أَغلُوٌّ في بعض القرابة
وجفاء في الأنبياء والصحابة؟!
إعداد
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
الحمد لله ربِّ العالَمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد، فقد اطَّلعتُ على تفريغ لشريطٍ لرجلٍ من الكويت ممتلئ قلبه حقداً على خير هذه الأمَّة بعد النَّبيِّين والمرسَلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، يُدعَى ياسر الحبيب، وليس له من اسمه نصيب، بل هو عاسر بغيض، تفوَّه فيه بكلام من أقبح الكلام في الغلوِّ في بعض أهل البيت، والجفاء في الأنبياء وفي أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة، ولا أريد بهذه الكتابة الرد عليه؛ فإنَّ مجرَّد حكاية كلامه القبيح يُغني عن الردِّ عليه، وهو من النماذج الواضحة الجليَّة لزيغ القلوب وعمى البصائر، فأنا أذكر كارهاً مضطرًّا نماذج من كلامه وكلام مَن سبقه من أسلافه؛ لنشر خزيهم في هذه الحياة الدنيا، وبيان اشتعال الحقد في قلوبهم على الصحابة الكرام، مع الغلوِّ المتناهي في بعض أهل البيت، مع تعليقات يسيرة والإشارة إلى مقارنة بينهم وبين أهل السنَّة في العقيدة في الصحابة والقرابة، وقد استمعت إلى بعض ما اشتمل عليه الشريط، فوجدتُه مطابقاً للتفريغ، وما أوردته منه هنا من كلام هذا الحاقد الجديد مطابق لِمَا في الشريط.(1/1)
ومن كلامه الذي غلا فيه في علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، وتسعة من أولاد الحسين، وهم الأئمة الاثنا عشر عندهم، ففضَّلهم على الأنبياء والمرسَلين، وفي مقدِّمتهم إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، قوله: (( نحن الشيعة نعتقد بأنَّ أفضل أولياء الله عزَّ وجلَّ بعد المعصومين الأربعة عشر عليهم الصلاة والسلام هو سيدنا إبراهيم الخليل صلوات
الله عليه، حسب تحقيق العلماء فإنَّ أفضل الخلق هو نبيُّنا صلى الله عليه وآله، ثم أمير المؤمنين والزهراء صلوات الله وسلامه عليهما في مرتبة واحدة، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم مولانا الإمام المهدي صلوات الله عليه، ثم الأئمَّة من ذريَّة الحسين، من السجاد إلى العسكري في مرتبة واحدة، ثم إبراهيم الخليل صلوات الله عليهم!!! )).
وكلامُه هذا شبيه بكلام زعيمهم في هذا العصر الخميني، فقد قال في كتابه (( الحكومة الإسلامية )) (ص 52) من منشورات المكتبة الإسلامية الكبرى بطهران: (( وثبوت الولاية والحاكمية للإمام (ع)
لا تعني تجرّده عن منزلته التي هي له عند الله،
ولا تجعله مثل مَن عداه من الحكام؛ فإنَّ للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرَّات هذا الكون، وإنَّ من ضروريات مذهبنا أنَّ لأئمَّتنا مقاماً لا يبلغه ملكٌ مقرَّب ولا نبي مرسَل، وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث، فإنَّ الرسول الأعظم (ص) والأئمة (ع) كانوا قبل هذا العالم أنواراً، فجعلهم الله بعرشه محدقين، وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لا يعلمه إلاَّ الله، وقد قال جبرائيل كما ورد في روايات المعراج: لو دنوت أنملة لاحترقت، وقد ورد عنهم (ع): إنَّ لنا مع الله حالات لا يسعها ملَك مقرَّب ولا نبي مرسَل ))!!!
ومِن المعلوم أنَّ تفضيلَ أحد من البشر على الأنبياء والمرسَلين جفاء فيهم.(1/2)
ومن غلوِّهم في أئمَّتهم الاثني عشر ما جاء في كتاب (( أصول الكافي )) للكليني، وهو من كتبهم المعتمدة، وقد اشتمل على أبواب تشتمل على أحاديث من أحاديثهم، ومن هذه الأبواب قوله:
ـ باب: أنَّ الأئمة عليهم السلام خلفاء الله عزَّ وجلَّ في أرضه، وأبوابُه التي منها يُؤتى (1/193).
ـ باب: أنَّ الأئمة عليهم السلام هم العلامات التي ذكرها عزَّ وجلَّ في كتابه (1/206):
وفي هذا الباب ثلاثة أحاديث من أحاديثهم تشتمل على تفسير قوله تعالى: { - تمهيد (- رضي الله عنهم - - ( فهرس - - رضي الله عنه -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - } - - - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - - رضي الله عنه - تمت - صلى الله عليه وسلم -( - - رضي الله عنه - - ( - - عليه السلام - - (((( } ، بأنَّ النَّجمَ: رسول الله صلى الله عليه وآله، وأن العلامات الأئمَّة.
ـ باب: أنَّ الأئمَّة عليهم السلام نور الله عزَّ وجلَّ (1/194).(1/3)
ويشتمل على أحاديث من أحاديثهم، منها حديث ينتهي إلى أبي عبد الله (وهو جعفر الصادق) في تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: { ( - - - ( - قرآن كريم ( الله أكبر ( المحتويات } - عليه السلام - قرآن كريم (- رضي الله عنهم - - - - - - - ((( - - } - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } قال ـ كما زعموا ـ: (( { ( - - الله - رضي الله عنه - تم بحمد الله (( فهرس ( - قرآن كريم ( الله أكبر - - - قرآن كريم - - ((( - - - } : فاطمة عليها السلام، { - { - - (( (- رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - تمهيد ((( تم بحمد الله } : الحسن،
{ (- رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - تمهيد ((( - ( - - - - (( - { - رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم ( - } : الحسين، { ( { - رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم - - - - - - { - ( - - صلى الله عليه وسلم - } - - ( - - - ( قرآن كريم - - - - ( - - ( - } : فاطمة كوكب دُرِيٌّ بين نساء أهل الدنيا، { ( - - - قرآن كريم ( - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - - - عليه السلام - - - رضي الله عنهم - - - { - { - - - عليه السلام - - (- رضي الله عنه - تمهيد - تم بحمد الله } : إبراهيم عليه السلام، { - { - رضي الله عنه - الله أكبر قرآن كريم ( - ( - - رضي الله عنهم - - - صدق الله العظيم - { { - ( - ( - - ( - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - { } - ( - ( - - ( } : لا يهودية ولا نصرانية، { ( - - - - - رضي الله عنه - - - { - ( - ( - - رضي الله عنهم - - ((((((( - } : يكاد العلم ينفجر بها، { ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم - - ( مقدمة ( - -(1/4)
- ( - - - ( - - - رضي الله عنه - الله أكبر ( - قرآن كريم - الله أكبر - - فهرس - - رضي الله عنه -( - - قرآن كريم ( الله أكبر } : إمام منها بعد إمام، { - ( - ( - - عليه السلام - - ( - - - (( فهرس ( - قرآن كريم ( - ( - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله (( - - - رضي الله عنه -( - - } : يهدي الله للأئمَّة مَن يشاء ... )).
ـ باب: أنَّ الآيات التي ذكرها الله عزَّ وجلَّ في كتابه هم الأئمَّة (1/207).
وفي هذا الباب تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: { - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( - ((( - ( تمهيد (- رضي الله عنه - - - - رضي الله عنهم - - - ( - ( - - - جل جلاله - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - صدق الله العظيم - رضي الله عنه -( - الله ( قرآن كريم - - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم ( - ( تم بحمد الله ( - ( - ((((( } بأنَّ الآيات: الأئمَّة!!
وفيه تفسير قوله تعالى: { } - قرآن كريم ( - } - - - - - عليه السلام - - ( - (- رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه -(( - - - رضي الله عنهم - - ( - - ( - } بأنَّ الآيات: الأوصياء كلُّهم!!!
ومعنى ذلك أنَّ العقابَ الذي حلَّ بآل فرعون سببُه تكذيبهم بالأوصياء الذين هم الأئمَّة!!
ـ باب: أنَّ أهلَ الذِّكر الذين أمر اللهُ الخلقَ بسؤالِهم هم الأئمَّة عليهم السلام (1/210).
ـ باب: أنَّ القرآن يهدي للإمام (1/216).(1/5)
وفي هذا الباب تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: { } تمت ( { - - - (- رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - تمت - - عليه السلام -(( - ( { ( - - - - ( - ( - - عليه السلام - - (( - ( - ( - { - ( - ( بسم الله الرحمن الرحيم - عليه السلام - قرآن كريم ( - - صلى الله عليه وسلم - - } بأنَّه يهدي إلى الإمام!!
وفيه تفسيرُ قول الله عزَّ وجلَّ: { - رضي الله عنه -((( - { - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات - رضي الله عنهم - - - { - رضي الله عنه -( ( المحتويات ( تمهيد ( - (- رضي الله عنهم - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - } بأنَّه إنَّما عنى بذلك الأئمَّة عليهم السلام، بهم عقَّد الله عزَّ وجلَّ أيمانكم!!
ـ باب: أنَّ النِّعمة التي ذكرها الله عزَّ وجلَّ في كتابه الأئمَّة عليهم السلام (1/217).
وفيه تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: { ( المحتويات - - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام - - - - - فهرس - ( { - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - - - رضي الله عنه - - - تمهيد - رضي الله عنهم - - ((( الله أكبر ( - - - - - - ((( - } بالزعم بأنَّ عليًّا قال:
(( نحن النِّعمة التي أنعم الله بها على عباده، وبنا يفوز مَن فاز يوم القيامة ))!!
وفيه تفسير قول الله عزَّ وجلَّ في سورة الرحمن:
{ ( - - - صلى الله عليه وسلم - - ( تمهيد - ( ((- سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم - - عليه السلام -( - - رضي الله عنهم - - ( - ( فهرس - - عليه السلام - - ( تمت - - رضي الله عنه - - ( - - - - ( - } ، قال: (( أبالنَّبِيِّ أم بالوصيِّ تكذِّبان؟!! )).
ـ باب: عرض الأعمال على النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله، والأئمَّة عليهم السلام (1/219).(1/6)
ـ باب: أنَّ الأئمَّة عليهم السلام عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عزَّ وجلَّ، وأنَّهم يعرفونها على اختلاف ألسنتِها (1/227).
ـ باب: أنَّه لَم يجمع القرآنَ كلَّه إلاَّ الأئمَّة عليهم السلام، وأنَّهم يعلَمون علمَه كلَّه (1/228).
ـ باب: أنَّ الأئمَّة عليهم السلام يعلمون جميعَ العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرُّسل عليهم السلام (1/255).
ـ باب: أنَّ الأئمَّة عليهم السلام يعلمون متى يموتون وأنَّهم لا يموتون إلاَّ باختيارٍ منهم. (1/258).
ـ باب: أنَّ الأئمَّة عليهم السلام يعلمون علمَ ما كان وما يكون، وأنَّه لا يخفى عليهم الشيءُ صلوات الله عليهم (1/260).
ـ باب: أنَّ الله عزَّ وجلَّ لَم يُعلِّم نبيَّه علماً إلاَّ أمره أن يُعلِّمَه أمير المؤمنين عليه السلام، وأنَّه كان شريكَه في العلم (1/263).
ـ باب: أنَّه ليس شيءٌ من الحقِّ في يد الناسِ إلاَّ ما خرج من عند الأئمَّة عليهم السلام، وأنَّ كلَّ شيء لم يخرج من عندهم فهو باطلٌ (1/399).
وهذه الأبوابُ تشتمل على أحاديث من أحاديثهم، وهي منقولةٌ من طبعة الكتاب، نشر مكتبة الصدوق بطهران، سنة (1381هـ).
ويُعتبَرُ الكتابُ مِن أجَلِّ كتبِهم إن لَم يكن أجَلَّها، وفي مقدِّمة الكتاب ثناءٌ عظيمٌ على الكتاب وعلى مؤلِّفِه، وكانت وفاتُه سنة (329هـ)، وهذا الذي نقلتُه منه نماذج من غلوِّ متقدِّميهم في الأئمَّة.(1/7)
وأكثرُ كلام هذا الحاقد الجديد المسجَّل في هذا الشريط في ذمِّ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وهو ذمٌّ بوقاحة وخسَّة، دون حياء من الله ومن الناس، ومنه قوله: (( أفضلُ أنواع الانتقام في هذا العصر
هو الانتقام الإعلامي، أبو بكر وعمر ـ لعنة الله عليهما!! ـ مقدَّسان في أعين هؤلاء الجهلة وفي أذهانهم، مقدَّسان يُؤخذ منهم الشرع، تُطبَّق أقوالهم، تطبَّق تعاليمهم ويُمجَّدون، تُرفع أسماؤهم ويُرفع ذكرُهم على المنابر وفي وسائل الإعلام، وتُسمَّى الشوارع والمؤسسات والمباني والأفراد بأسمائهم، ذِكرُهم مخلَّد شئنا أم أبينا، صحيح هم ظلمة، وصحيح أنَّهم قتلة ومجرمون، ولكن ذكرهم مخلَّد مع الأسف، ولكن هذين الملعونين أساس الظلم لا يزالان واقعان يعيشان بيننا، أبو بكر وعمر لَم ينتهيا، صحيح هما الآن في عالَم البرزخ، أو في جهنَّم يذوقان من العذاب ما لا يمكن وصفه، ولكن بالنتيجة العالم يهتف باسميهما مع الأسف الشديد، ومع الأسف الشديد، ومع حرقة القلب أيضاً أنَّ مجرمين كهؤلاء يُهتف باسمهما!! نحن جئنا ونسأل من الله عزَّ وجلَّ أن نكون من هؤلاء المنتقمين، الذين يحرقون ذكر أبي بكر وعمر، ويُعيدون الناسَ إلى صوابهم!!! )).
وقوله: (( هذا، ومع أنَّ كلَّ جرائم صدام لا تأتي عشر معشار جرائم أبي بكر وعمر في الواقع!!! )).
وقوله: (( ولكن في الواقع، الذين لا يريدون أن ينتقموا من أبي بكر وعمر، أو من ذولاَ اللِّي ما ندري إيش نسميهم، أو اللِّي يترحَّمون على أبي بكر وعمر يترضون عليهم، هذا إنسان التشيع لم يدخل قلبه، بأي عنوان خصوصاً في هذا الزمان يقول لك: تقية ما تقية، كله باطل، كله كذب في كذب، لا تقية في هذا الزمن!!! )).(1/8)
وقوله: (( لدينا في بعض الروايات أنَّ الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه قال لسلمان المحمدي، قال له: أتريد أن أريك أبو بكر الآن؟ قال: إيه! بطريقة معينة كما هو وارد في الرواية، والإمام أشار بطريقة، فانكشفت الحجب، وإذا بأبو بكر في أغلال، وفي قعر جهنَّم، هنا قال له أبو بكر: يا أمير المؤمنين! أرجِعني إلى الدنيا وسأعترف بولايتك، وأُرجِع الحق لك، وأعترف على نفسي، وأقول: أنا ظالم، حتى عموم المسلمين كلهم هاذولا اللِّي الآن يتبعونك، ويعرفون أنَّني كنت ظالم، وهذا الحكم كان حكم غير شرعي، وأنَّني قتلت امرأتك، وأنَّني كذا وكذا وكذا، فأمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ التفت إلى الملَكين اللَّذين هما موَكّلان بتعذيب أبي بكر، وقال لهما: ضاعفَا عليه العذاب؛ ولو رددناه لازداد غيًّا، كذاب!!(1/9)
وفي الواقع إذا سألتم أنفسَكم: لماذا أبو بكر وعمر في الواقع أخبث الخبثاء، وأكبر المخلوقات إجراماً وكفراً ونفاقاً؟ لأنَّهما بقية ظلمة الأنبياء، فرعون، النمرود، وغيرهم، هؤلاء كانوا إلى حد ما هو يشعر بأنَّه كافر، وأنَّه يعمل ضد الله عزَّ وجلَّ، لكن عنده نسبة من تأنيب الضمير التي جعلت فرعون حينما رأى برهان ربِّه يؤمن، صحيح وإلاَّ لا؟ فرعون حينما انطبق البحر عليه تشهَّد، ثق تماماً أنَّ عمر وأبو بكر لو كانا في ذلك الموضع لَما تشهَّدا، ولَما ألانا أبداً؛ والدليل أيضاً لدينا في الروايات: عمر وهو على فراش الهلاك ـ لعنة الله عليه ـ طلب من ابنه أن يستدعي أمير المؤمنين صلوات الله عليه، بأي طريقة ائتني بأبي الحسن، ذهب هذا ابنُ عمر طلب من أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه عمر يريد أن يراك وهو على فراش الاحتضار، أمير المؤمنين عليه السلام قَبِل، قَبِل للغاية، وهو أنَّه يصل هذا الخبر إلينا، وإلاَّ أمير المؤمنين لا يُلبي دعوة هذا النجس، وصل إليه، فقال له: يا علي! اغفر لي، أنا أتوب إلى الله عزَّ وجلَّ، فاسأل من الله عزَّ وجلَّ أن يتوب عليَّ؛ فإنِّي أرى النارَ أمامي، عمر وهو على فراش الموت، الله عزَّ وجلَّ كشف عن الحجب أمامه، فكان يرى الملائكة وموضعه في جهنَّم، كلهم مستعدين، يقولون: هيَّا تعال! فشاف، يعني رأى برهان ربِّه، شوف تخيل، ولذلك استدعى أمير المؤمنين حتى يتوب، وإلاَّ ما كان يستدعيه، صحيح وإلاَّ لا؟ أمير المؤمنين عليه السلام قال له: نعم، أغفر لك وأشفع لك عند الله بشرط واحد، الآن تقف بالمسجد وتعلن أمام الناس أنَّك ظلمتنا أهل البيت ... فكَّر عمر، شوف تخيَّل، الإنسان يرى جهنَّم أمامه، بما فيها من العذاب وموضعه، وكل الملائكة والموكَّلين بتعذيبه، كلهم منتظرينه، يقولون: تعال! خلاص على مقربة من العذاب ... ما فيه حل، وهو في الساعات الأخيرة من حياته، فكر شوي، وإلاَّ يقول: لا! لولا أن يُقال أنَّ(1/10)
ابن الخطاب رضخ، أن يُقال أنَّه اعتذر (النار ولا العار) بالضبط، شوف الخبث والدهاء، إنسان، بل ليس إنسان، سافل إلى أبعد درجة، وضيع، لهذا ثق تَماماً أنَّه لو كان في ذلك الموضع أحد ظلمة الأنبياء لكان تاب، ولذلك أبو بكر وعمر هما أنجس وأخسُّ ملعونين، ولذلك حتى إبليس ـ كما عندنا في الروايات ـ في جهنَّم، جهنَّم طبقات ومراتب، إبليس في المرتبة التي أعلا من أبو بكر وعمر، إبليس الذي أغوى الناس وضلل الناس هذا إبليس نفسه، هذا المخلوق فوق مرتبة أبو بكر وعمر، أبو بكر وعمر في قعر قعر جهنَّم، وأبو بكر وعمر هما أسوأ مخلوقين في الكون منذ بدء الخليقة، مش كذا؟ إحنا عندنا أشرف المخلوقات هم محمد وآله، اللهمَّ صل على محمد وعلى آل محمد، أبو بكر وعمر هم أسوأ المخلوقات، أعدا أعداء الله، يعني مقابل الله مَن؟ إبليس؟ ما هو إبليس، مقابل الله: أبو بكر وعمر، بَعْدِين إبليس تلميذهم!!! )).
هذه مقاطع من كلام هذا العاسر البغيض، أثبتها كما هي بلحنها وإحَنِها، وعُجرها وبُجرها، وغيظها وأضغانها، وحقدها وإلحادها، وظُلمها وظلامها، ولو فتَّش مفتِّش عن كلام يطابق هذيان المجانين لم يجد أقربَ من هذه الكلمات وما اشتملت عليه من الروايات، وإنَّ كتباً تشتمل على مثل هذه الروايات المكذوبة حقيقةٌ بالإتلاف والإحراق، وإنَّ عقيدة تُبنى على مثل هذه الأساطير والخرافات جديرةٌ أن يتبرَّأ منها مَن وفَّقهم الله من أصحابها، وأن ينبذوها رغبة عنها نبذ النواة، ولا شكَّ أنَّ الأئمَّة الذين افتُري عليهم مثل هذه الروايات بريئون منها ومِمَّن افتراها أو تابَع مَن افتراها.(1/11)
ومِمَّن وفَّقهم الله للتخلص من الابتلاء ببغض الصحابة وذمِّهم، والظَّفَر بسلامة القلوب والألسنة من ذلك، ومحبَّتهم والثناء عليهم: الشريف أبو طالب بن عمر العلوي، فقد ذكر أبو طاهر السِّلفي في المشيخة البغدادية عند ذكر شيخه الشريف أبي منصور أحمد بن عبد الله بن الدَّبخ الهاشمي، عن شيخه الشريف أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن العلوي: أنَّ أبا طالب بن عمر العلوي كان على سبِّ الصحابة رافضيًّا، فتاب وأناب إلى الله تعالى مِمَّا سبق، وقال:
(( عشتُ أربعين سنة أسبُّ الصحابةَ، أشتهي أن أعيش مثلها حتى أذكرَهم بخير )).
ومَن لم يهتد من هؤلاء، وتعدَّى على جَناب أصحاب رسول الله *، ولا سيما الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، كهذا الحاقد الجديد، فلَن يجد أمامه إلاَّ إظهار خزيه ودحض باطله؛ انتصاراً للصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، الذين
هم الواسطة بين الناس وبين رسول الله *، فما عرف الناسُ الكتابَ والسنة والهدى والضلال إلاَّ عن طريق أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، والقدح في الناقل قدحٌ في المنقول، كما قال أبو زرعة الرازي رحمه الله: (( إذا رأيت الرجلَ ينتقصُ أحداً من أصحاب رسول الله * فاعلم أنَّه زنديقٌ؛ وذلك أنَّ رسول الله * عندنا حقٌّ والقرآن حقٌّ، وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرآنَ والسننَ أصحابُ رسول الله *، وإنَّما يريدون أن يجرحوا شهودَنا ليُبطلوا الكتاب والسنَّة، والجرحُ بهم أولى، وهم زنادقةٌ ))، أورده عنه الخطيب البغدادي بإسناده إليه في كتابه الكفاية (ص 49).(1/12)
ولا أدري هل فكَّر هذا الحاقد أو لم يفكِّر أنَّ خزيَه هذا لن يُنشر، وأنَّه سيبقى سبَّة عليه، وعلى كلِّ مَن كان على شاكلته من متقدِّمي أسلافه ومتأخريهم، وسواء فكَّر أو لم يفكِّر، فإنَّ هذيانه هذا من أعظم الإجرام، وفَقْدُ الحياء يُؤدِّي إلى كلِّ بلاء، وقد قال الرسول الكريم *: (( إنَّ مِمَّا أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لَم تستح فاصنع ما شئت )) رواه البخاري (3483)، وإذا لَم يهتد قبل الموت هذا المجرم الأفَّاك الذي يزعم أنَّ أبا بكر في النار، وأنَّه أشدُّ من إبليس عذاباً في نار جهنَّم، فسيجمع الله له إلى خزي الدنيا عذاب الآخرة.
وأمَّا عثمان بن عفان فلَم يسلم من حاقد آخر جديد من القطيف يُدعى حسن الصفار، فقد قال في شريط له: (( فإذا أوَّل سمة من سمات التاريخ الشيعي هي سمة العطاء، هي سمة العمل، هي سمة النشاط، وكان الشيعة في كلِّ العصور في عصور الخلفاء حتى في عهد الخليفة أبي بكر وعمر، لم يكن الشيعة جامدين وإنَّما كانوا يعملون حتى استطاعوا أن يفجروا الثورة الكبرى في عهد عثمان، وأن يأخذوا الخلافة والحكم إلى الإمام علي، في مشكلة ... كثير من الناس لا يعرفون أنَّ الثورةَ التي حدثت على الخليفة عثمان إنَّما كانت بتخطيط شيعي، وقد شارك فيها عمار بن ياسر، بل كان هو المخطِّط لها عمار بن ياسر، إنَّما لأنَّ معاوية جعل مقتل عثمان كالقميص ضد الإمام علي، وحارب الإمام علي بتهمة قتل عثمان.
الإمام علي بشكل طبيعي ما كان إِلُهْ يد مباشرة في العمل في مقتل عثمان، لذلك الشيعة يتبرَّؤون من هذه القضية حتى لا يأخذ أهل السنة مستمسك عليهم، وإلاَّ فالشيعة هم الذين قتلوا عثمان جزاهم الله خيراً، فكان عندهم عمل، في عهد بني أمية، كان عندهم عمل، كان عندهم عمل في عهد بني العباس، كان عندهم عمل، ثورات متتالية، متتابعة كانت في تاريخ الشيعة .. هذه السمة الأولى العطاء ))!!!(1/13)
وقد ذكر هذا الحاقد أنَّ الشيعة فجَّروا الثورة الكبرى في عهد عثمان، وأنَّهم قتلوه، ودعا لهم على قتلهم إيَّاه، وأنَّ هذا من عطائهم، وأمَّا عمار بن ياسر فهو بريء مِمَّا نسبه إليه براءة الذئب من دم يوسف عليه الصلاة والسلام.
* * *
وهذا العاسر البغيض التائه الذي شوى الحقدُ قلبَه وأحرق فؤادَه حتى كاد يتميز من الغيظ على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما له أسلافٌ تفوَّهوا بمثل كلامه القبيح، منهم نعمة الله بن عبد الله بن محمد بن حسين الحسيني الجزائري (من جزائر البصرة)، ذكره صاحب معجم المؤلفين (13/110)، وكانت وفاته سنة (1112هـ)، فقد جاء في كتابه الأنوار النعمانية، طبعة مطبعة شركة جاب تبريز بإيران، من الجفاء في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قوله: (1/81 ـ 82): (( وإنَّما الإشكال في تزويج علي عليه السلام أم كلثوم لعمر ابن الخطاب وقت تخلفه؛ لأنَّه ظهرت منه المناكير، وارتدَّ عن الدِّين ارتداداً أعظم من كلِّ مَن ارتدَّ، حتى إنَّه قد وردت روايات الخاصة أنَّ الشيطان يغل بسبعين غلاًّ من حديد جهنَّم، ويُساق إلى المحشر، فينظر ويرى رجلاً أمامه تقوده ملائكة العذاب، وفي عنقه مائة وعشرون غلاًّ من أغلال جهنَّم، فيدنو الشيطان إليه، ويقول: ما فعل الشقي حتى زاد عليَّ في العذاب، وإنَّما أغويت الخلق وأوردتهم موارد الهلاك؟! فيقول عمر للشيطان: ما فعلتُ شيئاً سوى أنِّي غصبت خلافة علي بن أبي طالب!!
والظاهر أنَّه استقلَّ سبب شقاوته ومزيد عذابه، ولم يعلم أنَّ كلَّ ما وقع في الدنيا إلى يوم القيامة من الكفر والطغيان واستيلاء أهل الجور والظلم، إنَّما هو من فَعْلَته هذه!!! )).(1/14)
وأفحشُ من ذلك وأقبح قوله (2/278):
(( ووجه آخر لهذا، لا أعلم إلاَّ أنِّي رأيته في بعض الأخبار، وحاصله أنَّا لم نجتمع معهم على إله، ولا على نبي، ولا على إمام؛ وذلك أنَّهم يقولوا (كذا): إنَّ ربَّهم هو الذي كان محمد صلى الله عليه وآله نبيَّه، وخليفته بعده أبو بكر، ونحن لا نقول بهذا الربِّ، ولا بذلك النبي، بل نقول: إنَّ الربَّ الذي خليفةُ نبيِّه أبو بكر ليس ربنا، ولا ذلك النَّبي نبينا!!! )).
وهذا الكلام من هذا الجزائري لَم يَدَع فيه مجالاً للقائلين منهم عند لقائهم بعض أهل السنَّة: كلُّنا مسلمون، الرَّبُّ واحد، والنَّبيُّ واحد، والقبلة واحدة، والمذهب الجعفري كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي!
وقد أثنى يوسف بن أحمد البحراني على هذا الجزائري وكتابه، فقال في كتابه لؤلؤة البحرين في الإجازات وتراجم رجال الحديث (ص 111) نشر دار الأضواء ببيروت: (( وكان هذا السيِّد فاضلاً محدِّثاً مدقِّقاً، واسع الدائرة في الاطِّلاع على أخبار الإمامية، وتتبع الآثار المعصومية!! ))، ووَصَف كتابه الأنوار النعمانية بأنَّه كبير مشتمل على كثير من العلوم والتحقيقات!!
وقد وُصف هذا البحراني على طرة كتابه بالعلاَّمة المحدِّث الشهير!
وفي ترجمة الجزائري المذكورة في مقدمة كتابه الأنوار النعمانية (صفحة: ي ـ ل) ثناء سبعة من علمائهم عليه، آخرهم هذا البحراني.(1/15)
ومنهم كاظم الأزري وهو من علمائهم بين القرن الثاني عشر والثالث عشر الهجري، فقد أنشأ قصيدة هائية طويلة تبلغ ألف بيت، فيها غلوٌّ في بعض أهل البيت، وجفاء في الصحابة الكرام رضي الله عنهم عموماً، وفي الشيخين الجليلين والخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما خصوصاً، وقد وقفت على أبيات من هذه القصيدة في كتاب الأستاذ محمود الملاَّح، وعنوانه: (( الرزية في القصيدة الأزرية ))، وله تعليقات جيدة على ما أورده من أبياتها، فجزاه الله خيراً، وقد قال (ص 32): (( القصيدة الأزرية الهائية، التي تستحق أن تسمى بـ (هاء) الهاوية، معروفة في الأوساط المختلفة، كنَّا نسمع منها نبذاً منبوذة، وطالَما تشوَّقنا إلى لقائها الكريه! فنزلت في هذه الأيام إلى الأسواق سافرة غير محتجبة، كما نزل غيرها من الموبقات السافرة! وهي مِمَّا نشرته المطبعة الحيدرية في النجف، وهي إحدى المطابع التي أخذت على عاتقها تحقيق منهاج معيَّن، ينكشف لنا أوَّلاً فأولاً! وكان طبعها سنة (1370هـ) )).
وذكر أنَّ لها مقدمة بقلم محمد رضا المظفر، وقال: (( ومِمَّا جاء في المقدمة قوله في صفحة (40): (وكان لدى علماء عصره مبجَّلاً محترَماً، لا سيما عند السيد بحر العلوم، وتُنقل إلى اليوم على ألسنة الناس مبالغات في احترامه وتقدير ألفيته، خاصة لدى العلماء! حتى يُنقل عن الشيخ صاحب الجواهر أنَّه كان يتمنَّى أن تكتب في ديوان أعماله القصيدة الأزرية مكان كتابه جواهر الكلام) )).
إلى أن قال صاحب المقدمة: (( وهي ينبغي أن تُعدَّ كتاباً دينيًّا لا قصيدة؛ فإنَّها تُمثِّل رأي الإمامية في النبوة والإمامة، وفيه كثير من المباحث الكلامية وإقامة الحجج عليها، تغني بجملتها عن مجلدات ضخمة!! )).(1/16)
وهذا الشاعر كاظم بن محمد بن مراد بن المهدي التميمي الأزري البغدادي، ذكره صاحب معجم المؤلفين (8/139)، وذكر أنَّ وفاته سنة (1212هـ)، ومِمَّا جاء في قصيدته الأزرية في الجفاء في الصحابة عموماً البيت في (ص 45):
أنَبيٌّ بلا وصي؟!! تعالى اللـ ـه عمَّا يقوله سفهاها!!!
ويعني بالسفهاء أصحاب رسول الله * وأهل السنَّة الذين ساروا على نهجهم!
وأسوأ من ذلك البيت في (ص 51):
أهم خير أمَّة أخرجت للنَّا س؟! هيهات ذاك بل أشقاها!!!
فهو يُنكر أن يكون الصحابة خير أمَّة أُخرجت للناس، ويزعم أنَّهم شرُّ أمَّة أُخرجت للناس، وفي هذا مقابلة ومعارضة ومناقضة لقول الله عزَّ وجلَّ: { ( المحتويات ( - - ( - - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنهم - - - { } تم بحمد الله ( - ( تمهيد - رضي الله عنهم - - ( - ( - ( - ( } - } - جل جلاله - - ( - } ، وقد نطق هذا الأزري بالوزر العظيم وصرَّح بما أشار إليه ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية بقوله (ص 469): (( فمَن أضلُّ مِمَّن يكون في قلبه غِلٌّ على خيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النَّبيِّين، بل قد فضَلهم اليهود والنصارى بخصلة، قيل لليهود: مَن خير أهل ملَّتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وقيل للنصارى: مَن خير أهل ملَّتكم؟ فقالوا: أصحاب عيسى، وقيل للرافضة: مَن شرُّ أهل ملَّتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد، ولم يستثنوا منهم إلاَّ القليل، وفيمَن سبُّوهم مَن هو خير مِمَّن استثنوهم بأضعاف مضاعفة )).
ومن جفائه في أبي بكر البيتان في (ص 47، 79):
أولا ينظرون ماذا دهتهم قصة الغار من مساوي دهاها
وكذا في براءة لَم يبسمل حيث جلت بذكره بلواها(1/17)
فإنَّ هذا التائه جعل منقبة أبي بكر في دخوله الغار مع النَّبي * مذمَّة، وأسوأ من ذلك زعم هذا الأفَّاك أنَّ سورةَ براءة خلت من البسملة؛ لأنَّ أبا بكر ذكِر فيها، وأنَّ هذا الذِّكر عظمت به المصيبة وجلَّت به البلوى!!
ومِن ذمِّه أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وجفائه فيهما البيتان في (ص 52):
أي مرقى من الفخار قديماً وحديثاً أصابه شيخاها؟!
أي أكرومة ولو أنَّها قلـ ـت ودقَّت إليهما منتماها
وفي مقابل هذا الجفاء في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يأتي بالغلو الشديد في علي ، مع جفاء في الرسل والأنبياء، ومنه هذه الأبيات في (ص 34، 35، 36).
وهو الآية المحيطة في الكو
الفريد الذي مفاتيح علم الـ
واسأل الأنبياء تنبيك عنه
جمع الله فيه جامعة الرسـ
لك كف من أبحر الله تجري
ورأت قسوراً لو اعترضته الـ
ن ففي عين كلِّ شيء تراها!
واحد الفرد غيره ما حواها!
إنَّه سرُّها الذي نبَّاها!
ـل وآتاه فوق ما آتاها!
أنهر الأنبياء من مجراها!
إنس والجن في وغى أفناها!
وتعليقي على هذه الأبيات التي هي غاية في الغلو، أقول: إنَّه يصدق عليها الوصف المشهور: يضحك النمل في قراها، والنحل في خلاياها!
* * *
وبعد أن أوردتُّ كارهاً مضطرًّا فيما تقدَّم من كلام هذا الحاقد الجديد وبعض أسلافه من المتقدِّمين والمتأخرين كلماتٍ مظلمة موحشة في الغلوِّ في بعض القرابة والجفاء في الأنبياء والصحابة، وعلى الأخصِّ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فإنِّي أوردُ هنا كلمات مشرقة مضيئة مُؤنسة من كلام خير الصحابة والقرابة بعضهم في بعض.
فمِمَّا قاله خيرُ القرابة وأفضل هذه الأمَّة بعد الخلفاء الثلاثة قبله علي بن أبي طالب في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما:(1/18)
1 ـ روى البخاري في صحيحه (3671) بإسناده عن محمد بن الحنفية ـ وهو محمد بن علي بن
أبي طالب ـ قال: (( قلت لأبي: أيُّ الناس خير بعد رسول الله *؟ قال: أبو بكر، قلت: ثمَّ مَن؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلاَّ رجل من المسلمين )).
2 ـ روى الإمام أحمد في مسنده قال: حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم، أخبرنا منصور بن عبد الرحمن يعني الغُداني الأشَل، عن الشعبي، حدَّثني أبو جُحَيفة الذي كان عليٌّ يُسمِّيه وَهْب الخير، قال: قال لي علي: (( يا أبا جُحيفة! ألا أخبرُك بأفضل هذه الأمَّة بعد نبيِّها؟ قال: قلت: بلى! قال: ولم أكن أرى أنَّ أحداً أفضل منه، قال: أفضلُ هذه الأمَّة بعد نبيِّها أبو بكر، وبعد أبي بكر عمر، وبعدهما آخر ثالث ولم يُسمِّه )) وإسناده صحيح، رجاله رجال الشيخين، إلاَّ منصور ابن عبد الرحمن فهو من رجال مسلم، وأثر عليٍّ هذا عن أبي جحيفة جاء في مسند الإمام أحمد وزوائده لابنه عبد الله من طرق صحيحة أو حسنة، وأرقامها من (833) إلى (837) و(871).
3 ـ وروى الإمام أحمد في فضائل الصحابة (474) قثنا الهيثم بن خارجة والحكم بن موسى، قالا: ثنا شهاب بن خراش، قال: حدَّثني الحجاج بن دينار، عن أبي معشر، عن إبراهيم النخعي قال: (( ضرب علقمة ابن قيس هذا المنبر، فقال: خطبنا عليٌّ على هذا المنبر، فحمد الله وذكره ما شاء الله أن يذكره، ثم قال: ألا إنَّه بلغني أنَّ أناساً يفضِّلوني على أبي بكر وعمر، ولو كنتُ تقدَّمتُ في ذلك لعاقبتُ، ولكنِّي أكره العقوبةَ قبل التقدُّم، فمَن قال شيئاً من ذلك فهو مفتَر، عليه ما على المفتري، إنَّ خيرَ الناس بعد رسول الله * أبو بكر ثم عمر ... )).
