعلمه كان عارفاً بالأيام والأنساب وهو من علماء مذهبنا قال كبرت سني حتى نسيت علمي، فأتيت أبا عبدالله (ع) فسقاني العلم بكأس ما إن شربتها حتى عاودنى ما علمته.(30/45)
وقد اهتم به الصادق (ع) وقربه وبشَّه وقد صنف كتباً كثيرة في الأنساب والفتوحات والمثالب، والمقاتل وغيرها وهو الكلبي النسابة المعروف وكان أبوه محمد بن السائب الكلبي الكوفي من أصحاب الباقر (ع) عالماً صاحب تفسير، ونقل عن السمعاني قوله في ترجمته <إنه صاحب التفسير كان من أهل الكوفة وقائلاً بالرجعة، وابنه هشام ذو نسبٍ عالٍ وفي التشيع غالٍ>(48).
وقال عنه الشيخ عباس القمي أيضاً في (الكُنى والألقاب): <الكلبي النسابة ويقال له ابن الكلبي أيضاً أبو المنذر هشام بن أبي النضر محمد بن السائب بن بشر الكلبي الكوفي كان من أعلم الناس بعلم الأنساب وقد أخذ بعض الأنساب عن أبيه أبي النضر محمد بن السائب الذي كان من أصحاب الباقر والصادق (ع) وأخذ أبو النضر نسب قريش عن أبي صالح عن عقيل بن أبي طالب... وكان نساباً عالماً بالتفسير توفي بالكوفة سنة 641هـ>(49).
ـ فإذا كان هذا هو ابن الكلبي نسابة شيعي(50) من كبار العلماء وأقدمهم نقل عنه البلاذري قوله في (أنساب الأشراف) فما القول بعد كلام ابن الكلبي الشيعي في إثباته لهذه المصاهرة؟!
باقي أدلة تشكيك الشيخ المفيد والرد عليها:
ثم ذكر الشيخ المفيد من أدلة تشكيكه في زواج عمر من أم كلثوم اختلاف الروايات يقول: <والحديث بنفسه مختلف فتارة يروى: أن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ تولى العقد له على ابنته، وتارة يروى أن العباس تولى ذلك عنه وتارة يُروى أنه لم يقع العقد إلا بعد وعيد من عمر وتهديد لبني هاشم وتارة يروى أنه كان عن اختيار وإيثار.(30/46)
ثم إن بعض الرواة يذكر أن عمر أولدها ولداً أسماه زيداً، وبعضهم يقول: إنه قتل قبل دخوله بها، وبعضهم يقول: إن لزيد بن عمر عقباً، ومنهم من يقول، إنه قتل ولا عقب له، ومنهم من يقول: إنه وأمه قتلا، ومنهم من يقول: إن أمه بقيت بعده، ومنهم من يقول: إن عمر أمهر أم كلثوم أربعين ألف درهم، ومنهم من يقول: مهرها أربعة آلاف درهم، ومنهم من يقول: كان مهرها خمسمائة درهم. وبدو هذا الاختلاف فيه يبطل الحديث فلا يكون له تأثير على حال>(51).
هذا نص كلامه وأدلته الواهية التي عرضها فاقرأ واعجب. وسوف أفصل هنا كل كلمة قالها الشيخ المفيد ليعلم منهج القوم في الاستدلال على صحة الأحداث.
- أولاً: اختلاف الروايات في مهر أم كلثوم، ووفاتها مع ابنها زيد في يوم واحد وقتلهما من عدمه هذا الاختلاف بين المؤرخين لا يعني عدم حدوث الزواج فلا علاقة تربط بينهما لقد اختلف العلماء والمؤرخون وكتاب السير في يوم دفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذا اختلفوا في تواريخ معارك وأحداث ووفيات كثير من المشاهير والعظماء بل ومولدهم أيضاً فهل هذا يعني عدم وجودهم أصلاً، لأن هناك اختلاف في يوم مولدهم أووفاتهم أو أسماء أبنائهم ولنعط أمثلة لهذه الخلافات ليعلم مقدارها وهل تنفي الحادثة أصلاً أم لا.
ـ والمثال هنا علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فقد اختلف في عدد أولاد علي ـ رضي الله عنه ـ الشيخ المفيد يذكر في (الإرشاد) أنهم سبعة وعشرون ولداً ذكراً وأنثى(52).
ثم يذكر أن من الشيعة من يحسب محسناً (السقط) فعلى هذا عدد أولاد علي ثمانية وعشرون(53).
ويذكر صاحب (أعيان الشيعة) الأمين عدد أولاد علي ويعدهم ثلاثة وثلاثين ويقول: <والذي وصل إلينا من كلام المؤرخين والنسابين وغيرهم يقتضي أنهم ثلاثة وثلاثون...>(54).(30/47)
والمسعودي زاد على عدد المفيد محسناً ومحمداً الأوسط وأم كلثوم الصغرى والبنت الصغيرة رملة الصغرى. ومعلوم أن المسعودي صاحب (مروج الذهب) من كبار علماء ومؤرخي الشيعة وفي الأنوار لأبي القاسم إسماعيل عدد أولاده اثنان وثلاثون 61 ذكراً، و61 أنثى وعند اليعمري عدد أولاده تسعة وعشرون 21 ذكراً، و71 أنثى.
والمحب الطبري ذكر في ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربى عدد أولاده 41 ذكراً، و81 أنثى.
وفي الصفوة عدد أولاده 41 ذكراً، و91 أنثى.
وفي بغية الطالب عدد أولاده 51 ذكراً، و8 أنثى.
وفي نسب قريش لمصعب الزبيري عدد آخر(55).
وفي تاريخ الخميس للديار بكري عدد آخر(56).
وفي تاريخ الطبري والبداية والنهاية لابن كثير والكامل لابن الأثير وغير ذلك من المراجع والكتب حتى كتب الشيعة أنفسهم اختلاف كثير جداً في عدد أولاد علي ـ رضي الله عنه ـ بل وفي أسماء كثير منهم وكذلك أبناء الحسن والحسين وغيرهما من الأئمة.
وكتب الأنساب مبسوطة ومشروحة تبين المختلف فيهم وهل عقبوا أم لا... إلى غير ذلك(57).
فهل معنى هذا الاختلاف في الأسماء والعدد وهل عقبوا أم لا؟ هل معناه أنهم لم يوجدوا أصلاً أم أنه اختلاف جائز فيه الترجيح بالأدلة والبراهين؟!
ـ الذي يريد أن يوحي به الشيخ المفيد بل صرح به أن اختلاف النسابين والمؤرخين في هل عقب زيد أم لا وهل مات وأمه في يوم واحد أم لا وهل وهل... هو أن يقنع القارئ أن مرد هذا الاختلاف كذب الرواية أصلاً وهيهات ثم هيهات.
ـ لقد اختلف علماء الشيعة في أولاد الحسين كما اختلفوا في اسم أم علي زين العابدين زوجة الحسين إلى أكثر من خمسة أسماء، كما اختلفوا في اسم أم المهدي المنتظر زوجة الحسن العسكري وهكذا تجد اختلافات كثيرة جداً لا حصر لها يذكرها علماء الشيعة أنفسهم فهل معنى هذا عدم وجود من اختلفوا فيهم، أو كذب الروايات كلها أصلاً؟!(30/48)
ـ ولندعم مثالنا السابق بمثال آخر لتظهر الصورة كاملة لدى القارئ اللبيب.
ذكر الشيخ (عباس القمي) وهو من علماء الشيعة في (نفس المهموم)(58) وفي كتاب آخر وهو (منتهى الآمال)(59) الاختلاف الحاصل في عدد أولاد الحسين فكان مما ذكره.
>قال شيخنا المفيد (ره) وكان للحسين عليه السلام ستة أولاد..> ثم ذكر أسماءهم.
>وقال علي بن عيسى الأربلي في كشف الغمة في ذكر أولاد الحسين ـ عليه السلام ـ وقال كمال الدين: كان له من الأولاد ذكور وإناث عشرة، ستة ذكور وأربع إناث... وقيل كان له أربع بنين وبنتان... وقال ابن الخشاب ولد له ستة بنين وثلاث بنات... وقال الحافظ عبدالعزيز بن أخضر الجنابذي: ولد الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ـ ستة: أربعة ذكور وابنتان...>(60).
ـ أما اسم زوجته التي هي أم علي زين العابدين فقال عن ذلك: <أقول: اختلفت روايات أرباب الحديث والسير في تعيين أم الإمام زين العابدين ـ عليه السلام...>(61).
وذكر الشيخ عباس القمي عدة أسماء أوردها العلماء وهي: سلافة، وغزالة، وخولة، وبرة وسلامة.
وشاه زنان بنت يزدجر بن كسرى، وشهر بانويه... ثم يجتهد الشيخ عباس القمي ليوفق بين هذه الاختلافات فيرى أن اسمها الأصلي سلافة وصحف إلى سلامة أو العكس وشاه زنان لقبها وشهر بانويه الاسم الذي سماها به علي ـ رضي الله عنه ـ وغزالة أو برة اسم أم ولد الحسين كانت تحضن علي ـ زين العابدين ابن الحسين عليه السلام وكان يسميها أماً... إلى آخر اجتهاداته.
فماذا يقول الشيخ المفيد في كل هذه الاختلافات وكيف يوفق بينها وهل يؤدي هذا إلى إنكار أن زوجة الحسين وأم علي زين العابدين كانت من سلالة ملوك الفرس؟ وهل يجوز لنا أن نشكك في ذلك لاختلاف العلماء والمؤرخين في اسم أمه...؟!(30/49)
ـ واختلفوا في اسم أم المهدي المنتظر فمن قائل اسمها نرجس وقيل سوسن وقيل صقيل قال الشيخ المفيد نفسه <وأمه أم ولد يقال لها نرجس>(62) وقيل اسم أمه (خمط)(63).
ويقول الشيخ زين الدين النباطي البياطي في (الصراط المستقيم) بعد ذكره الأئمة ومعجزاتهم وزوجاتهم وأولادهم صاغ قصيدة جمع فيها كل ذلك فكان مما ذكره عن أم المهدي المنتظر:
ومولد المهدي في شعبان
خمس وخمسين ومائتان
في سر من رأى بدار العسكري
ونرجس الأم بقول الأكثر(64)
وهناك اختلافات كثيرة جداً لا يمكننا هنا حصرها فهل يعني ذلك كذب كل هذه الروايات!!
ثانياً: ومع ذلك فنحن نبين للمفيد الراجح مما ذكر من أقوال وسبب الاختلاف:
قوله: <فتارة يروى أن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ تولى العقد له على ابنته وتارة يُروى أن العباس تولى ذلك عنه، وتارة يُروى: أنه لم يقع العقد إلا بعد وعيد من عمر وتهديد لبني هاشم وتارة يروى أنه كان عن اختيار وإيثار>.
القول الراجح والذي يتقبله العقل أن علياً زوج ابنته بنفسه وتولى العقد عن اختيار وإيثار أما رواية تولي العباس العقد نيابة عنه فهي رواية علماء الشيعة فقط وانظر (الكافي كتاب النكاح 5/643/2 حديث إسناده حسن، والاستغاثة في بدع الثلاثة 29، 39، وإعلام الورى للطبرسي ص402) وكل هؤلاء من علماء الشيعة وسوف نناقش من أقوالهم تفصيلاً قول صاحب الاستغاثة وقوله أن النكاح كان بعد تهديد ووعيد لبني هاشم فبني هاشم كثر ولهم مكانتهم وقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل مكانتهم في الجاهلية أيضاً كانت عظيمة فكيف بعد الإسلام ورسول الله فيهم وأوصى بهم فهل يقبلون تهديداً أو وعيداً وفيهم علي بن أبي طالب فارس بدر وأحد والخندق وحنين وخيبر والمواقع كلها ما عدا تبوك، هذا الفارس الذي قتل عمرو بن عبد ود في الخندق.(30/50)
والذي يروى الشيخ المفيد نفسه أنه قتل في بدر (على حد زعم المفيد) أكثر من نصف المشركين وحده بل وذكر أسماءهم <فذلك ستة وثلاثون رجلاً سوى من اختلف فيه أو شرك أمير المؤمنين (ع) فيه غيره وهم أكثر من شطر المقتولين ببدر على ما قدمناه>(65).
هل يمكن لرجل فارس مغوار شجاع يرى نعمة الله الجزائري أنه أشجع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل نصدق أنه يزوج ابنته تحت ضغط التهديد والوعيد مهما اختلفت الروايات والتأويلات وكلها صادرة من كتب الشيعة وعلمائهم.
وراجع في ذلك: (الكافي: كتاب النكاح 5/643/2، الاستغاثة ص29، إعلام الورى ص402 وكذلك الأنوار النعمانية ج1 ص28 وغير ذلك من مراجع للشيعة كلها ترى أنه زواج بالغصب والإكراه وتحت وطأة التهديد والوعيد لبني هاشم ولفارسها علي بن أبي طالب.
ـ وأنا والله أنادي وقد بح صوتي يا عقلاء العالم هل يرضى علي الفارس المغوار الضيم ويزوج ابنته غصباً وكرهاً ويروى الشيعة بعد ذلك حديث <هذا فرج غصبناه>.
ولكن لا حياة لمن تنادي.
ـ أما الاختلاف الذي ذكره من كون عمر أولدها ولداً أسماه زيداً أو أنه قتل قبل الدخول بها، أو كان لزيد عقب أو لم يكن أو قتل هو وأمه في يوم واحد أم لا... فالجواب عن ذلك: أن الراجح أن عمر بن الخطاب أولدها زيداً ورقية ذكر ذلك علماء الشيعة أنفسهم وسبق نقل كلام صاحب (المجدي) النسابة العمري وكلام ابن الطقطقي في (الأصيلي) وكلام ابن عنبه في (عمدة الطالب) وغيرهم من علماء النسب الشيعة أما عند السنة فالأمر أشبه بالتواتر بل أكثر من المتواتر.
أما كونه قتل قبل الدخول بها فقائله هو (المسعودي) صاحب مروج الذهب) أوحى بذلك وهو شيعي مغالٍ لا نأخذ بقوله وقد اطلعت على كتاب له (إثبات الوصية) مما يدل على غلوه في التشيع والقول أن زيداً قتل ولا عقب له وأنه وأمه ماتا في يوم واحد هو الصحيح وعلى هذا كل المراجع والكتب عند أهل السنة لم يشذ عن ذلك واحد.(30/51)
ـ أما الاختلاف حول مهرها فالمؤرخون عادة يبالغون في النقل فيما يتصل بمثل هذه الأمور لكن الراجح أنه أمهرها أربعين ألف درهم كما في (تاريخ الطبري 5/32، الطبقات الكبرى لابن سعد 8/364، الكامل لابن الأثير 3/35، وتهذيب تاريخ دمشق 6/82، وأعلام النساء 4/652 وتاريخ الخميس للديار بكري ص482.
ـ فهل هذا يعني بطلان الحديث وكذبه؟! لنا الله من تأويلات وافتراءات الشيخ المفيد واجتهاداته ولسوف نأتي على تأويلاته في مبحث آخر ـ إن شاء الله تعالى.
وغير ذلك من مراجع وكتب تكاد تجمع على هذا، أما من ذكر الاختلاف وأن مهرها خمسمائة درهم أو عشرة ألاف درهم فهذا ذكره اليعقوبي في تاريخه 2/051 واليعقوبي من كبار علماء الشيعة. وعلى فرض صحة هذه الاختلافات وأن الحق عند اليعقوبي أو عند علماء السنة في مسألة المهر والاختلاف فيه هل هذا يمنع حدوث الزواج!!!؟ ويبطل الحديث كما يدعى الشيخ المفيد.
الهوامش
(1) المسائل السروية ص68 المسألة العاشرة.
(2) رأي الشيخ المفيد مذكور مصوراً في ملاحق البحث، لذا رأيتُ عرض الرد مباشرة.
(3) ابن اسحاق هو (أبو عبدالله محمد بن اسحق بن يسار بن خيار) فارسي الأصل عاش في المدينة وولد فيها محمد بن اسحق سنة 58هـ ولقي كثيرةً من علمائها ثم رحل سنة 511هـ إلى الأسكندرية وتلقى عن بعض علمائها ثم استقر به المقام في العراق، ولقى أبا جعفر المنصور وصنف بأمره كتاب السيرة لابنه المهدي من تاريخ بدء الخليقة إلى يومه ثم أمره باختصاره، وتوفى سنة 151هـ.
(4) ابن هشام (أبو محمد عبدالملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري) أصله من البصرة ولد فيها ونشأ ثم رحل إلى مصر ولقى الإمام الشافعي روى سيرة ابن اسحق عن محمد بن زياد واختصر فيها أحياناً وصوب وحذف وأزاد توفى سنة 312هـ أو 812هـ في الفسطاط بمصر.(30/52)
(5) تاريخ آداب العرب، ص993 حيث ذكر ابن اسحاق في الطبقة التي قبل طبقة الزبير بن بكار وقال: <وممن جاء بعدهم من أصحاب الأخبار... محمد بن سلام الجمحي والزبير بن بكار...<.
(6) انظر مقدمة (عمدة الطالب) ص8.
(7) مقدمة سر السلسلة العلوية ص6.
(8) ليس تحت أيدينا للأسف كتاب (المجدي) هذا وهو العمدة في الأنساب لآل أبي طالب ومنه ينقل نسابو الشيعة كابن عنبه والبخاري وغيرهما ولكن ذكرت العبارة نقلاً من (عمدة الطالب) لابن عنبه هامش ص38 ومن شك فليراجع وكتب الأنساب تنقل من (المجدي) هذا كثيراً جداً.
(9) معظم المراجع على أن أم كلثوم بنت علي ولدت في السنة السادسة من الهجرة أي عمرها عند وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خمسة أعوام.
(10) يدعى بعض علماء الشيعة إنكار زواج عمر من أم كلثوم بناءً على ثبوت زواجها من (عون بن جعفر) وأنه قتل في تستر وتستر كانت في عهد عمر بن الخطاب بلا خلاف، ولكن المجمع عليه عند العلماء أنه قتل يوم الحرة في المدينة وليس في تستر.
(11) الروضة الفيحاء ص372.
(12) إعلام الورى ص402.
(13) هذا الحديث صحيح ذكره الألباني في الجامع الصغير وزيادته فراجع.
(14) العقد الفريد ج4 ص09 والرواية نفسا مع تغييرات في الألفاظ وزيادات مذكورة في كل الكتب التي ذكرت القصة أو ترجمت لأم كلثوم أو عمر بن الخطاب وزوجاته أو علي بن أبي طالب وبناته.
(15) مقدمة الأصيلي ص7 نقلاً من معجم المؤلفين لكحالة 11/15.
(16) راجع مقدمة الأصيلي.
(17) مقدمة الأصيلي ص5 نقلاً من (عمدة الطالب) لابن عنبه ص081.
(18) انظر مقدمة الأصيلي ص8 ـ 01.
(19) الكنى والألقاب ص133.
(20) مقدمة الأصيلي ص51.
(21) مقدمة الأصيلي ص51.
(22) راجع غير مأمور الحكومة الإسلامية ص241، روضات الجنات 1/003، 103.
(23) مقدمة الأصيلي ص71.
(24) الأصيلي ص85.
(25) الأصيلي ص85، 95 الهامش.
(26) هامش ص54 من الأصيلي.
(27) ذخائر العقبي ص711.(30/53)
(28) منتهى الآمال ص933 ـ 043 ومراجع أخرى من كتب الشيعة ذكرت مصاهرات كثيرة بين أهل البيت وآل الزبير كزواج السيدة سكينة بنت الحسين من مصعب بن الزبير. وسيأتي تفصيل ذلك كله، ومن هنا يتضح للقارئ اللبيب أن إدعاء العداوة هذا وهمي ولا أساس له من الصحة.
(29) نسب قريش (14 ص31 ـ 41).
(30) الفهرست ص671.
(31) الفهرست ص771. وفي هذا الكلام لابن النديم في مدح وتوثيق الزبير بن بكار أصدق دليل وأبلغ بيان لرد دعوى الشيخ المفيد من تشكيكه لأمانة الزبير بن بكار خاصة وأن ابن النديم كما لا يخفى من علماء الشيعة وتأمل مدح ابن النديم له بقوله <أحد النسابين وكان شاعراً صدوقاً راوية نبيل القدر وولى قضاء مكة..<.
(32) كل ما سبق من أراء وأقوال عن الأصفهاني نقلناها من المرجعين (صاحب الأغاني) لمحمد خلف الله، وأبو الفرج الأصفهاني عصره...< لحسين عاصي.
(33) أراء العلماء فيه الواردة راجع دفع الكذب المبين ص21، كشف الجاني ص25.
(34) البداية والنهاية ج5 ص017.
(35) ومن أراد الوقوف على حقيقة روايات أبي مخنف هذا في تاريخ الطبري فليراجع (مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري) د. يحيى اليحيى رسالة ماجستير.
(36) الاستغاثة ص87 ـ 97.
(37) المرجع السابق هامش ص97.
(38) الحديثان من (باب تزويج أم كلثوم) الفروع من الكافي ج5 ص643.
(39) الحديثان من (باب المتوفى عنها زوجها المدخول بها أين تعتد وما يجب عليها) الفروع من الكافي ج6 ص511 ـ 611.
(40) انظر مرآة العقول ج20 ص24.
(41) انظر مرآة العقول ج12 (2ص791).
(42) لكي يكون القارئ اللبيب على بينة أشير هنا إلى معنى مصطلح الحديث الصحيح والموثق والحسن والضعيف عند الشيعة الإمامية <قال الشهيد الثاني في الرواية وشرحها أقسام الحديث الأولية أربعة الأول: الصحيح/ وهو ما اتصل سنده إلى المعصوم (ع) بنقل العدل الإمامي عن ثقة في جميع الطبقات حيث تكون متعددة.(30/54)
الثاني: الحسن/ وهو ما اتصل سنده إلى المعصوم (ع) بإمام ممدوح من غير نص على عدالته مع تحقق ذلك في جميع مراتب رواة طريقه أو في بعضها.
الثالث: الموثق/ سمي بذلك، لأنه راوية ثقة وإن كان مخالفاً ويقال له أيضاً (القوى) لقوة الظن بجانبه بسبب توثيقه وهو ما دخل في طريقه من نص الأصحاب على توثيقه مع فساد عقيدته بأن كان من أحد الفرق المخالفة للإمامية وإن كان من الشيعة (كالزيذي والفاطمي وغيرهما) ولم يشمل باقي الطريق على ضعف، وإلا لكان الطريق ضعيفاً فإنه يتبع الأقرب.
الرابع: الضعيف/ وهو ما لا يجتمع فيه شروط أحد الثلاثة المتقدمة بأن يشمل طريقه على مجروح كأبي هريرة وسمرة بن جندب ومعاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية ونحوه أو مجهول الحال...> راجع حدائق الأنس للزنجاني ص29. والمقصود بالشهيد الثاني عند الشيعة زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد بن محمد الجباعي العاملي مولده سنة 119هـ وتوفى سنة 649هـ.
ولمناسبة القول فالشهيد الأول عند الشيعة الإمامية هو شمس الدين محمد بن مكي قتل سنة 687هـ والشهيد الثالث عندهم هو نور الله التستري صاحب (إحقاق الحق) و(مصائب النواصب) و(مجالس المؤمنين) و(الصوارم المهرقة في نقض الصواعق المحرقة)...
(43) المناقب لابن شهر آشوب 2/322 ـ 422.
(44) أنساب الأشراف للبلاذري ج1 ص204 تحقيق د. محمد حميد الله.
(45) أنساب الأشراف للبلاذري ج2 تحقيق الشيخ محمد باقر المحمودي.
(46) الفهرست لابن النديم ص251 ـ 351.
(47) الفهرست، ص351.
(48) منتهى الآمال ج2 ص332.
(49) الكنى والألقاب ص59 ج3.
(50) يدعى الجزائري في الأنوار النعمانية وزهر الربيع، والنباطي في الصراط المستقيم أن الكلبي من علماء المسلمين وها هو يظهر لنا من ترجمة عباس القمي له أنه من علماء الشيعة وكذلك ترجمة ابن النديم وهو شيعي مثله.
(51) المسائل السروية ص98 ـ 90.
(52) الإرشاد، للمفيد ص681 س31.(30/55)
(53) المرجع السابق ص781 ـ س3.
(54) أعيان الشيعة ص623.
(55) انظر نسب قريش ج2 ص: 4064.
(56) انظر تاريخ الخميس للديار بكري ص482.
(57) راجع كتب الأنساب لتعلم اختلاف النسابين أنفسهم حول كثير ممن يدعون من أهل البيت وهل عقبوا أم لا فراجع الأصيلي، وعمدة الطالب، ومنتهى الآمال وغيرها من الكتب.
(58) انظر (نفس المهموم) ص674 ـ 774، ومنتهى الآمال ص156 ـ 256 وكلاهما للشيخ عباس القمي.
(59) نفس المهموم ص674 ـ 774، ومنتهى الآمال ص156 ـ 256 وكلاهما للشيخ عباس القمي.
(60) نفس المهموم 674 ـ 774، منتهى الآمال ص156 ـ 256.
(61) نفس المهموم ص874 ـ 974.
(62) الارشاد ص643 س7.
(63) وذكر عبدالله شبر في (حق اليقين) عن المهدي <واسم أمه خمط وقيل نرجس...> ص222 في أحوال الغائب المستتر الإمام الثاني عشر. ص22 س20.
(64) الصراط المستقيم ج2/712.
(65) الإرشاد ص40.
- ومن الشبهات التي أثارها الشيخ المفيد:
يقول الشيخ المفيد في (جواب المسائل السروية) معللاً تزويج علي بن أبي طالب ابنته لعمر بن الخطاب <ثم إنه لو صح (أي زواج عمر من أم كلثوم) لكان له وجهان لا ينافيان مذهب الشيعة في ضلال المتقدمين على أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أحدهما:(30/56)
أن النكاح إنما هو على ظاهر الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة إلى الكعبة والإقرار بجملة الشريعة، وإن كان من الأفضل مناكحة من يعتقد الإيمان ويكره مناكحة من ضم إلى ظاهر الإسلام ضلالاً يخرجه عن الإيمان إلا أنه في الضرورة متى قادت إلى مناكحة الضال مع إظهاره كلمة الإسلام زالت الكراهة من ذلك وأمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ كان مضطراً إلى مناكحة الرجل، لأنه تهدده وتواعده فلم يأمنه على نفسه وشيعته، فأجابه إلى ذلك ضرورة كما أنه في الضرورة يشرع إظهار كلمة الكفر، وليس ذلك بأعجب من قوم لوط <هؤلاء بناتي هن أطهر لكم< فدعاهم إلى العقد لهم على بناته وهم كفار ضلال قد أذن الله تعالى في هلاكهم، وقد زوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنتيه قبل البعثة كافرين كانا يعبدان الأصنام، أحدهما عتبة بن أبي لهب والآخر أبو العاص بن الربيع، فلما بعث صلى الله عليه وآله وسلم فرق بينهما وبين ابنتيه>(1).
هذا هو كلام الشيخ المفيد ونخرج منه بعدة نقاط رئيسة:
أولها: جواز مناكحة الضال المظهر للإسلام المبطن للكفر عند الشيعة الإمامية.
ثانيها: أن هذا فعل أمير المؤمنين علي ـ رضي الله عنه ـ وفعله حجة عند الشيعة(2).
ثالثها: أن هذا فعل نبي الله لوط ـ عليه السلام ـ في قوله لقومه <هؤلاء بناتي هن أطهر لكم>.
ـ ولنا أن نتساءل قبل الولوج في موضوع بحثنا: لماذا يؤخذ فعل علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ حجة ولا ينظر لفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(30/57)
فإن كان رسول الله ـ زوج بناته رقية وأم كلثوم لعثمان بن عفان، وزينب للعاص بن الربيع ومعلوم موقف ورأي الشيعة في كلا الصحابيين الجليلين، فلماذا تثار إذاً مشكلة زواج عمر من أم كلثوم بنت علي فنجد فريقاً ينكر الزواج أصلاً وفريقاً يرى أنه (أي عمر) تزوج جنية تشبه أم كلثوم وفريقاً آخر يرى أن عمر إنما تزوج أم كلثوم بنت أبي بكر لا بنت علي وفريقاً يرى أنه تزوجها قهراً وغصباً وبدون رضى علي ـ رضي الله عنه ـ وإن صح هذا الاحتمال الأخير والتأويل المفترى من أن هذا الزواج كان قهراً وغصباً فهل كان تزويج رسول الله لبناته من عثمان بن عفان والعاص بن الربيع قهراً وغصباً أيضاً!!!
فكما رغب علي ـ رضي الله عنه ـ في الزواج من فاطمة الزهراء ـ ليكون له برسول الله صهر ونسب بجانب القرابة ثم تزوج بعد فاطمة أمامة بنت العاص كذلك رغب عمر في الزواج من أم كلثوم بنت علي وهي ابنة فاطمة ـ رضي الله عنها وهذا الزواج ثابت عند كلا الفريقين لم يحدث حوله كلام أو إنكار أو تأويل إلا في عصر الشيخ المفيد المتوفى سنة 314هـ أي في ابتداء القرن الرابع الهجري وقد بدأ يشكك في هذا الزواج ويعلل ويفند الأخبار الواردة فيه لكونه ورد عن طريق الزبير بن بكار وهو زبيري ينتهي نسبه لآل الزبير بن العوام ومعلوم عداوة الزبيريين للهاشميين عند الشيعة الإمامية.
ولقد نسي الشيخ المفيد أمرين مهمين:
أولهما: أن هناك عدداً لا بأس به من المصاهرات بين آل الزبير وآل هاشم وقد أوردنا في الجداول الملحقة بالبحث هذه المصاهرات.
ثانيهما: أن الخبر ورد من طرق أخرى غير الزبير بن بكار فقد ذكر هذا الزواج العديد من علماء الأنساب من السنة والشيعة ممن سبقوا الزبير بن بكار وممن جاءوا بعده وقد سبق بيان ذلك ـ فراجعه غير مأمور.
ـ فالشيخ المفيد ت314هـ هو أول من أنكر وجود هذا الزواج ولم يكن قبله أحد تنبه لإنكار هذا الزواج.(30/58)
يقول الشيخ المفيد <ثم إنه لو صح لكان له وجهان لا ينافيان مذهب الشيعة في ضلال المتقدمين على أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أحدهما: أن النكاح إنما هو على ظاهر الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة إلى الكعبة والإقرار بجملة الشريعة.
وإن كان الأفضل مناكحة من يعتقد الإيمان، وترك مناكحة من ضمَّ إلى ظاهر الإسلام ضلالاً لا يخرجه عن الإسلام، إلا أن الضرورة متى قادت إلى مُناكحة الضال مع إظهاره كلمة الإسلام زالت الكراهة من ذلك وساغ ما لم يكن بمستحب مع الاختيار.
وأمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ كان محتاجاً إلى التأليف وحقن الدماء، ورأى أنه إن بلغ مبلغ عمر عما رغب فيه من مناكحته ابنته أثر ذلك الفساد في الدين والدنيا، وأنه إن أجاب إليه أعقب صلاحاً في الأمرين، فأجابه إلى مُلتمسه لما ذكرناه.
والوجه الآخر: أن مناكحة الضال ـ كجحد الإمامة وادعائها لمن لا يستحقها ـ حرام إلا أن يخاف الإنسان على دينه ودمه، فيجوز له ذلك كما يجوز له إظهار كلمة الكفر المضادة لكلمة الإيمان وكما يحل له أكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الضرورات وإن كان ذلك محرماً مع الاختيار وأمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ كان مضطراً إلى مناكحة الرجل، لأنه يهدده ويُواعده فلم يأمنه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ على نفسه وشيعته فأجابه إلى ذلك ضرورةً...>(3).
- ما سبق كان نص كلام المفيد الذي ينقله كل من يذكر مسألة التزويج هذه ذكره محقق كتاب (الأنوار النعمانية) ج1 ص18 هامش قال: <ومما هو جدير بالذكر هنا أن الشيخ الأعظم رئيس المذهب الشيخ المفيد قدس سره أنكر تزويج عمر من أم كلثوم في (المسائل السروية...)(4)>.
ثم نقل كلام الشيخ المفيد وقد سبق وبينا ردنا عليه.(30/59)
ـ ونقل أيضاً كلام الشيخ المفيد محقق كتاب (الاستغاثة في بدع الثلاثة) لأبي القاسم علي بن أحمد الكوفي قال في هامش ص97: <وقال الشيخ الجليل المفيد محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي المتوفى سنة 314هـ في جواب المسألة العاشرة من المسائل السروية لما سأله السائل عن حكم ذلك التزويج (ما نصه)...>(5) ثم نقل كلام الشيخ المفيد.
ـ ونقل كلام الشيخ المفيد أيضاً المجلسي في (مرآة العقول) ولكن ليرد عليه ويبين خطأه وبعد أن نقل كلام الشيخ المفيد كاملاً(6) من (المسائل السروية) نقل كلام السيد المرتضى وهو تلميذ الشيخ المفيد ورأيه لا يختلف عنه فقد ذهب المذهب نفسه من جواز مناكحة الضال على ظاهر الإسلام قال المرتضى: <... وأما تزويجه بنته فلم يكن ذلك عن اختيار، ثم ذكر رحمه الله تعالى الأخبار السابقة الدالة على الاضطرار، ثم قال: على أنه لو لم يجر ما ذكرنا فيه لم يمتنع أن يجوز له ـ عليه السلام ـ لأنه كان على ظاهر الإسلام والتمسك بشرائعه وإظهار الإسلام... وفعل أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ حجة عندنا في الشرع فلنا أن نجعل ما فعله أصلاً في جواز مناكحة من ذكروه...>(7).
ـ وقد رد المجلسي على الشيخ المفيد إنكاره زواج أم كلثوم من عمر بن الخطاب وسبق بيان ذلك الرد فلا حاجة لتكراره.
ـ ونقل كلام الشيخ المفيد أيضاً الشيخ الخطيب/ محمد رضا الحكيمي في كتابه (أعيان النساء عبر العصور المختلفة) وهو من المنكرين لحدوث هذا الزواج أصلاً قال: <والآن نورد كلام الشيخ الجليل محمد بن محمد بن النعمان البغدادي والمعروف بالشيخ المفيد...>(8).
ـ ونقل كلام الشيخ المفيد استشهاداً في إنكار الزواج أصلاً العلامة الشيخ محمد حسين الأعلمي الحائري في تراجم أعلام النساء. وذلك بعد أن نقل رواية زواجه بجنية من يهود نجران وكذا ذكر رأي المجلسي أيضاً لكنه لم يؤيده بل ذكر ما يخالف نصوصه التي ذكرها من أحاديث الكافي للكليني(9).(30/60)
- فالحاصل أن معظم علماء الشيعة القدماء والمعاصرين يعتمدون كلام الشيخ وينقلونه وكأنهم لا يعلمون شيئاً عن فقه الإمامية وهاك الرد والجواب:
ـ إن الشيخ المفيد يؤول زواج عمر من أم كلثوم بأنه يجوز مناكحة الضال الذي يظهر الإسلام متى كانت هناك ضرورة، والوجه الثاني الذي يراه في التأويل بأن مناكحة الضال كجحد الإمامة وإدعائها لمن لا يستحقها ـ حرام.... إلى أخر حديثه.
فخلاصة رأيه أن موافقة علي بن أبي طالب في تزويج ابنته أم كلثوم ممن أظهر الإسلام وإن ضم إلى الإسلام ضلالاً جائز أو ممن جحد الإمامة فهو حرام إلا في حال الضرورة مثل أكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الضرورات، وبما أن علي في ضرورة وانظر إلى تعبيره المهين لنفس وشخص علي بن أبي طالب <فلم يأمنه أمير المؤمنين عليه السلام على نفسه وشيعته>.
فعلي الذي لم يخف على نفسه من قتال فرسان قريش وصناديدها في بدر وأحد والخندق وحنين وخيبر وغيرها من الغزوات يخاف من عمر بن الخطاب على نفسه.
مع أن علماء الشيعة يدعون أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ جباناً لم يقتل أحداً في بدر أو أحد أو الخندق أو حنين أو خيبر أو أي غزوة من غزوات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولكن هنا يخافه علي ـ رضي الله عنه ـ على نفسه فيزوجه ابنته.
ـ وليس هذا موضع حديثنا ولكن موضع حديثنا هو كيف أباح الشيخ المفيد مناكحة الضال المظهر للإسلام أو من جحد الإمامة مع أن علماء الإمامية يرون أن من جحد الإمامة وإن صلى وصام بين الركن والمقام فهو كافر ومصيره نار جهنم لأنه من النواصب ولا تجوز مناكحة النواصب عند علماء الإمامية خاصة من أظهر نصبه وعداوته.
ولا خلاف في أن عمر من النواصب عند الإمامية لاغتصابه الخلافة وسعيه في الأرض فساداً فكيف يبيح الشيخ المفيد مناكحة الناصبي وهذا مخالف لعقائد الإمامية.
وهاك أدلة من علماء الإمامية لبيان تحريم مناكحة الناصبي:(30/61)
ـ قال الصدوق في رسالة العقائد <اعتقادنا في الظالمين أنهم ملعونون والبراءة منهم واجبة... والظلم هو وضع الشيء في موضعه ممن ادعى الإمامة وليس بإمام فهو الظالم الملعون ومن وضع الإمامة في غير أهلها فهو ظالم ملعون وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جحد علياً إمامته من بعدي فإنما جحد نبوتي ومن جحد نبوتي فقد جحد الله بربوبيته...>(10).
ـ وقال الشيخ المفيد نفسه في كتاب المسائل <اتفقت الإمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار...>(11).
ـ وقال الشيخ (شيخ الطائفة) الطوسي في (تهذيب الأحكام) وهو شرح لمقنعة الشيخ المفيد <قال الشيخ رحمه الله _أي الشيخ المفيد] ولا يجوز نكاح الناصبية المظهرة لعداوة آل محمد عليهم السلام ـ ولا بأس بنكاح المستضعفات منهن يدل على ذلك ما ثبت من كون هؤلاء كفاراً بأدلة ليس هذا موضع شرحها>(12).
هذا كلام الشيخ المفيد نفسه وقد شرحه تلميذه الطوسي فقال: <إذا ثبت كفرهم فلا تجوز مناكحتهم حسب ما قدمناه ويزيد ذلك بياناً ما رواه...>(13) ثم ذكر الطوسي عدداً من الأحاديث نذكر منها:
ـ بسنده <عن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ قال: لا يتزوج المؤمن بالناصبية المعروفة بذلك>(14).
ـ بسنده <عن عبدالله بن سنان قال: سألت أبا عبدالله ـ عليه السلام ـ عن الناصب الذي عرف نصبه وعداوته هل يزوجه المؤمن وهو قادر على رده وهو لا يعلم برده قال: لا يتزوج المؤمن الناصبية ولا يتزوج الناصب مؤمنة ولا يتزوج المستضعف مؤمنة>(15).(30/62)
ـ بسنده <عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ قال: دخل رجل على علي بن الحسين ـ عليهما السلام ـ فقال: إن امرأتك الشيبانية خارجية تشتم علياً ـ عليه السلام ـ فإن سرك أن أسمعك ذلك منها أسمعتك؟ فقال: نعم قال: فإذا كان غداً حين تريد أن تخرج كما كنت تخرج فعد واكمن في جانب الدار قال: فلما كان الغد كمن في جانب الدار وجاء الرجل فكلمها فتبين ذلك منها فخلى سبيلها وكانت تعجبه>(16).
ـ بسنده <عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر ـ عليه السلام ـ عن المرأة العارفة هل أزوجها الناصب؟ قال: لا لأن الناصب كافر...>(17).
ـ بسنده <عن فضيل بن يسار عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ قال: ذكر الناصب فقال: لا تناكحهم ولا تأكل ذبيحتهم ولا تسكن معهم>(18).
ـ بسنده <عن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ قال: تزوجوا في الشكاك ولا تزوجوهم، لأن المرأة تأخذ من دين زوجها ويقهرها على دينه>(19).
- وفي (بحار الأنوار) للمجلسي مثل هذه الأحاديث وراجع (باب نكاح المشركين والكفار)(20).
ومن هذه الأحاديث:
ـ بسنده <عن الفضل بن يسار قال: سألت أبا جعفر ـ عليه السلام ـ عن مناكحة الناصب والصلاة خلفه فقال: لا تناكحه ولا تصل خلفه>(21).
- وفي كتاب (من لا يحضره الفقيه) لابن بابويه القمي الملقب بالصدوق أورد الأحاديث نفسها بزيادة أو نقصان في فصل (ما أحل الله عز وجل من النكاح وما حرم منه)(22).
ـ بسنده <عن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ قال: لا ينبغي للرجل المسلم منكم أن يتزوج الناصبية ولا يزوج ابنته ناصبياً ولا يطرحها عنده>(23).
ثم علق ابن بابويه القمي بعد هذا الحديث فقال: <قال مصنف هذا الكتاب ـ رحمه الله ـ من نصب حرباً لآل محمد ـ صلوات الله عليهم ـ فلا نصيب له في الإسلام فلهذا حرم نكاحهم>(24).
ـ الحديث مرسل: <وقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ صنفان من أمتي لا نصيب لهم في الإسلام الناصب لأهل بيتي حرباً وغال في الدين مارق منه>(25).(30/63)
<ومن استحل لعن أمير المؤمنين ـ عليه السلام والخروج على المسلمين وقتلهم حرمت مناكحته...>(26).
- ومن أراد الاستزادة فعليه بالباب السابع من كتاب (النصب والنواصب) لمصنفه محسن المعلم (حكم النواصب عقيدة وتشريعاً) وقد فصل حكم النواصب في مسائل عديدة وما يهمنا هنا مسألة النكاح قال في المسألة الثانية عشرة (النكاح).
<ولا يجوز للناصب التزويج بالمؤمنة، >لأن الناصبي شر من اليهودي والنصراني على ما روى في أخبار أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وكذا العكس سواء الدائم أو المتعة وقد ادعى على ذلك الإجماع كما في (رفع الالتباس في أحكام الناس) ونقل عن الوسيلة لابن حمزة الجواز في المنقطع (أي نكاح المتعة) على الناصبية اختياراً والدائم اضطراراً. هذا وقد أفاض ـ أفاض الله عليه سحائب رحمته ـ القول في فروع المسألة وغيرها مما له ربط بالمقام وأورد الأدلة فراجع.
وقد عمم معظم الفقهاء منع تزويج المؤمنة بالمخالف وادعى عليه الإجماع ويبدو أن للنكاح أهمية خاصة فهو من موارد الاحتياط المهمة>(27).
هذا نص كلامه نقلته كما هو ليعلم أن الناصب لا تجوز مناكحته وقد نقله المصنف من كتب الفقه خاصة (رفع الالتباس في أحكام الناس)، و(الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) وهما من كتب الفقه.
ـ على أننا لا نريد أن نفصل في تعريف الناصب وحده عند الشيعة فالناصب ليس من نصب لآل محمد العداء فقط ولكن كل مخالف للشيعة الإمامية فهو ناصبي وكل من نصب العداء للشيعة فهو ناصبي بل وداخل في النواصب كل المذاهب والفرق كأهل السنة وغيرهم حتى الزيدية يعدونهم من النواصب.
<وأما الزيدية القائلون بإمامته فهم عند الأئمة ـ عليهم السلام ـ في عداد النصاب بلا شك ولا ارتياب كما صرحت به أخبارهم المنقولة في كتاب الكشي وغيره>.(30/64)
وقال الشيخ المامقاني في (تنقيح المقال 1/001): وروى أبو عمر والكشي عن أبي جعفر الجواد ـ عليه السلام ـ أن الزيدية والواقفية والنصاب بمنزلة واحدة.
وحينئذ فيصح إطلاق الناصب على كل من خالف مظهراً العداوة للفرقة المحقة...>(28).
وزيادة في بيان حد الناصب ذكر شُبر في (حق اليقين) ما نصه:
<وقد رُوي بأسانيد معتبرة عن أبي عبدالله (ع) قال: ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت لأنك لا تجد رجلاً يقول: أنا أبغض محمداً وآل محمد ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وتتبرأون من عدونا وأنكم من شيعتنا، والأخبار في ذلك كثيرة قد ذكرنا جملة منها في شرحنا...>(29).
- هل بعد ما سبق خفي على الشيخ المفيد ومن نقلوا رأيه وتبنوا قوله أن فقه الإمامية يمنع مناكحة النصاب ولا شك أن عمر بن الخطاب عند الشيعة الإمامية من أشد النصاب فكيف يزوجه علي ويبيح الشيخ المفيد ذلك ويرى جوازه.
- وللقارئ أن يتأمل تأملاً دقيقاً في قوله: <وكما يحل له أكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الضرورات وإن كان ذلك محرماً مع الاختيار>.
وهل يجيز الشيعة القياس، وهم من يرون أن أول من قاس إبليس ويروون القصص والروايات عن مناظرات بين الإمام جعفر الصادق ـ رضي الله عنه ـ وأبي حنيفة رحمه الله حول القياس ويشن الشيخ المفيد نفسه هجوماً شنيعاً على أبي حنيفة ويسميه الشيخ الضال ويصفه دائماً بالجهل والحمق وراجع إن أردت التأكد (المسائل الصاغانية) للشيخ المفيد وينكر عليه أشد الإنكار القياس.
المبحث الرابع
أراء متفرقة لعلماء الشيعة على هامش مسألة
زواج عمر من أم كلثوم
- أراء متفرقة لعلماء الشيعة على هامش مسألة زواج عمر من أم كلثوم:
- هل في هذا الزواج يعتبر عمر زانياً أم تعتبر أم كلثوم زانية وما عقابهما؟
يقول نعمة الله الجزائري في كتابه (الأنوار النعمانية):(30/65)
< وأما الشبهة الواردة على هذا وهي أنه يلزم أن يكون عمر زانياً في ذلك النكاح وهو مما لا يقبله العقل بالنظر إلى أم كلثوم. فالجواب عنها من وجهين:
أحدهما: أن أم كلثوم لا حرج عليها في مثله لا ظاهراً ولا واقعاً وهو ظاهر، وأما هو فليس بزانٍ في ظاهر الشريعة، لأنه دخول ترتب على عقد بإذن الولي الشرعي، وأما في الواقع وفي نفس الواقع وفي نفس الأمر فعليه عذاب الزنى، بل عذاب كل أهل المساوئ والقبائح.
الثاني: أن الحال لما آل إلى ما ذكرنا من التقية فيجوز أن يكون قد رضى ـ عليه السلام ـ بتلك المناكحة رفعاً لدخوله في سلك غير الوطي المباح...>(1).
- وللقارئ الكريم أن يعجب من هذا الحديث. فعمر عند نعمة الله الجزائري ليس بزانٍ ولكنه في الواقع وفي نفس الواقع وفي نفس الأمر عليه عذاب الزنى بل عذاب كل أهل المساوئ والقبائح.
هذا من أعجب العجب ولولا سخف هذا المنطق المعوج الذي يتبصره كل من له أدنى عقل لبينا الرد والجواب.
ـ والظاهر لي أن لدى نعمة الله الجزائري عقدة متأصلة من مسألة عذاب عمر بن الخطاب وهذه العقدة منتشرة لدى علماء الشيعة فجلهم يرون أن عذاب كل أهل الأرض يعذبه عمر فعذابه أشد من عذاب إبليس وعليه أوزار كل جريمة قتل وزنى.
قال نعمة الله الجزائري في (الأنوار النعمانية):
<... إنه قد وردت في روايات الخاصة أن الشيطان يغل بسبعين غلاً من حديد جهنم ويُساق إلى المحشر فينظر ويرى رجلاً أمامه تقوده ملائكة العذاب وفي عنقه مائة وعشرون غلاً من أغلال جهنم فيدنو الشيطان إليه ويقول: ما فعل الشقي حتى زاد علي في العذاب وأنا أغويت الخلق وأوردتهم موارد الهلاك، فيقول عمر للشيطان: ما فعلتُ شيئاً سوى أني غصبت خلافة علي بن أبي طالب. والظاهر(2) أنه استقل سبب شقاوته ومزيد عذابه ولم يعلم أن كل ما وقع في الدنيا إلى يوم القيامة من الكفر والنفاق واستيلاء أهل الجور والظلم إنما هو من فعلته هذه...>(3).(30/66)
وواضح من الرواية مدى كراهية الشيعة لعمر فكيف لا يعده الجزائري ممن ينالون عقاب الزاني وأشد، ولو أحصى القارئ الكريم الكتب التي صنفت حول عمر بن الخطاب وبيان سبه ولعنه وكفره عند الشيعة لعلم أنها أكثر مصنفاتهم عدداً(4).
- أيهما أعز وأولى عند علي بن أبي طالب حرصه على الخلافة وفوائدها أم بناته ورعايتهن:
يقول نعمة الله الجزائري في الأنوار النعمانية ج1 ص28:
<.. أما الأول فقد استفاض في أخبارهم عن الصادق ـ عليه السلام ـ لما سئل عن هذه المناكحة فقال >إنه أول فرج غصبناه< وتفصيل هذا أن الخلافة كانت أعز على أمير المؤمنين من الأولاد والبنات والأزواج والأموال...>.
ـ فتأمل واعجب من مدى الحرص والتكالب على الخلافة حتى تصبح أعز على أمير المؤمنين من الأولاد والبنات...
ولم يكن هذا الحرص عند من سبقوه، فانظر مدى نظرة الشيعة إلى الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ حتى يصوروه في هذا التكالب على الخلافة!
- تأويل علماء الشيعة في توكيل علي للعباس ليزوج ابنته أم كلثوم:
يقول أبو القاسم الكوفي في (الاستغاثة في بدع الثلاثة) بعد أن ذكر قصة الزواج الذي رآه بالإكراه وتوكيل علي للعباس ليتولى هو العقد:
<وأصحاب الحديث إن لم يقبلوا هذه الرواية منا فإنه لا خلاف بينهم في أن العباس هو الذي زوجها من عمر، وقد قيل لمن أنكر هذه الحكاية من فعل علي ما العلة التي أوجبت أن يجعل علي ـ عليه السلام ـ أمر ابنته أم كلثوم إلى العباس دون غيرها من بناته وليس هناك أمر يضطره إلى ذلك وهو صحيح سليم والرجل الذي زوجه العباس بزعمهم عنده مرغوب رضى فيه. أتقولون إنه أنف من تزويج ابنته أم كلثوم وتعاظم وتكبر عن ذلك فقد نجده قد زوج غيرها من بناته..>.
والجواب عما ذكره هذا الكوفي يتلخص في نقطتين:
أولاً: الإجماع الذي ذكره لا وجود له أصلاً فكثير من علماء الشيعة ذكروا زواج عمر من أم كلثوم برضا علي وأن علياً هو الذي تولى العقد لا العباس.(30/67)
ثم ما الذي يشكل فارقاً في كون على تولي تزويجها بنفسه أو وكل العباس في ذلك!؟
أليس قد تم الزواج وصار عمر صهراً لعلي!؟
ـ أما النقطة الثانية: فإن كان علي أنف من تزويج بنته بنفسه لعمر بن الخطاب فهاك مصاهرات عديدة تمت بين أهل البيت والصحابة رضوان الله عليهم ولم يأنف واحد من أهل البيت من عقد المصاهرة بنفسه لا توكيل غيره.
ـ وأول هذه المصاهرات زواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عائشة بنت أبي بكر الصديق، ومن حفصة بنت عمر بن الخطاب والأربعة ـ رضوان الله عليهم أبو بكر وعمر وعائشة وحفصة ممن يرى الشيعة كفرهم ونفاقهم.
فلم يأنف رسول الله من المصاهرة إليهم فكيف أنف على مما لم يأنف منه رسول الله!؟
وبهذه المصاهرة صار بنو تيم وبنو عدي أصهار رسول الله، وبنو تميم وبنو عدي لهما النصيب الأكبر في قاموس شتائم الشيعة.
ـ وتزوج إسحاق بن جعفر بن أبي طالب من أم حكيم بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وهي أخت أم فروة(5).
ـ وتزوج علي بن أبي طالب من أسماء بنت عميس وقد كانت زوجة أبي بكر الصديق من قبل وولدت له محمد بن أبي بكر وهو ربيب علي لأنه رباه، وولاه بعد ذلك مصر.
ـ وتزوج علي بن أبي طالب من أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي من ثقيف.
ـ وتزوج أيضاً من أمامة بنت العاص بن الربيع وهو زواج مثبت في كل المراجع وكتب الأنساب ومعلوم رأى الشيعة في العاص بن الربيع.(30/68)
ـ والبيضاء عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي توءم عبدالله والد رسول الله تزوجت من كريز بن ربيعة بن حبيب العبشمي وابنتها أروى بنت كُريز هي أم عثمان بن عفان ومعلوم أن عثمان بن عفان يتهمه الشيعة بأنه كان يتلوط به، وكان مخنثاً ويطلقون عليه اسم (نعثل) والنعثل هو ذكر الضبع وهو الذي وهو الذي يؤتى في دبره وكان لقباً لرجل يهودي يؤتى في دبره فشبهوا به عثمان (راجع المعنى اللغوي للكلمة في: تاج العروس للزبيدي، والقاموس المحيط للفيروز آبادي ولسان العرب لابن منظور) وقد عقد البياضي فصلاً عن عثمان بن عفان وإطلاق اسم نعثل عليه في كتابه (الصراط المستقيم) قال: >قال الكلبي في كتاب المثالب: كان عثمان ممن يُلعب به ويتخنث وكان يضرب بالدف>(6) وقال في تلقيبه بنعثل >في تسميته نعثل أقوال: ففي حديث شريك أن عائشة وحفصة قالتا له: سماك رسول الله نعثلاً تشبيهاً بيهودي، وقال الكلبي: إنما قيل نعثلاً تشبيهاً برجل لحياني من أهل مصر، وقيل من خراسان وقال الواقدي: شبه بذكر الضباع فإنه نعثل لكثرة شعره، وقال: إنما شبه بالضبع، لأنه إذا صاد صيداً قاربه ثم أكله، وإنه أتى بالمرأة لتحد فقاربها ثم أمر برجمها ويقال النعثل: التيس الكبير العظيم اللحية>(7).
فهذا هو عثمان الذي جد ته لأمه هي البيضاء عمة رسول الله.
ـ وهناك العديد من المصاهرات الأخرى بين البيت العلوي والصحابة أعرضنا هنا عن ذكرها خشية الإطالة.
الهوامش
(1) الأنوار النعمانية ج1 ص38.
(2) هذا تعليق نعمة الله الجزائري على الرواية.