وهذا إسناد حسن، وأبو معشر هو زياد بن كليب، وهو ثقة.
وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (993)، وقال الألباني: (( إسناده حسن )).(1/19)
وفي زوائد فضائل الصحابة (49) عن عبد الله بن أحمد بإسناد فيه ضعف إلى الحكم بن جَحْل قال: سمعتُ عليًّا يقول: (( لا يفضلني أحَدٌ على أبي بكر وعمر إلاَّ جلدته حدَّ المفتري )).
وهو أيضاً كذلك في السنة لابن أبي عاصم (1219)، وهو قريب في المعنى من الذي قبله عن علقمة، وقد أشار إبراهيم النخعي إلى هذه العقوبة من عليٍّ لِمَن يفضله على الشيخين بقوله لرجل قال له:
(( عليٌّ أحبُّ إليَّ من أبي بكر وعمر ))، فقال له إبراهيم: (( أمَا إنَّ عليًّا لو سمع كلامَك لأوجع ظهركَ، إذا تجالسوننا بهذا فلا تجالسونا )) رواه عنه ابن سعد في الطبقات (6/275) بإسناده إليه عن أحمد بن يونس، عن أبي الأحوص ومفضل بن مهلهل، عن مغيرة، عنه، ورجاله ثقات محتجٌّ بهم، وهم من رجال الصحيحين، إلاَّ المفضل بن مهلهل فهو من رجال مسلم، وفيه عنعنة المغيرة عن إبراهيم، وهو مدلس.
وإذا كانت هذه عقوبةُ علي مَن يفضِّله
على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فكيف تكون عقوبته مَن يفضِّله وبعضَ أبنائه وأحفاده على الأنبياء والمرسلين؟!
4 ـ وروى ابن ماجه في سننه (106) قال: حدَّثنا علي بن محمد، ثنا وكيع، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلِمة، قال: سمعتُ عليًّا يقول: (( خير الناس بعد رسول الله * أبو بكر، وخيرُ الناس بعد أبي بكر عمر )) ورجاله محتجٌّ بهم، ثلاثة منهم من رجال البخاري ومسلم، وصححه الألباني.
5 ـ وروى ابن أبي شيبة في مصنفه (7/434) (7053) قال: حدَّثنا ابن نمير، عن عبد الملك بن سَلْع، عن عبد خير، قال: سمعتُ عليًّا يقول: (( قُبض
رسول الله * على خير ما عليه نبيٌّ من الأنبياء، قال: ثم استُخلِف أبو بكر فعمل بعمل رسول الله * وبسنَّته، ثم قُبض أبو بكر على خير ما قُبض عليه أحد، وكان خيرَ هذه الأمَّة بعد نبيِّها، ثم استُخلف عمر، فعمل بعملهما وسنَّتهما، ثم قُبض على خير ما قُبض عليه أحد، وكان خيرَ هذه الأمَّة بعد نبيِّها وبعد أبي بكر )).(1/20)
ورجال هذا الإسناد مُحتجٌّ بهم، فعبد خير
وعبد الله بن نمير ثقتان، وعبد الملك بن سَلْع صدوق.
6 ـ وروى البخاري في صحيحه (3685) ومسلم (3389) عن ابن عباس قال: (( وُضع عمر على سريره، فتكنَّفه الناسُ يدعون ويصلُّون قبل أن يُرفع وأنا فيهم، فلَم يَرُعني إلاَّ رجل آخذ منكبي، فإذا علي ابن أبي طالب، فترحَّم على عمر، وقال: ما خلَّفتَ أحداً أحبَّ إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك،
وايم الله! إن كنتُ لأظنُّ أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبتُ أنِّي كثيراً أسمع النَّبيَّ * يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلتُ أنا وأبو بكر وعمر، وخرجتُ أنا وأبو بكر وعمر )).
هذه نماذج مِمَّا عند أهل السنَّة والجماعة من كلام حسن قاله أبو الحسن علي في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.(1/21)
وأيضاً فإنَّ عليًّا قد سَمَّى ثلاثةً من أبنائه بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، كما في الرياض المستطابة للعامري (ص 179)، وزوَّج عليٌّ ابنته من فاطمة أم كلثوم من عمر ، ولو حصل في نفوس بعضهم على بعض شيء، فإنَّه منزوع منهم في الجنَّة، كما قال الله عزَّ وجلَّ: { - - - جل جلاله -((- عليه السلام - - - رضي الله عنه - الله أكبر - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - (( المحتويات ( - ( - - صلى الله عليه وسلم -( - (( ( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - - صلى الله عليه وسلم - - (( - ( الله أكبر } - عليه السلام - قرآن كريم ( - ( { - - فهرس - - رضي الله عنه -( - - ( - ( - - رضي الله عنه -( - ( - ( - ( - { - رضي الله عنه - - - تم بحمد الله (((( - صدق الله العظيم ( المحتويات ( - - - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - - - رضي الله عنهم - - - (( ( - - (- رضي الله عنه - الله أكبر - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - المحتويات ( - - { - ( { ( } تم بحمد الله - رضي الله عنه -((( - - عليه السلام - - ( - ( - ( - (((( } .
وإذا نظر مَن له أدنى عقل في هذه الروايات
عند أهل السنَّة، ثم نظر في الراويات التي ذكرها هذا الحاقد البغيض عن قومه في ذمِّ أبي بكر وعمر، تبيَّن له الفرق الواضح بين الحقِّ والباطل، والهدى والضلال، والضياء والظلام، والرائحة الطيبة والرائحة الخبيثة المنتنة.
ومِمَّا جاء عن الخليفتين الرَّاشدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في قرابة رسول الله *:
1 ـ روى البخاري في صحيحه (3712) أنَّ أبا بكر قال لعليٍّ : (( والذي نفسي بيده! لقرابةُ رسول الله * أحبُّ إليَّ أن أصلَ من قرابتي )).(1/22)
2 ـ وروى البخاري في صحيحه أيضاً (3713) عن ابن عمر، عن أبي بكر رضي الله عنهم قال:
(( ارقُبوا محمداً * في أهل بيته )).
قال الحافظ ابن حجر في شرحه: (( يخاطب بذلك الناس ويوصيهم به، والمراقبة للشيء المحافظة عليه، يقول: احفظوه فيهم، فلا تؤذوهم ولا تسيئوا إليهم )).
3 ـ وروى البخاري أيضاً (3542) عن عقبة بن الحارث قال: (( صلَّى أبو بكر العصر، ثم خرج يمشي، فرأى الحسنَ يلعب مع الصبيان، فحمَلَه على عاتقه، وقال:
بأبي شبيهٌ بالنَّبيّ لا شبيهٌ بعليّ
وعليٌّ يضحك )).
قال الحافظ في شرحه: (( قوله: (بأبي): فيه حذف تقديره أفديه بأبي ))، وقال أيضاً: (( وفي الحديث فضل أبي بكر ومحبَّته لقرابة النَّبيِّ * )).
4 ـ وروى البخاري أيضاً (1010) و(3710) عن أنس : (( أنَّ عمر بن الخطاب كان إذا قُحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللَّهمَّ إنَّا كنَّا نتوسَّل إليك بنبيِّنا * فتسقينا، وإنَّا نتوسَّل إليك بعمِّ نبيِّنا فاسقنا، قال: فيُسقون )).
والمراد بتوسُّل عمر بالعباس التوسُّل بدعائه كما جاء مبيَّناً في بعض الروايات، وقد ذكرها الحافظ في شرح الحديث في كتاب الاستسقاء من فتح الباري، واختيار عمر للعباس للتوسُّل بدعائه إنَّما هو لقرابته من رسول الله *، ولهذا قال في توسله: (( وإنَّا نتوسَّل إليك بعمِّ نبيِّنا ))، ولم يَقل: بالعباس، ومن المعلوم أنَّ عليًّا أفضلُ
من العباس، وهو من قرابة الرسول *، لكن
العباس أقرب، ولو كان النَّبيُّ * يُورَث عنه
المال لكان العباس هو المقدَّم في ذلك؛ لقوله *:
(( أَلحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر )) أخرجه البخاري ومسلم.(1/23)
وما يزعمونه من ظلم أبي بكر أهل البيت في منع ميراثه * وأخذه الخلافة منهم، مردودٌ بكونه لم يقسم ميراثه * تنفيذاً لِمَا جاء عنه *، فقد روى البخاري (6725) (6726) ومسلم (1759) عن عائشة: (( أنَّ فاطمة والعباس عليهما السلام أتيَا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله *، وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فَدَك وسهمهما من خيبر، فقال لهما أبو بكر: سمعتُ رسول الله * يقول: لا نورث، ما تركنا صدقة، وإنَّما يأكل آلُ محمد من هذا المال )) الحديث.
وأمَّا الخلافة، فمعاذ الله أن يتولاَّها أبو بكر
وهي حقٌّ لغيره، وإنَّما تولاَّها بمبايعة أصحاب رسول الله * إيَّاه، وتحقَّق بهذه البيعة ما أخبر به الرسول * بقوله: (( ويأبَى الله والمؤمنون إلاَّ أبا
بكر ))، فقد روى البخاري (5666) ومسلم (2387) في صحيحيهما ـ واللفظ لمسلم ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( قال لي رسول الله * في مرضه: ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتبَ كتاباً؛ فإنِّي أخاف أن يَتمنَّى مُتمنٍّ ويقول قائل: أنا أولَى، ويأبى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر )).
5 ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/453): (( وانظر إلى عمر بن الخطاب حين وضع الديوان، وقالوا له: يبدأ أمير المؤمنين بنفسه، فقال: لا! ولكن ضَعُوا عمرَ حيث وضعه الله، فبدأ بأهل بيت رسول الله *، ثم من يليهم، حتى جاءت نوبته في بني عدي، وهم متأخِّرون عن أكثر بطون قريش )).
* * *
وبالنظر فيما جاء في كلام هذا الحاقد الجديد وأسلافه في الأنبياء والقرابة والصحابة، وما جاء عن أهل السنَّة والجماعة في ذلك يتَّضح ما يلي:(1/24)
1 ـ أنَّ هذا الحاقدَ الجديد والخمينيَّ فضَّلاَ فاطمة وعليًّا والحسَن والحسين رضي الله عنهم وتسعةً
من أولاد الحسين، وهم الأئمَّة الاثنا عشر عندهم
على الأنبياء والمرسَلين سوى نبيِّنا محمد *، وفي مقدِّمتهم إبراهيم الخليل ثم موسى الكليم ونوح وعيسى وغيرهم، وهذا غلوٌّ في أئمَّتهم وجفاء في الأنبياء والمرسلين، أمَّا أهل السنَّة والجماعة فيؤمنون بأنَّ رسلَ الله وأنبياءَه جميعاً خيرُ البشر.
2 ـ أنَّ هذا الحاقدَ الجديد وأسلافَه يغلون في أئمَّتهم ويجفون في أكثر أهل البيت، وفي الصحابة جميعاً، إلاَّ نفراً يسيراً منهم، أمَّا أهل السنَّة والجماعة، فهم يتولَّون أهل بيت النَّبيِّ * والصحابة
جميعاً، ويُنزلون كلاًّ منزلته بالعدل والإنصاف، وفقاً للنصوص الشرعية، وعندهم أنَّ أهلَ البيت هم أزواج رسول الله * وذريَّته، وكلُّ مسلم ومسلمة من بني هاشم بن عبد مناف، وبنو هاشم منحصرون في نسل ابنه عبد المطلب كما في كتب الأنساب وغيرها، وانظر عَقِبَ عبد المطلب في جمهرة أنساب العرب لابن حزم (ص 14 ـ 15)، والتبيين في أنساب القرشيين لابن قدامة (ص 76)، ومنهاج السنة لابن تيمية (7/304 ـ 305)، وفتح الباري لابن حجر (7/78 ـ 79).(1/25)
فأهل السنَّة يتولَّون الصحابةَ جميعاً، ويتولَّون كلَّ مسلم ومسلمة من قرابة النَّبيِّ *، ويعرفون الفضلَ لِمَن جمع اللهُ له بين شرف الإيمان وشرف النَّسب، فمَن كان من أهل البيت من أصحاب رسول الله *، فإنَّهم يُحبُّونه لإيمانه وتقواه، ولصحبته إيَّاه، ولقرابته منه *، ومَن لم يكن منهم صحابيًّا، فإنَّهم يُحبُّونه لإيمانه وتقواه ولقربه من رسول الله *، ويَرون أنَّ شرفَ النَّسَب تابعٌ لشرف الإيمان، ومَن جمع الله له بينهما فقد جمع له بين الحُسنيين، ومَن لَم يُوفَّق للإيمان فإنَّ شرفَ النَّسَب لا يُفيده شيئاً، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: { } تمت ( { ( - ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - - جل جلاله -(( ( - - - ( المحتويات ( - - - { ( - - صلى الله عليه وسلم - - } ، وقال * في آخر حديث طويل رواه مسلم في صحيحه (2699) عن أبي هريرة : (( ومَن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه )).
وقد صدر لي في عام (1422هـ) كتاب بعنوان:
(( فضل أهل البيت وعلوِّ مكانتهم عند أهل السنَّة والجماعة ))، يشتمل على عشرة فصول، بيَّنتُ في الفصل الأول مَن هم أهل البيت، وأوضحتُ الأدلَّة على دخول زوجاته وعمَّيه حمزة والعباس وأولاد أعمامه في أهل بيته.(1/26)
ومن محاسن أهل السنَّة والجماعة محبَّتهم للصحابة والقرابة وتولِّيهم إيَّاهم والدعاء لهم، ومن محبَّتهم للصحابة والقرابة أنَّهم يُسمُّون بأسمائهم، وقد ذُكِر عن الحسن بن عرفة وابن دقيق العيد التسمية بأسماء العشرة المبشَّرين بالجنة، ذكر ذلك الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيب الكمال في ترجمة الحسن بن عرفة، وذكره محمد بن شاكر الكتبي في كتاب فوات الوفيات في ترجمة ابن دقيق العيد (3/443)، وللشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ستة من البنين وبنت واحدة، أسماؤهم: عبد الله، وإبراهيم، وعبد العزيز، وعلي، وحسن، وحسين، وفاطمة، وكلها من أسماء أهل بيته * إلاَّ عبد العزيز، فعبد الله وإبراهيم وفاطمة من أولاده * ، وعلي ابن عمِّه وصهره، والحسن والحسين سبطاه.
وقد رزقني الله بنين وبنات، سمَّيتُ منهم بأسماء الخلفاء الراشدين الأربعة، وعبد الرحمن، وهم من العشرة المبشَّرين بالجنة، وباسم فاطمة والحسن والحسين، وبأسماء سبع من أمهّات المؤمنين.
والحمد لله الذي وفَّق أهلَ السنَّة والجماعة لمحبَّة الصحابة والقرابة والثناء عليهم والدعاء لهم، وسلامة قلوبهم وألسنتهم من الغلِّ لهم وذِكرهم بما لا يليق بهم.
ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا، ربَّنا إنَّك رؤوف رحيم، ربَّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنَّك أنت الوهاب، والحمد لله ربِّ العالَمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
* * *(1/27)
الشيخ
صالح بن عبد الله الدرويش
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا... أما بعد:
فقد أوجب الله - سبحانه وتعالى - لأهل بيت نبيه ص حقوقًا، وخصهم بفضائل، وقد ظهر الفرق جليًا بين أهل السنة وبين مخالفيهم في تلقيهم لهذه الحقوق والفضائل، فأهل السنة أقروا بها وقاموا بها دون أي غلو أو تفريط، أما مخالفوهم فقد كانوا على طرفي نقيض في هذا، فمنهم من زاد على هذه الحقوق أشياء حتى بلغ بأصحابها منزلة رب العالمين، ومنهم من تركها واعترض عليها، حتى جعل أصحابها في منزلة الظالمين الكافرين.
فنسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يعيننا على بيان هذه الحقوق وأدائها على وجهها الذي أمر به وأمر به نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
التعريف اللغوي
- يقال: أهل الرجل زوجه، والتأهل التزويج، قاله الخليل(1).
وأهل البيت سكانه، وأهل الإسلام من يدين به(2).
- أما الآل: فجاء في معجم مقاييس اللغة قوله: «آل الرجل أهل بيته»(3).
- وقال ابن منظور: «وآل الرجل أهله، وآل الله وآل رسوله أولياؤه، أصلها (أهل) ثم أُبدلت الهاء همزة، فصار في التقدير (أأل)، فلما توالت الهمزتان أبدلوا الثانية ألفًا»(4).
وهو لا يضاف إلا فيما فيه شرف غالبًا، فلا يقال: آل الحائك خلافًا لأهل، فيقال: أهل الحائك.
__________
(1) انظر: كتاب العين (4/89).
(2) انظر: الصحاح (4/1628)، ولسان العرب (11/28).
(3) معجم مقاييس اللغة (1/161).
(4) لسان العرب (11/31)، ونحوه عن الأصفهاني في المفردات في غريب القرآن (ص:30).(2/1)
وبيت الرجل داره وقصره وشرفه(1)، وإذا قيل: البيت انصرف إلى بيت الله الكعبة؛ لأن قلوب المؤمنين تهفو إليه والنفوس تسكن فيه، وهو القبلة، وإذا قيل: أهل البيت، في الجاهلية، انصرف إلى سكانه من قريش خاصة، وبعد الإسلام إذا قيل: أهل البيت، فالمراد آل رسول الله ص(2).
* ... * ... *
التعريف الاصطلاحي
اختلف العلماء في تحديد آل النبي ص على أقوال أشهرها:
القول الأول: هم الذين حرِّمت عليهم الصدقة، وبه قال الجمهور.
القول الثاني: هم ذرية النبي ص وأزواجه خاصة، اختاره
ابن العربي(3) وانتصر له، ومن القائلين بهذا القول مَنْ أخرج زوجاته.
القول الثالث: آل النبي ص هم أتباعه إلى يوم القيامة، واختاره الإمام النووي من الشافعية(4) والمرداوي من الحنابلة(5).
القول الرابع: هم الأتقياء من أمته.
والراجح من هذه الأقوال هو القول الأول.
مسألة: من هم الذين حُرِّمت عليهم الصدقة؟
الجواب: هم بنو هاشم وبنو المطلب، وهذا هو الراجح؛
لقول النبي ص: (إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد) (6)، ومن العلماء من قَصَرَ التحريم على بني هاشم فقط دون بني المطلب.
* ... * ... *
مفهوم آل البيت عند الشيعة الإثني عشرية
__________
(1) انظر: النهاية لابن الأثير (1/170).
(2) انظر: المفردات في غريب القرآن (ص:29). وقد أطال شيخ الإسلام
ابن القيم / الكلام في هذا في مصنفه الخاص بهذا الشأن (جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام) فارجع إليه وإلى مقدمة المحقق، فقد ذكر الكتب التي صنفت في هذا الموضوع، وهذا يدلك على اهتمام علماء السنة بهذا.
(3) انظر: أحكام القرآن (3/623).
(4) انظر: شرح صحيح مسلم (4/368).
(5) انظر: الإنصاف (2/79).
(6) صحيح البخاري (ح:3311).(2/2)
جمهور الشيعة يرون أن المراد بأهل البيت هم أصحاب الكساء الخمسة، وأنهم هم الذين نزلت فيهم آية التطهير: * - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر ( { ( - - ( - ( - ( - - - - - ( - ( - ( - ( - ( المحتويات ( تمهيد - - رضي الله عنه -( { { ( - ( - - - - - - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - ( - - - ( - ( - - رضي الله عنه - - ( - - - (( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - - ( - (( - - (((( &[سورة الأحزاب] وهم: محمد ص وعلي وفاطمة والحسن والحسين ي، وقد زادت الجعفرية على أصحاب الكساء بقية الأئمة الاثني عشر، مع أنه لم يرد لهم في حديث الكساء أي ذكر.
وهم يرون عدم دخول أمهات المؤمنين في مسمى آل البيت(1)، واستدلوا على ذلك الحصر بآية التطهير السابقة، ونحن نقول: أين الحصر في الآية الذي بموجبه زعموا أن زوجات الرسول ص لا يدخلن فيه؟ فإن نص الآية وسباقها يدل ولأول وهلة أن المراد بأهل البيت أزواج النبي ص أمهات المؤمنين؛ لأن ما قبل آية التطهير وما بعدها خطاب لهن رضي الله عنهن، ولهذا قال بعد هذا كله:
* - - ( - ( - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - فهرس - ( - ( - - (( - صدق الله العظيم ( تمهيد ( - قرآن كريم ( - ( - & [الأحزاب:34].
وكذلك تزعم الشيعة أن خطاب التذكير في قوله تعالى: (عنكم) و(يطهركم) يمنع من دخول أمهات المؤمنين في جملة أهل البيت، وهذا مردود؛ وذلك لأنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث في جملة غلب المذكر، والآية عامة في جميع آل البيت كما سبق، فناسب أن يعبر عنهم بصيغة المذكر.
__________
(1) انظر: شرح الزيارة الجامعة لعبد الله شبر (ص:127-128)، الإمام جعفر الصادق (ع) لعبد الحليم الجندي (ص:73)، مودة أهل البيت ‡. مركز الرسالة (ص:23).(2/3)
وإذا كان الشيعة -هداهم الله- قد تشددوا في الاستدلال بدلالة الحصر وخطاب التذكير على عدم دخول أزواج النبي ص
في آل البيت، فإننا نلزمهم الآتي:
أولًا: تركهم ومخالفتهم لاستدلالهم السابق، وذلك لعدم تقيدهم بالحصر، فقد أدخلوا مع أصحاب الكساء غيرهم!! فأين الأدلة والنصوص التي تدل على إدخال غيرهم معهم؟
ثانيًا: حصر آل الرسول ص في علي والحسن والحسين ي، وفي تسعة من أبناء الحسين فقط. فهل هؤلاء هم آل بيت رسول الله ص؟
يا سبحان الله! أين أعمام رسول الله ص؟!
- أليس حمزة بن عبد المطلب ا أسد الله وأسد رسوله شهيد أحد وفارسَ بدر، وعندما استشهد حزن عليه النبي ص حزنًا شديدًا وقال: (سيد الشهداء عند الله يوم القيامة حمزة)(1)؟!
- أليس العباس بن عبد المطلب ا شهد فتح مكة وثبت يوم حنين، وقال فيه النبي ص: (إن العباس مني وأنا منه)(2) وقال: (يا أيها الناس! من آذى عمي فقد آذاني؛ فإنما عم الرجل صنو أبيه)(3).
أين أبناء أعمام النبي ص؟!
- أليس جعفر الطيار ا صاحب المآثر والمحامد، وهو الذي قال له النبي ص: (أشبهت خَلْقي وخُلُقي)(4) وقد كان أحد السابقين إلى الإسلام، وممن هاجر إلى الحبشة، ولم يزل هناك إلى أن هاجر النبي ص إلى المدينة، فقدم إلى المدينة يوم فتح خيبر، ففرح به النبي ص فرحًا شديدًا، وقام إليه وعانقه وقبَّله بين عينيه.
__________
(1) الحاكم في المستدرك (2/130).
(2) الترمذي (3759)، النسائي (8/33).
(3) الترمذي (3758)، أحمد (4/165).
(4) صحيح البخاري (ح:2552).(2/4)
ولما أرسله النبي ص إلى مؤتة نائبًا لزيد بن حارثة ا أبلى بلاءً حسنًا، وقاتل حتى قطعت يداه واستشهد، فعوَّضه الله عن يديه جناحين في الجنة، فكان يقال له بعد قتله: الطيار، ولما بلغ النبي ص نبأ استشهاده حزن عليه حزنًا شديدًا، وقال: (دخلت الجنة البارحة فنظرت فيها وإذا جعفر يطير مع الملائكة)(1) وقال: (مر بي جعفر الليلة في ملأ من الملائكة، وهو مخضب الجناحين بالدم أبيض الفؤاد)(2). فهذه بعض مناقبه التي تدل على عظيم مكانته وعلو شأنه فرضي الله عنه وأرضاه.
- أليس عبد الله بن عباس ب حبر الأمة وترجمان القرآن؛ وقد كان يلقب بالحبر والبحر لاتساع علمه وكثرة فهمه، وكمال عقله وسعة فضله؛ فقد لازم النبي ص، ودعا له ص بالفقه في الدين وعلم التأويل، وكان ممن شهد مع علي ا الجمل وصفين، وقد اعترف له بذلك الفضل كبار الصحابة ي والتابعون لهم بإحسان؟
- أين بقية ذرية الحسين ا؛ مثل حفيده شهيد الكوفة زيد بن علي بن الحسين، وسائر ذرية أولاده؟!
- أين ذرية الحسن ا؟
- أين حقوق هؤلاء؟ وهل هم من آل البيت أم ليسوا منهم؟!
وإن لم يكونوا منهم فمن الذي أخرجهم؟ وبأي دليل أخرجهم من آل البيت؟
وقد ذهب بعض الجعفرية إلى عدم حصر آل البيت بهؤلاء، وقال: هؤلاء هم الأئمة المعصومون، وآل البيت أشمل وأعم، وربطها بصفات(3). فجعلها عامة تشمل من اتصف بتلك الصفات أيًا كان نسبه ووطنه وقوميته.
ولكن هذا لا يكاد يوجد إلا في بطون بعض الكتب، أما الواقع فهو كما تشاهد.
إذًا: مما سبق يظهر جليًا الفرق الشاسع بين أهل السنة وبين مخالفيهم في بيان من هم أهل البيت.
فضائل آل البيت عند أهل السنة
أولًا: فضائلهم في القرآن:
__________
(1) الحاكم في المستدرك (3/217)، والطبراني في الكبير (2/107).
(2) الحاكم في المستدرك (3/234).
(3) انظر: أهل البيت في الكتاب والسنة، لمحمد الريشهري.(2/5)
مما لا شك فيه أن أهل البيت ورد في شأنهم، وعلو مكانتهم، ورفعة درجاتهم، وتطهيرهم وذهاب الرجس عنهم؛ نصوص واضحة البيان في مواضع متعددة من القرآن، منها:
1) قوله تعالى: * - رضي الله عنه - تمت ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - (( - صدق الله العظيم ( - ( - قرآن كريم ( - ( - - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - (( - { - - رضي الله عنهم - - - - - رضي الله عنهم - - - - - رضي الله عنهم - - - - ( { } - ( - ( - (- رضي الله عنهم - - ( - - - - - فهرس - - صلى الله عليه وسلم - الله } - - - صدق الله العظيم ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - فهرس - - قرآن كريم فهرس - - ( - - - - ((( - - - عليه السلام -(- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - فهرس - - قرآن كريم - - } - - - - - صدق الله العظيم ((((- صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - { - - - ((( - - - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر ( { ( - - ( - ( - ( - - - - - ( - ( - ( - ( - ( المحتويات ( تمهيد - - رضي الله عنه -( { { ( - ( - - - - - - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - ( - - - ( - ( - - رضي الله عنه - - ( - - - (( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - - ( - (( - - (((( & [سورة الأحزاب]، وهذه الآية هي منبع فضائل أهل البيت النبوي، حيث شرَّفهم الله تعالى بها وطهرهم، وأذهب عنهم الرجس من الأفعال الخبيثة والأخلاق الذميمة، وقد جاء في صحيح مسلم(1) عن عائشة ل قالت: (خرج النبي × غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود، فجاء الحسن
__________
(1) صحيح مسلم (ح:2424).(2/6)
بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: * - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر ( { ( - - ( - ( - ( - - - - - ( - ( - ( - ( - ( المحتويات ( تمهيد - - رضي الله عنه -( { { ( - ( - - - - - - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - ( تمهيد ( - - رضي الله عنه - - ( - - - ( - ( - - رضي الله عنه - - ( - - - (( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - - ( - (( - - (((( & ).
2) قوله تعالى: * ( صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - - ( - رضي الله عنهم - - { - - - - رضي الله عنه - فهرس ( مقدمة - (( - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ((- رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - - عليه السلام -( - - - رضي الله عنهم - صدق الله العظيم - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - ((( - - - ( - ( { - ( } - ( قرآن كريم - - - - رضي الله عنهم -( - - ((( - - رضي الله عنه - الله أكبر - - رضي الله عنه - الله أكبر - عليه السلام -( - - - - جل جلاله -( - - صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - - عليه السلام -( - - - - جل جلاله -( - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ...& [آل عمران:61] الآية.(2/7)
ففي هذه الآية فضيلة كبرى لأصحاب الكساء، فقد جاء في صحيح مسلم(1) من حديث سعد بن أبي وقاص ا قال: «لما نزلت هذه الآية: * ( - ( { - ( } - ( قرآن كريم - - - - رضي الله عنهم -( - - ((( - - رضي الله عنه - الله أكبر - - رضي الله عنه - الله أكبر - عليه السلام -( - - - - جل جلاله -( - - صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - - عليه السلام -( - - - - جل جلاله -( - - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - & [آل عمران:61] دعا رسول الله × عليًا وفاطمة وحسنًا وحسينًا، فقال: اللهم هؤلاء أهلي».
ثانيًا: فضائلهم في السنة:
1- ما ورد في صحيح مسلم(2) عن يزيد بن حيان قال: (انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا، رأيت رسول الله ×، وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيرًا كثيرًا، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله ×، قال: يا ابن أخي، والله لقد كبرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله ×، فما حدثتكم فاقبلوا، وما لا فلا تكلفونيه، ثم قال: قام رسول الله × يومًا فينا خطيبًا بماء يدعى خمًا، بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكَّر، ثم قال: أما بعد:
ألا أيها الناس! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب،
وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما: كتاب الله؛ فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به. فحث على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي...) الحديث.
__________
(1) صحيح مسلم (ح:2424).
(2) المصدر السابق (ح:2408).(2/8)
فهذا الحديث فيه دلالة واضحة على فضيلة أهل بيته ص، حيث جعلهم ص ثقلًا وقرن الوصية بهم بالوصية بالالتزام والتمسك بكتاب الله الذي فيه الهدى والنور، وهذا دليل واضح على عظيم حقهم، وارتفاع شأنهم، وعلو مكانتهم.
2- روى مسلم في صحيحه(1) عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله ص يقول: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم).
3- روى الإمام أحمد في مسنده(2) بإسناده عن رجل من أصحاب النبي ص أنه كان يقول: (اللهم صلِّ على محمد، وعلى أهل بيته، وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد، وعلى أهل بيته، وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد).
قال ابن القيم /: «فجمع بين الأزواج والذرية والأهل، وإنما نص عليهم بتعيينهم ليبين أنهم حقيقون بالدخول في الآل، وأنهم ليسوا بخارجين منه، بل هم أحق من دخل فيه، وهذا كنظائره من عطف الخاص على العام وعكسه؛ تنبيهًا على شرفه، وتخصيصًا له بالذكر من بين النوع؛ لأنه أحق أفراد النوع بالدخول فيه»(3).
هذه بعض الآيات والآثار في فضائل آل البيت †، وسوف يأتي مزيد من ذلك في مبحث حقوق آل البيت †.
وبعد هذا أقول: أيها القارئ الكريم -من غير إلزام- انظر في فهارس صحيح البخاري ومسلم وغيرها من مصادر أهل السنة لكي تدرك الأحاديث التي رواها أهل السنة في كتبهم في مناقب وفضائل أهل البيت، والتي منها ما روي عامًا ومنها ما ورد بذكر الأعيان.
* ... * ... *
عقيدة أهل السنة والجماعة في آل البيت
عليهم السلام
يتهم الشيعة أهل السنة بأنهم يبغضون أهل البيت؛ لذا يسمونهم بالنواصب أو الخوارج، ولكن الحق أن مذهب أهل السنة مذهب مستقل، ومذهب النواصب والخوارج مذهب آخر..
__________
(1) صحيح مسلم (ح:2276).
(2) مسند أحمد (5/374).
(3) جلاء الأفهام (ص:338).(2/9)
فأهل السنة وسط في حب آل البيت بين المذاهب:
- فالشيعة يغالون في حب آل البيت، ومنهم من يطوف على قبورهم، ويدعوهم بكشف الضر وجلب النفع، ومنهم من يزعم أنهم يعلمون الغيب... إلخ.
- وأما النواصب! فيبغضون آل البيت ويحاربونهم، والخوارج منهم قتلوا عليًا ا وشنعوا عليه..
- وأما أهل السنة فيحبون آل البيت ويذكرون فضائلهم، ويعتبرون حبهم إيمانًا، وبغضهم نفاقًا، لكنهم لا يغلون فيهم، فلا يطوفون حول قبورهم؛ لأن الله أمر بالطواف حول الكعبة فقط، ولأن الطواف عبادة والعبادة لا تكون إلا لله... وكذلك لا يدَّعون فيهم أنهم يعلمون الغيب؛ لأن الله يقول: * - ( - - صدق الله العظيم ( بسم الله الرحمن الرحيم فهرس - ((- رضي الله عنه - - صدق الله العظيم - رضي الله عنه - تم بحمد الله - (( ( المحتويات (- عليه السلام - قرآن كريم (- رضي الله عنهم - - - - - - - ((( - - } - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - ( - - رضي الله عنه -(( - - - - صدق الله العظيم ( { ( - - - & [النمل:65].(2/10)
كذلك من البدهيات المعروفة لدى عامة المسلمين فضلًا عن علمائهم، أن الإنسان لا يجوز له أن يقتل نفسه، فإذا كان الإمام يعلم الغيب وأن ما يشربه هو سم، فهل يصح هذا مع القاعدة السابقة... قال تعالى: * - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ( - ( - ( { - - ( المحتويات ( - - - (( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - } تمت ( { { - - - - رضي الله عنه - تمت - - - ( المحتويات ( - ( - - - - - ( مقدمة - عليه السلام - - (((( & [النساء:29] وقال رسول الله ×: «ومن تحسى سمًا فقتل نفسه، فسمه في يديه يتحساه في نار جهنم، خالدًا مخلدًا فيها أبدًا»، وهل يصح الخروج بالأولاد الصغار إلى مصارعهم وقد قال تعالى: * - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } - ( قرآن كريم ( - ( - ( { - - ( المحتويات ( - - رضي الله عنهم - - ( - - (- صلى الله عليه وسلم -- صلى الله عليه وسلم - - & [الإسراء:31]، بل هذا رسول الله × -وهو أفضل خلق الله وأكرمهم عليه- يقول كما أمره ربه: * ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( تمهيد - ( - ( المحتويات فهرس - ((- صلى الله عليه وسلم - - - - ( - - رضي الله عنه -(( - - - ( المحتويات ( - - - جل جلاله -( تمهيد - رضي الله عنه - - ( - { صدق الله العظيم - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - (( - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ((( قرآن كريم - - - - - & [الأعراف:188].
وبهذا لا يمكن القول بأن الائمة يعلمون الغيب؛ لأنه يترتب على ذلك إشكالات كثيرة.(2/11)
وهذه العقيدة -عقيدة أهل السنة في آل البيت رضوان الله عليهم- موجودة في كتبهم: كتب الحديث، وكتب العقائد، وكتب الفقه، حيث يذكرها كل صاحب مصنف في الموضع الذي يناسبه، ففي كتب الحديث تجد أبوابًا في فضائلهم، وفي كتب العقائد تجد أبوابًا في بيان المعتقد فيهم، وفي كتب الفقه تجد أبوابًا فيما يتعلق بهم من أحكام، كتحريم الصدقة عليهم.. وغير ذلك.
وخلاصة الكلام في عقيدة أهل السنة هو ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية(1)، ورسالته هذه مع أنها مختصرة جدًا، إلا أنه قال فيها: «ويحبون أهل بيت رسول الله ×، ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله ×، حيث قال يوم غدير خم: (أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)(2) وقوله × أيضًا للعباس عمه، وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم، فقال: (والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي)(3)، وقال: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)(4)»(5).
أي: من أصول أهل السنة والجماعة محبة آل البيت، وسبب هذه المحبة أمران: إيمانهم وقرابتهم، فإذا اجتمع هذان الأمران لا يكرهونهم أبدًا.
__________
(1) وهي العقيدة التي قررها أهل السنة في كتبهم، وانظر على سبيل المثال لا الحصر: الإنصاف للباقلاني (ص:112)، الفرق بين الفرق (ص:360)، التبصير في الدين (ص:196)، شرح العقيدة الطحاوية (ص:737)، منهاج السنة النبوية (2/71)، جواب أهل السنة النبوية (ص:151).
(2) مسلم، كتاب فضائل الصحابة (2/918)، باب فضل علي × (2408).
(3) رواه أحمد في فضائل الصحابة، وأطال محقق الكتاب الكلام فيه، لكن معناه صحيح لدلالة الآية عليه.
(4) رواه مسلم، كتاب الفضائل، فضل نسب النبي × (ح:2276).
(5) مجموع الفتاوى (3/154).(2/12)
فإن كفروا فإننا لا نحبهم ولو كانوا من أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام، فأبو لهب عم النبي ص لا يجوز أن نحبه بأي حال من الأحوال، بل يجب أن نكرهه لكفره ولإيذائه النبي ص(1).
وقد قال الإمام الطحاوي / في العقيدة الطحاوية(2): «ونثبت الخلافة بعد رسول الله ص أولًا لأبي بكر الصديق ا، تفضيلًا له وتقديمًا على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب ا، ثم لعثمان ا، ثم لعلي ا».
قال ابن أبي العز / في شرح هذه الجملة: «أي: ونثبت الخلافة بعد عثمان لعلي ب، لما قتل عثمان، وبايع الناس عليًا صار إمامًا حقًا واجب الطاعة، وهو الخليفة في زمانه خلافة النبوة، كما دل عليه حديث سفينة، أنه قال: قال رسول الله ص: (خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء) (3) وكانت خلافة أبي بكر الصديق سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر عشر سنين ونصفًا، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر، وخلافة الحسن ابنه ستة أشهر.
وأول ملوك المسلمين معاوية ا، وهو خير ملوك المسلمين، لكنه إنما صار إمامًا حقًا لما فوض إليه الحسن بن علي ب الخلافة...» (4).
فتأمل كيف أن أهل السنة يثبتون الخلافة من أبي بكر إلى تنازل الحسن وصلحه مع معاوية، وأن الملك يبدأ من تولي معاوية الحكم سنة أربعين من الهجرة، وهذا بناءً على الحديث السابق.
__________
(1) انظر: شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (2/274-275).
(2) وعقيدة الإمام الطحاوي هذه من أهم أصول عقائد أهل السنة التي يدرسونها في جامعاتهم ومعهدهم الشرعية.
(3) أبو داود (4646)، أحمد (5/220، 221)، ابن حبان (6657).
(4) شرح العقيدة الطحاوية (ص:722).(2/13)
ثم قال ابن أبي العز / بعد أن ساق خلاف علي مع معاوية ب: «والحق مع علي ا؛ فإن عثمان ا لما قتل كثر الكذب والافتراء على عثمان، وعلى من كان بالمدينة من أكابر الصحابة، كعلي وطلحة والزبير، وعظمت الشبهة عند من لم يعرف الحال، وقويت الشهوة في نفوس ذوي الأهواء والأغراض ممن بعدت داره من أهل الشام، ومحبي عثمان تظن بالأكابر ظنون سوء، وبُلّغَ عنهم أخبار، منها ما هو كذب، ومنها ما هو محرف، ومنها ما لم يعرف وجهه...»(1).
فتأمل! كيف أن أهل السنة يرون أن الحق مع علي ا؛ لأنهم لا يجاملون أحدًا لكن يقولون الحق.
وأيضًا هم يعتذرون لجميع الصحابة، سواءً كان عليًا أو معاوية
أو غيرهما رضي الله عنهم أجمعين.
ثم إنهم يقولون: إن ما ينسب لعلي ا أو غيره من الصحابة لا يخلو من أحد أربعة أمور:
الأول: إما أنه كذب عليهم ي.
الثاني: وإما أنه محرف عن حقيقته، فزيد فيه أو نقص، وغُيِّر عن وجهه.
الثالث: وإما أن له سببًا لم يعرف.
الرابع: وإما أنهم مخطئون فيه باجتهاد، والله هو الذي سيحاسبهم وليس نحن.
ثم قال / عما جرى من الفتن في عهد علي ا: «والفتن التي كانت في أيامه قد صان الله عنها أيدينا فنسأل الله أن يصون عنها ألسنتنا بمنه وكرمه»(2).
* ... * ... *
وقفة
من المغالطات الكبرى التي صدّقها كثير من الشيعة وانتشرت واستقرت كحقيقة مسلمة في أذهانهم بلا برهان ولا دليل بينهم وصف أهل السنة بأنهم نواصب.
وأقول بكل ثقة ويقين: لا يمكن ذكر أي نقل عن أهل السنة فيه ذم أو تعرض لآل البيت كعلي وفاطمة وابنيها والعباس وجعفر الطيار وصالحي آل البيت †.
بل إن إثبات أن أهل السنة تحدثوا عن هؤلاء بكلام لا يليق من المستحيلات.
ومن له معرفة بكتب أهل السنة يجد نقدهم للنواصب صريحًا واضحًا وكذلك تبديعهم للخوارج بل جعلهم من رؤوس الضلال.
__________
(1) المصدر السابق (ص:723). وانظر: مجموع الفتاوى (3/406).
(2) شرح العقيدة الطحاوية (ص724-725).(2/14)
واقرأ معي كلام شيخ الإسلام الذي رمي بالنصب، حيث يقول /: «وأما من قتل الحسين أو أعان على قتله أو رضي بذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (1).
وانظر إلى كلامه في نفس المرجع حول هذه القضية.
* ... * ... *
حقوق آل البيت عليهم السلام
لآل البيت † عند أهل السنة والجماعة حقوق وواجبات:
- منها: حق الموالاة والمحبة، فتجب محبتهم لإيمانهم، وتجب محبتهم لقرابتهم من رسول الله ×؛ حيث قال النبي ص: (أذكركم الله في أهل بيتي)(2)؛ ولحديث: (والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي)(3)، ولقوله تعالى: * - ( - - صدق الله العظيم ( - ( - ( - - رضي الله عنه -(( - - صلى الله عليه وسلم - - ( مقدمة ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - صدق الله العظيم ( { فهرس - } - - عليه السلام - قرآن كريم - رضي الله عنهم - - ( - - - - (( - - فهرس - ( - ( { ( - - - & [الشورى:23].
وهذه الآية لها معنيان: أحدهما السابق، والآخر: أن تحبوني لقرابتي فيكم؛ فإنه لا يخلو بطن في قريش إلا وله صلة قرابة به ص.
- ومنها: حق الدفاع والذب عنهم، وتبرئة ساحتهم مما ينسب إليهم كذبًا وزورًا، والدفاع عنهم لا يعني مجرد الرد على من يسبهم، بل يشمل ذلك، ويشمل الرد على من غلا فيهم، وأنزلهم فوق منزلتهم؛ فإن ذلك يؤذيهم، وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية / كتابه الكبير منهاج السنة في الرد على من غلا فيهم.
__________
(1) مجموع الفتاوى (4/487).
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم تخريجه.(2/15)
ومما يؤكد أن الغلو فيهم يؤذيهم: ما جاء في رجال الكشي(1) عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين إ حيث قال: «إن اليهود أحبوا عزيرًا حتى قالوا فيه ما قالوا، فلا عزير منهم ولا هم من عزير، وإن النصارى أحبوا عيسى حتى قالوا فيه ما قالوا، فلا عيسى منهم ولا هم من عيسى، وإنا على سنة من ذلك، إن قومًا من شيعتنا سيحبونا حتى يقولوا فينا ما قالت اليهود في عزير، وما قالت النصارى في عيسى ابن مريم، فلا هم منا ولا نحن منهم» (2).
- وقد أنكر جمع من علماء الشيعة على الغلاة منهم، وذكروا أشياء كثيرة من الغلو، لكن مع مضي القرون أصبح هذا الغلو من ضروريات مذهب الشيعة وعقائدهم، حتى قال أحد كبار علمائهم- عبدالله المامقاني أكبر شيوخهم في علم الرجال في هذا العصر-: «إن القدماء -يعني من الشيعة- كانوا يعدون ما نعده اليوم من ضروريات مذهب الشيعة غلوًا وارتفاعًا، وكانوا يرمون بذلك أوثق الرجال كما لا يخفى على من أحاط خبرًا بكلماتهم»(3).
__________
(1) أهم وأقدم كتب الرجال عند الشيعة، ألفه أبو عمرو محمد بن عمر الكشي من شيوخهم في القرن الرابع الهجري، وقد هذبه شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي في كتابه (اختيار الرجال) وهو المتداول المشهور.
(2) رجال الكشي (ص:111).
(3) تنقيح المقال (3/23)(2/16)
- ومنها: مشروعية الصلاة عليهم، وذلك في عقب الأذان،
وفي التشهد آخر الصلاة، وعند الصلاة على النبي ص... فقد جاء في هذا عدة نصوص؛ كقوله تعالى: * } تمت ( { { - - - (( مقدمة - رضي الله عنه - - - تمهيد (((( فهرس - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - تمت قرآن كريم - - - (( - - فهرس - - رضي الله عنه -( ( - (( - } - - - - - - { - - - - صلى الله عليه وسلم - - ((- رضي الله عنه - - - ((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( } - قرآن كريم - - - ( ( مقدمة ( - فهرس - - رضي الله عنه -( } - قرآن كريم ( - ( - - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( - - ( - ( - فهرس - (((( &[سورة الأحزاب] وكما جاء في الحديث لما سئل النبي × عن كيفية الصلاة عليه في الصلاة؟ قال: (قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، والسلام كما قد علمتم)(1) فالصلاة على آله من تمام الصلاة عليه وتوابعها؛ لأن ذلك مما تقرُّ به عينه، ويزيده الله به شرفًا وعلوًا.
وقد ألف ابن القيم / كتابًا مستقلًا في فضل الصلاة على النبي ص سماه: «جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام»، وقد بين فيه أن الصلاة على آل البيت حق لهم دون سائر الأمة، بغير خلاف بين الأئمة(2).
لكن قد يورد البعض مسألتين:
الأولى: أن أهل السنة كثيرًا ما يصلون على النبي ص بدون ذكر (الآل) فيقولون: صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) مسلم: كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي × بعد التشهد (1/305) رقم (405).
(2) جلاء الأفهام (1/224).(2/17)
والثانية: أن أهل السنة إذا صلوا على النبي ص في بداية الكلام يضيفون مع الآل الأصحاب، فيقولون: صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
والجواب على المسألة الأولى أن يقال:
الأمر في ذلك واسع؛ فقد أمر الله في القرآن بالصلاة على النبي ص ولم يذكر الآل؛ كما قال سبحانه: * - { - - - - صلى الله عليه وسلم - - ((- رضي الله عنه - - - ((( - { - - - } - قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - - عليه السلام -( } - قرآن كريم - - - ( ( مقدمة ( - فهرس - - رضي الله عنه -( } - قرآن كريم ( - ( - - - رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( - - ( - ( - فهرس - (((( & [سورة الأحزاب] فإن ذُكر الآل فأمر حسن، وإن لم يُذكروا فالأمر فيه سعة.
وأما الجواب على المسألة الثانية: فإن الله أمر نبيه بالصلاة على أصحابه في قوله: * (- صلى الله عليه وسلم - - - (- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( } } تمت ( { - رضي الله عنهم - - - - - قرآن كريم فهرس - - ( ( صدق الله العظيم - - - رضي الله عنهم - - ( المحتويات ( - ( - & [التوبة:103]، ونحن مأمورون بالاقتداء به ص، فذكرهم في الصلاة مع النبي ص فيه سعة، وهو من الاقتداء بالنبي ص.(2/18)
- ومن حقوق آل البيت † عند أهل السنة، حقهم من الخُمس(1)، كما قال تعالى: * } - ( قرآن كريم ( - فهرس - (( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - المحتويات ( - ( - (- جل جلاله - - ( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - ((( - ( } تمت - صلى الله عليه وسلم - - - ( ( - (( مقدمة - - ( - ( - ( - قرآن كريم ( - { - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - ( - ( { ( - - - - - - رضي الله عنهم - - (- رضي الله عنه - - - عليه السلام - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (((( - ( - - - رضي الله عنهم - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ((( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - ( تمهيد - - - - - & [الأنفال:41] وقوله تعالى: * - - } تم بحمد الله - عليه السلام -( - - - (- صلى الله عليه وسلم - - ( - - - - - فهرس - - رضي الله عنه -( (( - ( - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - - - رضي الله عنه - - ( { ( - - - ( الله أكبر - ( ( - قرآن كريم ( - { - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - ( - ( { ( - - - - - - رضي الله عنهم - - (- رضي الله عنه - - - عليه السلام - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (((( - ( - - - رضي الله عنهم - - ( - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) أي خمس الغنيمة والفيء، وهي ما غنمه المسلمون من الكفار من أموال، سواء بحرب أو بدونها، ولا يدخل فيه ما اكتسبه المسلمون من غير هذا الطريق.(2/19)
(((( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - ( تمهيد - - - - - & [الحشر:7] وثبت في السنة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (سمعت عليًا يقول: ولاني رسول الله × خُمس الخُمس، فوضعته مواضعه حياة رسول الله ×، وحياة أبي بكر، وحياة عمر، فأتي بمال فدعاني، فقال: خذه، فقلت: لا أريده، قال: خذه؛ فأنتم أحق به، قلت: قد استغنينا عنه. فجعله في بيت المال) رواه أبو داود(1).
لكنّ أهل السنة -بخلاف الشيعة- يقولون: إنهم يعطون من خمس الغنائم، وليس من خمس الأموال، فليس في الإرث خمس، وكذا في المسكن والسيارة وغيرها؛ لأن الله يقول: * } - ( قرآن كريم ( - فهرس - (( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - المحتويات ( - ( - (- جل جلاله - - ( صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله - ((( - ( } تمت - صلى الله عليه وسلم - - - ( ( - (( مقدمة - - ( - ( - & [الأنفال:41] فقال: * - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - المحتويات ( - ( - (- جل جلاله - - ( & ولم يقل: من أموالكم.
ففي الخمس سهم خاص بذي القربى، وهو ثابت لهم بعد وفاة رسول الله ص، وهو قول جمهور العلماء، وهو الصحيح(2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فآل بيت النبي × لهم من الحقوق ما يجب رعايتها؛ فإن الله جعل لهم حقًا في الخمس والفيء، وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله ×»(3).
__________
(1) أبو داود (2983)، والحاكم (2/140).
(2) انظر: المغني (9/288)، كما توجد رسالة صغيرة لشيخ الإسلام ابن تيمية في حقوق آل البيت اعتنى بها أبو تراب الظاهري.
(3) مجموع الفتاوى (3/407).(2/20)
- ومنها: اليقين الجازم بأن نسب رسول الله × وذريته هو أشرف أنساب العرب قاطبة؛ فإن النبي × يقول: «إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم».
- ومن هذه الحقوق: تحريم الزكاة و الصدقة عليهم؛ وذلك لكرامتهم وتنزيههم عن الأوساخ؛ فقد قال رسول الله ×: «إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية /: «وأما تحريم الصدقة فحرمها عليه وعلى أهل بيته تكميلًا لتطهيرهم، ودفعًا للتهمة عنه؛ كما لم يورث، فلا يأخذ ورثته درهمًا ولا دينارًا»(1).
والحقوق كثيرة، وقد أشرنا إلى أهم تلك الحقوق؛ فالواجب على كل مسلم مراعاتها ومعرفتها، واتباع ما أمر به النبي × تجاهها، فضلًا عن محبتهم وتوقيرهم.
أما شروط من يستحق هذه الحقوق من آل البيت، فهو من توفر فيه شرطان، وهما:
أولًا: الإسلام؛ فلا يستحق الكافر تلك الحقوق ولو ثبت نسبه، بل لابد من حسن العمل، ولذلك كان رسولنا ص يحذر من الاعتماد على النسب، قال عليه الصلاة والسلام: (يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن
عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية! عمة رسول الله ×، لا أغني عنكِ من الله شيئًا، يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئتِ، لا أغني عنك من الله شيئًا)(2)، ومعلوم ما نزل في أبي لهب من الدعاء عليه بالحسرة والندامة بسبب كفره وطغيانه.
__________
(1) مجموع الفتاوى (19/30).
(2) صحيح البخاري (ح:2602)، صحيح مسلم (ح:206).(2/21)
ثانيًا: ثبوت النسب؛ فلا يجوز الانتساب إلى آل البيت إلا بحق، وقد جاء الوعيد الشديد فيمن انتسب إلى غير أبيه، أو ادعى قومًا ليس له فيهم نسب، فقد جاء في الصحيح(1) عن أبي ذر ا قال: سمعت النبي × يقول: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر بالله، ومن ادعى قومًا ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار).
فالواجب على من ينتسب إلى أهل البيت المطهر واللائق به، أن يكون من أولى الناس حظًا بتقوى الله وخشيته، واتباع طريقة وسنة رسول الله ص قولًا وعملًا، باطنًا وظاهرًا، ناظرًا إلى أن التفضيل الحقيقي، إنما هو بتقوى الله - سبحانه وتعالى -، واتباع نبيه ص.
إذًا: من الحقوق التي اعتقدها أهل السنة والجماعة لآل البيت عليهم السلام:
- حق الموالاة والمحبة.
- حق الدفاع والذب عنهم، وتبرئة ساحتهم مما ينسب إليهم كذبًا وزورًا.
- مشروعية الصلاة عليهم.
- حقهم من الخمس.
- اليقين الجازم بأن نسب رسول الله × وذريته هو أشرف الأنساب.
- تحريم الزكاة والصدقة عليهم.
* ... * ... *
بشرية آل البيت عليهم السلام
__________
(1) صحيح البخاري (ح:3317)، صحيح مسلم (ح:61).(2/22)
أيها القارئ الكريم! لا يخفى عليك غلو اليهود في عزير، كما قال سبحانه: * ( تمهيد - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - ( - - - ( - ( - - رضي الله عنه - - (( (((( - - ( - - - & [التوبة:30] فقد رفعوه فوق منزلته، وأعطوه من خصائص الألوهية -كما هو مشهور في كتبهم- من علم الغيب، وتدبير الكون، والإيجاد، وهؤلاء لا شبهة لهم يحتجون بها، والذين لهم شبهات لا حجة لهم بها هم النصارى؛ فإن الحمْل بعيسى وميلاده آية بذاتها، وهو روح من روح الله، قال سبحانه: * - - - - جل جلاله -( - - رضي الله عنهم - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - - ( { - - - جل جلاله -- رضي الله عنهم - مقدمة - صلى الله عليه وسلم -( - - - } - - رضي الله عنهم - - - رضي الله عنه - - - ( - - رضي الله عنهم - - - - - - - - ( - - - صدق الله العظيم - ( قرآن كريم - رضي الله عنهم - - (((( ( تمهيد - - - - - ( - ( - الله أكبر ( { ( - قرآن كريم ((- صلى الله عليه وسلم - - ( صدق الله العظيم (- عليه السلام - - ( قرآن كريم { - - - - ( - - رضي الله عنهم - - - ( تم بحمد الله تمت ( { - تمهيد - ( - - - - ( { - - (((( - رضي الله عنه - - - - - - - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر ( { بسم الله الرحمن الرحيم - - رضي الله عنه - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - ( - ( فهرس - - عليه السلام - - - - - رضي الله عنهم - - - } ( - - - - - - ( فهرس - (( - - - ( - - رضي الله عنهم - - (((( ( تمهيد - - - - - - - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( تمت قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - - - ( - ( المحتويات ( فهرس - (( ( المحتويات - - -(2/23)
عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - (( - ( - - - ( - - رضي الله عنه - - ( - - ( - - ( المحتويات - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - صلى الله عليه وسلم - - - - - ((- رضي الله عنه - - (((( - رضي الله عنه - - - - - ( - ( - ( - - - - - رضي الله عنه - - - - - ( - - - - عليه السلام - - - عليه السلام - قرآن كريم ( - { - فهرس - - رضي الله عنه -( ((( } (- رضي الله عنهم - - } ((( - - - - رضي الله عنهم -(( - - عليه السلام - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - { - رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( ( } - } - - ( - - - { - عليه السلام - - ( قرآن كريم - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - } - جل جلاله -( } تم بحمد الله - - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - - ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - - - ((( { } تم بحمد الله (((( & [سورة مريم].(2/24)
فهذه الشبهة يحتج بها النصارى في جعلهم المسيح ابن مريم
ابن الله، وإعطائه بعض خصائص المولى - سبحانه وتعالى -، وزاد الطين بلة عندهم تلك المعجزات والآيات التي أعطاها الله لعيسى ؛، والتي ذكرها سبحانه في محكم التنزيل؛ كما قال سبحانه: * ( صدق الله العظيم قرآن كريم ( - - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - ( { ((( - - رضي الله عنه - - - - - (((- عليه السلام - - ( - ( { - ( - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( - - - المحتويات ( - ( - ( } ( - - { - رضي الله عنه - - - - رضي الله عنه -(( - صدق الله العظيم ( } تم بحمد الله ( المحتويات ( تمهيد ( فهرس - { - } ( - ( - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( - ( - ( - - صلى الله عليه وسلم - - المحتويات ( تمهيد - - - (( } تم بحمد الله ((((- صلى الله عليه وسلم -( - - - ( { - رضي الله عنه -(( - - رضي الله عنهم - - - - ( - ( - { ( - - - ...& [آل عمران:49].(2/25)
فغلوا في عيسى وجعلوه ابن الله، لا سيما وأن الله - سبحانه وتعالى - رفعه إليه، كما قال سبحانه: * ( المحتويات ( - ( - ( قرآن كريم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( الله أكبر ( { - - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنه - - - - - رضي الله عنهم - - - ( - { الله أكبر ( الله - - ( - } - (( - رضي الله عنه -((( - - - المحتويات - رضي الله عنه - - ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - رضي الله عنه - - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - ( - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( فهرس قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( فهرس قرآن كريم ( - فهرس - - ( صدق الله العظيم ( - ( - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - مقدمة ( مقدمة - ( { ( المحتويات ( - مقدمة - - } تمت ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه -((( - { - - - } - قرآن كريم (( فهرس - - رضي الله عنه - - ( - - - ( مقدمة - (( - ( - - - - - صلى الله عليه وسلم - - - { ( مقدمة ( - ( } تم بحمد الله - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله تمهيد ( - مقدمة - (( مقدمة ( - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - بسم الله الرحمن الرحيم ( - (( - صدق الله العظيم ( { - رضي الله عنه -( - - رضي الله عنه - - ( - - - - ( - صدق الله العظيم { ( - - - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( فهرس قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - - - - - - - - ( { - رضي الله عنه - - ((((( - - رضي الله عنه - - ( مقدمة - رضي الله عنهم -( - ( { - ( - - - ( مقدمة ( - - - ( { & [سورة النساء].(2/26)
وقد أخبر النبي ص بأنه سيكون في هذه الأمة من يتشبه باليهود والنصارى، وقد حصل هذا في غلو بعض الناس في بعض آل بيت رسول الله ص.
- وبعضهم خص الغلو بذات رسول الله ص.
وحجتهم أن الرسول ص أفضل من عيسى-وهذا حق- ثم إنهم قالوا: إذا كان كذلك، فإن ما لعيسى ؛ يكون لرسول الله ص مثله أو أكثر منه.
وقد نسي هؤلاء ما ذكره الله سبحانه عن عبودية عيسى وعبودية محمد عليهما صلوات الله وسلامه.
قال سبحانه في حق نبينا ص: * ( - ( - - - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر ( { بسم الله الرحمن الرحيم - - رضي الله عنه - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( - - ( - - ( - ( - ( - ( الله ( } تم بحمد الله - (- رضي الله عنهم -- صلى الله عليه وسلم - قرآن كريم ( - { - فهرس - ( { - - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات ( - ( - ( - - ( { ( مقدمة ( - - ( { ( - ( فهرس (- عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - } صدق الله العظيم - رضي الله عنهم - - - ( - رضي الله عنه - تمت - - - } - قرآن كريم ( - ( - - رضي الله عنه - - - عليه السلام -( - - - { ( - (( مقدمة ( فهرس - - عليه السلام - - ( - - رضي الله عنهم - - ((- عليه السلام - - ( - - ( الله - - عليه السلام - - - رضي الله عنه -( - } - ( - ( - ( - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - ( - ((( - ( - - رضي الله عنهم - - - - رضي الله عنه - - ((( - ((( مقدمة ( فهرس - - عليه السلام - - - - - - رضي الله عنه - فهرس - صلى الله عليه وسلم - - ((((( & [سورة الكهف]، وقال عز من قائل: * ( - ( - { - رضي الله عنه -( - - - ( - ( - ( - { - - - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - - الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - - فهرس - - رضي الله عنه -( ( فهرس ( - ( - - رضي الله(2/27)
عنه -( - - (- رضي الله عنه - - ( - ( - - - & [الكهف:1]، * - - - عليه السلام - - - - رضي الله عنه - تمهيد - - - ( - { - - - - رضي الله عنه - - } - - رضي الله عنه - الله أكبر - رضي الله عنه - تمت - - - ( - ((( - - - - - فهرس - - رضي الله عنه -( (( فهرس ( - ( تمهيد - رضي الله عنه -( & [الفرقان:1]، وهذا في مقام الوحي والاصطفاء الذي هو من أرفع مقامات رسول الله ص.
ونحوه في مقام الإسراء، كما قال سبحانه: * - صدق الله العظيم (- رضي الله عنهم - - ( تمهيد ( - ( - ( - { - - - - - - عليه السلام - - ( - - صلى الله عليه وسلم - - (( فهرس ( - ( - - رضي الله عنهم -(( - الله - ( - - - - (( } تم بحمد الله ( - ( - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - - ( الله - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنهم - - ( - - - - فهرس - ( { ( - ( - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - - - - (( - - } - - - ( - { - - - - - - جل جلاله -( - - رضي الله عنه - - (- رضي الله عنه - - (( مقدمة - - ( قرآن كريم - رضي الله عنهم - مقدمة (( مقدمة - رضي الله عنه - - ( - ( - ( - ( صدق الله العظيم ( تم بحمد الله - - - - جل جلاله -( - (- رضي الله عنه - - - - عليه السلام -( - (( مقدمة ( الله أكبر ( { - عليه السلام - قرآن كريم ( - (( - ( - - - - - - ( - - ((- رضي الله عنه - - ( - - - ((( &[سورة الإسراء]
وكذلك في مقام التذلل والخضوع والطاعة لله - سبحانه وتعالى -، كما قال جل ذكره: * (( مقدمة ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( الله أكبر مقدمة الله - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم - - - ( - ( - - رضي الله عنه -( ( - - - ( فهرس قرآن كريم ((( - - رضي الله عنه - - & [الجن:19].(2/28)
وقد بيَّن الله Q ما وقع من الحوار مع عيسى ؛، وهو في غاية الوضوح والبيان، فقال تعالى: * ( - ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - رضي الله عنه - - - - - ( - - - ( - } - (((- رضي الله عنه - - - رضي الله عنه -((( - - - المحتويات - رضي الله عنه - - ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - تمهيد الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -( - تمهيد ( - ( - ( } - } - - ( - - ( الله أكبر - صلى الله عليه وسلم -( - ( - ( تم بحمد الله - - - عليه السلام - - ( - - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ((((- رضي الله عنهم - - ( - - ( { صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( تمت - صلى الله عليه وسلم -( - ( - - - } - رضي الله عنه - - - - - - رضي الله عنهم - - - - جل جلاله -(- رضي الله عنهم - - ( تمهيد ( - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( تمت قرآن كريم ( - - رضي الله عنه - - ( - ( - ( تمت - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - - قرآن كريم ( - - صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله { { ( - - - - ( - - - - - رضي الله عنهم - - ( - - تمت ( { ( تمهيد - ( - (( مقدمة ( - ( - ( - ( - - { - ( (( مقدمة - رضي الله عنه - - ( - ( - - رضي الله عنه -( - ( المحتويات فهرس - (( - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - (( (( } ((- رضي الله عنه - الله أكبر - سبحانه وتعالى - صدق الله العظيم - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( بسم الله الرحمن الرحيم فهرس - ((- صلى الله عليه وسلم - - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - (( - رضي الله عنهم - - ( - ((- رضي الله عنه - الله أكبر - - رضي الله عنهم - - } الله أكبر ( { - تمهيد الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( المحتويات (( - - رضي الله(2/29)
عنه -( ( - قرآن كريم ( - ((( - - - ((((( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله ( تمهيد ( - ( - ( المحتويات ( - مقدمة - - صدق الله العظيم ( { - - - رضي الله عنه - تم بحمد الله (( - - - ( - - - - صلى الله عليه وسلم - - ((( مقدمة ( - ( تمت - صلى الله عليه وسلم - - } - - صلى الله عليه وسلم -( - ( تمهيد (( - - { - - - - ( فهرس - - عليه السلام - - ( المحتويات ( - ( - - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - ( تمهيد - ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( المحتويات ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - - جل جلاله - - - ( - - رضي الله عنهم -( - } تم بحمد الله ( تمهيد ( تم بحمد الله ( - ( المحتويات ( - - (( } - - - فهرس - - ( (( - - رضي الله عنه - - ( - { (- عليه السلام - قرآن كريم - - - تمهيد - جل جلاله -( - - تمهيد الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - - - ( - { - - - - ( المحتويات ( - ( - فهرس - - رضي الله عنه -( - - تمهيد الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - - فهرس - - رضي الله عنه -( (- صلى الله عليه وسلم - - ( - - ((( - ( ( - - ( - - رضي الله عنهم -( ((((( تمت ( { ( المحتويات ( - ( - ( - - - رضي الله عنهم -(( - ( المحتويات ( - } - ( - - ( - - ( - - - رضي الله عنه - تمهيد (( } تمت ( { - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - (((( - - ( المحتويات ( - - - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر ( - - ( - تمهيد الله أكبر - صلى الله عليه وسلم - - ( - - ( - - رضي الله عنهم -(( - - - ( بسم الله الرحمن الرحيم - ( - { - رضي الله عنه -( - - - ((((( & [سورة المائدة] .(2/30)
وفي أكثر من موضع قال الله عن عيسى ؛ ذاكرًا خطابه لقومه: * } تمت ( { { - - - - ( فهرس - - عليه السلام - - ( المحتويات ( تمهيد - - - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( فهرس - صلى الله عليه وسلم -( - ( تمهيد (( - - - ( & [آل عمران:51].
وقال أيضًا: * - رضي الله عنه - - - - - - ( - الله أكبر ( { ( - ( - - رضي الله عنه -( ( - - - - (( - - - - - - عليه السلام -( - - (- رضي الله عنه - - ( - ( - - - (( - فهرس - - رضي الله عنهم -(- رضي الله عنهم - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - - صدق الله العظيم - ( - - رضي الله عنه - الله أكبر (((( & [سورة مريم].. * - رضي الله عنه - - - - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( - - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - - ((( - - رضي الله عنه - - (- رضي الله عنه - - - - - (((- عليه السلام - - ( - ( { } - - صلى الله عليه وسلم -( - ( تمهيد (( - - { - - - - ( فهرس - - عليه السلام - - ( المحتويات ( تمهيد ( - - عليه السلام - - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - & [المائدة:72]، * - } تم بحمد الله ( - - ( - - رضي الله عنهم - - ( - - - ((( - - - - بسم الله الرحمن الرحيم - رضي الله عنه - - ( - - رضي الله عنه - تم بحمد الله - صدق الله العظيم ( { ( - قرآن كريم ( - - عليه السلام - - ( - - - ( تمهيد فهرس - - رضي الله عنهم - - صدق الله العظيم ( تم بحمد الله ( - ( - ( - - - ( - ( - - - - - - (( مقدمة - تم بحمد الله ( - - عليه السلام -- صلى الله عليه وسلم - ( { - { - ( - - (( - - رضي الله عنه - الله أكبر - - - ( تمت - - ( - ( - - رضي الله عنه - - - رضي الله عنه - بسم الله الرحمن الرحيم - - رضي الله عنهم -( { ( - - - &(2/31)
[المائدة:75].
فنرجو منك أيها القارئ الكريم أن ترجع إلى الآيات في آخر سورة المائدة، وتتلوها بتدبر وخشوع لتتعرف على حقيقة الأمر.
فهذا مما ورد في حق نبينا محمد وفي حق عيسى عليهما الصلاة والسلام.
والعجب كل العجب ممن غلا في الأئمة والأولياء، واختلق الأساطير والأوهام ليسطرها في كتبه، معارضًا بها كلام الله - سبحانه وتعالى - بحجة أن الله على كل شيء قدير.
تنبيه:
جرت مناقشات وحوارات مع بعض المنتسبين إلى الحوزة -طلابًا وأساتذة- فكانوا يحتجون بأن الله Q أطلع أئمتهم على بعض علمه، أو أعطاهم قدرة ... ونحو ذلك، كما يحتجون برفع عيسى ؛ على غيبة الإمام المنتظر.
فسبحان الله! هذا خارج محل النزاع والبحث؛ فإن الجميع يؤمن بقدرة المولى، وأن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا، وأن الله فعّال لما يريد، كما قال - سبحانه وتعالى - في أكثر من موضع: * - - - رضي الله عنهم - - ( الله أكبر ( { ((( فهرس ( - ( تم بحمد الله - صلى الله عليه وسلم - - - - - - ( { - رضي الله عنهم - - - - عليه السلام - - - صلى الله عليه وسلم - - - ((( - - { تمت - صلى الله عليه وسلم - - - رضي الله عنه - - قرآن كريم ( { - رضي الله عنه - - (( مقدمة - - صدق الله العظيم ( - ( تمت قرآن كريم ( - - عليه السلام - - - ( (((( & [سورة يس].
فالله سبحانه قد بيَّن في محكم التنزيل أن ما جعله لعيسى
من باب المعجزات، ولم يذكر المولى سبحانه أنه أعطاه لغيره،
فيبقى مختصًا به ؛.
وكذلك المعجزات التي جعلها - سبحانه وتعالى - لنبينا محمد ص تبقى له دون غيره؛ فإنه لم يثبت دليل شرعي على أن الله Q جعل للأئمة والأولياء ما جعله سبحانه لمحمد وعيسى إ، ولو افترضنا أن الله سبحانه جعل هذه المعجزات لغير رسله؛ فإن الإعجاز بها يبطل حينئذٍ؛ إذ كيف يقال معجزة وقد شاركهم غيرهم فيها؟!(2/32)
أما القول بأنها من باب الكرامات فإن الكرامات حق نؤمن به، ولكنها لا تصل إلى المعجزات، والكلام فيها يطول، وليس هذا محله، وراجع إن شئت: كتاب «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» لشيخ الإسلام ابن تيمية /.
والمقصود أن كثيرًا من الباحثين والكتاب وغيرهم يجعل النقاش وأصل المسألة في قضية متفق عليها، وهي قدرة الله - سبحانه وتعالى -، وإنما البحث والنقاش في أن الله سبحانه جعل لهؤلاء الأئمة والأولياء تلك المنازل والخصائص.
فنقول: أين الأدلة على أن الأئمة يعلمون الغيب؟!
وأين الأدلة على أن الأئمة والأولياء يتصرفون بالكون؟
وأين الأدلة على أن هؤلاء بأعيانهم دون غيرهم يملكون الشفاعة؟
وأين الأدلة على أن هؤلاء يحيون الموتى؟
وأين الأدلة... وأين الأدلة... فإن المسائل التي غلا فيها هؤلاء كثيرة، فأين الأدلة عليها؟
* ( - ( - } - قرآن كريم ( - - - رضي الله عنهم - - ( المحتويات ( تمهيد - عليه السلام - - (- رضي الله عنهم - - ( - ( - تمت ( { ( بسم الله الرحمن الرحيم ( - - ( - - ((( - ( - ( - ( ((((( & [سورة البقرة].
وإذا قيل: توجد روايات تدل على ذلك قلنا: هاتوا تلك الروايات وأثبتوا صحتها إن كنتم صادقين!!
فليس كل ما في الكافي صحيحًا عند جمهوركم اليوم، كما أنه
لا يوجد لديكم اهتمام بالتصحيح والتضعيف والنظر في الروايات بدليل عدم وجود مختارات لكم في الأحاديث الصحيحة فضلًا عن كتب ومصنفات في ذلك اتفق عليها علماؤكم.
* ... * ... *
الخلاصة
لاشك أن أهل السنة قد أصابوا في موقفهم من أهل البيت †؛ حيث أحبوهم واحترموهم ووقروهم، وعرفوا منزلتهم التي جعلها الله لهم، فهم بشر اصطفاهم الله بقربهم من رسول الله ×، ومنهم من نبغ في العبادة والعلم والشجاعة والورع، وحاز صفات الخير، ومنهم من هو دون ذلك.(2/33)
فتكون محبة أهل السنة لآل البيت حقيقية؛ فقد أحبوهم على طبيعتهم البشرية، وأنهم يصيبون ويخطئون، مثلهم في ذلك مثل سائر الصالحين، حاشا رسول الله؛ فهو المعصوم صلوات الله وسلامه عليه.
أما غير أهل السنة فأحبوا بعض آل البيت بسبب الهالات العظيمة التي جعلوها لهم؛ لذا لا يمكن أن تقبل عقول كثير منهم محبتهم على صفتهم وطبيعتهم من غير غلو!
وقد قال لي كثير ممن حصل بيني وبينهم نقاش: كيف تريد لي أن أحبهم، وهم مثل سائر البشر؟!
وهنا يظهر الفرق بين محبة أهل السنة لآل البيت ومحبة غيرهم.
حيث إن محبة غيرهم إنما هي لهذا الغلو الذي جعلوه للأئمة، وعامته من خصائص المولى - سبحانه وتعالى -، وليست محبة لذات الأئمة، فتأمل ذلك! وانظر من الصادق في المحبة: الذي أحب الحقيقة أم الذي أحب الخيال؟
وحتى يعلم القارئ الكريم حقيقة هذا الغلو، نذكر بعض الأبواب التي وردت في أصح كتب الشيعة، وهو الكافي للكليني.
من هذه الأبواب:
باب: أن الأئمة † يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم (1/258).
باب: أن الأئمة † يعلمون علم ما كان وما يكون، وأنه لا يخفى عليهم الشيء صلوات الله عليهم (1/260).
باب: أن الأئمة † يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل † (1/255).
باب: أن الأئمة † خلفاء الله Q في أرضه، وأبوابه التي منها يؤتى (1/193).
باب: أن الأئمة لو ستر عليهم لأخبروا كل امرئ بما له وعليه (1/264).
باب: أن الأئمة † عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله Q، وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها (1/227).
وهم لم يكتفوا بذلك، بل جعلوا تعيين الإمام أهم من بعث الرسول ص، وفي ذلك يقول آية الله ميرزا الخراساني: «إن تعيين الإمام أهم من بعث الرسول؛ لأن تركه نقض للغرض وهدم للبناء»(1).