(3) الأنوار النعمانية ج1 ص18، 28.(30/69)
(4) ومن شك فليراجع مصنفاتهم في سب الشيخين وخاصة سب عمر بن الخطاب ولعنه وليراجع القارئ: دعاء صنمي قريش وشروحه، فصل (كلام في خساسته وخبث سريرته) من كتاب (الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم) لزين الدين النباطي البياطي، باب كفر الثلاثة في بحار الأنوار للمجلسي ج8 ص802، باب مطاعن الخلفاء الثلاثة في (حدائق الشيعة) للأردبلي ص332، والمجلدات الثلاثة رقم 92، 03، 13 من موسوعة بحار الأنوار للمجلسي وهي تحوي السب والطعن في الخلفاء الثلاثة وعائشة وحفصة وبني أمية، وليراجع القارئ الكريم الذريعة إلى تصانيف الشيعة لأغابزرك الطهراني في مواضع مختلفة منه يذكر المصنفات التي ألفت حول دعاء صنمي قريش، وما صنف حول عمر بن الخطاب خاصة.
(5) تراجم أعلام النساء ص062.
(6) الصراط المستقيم ج3 ص82.
(6) المرجع السابق ج3 ص03.
الاستدراكات
لتدعيم البحث بالجداول والأدلة
الجداول والملخصات
المصاهرات بين البيت الهاشمي والبيت الزبيري
ـ سبق وذكرنا في البحث الرد على الشيخ المفيد في تشكيكه بزواج عمر من أم كلثوم وهو يشكك في الرواية لأنها نقلت من طريق الزبير بن بكار وهو زبيري ومعروف عداوة آل الزبير للهاشميين ولأن بكار الزبيري عمه مصعب بن عبدالله بن الزبير الذي كان له موقفاً قديماً فيه عداوة للهاشميين والعداوة عند الشيعة صفة وراثية تنتقل من العم إلى ابن الأخ وإلى الأحفاد بعد ذلك لهذا يكذبون بكار الزبيري.
ـ ولكي يثبت بالدليل القاطع تهافت علماء الشيعة على مسألة العداوة المفتعلة بين آل الزبير والهاشميين سوف نذكر هنا إحدى عشرة علاقة مصاهرة ثابتة في كتب الأنساب والتاريخ عند علماء الشيعة أولاً ثم علماء أهل السنة ثانياً.
المراجع والمصادر
مرتبة حسب ورودها في هوامش البحث
القرآن الكريم:(30/70)
1 ـ صحيح الجامع الصغير وزيادته، جلال الدين السيوطي، تحقيق ناصر الدين الألباني، ط المكتب الإسلامي بيروت ـ دمشق/ 8041هـ/ 8891م. أشرف على طبعه زهير الشاويش.
2 ـ بحار الأنوار (ش)، محمد باقر المجلسي ت1111هـ، ط دار إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي (الطبعة الجديدة) لبنان ـ بيروت/ 2141هـ ـ 2991م.
3 ـ البرهان في تبرئة أبي هريرة من البهتان، عبدالله بن عبدالعزيز بن علي الناصر، دار النصر للطباعة ـ القاهرة/ 9141هـ.
4 ـ الأنوار النعمانية لنعمة الله الموسوي الجزائري ت2111هـ، نشر مطبعة شركت جاب/ إيران تحقيق محمد علي القاضي الطباطبائي.
5 ـ حقيقة الشيعة، عبدالله الموصلي، ط5 مكتبة ابن تيمية ـ القاهرة/ 7141هـ ـ 7991م.
6 ـ مع الشيعة الاثنى عشرية في الأصول والفروع، أ. د. علي أحمد السالوس، ط دار التقوى القاهرة/ مصر، ودار الثقافة/ الدوحة ـ قطر 7141هـ ـ 79991م.
7 ـ دعاء التاج وروضة المحتاج، ط مجهولة السنة والتاريخ والمصنف.
8 ـ تاريخ الرسل والملوك، محمد بن جرير الطبري ت013هـ، ط دار الفكر ـ بيروت لبنان/ 8141هـ ـ 89991م.
9 ـ البداية والنهاية، ابن كثير الدمشقي ت477هـ، ط دار الفكر ـ بيروت/ لبنان 8141هـ ـ 7991م. تحقيق الشيخ محمد البقاعي.
10ـ تاريخ الإسلام، شمس الدين الذهبي، ت 847هـ، ط دار الكتاب العربي ـ بيروت لبنان/ 7141هـ ـ 7991م.
11 ـ سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، ط دار الفكر بيروت ـ لبنان/ 7141هـ ـ 7991م.
12ـ المنتظم، عبدالرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي ت795هـ، ط دار الكتب العلمية بيروت/ لبنان/ 2141هـ ـ 2991م.
13 ـ الإصابة في تمييز الصحابة، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي الكناني العسقلاني المصري الشافعي (ابن حجر) ت258هـ، ط دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان/ بدون تاريخ.(30/71)
14ـ أسد الغابة في معرفة الصحابة، عز الدين بن الأثير ت036هـ، ط دار الفكر ـ بيروت لبنان/ 5141هـ ـ 5991م.
15ـ نساء من عصر النبوة، أحمد خليل جمعة، ط دار ابن كثير/ دمشق ـ بيروت 4141هـ ـ 4991م.
16ـ المسائل السروية ، الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان العكبري، ط مهر ـ قم 3141هـ تحقيق صائب عبدالحميد.
17ـ الاستغاثة ، علي بن أحمد الكوفي (أبو القاسم الكوفي)، ط الناشر إحقاق الحق، باكستان ـ مجهولة التاريخ.
18ـ مرآة العقول شرح أخبار آل الرسول ، محمد باقر المجلسي ت1111هـ ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران/ 8041هـ. تصحيح الشيخ علي الأخوندي.
19ـ أعيان النساء عبر العصور المختلفة ، الشيخ محمد رضا الحكيمي، ط مؤسسة الوفاء ـ بيروت/ لبنان/ 3041هـ ـ 3881م.
20ـ تراجم أعلام النساء، إشراف رضوان دعبول، ط مؤسسة الرسالة ـ بيروت ودار البشر ـ عمان/ الأردن/ 9141هـ ـ 8991م.
21ـ حق اليقين ، عبدالله شُبر، ط مركز انتشارات الأعلمي ـ طهران مطبعة العرفان ـ صيدا/ 2531هـ.
22ـ تهذيب الأحكام ، شرح مقنعة الشيخ المفيد لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي ت064هـ، ط3 دار الكتب الإسلامية/ طهران ـ إيران، تعليق وتحقيق السيد: حسن الموسوي الخرساني، تصحيح محمد الأخوندي.
23ـ من لا يحضره الفقيه ، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ابن بابويه القمي (الصدوق) ت183هـ، ط3 دار الكتب الإسلامية، طهران ـ إيران، تعليق وتحقيق السيد: حسن الخرسان، تصحيح الشيخ محمد الأخوندي.
24ـ النصب والنواصب ، محسن المعلم، ط دار الهادي ـ بيروت/ لبنان 8141هـ ـ 7991م.
25ـ إحقاق الحق وإزهاق الباطل ، نور الدين التستري المرعشي (الشهيد الثالث) تحقيق شهاب الدين المرعشي النجفي ت1141هـ.
26ـ الصحيح من سيرة النبي الأعظم ـ صلى الله عليه وأهله وسلم ، جعفر مرتضى العاملي ط3 نشر جماعة المدرسين ـ قم ـ إبران/ 4141هـ.(30/72)
27ـ هوامش نقدية على كتاب مأساة الزهراء ، محمد الحسيني، ط2 الكويت دور الطبع والنشر مجهولة/ 8141هـ ـ 7991م.
28ـ حياة أعظم رجل بعد الأنبياء والرسل أبي بكر الصديق.
29ـ تاريخ الإسلام، د. حسن إبراهيم حسن، ط7 إحياء التراث العربي ـ القاهرة 7041هـ ـ 7891م.
30ـ نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار، الشيخ مؤمن بن حسن مؤمن الشبلنجي ط الدار العالمية ـ بيروت/ لبنان/ 5041هـ ـ 5891م.
31ـ الروضة الفيحاء في تواريخ النساء.
32ـ المعارف، أبو محمد عبدالله بن مسلم (ابن قتيبة) ت672هـ، ط6 الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ 3991م. تحقيق د. ثروت عكاشة.
33ـ أطلس تاريخ الإسلام، د. حسين مؤنس، ط الزهراء للطباعة ـ القاهرة.
34ـ زهر الربيع، نعمة الله الجزائري الموسوي ت2111هـ ـ طبعة حجرية قديمة/ الناشر ناصر خسرو/ طهران، والطبعة الحديثة مؤسسة البلاغ/ لبنان 0141هـ/ 0991م. تحقيق محمد سعيد الطريحي.
35ـ تاريخ آداب العرب، مصطفى صادق الرافعي.
36ـ عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ، جمال الدين أحمد بن علي الحسيني (ابن عنبة) ت828هـ.
37ـ إعلام الورى بأعلام الهدى، أبو الفضل بن الحسن الطبرسي، ط3 دار الكتب الإسلامية إيران ـ قدم له محمد مهدي السيد حسن الخراسان.
38ـ العقد الفريد، أحمد بن محمد بن عبدربه الأندلسي ت823هـ، ط2 مكتب تحقيق التراث بيروت ـ لبنان/ 6141هـ ـ 6991م.
39ـ الأصيلي في أنساب الطالبيين، صفي الدين بن محمد بن تاج الدين علي الحسني (ابن الطقطقي) ت907هـ، ط نشر مكتبة آية الله العظمي المرعشي النجفي ـ قم 6731هـ تحقيق وجمع وترتيب السيد/ مهدي الرجائي.
40ـ الكنى والألقاب، الشيخ عباس القمي.
41ـ ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربى، محب الدين الطبري.
42ـ منتهى الأمال في تواريخ النبي والآل، الشيخ عباس القمي، ط الدار الإسلامية ـ بيروت/ لبنان 4141هـ ـ 4991م. تعريب أ/ نادر التقي .(30/73)
43ـ نسب قريش، مصعب الزبيري.
44ـ الفهرست، أبو الفرج محمد بن أبي يعقوب إسحاق بن النديم ت083هـ، ط دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان/ 6141هـ ـ 6991م. طبعه وشرحه وعلق عليه د. يوسف علي طويل.
45ـ صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني، محمد خلف الله.
46ـ أبو الفرج الأصفهاني عصر..، حسين عاصي.
47ـ دفع الكذب المبين المفترى من الرافضة على أمهات المؤمنين، د. عبدالقادر بن محمد عطا صوفي ط مكتبة الغرباء الأثرية ـ السعودية./ 8141هـ ـ 7991م.
48ـ كشف الجاني محمد التيجاني في كتبه الأربعة، عثمان بن محمد آل خميس الناصري أبي محمد التميمي ط2 مجهولة 8141هـ ـ 7991م.
49ـ سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، محمد بن يوسف الصالحي الشامي ت249هـ، ط دار الكتب العلمية ـ بيروت/ لبنان/ 4141هـ ـ 3991م. تحقيق عادل أحمد عبدالموجود، والشيخ علي محمد معوض.
50ـ الكافي، محمد بن يعقوب الكليني ت823هـ، ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران ـ إيران، شرح وتعليق علي أكبر الغفاري وتصحيح وعناية الشيخ محمد الأخوندي.
51ـ حدائق الأنس، إبراهيم الموسوي الزنجاني، ط دار الزهراء ـ بيروت/ لبنان 2041هـ/ 2891م.
52 ـ مناقب آل أبي طالب، أبو جعفر محمد بن علي بن شهر آشوب السروي المازندراني ط دار الأضواء ـ بيروت/ لبنان، تحقيق وفهرسة د. يوسف البقاعي/ 2141هـ ـ 1991م.
53ـ أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، حققه وعلق عليه الشيخ محمد باقر المحمودي ط مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت/ لبنان 4931هـ ـ 4791م.
55 ـ الإرشاد، محمد بن محمد بن النعمان العكبري (الشيخ المفيد) ت314هـ ط3 مؤسسة الأعلمي، بيروت ـ لبنان 9931هـ ـ 9791م.
54ـ أعيان الشيعة، محسن الأمين ط دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت ـ لبنان 3041هـ ـ 3891م.
55 ـ تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس، حسين محمد الحسن الديار بكري، ط مؤسسة شعبان ـ بيروت/ لبنان.(30/74)
56ـ نفس المهموم في مصيبة سيدنا الحسين المظلوم ويليه نفثة المصدور فيما يتجدد به حزن العاشور الحاج عباس القمي، ط دار الرسول الأكرم، ودار المحجة البيضاء ـ بيروت/ لبنان.
57ـ الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم ، الشيخ زين الدين أبي محمد علي بن يونس العاملي النباطي البياضي ـ ت778هـ، ط المكتبة المرتضوية مطبعة الحيدري ـ إيران صححه وعلق عليه وحققه محمد الباقر البهبودي.
58ـ تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح، دار صعب ودار صادر ـ بيروت/ لبنان.
59ـ إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب، أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي ت643هـ
60ـ بل ضللت ـ كشف أباطيل التيجاني في كتابه (ثم اهتديت)، خالد العسقلاني، ط دار الإيمان ـ الاسكندرية/ 8141هـ ـ 7991م.
61ـ كشف الغمة في معرفة الأئمة (ش) الأربلي ت396هـ ط النجف 4831هـ. قدم له جعفر السبحاني.
62ـ تواريخ النبي والآل، (ش) محمد تقي التستري.
63ـ الصوارم المهرقة في نقد الصواعق المحرقة، (ش) القاضي نور الله التستري الشهيد الثالث ت6101هـ، ط إبران 7631هـ عنى بتصحيحه جلال الدين الحسيني.
64ـ شذرات الذهب في أخبار مَنْ ذهب، ابن العماد عبدالحي أحمد بن محمد العكري الحنبلي الدمشقي، ط دار ابن كثير دمشق ـ بيروت، 6041هـ = 6891م، تحقيق: محمود الأرناؤوط.
65ـ تهذيب الكمال في أسماء الرجال، الحافظ جمال الدين أبوالحجاج يوسف المزيَّ، ت 247هـ، ط دار الفكر بيروت ـ لبنان، 4141هـ = 4991م. تحقيق: الشيخ أحمد علي عبيد وحسن أحمد أغا.
66ـ تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني ت 258هـ، ط دار الفكر ـ بيروت ـ لبنان، 5141هـ = 5991م.
67ـ الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت 847هـ، ط دار الفكر ـ بيروت ـ لبنان، 8141هـ = 7991م.
68ـ تذكرة الحفاظ، الذهبي ت 847هـ، ط دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان ـ 9141هـ = 8991م.(30/75)
69ـ تيسير مصطلح الحديث، د.محمود الطحان، ط 6 مكتبة دار التراث، الكويت، 4041هـ = 4891م.
70ـ ميزان الاعتدال، الذهبي ت 847هـ، ط دار المعرفة، بيروت ـ لبنان. تحقيق: علي محمد البجاوي.
71ـ لسان الميزان، ابن حجر العسقلاني ت 258هـ، ط 3، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، 6041هـ = 6891م.
72ـ ذيل ميزان الاعتدال، الحافظ أبو الفضل عبدالرحيم بن الحسين العراقي، ت 608هـ، ط مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، 6041هـ. تحقيق: عبدالقيوم عبدرب النبي.
ملحق: شرح المجلسي لحديثي الكافي في كتابه (مرآة العقول)(30/76)
ما قاله الثقلان
في أولياء الرحمن
بقلم
عبد الله بن جوران الخضير
مراجعة
الشيخ: عبد الله عبد الرحمن الراشد
* حقوق الطبع محفوظة *
* الطبعة الأولى *
(1426هـ - 2005م)
* دار التميز للنشر والتوزيع *
الجمهورية اليمنية - صنعاء
(224459 - 009671)
((بسم الله الرحمن الرحيم))
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين.. وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة وهداية ونوراً للعالمين وعلى آل بيته مشاعل الهدى ومصابيح الدجى، وعلى أصحابه الأتقياء مبلغي وحي السماء، وعلى من تبع هداهم إلى يوم الدين...
أما بعد:
فمن نعمة الله السابغة ومنته البالغة أن أرسل إلينا رسولاً من أنفسنا، همه وغاية دعوته أن يزكينا ويخرجنا من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
وبعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى -عليه الصلاة والسلام- حمل لواء هذه الدعوة المباركة من بعده عصبة، جاءت على اختيار واصطفاء من الرحمن سبحانه وتعالى، فعلم ما في قلوبهم، وإلى ماذا تطمح نفوسهم، فأنزل عليهم رضوانه، ومنحهم سبحانه غفرانه.
وهذا الرضوان العظيم، والغفران العميم، لم يكونا ليحلان إلا عندما بان أمر هذه الجماعة الزكية النقية بأحوال وأقوال أدهشت المعادي قبل المحب، وكما قيل: (كل إناءٍ بالذي فيه ينضح). لكن مع كل ما بذلوه وأفنوا أنفسهم لأجله لكنه لم يرض لطائفة من الناس إما جهلا منها بحقيقة الصحابة، أو لقرب عهدهم بالإسلام كشفت ضحالة علمهم بالإسلام، وعدم رسوخ إيمانهم في دين الرحمن، فسعت على علم من فريق منها، وجهلا من فريق آخر اقتادته العواطف جهلا في المضي وراء أقوال باطلة مزخرفة، لتقويض أركان هذا الدين العظيم بالنخر في أساسه، والسعي إلى نسف غراسه، وذلك بالجري الحثيث في طريق موحش، ألا وهو: الطعن في نقلة هذا الدين، وهم (الصحابة) الأخيار، رضي الله عنهم أجمعين.(31/1)
وهذه الوريقات فيها بيان شافٍ -بإذن الله- وإظهار لمكانة أولئك النفر من رجال ونساء؛ لأن من أحب إنساناً أحب أحبابه وتقبلهم بقبول حسن، وأبغض أعداءهم ومبغضيهم، وهذه سنة ماضية في الخلق لا يحيد عنها أو يشط إلا الشواذ والحاقدون؛ لأننا والله نحبهم ونحب كل من أحبه النبي صلى الله عليه وسلم، ومات وهو راضٍ عنه؛ لأن ديننا قوامه وعمدة أساسه: الحب في الله لأوليائه، والبغض فيه سبحانه لأعدائه.
وإن كنت قد قصرت في توضيح هذا الجانب، فسبب ذلك أن الواضح المعروف لا يحتاج إلى التبيين، ويعسر على الأذهان القول فيه لتوضيحه، فالواضح لا تزيده التعريفات إلا غموضاً وتحيراً، وكما قيل: (وفسر الماء بعد الجهد بالماء). وهذا الجلاء إن كنت لم أستوف جوانبه فلن أعدم من محب ناصح يوجهني إلى الصواب، ويرشدني إلى أفضل المنطق والجواب، لترسخ القدم على طريق محبة النبي عليه الصلاة والسلام وآله الأطهار، وصحبه الأخيار، رضي الله عنهم وغفر لهم.
المدخل
اختلط على كثير من الناس التفريق بين مفهوم الصحبة في اللغة عن مفهومها في الاصطلاح لأسباب كثيرة، منها:
1- قلة فهمهم واطلاعهم في هذا الجانب.
2- عدم معرفتهم في تمييز ذلك؛ لأن بضاعتهم في اللغة العربية مزجاة وشحيحة.
لهذين السببين نجد أن أقدامهم قد زلت في فهم الصواب، فنسبوا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأقوال والأفعال الباطلة، وافتروا عليهم الكثير من الاعتقادات الخطيرة كالنفاق والردة وغيرها، مستدلين على ذلك الزعم بما تشابه لهم من الآيات أو من القرائن والدلالات، من خلال فهم سقيم، ونظر عقيم، بأن التقطوا كلمات متناثرة في أحاديث صحيحة متواترة، ومن ثَمَّ تأويلها تأويلات باطلة، فيها الدلالة على ضحالة علمهم ورداءة فهمهم.(31/2)
ولعدم معرفتهم اللغة العربية، أو بالاستدلال على دعواهم بروايات ضعيفة أو موضوعة لم تثبت صحتها عن النبي صلى الله عليه وسلم , فيتمسكون بها تمسك الغريق بحبال الوهم الباطلة، مما يستبين لمناقشهم عند الكلام معهم عدم درايتهم ودراستهم وإحاطتهم بعلم عظيم يعصم من زلل كبير، ألا وهو علم (مصطلح الحديث)، وعلم (معرفة أحوال الرجال).
لذا وجب قبل الشروع في بيان عدالة الصحابة، أن أبين جملة من الأمور المهمة من خلال التساؤلات الآتية:
- ما تعريف لفظ: (الصحابة)؟
- هل المنافقون من (الصحابة)؟
- هل المرتدون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يشملهم مسمى (الصحابي)؟
- ما أقوال آل البيت عليهم السلام فيهم؟
- لماذا حدث الشقاق والخلاف فيما بينهم إن كان الله سبحانه قد رضي عنهم؟
- ما الدليل على قُرب أو بُعد آل البيت عليهم السلام من الصحابة رضي الله عنهم ؟
تساؤلات وشبهات سنجد جوابها -بإذن الله- عند قراءتنا لهذه الصفحات التي تتناول على وجه الخصوص شهادة وأقوال الثقلين: (كتاب الله وآل البيت الطاهرين عليهم السلام) في عدالة ومكانة الصحابة رضوان الله عليهم ضمن المباحث الآتية:
المبحث الأول: تعريف لفظ الصحابي: لغة واصطلاحاً.
المبحث الثاني: ثناء الثقلين (كتاب الله والعترة) على الصحابة، وفق المطالب الآتية:
المطلب الأول: ثناء الثقلين على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
المطلب الثاني: ثناء الثقلين على الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم.
المطلب الثالث: ثناء الثقلين على المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم.
المطلب الرابع: ثناء الثقلين على أهل بدر رضي الله عنهم.
المطلب الخامس: ثناء الثقلين على من أنفق وقاتل قبل الفتح وبعده رضي الله عنهم.
المبحث الثالث: كيف ظهرت الفتن بين الصحابة رضي الله عنهم ؟ ومن هو أول من أشعلها؟
المبحث الرابع: المؤامرة ضد الإسلام والمسلمين.
المبحث الخامس: الموقف الصحيح من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.(31/3)
المبحث السادس: الأسماء والمصاهرات بين الصحابة رضي الله عنهم والآل عليهم السلام.
المبحث السابع: شبهات وردود.
الخاتمة: وفيها مجموعة من الخواطر التي تجول في ذهن المسلم، من بعد سماعه لما يقذف به الصحابة من دعاوى وشبهات، ومن بعد تصفحه لهذه الرسالة يجدر الاستفسار حولها؛ لترتاح النفس من شجن يقلقها.
وفي النفس شجون وهموم تجاه هذا الموضوع، لتجدد وتكاثر الشبهات في كل وقت وزمن، وفي أماكن متعددة، لكن لعل ما ذكرته فيه البيان الناجع والرد الناجح لبعض التساؤلات وتفنيد الشبهات، وإزالة الغفلة التي رانت على قلوب بعض المسلمين، نوفق من بعدها بإذن الله إلى الصواب والحق الذي يرضاه الله سبحانه لنا.
المبحث الأول:
تعريف لفظ (الصحابة)
لزاماً علينا قبل أن نشرع في بيان الأدلة الدالة على عدالة الصحابة، أن نبين مفهوم كلمة (الصحابة)؛ لأن جلاء المعنى لهذه الكلمة، وبيان حدود إطلاقها، ومن يتصف بها، ومن هو المعني بهذه الكلمة المباركة - فيه التوفيق لما بعده من علم ودراسة.
وهذا البيان لا يكون إلا من جهتي اللغة والاصطلاح.
أولاً: تعريف لفظ (الصحابي) لغة:
الصحابي: نسبة إلى صاحب، وله معانٍ عدة تدور في جملتها حول الملازمة والانقياد(1).
وقبل بيان بعض استخدامات الصحبة في اللغة، ينبغي التنبه إلى أن بعض هذه الاستخدامات لا تندرج ضمن التعريفات الاصطلاحية، إذ هي وفق التعريف اللغوي غير مقيدة بقيود منضبطة وفق ما سنعرفه، لذا وجب أن أسوق جملة من معاني الصحبة اللغوية للاحتراز عند إطلاق هذه الكلمة، ومنها:
1- الصحبة المجازية: وهي التي تطلق على اثنين بينهما وصف مشترك، وقد يكون بينهما أمد بعيد، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لإحدى زوجاته: (إنكن صواحب يوسف)(2).
2- الصحبة الإضافية: وهي التي تضاف للشيء لوجود متعلق به، كما يقال: (صاحب مال، صاحب علم... إلخ).
__________
(1) لسان العرب: (1/519).
(2) بحار الأنوار: (28/137).(31/4)
3- صحبة القائم بالمسئولية: وهذا كما في قوله تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً)) [المدثر:31].
4- صحبة اللقيا: تطلق الصحبة على التلاقي الذي يقع بين اثنين، ولو لمرة واحدة لسبب ما، ثم ينقطع.
وهذا كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر...)(1) الحديث، فسمى المشتري (صاحباً) مع أن اللقيا وقعت مرة واحدة مع البائع حين يشتري منه السلع.
5- صحبة المجاورة: وهي التي تطلق على المؤمن والكافر والعكس، وهو مصداق ما جاء في قوله تعالى: ((قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً)) [الكهف:37].
وكما في قوله تعالى: ((فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً)) [الكهف:34].
ويجوز أن تطلق الصحبة على من لا يعرف صاحبه ولم يلتق به يوماً، كما قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه للغلامين من الأنصار اللذين كانا يبحثان عن أبي جهل في غزوة بدر يريدان قتله بسبب سبه للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: (هذا صاحبكما الذي تسألان عنه)(2).
ووفق ما سبق ذكره فاستخدام مدلول الصحبة اللغوية لا يعمم، إذ لو كان (الصحابي) يُعرّف بالصحبة اللغوية وفق الاستخدامات التي مرت، لكنّا نحن جميعاً في عداد الصحابة, ولكان اليهود والمنافقون والنصارى والمشركون الذين لقوا النبي صلى الله عليه وسلم كذلك من باب أولى، إذ لا يشترط في اللغة للفظ المصاحبة اللقاء المستمر أو الإيمان بالله والموت على ذلك.
تنبيه:
__________
(1) مستدرك الوسائل: (13/299).
(2) بحار الأنوار: (19/327).(31/5)
في قصة تطاول المنافق عبد الله بن أبي بن سلول على النبي صلى الله عليه وسلم، طلب عمر رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بضرب عنقه، فقال له: (دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)(1).
فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصحبة للمنافق في هذا الحديث، لكنه قصد الاستعمال اللغوي لا الاصطلاحي، وهذا من بلاغته صلى الله عليه وسلم وحكمته، ووفق ما تعارف عليه العرب في لغتهم، ولم يكن هناك من محذور في فهم الإطلاق اللغوي، وذلك لأمرين:
الأول: أن الإطلاق اللغوي لا يقصد منه التفريق بين الإيمان والنفاق؛ لأنه ليس له ضابط.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن سبب منع عمر رضي الله عنه عن قتله للمنافق: (حتى لا يتحدث الناس)، والناس المشار إليهم هنا هم فئة مقابلة للصحابة؛ لأن القرآن حينما خاطب أهل الإيمان كان يخاطبهم بقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) [البقرة:153] وحينما كان يوجه الكلام للكفار أو لعموم الناس مؤمنهم وكافرهم كان خطابه: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) [البقرة:21].
__________
(1) شرح أصول الكافي/ مولى محمد سالم المازندراني: (12/487). وانظر: الصحيح من السيرة/ السيد جعفر مرتضى: (6/163).(31/6)
ومن المعلوم بداهة أن الكفار هم أكثر الناس عداوة وحرصاً على الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، ولذلك حينما يقتل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بن سلول، فلن يقول الكفار بأنه قد قتل منافقاً يستحق القتل، بل سيقال: (إن محمداً يقتل أصحابه)، وسينتشر الخبر بين العرب ويتحقق ما يرمي إليه الكفار، وهو صد الناس عن قبول هذه الدعوة والالتفاف حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هذا التحديد اللغوي في فهم معنى الصحابي عسيراً أو مشكلاً عند الكفار أو المنافقين، فضلاً عن سائر المسلمين الأوائل؛ لأنهم كانوا أهل اللغة وفرسانها والبارعين في دروبها وميادينها، فمن اقتدى بفهمهم وسار على دربهم، وفقه الله لفهم سديد ورأي رشيد لكثير من المعضلات والمبهمات.
ثانياً: تعريف الصحابي اصطلاحاً:
تعددت العبارات الموضحة لتعريف الصحابي اصطلاحاً، وكان من أدقها وأوضحها وأشملها بياناً هو: (من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام).
قال الشهيد الثاني(1): (الصحابي: من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ومات على الإسلام، وإن تخللت ردته بين لقيّه مؤمنا به، وبين موته مسلماً على الأظهر، والمراد باللقاء ما هو أعم من المجالسة والمماشاة ووصول أحدهما إلى الآخر, وإن لم يكالمه ولم يره)(2).
ولتوضيح التعريف السابق أقول:
* (من لقي النبي صلى الله عليه وسلم) أي: في حياته، سواء نظر إليه، أو من لم يستطع النظر إليه كعبد الله بن أم مكتوم؛ فإنه كان أعمى ولقي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره.
وأما من أسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ورآه قبل دفنه فلا يعد صحابياً.
__________
(1) العلامة/ زين الدين بن نور الدين العاملي الجبعي (ت:965هـ).
(2) الرعاية: (ص:339).(31/7)
* (مؤمناً به) أي: يشترط الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به، فمن لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو على الكفر من أهل الكتاب والمنافقين وغيرهم، سواء أسلم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أو لم يسلم فلا صحبة له.
* (مات على الإسلام) أي: أن من مات على الردة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقال عنه: إنه صحابي، ولا كرامة له.
الخلاصة:
مما سبق يتضح لنا جلياً أهمية التعامل مع اللغة والاصطلاح في بيان المصطلحات الشرعية وفق فهم العلماء المتخصصين، بعيداً عن التفسير بالرأي أو الهوى، ولأهمية هذا الجانب المؤسس للفهم الصحيح لما سيأتي أحببت أن أبينه كمدخل في المسألة، وذلك قبل الولوج في صلب الموضوع، وهو ثناء الثقلين (القرآن والعترة) على أولياء الرحمن (الصحابة رضي الله عنهم).
المبحث الثاني:
ثناء الثقلين على الصحابة رضي الله عنهم
يجب على كل مسلم أن يعتقد علو مكانة أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم أفضل الأمم، وأن خير قرون الإسلام قرنهم، وذلك لسبقهم للإسلام، وشرف اختصاصهم بصحبة خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، والجهاد معه، وتحمل الشريعة عنه، وتبليغها لمن بعده صلى الله عليه وسلم.
وأن يعتقد المسلم كذلك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليسوا على درجة واحدة في الفضل والمرتبة، بل تتفاوت مرتبتهم في الفضل بحسب سبقهم إلى الإسلام والجهاد والهجرة، وبحسب ما قاموا به رضي الله عنهم من أعمال تجاه نبيهم ودينهم.
فالمسلمون يقدمون المهاجرين على الأنصار، ويقدمون أهل بدر على أهل بيعة الرضوان، ويقدمون من أسلم قبل الفتح وقاتل على غيرهم، وفق ما جاء ذكره وتفصيله عن الثقلين (كتاب الله والعترة الطاهرة عليهم السلام)، اللذين أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بحبهم.(31/8)
وقد شهد الثقلان على عدالة الصحابة من بعد رضا الله عنهم، واستفاضت الروايات الدالة على الثناء عليهم؛ لجميل أفعالهم وكريم أقوالهم.
وذكر هذا الثناء لمن حازه هو محور البيان في هذا البحث، وفق المطالب الآتية:
المطلب الأول: ثناء الثقلين (القرآن والعترة عليهم السلام) على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
المطلب الثاني: ثناء الثقلين على الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم.
المطلب الثالث: ثناء الثقلين على المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم.
المطلب الرابع: ثناء الثقلين على أهل بدر رضي الله عنهم.
المطلب الخامس: ثناء الثقلين على من أنفق وقاتل قبل الفتح وبعده رضي الله عنهم.
المطلب الأول: ثناء الثقلين على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
المسلم العاقل يقرأ القرآن الكريم، ويتمعن في آياته، حيث إن الآيات الكريمة قد استفاضت في ذكر فضائل ومناقب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف اختارهم الله واصطفاهم وعدلهم وزكاهم ووصفهم بأوصاف القبول.
* الثناء على الصحابة رضي الله عنهم في كتاب الله:
قال تعالى: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) [الفتح:29].
قال الشيخ محمد باقر الناصري:(31/9)
((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)) أي: يطلبون بذلك مزيد نعم الله عليهم ورضوانه عنهم، ((سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)) علامتهم يوم القيامة أن تكون مواضع سجودهم أشد بياضاً، ((ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ)) يعني: أن ما ذكر من وصفهم هو عين ما وصفوا به في التوراة، وكذلك ((فِي الإِنْجِيلِ)) أي: فراخه... ((فَآزَرَهُ)) فاشتد وأعانه فغلظ ذلك الزرع فقام على ساقه وأصوله حتى بلغ الغاية، قال الواحدي: هذا المثل ضربه الله تعالى بمحمد وأصحابه، فالزرع محمد صلى الله عليه وسلم، والشطأ أصحابه والمؤمنون حوله، وكانوا في ضعف وقلة كما يكون أول الزرع ثم قوى بعضهم بعضاً، ((لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ)) أي: في ذلك غيظ الكفار بكثرة المؤمنين واتفاقهم على الطاعة(1).
وقال تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)) [التوبة:100].
قال الشيخ أمين ا لدين أبو علي الطبرسي:
هم الذين صلوا إلى القبلتين، وقيل: الذين شهدوا بدراً، ومن (الأنصار): أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا اثني عشر رجلاً، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين رجلاً، والذين حين قدم عليهم مصعب بن عمير فعلمهم القرآن(2).
تنبيه:
__________
(1) تفسير مختصر مجمع البيان، وانظر: جامع الجوامع، من وحي القرآن (سورة الفتح:29).
(2) تفسير جامع الجوامع, وانظر: تفسير من وحي القرآن، العياشي (سورة التوبة:100).(31/10)
حاولت طائفة من أهل الفتن والأهواء إبعاد تلك الآية عن تأويلها الصريح الواضح بالثناء على الصحابة، وقالوا بأن تلك الآيات لا تفيد الثناء على عموم الصحابة؛ لأن الله قال في نهاية الآية الأولى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) [الفتح:29]، وقال تعالى في الآية الثانية: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)) [التوبة:100].
فلفظ: (منهم) و(من) في الآيتين، يعني: من بعضهم، وليس جميع الصحابة.
ولبيان ذلك اللبس في الفهم، نبين الأمور الآتية:
أولاً: أن الله تبارك وتعالى بيَّن في كتابه آيات محكمات -أي: صريحة- لا تأويل فيها، ومن حاول أن يعبث في بتأويلها فسينفضح أمره، وينكشف تخبطه.
ومنها آيات متشابهة, أي: فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم. فالأصل في ذلك رد المتشابه إلى المحكم، فمن فعل ذلك اهتدى، ومن عكس انعكس.
ثانياً: أن كلمة (منهم) في قوله تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) [الفتح:29] وكلمة (من) في قوله تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)) [التوبة:100] ليست للتبعيض كما يتوهم البعض، وإنما تأتي في القرآن الكريم على معنيين:
المعنى الأول: أن (من) بمعنى: من جنسهم، ومن أمثالهم.
وهذا كما في قوله تعالى: ((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)) [الحج:30].(31/11)
ولا يستقيم في المعنى أن الله تبارك وتعالى أمرنا أن اجتناب بعض الأوثان، وترك بعضها فلا نجتنبه، بل أمرنا أن نجتنب جميع الأوثان في قوله: ((فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)) [الحج:30] أي: فاجتنبوا الرجس من جنس وأمثال هذه الأوثان.
المعنى الثاني: أن لفظ (من) تأتي للتأكيد.
وهذا كما في قوله تعالى: ((وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً)) [الإسراء:82]فهل هناك مسلم عاقل يفهم أن معنى الآية هو أن بعض القرآن شفاء ورحمة، وبعضه ليس كذلك؟
لكن يفهم المسلم أن القرآن كله شفاء ورحمة، وأن الله تبارك وتعالى أكّد في الآية الكريمة السابقة أن القرآن كله شفاء ورحمة.
ثالثاً: أن سياق الآية الأولى فيه مدح وثناء على جميع الصحابة، وليس فيه ذم لبعضهم، قال الله عز وجل: ((أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً)) [الفتح:29] فزكى الله تبارك وتعالى ظاهرهم بالسجود والركوع والذل له، وزكى باطنهم أيضاً في قوله: ((يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)) [الفتح:29].
بل إن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يذم أقواماً فإنه يبين ظاهرهم وباطنهم، كما قال تعالى عن المنافقين: ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً)) [النساء:142].
فبذلك يتبين لنا أن قوله تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) [الفتح:29]، وقوله تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)) [التوبة:100] أي: من جنسهم، أو للتأكيد على حالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم.(31/12)
* ثناء آل البيت عليهم السلام على الصحابة الكرام رضي الله عنهم:
ولأجل هذا الثناء المبارك في كتاب الله كانت البشارة من النبي صلى الله عليه وسلم عظيمة لمن أدرك الصحابة، أو رأى واحداً منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (طوبى لمن رآني، وطوبى لمن رأى من رآني، وطوبى لمن رأى من رأى من رآني)(1).
ولله در أمير المؤمنين علي عليه السلام وهو الخبير بحال إخوانه، بعد أن جرّب أهل الكوفة ورأى خذلانهم له، قال متذكراً ومادحاً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى أحداً يشبههم منكم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذُكِر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب ورجاء للثواب)(2).
ويصف الإمام علي عليه السلام حاله وحال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واستبسالهم جميعاً في وجه الأعداء بقوله:
__________
(1) أمالي الصدوق: (ص400), أمالي الطوسي: (ص:440) , الخصال: (2/342)، بحار الأنوار: (22/305).
(2) نهج البلاغة: (ص:143)، وانظر: الكافي: (2/236)، بحار الأنوار: (66/307).(31/13)
(ولقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نقتُل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً ومضيّا على اللَّقَم، وصبراً على مضض الألم، وجِدّاً في جهاد العدِّو، ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرة لنا من عدونا، ومرة لعدونا منا، فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت وأنزل علينا النصر، حتى استقر الإسلام ملقياً جرانه، ومتبوِّئاً أوطانه، ولعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم -يعني أصحابه- ما قام للدين عمود، ولا اخضرَّ للإيمان عود، وأيم الله لتحتلبنها دماً، ولتتبعنها ندماً)(1).
وعلى هذا المنوال الجميل، والمنهج المستقيم سارت السلسلة الزكية من آل بيت النبي عليهم السلام في الثناء العاطر على رفقاء جدهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
__________
(1) نهج البلاغة: (ص:91)، بحار الأنوار: (32/549).(31/14)
فهذا الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام يدعو في صلاته لأصحاب جده المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويقول: (اللهم وأصحاب محمد خاصة، الذين أحسنوا الصحبة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته وانتصروا به، ومن كانوا منطوين على محبته، يرجون تجارةً لن تبور في مودته، والذين هجرتهم العشائر، إذ تعلقوا بعروته، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته , فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك وكانوا مع رسولك دعاةً لك وإليك، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم، وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه، ومن كثَّرت في اعتزاز دينك من مظلومهم , اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ)) [الحشر:10] خير جزائك، الذين قصدوا سمتهم، وتحرَّوا جهتهم، ومضوا على شاكلتهم، لم يثنهم ريبٌ في بصيرتهم، ولم يختلجهم شك في قفوِ آثارهم والائتمام بهداية منارهم، مُكانفين ومُؤازرين لهم يدينون بدينهم، ويهتدون بهديهم، يَتّفقون عليهم ولا يتهمونهم فيما أدوا إليهم , اللهم وصلِّ على التابعين من يومنا هذا إلى يوم الدين وعلى أزواجهم وعلى ذُرِّياتهم، وعلى من أطاعك منهم صلاةً تعصمهم بها من معصيتك، وتفسح لهم في رياض جنَّتك، وتمنعهم بها من كيد الشيطان)(1). انتهى.
وعن الصادق عليه السلام، عن آبائه، عن علي عليه السلام قال: (أوصيكم بأصحاب نبيكم لا تسبوهم، الذين لم يحدثوا بعده حدثاً، ولم يؤووا محدثاً؛ فإن رسول الله أوصى بهم الخير)(2).
__________
(1) الصحيفة السجادية: (ص:42).
(2) بحار الأنوار: (22/305).(31/15)
ومن المعلوم أن وجود النبي صلى الله عليه وسلم خير على الأرض لأهلها، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم من بعده، وذلك لعظيم شأنهم، وعلو قدرهم في التزامهم بهدي سيد البشر صلى الله عليه وسلم، ومن ثمَّ استجاب الله لدعائهم لخير الأمة.
فعن موسى بن جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أمنة لأصحابي، فإذا قبضت دنا من أصحابي ما يُوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا قبض أصحابي دنا من أمتي ما يُوعدون، ولا يزال هذا الدين ظاهراً على الأديان كلها ما دام فيكم من قد رآني) (1).
وعن موسى بن جعفر عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القرون أربع: أنا في أفضلها قرناً، ثم الثاني، ثم الثالث، فإذا كان الرابع التقى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، فقبض الله كتابه من صدور بني آدم، فيبعث الله ريحاً سوداء، ثم لا يبقى أحد سوى الله تعالى إلا قبضه الله إليه)(2).
ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بالخير والرحمة لمن سيخلفه من بعده، من غير تعيين منه على معين بالإمامة، وجعل صفة من سيخلفه ميزته سيره على هديه صلى الله عليه وسلم، للدلالة على اجتماع كلمة الصحابة على من سيختارونه من بعده.
فعن الرضا عليه السلام، عن آبائه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارحم خلفائي -ثلاث مرات- قيل له: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون أحاديثي وسنتي، فيسلمونها الناس من بعدي)(3).
ولأجل مكانة الصحابة السامقة، تمنى نبي الله موسى عليه السلام أن يرى أولئك النفر الذين حازوا كل هذا الفضل العظيم.
__________
(1) بحار الأنوار: (22/309)، وانظر: نوادر الراوندي: (ص:23).
(2) بحار الأنوار: (22/309).
(3) بحار الأنوار: (2/144).(31/16)
فعن الرضا عليه السلام قال: (لما بعث الله عز وجل موسى بن عمران واصطفاه نجياً، وفلق له البحر، ونجَّى بني إسرائيل، وأعطاه التوراة والألواح رأى مكانه من ربه عز وجل، فقال موسى: يا رب، فإن كان آل محمد كذلك، فهل في أصحاب الأنبياء أكرم عندك من صحابتي؟ قال الله عز وجل: يا موسى، أما علمت أن فضل صحابة محمد على جميع صحابة المرسلين كفضل آل محمد على جميع آل النبيين، وكفضل محمد على جميع النبيين فقال موسى: يا رب، ليتني كنت أراهم! فأوحى الله عز وجل إليه: يا موسى، إنك لن تراهم، فليس هذا أوان ظهورهم، ولكن سوف تراهم في الجنات -جنات عدن والفردوس- بحضرة محمد، في نعيمها يتقلبون، وفي خيراتها يتبحبحون)(1).
تساؤل:
لو سأل سائل: بم نال الصحابة كل هذا الثناء العاطر من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وحازوا هذه المراتب العلى؟
فالإجابة تأتي من الروايات الكثيرة الواردة عن آل البيت عليهم السلام، والدالة على عظيم خلق وأدب وتوقير الصحابة الكبير للنبي صلى الله عليه وسلم، وتبين الحب الجم له، ومنها:
ما ذكره المجلسي في بحاره عن القاضي في الشفاء في ذكر عادة الصحابة في توقيرهم للنبي صلى الله عليه وسلم، من رواية أسامة بن شريك أنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حوله كأنما على رءوس الطير)(2).
__________
(1) بحار الأنوار: (13/340), تفسير الإمام العسكري: (ص:31)، تأويل الآيات: (ص:411).
(2) بحار الأنوار: (17/32).(31/17)
وهذا عروة بن مسعود حين وجهته قريش عام القضية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى من تعظيم أصحابه له، وأنه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه وكادوا يقتتلون(1) عليه، ولا يبصق بصاقاً ولا يتنخم نخامة إلا تلقوها بأكفهم فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم ولا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له، فلما رجع إلى قريش قال: (يا معشر قريش، إني أتيت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قومه قط مثل محمد في أصحابه)(2).
وعن أنس: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل)(3).
وفي حديث: (فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً القرفصاء أرعدت من الفرق هيبة له وتعظيماً)(4).
وفي حديث المغيرة: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرعون بابه بالأظافر)(5).
وقال البراء بن عازب رضي الله عنه: (لقد كنت أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمر، فأؤخره سنين من هيبته.. ثم قال رضي الله عنه: واعلم أن حُرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم كما كان حال حياته، وذلك عند ذكره صلى الله عليه وسلم، وذكر حديثه وسنته وسماع اسم سيرته ومعاملة آله وعترته، وتعظيم أهل بيته وصحابته)(6).
فهل بلغ أسماعكم أو وقعت أعينكم على مثل هذا الأدب والتوقير؟ فيالها من دلالات حب من الصحابة رضي الله عنهم لسيد البشر صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: ثناء الثقلين على الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم:
__________
(1) وفي الأصل: يقتلون.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.(31/18)
من بعد أن تبين لنا كيف فاض المدح والثناء على الصحب الكرام، جاء التخصيص والتقييد على طائفة منهم وهم الخلفاء الراشدين الثلاثة الأول.
فخص الثقلان (كتاب الله وعترته آل البيت) بثنائهم وكريم مدحهم الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم، فما ذُكر في كتاب الله من ثناء على الصحابة فالخلفاء الثلاثة داخلون فيه من باب أولى، وأما عترة آل البيت فقد نال الخلفاء الثلاثة من ثنائهم الشيء الكثير لتميزهم وانفرادهم بخصائص لم تتوفر في غيرهم من الصحابة، وللعلاقة الوطيدة بين الخلفاء الثلاثة وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت أشهر من نار على علم.
فقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وحفصة ابنتي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، بل لم يتزوج هاشمية وله إحدى عشرة امرأة، وزوج ابنتيه: رقية وأم كلثوم لعثمان بن عفان(1) وزوج الإمام علي عليه السلام ابنته أم كلثوم لعمر بن الخطاب(2)، وسمى أولاده بأسمائهم وكذا أبناؤه(3).
ويمكن أن يستدل على حسن علاقة بعضهم ببعض، وعلى ما بينهم من مودة ومحبة وطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما يظهر هذا جلياً لمن صلح قلبه، وزالت غشاوة التعصب عن بصره، وقلَّب بصره في كتب التاريخ بأمور كثيرة وروايات عدة.
ولقد اكتفيت ببعض الروايات التي ساقها العلماء في كتبهم عن الأئمة عليهم السلام والدالة على هذا الثناء.
قال الإمام علي عليه السلام: (ولعمري إن مكانهما في الإسلام لعظيم، وإن المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد، رحمهما الله وجزاهما بأحسن ما عملا)(4).
وقال عليه السلام مثنياً على خلافة الثلاثة، وعلى من اختارهم:
__________
(1) انظر بحار الأنوار: (22/202)، إعلام الورى: (ص:141).
(2) انظر الكافي: (6/115)، مرآة العقول: (21/199).
(3) انظر: (ص:89) من هذا الكتاب.
(4) انظر وقعة صفين: (ص:88)، شرح نهج البلاغة: (15/76).(31/19)
(إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضا، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتِّباع سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى)(1).
وقال الإمام علي عليه السلام مثنياً على عمر بن الخطاب: (لله بلاء فلان! فلقد قوّم الأود، وداوى العمد، وأقام السُنّة، وخلف الفتنة، ذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها، وسبق شرها، أدى إلى الله طاعته، واتقاه بحقه)(2).
وقال أيضاً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في حياته، حين شاوره في الخروج إلى غزو الروم: (إنك متى تَسِرْ إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة -ستر ووقاية- دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً مجرباً واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى كنت رِدءاً للناس ومثابة للمسلمين)(3).
وتجاوز التقدير من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما حتى بعد وفاتهما بوقت طويل، حيث إنهم مضوا على هديهما ولم يغيروا شيئاً أمرا به، بل كانوا ينهلون من علمهما وفتاواهما رضي الله عنهما، ودليل ذلك:
ما قاله الإمام علي عليه السلام حين سُئِل في رد فدك -وكان حينئذٍ الخليفة-: (إني لأستحي من الله أن أرد شيئاً منع منه أبو بكر، وأمضاه عمر)(4).
__________
(1) نهج البلاغة: (ص:366)، البحار: (33/76).
(2) نهج البلاغة: (ص:350).
(3) نهج البلاغة: (ص:192)، بحار الأنوار: (31/135).
(4) شرح نهج البلاغة: (16/252).(31/20)
وقد حث الإمام محمد الباقر عليه السلام شيعته بأن يفعلوا مثل ما فعل، حين تعلم واقتدى بأبي بكر الصديق، وذلك عندما سُئل عن جواز حلية السيف، فقال: نعم، قد حلَّى أبو بكر الصديق سيفه بالفضة! فقال (أي: السائل): أتقول هذا؟ فوثب الإمام عن مكانه، فقال: (نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل له: الصديق فلا صدّق الله قوله في الدنيا والآخرة)(1).
فهؤلاء آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهم أقرب الناس عهداً بالشيخين، لم يفتهم ما عملا ولا غاب عنهم ما فعلا, ألا تكفينا شهادتهم ورأيهم في أولئك النفر، أم نريد هدياً وقولاً غير هديهم وقولهم عليهم السلام ؟!!
ثالثاً: ثناء الثقلين على المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم:
فضّل الله سبحانه وتعالى المهاجرين والأنصار على سائر الصحابة رضي الله عنهم، وذلك لسبقهم في الاستجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام، ودخولهم فيها، وتحملهم الأذى لأجلها.
وفضّل الله تبارك وتعالى المهاجرين على الأنصار؛ لأن المهاجرين جمعوا بين الهجرة والنصرة، وقد تركوا أهلهم وأموالهم وأوطانهم وخرجوا إلى أرض هم فيها غرباء طالبين فقط الأجر ونصرة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما الأنصار فقد أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم في بلادهم، فنصروه وقسموا أموالهم ونساءهم، نصرة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد شهد الثقلان (كتاب الله وعترة النبي صلى الله عليه وسلم) على فضلهم والرضا عنهم وتتابعت واستفاضت الآيات الكريمة الموضحة لحال الصحابة، المبينة لفضلهم الكبير ورضا رب العالمين عنهم، وتنوعت عبارات الأئمة من آل البيت عليهم السلام المفسرة للآيات في هذا، ومما جاء في ذلك:
* ثناء القرآن الكريم على المهاجرين والأنصار:
__________
(1) كشف الغمة: (2/147).(31/21)
قال تعالى: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)) [الحشر:8-9].
قال الشيخ محمد باقر الناصري:
(((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ)) إلى المدينة هرباً من مكة ومن غيرها ((أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ)) جاءوا ((يَبْتَغُونَ)) يطلبون ((فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)) أي: وينصرون دين الله، ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ)) يعني: المدينة حيث سكنها الأنصار قبل المدينة, أو قبل إيمان المهاجرين وهم أصحاب ليلة العقبة سبعون رجلاً بايعوا رسول الله على حرب الأبيض والأحمر، ((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)) وقد أحسنوا إلى المهاجرين، وأسكنوهم دورهم، وأشركوهم في أموالهم، ولا يجدون في قلوبهم حسداً ولا غيظاً مما أعطي المهاجرون دونهم من مال بني النضير، ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) أي: مع فقرهم وحاجتهم ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) أي: ومن يدفع بخل نفسه ((فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)) الناجحون الفائزون بثواب الله)(1).
وقال الشيخ محمد السبزواري النجفي:
__________
(1) تفسير مختصر مجمع البيان، وانظر: تفسير الكاشف، المنير: (سورة الحشر: 8-10).(31/22)
((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ)) الذين تركوا مكة وقصدوا المدينة هجرة نبيهم صلى الله عليه وسلم ومن دار الحرب إلى دار السلام، وهم ((الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ)) التي كانوا يملكونها ((يَبْتَغُونَ)) يطلبون.. ((فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)) راغبين بفضله ورضاه ورحمته.. ((وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ)) أي: يهاجرون نصرة لدينه وينصرون.. ((وَرَسُولَهُ)) بتقويته على أعدائه ((أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ)) فعلاً؛ لأنهم قصدوا نصر الدين، واستجابوا لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن مدح أهل مكة وغيرها من المهاجرين مدح الأنصار من أهل المدينة؛ لأنهم طابت أنفسهم من الفيء فرضوا تقسيمه على المهاجرين المحتاجين، فقال.. ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ)) أي: سكنوا المدينة، وهي دار الهجرة التي تبوأها الأنصار قبل المهاجرين ((وَالإِيمَانَ)) إذ لم يؤمنوا قبل المهاجرين، بل آمنوا بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم إلا قليل منهم.
أما عطف الإيمان على الدار في التبوّء، فهو عطف ظاهري لا معنوي؛ لأن الإيمان لا يتبوأ، وتقديره وآثروا الإيمان على الكفر ((مِنْ قَبْلِهِمْ)) يعني: قبل قدوم المهاجرين إليهم حين أحسنوا إليهم، بأن أسكنوهم بيوتهم وشاركوهم في أموالهم ((وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا)) أي: لم يكن في قلوبهم حزازة ولا غيظ ولا حسد بسبب ما أخذ المهاجرون من الفيء الذي استولوا عليه من مال بني النضير، بل طابت به نفوسهم وكانوا ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ)) أي: يقدمون المهاجرين ويفضلونهم على أنفسهم في العطاء ((وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) أي: ولو كانت بهم حاجة وفقر، وذلك رأفة بإخوانهم وطلباً للأجر والثواب ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) أي: الفائزون بثواب الله تعالى الرابحون لجنته ونعيمها (1).
__________
(1) تفسير الجديد (سورة الحشر: 8-10).(31/23)
وقال تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) [الأنفال:74-75].
قال الشيخ محمد السبزواري النجفي:
((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا)) أي: الذين صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جاء به من عند الله، وأيقنوا بوجود الله ووحدانيته، وتركوا ديارهم فراراً بدينهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربوا معه لينصروا دينه وشريعته ((أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً)) [الأنفال:74] هم المصدقون فعلاً، قولاً وعملاً، وقد حققوا إيمانهم حتى برهنوا أنه إيمان حق، فهؤلاء ((لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)) أي: أعد الله لهم (مغفرة): تجاوزاً عن سيئاتهم، ورزقاً كريماً: واسعاً عظيماً لا ينغصه شيء من المكدرات... ((وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا)) [الأنفال:75] أي: الذين آمنوا بعد فتح مكة، وقيل: هم الذين آمنوا بعد إيمانكم ((وَهَاجَرُوا)) إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرتكم الأولى ((وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ)) فقاتلوا الكفار والمشركين بجانبكم ((فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ)) فهم من جملتكم إيماناً وهجرةً وجهاداً وحكماً في الموالاة والميراث والنصرة، رغم تأخر إيمانهم وهجرتهم(1).