__________
(1) هذه الرسالة المعجزة والإسلام (ص:107).(2/34)
ويقول الخميني مفضلًا الأئمة على الأنبياء والملائكة ‡: «إن للإمام مقامًا محمودًا، ودرجة سامية، وخلافة تكوينية، تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات الكون. وإن من ضرورات مذهبنا أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملك مقرب، ولا نبي مرسل» (1).
فهذه بعض النماذج من الغلو والإفراط فيه.
وقد تواتر عن آل البيت † أنهم كانوا يقولون لشيعتهم: «أيها الناس! أحبونا حب الإسلام؛ فما برح بنا حبكم حتى صار علينا عارًا»(2).
وروى المجلسي أيضًا بسنده عن علي بن أبي طالب ا أنه قال: «إياكم والغلو فينا، قولوا: إنا عبيد مربوبون»(3).
وروى الكشي عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله ؛: «إنهم يقولون، قال: وما يقولون؟ قلت: يقولون: تعلم قطر المطر، وعدد النجوم، وورق الشجر، ووزن ما في البحر، وعدد التراب، فرفع يده إلى السماء، وقال: سبحان الله.. سبحان الله! لا والله، ما يعلم هذا إلا الله»(4).
فهذه بعض أقوال الأئمة † كما صرحت بذلك كتب الشيعة، وهذا يبيِّن حقيقة ما تعتقده الشيعة في آل البيت، وأنه لا يمكن أن ينطلي على أحد ممن أنعم الله عليه بالعقل السوي والفطرة المستقيمة.
محبة آل البيت بين الادعاء والحقيقة
أخي الكريم! هذا المبحث المختصر هو لب رسالتنا هذه؛ فأمعن نظرك فيه، وليكن ذهنك حاضرًا؛ فإنك بمنزلة القاضي الذي يحكم على صحة الدعوى أو بطلانها، وقد قال رسول الله ×: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجالٍ وأموالهم، ولكن البينة على المدعي)(5).
نعم! لابد من الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة على صدق المحبة.
فقولك: أنا من شيعة آل البيت، وأحب آل البيت، ومن أتباع آل البيت.. كل هذا لا يكفي؛ بل يبقى: أين الأدلة على صحة كلامك؟
__________
(1) الحكومة الإسلامية (ص:52).
(2) انظر: البداية والنهاية (9/110).
(3) بحار الأنوار (25/270).
(4) رجال الكشي (ص:193).
(5) صحيح مسلم (ح:1711)، مسند أحمد (1/342).(2/35)
إن الانتساب إلى آل البيت شرف وسؤدد ورفعة منزلة... و... و... حتى إن المنتسب إليهم صار يجد لنفسه منافع ومكاسب كثيرة لا تخفى عليك أيها القارئ الكريم؛ لذا كلٌ يدعي محبتهم وتوقيرهم، فمثلًا:
الزيدية أتباع زيد بن علي بن الحسين ي، وهم الذين قالوا بإمامته بعد أخيه الباقر، ولهم وجود في اليمن ودول أخرى، يرون أن الحق معهم، وأنهم هم الذين فازوا بشرف حب آل البيت واتباعهم.
الإسماعيلية وهم الذين يرون إمامة إسماعيل بن جعفر الصادق، وبقوا على ذلك بعد وفاته، ورفضوا القول بأن الإمامة انتقلت إلى أخيه موسى، وقالوا: بل هي في إسماعيل (الابن الأكبر لجعفر).. هم على اختلاف فرقهم يرون أنهم هم الشيعة أتباع الأئمة دون غيرهم، ولهم وجود في الهند وفي اليمن وفي أنحاء من العالم.
والإثنا عشرية الذين قصروا الإمامة على اثني عشر إمامًا، يرون أنهم أتباع آل البيت، وينبزون غيرهم بأنهم نواصب.
فمن نصدق؟؟
وما هي براهين هؤلاء وأولئك؟؟
أما أهل السنة فعلى اختلاف مذاهبهم يرون أنهم قالوا الحق في آل البيت من حيث تعميم معنى آل البيت؛ فإنهم لم يحصروه في أفراد معدودين، بل إن حمزة والعباس وجعفر الطيار عندهم من آل البيت رضي الله عنهم أجمعين، وكذلك ذرية الحسن ا وقد سبق بيان ذلك، وهذا القول هو القول الوسط، وقد سبق ذكر بعض حقوقهم والثناء عليهم.
ومن براهين أهل السنة على ذلك: أن الكمال في رسول الله ص، ومحبة أهل بيته لأجل ذاته ص وبركاته ؛، وقد نال آل البيت † المنزلة بسبب قرابتهم من رسول الله ص، وكذلك أصحابه، فنحن ندافع عن الصحابة ونحبهم، ونذكر فضائلهم، وجهادهم، وصبرهم وبذلهم ونصرتهم لرسول الله ص ... و... و... لكثرة ما ورد فيهم من نصوص في القرآن الكريم والسنة النبوية، ولأنهم أصحاب رسول الله ص؛ فإن صحبة رسول الله ص شرف بذاتها، ولها منزلة خاصة، وهي تاج على رءوس الأصحاب(1).
* ... * ... *
__________
(1) راجع رسالتنا (صحبة رسول الله ص).(2/36)
برهان الإمامة عند أهل السنة
مما سبق نعرف أن الأصل في احترام آل البيت وأصحاب رسول الله ص، هو ذات رسول الله ص، ولما لهم من سبق في الإسلام وجهاد، فالحجة عند أهل السنة هو رسول الله ص إمام أهل البيت.
والاتباع عند أهل السنة هو لرسول الله ص إمام البشر، فهو القدوة عند أهل السنة.
سيد البشر عند أهل السنة هو رسول الله ص.
الشافع يوم الحشر عند أهل السنة هو رسول الله ص.
صاحب لواء الحمد عند أهل السنة هو رسول الله ص.
صاحب المقام المحمود عند أهل السنة هو رسول الله ص.
صاحب الحوض عند أهل السنة هو رسول الله ص.
صاحب المنزلة الرفيعة في الجنة عند أهل السنة هو رسول الله ص.
وقرروا بأن معرفة الله - سبحانه وتعالى - لا تكون إلا عن طريق رسول الله ص.
وقرروا بأن القرآن الكريم كلام الله تعالى بلَّغه رسول الله ص، وقرروا بأن عبادة المولى Q تكون وفق شرع رسول الله ص فكلام رسول الله ص حجة على الناس، وكذلك معرفة أسماء الله وصفاته Q إنما هي عن طريق رسول الله ص.(2/37)
والتقرب إلى الله والتعبد للمولى سبحانه لا يتم إلا على وفق شرع رسول الله ص، فنحن معشر أهل السنة نعبد الله وفق عبادة رسول الله ص؛ فإن رسول الله ؛ إمام المتقين وسيد العابدين وقدوتهم، فنسير على هداه في العبادة، فلا نخترع ونحدث عبادة لم يشرعها رسول الله ص؛ لأن كل عبادة لم يأذن بها رسول الله ص مردودة وبدعةً، وقد جاء في قصة النفر الثلاثة الذين سألوا عن عبادة رسول الله ص، ثم قالوا: هذا رسول الله ص غفر الله له ذنبه، وعلينا نحن أن نجتهد في العبادة، ثم نظروا في العبادات القائمة، فقرروا الالتزام بها والزيادة عليها، فالأول التزم إحياء الليل كله، والثاني صيام الدهر، والثالث التبتل وعدم الزواج لكي يتعبد لله، فهذه عبادات لها أصل شرعي: صلاة الليل، وكذلك الصيام، ومثله الزهد في ملذات الدنيا وزينتها، فأنكر الرسول ص صنيعهم هذا، وقال كلمته المشهورة: (من رغب عن سنتي فليس مني)(1).
كما قرر أهل السنة وجوب المحبة القلبية للنبي ص، وأن يكون شخصه أحب إلينا من أنفسنا.
نعم من أنفسنا! فما بالك بسائر الناس، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم(2): (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين).
كما قرر أهل السنة وجوب الصلاة على النبي ص في الصلاة، وهي المعروفة بالصلاة الإبراهيمية، وقد تقدم بسط القول في ذلك في فصل: «حقوق آل البيت †».
وقد قرر أهل السنة مشروعية الصلاة على النبي ص في كل دعاء، وأنه من دواعي استجابة الدعاء، وكذلك الصلاة عليه بعد الفراغ من متابعة المؤذن، والدعاء له ص بالدعاء المشهور: (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا...)(3).
__________
(1) صحيح البخاري (ح:4776)، صحيح مسلم (ح:1401).
(2) صحيح البخاري (ح:14، 15)، صحيح مسلم (ح:44).
(3) صحيح البخاري (ح:589).(2/38)
وهو ص خاتم المرسلين وإمامهم وسيد البشر؛ لذلك قرر
أهل السنة قاطبة -ولا خلاف بينهم- أن واجب الاتباع هو
الرسول ص، وأن الحجة في أقواله وأفعاله عليه الصلاة والسلام.
فأهل السنة يقولون بأن الاتباع لمن اكتسب آل البيت المنزلة بسبب قرابتهم منه، وهو رسول الله ص.
وهم يقولون بأن الكمال في إمام أهل البيت، وهو رسول الله ص.
ويقولون بأن الحجة في إمام أهل البيت، وهو رسول الله ص.
فكيف يقال بأن أهل السنة لا يحبون أهل البيت، وارتباطهم برسول الله ص يعرفه خصومهم حق المعرفة؟؟
فأهل السنة يقررون أنه لا إيمان للعبد إلا بتصديق رسول الله ص، فلابد من تصديق رسول الله ص فيما أخبر، وكذلك طاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وعبادة الله وفق ما شرع.
أما من عداه من ذريته ؛ ومن أقاربه وأصحابه فمهما بلغت منزلتهم فهم دون رسول الله ص ، فيؤخذ من قولهم ويترك ما لم يكن إجماعًا.
فهل يلام أهل السنة باتباعهم رسول الله ص وترك ما سواه؟!
أيها القارئ الكريم! ضع يدك بيد إخوانك، واجعل قدوتك رسول الله ص دون ما سواه، فهو إمام العترة والتمسك بسنته فيها النجاة.
اخرج من الخلاف في معرفة من هم الأئمة بعد رسول الله ص وتمسك بالإمام الأعظم ودع غيره مهما كان.
طالب بأقوال وأفعال الرسول الأكرم والتزم بها.
اسأل الله أن يرزقك اتباع سيد البشر.
اسأل الله أن يحشرك مع سيد المتقين وإمام المرسلين، فإن الله Q سوف يسألك يوم القيامة عن اتباعك لرسول الله ص.
* ... * ... *
الثقل الأكبر عند أهل السنة
هذا كلام أهل السنة عن إمام الأئمة، وأما ملخص قولهم في الثقل الأكبر القرآن الكريم فإليك هو:
القرآن الكريم كلام الله.
القرآن الكريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
القرآن الكريم محفوظ بحفظ الله له.
القرآن الكريم شفاء.
القرآن الكريم فيه المواعظ والذكر الحكيم.
القرآن الكريم هداية.
القرآن الكريم رحمة.
القرآن الكريم نور.(2/39)
القرآن الكريم صراط الله المستقيم.
القرآن الكريم حجة الله على العالمين.
القرآن الكريم معجزة النبي الكريم الكبرى.
القرآن الكريم تلاوته عبادة.
القرآن الكريم تدبره والتفكر فيه قربة.
القرآن الكريم من قال فيه بزيادة أو نقصان كفر.
القرآن الكريم هو الأصل الأول في العقائد والأحكام والفيصل في أمور المسلمين كلها.
واهتمام أهل السنة بالقرآن فوق الوصف والبيان، يحفظه صغارهم وكبارهم ويتلونه، ويحرصون على العمل به، وعندهم القرآن يفسر القرآن، وأحاديث رسول الله ص تفسر القرآن، وما أشكل رجعوا فيه إلى كلام العرب ولغتهم..
أيها القارئ الكريم! لا أريد أن أطيل عليك، لكن أقول لك: عليك أن تجعل القرآن نصب عينيك؛ فإن فيه أبلغ المواعظ، وفيه الأوامر الصريحة بالتأمل والتفكر والتدبر وإعمال العقل. واعلم أن دستور أهل السنة هو القرآن الكريم والاقتداء بسيد آل البيت وسيد المرسلين عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين .
فعليك أن تلحق بركب الرسول ؛ لتنجو في الآخرة.
فإن سئلت يوم القيامة فإن الحجة بين يديك رسول الله ص، فهو إمامك وقدوتك .
اللهم إنا نسألك أن تجمعنا بالحبيب ص في جنات النعيم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
* ... * ... *
فهرس الموضوعات
المقدمة ... 3
التعريف اللغوي ... 4
التعريف الاصطلاحي ... 6
مفهوم آل البيت عند الشيعة الإثني عشرية ... 8
فضائل آل البيت عند أهل السنة ... 14
عقيدة أهل السنة والجماعة في آل البيت عليهم السلام ... 19
وقفه ... 25
حقوق آل البيت عليهم السلام ... 29
بشرية آل البيت عليهم السلام ... 39
الخلاصة ... 47
محبة آل البيت بين الادعاء والحقيقة ... 51
برهان الإمامة عند أهل السنة ... 54
الثقل الأكبر عند أهل السنة ... 59
فهرس الموضوعات ... 62
* ... * ... *(2/40)
الإبانة
لما للصحابة من المنزلة والمكانة
الشيخ حمد بن عبد الله الحميدي
تقديم الشيخ المحدث
عبد الله بن عبد الرحمن السعد
... إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله- صلى الله عليه وسلم -.
أما بعد:
... فإن من المعلوم الذي يعرفه الخاص والعام وهو ما عُلم بالضرورة من دين الإسلام فضل صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلوّ مكانتهم ورفعة درجتهم رضي الله عنهم.
... وهذا لما تكاثرت به الأدلة الدالة على ذلك من الكتاب والسنة وليس هذا موضع استيفائها وهي معلومة بحمد الله تعالى وفضله ولكن لعلي أذكر بعضاً منها.
... قال الله تعالى: { مُحَمدٌ رَسُولُ الله والذين معه أشداء على الكُفارِ رُحماءُ بينهم تراهم رُكعاً سُجداً يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهُم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرعٍ أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزُّراع ليغيظ بهم الكُفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً } [محمد:29].
... وهذه الآية الكريمة تشمل كل الصحابة رضي الله عنهم لأنهم كلهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
... وقال تعالى: { لا يستوي مِنكُم من أَنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظمُ درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكُلا وعد الله الحُسنى والله بما تعملون خبير } [الحديد: 10].(3/1)
... وهذه الآية أيضاً شاملة(1) لكل الصحابة رضي الله عنهم لمن انفق قبل فتح مكة وقاتل ولمن أنفق من بعد الفتح وقاتل ، كلهم وعدهم الله بالحسنى والحسنى هي الجنة كما قال الله تعالى: { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهقُ وجوههم قترٌ ولا ذِلةٌ أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } [ يونس: 26].
... ولذلك فسّر السلف الحسنى بالجنة(2) كما قال ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه وغيره. قال أبو جعفر بن جرير في تفسيره 11/108: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تبارك وتعالى وعد المحسنين من عباده على إحسانهم الحسنى وأن يجزيهم على طاعته إياه الجنة.
... والذي قاله ابن جرير واضح يشهد له ما تقدم وما سيأتي إن شاء الله تعالى.
... وقال تعالى: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم } [التوبة: 100]. وهذه الآية أيضاً شاملة لكل الصحابة رضي الله عنهم.
... ويؤيد ما تقدم ما جاء في السنة فقد أخرج البخاري 3673 ومسلم 2541 كلاهما من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبّه خالد فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : " لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" وهذا لفظ مسلم(3).
... وهذا الحديث شامل لكل الصحابة رضي الله عنهم لأنه قال عليه الصلاة والسلام: "لا تسبوا أحداً من أصحابي".
__________
(1) لأن هناك من ينازع في فضل بعض الصحابة رضي الله عنهم ، لذلك ذكرت النصوص التي تشمل الصحابة كلهم من حيث الفضل.
(2) أي في تفسير آية { للذين أحسنوا … } .
(3) وأخرجه مسلم 2540 أيضاً من حديث أبي هريرة.(3/2)
... ولذلك بوّب عليه أبو حاتم بن حبان في صحيحه كما في الإحسان 16/238: ذكر الخبر الدالِّ على أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم ثقات عدول.
... وأما توجيه هذا الخطاب لخالد بن الوليد ولغيره فهذا لا يفيد خروجه من الصحابة بل هو بالإجماع صحابي ، وإنما المقصود الصحبة الخاصة كما قال عليه الصلاة والسلام لعمر رضي الله عنه عندما وقع خلاف بينه وبين الصديق رضي الله عنه: " فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مرتين" أخرجه البخاري 3661 من حديث أبي إدريس عن أبي الدرداء.
... وأخرج البخاري 3649 ومسلم 2532 كلاهما من حديث عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: " يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس يقال لهم: فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقولون: نعم ، فيفتح لهم ، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم: فيكم من رأى من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم ، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم ، فيفتح لهم" وهذا لفظ مسلم.
... وأخرجه مسلم 2523 من طريق أبي الزبير عن جابر قال: زعم أبو سعيد قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - : " يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث فيقولون: هل تجدون فيكم أحداً من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - ؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به ، ثم يبعث البعث الثاني فيقولون: هل فيهم من رأى أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - ؟ فيفتح لهم ، ثم يبعث البعث الثالث فيقال: انظروا هل ترون فيهم أحداً رأى أحداً رأى أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - ؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم به" وهذا شامل أيضاً لكل الصحابة رضي الله عنهم.(3/3)
... ومن فضل الصحابة رضي الله عنهم أنهم أمنة للأمة ، أخرج مسلم 2531 من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه(1) قال: صلينا المغرب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع رأسه إلى السماء فقال: " النجوم أمنة للسماء فإذا ذهب النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون".
... وهذا أيضاً يشمل كل الصحابة رضي الله عنهم لأن الحديث عام في الصحابة ولم يخص أحداً منهم دون أحد.
... ويؤيد ما تقدم ما رواه أحمد 4/363 والطبراني في الكبير 2438 ، والحاكم 4/80 وصححه ، وأبو نعيم في أخبار أصبهان 10/145 كلهم(2) من طريق عن الثوري عن الأعمش(3) عن موسى بن عبد الله بن يزيد عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير بن عبد الله البجلي عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: " الطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة ، والمهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة "(4)
__________
(1) أي أبو موسى الأشعري رضي الله عنه.
(2) وقع في إسناد أحمد خطأ وهو: نسبة موسى بن عبد الله إلى هلال العبسي وجعلهم واحداً وقد نبه على هذا الهيثمي وابن حجر كما في إتحاف المهرة 4/56.
(3) رواه شريك كما عند أحمد 4/363 ، والطبراني 2456 فخالف فيه الثوري فرواه عن الأعمش عن تميم بن سلمة عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير ، ولا شك أن رواية الثوري أصح.
(4) إسناده قوي ، ورجاله كلهم ثقات وموسى بن عبد الله ثقة بالاتفاق خرج له مسلم في صحيحه وعبد الرحمن بن هلال العبسي وثقه النسائي والعجلي وذكره ابن حبان في الثقات. وقد خرّج له مسلم ثلاثة أحاديث عن جرير وهي 989 ، 1017 ، 2592. وفي معجم الطبراني الكبير 2448 من طريق مجالد ثني عبد الرحمن بن هلال قال أرسلني أبي إلى جرير بن عبد الله .. قال: فأتيته وسألته .." وهذا فيه إثبات سماع عبد الرحمن من جرير.
... ولكن لم أقف للأعمش (*) على تصريح بالسماع في هذا الحديث من موسى بن عبد الله مع أن له رواية عنه في مسلم 1017 وأما عنعنة الثوري فلا تضر لأنه معروف بالرواية عن الأعمش وأغلب تدليسه إنما هو من تدليس الشيوخ. وأما تدليس الإسناد فقليل قال البخاري: ولا أعرف لسفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ولا عن سلمة بن كهيل ولا عن منصور وذكر مشايخ كثيرة لا أعرف لسفيان عن هؤلاء تدليساً. ما أقل تدليسه. اهـ . من العلل للترمذي 2/966.
... وقد جاء هذا الخبر من طرق أخرى فقد أخرجه أبو داود الطيالسي 706 وأحمد 4/363 وابن حبان 7260 والطبراني في الكبير 2302 , 2310 ، 2311 ، 2314 وأبو نعيم في أخبار أصبهان 1/145-146 ، وابن عدي في الكامل 3/1122 والخطيب في التاريخ 13/44 من طرق عن أبي وائل عن جرير به وأبو وائل وإن كان قديماً وقد أدرك الجاهلية ولكنه يرسل ولا أعرف أنه سمع من جرير وليس له في الكتب الستة رواية عن جرير إلا حديث واحد أخرجه النسائي 7/147 وبينَّ أن بينهما رجلاً.
... وقد خرج الطبراني في الكبير عدة أحاديث من رواية أبي وائل عن جرير 2302 –2317 ولم يصرح في شيء منها بالتحديث عن جرير.
... ومن الطرق التي رويت عن أبي وائل (*) طريق عاصم بن أبي النجود عنه. وقد اختلف عليه فرواه أبو بكر بن عياش وشريك وعمرو بن قيس وسليمان بن معاذ كلهم عن عاصم عن أبي وائل عن جرير. وخالفهم إسرائيل فرواه عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله به. أخرجه البزار 1726 وقال: وهذا الحديث أحسب أن إسرائيل أخطأ فيه إذ رواه عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله لأن أصحاب عاصم يروونه عن عاصم عن أبي وائل عن جرير. ا.هـ.
... وتابعه عكرمة بن إبراهيم أخرجه أبو يعلى 5033 والطبراني في الكبير 10408 وعكرمة بن إبراهيم ضعيف.
... وقال الدارقطني في العلل 5/103: يرويه عاصم بن بهدلة واختلف عنه فرواه عكرمة بن إبراهيم عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله. ووهم فيه والصواب عن عاصم عن أبي وائل عن جرير بن عبد الله.
... قيل له: يحيى بن آدم رواه عن إسرائيل بن عاصم عن شقيق عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
... قال: كذلك قال يحيى بن آدم عن إسرائيل رواه الحسين بن واقد عن الأعمش عن شقيق بن عبد الله موقوفاً.ا.هـ.
وأنا أذهب إلى ما ذهب إليه البزار من تخطئة إسرائيل للأمرين:
أنه خالف الأكثر.
أنه سلك الجادة في حديث أبي وائل فجعله عن ابن مسعود والحفاظ يقدمون من خالف الجادة لأن هذا يدل على حفظه.
وأذهب أيضاً إلى ما ذهب إليه الدارقطني من الحكم على رواية عكرمة بن إبراهيم بالخطأ لما تقدم ولشدة ضعفه.
وأما رواية حسين بن واقد عن الأعمش فهذه الرواية أيضاً فيها نظر وذلك لما تقدم ، وأيضاً قد رواه أبو حذيفة (o ) عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي وائل عن جرير.
... ورواه الحجاج (() عن الحكم بن عتيبة عن أبي وائل عن جرير. هذا بالإضافة إلى رواية عاصم عن أبي وائل. فرواية هؤلاء تقدم على رواية حسين بن واقد على أن فيه بعض الكلام مع وقفه لهذا الحديث. وهذا مخالفة لكل من رواه.
... ويؤيد أن هذا الحديث من مسند جرير رواية سفيان الثوري عن الأعمش عن موسى بن عبد الله عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير كما تقدم ولا شك أن رواية الثوري عن الأعمش تقدم على رواية حسين بن واقد.
... طريق آخر: أخرج الطبراني في الكبير 2284 من طريق الحسن بن عطية ثنا قيس بن الربيع عن إسماعيل عن قيس عن جرير به وهذا إسناد ضعيف ، قيس لا يحتج به. وأما الحسن بن عطية فهو القرشي ، قال أبو حاتم: صدوق. والحديث بمجموع طريقيه حديث حسن ثابت وقد صححه ابن حبان الحاكم والله أعلم.
(*) على أن يعقوب بن سفيان قال في المعرفة 2/637: وحديث سفيان وأبي إسحاق والأعمش ما لم يعلم أنه مدلّس يقوم مقام الحجة. اهـ. وفي هذا الخبر لا يعلم أن الأعمش دلّس فيه.
(*) أي في حديث: " الطلقاء .." .
(o) تقدمت هذه الرواية وأخرجه الطبراني ، وأبو نعيم.
(() أخرجها الطبراني وحجاج هو ابن أرطأة وإن كان فيه ضعف ويدلس ، ولكنها معتضدة بما تقدم.(3/4)
.
... قلت: وفي هذا الحديث ذكر الصحابة كلهم: المهاجرين والأنصار والطلقاء والعتقاء ، وأنه عليه الصلاة والسلام أثبت لهم الولاية بعضهم مع البعض الآخر في الدنيا والآخرة.
... وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " والآخرة " تفيد صحة إسلامهم وإيمانهم وذلك أنه لم يثبت لهم الولاية في الدنيا فقط بل والآخرة. والله تعالى أعلم.
وهذا الحديث عمل بما جاء في كتاب الله تعالى في قوله: { والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين أووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم }74{ والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم}75{ } [الأنفال:74،75].
... فتبين مما تقدم ثناء الله تعالى ورسوله الكريم- صلى الله عليه وسلم - على الصحابة كلهم رضي الله عنهم ولا شك أن الله تعالى بعلمه للغيب اختار أصحاب رسوله- صلى الله عليه وسلم -.
... أخرج أحمد 36000 ، والبزار1816 ، والطبراني 8582 في الكبير وابن الأعرابي 860 في المعجم ، والحاكم 3/78 وقال: صحيح الإسناد، والقطيعي في زوائد فضائل الصحابة 541 ، والبيهقي في المدخل كما في نصب الراية 4/133 كلهم من طريق أبي بكر بن عياش ثنا عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء(1).
فصل في حد الصحبة
__________
(1) هذا الأثر وقع فيه اختلاف وقد ساق الدارقطني في العلل 5/66 ، 67 الاختلاف وطريق أبي بكر بن عياش من أحسنها. قال ابن القيم في الفروسية ص 82 عن هذا الأثر: وإنما هو ثابت عن ابن مسعود قوله … اهـ.(3/5)
... قد يقول قائل: بما أن الصحابة أثنى الله عليهم ورسوله فمن هو الصحابي؟
... فأقول وبالله التوفيق: قيل في حد الصحبة أقوال متعددة ولكن الذي دلّ عليه الدليل منها هو: كل من لقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ومات على ذلك سواء أطال هذا اللقاء أم قصر ، والدليل على هذه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم - واللغة العربية.
... أما من الكتاب فقال تعالى: { والنجم إذا هوى }1{ ما ضل صاحبكم وما غوى }2{ } [النجم: 1 ، 2]. يقسم ربنا في هذه الآية بالنجم إذا هوى أن صاحبكم – أي الرسول - صلى الله عليه وسلم - - ما ضلّ. ووجه الشاهد أن الله تعالى سماه صاحباً لقومه ومعلوم أن قومه منهم من صحبه المدة الطويلة ومنهم من صحبة المدة القصيرة.
... وبمعنى هذه الآية قوله تعالى: { ما بصاحبكم من جنة } [سبأ: 46]. وقوله تعالى { وما صاحبكم بمجنون } [التكوير: 22]. وقوله تعالى: { وصاحبهما في الدنيا معروفاً } [لقمان: 15]. وهذا شامل لكل مصاحبة سواء كانت قصيرة أو طويلة.
... وقال تعالى: { كما لعنا أصحاب السبت } [النساء: 47] فسماهم الله تعالى أصحاب السبت لأنهم فعلوا هذا المنكر في يوم السبت. وقال تعالى: { فأنجيناه وأصحاب السفينة } [العنكبوت: 15]. وهم لم يجلسوا مدة طويلة في السفينة وإنما مدّة السفر فسماهم أصحاب السفينة.
... وقال تعالى: { يوم يفر المرء من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه } [عبس: 34-36]. وهذا شامل لكل زوج سواء طالت مدة الزواج أو قصرت تسمّى صاحبة ، وقال تعالى { وأصحاب اليمين } [الواقعة: 27] وقال تعالى: { وأصحاب الشمال } [الواقعة: 41] فسماهم الله تعالى أصحاب اليمين لأنهم يأخذون كتابهم بيمينهم والعكس بالنسبة لأصحاب الشمال. ولم يقل أحد – فيما أعلم- أن هذا الكتاب يبقى معهم لمدة كذا وكذا.(3/6)
... وأما من السنّة ما رواه مسلم في صحيحه 249 من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى المقبرة فقال: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، وددت أنا قد رأينا إخواننا" قالوا: أولسنا إخوانك؟ قال: " أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد .. " فهذا الحديث يدل على أن أصحابه كل من التقى به وكان مؤمناً وأنّ من لم يأت بعد إنما هم إخوانه وأما من جاء إليه وآمن به فهو صاحبه سواء طال هذا اللقاء أم قصر.
... ومن الأدلة على أن الصحبة تثبت باللّقية مع الإيمان والموت على ذلك ما رواه ابن أبي شيبة12/178 ثنا زيد بن الحباب ثنا عبد الله بن العلاء بن عامر عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني ، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصاحب من صاحبني".
... وأخرجه ابن أبي عاصم 1522 في السنة والطبراني في الكبير 22/85 كلاهما من طريق ابن أبي شبيه به ، وأخرجه ابن أبي عاصم 1523 والطبراني 22/86 من طرق عن الوليد بن مسلم ثنا عبد الله به العلاء به نحوه.
... وأخرجه الطبراني 22/85 وفي مسند الشاميين 799 من طريق إبراهيم بن عبد الله بن العلاء عن أبيه به. وهذا الحديث صحيح وقد جاءت أحاديث أخرى بمعناه منها ما رواه يعقوب بن سفيان في التاريخ 2/351 ثنا آدم ثنا بقية بن الوليد ثنا محمد بن عبد الرحمن اليحصبي سمعت عبد الله بن بسر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " طوبى لمن رآني ، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني ، وطوبى له وحسن مآب".(3/7)
... وأخرجه ابن أبي عصام في السنة 1527 عن يعقوب به لكن وقع عنده محمد بن زياد بدل محمد بن عبد الرحمن ولكن هذا لا يؤثر كثيراً على كلا الوجهين محمد بن زياد ثقة ومحمد بن عبد الرحمن قال عنه دحيم: ما أعلمه إلا ثقة ، وذكره ابن حبان في الثقات(1) وقال: لا يعتد بحديثه ما كان من حديث بقية ويحيى بن سعيد العطار ودونه بل يعتبر بحديثه من رواية الثقات عنه.
... قلت: جعل ابن حبان العلّة في بقية وليس في محمد بن عبد الرحمن أن ابن حبان لا يحتج ببقية ولذلك لم يذكره في الثقات بل ذكره في المجروحين ، والراجح أن بقية صدوق يحتج بحديثه إذا اجتمعت فيه خمس شروط:
إذا صُرِّح بينه وبين شيخه بالتحديث.
إذا صُرِّح بالتحديث بين شيخه وشيخ شيخه لأنه أحياناً يدلّس تدليس التسوية كما في العلل لابن حاتم فقد نقل عن أبيه حديثاً سواه بقية.
إذا كان شيخه ثقة ، قال أحمد: إذا حدث عن قوم ليسو بمعروفين فلا تقبلوه. وقال ابن سعد: كان ثقة في روايته عن الثقات ضعيفاً في روايته عن غير الثقات.
أن يكون شيخه شامياً ، قال ابن المديني: صالح فيما روى عن أهل الشام وأما عن أهل الحجاز والعراق فضعيف جداً. وقال ابن عدي: إذا روى عن أهل الشام فهو ثبت وإذا روى عن غيره خلّط. وقال ابن رجب في شرح العلل ص 428: وهو مع كثرة رواياته عن المجهولين الغرائب والمناكير فإنه إذا حدث عن الثقات المعروفين لم يدلّس فإنما يكون حديثه جيداً عن أهل الشام. وأما رواياته عن أهل الحجاز وأهل العراق فكثيرة المخالفة لروايات الثقات. كذا ذكره ابن عدي وغيره ثم ذكر مثالاً على هذا في حديث رواه عن المسعودي وأخطأ فيه وقال أبو زرعة: وإذا نقل بقية حديث الكوفة إلى حمص يكون هكذا. اهـ. وهذا موجود في سؤالات البرذعي 2/449 لأبي زرعة.
__________
(1) وقال ابن حجر في التقريب: صدوق.(3/8)
أن يكون الراوي عنه ثقة متيقِّظاً ويستحسن أن لا يكون حمصياً وذلك أن بقية قد يروي عن آخر ولا يصرح بالتحديث فيرويه الراوي عنه على أن بقية صرح بالتحديث بينه وبين شيخه وبقية لم يفعل ذلك وهذا إما أن يفعله الراوي عن بقية تعمّداً أو غفلة ، قال أبو زرعة بعد سؤال عن حديث رواه أبو تقي قال: ثني بقية قال حدثي عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تبدءوا بالكلام قبل السلام فمن بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه ". قال أبو زرعة: هذا حديث ليس له أصل ، لم يسمع بقية هذا الحديث من عبد العزيز إنما هو عن أهل حمص وأهل حمص لا يميزون هذا. ا.هـ. من العلل 2/331-332.
قلت:قوله – يعني أبو زرعة -: إنما هو عن أهل حمص .. أن الراوي عن بقية هنا هشام بن عبد الملك أبو تقي وهو حمصي. وقوله: أهل حمص لا يميزون هذا. يعني: لا ينتبهون إلى صيغ التحمل فيجعلون بدل العنعنة التحديث كما حصل في هذا الحديث لم يسمع هذا الحديث من عبد العزيز فيبدو أنه رواه بالعنعنة أو نحو ذلك ولم ينتبه لهذا الراوي عنه فرواه عن بقية بالسماع من شيخه.
وقال أبو حاتم بن حبان(1) وامتحن بقية بتلاميذ له كانوا يسقطون الضعفاء من حديثه ويسوونه فالتزق ذلك كله به.اهـ.
__________
(1) وقال أيضاً في مقدمة المجروحين 1/94: الجنس السادس: أقوام من المتأخرين يسوقون الأخبار فإذا كان بين الثقتين ضعيف واحتمل أن يكون الثقات رأى أحدهما الآخر أسقطوا الضعيف بينهما حتى يتصل الخبر ، فإذا سمع المستمع خبر أسامٍ رواته ثقات اعتمد عليه وتوهم أنه صحيح كبقية بن الوليد قد رأى عبيد الله بن عمر ومالك بن أنس وشعبة بن الحجاج وسمع منهم ثم سمع عن أقوام ضعفاء عنهم فيروي الرواة عنه أخباره ويسقطون الضعفاء من بينهم حتى يتصل الخبر في جماعة مثل هؤلاء يكثر عددهم. اهـ.(3/9)
فوصل الأمر ببعض تلاميذه أنهم يسقطون الضعفاء من حديثه ويسوونه ، وقد يدخل في كلام ابن حبان ما قاله أبو زرعة فيما تقدم.
وما قاله أبو زرعة وابن حبان معروف عن أهل الشام أنهم قد يسووّن الأخبار ويسقطون الضعفاء أحياناً من أحاديث شيوخهم كما كان الوليد بن مسلم يفعله في حديث الأوزاعي.
ومثله بقية كما تقدم وصفوان بن صالح ومحمد بن المصفى(1) وهؤلاء كلهم من أهل الشام ، وقد اشتهر هذا النوع من أنواع التدليس عن أهل الشام وإن كان وصف به غيرهم ، ومعروف عن أهل الشام التساهل حتى في إسناد الأخبار ، قال
الوليد بن مسلم: خرج الزهري فقال: يا أهل الشام: ما لي أرى أحاديثكم ليست لها أزمَّة ولا خطم. قال الوليد: فتمسك أصحابنا بالأسانيد من يومئذ(2).
... وهذه الشروط إذا توفرت في حديث بقية فهذا يكون من أقوى حديث وقد يُتساهل في بعضها. وهنا في هذا الحديث قد اجتمعت هذه الشروط وآدم الراوي عنه في هذا الحديث ثقة جليل معروف بالإتقان والضبط وهو ليس بحمصي وإنما نشأ في بغداد وسكن عسقلان.
... والخلاصة أن هذا الحديث بهذا الإسناد حسن ويشهد له الحديث السابق وهناك أحاديث أخرى بمعنى هذا الحديث خرّجها ابن أبي عاصم في السنة وغيره.
... وقد تقدم في الحديث السابق حديث جابر عن أبي سعيد وفيه: " فيقال لهم: فيكم من صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. " وإحدى الروايتين تفسر الأخرى.
... وأما كلام أهل اللغة فقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة 3/335 في مادة (صحب) قال: الصاد والحاء والباء أصل واحد يدلُّ على مقارنة شيء ومقاربته من ذلك الصاحب والجمع الصحب كما يقال راكب وركب ، ومن الباب أصحب فلان إذا انقاد وأصحب الرجل إذا بلغ ابنه ، وكل شيء لازم شيئاً فقد استصحبه .اهـ.
__________
(1) قال أبو زرعة الدمشقي: كان صفوان بن صالح ومحمد بن المصفى يسويان الحديث. اهـ. من المجروحين لابن حبان 1/94.
(2) السير 334 والوليد لم يسمع من الزهري.(3/10)
... وقال ابن سيده في المحكم 3/119: وصاحبه عاشره ، والصاحب المعاشر .اهـ.
... وقال ابن منظور في اللسان 1/519 بمثل ما جاء في المحكم وفيهما(1) أيضاً: وصحب المذبوح: سلخه – في بعض اللغات –اهـ. وقال صاحب القاموس بمثل ما تقدم 1/91.