وقال تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ)) [التوبة:20].
__________
(1) تفسير الجديد، وانظر: الصافي، الوجيز، تقريب القرآن (سورة الأنفال:74).(31/24)
قال السيد محمد حسين فضل الله:
((الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا)) وتحملوا ما تحملوه من هجرة الوطن، إلى حيث يملك الإنسان حرية الحركة في الدعوة والجهاد، ويبتعد عن مواطن الضغط الذي قد يعرضه للفتنة في دينه، وذلك دليل الإخلاص العظيم لله فيما يمثله من التمرد على كل العواطف الذاتية والخصائص الحميمة، من أجل الله وحده، والذين جاهدوا ((فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ)) فيما بذلوه من أموالهم للدعوة وللجهاد، وفيما واجهوه من أخطاء مادية ومعنوية في هذا الاتجاه، حيث فقدوا أي معنى للجانب الشخصي فيما يعيشون، وتحولوا إلى عنصر متحرك في نطاق الجوانب العامة المتصلة بالله، وبالحياة، أولئك ((أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ)) من كل النماذج الأخرى التي قد تعمل الخير في المجالات المحدودة ((وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ)) برحمته ورضوانه وجنته(1).
وقال تعالى: ((رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)) [آل عمران:193-195].
قال السيد عبد الله شبر:
__________
(1) تفسير من وحي القرآن، وانظر: التبيان، تقريب القرآن (سورة التوبة:20).(31/25)
((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ الثَّوَابِ)) ما طلبوا ((أَنِّي)) بأني ((لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى)) بيان لعامله ((بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)) بجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد أو الإسلام ((فَالَّذِينَ هَاجَرُوا)) الشرك أو أوطانهم أو قومهم للدين ((وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي)) من أجل ديني وبسببه ((وَقَاتَلُوا)) المشركين.. ((وَقُتِلُوا)) واستشهدوا، والواو لا توجب الترتيب، إذ المراد لما قيل لهم قاتلوا.. ((لأكَفِّرَنَّ)) لأمحون ((وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)) يستحقونه منه.. ((وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)) على الأعمال لا يقدر عليه أحد سواه(1).
فتمعن -أيها القارئ المحب لآل البيت- ما سبق، فهو نزر يسير مما جاء في فضل الصحابة عموماً رضي الله عنهم.
* ثناء النبي صلى الله عليه وسلم والعترة على المهاجرين والأنصار:
جاءت الروايات الصحيحة عن آل البيت عليهم السلام الدالة على فضل المهاجرين والأنصار مستفيضة، أسوق منها الآتي:
عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة، والطلقاء من قريش، والعتقاء من ثقيف، بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة)(2).
__________
(1) تفسير شبر (سورة آل عمران: 195).
(2) أمالي الطوسي: (ص:268), بحار الأنوار: (22/311).(31/26)
وفي الخبر عن كعب بن عجرة: (إن المهاجرين والأنصار وبني هاشم اختصموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أينا أولى به وأحب إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: أما أنتم يا معشر الأنصار فإنما أنا أخوكم، فقالوا: الله أكبر! ذهبنا به ورب الكعبة! قال صلى الله عليه وسلم: وأما أنتم معشر المهاجرين فإنما أنا منكم، فقالوا: الله أكبر! ذهبنا به ورب الكعبة! قال صلى الله عليه وسلم: وأما أنتم يا بني هاشم فأنتم مني وإلي. فقمنا وكلنا راض مغتبط برسول الله صلى الله عليه وسلم)(1).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إني تارك فيكم الثقلين إلا أن أحدهما أكبر من الآخر... وقال: ألا إن أهل بيتي عيني التي آوي إليها، ألا وإن الأنصار ترسي فاعفوا عن مسيئهم، وأعينوا محسنهم)(2).
وهذه النصوص المباركة لم تكن غائبة عن أذهان آل البيت، بل إنهم وعوها وحفظوها، ومن ذلك ما كان من مدح الإمام علي عليه السلام للمهاجرين في جوابه لمعاوية، فيقول: (فاز أهل السبق بسبقهم، وذهب المهاجرون الأولون بفضلهم)(3).
وقال عليه السلام: (وفي المهاجرين خير كثير نعرفه، جزاهم الله خير الجزاء)(4).
وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبراً من الأرض استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم)(5).
__________
(1) المناقب: (3/331)، بحار الأنوار: (22/312).
(2) بحار الأنوار: (22/311).
(3) نهج البلاغة: (ص:374), بحار الأنوار: (33/104)، وقعة صفين: (ص:149).
(4) وقعة صفين: (ص:88)، بحار الأنوار: (33/110).
(5) بحار الأنوار: (19/31)، مجموعة ورام: (1/33)، تفسير الصافي: (1/490)، تفسير نور الثقلين: (1/541).(31/27)
وما سبق غيض من فيض، وقطرات من بحر عظيم يفيض على القلوب فيكون بلسماً شافياً ونوراً هادياً، يحيا به من كان غافلاً، أو أراد طائفة يقتدى بفضائلها ومناقبها، ولله در الآل عليهم السلام حين أثنوا على الصحابة رضي الله عنهم ولم يستثنوا من هذا الثناء والمديح أي أحد منهم.
رابعاً: ثناء الثقلين على أهل بدر رضي الله عنهم:
من بعد المديح العام للصحابة رضي الله عنهم ثم بقسميهم: المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم جاء التحديد لفئات محددة من الصحابة، لتميزهم بعمل عظيم أو سبب خاص فحازوا مزيد فضل عن غيرهم.
فقد جعل الله سبحانه وتعالى الأفضلية والمراتب العظيمة في الصحابة لمن شهد معركة بدر من المسلمين، وكانوا حينئذٍ قلة، ولم يستعدوا لقتال أو مواجهة ضد صناديد قريش الكفار حين أتاهم المنادي لمواجهة قافلة الكفار.
لكن تحقق النصر المبين بفضل الله ومنته على أيدي هؤلاء القلة، الذين هيبوا العرب وأخافوهم، وجعلت هذه الغزوة لهم منزلة عظيمة بين القبائل العربية.
وقد اطَّلع الله على أعمال هؤلاء الأطهار، وبشرهم بأنهم لن يموتوا على الكفر، وأن ذنوبهم مغفورة لهم بإذنه سبحانه.
وهذا ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما أراد أن يضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه فقال له: (وما يدريك -يا عمر- لعل الله اطلع على أهل بدر فغفر لهم، فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غُفِرَ لكم)(1).
وهذه تزكية وشهادة أبدية من الله سبحانه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لأهل بدر وأنه راض عنهم إلى يوم القيامة.
خامساً: ثناء الثقلين على من أنفق وقاتل قبل الفتح وبعده:
من بعد ثناء الله على أهل بدر رضي الله عنهم، لمسارعتهم إلى القتال مع النبي صلى الله عليه وسلم من غير دعوة وميعاد، اتسعت دائرة الثناء لتشمل أولئك الذين أنفقوا وقاتلوا قبل الفتح.
__________
(1) انظر: بحار الأنوار: (21/92)، شرح نهج البلاغة: (17/89).(31/28)
والمسلم يؤمن بأفضلية أولئك الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا من الصحابة رضي الله عنهم، على من أنفق من بعد الفتح وقاتل.
والفتح المقصود به (صلح الحديبية)، كما قال تعالى: ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)) [الفتح:1].
والحديبية: بئر قرب مكة، وقعت عندها بيعة الرضوان، وصلح الحديبية تحت شجرة كانت هناك، حينما صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن دخول مكة فبايعوه على الموت.
وخُص أصحاب الفتح أو صلح الحديبية بهذه الخصيصة من الفضل وعلو المكانة؛ للحاجة القاهرة التي ألمت بالنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في وقتها إلى العدد والعدة في ظروف عصيبة، وكان الصلح وما جرى بعده من مبايعة بين الصحابة رضوان الله عليهم والنبي صلى الله عليه وسلم، فتحا مبينا للنتائج الباهرة التي تبعته من بعد ذلك.
وقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، وكان عددهم يتجاوز ألف صحابي، ولعدم حضور عثمان في المبايعة- نتيجة ذهابه للوساطة من قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة - ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بإحدى يديه الشريفتين على الأخرى مبايعة لعثمان بن عفان رضي الله عنه.
لكن بعض المسلمين قالوا: طوبى لعثمان قد طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وأحلّ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كان ليفعل، فلما جاء عثمان رضي الله عنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطفت بالبيت؟ فقال: ما كنت لأطوف بالبيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطف به)(1).
__________
(1) انظر: الكافي: (8/325)، بحار الأنوار: (20/365).(31/29)
فسُميت هذه البيعة فتحاً، لما حصل بسببها وبعدها من الخير الكثير والنصر المبين للمسلمين، وقد أثنى الله تبارك وتعالى على هؤلاء الأطهار، وزكى ظاهرهم وباطنهم، فقال سبحانه: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)) [الفتح:18].
قال الشيخ أمين الدين أبو علي الطبرسي:
(إنما سميت بيعة الرضوان بهذه الآية، (لأنهم) (1) بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية تحت الشجرة المعروفة وهي شجرة السَّمُرة ((فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ)) من صدق النية في القتال والصبر والوفاء، وكان عددهم ألفاً وخمسمائة أو وثلاثمائة ((فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ)) والضمير للمؤمنين, والسكينة هي اللطف المقوي لقلوبهم كالطمأنينة ((وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)) يعني: فتح خيبر(2).
وقال تعالى: ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) [الحديد:10].
قال الشيخ محمد السبزواري النجفي:
__________
(1) لأنهم: زيادة ليتضح المعنى.
(2) تفسير جامع الجوامع، وانظر: مقتنيات الدرر، تقريب القرآن (سورة الفتح:18).(31/30)
(((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ)) أي: لا يتساوى ((مَنْ أَنْفَقَ)) من ماله في سبيل الله ((مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ)) الكفار, فإن ((أُوْلَئِكَ)) الفاعلين لذلك ((أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا)) أي: بعد فتح مكة أعزها الله، فالنفقة على جيش الإسلام مع الجهاد قبل فتحها، أعظم ثواباً عند الله من النفقة والجهاد بعده ((وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)) أي: وعد هؤلاء وهؤلاء بالجنة وإن تفاضلوا في درجاتها ((وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) أي أنه عليم بكل ما تفعلونه ولا يخفى عليه شيء من حالكم ومقالكم وإنفاقكم وجهادكم، بل هو أعلم بجميع تصرفاتكم ونياتكم)(1).
وقد حكم الله تبارك وتعالى لمن وعد بالحسنى بالجنة بقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ)) [الأنبياء:101-103].
قال أبو جعفر الطوسي:
(((إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى)) يعني: الوعد بالجنة...ثم قال: وأخبر تعالى أن من هذه صفته مبتعد عن النار ناءٍ عنها)(2).
__________
(1) تفسير الجديد، وانظر: تفسير الصافي، شبر، مقتنيات الدرر, الجوهر الثمين: في تفسير (سورة الحديد:10).
(2) تفسير التبيان، وانظر: تفسير الجديد: في تفسير (سورة الأنبياء:101).(31/31)
وكما كان الحال في عسر وضيق على الصحابة قبل وأثناء صلح الحديبية، تميزت غزوة تبوك ببيان الحال الكاشف للمنافقين عن المخلصين في المدينة، وفي فترة من الوقت خدّاعة لقلوب بعض الناس، حيث جاء القرآن جلياً في ذلك، فقال تعالى عن الصحابة رضي الله عنهم الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: ((لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) [التوبة:117].
قال السيد محمد تقي المدرسي:
((لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)) توبة الله على النبي تعني المزيد من بركاته عليه، ولكن بالنسبة إلى المهاجرين والأنصار قد تعني أيضاً غفران ذنوبهم، ولكن بماذا وكيف غفرت ذنوبهم؟بأنهم اتبعوا الرسول في ساعات الشدة، ولأن ذلك كان عملاً كبيراً، والله سبحانه يغفر بسبب الحسنات الكبيرة الذنوب الصغيرة، لذلك أكدت الآية على هذه الحقيقة ((الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ)) فالصبر في ساعة العسرة عمل عظيم يغفر الله تعالى بسببه سائر الأعمال الصغيرة)(1).
__________
(1) تفسيرمن هدي القرآن، وانظر: تفسير الجديد، من وحي القرآن (سورة التوبة:117).(31/32)
وقال الشيخ الطبرسي: (تهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب لغزو الروم، وكتب إلى قبائل العرب ممن دخل في الإسلام وبعث إليهم الرسل يرغبهم في الجهاد والغزو... فلما تهيأ للخروج قام خطيباً فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ورغب في المواساة وتقوية الضعيف والإنفاق، فكان أول من أنفق فيها عثمان بن عفان، جاء بأواني من فضة فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجهز ناساً من أهل الضعف، وهو الذي يقال: إنه جهز جيش العسرة، وقدم العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنفق نفقة حسنة وجهز، وسارع فيها الأنصار، وأنفق عبد الرحمن والزبير وطلحة، وأنفق ناس من المنافقين رياء وسمعة)(1).
فكل ما سبق من الآيات والروايات الباهرة تكفي وتوضح شأن أولئك النفر الذين بذلوا كل شيء في نصرة دين الله سبحانه وتعالى، وإعلاءٍ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن تتبع أقوال العلماء المحبين لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم الآنفة، ونظر بعين التعقل وبنور الإنصاف، استبان له فضل تلك العصبة المباركة ذات الأفعال المخلصة المستضيئة بنور النبوة، لتمسكهم بسنة حبيبهم المصطفى صلى الله عليه وسلم، فشهد لهم الثقلان بهذه المنزلة العالية.
المبحث الثالث:
كيف ظهرت الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم ؟
بعد أن بيّنا بفضل الله الروايات الدالة على فضل الصحابة رضي الله عنهم والمجلية لكبير شأنهم عند الأئمة عليهم السلام والعلماء، وذلك من خلال الآيات القرآنية، والروايات المنقولة عن العترة عليهم السلام، يتبادر إلى أذهان فئة من المسلمين تساؤل هام: كيف إذاً وقع التفرق والخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم وهم أهل الفضل والاتباع لدين الله؟
أولاً: أول من أشعل الفتنة بين المسلمين:
__________
(1) انظر إعلام الورى: (ص:121), بحار الأنوار: (21/244).(31/33)
لعل العيش الهنيء الذي ساد مجتمع الصحابة رضي الله عنهم، وكثرة الفتوحات المباركة والانتصارات العظيمة على أعداء الله، ابتداءً بطرد اليهود من المدينة ثم من الجزيرة وتبعه بفترة تقويض عرش فارس، ودخول جماعات جديدة في دين الإسلام والعيش مع المسلمين، وهم أهل فكر وأعراف سابقة لم ينزعوها من أذهانهم،أوجد تربة خصبة لبذر الشقاق والفرقة في صفوف الأمة المسلمة.
ومع ما سبق بيانه من رغد العيش وكثرة الفتوحات فإن كل ذلك لم يناسب أهل الأهواء، فحاولوا جاهدين بذر وسائل الفرقة في هذا المجتمع المبارك المثالي، واستماتوا في إشعال نار التفرق والابتداع في الدين الإسلامي من خلال تفريق صفوف الصحابة رضي الله عنهم.
فكانت أول مداخل الشر أشعال نار الفتنة وزرع بذور الشبهة من خلال إغواء النفوس المريضة، فتم ابتداع قضية الطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يوهن جمع الصحابة ويفرق صفوف المسلمين ويضعف قوتهم.
فكان الذي تولى كبره في هذا الأمر، ورفع راية ذلك المكر الخبيث، عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أثار الناس ابتداءً بالخروج لقتل خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وبعد ذلك قام بالكذب على لسان الإمام علي عليه السلام، ونسب إليه جملة من الأقوال والمعتقدات اليهودية، وروجها وأشاعها بين كثير من قاصري النظر وضعاف الإيمان ومحبي الفتن، فنشر بينهم الغلو والألوهية في علي عليه السلام، وادّعى أن له خلافة ووصية قد غصبت منه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من قبل الصحابة رضي الله عنهم.
ولما تطاير شرر هذه البدع الخطيرة بين الناس، وزين الشيطان لهم أعمالهم، تناهت أقوالهم إلى سمع وعلم أمير المؤمنين علي عليه السلام، فغضب ولم يتهاون ولم يغض الطرف عن هذه المقولات الشنيعة، فما كان منه إلا أن حفر الأخاديد وأشعل فيها النيران وهدد بإحراق كل من لم يتراجع عن هذا الافتراء الخطير، فأحرق منهم عدداً، وأجلى قوماً آخرين.(31/34)
وقد نقل المجلسي في بحاره أن رجلاً قال لأمير المؤمنين عليه السلام: (إن على باب المسجد قوماً يزعمون أنك ربهم! فدعاهم فقال: ويلكم! إنما أنا عبد الله مثلكم، آكل الطعام، وأشرب الشراب، فاتقوا الله وارجعوا.
فأتوه في اليوم الثاني والثالث، فقالوا مثل ذلك، فقال لهم عليه السلام: والله إن تبتم وإلا قتلتكم أخبث قتلة , فدعا قنبراً وأتى بقدوم، وحفر لهم أخدوداً بين باب المسجد والقصر، فدعا بالحطب فطرحه والنار فيه، وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعون! فأبوا، فقذف بهم فيها حتى احترقوا.
وقال بعض أصحابه: لم يحرقهم، وإنما أدخن عليهم. ثم قال عليه السلام:
لما رأيت الأمر أمر منكرا ... أوقدت ناري ودعوت قنبرا
ثم احتفرت حفراً وحفرا ... وقنبر يحطم حطماً منكرا(1))
فحذار أن يذهب بك التفكير -أيها القارئ الكريم- إلى أن هذه الشخصية التي حاكت المؤامرة الخبيثة كانت من نسج الخيال، أو جاءت من وهن المقال، بل كانت متواجدة في الساحة الإسلامية، تدبر وتخطط، لذا لم يغفل عن بيان حالها العلماء، وكشفوا عوارها، فذكروا دورها الخبيث في تفريق صف الأسرة الإسلامية الواحدة، ونشر المفاسد الخطيرة في أذهان العوام.
وقد ترجم شخصية عبد الله بن سبأ كثير من العلماء، منهم:
1- سعد بن عبد الله الأشعري القمي (301 هـ): فقال: هذه الفرقة تسمى السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ، وهو عبد الله بن وهب الراسبي الهمداني، وساعده على ذلك عبد الله بن حرسي وابن أسود، وهما من أجلّة أصحابه، وكان أول من أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم(2).
__________
(1) بحار الأنوار: (34/414).
(2) المقالات والفرق: (ص:20).(31/35)
2- النوبختي (310هـ): فقال: أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان ممن أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم، وقال: إن علياً عليه السلام أمر بذلك فأخذه علي فسأله عن قوله هذا، فأقر به، فأمر بقتله، فصاح الناس إليه: يا أمير المؤمنين! أتقتل رجلاً يدعو إلى حبكم أهل البيت، وإلى ولايتك والبراء من أعدائك؟ فصيره إلى المدائن، إلى أن قال:...ولما بلغ عبد الله بن سبأ نعي الإمام علي بالمدائن قال للذي نعاه: كذبت، لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة، وأقمت على قتله سبعين عدلاً لعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل، ولا يموت حتى يملك الأرض(1).
3- الكشي (369هـ): فقال: عن أبان بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لعن الله عبد الله بن سبأ أنه ادعى الربوبية في أمير المؤمنين عليه السلام، وكان -والله- أمير المؤمنين عليه السلام عبداً لله طائعاً، الويل لمن كذب علينا، وإن قوماً يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، نبرأ إلى الله منهم، نبرأ إلى الله منهم.
وقال أيضاً: ذكر بعض أهل العلم أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم، ووالى علياً عليه السلام، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصي موسى بالغلو، فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي عليه السلام مثل ذلك، وكان أول من أشهر القول بفرض إمامة علي وأظهر البراءة من أعدائه، وكاشف مخالفيه وكفرهم(2).
4- شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي (460هـ): حيث ترجم في رجاله عبد الله بن سبأ في باب (أصحاب علي عليه السلام) وقال: عبد الله بن سبأ الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلو.
__________
(1) فرق الشيعة: (ص:22).
(2) انظر: رجال الكشي: (ص:107، 108).(31/36)
وجاء في حاشية الكتاب: عبد الله بن سبأ - بالسين المهملة المفتوحة والباء المنقطة تحتها نقطة - غالٍ ملعون، حرقه أمير المؤمنين علي عليه السلام بالنار، وكان يزعم أن علياً عليه السلام إله وأنه نبي(1).
5- العلامة علي القهبائي (1016هـ): قال في رجاله: عبد الله بن سبأ الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلو(2).
6- العلامة الأربلي (1101هـ): قال: غال ملعون... وإنه كان يزعم ألوهية علي ونبوته(3).
7- ميرزا النوري الطبرسي (1320هـ) فقد ذكر في كتابه مستدرك الوسائل في باب (حكم الغلاة والقدرية) رواية عن عمار الساباطي، قال: قدم أمير المؤمنين عليه السلام المدائن، فنزل بإيوان كسرى، وكان معه دلف بن مجير منجّم كسرى، فلما زال الزوال قال لدلف: قم معي... إلى أن قال: ثم نظر إلى جمجمة نخرة، فقال لبعض أصحابه: خذ هذه الجمجمة! وكانت مطروحة، وجاء إلى الإيوان وجلس فيه، ودعا بطست وصب فيه ماء، وقال له: دع هذه الجمجمة في الطست، ثم قال عليه السلام: أقسمت عليك يا جمجمة أخبريني من أنا؟ ومن أنتِ؟ فنطقت الجمجمة بلسان فصيح، وقالت: أما أنت فأمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وأما أنا فعبد الله، وابن أمة الله: كسرى أنوشروان , فانصرف القوم الذين كانوا معه من أهل ساباط إلى أهاليهم، وأخبروهم بما كان وبما سمعوه من الجمجمة، فاضطربوا واختلفوا في معنى أمير المؤمنين عليه السلام، وحضروه وقال بعضهم فيه مثل ما قال النصارى في المسيح، ومثل ما قال عبد الله بن سبأ وأصحابه , فقال له أصحابه: فإن تركتهم على هذا كفر الناس! فلما سمع ذلك منهم، قال لهم: ما تحبون أن أصنع بهم؟ قال: تحرقهم بالنار، كما أحرقت عبد الله بن سبأ وأصحابه(4).
__________
(1) رجال الطوسي: (ص:51).
(2) رجال القهبائي: (3/284).
(3) جامع الرواة: (1/485).
(4) مستدرك الوسائل: (18/168) , مدينة المعاجز: (1/226).(31/37)
فهذا صنيع العلماء غفر الله لهم في بيان حقيقة المفسدين وأقوالهم تجاه الغلاة الذين وضعوا في هذا الشرع المبارك الكذب والسم والإفراط، فهل نعي هذا الحق الواضح وما قاله الأولون في حق أمير المؤمنين؟
ثانياً: بداية الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم:
إن وقوع الفتن والقتال بين صحابة النبي صلى الله عليه وسلم إنما حصل بعد الانتهاء من المؤامرة التي اوقدها عبد الله بن سبأ اليهودي نتيجة نشره الحقد وبثه السموم بين الجهلة وضعاف الإيمان من مسلمة الأمصار, وقد أتت هذه المؤامرات بثمارها الخبيثة والتي قطفها الأوباش بالخروج على خليفة المسلمين عثمان بن عفان وقتله في داره.
وازداد الأمر سوءاً بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه، فانتشرت جراثيم الشر في صفوف المسلمين لتنفث سمومها، ذلك أنه لما بويع علي رضي الله عنه خليفة على المسلمين، اندس هؤلاء الخوارج السبئيون بين صفوف أهل المدينة وجيش المسلمين، ولم يكن بمقدور الإمام علي رضي الله عنه في وقتها إخراجهم وتصفيتهم، والأخذ بالثأر منهم في قتلهم لخليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه، خشية تفاقم الفتن والقتلى بين أهل المدينة، مثلما فعل الخليفة المظلوم عثمان رضي الله عنه.(31/38)
ولما طالبه أهل المدينة بمعاقبة من أجلب على عثمان بن عفان رضي الله عنه الشر، قال لهم الإمام علي عليه السلام: (يا إخوتاه! إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف لي بقوة والقوم المجلبون على حد شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم، وهاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، والتفت إليهم أعرابهم، وهم خلالكم ما شاءوا، وهل ترون موضعاً لقدرت على شيء تريدونه؟ إن هذا الأمر أمر جاهلية، وإن لهؤلاء القوم مادة - أي: عوناً - إن الناس من هذا الأمر - إذا حرك- على أمور: فرقة ترى ما ترون وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا ذاك، فاصبروا حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق مسمحة -أي: ميسرة- فاهدءوا عني، وانظروا ماذا يأتيكم به أمري، ولا تفعلوا فعلة تضعضع قوة وتسقط منه وتورث وهناً وذلة وسأمسك الأمر ما استمسك، وإذا لم أجد بداً فآخر الدواء الكي)(1).
منذ تلك اللحظات بدأت الفتن تتغلغل بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمفضية إلى انقسامهم إلى طوائف، لما أنقسمت الآراء وتعددت الأجتهادات، فترى طائفة وجوب السرعة في الأخذ بالثأر من قتلة خليفة المسلمين عثمان بن عفان، وطائفة أخرى ترى وجوب التريث حتى يستتب الأمر لأمير المؤمنين، فاندس أهل الفساد والسوء بين تلك الأطراف المجتهدة.
ونتيجة لهذا التفرق لم يهدأ بال أهل الفساد من ترك الأمر على ما هو عليه، بل استغلوا كل مناسبة لتأجيج نار الفرقة والخلاف والنفخ في نار الفتنة والسوء فانتهزوا سانحة خروج طائفة من الصحابة من مكة إلى العراق، فأسرعوا بتهييج العواطف أن هؤلاء أرادوا الشر، وتفرقة صفوف الأمة.. ووقعت معركة الجمل.
معركة الجمل:
__________
(1) نهج البلاغة: (ص:243), بحار الأنوار (31/502).(31/39)
تشير الروايات التاريخية إلى أنه لم يخرج طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم ومن معهم من مكة إلى العراق مقاتلين، ولا داعين أو طامعين لنزع الخلافة من علي رضي الله عنه، بل خرجوا إرادة الإصلاح وحسم الخلاف، وتجميع المسلمين بتوحيد كلمتهم، والانتقام من قتلة خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه وإخراجهم من صفوف المسلمين في العراق، هذا ما ذكرته كتب التاريخ، ولم تكن معركة الجمل هي الأخيرة ولكن تبعتها بعد فترة معركة صفين.
ويمكن إجمال هذا الحدث الكبير في الآتي:
لما اقترب موعد الاتفاق بين جيش علي وجيش طلحة والزبير رضي الله عنهم على إخراج هؤلاء الخوارج من الجيش وقتلهم، وانزوى كل صف إلى معسكره، بعد هذا الأمر أبى أولئك الخوارج هذا التجمع المبارك والهدوء؛ لأنه اجتماع على قتلهم وقتالهم فسعوا في بث الفتنة بين الجيشين، وإشعال القتال بينهم بمؤامرة أخرى تكشف عن مكرهم وغدرهم، فدبروا المؤامرة ليلاً في قتلهم من كلا الجيشين أفراداً، حتى ظن كل من الجيشين غدر الآخر، وخفيت هذه المكيدة على الفريقين، فكانت سبباً في نشوب الحرب بين الصفين.
معركة صفين:
لم تكن معركة صفين مختلفة عن واقعة الجمل بأطرافها أو الغاية منها، لذا ذكر علماء التاريخ أن سبب الخلاف والقتال بين علي ومعاوية في صفين لم يكن بسبب أن لمعاوية طمعاً وتطلعاً للخلافة كما يدعي ويروج له الكثير من الكتاب.
فمعاوية لم يرفع إلى الخلافة رأساً، ولم يبايع له بها أحد من المسلمين، ولم يقاتل علياً على أنه خليفة، بل كان سبب الخلاف بين خليفة المسلمين علي بن أبى طالب وأمير الشام معاوية أنه لم يمتثل بما أمره به خليفة المسلمين من عزله من ولاية الشام والإقرار له بالخلافة.(31/40)
كان معاوية يريد إنفاذ القصاص في قتلة خليفة المسلمين المغدور به عثمان، وقد أشيع عند أهل الشام أن الخليفة علياً امتنع عن معاقبة وملاحقة قتلة عثمان عند توليه خلافة المسلمين، وبدلاً من ذلك قاتل أهل الجمل، وترك أيضاً المدينة وسكن الكوفة وهي معقل قاتلي عثمان، وأن في جيشه من هو متهم في قتل خليفة المسلمين السابق.
وحرصاً من أمير المؤمنين على توضيح الأمر، وإبطال المزاعم المنشورة، ولم ّشتات المسلمين، أرسل كتاباً لمعاوية، مبيناً فيه إثبات أحقية خلافته كما ثبتت خلافة من قبله مع تبرؤه من دم عثمان رضي الله عنه، فقال: (إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتِّباع سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى , ولعمري يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان، ولتعلمن أني كنت في عزلة عنه إلا أن تتجنى، فتجنّ ما بدا لك، والسلام)(1).
فلما نشب القتال بين صفوف المسلمين، وسالت الدماء فيما بينهم، انتهت المعركة برفع جيش معاوية رضي الله عنه المصاحف، طالبين التحكيم فيما بينهم بما يرضي الله عز وجل فرضي خليفة المسلمين علي عليه السلام بهذا الطلب ورجع إلى الكوفة، ورجع معاوية رضي الله عنه إلى الشام بشروط اتفق عليها الطرفان.
__________
(1) نهج البلاغة: (ص:366)، بحار الأنوار: (33/76).(31/41)
وقد قصّ أمير المؤمنين علي عليه السلام للأمصار ما جرى بينه وبين أهل صفين، فقال: (وكان بدء أمرنا أنَّا التقينا والقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربنا واحد، ونبينا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله ولا يستزيدوننا، والأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان، ونحن منه براء)(1).
ولم يكن الأمر سرّاً، أو ما جرى بين الصحابة في صفين في خفاء عن المسلمين، أو عن أحد من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان الحدث جلياً معلوماً تتداوله ألسنة الأئمة فيما بينهم.
فقد روى الإمام جعفر الصادق عن أبيه: إن علياً عليه السلام كان يقول لأهل حربه: (إنا لم نقاتلهم على التكفير لهم، ولم نقاتلهم على التكفير لنا، ولكن رأينا أنَّا على الحق ورأوا أنهم على الحق)(2).
إن تلك الخلافات والفتن التي حدثت بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قتال فيما بينهم، مع بغي أحدهم على الآخر، وما حصل بينهم بعد ذلك من إصلاح وتحكيم بما يرضي الله عز وجل , ثم قبول كل من الطرفين بهذا الحكم، إنما يذكرنا بقول الله تبارك وتعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) [الحجرات:9-10].
قال الشيخ محمد باقر الناصري في تفسيره:
__________
(1) نهج البلاغة: (ص:448)، بحار الأنوار: (33/306).
(2) قرب الإسناد: (ص:45)، بحار الأنوار: (32/324).(31/42)
((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)) أي: فريقان من المؤمنين قاتل أحدهما الآخر، ((فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) وابذلوا الوسع في إصلاحهما، ((فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى)) بأن طلبت ما لا يحق لها، وقاتلت ظالمة معتدية، فانصروا الفئة المظلومة ((فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي)) لأنها ظالمة، ((حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ)) حتى ترجع إلى طاعة الله وتترك البغي والظلم، فإن رجعت وتابت فعودوا لإجراء الصلح بينهما، ((بِالْعَدْلِ)) دون ميل أو جور ((وَأَقْسِطُوا)) أي: اعدلوا، ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)) في الدين فأصلحوا بين الفريقين وأعينوا المظلوم وادفعوا الظالم عن ظلمه(1).
والحرص على الإصلاح والسعي، وإلى لمّ شعث المسلمين كان رجاء أمير المؤمنين علي عليه السلام، وكذلك البعد عن كل ما يوقع البغضاء والفرقة في نفوس المسلمين، لهذا سعى أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى البعد عن كل ما يثير الأحقاد ويفرق الصفوف ومن ذلك: القول السيئ، فنهى من كان في جيشه عن لعن وشتم جيش معاوية بن أبي سفيان، مع حدوث القتال فيما بينهم.
__________
(1) تفسير مختصر مجمع البيان (3/308)، وانظر أيضاً: تفسير المعين، بيان السعادة، مقتنيات الدرر، الميزان، الكاشف في تفسير سورة الحجرات: (9-10).(31/43)
فعن عبد الله بن شريك قال: (خرج حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يظهران البراءة واللعن لأهل(1) الشام، فأرسل إليهما علي عليه السلام: أن كفّا عما يبلغني عنكما. فأتياه فقالا: يا أمير المؤمنين، ألسنا محقين؟ قال: بلى. قالا: أوليسوا مبطلين؟ قال: بلى. قالا: فلم منعتنا من شتمهم؟ قال: كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين يشهدون ويتبرءون، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم، فقلتم: من سيرتهم كذا وكذا، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق منهم من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به، كان هذا أحب إلي وخيراً لكم)(2).
وهذا النهي منه عليه السلام لم يكن لخاصة شيعته فقط، بل جهر بنهيه عليه السلام وأوصى جيشه بأكمله، قاصداً أن يعمم هذا النهي لكل زمان ومكان، فقال لجيشه في صفين أيضاً: (إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصَوَب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم)(3).
ما بعد استشهاد الإمام علي عليه السلام:
وبعدما قُتل أمير المؤمنين علي عليه السلام شهيداً على يد الخارجي الغادر ابن ملجم بويع لابنه الحسن عليه السلام بالخلافة على المسلمين، فما كان منه إلا أن جمع صفوف المسلمين، وتحققت فيه معجزة النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) وفي الأصل: من أهل الشام.
(2) مستدرك الوسائل: (12/306)، بحار الأنوار: (32/399)، وقعة صفين: (ص:102).
(3) نهج البلاغة: (ص:323)، بحار الأنوار: (32/561).(31/44)
فعن أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن بن علي عليه السلام إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه مرة، ويقول: (إن هذا ابني سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين)(1).
وقد جعل الإمام الحسن بن علي عليه السلام أحد شروط الصلح مع معاوية، أن يحكم في الناس بالكتاب والسنة، وعلى سيرة الخلفاء الراشدين(2).
ومما يدل على التلاحم الأخوي والتراحم الديني بين أمير المؤمنين علي ومعاوية رضي الله عنهما - مع ما كان بينهما من اختلاف اجتهادي – فقد كان معاوية كلما تذكر علياً بعد استشهاده بكى على فقده وترحم عليه.
فعن الأصبغ بن نباتة قال: (دخل ضرار بن ضمرة النهشلي على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فقال له: صف لي علياً ؟ قال: أو تعفيني ؟ فقال: لا، بل صفه لي.
قال ضرار: رحم الله علياً! كان والله فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويقربنا إذا زرناه، لا يغلق له دوننا باب، ولا يحجبنا عنه حاجب، ونحن -والله- مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه لهيبته، ولا نبتديه لعظمته، فإذا تبسم فمن مثل اللؤلؤ المنظوم.
فقال معاوية: زدني في صفته. فقال ضرار: رحم الله علياً كان -والله- طويل السهاد، قليل الرقاد، يتلو كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار...
قال: فبكى معاوية وقال: حسبك يا ضرار! كذلك والله كان علي، رحم الله أبا الحسن)(3).
__________
(1) كشف الغمة: (1/519)، بحار الأنوار: (43/298)، عوالي اللآلي: (1/102).
(2) انظر: كشف الغمة: (1/570)، بحار الأنوار: (44/64).
(3) بحار الأنوار: (41/14)، أمالي الصدوق:(624).(31/45)
هذا هو حال الإخوة في الزمن الماضي، لم يمنع اختلافهم في الاجتهاد من تراحمهم وخلو قلوبهم من الغل والبغضاء، والتاريخ خيرُ معين لفهم حوادث الزمن الماضي، بعيداً عن أقوال مبناها عاطفة هوجاء تتقاذف بالمسلم في كل صوب، وليس له من بعد ذلك إلا زيغ الشيطان وشبهاته تتحكم به، والعياذ بالله.
المبحث الرابع:
المؤامرة ضد الإسلام والمسلمين
اتخذ أعداء الله والمبغضون لوحدة الصف الإسلامي مما وقع بين الصحابة في وقت الفتنة من الاختلاف والاقتتال سبباً وذريعة للوقيعة بهم، والنيل من عدالتهم.
وقد جرى على هذا المخطط الفاسد بعض الكتاب المتقدمين والمتأخرين من أهل البدع والضلال، الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويتكلمون بما لا يحسنون، فجعلوا أنفسهم حكماً بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يصوبون بعضهم، ويخطئون آخرين بلا دليل وحجة، لا سبيل لهم إلا سبيل الجهل واتباع الهوى، وترديد ما يقوله المغرضون والحاقدون من المبتدعة وأذنابهم من الكتّاب الضالين، حتى شككوا الكثير من عوام المسلمين في كتاب الله (1) وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم عن طريق الطعن في عدالة الناقلين.
__________
(1) قال الكاشاني: وأما اعتقاد مشايخنا (ره) في ذلك فالظاهر من ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني طاب ثراه أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن؛ لأنه كان روى روايات في هذا المعنى في كتابه الكافي ولم يتعرض لقدح فيها، مع أنه ذكر في أول الكتاب أنه كان يثق بما رواه فيه، وكذلك أستاذه علي بن إبراهيم القمي (ره)، فإن تفسيره مملوء منه وله غلو فيه، وكذلك الشيخ أحمد بن أبى طالب الطبرسي، فإنه أيضاً نسج على منوالهما في كتابه الاحتجاج. (تفسير الصافي - المقدمة السادسة: (52), وانظر: كذلك تفسير القمي: (1/23)، آراء حول القرآن - آية الله علي الأصفهاني: (88)، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة - للميرزا حبيب الله الخوئي: (2/197).(31/46)
وقد اتخذ هؤلاء الكتاب لتقوية باطلهم وكلامهم المأفون عدة شبه وأساليب ملتوية خبيثة في سبيل تشويه التاريخ، وزرع الفتن والبغضاء بين المسلمين، ومن تلك الأساليب:
أولاً: إسقاط عدالة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
أشاع أولئك المرجفون بين العوام: كيف نأتمن ونطمئن بأخذنا القرآن والسنة من أناس قد وقعت منهم الذنوب والمعاصي؟ وكيف نأخذ ديننا من أناس قد حكم الله عليهم بالنفاق؟
فعندما تُطرح مثل هذه الشبه والسموم على المسلمين، فإن ملقيها لن يقصد على اليقين أعرابياً من مغموري الصحابة، لم يفصّل التاريخ في خبره، أو يسهب في أثره، أو في صحابية من عامة الصحابيات زنت ثم اعترفت فرجمها النبي صلى الله عليه وسلم، أو من رجل كان مبتلى بشرب الخمر فأقام النبي صلى الله عليه وسلم عليه الحد، ولا يريد بشبهته هذه أمثال حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه الذي زل في رأيه ولم يوفق في اجتهاده، عندما أخبر قريشاً بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم فاتحاً، فكل أولئك رضي الله عنهم قد تابوا إلى الله عز وجل، إما باستغفار وإنابة منهم، أو بإقامة حد دنيوي عليهم.
لكنه يتوجه بشبهته وطعنه مباشرة إلى كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم رضي الله عنهم، من خلال اختلاق القصص، وإبراز الخلافات بين هؤلاء الأطهار لتمهيد الطريق لإطفاء نور الله الذي سار عليه المسلمون، بإسقاط عدالة الصحابة ومن ثم يسهل عليهم ضرب كتاب الله، الذي نقلوه وحفظوه، ومن ثم سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، التي فيها تفصيل التشريعات الربانية، فيسهل بعد ذلك تفريق صفوف الإسلام والمسلمين، وجعل الفتن والبغضاء متأصلة بينهم.(31/47)
وهذا ملاحظ فيما يشاع بين المسلمين، وما يقوم به أهل الفتن والتدليس من ترويج ونشر للأحاديث المكذوبة على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كضرب الزهراء وإحراق بيتها، وضرب زوجها، واغتصاب خلافته من قبل كبار الصحابة، وغيرها كثير من الأكاذيب المتناثرة في الكتب الجامعة للأحاديث والروايات.
ومن العجيب في ذلك -والعجائب جمة- أننا لم نجد في هذه الروايات الداعية إلى الفرقة والاختلاف بين الصحابة رواية واحدة صحيحة، متصلة السند، إما مرفوعة إلى الإمام علي عليه السلام، أو لغيره من الصحابة، عن رواة عدول من شيعة آل البيت عليهم السلام تسند أمثال تلك المزاعم.
ولنكن على بينة وعلم:
1- إن الثناء على الصحابة قد تحقق في كتاب ربنا، وفي سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكذا على لسان العترة عليهم السلام (1).
2- إن مقولة: (إن من الصحابة منافقين) كذبٌ، لأن المنافقين ليسوا من الصحابة أساساً، والمنافقون كان جلهم معروفاً للنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، بأعيانهم أو بأوصافهم؛ لأن آيات القرآن قد بينت كل حركاتهم وسكناتهم، بل حتى خلجات قلوبهم.
وإذا أخذنا غزوة تبوك مثلاً، وهي من أواخر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، نجد أن هنالك من تخلف عنها بأعذار واهية، أو بدعوى خشية الافتتان بنساء الروم، وغيرها من الأعذار السَّمِجَة التي عادة ما يتعذر بها المنافقون حينما يكون هنالك جهاد في سبيل الله.
وقد ذكرها القرآن الكريم في مواضع كثيرة، في حين أن الصحابة رضي الله عنهم خرج أغلبهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يبق في المدينة إلا رجل معلوم النفاق، أو من له عذر عذره الله، أو من أذِن له النبي صلى الله عليه وسلم بالمكوث والتخلف.
__________
(1) انظر: (ص:19-48) من هذا الكتاب.(31/48)
ومما يدل على أن المنافقين معلوم أمرهم وأنهم ليسوا من الصحابة، أن رب العزة قد ذكر توبته على ثلاثة من أهل المدينة تخلفوا من غير عذر شرعي، وذلك لصدق توبتهم وعظيم إيمانهم، ووصف حالهم عند تخلفهم عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: ((لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)) [التوبة:117] إلى قوله تعالى: ((وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) [التوبة:118].
ومن الجدير بالقول أن آيات سورة التوبة قسمت أهل المدينة بعد غزوة تبوك إلى ثلاثة أصناف, ولم تتكلم عن طائفة رابعة، وهي التي أذِن لها النبي صلى الله عليه وسلم بالتخلف أمثال الإمام علي وابن أم مكتوم، ونفر من الفقراء الذين لم يجدوا ما يستعينون به على الخروج.
فبينت آيات سورة التوبة أن الرحمن تاب على الصحابة الذين شهدوا المعركة في الآية الأولى، وهم الصنف الأول، واستثنى في الآية الثانية المنافقين من مجتمع المدينة، الذين تخلفوا عن الخروج وهم من الصنف الثاني، ثم قص الله علينا شأن ثلاثة من الذين تخلفوا عن المعركة من الصحابة، وأنه سبحانه قد تاب عليهم، بسبب صدقهم مع نبيه صلى الله عليه وسلم وهم الصنف الثالث والأخير.
فأين النفاق في أولئك، مع وضوح الآيات الدالة على حقيقة ما وقع؟!
بل إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا من أكثر الناس خوفاً من الله عز وجل خشية على أنفسهم أن يقعوا في النفاق.(31/49)
فعن سلام بن المستنير قال: (كنت عند أبي جعفر عليه السلام، فدخل عليه حمران بن أعين فسأله عن أشياء، فلما همّ حمران بالقيام قال لأبي جعفر عليه السلام: أخبرنا -أطال الله بقاءك لنا وأمتعنا بك- إنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترق قلوبنا وتسلو أنفسنا عن الدنيا وتهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الآمال، ثم نخرج من عندك، فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا. قال: فقال أبو جعفر عليه السلام: إنما هي القلوب مرة تصعب، ومرة تسهل، ثم قال أبو جعفر عليه السلام: أما إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، تخاف علينا النفاق؟ قال: فقال لهم: ولم تخافون ذلك؟ قالوا: إنا إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا ووجِلنا، ونسينا الدنيا وزهدنا، حتى كأنّا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل والأولاد، يكاد أن نحوّل عن الحال التي كنا عليها عندك، وحتى كأنّا لم نكن على شيء، أفتخاف علينا أن يكون هذا النفاق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا إن هذه من خطوات الشيطان ليرغبكم في الدنيا، والله لو أنكم تدومون على الحاله التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة، ومشيتم على الماء، ولولا أنكم تذنبون فتستغفرون الله لخلق الله خلقاً لكي يذنبوا ثم يستغفروا، فيغفر لهم، إن المؤمن مفتّنٌ توابٌ، أما سمعت قول الله عز وجل: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)) [البقرة:222]، وقال تعالى: ((اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)) [هود:3])(1).
__________
(1) الكافي:(2/423), بحار الأنوار: (6/41), تفسير العياشي: (1/109), مجموعة ورام: (2/210).(31/50)
3- إن الصحابة رضي الله عنهم معصومون في إجماعهم، فلا يمكن أن يجتمعوا على شيء من كبائر الذنوب أو صغيرها فيستحلونها ويفعلونها، وأما وقوع المعاصي من بعضهم ففيه الدلالة على عدم عصمة أفرادهم، ولا يضر هذا الزلل في عدالتهم، ولا يحطّ من مكانتهم.
ومما يدل على عدالتهم على وجه العموم، ما قام به الأئمة عليهم السلام من تمحيص لروايات الصحابة التي رووها عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يجدوا بعد الفحص والنظر صحابياً كذب كذبة واحدة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومع كثرة انتشار البدع في أواخر عهدهم كبدعة القدرية والخوارج والمرجئة، التي منشأها من تحكيم سقيم العقل وفساد الرأي، إلا أنه لم يوجد صحابي واحد في أولئك المبتدعة أبداً، وهذا يدل على أن الله قد اصطفاهم ورعاهم، وميزهم واختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونشر دينه القويم.
قال أبو عبد الله عليه السلام: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألفاً، ثمانية آلاف من المدينة، وألفان من مكة، وألفان من الطلقاء، ولم ير فيهم قدري ولا مرجئ ولا حروري ولا معتزلي ولا صاحب رأي، كانوا يبكون الليل والنهار، ويقولون: اقِْض أرواحنا من قبل أن نأكل خبز الخمير)(1).
وقد أثبت الإمام الصادق عليه السلام عدالة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على صدق ما يروونه في حديثهم للنبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) الخصال: (2/639)، بحار الأنوار: (22/305).(31/51)
فعن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: (ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب، ثم يجيئك غيري فتجيبه فيها بجواب آخر؟ فقال: إنا نجيب الناس على الزيادة والنقصان! قال: قلت: فأخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقوا على محمد أم كذبوا؟ قال: بل صدقوا، قال: قلت: فما بالهم اختلفوا؟ فقال: أما تعلم أن الرجل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب، ثم يجيبه بعد ذلك بما ينسخ ذلك الجواب، فنسخت الأحاديث بعضها بعضاً)(1).
ولو جاء مدّعٍ بدليل على وقوع كذب في الصحابة أو حدوث نفاق في قلوبهم لقيل له مباشرة: فأين الدليل الصريح على استثناء بعضهم من هذا الادعاء؟
4- لا يلزم من إثبات العدالة للصحابة رضي الله عنهم إثبات العصمة لهم من الأخطاء فهم بشر يخطئون ويصيبون، وإن كانت أخطاؤهم مغمورة في بحور حسناتهم.
فلهم من السوابق والفضائل التي لن يلحقهم فيها أحد، فهم الذين نصروا النبي صلى الله عليه وسلم حين اجتمع عليه العرب، وجاهدوا بأموالهم وأولادهم وأنفسهم، وقاتلوا آباءهم وإخوانهم وعشيرتهم، وبذلوا رقابهم لإعلاء كلمة الله، وكانوا سبباً في نشر ووصول هذا الدين العظيم إلينا، فهذه - بإذن الله-توجب مغفرة ما صدر منهم، ولو كان من أعظم الذنوب ما لم يصل إلى الكفر.
قال تعالى: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)) [آل عمران:159].
__________
(1) الكافي: (1/65)، بحار الأنوار: (2/228).(31/52)
قال العلامة المجلسي: (وإذا زالت العدالة بارتكاب ما يقدح فيها، فتعود بالتوبة بغير خلاف ظاهراً، وكذلك من حُدّ في معصية ثم تاب رجعت عدالته وقبلت شهادته، ونقل بعض الأصحاب إجماع الفرقة على ذلك)(1).
وقال السيد أبو القاسم الخوئي: (ترتفع العدالة بمجرد وقوع المعصية، وتعود بالتوبة والندم، وإنه لا يفرق في ذلك بين الصغيرة والكبيرة)(2).
وقال السيد محمد حسين فضل الله عن عدالة أئمة الجماعات المعاصرين، والذين هم أدنى منزلة ممن أكرمه الله بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العدالة ليست العصمة، فقد يعصي المؤمن العادل ثم يتوب بعد انتباهه لذلك، على هدي قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)) [الأعراف:201], وأما كيف تثبت العدالة؟
فذلك بحسب الظاهر في سلوكه العام في المجتمع، بحيث يرى الناس فيه الإنسان المستقيم في دينه، وفي أخلاقه الفردية، أو الاجتماعية المرتبطة بالحدود الشرعية، كما تثبت بالشياع المفيد للعلم أو الاطمئنان، وبخبر الثقة بعدالته، ولا قيمة لخبر الفاسق في العدالة سلباً أو إيجاباً)(3).
ثانياً: تشويه سيرة الصحابة رضي الله عنهم:
مما سبق بيانه وتفصيله عرفنا أن أعداء الإسلام والمفرقين لشمل المسلمين قد استخدموا أساليب خطيرة ومتنوعة لبلوغ غاية عظيمة ألا وهي تشويه حياة وسيرة الصحابة رضي الله عنهم، واستحلوا جميع الدروب والوسائل لتحقيق هذه الغاية، مما أدى إلى نتائج وخيمة وعواقب أليمة، كاستحلال لعنهم وسبهم، وإلصاق كل قبيح بهم.
وزيادة على ما مضى ذكره من أساليب قذرة، نزيد في بيان بعضها، ومنها:
1- اختلاق القصص، سواء كانت على لسان صحابي أو عدة من الصحابة رضي الله عنهم.
__________
(1) بحار الأنوار: (85/30).
(2) منهاج الصالحين: (2/12).
(3) المسائل الفقهية: (2/174).(31/53)
2- القيام بالزيادة في الحوادث الصحيحة أو النقصان منها، أو بإسنادها كذباً إلى كتب حديثية غير موجودة فيها.
3- القيام بتأويل الأحداث الصحيحة في آيات القرآن، والأحاديث النبوية الصحيحة تأويلاً باطلاً يتماشى مع أهوائهم ومعتقداتهم وبدعهم، كما قال الله عز وجل: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ)) [آل عمران:7].
4- التركيز على إظهار أخطاء الصحابة رضي الله عنهم التي صدرت منهم لقرب عهدهم - في بدء الدعوة والإسلام - بالجاهلية وتأثرهم بشيء منها في أول أمرهم، ومن ثم تغطية محاسنهم وتضحياتهم وجهادهم العظيم، بعد تمكّن التربية والإيمان في قلوبهم.
5- القيام بتأليف أبيات من الأشعار ونسبتها لشخصيات بارزة، والتي تتماشى مع دعوتهم في نشر فتنتهم بين المسلمين وتقويتها، مثلما نُسِب كذباً وزوراً لعلي بن أبى طالب عليه السلام الكثير من الأقوال والأبيات الشعرية(1).
ثالثاً: الغلو.. والتقول على العترة الكرام:
إن البهتان والتقول على العترة عليهم السلام حين ابتدأ أمره في زمنهم، ارتفعت أصواتهم عليهم السلام بالنهي عنه، وحذروا شيعتهم من خطورة التقول عليهم.
فجاء عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (رحِم اللهُ عبداً حبّبنا إلى الناس ولم يبغّضنا إليهم، أما والله! لو يروون محاسِن كلامنا لكانوا به أعز، وما استطاع أحد أن يتعلق عليهم بشيء، ولكنّ أحدهم يسمع الكلمة فيحط عليها عشراً)(2).
__________
(1) انظر: بحار الأنوار: (20/72، 118، 146، 238، 264، 21/35، 251)، مستدرك الوسائل: (8/119)، (13/75).
(2) الكافي: (8/229).(31/54)
وقال أيضاً: (إن ممن ينتحل هذا الأمر - يعني من: يدَّعي اتباعهم- ليكذب حتى إن الشيطان ليحتاج إلى كذبه)(1).
وقال كذلك: (إن الناس أولعوا بالكذب علينا، إن الله افترض عليهم لا يريد منهم غيره، وإني أحدث أحدهم بالحديث فلا يخرج من عندي حتى يتأوله على غير تأويله، وذلك بأنهم لا يطلبون بحديثنا وبحبنا ما عند الله، وإنما يطلبون الدنيا)(2).
ولأهمية الصدق والاتصاف به رغَّب العترة شيعتهم أن يتحلوا بهذا الخلق المبارك فمن ذلك ما قاله أبو عبد الله عليه السلام: (إنّا أهل بيت صديقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق الناس لهجة وأصدق البرية كلها، وكان مسيلمة يكذب عليه , وكان أمير المؤمنين عليه السلام أصدق من برأ الله بعد رسول الله، وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه ويفتري على الله الكذب عبد الله بن سبأ)(3).
وعن أبان بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (لعن الله عبد الله بن سبأ! إنه ادعى الربوبية في أمير المؤمنين عليه السلام، وكان والله أمير المؤمنين عليه السلام عبدَا لله طائعاً، الويل لمن كذب علينا، وإن قوماً يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، نبرأ إلى الله منهم، نبرأ إلى الله منهم)(4).
__________
(1) الكافي: (8/254)، بحار الأنوار، (25/296)، رجال الكشي: (ص:297).