... وفي المعجم الوسيط 1/507: صاحبه رافقه ، واستصحب الشيء لازمه . والصاحب: المرافق ومالك الشيء والقائم على الشيء ويطلق على من اعتنق مذهباً أو رأياً. والصحابي من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ومات على الإسلام .اهـ.
... وفي الإفصاح في فقه اللغة ص 708: الصحبة المعاشرة.
... فهذا كلام أهل اللغة ليس فيه اشتراط(2) طوال الملازمة في الصحبة أو ذكر حد معين لها سوى الملازمة والمرافقة وهذا يطلق على القليل والكثير ولذلك بيَّن ابن فارس أصل الصحبة أنها تدل على المقارنة والمقاربة.
ولذلك قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 4/464: والصحبة اسم جنس يقع على من صحب النبي- صلى الله عليه وسلم - قليلاً أو كثيراً لكن كل منهم له من الصحبة بقدر ذلك. فمن صحبة سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه مؤمناً ، فله من الصحبة بقدر ذلك.
... كما ثبت في الصحيح عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صحب النبي- صلى الله عليه وسلم -؟ - فيقولون: نعم ، فيفتح لهم ، ثم يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صحب من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقولون: نعم ، فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من رأى من رأى من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم".
__________
(1) أي: اللسان والمحكم.
(2) سيأتي إن شاء الله تعالى ذكر من خالف في ذلك والجواب عنه.(3/11)
... فقد علق النبي- صلى الله عليه وسلم - الحكم بصحبته وعلق برؤيته وجعل فتح الله على المسلمين بسبب من رآه مؤمناً به ، وهذه الخاصية لا تثبت لأحد غير الصحابة ولو كان أعمالهم أكثر من أعمال الواحد من أصحابه- صلى الله عليه وسلم -.
... وقال الفيومي في المصباح ص 333 في مادة (صحبته): والأصل في هذا الإطلاق لمن حصل له رؤية ومجالسة ووراء ذلك شروط للأصوليين. اهـ.
... قلت: بيَّن الفيومي أن الأصل في الصحبة هو لمن حصل له رؤية ومجالسة وأن هذا معناه في اللغة ، وأن الأصوليين شرطوا شروطاً أخرى ولم تكن موجودة في اللغة وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على هذه المسالة. وهذا ما ذهب إليه الجمهور(1) وهو المشهور عند أهل الحديث(2) قال الإمام أحمد: كل من صحبه سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه ، له من الصحبة على قدر ما صحبه.اهـ(3).
... وقال البخاري في صحيحه 5/2: ومن صحب النبي- صلى الله عليه وسلم - أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه. وقال الواقدي: رأيت أهل العلم يقولون: كل من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أدرك الحلم وأسلم وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممن صحب النبي- صلى الله عليه وسلم - ولو ساعة من نهار ، ولكن أصحابه على طبقاتهم وتقدمهم في الإسلام. اهـ. من الكفاية ص 50 .
__________
(1) الإصابة لابن حجر 1/11 وإرشاد الفحول للشوكاني ص 70 ومذكرة الأصول للشنقيطي ص 124،125.
(2) وينظر الإصابة لابن حجر 1/8 ، ومقدمة ابن الصلاح ص 146.
(3) رواه ابن أبي يعلى في الطبقات 1/243 بإسناده عن أحمد ، والخطيب في الكفاية ص 51. وجاء عن الإمام مالك أنه قال مثل ذلك كما في مجموع الفتاوي 20/298.(3/12)
... وأما من قال: إن مذهب الأصوليين هو: اشتراط طول الصحبة والملازمة(1) حتى يطلق عليه اسم الصحبة أو نحو هذا ، فهذا الكلام باطل من أوجه:
تقدم أن الذي دل عليه القرآن الكريم والسنة النبوية هو خلاف هذا القول.
أننا لو أردنا قولاً بلا دليل – ونعوذ بالله من ذلك – لقلنا بقول أهل الحديث لأنهم أعلم بهذه المسألة من غيرهم وتقدم أنهم يذهبون إلى خلاف هذا القول.
أن الأصوليين لم يتفقوا على هذا القول بل ذهب كثير منهم إلى خلافه ، قال الآمدي في الأحكام 2/130: اختلفوا في مسمى الصحابي: فذهب أكثر أصحابنا وأحمد بن حنبل إلى أن الصحابي من رأى النبي- صلى الله عليه وسلم - وإن لم يختص به اختصاص المصحوب ولا روى عنه ولا طالت مدة صحبته.
قلت: ثم ذكر القول الآخر ثم قال: ويدلّ على ذلك ثلاثة أمور:
الأول: أن الصاحب اسم مشتق من الصحبة والصحبة تعم القليل والكثير ومنه يقال: صحبته ساعة وصحبته يوماً وشهراً. وأكثر من ذلك كما يقال: فلان كلمني وحدثني وزارني. وإن كان لم يكلمه ولم يحدثه ولم يزره سوى مرة واحدة.
الثاني: أنه لو حلف أنه لا يصحب فلاناً في السفر أو ليصحبنه فإنه يبر ويحنث بصحبته ساعة.
الثالث: أنه لو قال قائل: صحبت فلاناً ، فيصح أن يقال: صحبته ساعة أو يوماً أو أكثر من ذلك. ولولا أن الصحبة شاملة لجميع هذه الصور ولم تكن مختصة بحالة منها لما احتيج إلى الاستفهام. اهـ.
... وقال القاضي أبو يعلى في العدة في أصول الفقه 3/988: الصحبة في اللغة من صحب غيره قليلاً أو كثيراً ، ألا ترى أنه يقال: صحبت فلاناً وصحبته ساعة ولأن ذلك الاسم مشتق من الصحبة وذلك يقع على القليل والكثير كالضارب مشتق من الضرب والمتكلم مشتق من الكلام وذلك يقع على القليل والكثير كذلك هاهنا. اهـ.
__________
(1) وممن ذهب إلى هذا القول بعض المعتزلة كأبي الحسين البصري وغيرهم من أهل البدع ، وسيأتي إن شاء الله تعالى الرد عليهم.(3/13)
... وقال أبو محمد بن حزم في كتاب الأحكام 5/89: أما الصحابة رضي الله عنهم فهو كل من جالس النبي- صلى الله عليه وسلم - ولو ساعة وسمع منه ولو كلمة فما فوقها أو شاهد منه عليه السلام أمراً بعينه ولم يكن من المنافقين الذين اتصل نفاقهم واشتهر حتى ماتوا على ذلك ، ولا مثل من نفاه عليه السلام باستحقاقه كهيت المخنث ومن جرى مجراه. فمن كان كما وصفنا أولاً فهو صاحب وكلهم عدل وإمام فاضل رضي ، فرض علينا توقيرهم وتعظيمهم وأن نستغفر لهم ونحبهم. وتمرة يتصدق بها أحدهم أفضل من صدقه أحدنا بما يملك ، وجلسة من الواحد منهم مع النبي- صلى الله عليه وسلم - أفضل من عبادة أحدنا دهره كله.
... وسواء كان من ذكرنا على عهده عليه السلام صغيراً أو بالغاً فقد كان النعمان بن بشير وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين ابنا علي رضي الله عنهم أجمعين من أبناء العشر فأقل إذ مات النبي- صلى الله عليه وسلم - وأما الحسين فكان حينئذ ابن ست سنين إذ مات النبي- صلى الله عليه وسلم - ، وكان محمود بن الربيع ابن خمس سنين إذ مات النبي- صلى الله عليه وسلم - وهو يعقل مجةً مجها النبي- صلى الله عليه وسلم - في وجهه من ماء بئر دارهم، وكلهم معدودون في خيار الصحابة مقبولون فيما رووا عنه عليه السلام أتم القبول وسواء في ذلك الرجال والنساء والعبيد والأحرار.
... ثم قال: وأما من ارتد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد أن لقيه ثم راجع الإسلام وحسنت حاله كالأشعث بن قيس وعمرو بن معدي كرب وغيرهما فصحبته له معدودة وهو بلا شك من جملة الصحابة لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أسلمت على ما سلف لك من خير" وكلهم عدول فاضل من أهل الجنة.
... ثم ذكر بعض الأدلة على ذلك ثم قال: وقد قال قوم: إنه لا يكون صاحباً من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة لكن من تكررت صحبته.(3/14)
... قال أبو محمد: وهذا خطأ بيقين لأنه قول بلا برهان ، ثم نسأل قائله عن حد التكرار الذي ذكر وعن مدة الزمان الذي اشترط فإن حدَّ في ذلك حداً كان زائداً في التحكم بالباطل وإن لم يحد في ذلك حداً كان قائلاً بما لا علم له به وكفى بهذا ضلالاً. وبرهان بطلانه قوله أيضاً: إن اسم الصحبة في اللغة إنما هو لمن ضمته مع آخر حالة ما فإنه قد صحبه فيها فلما كان من رأى النبي- صلى الله عليه وسلم - وهو غير منابذ له ولا جاحد لنبوته قد صحبه في ذلك الوقت وجب أن يسمى صاحباً. اهـ.
... وقال محمد بن إبراهيم الوزير في العواصم من القواصم (1/387): إن الصحبة تطلق كثيراً في الشيئين إذا كان بينهما ملابسة ، سواءً كانت كثيرة أو قليلة، حقيقة أو مجازية ، وهذه المقدمة تُبين بما ترى من ذلك في كلام الله ورسوله وما أجمع العلماء عليه من العبارات في هذا المعنى.
... أما القرآن فقال الله تعالى: { فقال لصاحبه وهو يحاوره } [الكهف:34] فقضى بالصحبة مع الاختلاف في الإسلام الموجب للعداوة لما جرى بينهما من ملابسة الخطاب للتقدم ، وقد أجمعت الأُمة على اعتبار الإسلام في اسم الصحابي فلا يُسمّى من لم يسلم صحابياً إجماعاً ، وقد ثبت بالقرآن أن الله سمّى الكافر صاحباً للمسلم فيجب أن يكون اسم الصحابي عرفياً ، وإذا كان عرفياً اصطلاحياً كان لكل طائفة أن تصطلح على اسم كما سيأتي تحقيقه.
... قال تعالى: { والصاحب بالجنب } [النساء:36] وهو المرافق في السفر ، ولا شك أنه يدخل في هذه الآية الملازم وغيره ولو صحب الإنسان رجلاً ساعة من نهار وسايره في بعض الأسفار لدخل في ذلك ، لأنه يصدُق عليه أن يقول: صحبت فلاناً في سفري ساعة من النهار ، ولأن من قال ذلك لم يردّ عليه أهل اللغة ويستهجنوا بكلامه.(3/15)
... وأما السنة فكثير غير قليل ومن أوضحها ما ورد في الحديث الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها: " إنكن صواحب يوسف" فانظر أيها المنصف ما أبعد هذا السبب الذي سُمّيت به النساء صواحب يوسف وكيف يستنكر من آمن برسول الله ووصل إليه وتشّرف برؤية غرّته الكريمة صاحباً له ، ومن أنكر على من سمّى هذا صاحباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلينكر على رسول الله حيث سمّى النساء كُلهُنَّ صواحب يوسف.
... ومن ذلك الحديث الذي أُشير فيه على النبي- صلى الله عليه وسلم - أن يقتل عبد الله بن أُبيّ رأس المنافقين فقال عليه الصلاة والسلام: " إني أكره أن يُقال أن محمداً يقتل أصحابه" فَسُمِّى صاحباً مع العلم بالنفاق للملابسة الظاهرة مع العلم بكفره الذي يقتضي العداوة ويمحو اسم الصحبة في الحقيقة العرفية.
... ومما يدل على التوسع الكثير في اسم الصحبة إطلاقها بين العقلاء وبين الجمادات كقوله تعالى: { يا صاحبي السجن } [يوسف: 39] ومثل تسمية ابن مسعود صاحب السواد ، وصاحب النعلين والوسادة.
... وأما الإجماع فلا خلاف بين الناس أنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لاقى المسلمين في الحرب فقُتِل من عسكر النبي جماعة ومن المشركين جماعة أن يُقال: قُتِل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، ومن المشركين كذا وكذا ، وبذا جرى عمل المؤرخين والإخباريين يقولون في أيام صفين: قُتِل من أصحاب علي كذا ومن أصحاب معاوية كذا ، ولا يعنون بأصحاب علي من لازمه وأطال صحبته بل من قاتل معه شهراً أو يوماً أو ساعة ، وهذا شيء ظاهر لا يستحق بمن قال مثله الإنكار(1).
__________
(1) المقصود بذلك: علي بن محمد بن أبي القاسم الذي أنكر على أهل الحديث ذهابهم إلى هذا القول.(3/16)
... ومن ذلك أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة .. يقال هذا لمن لم ير الشافعي ولا يصحبه قليلاً ولا كثيراً لملابسة ملازمة المذهب ، ولو دخل في مذهب الشافعي في وقت لقيل له في ذلك الوقت قد صار من أصحابه من غير إطالة ولا ملازمة بالقول بمذهبه ، وكذا تسميته عليه السلام صاحب الشفاعة قبل أن يشفع هذه ملابسة بعيدة ، وكذا أصحاب الجنة قبل دخولها وأمثال ذلك ، وكذلك سائر هذه الأشياء مما أجمع على صحبته ، كل هذا دليل على أن اسم الصحبة يطلق كثيراً مع أدنى ملابسة والأمر في هذا واسع. اهـ.
... نقلت هذه النصوص على طولها لأن فيها رداً واضحاً على من اشترط في الصحبة طول الملازمة.
... فتبين مما تقدم أن كثيراً من أهل الأصول يذهب إلى قول الجمهور في الصحابة ولذلك قال العراقي في التقييد والإيضاح ص 256 متعقباً قول أبي المظفر السمعاني أن طريقة الأصوليين يشترطون في الصحابي طول الصحبة وكثرة المجالسة قال: إن ما حكاه عن الأصوليين هو قول بعض أئمتهم والذي حكاه الآمدي عن أكثر أصحابنا أن الصحابي من رآه وقال: إنه الأشبه واختاره ابن الحاجب. اهـ. ثم ذكر بعض من يذهب إلى قول الأصوليين.
... وينظر أيضاً الواضح في أصول الفقه لابن عقيل 5/59-64 والروضة لابن قدامة ص 119 وشرح مختصر الروضة للطوفي 2/185-187. وإرشاد الفحول ص 70 ومذكرة الأصول للشنقيطي ص 124، 125.
... وقال بعضهم: إن الممدوح من الصحابة هو من كان من أهل الجهاد والإنفاق دون غيره.(3/17)
... فأقول: هذا قول مخترع وقد قال الله تعالى: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى } [النساء: 95]. فهذه الآية الكريمة فيها إبطال لهذا القول وقد تقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه".
... ولذلك قال ابن عمر: لا تسبوا أصحاب محمد ، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره(1).
... وأما ما رواه(2) محمد بن سعد عن علي بن محمد عن شعبة عن موسى السنبلاني: أتيت أنس بن مالك فقلت: إنك آخر من بقى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: قد بقى قوم من الأعراب فأما من أصحابه فأنا آخر من بقي.
... وقال ابن الصلاح في علوم الحديث ص 146: وروينا عن شعبة عن موسى السيلاني – وأثنى عليه خيراً – قال: أتيت أنس بن مالك فقلت: هل بقى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد غيرك؟ قال: بقى ناس من الأعراب وقد رأوه فأما من صحبه فلا. إسناده جيد حدث به مسلم بحضرة أبي زرعة. اهـ.
فالجواب عنه من وجوه:
__________
(1) أخرجه أحمد في الفضائل 15 ، 20 وابن ماجة 162 ، وابن أبي عاصم في السنة 1040 كلهم من طريق الثوري عن نسير بن ذعلوق قال: سمعت ابن عمر ، وإسناده صحيح.
(2) كما في تهذيب الكمال 1/295.(3/18)
1- إسناد هذا الخبر ليس بالقوي تماماً وذلك أن موسى السيلاني – وقيل السنبلاني- ليس بالمشهور تماماً بل هو مقل وترجم له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 8/169 ونقل عن يحيى بن معين أنه قال عنه: ثقة. وتقدم أن شعبة أثنى عليه ، وفي تاريخ واسط ص 64 من طريق شعبة عن موسى السيلاني قال: دخلت على أنس بن مالك منزلة فرأيت في بيته مرافقاً صفواً. وفيه أيضاً عن شعبة: موسى السيلاني من أهل الفاروث. اهـ. وليس لموسى رواية عن أنس في الكتب الستة ولا في العشرة ولا في المختارة للضياء ، وقد توسع في ذكر مرويات أنس ويظهر أنه ليس له خبر مسند عن أنس وإنما له ما تقدم ، ويؤيد هذا أن صاحب تاريخ واسط قال في مقدمة ترجمة أنس عندما ترجم له في كتابه ص 58: الذي اتصل بنا ممن حدث عن أنس بن مالك من أهل واسط أُخرِّج لكل رجل حديثاً ليعرف موضعه وبالله التوفيق. اهـ.
... ثم ذكر من روى عن أنس من أهل واسط وذكر لهم أحاديث – في الغالب – وعندما ذكر موسى لم يذكر له شيئاً مسنداً عن أنس وإنما ذكر له ما تقدم وهذا يدل والله أعلم على أنه لم يقف له على خبر مسند رواه عن أنس.
... فمن كان بهذه الصفة ليس له رواية وإنما حكاية عن أنس ولعل شعبة تفرّد بالرواية عنه ولم يترجم له البخاري في تاريخه ولا ابن حبان في ثقاته ولا يكون مشهوراً خاصة أنه لم يذكر اسم أبيه واختلف في نسبه ، وأما توثيق يحيى بن معين فلعله لثناء شعبة عليه وإلا فإنه ليس من المرويات ما بيّن حاله.
... على أن الراوي عن شعبة وهو علي بن محمد أحسبه المدائني فإن ابن سعد مكثر عنه وهو مذكور بالرواية عن شعبة فهو وإن كان صدوقاً وعالماً بالأخبار وقال عنه ابن معين: ثقة ثقة ثقة ، فقد ذكره ابن عدي في الكامل 5/1855 وقال: ليس بالقوي في الحديث وهو صاحب الأخبار.(3/19)
2- ويؤيد ما تقدم أنه جاء عن أنس بإسناد صحيح ما قد يخالف ما رواه موسى السيلاني ، روى البخاري في صحيحه 4489 ثنا علي بن عبد الله ثنا معتمر عن أبيه عن أنس قال: لم يبق ممن صلى القبلتين غيري. اهـ.
... قلت: هذا الخبر قد يخالف ما رواه السيلاني لأنه يفيد أن هناك من الصحابة كان موجوداً(1) عندما ذكر أنس ذلك ، فكلام أنس يفيد إثبات الصحبة لهم ولكن يبين أنه لم يبق أحد من الصحابة ممن صلى القبلتين سواه ، فظاهر هذا يخالف ما رواه عنه موسى السيلاني والله أعلم. ولا شك أن سليمان التميمي وهو من الحفاظ المشاهير من أصحاب أنس مقدم على موسى السيلاني(2).
3- يحمل كلام أنس هذا لو ثبت عنه على الصحبة الخاصة كما تقدم في قصة خالد بن الوليد مع عبد الرحمن بن عوف وقصة أبي بكر مع عمر.
4- أنه قد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم ما قد يخالف هذا وأما ما جاء عن سعيد بن المسيب أنه قال: الصحابة لا تعدهم إلا من أقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين. رواه الخطيب في الكفاية ص 50 من طريق ابن سعد عن الواقدي أخبرني طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيب عن أبيه عن سعيد به.
... قلت: هذا لا يصح عن سعيد لا من جهة الإسناد ولا من جهة المتن.
__________
(1) انظر: الفتح 8/173.
(2) يمكن الجمع بين خبر سليمان التميمي وخبر السيلاني لكن يذهب إلى هذا لو كان خبر السيلاني ثابتاً ثبوتاً واضحاً . والله أعلم.(3/20)
... أما الإسناد: ففيه محمد بن عمر الواقدي والكلام فيه معروف. وفيه أيضاً محمد بن سعيد بن المسيب وفيه جهالة ترجم له البخاري 1/92 وابن أبي حاتم 7/262 وسكتا عليه وذكره ابن حبان في التقات كعادته 7/421 وأما طلحة بن محمد بن سعيد فهو مجهول لا يعرف ، قال أبو حاتم كما في الجرح والتعديل 4/476: لا أعرف طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيب إلا أن يكون أخاً لعمران والذي عرفت عمران بن محمد بن سعيد روى عنه الأصمعي. اهـ. ولم يترجم له البخاري في تاريخه ولا ابن حبان في ثقاته.
... وأما من حيث المتن فيبعد جداً أن يقول سعيد بن المسيب مثل هذا الكلام لأنه تحكّم لا دليل عليه ولم يشترط أحد فيما أعلم مثل هذا الشرط وهو أن لا يكون الواحد صحابياً حتى يقيم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - سنة أو سنتين أو يغزو غزوة أو غزوتين. فعلى هذا من كان من القاعدين ممن لا يستطيع الجهاد لا يكون صحابياً، والنساء أيضاً هل يدخلن في هذا الحد أو لا يدخلن؟ إن كن لا يدخلن فالرجال كذلك، لأن الصحبة لا علاقة لها بالقتال حتى يميّز بالرجال عن النساء ، وإن كن يدخلن فكفى بهذا إبطالاً لهذا القول.
... فتبين بطلان هذا الخبر إسناداً ومتناً وقد رد العراقي هذا الخبر فقال في التقييد والإيضاح ص 257: لا يصح عنه فإن في الإسناد إليه محمد بن عمر الواقدي وهو ضعيف في الحديث. اهـ.
... وأما ما قاله الراغب الأصفهاني في المفردات ص 275 في مادة (صحب) قال: الصاحب الملازم إنساناً كان أو حيوناً أو مكاناً أو زماناً ولا فرق بين أن تكون مصاحبته بالبدن وهو الأصل والأكثر أو بالعناية والمهمّة. ولا يقال في العرف إلا لمن كثرت ملازمته. والمصاحبة والاصطحاب أبلغ من الاجتماع لأجل أن المصاحبة والاصطحاب تقتضي طول لبثه ، فكل اصطحاب اجتماع وليس كل اجتماع اصطحاباً.(3/21)
... وإلى هذا ذهب أبو حامد الغزالي في كتابه المستصفى 1/165 فقال: فمن الصحابي؟ من عاصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو من لقيه مرة أو من صحبه ساعة أو من طالت صحبته. وما حد طولها؟ قلنا: الاسم لا يطلق إلا على من صحبه ثم يكفي للاسم من حيث الوضع الصحبة ولو ساعة ولكن العرف يخصص الاسم بمن كثرت صحبته. اهـ.
... فالجواب عن هذا أن الراغب الاصفهاني والغزالي وغيرهما ممن يقول بذلك بيّنوا أن هذا القيد في الصحبة وهو طول الملازمة إنما أُخذ من العرف والعرف لا يرجع إليه إلا بعد أن لا يوجد حد من الشرع أو اللغة ، فالحقائق ثلاث: الحقيقة الشرعية ثم اللغوية ثم العرفية ، فلا يرجع إلى الحقيقة العرفية إلا بعد أن لا يكون هناك شرعية أو لغوية ، وفي هذه المسألة وهي الصحبة بين الشرع واللغة حقيقتها، وحقيقتها كما تقدم تكون بمطلق الصحبة.
... ثم أيضاً لا يُسَلّم أن العرف يشترط في الصحبة طول الملازمة ، وتقدم أن أكثر أهل العلم يذهبون إلى أن الصحبة تطلق على صحبة الشخص حتى ولو كانت لمدة قصيرة ، والله أعلم.
بعد بيان فضل الصحابة وثناء الله عليهم ورسوله - صلى الله عليه وسلم -
... هناك شبهة يحتج بها الجهال وأهل الضلال وهي أن من الصحابة من جاء النص بذمِّهم أو الشهادة لهم بالنار وأن منهم من شارك في الفتن التي جرت في عهد علي رضي الله عنه وبالتالي لا يشملهم المدح والثناء الذي جاء عن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
... قلت: الجواب عن هذا وبالله التوفيق من جهتين: إجمالاً وتفصيلاً:
... فأما الوجه الأول فهو إجمالاً: فالله تعالى أثنى عليهم وهو يعلم تعالى ما سوف يقع منهم ومع ذلك أثنى ربنا عليهم.
... وأما تفصيلاً: فهؤلاء الذين تقدم ذكرهم ينقسمون إلى قسمين:
أولاً: من جاءت النصوص بذمهم أو الشهادة لهم بالنار.
ثانياً: من لابس الفتن التي وقعت في عصرهم.(3/22)
... فأما القسم الأول: فالذين جاء النص بذمهم أو الشهادة لهم بالنار ستة وهم:-
الحكم بن أبي العاص الأموي.
الرجل الذي كذب على الرسول- صلى الله عليه وسلم - وزعم أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - كساه حُلّة وأنه أمره أن يحكم في حي من بني ليث في دمائهم وأموالهم.
الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
أبو الغادية الجهني.
كركرة غلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي غلّ الشملة.
الرجل الذي تزوج زوجة أبيه.
* فأما الحكم بن أبي العاص فثبت أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - لعنه ، فقد أخرج أحمد 2/163 قال: ثنا ابن نمير ثنا عثمان بن حكيم عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عبد الله بن عمرو قال: كنا جلوساً عند النبي- صلى الله عليه وسلم - وقد ذهب عمرو بن العاص يلبس ثيابه ليلحقني فقال - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده: " ليدخلن عليكم رجل لعين" فوالله ما زلت وجلاً أتشوّف داخلاً وخارجاً حتى دخل فلان – يعني الحكم.
... وأخرجه البزار 1625 كما في كشف الأستار ثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد ثنا ابن نمير به وعنده: الحكم بن أبي العاص. وقال: لا نعلم هذا بهذا اللفظ إلا عن عبد الله بن عمرو بهذا الإسناد. اهـ.
... قلت: وهذا إسناد صحيح وقال الهيثمي 1/112: رجاله رجال الصحيح.
... وأخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب 1/318: من طريق عبد الواحد بن زياد ثنا عثمان بن حكيم ثنا شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو عن عبد الله بن عمرو به.
... والأول أصح لأن ابن نمير أتقن من عبد الواحد بن زياد مع أن هذا الاختلاف لا يؤثر كثيراً على ثبوت الخبر لأن شعيباً صدوق وقد سمع من جده عبد الله بن عمرو.(3/23)
... ويظهر أن هذا الحديث جاء من طريق آخر فقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 5/243 بنحوه ثم قال: رواه كله الطبراني(1) وحديثه مستقيم وفيه ضعف غير مبين وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ. وذكره أيضاً في الموضع الأول 1/112 وقال الطبراني في الكبير: رجاله رجال الصحيح إلا أن فيه رجلاً لم يسم وذكره بلفظ آخر بنحو الأول وقال رجاله رجال الصحيح.
... وأخرجه أحمد 4/5 قال: ثنا عبد الرزاق ثنا ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: سمعت عبد الله بن الزبير وهو مستند إلى الكعبة وهو يقول: ورب هذه الكعبة لقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلاناً وما ولد من صلبه.
... وأخرجه البزار2197 وهو في كشف الأستار 1623 ثنا أحمد بن منصور ثنا عبد الرزاق به: لعن الحكم وما ولد له. قال البزار : لا نعلمه عن ابن الزبير إلا بهذا الإسناد ، ورواه محمد بن فضيل أيضاً عن إسماعيل عن الشعبي عن ابن الزبير ثنا به علي بن المنذر.
... وأخرجه الطبراني في الكبير 13/121 من طريق محمد بن فضيل وأحمد بن بشير وأبي مالك الجنبي كلهم عن إسماعيل به.
... وأخرجه أيضاً 13/221: ثنا أحمد بن رشدين المصري ثنا يحيى بن سليمان الجعفي ثنا ابن فضيل عن ابن شبرمة عن الشعبي به ، أخرجه أيضاً 13/118 ثنا الحسن بن العباس الرازي ثنا محمد بن حميد ثنا هارون بن المغيرة عن عمرو بن أبي قيس عن يزيد بن أبي زياد عن البهي عن ابن الزبير به بنحوه.
... وقال الحاكم 4/481: ثنا ابن نصير الخلدي ثنا أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين ثنا إبراهيم بن منصور ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن محمد بن سوقة عن الشعبي به قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. اهـ.
... قال الذهبي: الرشديني ضعفه ابن عدي.
__________
(1) سقط اسم الرجل الذي تحدث عنه الهيثمي والجزء الموجود من مسند عبد الله بن عمرو غير موجود فيه هذا الحديث.(3/24)
... قلت: أحمد بن رشدين مختلف فيه ، والإسناد الأول صحيح وصححه الذهبي في تاريخ الإسلام: عهد الخلفاء الراشدين ص 368.
... وجاء هذا الحديث من طرق أخرى: ينظر البزار1624 كشف الأستار ، والمستدرك 1/481 ومجمع الزوائد 1/112 و 5/242-243 وتاريخ الإسلام في وفيات سنة 31هـ ص 366 – 368 لكن لا تخلو من كلام. فمثله مع ثبوت اللعن من الرسول - صلى الله عليه وسلم - له يُشك في إسلامه فضلاً عن صحبته ، قال ابن الأثير في أسد الغابة 2/34: وقد روي في لعنه ونفيه(1) أحاديث كثيرة لا حاجة إلى ذكرها إلا أن الأمر المقطوع به أن النبي- صلى الله عليه وسلم - مع حلمه وإغضائه على ما يكرهه ما فعل ذلك الأمر إلا لأمر عظيم. اهـ.
... قلت: ويؤيد ما قاله ابن الأثير أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - لم يلعن أحداً من المنافقين بعينه – فيما أعلم – ولم ينف أحداً بعينه خارج المدينة إلا المخنثين عندما أمر بإخراجهم خارج المدينة فالله أعلم. ولذلك قال أبو محمد بن حزم في الأحكام 6/83: وكان بها (2) أيضاً من لا يرضى حاله كهيت المخنّث الذي أمر عليه السلام بنفيه ، والحكم الطريد وغيرهما ، فليس هؤلاء ممن يقع عليهم اسم الصحابة.
... وقد ذكر الهيثمي حديث لعنه تحت باب: منه في المنافقين كما في مجمع الزوائد 1/9 ولم يذكره البخاري في التاريخ الكبير مع الصحابة فيمن اسمه الحكم بل لم يذكره مطلقاً تحت هذا الاسم وعندما ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3/120 لم ينص على أن له صحبة كما يفعل ذلك كثيراً فيمن كانت له صحبة وإنما نقل عن أبيه: أنه أسلم يوم الفتح وقدم على النبي- صلى الله عليه وسلم - فطرده من المدينة فنزل الطائف حتى قبض في خلافة عثمان. اهـ.
__________
(1) أي خارج المدينة ، ولم يثبت أن عثمان رضي الله عنه استأذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إعادته إلى المدينة فأذن له.
(2) يعني المدينة.(3/25)
... ونص آخرون على صحبته وهذا فيه نظر كما تقدم ، ومن يستدل بهذا على أن الصحابة ليسوا كلهم عدول لا شك أنه مخطئ في هذا الخطأ البيّن.
* وأما الرجل الذي كذب على النبي- صلى الله عليه وسلم - وزعم أنه كساه حلّة فالجواب عنه أن خبره لا يصح ، وعلى فرض صحته وهو لا يصح أن هذا الرجل الذي فعل ذلك لم يثبت إسلامه فضلاً عن صحبته.
... قال أبو العباس بن تيمية في الصارم المسلول ص 171: وللناس في هذا الحديث قولان:
... أحدهما: الأخذ بظاهره في قتل من تعمد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن هؤلاء من قال يكفر بذلك قاله جماعة منهم أبو محمد الجويني. ووجه هذه القول أن الكذب عليه كذب على الله ولهذا قال: " إن كذباً علّي ليس ككذب على أحدكم " ومعلوم أن من كذب على الله بأن زعم أنه رسول الله أو نبيه أو أخبر عن الله خبراً كذب فيه كمسيلمة والعنسي ونحوهما من المتنبئين فإنه كافر حلال الدم ، فكذلك من تعمد الكذب على رسوله وبيَّن ذلك أن الكذب بمنزلة التكذيب له ولهذا جمع الله بينهما بقوله تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لمّا جاءه } [العنكبوت: 68].
... بل ربما كان الكاذب عليه أعظم إثماً من المكذِّب له ولهذا بدأ الله به. فالكاذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - كالمكذب له.
وأيضاً فإن تعمّد الكذب عليه استهزاء به واستخفاف لأنه يزعم أنه أمر بأشياء ليست مما أمر به بل وقد لا يجوز الأمر بها وهذه نسبة له إلى السَّفه ، أو أنه يخبر بأشياء باطلة وهذه نسبة له إلى الكذب وهو كفر صريح.
... وأيضاً فإنه لو زعم زاعم أن الله فرض صوم شهر آخر غير رمضان عالماً بكذب نفسه كفر بالاتفاق ، فمن زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب شيئاً لم يوجبه أو حرّم شيئاً لم يحرمه فقد كذب على الله كما كذب عليه الأول وزاد عليه بأن صرح بأن الرسول قال ذلك.(3/26)
... فإذ كذب الرجل عليه متعمداً أو أخبر عنه بما لم يكن فذلك الذي أخبر عنه نقص بالنسبة إليه إذ لو كان كمالاً لوجد منه ومن انتقص الرسول فقد كفر.
... واعلم أن هذا القول في غاية القوة كما تراه لكن يتوجه أن يفرّق بين الذي يكذب عليه مشافهة وبين الذي يكذب عليه بواسطة مثل أن يقول: حدثني فلان بن فلان عنه بكذا . فهذا إنما كذب على ذلك الرجل ونسب إليه الحديث.
... فأما إن قال: هذا الحديث صحيح أو ثبت عنه أنه قال ذلك عالماً بأنه كذب ، فهذا كذب عليه وعجّل عقوبته ليكون ذلك عاصماً من أن يدخل في العدول من ليس منهم من المنافقين ونحوهم.
... وأما من روى حديثاً يعلم أنه كذب فهذا حرام كما صح عنه أنه قال: " من روى عني حديثاً يعلم أنه كذب فهو أحد الكاذبين" لكنه لا يكفر إلا أن ينضم إلى روايته ما يوجب الكفر.
... القول الثاني: أن الكاذب عليه تغلّط عقوبته لكن لا يكفر ولا يجوز قتله لأن موجبات الكفر والقتل معلومة وليس هذا منها. فلا يجوز أن يثبت الأصل له. ومن قال هذا فلابد أن يقيد قوله بأنه لم يكن الكذب عليه متضمناً لعيب ظاهر. فأما إن أخبر أنه سمعه يقول كلاماً يدل على نقصه وعيبه دلالة ظاهرة مثل حديث عرق الخيل ونحوه من الترهات فهذا مستهزئ به استهزاء ظاهراً ولا ريب أنه كافر حلال الدم. ...
... وقد أجاب من ذهب إلى هذا القول عن الحديث بأن النبي- صلى الله عليه وسلم - علم أنه كان منافقاً فقتله لذلك للكذب ، وهذا الجواب ليس بشيء.
... قلت: ثم بيَّن ضعفه. ثم قال: لكن يمكن أن يقال فيه ما هو أقرب من هذا وهو أن هذا الرجل كذب على النبي- صلى الله عليه وسلم - كذباً يتضمن انتقاصه وعيبه لأنه زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكّمه على دمائهم وأموالهم وأذن له أن يبيت حيث شاء من بيوتهم ، ومقصوده بذلك أن يبيت عند تلك المرأة ليفجر بها ، ولا يمكنهم الإنكار عليه إذا كان محكّماً في الدماء والأموال.(3/27)
... ومعلوم أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لا يحلل الحرام ، ومن زعم أنه أحل المحرمات من الدماء والأموال والفواحش فقد انتقصه وعابه ونسب النبي- صلى الله عليه وسلم - إلى أنه يأذن أن يبيت عند امرأة أجنبية خالياً بها وأنه يحكم بما شاء في قوم مسلمين. وهذا طعن على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعيب له.
... وعلى هذا التقدير فقد أمر بقتل من عابه وطعن عليه من غير استتابة وهو المقصود في هذا المكان ، فثبت أن الحديث نص في قتل الطاعن عليه من غير استتابة على كلا القولين.
... ومما يؤيد القول الأول أن القوم لو ظهر لهم أن هذا الكلام سب وطعن لبادروا إلى الإنكار عليه. ويمكن أن يقال: رابهم أمره فتوقفوا حتى استثبتوا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تعارض وجوب طاعة الرسول وعظم ما أتاهم به هذا اللعين.
... ومن نصر القول الأول قال: كل كذب عليه فإنه متضمن للطعن عليه كما تقدم ثم إن هذا الرجل لم يذكر في الحديث أنه قصد الطعن والإزراء وإنما قصد تحصيل شهوته بالكذب عليه. وهذا شأن كل من تعمد الكذب عليه فإنه إنما يقصد تحصيل غرض إن لم يقصد الاستهزاء به. والأغراض في الغالب إما مال أو شرف. كما أن المسيء إنما يقصد – إذا لم يقصد مجرد الإضلال – إما الرياسة بنفاذ الأمر وحصول التعظيم أو تحصيل الشهوات الظاهرة. وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كُفر كَفر بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافراً إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله. اهـ.(3/28)
... قال المعلمي في الأنوار الكاشفة ص 273: وراويه عن ابن بريدة صالح بن حيان وهو ضعيف له أحاديث منكرة ، وفي السند غيره. وقد رُويت القصة من وجهين آخرين بقريب من هذا المعنى وفي كل منهما ضعف. وراجع مجمع الزوائد. وعلى فرض صحته فهذا الرجل كان خطب تلك المرأة في الشرك فردوه فلما أسلم أهلها سوّلت له نفسه أن يظهر الإسلام ويأتيهم بتلك الكذبة لعله يتمكن من الخلوة بها ثم يفر إذ لا يعقل أن يريد البقاء وهو يعلم أن ليس بينه وبين النبي- صلى الله عليه وسلم - سوى ميلين. فأنكر أهلها أن يقع مثل ذلك عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأوا أن ينزلوا الرجل محترسين منه ، ويرسلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويخبروه . وحدوث مثل هذا لا يصح للتشكيك في صدق بعض من صحب النبي- صلى الله عليه وسلم - غير متهم بالنفاق ثم استمر على الإسلام بعد وفاة النبي- صلى الله عليه وسلم - . اهـ.
... فتبيّن إن إسلامه لم يثبت فضلاً عن صحبته. والله أعلم.
* وأما الوليد بن عقبة وأنه هو الذي نزل فيه قوله تعالى: { يا آيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا } [الحجرات: 6] فهذا لم يثبت بإسناد صحيح بيّن وإن كان ذهب إلى هذا جمع من المفسرين وخالفهم في ذلك بعض أهل العلم وقد جاء ما يعارض هذا.
... أخرج أبو داود في السنن 4181 ثنا أيوب بن محمد الرقي ثنا عمر بن أيوب عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج عن عبد الله الهمداني عن الوليد بن عقبة قال: لما فتح نبي الله - صلى الله عليه وسلم - مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيدعو لهم بالبركة ويمسح رؤوسهم قال: فجيء بي إليه وأنا مخُلَّق فلم يمسني من أجل الخلوق.(3/29)
... وأخرجه أحمد 4/32 ثنا فياض بن محمد الرقي عن جعفر به وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/100 من طريق أحمد(1) به وقال قبله: وأما الوليد بن عقبة فإنه ولد في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحمل إليه فحرم بركته- صلى الله عليه وسلم - ثنا بصحة ما ذكرته .. ثم ذكر الحديث السابق.
... وأخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني 564 ثنا علي بن ميمون العطار ثنا خالد بن حيان عن جعفر ، والطبراني في الكبير 22/151 ثنا عبد الله بن أحمد ثني أبي به وثنا يحيى بن عثمان بن صالح ثنا علي بن معبد الرقي ثنا خالد بن حيان به وثنا مقدام بن داود ثنا أسد بن موسى ثنا زيد بن أبي الزرقاء عن جعفر عن ثابت عن عبد الله الهمداني(2) أبي موسى عن الوليد بن عقبة. وأبو نعيم في المعرفة 6511 ثنا محمد بن محمد ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا أحمد بن حنبل ثنا فياض بن محمد الرقي وثنا محمد بن محمد ثنا الحضرمي ثنا عبد بن يعيش ثنا يونس بن بكير قالا ثنا جعفر(3) به.
... وأخرجه البخاري في التاريخ الأوسط 1/116 ثنى محمد بن عبد الله العمري ثنا زيد بن أبي الزرقاء ثنا جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج عن أبي موسى عن الوليد به. ثنى عبيد بن يعيش ثنا يونس عن حفص عن ثابت به. ثنا الوليد بن صالح عن فياض الرقي عن جعفر ثنا ثابت به. اهـ.
__________
(1) ووقع عند: فياض بن زهير وهو خطأ والصواب فياض بن محمد. وأخرجه من طريق أحمد الطحاوي 239 في مشكل الآثار والبيهقي في السنن 9/55 وفي الدلائل 6/397 وابن عساكر 17/870 في تاريخ دمشق ومن طريق غيره ص 871 ، 872.
(2) كذا وهو خطأ كما نبه على ذلك الطبراني.
(3) ووقع في الأصل: عن عبد الله أبي موسى الهمداني عن الوليد به فجعل المحقق عبد الله [بن] أبي موسى فأخطأ.(3/30)
... كذا وقع في طبعتين(1) عن حفص ، ولعل الصواب جعفر كما تقدم عن أبي نعيم في المعرفة. وأخرجه البيهقي في السنن 6/55 من طريق يونس بن بكير به.
... وأخرجه العقيلي في الضعفاء 2/319 ثنا علي بن الحسن الحراني ثنا عمر بن أيوب عن جعفر عن ليث(2) بن الحجاج عن عبد الله الهمداني عن أبي موسى عن الوليد به ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثني أبي به.
... وقال: فلم يذكر له موسى في هذه الرواية أصلح. اهـ.
... كذا والمطبوعة فيها أخطاء كثيرة والمقصود من هذا الكلام مفهوم وهو عدم ذكر موسى في الإسناد أصح كما تقدم في الأسانيد السابقة وقد نبه على هذا الطبراني(3) كما تقدم وفي تهذيب الكمال: عبد الله أبو موسى الهمداني روى عن الوليد بن عقبة وقيل: عن أبي موسى الأشعري عن الوليد بن عقبة وهو وهم.اهـ.
... فإن كان المقصود بأبي موسى الأشعري هو الهمداني فهذا ممكن ، وأشعر وهمدان يلتقون في زيد بن كهلان. وإن كان المقصود بأبي موسى الأشعري هو الصحابي فهذا خطأ ولعله تصحيف أو سبق قلم وتقدم ذكر الاختلاف ولم أقف على وقوع الأشعري في أسانيد هذا الخبر.
__________
(1) الثانية: الهندية ص 50 ، والأولى التي نقلت منها دار المعرفة.
(2) وقع تصحيف في الإسناد والصواب: ثابت.
(3) ولذلك قال أبو حاتم الرازي كما في الجرح والتعديل 9/8 عن الوليد بن عقبة: روى عنه أبو موسى الهمداني المسمّى عبد الله. اهـ. وقال ابن أبي خيثمة كما في تاريخ ابن عساكر 17/872: أبو موسى الهمداني اسمه: عبد الله . وقال ابن عساكر 17/871: وعندي أن عبد الله الهمداني هو أبو موسى ، فأبو موسى هو عبد الله الهمداني وليس رجلين.(3/31)
... وإسناد هذا الخبر رجالة ثقات خلا الهمداني ، فجعفر بن برقان ثقة خرّج له مسلم والأربعة والبخاري في الأدب المفرد وإنما تكلم في حديثه عن الزهري وهذا ليس منها ، وثابت بن حجاج وثقة ابن سعد وأبو داود وروى عن زيد بن ثابت وأبي هريرة وعوف بن مالك من الصحابة وروى عن بعض التابعين ومنهم عبد الله بن سيدان وهو من كبار التابعين.
... وأما عبد الله بن الهمداني أبو موسى فذكره البخاري 5/224 وقال: لا يصح حديثه. وذكره في الضعفاء الصغير 199 وقال أيضاً: لم يصح حديثه. وقال في التاريخ الأوسط – المطبوع باسم الصغير – 1/116 بعد أن ذكر حديثه: وقال بعضهم أبو موسى الهمداني وليس يعرف أبو موسى ولا عبد الله(1) وقد خولف: ثني محمد بن الحكم ثنا ابن سابق ثنا عيسى بن دينار ثني أبي سمع الحارث بن ضرار قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر بَعثُه الوليد فنزلت: { إن جاءكم فاسق بنبأ } [الحجرات:6]. اهـ.
... وذكره العقيلي في الضعفاء 2/319 وذكر قول البخاري ثم ذكر حديث الباب ثم قال: وفي هذا الباب رواية من غير هذا الوجه بإسناد أصلح من هذا. اهـ. وذكره ابن عدي في الكامل 4/1550 وذكر قول البخاري فيه ثم قال: وعبد الله الهمداني لم ينسب ولا أعرفه إلا هكذا. اهـ.
__________
(1) اللسان 7/112 قال: قال البخاري في التاريخ الأوسط: اسمه عبد الله لا يعرف ولا يتابع عليه. اهـ.(3/32)
... وقال أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب 3/631: وقالوا: وأبو موسى هذا مجهول والحديث منكر مضطرب لا يصح ولا يمكن أن يكون من بعث مصدقاً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح صبياً ، يدل أيضاً على فساد ما رواه أبو موسى المجهول أن الزبير وغيره من أهل العلم بالسير والخبر ذكروا أن الوليد وعمارة بني عقبة خرجا ليردا أختهما أم كلثوم عن الهجرة .. ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله عز وجل: (إن جاءكم) نزلت في الوليد. قلت: ثم ذكر بعض ما جاء في ذلك من الآثار. اهـ. وقال في كتابه الكنى 2/1250: أبو موسى الهمداني روى عنه عبد الله الهمداني ، وعبد الله وأبو موسى الهمداني ليسا بمعروفين ، ومنهم من يقول الهمداني في أبي موسى. اهـ.
... وقال أبو القاسم بن عساكر في تاريخه 17/872: هذا حديث مضطرب الإسناد لا يستقيم عند أصحاب التواريخ أن الوليد كان يوم فتح مكة صغيراً ، فقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه ساعياً.
... قلت: عبد الله الهمداني أبو موسى من التابعين إما من كبارهم وهو الأقرب لأن الراوي عنه من الطبقة الوسطى من التابعين أو من الوسطى ، وأما ما جاء من الاضطراب في اسمه أو ما وقع في بعض الأسانيد عن عبد الله الهمداني عن أبي موسى فهذا خطأ وتقدم كلام العقيلي والطبراني في ذلك وهذا هو الصحيح كما وقع في أكثر الأسانيد.(3/33)
... وعبد الله الهمداني ترجم له ابن أبي حاتم في الجرح 5/208 ونقل عن أبيه أنه قال عنه: لا بأس به. اهـ. وترجم له في قسم الكنى من كتابه 9/438 وسكت عنه: وتقدم أن أبا داود أخرج حديثه وسكت عنه وقد قال: وما سكت عنه فهو صالح. وصحح له الحاكم هذا الحديث كما تقدم وأما ذكر العقيلي(1) وابن عدي له فالذي يبدو أنهما تابعا البخاري في ذلك لأنهما لم ينقلا سوى قول البخاري كما تقدم.
... وأما البخاري فيظهر من كلامه أنه أعلّ هذا الخبر بعلتين هما: جهالة عبد الله الهمداني وأن هذا الخبر جاء ما يخالفه وهو ما ذكره كما تقدم.
__________
(1) وأما ما قاله العقيلي بعد أن ذكر الخبر السابق قال: وفي الباب رواية من غير هذا الوجه بإسناد أصلح من هذا. اهـ. فلا أدري ما ذا يقصد بالضبط؟ هل يقصد ما ذكر البخاري إن هناك ما يخالف هذا الخبر كما تقدم أو يقصد أن هناك رواية تؤيد ما جاء في رواية عبد الله الهمداني. فالله أعلم.(3/34)
... والخبر الذي ذكر: فيه دينار والد عيسى فيه جهالة ولم يوثقه إلا ابن حبان كما في ترجمته. وقال ابن المديني: عيسى معروف ولا نعرف أباه. اهـ. وتفرد بالرواية عنه ابنه. وفي هذا الخبر أنه سمع الحارث بن ضرار وهذا عندي فيه شيء من النظر وذلك أن ديناراً كأنه يصغر عن هذا وهو مولى عمرو بن الحارث ولد الحارث وليس الحارث ، والحارث قديم ولعله مات في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم - أو في صدر عهد الخلفاء الراشدين لأنه لم يذكر له خبر سوى هذه القصة – فيما أعلم – فلعله مات قديماً فيبعد أن ديناراً سمع منه وإلا يكون دينار من كبار التابعين وهذا بعيد ، ومما يدل على صِغَر دينار أن أبا داود 2322 روى من طريق عيسى بن دينار عن أبيه عن عمرو بن الحارث بن أبي ضرار عن ابن مسعود .. فلعل هذا يدلّ على تأخره ، لأنه روى عن ابن مسعود بواسطة فلو كان من كبار التابعين لروى عنه مباشرة مع أن ابن مسعود تأخر قليلاً ، فقد توفي في خلافة عثمان ، وإن كان هذا لا يلزم ولكن يُستأنس به هنا.
... وأيضاً أن عيسى ابنه متأخر فقد روى عنه وكيع وابن المبارك وأبو نعيم ، لأن وكيعاً وابن المبارك توفيا قرب المائتين ، وأما أبو نعيم فتوفي سنة 217هـ.
... مما يؤيد هذا أن الخبر الذي رواه عن الحارث فيه مواضع كأن ديناراً لم يسمع منه وذلك أن فيه: فلما جمع الحارث الزكاة .. فظن الحارث .. فالله أعلم.(3/35)
... ثم أيضاً هذا الحديث رواه أحمد وابن أبي عاصم 2353 في الآحاد والمثاني وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير 7/371 ، والطبراني 3395 في الكبير ومطين(1) كما في الإصابة 1/281 ، وأبو نعيم في المعرفة 2081 كلهم من طريق محمد بن سابق ثنا عيسى به ولعل محمد بن سابق تفرد به ، وهو إن كان خرّج له الشيخان ولكن فيه بعض الكلام ، قال يعقوب بن شيبة: كان شيخاً صدوقاً وليس ممن يوصف بالضبط للحديث ، وضعفه ابن معين وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وذكر في ترجمته حديثاً أخطأ فيه وقد تفرد به وقال ابن المديني عن هذا الحديث: منكر.
... فإن كان ابن سابق تفرد به فهذا الخبر فيه نظر وتكون هذه علة أخرى. ولذلك قال ابن منده كما في تاريخ ابن عساكر 17/873: هذا حديث غريب لم نكتبه إلا من هذا الوجه وقد روي من وجوه أخر. اهـ. والوجوه الأخر يقصد بها الشواهد التي جاءت بمعنى هذا الحديث ولا يصح منها شيء.
... ولعل خبر عبد الله الهمداني عن الوليد(2) أقوى من هذا الخبر وحده وإن كان جاء ما يشهد لهذا الخبر ولكن كلها لا تصح وهذا الخبر من أحسنها كما ذكر ابن كثير في تفسيره 7/370.
... وأما ما قال أبو عمر بن عبد البر من كون هذا الحديث مضطرب فهذا فيه نظر كما تقدم وأنه ليس بمضطرب ، وأما جهالة أبو موسى الهمداني فتقدم الكلام عليها.
... وأما قوله: إن الزبير وغيره من أهل العلم بالسير ذكروا أن الوليد وعمارة ابني عقبة خرجا ليردا أختهما أم كلثوم ، فهذا من كلام أهل السير وليس له إسناد فيما أعلم.
__________
(1) هو: محمد بن عبد الله الحضرمي وقد روى الطبراني وأبو نعيم في المعرفة هذا الخبر من طريقه وعزاه الحافظ ابن حجر أيضاً إلى ابن السكن وابن مردويه ويبدو أنه من طريق ابن سابق والله أعلم.
(2) الوليد بن عقبة ليس له إلا هذا الخبر ، وخبر آخر رواه الطبراني في الكبير ، وفي إسناده من هو متهم.(3/36)
... أما قوله: ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن أن آية { إِن جَاءكُم فَاسِقٌ } نزلت فيه فالجواب عن ذلك أن أهل العلم مختلفون في ذلك وإن كان أكثرهم ذهب إلى ذلك ولكن خالفهم غيرهم ومنهم أبو عبد الله الحاكم كما تقدم نقل كلامه وأبو بكر الخطيب فقال كما في تاريخ ابن عساكر 17/870 ترجمة الوليد: أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورآه وهو طفل صغير وكان أبوه من شياطين قريش. وقال أبو نصر بن ماكولا نحو ذلك. اهـ.(1)
... فالمسألة فيها خلاف بين أهل العلم والله تعالى أعلم.
... وقد أخرج عبد بن حميد في تفسيره كما في الدر المنثور 7/557 عن الحسن أن رجلاً أتى النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال: إن بني فلان – حياً من أحياء العرب وكان في نفسه عليهم شيء – قد تركوا الصلاة وارتدوا وكفروا بالله فلم يعجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعا خالد بن الوليد .. وذكر قصة طويلة. وهذا الخبر لا يصح أيضاً والشاهد منه أن في الخبر لم يذكر من الذي أخبر الرسول- صلى الله عليه وسلم - عنهم .
* وأما أبو الغادية الجهني فثبت أنه قتل عمار بن ياسر ، فقد أخرج عبد الله بن أحمد (4/76) من طريق ابن عون عن كلثوم بن جبر قال: كنا بواسط عند عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فإذا عنده رجل يقال له أبو الغادية فذكر قصة قتله لعمار.
__________
(1) وينظر العواصم من القواصم لابن العربي ص 290 الطبعة الكاملة.(3/37)
... وأخرجه البخاري في الأوسط (1/189) من طريق ابن عون به ، وأخرج ابن سعد في الطبقات (3/260) قال أخبرنا عفان بن مسلم أخبرنا حماد بن سلمة أخبرنا أبو حفص وكلثوم بن جبر عن أبي الغادية بالقصة ، وأخرج الطبراني في الكبير (22/363) ثنا علي بن عبد العزيز وأبو مسلم الكشي قال ثنا مسلم بن إبراهيم ثنا ربيعة بن كلثوم ثنا أبي قال كنت بواسط فذكر قصة قتله لعمار(1).
... وأخرجه أيضاً (22/364) ثنا أحمد بن داود المكي ثنا يحيى بن عمر الليثي ثنا عبد الله بن كلثوم بن جبر قال سمعت أبي فذكر القصة بنحو ما تقدم.
... أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1120) ثنا إبراهيم بن الحجاج السامي ثنا مزيد(2) بن عامر الهنائي ثنا كلثوم بن جبر قال كنت بواسط فذكر ما تقدم.
... وأخرجه البخاري في الأوسط (1/188) ثنا حرمي بن حفص ثنا مرثد بن عامر به و(1/271) ثنا قتيبة ثنا مرثد به.
... قلت: هذه القصة تدور على كلثوم بن جبر وقد وثقه الجمهور وقال النسائي عنه: ليس بالقوي والإسناد إلى كلثوم صحيح ، وقد جاء من طرق عنه كما تقدم وتابعه عند ابن سعد أبو حفص ولا أدري من هو.
... وهناك جمع ممن يكنّى بهذه الكنية ولكن لم أقف على أحد منهم وذُكر أنه يروي عن أبي الغادية وعنه حماد بن سلمة(3).
__________
(1) وأخرجه الدولابي 1/47 حدثنا هلال حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا ربيعة به وليس فيه قصة القتل.
(2) كذا والصواب مرثد.
(3) أخرج ابن سعد (3/259) في الطبقات أنا محمد بن عمر أنا عبد الله بن جعفر عن ابن عون قال: قتل عمار … أقبل إليه ثلاثة: عقبة بن عامر الجهني وعمر بن الحارث الخولاني وشريك بن سلمة المرادي .. فحملوا عليه جميعاً فقتلوه ، وزعم بعض الناس أن عقبة هو الذي قتله ، ويقال: الذي قتله عمرو بن الحارث . اهـ. وهذا غير صحيح وهو منقطع ، عبد الله بن عوف من كبار أتباع التابعين، ومحمد بن عمر هو الواقدي.(3/38)
... وأما الشهادة له بالنار فقد أخرج أحمد (4/198) ثنا عفان ثنا حماد بن سلمة أنا أبو حفص وكلثوم بن جبر عن أبي الغادية قال: قتل عمار فأُخبر عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن قاتله وسالبه في النار" فقيل لعمرو: فإنك هو ذا تقاتله ، قال: إنما قال: قاتله وسالبه.
... أخرج هذا ابن سعد في الطبقات بنفس الإسناد كما تقدم ، وهذا صحيح إلى أبي الغادية كما تقدم ، لكن قوله: فأخبر عمرو بن العاص … هل يرويه أبو الغادية عن عمرو أو هو من رواية كلثوم بن جبر عن عمرو بن العاص ؟ فإن كان الأول فهو صحيح كما تقدم وإن كان الثاني وهو الأقرب لأن فيه: فأُخبر عمرو ، وفيه أيضاً قيل لعمرو: فإنك هو ذا تقاتله. كأن هذا يفيد أن أبا الغادية لا يرويه عن عمرو ولذلك قال الذهبي في السير (2/544): إسناده فيه انقطاع.
... ولعله يقصد بالانقطاع هو ما تقدم لأن كلثوم بن جبر لا يعرف له سماع من عمرو وإنما يروي عن صغار الصحابة ومن تأخرت وفاته منهم ، بل يروي عن التابعين ، وأبو الغادية يظهر أنه ممن تأخرت وفاته لأن البخاري في تاريخه ذكر أبا الغادية فيمن مات ما بين السبعين إلى الثمانين ، وذكره أيضاً فيمن مات ما بين التسعين إلى المائة ولذلك قال أبو الفضل بن حجر في تعجيل المنفعة 2/520: وعُمِّر عمراً طويلاً . اهـ. وكلثوم صرح بسماعه من أبي الغادية كما تقدم.
... طريق آخر: قال ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (803): ثنا العباس بن الوليد النرسي ثنا معتمر بن سليمان سمعت ليثاً يحدث عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أتى عمرو بن العاص رجلان يختصمان في أمر عمار وسلبه فقال: خلياه واتركاه فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " اللهم أولعت قريش بعمار ، قاتل عمار وسالبه في النار".(3/39)
... وأخرجه الطبراني في الكبير من طريق ليث كما في مجمع الزوائد (9/297) فقد قال الهيثمي: وقد صرح ليث بالتحديث ورجاله رجال الصحيح. اهـ.
... وليث هو ابن أبي سليم وهو ضعيف وقد اختلط وضعفه أكثر أهل العلم ولكن يكتب حديثه.
... أما من جهة المتن فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
... وقد أخرج هذا الحديث الحاكم (3/387) في المستدرك عن محمد بن يعقوب الحافظ ثنا يحيى بن محمد بن يحيى ثنا عبد الرحمن بن المبارك ثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن مجاهد به.
... قال الحاكم: تفرد به عبد الرحمن بن المبارك وهو ثقة مأمون عن معتمر عن أبيه ، فإن كان محفوظاً فإنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وإنما رواه الناس عن معتمر عن ليث عن مجاهد. اهـ.
... قلت: الصواب هو أنه من رواية ليث عن مجاهد ، وأما رواية عبد الرحمن بن المبارك فهي خطأ من جهتين:
أن الأكثر رووه عن معتمر عن ليث كما قال الحاكم(1).
أن عبد الرحمن سلك الجادة في حديث معتمر فرواه عن أبيه لأن كثيراً ما يروي معتمر عن أبيه ، ومن المعلوم عند الحفاظ أن من خالف الجادة يقدم على من سلكها لأن هذا يدل على حفظه.
وأما من حيث المتن فقد جاءت هذه القصة من طرق أخرى عن عبد الله بن عمرو من روايته هو ومن رواية أبيه وليس فيها: قاتل عمار وسالبه في النار.
__________
(1) قلت: عبد الرحمن وعباس يكاد يتقاربان من حيث الثقة ، فقد وثق عبد الرحمن أبو حاتم والعجلي والبزار وخرّج له البخاري ، وأما العباس فقد وثقه ابن معين وقال في رواية: صدوق ، ووثقه ابن قانع والدارقطني وذكره ابن حبان في الثقات وخرّج له الشيخان ، ولكن يقدم عبد الرحمن لأنه لم يتكلم فيه – فيما وقفت عليه – وأما العباس فقال أبو حاتم: شيخ يكتب حديثه ، وكان علي بن المديني يتكلم فيه ولكن الظاهر أن العباس تُوبع في هذا الخبر كما قال الحاكم: إنما رواه الناس عن معتمر عن ليث عن مجاهد.(3/40)
فقد أخرج أحمد (2/164 ، 206) ثنا يزيد أنا العوام ثني أسود بن مسعود عن حنظلة بن خويلد العنبري(1) قال: بينما أنا عند معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار يقول كل منهما أنا قتلته ، فقال عبد الله بن عمرو: ليطب به أحدكما نفساً لصاحبه فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تقتله الفئة الباغية .." وأخرجه ابن سعد (3/253) والبخاري في التاريخ (3/39) والنسائي في الخصائص (164) كلهم من طريق يزيد به ، وقال الذهبي في المعجم المختص بالمحدثين من شيوخه بعد أن رواه ص 96: إسناده جيد فإن الأسود هذا وثقه ابن معين. اهـ.
رواه البخاري في التاريخ (3/39) والنسائي في الخصائص (165) وأبو نعيم في الحلية (7/198) كلهم من طريق محمد بن جعفر عن شعبة عن العوام عن رجل من بني شيبان عن حنظلة بن سويد به.
قلت: الإسناد الأول أقرب لأمرين:
1- شعبة قد يخطئ في الأسماء كما هو معروف.
2- أن يزيد بن هارون معه في هذا الخبر زيادة علم لأنه سمّى شيخ العوام بخلاف شعبة مع أن هذا الاختلاف ليس بالكبير ، والرجل الذي من شيبان هو العنزي السابق ، وشيبان وعنزة يلتقيان في أسد بن ربيعة بن نزار ، شيبان داخله في عنزة الآن – فيما أعلم – لأن أكثر ربيعة داخله الآن تحت عنزة ولعل هذا من قديم جداً كما قد يدل عليه قول شعبة: رجل من بني شيبان(2) وجاء منسوباً إلى عنزة في رواية يزيد بن هارون مع أن هذا المكان ليس موضع الكلام على هذا الإسناد وتحقيقه وإنما المقصود بيان مخالفة الروايات لرواية ليث بن أبي سليم.
__________
(1) كذا والصواب: العنزي وقد اختلف فيه اختلافاً آخر.
(2) ولعل هذا أولى من قول المعلمي في جمعه بين النسبتين فيما علّقه على التاريخ الكبير.(3/41)
... وأخرج ابن سعد 3/253 في الطبقات أنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن الحارث قال: إنني لأسير مع معاوية في منصرفه عن صفين بينه وبين عمرو بن العاص فقال عبد الله بن عمرو: يا أبت ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لعمار: "ويحك يا بن سمية تقتلك الفئة الباغية " فقال عمرو لمعاوية: ألا تسمع ما يقول هذا؟.
... وأخرجه أحمد 2/206 من طريق الأعمش به ، والنسائي في الخصائص 166-168 وذكر الاختلاف في هذا الحديث وجاء نحو هذه القصة من طرق أخرى. ينظر الطبقات 3/253 والحاكم 3/386،387 ومجمع الزوائد 9/297 وغيرها.
... والشاهد مما تقدم أن هذه الطرق ليس فيها ما جاء في رواية ليث إلا ما جاء في رواية أخرجها الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن عمرو وفيها مسلم الملائي وهو ضعيف قاله الهيثمي في المجمع 9/297.
... حديث آخر: قال ابن سعد في الطبقات 3/251: أخبرنا إسحاق بن الأزرق أخبرنا عوف بن الأعرابي عن الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم - يقول: " تقتل عمارأ الفئة الباغية " قال عوف: ولا أحسبه إلا قال: وقاتله في النار. اهـ.
... قلت: هذه الزيادة لا تصح بل هي منكرة لأمرين:
1- أن هذا الحديث جاء من طرق كثيرة من غير طريق عوف الأعرابي من حديث الحسن عن أمه عن أم سلمة عند مسلم وأحمد والطيالسي وابن سعد والبيهقي في السنن والدلائل والنسائي في الكبرى والطبرني في الكبير وأبو يعلى وابن حبان والبغوي في مسند علي بن الجعد والبغوي صاحب شرح السنة وليس فيها هذه الزيادة. بل أخرج الطبراني (23/363) في الكبير من حديث عثمان بن الهيثم وهوذة بن خليفة كلاهما عن عوف به وليس فيه هذه الزيادة.
... والحديث أيضاً جاء عن صحابة آخرين ولا أعلم أنه جاء فيه هذه الزيادة.
2- أن عوفاً شك في هذه الزيادة كما تقدم فكل هذا مما يبين نكارة هذه الزيادة وعدم صحتها.(3/42)
... طريق آخر أخرجه ابن سعد في الطبقات 3/259 والحاكم في المستدرك 3/385،386 من طريق محمد بن عمر وهو الواقدي ثني عبد الله(1) بن الحارث عن أبيه عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عمرو بن العاص أنه قال لمن اختصم في قتل عمار: والله إن يختصمان إلا في النار. اهـ.
... وهذا موقوف ومحمد بن عمر كما تقدم هو الواقدي.
... والخلاصة أن الحديث المرفوع وهو " قاتل عمار في النار " في ثبوته نظر. والله أعلم.
... وأما قصة قتل عمار من قبل أبي الغادية فهذا ثابت ولا شك أن هذا ذنب كبير ولكن لم يقل أحد إن الصحابة لا يذنبون ولا يقعون في الكبائر بل قال تعالى عن آدم عليه السلام: { وعصى آدم ربه فغوى } [طه: 121] ، وقال تعالى عن الأبوين { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } [الأعراف: 23] إلى غير ذلك.
* وبهذا يجاب عن كركرة الذي كان على ثُقل النبي- صلى الله عليه وسلم - فمات فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هو في النار ". فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلّها. أخرجه البخاري في صحيحه 2074.
... وكذلك من وقع في الزنى أو شرب الخمر أو أصحاب الإفك يجاب عنهم بما تقدم.
* وأما الرجل الذي تزوج بامرأة أبيه فهذا لم يثبت أنه مسلم. قال أبو العباس بن تيمية كما في مجموع الفتاوي 20/91: حديث أبي بردة بن نيار لما بعثه النبي- صلى الله عليه وسلم - إلى من تزوج امرأة أبيه فأمره أن يضرب عنقه ويخمس ماله ، فإن تخميس المال دل على أنه كان كافراً لا فاسقاً وكفره بأنه لم يحرم ما حرّم الله ورسوله.
* وأما ما يتعلق بصفين وما جرى بين علي رضي الله عنه ومن معه ومعاوية رضي الله عنه ومن معه. فأقول وبالله التوفيق:
... إن الله تعالى بين كل شيء نحتاج إليه في ديننا. قال تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } [المائدة: 3].
__________
(1) في الطبقات: عبد الحارث وهو خطأ.(3/43)
... وأخرج أحمد 4/126 وابن ماجة (43) وابن أبي عاصم في السنة 33 و 48 و 56 و 1078 والطبراني في الكبير 18/619 وفي مسند الشاميين (2017) والآجري في الشريعة (88) وابن عبد البر 2/181 في جامع بيان العلم وفضله ، كلهم من حديث معاوية بن صالح عن ضمرة بن حبيب عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي أنه سمع العرباض بن سارية يقول: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: " تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك .. " وهو حديث صحيح.
... وأخرج مسلم في صحيحه (2892) من حديث علباء بن أحمد ثني أبو زيد قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفجر وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا.
... وأخرج البخاري (6604) ومسلم (2891) كلاهما من حديث الأعمش عن شقيق عن حذيفة قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقاماً ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به حفظه من حفظة ونسيه من نسيه. هذا لفظ مسلم.
... ومن هذه الأشياء التي ذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم ولذلك لن أذكر إلا ما جاء عن الرسول- صلى الله عليه وسلم - في بيان هذه القضية وحكم من وقع فيها بإذن الله تعالى ، ولن أذكر قال فلان أو فلان إلا ما كان تعليقاً على الأحاديث فأذكر ما جاء عن أهل العلم ما يبين الحديث.(3/44)
... فأقول: لا شك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه أولى بالحق من غيره ، أخرج مسلم (1065) وغيره من حديث القاسم بن الفضل الحداني ثنا أبو نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق".
... وأخرج أيضاً من طريق قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد به ولفظه: "تكون في أمتي فرقتان فتخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحق".
... وأخرج أيضاً من حديث حبيب بن أبي ثابت عن الضحاك المشرقي عن أبي سعيد به ولفظه: "يقتلهم أقرب الطائفتين من الحق".
... قال أبو زكريا النووي في شرحه على مسلم (7/168): هذه الروايات صريحة في أن علياً رضي الله عنه كان هو المصيب المحق ، والطائفة الأخرى أصحاب معاوية رضي الله عنه كانوا بغاة متأولين ، وفيه التصريح بأن الطائفتين مؤمنون لا يخرجون عن الإيمان ولا يفسقون وهذا مذهبنا. ا هـ.
... وقال أبو العباس بن تيمية كما في الفتاوى المجموعة له (4/467): فهذا الحديث الصحيح دليل على أن كلا الطائفتين المقتتلتين علي وأصحابه ومعاوية وأصحابه على الحق ، وأن علياً وأصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه. ا هـ. وذكر نحو هذا ابن العربي في العواصم ص 307 الطبعة الكاملة.(3/45)
... وقال أبو الفداء بن كثير في البداية(1) (10/563): فهذا الحديث من دلائل النبوة لأنه قد وقع الأمر طبق ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفيه الحكم بإسلام الطائفتين أهل الشام وأهل العراق ، لا كما تزعمه فرقة الرافضة أهل الجهل والجور من تكفيرهم أهل الشام ، وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق وهذا مذهب أهل السنة والجماعة ؛ أن علياً هو المصيب وإن كان معاوية مجتهداً في قتاله له وقد أخطأ وهو مأجور إن شاء الله ولكن علياً هو الإمام المصيب إن شاء الله تعالى فله أجران. ا هـ.
... قلت: ويوضح الحديث السابق ما رواه البخاري (3609) ومسلم (2214) كلاهما عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان فيكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة".
... وأخرج البخاري (3608) من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة به ولفظه: "لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان دعواهما واحدة" ، وأخرجه أيضاً (7121) من طريق أبي الزناد عن عبد الرحمن عن أبي هريرة به.
... فهذا الحديث يبين الحديث السابق.
قال أبو الفداء بن كثير في البداية (9/192): وهاتان الفئتان هما أصحاب الجمل وصفين فإنهما جميعاً يدعون إلى الإسلام وإنما يتنازعون في شيء من أمور الملك ومراعاة المصالح العائد نفعها على الأمة والرعايا ، وكان ترك القتال أولى من فعله كما هو مذهب جمهور الصحابة ا. هـ.
... وقال أبو الفضل بن حجر في الفتح 6/616: والمراد بهما من كان مع علي ومعاوية لما تحاربا بصفين ، وقوله "دعواهما واحدة" أي دينهما واحد لأن كلاً منهما يتسمى بالإسلام أو المراد كلاً منهما كان يدعي أنه المحق. ا هـ.
__________
(1) بتحقيق عبد الله التركي ، وقد ذكر وفقه الله تعالى بعض الاختلاف الذي وقع بين النسخ في الكلام الذي تقدم نقله وهو اختلاف يسير.(3/46)
... قلت: قوله أو المراد أن كلاً منهما .. هذا بعيد جداً وذلك لأنه ما من طائفتين يقتتلان في قديم الدهر وحديثه إلا وكل واحدة من الطائفتين تدعي أنها على الحق ، فعلى هذا القول لا يكون للحديث فائدة(1) لأن هذا شيء واضح لا يحتاج إلى توضيح ، وإنما الصواب ما قاله ابن كثير كما هو ظاهر.
... ومما يؤيد الحديث السابق(2) ما رواه البخاري (2812) من حديث خالد بن عكرمة عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية"(3) وأخرجه مسلم (2915) من حديث أبي سعيد عن أبي قتادة (2926) من حديث أم سلمة وجاء من طرق أخرى خارج الصحيح.
__________
(1) ونعوذ بالله تعالى أن يكون كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغواً.
(2) أي حديث أبي سعيد.
(3) هذه اللفظة موجودة في كل نسخ البخاري وإنما في بعضها كما في النسخة اليونينية (6/25) فقد ذكر هذا في الأصل ونفي هذا المزي كما في الأطراف (3/427) وقبله البيهقي كما في دلائل النبوة 2/546 ولكنها ثابتة في بعض النسخ كما تقدم وقد نسبها إلى البخاري ابن تيمية كما في المنهاج (4/414) والفتاوى (4/433) وابن كثير في البداية والنهاية (10/538).(3/47)
... ومما يوضح ما تقدم أيضاً ما رواه البخاري (2704) من حديث الحسن البصري قال: لقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحسن بن علي إلى جنبه ويقول: "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" وأخرجه أيضاً (3629) و(3746) و(7109) وهذا الحديث فيه منقبة كبيرة للحسن وأنه سيد ومن سيادته تنازله عن الخلافة ، وفيه أيضاً وصف للطائفة الذين مع الحسن ومع معاوية بالإسلام ، وهذا الحديث يتضمن منقبة وثناء على معاوية وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مدح فعل الحسن وتنازله عن الملك لمعاوية ولو كان معاوية ليس أهلاً للملك لما مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الصلح الذي فيه تنازل الحسن عن الملك.
... قال أبو الفضل بن حجر في الفتح (6613) تعليقاً على هذا الحديث: وفي هذه القصة من الفوائد: علم من أعلام النبوة ومنقبة للحسن بن علي فإنه ترك الملك لا لقلة ولا لذلة ولا لعلة بل لرغبته فيما عند الله لما رآه من حقن دماء المسلمين فراعى أمر الدين ومصلحة الأمة ، وفيها رد على الخوارج الذي يكفرون علياً ومن معه ومعاوية ومن معه بشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - للطائفتين بأنهم من المسلمين ، ودلالة على رأفة معاوية بالرعية وشفقته على المسلمين وقوة نظره في تدبير الملك ونظره في العواقب. ا هـ.
... وقول ابن حجر: ودلالة على رأفة معاوية … إلى آخر هذا ، أخذه من ثناء الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الحسن عندما تنازل عن الملك لمعاوية كما تقدم.