(2) بحار الأنوار: (2/246).
(3) رجال الكشي: (ص:108)، بحار الأنوار: (25/287).
(4) رجال الكشي: (ص:107)، بحار الأنوار: (25/286).(31/55)
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن فيك مثلاً من عيسى أبغضته يهود خيبر حتى بهتوا أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلوه المنزلة التي ليس له ألا فإنه يهلك فيّ اثنان: محب مفرط يفرط بما ليس فيَّ، ومبغض يحمله بغضعه على أن يبهتني، ألا إني لست بنبي ولا يُوحى إلي، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله فحق عليكم طاعتي فيما أحببتم أو كرهتم)(1).
والغلو داء فتاك في كل عمل وقول، وتستفحل خطورته أكثر إذا كان في جانب الدين، فما الظن إن كان الغلو هو القائد في الحب أو البغض.
لأجل هذا حذر منه الأئمة، فجاء عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: (اللهم إني بريء من الغلاة كبراءة عيسى بن مريم من النصارى، اللهم اخذلهم أبداً، ولا تنصر منهم أحداً)(2).
وقال الإمام الصادق عليه السلام: (الغلاة شر خلق الله، يصغرون عظمة الله، ويدعون الربوبية لعباد الله، واللهِ إن الغلاة لشرٌ من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا)(3).
وجميع تلك الأساليب والطرق كانت -وما زالت- منذ وجودها طريقاً إلى تجدد العهد بشتم الصحابة وانتقاصهم وطرح عدالتهم، وغيرها من المثالب.
المبحث الخامس:
الموقف الصحيح (الحق) من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
إن الموقف الصحيح فيما حدث بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو موقف الاعتدال والوسط، بعيداً عن الإفراط والتفريط، والغلو والجفاء، كما قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)) [البقرة:143].
__________
(1) بحار الأنوار: (ص:35، 317)، العمدة: (ص:211).
(2) بحار الأنوار: (25/284).
(3) بحار الأنوار: (25/284).(31/56)
فواجب علينا أن نتولى جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وكذلك الذين اتبعوهم بإحسان، ونعرف فضلهم ومناقبهم ودرجاتهم كما ذكر الله عز وجل في كتابه، وما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن نمسك عما شجر بينهم في تلك الأزمنة.
وأن نعلم أن ما وقع بينهم بعد مقتل خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه من فتنة فمرجعه إلى تأويل واجتهاد، إذ كان كل واحد منهم يظن أنه على الحق دون غيره، مثلما كان يقول الإمام علي عليه السلام لأهل حربه: (إنا لم نقاتلهم على التكفير لهم، ولم نقاتلهم على التكفير لنا، ولكنا رأينا أنّا على الحق ورأوا أنهم على الحق)(1).
وعلينا أن نقتدي ونهتدي بهدي الأئمة الأطهار عليهم السلام فلا نلعن ولا نسب أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لنكون ممن قال الله تعالى فيهم: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) [الحشر:10].
قال الشيخ محمد باقر الناصري:
((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)) يعني من بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ((يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا)) أي يدعون ويستغفرون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان ((وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ)) أي حقداً وغشاً وعداوة للمؤمنين، ولا إشكال أن من أبغض مؤمنا، وأراد به السوء لأجل إيمانه فهو كافر، وإذا كان لغير ذلك فهو فاسق(2).
وقال الشيخ محمد السبزواري النجفي:
__________
(1) قرب الإسناد: (ص:45)، بحار الأنوار: (32/324).
(2) تفسير مختصر مجمع البيان، وانظر: تفسير الكاشف، المنير (سورة الحشر:10).(31/57)
((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)) يعني من بعد هؤلاء وهؤلاء، وهم سائر التابعين لهم إلى يوم القيامة ((يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ)) أي أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم من المؤمنين بالمغفرة والتجاوز عن الذنوب ((وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا)) أي لا تجعل فيها حقدا ولا كرها ولا غشا، واجعل قلوبنا معصومة عند ذلك لا تحب لهم إلا الخير ((رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) أي متجاوز عن خطاياهم متعطف عليهم بالرزق والمغفرة(1).
ولله در الإمام العابد الزاهد زين العابدين عليه السلام حين سنّ لنا منهجاً مباركاً يسير عليه أحبابه وشيعته، وذلك لما قدم إليه نفر من أهل العراق، فخاضوا في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلما فرغوا من كلامهم، قال لهم: (ألا تخبروني، أنتم من الذين قال الله فيهم ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ)) [الحشر:8]؟ قالوا: لا.
قال: فأنتم من الذين قال الله فيهم: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) [الحشر:9]؟ قالوا: لا.
__________
(1) تفسير الجديد (سورة الحشر:10).(31/58)
قال: أما أنتم قد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين، وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) [الحشر:10]، اخرُجُوا عني، فعل الله بكم)(1).
ولنتذكر قول المولى سبحانه: ((تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [البقرة:134].
قال محمد جواد مغنية:
هذه الآية تشير إلى مبدأ عام، وهو أن نتائج الأعمال وآثارها تعود غداً على العامل وحده، لا ينتفع بها من ينتسب إليه إن تكن خيراً، كما لا يتضرر بها غيره إن تكن شراً، وقرر الإسلام هذا المبدأ بأساليب شتى، منها الآية (164) من سورة الأنعام: ((وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى))، ومنها الآية (39) من سورة النجم: ((وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى))... ومنها قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم لوحيدته فاطمة (2): (يا فاطمة، اعملي ولا تقولي: إني ابنة محمد؛ فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً) وأمثال ذلك , والتبسط في هذا الموضوع إن دل على شيء فإنما يدل على أننا حتى اليوم نجهل أوضح الواضحات, وأظهر البديهيات(3).
وإذا أردت أن ترى المنهج الواقعي في حياة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم في إظهار محبة الصحابة والترابط الذي كان بينهم فاقرأ ما يأتي.
المبحث السادس:
الأسماء والمصاهرات بين الصحابة رضي الله عنهم والآل عليهم السلام
__________
(1) كشف الغمة: (2/78).
(2) الصحيح أنها ليست وحيدته بل من بناته أم كلثوم، ورقية، وزينب وإن كانت الزهراء ‘ أفضلهن. انظر: (ص:31) من هذا الكتاب.
(3) تفسير الكاشف: (سورة البقرة آية:134).(31/59)
لم يستطع بعض الجهلة إخفاء الحقائق التاريخية الدالة على ما حصل بين الصحابة وآل البيت عليهم السلام من محبة ومودة فيما بينهم ومن ذلك تسمية بعضهم بأسماء بعض، أو ما وقع بينهم من مصاهرات.
فهؤلاء الأطهار لم يسموا أو يزوجوا أولادهم لمصالح دنيوية، أو لإدراك مناصب فانية أو طمعاً في كثرة مال وعَرَض، لكنهم إنما سموا أولادهم بأسماء من يُقتدى بحالهم، وزوَّجوا بناتهم أناساً فيهم صفات طيبة مباركة حرصوا على نيلها مثل سلامة الدين وصفاء القلوب، وهذا الحرص كان نابعا من اتباعهم منهج سيد البشر المصطفى صلى الله عليه وسلم وكانوا يفتون به لشيعتهم المخلصين.
فعن إبراهيم بن محمد الهمداني قال: (كتبت إلى أبي جعفر؛ في التزويج، فأتاني كتابه بخطه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، ((إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)) [الأنفال:73] (1).
وفي فقه الإمام الرضا عليه السلام: (إن خطب إليك رجل رضيتم في دينه وخلقه فزوجوه ولا يمنعك فقره وفاقته، قال تعالى: ((وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ)) [النساء:130])(2).
__________
(1) الكافي: (5/347), تهذيب الأحكام: (7/396), وسائل الشيعة: (20/77).
(2) فقه الرضا: (ص: 235) , مستدرك الوسائل: (14 / 188) , بحار الأنوار: (100 / 372).(31/60)
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إن الله عز وجل لم يترك شيئاً مما يحتاج إليه إلا علمه نبيه صلى الله عليه وسلم فكان من تعليمه إياه أنه صعد المنبر ذات يوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس: إن جبريل عليه السلام أتاني عن اللطيف الخبير فقال: إن الأبكار بمنزلة الثمر على الشجر، إذا أدرك ثمارها فلم تجتن أفسدته الشمس ونثرته الرياح، وكذلك الأبكار إذا أدركن ما تدرك النساء فليس لهن دواء إلا البعولة، وإلا لم يؤمن عليهن الفساد لأنهن بشر.قال: فقام إليه رجل، فقال: يا رسول الله! فمن أزوج؟ قال: الأكفاء. قال: يا رسول الله! من الأكفاء؟ فقال: المؤمنون بعضهم أكفاء بعض)(1).
وقال الصادق عليه السلام: (الكفو أن يكون عفيفاً وعنده يسار)(2).
وقد حذر العترة عليهم السلام من تزويج أولادهم من النواصب أو أصحاب الكبائر والمعاصي، لا سيما الكفار والمنافقين المرتدين.
فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: (لا يتزوج المؤمن الناصبة المعروفة بذلك)(3).
وعن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال له الفضيل: (أتزوج الناصبة؟ قال: لا، ولا كرامة. قلت: جعلت فداك، والله! إني لأقول لك هذا، ولو جاءني ببيت ملآن دراهم ما فعلت)(4).
وعن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (تزوج اليهودية والنصرانية أفضل، أو قال: خير من تزوج الناصب والناصبة)(5).
وعن أحمد بن محمد رفعه قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: (من زوج كريمته من شارب خمر فقد قطع رحمها)(6).
__________
(1) الكافي: (5/337)، تهذيب الأحكام: (7/397)، وسائل الشيعة: (20/61.
(2) من لا يحضره الفقيه: (3/394).
(3) الكافي: (5/348)، الاستبصار: (3/183)، وسائل الشيعة: (20/549).
(4) الكافي: (5/348).
(5) الكافي: (5/351).
(6) الكافي: (5/347)، تهذيب الأحكام: (7/398)، وسائل الشيعة: (20/79)، عوالي اللآلي: (3/341).(31/61)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من زوج كريمته بفاسق نزل عليه كل يوم ألف لعنة، ولا يصعد له عمل إلى السماء، ولا يستجاب له دعاؤه، ولا يقبل منه صرف ولا عدل)(1).
وقال أبو عبد الله عليه السلام أيضا: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شارب خمر لا يُزوج إذا خطب)(2).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من زوج كريمته من شارب خمر فكأنما ساقها إلى الزنا)(3).
وعن الحسين بن بشار الواسطي قال: (كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام: إن لي قرابة قد خطب إلي، وفي خلقه سوء! قال: لا تزوجه إن كان سيئ الخلق)(4).
فلا يعقل بعد هذا، ويستحيل حدوثاً أن يقدم آل البيت الأطهار على تزويج أولادهم من أناس مطعون في دينهم أو خلقهم.
ومما يدل على مراعاتهم لهذه القضية الهامة - مع خالص النصح فيما بينهم على الخير والإعانة عليه- أن أبا بكر وعمر وعثمان يسعون في تزويج فاطمة لعلي.
فعن الضحاك بن مزاحم قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: (أتاني أبو بكر وعمر فقالا: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له فاطمة)(5).
وهذا نصح من الصحابين الجليلين للإمام علي عليه السلام تظهر رغبة الصحابة في مصاهرة علي بن أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما كان علي عليه السلام معسراً، قليل ذات اليد، لم يبخل أو يتقاعس عنه إخوانه بشيء عند زواجه.
وممن شارك في مساعدة الإمام علي في زواجه من فاطمة الزهراء عثمان بن عفان رضي الله عنه.
__________
(1) إرشاد القلوب: (1/174), مستدرك الوسائل: (5/279).
(2) الكافي: (5/348)، تهذيب الأحكام: (7/398)، وسائل الشيعة: (20/79)، عوالي اللآلي: (3/341).
(3) مستدرك الوسائل: (14/191) , عوالي اللآلي: (1/272).
(4) الكافي: (5/563)، من لا يحضره الفقيه: (3/409)، وسائل الشيعة: (20/81)، مستدرك الوسائل: (14/192)، بحار الأنوار: (100/234).
(5) انظر: أمالي الطوسي: (ص:39) , بحار الأنوار: (43/93).(31/62)
يقول الإمام علي عليه السلام راويا قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا الحسن انطلق الآن فبع درعك وأتني بثمنها حتى أهيئ لك ولابنتي فاطمة ما يصلحكما قال علي: فأخذت درعي فانطلقت به إلى السوق فبعته بأربعمائة درهم سود هجرية إلى عثمان بن عفان، فلما قبضت الدراهم منه، وقبض الدرع مني، قال: يا علي! ألست أولى بالدرع منك وأنت أولى بالدراهم مني؟! فقلت: بلى، قال: فإن هذا الدرع هدية مني إليك! فأخذت الدرع والدراهم وأقبلت إلى رسول الله، فطرحت الدرع والدراهم بين يديه وأخبرته بما كان من أمر عثمان، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بخير)(1).
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة بأن يشتروا للزهراء ما تحتاجه للعرس بإشراف من أبي بكر الصديق رضي الله عنه (2).
فالخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم خاصة، وغيرهم من الصحابة، ممن ساهم واشترك بل وممن أشهدهم النبي صلى الله عليه وسلم على زواج الإمام علي عليه السلام من فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لهم الدور الفعال في إتمام هذا الزواج المبارك.
قال أنس رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: (انطلق فادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير وبعددهم من الأنصار، قال: فانطلقت فدعوتهم له، فلما أخذوا مجالسهم قال: إني أشهدكم أني قد زوجت فاطمة من علي، على أربعمائة مثقال من فضة)(3).
__________
(1) انظر كشف الغمة: (1/358)، بحار الأنوار: (43/130).
(2) انظر: أمالي الطوسي: (ص:40)، بحار الأنوار: (43/94).
(3) كشف الغمة: (1/348)، بحار الأنوار: (43/119).(31/63)
ولا يخفى عليك -أيها القارئ الكريم- أن أهل البيت عليهم السلام من أحرص الناس على تزويج أولادهم من أهل الصلاح والتقى، وهم كذلك من أبعد الناس عن تزويج أولادهم للفساق والمنافقين ولا سيما النواصب والمرتدين، ومن ادعى أنهم زوجوا مرتداً أو منافقاً أو فاسقاً فقد أعظم عليهم الفرية، واتهمهم بمخالفة أفعالهم أقوالهم وهو شيء مقته الله على بني إسرائيل وعلى غيرهم، قال تبارك وتعالى: ((أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [البقرة:44]، والمحب يجلّ أهل البيت عليهم السلام من هذه الصفة، ويعتقد في حقهم أنهم ما زوجوا إلا عدلاً صالحاً.
وإليك أيها القارئ بعضاً من مصاهرات وأسماء أولاد أهل البيت عليهم السلام، لتعلم مقدار التداخل بين العترة والصحابة الدال على الحب والوفاق والود؛ لأنهم عليهم السلام يعتقدون صلاح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجوهم، وتزوجوا منهم، وسموا أبناءهم بأسمائهم.
1) الرسول صلى الله عليه وسلم:
من زوجاته: عائشة بنت أبي بكر الصديق.
حفصة بنت عمر بن الخطاب.
رمله بنت أبي سفيان.
أسماء من صاهروه: علي بن أبي طالب: وقد تزوج ابنته (فاطمة).
عثمان بن عفان: وقد تزوج ابنتيه (رقية) ثم (أم كلثوم).
أبو العاص بن الربيع، وقد تزوج ابنته (زينب).
2) علي بن أبي طالب عليه السلام:
من زوجاته - بعد وفاة فاطمة عليها السلام-:
أسماء بنت عميس (أرملة أبي بكر الصديق).
أمامة بنت أبي العاص بن الربيع(أمها زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم).
من أولاده: أبو بكر، عمر، عثمان.
أسماء من صاهروه: عمر بن الخطاب، وقد تزوج ابنته (أم كلثوم).
عبد الرحمن بن عامر بن كريز الأموي، وقد تزوج ابنته (خديجة).
معاوية بن مروان بن الحكم، وقد تزوج ابنته (رملة).
... ... المنذر بن عبيدة بن الزبير بن العوام، وقد تزوج ابنته (فاطمة).(31/64)
3) عقيل بن أبي طالب: من أولاده: عثمان
4) الحسن بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التيمي.
... ... حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر.
من أولاده: أبو بكر، عمر, طلحة.
أسماء من صاهروه: عبد الله بن الزبير بن العوام، وقد تزوج ابنته (أم الحسن).
عمرو بن الزبير بن العوام، وقد تزوج ابنته (رقية).
جعفر بن مصعب بن الزبير، وقد تزوج ابنته (مليكة).
... 5) الحسين بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: ليلى بنت أبي مرة (أمها ميمونة بنت أبي سفيان).
أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التيمي(1).
من أولاده: أبو بكر، عمر.
أسماء من صاهروه: عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وقد تزوج ابنته (فاطمة). ... ...
مصعب بن الزبير بن العوام، وقد تزوج ابنته (سكينة).
6) إسحاق بن جعفر بن أبي طالب:
من زوجاته: أم حكيم بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
7) عبد الله بن جعفر بن أبي طالب:
من أولاده: أبوبكر و معاوية
صاهره: عبدالملك بن مروان، وقد تزوج ابنته (أم أبيها)
8) علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (زين العابدين) ويكنى بأبي بكر(2):
من زوجاته: أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر.
من أولاده: عمر.
9) زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
صاهره: الوليد بن عبد الملك بن مروان، وقد تزوج ابنته (نفيسة).
10) الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب :
من زوجاته: أمينة بنت حمزة بن المنذر بن الزبير بن العوام.
11) الحسن (المثنى) بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: رملة بنت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي.
صاهره: الوليد بن عبد الملك بن مروان وقد تزوج ابنته (زينب).
12) محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب:
من أولاده: عمر.
13) محمد (الباقر) بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
__________
(1) وكان أخوه الحسن قد أوصاه عند موته أن ينكح أم إسحاق.
(2) فرق الشيعة للنوبختي: (ص:53).(31/65)
من زوجاته: أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
14) موسى (الجون) بن عبد الله المحض بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
صاهره: ابن أخي المنصور العباسي، وقد تزوج ابنته (أم كلثوم).
15) الحسين الأصغر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: خالدة بنت حمزة بن مصعب بن الزبير بن العوام
16) عبيد الله بن محمد بن عمر (الأطرف) بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: عمة أبي جعفر المنصور.
17) جعفر بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب:
من أولاده: عمر
18) الحسين الأصغر بن علي زين العابدين بن الحسين:
من زوجاته: خالدة بنت حمزة بن مصعب بن الزبير بن العوام
19) الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
من أولاده: عمر
20) جعفر (الصادق) بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
قال الإمام الصادق عليه السلام: (ولدني أبو بكر مرتين)(1), وكان يقال له: (عمود الشرف)(2).
21) الحسن (الأفطس) بن علي بن علي زين العابدين بن الحسين:
من زوجاته: بنت خالد بن أبي بكر بن عبدالله بن عمر بن الخطاب
22) محمد بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من أولاده: عمر
23) موسى بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: عبيدة بنت الزبير بن هشام بن عروة بن الزبير بن العوام.
24) جعفر الأكبر بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: فاطمة بنت عروة بن الزبير بن العوام
25) عبدالله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: أم عمرو بنت عمرو بن الزبير بن عروة بن عمر بن الزبير
26) محمد بن عوف بن علي بن محمد بن علي بن أبي طالب:
__________
(1) أي من قبل أمهاته: فأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق, وجدته والدة أم فروة هي: أسماء بنت عبدالرحمن بن أبي بكر. انظر كشف الغمة: (2/161).
(2) سر السلسلة العلوية: (33), عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: (195).(31/66)
من زوجاته: صفية بنت محمد بن مصعب بن الزبير
27) محمد بن عبدالله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: فاختة بنت فليح بن محمد بن المنذر بن الزبير
28) موسى الجون بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: أم سلمة بنت محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.
29) جعفر بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: فاطمة بنت عروة بن الزبير بن العوام.
30) عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: أم عمرو بنت عمرو بن الزبير بن عروة بن الزبير بن العوام.
31) محمد بن عوف بن علي بن محمد بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: صفية بنت محمد بن مصعب بن الزبير.
32) الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من أولاده: عمر
33) علي بن الحسين بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب:
من أولاده: عمر
34) موسى(الكاظم) بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي:
من أولاده: عمر , عائشة.
35) علي بن الحسن بن علي بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: فاطمة بنت عثمان بن عروة بن الزبير بن العوام.
36) يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من أولاده: عمر.
37) علي (الرضا) بن موسى بن جعفر الصادق. ويكنى بأبي بكر (1):
من زوجاته: أم حبيب بنت المأمون العباسي
له من الأولاد خمسة ذكور وبنت واحدة واسمها: عائشة. (2)
38) جعفر بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق:
من بناته: عائشة
39) محمد (الجواد) بن علي بن موسى بن جعفر:
من زوجاته: أم الفضل بنت المأمون العباسي
40) علي (الهادي) بن محمد بن علي بن موسى:
__________
(1) ذكر النوري الطبرسي في كتابه / النجم الثاقب في ألقاب وأسماء الحجة الغائب: 14 – أبو بكر وهي إحدى كنى الإمام الرضا كما ذكرها أبوالفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين.
(2) كشف الغمة: (2: 267)(31/67)
من بناته: عائشة.(1)
وهذا الترابط والتلاحم الأسري المبارك، بين آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وبين الصحابة وغيرهم في التزاوج، وتسمية بعضهم بأسماء بعض، وكثرة المصاهرات بينهم، إنما تدل دلالة واضحة على مودتهم لبعضهم بعضاً, واستقامة دينهم ومنهجهم، وسلامة قلوبهم وألسنتهم فيما بينهم، لا كما يروج أصحاب الفتن والبغضاء، فتنبه رعاك الله.
المبحث السابع:
سؤال وجواب
أيها القارئ الكريم! بين يديك مجموعة من التساؤلات والاستفسارات نسمعها بين وقت وآخر من أهل الشبه والافتراءات، ممن يريد أن يقذف بأحقاده، وينفث عن كراهيته من خلال طعنات واهية كأمثال السراب، يريد من ورائها أن يوهن العلاقة الحميمة بين المسلمين وبين الصحابة، ومن ضمنهم آل بيت النبي عليهم السلام، أو يقصد اللمز والغمز على الصحابة رضوان الله عليهم، من خلال إظهار المساوئ وإلصاق التهم بهم، ويجهل هذا المأفون أن غمزه وسبه يلحقه ولا يضر جبال الخير شيئاً.
كناطح صخرة يوماً ليوهنها ... ... فما ضرها وأوهى قرنه الوعل
__________
(1) ومن أراد الإطلاع على هذه الحقائق فعليه أن يقرأ الكتب التي تتطرق للأنساب، وهي كالتالي:
(عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب لابن عنبة , الأصيلي في أنساب الطالبيين لابن الطقطقي, سر السلسلة العلوية لأبي نصر البخاري , الإرشاد للشيخ المفيد, منتهى الآمال للشيخ عباس القمي , تراجم أعلام النساء لمحمد حسين الأعلمي الحائري , كشف الغمة في معرفة الأئمة للأربلي , الأنوار النعمانية لنعمة الله الجزائري , أعيان النساء للشيخ محمد رضا الحكيمي, تاريخ اليعقوبي لأحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح , بحار الأنوار محمد باقر المجلسي, مقاتل الطالبيين لأبي فرج الأصفهاني, أنساب الأشراف للبلاذري , نسب قريش لمصعب الزبيري).(31/68)
وما ستقع عليه عيناك أيها القارئ الكريم هي مجموعة من الشّبه التي يتعلق بها بعض الجهلة أو الحاقدين تجاه من سبقنا في اتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جعلت هذه الشّبهات على شكل أسئلة، يلحق كل سؤال الجواب عليه ليستبين الحق بإذن الله تعالى، ويوفقنا الله للسير على صراط الحق المبين.
السؤال الأول:
كيف يمكن لنا أن نقول بعدالة الصحابة جميعاً، والله تبارك وتعالى قد صرح بردتهم جميعاً بعد وفاة نبيه إلا ثلاثة منهم (1)، مثلما جاء في قوله تبارك وتعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) [آل عمران:144].
الجواب:
أولاً: يجب على القارئ لكتب التفسير أن يختار من يقرأ له من المفسرين، فيتحرى أصحاب العقائد الصحيحة، ممن شهد له العلماء المجتهدون بالعلم والفضل، ويكون على إلمام بأصول التفسير كأسباب نزول القرآن، والناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، وغيره حتى لا يفسر أو يأوّل كلام الله تعالى من غير علم.
ثانياً: ذكر علماء التاريخ، وكذا المفسرون أن تلك الآية نزلت في واقعة محددة معلومة، وهي انهزام المسلمين في غزوة أحد، وكانت هذه الواقعة من أوائل الغزوات التي قاتل فيها المسلمون، فكيف يكون ما نزل في بداية الهجرة، وفي حادثة معينة محددة، دليلاً على ردة الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ؟!
__________
(1) انظر: رجال الكشي: (ص:11)، بحار الأنوار: (28/259) (71/220)، الاختصاص: (ص: 6).(31/69)
قال الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره: سبب النزول، أن الآية الأولى من هاتين الآيتين ناظرة أيضاً إلى حادثة أخرى من حوادث معركة أحد، وهي الصيحة التي ارتفعت فجأة في ذروة القتال بين المسلمين والوثنين: أن قتلت محمداً، قتلت محمداً(1).
وقال محمد جواد مغنية في تفسيره: تشير هذه الآية إلى واقعة معينة وهي واقعة أحد(2).
ثالثاً: سياق الآية لا يدل على ردة الصحابة، بل فيه معاتبة وإرشاد من الله عز وجل للصحابة على ما كان منهم من هلع وجزع في غزوة أحد، عندما قيل لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قُتل , فيخبر الله هؤلاء النفر: أن محمداً بشر، اختاره الله لرسالته إلى خلقه وقد مضت قبله رسل، بعثهم الله لأقوامهم فأدوا الرسالة ومضوا وماتوا، وقُتل بعضهم، وأنه كما ماتت الرسل قبله سيموت صلى الله عليه وسلم، فليس الموت بمستحيل عليه ولربما القتل، ثم أكد ذلك، فقال سبحانه: ((أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)) [آل عمران:144] معناه: أفإن أماته الله، أو قتله الكفار، ارتددتم كفارا بعد إيمانكم فسمي الارتداد انقلاباً على العقب: وهو الرجوع القهقرى؛ لأن الردة خروج إلى أقبح الأديان، كما أن الانقلاب خروج إلى أقبح ما يكون من المشي.
والألف في قوله (أفإن مات): ألف إنكار، صورته صورة الاستفهام، كما في قوله تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ)) [الأنبياء:34].
رابعاً: كيف نحكم على من انهزم من الصحابة بالردة وقد عفا الله عنهم بقوله:
((إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)) [آل عمران:155]؟!
__________
(1) تفسير الأمثل: (2/169).
(2) تفسير الكاشف: (2/554).(31/70)
خامساً: إن هذه الآية تذكرنا بموقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وشجاعته وقوة تعلقه بالله تبارك وتعالى، واستحضاره لآياته عند المواقف الصعبة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) [آل عمران:144].
حينما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في صدمة من شدة الموقف، فمنهم من أنكر موت النبي صلى الله عليه وسلم كعمر بن الخطاب رضي الله عنه لشدة تعلق قلبه بحبيبه، ومنهم من التزم الصمت وهو في حيرة، وارتد كذلك كثير من الأعراب عن الإسلام بسبب موت النبي صلى الله عليه وسلم، وترك بعضهم الزكاة وغيرها كما أسلفنا.
سادساً: من المعلوم أن الذي يرتد عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لا يقال عنه صحابي؛ لأن الصحابي في الشرع كما أسلفنا هو من لقي النبي مؤمناً به ومات على الإسلام، والذي يرتد عن الإسلام لا يكون منهم.
السؤال الثاني:
كيف يمكن لنا أيضاً أن نحكم على عدالة وصدق من حكم الله على ردتهم وتبديلهم لدينهم يوم القيامة، مثلما هو وارد في حديث الحوض، والذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي أصحابي)، ثم أتاه الجواب الحاسم من ربه: إنهم لم يزالوا مرتدين منذ فارقتهم؟
الجواب:
يمكن توجيه هذا الاستدلال إلى الفهم الصحيح من خلال الآتي:
أولاً: أن المراد بالأصحاب هنا هم المنافقون الذين كانوا يظهرون الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تبارك وتعالى: ((إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)) [المنافقون:1].(31/71)
والمنافقون فيهم من عَلِمَ النبي صلى الله عليه وسلم باطنه - وهم الأكثر- وفيهم من لم يعلمه وأولئك الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي أصحابي) كانوا من المنافقين الذين خفي باطنهم على النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال جل وعلا: ((وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)) [التوبة:101].
فالذين قال فيهم (أصحابي) عند الحوض كانوا من المنافقين المتواجدين في المدينة، والذين كان يظن صلى الله عليه وسلم أنهم من الصحابة، ولم يكونوا كذلك، لعدم معرفته صلى الله عليه وسلم للغيب وأحوال الناس الباطنة، وكان الحكم الشرعي يقتضي الحكم على الظاهر فقط.
ثانياً: قد يكون المراد بالأصحاب هنا أولئك الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كحال الكثير من العرب المرتدين، وممن أسلموا في السنوات الأخيرة.
روى المجلسي في البحار عن السيد ابن طاوس أنه قال: ذكر العباس بن عبد الرحيم المروزي في تاريخه: لم يلبث الإسلام بعد فوت النبي صلى الله عليه وسلم في طوايف العرب إلا في أهل المدينة وأهل مكة وأهل الطائف، وارتد ساير الناس.
ثم قال: ارتد بنو تميم والرباب واجتمعوا على مالك بن نويرة اليربوعي، وارتدت ربيعة كلها، وكانت لهم ثلاث عساكر، باليمامة مع مسيلمة الكذاب، وعسكر مع معرور الشيباني، وفيه بنو شيبان وعامة بكر بن وايل وعسكر مع الحطيم العبدي، وارتد أهل اليمن ارتد الأشعث بن قيس في كندة، وارتد أهل مأرب مع الأسود العنسي وارتد بنو عامر إلا علقة بن علاثة(1).
ثالثاً: قد يراد بكلمة (أصحابي) كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الطريق القويم، ولو لم يره، ويدل على هذا رواية: (أمتي، أمتي) ورواية: (إنهم أمتي).
__________
(1) بحار الأنوار (28/11).(31/72)
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعرفهم)، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد بين أنه يعرف هذه الأمة من آثار الوضوء.
وهذا كما قال الله عز وجل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ((وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)) [الفرقان:30] فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يقصد بالقوم أصحابه ومن كان في زمنه، بل يقصد ما سيحدثه أتباعه من أمته من بعده بهجرانهم للقرآن.
فهؤلاء هم الذين يقول فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي أصحابي). فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.. أي: إنهم لم يزالوا مرتدين على أدبارهم منذ فارقتهم.
السؤال الثالث:
كيف نقول بعدالة الصحابة، والله قد ذمهم في عدة مواضع في كتابه بآيات صريحة:
مثل قوله سبحانه عند تثاقلهم عن الجهاد: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ)) [التوبة:38].(31/73)
وجاء وعيد الله وتحذيره لهم: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) [المائدة:54], وأيضاً ذم الله عدم خشوع قلوبهم لذكره، كما في قوله تعالى: ((أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)) [الحديد:16].
أو عند تركهم للنبي صلى الله عليه وسلم عند قدوم التجارة، فقال تعالى: ((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)) [الجمعة:11].
الجواب:
أولاً: يجب على المسلم أن يكون باحثاً عن الحق تاركاً للتعصب الفكري، طالباً للهداية كما نقرأ في صلاتنا قوله تعالى: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) [الفاتحة:6]، وأن يجتنب الباطل ولو كان صادراً من عالم أو شيخ يقلده؛ لأن الله ذم أهل التعصب، الذين قالوا: ((إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)) [الزخرف:23].
ثانياً: لا بد أن نعلم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غير معصومين من الخطأ، والإسلام حفظهم من رذائل الجاهلية التي كانت متفشية في مجتمعاتهم.(31/74)
فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم داعياً إلى توحيد الله بفعل الطيبات، وترك ما كانوا عليه من مفاسد، استجابوا له وآمنوا به اختياراً منهم، فعلمهم الله ووجههم إلى الخير والصلاح، ونهاهم وحذرهم من المحرمات، فكان يناديهم في كتابه العزيز بقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)).
فالصحابة رضي الله عنهم قد تعلموا عن طريق الأخطاء الناتجة من بعضهم بسبب جهلهم بهذا الدين الجديد أو تأثرهم بالجاهلية، وهذا يشمل الصحابة من آل البيت كالعباس وحمزة وجعفر الطيار وغيرهم من الصحابة من غير آل البيت.
وهذه الأوامر والنواهي والتحذيرات لم ولن تختص بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقط بل هي حجة على الأمم المتبعة لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ثالثاً: الله تبارك وتعالى فرّق في ندائه بين أهل الإيمان وأهل الكفر، فحينما ينادي أهل الإيمان كان يخاطبهم بقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)).
وحين يوجه كلامه للكفار أو لعموم الناس، مؤمنهم وكافرهم كان يقول في خطابه لهم: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)).
رابعاً: لنفترض جدلاً أننا وإن لم نفهم القرآن ونفقه تفسيره، ماذا سيكون جوابنا حينما يقول لنا أحد المستشرقين المتعصبين: إن نبي الإسلام محمد بن عبد الله يطيع الكفار والمنافقين مثلما جاء في القرآن: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)) [الأحزاب:1].(31/75)
بل يدعي على ديننا فيقول: إن نبيكم يحلل ما حرمه الله فقط لإرضاء زوجاته، مثل ما في القرآن: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [التحريم:1], أو أن نبيكم كان يريد أن يصلي على المنافقين ليترحم عليهم: ((وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ)) [التوبة:84].
فلابد أن يكون جوابك أيها المحب بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعصي ربه فيما أمره به والآيات تفيد بأن الله تعالى يعلّم نبيه شرعه ودينه ليبلغه للناس، كما قال تعالى:
((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً)) [الأحزاب:45].
كما أن الله تبارك وتعالى قد بين في كثير من المواضع في كتابه العزيز، كقوله تعالى:
((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)) [التحريم:9].
((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ)) [الأحزاب:59].
خامساً: ما جوابنا يا ترى حينما يقول لنا أحد النواصب قاصداً الطعن بالإمام علي عليه السلام، ومستدلاً في طعنه عليه بظاهر القرآن والروايات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقول لنا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنزل الله عز وجل آية وفيها قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) إلا وعلي عليه السلام رأسها وأميرها)(1).
__________
(1) انظر اليقين في إمرة أمير المؤمنين: (ص:174، 177)، بحار الأنوار: (40/21).(31/76)
ودليل هذا ما ثبت في صحيفة الإمام الرضا عليه السلام قوله: (ليس في هذا القرآن ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) إلا في حقنا)(1).
فالجواب على هذا الناصبي لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يكون كالجواب على ذلك الناصبي الذي ناصب العداء عموماً لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم !!
السؤال الرابع:
كيف نقول بعدالة الصحابة، وهم قد عارضوا النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، بسبب عصيانهم لأمره، عندما أمرهم أن يحلقوا وينحروا فلم يستجيبوا لأمره؟ بل إن عمر صرح بالمعارضة لقرار النبي صلى الله عليه وسلم في اتفاقه وصلحه مع المشركين فقال للنبي: (ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى، قال عمر: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، فقال عمر: فلم نعط الدنية من ديننا إذاً)؟
الجواب:
أولاً: يجب على المسلم ألا يقذف التهم جزافاً من غير تبيين وتمحيص لأسباب الحوادث، وينبغي عليه أن يكون منصفاً إن أراد الحق، ولا يشنع ويقسو ابتداءً على أحد، وخاصة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بغير علم، ولابد أن يعرف مقدار حب الصحابة لنبيهم، والذي تجلى واضحاً في أحوال ومناسبات عديدة، ومنها مبادرتهم إلى التبرك بأثره صلى الله عليه وسلم من أخذ فضل وضوئه، ولم يكن ليبصق صلى الله عليه وسلم بصاقاً ولا يتنخم نخامة إلا ويتلقونها بأكفهم فيدلكوا بها وجوههم وأجسادهم، ولم تسقط منه شعرة صلى الله عليه وسلم إلا ويبتدرون إلى أخذها لنيل البركة منه، مثلما جاء في رواية عروة بن مسعود(2).
__________
(1) المناقب: (3/53)، البرهان (سورة البقرة آية:153).
(2) انظر: (ص:29) من هذا الكتاب.(31/77)
ثانياً: الصحابة في صلح الحديبية لم يعصوا النبي صلى الله عليه وسلم عندما أمرهم، بل كان لهم شوق عظيم لبيت الله الحرام، فتمنوا عندما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقطع العمرة والتحلل بحلق رؤوسهم لو يغيّر النبي صلى الله عليه وسلم من حكمه، أو ينزل الله تبارك وتعالى شيئاً من الوحي يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يدخل مكة، فانتظروا جميعهم (بلا استثناء) لعل شيئاً من ذلك يقع!، ولذلك تمهلوا قليلاً في تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم رغبة في حدوث مثل هذا الرجاء، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم عليهم حالقاً وناحراً هديه، علم الصحابة يقيناً حينئذ انقضاء رجائهم، وتحقق الأمر، فاستجابوا مباشرة عند ذلك لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فحلقوا رؤوسهم ونحروا هديهم دون تردد منهم، فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم:
((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)) [الفتح:18].
ثالثاً: عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يعارض قرار النبي صلى الله عليه وسلم في الصلح، بل كان يتباحث معه ويشاوره في أمر الأمة، مثلما كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم في مشاورته للصحابة وخاصة الكبار منهم، حيث إن المشاورة سنة يمتثلها النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بأمر من الله عز وجل، لما جاء في قوله تعالى: ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)) [آل عمران:159].(31/78)
قال الفيض الكاشاني عن قوله تعالى: ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)): في أمر الحرب وغيره، مما يصح أن يشاور فيه، استظهاراً برأيهم، وتطييباً لنفوسهم، وتمهيداً لسنة المشاورة للأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا وحدة أوحش من العُجب، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة. وجاء في نهج البلاغة: (من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها، وفي الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه). وفي الخصال عن الصادق عليه السلام: (وشاور في أمرك الذين يخشون الله).اهـ(1).
وفي تلك الحادثة أخذ النبي صلى الله عليه وسلم مشورة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في إرسال عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أهل مكة للمفاوضة معهم.
وقد ذكر الشيخ الطبرسي في تفسيره مجمع البيان قصة فتح الحديبية مختصرة وقال: قال ابن عباس: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يريد مكة، فلما بلغ الحديبية، وقفت ناقته، وزجرها فلم تنزجر، وبركت الناقة. فقال أصحابه: خلأت الناقة. فقال صلى الله عليه وسلم: ما هذا لها عادة، ولكن حبسها حابس الفيل، ودعا عمر بن الخطاب ليرسله إلى أهل مكة، ليأذنوا له بأن يدخل مكة، ويحل من عمرته، وينحر هديه، فقال: يا رسول الله! ما لي بها حميم، وإني أخاف قريشاً لشدة عداوتي إياها. ولكن أدلك على رجل هو أعز بها مني، عثمان بن عفان! فقال: صدقت)(2).
رابعاً: لماذا نشنع على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بسبب مشاورته للنبي صلى الله عليه وسلم ونتهمه بمعارضة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ونبني عليها طعوناً كثيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينهه عن ذلك الفعل، إن كان مستحقاً للنهي والزجر؟!
__________
(1) تفسير الصافي، وانظر: تفسير مجمع البيان، الجوهر الثمين، تفسير معين، تفسير شبر: في تفسير (سورة آل عمران آية:159).
(2) تفسير مجمع البيان: (9/194)، بحار الأنوار: (20/329).(31/79)
هل نحن أعلم وأفقه من نبينا صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه، وفي كيفية تعاملهم مع كلامه؟!
أو أننا علمنا أمراً قد خفي على النبي صلى الله عليه وسلم؟! أو أن هناك سبباً آخر لغيظنا وحنقنا على ما فعله عمر؟
إن مثل تلك المشاورة قد وقعت بين الإمام علي عليه السلام وشيعته، من أمثال حجر بن عدي في معركة صفين، حينما نهى الإمام علي عليه السلام جيشه عن لعن وسب معاوية رضي الله عنه وجيشه، وناقشه في هذه القضية حجر وغيره، ومع ذلك لم يطعن الإمام علي عليه السلام أو من جاء بعده على حجر بن عدي بسبب معارضته لأمر الإمام علي عليه السلام.
فعن عبد الله بن شريك قال: (خرج حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يُظهران البراءة واللعن من أهل الشام، فأرسل إليهما علي عليه السلام: أن كفّا عما يبلغني عنكما. فأتياه فقالا: يا أمير المؤمنين! ألسنا محقين؟ قال: بلى. قالا: أو ليسوا مبطلين؟ قال: بلى. قالا: فلم منعتنا من شتمهم؟ قال: كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين يشهدون ويتبرؤون)(1).
خامساً: لو سلمنا جدلاً بأن ما فعله عمر رضي الله عنه كان مجانباً للصواب بسبب معارضته لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فماذا سيكون جوابنا إن قال لنا أحد النواصب: (إن علياً عليه السلام كان من رؤوس المعارضين للنبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وقد عصى أمره مع سائر الصحابة في عدم حلق رؤوسهم وذبح هديهم؟
بل إن رفض علي بن أبي طالب لأمر النبي صلى الله عليه وسلم يفوق معارضة عمر بن الخطاب وذلك حينما طلب صلى الله عليه وسلم منه أن يمسح اسمه عندما كان يكتب كتاب الصلح مع مندوب قريش سهيل بن عمرو فرفض علي بن أبي طالب الانصياع لأمر المصطفى صلى الله عليه وسلم ؟
__________
(1) مستدرك الوسائل: (12/306)، بحار الأنوار: (32/399)، وقعة صفين: (ص:102).(31/80)
ودليل ذلك ما جاء عن أبي عبد الله عليه السلام، في حديث طويل في قصة صلح الحديبية: (إن أمير المؤمنين عليه السلام كتب كتاب الصلح: باسمك(1) اللهم، هذا ما تقاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والملأ من قريش، فقال سهيل بن عمرو: لو علمنا أنك رسول الله ما حاربناك، اكتب هذا ما تقاضى عليه محمد بن عبد الله، أتأنف من نسبك يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله وإن لم تقروا، ثم قال: امح يا علي! واكتب: محمد بن عبد الله، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ما أمحو اسمك من النبوة أبداً، فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده...) الخبر(2).
فبماذا سنرد على ذلك الناصبي حين يقول: لماذا يرفض علي بن أبي طالب أمر النبي صلى الله عليه وسلم حينما طلب منه أن يمحو اسمه؟ أعلي بن أبي طالب أتقى وأحرص وأعلم من النبي صلى الله عليه وسلم في عدم رغبته لمسح الاسم؟ بل تكررت منه المعارضة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم مثلما حصل في غزوة تبوك، حينما طلب منه النبي أن يمكث بالمدينة، كحال بعض الصحابة من أهل الأعذار، كابن أم مكتوم وغيره لأسباب معينة رآها النبي صلى الله عليه وسلم لكنه خرج ولحق بالنبي محاولاً أن يثنيه عن قراره ويأخذه معه للمعركة.
فعن عبد الله، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن سليمان بن بلال، عن جعيد بن عبد الرحمن، عن عائشة بنت سعد، عن أبيها سعد أن علياً عليه السلام خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء ثنية الوداع وهو يبكي ويقول: تخلفني مع الخوالف؟ فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة؟)(3).
__________
(1) وفي المصدر: بسمك.
(2) مستدرك الوسائل: (8/437).
(3) بحار الأنوار: (37/262)، العمدة: (ص:127).(31/81)
فلماذا ينزعج علي بن أبي طالب من أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بتركه بالمدينة في غزوة تبوك؟ أيعصي علي النبي صلى الله عليه وسلم في أمره؟هل كان علي يجهل أن استخلافه في المدينة منقبة وفضل له أم لا؟ فإن كان يجهل فهذه مصيبة، وإن كان يعلم فالمصيبة.. أعظم.
والرد على كل هذه التقولات على أمير المؤمنين عليه السلام، هو من مثل ما بيناه في حق أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.. فالحق واحد، وإن تعددت صور الافتراءات.
السؤال الخامس:
ماذا تقول من فعل الصحابة يوم الخميس قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة أيام، وما حصل بينهم من خلاف، ورفع أصواتهم عليه وعصيانهم لأمره صلى الله عليه وسلم في عدم إحضارهم الكتف والدواة ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده، واتهموه (بالهجر) وقال عنه عمر بن الخطاب: (قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله) حتى غضب عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجهم من بيته، وعبّر ابن عباس عن تلك الحادثة بأنها رزية؟
الجواب:
أولاً: لابد لنا أن نسأل أنفسنا أولاً: كيف كانت حالة النبي صلى الله عليه وسلم الصحية في تلك الفترة؟ وما سبب خلاف الصحابة عنده؟
إن تلك الحادثة حدثت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة أيام، وهو على فراشه، وكان يوعك وعكاً شديداً من شدة الألم، بل كان صلى الله عليه وسلم من قسوة الألم يغمى عليه تارة ويفيق تارة أخرى، وقال للصحابة حينها: (ائتوني اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً) فاختلف الصحابة فمنهم من أراد أن لا يجهد النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه، وظن أن الأمر لم يكن بحتم واجب إنما كان على سبيل الاختيار والتذكير، ومنهم من أراد إحضار الكتف والدواة للكتابة.(31/82)
ثانياً: ليس بمقدور أي كائن بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخيل ما دار في تلك اللحظة تخيلاً واضحاً، مثل أولئك الذين شهدوا تلك الحادثة، ونظروا إلى معاناة النبي صلى الله عليه وسلم في مرض الموت، خاصة وأنهم لم تمر عليهم حالة مشابهة من قبل بالنبي صلى الله عليه وسلم فاختلفت آراؤهم لعدم سبق علم بها.
ثالثاً: التمسك بهذه الحادثة على أن فيها مغمزاً ومطعناً في الصحابة رضي الله عنهم شيء جديد لم يسبق إليه أحد من قبل، ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم مرت عليهم الواقعة مرور الكرام وعلموا أنها لم تتضمن أي شبهة تجاه عدالة الصحابة ومقدار حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فهل من تأخر عنهم يكون أعلم وأبصر من أولئك الجمع كلهم الذين عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؟!
رابعاً: لو حصرنا النقاط التي يمكن أن يكون فيها مطعن في عدالة الصحابة رضي الله عنهم من هذه الحادثة، لأمكن حصرها في النقاط التالية:
أ) رفض الصحابة الإذعان لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
ب) اختلافهم عند النبي صلى الله عليه وسلم وارتفاع أصواتهم الدالة على عدم التوقير.
ت) رفضهم لطلب النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يتضمن التوصية لعلي عليه السلام بالخلافة من بعده.
ج) سوء كلام بعض الصحابة على مقام النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه بالهجر.
د) عمر بن الخطاب رفض الانصياع لطلب النبي صلى الله عليه وسلم.
ويمكن بيان الرد موجزاً على هذه الشبه بالآتي من القول:
* (رد أمر النبي صلى الله عليه وسلم) الصحابة رضي الله عنهم لم يخالفوا طلب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم كانوا يظنون أن المرض لربما غلب على النبي صلى الله عليه وسلم مثل حال بقية الناس؛ لأن هذه أول مرة يرون النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة، وكانوا يعلمون أن كتاب الله بين أيديهم، والدين قد تم بيانه وكمل تشريعه، فلذا كانوا مترددين لعدم علمهم بالمقصود من قول النبي صلى الله عليه وسلم.(31/83)
* (اختلافهم وارتفاع أصواتهم) ليس هناك من دليل صريح يدل على ارتفاع أصواتهم على صوت النبي صلى الله عليه وسلم، ولو صدر هذا منهم لنزل الوحي بالتوبيخ واللوم من الله، خاصة وأن سورة الحجرات قد تم فيها تفصيل الأدب من حيث كيفية الكلام مع النبي صلى الله عليه وسلم.
والصحابة لم يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم بل رفعوا أصواتهم على بعضهم بسبب اختلافهم في الاستفسار وفي المقصود من طلب النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة لهم خاصة وأنه صلى الله عليه وسلم أمي لا يعرف الكتابة (1)، فلما طال نقاشهم فيما بينهم، نهرهم النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الخلاف فقط , ولو كان هناك أمر يتجاوز هذا الحد لنزل بهم أمر من الله سبحانه يجتث الخطأ من أساسه.
* (الوصية إلى علي عليه السلام) وهذا من أعجب الأقوال تجاه أمير المؤمنين عليه السلام، ومما يدل على التعجب والجنوح في الخيال فيه أن صاحب الشأن وهو علي عليه السلام لم يرد على باله هذا الأمر، فكيف علمه من جاء متأخراً عنه وعن الواقعة التي جرى فيها الأمر؟! ومن يدعي هذا لعلي، يمكن بيسر لمخالفه أن يدعي لغيره من الصحابة ويقول: بل كانت الوصية لأسامة بن زيد أو لأبي ذر أو لأبي عبيدة، وغيرهم كثير.
* (مقولة بعض الحاضرين: أهجر) ينبغي علينا أولاً أن نعلم أن الرواية لم تحدد من قال هذه الكلمة، فلعله أحد المنافقين الحاضرين، أو صحابي استفسر عن صحة النبي صلى الله عليه وسلم بعد مقولته عن الكتابة فقال: هل يقع منه الهجر كما يقع من أحدنا؟ فاختصر كل هذا القول بكلمة واحدة.
أو لعلها من استفهام القائل: كيف لا نأتي بالكتف والدواة؟! أيُظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يهجر بالكلام ويقول بالهذيان كغيره!
__________
(1) انظر: علل الشرائع: (1/126)، بحار الأنوار: (16/132).(31/84)
لأنه ربما اختلط عليه سماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لبحَّة في صوته أو غلبة اليبس بالحرارة على لسانه، مثلما يقع في الحميات الحارة، وقد ثبت بإجماع أهل السير أن نبينا صلى الله عليه وسلم كانت فيه بحة صوت عارضة له في مرض موته صلى الله عليه وسلم.
وغيرها كثير من السبل التي يمكن أن توجه فيها هذه الكلمة، خاصة من بعد نظرنا في اللغة العربية، وليس هناك من يعرف على وجه الدقة من كان موجودا في ذلك الموقف قرب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم نعلم على وجه العلم لا الحصر غير عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس ويجب ألا يستغرب القارئ من كثرة هذه التعليلات تجاه هذه الكلمة، لأن من قيلت أمامهم هذه الكلمة لم يعنفوا على القائل بل رب العزة سبحانه وتعالى الذي لا يخفى عليه شيء لم يوجه شيئا تجاه خليله وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
* (رفض عمر الامتثال لأمر النبي صلى الله عليه وسلم) كيف يظن بعمر رضي الله عنه أنه يرفض طلباً يسيراً للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي طوال مرافقته للنبي صلى الله عليه وسلم لم يبخل بشيء؟
* وأما قول عمر بن الخطاب للصحابة: (قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله) فيمكن أن يوجه كالتالي: أن عمر أراد من الصحابة رضي الله عنهم أن لا يجهدوا النبي صلى الله عليه وسلم بالكلام وكثرة الأسئلة، وهو في المرض الشديد، شفقة عليه، وهذا ما يبينه قوله: (وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله) أي إن الله تعالى أكمل دينه وبيّن شرائعه في قوله: ((مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)) [الأنعام:38] وكما في قوله: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ)) [المائدة:3].(31/85)
والذي يظهر من الكتاب الذي أراد أن يكتبه النبي صلى الله عليه وسلم أنه من باب الإرشاد والإصلاح، وليس بالأمر الجديد الواجب تبليغه، وليس أيضاً بالأمر الذي لابد من تبليغه ولا يستغنى عنه في الإسلام، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكذب ومعصوم من ترك بيان ما أمر ببيانه وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه.
ولو كان في ما يريد النبي صلى الله عليه وسلم إبلاغه شيء واجب ونافع للأمة فهل سيتركه الله من غير بيان قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ؟!
فإذا عرفنا ما سبق، فسيتبين لنا أنه لو كان صلى الله عليه وسلم مأموراً بتبليغ شيء حال مرضه أو صحته فإنه سيبلغه لا محالة، فلو كان مراده صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه بسبب اختلافهم ولا لغيره، لقوله تعالى: ((بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ)) [المائدة:67] كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه، فدل تركه له أن كتابته صلى الله عليه وسلم تحمل على الندب والتذكير لا على الوجوب والتشريع الجديد، وقد عاش صلى الله عليه وسلم أربعة أيام بعد ذلك، ولم يأمرهم بإعادة الكتابة.(31/86)
خامساً: لابد للمسلم أن يطهر قلبه من الحقد والبغض تجاه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يحبهم كما كان هدي الأئمة عليهم السلام، ونقول: إن التبس عليك أمر في حق الصحابة رضي الله عنهم أو غيرهم، فالتمس لهم العذر، كما ثبت عن الأئمة عليهم السلام أنهم قالوا: (احمل أخاك المؤمن على سبعين محملاً من الخير.. الحديث). وقولهم عليهم السلام: (كذّب سمعك وبصرك عن أخيك). وما رواه في الكافي عن الحسين بن المختار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام في كلام له: (ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنن بكلمة -خرجت من أخيك- سوءاً؛ وأنت تجد لها في الخير محلاً)... عن أبي بن كعب: (إذا رأيتم أحد إخوانكم في خصلة تستنكرونها منه فتأولوا لها سبعين تأويلاً..)(1) انتهى.
فمن الأولى علينا أن نسير على هدي الأئمة عليهم السلام، وأن نلتمس العذر لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما كانوا فيه من هلع وحيرة عند مشاهدتهم لحبيبهم وما يعانيه من ألم مبرح وهو ينازع سكرات الموت.
وقد أثنى الله تبارك وتعالى عليهم وقال عنهم: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران:110] وقد كانوا ينكرون على بعضهم في مسائل فقهية أقل من ذلك.
ولماذا نطعن الآن بعد مضي تلك القرون الكثيرة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الحادثة وغيرها؟! وما أهدافنا من ذلك؟
أنحن أعلم وأحرص على النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه؟!
أنحن نحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أصحابه؟!
أم أننا أصحاب هوى ؟!