... وسيرة معاوية رضي الله عنه عندما تولى الملك تشهد بقوة نظره في تدبير الملك وحسن سياسته.(3/48)
... ومما يؤيد هذا ما رواه البخاري (7222 و7223) ومسلم (1821) من حديث عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً" ثم قال كلمة لم أفهمها فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: "كلهم من قريش" وهذا لفظ مسلم.
وأخرجه أيضاً (1821) من طريق حصين عن جابر ولفظه " إن هذا الأمر لاينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة " وفي لفظ عنده من طريق سماك عن جابر: " لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة" ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: "كلهم من قريش" وفي لفظ عنده من طريق الشعبي عن جابر: "لا يزال هذا الأمر عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة".
... وأخرج أيضاً (1822) من طريق عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع: أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكتب إلي: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش".
... فظاهر هذا الحديث يدخل فيه معاوية رضي الله عنه وذلك أنه قرشي وتولى الملك وكان الدين في زمنه عزيزاً منيعاً ، فهذا الحديث ينطبق عليه خاصة في رواية الشعبي وسماك عن جابر "لا يزال هذا الأمر – وفي رواية الإسلام – عزيزاً إلى اثني عشر خليفة" فظاهر هذه الرواية أن هذه العزة والمنعة من أول خليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أبو بكر رضي الله عنه إلى اثني عشر خليفة فيكون معاوية داخلاً فيهم وخاصة أن معاوية بويع من جميع المسلمين وسمي هذا العام بعام الجماعة كما هو معلوم.
... فعلى هذا الحديث أن معاوية خليفة شرعي وأن الدين كان في زمنه عزيزاً منيعاً وهذا لحكمه بالشرع وتطبيقه للسنة وإلا لما كان الدين عزيزاً منيعاً والله تعالى أعلم.
... وأقول أيضاً:(3/49)
... إن معاوية هو أكبر طائفته ومعه عمرو بن العاص ومع ذلك فقد أثنى عليهما الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثناء خاصاً فقال عن معاوية: "اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به" والأصل في دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه مستجاب ، وأخرج البخاري (2924) من طريق عمير بن الأسود العنسي عن أم حرام أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا" وأول جيش غزا البحر من المسلمين كان بقيادة معاوية ، وهذا منقبة عظيمة له ، ومعنى "أوجبوا" أي وجبت لهم الجنة.
... ومن مناقبه اتخاذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - له كاتباً.
... وأما عمرو بن العاص رضي الله عنه فأخرج أحمد (4/203) والنسائي في الكبرى (8301) وابن حبان (7092) وابن عساكر (13/502 و503) في تاريخه وابن أبي عاصم في الآحاد (796) كلهم من طريق موسى بن علي قال: سمعت أبي يقول: سمعت عمرو بن العاص يقول: فزع الناس بالمدينة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فتفرقوا فرأيت سالماً احتبى سيفه فجلس في المسجد فلما رأيت ذلك فعلت مثل الذي فعل فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآني وسالماً وأتى الناس فقال: "أيها الناس ألا كان مفزعكم إلى الله ورسوله؟ ألا فعلتم كما فعل هذان الرجلان المؤمنان؟" وهذا إسناد صحيح.(3/50)
... وقد جاء له شاهد: أخرج أحمد في المسند (2/304 و327 و353 و354) والنسائي في الكبرى (8300) وابن سعد في الطبقات (4/191) وأبو نعيم في المعرفة (4997 و6535) والجورقاني (171) في الأباطيل وابن عساكر في تاريخه (13/502) والطبراني في الكبير (22/177) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (795) كلهم من حديث حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ابنا العاص مؤمنان عمرو وهشام" هذا الإسناد لا بأس به وفيه غرابة ، وقد صححه الحاكم في الموضع الأول على شرط مسلم وقال الجورقاني: هذا حديث حسن مشهور. ا هـ.
... وجاءت نصوص أخرى بهذا المعنى ، ولا شك أن هذه منقبة كبيرة بالشهادة له من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان.
... فهذا بعض ما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه القضايا ، ولا شك أن الواجب على المسلم أن يقبل ويسلم بكل ما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأن هذا مقتضى الإيمان به - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يكون مؤمناً إلا بذلك ، ومقتضى هذا(1) ولازمه محبة أصحاب رسوله - صلى الله عليه وسلم - والثناء عليهم والاستغفار لهم وعدم مسبتهم لا العكس ، وهو الكلام في بعضهم والتفتيش عن بعض عيوبهم والقدح في نفر منهم والتقليل من مكانتهم والتنزيل من علو مرتبتهم ، ويكون هذا ديدنه وهذا الفعل هو هجيراه ومطلبه ويبدي ويعيد في هذه المسألة ويرى الصغير كبيراً ويتبع هواه ويعمل بما دل عليه الباطل ويرضاه.
... ولذلك قال محمد بن إبراهيم بن الوزير في العواصم 3/221: والكلام فيما شجر بين الصحابة مما كثر فيه المراء والعصبية مع قلة الفائدة في كثير منه.
__________
(1) أي النصوص التي جاءت في الثناء على الصحابة.(3/51)
... فنعوذ بالله تعالى من الحور بعد الكور ومن الضلالة بعد الهدى ومن الطغيان بعد الإيمان. وأسأله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا محبة صحابة نبيه - صلى الله عليه وسلم - والاستغفار لهم والإقرار بعلو مكانتهم ، آمين.
... وأما ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم في الجمل فالأمر فيهم أوضح وأبين مما جرى في صفين ، وذلك أن الزبير وطلحة رضي الله عنهما من العشرة المبشرين بالجنة وعائشة هي أم المؤمنين وحبيبة رسول رب العالمين ، وهم لم يخرجوا لطلب الملك أو المشاقة لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وإنما خرجوا من أجل المطالبة بدم عثمان رضي الله عنه والإصلاح بين الناس ، أخرج الإمام أحمد في المسند 6/97 ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم أن عائشة لما أتت على الحوأب سمعت نباح كلاب فقالت: ما أظنني إلا راجعة ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا: "أيتكن تنبح عليها الكلاب الحوأب" فقال لها الزبير: ترجعين ! عسى الله أن يصلح بك الناس.
... وأخرجه أحمد 6/52 ثنا يحيى عن إسماعيل به ولفظه "فقالت: ما أظنني إلا أني راجعة ، فقال بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله عز وجل ذات بينهم" وهذا إسناد صحيح ، وقال ابن كثير في البداية 9/187 عن الإسناد الأول: على شرط الشيخين ولم يخرجوه.(3/52)
... ولذلك قال أبو محمد بن حزم في الفصل 4/158 عن الذين خرجوا إلى البصرة وهم من تقدم: " فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافاً عليه ولا نقضاً لبيعته ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته ، هذا ما لا يشك فيه أحد ولا ينكره أحد ، فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلماً. وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الإراغة والتدبير عليهم فبينوا(1) عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم ، فدافع القوم عن أنفسهم في دعوى حتى خالطوا عسكر علي فدفع أهله عن أنفسهم ، وكل طائفة تظن ولا شك أن الأخرى بُدئ بها بالقتال. واختلط الأمر اختلاطاً لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه والفسقة من قتلة عثمان لا يفترون من شن الحرب وإضرامه. فكلتا الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها مدافعة عن نفسها. ورجع الزبير وترك الحرب بحالها وأتى طلحة سهم غاير وهو قائم لا يدري حقيقة ذلك الاختلاط فصادف جرحاً في ساقه كان أصابه يوم أحد بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانصرف ومات من وقته رضي الله عنه. وقتل الزبير رضي الله عنه بوادي السباع على أقل من يوم من البصرة. فهكذا كان الأمر ا.هـ.
فصل
... كثر كلام أهل العلم بالأمر بالسكوت عما حصل بين الصحابة رضي الله عنهم بل نُقل الإجماع على ذلك ، قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن مذهب أهل السنة وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار حجازاً وعراقاً ومصر وشاماً ويمناً: فكان من مذهبهم .. الترحم على جميع أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله والكف عما شجر بينهم. اهـ. ورواه اللالكائي في السنة 321 وأبو العلاء الهمذاني في ذكر الاعتقاد وذم الاختلاف ص90 ، 91.
__________
(1) هكذا وهو تطبيع والصواب: فبيتوا.(3/53)
... قلت: ودليل هذا هو قوله تعالي: { والذين جآؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم } [الحشر 10]. وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تسبوا أصحابي .." وقد تقدم.
... وأخرج عبد الرزاق في الأمالي (51) ثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذ ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكر النجوم فأمسكوا".
... وهذا إسناد صحيح إلا أنه مرسل وقد جاء من طرق أخرى فأخرجه الطبراني في الكبير 10448 ثنا الحسن بن علي الفسوي ثنا سعيد بن سليمان ثنا مسهر بن عبد الملك الهمذاني عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود به ، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 4/108 وقال: غريب من حديث الأعمش تفرد به مسهر اهـ.
... وهذا لا يصح ، مسهر اختلف فيه ، قال أبو داود: أما الحسن(1)بن علي الخلال فرأيته يحسن الثناء عليه وأما أصحابنا لا يحمدونه ، وذكره ابن حبان في الثقات 9/197 وقال: يخطئ ويهم. وقال ابن عدي في الكامل 6/2449 أخبرنا أبو يعلى ثنا الحسين بن حماد الوراق ثنا مسهر بن عبد الملك بن سلع ثقة. اهـ.
... وقال النسائي: ليس بالقوي ، قال البخاري: فيه بعض النظر. وذكره ابن عدي في الضعفاء 6/2449 وبعد أن ذكر له خبرين قال: ولمسهر غير ما ذكرت وليس بالكثير اهـ.
... قلت: مسهر فيه ضعف وهذا الضعف ليس بالشديد لأن من تكلم فيه كالبخاري قال: فيه بعض النظر والنسائي قال: ليس بالقوي ، فكيف وهناك من قوّاه؟ ولذلك حسن العراقي هذا الإسناد فقال: رواه الطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد حسن. اهـ. من المغنى 78.
__________
(1) هو من الحفاظ ووصف بالعلم بالرجال.(3/54)
... قلت: ولكن تفرده بهذا الخبر عن الأعمش مع الكلام فيه يضعف هذا الخبر وقد جاء هذا الحديث من طريق آخر عن ابن مسعود ولكنه ضعيف جداً وجاء أيضاً من حديث ابن عمر وثوبان ولكنها ليست بشيء وروى أبو موسى المديني كما في أسد الغابة 3/200 من طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الله بن عبد الغافر – وكان مولى للنبي - صلى الله عليه وسلم - - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر النجوم فأمسكوا ، وإذا ذكر القرآن فقولوا كلام الله عز وجل غير مخلوق ومن قال غير هذا فهو كافر". وذكر ذلك ابن حجر في الإصابة 2/337 وعزاه إلى أبي موسى من طريق علي بن محمد المنجوري عن حماد به وقال: في إسناده محمد بن علي الحناحاني. ذكره الحاكم فقال: أكثر أحاديثه مناكير، وأخرجه ابن منده من غير طريقه مختصر لكنه قال: عبيد بن عبد الغافر. اهـ.
... قلت: علي بن محمد(1) ذكره ابن حبان في الثقات 8/466 ونسبه: المنجوراني وقال: يروي عن شعبة وأبي جعفر الرازي ، روى عنه عبد الصمد بن الفضل وأهل بلده. اهـ. وذكره السمعاني في الأنساب وذكر أن ابن حبان ذكره وسكت.
... وآخر هذا الخبر قطعاً لا يصح وإنما هو من كلام أهل العلم ولكن كما تقدم أنه جاء من غير طريق محمد بن علي كما ذكر ابن حجر. وروى الإمام أحمد في الفضائل (19) ثنا وكيع ثنا جعفر – يعني: ابن برقان – عن ميمون بن مهران قال: ثلاثة ارفضوهن: سب أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والنظر في النجوم ، والنظر في القدر. وهذا إسناد صحيح وميمون تابعي وإن كان هذا من كلامه.
__________
(1) وهو غير محمد بن علي الذي ذكره الحافظ.(3/55)
... ولكن مثل هذا الكلام من حيث الأصل لا يقال من قبل الرأي وهذه الأخبار لعل بعضها يقوي بعضاً وإن كانت لا ترقى إلى درجة الثبوت ، ولذلك قال أبو الفرج بن رجب في فضل علم السلف على الخلف ص 26 بعد أن ذكر حديث ابن مسعود: وقد روي من وجوه متعددة في أسانيدها مقال. اهـ. ولكن معناها صحيح وتقدم ذكر النصوص التي تدل على هذا مما سبق ويقويها الإجماع الذي ذكره أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان وهما من كبار أهل العلم في زمانهما كما هو معلوم.
... ومعنى "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا .." وقول أهل العلم بهذا معناه عدم الكلام والقدح فيهم وليس معناه عدم ذكر ما جرى مثلاً في صفين أو الجمل ، فإن هذا أولاً أخبر عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم هو تاريخ ولذلك ذكره ودونه أهل العلم بل وألفت المؤلفات الخاصة في ذلك وأطال الكلام في ذلك ابن جرير وابن كثير وابن حجر وغيرهم من أهل العلم ولكن لم يبنوا على هذا القدح في الصحابة والطعن فيهم ، والله تعالى أعلم.(3/56)
وقد كتب أخونا الشيخ حمد بن عبد الله الحميدي وفقه الله تعالى رسالة قيمة في الثناء على الصحابة رضي الله عنهم وبيان مكانتهم وعلو منزلتهم ، اعتمد فيها على كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما جاء عن الصحابة والسلف في ذلك وسلك فيها منهج السلف من أهل الحديث ، والذي دعاه إلى هذا الحمية الدينية والغيرة الإسلامية فجزاه الله خيراً ووفقه. وردّ في هذه الرسالة على أهل الأهواء والبدع ممن ديدنه إثارة هذه القضايا والبحث في المسائل تاركاً الأهم فالمهم من أمور الإيمان والإسلام وبيان مسائل السنة والقرآن ، وبين ما عنده من باطل وزيف شبهاته(1) بالدليل والبرهان ، فجزاه الله خيراً وزاده من العلم والإيمان.
__________
(1) مع أن هذه الشبهات ليست وليدة اليوم بل قال بها من قبل المعتزلة والشيعة ومنهم الزيدية كما في العواصم والقواصم لابن الوزير (1/394) و(3/142 و223 و252 و259 و262 وغيرها) والعَلم الشامخ للمقبلي ص 373 وما بعدها ، وأبو ريّه وغيرهم من أهل البدع.(3/57)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له رب السماوات والأرض وما بينهما ورب العرش العظيم ، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله المبشر النذير والسراج المنير – صلى الله عليه وسلم – وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد :
فإن من العقائد والأصول المقررة في الإسلام حب الصحابة من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان واعتقاد فضيلتهم وصدقهم والترحم على صغيرهم وكبيرهم وأولهم وآخرهم وصيانة أعراضهم وحرماتهم فذلك أمر ضروري وهو أحد الضروريات الخمس – الدين والنفس والنسل والعقل والمال – التي جاءت الشريعة بالمحافظة عليها وضبط حقوقها (1) والأخذ على يد من هتكها ، وقد قال النبي – صلى الله عليه – وسلم في مجمع عظيم من أعظم مجامع المسلمين ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا فليبلغ الشاهد الغائب ) رواه البخاري (67) ومسلم (1679) من طريق ابن سيرين عن عبدالرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة رضي الله عنه .
فهتك عرض المسلم والجناية عليه عظيم عند الله ورسوله والمؤمنين ، وهو من كبائر الذنوب ومن التشبه بالمنافقين وأعظم منه غمس الألسنة والأقلام في أهل العلم ومحاولة إسقاط قدرهم بأوهام من هنا وهناك والإيغال بالدخول في نياتهم ومقاصدهم والصد عن سبيلهم والاستخفاف بحقوقهم .
قال الإمام عبدالله بن المبارك رحمه الله ( من استخف بالعلماء ذهبت آخرته ) (2).
__________
(1) انظر الموافقات (1/31) للشاطبي .
(2) سير أعلام النبلاء (8/408 _ 17/251) .(4/1)
وقال الإمام الطحاوي في عقيدته : ( وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر – لا يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل ) (1) .
وقال الحافظ ابن عساكر : ( واعلم يا أخي - وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته - أن لحوم العلماء - رحمة الله - عليهم مسمومة ، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة ؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم ، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم ، والاختلاق على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم ) (2) .
وأكبر ظلماً وأسوأ حالاً من هذه البلية العظيمة احتراف هذه الظاهرة في الصحابة الكرام وإطلاق العنان للسان يفري في أعراضهم وعدالتهم ويحطم حقائق تاريخهم .
وقد عدَّ أهل العلم ذلك زندقة وقرروا أنه ( لا يبسط لسانه فيهم إلا من ساءت طويته في النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحابته والإسلام والمسلمين ) (3) .
فهم خير الناس للناس وأفضل تابع لخير متبوع وهم الذين فتحوا البلاد بالسنان والقلوب بالإيمان ، ولم يعرف التاريخ البشري منذ بدايته تاريخاً أعظم من تاريخهم ولا رجالاً دون الأنبياء أفضل منهم ولا أشجع ، ومن داخله شك في هذا فلينظر في سيرهم على ضوء الأحاديث الصحيحة والآثار الثابتة يرى أمراً هائلاً من حال القوم وعظيم ما آتاهم الله من الإيمان والحكمة والشجاعة والقوة .
وحين ضن غيرهم بالنفس والمال واستثقلوا مفارقة الأهل والولدان استرخصوها في إقامة الدين وتمكين الأمم والشعوب من العيش في أمن ورغد تحت حكم الإسلام فلا كان ولا يكون مثلهم فهم غيض العداء وأهل الولاء والبراء وأنصار الدين ووزراء رسول رب العالمين .
__________
(1) العقيدة الطحاوية ( ص 58 ) بتعليق الشيخ الألباني رحمه الله .
(2) تبيين كذب المفتري ( ص 49 ).
(3) كتاب الإمامة ( ص 376 ) للإمام أبي نعيم الأصبهاني .(4/2)
وقد اصطفاهم الله لصحبة نبيه ونشر دينه فأخرجوا من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور أهل الطغيان إلى عدل الإسلام ، وعلى أيديهم سقطت عروش الكفر وتحطمت شعائر الإلحاد وذلت رقاب الجبابرة والطغاة ودانت لهم الممالك .
ولذا رأيت أن من خير الزاد ليوم المعاد تحريك القلم بلطائف من الإشارات المهمة وشذرات من المعارف المختصرة لدفع عدوان الظالمين وكشف زوبعة المتعالمين وتبرئة الصحابة المتقين ومناصرتهم من أقلام الحاقدين وجهلة الأدباء والمؤرخين الخائضين في هذا المقام الكبير بالجهل والهوى وقلب الحقائق والاعتماد في ذلك على الآثار الضعيفة والأخبار الواهية والمتروكة .
وقد زاد جرم هؤلاء وعظم فعلهم حين طعنوا في كوكبة من الصحابة وأوغروا الصدور عليهم بسوء الظن وفرض احتمالات وتكهنات ليس لها أصل في الشرع ولا مكان في العقل في حين ترى بعضاً من أولئك يحسنون الظن بالرافضة ودعاتهم والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية ومدارسهم ويعظمون رجالات الفكر المنحرفين وزعماء الفساد الملحدين ويحتفون بكتبهم وآرائهم ويضفون عليها الدقة في التحقيق والسلامة في القصد والعظمة في الإنصاف .
وقد لقيت نفراً ممن تشبعت نفوسهم بهذا الفكر ، فكانت بداية الحديث عن العدل والإنصاف وحفظ حقوق العلماء والمجتهدين وأهل الفكر والأدب من المسلمين فعّمت الارتياحية وهشّوا وبشوا وبلغ التفاعل والحماس أشده ، وكنت أوافقهم على هذا الأصل ومشروعية العدل في تقويم الناس والحديث عن جهودهم بيد أن القوم يرمون إلى شيء ، فحين جاء الحديث عن الصحابة ومنزلتهم وضلال أعدائهم غاب العدل عن وعيهم وعميت بصيرتهم عن ذلك .(4/3)
فتسارعوا في الكذب ورواية الأباطيل وجهدوا في تنقص أفراد من مسلمة قبل الفتح وجماعات ممن أسلم بعد ذلك ، وبالأخص معاوية - رضي الله عنه - فتعجبت حينئذ من دعواهم الإنصاف والمطالبة بالعدل في الحكم على الآخرين وهم يلوكون ألسنتهم في جند الله المفلحين الذين أقام الله بهم دينه ودفع بهم بأس أعدائه .
وعجلت آنذاك إلى الله وجهدت في الهرب من غضبه وسخطه فأطلقت العنان للّسان يبين سوء منهجهم ويبدي عظيم فعلهم وفساد أفكارهم .
وبسطت القول في حقوق الصحابة وكبير منزلتهم ولا سيما معاوية - رضي الله عنه - فقد ناله من سلاطة ألسنتهم ما لم ينل غيره .
فما كان جوابهم إلا أن قالوا هذه المسألة اجتهادية وليست من القطعيات فعلمت حينئذ أنهم دعاة هدم وفساد وليسوا من الإصلاح والعدل بشيء .
فإلى البيان في نصرة أئمة الدين وحماية أعراض زعماء تاريخ الأمة الإسلامية من مفتريات المفتونين بتصيد العثرات والتجريح بالشهوات .
فصل
من سمات أهل السنة والجماعة وعلامات أهل الأثر والاتباع سلامة قلوبهم وألسنتهم للصحابة الأخيار وحملة الشريعة الأتقياء الأبرار والذب عن حرماتهم وأعراضهم من رموز الجراحين وثلب العابثين وألسنة الحاقدين ، والزجر والتغليظ على من تعلق بخيوط الأوهام وبات في أودية الظلام فغمس لسانه في البهت والآثام وسلب من الصحابة العدالة وجعلهم كسائر الأنام لهم مالهم وعليهم ما عليهم فولغ في حرماتهم وأعراضهم وجمع مساويهم وعثراتهم .(4/4)
وقد أنكر الإمام أحمد – رحمه الله – على من جمع الأخبار التي فيها طعن على بعض أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وغضب لذلك غضباً شديداً وقال : ( لو كان هذا في أفناء الناس لأنكرته ، فكيف في أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقال : أنا لم أكتب هذه الأحاديث ، قال المروذي : قلت لأبي عبدالله : فمن عرفته يكتب هذه الأحاديث الرديئة ويجمعها أيهجر؟ قال : نعم يستأهل صاحب هذه الأحاديث الرديئة الرجم ) رواه الخلال في السنة (3/501) بسند صحيح (1).
وقد امتطى هذه الأخبار المروية في مساويهم دعاة الفتنة والضلالة فاستخفوا بحرمات المؤمنين ووزراء رسول رب العالمين فبسطوا ألسنتهم في تجريحهم والتشفي منهم بضروب من التطاول والقذف بالباطل ، وهذه التربص منتهاه نزع الثقة عن خيار الأمة والتشكيك في أعمالهم وفتوحاتهم وعلومهم وعدالتهم ، وقد مضت الأمة خياراً عن خيار على مدح الصحابة والثناء عليهم وحسن الظن بهم والكف عن مساويهم وسوء الظن بهم .
__________
(1) وانظر الشرح والإبانة لابن بطة ص (268-269) والحجة في بيان المحجة للإمام الأصبهاني (2/368-371) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للإمام اللالكائي (7/1241-1270) وعقيدة السلف وأصحاب الحديث للإمام أبي عثمان الصابوني = ص (80-81) والعقيدة الطحاوية ص (57) بتحقيق الشيخ الألباني -رحمه الله - والصارم المسلول على شاتم الرسول لشيخ الإسلام (3/1085)(4/5)
فيا ويل من تعرض لهم بسوء وأوقد نار الفتنة وجرأ السفهاء والغوغاء على الوقيعة فيهم وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ، ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نصيفه ) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد به (1) ، ورواه مسلم في صحيحه من طريق جرير عن الأعمش بلفظ : ( كان بين خالد بن الوليد وبين عبدالرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – لا تسبوا أحداً من أصحابي ... ) وهذه الزيادة في سبب ورود الحديث غير محفوظة ، فقد رواه عن الأعمش سفيان الثوري (2) وشعبة ووكيع وأبو معاوية وغيرهم وهم أضبط وأحفظ الناس لحديث الأعمش ولم يذكروا هذه الزيادة على أنه قد اختلف على جرير فيها فقد رواه ابن ماجه ( 161) عن محمد بن الصباح عن جرير (3)بدونها ولذا أعرض عنها البخاري – رحمه الله – وقال مسلم – رحمه الله - في صحيحه ( 4/1968) بعد ذكر الرواة عن الأعمش ( وليس في حديث شعبة ووكيع ذكر عبدالرحمن بن عوف وخالد بن الوليد ) وهذا هو الصواب ، وروى أحمد في فضائل الصحابة (4) وابن ماجه (5) بسند صحيح من طريق سفيان عن نُسيرين ذُعلُوق وهو ثقة ، قال : كان ابن عمر يقول : ( لا تسبوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم – فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عُمرَه ) .
__________
(1) البخاري رقم (3673) ومسلم رقم ( 2541) ج (4/ 1967)
(2) رواه ابن أبي عاصم في السنة (988) عن عباس بن الوليد حدثنا بشر بن منصر عن سفيان به ، وجاء في زيادات القطيعي على فضائل الصحابة لأحمد ( 1/365) رواية الخبر من طريق سفيان عن الأعمش بالزيادة والأول أصح .
(3) وقد جعله من مسند أبي هريرة وهذا غلط .
(4) ج(1/57 ) .
(5) رقم (162) .(4/6)
وقال الإمام محمد بن صُبيح بن السماك (1) " علمت أن اليهود لا يسبون أصحاب موسى - عليه السلام - وأن النصارى لا يسبون أصحاب عيسى - صلى الله عليه وسلم – فما بالك يا جاهل سببت أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – وقد علمتُ من أين أُتيت ، لم يشغلك ذنبك ، أما لو شغلك ذنبك لخفتَ ربك ، لقد كان في ذنبك شغل عن المسيئين فكيف لم يشغلك عن المحسنين ، أما لو كنت من المحسنين لما تناولت المسيئين ولرجوت لهم أرحم الراحمين ، ولكنك من المسيئين ، فمن ثَّم عبت الشهداء والصالحين ، أيها العائب لأصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – لو نمت ليلك وأفطرت نهارك لكان خيرا لك من قيام ليلك وصوم نهارك مع سوء قولك في أصحاب محمد ، فويحك ! لا قيام ليلٍ ولا صوم نهار وأنت تتناول الأخيار ، فأبشر بما ليس فيه البشرى إن لم تتب مما تسمع وترى ويحك ! هؤلاء شرفوا في أُحد وهؤلاء جاء العفو عن الله تعالى فيهم فقال : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } آل عمران آية (155) فما تقول فيمن عفا الله عنه ؟ وبمَ تحتج يا جاهل إلا بالجاهلين ، شر الخلف خلفُُُُ شتم السلف ، والله لواحد من السلف خير من ألف من الخلف " (2) .
__________
(1) انظر ترجمته في تاريخ بغداد (5/368) .
(2) رواه المعافى بن زكريا الجريري في كتابه الجليس الصالح (2/392) بأطول من هذا .(4/7)
وقد اتفق أهل العلم على أنهم خير الناس بعد الأنبياء فقد جاء في الصحيحين من طريق إبراهيم عن عبيدة عن عبدالله - رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال ( خير الناس قرني ... ) (1) وأفضل الصحابة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين وأدلة هذا كثيرة وعامة أهل العلم على هذا ، وقد جعل الله جل وعلا بقاء الصحابة أمنة للأمة فإذا ذهب قرنهم وانقرض جيلهم حلت بمن بعدهم الفتن وظهرت البدع وفشا الجور والفساد ففي صحيح مسلم (2)من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبي بردة عن أبيه قال : صلينا المغرب مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم قلنا : لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء ، قال : فجلسنا فخرج علينا فقال : ( ما زلتم ههنا ؟) قلنا : يا رسول الله ، صلينا معك المغرب . ثم قلنا ، نجلس حتى نصلي معك العشاء ،قال : ( أحسنتم أو أصبتم ) قال فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً مما يرفع رأسه إلى السماء فقال ( النجوم أمنة للسماء . فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد . وأنا أمنة لصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي ، فإذا ذهب أصحابي أتى لأصحابي متى ما يوعدون ) .
وهذا دليل على فضلهم وعظيم ما دفع الله بهم من البدع والفتن والجور والفساد فلا جرم أن جعلهم الله وزراء نبيه وحزب خليله .
قال عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – ( إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد – صلى الله عليه وسلم – خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب الصحابة خير قلوب العباد فجعلهم الله وزراء نبيه يقاتلون على دينه ) رواه الإمام أحمد (1/379) من طريق عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن عبدالله وسنده حسن .
__________
(1) البخاري (2652) ومسلم (2533).
(2) رقم (2531) .(4/8)
وذكر قتادة عن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : ( من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً وأقومها هدياً وأحسنها حالاً ، قوماً اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه – صلى الله عليه وسلم – فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ) رواه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله (1) وفيه انقطاع ، فقد توفي ابن مسعود قبل أن يولد قتادة .
__________
(1) 2/97) ورواه أبو نعيم في الحلية (1/305) من طريق عمر بن نبهان عن الحسن عن عبدالله ابن عمر - رضي الله عنه – وسنده ضعيف ، عمر بن نبهان : ضعفه يعقوب بن سفيان والعقيلي وجماعة ، وقال يحيى بن معين : ليس بشيء ، وعنه : ثقة ، وقال البخاري : لا يتابع على حديثه ، وقال ابن حبان في المجروحين (2/90) : يروي المناكير عن المشاهير فلما كثر ذلك في حديثه استحق الترك .
وقال ابن حجر في التقريب (4975) ضعيف ، وهذا العدل فيه .والحسن عن ابن عمر قيل :لم يسمع ، وفيه نظر . قال بهز : سمع حديثاً " المراسيل لابن أبي حاتم ص43 " .
وقال أحمد وأبو حاتم : سمع الحسن من ابن عمر " المراسيل ص 43-44 " . وقيل لأبي زرعة : الحسن لقي ابن عمر ؟ قال : نعم .
وروى الخبر الآجري في الشريعة (1161) وابن عبدالبر (2/97) من طريق الدورقي نا حكّام بن سلم الرازي عن عمرو بن أبي قيس عن عبدربه قال كان الحسن في مجلس فذكر أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فقال ( إنهم أبرّ هذه الأمة قلوباً ... ) وهذا أصح .(4/9)
قال شيخ الإسلام –رحمه الله - : ( وقول عبدالله بن مسعود : كانوا أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً ؛ كلام جامع بيّنَ فيه حسن قصدهم ونياتهم ببر القلوب وبين فيه كمال المعرفة ودقتها بعمق العلم ، وبين فيه تيسر ذلك عليهم وامتناعهم من القول بلا علم بقلة التكلف ) (1) .
وقال الإمام ابن أبي حاتم – رحمه الله – ( فأما أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا التفسير والتأويل وهم الذين اختارهم الله - عز وجل - لصحبة نبيه – صلى الله عليه وسلم – ونصرته وإقامة دينه وإظهار حقه فرضيهم له صحابة وجعلهم لنا أعلاماً وقدوة فحفظوا عنه – صلى الله عليه وسلم – ما بلغهم عن الله - عز وجل - وماسن وما شرع وحكم وقضى وندب وأمر ونهى وأدب ، ووعوه وأتقنوه ففقهوا في الدين وعلموا أمر الله ونهيه ومراده بمعاينة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله وتلقفهم منه واستنباطهم عنه ، فشرفهم الله - عز وجل - بما مَنَّ عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة فنفى عنهم الشك والكذب والغلط والريبة والغمز وسماهم عدول الأمة ، فقال - عز ذكره - في محكم كتابه : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } (البقرة آية (143) ففسر النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الله - عز ذكره - قوله : ( وسطاً قال : عدلاً ، فكانوا عدول الأمة وأئمة الهدى وحجج الدين ونقلة الكتاب والسنة . وندب الله -عز وجل - إلى التمسك بهديهم والجري على منهاجهم والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم فقال : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى... } ( النساء آية (115) (2) . )
__________
(1) منهاج السنة (2/79 ) .
(2) انظر كتاب الجرح والتعديل (1/7) .(4/10)
وقال الإمام أبو نعيم الأصبهاني – رحمه الله – عن الصحابة : ( سمحت نفوسهم – رضي الله عنهم – بالنفس والمال والولد والأهل والدار ، ففارقوا الأوطان وهاجروا الإخوان وقتلوا الآباء والإخوان وبذلوا النفوس صابرين وأنفقوا الأموال محتسبين وناصبوا من ناوأهم متوكلين ، فآثروا رضاء الله على الغناء ، والذل على العز ، والغربة على الوطن ، هم المهاجرون الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون حقاً ، ثم إخوانهم من الأنصار أهل المواساة والإيثار أعز قبائل العرب جاراً ، واتخذ الرسول – عليه السلام - دارهم أمناً وقراراً ، الأَعفّاء الصبر والأصدقاء الزهر { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } ( الحشر آية (9) .
فمن انطوت سريرته على محبتهم ودان الله تعالى بتفضيلهم ومودتهم وتبرأ ممن أضمر بغضهم فهو الفائز بالمدح الذي مدحهم الله تعالى فقال :{ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيم ٌ(10) } ( الحشر) .
فالصحابة - رضي الله عنهم - هم الذين تولى الله شرح صدورهم فأنزل السكينة على قلوبهم وبشرهم برضوانه ورحمته فقال : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ }( التوبة آية (21) ) .(4/11)
جعلهم خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويطيعون الله ورسوله فجعلهم مثلاً للكتابين لأهل التوراة والإنجيل خير الأمم أمته وخير القرون قرنه يرفع الله من أقدارهم إذ أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمشاورتهم لما علم من صدقهم وصحة إيمانهم وخالص مودتهم ووفور عقلهم ونبالة رأيهم وكمال نصيحتهم وتبين أمانتهم رضي الله عنهم أجمعين ) (1).
وهذا محل اتفاق من أهل السنة فلا كان ولا يكون مثل الصحابة – رضي الله عنهم – في إمامتهم وفضلهم وسبقهم وعلو مقامهم بالأمر والنهي والعلم والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله ولهذا قيل : ( كل خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإيمان والإسلام والقرآن والعلم والمعارف والعبادات ودخول الجنة والنجاة من النار وانتصارهم على الكفار وعلو كلمة الله فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة الذين بلغوا الدين وجاهدوا في سبيل الله ، وكل مؤمن آمن بالله فللصحابة – رضي الله عنهم – الفضل إلى يوم القيامة ) (2) .
__________
(1) الإمامة والرد على الرافضة (209-211) .
(2) من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - ، وانظر طريق الهجرتين للإمام ابن القيم – رحمه الله – ( ص 362 ) .(4/12)
وقد قال تعالى – في فضلهم ومآلهم – { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ُ(100)} ( التوبة ) . والمراد بالذين اتبعوهم بإحسان هم الذين تأخر إسلامهم من الصحابة - رضي الله عنهم - قاله جماعة من أهل العلم ويؤيده ما قاله الحافظ العلائي رحمه الله ( بأن الآيات كلها فيما يتعلق بالمتخلفين عن النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين في غزوة تبوك فأتبع الله ذلك بفضيلة الصحابة الذين غزوا معه صلى الله عليه وسلم وقسمهم إلى السابقين الأولين ومن بعدهم ثم أتبع ذلك بذكر الأعراب وأهل البوادي الذين في قلوبهم نفاق أو لم يرسخوا في الإسلام فقال تعالى { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ } التوبة (101) . فدل على أن المراد بالذين اتبعوهم بإحسان هم بقية الذين تأخر إسلامهم ، فشملت الآية جميع الصحابة ) (1).
ولفظ الصحبة يصدق على كل مسلم لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو لحظة ومات على ذلك ، ومن ثبت له شرف الصحبة لا يتطلب شروط التعديل بل يُكتفى بشرف الصحبة تعديلاً .
__________
(1) كتاب تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة ص 63.(4/13)
وقد زعم بعض أهل الأهواء أن الصحبة لا تصح إلا لمهاجري وأنصاري وحينئذ لا تثبت عدالة من جاء بعدهم إلا بما تثبت به عدالة غيرهم من التابعين فمن بعدهم ، وهذا غلط لم يقل به أحد من أهل السنة ، ونظيره المذهب المروي عن سعيد بن المسيب أنه لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة أو سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين وهذا لا يصح (1) عن سعيد والإجماع على خلافه ، قال الحافظ العلائي - رحمه الله - ( والإجماع منعقد في كل عصر على عدم اعتبار هذا الشرط في اسم الصحابي - كيف والمسلمون في سنة تسع وما بعدها من الصحابة آلاف كثيرة وكذلك من أسلم زمن الفتح من قريش وغيرها ولم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا زمناً يسيراً واتفق العلماء على أنهم من جملة الصحابة ) .(2)
__________
(1) انظر التقييد والإيضاح ( ص 297 ) للحافظ العراقي .
(2) كتاب تحقيق منيف الرتبة ( ص 43 ) وانظر فتح الباري ( 7/4 ).(4/14)
وقال تعالى في مدح الصحابة : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(29) } (الفتح) ، وقال تعالى :{ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(10) } (الحديد).