__________
(1) انظر: الحدائق الناضرة: (15/353).(31/87)
سادساً: إن وصف ابن عباس رضي الله عنه لما جرى (بالرزية) عندما كان يروي الحديث، لم يكن عندما حدثت الحادثة، ولكنه كان يقولها بعد ذلك بسنين عندما يتذكر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وحزنه، والروايات كلها تدل على ذلك.
سابعاً: لو جرينا على درب الطعن والتفتيش عن سراب الشبه، فماذا سيكون ردنا لو قال لنا أحد النواصب: إن علي بن أبي طالب هو سبب تلك المشاكل؛ لأنه كان في كثير من الأوقات يعارض النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمتثل أمره، مثلما حدث منه في صلح الحديبية في عدم مسح اسم النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم حلق رأسه ونحر هديه كغيره من الصحابة، وعدم قبوله بالاستخلاف بالمدينة في غزوة تبوك.
بل شارك في رفض أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت عندما طلب منه ومن غيره أن يحضروا له الكتف والدواة حتى لا يضل المسلمون، فلم يستجب لذلك حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم، بل غيّر أحكام الشريعة الإسلامية في الحكم على الغلاة فعاقبهم بالإحراق بدلاً من القصاص الشرعي(1).
فبهذا السؤال يتضح لنا منهجية أعداء الإسلام ومن ناصب العداء لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً من ناصب العداء لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
السؤال السادس:
__________
(1) انظر: بحار الأنوار (34/414).(31/88)
لو قال لنا قائل: ماذا ستقول أيها المسلم في موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين لم يعط فاطمة حقها من ميراثها في أرض فدك وغيرها، بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم، وماتت وهي لا تكلمه؟ مع أن الله تبارك وتعالى قرر الميراث في كتابه العزيز فقال: ((يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)) [النساء:11] وقرره كذلك بين الأنبياء، فقال عن زكريا عليه السلام: ((وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً)) [مريم:5-6] وقال تعالى عن سليمان عليه السلام: ((وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ)) [النمل:16].
وبسبب هذا التصرف تجاه سيدة نساء العالمين عليها السلام، فإنه يكون قد أغضب النبي صلى الله عليه وسلم لقوله في حقها: (إن فاطمة بضعة مني، من أغضبها أغضبني).
الجواب:
أولاً: ينبغي أن لا ننسى أن لفاطمة وزوجها رضي الله عنه مكانة عظيمة عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه وغيره من الصحابة رضي الله عنهم.
ومن دلالة تلك المكانة أن أبا بكر رضي الله عنه هو الذي أشار على علي بن أبي طالب عليه السلام بالزواج من الزهراء (1)، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإشراف على تجهيزها للزواج من الإمام علي رضي الله عنه (2) وشاركته زوجته أسماء بنت عميس أيضاً في هذا التجهيز لفاطمة في يوم زفافها (3) ولما ماتت فاطمة الزهراء عليها السلام قامت زوجة أبي بكر رضي الله عنها نفسها بعد ذلك في تجهيز كفن الزهراء وتغسيلها(4).
__________
(1) بحار الأنوار: (43/93) (19/112).
(2) بحار الأنوار: (43/94)، الأمالي للطوسي: (ص:40).
(3) بحار الأنوار: (43/138).
(4) بحار الأنوار: (43/185).(31/89)
ثانياً: لعل الكثير من المسلمين في الزمن المعاصر يجهل أن أرض فدك كانت فيئاً من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من خيبر، والفيء ما يكون من غنيمة من غير حرب والقصة مذكورة بتمامها في سورة الحشر قال تعالى: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) [الحشر:7].
وما أفاءه الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فهو له صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم جعلها لحاجته وأهل بيته وصدقته، وكان يشرف على هذه الأرض ويرعاها، ولم يورثها أحدا من أهله، وهذا مسطور في كتب التاريخ , فلما توفي كان خليفته أبوبكر يقوم مقامه في ذلك وبعده عمر, وفي عهده طلب الإمام علي بن أبي طالب والعباس أن يقوما بالإشراف عليها فوافق عمر فكانت عندهما , ثم صارت إلى الإمام علي واستمرت في يده في عهد عمر وعهد عثمان وعهده , وبعد وفاته صار الإمام الحسن بن علي يشرف عليها، ثم الإمام الحسين، ثم الحسن بن الحسن (الحسن المثنى)، ومعه علي بن الحسين، ثم زيد بن الحسن, ولم يتملكها أحد.
ثالثاً: أما عن قضية الميراث، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن الأنبياء لا يورثون الأموال والدنانير بعد مماتهم كسائر الناس، فما تبقى عندهم من الأموال بعد مماتهم فهو صدقة، وهذا ما علِمه وبينه الأئمة عليهم السلام من بعده صلى الله عليه وسلم.(31/90)
فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به وإنه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض؛ حتى الحوت في البحر وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر)(1).
وقال أبو عبد الله عليه السلام أيضاً: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظاً وافراً)(2).
وعن جعفر عن أبيه عليه السلام: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يورث ديناراً ولا درهماً، ولا عبداً ولا وليدةً، ولا شاةً ولا بعيراً، ولقد قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن درعه مرهونة عند يهودي من يهود المدينة بعشرين صاعاً من شعير، استسلفها نفقة لأهله)(3).
فمن يملك فدك وسهم خيبر يستسلف عشرين صاعا ويرهن درعه !
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: (العلم أفضل من المال بسبعة:
الأول: أنه ميراث الأنبياء، والمال ميراث الفراعنة.
الثاني: العلم لا ينقص بالنفقة، والمال ينقص بها.
الثالث: يحتاج المال إلى الحافظ، والعلم يحفظ صاحبه.
الرابع: العلم يدخل في الكفن، ويبقى المال.
الخامس: المال يحصل للمؤمن والكافر، والعلم لا يحصل إلا للمؤمن خاصة.
__________
(1) الكافي: (1/34)، بحار الأنوار: (1/164)، أمالي الصدوق: (ص:60)، بصائر الدرجات:
(ص: 3)، ثواب الأعمال: (ص:131)، عوالي اللآلي: (1/358).
(2) الكافي: (1/32)، وسائل الشيعة: (27/78)، مستدرك الوسائل: (17/299)، الاختصاص: (ص:4) بصائر الدرجات: (ص:10).
(3) قرب الإسناد: (ص:44)، بحار الأنوار: (16/219).(31/91)
السادس: جميع الناس يحتاجون إلى صاحب العلم في أمر دينهم، ولا يحتاجون إلى صاحب المال.
السابع: العلم يقوي الرجل على المرور على الصراط، والمال يمنعه)(1). انتهى.
رابعاً: وأما القول بأحقية فاطمة عليها السلام في ميراث والدها استدلالا بقوله تعالى: ((وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً)) [مريم:5-6] وقوله تعالى: ((وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ)) [النمل:16]، فاستدلال باطل من العوام، يدل على قلة علمهم لأن الوراثة في هاتين الآيتين وراثة نبوة وعلم وحكمة، وليست وراثة مال، وذلك للأدلة النقلية والعقلية.
أما النقلية فقد مرَّ ذكرها , وأما العقلية فتستفاد مما يأتي:
الآية الأولى وهي قوله تبارك وتعالى: ((يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)) [مريم:6].
1- قال السيد محمد حسين فضل الله: ليكون امتدادا للخط الرسالي الذين يدعو إلى الله، ويعمل له، ويجاهد في سبيله، ولتستمر به الرسالة في روحه وفكره وعمله(2).
2- هل يعقل لنبي كريم يحرص على الجنة الباقية والنعيم الدائم أن يسأل الكريم سبحانه أن يهب الدنيا الفانية لأحد من أولاده ويورثها له ؟! فهذا لا يليق تأدباً من رجل صالح فكيف لنبي كريم أن يسأل الله أن يرزقه ولدا لا لشيء إلا ليرث دنياه الزائلة ؟!
3- أنبياء الله تبارك وتعالى هم الأسوة المباركة في أنهم يأمرون الناس بالبر ويعملونه، فإن أوصوا الناس بالإنفاق كيف يليق بهم أن يبقوا لديهم هذا العرض الفاني من متاع الدنيا؟ ((أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [البقرة:44]، بل نجدهم يتصدقون به في أوجه الخير.
__________
(1) بحار الأنوار: (1/185).
(2) تفسير من وحي القرآن (سورة مريم: 6).(31/92)
ومما يبين القول ويزيده جلاء وأن الإرث في كلام زكريا عليه السلام لم يكن مالاً ما تبينه النقطة الآتية.
4- لو أكملنا قوله تعالى: ((وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)) [مريم:6] لتبين لنا بوضوح ومن غير تردد أن الإرث المقصود هو العلم والنبوة وليس شيئاً آخر.
وبالله عليكم لو كان السؤال من النبي زكريا متعلقاً بالمال فهل بمقدور أي باحث في التاريخ أن يخبرنا كم شخصاً كان في بيت آل يعقوب؟ بل أين موقع يحيى عليه السلام في آل يعقوب؟
والقارئ -المنصف- في كتب التاريخ بعد أن يقرأ كتاب الله تبارك وتعالى يعلم يقيناً أن كل أنبياء بني إسرائيل من آل يعقوب ؛ لأن إسرائيل هو نبي الله يعقوب عليه السلام، فكيف ببقية بني إسرائيل من غير الأنبياء؟ ومع هذا العدد الكبير كم سيكون نصيب يحيى عليه السلام ؟
فلا شك أن فهم قوله تعالى: ((يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)) [مريم:6] من خلال فهم العلماء، وأيضاً التمعن في التفاسير المباركة والنظر التاريخي يردّ قول من يقول: إن الآية تتكلم عن وراثة المال.
ومن بداهة النظر والمعقول أنه لما ذكر يعقوب وهو نبي، وزكريا كذلك وهو من الأنبياء، لزم بمقتضى الفهم السليم أن نعلم أنه إنما أراد أن يرث النبوة والعلم والحكمة، ولم يكن يريد وراثة المال.
ثم إن زكريا لم يكن غنيا بل كان نجارا يأكل من عمل يده. فأين ذاك المال الذي سيرثه يحيى؟!
أما الاستدلال بالآية الثانية وهي قوله تعالى: ((وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ)) [النمل:16] فكذلك لم يرث منه المال، وإنما قصد ميراث النبوة والحكمة والعلم.
قال الشيخ محمد السبزواري النجفي: أي ورث الملك والنبوة بأن قام مقامه دون سائر بنيه وهم تسعة عشر(1).
__________
(1) تفسير الجديد، وانظر: تفسير معين (سورة النمل: 16).(31/93)
ومن المعلوم في روايات التاريخ أن نبي الله داود عليه السلام له الكثير من الزوجات وله العديد من الجواري، ورزقه الله العدد الكثير من الأولاد، فهل نقول إنه لم يرثه إلا سليمان؟
ومن المعلوم أيضا أن الإخوة يرثون من والدهم، فتخصيص سليمان بالإرث ليس بسديد ولا رشيد إن كان معه ورثة آخرون.
ولو سلمنا جدلاً أن الأمر يتعلق بإرث دنيوي، فما الفائدة من ذكره في كتاب ربنا تبارك وتعالى، ذلك أنه من الطبيعي أن الولد سيرث والده؟ فأين البلاغة أو العبرة والفائدة في كتاب ربنا من ذكر شيء معلوم حدوثه ووقوعه عند الناس؟
خامسا: وهنا قد يقف المحب للحق وقفة ويتساءل:
هل فاطمة الزهراء عليها السلام طلبت فدك من أبي بكر رضي الله عنه على أنه من باب الإرث، أم أنه كان هبة وهدية من أبيها صلى الله عليه وسلم وهبها وأهداها إياها بعد فتح خيبر؟
ذلك أن المقصود من هذا التساؤل ستظهر ثمرته تحديداً في نهاية القصة، ذلك أنه من المتفق عليه أن فاطمة عليها السلام بعد سؤالها لفدك من أبي بكر وذكر أبو بكر حجته في المنع ذهبت ولم تكلمه، فهل كانت تريد هذا الشيء على أنه كان إرثاً أو هبة من أبيها صلى الله عليه وسلم. فإن كان إرثاً فالأنبياء لا يورثون لا ديناراً ولا متاعاً كما بينا في القول , وإن كان هبة وهدية أهداها النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة، فلنا وقفة وتساؤل أيضاً في هذا.. فنقول:(31/94)
1- لم يعط النبي صلى الله عليه وسلم فدك لفاطمة عليها السلام في أي وقت من الأوقات، وقد علمت ذلك الزهراء عليها السلام حين طلبت فدك من أبي بكر رضي الله عنه، فطلبته منه على أنه من باب الإرث، لا من باب الهبة، ومن المعلوم تاريخيا أن فتح خيبر تم في أول السنة السابعة من الهجرة، وزينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم توفيت في السنة الثامنة، وأختها أم كلثوم توفيت في السنة التاسعة، فكيف يخص صلى الله عليه وسلم بالعطية فاطمة لوحدها ويدع أختها أم كلثوم وزينب عليهن السلام ؟!
فهذا اتهام صريح مباشر للنبي صلى الله عليه وسلم من أنه كان يفرق بين أولاده، وحاشاه عن ذلك صلى الله عليه وسلم.
2- وعلى سبيل الفرض، لو قلنا: إن أرض فدك كانت هبة لفاطمة عليها السلام، فهي عليها السلام إما أن تكون قد قبضتها أو لم تقبضها!
فإن كانت تسلمتها، فلماذا تأتي لأبي بكر رضي الله عنه وتطالبه بها؟ وإن لم تكن تسلمتها فإن الهبة من الناحية الشرعية إن لم تُقبض فكأنها لم تعط للموهوب له، وتكون حينئذ للورثة بعد موت الواهب.
سادساً: من المعلوم في الفقه الجعفري أنه ليس للنساء ميراث في عقار الأراضي بل يؤخذ لهن من قيمته، وهذا ما يروى عن الأئمة عليهم السلام:
فعن يزيد الصائغ قال: (سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن النساء هل يرثن الأرض؟ فقال: لا ولكن يرثن قيمة البناء، قال: قلت فإن الناس لا يرضون بذا، فقال: إذا وُلينا فلم يرضوا ضربناهم بالسوط، فإن لم يستقيموا ضربناهم بالسيف)(1).
__________
(1) الكافي: (7/129)، وانظر: وسائل الشيعة: (26/70) , تهذيب الأحكام: (9/299).(31/95)
وعن أبان الأحمر قال: (لا أعلمه إلا عن ميسر بياع الزطي، قال: سألته -يعني أبا عبدالله- عن النساء ما لهن من الميراث؟ قال: لهن قيمة الطوب والبناء والخشب والقصب، وأما الأرض والعقارات فلا ميراث لهن فيها، قال: قلت: فالثياب؟ قال: الثياب لهن نصيبهن، قال: قلت: كيف صار ذا ولهذه الثمن ولهذه الربع مسمى؟
قال: لأن المرأة ليس لها نسب ترث به، وإنما هي دخيل عليهم، وإنما صار هذا كذا كي لا تتزوج المرأة فيجيء زوجها أو ولدها من قوم آخرين فيزاحم قوماً في عقارهم)(1).
سابعاً: التعليل الصحيح والبيان الشافي لما جرى بين الزهراء وأبي بكر رضي الله عنهم هو الآتي إن شاء الله:
سيدة نساء أهل الجنة عليها السلام لم تدّع ما ليس لها، ولكنها عليها السلام طالبت بما ظنته حقاً لها، ولما بيّن لها أبو بكر رضي الله عنه سبب منعها من الميراث، ذهبت عليها السلام ولم تكلمه في هذا الأمر مرة أخرى.
والذي يشهد لصحة هذا التعليل والبيان؛ ما سار عليه الإمام علي عليه السلام من أنه لم يعط أولاده فدك حينما استلم خلافة المسلمين، وعندما سُئل في رد فدك قال: (إني لأستحي من الله أن أرد شيئاً منع منه أبو بكر، وأمضاه عمر)(2)، فإذا كان الحكم على أبي بكر رضي الله عنه أنه كان ظالماً لمنعه حق الزهراء عليها السلام، فهل يكون الحكم نازلاً كذلك على الإمام علي عليه السلام -والعياذ بالله-، لأنه لم يُرجع لأولاده الحق في ميراث والدتهم؟
والمحب لآل البيت وللمسلمين ينزه الجميع عن الظلم، ويبتعد عن سوء الظن بأبي بكر رضي الله عنه وغيره، وهذا ما تبينه النقطتان الآتيتان:
__________
(1) الكافي: (7/130).
(2) شرح نهج البلاغة: (16/252).(31/96)
ثامنا: لم يدّع أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذا المال لابنته عائشة أو لغيرها من أمهات المؤمنين، بل تضمن تحريم الميراث جميع آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم (1) وما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذا الفعل إلا عملاً بوصية النبي، فهل تمسك أبي بكر بوصية النبي صلى الله عليه وسلم خطأ؟!
تاسعا: لا يستلزم من عدم إعطاء أبي بكر الصديق رضي الله عنه الميراث لفاطمة أن يكون مبنياً على الكراهية والعداوة كما يروّج له أصحاب الفتن.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كذلك لم يعط ابنته فاطمة خادمة تساعدها على شؤون المنزل حينما طلبت منه، وهذا من المباح في الشرع، وفق المتيسر أو ما يراه صاحب الأمر، فهل نطعن كذلك في عدالة نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم ؟!
قال الإمام علي عليه السلام في حديث طويل: (...ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم لينصرف فقالت له فاطمة: يا أبتِ لا طاقة لي بخدمة البيت، فأخدمني خادماً تخدمني وتعينني على أمر البيت، فقال لها: يا فاطمة! أولا تريدين خيراً من الخادم؟ فقال علي: قولي: بلى، قالت: يا أبت! خيراً من الخادم؟ فقال: تسبحين الله عز وجل، في كل يوم ثلاثاً وثلاثين مرة، وتحمدينه ثلاثاً وثلاثين مرة، وتكبرينه أربعاً وثلاثين مرة، فذلك مئة باللسان وألف حسنة في الميزان)(2).
عاشرا: القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغضب لغضب فاطمة عليها السلام، فهذا صحيح ولا يختلف عليه اثنان.
لنعلم أن منع أبي بكر لم يكن بقصد إغضابها ؛ لأن المنع كان استجابة منه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يعيب أبا بكر الصديق رضي الله عنه، ولا غيره إن فعله.
__________
(1) بحار الأنوار: (29/70).
(2) كشف الغمة: (1/362) , بحار الأنوار: (43/134).(31/97)
ولا يلزم أيضا أن يكون كل غضب تغضبه الزهراء عليها السلام يغضب لأجله النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حدثت خلافات أسرية كثيرة بين الإمام علي والزهراء مثل ما يقع بين الأزواج، فهل سنطعن في عدالة الإمام علي وفق ما فهمه بعضهم مطلقا من حديث إغضاب الزهراء أيضا، ونقول: إن النبي قد غضب على علي عليه السلام لإغضابه الزهراء؟!
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بين ابن عمه وابنته سيدة نساء أهل الجنة رضي الله عنه موقف العدل والإنصاف، لا موقف العاطفة والانحياز الأبوي!
فعن أبى ذر رضي الله عنه قال: (كنت أنا وجعفر بن أبي طالب مهاجرين إلى بلاد الحبشة، فأهديت لجعفر جارية قيمتها أربعة آلاف درهم، فلما قدِمنا المدينة أهداها لعلي عليه السلام تخدمه، فجعلها علي عليه السلام في منزل فاطمة، فدخلت فاطمة عليها السلام يوما فنظرت إلى رأس علي عليه السلام في حجر الجارية، فقالت: يا أبا الحسن! فعلتها؟ فقال: لا، والله! يا بنت محمد! ما فعلت شيئاً، فما الذي تريدين؟ قالت: تأذن لي في المصير إلى منزل أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟فقال لها: قد أذنت لك. فتجلببت بجلبابها، وتبرقعت ببرقعها، وأرادت النبي صلى الله عليه وسلم، فهبط جبرائيل عليه السلام، فقال: يا محمد! إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: إن هذه فاطمة قد أقبلت إليك تشكو علياً، فلا تقبل منها في علي شيئاً!! , فدخلت فاطمة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت تشكين علياً؟ قالت: إي؛ ورب الكعبة! فقال لها: ارجعي إليه، فقولي له: رغِم أنفي لرضاكَ)(1).
__________
(1) علل الشرائع: (1/163)، المناقب: (3/342)، بحار الأنوار: (39/208).(31/98)
وعن جعفر بن محمد رضي الله عنه قال: (شكت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، فقالت: يا رسول الله! لا يدع شيئاً من رزقه إلا وزعه على المساكين! فقال لها: يا فاطمة! أتسخّطيني في أخي وابن عمي، إن سخطه سخطي، وإن سخطي سخط الله عز وجل)(1).
الحادي عشر: لنتذكر ابتداء أن من أهم أهداف أعداء الإسلام تفكيك وحدة المسلمين من خلال ترويج مقولات باطلة، ونشرأخبار مفتراة تدل على وجود البغضاء والشحناء في الجيل الأول المبارك، ولوسألنا أنفسنا وأعملنا عقولنا، ماذا سنستفيد من قصة يجدد العهد بذكرها في بعض مجالس المسلمين سنويا لتثير القلوب وتعصف بالعواطف للوصول إلى حالة نفسية نهايتها بغض الصحابة، نتيجة لوجود معاداة منهم تجاه آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
ذلك أن المنصف العاقل لو فتش في ما فعله أبو بكر رضي الله عنه تجاه فاطمة عليها السلام عند مطالبتها بأرض فدك، لوجد أن ما حكم به أبو بكر الصديق تجاه فدك ما كان إلا بموجب نص شرعي مستقى من قول المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي طاعته أمر مفروض، فما ذنبه تجاه ما أمر به فانقاد إليه ؟!
ولذا ماذا سنقول للطاعن من النواصب بسيدة نساء أهل الجنة حين يقول عنها:
غريب أمر فاطمة ! تغضب وتخالف عموم المسلمين، حتى يصل خصامها وغضبها للهجر الأبدي الذي ينهى عنه الإسلام، وما كان ذلك إلا عن هوى وعناد في نفسها، وشدة حب منها للأموال وأوساخ الدنيا الفانية، مثل ما حدث بينها وبين خليفة رسول الله أبي الصديق في طلبها للميراث، وعدم الامتثال لوصية أبيها النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أيضا قبل ذلك كثيرة الإزعاج للنبي صلى الله عليه وسلم في احتجاجها المتواصل على زواجها من علي بن أبي طالب بسبب فقره وقلة ماله، في بداية زواجهما، وبعد ذلك، وهذا ما ذكرته الروايات الثابتة، مثل:
__________
(1) بحار الأنوار: (43/153)، وانظر كشف الغمة: (1/473).(31/99)
عن أبي إسحاق السبيعي، عن الحارث، عن علي قال: (إن فاطمة شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألا ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلماً، وأحلمهم حلماً، وأكثرهم علماً؟ أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة، إلا ما جعل الله لمريم بنت عمران، وأن ابنيك سيدا شباب أهل الجنة)(1).
وعن أبي صالح عن ابن عباس: (أن فاطمة عليها السلام بكت للجوع والعري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقنعي -يا فاطمة- بزوجك، فوالله: إنه سيد في الدنيا سيد في الآخرة، وأصلح بينهما...)(2).
فيا أيها المحب للآل الطاهرين: أترضى أن تكون في زمرة المبغضين الحاقدين للآل الطاهرين كالنواصب وغيرهم ؟ أو أنك تدافع عن حمى الآل من خلال تمسكك بالهدي الصحيح المبارك، مع سلامة قلبك تجاه من كانوا مع سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فأي الفريقين تختار ؟
السؤال السابع:
لو قال لنا قائل: ماذا تقول عما فعله أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم عند مهاجمتهم بيت الإمام علي عليه السلام، وقاموا بربطه، وضرب زوجته حتى كسر ضلعها وأسقط جنينها، ثم أحرقوا منزلهم، على ما ذكرت الروايات التاريخية.
فهل مثل هذه الأفعال المشينة تدل على الحب والوئام، أم على السخط والكراهية والشقاق لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب:
أولاً: لا ينبغي لطالب الحق أن ينجرف بمجرد أن يقرأ رواية تاريخية وغيرها تتكلم عن أحبابه، ولا يعرف مصدرها، فضلاً عن أن يعلم صحيحها من سقيمها، ثم يحدث بها وينشرها بين العامة، ونجد من بعد هذا التسرع العاطفي من يتأثر بهذه الروايات فيمتلىء قلبه حقداً وبغضاً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) أمالي الطوسي: (248).
(2) المناقب: (3/319) , بحار الانوار: (24/99).(31/100)
لكن الواجب على المحب لآل البيت الطاهرين عليهم السلام وللخير والعلم أن يجتهد ويتحرى، وأن يكون دقيقاً في أخذه للروايات، فيتمسك بالصحيح والتي تنطبق عليه قواعد وشروط الحديث الصحيح، ولا يغتر بكثرة الروايات الموضوعة في حادثة معينة ولو اشتهرت.
ثانياً: إن هذه القصة من الأكذوبات التي يستخدمها أهل الفتن في تمزيق وتفريق صفوف المسلمين، لذلك فإننا نطالب كل باحث للحق أن يجتهد ويبحث عن رواية واحدة صحيحة، تثبت وتسند تلك القصة المختلقة، وتنطبق عليها قواعد وشروط الحديث الصحيح، من اتصال في السند، ومن رواية العدل الإمامي الضابط في حفظه.
ومن الغريب أننا نجد كثيراً من المتمسكين بهذه القصة يؤمنون يقيناً بتلك الرواية، تبعاً للعاطفة وحبا في كسب بعض المصالح الدنيوية الرخيصة، ولا ينظرون نظرة العاقل العالم في دينه مثل الفحص في صحة الإسناد وضعفه!
قال السيد هاشم معروف الحسني بعد ما أورد الروايات التي تتحدث عما جرى للزهراء عليها السلام.. إلى كثير من الروايات التي لا تثبت أسانيدها في مقابل النقد العلمي(1).
وقال أيضاً: ومهما كان الحال، فالحديث عن فدك وميراث الزهراء من أبيها ومواقفها من ذلك ومن الخلافة طويل وكثير، وبلا شك فإن الأصحاب والأعداء قد وضعوا القسم الأكبر مما هو بين أيدي الرواة ولا يثبت بعد التمحيص والتدقيق في تلك المرويات إلا قليل القليل(2).
وقال كاشف الغطاء: ولكن قضية ضرب الزهراء، ولطم خدها، مما لا يكاد يقبله وجداني، ويتقبله عقلي، ويقتنع به مشاعري, لا لأن القوم يتحرجون ويتورعون من هذه الجرأة العظيمة، بل لأن السجايا العربية والتقاليد الجاهلية -التي ركزتها الشريعة الإسلامية، وزادتها تأييداً وتأكيداً- تمنع بشدة أن تضرب المرأة (3).
__________
(1) انظر: سيرة الأئمة الاثني عشر: (1/133).
(2) المصدر السابق: (1/140).
(3) انظر: جنة المأوى: (ص:135).(31/101)
وقد سئل السيد الخوئي عن صحة رواية كسر ضلع الزهراء فأجابهم: على المشهور، ولم يحكم بصحتها(1).
ثالثاً: قد يقول قائل: إن عليا أُمِر بعدم مقاتلة الصحابة حين اعتدوا على زوجه سيدة نساء العالمين عليها السلام، لحفظ راية الإسلام من سقوطها وافتراق أهل الملة بعد وفاة النبي، وأمره بالصبر على أذاهم.
لكننا نقول ونتساءل:
ابتداء نقول بُعد هذه المقولة عن الصحة، وعلى فرض التسليم على ما قد قيل، فَلِمَ كانت منه المقاتلة يوم الجمل لجيش طلحة وأم المؤمنين عائشة حين خرجوا إلى أهل الكوفة -وكان هو في مكة- ثم قاتل من بعد ذلك جيش معاوية في صفين، وكذلك في النهروان حين قاتل الخوارج، فلم وقع منه كل هذا القتال وسفك الدماء، أليس في تلك الفعال دلالة منه على نبذ وصية النبي بعدم تفريق جماعة المسلمين ؟
لكن الصحيح الذي يتسق مع مجريات الواقع سابقاً أن علياً لم يأمره أحد بعدم المقاتلة إن وقع عليه ظلمٌ أو انتهكت حرمات الله، ومن ذلك ما يُدعى من وقوع ظلم على زوجه الكريمة وأنه لم ينتصر لها، وهذه الرواية قبل أن يتلفظ بها لسان مسلم ليتذكر حال أمير المؤمنين وغيرتَه على دين الله، ثم على أهله من آل بيت المصطفى صلوات ربي عليهم جميعاً.
وقد ثبت عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: (من قُتِل دون مظلمته فهو شهيد).(2)
فهل هذا المعتقد خاف عن أمير المؤمنين وفارس الشجعان؟!
وحذار أن يتلفظ مسلم عاقل بكلام يكون عليه لا له، وليس فيه نصرة لآل البيت الكرام، ذلك أن من يدعي أن علياً كان فارساً، وقاتل جيش طلحة، ومن بعده أهل صفين؛ نصرة لقضية الإمامة، فلِمَ كان بعيدا عن نصرة آل بيته حين ضربوا حتى كادوا أن يموتوا ؟!
__________
(1) انظر: صراط النجاة: (3/314).
(2) انظر الكافي: (5 / 52) , تهذيب الأحكام: (6 / 167) , وسائل الشيعة: (15 / 121).(31/102)
رابعا: يستطيع كل صاحب فتنة -لا يتقيد بالروايات الصحيحة- أن يروي روايات بلا أسانيد صحيحة، لمجرد وجودها وانتشارها في بعض الكتب التاريخية أو الأدبية، ويؤمن بها من بعد ذلك، وتصبح عنده من المسلمات اليقينية التي لا تقبل التشكيك في صحتها.
بل يستطيع كذلك كل مبغض وكاذب على العترة عليهم السلام أن يدعي أن قضية ضرب الزهراء وإسقاط جنينها وإحراق بيتها مؤامرة مدبرة، قام بها أبو بكر وعمر بالاشتراك مع زوجها الإمام علي، في سبيل القضاء على الزهراء عليها السلام.
ويكون هذا الهذيان والاتهام الباطل مبنياً وفق زعم ذلك المبغض على دلائل ومؤشرات يستنبطها من القصة المختلقة نفسها، وتكون وفق زعم المبغض كالآتي:
1- قام الإمام علي بتمثيلية متقنة حين وافق على تقييده عن طريق الصحابة عند دخولهم المنزل وعلى ضربه، ليوهم آل بيته بأنه ضحية هذا التجمع والتآمر، من قبل شخص عمره تجاوز الستين، والآخر جاوز الثالثة والخمسين، مع العلم بأن قوة الإمام علي لا يقاومها أحد من الإنس والجن، مثل ما نقل عنه أنه اقتلع باب خيبر العظيم لوحده بينما لا يستطيع حمله أربعون رجلاً.
2- اعتذار وتحجج الإمام علي عن عدم مقاومته للصحابة بسبب حرصه على المحافظة على حقن دماء المسلمين حجة واهية؛ لأن الصحابة قد ارتدوا بعد وفاة النبي إلا ثلاثة وفق ما تقرره الروايات عن آل البيت عليهم السلام ! فهل كان مقصود الإمام علي عليه السلام بدماء المسلمين هؤلاء الثلاثة فقط؟!! وهل دماء الصحابة أغلى وأزكى عنده من دم الزهراء عليها السلام، فلا يحافظ عليها ويدافع عنها؟!!
3- تزوج الإمام علي بعد وفاة الزهراء بتسع ليال بامرأة من بني حنيفة، ولقب ولدها بابن الحنفية, ووافق بعد ذلك على تزويج أم كلثوم ابنة الزهراء عليها السلام لعمر بن الخطاب أحد أعضاء المؤامرة، مما يدل على حرصه على توثيق الصلة مع أعداء زوجته، وعلى عدم حبه ووفائه للزهراء عليها السلام.(31/103)
4- عندما أصبح الإمام علي قاضياً ووزيراً في زمن الخليفة الأول والثاني، كان هذا مثل المكافأة جزاء لما قام به من إتقانه للدور.
5- حرصه على تسمية أولاده بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان، وتزوجه بأرملة أبي بكر، فيه الدلالة على حرصه على افتخاره بما صنعوا في الماضي وسعيه إلى تخليد ما قاموا به من أعمال، ولو كان ضد الزهراء.
6- لم يعط الإمام علي أولاد فاطمة الزهراء ميراثهم من والدتهم من فدك حينما استلم خلافة المسلمين، وسار على طريقة أصحابه الخلفاء من قبله، بل ولم يمنع التراويح ولا أعاد المتعة.
فهل يقبل المحب لآل البيت عليهم السلام أن ينسب صاحب الفتن الناصبي المبغض مثل هذه التهم إلى أصحاب النبي بضربهم للزهراء وإحراق بيتها، وتخاذل أمير المؤمنين عن نصرة الزهراء عليها السلام، بسبب تعلقه بمرويات مكذوبة تكون عليه، وليست له عند الاستدلال، أم ينافح ويبين الصواب والحق الذي يجمع ولا يفرق؟
السؤال الثامن:
ماذا تقول عن موقف أبي بكر الصديق، وما وقع في أول خلافته من إرساله الصحابة بقيادة خالد بن الوليد وإستباحتهم دماء المسلمين لمجرد جهلهم المتمثل في عدم دفع الزكاة، مثل ما فعلوا بقوم مالك بن نويرة، وقتل خالد له، ودخوله على زوجة مالك في نفس الليلة؟
الجواب:
أولاً: الزكاة أهم ركن من أركان الإسلام بعد الشهادتين والصلاة، وهي حق للفقراء والمساكين وغيرهم من مال الأغنياء، ولهذا كثيراً ما يقرن الله تبارك وتعالى ما بين الصلاة والزكاة في كتابه العزيز، مثل قوله تعالى:
* ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)) [البقرة:43].
* ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) [البقرة:110].(31/104)
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: (إن الله عز وجل قرن الزكاة بالصلاة فقال: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ))، فمن أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة لم يقم الصلاة)(1).
وعن محمد بن مسلم وأبي بصير وبريد وفضيل كلهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله عنه قالا: (فرض الله الزكاة مع الصلاة)(2).
لذلك فإن الحكم في تارك الزكاة كالحكم في تارك الصلاة ألا وهو القتل، وهذا ما أثبته الثقلان: (كتاب الله والأئمة عليهم السلام) قال تعالى: ((فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [التوبة:5].
وعن أبان بن تغلب قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: (دمان في الإسلام حلال من الله، لا يقضي فيهما أحد حتى يبعث الله قائمنا أهل البيت، فإذا بعث الله عز وجل قائمنا أهل البيت حكم فيهما بحكم الله، لا يريد عليهما بينة: الزاني المحصن يرجمه، ومانع الزكاة يضرب عنقه)(3).
وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس، عن ابن مسكان يرفعه، عن رجل، عن أبي جعفر عليه السلام قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ قال: قم يا فلان! قم يا فلان! قم يا فلان! حتى أخرج خمسة نفر فقال: اخرجوا من مسجدنا لا تصلوا فيه وأنتم لا تزكون)(4).
__________
(1) الكافي: (3/506)، من لا يحضره الفقيه: (2/10)، وسائل الشيعة: (9/22).
(2) الكافي: (3/497)، وسائل الشيعة: (9/13).
(3) الكافي: (3/503)، من لا يحضره الفقيه: (2/12)، وسائل الشيعة: (9/33)، مستدرك الوسائل:
(7 /25) , بحار الأنوار: (52/325).
(4) الكافي: (3/503)، من لا يحضره الفقيه: (2/12)، وسائل الشيعة: (9/24)، تهذيب الأحكام: (4/111).(31/105)
ثانياً: من المعلوم وفق الروايات التاريخية التي رواها كبار العلماء أنه قد ارتد الكثير من الأعراب عن الإسلام بعد موت النبي، وترك بعضهم الزكاة وغيرها.
وقد ذكر الطوسي في الأمالي عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم، قال: ارتد الأشعث بن قيس وأناس من العرب لما مات النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نصلي ولا نؤدي الزكاة، فأبى عليهم أبو بكر ذلك، وقال: لا أحُلّ عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أنقصكم شيئاً مما أخذ منكم نبي الله صلى الله عليه وسلم ولأجاهدنكم، ولو منعتموني عقالا مما أخذ منكم نبي لجاهدتكم عليه، ثم قرأ ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)) [آل عمران:144](1).
ولهذا الموقف العظيم أرسل أبو بكر الصديق رضي الله عنه جيوش المسلمين بقيادة خالد ابن الوليد رضي الله عنه لمحاربة هؤلاء المرتدين، وكان من الذين جاءهم خالد بن الوليد رضي الله عنه قوم مالك بن نويرة(2)، وكانوا قد منعوا زكاة أموالهم ولم يدفعوها لأبي بكر، ولا لغير أبي بكر.
ثالثاً: شنع الكثير من أهل الأهواء والفتن على أبي بكر الصديق رضي الله عنه في إرساله خالد بن الوليد رضي الله عنه في الغزوات والحروب، لقتل الناس، واستباحة أموالهم كما يقال زورا وبهتاناً.
والصحيح أن أبا بكر رضي الله عنه لم ينفرد بإرسال خالد بن الوليد رضي الله عنه لقيادة الجيوش، بل كان ممن سبقه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم خالداً رضي الله عنه وبعثه في عدة معارك لنشر الإسلام، كبعثه إلى الطائف، وأهل اليمن، والعزى، والبحرين، ودومة الجندل، وغيرها كثير.
__________
(1) الأمالي للطوسي: (ص:262)، بحار الأنوار: (28/11).
(2) انظر: (ص:102) من هذا الكتاب.(31/106)
ومع تلك البعثات العظيمة التي يُرسل إليها خالد رضي الله عنه من قبل النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الخلفاء، فإننا نجد من يطعن في ذلك الصحابي الجليل بإظهار زلاته والكذب عليه، وإخفاء حسناته، بقصد تشويه تاريخه ومكانته عند النبي صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: قال تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ)) [النور:55].
إن هذه الشروط الثلاثة حصلت للصحابة رضي الله عنهم، الاستخلاف وتمكين الدين، وإبدال الخوف، وهذا حينما ارتد الناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقاتلهم الصحابة فحصل بذلك الأمن والاستقرار.
خامساً: قصة قتل خالد رضي الله عنه لمالك بن نويرة، جاء فيها ثلاث روايات:
الأولى: أن خالد بن الوليد رضي الله عنه جاء لمالك بن نويرة وقومه، فقال لهم: أين زكاة الأموال؟ ما لكم فرقتم بين الصلاة والزكاة؟
فقال مالك بن نويرة: إن هذا المال كنا ندفعه لصاحبكم في حياته، فمات، فما بال أبي بكر؟ فغضب خالد بن الوليد وقال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟ فأمر ضرار بن الأزور أن يضرب عنقه.
وقيل: إن مالك بن نويرة قد تابع سجاح التي ادعت النبوة.
وهناك رواية ثالثة وهي: أن خالد بن الوليد رضي الله عنه لما كلم قوم مالك بن نويرة، وزجرهم عن هذا الأمر وأسَرَ منهم من أسر، قال لأحد حراسه: أدفئوا أسراكم؟ وكانت ليلة شاتية، وكان من لغة ثقيف (أدفئوا الرجل) تعني: اقتلوه، فظن الحارس أن خالداً رضي الله عنه يريد القتل، فقتلهم وفق فهمه بدون أمر خالد بن الوليد رضي الله عنه.(31/107)
ولو تمسكنا بأي رواية مما سبق، فإن كان الخطأ قد وقع من خالد بن الوليد في قتل مالك بن نويرة، فإن العذر يلحقه من باب قتله لمانع للزكاة، أو لمتابعة لسجاح الكذابة، أو أنه كان متأولاً، وهذا التأويل ليس بمسوغ لإقامة الحد والقصاص على خالد رضي الله عنه. ومثل ما وقع فيه خالد رضي الله عنه من خطأ، فإنه قد حدث مثله مع الصحابي الجليل أسامة بن زيد رضي الله عنهما، حينما تأول في قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، ولم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم عليه دية أو كفارة.
قال القمي في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) [النساء:94]: إنها نزلت لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر، وبعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الإسلام، وكان رجل من اليهود يقال له: مرداس بن نهيك الفدكي في بعض القرى، فلما أحس بخيل رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع أهله وماله، وصار في ناحية الجبل، فأقبل يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فمر به أسامة بن زيد فطعنه وقتله، فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ فقال: يا رسول الله إنما قالها تعوذاً من القتل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا شققت الغطاء عن قلبه، لا ما قال بلسانه قبلت، ولا ما كان في نفسه علمت، فحلف أسامة بعد ذلك أنه لا يقاتل أحداً شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)(1).
__________
(1) تفسير القمي: (1/148)، بحار الأنوار: (21/11)، مستدرك الوسائل: (16/79).(31/108)
سادساً: أما القول بأن خالدا رضي الله عنه قتل مالك بن نويرة، ثم تزوج امرأته في تلك الليلة، فهو قول تافه وباطل لا يستند على رواية صحيحة، ولا يستحق أن يضيع عليه شيء من مداد الحق، ويكفي في بيان تفاهة القول أننا نسأل كل إنسان يريد الإنصاف والعدل، فنقول له:
من أين عرفت أن خالد بن الوليد دخل على امرأة مالك بن نويرة في نفس الليلة التي قتل فيها زوجها؟ هل تستطيع أن تأتي بإسناد واحد صحيح يدل على زعمك؟
إن أهل الأهواء والفتن لم يكن لهم قدوة حسنة في حبهم لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا الإنصاف فيهم فيما حصل منهم، بل إنهم يهرفون بالروايات الضعيفة المتناثرة في الكتب، مع تحريفهم لمعانيها، وتأويلهم لها تأويلاً باطلاً، كما هو الحال في قصة زواج خالد بن الوليد رضي الله عنه من امرأة مالك بن نويرة، إذ جعلوا خالداً رضي الله عنه يحرص على قتل مالك لأجل الظفر بزوجته، وهذا من البهتان.
وهذا القول ليس بعسير على من يريد أن ينشر المطاعن والفتن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل يستطيع كل صاحب فتنة أن يتأول ويحرف القصص والروايات والتاريخ على وفق ما يهواه من الكذب وغيره، من دون الرجوع إلى الأسانيد الصحيحة الموافقة للصواب.
لهذا السبب نفسه استطاع المستشرقون أن يطعنوا في النبي صلى الله عليه وسلم كما طُعن في خالد بن الوليد.
فماذا سنقول ونرد لو قال لنا أحد المستشرقين الحاقدين: إن النبي قد نظر إلى امرأة زيد بن حارثة وهي تغتسل وأعجب بها، وطلقها من زوجها حتى تحل له.(31/109)
قال الرضا عليه السلام: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصد دار زيد بن حارثه بن شراحيل الكلبي في أمر أراده فرأى امرأته تغتسل فقال لها: سبحان الذي خلقك! وانما أراد بذلك تنزيه الباري عز وجل عن قول من زعم إن الملائكة بنات الله، فقال الله عز وجل: ((أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنْ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً)) [الإسراء:40] فقال النبي: لما رآها تغتسل: سبحان الذي خلقك أن يتخذ له ولداً يحتاج إلى هذا التطهير والاغتسال، فلما عاد زيد إلى منزله أخبرته امرأته بمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله لها: سبحان الذي خلقك! فلم يعلم زيد ما أراد بذلك، وظن أنه قال ذلك لما أعجبه من حسنها، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله! إن امرأتي في خلقها سوء، وإني أريد طلاقها! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك زوجك واتق الله. وقد كان الله عز وجل عرفه عدد أزواجه وأن تلك المرأة منهن فأخفى ذلك في نفسه ولم يبده لزيد وخشى الناس أن يقولوا: إن محمداً يقول لمولاه: إن امرأتك ستكون لي زوجة، يعيبونه بذلك، فأنزل الله عز وجل: ((وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ)) [الأحزاب:37] يعنى بالإسلام، ((وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ)) يعني بالعتق، ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)) [الأحزاب:37] ثم إن زيد بن حارثة طلقها واعتدت منه، فزوجها الله عز وجل من نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل بذلك قرآنا، فقال عز وجل: ((فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً)) [الأحزاب:37])(31/110)
(1).
فالمبغض الكافر يطير فرحاً بمثل هذه الأقاويل الواهية، لكن المحب للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه رضي الله عنهم يلتمس لهم العذر بعد العذر إن وقع منهم ما يظن أنه زلة أو هفوة، ويعتقد أنه ليس للنبي صلى الله عليه وسلم زلة أو هفوة لعصمته، وإن ثبت هذا الزلل تجاه الصحابة رضي الله عنهم برواية معتمدة مقبولة، فإن الواجب عليه أن لا يظهر المساوئ، بل يقذفها في بحار حسناتهم، ويدير ظهره لها ويغض النظر ويصم الآذان عنها؛ لأن دلالة الحب العفو والصفح والغفران.
وأما الروايات الباطلة، فهي كما قال تعالى: ((فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً)) [الرعد:17].
قبل الختام:
شجون عابرة
لقد عرفنا بالأدلة العقلية والنقلية أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم خير جيل عرفته البشرية كلها وهم خير الخلق بعد الأنبياء والمرسلين، وأن خير القرون كان قرنهم، كما قال تعالى: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران:110].
وأما القول بردتهم فلا يقبله مسلم عاقل، بل يستطيع كل مسلم عامي سليم المعتقد أن يبطل هذه المعتقدات الدخيلة على الإسلام ببعض تساؤلات، قد يحدث بها نفسه دون أن يرجع إلى القرآن والسنة، أو إلى عالم في الدين، وهي بمثابة شجون وخواطر ترد على ذهن المتبع للحق الموافق للعقل المستنير، فمن تلك الخواطر أن يقول - مثلاً-:
أولاً: كيف يستقيم -عقلاً- أن يكون أصحاب خاتم الأنبياء والمرسلين كفاراً وقد أثنى عليهم الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم، وكذا نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وآل بيته وزكَّى ظاهرهم وباطنهم؟ (2) فهل يثني الله عز وجل على منافقين وكفار ومرتدين؟! وهل يفعل ذلك النبي وآل بيته؟!!
__________
(1) عيون أخبار الرضا: (1/203) , الاحتجاج:(2/431) , بحار الأنوار: (22/216).
(2) انظر: (19- 48) من هذا الكتاب.(31/111)
ثانياً: إن المرتد إنما يرتد لشبهة أو شهوة، ومعلوم أن الشبهات والشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى وأكثر، حيث كان المسلمون إذ ذاك مستضعفين، والكفار قد استولوا على أرجاء الأرض، وكان المسلمون يؤذون بمكة، ويلقون من أقاربهم وغيرهم من المشركين من الأذى ما لا يعلمه إلا الله، وهم صابرون على الأذى متجرعون لمرارة البلوى، وقد اتبعوه صلى الله عليه وسلم وهو وحيد فرد في أمره، مقهور مغلوب وأهل الأرض يد واحدة في عداوته.
وقد هاجر بعض المسلمين وتركوا ديارهم وأموالهم، وتركوا ما كانوا عليه من الشرف والسؤدد في قومهم حباً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا كله إنما فعلوه طوعاً واختياراً ورغبة، فمن كان إيمانه راسخاً مثل الجبال الشامخة في حال الضعف والعوز، بالله عليكم كيف سيكون إيمانهم بعد ظهور آيات الإسلام، وانتشار راياته؟ وما الذي حملهم على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد، مثل عدم أخذهم بوصيته صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام بالخلافة، وهم يعلمون أن مخالفة أمره كُفر بربهم، ورجوع عن دينه؟!
فهل يعقل أن يطيع المهاجرون والأنصار جميعهم أبا بكر رضي الله عنه في الكفر بالله! ويتركوا اتباع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه، وهم الذين خرجوا من ديارهم يبتغون فضلا من الله ورضواناً، وينصرون الله ورسوله؟!(31/112)
ثالثاً: كيف يكون يسيراً على النفس الإقدام في الحكم بكفر الصحابة وردتهم، مع أن الإمام علياً عليه السلام وهو العالم الفقيه، الذي روي عنه أنه قال: (سلوني قبل أن تفقدوني)، لم يكفر أحداً ممن قاتله من أهل الجمل وصفين، ولم يسبٍِِِِِِ ذرية أحد منهم ولا غنِم مالهم، ولو كفرهم لكان معه العذر والحجة، لكنه كان من أبعد الناس عن ذلك، وهذا فيمن قاتله فكيف بمن لم يقاتله كأبي بكر وعمر وعثمان؟! بل إنه لم يحكم على هؤلاء بحكم المرتدين، مثلما حكم أبو بكر رضي الله عنه وسائر الصحابة في بني حنيفة وأمثالهم من المرتدين، وكان عليه السلام ينادي المنادي في يوم الجمل ويقول له: (لا يتبع مدبر، ولا يجهز على جريح، ولا تكشف عورة، ولا يهتك ستر!)(1).
وكما كان يقول الإمام علي عليه السلام لأهل حربه: (إنا لم نقاتلهم على التكفير لهم، ولم نقاتلهم على التكفير لنا، ولكنا رأينا أنا على الحق، ورأوا أنهم على الحق)(2).
رابعاً: كيف يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بمجالسة الصالحين، وينهانا عن مجالسة أهل السوء، وقد جالس النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة المرتدين المنافقين -كما يزعمون!- فمن المخطىء يا ترى؟! وكيف لا يحمي الله نبيه صلى الله عليه وسلم من هؤلاء المرتدين -كما يزعمون- في حياته وبعد موته؟!
خامساً: كيف يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بمصاهرة أهل الدين والخلق الحسن، وينهانا عن تزويج أهل الكبائر والذنوب، ثم يخالف هو بنفسه صلى الله عليه وسلم هذا الأمر ويصاهر المرتدين ويصاهرونه كأبي بكر وعمر وعثمان وأبي سفيان؟! فهل أخطأ النبي صلى الله عليه وسلم في مصاهرته لأولئك النفر؟
__________
(1) انظر: مستدرك الوسائل: (11/52)، بحار الأنوار: (32/252).
(2) قرب الإسناد: (ص:45)، بحار الأنوار: (32/324).(31/113)
سادساً: لماذا يسمي أهل البيت عليهم السلام أبناءهم بأسماء كبار الصحابة؛ كأبي بكر وعمر وعثمان ويحرصون على ذلك؟ مع أن هذه الأسماء مهجورة في مجالس العزاء عندنا في هذا الزمان!
فمن ادعى أنهم كفار ومرتدون فله أن يجيز التسمية بأسماء فرعون وقارون وغيرهم، إذ الأمر مرجعه واحد، والكفر ملة واحدة.
ونحن نعلم جميعاً أنه ليس ثمة دلالة في إظهار الحب لآل البيت عليهم السلام، إلا النهل من منهلهم المبارك، مع التقيد بعلمهم المبارك.
سابعاً: كيف نجوّز اللعن والسب على من خالف الإمام علياً عليه السلام وقتله؟ وقد أنكر الإمام عليه السلام بنفسه على شيعته لسبهم ولعنهم لمعاوية؟
وقال لهم: كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين؟! (1).
ثامناً: وفق ما يقرأه المنصف للتاريخ، فلم يثبت أن الصحابة نشروا فكرة باطلة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أو ثاروا عليه عندما أسس الدولة الإسلامية وعزز أركانها.
بل كانوا يحاولون جاهدين مساندته بأموالهم وأرواحهم، وبعضهم مات لأجل ذلك.. فهل المنافق يعمل كل ذلك؟ أم أنه يركن إلى حفظ نفسه، واقتناص الفرص لنيل حظوظ الدنيا؟!
تاسعاً: الفتوحات والملاحم الإسلامية، أليست فيها الدلالة على الصدق والثبات على منهج النبي صلى الله عليه وسلم ؟ أم إنها دلالة على حب الصحابة للدنيا، وهوى النفس، وزهق للأرواح والأنفس في الباطل؟
عاشراً: مؤسسو الدول المعاصرة يختارون الأكفاء من الرجال لمساندتهم في إنشاء دولتهم..
فهل يعقل أن الله أهمل نبيه من الرعاية والعناية، فاختار - تخبطاً من غير حسن تدبير ولا تقدير لعواقب الأمور- حفنة من المنافقين ليعينوا نبيه في نشر دينه، مع أنه خاتم الرسل، بل ويمكّن الله لهم في زمن خلافة الثلاثة، وغيرها من الدول الإسلامية؟!
__________
(1) انظر: مستدرك الوسائل: (12/306)، بحار الأنوار: (32/399)، وقعة صفين: (ص:102).(31/114)
حادي عشر: للعامي المسلم الحق في الاستفسار عن قضية هامة: إذا كان الصحابة مرتدين مارقين مغيرين لدين الله.. فعلى هذا فإن كل ما نُقل عنهم فهو باطل! مثل الأحكام الشرعية وغيرها...
إذاً: بأي شرع صحيح سوف نتعبد به ربنا ؟! وكيف نعتمد على قرآن نقله هؤلاء؟!
أيها القارئ الكريم: يجب علينا أن نعلم علم اليقين أن أعداء الإسلام ابتدعوا الطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم هم الذين نقلوا القرآن والسنة بالأسانيد المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا توجد ديانة من الديانات على وجه الأرض يتوافر عندها إسناد متواتر لكتابها المقدس، أو لسنة نبيها -إن كانوا من أهل الكتب السماوية- إلا المسلمين، الذين يحبون أصحاب نبيهم صلى الله عليه وسلم ويوالونهم.
فالقرآن العظيم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وصلا إلينا عن طريق أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وإخوانهم رضي الله عنهم، ومن اتبعوهم بإحسان وساروا على خطاهم وهديهم، وبهذا يتبين لنا بوضوح امتداد المخطط الحاقد الذي يستهدف هدم الدين، وإبعاد المسلمين عن إسلامهم، واتباعهم ملة اليهود والنصارى، كما حذرنا ربنا تبارك وتعالى عنهم، فقال: ((وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)) [البقرة:120].
وآخر دعوانا أن نقول ما كان يقوله نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في دعاء القيام:
(اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
آمين.. آمين.. آمين..
قائمة المراجع
1- القرآن الكريم.
2- الاحتجاج - أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي - نشر مرتضى مشهد مقدسي (1413هـ).
3- الاختصاص - محمد بن محمد النعمان الملقب (بالمفيد) - انتشارات كنكرة جهاني - قم - (1413هـ).(31/115)
4- إرشاد القلوب - حسن بن أبي الحسن الديلمي - انتشارات شريف رضا –
(1412هـ).
5- آراء حول القرآن - السيد الفاني الأصفاني - دار الهادي - بيروت.
6- إعلام الورى - أمين الدين فضل بن حسن الطبرسي - دار الكتب الإسلامية - طهران.
7- أمالي الصدوق - لأبي جعفر محمد بن بابويه القمي المعروف (بالصدوق) - انتشارات كتابخانه إسلامية - (1362هـ).
8- أمالي الطوسي - تأليف شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي - انتشارات دار الثقافة - قم - (1414هـ).
9- بحار الأنوار - تأليف الشيخ محمد باقر المجلسي - مؤسسة الوفاء - بيروت - لبنان - (1404هـ).
10- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن بن فروخ الصفار - مكتبة آية الله المرعشي - قم (1404هـ)
11- تأويل الآيات الظاهرة - للسيد شرف الدين حسين استرابادي - انتشارات جامعة مدرسين - قم - (1409هـ).
12- تهذيب الأحكام - أبو جعفر محمد عبد الحسن الطوسي - دار الكتب الإسلامية - طهران - (1365هـ).
13- تفسير الأمثل - ناصر مكارم الشيرازي - الطبعة الأولى - مؤسسة البعثة للطباعة والنشر - بيروت.
14- تفسير بيان السعادة - الحاج سلطان محمد الجنابذي، الطبعة الثانية، مطبعة جامعة طهران.
15- تفسير التبيان - أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، الطبعة الأولى، تحقيق: أحمد حبيب العاملي، قم، مكتب الإعلام الإسلامي.
16- تفسير تقريب القرآن - السيد محمد الحسيني الشيرازي، الطبعة الأولى مؤسسة الوفاء - بيروت.
17- تفسير جامع الجوامع - أمين الدين أبو علي الفضل الطبرسي، الطبعة الثالثة، مؤسسة النشر والطبع، جامعة طهران.
18- تفسير الجديد - الشيخ محمد السبزواري النجفي، الطبعة الأولى، دار التعارف للمطبوعات - بيروت.
19- تفسير الجوهر الثمين - السيد عبد الله شبر، الطبعة الأولى، مكتبة الألفين - الكويت.
20- تفسير شبر - السيد عبد الله شبر، الطبعة الأولى، دار البلاغة للطباعة والنشر - بيروت.(31/116)
21- تفسير الصافي - المولى محسن الملقب بـ(الفيض الكاشاني)، الطبعة الأولى دار المرتضى للنشر - مشهد.
22- تفسير العياشي - أبو النضر محمد بن مسعود بن عياش، طهران - المكتبة العلمية الإسلامية.
23- تفسير القمي - علي بن إبراهيم القمي - الطبعة الثالثة - قم - مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر.
24- تفسير الكاشف - محمد جواد مغنية، الطبعة الثالثة، دار العلم للملايين.
25- تفسير مجمع البيان - أمين الدين أبو علي الفضل الطبرسي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، (1379هـ).
26- تفسير مختصر مجمع البيان - الشيخ محمد باقر الناصري، الطباعة الثانية قم: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.
27- تفسير المعين - المولى نور الدين محمد بن مرتضى الكاشاني، الطبعة الأولى قم: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي.
28- تفسير مقتنيات الدرر - مير سيد علي الحائري الطهراني، طهران - دار الكتب الإسلامية.
29- تفسير من هدي القرآن - السيد محمد تقي المدرسي، الطبعة الأولى، دار الهدى.
30- تفسير المنير - محمد الكرمي، قم، المطبعة العلمية (1402هـ).
31- تفسير من وحي القرآن - السيد محمد حسين فضل الله، الطبعة الثالثة بيروت، دار الزهراء للطباعة والنشر.
32- تفسير الميزان - السيد محمد حسين الطبطبائي، الطبعة الثالثة، طهران: دار الكتب الإسلامية.
33- تفسير نور الثقلين - الشيخ عبد علي بن جمعة الحويزي، الطبعة الثانية - قم: المطبعة العلمية.
34- تفسير الوجيز - علي بن الحسين بن أبي جامع العاملي - دار القرآن الكريم - قم - الطبعة الأولى.
35- ثواب الأعمال - لأبي جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي - انتشارات شريف رضا - قم - (1346هـ).
36- الحدائق الناضرة - المحقق البحراني - الناشر جماعة المدرسين - قم.
37- الخصال - لأبي جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي (الصدوق) - انتشارات جامعة مدرسين - قم - (1403هـ).(31/117)
38- الدعوات - قطب الدين الراوندي - مدرسة الإمام المهدي (عج) - قم - (1407هـ)
39- رجال ابن داود - ابن داود الحلي - مؤسسة النشر في جامعة طهران - (1383هـ).
40- رجال الطوسي - أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي - منشورات الرحمن - قم، إيران.
41- رجال الكشي - تأليف محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي - انتشارات دانشكار - مشهد - (1348هـ).
42- سر السلسلة العلوية - لابن نصر البخاري.
43- سيرة الأئمة الاثني عشر - السيد هاشم معروف الحسيني - طبعة دار المعارف - الطبعة السادسة.
44- شرح أصول الكافي - مولى محمد صالح المازندراني.
45- شرح نهج البلاغة - عبدالحميد بن أبي الحديد المعتزلي - كتابخانه آية الله المرعشي - قم- (1404هـ).
46- الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم - العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي - دار الهادي - بيروت - الطبعة الرابعة.
47- الصحيفة السجادية - الإمام علي بن الحسين (ع) - نشر الهادي - قم - (1376هـ).
48- صراط النجاة في أجوبة الاستفتاءات - آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي - دار المحجة البيضاء دار الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم الطبعة الأولى.
49- علل الشرائع: أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي (الصدوق) - انتشارات مكتبة الداوري - قم.
50- العمدة: لابن بطريق يحيى بن حسن الحلي - انتشارات جامعة مدرسين - قم - (1407هـ).
51 - عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب – لابن عنبة.
52- عوالي اللآلى: لابن أبي جمهور الأحسائي - انتشارات سيد الشهداء عليه السلام - قم - (1405هـ).
53- عيون أخبار الرضا عليه السلام: لأبي جعفر محمد بن علي (الصدوق) - انتشارات جهان - (1378هـ).
54- فرق الشيعة: للشيخ الحسن بن موسى النوبختي - الطبعة الثانية (1404هـ) - منشورات دار الأضواء - بيروت - لبنان.
55- فقه الرضا (ع) - نشر المؤتمر للإمام الرضا (ع) - (1406هـ).(31/118)
56- قرب الإسناد - عبدالله بن جعفر الحميري - مكتبة نينوى - طهران.
57- الكافي - محمد بن يعقوب الكليني - دار الكتب الإسلامية - (1365هـ).
58- كشف الغمة في معرفة الأئمة: لأبي الحسن علي بن عيسى الأربلي - جاب مكتبة بني هاشم تبريز - (1381هـ).
59- لسان العرب - للعلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور - دار الفكر للطباعة والنشر - الطبعة الأولى.
60- مجموعة ورام: لورام بن أبي فراس - انتشارات مكتبة الفقيه - قم.
61- مجمع الرجال: علي القهبائي - مؤسسة مطبوعاتي إسماعيلاتي.
62- مدينة المعاجز: السيد هاشم البحراني - مؤسسة المعارف الإسلامية - قم. ط. الأولى.
63- مستدرك الوسائل: لحسين النوري الطبرسي - مؤسسة آل البيت عليهم السلام - قم - (1408هـ).
64- المقالات والفرق: سعد بن عبدالله الأشعري - نشر مؤسسة مطبوعاتي عطاني طهران (1963م).
65- من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - مؤسسة النشر الإسلامي - قم - (1413هـ).
66- مناقب آل أبي طالب عليه السلام: لأبي جعفر محمد بن علي بن شهر آشوب المازندراني - مؤسسة انتشارات العلامة - قم - (1379هـ).
67- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: العلامة ميرزا حبيب الله الخوئي - مؤسسة دار الوفاء، بيروت.
68- نهج البلاغة - من كلام أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام - اختاره الشريف الرضي - انتشارات دار الهجرة - قم.
69- النوادر: السيد فضل الله الراوندي - مؤسسة دار الكتاب - قم.
70- وقعة صفين - نصر بن مزاحم بن سيار المنقري - مكتبة آية الله المرعشي - قم - (1403هـ).
71- وسائل الشيعة - محمد بن الحسن الحر العاملي - مؤسسة آل البيت - قم - (1409هـ).
فهرس المحتويات
المقدمة: ... 4
المدخل: ... 6
المبحث الأول: تعريف لفظ (الصحابة) ... 9
أولاً: تعريف لفظ (الصحابي) لغة: ... 9
ثانياً: تعريف الصحابي شرعاً: ... 12(31/119)
المبحث الثاني: ثناء الثقلين على الصحابة رضي الله عنهم ... 13
أولاً: ثناء الثقلين على أصحاب النبي عليه السلام: ... 14
ثانياً: ثناء الثقلين على الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم: ... 22
ثالثاً: ثناء الثقلين على المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم: ... 25
رابعاً: ثناء الثقلين على أهل بدر رضي الله عنهم: ... 31
خامساً: ثناء الثقلين على من أنفق وقاتل قبل الفتح وبعده: ... 31
المبحث الثالث: كيف ظهرت الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم ؟ ... 36
أولاً: أول من أشعل الفتنة بين المسلمين: ... 36
ثانياً: بداية الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم: ... 40
معركة الجمل: ... 42
معركة صفين: ... 43
ما بعد استشهاد الإمام علي عليه السلام: ... 46
المبحث الرابع: المؤامرة ضد الإسلام والمسلمين ... 48
أولاً: إسقاط عدالة أصحاب النبي عليه السلام: ... 48
ثانياً: تشويه سيرة الصحابة رضي الله عنهم: ... 54
ثالثاً: الغلو.. والتقول على العترة الكرام ... 76
المبحث الخامس: الموقف الصحيح (الحق) من أصحاب النبي عليه السلام ... 57
المبحث السادس: الأسماء والمصاهرات بين الصحابة رضي الله عنهم والآل عليهم السلام ... 60
المبحث السابع: سؤال وجواب ... 71
قبل الختام: شجون عابرة ... 109
قائمة المراجع ... 113
فهرس المحتويات ... 119(31/120)
محمد بن عبد الوهاب
وموقفه من آل البيت عليهم السلام
بقلم
خالد بن أحمد الزهراني
راجعه الشيخ
علوي بن عبد القادر السقاف
بسم الله الرحمن الرحيم
دعوة الشيخ محمد بن عبدا لوهاب رحمه الله
يقول رحمه الله: (ولست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل ابن القيم والذهبي وابن كثير وغيرهم.. بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأدعو إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم وأرجو أني لا أردُّ الحق إذا أتاني بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلها على الرأس والعين.. ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقول إلا الحق) اهـ.
الرسائل الشخصية، الرسالة السابعة والثلاثون (1/252)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله محمدا بالحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأيده بالكتاب الحق المبين؛ وأصحابه ذوي الفضل العظيم؛ وآله الطيبين الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. أحمده كما ينبغي لعظيم سلطانه وأصلي وأسلم على نبيه الرحمة المهداة، وعلى آله الهداة، وأصحابه الميامين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى من اتبع هداهم واقتفى آثارهم إلى يوم الدين. وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة أرجو بها النجاة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وأشهد أن محمداً رسوله وخليله وصفيه شهادة أرجو بها من الله شفاعته يوم القيامة...
أما بعد:
الباعث على كتابة هذه الرسالة(32/1)
إن المتتبع لما يُكتب عن الأعلام المصلحين الذي بلغت شهرتهم الآفاق، وعَلِمَ أمرهم البعض وجهله آخرون ليعلم أن من أبرز هؤلاء الشيخ (محمد بن عبدالوهاب رحمه الله) فقد كُتبت عنه مئات الكتب، وفيها من أصاب الحق في بيان دعوته ومنهجه، وفيها من تعمد الكذب عليه وأساء إليه وكال له الاتهامات؛ وعلى أقل أحوالهم أنهم يجهلون حاله وينقلون ممن تعمد الكذب عليه في مسائل كثيرة وأبحاث كبيرة.. ومنها موقفه رحمه الله من أهل البيت عليهم السلام .
ومن هنا استخرت الله في كتابة رسالة تبين موقف هذا الشيخ المصلح من آل البيت عليهم السلام موثقةً من أقواله في كتبه ورسائله الخاصة ليروا أن للشيخ رحمه الله مزيد عناية بهذا الجانب، فإن كتب الرجل ومؤلفاته هي الشاهد الثقة على معتقده في آل بيت النبوة رضي الله عنهم.
وآثرت الاختصار وعدم الإطناب لأن الأمر في الأصل بيِّن جلي فالشيخ من أئمة أهل السنة والجماعة الذين يحبون آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويعرفون لهم حقوقهم ومنزلتهم.
وأحيط القارئ الكريم أني تجاوزت عن نقل بعض الأمور عنه رحمه الله فيما يخص آل البيت عليهم السلام طلباً للاختصار وعدم البسط ويتلخص ذلك في كلامٍ كثيرٍ له يدور حول ثلاث نقاط وهي :
الأولى: ذكر آل البيت عليهم السلام عند الصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وانظر على سبيل المثال:
آخر رسالته (كشف الشبهات) 1/181 و (كتاب التوحيد) 1/151 و (فضل الإسلام) 1/276 و (مفيد المستفيد) 1/325 و(الخطب) في مواضع كثيرة جداً منها على سبيل المثال لا الحصر :
5، 7،10،11،13،16،18، 21، 29،37... وغيرها.
الثانية: مواضع تَرَضِّيه وتَرَحُّمِه رحمه الله عن آل البيت كلما مرَّ ذكرهم أو أحدهم.
وانظر على سبيل المثال فقط من كتابه (التوحيد) :
ص: 20، 22، 35، 56، 64، 74، 82، 88، 93، 95، 112، 149... وهذا في كتيب صغير من كتبه رحمه الله؛ فكيف ببقية كتبه الكبار؟!(32/2)
الثالثة: مواضع كثيرة في كتبه رحمه الله ذكر فيها اختيارات فقهاء آل البيت وساداتهم من المجتهدين في فروع الشريعة والفقهيات.
ومن ذلك: في كتاب (مختصر الإنصاف):
كتاب الزكاة (1/227 )و كتاب الصيام(1/255)و باب الإحرام (1/279)و باب الهدي والأضاحي(1/352) .
وانظر كذلك: كتاب المناسك قسم الحديث (مسألة 113)
(3/47) , وباب حد المسكر والتعزير قسم الحديث
(مسألة 1756) ( 4/242).
ومن أراد الوقوف عليها فعليه بمطالعة كتبه عامة وسيجد مالا يستطيع تقييده من كلامه رحمه الله وأجزل له المثوبة.
وقد اعتمدت في النقل على (مجموع مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب) طبع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
- وأتقدم هنا بالشكر لكل من تفضل علي بالنظر في هذه الرسالة، أسأل الله لي ولهم الأجر والثواب.
كتبه / خالد بن أحمد الزهراني
kzahrany@hotmail.com
0505848988
من هو محمد بن عبدا لوهاب؟
هو مصلح ظهر في قلب الجزيرة العربية وأهلها آنذاك في ظلام دامس وبُعدٍ عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقوم يدعون الأشجار وآخرون يرجون من الأحجار ما يرجون من الله الغفار! ظُلمٌ وقَتلٌ ونهبٌ بين القبائل، فالقوي يأكل الضعيف؛ والكبير يغلب الصغير؛ والغني يظلم الفقير.. نعم إنها غربة الدين.
ولد عام (1115هـ) على هذا الوضع السائد في الجزيرة وما جاورها، فنشأ نشأة صالحة في بيت علم ودين فطلب العلم، وسافر من نجد إلى مكة ثم المدينة النبوية ثم البصرة وأقام بها مدة يستزيد من العلم على أيدي علمائها، حيث تكونت شخصيته العلمية وقوي عوده وأكسبته التجارب ورؤية أهل البلاد المختلفة قوة في حمل الحق والدفاع عنه.(32/3)
وفي البصرة بدأ ينكر على العامة أفعالهم الشركية وينكر على العلماء سكوتهم، واستحسن ذلك منه أحد أشياخه هناك وهو الشيخ (المجموعي). وقيل إن الشيخ ألف كتابه التوحيد بالبصرة لنفع العامة والجهلة، وقيل إنه ألفه في حريملاء بعدما قدم من البصرة.
ولكنه لشدة غربة الدين آنذاك وشدة بعد الناس عن منابع الدين الأصلية واجهه كثيرٌ من العامة والخاصة،آذوه أشد الأذى وأخرجوه من البصرة في الهاجرة ماشياً وحده، فيَمَّمَ وجهه نحو الزبير، وأراد مواصلة المسير إلى الشام لتمام مقصده من العلم ولكن ضياع نفقته منه أثنى عزمه عن المسير إليها، فقصد الأحساء ونزل إلى علمائها والتقى بفحول العلماء هناك في ضيافة الشيخ عبدا لله بن محمد بن عبدا للطيف الأحسائي الشافعي. ثم بعد هذا السفر الشاق والبعد عن بلده ووالده عاد بعد رحلته العلمية إلى نجد، فعاود القراءة في كتب التفسير والعقيدة والحديث، فوافق هذا الإطلاع من الشيخ ذهناً حاداً وفكراً نيراً وفهماً صحيحاً وتحرزاً من التقليد وبعداً عن الجمود وطلباً للحق مِنْ مراجعهِ الصحيحة ومنابعهِ الأولى.
وقام بعد ذلك بواجب الدعوة إلى الله وتصحيح مااندرس من معالم الدين الخالص والتوحيد النقي وأراد الرجوع بالناس إلى العقيدة الخالصة ونبذ الشركيات وتوحيد رب الأرض والسماوات.. ولكنه لقي معارضة قوية وأذية كبيرة من مناوئيه، إلا أن ذلك لم يثنه عن عزمه ولم يصده عن مقصده شأنه شأن الدعاة المصلحين السائرين على خطا سيد الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
وبعد حياة حافلة بالعلم والدعوة وافاه أجل الله تعالى في عام (1206هـ) رحمه الله رحمة واسعة وغفر له ولجميع المؤمنين.
وقفة تأمل وتحقيق(32/4)
هذه سيرة هذا الشيخ كما جاءت ممن ترجم له وممن هم أعرف الناس بحاله، ولكن كما أسلفنا لكل مصلح مناويء وشانيء؛ ابتداء من الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، وانتهاء بكل مصلح وداعية إلى الحق يأتي بخلاف الواقع الذي عليه قومه ومعاصروه، فهذا الشيخ المظلوم قد رماه أعداؤه عن قوس واحده ولكن تكسرت الرماح دونه، وما أحقهم بقول القائل:
كناطح صخرة يوماً ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
فأعلى الله شأنه؛ وكبت أعداءه ومبغضيه،فالتاريخ والعالم كله قد عرف (محمد بن عبدا لوهاب) ولكن من يعرف ابن جرجيس أوابن داوود الزبيري أوالقباني أواللكنهوري أوالنبهاني... وغيرهم؛ وبقي هذا الشيخ علماً على الهداية ومجدداً أمر هذا الدين في هذا العصر، وصدق الله العظيم القائل: ? - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - - ( - ( - (( - - ( - - - } - - رضي الله عنهم - - ( - - - - - (((- رضي الله عنه - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - } تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - ( ( - - رضي الله عنه - - } - - - - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - عليه السلام - - - ( } ( - - - (( - - } تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله (( - ( - - رضي الله عنه - - { } - } - - - - ( { ( - ( - - عليه السلام - - - ( - (( ((( - - } - - - رضي الله عنهم - - ( - ( - - - - ( - ( - (( - - ( - - - - رضي الله عنه - - - - الله ( تم بحمد الله - } - - (((( ?
[الرعد:17](32/5)
وعلى هذا فليعم القارئ الكريم أن كل من كتب عن هذا الشيخ من أعدائه دعاة الضلالة أصحاب المصالح الذاتية والمناصب الدنيوية اتفقوا في الكذب عليه والبهتان وإشاعة الدعايات المنفرة عنه، وهكذا تتابع من بعدهم على النقل ممن قبلهم بدون تمحيص أو رجوع على الأقل إلى كتاباته وكتبه وأقواله ورسائله ليقفوا على الحق المبين الذي ينسف كل كذبة ودعاية ألصقت بهذا المصلح المفترى عليه، فإن هذا هو المنهج العلمي الحق لمن أراد معرفة معتقد وأقوال الآخرين، فدونه كتاباتهم وكتبهم فما وافق الحق قبلناه وما خالفه ضربنا به عرض الحائط.
- وقبل الشروع في نقل أقواله رحمه الله في آل البيت رضي عنهم نذكر أمراً ربما استشكله البعض، وهو لماذا لم يكن للشيخ مصنفاً مفرداً في آل البيت وفضلهم ومكانتهم؟ وللجواب على هذا نقول وبالله التوفيق:
أولاً: إنَّ الشيخ رحمه الله كان يغلب على عصره الأمور الشركية من دعاء غير الله واستغاثة بالأولياء والصالحين وعبادة للقبور، وذلك لفشو الجهل بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعدم فهمهما الفهم الصحيح. ولم يكن النصب ومعاداة أهل البيت السائد في زمنه رحمه الله فكتب وصنف فيما يعانيه أهل زمانه من بعدٍ عن حقيقة التوحيد وعدم معرفة الشرك.
ثانياً: الشيخ رحمه الله من أهل السنة والجماعة الذين يعرفون حقوق آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وينشرون فضائلهم في كتبهم ومن أقوال أئمتهم رحمهم الله، ففي الصحيحين فضائل آل البيت وفي بقية السنن والمسانيد كذلك، وفي كتب فضائل الصحابة كذلك؛ وهذه الكتب هي معتمد الشيخ رحمه الله في بيان اعتقاده فيما صح منها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: لا يلزم من كل عالمٍ أنْ يؤلف في فضائل آل البيت عليهم السلام حتى يُعد موافقاً لأهل السنة والجماعة في ذلك! فهذا النووي وابن حجر رحمهما الله وغيرهما كثير لم يؤلف أحدٌ منهم مُؤلفاً مُستقلاً في آل البيت عليهم السلام .(32/6)
- والآن نشرع في المقصود، وهو نقل نصوصٍ من أقوال الشيخ فيها بيان محبته وتعظيمه لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جعلتها في عناوين ليسهل على القارئ فهم النصوص وترتيب الأفكار. فأقول وبالله وحده أستعين:
يُسمي أبناءه بأسماء آل البيت عليهم السلام
لاشك أن كل عاقل لا يسمي أبناءه إلا بمن يحبهم، وأظهر من ذلك أنه لا يسميهم بمن يبغضهم!(1).
ومن هنا فقد سمَّى الشيخ محمد بن عبدا لوهاب ابنه الأكبر علياً وابنته فاطمة واثنين من أبنائه حسناً وحسيناً راجع كتاب الدرر السنية الطبعة الأولى دار الإفتاء (12/19). وكذلك كتاب: علماء نجد للبسام (1/ 155)... فَنِعْمَ الاسم والمسمى فهم آل بيت النبي رضوان الله عليهم أجمعين. فهل سيطل علينا من يقول إن (محمد بن عبدا لوهاب) يبغض آل البيت عليهم السلام؟
آل البيت أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا
هكذا يعتقد الشيخ في آل البيت رضي الله عنهم وهذا منطوق كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة فيهم عليهم السلام.
يقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب في كتابه مجموع المؤلفات (كتاب الطهارة) (1/5).
__________
(1) ولا بأس هنا أن نبين حال أهل البيت ي في تسمية أبنائهم ولو بالإشارة فقط، فهذا علي ت يسمي من أبنائه ثلاثة بأسماء الخلفاء قبله (أبو بكر وعمر وعثمان) ولا عجب فإنهم إخوة وأصهار ورحماء بينهم كما وصفهم الله تعالى. فأبو بكر صهر رسول الله وكذا عمر، فبعد وفاة أبي بكر تزوج عليٌ من أرملته (أسماء بنت عميس)، وزوَّج عليٌ ابنته (أم كلثوم) عمر رضي الله عنهم أجمعين، وعثمان زوجه النبي ( بابنتيه اللاتي هنَّ أخوات فاطمة الزهراء. ثم هذا الحسين ت سيد شباب أهل الجنة يُسمي ابنه (عمر) ولا غرابة! أليس هو زوج أخته؟(32/7)
(الطهارة تارة تكون من الأعيان النجسة، وتارة من الأعمال الخبيثة، وتارة من الأعمال المانعة، فمن الأول قوله تعالى:
? - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - - - عليه السلام - - ( بسم الله الرحمن الرحيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - - - ( - ( ((( ? [المدثر:4] على أحد الأقوال.
ومن الثاني قوله تعالى: ? - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر ( { ( - - ( - ( - ( - - - - - ( - ( - ( - ( - ( المحتويات ( تمهيد - - رضي الله عنه -( { { ( - ( - - - - - - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - ( - - - ( - ( - - رضي الله عنه - - ( - - - (( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - - ( - (( - - (((( ? [الأحزاب:33].
ومن الثالث قوله تعالى: ? تمت ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - ( - - - جل جلاله - تمهيد ( - ( - } - - صلى الله عليه وسلم -( - - - { ( - - - ( ? [المائدة:6]. انتهى كلامه رحمه الله.
ففيه أن الشيخ يفهم من الآية أن الله قد طهر أهل البيت عليهم السلام من الأعمال الخبيثة. ويؤكد رحمه هذا المعنى في خطبة له عند ذكره للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله فيصفهم بأن الله (أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) انظر رسالته الخطب (1/49).
هكذا يعتقد رحمه الله؛ أن الله يريد أن يُذهب الرجس عن آل البيت ويطهرهم تطهيرًا، و يُنزههم عن الأعمال الخبيثة عليهم السلام .
الوصية بكتاب الله وأهل بيت رسوله صلى الله عليه وسلم
قال رحمه الله في كتابه (فضل الإسلام) (1/256): (بابُ الوصيّة بكتابِ الله عزّ وجلَّ).(32/8)
وقوله تعالى: ? } - قرآن كريم ((( - ( - - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - - ( - الله أكبر ( - المحتويات ( - ( - - - ( { صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ( فهرس - { - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - قرآن كريم ((( - ( - - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ((( مقدمة ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم -( - - عليه السلام -( - - - عليه السلام - - ( - (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - - الله - - ( - - - - } تم بحمد الله - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - { - - - - - ((( ? [الأعراف:3].
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أَما بعد أَلا أيها الناس فإنما أَنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أَولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي) وفي لفظ: (كتاب الله هو حبل الله المتين من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة) رواه مسلم] اهـ.
وقال كذلك في كتاب فضائل القرآن (1/22) (باب من ابتغى الهدى من غير القرآن):(32/9)
وقول الله عز وجل: ? صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ((((- رضي الله عنه - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( ( - ( - ( - ( صدق الله العظيم (- عليه السلام - - ( قرآن كريم { - - - - ((( - - - { ( الله أكبر (( مقدمة - - - - جل جلاله - - ( - (( - - { - عليه السلام - قرآن كريم ( - - ( (( مقدمة - - ( صدق الله العظيم - ( - - - (((( ? [الزخرف:36] الآيتين وقوله تعالى: ? - - عليه السلام - - ( - } - - رضي الله عنه - الله أكبر - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - درهم ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - - (- رضي الله عنه - - ( - ( - - - - - جل جلاله - - (- عليه السلام - - ( - ( - (- صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - - - ((( - ( ? [النحل:89].
وعن زيد بن أرقم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً بماء يدعى: خماً فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: "أما بعد: أيها الناس إنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول من ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به. فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: "وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)اهـ.
وهكذا الشيخ رحمه الله؛ يحفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم ويوردها مع وصيته صلى الله عليه وسلم بأهل بيته عليهم السلام، وماذاك إلا لفهم الشيخ رحمه الله أن الاستمساك بهدي أهل البيت وما صح عنهم غير مخالف ولا مضاد للقرآن الكريم بل هم رحمهم الله من أكمل الناس امتثالاً للقرآن الكريم.
من الغلو إسقاط حقوق آل البيت عليهم السلام(32/10)
عاتب الشيخ رحمه الله بعض أتباعه لمَّا علم أنهم أنكروا على أحد الأشراف المنتسبين لآل البيت تقبيل الناس يده ولبسه اللون الأخضر في ذلك الزمان، فقال كما في الرسائل الشخصية (1/284): (فقد ذكر لي عنكم أن بعض الإخوان تكلم في عبد المحسن الشريف يقول: إن أهل الحسا يحبون على يدك وأنك لابس عمامة خضراء والإنسان لا يجوز له الإنكار إلا بعد المعرفة، فأول درجات الإنكار معرفتك أن هذا مخالف لأمر الله، وأما تقبيل اليد فلا يجوز إنكار مثله وهي مسألة فيها اختلاف بين أهل العلم، وقد قبل زيد بن ثابت يد ابن عباس وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا، وعلى كل حال فلا يجوز لهم إنكار كل مسألة لا يعرفون حكم الله فيها، وأما لبس الأخضر فإنها أحدثت قديماً تمييزاً لأهل البيت لئلا يظلمهم أحد أو يقصر في حقهم من لا يعرفهم، وقد أوجب الله لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس حقوقاً فلا يجوز لمسلم أن يسقط حقهم ويظن أنه من التوحيد بل هو من الغلو...).
سبق أهل البيت بكل فضل لطيب معدنهم
وكون النبي صلى الله عليه وسلم منهم(32/11)
يقول رحمه الله تعالى في الرسائل الشخصية (1/312) الرسالة (48): (والواجب على الكل منا ومنكم أنه يقصد بعلمه وجه الله ونصر رسوله كما قال تعالى: ? ( - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - } - صلى الله عليه وسلم - - ( - - - - رضي الله عنه - - ( - الله - ( تم بحمد الله - صدق الله العظيم (( - - ( - } - جل جلاله - - - - - - - رضي الله عنهم - - - - المحتويات ( تمهيد ( - ( - - - - - عليه السلام -( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - - (- رضي الله عنه - - ( - - { - رضي الله عنهم - - ( - ( مقدمة - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - بسم الله الرحمن الرحيم ( بسم الله الرحمن الرحيم ( المحتويات ( - - عليه السلام -( - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم ( - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - ( - ( - - - ( - تم بحمد الله - - رضي الله عنهم - - ( - - ( المحتويات ( - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنه - تم بحمد الله - صدق الله العظيم (- جل جلاله -( تم بحمد الله ( - ( - - - (( مقدمة ( - (( مقدمة ( الله أكبر ( - ((- جل جلاله -- رضي الله عنه - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -? [آل عمران:81] فإذا كان سبحانه قد أخذ الميثاق على الأنبياء إن أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم على الإيمان به ونصرته فكيف بنا يا أمته؟ فلا بد من الإيمان به ولا بد من نصرته لا يكفي أحدهما عن الآخر، وأحق الناس بذلك وأولاهم به أهل البيت الذي بعثه الله منهم وشرفهم على أهل الأرض، وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم.والسلام).(32/12)
فهو هنا رحمه الله يبين أن الله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو أساس أهل البيت؛ وشرَّف أهل بيته على أهل الأرض أجمعين. وفيه أنه رحمه الله يُثبت وجود فئة من أهل بيت النبوة في عصره حيث يخاطبهم في هذه الرسالة لا كما يزعم خصومه أنه يُنكر وجودهم وأن نسبه صلى الله عليه وسلم انقطع.
وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيته في كل صلاة
جاء في رسالته شروط الصلاة وأركانها وواجباتها (1/11) وكذا في عامة رسائله رحمه الله عند ذكر صفة الصلاة الإبراهيمية مايلي:
("اللّهُمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما صلّيْتَ على إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد " الصَّلاةُ من الله ثناؤهُ على عبده في الملإ الأعلى، كما حكى البخاريُّ في صحيحه عن أبي العالية قال: صلاةُ الله ثناؤهُ على عبده في الملإ الأعلى).
وجاء في رسالته آداب المشي إلى الصلاة (صفة الصلاة) (1/10) قوله رحمه الله: (فيقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، ويجوز أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مما ورد. وآل محمد أهل بيته).
* وهذا الدعاء كما يعلم كل مسلم ركن من أركان الصلاة؛ لا تصح صلاة مسلم إلا به، وهذا مذهب الشيخ محمد بن عبدالوهاب الذي دل عليه الدليل.
لآل النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة حق لا يشركهم فيه غيرهم ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة مالا يستحق غيرهم(32/13)
قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في كتابه (مسائل لخصها (1/51): (لآله صلى الله عليه وسلم على الأمة حق لا يشركهم فيه غيرهم، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة مالا يستحق سائر قريش وقريش يستحقون مالا يستحق غيرهم من القبائل، كما أن جنس العرب يستحقون من ذلك ما لا يستحقه سائر أجناس بني آدم -إلى أن قال- ولهذا كان في بني هاشم النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يماثله أحد في قريش، وفي قريش الخلفاء وغيرهم ما لا نظير له في العرب وفي العرب من السابقين الأولين ما لا نظير له في سائر الأجناس).
فهذه عقيدة الشيخ في آل بيت النبي وأهله وقرابته صلى الله عليه وسلم أنَّ لهم على الأمة حقاً وواجباً لا يشركهم فيه غيرهم من بقية الناس، ويستحقون رضي الله عنهم من زيادة المحبة والموالاة مالا يستحقه غيرهم من الناس. وهذا فضل الله يُؤتيه من يشاء.
تلقيبه عليٌ رضي الله عنه بالمرتضى وأنه رابع الخلفاء الراشدين
* قال رحمه الله في الرسائل الشخصية الرسالة الأولى (1/10):
(وأومن بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته؛ وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق؛ ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة... الخ).
الشيخ محمد بن عبد الوهاب يعد الإمام علي رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين المهدين عنده ويلقبه بالمرتضى، وأنه من أفاضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم.
ما أصيب به الحسين رضي الله عنه من الشهادة في يوم عاشوراء إنما كان كرامة من الله عز وجل أكرمه بها ومزيد حظوة ورفع درجة عند ربه وإلحاقاً له بدرجات أهل بيت الطاهرين(32/14)
قال رحمه الله في رسالة الرد على الرافضة (1/ 48) في معرض نقله كلاماً جميلاً لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله حول مُصاب الأمة في الحسين وقتلته الشنيعة؛ حاثاً على الصبر وعدم الجزع. قال رحمه الله: (قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي الحراني رحمه الله: اعلم وفقني الله وإياك أن ما أصيب به الحسين رضي الله عنه من الشهادة في يوم عاشوراء إنما كان كرامة من الله عز وجل أكرمه بها ومزيد حظوة ورفع درجة عند ربه وإلحاقاً له بدرجات أهل بيته الطاهرين وليهينن من ظلمه واعتدى عليه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل أي الناس أشد بلاء قال: الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وإن كان في دينه رقة خفف عنه ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة فالمؤمن إذا حضر يوم عاشوراء وذكر ما أصيب به الحسين يشتغل بالاسترجاع ليس إلا، كما أمره المولى عز وجل عند المصيبة ليحوز الأجر الموعود في قوله: ? - رضي الله عنهم - - (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - ( المحتويات ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( ( المحتويات (- عليه السلام - قرآن كريم فهرس - - ( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( المحتويات ( - ( فهرس - { - ( { - رضي الله عنهم - - ( مقدمة - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - درهم (((( - - - - صلى الله عليه وسلم -( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( - ( - ( - - - ((((( ? [البقرة:157].(32/15)
ويلاحظ ثمرة البلوى وما أعده الله للصابرين حيث قال:
? - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر ( { - ((- عليه السلام - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ( - ( - - - المحتويات ( - - رضي الله عنه - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - - رضي الله عنه -(( - - - - - - ( مقدمة (((( ? [الزمر:10] ويشهد أن ذلك البلاء من المبلي فيغيب برؤية وجدان مرارة البلاء وصعوبته قال تعالى: ? ( - ( - (( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - ((( - - رضي الله عنهم - - ( فهرس - - عليه السلام - - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر ( - - ( - - - جل جلاله -( - ( - ((- صلى الله عليه وسلم - - ( - ? [الطور:48] وقيل لبعض الشطار متى يهون عليك الضرب والقطع فقال إذا كنا بعين من نهواه فنعد البلاء رخاء والجفاء وفاء والمحنة منحة فالعاقل يستحضر مثل هذا في ذلك الوقت ويستصغر ما يرد عليه من مصائب الدنيا وشدائدها وبلائها ويتسلى ويتعزى بما يصيبه من ذلك ويشتغل يومه ذلك بما استطاع من الطاعات والأعمال الصالحات لحثه صلى الله عليه وسلم على صوم يوم عاشوراء فبكل ذلك يصرف زمانه في أنواع القربات عسى أن يكتب من محبي أهل القربى ولا يتخذه للندب والنياحة والحزن كفعل الجهلة إذ ليس ذلك من أخلاق أهل البيت النبوي ولا من طريقهم ولو كان ذلك من طرائقهم لاتخذت الأمة يوم وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم مأتماً في كل عام فما هذا إلا من تزيين الشيطان وإغوائه: قال الشيخ(1) عقب ذكر ذلك: (وهذا كما زين لقوم آخرين معارضة هؤلاء في فعلهم فاتخذوا هذا اليوم عيداً وأخذوا في إظهار الفرح والسرور إما لكونهم من النواصب المتعصبين على الحسين رضي الله عنه وأهل بيته وإما من الجهال المقابلين للفساد بالفساد والشر بالشر والبدعة -بالبدعة- فأظهروا الزينة كالخضاب ولبس الجديد من
__________
(1) الكلام لا يزال لابن تيمية.(32/16)
الثياب والاكتحال وتوزيع النفقات وطبخ الأطعمة والحبوب الخارجة عن العادات ويفعلون فيه ما يفعل في الأعياد ويزعمون أن ذلك من السنة والمعتاد والسنة ترك ذلك كله فإنه لم يرد في ذلك شيء يعتمد عليه ولا أثر صحيح يرجع إليه إلى أن قال: "فصار هؤلاء لجهلهم يتخذون يوم عاشوراء موسماً كموسم الأعياد والأفراح وأولئك يتخذون مأتماً يقيمون فيه الأحزان والأتراح وكلا الطائفتين مخطئة خارجة عن السنة متعرضة للجرم والجناح انتهى).
وقال ابن القيم: وأما أحاديث الاكتحال والأدهان والتطيب يوم عاشوراء فمن وضع الكذابين وقابلهم الآخرون فاتخذوه يوم تألم وحزن والطائفتان مبتدعتان خارجتان عن السنة. اهـ.
* فهنا الشيخ رحمه الله ينقل ويقرر كلام أهل العلم قبله رحمهم الله في بيان الموقف الصحيح من مصاب أهل البيت رضي الله عنهم معتمداً على كتاب الله وصحيح سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وأترك التعليق هنا لكل من يريد الحق في موقف هؤلاء الأئمة من آل البيت عليهم السلام، الذين افترى وكذب عليهم بعض الطوائف.. فنسبوا إليهم بغض آل البيت وسموهم نواصب!!
حديثٌ فيه فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه وأرضاه
أورد رحمه الله في كتابه التوحيد (1/21) خبر فتح خيبر في العام السابع من الهجرة فقال:(32/17)
(ولهما -البخاري ومسلم- عن سَهْل بن سَعْدٍ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومَ خَيْبَر: "لأُعْطِيَنَّ الراية غداً رجلاً يُحبُّ الله ورسولَه، ويُحبُّه اللهُ ورسولُه يَفْتَحُ الله على يديه، فباتَ الناسُ يَدُوكون ليلتهم: أَيُّهُمْ يُعطاها؟ فلما أصبحوا غَدَوْا عَلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يُعطاها. فقال: أين عليّ بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأُتيَ به. فَبَصَق في عينيه؛ ودعا له. فبرَأَ كأن لم يكن به وجَع، فأعطاه الراية فقال: انْفُذْ عَلى رسْلِكَ. حتى تَنْزلَ بساحتهم، ثم ادْعُهُمْ إلى الإسلام. وأخبرهم بما يجب عليهم من حَقِّ الله تعالى فيه، فوالله لأنْ يَهْديَ الله بك رجلاً واحداً، خيرٌ لك من حُمْر النّعَم" (يدوكون: أي يخوضون).
ثم قال في فوائد هذا الحديث ومسائله (الحادية والعشرون: فضيلة عليّ رضي الله عنه).
وقال رحمه الله في مسائل لخصها (1/153): (وكذلك قوله: لأعطين الراية الخ. هو أصح حديث يروى في فضله) يعني: علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
حديثٌ آخر فيه فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه وأرضاه
قال رحمه الله تعالى في كتابه مختصر زاد المعاد (1/276) عند كلامه على أحداث غزوة تبوك: (واستخلف علي بن أبي طالب على أهله، فقال: تخلّفني مع النساء والصبيان؟ فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي).
وهنا لايُتصوَّر أن يُقال عنه أنه يبغض علياً وآل بيته، وهو يبرز فضائله في أكثر كتبه ورسائله.
فضيلة عظيمة لبضعة النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة الزهراء رضي الله عنها
قال رحمه الله تعالى في كتابه مختصر زاد المعاد (1/296): (وقد كان صلى الله عليه وسلم يقوم لفاطمة رضي الله عنها سروراً بها، وتقوم له كرامة).
فاطمة الزهراء رضي الله عنها سيدة نساء العالمين(32/18)
قال رحمه الله تعالى في كتاب التوحيد (1/47): (الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: "لا أُغني عنك من الله شيئاً" حتى قال: "يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنكِ من الله شيئاً" فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئاً عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان أنه صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم، تبين له التوحيد وغربة الدين).
فهذه عقيدة الشيخ فيها رضي الله عنها وأرضاها وأنها ذات المقام الرضي عند أبيها أفضل البشر عليه الصلاة والسلام، وأنها رضي الله عنها سيدة نساء العالمين.
ذم من أنكر نسب آل البيت من جهة الحسن رضي الله عنه ووصفُهُم بأنهم أعداء لآل البيت رضي الله عنهم
قال رحمه الله في رسالة الرد على الرافضة: (1/29): (ومنها قولهم: إن الحسن بن علي لم يعقب وأن عقبه انقرض وأنه لم يبق من نسله الذكور أحد وهذا القول شائع فيهم وهم مجمعون عليه ولا يحتاج إلى إثباته كذا قيل، ومنهم من يدعي أن الجاج
-هكذا- مثلهم كلهم وتوصلوا بذلك إلى أن يحصروا الإمامة في أولاد الحسين، ومنهم في اثنى عشر وأن يبطلوا إمامة من قام بالدعوة من آل الحسن مع فضلهم وجلالتهم واتفاقهم بشروط الإمامة ومبايعة الناس لهم وصحة نسبتهم ووفور علمهم بحيث أنهم كلهم بلغوا درجة الاجتهاد المطلق فقاتلهم الله أنى يؤفكون، انظر إلى هؤلاء الأعداء لآل البيت المؤذين رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة بإنكار نسب من يثبت نسبه قطعاً أنه من ذرية الحسن رضي الله عنه وثبوت نسب ذريته متواتر لا يخفى على ذي بصيرة، وقد عدَّ صلى الله عليه وسلم الطعن في الأنساب من أفعال الجاهلية، وقد ورد ما يدل على أن المهدي من ذرية الحسن رضي الله عنه كما رواه أبو داود وغيره).(32/19)
هكذا يعتقد رحمه الله خطأ من أنكر عقب الحسن رضي الله عنه وهم: (الحسنيون) ونفي الإمامة في ولده، وأن القائل بهذا القول يبطل إمامة من قام بالدعوة من آل الحسن مع فضلهم وجلالتهم وتحليهم بشروط الإمامة ومبايعة الناس لهم وصحة نسبتهم ووفور علمهم بحيث أنهم كلهم بلغوا درجة الاجتهاد المطلق.. وهذا فيه إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة بإنكار نسب أبناء الحسن رضي الله عنه، وأنَّ الطعن في الأنساب من أفعال الجاهلية كما لا يخفى.
وصف الحسن بن علي رضي الله عنه بأنه سيد وأن الله سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين
قال رحمه الله في كتابه مختصر السيرة (1/321) حوادث السنة الثامنة والثلاثين (فبايع الناس ابنه الحسن. فبقي خليفة نحو سبعة أشهر. ثم سار إلى معاوية. فلما التقى الجمعان، علم الحسن: أن لن تَغْلِب إحدى الفئتين حتى يذهب أكثر الأخرى. فصالح معاوية. وترك الأمر له، وبايعه على أشياء اشترطها. فأعطاه معاوية إيّاها وأضعافها. وجرى مصداق ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحسن: "إن ابني هذا سيد. ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين").
هكذا يعتقد رحمه الله أن بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بالصلح بين المسلمين تحقق علي يد سيدٍ من سادات آل البيت وهو الحسن رضي الله عنه. فصالح معاوية رضي الله عنه في هذه السنة؛ وتنازل بالخلافة إليه، وحقن الله به دماء المسلمين.
تنزيه أهل البيت رضي الله عنهم من القبائح حاشاهم(32/20)
قال رحمه الله في رسالة الرد على الرافضة (1/15): (ومنها إيجابهم سب الصحابة لا سيما الخلفاء الثلاثة نعوذ بالله، رووا في كتبهم المعتبرة عندهم عن رجل من أتباع هشام الأحول أنه قال: كنت يوماً عند أبي عبد الله جعفر بن محمد فجاءه رجل خياط من شيعته وبيده قميصان فقال: يا ابن رسول الله خطت أحدهما وبكل غرزة إبرة وحدتُ الله الأكبر وخطت الآخر وبكل غرزة إبرة [ لعنتُ أبا ] بكر وعمر... ثم نذرت لك ما أحببته لك منهما فما تحبه خذه وما لا تحبه رده فقال الصادق: أحب ما تم بلعن أبي بكر وعمر وأرْدُدُ إليك الذي خيط بذكر الله الأكبر.
فانظر إلى هؤلاء الكذبة الفسقة ماذا ينسبون إلى أهل البيت من القبائح حاشاهم).
* هكذا هو رحمه الله ينزه أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من كذب الكاذبين ونسبة القبائح إليهم حاشاهم و رضي الله عنهم. كيف والإمام جعفر الصادق كان يقول عن جده أبي بكر الصديق رضي الله عنهم: (ولدني أبو بكر مرتين) أتعرف لماذا؟
لأن أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وزوجة القاسم كانت بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، فكان (عليه السلام) يقول: ولدني أبو بكر مرتين!
الإمام علي بن أبي طالب وأصحابه أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين
قال رحمه الله تعالى في كتابه مختصر السيرة (1/321) في حوادث السنة الثامنة والثلاثين: (وأن علي بن أبي طالب وأصحابه: أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه. وأن الفريقين كلهم لم يخرجوا من الإيمان).(32/21)
هذه عقيدة الشيخ في أحداث الفتنة الدائرة بين الصحابة رضي الله عنهم، وأن الأقرب إلى الحق والصواب هو الإمام علي رضي الله عنه وأصحابه في تلك الفتنة، وكلا الفريقين لم يخرجوا من الإيمان.. وهذا لفهمه الثاقب رحمه الله لآيات الكتاب الحكيم، فالله يقول في محكم كتابه: ? تمت ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( تمت - - رضي الله عنه - - - ((( - - - ( - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - رضي الله عنه -((( - ( تم بحمد الله ( - ( - ( - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - ( - - - } - قرآن كريم ( - ( - ((- صلى الله عليه وسلم - - - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - { ( - - رضي الله عنه - - ? [الحجرات:9].
فسماهم مؤمنين مع إثبات اقتتالهم. وكذلك علي رضي الله عنه قال لمن سأله عمن قاتله (إخواننا بغوا علينا) فسماهم إخواناً له رضي الله عنه .
إشارته رحمه الله إلى حرص الصحابة لمصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم
قال رحمه الله تعالى في كتابه مختصر السيرة (1/306) في حوادث السنة السابعة عشرة: (وفيها: تزوج عمر أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، طلباً لصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ?.
يذكر رحمه الله هذا الزواج الميمون في كتابه مبيناً أن عمر رضي الله عنه إنما كان طالباً القرب من نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بقي في أبناء علي وفاطمة رضي الله عنهم لشرف هذا النسب النبوي الكريم وعلو مكانته.
النواصب أشر قصداً وأعظم جهلاً وأظهر ظلماً(32/22)
قال رحمه الله تعالى في مسائل لخصها (1/25) مسألة في (27) في سياق نقل كلامٍ لابن تيمية رحمه الله حول تزيين الشيطان الضلالة لبعض الناس قال: (كما أعانوا المشركين من الترك على ما فعلوه ببغداد وغيرها بأهل البيت من ولد العباس وغيرهم فعارضهم قوم إما من النواصب المتعصبين على الحسين، وإما من الجهال الذين قابلوا الفاسد بالفاسد، فوضعوا آثاراً في توسيع النفقة على العيال وغير ذلك، وإن كان أولئك أشر قصداً، وأعظم جهلاً وأظهر ظلماً، لكن الله يأمر بالعدل والإحسان).
* فأنت ترى هنا الشيخ وهو يُزري بكل من عادى أهل البيت رحمهم الله وآذاهم من النواصب الجهال الظلمة، فهذا موقفه بكل وضوح ممن نصب العداء لأهل بيت رسول الله رضي الله عنهم.
الخاتمة ونسأل الله حُسنها
إلى هنا وقف القلم، وأرجو أن يقف معه كل كذب واتهام لهذا الشيخ الذي سخَّر حياته كلها للذب عن دين الإسلام وحفظ جناب التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى ونبذ الشرك ومعاداة أصحابه، وتحقيق التوحيد ومحبة أهله.
وإني هنا أوجه ندائي إلى كل مسلم أن ينأى بعقله وفكره عن التبعية المذمومة، ويتحرر من التقليد الأعمى، وليس المطلوب منه أكثر من أن يقف بنفسه على مؤلفات ورسائل هذا العَلم الذي أساء إليه الكثير وعرف قدره الكثير...
وها هي كلماته رحمه الله شاهدة له بحب آل البيت الكرام عليهم السلام واحترامهم ومعرفة حقوقهم والدفاع عنهم والتشرف بذكرهم وذكر فضائلهم ومناقبهم. وذم أعدائهم من النواصب وغيرهم.
أخي دونك كتابه التوحيد و كشف الشبهات والأصول الثلاثة والقواعد الأربعة ونواقض الإسلام وآداب المشي إلى الصلاة... إلى آخر كتبه ورسائله وفتاويه؛ اعرض ماتقرأه منها على كتاب الله تعالى وصحيح سنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وانظر هل ترى ما يخالف الكتاب والسنة.. وسأترك الجواب لك!!(32/23)
وبعد هذا؛ ليعلم القارئ الكريم أن هذا هو منهج الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ومنهج أبنائه وأحفاده وأتباعه من بعده رحمهم الله.
ولعل الله أن ييسر لي جمع أقوالهم لأضيفها في الطبعة الثانية بحول الله وقوته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين
... ... ... ... ... ...
يا أهل بيت رسول الله حُبكم
فرضٌ من الله في القرآنِ أنزله
يكفيكم من عظيم الفخر أنكم
من لم يصل عليكم لا صلاة له
فهرس الموضوعات
دعوة الشيخ محمد بن عبدا لوهاب رحمه الله ... 2
الباعث على كتابة هذه الرسالة ... 2
من هو محمد بن عبدالوهاب............................... 11
وقفة تأمل وتحقيق ... 14
يُسمي أبناءه بأسماء آل البيت عليهم السلام ... 18
آل البيت أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ... 20
الوصية بكتاب الله وأهل بيت رسوله صلى الله عليه وسلم ... 22
من الغلو إسقاط حقوق آل البيت..........................24
سبق أهل البيت بكل فضل لطيب معدنهم ... 2
وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيته في كل صلاة ... 2
لآل النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة حق لا يشركهم فيه غيرهم ... 2
تلقيبه عليٌ بالمرتضى وأنه رابع الخلفاء الراشدين............32
ما أصيب به الحسين ت من الشهادة في يوم عاشوراء.... ....33
حديثٌ فيه فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه وأرضاه ... 2
حديثٌ آخر فيه فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه وأرضاه ... 2
فضيلة عظيمة لبضعة النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة الزهراء رضي الله عنها ... 40
فاطمة الزهراء رضي الله عنها سيدة نساء العالمين ... 40
ذم من أنكر نسب آل البيت من جهة الحسن رضي الله عنه ... 2
وصف الحسن بن علي رضي الله عنه بأنه سيد ... 2
تنزيه أهل البيت رضي الله عنهم من القبائح حاشاهم ... 2
الإمام علي بن أبي طالب وأصحابه أقرب إلى الحق من معاوية ... 2(32/24)
إشارته رحمه الله إلى حرص الصحابة لمصاهرة النبي ............ 49
النواصب أشر قصداً وأعظم جهلاً وأظهر ظلماً ... 51
الخاتمة ونسأل الله حُسنها ... 2
فهرس الموضوعات ... 2(32/25)
وقفات مع كتاب الصحبة والصحابة
لحسن بن فرحان المالكي
أو
ذب البهتان عن الصحابة الكرام
كتبه
عبد الباسط بن يوسف الغريب
عمان- الأردن
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل الله فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فهذه وقفات مع حسن بن فرحان المالكي في كتابه الصحبة والصحابة بين الإطلاق اللغوي والتخصيص الشرعي
فقد وقع المخالف في كتابه في عدة أغلوطات وهي كالآتي:
قصره الصحبة على المهاجرين والأنصار, ومن في حكمهم من مواليهم وحلفائهم ونحو ذلك, وإخراج مسلمة الفتح من مسمى الصحبة بل إخراج من أسلم بعد صلح الحديبية, وكذلك كل من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمن به بعد صلح الحديبية.
مسألة عدالة الصحابة وأن الصحابة كغيرهم يجب البحث في عدالتهم, وأن ثناء الله في كتابه وثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم لا يدخل فيه جميع الصحابة بل فقط المهاجرين والأنصار؛ بل يرى حتى هؤلاء لا دليل على تعديلهم بل ويجب البحث عن عدالتهم.
ترتب على المسألة السابقة قوله أنه قد يأتي في القرون المتأخرة من يفضل بعض المهاجرين والأنصار!
تعرضه لبعض الصحابة الكرام والذي يلمس القاريء من كلامه تشيعاً ورفضاً وانحرافاً يحاول أن يخفيه, وإلى غير ذلك من المسائل كما سيأتي بيانه.
المسألة الأولى: وهي مسألة قصره الصحبة على المهاجرين والأنصار ومن في حكمهم.
قال المخالف (ص16): "النصوص الشرعية أيضا تخرج الذين أسلموا بعد الحديبية من الصحبة على الراجح! وتخرج المسلمين بعد فتح مكة بأدلة أوضح وأصرح ...".
وقال أيضا (ص42): "إذن فأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - – الصحبة الشرعية – ليسوا إلا المهاجرين والأنصار ومن يدخل في حكمهم ممن أسلم قديماً في العهد المكي...".(33/1)
ثم قال: "فهذا أسلم تعريف لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يساء لمقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بإضافة من ليس على منهجه إليه ممن أساء السيرة من الظلمة والفسقة والمضطربين في السيرة، إضافة إلى أن هذه الصحبة الشرعية هي التي كان فيها النصرة والتمكين في أيام الضعف والذلة, وهي الصحبة الممدوحة في القرآن الكريم والسنة والنبوية بمعنى أن كل آيات الثناء في موضوع الصحبة كان الثناء منصباً على المهاجرين والأنصار فقط...
"وعلى هذا فلا يدخل في الصحابة خالد بن الوليد - رضي الله عنه - وطبقته كعمرو بن العاص وعثمان بن أبي طلحة, ولا يدخل من بعدهم كالعباس بن عبد المطلب وأبي سفيان بن حرب, ومن باب أولى ألا يدخل من أسلم بعد هؤلاء كالطلقاء من قريش ومنهم ( أبو سفيان بن حرب وأبناؤه معاوية ويزيد)، والعتقاء من ثقيف والأعراب والوفود, ولا أبناء الصحابة الصغار الذين رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أطفالا أو صبياناً لم يبلغوا الحلم ولم يشهدوا شيئاً من الأحداث وقد يفضل بعضهم على بعض الصحابة بدليل خاص؛ كالحسن والحسين..".
قلت: وهو بهذا التعريف يخرج جماً كبيراً من مسمى الصحبة لأن الذين شهدوا فتح مكة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا عشرة آلاف صحابي, والذين شهدوا حنين من الصحابة كانوا اثنا عشر ألف, والذين حضروا حجة الوداع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا مائة ألف, و قوله هذا شاذ مخالف لقول جماهير أهل السنة والجماعة, وإن حاول أن يستدل بأقوال بعضهم في غير مكانه كما سيأتي. وإليك الآن مستند كلامه والرد عليه(33/2)
أولا: استند إلى العرف. قال (ص13): إذن فالأصل في اللغة أنه عندما تقول إن فلاناً صاحب فلاناً يعني أنه لازمه أو خالطه أو عاشره أو ماشاه أو نحو هذا، ولو كان قدراً قليلاً من الصحبة بخلاف العرف كما سيأتي إذ العرف لا يطلق الصحبة إلا على طول الملازمة بحيث يصح أن يقال فلان صاحب لفلان؛ فالعرف أخص من اللغة ولا يدخل فيه المجاز!. وللرد عليه نقول:
1- إن العرف قد نازع بعض العلماء في دلالته كما قال ابن حزم رحمه الله: ولا عرف إلا ما بين الله تعالى نصا أنه عرف , وأما عرف الناس فيما بينهم فلا حكم له ولا معنى(1).
2- إن تقديم العرف على اللغة يحتاج إلى دليل وهو منازع في ذلك.
جاء في كتاب "البرهان في أصول الفقه": "مسألة": "إذا ورد لفظ من الشارع وله مقتضى في وضع اللسان, ولكن عم في عرف أهل الزمان استعمال ذلك اللفظ على خصوص في بعض المسميات؛ فالذي رآه الشافعي أن عرف المخاطبين لا يوجد تخصيص لفظ الشارع. وقال أبو حنيفة العرف من المخصصات ,وهو مغن عن التأويل والمطالبة بالدليل.
وضرب العلماء لذلك مثالاً وهو نهيه عليه السلام عن بيع الطعام بالطعام. فزعم بعض أصحاب أبي حنيفة أن الطعام في العرف موضوع للبر وحاولوا حمل الطعام في لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما جرى العرف فيه.
وهذا الذي ادعوه من العرف ممنوع وهم غير مساعدين عليه, ولو قدر ذلك مسلماً لهم بمجرد العرف؛ فمجرد العرف لا يقتضي تخصيصاً؛ فإن القضايا متلقاة من الألفاظ وتواضع الناس عبارات لا يغير وضع اللغات ومقتضى العبارات.
__________
(1) الإحكام" (7/398).(33/3)
فإن قالوا: الناس مخاطبون على أفهامهم. قلنا: فليفهموا من اللفظ مقتضاه لا ما تواضعوا عليه، ولو تواضع قوم على تخصيص أو تعميم ثم طرقهم آخرون لم يشاركوهم في تواضعهم فإنهم لا يلتزمون أحكام تواطئهم، فالشرع وصاحبه كيف يلزمهم حكم تواضع المتعاملين, وقد خاطب المصطفى بشريعة العربية الأعاجم على اختلاف لغاتها على تقدير أن يسعوا في درك معاني الألفاظ التي خوطبوا بها، والمسألة موضوعة فيه إذا لم يكن الرسول صاحب الشريعة ناطقا بما ينطق أهل العرف فلو ظهر منه مناطقة أهل زمانه بما اصطلحوا عليه فلفظه في الشرع لا ينزل على موجب اللسان. وإنما مأخذ المسألة في ظن الخصوم أن الشارع وإن لم يكن من الناطقين باصطلاح أصحاب العرف فإنه لا يناطقهم إلا بما يتفاوضون به وليس الأمر كذلك كما قدمناه"(1).
وقال الآمدي في كتابه "الإحكام"(2): "المسألة الثامنة": اختلفوا في مسمى الصحابي؛ فذهب أكثر أصحابنا وأحمد بن حنبل إلى أن الصحابي من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وذهب آخرون إلى أن الصحابي إنما يطلق على من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - واختص به اختصاص المصحوب وطالت مدة صحبته وإن لم يرو عنه.
وذهب عمر بن يحيى إلى أن هذا الاسم إنما يسمى به من طالت صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأخذ عنه العلم. والخلاف في هذه المسألة وإن كان آيلا إلى النزاع في الإطلاق اللفظي فالأشبه إنما هو الأول.ويدل على ذلك ثلاثة أمور:
الأول: أن الصاحب اسم مشتق من الصحبة والصحبة تعم القليل والكثير ومنه يقال صحبته ساعة وصحبته يوماً وشهراً وأكثر من ذلك، كما يقال فلان كلمني وحدثني وزارني وإن كان لم يكلمه ولم يحدثه ولم يزره سوى مرة واحدة.
الثاني: أنه لو حلف أنه لا يصحب فلانا في السفر أو ليصحبنه فإنه يبر ويحنث بصحبته ساعة.
__________
(1) البرهان" (1/296).
(2) 2/104).(33/4)
الثالث: أنه لو قال قائل صحبت فلانا فيصح أن يقال صحبته ساعة أو يوما أو أكثر من ذلك، وهل أخذت عنه العلم ورويت عنه أو لا، ولولا أن الصحبة شاملة لجميع هذه الصور, ولم تكن مختصة بحالة منها لما احتيج إلى الاستفهام.
فإن قيل إن الصاحب في العرف إنما يطلق على المكاثر الملازم ومنه يقال أصحاب القرية وأصحاب الكهف والرقيم وأصحاب الرسول وأصحاب الجنة للملازمين لذلك, وأصحاب الحديث للملازمين لدراسته وملازمته دون غيرهم.
ويدل على ذلك أيضا أنه يصح أن يقال فلان لم يصحب فلانا لكنه وفد عليه أو رآه أو عامله, والأصل في النفي أن يكون محمولا على حقيقته بل, ولا يكفي ذلك بل لا بد مع طول المدة من أخذ العلم والرواية عنه, ولهذا يصح أن يقال المزني صاحب الشافعي، وأبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة ولا يصح أن يقال لمن رآهما وعاشرهما طويلا ولم يأخذ عنهما أنه صاحب لهما.
والجواب عن الشبهة الأولى أنا لا نسلم أن اسم الصاحب لا يطلق إلا على المكاثر الملازم ولا يلزم من صحة إطلاق اسم الصاحب على الملازم المكاثر كما في الصور المستشهد بها امتناع إطلاقه على غيره بل يجب أن يقال بصحة إطلاق ذلك على المكاثر وغيره حقيقة ...
3- إن من العلماء من بين أن العرف على وفق اللغة في إطلاق الصحبة على القليل والكثير.
قال الإمام النووي رحمه الله: بعد أن نقل كلام أبي الطيب الباقلاني في هذه المسألة ونقل الخلاف فيها .. قال: هذا كلام القاضي المجمع على أمانته وجلالته وفيه تقرير للمذهبين ويستدل به على ترجيح مذهب المحدثين؛ فإن هذا الإمام قد نقل عن أهل اللغة أن الاسم يتناول صحبة ساعة, وأكثر أهل الحديث قد نقلوا الاستعمال في الشرع, والعرف على وفق اللغة فوجب المصير إليه, والله أعلم(1).
__________
(1) مقدمة الإمام مسلم – شرح النووي" (1/36).(33/5)
4- إن العرف لا ضابط له فما هو الضابط في العرف وإلى أي عرف يتحاكم؟ قال السخاوي في "فتح المغيث" (3|85): "ثم إن القائلين بالثاني لم يضبط أحد منهم الطول بقدر معين كما صرح به الغزالي وغيره؛ لكن حكى شارح البزدوي عن بعضهم تحديده بستة أشهر!.
قلت: فإذا قلنا بما حده شارح البزدوي يدخل جل من أخرجهم المخالف من مسمى الصحبة فتأمل!
ذكرالمخالف في (ص20): أما المذهب الأول – وهو الأقرب للصواب – الذي لا يكتفي بالرؤية واللقيا فهم جمهور علماء المسلمين المتقدمين من محدثين وفقهاء على حد سواء! كذا قال.
ومن أبرز الذاهبين إلى هذا المذهب من الصحابة والعلماء، عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأم المؤمنين عائشة بنت الصديق، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله.
والأسود بن يزيد النخعي، وسعيد بن المسيب، ومعاوية بن قرة، وشعبة بن الحجاج، وعاصم الأحول، والواقدي، وأحمد بن حنبل، في قول، والبخاري في قول، ومسلم وابن مندة ويحيى بن معين وأبو حاتم وأبو زرعة والعجلي وأبو داود والخطيب البغدادي وابن عبد البر والبغوي وابن الجوزي والباقلاني والماوردي وأبو المظفر السمعاني والمازري والعلائي وابن الملقن وابن عماد الحنبلي وغيرهم(1).
وأصحاب هذا المذهب وهو مذهب الأصوليين في الجملة..
أقول مستعينا بالله وفي كلامه تهويل وتدليس:
أما التهويل: فهو مجازفته في إطلاقه أن هذا القول هو قول جمهور علماء المسلمين المتقدمين من محدثين وفقهاء على حد سواء، كذا قال.
وهو في هذه النسبة بعيد عن الصواب.
قال السخاوي في "فتح المغيث" (3|79): إذا علم هذا ففيه عشرة مسائل:
الأولى: في تعريف الصحابي وهو لغة يقع على من صحب أقل ما يطلق اسم صحبة فضلا عمن طالت صحبته وكثرت مجالسته.
__________
(1) القاريء لأول وهلة يظن بعد قراءة هذا السرد أن المخالف ينقل من كتاب "الأوسط" لابن المنذر أو "التمهيد" لابن عبد البر أو غيرها من الكتب التي تنقل الإجماع.(33/6)
وفي الاصطلاح (راء النبي - صلى الله عليه وسلم -) اسم فاعل من رأى حال كونه (مسلماً) عاقلاً (ذو صحبة) على الأصح كما ذهب إليه الجمهور من المحدثين والأصوليين, وغيرهم اكتفى بمجرد الرؤية ولو لحظة وإن لم يقع معها مجالسة ولا مماشاة ولا مكالمة لشرف منزلة النبي صلى الله عليه وسلم وممن نص على الاكتفاء بها أحمد.
وقال أيضاً: وما حكاه عن الأصوليين إنما هو طريقة لبعضهم وجمهورهم على الأول(1).
ثم إن كلمة أصوليين كلمة يدخل فيها جم غفير من المنحرفين على بعض الصحابة كالمعتزلة وغيرهم.
ولذلك قال السخاوي(2): وقال الكيا الطبري: هو من ظهرت صحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحبة القرين قرينه حتى يعد من أحزابه وخدمه المتصلين به. قال صاحب "الواضح" وهذا قول شيوخ المعتزلة.
قلت: فلا يسلم له إطلاق ذلك على جمهور الأصوليين لأن المنحرف لا يقبل منه ما يقوي بدعته وانحرافه.
وقال الشوكاني: إذا عرفت أن الصحابة كلهم عدول فلا بد من بيان من يستحق اسم الصحبة, وقد اختلفوا في ذلك فذهب الجمهور إلى أنه من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ولو ساعة سواء روى عنه أم لا, وقيل هو من طالت صحبته وروى عنه فلا يستحق اسم الصحبة إلا من يجمع بينهما, وقيل هو من ثبت له أحدهما أما قول الصحبة أو الرواية , والحق ما ذهب إليه الجمهور(3).
وقال شيخ الإسلام: ولهذا قال أحمد بن حنبل في الرسالة التي رواها عبدوس بن مالك عنه من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة أو شهرا أو يوما أو ساعة أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه. وهذا قول جماهير العلماء من الفقهاء وأهل الكلام وغيرهم يعدون في أصحابه من قلت صحبته ومن كثرت, وفي ذلك خلاف ضعيف(4).
__________
(1) تح المغيث" (3/84).
(2) لمرجع السابق.
(3) إرشاد الفحول" (101).
(4) منهاج السنة" (8/383).(33/7)
وأما تدليسه فهو نسبة هذا القول الذي ذهب إليه إلى علماء هم قائلون بخلافه وكذلك نسبة هذا القول إلى بعض الصحابة.
وهنا مسألة ينبغى التنبه لها؛ ألا وهي أن مرتبة الصحبة تتفاضل فهي على طبقات كما قال الإمام أحمد رحمه الله بعد أن ذكر العشرة والمهاجرين والأنصار ثم أفضل الناس بعد هؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرن الذي بعث فيهم كل من صحبة سنة أو شهرا أو يوما أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه, وكانت سابقته معه وسمع منه ونظر إليه نظرة فأدناهم صحبة هو أفضل من القرن الذين لم يروه ولو لقوا الله بجميع الأعمال(1).
وقال ابن الجوزي رحمه الله: فصل الخطاب في هذا الباب أن الصحبة إذا أطلقت فهي في المتعارف تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يكون الصاحب معاشرا مخالطا كثير الصحبة فيقال هذا صاحب فلان كما يقال خادمه لمن تكررت خدمته لا لمن خدمه يوما أو ساعة.
الثاني: أن يكون صاحبه في مجالسة أو ممشاه ولو ساعة فحقيقة الصحبة موجودة في حقه وإن لم يشتهر(2).
فأفضل الصحابة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ثم سائر العشرة ثم أهل بدر ثم أهل بيعة الرضوان ثم باقي الصحابة كل له الفضل والمدح بقدر ما له من صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -. إذا فهم المسلم هذه النقطة سهل عليه فهم كثير من أقوال العلماء التي يستدل بها المخالف.
فهناك صحبة خاصة تطلق على المقربين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين صحبوه ونصروه ولازموه. وهناك صحبة عامة يدخل فيها من آمن به ورآه وفارقه من قريب أو لم يتسن له نصرته لتأخر إسلامه, والمخالف يعترف بمسمى هذه الصحبة الخاصة إلا أنه يناقض نفسه عند التطبيق.
__________
(1) فتح المغيث" (3/96).
(2) تلقيح فهوم أهل الأثر" (101).(33/8)
ولذلك قال شيخ الإسلام: ومما يبين أن الصحبة فيها خصوص وعموم كالولاية والمحبة والإيمان وغير ذلك من الصفات التي يتفاضل فيها الناس في قدرها ونوعها وصفتها ما أخرجاه في "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدري قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبوا أحدا من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)). [انفرد مسلم بذكر خالد وعبد الرحمن دون البخاري].
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لخالد ونحوه: لا تسبوا أصحابي- يعني عبد الرحمن بن عوف وأمثاله - لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون, وهم الذين أسلموا قبل الفتح وقاتلوا, وهم أهل بيعة الرضوان؛ فهؤلاء أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان وهم الذين أسلموا بعد الحديبية وبعد مصالحة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة ومنهم خالد وعمرو بن العاص وعثمان بن أبي طلحة وأمثالهم.
وهؤلاء أسبق من الذين تأخر إسلامهم إلى أن فتحت مكة وسموا الطلقاء مثل سهيل بن عمرو والحارث بن هشام وأبي سفيان بن حرب وابنيه يزيد ومعاوية وأبي سفيان بن الحارث وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وغيرهم، مع أنه قد يكون في هؤلاء من برز بعلمه على بعض من تقدمه كثيراً كالحارث بن هشام وأبي سفيان بن الحارث وسهيل بن عمرو وعلى بعض من أسلم قبلهم ممن أسلم قبل الفتح وقاتل , وكما برز عمر بن الخطاب على أكثر الذين أسلموا قبله. والمقصود هنا أنه نهى لمن صحبه آخرا يسب من صحبه أولاً لامتيازهم عنهم في الصحبة بما لا يمكن أن يشركهم فيه حتى قال: ((لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)).(33/9)
فإذا كان هذا حال الذين أسلموا من بعد الفتح وقاتلوا وهم من أصحابه التابعين للسابقين مع من أسلم من قبل الفتح وقاتل وهم أصحابه السابقون؛ فكيف يكون حال من ليس من أصحابه بحال مع أصحابه(1).
ومن تدليسه:
1- نسب هذا القول الذي ذهب به إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع أن عمر - رضي الله عنه - على خلافه.
قال السخاوي : قال شيخنا – أي الحافظ ابن حجر: وقد كان تعظيم الصحابة ولو كان اجتماعهم به - رضي الله عنه - قليلاً مقرراً عند الخلفاء الراشدين وغيرهم. ثم ساق بسند رجاله ثقات عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أنه كان متكئاً فذكر من عنده علياً ومعاوية رضي الله عنهما فتقاول رجلاً معاوية فاستوى جالساً ثم قال: كنا ننزل رفاقاً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنا في رفقة فيها أبو بكر فنزلنا على أهل أبيات, وفيهم امرأة حبلى ومعنا رجل من أهل البادية فقال للمرأة الحامل: أيسرك أن تلدي غلاما قالت: نعم. قال: إن أعطتني شاة ولدت غلاماً فأعطته فسجع لها أسجاعا ثم عمد إلى الشاة فذبحها وطبخها وجلسنا نأكل منها ومعنا أبو بكر؛ فلما علم بالقصة قام فتقيأ كل شيء أكله قال ثم رأيت ذلك البدوي قد أتى به عمر بن الخطاب, وقد هجا الأنصار فقال لهم عمر: لولا أن له صحبة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أدري ما نال فيها لكفيتموه ولكن له صحبة(2).
قال: فتوقف عمر عن معاتبته فضلاً عن معاقبته لكونه علم أنه لقي النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي ذلك أكبر شاهد على أنهم كانوا يعتقدون أن شأن الصحبة لا يعدله شيء كما ثبت في حديث أبي سعيد الماضي. فهذا النص يبين تدليسه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
2- قول أنس بن مالك - رضي الله عنه - لما سئل هل بقي من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد غيرك؟ فقال: بقي ناس من الأعراب قد رأوه؛ فأما من صحبه فلا.
__________
(1) منهاج السنة" (8/433).
(2) فتح المغيث" (3/95).(33/10)
قال المخالف: والأثر واضح بأن أنس بن مالك لا يعد كل من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابياً – كذا قال –.
وهذه مجازفة منه؛ فأنس - رضي الله عنه - يقصد هنا الصحبة الخاصة وليست الصحبة العامة. ولذلك قال الحافظ العراقي وغيره: والجواب أنه أراد إثبات صحبة خاصة ليست لأولئك(1).
وقال ابن حجر رحمه الله في قول الإمام أحمد في مسلمة بن مخلد: ليست لمسلمة صحبة.
قال ابن حجر: فلعله أراد الصحبة الخاصة.
وكذلك قول أبي حاتم في الحسين بن علي رضي الله عنهما: ليست له صحبة(2).
وكذلك قول عاصم الأحول في عبد الله ين سرجس.
قال ابن حجر في ترجمة عبد الله من "الإصابة": وقال شعبة عن عاصم الأحول قال: رأى عبد الله بن سرجس النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن له صحبة.
قال أبو عمر: أراد الصحبة الخاصة.
وعليه ينزل قول جابر الذي أورده المخالف , وقول شعبة في معاوية بن قرة, و قول كثير من العلماء في بعض الصحابة له رؤية ولا نذكر له صحبة. فهم يقصدون الصحبة الخاصة، فتنبه.
3- استدل المخالف بقول سعيد بن المسيب - والذي لا يصح عنه – وهو أنه كان لا يعد صحابياً إلا من أقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة أو سنتين أو غزا معه غزوة أو غزوتين.
وقد اعترف المخالف بضعفه لأن في سنده الواقدي ومع ذلك استدل به. وقوله إنه ضعيف, فيه قصور والأصح أن يقال فيه أكثر من ذلك فالواقدي متروك عند العلماء وضاع متهم بالكذب كما ذكر ابن حجر.
__________
(1) تدريب الراوي" (2|211) و"الباعث الحثيث" (175).
(2) قد اعترف المخالف أن قول أبي حاتم في الحسين أراد الصحبة المقتضية للنصرة والجهاد, وهنا تلمس التشيع الذي يحاول أن يخفيه مناقضاً نفسه في قوله الشاذ.(33/11)
وقد تعقب ابن الجوزي هذا القول المنسوب إلى سعيد بن المسيب فقال بعد أن ذكر أن الصحبة تتفاوت – القول الذي قدمناه عنه – قال: فسعيد بن المسيب عنى القسم الأول – أي الصحبة الخاصة - .. وعموم العلماء على خلاف قول ابن المسيب فإنهم عدوا جرير بن عبد الله من الصحابة وإنما أسلم في سنة عشر, وعدوا في الصحابة من لم يغز معه, ومن توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير السن(1).
وأما مذهب الواقدي أنه كان لا يعد الصحابي إلا من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغاً عاقلاً, واستدل به المخالف. فهو مذهب شاذ كما ذكر العلماء(2).
وقال السخاوي : والتقييد بالبلوغ كما قال المؤلف شاذ وهو يخرج نحو محمود بن الربيع الذي عقل من النبي صلى الله عليه وسلم مجة وهو ابن خمس سنين مع عدهم إياه في الصحابة .
4- تدليسه في نسبة مذهبه إلى الإمام أحمد ومحاولة إظهار أن للإمام أحمد قولين، مع أن المعروف والمشهور عند العلماء قوله الذي نقلناه ولم ينقلوا عنه خلاف ذلك, ولا يصح للباحث المنصف أن ينسب مذهباً لعالم بالاستنباط من قوله وإلا نسب إلى الكذب وخلاف الأمانة العلمية.
5- دلل المخالف على مذهبه من تسمية البخاري لكتابه "الأوسط": كتاب "المختصر من تاريخ هجرة رسول الله والمهاجرين والأنصار وطبقات التابعين لهم بإحسان ومن بعدهم" ....
قال المخالف: أقول فالبخاري يطلق على من سوى المهاجرين والأنصار تابعين بإحسان!
أقول: وهذا والله من المضحك المبكي فهل يفهم المسلم من قول البخاري هذا الإطلاق الذي يدعيه المخالف؛ فمذهب البخاري قرره في "الصحيح" وهو مذهبه ومذهب شيخه ابن المديني فلم التدليس والتلبيس، ثم الحكم في ذلك كتابه "الأوسط".
__________
(1) تلقيح فهوم أهل الأثر" (101) عن كتاب الباعث الحثيث تحقيق الشيخ علي الحلبي
(2) تدريب الراوي" (2|212).(33/12)
ومثال واحد على ذلك معاوية بن خديج، قال البخاري: له صحبة, وقد عده المخالف من التابعين بغير إحسان, والأمثلة على ذلك كثيرة.
وكذلك يقال في قول الإمام مسلم ما قدمناه من تفاوت الصحبة، فقد نقل المخالف قوله في كتاب "الطبقات" ذكر تسمية من رووا عن رسول الله من الرجال الذين صحبوه ومن رووا عنه ممن رآه ولم يصحبه لصغر سن أو نأي دار.
ثم قال بعد ذلك: منهج مسلم واضح في إخراج بعض من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولقيه من مسمى الصحبة!
6- استدل المخالف بإيراد العجلي جارية بن قدامة في التابعين.
ونحن نقول له: قد عده أبو حاتم من الصحابة وأقره ابن حجر في "الإصابة".
7- اشتراط ابن عبد البر في الصحابي أن يكون بالغاً(1).
وهو قول الواقدي الذي قدمناه قول شاذ كما ذكره العلماء ثم هنا التنبيه أن ابن عبدالبر كان فيه تشيع طفيف.
قال ابن الملقن في باب معرفة الصحابة: وقد ألف الناس فيه كتباً كثيرة من أجلها وأكثرها فوائد "الاستيعاب" لابن عبد البر لولا ما شانه به من إيراده كثيراً مما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم وحكايته عن الإخباريين لا المحدثين وغالب على الإخباريين الإكثار والتخليط فيما يروونه(2).
وقال شيخ الإسلام: لكن تشيعه وتشيع أمثاله من أهل العلم بالحديث كالنسائي وابن عبد البر وأمثالهما لا يبلغ إلى تفضيله – أي علي - على أبي بكر وعمر فلا يعرف في علماء الحديث من يفضله عليهما بل غاية المتشيع منهم أن يفضله على عثمان أو يحصل منه كلام أو إعراض عن ذكر محاسن من قاتله ونحو ذلك(3).
__________
(1) كر اللكنوي في ظفر الأماني (530) أن أوسع الأقوال في حد الصحابي قول ابن عبد البر: وهو كل مسلم أدرك زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يره. قال": وهذا هو شرط ابن عبد البر في كتابه الذي ألفه في ذكر الأصحاب المسمى بـ "الاستيعاب".
(2) المقنع" (2|490) وانظر: "الباعث الحثيث" (174) و"فتح المغيث" (3|78).
(3) منهاج السنة" (7/371).(33/13)
8- وأما قول المازري: لسنا نعني بقولنا الصحابة عدول كل من رآه - صلى الله عليه وسلم - يوماً ما أو زاره لماماً أو اجتمع به لغرض وانصرف وإنما نعني به الذين لازموه وعزروه.
فقد تعقبه العلائي بقوله: وهذا قول غريب يخرج كثيراً من المشهورين بالصحبة والرواية عن الحكم بالعدالة؛ كوائل بن حجر ومالك بن الحويرث وعثمان ابن أبي العاص وغيرهم ممن وفد عليه - صلى الله عليه وسلم - ولم يقم عنده إلا قليلاً وانصرف, وكذلك من لم يعرف إلا برواية الحديث الواحد ومن لم يعرف مقدار إقامته من أعراب القبائل والقول بالتعميم هو الذي صرح به الجمهور وهو المعتبر(1).
9- كذلك قول البغوي في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ}، يعني التابعين وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة.
قال المخالف: وهذا يتفق مع مذهبنا تماماً في قصر الصحبة على المهاجرين والأنصار وأن من سواهم من التابعين.
قلت: لا أدري ما وجه هذا الاستنباط من قوله!
10- وكذلك قول ابن الجوزي : فصل الخطاب في هذا الباب أن الصحبة إذا أطلقت فهي في المتعارف تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يكون الصاحب معاشرا مخالطا كثير الصحبة فيقال هذا صاحب فلان كما يقال خادمه لمن تكررت خدمته لا لمن خدمه يوما أو ساعة.
الثاني: أن يكون صاحبه في مجالسة أو ممشاه ولو ساعة فحقيقة الصحبة موجودة في حقه وإن لم يشتهر.
قلت: فهل في قوله دلالة أنه يخرج من الصحبة غير المهاجرين والأنصار؟
بل في بقية كلام ابن الجوزي ما يدلل أنه يقول بقول الجمهور فقد تعقب قول ابن المسيب المنسوب إليه كما مر معنا.
مفهوم الصحبة في القرآن:
حاول المخالف أن يستدل بآيات من القرآن الكريم على قصور الصحبة على المهاجرين والأنصار, وإخراج من أسلم بعد صلح الحديبية من ثناء الله تعالى. وللجواب على ذلك نقول:
__________
(1) تدريب الراوي" (2/214)، و"فتح المغيث" (3|95).(33/14)
1- إن القرآن نزل بلغة العرب كما قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}، ومفهوم الصحبة في لغة العرب تطلق على من طالت ملازمته وعلى من لم تطل وتطلق أيضا على المخالف والعدو ويفهم ذلك من السياق.
فلا يفهم المسلم إذا قرأ قوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} أنه يقتضي ثناء على الكفار كما أنه يفهم من قوله تعالى :{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} أنه مقام مدح وثناء, وكذلك يفهم من جميع الآيات التي فيها ثناء على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على العموم أنه مقام ثناء وتزكية ومدح, ولا يخرج منهم إلا ما دل عليه الدليل كما في قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من يصعد الثنية ثنية المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل)). قال: فكان أول من صعدها خيلنا خيل بني الخزرج ثم تتام الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وكلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر)). فأتيناه فقلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم قال: وكان الرجل ينشد ضالة له(1).
2- وهنا مسألة ثانية ألا وهي: أن الهجرة من مكة إلى المدينة لم تتوقف على الراجح من أقوال العلماء إلا بفتح مكة فكل من أسلم وهاجر وتمكن من ذلك فهو من المهاجرين, وإن كانت الهجرة تتفاوت فمن هاجر في بداية الدعوة أعظم أجرا ممن هاجر بعد كما قدمناه في بيان تفاوت الصحبة.
__________
(1) مسلم" (2780).(33/15)
قال ابن عبد البر في "التمهيد"؛ بعد أن ذكر حديث بريدة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال: ((اغزوا بسم الله وفي سبيل الله تقاتلون من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال....)).
قال أبو عمر: هذا من أحسن حديث يروى في معناه إلا أن فيه التحول عن الدار وذلك منسوخ؛ نسخه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((لا هجرة بعد الفتح)), وإنما كان هذا منه صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة فلما فتح الله عليه مكة قال لهم: قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية إلى يوم القيامة(1).
ويدل على ذلك أيضاً: ما رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير "باب لا هجرة بعد الفتح":
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: ((لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا))(2).
2- عن مجاشع بن مسعود قال: جاء مجاشع بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذا مجالد يبايعك على الهجرة فقال: ((لا هجرة بعد فتح مكة ولكن أبايعه على الإسلام))(3).
3- عن عطاء قال: ذهبت مع عبيد بن نمير إلى عائشة رضي الله عنها وهي مجاورة بثبير فقالت لنا: انقطعت الهجرة منذ فتح الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - مكة(4).
قال ابن حجر: قوله: ((لا هجرة بعد الفتح)): أي فتح مكة(5).
وقال الخطابي وغيره: كانت الهجرة فرضاً في أول الإسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع؛ فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجاً فسقط فرض الهجرة إلى المدينة, وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو. انتهى.
__________
(1) التمهيد" (2/218).
(2) البخاري" (3077).
(3) البخاري" (3078).
(4) البخاري" (3080).
(5) الفتح" (6/220).(33/16)
وكانت الحكمة أيضا في وجوب الهجرة على من أسلم ليسلم من أذى ذويه من الكفار؛ فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه وفيهم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا}(1).
قال النووي: قال العلماء: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة وفي تأويل هذا الحديث قولان:
أحدهما: لا هجرة بعد الفتح من مكة لأنها صارت دار إسلام وإنما تكون الهجرة من دار الحرب وهذا يتضمن معجزة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها تبقى دار الإسلام لا يتصور منها الهجرة.
والثاني: معناه لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضلها قبل الفتح كما قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ}(2).
وقال أيضاً: وفى الرواية الأخرى لا هجرة بعد الفتح قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة, وتأولوا هذا الحديث تأويلين:
أحدهما: لا هجرة بعد الفتح من مكة لأنها صارت دار إسلام فلا تتصور منها الهجرة.
والثاني: وهو الأصح أن معناه أن الهجرة الفاضلة المهمة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازا ظاهرا انقطعت بفتح مكة ومضت لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة لأن الإسلام قوى وعز بعد فتح مكة عزاً ظاهراً بخلاف ما قبله(3).
وعليه نقول:
أولا:
__________
(1) الفتح" (6/36).
(2) شرح النووي" (9/23).
(3) شرح النووي" (13/8).(33/17)
أ- استدلال المخالف بقوله تعالى: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ}، على قصر الثناء على المهاجرين والأنصار فقط الذين صحبوه في بداية الدعوة مجازفة، ويرده ما قدمناه أن مسمى الهجرة لم ينقطع إلا بفتح مكة, وهذه الآية كانت قبل فتح مكة وكان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثون ألفاً فهم بين اثنين؛ إما مهاجري وإما أنصاري, والثناء يتناول الجميع ولا يخرج منهم إلا ما دل عليه الدليل, ولا يتصور أن يخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الجم ويقصر الله الثناء على ألفين من الصحابة هذا يحتاج إلى دليل خاص.
ب- وكذلك قوله تعالى:{لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}، فقد وعد الله الحسنى الجميع وهذا عام في الجميع.
ج- كذلك قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء}، وهذه الآية نزلت بعد صلح الحديبية في فتح مكة. وكذلك قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ* ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وهذه الآية نزلت بعد فتح مكة، وفيها ثناء عام على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصفهم بالمؤمنين في تلك الغزوة.(33/18)
د- حاول المخالف أن يدلل على أن الفتح المقصود في الآيات – التي ذكر فيها الفتح - هو صلح الحديبية لا فتح مكة ليتسنى له إخراج من أسلم بعد صلح الحديبية من مسمى الصحبة.
والصواب أن الآيات التي ذكر الله فيها الفتح على أقسام.
قال ابن حجر رحمه الله: وهذا موضع وقع فيه اختلاف قديم, والتحقيق أنه يختلف ذلك باختلاف المراد من الآيات فقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}، المراد بالفتح هنا الحديبية لأنها كانت مبدأ الفتح المبين على المسلمين لما ترتب على الصلح الذي وقع منه الأمن ورفع الحرب وتمكن من يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة من ذلك كما وقع لخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما ثم تبعت الأسباب بعضها بعضا إلى أن كمل الفتح.
وقد ذكر ابن إسحاق في المغازي عن الزهري قال: لم يكن في الإسلام فتح قبل فتح الحديبية أعظم منه إنما كان الكفر حيث القتال؛ فلما أمن الناس كلهم كلم بعضهم بعضاً وتفاوضوا في الحديث والمنازعة, ولم يكن أحد في الإسلام يعقل شيئاً إلا بادر إلى الدخول فيه؛ فلقد دخل في تلك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. قال ابن هشام: ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم خرج في الحديبية في ألف وأربعمائة ثم خرج بعد سنين إلى فتح مكة في عشرة آلاف، انتهى.
وهذه الآية نزلت منصرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية كما في هذا الباب من حديث عمر.
وأما قوله تعالى في هذه السورة: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}، فالمراد بها فتح خيبر على الصحيح لأنها هي التي وقعت فيها المغانم الكثيرة للمسلمين.(33/19)
وقد روى أحمد وأبو داود والحاكم من حديث مجمع بن حارثة قال: شهدنا الحديبية فلما انصرفنا وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا عند كراع الغميم, وقد جمع الناس قرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} الآية. فقال رجل :يا رسول الله أو فتح هو قال: أي والذي نفسي بيده إنه لفتح ثم قسمت خيبر على أهل الحديبية.
وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن الشعبي في قوله:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} قال: صلح الحديبية وغفر له ما تقدم وما تأخر وتبايعوا بيعة الرضوان وأطعموا نخيل خيبر وظهرت الروم على فارس وفرح المسلمون بنصر الله. وأما قوله تعالى: {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} فالمراد الحديبية. وأما قوله تعالى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا هجرة بعد الفتح))، فالمراد به فتح مكة باتفاق؛ فبهذا يرتفع الإشكال وتجتمع الأقوال بعون الله تعالى(1). هذا أولاً.
وثانياً: الفتح المقصود في سورة النصر هو فتح مكة لا صلح الحديبية وعليه تدل الأدلة:
__________
(1) الفتح" (7/442).(33/20)
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فقال بعضهم: لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم قال فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم. قال: وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني فقال: ما تقولون في {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} حتى ختم السورة فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا وقال بعضهم: لا ندري أو لم يقل بعضهم شيئاً فقال لي: يا ابن عباس أكذلك قولك؟ قلت: لا قال: فما تقول؟ قلت :هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه الله له {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فتح مكة؛ فذاك علامة أجلك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}. قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم(1).
2- عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قال لي ابن عباس تعلم آخر سورة نزلت من القرآن نزلت جميعاً؟ قلت: نعم، {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}. قال: صدقت(2).
3- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه. قالت: فقلت: يا رسول الله أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه؟ فقال: ((خبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي؛ فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه؛ فقد رأيتها إذا جاء نصر الله, والفتح فتح مكة ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً))(3).
__________
(1) البخاري" (3627).
(2) مسلم" (3024).
(3) مسلم" (484).(33/21)
قال ابن حجر: وقد أخرج النسائي من حديث ابن عباس أنها آخر سورة نزلت من القرآن, وقد تقدم في تفسير براءة أنها آخر سورة نزلت والجمع بينهما أن آخرية سورة النصر نزولها كاملة بخلاف براءة كما تقدم توجيهه, ويقال إن إذا جاء نصر الله نزلت يوم النحر وهو بمنى في حجة الوداع، وقيل عاش بعدها أحداً وثمانين يوماً وليس منافياً للذي قبله بناء على بعض الأقوال في وقت الوفاة النبوية(1).
ثالثاً: ما ذكره المخالف من استدلاله على نزول سورة النصر قبل فتح مكة(2) بما أخرجه البيهقي في "الدلائل" (7|142): عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن قالا: أنزل الله من القرآن بمكة اقرأ باسم ربك ون والمزمل والمدثر وتبت يدا أبي لهب وإذا الشمس كورت وسبح اسم ربك الأعلى والليل إذا يغشى والفجر والضحى وألم نشرح والعصر والعاديات والكوثر وألهاكم التكاثر وأرأيت وقل يا أيها الكافرون وأصحاب الفيل والفلق وقل أعوذ برب الناس وقل هو الله أحد والنجم وعبس وإنا أنزلناه و الشمس وضحاها والسماء ذات البروج والتين والزيتون ولإيلاف قريش والقارعة ولا أقسم بيوم القيامة والهمزة والمرسلات وق ولا أقسم بهذا البلد والسماء والطارق واقتربت الساعة وص والجن ويس والفرقان والملائكة وطه والواقعة وطسم وطس وطسم وبني إسرائيل والتاسعة وهود ويوسف وأصحاب الحجر والأنعام والصافات ولقمان وسبأ والزمر وحم المؤمن وحم الدخان وحم السجدة وحم عسق وحم الزخرف والجاثية والأحقاف والذاريات والغاشية وأصحاب
__________
(1) الفتح" (8/734).
(2) قد ناقض المخالف نفسه فذكر في آخر كلامه: ومع هذا فقد يراد بالفتح في سورة النصر فتح مكة، فقد جاء في إحدى الروايتين عن ابن عباس في "صحيح البخاري" صرح به في كتاب المغازي, وأهمله في كتاب التفسير، فلعل ذكر الفتح في المغازي من الصحيح من باب الرواية بالمعنى غير أن له شاهداً عن عائشة في مسلم، لكن هذا كله لا يمنع من نزول السورة قبل الحديبية ولا يمنع كذلك من تعدد النزول!.(33/22)
الكهف والنحل ونوح وإبراهيم والأنبياء والمؤمنون وآلم السجدة والطور وتبارك والحاقة وسأل وعم يتساءلون والنازعات و إذا السماء انشقت وإذا السماء انفطرت والروم والعنكبوت.
وما نزل بالمدينة: ويل للمطففين والبقرة وآل عمران والأنفال والأحزاب والمائدة والممتحنة والنساء وإذا زلزلت والحديد ومحمد والرعد والرحمن وهل أتى على الإنسان والطلاق ولم يكن والحشر وإذا جاء نصر الله والنور والحج والمنافقون والمجادلة والحجرات ويا أيها النبي لم تحرم والصف والجمعة والتغابن والفتح وبراءة.
قال البيهقي: والتاسعة يريد بها سورة يونس. قال: وقد سقط من هذه الرواية الفاتحة والأعراف وكهيعص فيما نزل بمكة.
لا دليل فيه لأن سياق ما ذكره ليس في سياق معرفة ترتيب نزول السور ولكن في بيان المكي والمدني من السور, ويدل عليه تبويب البيهقي باب ذكر السور التي نزلت بمكة والتي نزلت بالمدينة وأورده السيوطي في "الإتقان" في باب معرفة المكي والمدني. وهو مخالف لما قدمناه من الأحاديث .
رابعا: اتفاق السلف على الاستدلال بهذه الآيات على عدالة الصحابة عامة ولم يخالف في ذلك إلا المنحرفون على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كالروافض وغيرهم.
مفهوم الصحبة في الأحاديث النبوية:
قال حسن المالكي: (ص43): الغريب أن بعض الناس يبالغ في الاستدلال بأدلة ضعيفة الثبوت أو الدلالة بينما يرد دلالة الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة..
قلت: وهذا الذي عابه المخالف على غيره قد وقع فيه فقد استدل بأحاديث كثيرة ضعيفة الثبوت والدلالة وإليك البيان:(33/23)
الحديث الأول: عن أبي البختري الطائي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: لما نزلت هذه الآية {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}، قال: قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ختمها وقال: ((الناس حيز وأنا وأصحابي حيز)). وقال: ((لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية)). فقال له مروان: كذبت! وعنده رافع بن خديج وزيد بن ثابت وهما قاعدان معه على السرير فقال أبو سعيد الخدري: لو شاء هذان لحدثاك فرفع عليه مروان الدرة ليضربه فلما رأيا ذلك قالا: صدق(1).
قال المخالف: أخرجه أحمد بسند صحيح.
وقال: هذا الحديث فيه إخراج محتمل لمن أسلم بعد الرضوان من الصحابة وإخراج واضح لمن أسلم بعد فتح مكة كالطلقاء والعتقاء ....
قلت: وهذا إسناد ضعيف منقطع وأبو البختري وهو سعيد بن فيروز لم يسمع من أبي سعيد الخدري كما قال أبو داود. وقال أبو حاتم: لم يدرك أبا سعيد.
وتأمل قوله محتمل فهو دليل ظني عنده, ومع ذلك يتعلق به ويستدل به أكثر من مرة.
الحديث الثاني: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية: ((يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم قلنا: من هم يا رسول الله أقريش هم؟ قال: لا ولكن أهل اليمن أرق أفئدة وألين قلوبا فقلنا: هم خير منا يا رسول الله؟ فقال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ..} الآية إلى قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}))(2).
قال المخالف: وفي هذا الحديث بيان للصحبة الشرعية التي فاز بها المهاجرين والأنصار ولن يدركها من أتى بعدهم حتى لو فعلوا ما فعلوا.
__________
(1) أحمد في "مسنده" (5/178).
(2) لطبري في تفسيره (11/673).(33/24)
قلت: وقد ناقض نفسه فقد قرر في (ص242) لكنني أرى أن بعض المؤمنين في العصور المتأخرة قد يكونون أفضل من بعض المهاجرين والأنصار؟
وهذا الحديث نحن نقول بدلالته كما قدمنا أن الصحبة تتفاوت وأن من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قي بداية دعوته له السابقة والأجر وهو مقدم على من آمن من بعد، وكلاً وعد الله الأجر والثواب.
قال الطبري: قوله: {وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى} يقول تعالى ذكره: وكل هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا والذين انفقوا من بعد وقاتلوا وعد الله الجنة بإنفاقهم في سبيله وقتالهم أعداءه بنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل(1).
الحديث الثالث: عن مجاشع بن مسعود أنه: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بابن أخ له يبايعه على الهجرة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا بل يبايع على الإسلام فإنه لا هجرة بعد الفتح ويكون من التابعين بإحسان))(2).
قلت: ناقض نفسه المخالف بقوله أن هذه القصة حصلت يوم فتح مكة مع أنه يرى أن الهجرة انقطعت ببيعة الرضوان ثم ابن أخي مجاشع هو معبد قد عده من الصحابة البخاري والبزار وابن حبان.
وقد ذكر ابن حجر رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بايعهم على الجهاد والنصرة ولم يبايعهم على الهجرة لأن الهجرة انقطعت بفتح مكة.
قال ابن حجر في "الإصابة" في ترجمة معبد: وأخرج البغوي والإسماعيلي من طريق زهير بن معاوية عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي قال: حدثني مجاشع بن مسعود قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأخي معبد بعد الفتح لنبايعه على الهجرة فقال: ذهب أهل الهجرة بما فيها. فقلت: على أي شيء نبايعك يا رسول الله؟ قال: ((على الإيمان والجهاد قال: فلقيت معبدا بعد . وكان أكبر فسألته فقال: صدق مجاشع)). ورجاله ثقات.
فهذه الرواية تبين ما جاء في رواية مسند الإمام أحمد.
__________
(1) لطبري في تفسيره (11/673).
(2) حمد في "مسنده" (3/468).(33/25)
الحديث الرابع: حديث تخاصم خالد بن الوليد مع عبد الرحمن بن عوف وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تسبوا أصحابي ....
قال المخالف: وهذا دليل واضح على إخراج النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالد بن الوليد وطبقته من الصحبة الشرعية ...
أقول: هذا الحديث لا يدل على إخراج خالد - رضي الله عنه - من مسمى الصحبة وإنما يدل كما قدمناه على تفاضل الصحبة.
ويؤيده ما جاء في رواية أخرى عند ابن حبان في "صحيحه" (15|565) عن الشعبي: عن عبد الله بن أبي أوفى قال: شكى عبد الرحمن بن عوف خالد بن الوليد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا خالد لم تؤذ رجلا من أهل بدر؟ لو أنفقت مثل أحد ذهباً لم تدرك عمله)). فقال: يا رسول الله يقعون في فأرد عليهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تؤذوا خالداً فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار)).
وهذا إسناد صحيح كما قال الشيخ شعيب.
فهذه الرواية تبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن سب عبد الرحمن لأن له فضل في سابقته وشهوده بدر, وفي نفس الأمر نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أذية خالد لأنه سيف الله, وهذا يتفق مع ما قدمناه من تفاوت الصحبة.
وقد أخذ العلماء بدلالته على عدالة الصحابة وأنه لا يجوز التعرض لأحد منهم.
قال الحافظ العراقي: ... فيه أمران: أحدهما أنه اعترض على المصنف في استدلاله بحديث أبى سعيد وذلك لأنه قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالد بن الوليد لما تقاول هو وعبد الرحمن ابن عوف أي أنه أراد بذلك صحبة خاصة.(33/26)
والجواب: أنه لا يلزم من كونه ورد على سبب خاص في شخص معين أنه لا يعم جميع أصحابه ولا شك أن خالدا من أصحابه وإنه منهي عن سبه, وإنما درجات الصحبة متفاوتة فالعبرة إذا بعموم اللفظ في قوله لا تسبوا أصحابي وإذا نهى الصحابي عن سب الصحابي فغير الصحابي أولى بالنهى عن سب الصحابي(1).
وأما استدلاله في الحديث الرابع عشر بلفظ: "مالك ولرجل من المهاجرين"، فهو من الاستدلال بالضعيف الذي عابه على غيره؛ فهو من مرسل الشعبي, والمرسل من أقسام الضعيف، فخالد - رضي الله عنه - من المهاجرين, وقد هاجر إلى المدينة وترك دياره وإن كانت الهجرة متفاوتة كما قدمناه في الصحبة.
الحديث الخامس: عن جرير بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة والمهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة))(2).
قال المخالف: وهذا الحديث صريح في أن طلقاء قريش وعتقاء ثقيف ليسوا من المهاجرين ولا من الأنصار.
قلت: لكنهم من الصحابة لأن الهجرة انقطعت بفتح مكة ثم إن في الحديث دلالة على فضل الجميع لأن المقام مقام مدح وثناء في الحديث وليس مقام ذم فتأمل.
الحديث السادس: وهو من الاستدلال بالضعيف(3) عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه))(4).
__________
(1) التقييد والإيضاح" (1/302).
(2) حمد في "مسنده" (4/363).
(3) ال المخالف: مع تحفظي على صحته. وهذه كلمة فضفاضة قالها المخالف في أحاديث صحيحة لا ندري ما مدلولها عنده؟.
(4) لترمذي (3862) وقد ضعفه بقوله غريب.(33/27)
الحديث السابع: عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يكون لأصحابي بعدي زلة يغفرها الله لهم بصحبتهم وسيتأسى بهم قوم بعدهم يكبهم الله على مناخرهم في النار))(1).
الحديث الثامن: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن أعرابياً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الهجرة فقال: ((ويحك إن شأنها شديد فهل لك من إبل تؤدي صدقتها. قال: نعم. قال: فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئاً))(2).
قال المخالف: في هذا الحديث دلالة على أن الهجرة لا يكفي في ثبوتها القدوم إلى المدينة وإعلان الإسلام فلا بد من البقاء والإنفاق والجهاد ..
قلت:
وهذا من تدليسه فهذا الأعرابي لم يأت إلى المدينة وإنما عرض للنبي - صلى الله عليه وسلم - في فتح مكة وقد انقطعت الهجرة, وقد ذكره الإمام مسلم في الأحاديث التي ساقها في بيان أنه لا هجرة بعد الفتح. ولذلك بوب الإمام النووي عليه: "باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير وبيان معنى لا هجرة بعد الفتح".
وقال النووي رحمه الله: قال العلماء: والمراد بالهجرة التي سأل عنها هذا الأعرابي ملازمة المدينة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وترك أهله ووطنه فخاف عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يقوى لها, ولا يقوم بحقوقها وأن ينكص على عقبيه فقال له: إن شأن الهجرة التي سألت عنها لشديد ولكن اعمل بالخير في وطنك وحيث ما كنت فهو ينفعك ولا ينقصك الله منه شيئاً. والله أعلم(3).
__________
(1) لطبراني في "الأوسط" (3|300) وإسناده ضعيف في إسناده ابن لهيعة.
(2) لبخاري (1452) ومسلم (1865).
(3) رح النووي (13/9).(33/28)
الحديث التاسع: عن عبد الرحمن بن عوف قال: لما حضرت النبي - صلى الله عليه وسلم - الوفاة قالوا : يا رسول الله أوصنا قال: "أوصيكم بالسابقين الأولين من المهاجرين وبأبنائهم من بعدهم إلا تفعلوه لا يقبل منكم صرف ولا عدل". رواه الطبراني في "الأوسط" والبزار إلا أنه قال : "أوصيكم بالسابقين الأولين وبأبنائهم من بعدهم وبأبنائهم من بعدهم". قال الهيثمي: ورجاله ثقات.
قلت: قول الهيثمي: رجاله ثقات لا يعني صحة الحديث كما ذكر شيخنا الألباني في مقدمة "تمام المنة". وهذا الحديث من ذلك ففي إسناده حميد بن القاسم وكذا القاسم بن حميد, وعدادهم في المجهولين فلم يوثقهم سوى ابن حبان.
الحديث العاشر: عن أنس - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف والطلقاء فأدبروا قال: يا معشر الأنصار. قالوا: لبيك يا رسول الله وسعديك لبيك نحن بين يديك فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أنا عبد الله ورسوله)). فانهزم المشركون فأعطى الطلقاء والمهاجرين ولم يعط الأنصار شيئاً فقالوا فدعاهم فأدخلهم في قبة فقال: ((أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله . ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لاخترت شعب الأنصار))(1).
قال المخالف: في هذا الحديث دلالة على إخراج الطلقاء من الصحابة بدلالة قول أنس "عشرة آلاف – يعني من أصحابه – والطلقاء" ولم يقل "اثنا عشر" لأن الطلقاء ليسوا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قلت: وهذا من تناقض المخالف وتذبذبه فهو على تعريفه؛ قد حد الصحبة ببيعة الرضوان والذين لم يتجاوزوا الألفين على أكثر تقدير وهنا حدها بعشرة آلاف قال: يعني من أصحابه!
__________
(1) لبخاري (4337).(33/29)
وهذا رد عليه أيضا في مسألة أخرى؛ فقد تقدم معنا أنه نسب إلى أنس - رضي الله عنه - أنه قصر الصحبة على المهاجرين والأنصار. فأنس هنا باعترافه يطلق الصحبة هنا على غير المهاجرين والأنصار.
الحديث الحادي عشر: ليس له إسناد فقد ذكره ابن حجر في الإصابة بغير إسناد.
قال ابن حجر: وقال الزبير: ذكروا أنه لما قدم المدينة قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا نعيم إن قومك كانوا خيراً لك من قومي. قال: بل قومك خير يا رسول الله. قال: إن قومي أخرجوني وإن قومك أقروك. فقال نعيم: يا رسول الله إن قومك أخرجوك إلى الهجرة وإن قومي حبسوني عنها)).
الحديث الثالث عشر: عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أمير على جيش أو سرية أوصاه خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال: ((اغزوا باسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال ...)) الحديث(1).
قال المخالف: وهذا الحديث فيه شرط رئيسي من شروط الهجرة الشرعية وهو التحول من ديار الشرك إلى ديار الإسلام؛ فقدوم الرجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عودته إلى بلاده لا تجعله من المهاجرين ؛ والهجرة تستلزم الجهاد أيضا للقادر ...
قلت: لو طبقنا قول المخالف هنا على غيره من كلامه لوجدنا أنه متناقض فخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهم وغيرهم قد هاجروا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاهدوا معه, وقد أخرجهم المخالف من مسمى الصحبة!
الحديث الخامس عشر: وهو ما جاء عن الزهري مرسلاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر: ((لن أؤمر عليكم بعدها إلا رجل منكم)). لما شكوا عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل.
__________
(1) سلم (1731).(33/30)
قلت: وهذا من الاستدلال بالضعيف الذي عابه على غيره فهو كما ذكر المخالف مرسلا وفي إسناده ابن لهيعة.
الحديث السادس عشر: وعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني)).
قال الهيثمي: رواه الطبراني من طرق ورجال أحدها رجال الصحيح.
قلت: قد تحفظ المخالف على صحته ومع ذلك استدل به على هواه.
الحديث السابع عشر: ليس له إسناد ذكره ابن حجر في "الإصابة" كما اعترف المخالف وليس من شرط ابن حجر في "الإصابة" أنه إذا سكت على حديث دل على صحته عنده.
الحديث الثامن عشر: وروى البزار والبغوي والبخاري في "التاريخ" والطبراني وابن قانع من طريق عمرو بن قيظي بن عامر بن شداد بن أسيد السلمي حدثني أبي عن جده شداد أنه قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتكى فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مالك يا شداد قال: اشتكيت ولو شربت ماء بطحاء لبرئت قال: فما يمنعك؟ قال: هجرتي قال: فاذهب فأنت مهاجر حيثما كنت.
قلت: عمرو بن قيظي له ترجمة في التاريخ الكبير ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً.
الحديث التاسع عشر: قال إياس حدثني أبي قال: عدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً موعوكا قال: فوضعت يدي عليه فقلت: والله ما رأيت كاليوم رجلاً أشد حرا فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بأشد حرا منه يوم القيامة؟ هذينك الرجلين الراكبين المقفيين لرجلين حينئذ من أصحابه))(1).
قال المخالف: والحديث فيه نوع من دلالة على أن في الصحابة خاصة وعامة وأن هذين المعذبين من صحابة الصحبة العامة لا الخاصة وقد يكونان منافقين.
__________
(1) سلم (2783).(33/31)
أقول: أتفق معك على هذا التقسيم في أن الصحبة منها العامة والخاصة, وأن في الصحابة بعض المنافقين أعلمهم الله لنبيه وأعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة صاحب السر لكن اختلف معك أن ثناء وتزكية الله لجميع الصحابة – العامة والخاصة - ولا يخرج منهم إلا ما دل عليه الدليل كما في هذا الحديث.
وثانياً: لو كان من المنافقين أبو سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية وأخاه يزيد لما سكت حذيفة عنهم لما ولاهم عمر بل نصح له وحذره .
مفهوم الصحبة في آثار الصحابة والتابعين:
1- حديث ابن عمر أنه سمع رجلاً وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه {للفُقَراء المُهاجِرين} الآية ثم قال: هؤلاء المهاجرون فمنهم أنت؟ قال: لا ثم قرأ عليه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} الآية ثم قال: هؤلاء الأنصار أفأنت منهم؟ قال: لا ثم قرأ عليه: { {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ} الآية ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو قال: لا ليس من هؤلاء من يسب هؤلاء(1).
2- قول سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: الناس على ثلاث منازل فمضت منهم اثنتان وبقيت واحدة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ثم قرأ: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ} الآية ثم قال: هؤلاء المهاجرون وهذه منزلة و قد مضت، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} الآية ثم قال: هؤلاء الأنصار وهذه منزلة وقد مضت ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ} الآية، قال: فقد مضت هاتان المنزلتان وبقيت هذه المنزلة فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت(2).
__________
(1) الدر المنثور" (8/113) ولم يذكر إسناده.
(2) لحاكم في "المستدرك" (2/526) وصححه ووافقه الذهبي.(33/32)
قلت: في إسناده عبد الله بن زبيد له ترجمة في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم, ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً.
3- حديث جابر عن عمر بن عبد الرحمن بن جرهد قال: سمعت رجلاً يقول لجابر بن عبد الله: من بقي معك من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بقي أنس بن مالك وسلمة بن الأكوع فقال رجل: أما سلمة فقد ارتد عن هجرته فقال جابر: لا تقل ذلك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأسلم: أبدوا يا أسلم قالوا يا رسول الله وإنا نخاف أن نرتد بعد هجرتنا فقال إنكم أنتم تهاجرون حيث كنتم.
أخرجه أحمد (3|361) وإسناده ضعيف، لكن له شاهد: فأخرج أحمد من طريق سعيد بن إياس بن سلمة أن أباه حدثه قال قدم سلمة المدينة فلقيه بريدة بن الخصيب فقال: ارتددت عن هجرتك فقال: معاذ الله إني في إذن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعته يقول: ابدوا يا أسلم أي القبيلة المشهورة التي منها سلمة وأبو برزة وبريدة المذكور. قالوا إنا نخاف أن يقدح ذلك في هجرتنا قال: أنتم مهاجرون حيث كنتم(1).
قال المخالف: فيه دلالة صريحة على إخراج من ليس من المهاجرين والأنصار من عداد الصحابة لأن سلمة بن الأكوع مات عام 74 فلم يبق في تلك السنة من الصحابة إلا ثلاثة على قول جابر, وهم سلمة بن الأكوع وأنس بن مالك ... وعلى هذا فكل من ترجم له في الصحابة وتوفي بعد عام 74 فليس من الصحابة أصحاب الصحبة الشرعية الخاصة وهؤلاء ألوف .. وعندما بحثنا في تراجم المذكورين في كتب الصحابة ممن توفوا بعد عام 74 وجدنا أغلبهم ليسوا من المهاجرين والأنصار, ولا في حكمهم بل لم نستدرك عليه رضي الله عنه إلا اثنين وهما أبو أمامة الباهلي وعبد الله بن أبي أوفى فهما من الصحابة وماتا بعد الثمانين.
__________
(1) الفتح" (13|41)، أخرجه أحمد (4|55).(33/33)
وقد يوجد غير هذين الواحد والاثنان ممن يغيب عن ذاكرة الصحابي، وعلى هذا يخرج من الصحابة من مات بعد عام 74 ممن ذكر في تراجم الصحابة مثل أبي ثعلبة الخشني وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب وعتبة بن الندر الأسلمي وواثلة بن الأسقع وعبد الله بن الحارث الزبيدي والمقدام بن معد يكرب الزبيدي وعبد الله ين بسر المازني وسفيان بن وهب الخولاني وطارق بن شهاب وعبد الله بن ربيعة بن فرقد الأسلمي وعبد الله بن سرجس وعبد الله بن ثعلبة وعبيد الله بن عباس وعتبة بن عبد السلمي وعمرو بن حريث المخزمي وقدامة بن عبد الكلابي وكثير بن العباس والهرماس بن زياد وسهل بن سعد وأبو عنبة الخولاني والسائب بن خلاد وأبو أمامة بن سهل بن حنيف وأبو الطفيل عامر بن واثلة ويوسف بن عبد الله بن سلام ونحوهم ممن ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار وعلى هذا فليسوا من الصحابة عند الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري!
وللرد عليه نقول:
أ- حديث جابر الذي استدل به المخالف عند التحقيق حديث ضعيف والمرفوع منه حسن لغيره يشهد له حديث سلمة وهو ضعيف أيضا لكن بمجموع الطريقين يرقى الحديث إلى مرتبة الحسن لغيره المرفوع للمرفوع, وأما قول جابر رضي الله عنه فلا شاهد له.
ب- على فرض صحة قول جابر فالجواب عليه ما قدمناه من جواب العلماء على قول أنس وأنه أراد الصحبة الخاصة لا الصحبة العامة.
ج- ما سرده من أسماء الصحابة ثم نسب أن هؤلاء ليسوا بصحابة عند جابر قول يدل على جرأة منه في نسبة هذا المذهب لجابر.
د- تحديده بإخراج من كان من الصحابة بعد عام 74 ثم تناقضه أنه وجد من مات بعد الثمانين من الصحابة وهما أبو أمامة الباهلي وعبد الله بن أبي أوفى ثم حيطته بأنه قد يوجد غير هذين دليل على تخبطه وتذبذبه.(33/34)
4- عن الأسود بن يزيد قال: قلت لعائشة: ألا تعجبين لرجل من الطلقاء (معاوية) ينازع أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في الخلافة قالت: وما تعجب من ذلك هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر وقد ملك فرعون أهل مصر أربع مائة سنة(1).
قال المخالف: وسنده حسن.
قلت: في سنده أيوب بن جابر قال عنه ابن حبان: كان يخطيء حتى خرج عن حد الاحتجاج به لكثرة وهمه, وقد ضعفه ابن معين والنسائي وأبو زرعة وأبو حاتم وابن المديني. وقول ابن حبان جرح مفسر فيقدم على التعديل المجمل. وفي السند أيضا أبو إسحق وهو مختلط فأنى للأثر الحسن.
5- قول عمر: يا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تناصحوا فإنكم إن لا تفعلوا غلبكم عليها – يعني الخلافة – مثل عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان(2).
والأثر مرسل كما ذكر المخالف والمرسل من أقسام الضعيف.
6- قول عمار: والله لأنتم أشد حباً لرسول - صلى الله عليه وسلم - ممن رآه أو من عامة من رآه.
قال الهيثمي: رواه البزار والطبراني وفيه عبد الله بن داود الحراني أخو عبد الغفار ولم أعرفه وبقية إسناد البزار حديثهم حسن.
قال المخالف: عبد الله بن داود الحراني لم أجد له ترجمة لكن ذكر الخطيب البغدادي ...
ثم وجدت متابعاً لعبد الله بن داود الحراني عند ابن سعد وهو الحسن بن موسى فقد روى عن ابن لهيعة عن أبي عشانة عن أبي اليقظان الحديث نفسه لكن يبقى مدار الحديث على ابن لهيعة وقد حسن له الهيثمي ...
قلت: ابن لهيعة مختلط عند العلماء المحققين, واستثنى العلماء منها رواية العبادلة عنه وهذا ليس منها.
__________
(1) تاريخ دمشق" (59/154).
(2) لمروزي في "الفتن" (1|128).(33/35)
7- عن إسماعيل بن عبيد الأنصاري قال عبادة لأبي هريرة: يا أبا هريرة إنك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنا بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في اليسر والعسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى أن نقول في الله تبارك وتعالى ولا نخاف لومة لائم فيه وعلى أن ننصر النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم علينا يثرب فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة فهذه بيعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي بايعنا عليها فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما بايع عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي الله تبارك وتعالى بما بايع عليه نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فكتب معاوية إلى عثمان بن عفان أن عبادة بن الصامت قد أفسد على الشام وأهله؛ فإما تكن إليك عبادة وإما أخلي بينه وبين الشام فكتب إليه أن رحل عبادة حتى ترجعه إلى داره من المدينة فبعث بعبادة حتى قدم المدينة فدخل على عثمان في الدار وليس في الدار غير رجل من السابقين أو من التابعين قد أدرك القوم؛ فلم يفجأ عثمان إلا وهو قاعد في جنب الدار فالتفت إليه فقال: يا عبادة بن الصامت ما لنا ولك ؟فقام عبادة بين ظهري الناس فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا القاسم محمدا - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أنه سيلي أموركم بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون فلا طاعة لمن عصى الله تبارك وتعالى فلا تعتلوا بربكم)).
أحمد (5|325) من طريق الحكم بن نافع أبي اليمان ثنا إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عثمان بن خثيم حدثني إسماعيل بن عبيد الأنصاري.
قال المخالف: بإسناد قوي ثم قال: وهذا الأثر دلالته ظنية ليست بصريحة.
قلت: بل ضعيف قال الهيثمي: رواه أحمد بطوله ... وكذلك الطبراني ورجالهما ثقات إلا أن إسماعيل بن عياش رواه عن الحجازيين وروايته عنهم ضعيفة.(33/36)
8- حديث أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جلوس فيهم أبو بكر وعمر فلا يرفع إليه أحد منهم بصره إلا أبو بكر وعمر؛ فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما ويتبسمان إليه ويتبسم إليهما(1).
قلت: وهذا الحديث ضعيف في إسناده الحكم بن عطية روى عنه أبو داود أحاديث منكرة, وقال الإمام أحمد: حدث بمناكير.
9- طعنه في المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - وأنه لم يهاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -, وإنما فر وهناك فرق بين الهجرة والفرار قال: ورجل فعل هذا لن تكون هجرته خالصة لله ورسوله لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.
أقول: هذا الطعن في النيات دليل على سوء وخبث طوية لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, وهذا المخالف منحرف على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -, وخصوصا من كان منهم مع معاوية - رضي الله عنه - كما سيأتي بيانه.
ثانياً: إن الواقدي كذاب وضاع وعلى فرض ثبوت هذه القصة فيلزمك ما فيه. وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمغيرة: الإسلام يجب ما كان قبله(2). فلا يصح أن يعاب الصحابة بما عملوا في الجاهلية قبل إسلامهم .
10- قول ابن عباس رضي الله عنهما قال: ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس يوم توفي على أربعة منازل؛ مؤمن مهاجر والأنصار وأعرابي مؤمن لم يهاجر إن استنصره النبي نصره وإن تركه فهو أذن له وإن استنصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلم كان حقا عليه أن ينصره والرابعة التابعين بإحسان.
وهذا من الاستدلال بالضعيف فابن جريج لم يسمع من ابن عباس وهو مدلس ولم يصرح بالتحديث كما ذكر المخالف , ومع ذلك يستدل به.
__________
(1) الترمذي" (3668).
(2) طبقات ابن سعد" (4|286).(33/37)
11- عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب جمع أناسا من المسلمين فقال: إني أريد أن أضع هذا الفيء موضعه فليغد كل رجل منكم علي برأيه؛ فلما أصبح قال: إني وجدت آية من كتاب الله تعالى - أو قال آيات - لم يترك الله أحدا من المسلمين له في هذا المال شيء إلا قد سماه قال الله: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} حتى بلغ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}، ثم قرأ {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} إلى {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} فهذه للمهاجرين، ثم قرأ {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} حتى بلغ {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، ثم قال: هذه للأنصار، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ رَبَّنَا} حتى بلغ {رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} ثم قال: فليس في الأرض مسلم إلا له في هذا المال حق أعطيه أو حرمه(1).
قلت: وهذا إسناد ضعيف في إسناده عبد الله العمري وهو ضعيف.
12- عن عبد الرحمن بن ميسرة قال: مر بالمقداد بن الأسود رجل فقال: لقد أفلحت هاتان العينان رأتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتمع المقداد غضبا وقال: يا أيها الناس لا تتمنوا أمرا قد غيبه الله فكم ممن قد رآه ولم ينتفع برؤيته.
قلت: الذين لم ينتفعوا برؤيته هم الكفار والمنافقين وليس الصحابة
__________
(1) بد الرزاق في "مصنفه" (4|151).(33/38)
فعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً فمر به رجل فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله لوددنا أنا رأينا ما رأيت وشهدنا ما شهدت. فاستغضب فجعلت أعجب ما قال إلا خيراً ثم أقبل عليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضراً غيبة الله عنه لا يدرى لو شهده كيف يكون فيه, والله لقد حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقوام كبهم الله على مناخرهم في جهنم لم يجيبوه ولم يصدقوه أو لا تحمدون الله عز وجل إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم فتصدقون بما جاء به نبيكم - صلى الله عليه وسلم - قد كفيتم البلاء بغيركم, والله لقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - على أشد حال بعث عليها نبي قط في فترة وجاهلية ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل, وفرق به بين الوالد وولده حتى إن كان الرجل ليرى والده أو ولده أو أخاه كافراً وقد فتح الله قفل قلبه بالإيمان, ويعلم أنه إن هلك دخل النار فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار وأنها للتى قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}.
المسألة الثانية: عدالة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
قال المخالف (ص202): من المباحث الرئيسية المتعلقة بالصحابة مبحث عدالة الصحابة هذه المسألة الغامضة التي تحتاج لتجلية وتفصيل في ضوء النصوص الشرعية بعيداً عن الأقوال والأحكام المتأثرة بالخصومات المذهبية بين أهل السنة من جهة وبين الشيعة والخوارج من جهة أخرى ... ونسمع كثيراً قاعدة يرددها كثير من الناس من "أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم عدول...".(33/39)
وقال أيضا (ص214): بعض العلماء قديماً وحديثاً يناقشون مسألة عدالة الصحابة بعيداً عن مفهوم العدالة العام ولا يطبقونها إلا على التابعين فمن بعدهم بينما لا يلتفتون إلى تطبيق هذه الشروط على الصحابة وهم يشملون عندهم كل من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومات على الإسلام وأرى أن أول الخلل يكون عندما نتعامل مع الصحابة وكأنهم جنس آخر غير البشر ...
وقال أيضاً (ص215): فإذا كانت العدالة تزول لارتكاب المظالم والمحرمات فيجب أن يكون ذلك في الصحابة وغيرهم ولم أجد نصاً صحيحاً صريحاً في استثناء الصحابة أصحاب الصحبة الشرعية فضلاً عن غيرهم من أصحاب الصحبة العامة ...
وقال أيضا (ص217): الأدلة التي استدل بها القائلون بعدالة كل الصحابة كلها أدلة غير صريحة في عدالة كل فرد ممن ترجم له في الصحابة بل ولا يصح إطلاق العدالة العامة إلا في المهاجرين والأنصار ومن في حكمهم من حيث الإجمال أيضاً ....
وللجواب على ذلك نقول:
1- إن مسألة عدالة الصحابة رضوان الله عليهم من المسائل المتفق عليها وقد نقل ابن عبد البر الإجماع في ذلك.
وكذلك ممن حكى الإجماع على القول بعدالتهم إمام الحرمين(1)، ولم يخالف في ذلك إلا طوائف من أهل البدع المنحرفين على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كالرافضة.
قال الصنعاني في "توضيح الأفكار": وأما القول بعدالة المجهول منهم أي من الصحابة فهو إجماع أهل السنة والمعتزلة والزيدية.
قال ابن عبد البر في "التمهيد": أنه مما لا خلاف فيه. وقال أيضاً في خطبة "الاستيعاب": ونحن وإن كان الصحابة قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول انتهى ثم أبان المصنف صحة دعواه لإجماع من ذكر فقال: أما أهل السنة فظاهر, وأما المعتزلة فذكره أبو الحسين في كتابه "المعتمد" في أصول(2).
__________
(1) فتح المغيث" (3/94).
(2) توضيح الأفكار" (2|464).(33/40)
وقال الخطيب في "الكفاية" (46): "باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة": وأنه لا يحتاج إلى سؤال عنهم, وإنما يجب فيمن دونهم كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله, ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن؛ فمن ذلك قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وقوله: { {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، وهذا اللفظ وإن كان عاما فالمراد به الخاص, وقيل وهو وارد في الصحابة دون غيرهم وقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}، وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}، وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ* فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وقوله تعالى:{لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى(33/41)
أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. في آيات يكثر إيرادها ويطول تعدادها. ... ووصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحابة مثل ذلك وأطنب في تعظيمهم وأحسن الثناء عليهم فمن الأخبار المستفيضة عنه في هذا المعنى ... والأخبار في هذا المعنى تتسع وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن وجميع ذلك يقتضى طهارة الصحابة والقطع على تعديلهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم المطلع على بواطنهم إلى تعديل أحد من الخلق له فهو على هذه الصفة إلا أن يثبت على أحد ارتكاب ما لا يحتمل إلا قصد المعصية والخروج من باب التأويل فيحكم بسقوط العدالة, وقد برأهم الله من ذلك ورفع أقدارهم عنه على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطع على عدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء.
وذهبت طائفة من أهل البدع إلى أن حال الصحابة كانت مرضية إلى وقت الحروب التي ظهرت بينهم وسفك بعضهم دماء بعض فصار أهل تلك الحروب ساقطي العدالة, ولما اختلطوا بأهل النزاهة وجب البحث عن أمور الرواة منهم, وليس في أهل الدين والمتحققين بالعلم من يصرف إليهم خبر ما لا يحتمل نوعاً من التأويل وضرباً من الاجتهاد، فهم بمثابة المخالفين من الفقهاء المجتهدين في تأويل الأحكام لإشكال الأمر والتباسه ويجب أن يكونوا على الأصل الذي قدمناه من حال العدالة والرضا إذ لم يثبت ما يزيل ذلك عنهم.(33/42)
ثم ساق بسنده إلى أحمد بن محمد بن سليمان التستري قال سمعت أبا زرعة يقول: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندنا حق والقرآن حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة.
وقد أقره الحافظ ابن حجر والسخاوي فتح المغيث (3|108).
وقال النووي: فإن الصحابة رضي الله عنهم كلهم هم صفوة الناس وسادات الأمة وأفضل ممن بعدهم, وكلهم عدول قدوة لا نخالة فيهم, وإنما جاء التخليط ممن بعدهم وفيمن بعدهم كانت النخالة(1).
وقال الشوكاني رحمه الله: اعلم أن ما ذكرناه من وجوب تقديم البحث عن عدالة الراوي إنما هو في غير الصحابة؛ فأما فيهم فلا لأن الأصل فيهم العدالة فتقبل روايتهم من غير بحث عن أحوالهم حكاه ابن الحاجب عن الأكثرين.
قال القاضي: هو قول السلف وجمهور الخلف وقال الجويني بالإجماع؛ ووجه هذا القول ما ورد من العمومات المقتضية لتعديلهم كتاباً وسنة ....(2).
والنقول في ذلك كثيرة جدا عن العلماء.
2- تذبذب المخالف في هذه المسألة فهو يقرر أن الصحابة عدول, ويعني بذلك المهاجرين والأنصار - على استحياء - ثم يقرر أنه لم يجد نصاً صحيحاً صريحاً في استثناء الصحابة أصحاب الصحبة الشرعية فضلاً عن غيرهم من أصحاب الصحبة العامة ...
وقال أيضاً: الأدلة التي استدل بها القائلون بعدالة كل الصحابة كلها أدلة غير صريحة في عدالة كل فرد ممن ترجم له في الصحابة، بل ولا يصح إطلاق العدالة العامة إلا في المهاجرين والأنصار ومن في حكمهم من حيث الإجمال أيضاً ....
__________
(1) شرح النووي" (12|216).
(2) إرشاد الفحول" (101).(33/43)
3- ما الهدف من تقرير رد عدالة الصحابة إلا فتح الباب للروافض وغيرهم من المنحريفين ليتسنى لهم الطعن والقدح في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كما فعل المخالف فقد لمز بعض الصحابة وتطاول عليهم كما سيأتي.
4- الذي يلجأ إلى أسئلة المكابرة هو المخالف الذي يقول: فالذي يأتي ليدافع عن أمثال الوليد بن عقبة وبسر بن أبي أرطأة وأبي الأعور السلمي وأمثالهم(1) بأنهم صحابة – حسب المفهوم الواسع للصحبة - محتجاً بأن الله أثنى على الصحابة وعلى التسليم له بأن الثناء يشمل صحابة الكافة "الخاصة والعامة"، فهذا المدافع بمنزلة ذلك المحامي في سوء الفهم وضعف العقل أو السخرية بأساليب لغة العرب فهذا من أدلتنا العقلية ...
المسألة الثالثة: وهي التي أشار إليها في (ص242): لكنني أرى أن بعض المؤمنين في العصور المتأخرة قد يكونون أفضل من بعض المهاجرين والأنصار وأن منع التفاضل إنما هو في تفضيل من بعد الحديبية على من قبلهم، أما من لم يدرك ذلك الزمان ولم يجد له على الحق أعوانا فقد يكون له أجر خمسين من أصحاب الصحبة الشرعية ... وملت لهذا الرأي بعد جمع النصوص التي تبدوا متعارضة ...
قلت:
1- وقد طبق هذه القاعدة وأشار إليها في مسألة التفاضل بين الحسن والحسين – وهما تابعيان كما قرر- هل هم أفضل من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
__________
(1) رر المخالف اللمز على هؤلاء الوليد وبسر وغيرهم ممن تكلم عليهم في تراجمهم وكأن الخلاف على هؤلاء وهذا باب يحاول أن يلج منه المخالف إلى غيرهم من الصحابة.(33/44)
قال (ص183): كما يوجد في هذه الطبقة "طبقة التابعين" من هو أفضل من بعض الصحابة صحبة شرعية كالحسن والحسين؛ فهما سيدا شباب أهل الجنة رغم أنهما تابعيان، بل إن هناك خلافاً بين بعض أهل العلم في تفضيلهما على أبي بكر وعمر رضي الله عن الجميع لأن أبا بكر وعمر قد وردت نصوص "في صحتها نظر" - كذا قال - تفيد أنهما سيدا كهول أهل الجنة والحسن والحسين ورد فيهما نص "حسن" يفيد أنهما سيدا شباب أهل الجنة، فهل سيدا شباب أهل الجنة أفضل أم سيدا كهول أهل الجنة؟ هناك خلاف, وإن كان الأكثر على تفضيل أبي بكر وعمر، لكن هذا الخلاف دليل على أن بعض صالحي التابعين أفضل من كثير من المهاجرين والأنصار يشرط أن يأتي التقضيل بأدلة خاصة كما استفدنا تفضيل الحسن والحسين.
قلت: لا خلاف بين أهل السنة - الذي يدعي الانتماء إليهم - أن الشيخين أبا بكر وعمر أفضل من الحسن والحسين، بل من أبيهما وقد صح عن علي: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أبو بكر و عمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين ما خلا النبيين والمرسلين لا تخبرهما يا علي))(1).
وصح كذلك عن محمد ابن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أبو بكر قلت: ثم من؟ قال :ثم عمر, وخشيت أن يقول عثمان. قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين(2).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم(3).
وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن علياً - رضي الله عنه - أفضل من ولديه الحسن والحسين كما جاء عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة, وأبوهما خير منهما))(4).
__________
(1) لترمذي (3665) (3666).
(2) لبخاري (3671).
(3) لبخاري (3655).
(4) بن ماجة (118).(33/45)
وقال ابن حجر: ولأبي داود من طريق سالم عن ابن عمرقال: كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي: أفضل أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان.
زاد الطبراني في رواية: فيسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك فلا ينكره.
وروى خيثمة بن سليمان في فضائل الصحابة من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن ابن عمر قال: كنا نقول إذا ذهب أبو بكر وعمر وعثمان استوى الناس فيسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فلا ينكره(1).
وقال أيضاً: ونقل البيهقي في "الاعتقاد" بسنده إلى أبي ثور عن الشافعي أنه قال: أجمع الصحابة وأتباعهم على أفضلية أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي(2).
وقال شيخ الإسلام: وأما سائر الاثنى عشر – أي الأئمة عند الشيعة - فهم أصناف منهم من هو من الصحابة المشهود لهم بالجنة كالحسن والحسين, وقد شركهم في ذلك من الصحابة المشهود لهم بالجنة خلق كثير, وفي السابقين الأولين من هو أفضل منهما مثل أهل بدر وهما رضي الله عنهما, وإن كانا سيدا شباب أهل الجنة فأبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة, وهذا الصنف أكمل من ذلك الصنف, وإذا قال القائل هما ولد بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قيل وعلي بن أبي طالب أفضل منهما باتفاق أهل السنة والشيعة(3).
__________
(1) الفتح" (7|17).
(2) الفتح" (7|17).
(3) منهاج السنة" (4|169).(33/46)
وقال شيخ الإسلام: إذ قد تواتر عنه من الوجوه الكثيرة أنه قال - أي علي بن أبي طالب - على منبر الكوفة وقد أسمع من حضر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. وبذلك أجاب ابنه محمد بن الحنفية فيما رواه البخاري في "صحيحه" وغيره من علماء الملة الحنيفية, ولهذا كانت الشيعة المتقدمون الذين صحبوا علياً أو كانوا في ذلك الزمان لم يتنازعوا في تفضيل أبي بكر وعمر, وإنما كان نزاعهم في تفضيل علي وعثمان, وهذا مما يعترف به علماء الشيعة الأكابر من الأوائل والأواخر حتى ذكر مثل ذلك أبو القاسم البلخي قال: سأل سائل شريك بن عبد الله ابن أبي نمر فقال له: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال له السائل: أتقول هذا وأنت من الشيعة؟ فقال: نعم إنما الشيعي من قال مثل هذا, والله لقد رقى علي هذا الأعواد فقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. أفكنا نرد قوله أكنا نكذبه والله ما كان كذاباً(1).
وقال أيضاً: وقال ابن القاسم سألت مالكا عن أبي بكر وعمر فقال: ما رأيت أحداً ممن أقتدي به يشك في تقديمهما يعنى على علي وعثمان؛ فحكى إجماع أهل المدينة على تقديمهما(2).
وأما تفضيل الصحابة على من بعدهم فهذا مما اتفق عليه السلف.
قال شيخ الإسلام: وذلك أن الإيمان الذي كان في قلوبهم حين الإنفاق في أول الإسلام وقلة أهله, وكثرة الصوارف عنه, وضعف الدواعي إليه لا يمكن أحدا أن يحصل له مثله ممن بعدهم, وهذا يعرف بعضه من ذاق الأمور وعرف المحن والابتلاء الذي يحصل للناس وما يحصل للقلوب من الأحوال المختلفة.
وهذا مما يعرف به أنا أبا بكر رضي الله عنه لن يكون أحد مثله؛ فإن اليقين والإيمان الذي كان في قلبه لا يساويه فيه أحد.
قال أبو بكر بن عياش: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشىء وقر في قلبه.
__________
(1) منهاج السنة" (1/14).
(2) منهاج السنة" (2/58).(33/47)
وهكذا سائر الصحابة حصل لهم بصحبتهم للرسول مؤمنين به مجاهدين معه إيمان ويقين لم يشركهم فيه من بعدهم ... والمقصود أن فضل الأعمال وثوابها ليس لمجرد صورها الظاهرة بل لحقائقها التي في القلوب, والناس يتفاضلون ذلك تفاضلا عظيما وهذا مما يحتج به من رجح كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم فإن العلماء متفقون على أن جملة الصحابة أفضل من جملة التابعين، لكن هل يفضل كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم ويفضل معاوية على عمر بن عبد العزيز.
ذكر القاضي عياض وغيره في ذلك قولين, وأن الأكثرين يفضلون كل واحد من الصحابة وهذا مأثور عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما.
ومن حجة هؤلاء أن أعمال التابعين وإن كانت أكثر , وعدل عمر بن عبد العزيز أظهر من عدل معاوية, وهو أزهد من معاوية لكن الفضائل عند الله بحقائق الإيمان الذي في القلوب، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)).
قالوا: فنحن قد نعلم أن أعمال بعض من بعدهم أكثر من أعمال بعضهم؛ لكن من أين نعلم أن ما في قلبه من الإيمان أعظم مما في قلب ذلك, والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر أن جبل ذهب من الذين أسلموا بعد الحديبية لا يساوي نصف مد من السابقين, ومعلوم فضل النفع المتعدى بعمر بن عبد العزيز أعطى الناس حقوقهم وعدل فيهم؛ فلو قدر أن الذي أعطاهم ملكه وقد تصدق به عليهم لم يعدل ذلك مما أنفقه السابقون إلا شيئا يسيراً, وأين مثل جبل أحد ذهباً حتى ينفقه الإنسان وهو لا يصير مثل نصف مد.
ولهذا يقول من يقول من السلف: غبار دخل في أنف معاوية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من عمل عمر بن عبد العزيز.(33/48)
وهذه المسألة تحتاج إلى بسط وتحقيق ليس هذا موضعه إذ المقصود هنا أن الله سبحانه مما يمحو به السيئات الحسنات, وأن الحسنات تتفاضل بحسب ما في قلب صاحبها من الإيمان والتقوى, وحينئذ فيعرف أن من هو دون الصحابة قد تكون له حسنات تمحو مثل ما يذم من أحدهم فكيف الصحابة(1).
المسألة الرابعة: تعرضه ولمزه لبعض الصحابة.
تعرضه لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ومحاولة إظهار تأخر إسلامه, والله الأعلم بمقصده.
قال (ص141): كرواية بعضهم أن عمر أسلم تمام الأربعين! – كذا كتب بعلامة التعجب - وهذا خطأ إنما المراد بالأربعين هنا الذين كانوا في دار الأرقم الذين خرجوا مع عمر إلى البيت لأن عمر لم يسلم إلا بعد مهاجرة الحبشة وكانوا وحدهم أكثر من مئة من الرجال والنساء!...
قلت: قال ابن حجر رحمه الله: وروى ابن أبي خيثمة من حديث عمر نفسه قال لقد رأيتني وما أسلم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا تسعة وثلاثون رجلا فكملتهم أربعين فأظهر الله دينه وأعز الإسلام(2).
وأقر ابن عبد البر في "الاستيعاب" في ترجمة عمر - رضي الله عنه - أن عمر أسلم تمام أربعين رجلاً.
وفي ترجمة الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي ما يدلل على ذلك أيضاً.
لما عدد طبقات الصحابة وذكر الطبقة الأولى طبقة أوائل المسلمين بمكة قدم علي بن أبي طالب وزيد بن حارثة على أبي بكر - رضي الله عنه -, وهذا التقديم لا شك له مغزى في نفسه الله أعلم به مع ادعاه انتسابه لأهل السنة! .
تعرضه وتنقصه لعدد من الصحابة كمعاوية والمغيرة رضي الله عنهما كما في صفحة (100 -101).
وفي باب الصحابة الذين لم يحسنوا الصحبة على تقسيمه:
قال (ص 177): وهناك أناس صحبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الحديبية لكنهم أساءوا الصحبة أو تغيرا وبعضهم نافق ...
__________
(1) منهاج السنة" (6/227).
(2) فتح الباري" (7/48).(33/49)
مع اعترافه أنه لم يثبت اتهام أكثرهم من حيث الإسناد, وهنا نلمس مدى انحرافه وتعلقه بأي قول للطعن في الصحابة ومن الأمثلة على ذلك:
1- حميد الأنصاري ذكر أنه صاحب الزبير الذي تشاجر معه ولم يرض بحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد اتهم بالنفاق – كذا قال –.
قلت: لم يرتض ابن حجر رحمه الله أنه صاحب الزبير وتعقب من قال ذلك.
قال ابن حجر: حميد الأنصاري يقال: هو الذي خاصم الزبير في شراج الحرة والحديث في "الصحيحين" من طريق الزهري عن عروة بن الزبير, ولم يسم فيه بل فيه أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير أخرجه أبو موسى من طريق الليث عن الزهري فسماه حميداً. قال أبو موسى لم أر تسميته إلا في هذه الطريق قلت: ويعكر عليه أن في بعض طرقه أنه شهد بدرا وليس في البدريين أحد اسمه حميد(1).
2- ثعلبة بن حاطب. قال المخالف: في قول بعضهم وفيه جدل كبير!
قلت: لا يصح أنه نزل فيه {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ} الآية. مع شهرتها فسند الرواية ضعيف, وقد رد ابن حجر رحمه الله في الإصابة ذلك فقال: وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات ولم يقبض منه الصدقة ولا أبو بكر ولا عمر وأنه مات في خلافة عثمان وفي كون صاحب هذه القصة إن صح الخبر ولا أظنه يصح .. وقد تأكدت المغايرة بينهما بقول ابن الكلبي: إن البدري استشهد بأحد ... والبدري اتفق على أنه ثعلبة بن حاطب وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية". وحكى عن ربه أنه قال لأهل بدر: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". فمن يكون بهذه المثابة كيف يعقبه الله نفاقا في قلبه وينزل فيه ما نزل فالظاهر أنه غيره(2).
3- سمرة بن جندب. قال المخالف: لم يؤثر عنه نفاق لكنه أساء السيرة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يبيع الخمر ويقتل البشر ويرضي معاوية في سخط الخالق ..
__________
(1) الإصابة" (2/129).
(2) الإصابة" (1/400).(33/50)
قلت: {ستكتب شهادتهم ويسألون}.
4- معتب بن قشير. قال المخالف: اتهم بالنفاق وقد اتفقوا على ذكره في المنافقين وهو مذكور في أهل بدر فالله أعلم بحاله.
قلت: لم يجزم العلماء بنفاقه.
قال ابن حجر: وقيل إنه كان منافقاً وإنه الذي قال يوم أحد لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا. وقيل إنه تاب وقد ذكره بن إسحاق فيمن شهد بدراً(1). وكذلك ذكر ابن عبد البر ذلك بصيغة التضعيف.
مخشي بن حمير. قال المخالف: اتهم بالنفاق وقيل أنه تاب.
قلت: قال ابن عبد البر: كان من المنافقين وسار مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك حين أرجفوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ثم تاب وحسنت توبته وسمي عبد الرحمن وسأل الله أن يقتله شهيداً. لا يعلم مكانه فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر(2).
كما أنه لما عدد التابعين بغير إحسان – على تقسيمه – وهم صحابة، قال: وأما التابعون بغير إحسان فهم الذين ظهر ظلمهم أو فسقهم وكان سوء السيرة غالبا على سيرهم كمعاوية بن أبي سفيان ....
قلت: ومثال هؤلاء الصحابة الذين أساؤوا السيرة في نظره وحشي بن حرب!
قلت: ولما نظرنا في ترجمة وحشي لم نجد له من ظلم أو فسق ولم يخض في حرب صفين أو الجمل، ولم يل لمعاوية، ثم تذكرنا أنه قتل قبل إسلامه حمزة - رضي الله عنه -, فعلمنا أن إسلامه لم يرتضه حسن المالكي, ولم يرتض قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الإسلام يجب ما قبله".
وكذلك لما تتبعنا تراجم هؤلاء الصحابة الذين عددهم وجدناهم كانوا مع معاوية أو ولاة لمعاوية أو أقرباء له, وهذا فيه دليل على انحرافه على الصحابة وخصوصاً من كان مع معاوية ومن هؤلاء:
عتبة بن أبي سفيان وذنبه أنه أخ لمعاوية.
__________
(1) الإصابة" (6/175).
(2) الاستيعاب" (1/431).(33/51)
أبو الأعور السلمي قال مسلم وأبو أحمد الحاكم في الكنى: له صحبة, وذكره البغوي وابن قانع وابن سميع وابن منده وغيرهم في الصحابة. وقال عباس الدوري في تاريخ يحيى بن معين سمعت يحيى يقول: أبو الأعور السلمي رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -وكان مع معاوية.
حمل بن سعدانة, وفي ترجمته أنه شهد صفين مع معاوية.
الخريت بن راشد, وكان الخريت على مضر يوم الجمل مع طلحة والزبير.
زمل بن عمرو وفي ترجمته أنه شهد صفين مع معاوية.
منجاب بن راشد وأخيه الحارث, وكانا مع علي ثم خرجا إلى معاوية.
يزيد بن أسد البجلي, و كان مع معاوية بصفين.
يزيد بن شجرة الرهاوي, وكان مع معاوية. وغيرهم
وأما الذين توقف في حسن اتباعهم:
عبد الرحمن بن سمرة, ولم نجد له من ذنب في ترجمته إلا أنه أسلم يوم الفتح.
يعلى بن أمية قال المخالف: ولعله تاب.
قلت: وذنبه الذي تاب منه قال أبو عمر: كان يعلى بن أمية سخيا معروفا بالسخاء وقتل يعلى بن أمية سنة ثمان وثلاثين بصفين مع علي بعد أن شهد الجمل مع عائشة, وهو صاحب الجمل أعطاه عائشة, وكان الجمل يسمى عسكراً.
خالد بن أسيد الأموي وذنبه أظن في نظر المخالف إما لأنه أموي – وهو متحامل عليهم – أو لأنه أسلم يوم الفتح , ولم نجد في ترجمته غير ذلك!
عقبة بن عامر, وسبب توقف المخالف فيه أنه شهد صفين مع معاوية وأمره بعد ذلك على مصر.
هند بن عتبة وذنبها أنها صاحبة كبد حمزة - رضي الله عنه - فلم يشفع عنده إسلامها ولا أن الإسلام يجب ما قبله.
أنجشة مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -, وذنبه في زعم المخالف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفاه, مع أن الإسناد ضعيف كما ذكر ابن حجر في ترجمته.
إلى غير ذلك الكثير من تخليط وتلبيس وجرأة على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عامله الله بما يستحق.
مسائل أخرى:(33/52)
تعرضه لدولة بني أمية في أكثر من موضع وطعنه بهم والذي لا يخلو من رفض وتشيع يحاول إخفاءه(1).
نحن لا ندعي العصمة فيهم؛ فالكمال عزيز لكن نرى أن الله نفع بهم من جهاد ونشر للإسلام ونشر للسنة.
و قد دخل بعض خلفاء بني أمية في ثناء النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله كما في حديث جابر بن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يكون اثنا عشر أميرا كلهم من قريش))(2). ووقع عند أبو داود: ((لا يزال هذا الدين عزيزا إلى اثني عشر خليفة)).
قال ابن حجر في تعداد هؤلاء الخلفاء: والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبي بكر ثم عثمان ثم علي إلى أن وقع أمر الحكمين في صفين فسمى معاوية يومئذ بالخلافة ثم اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن، ثم اجتمعوا على ولده يزيد, ولم ينتظم للحسين أمر بل قتل بعد ذلك، ثم لما مات يزيد وقع الاختلاف إلى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير، ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام, وتخلل بين سليمان ويزيد عمر بن عبد العزيز فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين, والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك اجتمع الناس عليه لما مات عمه هشام فولي نحو أربع سنين ثم قاموا عليه فقتلوه وانتشرت الفتن وتغير الأحوال من يومئذ… (3).
__________
(1) لمزه لأهل الشام أخذه من ابن المطهر الحلي الذي رد عليه شيخ الإسلام في "منهاج السنة"، لذلك قال ابن تيمية في الرد على الرافضة: وكذلك من جهلهم وتعصبهم أنهم يبغضون أهل الشام لكونهم كان فيهم أولا من يبغض عليا, ومعلوم أن مكة كان فيها كفار ومؤمنون, وكذلك المدينة كان فيها مؤمنون ومنافقون, والشام في هذه الأعصار لم يبق فيه من يتظاهر ببغض علي, ولكن لفرط جهلهم يسحبون ذيل البغض .. "منهاج السنة" (4|146).
(2) البخاري" (7222).
(3) الفتح" (13/227).(33/53)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ثم السنة كانت قبل دولة بني عباس أظهر منها وأقوى في دولة بني العباس؛ فإن بني العباس دخل في دولتهم كثير من الشيعة وغيرهم من أهل البدع(1).
وقد كان في بني أمية قوم صالحون ماتوا قبل الفتنة, وكان بنو أمية أكثر القبائل عمالاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه لما فتح مكة استعمل عليها عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية واستعمل خالد بن سعيد بن العاص بن أمية وأخويه أبان بن سعيد وسعيد بن سعيد على أعمال أخر, واستعمل أبا سفيان بن حرب بن أمية على نجران أو ابنه يزيد ومات وهو عليها وصاهر نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ببناته الثلاثة لبني أمية؛ فزوج أكبر بناته زينب بأبي العاص بن الربيع بن أمية بن عبد شمس وحمد صهره لما أراد علي أن يتزوج ببنت أبي جهل فذكر صهراً له من بني أمية بن عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته, وقال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي..(2).
2- محاولة المقارنة بين أهل السنة وبين الروافض في أكثر من موضع وشتان بين الفريقين. كما في (ص 8 - 46 – 222- 245 - 250).
وقال (ص57): ومثلما نجيز لأنفسنا أن نجعل من علامات الشيعي أن يطلق على أهل السنة النبوية نواصب فمن العدل أن نقرر أن من علامات الناصبي أيضاً أن يطلق على أهل السنة النبوية روافض أو شيعة!
3- يزعم أنه ينتمي إلى أهل السنة كما في (ص9) ثم يكيل إليهم التهم ويعيبهم وينتقصهم.
قال (ص245): وبما أن في كثير منا "أهل السنة" انحرافاً واضحاً عن علي بن أبي طالب بسبب غلو الشيعة فيه؛ فلذلك لا بد من الإكثار من الدفاع عنه لانتشار النصب بين كثير من طلبة العلم عندنا؛ فمثلما قام الروافض بظلم أبي بكر وعمر وعثمان فعندنا ظلم – وإن كان أقل – لعلي بن أبي طالب, ومن أكبر دلالات ظلمنا له أننا نعد المدافع عنه متشيعاً مذموماً بينما نعتبر المدافع عن معاوية سنياً سلفياً!
__________
(1) منهاج السنة النبوية" (4/130).
(2) منهاج السنة" (4|145).(33/54)
4- طعنه في بعض علماء السنة فمقولة: التراب الذي دخل أنف معاوية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من عمر بن عبد العزيز. قالها بعض مغفلي الصالحين كما في (ص74) مع أن الكلمة مشهورة لعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل.
5- علماء السلف في نظره عندهم سطحية وجمود في البحث فتعريف الصحابي الذي رجحه العلماء بكل من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - سببه: أنهم يلجئون للأسهل والأيسر ويبتعدون عن الأمور التي يصعب حسمها أو تحديداً, وإن كانت أكثر علمية فانتشار الأسهل لا يعني صحته, وإنما يعني ضمور البحث العلمي وتطبيقاته عند المسلمين هذا الضمور والجمود على ما رجحه بعض العلماء هو الذي سبب إشكالات علمية في العصور المتأخرة, وأدى إلى تعميق الاختلاف والنزاع والتقليد بين طوائف المسلمين- كذا قال – .
قلت: وكأن الحديث عن مجموعة من العوام الخاملين الكسالى الذين يحبون الراحة والدعة حتى يلجئون إلى الأسهل وليس الحديث عن علماء قدموا الغالي والنفيس وقدموا المهج والأرواح في الدفاع عن الدين والذب عنه. ...
6- وعلماء السلف في نظره متعصبين. قال (ص8): ولذلك نجد أنه تكفي عبارة "فلان يطعن في الصحابة" للقضاء عن كل إبداع بحثي عند أهل السنة، وعلماء السلف في نظره متزلفين لدولة بني أمية فهي لجأت إلى تعميم الصحبة على كل من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يدخل فيهم كلقاء بني أمية كآل أبي سفيان وغيرهم من بني أمية. انظر (ص46).
7- وعلماء السلف في حدهم الصحبة بكل من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يلجؤون إلى الأدلة وإنما يلجئون إلى أسئلة المكابرة المشحونة بالتعميم والعاطفة مع إهمال فهمها ... (ص223).(33/55)
8- وشيخ الإسلام شامي وأهل الشام منحرفون على علي بن أبي طالب وهذا الميل لا يعرفه إلا من عرف الحق وهو منحرف – أي شيخ الإسلام - على علي وأهل البيت متوسعاً في جلب شبه النواصب مع ضعفه في الرد وعنده ازدواجية وهوى وانحراف وهو لم يضبط علماً واحداً ضبطاً قوياً, وأخطاء ابن تيمية لا يدركها إلا من بحث ... وهذه كلمة يريد بها وجه الله وعلى شيخ الإسلام مسؤولية أكثر الانحراف المعاصر على علي بن أبي طالب... انظر (ص239).
أدلة أهل السنة في أن الصحابي هو كل من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً ومات على ذلك:
اللغة وقد تقدم.
العرف كما ذكر الإمام النووي وغيره وقد تقدم.
الشرع والأدلة على ذلك كثيرة:
والدليل على قول الجمهور ما أخرجاه في "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس فيقال هل فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم)). وهذا لفظ مسلم
وله في رواية أخرى: ((يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث فيقولون انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فيوجد الرجل فيفتح لهم به ثم يبعث البعث الثاني؛ فيقولون هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم به، ثم يبعث البعث الثالث فيقال: انظروا هل ترون فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فيقولون نعم. ثم يكون البعث الرابع فيقال: هل ترون فيكم أحدا رأى من رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيوجد الرجل فيفتح لهم به)).(33/56)
ولفظ البخاري ثلاث مرات كالرواية الأولى لكن لفظه: يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس, وكذلك قال في الثانية والثالثة. وقال فيها كلها صحب, واتفقت الروايات على ذكر الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم القرون المفضلة...
ففي الحديث الأول: هل فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: هل فيكم من رأى من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فدل على أن الرائي هو الصاحب، وهكذا يقول في سائر الطبقات في السؤال هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله ثم يكون المراد بالصاحب الرائي.
وفي الرواية الثانية: هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يقال في الثالثة: هل فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومعلوم إن كان الحكم لصاحب الصاحب معلقا بالرؤية ففي الذي صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى والأحرى.
ولفظ البخاري قال فيها كلها صحب, وهذه الألفاظ إن كانت كلها من ألفاظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فهي نص في المسألة, وإن كان قد قال بعضها والراوي مثل أبي سعيد يروي اللفظ بالمعنى؛ فقد دل على أن معنى أحد اللفظين عندهم هو معنى الآخر وهم أعلم بمعاني ما سمعوه من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأيضا: فإن كان لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى فقد حصل المقصود وإن كان لفظه صحب في طبقة أو طبقات؛ فإن لم يرد به الرؤية لم يكن قد بين مراده فإن الصحبة اسم جنس ليس لها حد في الشرع ولا في اللغة والعرف فيها مختلف.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقيد الصحبة بقيد ولا قدرها بقدر بل علق الحكم بمطلقها ولا مطلق لها إلا الرؤية, وأيضا فإنه يقال صحبه ساعة وصحبه سنة وشهرا فتقع على القليل والكثير ؛ فإذا أطلقت من غير قيد لم يجز تقييدها بغير دليل بل تحمل على المعنى المشترك بين سائر موارد الاستعمال.(33/57)
ولا ريب أن مجرد رؤية الإنسان لغيره لا توجب أن يقال قد صحبه, ولكن إذا رآه على وجه الاتباع له والاقتداء به دون غيره والاختصاص به, ولهذا لم يعتد برؤية من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكفار والمنافقين؛ فإنهم لم يروه من قصده أن يؤمن به ويكون من أتباعه وأعوانه المصدقين له فيما أخبر المطيعين له فيما أمر الموالين له المعادين لمن عاداه الذي هو أحب إليهم من أنفسهم وأموالهم وكل شيء.
وامتاز أبو بكر عن سائر المؤمنين بأن رآه وهذه حاله معه فكان صاحباً له بهذا الاعتبار(1).
ب- ودليل ثانٍ ما ثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((وددت أني رأيت إخواني قالوا: يا رسول الله أولسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي, وإخواني الذين يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني)).
ومعلوم أن قوله إخواني أراد به إخواني الذين ليسوا بأصحابي, وأما أنتم فلكم مزية الصحبة ثم قال: قوم يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني.
فجعل هذا حداً فاصلا بين إخوانه الذين ود أن يراهم وبين أصحابه فدل على أن من آمن به ورآه فهو من أصحابه لا من هؤلاء الإخوان الذين لم يرهم ولم يروه. فإذا عرف أن الصحبة اسم جنس تعم قليل الصحبة وكثيرها وأدناها أن يصحبه زمنا قليلاً(2).
ج- وعن أنس قال: ذكر مالك بن الدخشن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقعوا فيه يقال له: رأس المنافقين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دعوا أصحابي لا تسبوا أصحابي".
قال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.
ومالك بن الدخشن - رضي الله عنه - اتهمه بعض الصحابة بالنفاق, وقد رفض النبي - صلى الله عليه وسلم - التكلم عليه.
__________
(1) "منهاج السنة" (8/388).
(2) "منهاج السنة" (8/389).(33/58)
وأصل الحديث في "الصحيحين" عن عتبان بن مالك وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن شهد بدراً من الأنصار: أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي؛ فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم لأصلي لهم فوددت يا رسول الله أنك تأتي فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى فقال: سأفعل إن شاء الله. قال عتبان: فغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر حين ارتفع النهار؛ فاستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأذنت له فلم يجلس حتى دخل البيت ثم قال لي: أين تحب أن أصلي من بيتك. فأشرت إلى ناحية من البيت؛ فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فكبر فصففنا فصلى ركعتين ثم سلم, وحبسناه على خزير صنعناه فثاب في البيت رجال من أهل الدار ذوو عدد فاجتمعوا فقال قائل منهم أين مالك بن الدخشن؟ فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تقل ألا تراه قال لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله. قال: الله ورسوله أعلم قال: قلنا: فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين فقال: فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله.
د- عن عبد الله بن بسر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طوبى لمن رآني وطوبى لمن رأى من رآني طوبى لهم وحسن مآب.
قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه بقية , وقد صرح بالسماع فزالت الدلسة وبقية رجاله ثقات.
وقد صح الحديث عن ابن عمر وأنس وأبي هريرة وأبي سعبد وواثلة وأبي أمامة وقد ذكرها شيخنا الألباني في "صحيح الجامع".(33/59)
هـ - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أنه كان متكئاً فذكر من عنده علياً ومعاوية رضي الله عنهما فتقاول رجلاً معاوية فاستوى جالساً ثم قال: كنا ننزل رفاقاً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فكنا في رفقة فيها أبو بكر فنزلنا على أهل أبيات, وفيهم امرأة حبلى ومعنا رجل من أهل البادية فقال للمرأة الحامل: أيسرك أن تلدي غلاماً؟ قالت: نعم. قال: إن أعطتني شاة ولدت غلاماً فأعطته فسجع لها أسجاعاً ثم عمد إلى الشاة فذبحها وطبخها وجلسنا نأكل منها ومعنا أبو بكر؛ فلما علم بالقصة قام فتقيأ كل شيء أكله قال: ثم رأيت ذلك البدوي قد أتى به عمر بن الخطاب, وقد هجا الأنصار فقال لهم عمر: لولا أن له صحبة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أدري ما نال فيها لكفيتموه, ولكن له صحبة.
قال ابن حجر : فتوقف عمر عن معاتبته فضلاً عن معاقبته لكونه علم أنه لقي النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي ذلك ابن أكبر شاهد على أنهم كانوا يعتقدون أن شأن الصحبة لا يعدله شيء كما ثبت في حديث أبي سعيد الماضي(1).
و- عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أشد أمتي لي حباً ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله))(2).
ز- بالاستقراء أن كثيراً ممن ترجم للصحابة لم يشترط طول الصحبة أو الملازمة الطويلة ومن أمثلة ذلك ممن أسلم يوم الفتح:
عبد الرحمن بن سمرة.
أسيد بن جارية الثقفي.
أيمن بن خريم بن فاتك الأسدي.
جناب الكلبي.
الحارث بن هشام بن المغيرة.
حي بن جارية الثقفي.
عامر بن كريز.
عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة.
عبد الله بن عمرو بن بجرة.
معمر بن عثمان بن عمرو.
جهيم بن الصلت.
وغيرهم كثير جداً جداً.
__________
(1) "فتح المغيث" (3|114) وقال ابن حجر: بسند رجاله ثقات.
(2) "مسلم" (2832).(33/60)
وفي الختام هذا ما أعان الله من الرد على حسن بن فرحان المالكي في كتابه "الصحبة والصحابة", نسأل الله لنا وله الهداية, والحمد لله رب العالمين.
الفهرس
الموضوع
الصفحة
- المسألة الأولى: قصره الصحبة على المهاجرين والأنصار .......
3
- مفهوم الصحبة في القرآن .....................................
17
- مفهوم الصحبة في الأحاديث النبوية ...........................
25
- مفهوم الصحبة في آثار الصحابة والتابعين ....................
34
- المسألة الثانية: عدالة الصحابة رضوان الله عليهم ...............
41
- المسألة الثالثة: قوله: أن بعض المؤمنين في العصور المتأخرة قد يكونون أفضل من بعض المهاجرين والأنصار ......................
45
- المسالة الرابعة: تعرضه ولمزه لبعض الصحابة .................
50
- مسائل أخرى ...............................................
54
- أدلة أهل السنة في أن الصحابي هو كل من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً ومات على ذلك ....................................................
58(33/61)