وأكثر أهل العلم على أن المراد بالفتح هنا فتح مكة وقيل الحديبية وفيه نظر ، وقد ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله – فتح مكة وأنه ( الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين ، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين ، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء ، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء ودخل ا لناس به في دين الله أفواجاً ، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجاً ، خرج له رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بكتائب الإسلام وجنود الرحمن سنة ثمان لعشر مضين من رمضان ) (1) وهذا فتح مكة لأن الحديبية كانت في السنة السادسة في ذي القعدة على قول عروة في أحد قوليه والزهري ومحمد بن إسحاق وغيرهم .
__________
(1) زاد المعاد ( 3/394 )(4/15)
وقد أنزل الله - جل وعلا -على نبيه – صلى الله عليه وسلم – منصرفه من الحديبية { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) }( الفتح ) فسمى الله تعالى هذا الصلح فتحاً وأما الفتح المذكور في سورة الحديد وسورة النصر وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا هجرة بعد الفتح ) متفق عليه من حديث ابن عباس ،فلا ريب أنه فتح مكة فهو الفتح الأعظم وهذا أمر واضح .
والمقصود بيان دلالة الآية على عظيم مقام الصحابة وكبير قدرهم وعلى تفاوت منازلهم وتفضيل بعضهم على بعض وأن من أنفق من قبل فتح مكة وقاتل أعظم أجراً وأعلى منزلة ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل وقد وعد الله – تعالى - كلاً من الطائفتين الجنة . فتحقق بهذا أن من أسلم بعد فتح مكة من الطلقاء وغيرهم وجاهد في سبيل الله وأنفق ماله أنه داخل في قوله تعالى :{ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } ( النساء آية (95) ) .
فمن أعمل لسانه وسخر قلمه في الطعن فيهم أو رميهم بالنفاق أو شكك في إسلامهم وأورد الاحتمالات بدون بيان من الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – وبدون برهان قام عليه الدليل فقد ردَّ على الله خبره وافترى على هؤلاء الصحابة بهتاناً وإثماً مبيناً ، ومثل هذا لا يصدر إلا ممن قلَّ دينه وعظم ظلمه واسودَّ قلبه وبلغ منه الجهل بالكتاب والسنة وسيرة القوم مبلغاً عظيماً وقد قال شيخ الإسلام – رحمه الله- : ( فالطلقاء الذين أسلموا عام الفتح مثل معاوية وأخيه يزيد وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو قد ثبت بالتواتر عند الخاصة إسلامهم وبقاؤهم على الإسلام إلى حين الموت ) (1)
__________
(1) الفتاوى (4/466 ) .(4/16)
وقال - تعالى - في وصف المهاجرين ومدح الأنصار وذكر من أسلم بعدهم وسار على طريقتهم : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) } ( سورة الحشر ) .
... فاحفظ يا رعاك الله ثناء الله عليهم ورضاه عنهم ولا يكن في قلبك غِل على أحد منهم فإن هذا من أعظم خبث القلوب ، واستوص بهم خيراً ففي سبيل ذلك تهون الأرواح والدماء .(4/17)
بخلاف محترف الطعن وسوء الظن ، فقد اتعب نفسه وآذى غيره ، فركض وراء السراب وطعن في بعضهم بشبهة أحاديث ضعيفة ومكذوبة وأخبار لها محامل حميدة فقلبها هفوات ومثالب ، ونذر نفسه للوقيعة في أبي هريرة وجعله شخصية متأثرة بكعب الأحبار ، وشخصية توظف النصوص لصالح الأمويين (1)
__________
(1) السلطة في الإسلام ( ص 265- 275 ) وهذا شأن بعض الكتّاب المعاصرين المتأثرين بالمستشرقين وبآراء النظّام رخص عليهم دينهم ، فنصبوا أنفسهم حكاماً على أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقلبوا الحقائق وأتوا بالعجائب فطعنوا في أبي هريرة تصريحاً لا تلويحاً وزعموا ( أن معظم الإسرائيليات التوراتية وغير التوراتية التي تسربت إلى كتب الأحاديث بما فيها الصحيحان هي من مرويات تلاميذ كعب وعلى رأسهم أبو هريرة ...) وقد جعل هؤلاء من كعب شخصية تعمل على نشر اليهودية والكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم –وهذا كلام ليس فيه شيئ من البيان والحجة ومصدره الهوى والجهل أو الخبيئة السيئة ، ولم يذكر قائله دليلاً ولا شبهة دليل على فريته ، ولوحصل شيء من هذا لنهض إليه الصحابة وفصلوا رأسه عن جسده ، فقد كان يعيش بينهم ويأخذ عنهم السنن ولم يعيبوا عليه سوى إكثاره من التحديث عن أهل الكتاب وإتيانه بالغرائب والعجائب ، على أن بعضاً مما يُنقل عنه لا أصل له ولم يأت عنه من وجه يصح .
وقد ذكر الحافظ الذهبي في السير (3/489) ( أنه كان حسن الإسلام متين الديانة من نبلاء العلماء ... ) وقد سمع منه أبو هريرة – رضي الله عنه – بعض الشيء من أخباره عن بني إسرائيل ، وعُذره في ذلك ترخيص النبي – صلى الله عليه وسلم – بالتحديث عنهم رواه البخاري ( 3461) في صحيحه عن عبدالله بن عمرو بن العاص فبسط بعض أهل الأهواء لسانه واتخذ من ذلك طعناً في أبي هريرة وتشكيكاً في مروياته واختلاطها بالإسرائيليات ، وهذا تحامل عظيم وطعن في الشريعة قبل أن يكون طعناً في أبي هريرة رضي الله عنه.
ومثل هذا الإفك المبين لو علم قائله حقيقته لأمسك عنه فهذا لا يقوله مسلم ولا ينطق به عاقل ، فقد كان أبو هريرة من أحفظ الناس للأحاديث باتفاق الأئمة ، وأضبطهم وأكثرهم تمييزاً لما يروي ولا يمكن أن تختلط عليه حكايات يسيرة سمعها من كعب الأحبار بكلام المصطفى – صلى الله عليه وسلم – ويؤيد هذا أن أبا هريرة – رضي الله عنه – لم يكن ينسى شيئاً سمعه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فروى البخاري – في صحيحه (119) من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : (( قلت – يا رسول الله – إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه ، قال : ابسط رداءك فبسطته قال : فغرف بيديه ثم قال : (( ضمه ))فضممته فما نسيت شيئاً بعده )) رواه البخاري (7354) ومسلم (2492) من طريق الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ آخر .(4/18)
، وآخر صبَّ شآبيب غضبه على معاوية وعمرو بن العاص وعبدالله بن الزبير - رضي الله عنهم - ممتطياً في ذلك الدفاع عن أهل البيت (1) محتمياً بشبه كسراب بقيعة نعوذ بالله من الزيغ بعد الهدى فقد سلم منه اليهود والنصارى وقادة الكفر والضلال ولم يسلم من زوبعته أئمة الدين وغيض الأعداء ألا شاهت هذه الجهود وخابت مساعيهم .
__________
(1) وهذه الفئة ليس لها ثوابت شرعية تزن بها الأمور ، والغاية من منهجها غير واضح ومعالمه مشتبهة ، وقد قرأت كتاب الرسالة المنقذة للزيدي المستوري ، وكتاب عدالة الرواة والشهود للزيدي المرتضى المحطوري فوجدت تشابهاً في الطرح والعرض ، واتفاقاً في الطعن في بعض الصحابة . ورأيت في كلامهم تناقضات ، وخللاً في التقويم ، وتطفيفاً في الحكم . وقد تبين من مقالاتهم أنه لا يمكن نصر الحق إلا بشيء من الباطل ولا يتم تمييز الحق من الباطل إلا بالجور والعصبية والحمل على الأبرياء فمن ذلك أنه لا يمكن حب أهل البيت ونصرتهم وبيان محاسنهم وفضائلهم إلا بالطعن في معاوية – رضي الله عنه - ومن معه ، وهذا من الجهل والضلال ونصر الحق بالباطل ، فالطعن في آحاد الصحابة من أجل أهل البيت أو غير ذلك عمىً عن الحق وتوغل في الباطل ، فأهل السنة الذين هم أهلها يحبون أهل البيت بدون غلو ولا إطراء ويتولونهم ويذبون عن أعراضهم وحرماتهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يتولون عامة الصحابة ويعرفون لهم منزلتهم ولا يسبون أحداً منهم ، فهم وسط بين الرافضة والنواصب ، فالرافضة لما كانوا أعظم الناس تركاً لما أمر الله به وإتياناً لما حرم الله كفّروا عامة الصحابة إلا أهل البيت فقد غلوا فيهم وأضفوا عليهم خصائص الرب تبارك وتعالى ؛ والنواصب لما كثر جهلهم وغلظت طباعهم وكثر فيهم الشقاق والنفاق تبرؤا من أهل البيت ونصبوا العداوة لهم نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى .(4/19)
ومن هنا كان الطعن في أبي هريرة راوية الإسلام أو معاوية بن أبي سفيان أحدكتّاب الوحي (1) للنبي – صلى الله عليه وسلم – دركاً للنيل من حُرَّاس الشريعة الآخرين فالمقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب تُفضي وتؤول إليها ، وحينئذ تأخذ الوسائل أحكام المقاصد .
وقد كان أئمة السلف يقولون : ( معاوية - رضي الله عنه – بمنزلة حلقة الباب من حرَّكه اتهمناه على من فوقه ) (2)
وقال الربيع بن نافع : ( معاوية بن أبي سفيان ستر أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه ) (3) من المهاجرين والأنصار وساقه ذلك إلى جحد الكتاب وتكذيب السنة والطعن في رسول الله – صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) جاء هذا بأسانيد صحيحة ، وفي صحيح مسلم (2501) من طريق عكرمة حدثنا أبو زُميل حدثني ابن عباس : أن أبا سفيان طلب من النبي –صلى الله عليه وسلم – أن يجعل معاوية كاتباً بين يديه . فقال : نعم ... ) وقد تكلم بعض أهل العلم في هذا الإسناد ، واتهموا به عكرمة بن عمار لأسباب يطول شرحها . انظر زاد المعاد (1/109/110) بيد أنه لا خلاف بين أحد من أهل العلم في كون معاوية - رضي الله عنه - أحد كتاب الوحي لرسول الله –صلى الله عليه وسلم – وقد قرأت كتب الحديث والعقيدة وتتبعت كتب السير والمغازي وفتشت في بطون الكتب فلم أجد أحداً خالف في هذا الأمر . " قال أحمد بن محمد الصائغ وجّهنا رقعة إلى أبي عبدالله ما تقول رحمك الله فيمن قال : لا أقول إن معاوية كاتب الوحي ولا أقول أنه خال المؤمنين ، فإنه أخذها بالسيف غصباً ؟ قال أبو عبدالله : هذا قول سوء رديء يجانبون هؤلاء القوم ولا يجالسون ونبين أمرهم للناس " رواه الخلال في السنة (2/434) بسند صحيح .
(2) تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر (59/210) .
(3) تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر (59/209) .(4/20)
وقد ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه (10/174) من طريق الزبير بن أبي بكر حدثني عمي مصعب بن عبدُالله قال : حدثني أبي عبدُالله بن مصعب قال : قال – لي أمير المؤمنين المهدي – يا أبا بكر ما تقول فيمن ينتقص أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : قلت زنادقة ، قال ما سمعت أحداً قال هذا قبلك ، قال : قلت : هم أرادوا رسول الله بنقص ، فلم يجدوا أحداً من الأمة يتابعهم على ذلك ، فتنقصوا هؤلاء عند أبناء هؤلاء ، وهؤلاء عند أبناء هؤلاء ، فكأنهم قالوا : رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصحبه صحابة السوء وما اقبح بالرجل أن يصحبه صحابة السوء فقال : ما أراه إلا كما قلت .
قال الإمام أبو زرعة – رحمه الله – ( إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فاعلم أنه زنديق ، وذلك أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – عندنا حق والقرآن حق ، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة ) رواه الخطيب في الكفاية ( ص97) وابن عساكر في تاريخه (38/32) .
والمنقول عن أهل العلم في هذا الباب كثير فقد هتكوا سجف الخائضين في أعراض الصحابة المفتونين بتتبع هفواتهم وزلاتهم وقد أصاب معاوية – رضي الله عنه – من ظلم هؤلاء وبغيهم ما لم يصب غيره .
ونحن لا ننزه معاوية - رضي الله عنه - ولا من هو أفضل منه عن الذنوب غير أن هذا باب وله ضوابط ، وطعن هؤلاء فساد وله مرامي بعيدة فمعاوية – رضي الله عنه – علم في الأمة طلب المجد فارتقاه ، فظهر صدقه وعفافه وحلمه وعدله واهتمامه برعيته وحسن سياسته لهم على اختلاف منازلهم وتنوع رغباتهم وقد أجمع المسلمون على فضله وصدق إسلامه وأمانته .(4/21)
وقد شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم – غزوة حنين فدخل في جملة المؤمنين الذين أنزل الله سكينته عليهم في قوله : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) } ( سورة التوبة ) .
فمن وصفه بالنفاق بعد الشهادة له بالإيمان فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً ، ومثله تجب استتابته فإن تاب وأناب إلى ربه وإلا وجب على السلطان قتله في أصح قولي العلماء ، ولا عذر لمن ولاه الله أمر المسلمين ومكنه منه أن يدعه بدون عقاب ، أو على الأقل يخنق فكره الشاذ ويضع في يديه ورجليه الأغلال التي تعيقه عن مسار ظالم وهجوم غاشم وأوهام ليس لها زمام ولا خطام .
وقد يظن من لا علم عنده أن هذا من الحجر على الاجتهادات واحتكار الآراء والاعتداء على أصحابها وهذا غير صحيح وليس هذا الظن في مكانه .
فالاجتهاد في فروع الشريعة والمسائل المختلف فيها وترجيح ما يقتضي الدليل ترجيحه والنظر في مستجدات الحياة والاجتهاد في بيان حكمها أمر واجب على أهل العلم والنظر ، والحاجة داعية إليه .
وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم – للحاكم المجتهد أجرين إن أصاب الحق ، وأجراً واحداً إن زلت قدمه عن طريق الصواب والخبر في الصحيحين من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه .
وهذا اللون من الاجتهاد بقيوده وشروطه الشرعية لا ينازع فيه أهل العلم ، ولهم فيه مصنفات ، ولكن الاجتهاد المذموم المطرح هو زوبعة هؤلاء الجرّاحين في الكلام عن الصحابة والخوض في عدالتهم وفتح المجال للطعن فيهم والحط من قدرهم أو تصنيفهم وتقويمهم كما هو الحال فيمن بعدهم .(4/22)
وهذه حقيقة الفوضوية والخرق للإجماع الصحيح ، ومثل هؤلاء إذا لم يرتدعوا بالوعد والوعيد والبلاغ المقنع فلا عدول عن تقويمهم بالحديد والحكم عليهم بما يكف شرهم ويبطل كيدهم صيانة لعقائد المسلمين من لوثة الرفض ونزعة الاعتزال والله المستعان .
ومن مناقبه - رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بوأه مكانة رفيعة وأَناله ثقة كبيرة فجعله كاتباً للوحي ، وناهيك بذلك عزا وشرفاً ، ولم يزل في المنقبة العظيمة حتى فارق النبي – صلى الله عليه وسلم – الدنيا .(4/23)
واستعمله عمر – رضي الله عنه – على ولاية دمشق (1) بعد موت أخيه يزيد(2) ، ولم يتهمه في ولايته ولا طعن أحد من الصحابة في ذلك ، ولما ولي عثمان – رضي الله عنه – أقره على ذلك وزاده بلاداً أخرى فحصل من ذلك خير كثير ففي سنة سبع وعشرين افتتح جزيرة قبرص ( وسكنها المسلمون قريباً من ستين سنة في أيامه ومن بعده ولم تزل الفتوحات والجهاد قائماً على ساقه في أيامه في بلاد الروم والفرنج وغيرها ) (3) فصار هذا كالإجماع من علية القوم على فضله وقدرته على سياسة البلاد على أحسن حال ، وهذه حقائق تاريخية ثابتة عند أهل العلم ، ولم يطعن في شيء منها عارف بحقيقة التاريخ ، ومن عميت عليه هذه الحقيقة فسلط قلمه في المخاصمة بها أو طمس حقائقها باحتمالات عقلية وصيحات صحفية فقد وقع في المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين ، فحقائق التاريخ لا يمكن أن تتغير بمثل هذا الإرجاف في الخصام فإن التاريخ كما أثبت ظلم الحجاج وفسقه وسفه يزيد بن معاوية فقد أثبت إيمان معاوية
__________
(1) وذكر خليفة بن خياط في تاريخه (155) أن عمر ولى معاوية دمشق وبعلبك والبلقاء ثم جمع الشام كلها لمعاوية ، قال الحافظ الذهبي في السير (3/133) والمحفوظ أن الذي أفرد معاوية بالشام عثمان ) .
(2) وقيل إنّ يزيد بن أبي سفيان - رضي الله عنه - لما مرض استخلف أخاه معاوية لما يعرفه عنه من الأهلية والكفاءة والقدرة على سياسية البلاد فأمضى ذلك أمير المؤمنين – رضي الله عنه – وحسبك به في معرفة الرجال ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه )) رواه الترمذي ( 3682 ) من طريق خارجة بن عبد الله عن نافع عن ابن عمر – رضي الله عنهما – وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه . وانظر البداية والنهاية ( 7/95 ) ، ( 8/21 ) للحافظ ابن كثير وفتاوي شيخ الإسلام ( 4/472 ) ، ( 35/64-65 ) .
(3) البداية والنهاية ( 8/ 118 ) للحافظ ابن كثير .(4/24)
وعلمه وحلمه وعظيم فتوحاته .
ومن مناقبه أنه لما ملك وهو أفضل ملوك هذه الأمة (1) كان حسن السيرة كبير القدر عظيم العدل وقد تحقق على يده من الخير ونصرة الدين ما لم يتحقق على يدي من جاء بعده ولذلك أحبته رعيته وأثنى عليه المسلمون ، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم ... ) رواه مسلم في صحيحه من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه – وأحق الملوك بهذا الخبر معاوية - رضي الله عنه - ، فإن المسلمين يحبونه ويدعون له ، فلا يطعن فيه أو يتنقصه إلا من رخص عليه دينه .
قال إبراهيم بن ميسرة : ( ما رأيت عمر بن عبدالعزيز ضرب إنساناً قط إلا إنساناًَ شتم معاوية فضربه أسواطاً ) (2).
وقال عبدالله بن أحمد : ( سألت أبي عن رجل سب رجلاً من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – قال أرى أن يضرب ، فقلت : له حد . فلم يقف على الحد إلا أنه قال:يضرب وما أراه على الإسلام )(3).
وقال رحمه الله : ( ومن انتقص أحداً من أصحاب رسول الله أو أبغضه لحدث كان منه أو ذكر مساويه كان مبتدعاً حتى يترحم عليهم ويكون قلبه لهم سليماً ) (4) .
وقال الفضل بن زياد : سمعت أبا عبدالله وسئل عن رجل انتقص معاوية وعمرو بن العاص أيقال له : رافضي ؟ قال إنه لم يجتري عليهما إلا خبيئة سوء ما يبغض أحد أحداً من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا وله داخلة سوء (5).
__________
(1) بالإجماع قاله شيخ الإسلام - رحمه الله - في الفتاوى (4/478) .
(2) رواه اللالكائي في أصول أهل السنة (7/1266) .
(3) رواه اللالكائي في أصول أهل السنة (7/1266) .
(4) مناقب أحمد لابن الجوزي (210) .
(5) رواه ابن عساكر في تاريخه (59/210) وانظر السنة للخلال (447) .(4/25)
وسئل المعافى بن عمران : أين عمر بن عبدالعزيز من معاوية بن أبي سفيان فغضب من ذلك غضباً شديداً وقال : لا يقاس بأصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحد ، أما معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحي الله - عز وجل - (1) .
وقيل للإمام أحمد هل يقاس بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أحد ؟ قال معاذ الله قيل : فمعاوية أفضل من عمر بن عبدالعزيز ؟ قال أي لعمري ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " خير الناس قرني " (2) .
وما جاء من الأخبار في ذم معاوية – رضي الله عنه – كحديث : ( إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقتلوه ) وحديث : ( يا معاوية كيف بك إذا وليت حقباً تتخذ السيئة حسنة والقبيح حسناً يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير أجلك يسير وظلمك عظيم ) وحديث : ( يطلع من هذا الفج رجل من أمتي يحشر على غير ملتي فطلع معاوية ) وحديث : ( إن معاوية في تابوت من نار في أسفل درك منها ) فهذه أخبار مكذوبة لا يشك من له عناية بالحديث أنها من وضع الكذابين ، ولم ترد في دواوين أهل الإسلام المعروفة ولا في مصنفاتهم المشهورة وقد عمدت الروافض إلى وضع أحاديث في ذم معاوية كما أشار إلى بعضها الخلال في العلل (3) وابن الجوزي في كتابه الموضوعات (2/15) وبقيتها منها.
__________
(1) رواه ابن عساكر في تاريخه (59/208) .
(2) السنة للخلال (435) .
(3) انظر المنتخب من العلل للخلال (227) لابن قدامة المقدسي، والمنار المنيف (117) لابن القيم .(4/26)
ولم يقف كذب الروافض عند هذا فهم أكذب البرية ، فقد اختلقوا أحاديث في مدح أهل البيت ، وهم غنيون عن مدحهم بالكذب بما صح في السنة من فضلهم ، كما اختلقوا أحاديث في ذم بني أمية لكون بعضهم يسب عليا (1) رضي الله عنه بعد الفتنة ، وقد شاركهم في هذا الذم طوائف ضالة ليس لديها ميزان عدل فأقذعت في السب ورمت بالكلام على عواهنه .
__________
(1) وفضل علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – وسبقه للإسلام وقرابته من النبي – صلى الله عليه وسلم – ومصاهرته وعلمه بالدين وأحكامه وسمو مقامه وجهاده وشجاعته وكونه رابع الخلفاء الراشدين المشهود لهم بالجنة أمر مقطوع به لا يجهله مسلم ولا يكابر فيه أحد من أهل القبلة ، ومن سبه أو طعن فيه فقد افترى قولاً عظيماً واحتمل بهتاناً وإثماً مبيناً ، والخبر المخرج في صحيح مسلم ( 2409 ) من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : (( استعمل على المدينة من آل مروان قال : فدعا سهل بن سعد ، فأمره أن يشتم علياً . قال : فأبى سهل . فقال : أما إذا أبيت فقل لعن الله أبا تراب )) فهذه زلة كبيرة يذوب لهو قلب المؤمن فلا يلتفت لذلك والحساب عند رب العالمين .(4/27)
ولا وجه لهذا إلا الجهل والهوى والعصبية الجاهلية فإن في بني أمية ثالث الخلفاء عثمان بن عفان – رضي الله عنه – وصحابة أبرارا خيار قد ماتوا قبل الفتنة كيزيد بن أبي سفيان وأبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت الرسول – صلى الله عليه وسلم – وفيهم غير ذلك مما هو معروف في الأحاديث الصحاح ، ولكنهم لا يفقهون ولا يعقلون فيجعلون من الحسنة سيئة ومن المعصية كفرا ، ويأخذون الرجل بجريرة غيره ، فإذا أخطأ يزيد بن معاوية أو مروان بن الحكم ؛ حكموا بالخطأ والضلال على معاوية وبني أمية الذين ماتوا قبل أن يولد يزيد ومروان فسبحان من أعمى بصائرهم وطمس على قلوبهم فلا يفقهون الحق ولا يعونه ، ولهذه المسألة بحوث مستقلة تراجع لها ، فالمقصود هنا التنبيه على فضل معاوية - رضي الله عنه - والإنكار على من طعن فيه وهو مع هذا غير معصوم عن الخطأ بل يقع منه – كقتاله يوم صفين (1)
__________
(1) وقد اتخذت الرافضة وبعض الكتّاب المعاصرين من هذه الواقعة طعنا في معاوية وتعرية له من الفضائل والمكارم واتهاماًله في مقصده ونيته ، وهولوا في هذه القضية وزادوا ونقصوا ولبسوا الحق بالباطل واختلقوا الأكاذيب والحكايات لشينه وذمه والتشفي منه نعوذ بالله من الحقد والجور (( قيل للحسن يا أبا سعيد إن هاهنا قوماً يشتمون أو يلعنون معاوية وابن الزبير فقال : على أولئك الذين يلعنون لعنة الله )) رواه ابن عساكر في تاريخه ( 59/206) وجاء رجل إلى الإمام أبي زرعة الرازي فقال : يا أبا زرعة ، أنا أبغض معاوية قال : لم ؟ قال : لأنه قاتل علي بن أبي طالب فقال أبو زرعة : إن رب معاوية رب رحيم ، وخصم معاوية خصم كريم . فأيش دخولك أنت بينهما – رضي الله عنهم أجمعين ) رواه ابن عساكر في التاريخ ( 59/141) ، وأهل السنة يقولون في هذه القضية إن الأقرب إلى الحق هو علي – رضي الله عنه – وأدلة هذا كثيرة والواقف عليها لا يستريب في ذلك ، قال شيخ الإسلام في الفتاوى (4/433) (( فثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف على أنهم مؤمنون مسلمون ، وأن علي بن أبي طالب والذين معه كانوا أولى بالحق من الطائفة المقاتلة له )) ولا شك أن معاوية – رضي الله عنه – كان مجتهداً متأولاً له ما لأهل الاجتهاد والتأويل كما سيأتي إن شاء الله .(4/28)
كما يقع من غيره ، ولم يقل أحد من أهل السنة بعصمته أو عصمة أحد من الصحابة خلافاً للرافضة فإنهم يثبتون العصمة لعلي وأهل البيت وهذا باطل .
ولو أمكنة العصمة لعلي – رضي الله عنه – لأمكنة لمن هو أفضل منه كأبي بكر وعمر وعثمان فإذا امتنعت في حق هؤلاء علم بطلانها في حق علي – رضي الله عنه - .
والحق ما عليه عامة أهل السنة والجماعة وهو مذهب الصحابة والتابعين وأهل الهدى على مر العصور أنه لا عصمة لأحد من الصحابة عن كبائر الإثم وصغائرها بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة .
ولكن لهم من السبق في الإسلام والجهاد مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ونشر العلم وتبليغه وطمس معالم الشرك وإذلال أهله والذب عن حرمات الدين بنفس زكية وروح عالية - ما يكفر الله به سيئاتهم ويرفع درجاتهم وقد رضي الله عنهم وأرضاهم وما جاء من الآثار المروية في مساويهم فهي على ثلاث مراتب :(4/29)
أولها : ما هو كذب محض لا يروى ولا يعرف إلا من رواية أبي مخنف لوط بن يحيى الرافضي الكذاب (1) أو سيف بن عمر التميمي صاحب كتاب ( الردة والفتوح ) وهو ليس بشيء عند أهل الحديث (2) أو الواقدي المتروك (3) أو غيرهم ممن لا يعتمد عليهم ولا على مروياتهم وهم عمدة خصوم الصحابة - رضي الله عنهم - في نقل المساوي والمثالب والوقائع الملفقة وما كان أهل الحديث ونقاده وجهابذة الجرح والتعديل يعتمدون على واحد منهم لعدم ضبطهم وكثرة كذبهم .
__________
(1) قال عنه ابن معين : ليس بشيء ، وقال ابن عدي في الكامل (6/2110: ) ( وهذا الذي قاله ابن حبان يوافقه عليه الأئمة ، فإن لوط بن يحيى معروف بكنيته واسمه ، حدث بأخبار من تقدم من السلف الصالحين ، ولا يبعد منه أن يتناولهم وهو شيعي محترق ) وقال الذهبي ( 3/419) ( إخباري تالف لا يوثق به ، تركه أبو حاتم وغيره ) .
(2) قال عنه ابن معين – الكامل لابن عدي (2/1271) : ( فلس خير منه ) وقال أبو داود – تهذيب الكمال ( 12/326) - : ( ليس بشيء ) وقال ابن حبان في كتابه المجروحين ( 1/340) : ( اتهم بالزندقة يروي الموضوعات عن الإثبات) وذكر الإمام الدار قطني في الضعفاء والمتروكين ص ( 104) ، وقال الفسوي – المعرفة والتاريخ (3/58) - ( سيف حديثه وروايته ليست بشيء ) .
(3) وهو خير من أبي مخنف ، وسيف على ضعفه الشديد ، قال عنه يحيى بن معين – التارخ (2/532) - : ( ليس بشيء ) وقال على بن المديني – تهذيب الكمال ( 26/187) ( الهيثم ابن عدي أوثق عندي من الواقدي ولا أرضاه في الحديث ولا في الأنساب ولا في شيء ) ، وقد تركه الإمام البخاري ومسلم وأحمد والنسائي والحاكم وانظر في ذلك ميزان الاعتدال ( 3/622) وتهذيب الكمال ( 26/180-194) والمجروحين لابن حبان ( 2/290) .(4/30)
ثانيها : ما صح سنده ، وله محمل حسن ، فيجب حمله عليه إحساناً للظن بهم ، فهم أحق الناس بهذا وأولاهم بحمل ألفاظهم وأفعالهم على أحسن مقصد وأنبل عمل ، ومن أبت نفسه الخير، وحرمت سلامة القصد ووثب على مقاصد وألفاظ أئمة الدين ، وجعل من المحتمل زلة ، ومن الظن جرحاً ؛ فقد عظم ظلمه وغلب جهله وناله من الحرمان ما نال أمثاله من مرضى القلوب .
ثالثها : ما صدر عن محض الاجتهاد والشبهة والتأويل ، كالوقائع التي كانت بينهم ، وغيرها من الأمور القولية والفعلية ، فهذه أمور واردة عن اجتهاد وتأويل ، فللمصيب فيها أجران وللمخطي أجر واحد ، والخطأ مغفور ، لما روى البخاري (7352 ) ومسلم (1716) من طريق يزيد بن عبدالله عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن بسر بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ) .
فمن أفتى أو حكم أو قضى أو قال بخلاف الحق لشبهة قامت عنده أو سنة لم تبلغه أو تأويل له وجهه فإنه يثاب على هذا الاجتهاد والخطأ مغفور ، كما دل عليه هذا الخبر وكما قال تعالى في دعاء المؤمنين : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } ( سورة البقرة (286) ) وفي صحيح مسلم ( 2/146 نووي ) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً : (( أن الله تبارك وتعالى قال : ( قد فعلت )) .
وهذا الأصل مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن شابههم فلم يعذروا هذا الصنف من المجتهدين المتأولين وألحقوا بهم أدلة الوعيد وجعلوهم من المذمومين الضالين .(4/31)
وهذا من فساد القلوب والجور في الحكم . فقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على أن المجتهد المخطيء مرفوع عنه الإثم سواء تقدم عهده أم تأخر . ومن طعن فيه بالهوى وألحق به أدلة الوعيد على التعيين ورماه بالضلالة والبدعة فقد قال مالا علم له به وشابه في ذلك الخوارج المارقين ولحقه من الذم ما لحق أشباهه من المعتدين .
وأصل البلاء في هذا الباب ناتج عن سببين :
الأول : عدم التفريق بين القول بموجب نصوص الوعيد من الكتاب والسنة من حيث العموم والإطلاق وبين لحوق الوعيد ولزومه على الأشخاص على التعيين ، وقد نتج عن هذا القول الباطل فساد في المنهج وظلم للعباد واعتبر هذا بحال فئة من أبناء هذا العصر من تبديع بعضهم بعضاً وطعنهم في اجتهادات إخوانهم ورميهم الدعاة إلى الله بالضلال والخروج عن مذهب أهل السنة .
الثاني : الحسد والهوى اللذان يصدان العبد عن طريق الهدى واتباع الحق .
وطريق الخلاص منهما بأمرين عظيمين :
أولاً : العلم بأسماء الله وصفاته وأحكام الحلال والحرام وما يأتي المرء وما يذر ، فإن هذا يمنع من الجهل على العباد وظلمهم ، ويدعو إلى العدل في القول والعمل .
ثانياً : الإخلاص لله تعالى فهو أصل كل خير والباعث عليه ، وليس لحظوظ النفس وشهواتها دواء أنفع منه ، قال تعالى عن نبيه الكريم يوسف الصديق ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) ( سورة يوسف) .
قرأ نافع وأهل الكوفة ( المخلَصين ) بفتح اللام ، أي المختارين المصطفين ، وقرأ آخرون بكسرها ، فدلت على أن الإخلاص وقاية للعبد من الولوغ في الفواحش والبليات نسأل الله السلامة من ذلك .
فصل(4/32)
إن ظاهرة احتراف الطعن في الآخرين بلية عظيمة وسجية قبيحة وعواقبها سيئة ومراميها خطيرة ولا سيما إذا كانت في أنصار الدين حزب الرحمن الموحدين فإن أبعادها قواصم التاريخ والدين ، ولهذا فإن محترفي الطعن لم يكتفوا بثلب معاوية وتتبع السقطات من هنا وهناك بل تجاوزوا ذلك إلى أعداد من الصحابة ونالهم نصيب من عدوانهم من القذف بالباطل والرمي بالنفاق أو التجبر والمحاباة والانحراف عن عدل الإسلام أو القتال للسياسة والعصبية وحماية قبائل العرب وغير ذلك من مفتريات المزورين للحقائق الثابته والمعالم الصحيحة ، وقد أصاب ابن عمة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وابن حواريه من عواهن كلامهم وسقطه ما يبرأ منه كل مؤمن ويقطع ببطلانه كل منصف وقد اتفق الأكابر من أهل العلم على أن ابن الزبير أحد الصحابة الأبطال الذين جاهدوا في سبيل الله حق جهاده وأبلى في الإسلام بلاء حسنا وهانت عليه نفسه في سبيل الله وخاض المعارك والحروب ضد أعداء الدين وعبيد الشهوات واشترك في معظم الفتوحات الإسلامية من بلوغه الرابعة عشرة من عمره وكان صاحب علم ورواية وتأله وعبادة وقيام على أهل الباطل وجهاد للعدو ، وقد كان الصحابة - ولا سيما خالته أم المؤمنين عائشة - يحبونه ويعرفون له قدره وفضله ، وأما قيامه بالإمارة وقتاله على ذلك فالظن فيه وفي أمثاله من أهل الخير والصلاح أنه لله رب العالمين لإعلاء كلمته ونصر دينه ورفع راية التوحيد ودفع الظلم عن المظلومين واستخلاص حقوقهم ونشر الخير بين الرعية وإقامة الجهاد .
والخبر الوارد في المسند (1/64) من طريق يعقوب عن جعفر بن أبي المغيرة عن ابن أبزى عن عثمان – رضي الله عنه – قال : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : ( يلحد بمكة كبش من قريش اسمه عبدالله عليه مثل نصف أوزار الناس ) فيه نظر وليس فيه ما يدل على أنه عبدالله بن الزبير .(4/33)
قال الحافظ الذهبي – في السير (3/375) ( في إسناده مقال ) ، وقال الحافظ ابن كثير – رحمه الله - في البداية ( 8/339) - : هذا الحديث منكر جداً وفي إسناده ضعف ويعقوب هذا هو القمي وفيه تشيع ومثل هذا لا يقبل تفرده به وبتقدير صحته فليس هو عبدالله بن الزبير فإنه كان على صفات حميدة وقيامه في الإمارة إنما كان لله عز وجل ، ثم هو كان الإمام بعد موت معاوية بن يزيد لا محالة وهو أرشد من مروان بن الحكم حيث نازعه بعد أن اجتمعت الكلمة عليه وقامت البيعة له في الآفاق وانتظم له الأمر والله أعلم ) .(4/34)
وهذا الكلام وجيه والخبر معلوم ولكن لا يصح تضعيفه بتشيع القمي (1) فلا يزال الأئمة البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم يخرجون لأهل البدع ممن لا تخرجه بدعته عن الإسلام سواء كان داعية أم لا وسواء روى ما يؤيد بدعته أم لا (2)
__________
(1) وحقيقة التشيع عند أهل الحديث تخالف حقيقته عند المتأخرين فالغالب على تشيع المتأخرين الرفض وتكفير الصحابة والبراءة من أمهات المؤمنين ونحو ذلك من عظائم دينهم ومثل هذا الضرب لم يكن أهل الحديث يروون عند أحد منهم لكثرة كذبهم وعدم أمانتهم ، وتشيع القمي ومثله أبان بن تغلب وعبيدالله بن موسى وجمهرة كثيرة أحاديثهم في دواوين أهل العلم هو التشيع بلا غلو ولا طعن في الشيخين ولا تكفير للصحابة وقذف لعائشة رضي الله عنها وانظر في ذلك ميزان الاعتدال (1/5) .
(2) وتعديل الأئمة لرواية المبتدع الصدوق دليل على عظيم عدلهم وإنصافهم ، فهم يطعنون في رأي المبتدع ويحذرون منه فإذا جاءت روايته وكان متصفاً بالصدق والضبط لم يمنعهم مانع من قبول روايته وتدوينها في كتبهم والاحتجاج بها في مصنفاتهم وهذا من تمام العدل والقسط والقيام بالحق ، ومن نازع من الأئمة في قبول رواية المبتدع الذي لا تخرجه بدعته عن الإسلام ففي نزاعه نظر ، فإنه لا يخلو كتاب حديثي من التخريج لهذا النوع ، واعتبر ذلك في مسند أحمد والأمهات الست ومصنفي عبدالرزاق وابن أبي شيبة وصحيحي ابن خزيمة وابن حبان والمعاجم الثلاثة للطبراني وغيرها ، وقد ذكر الإمام ابن حبان رحمه الله في مقدمة صحيحه ( أنه يقبل رواية المبتدع الثقة ما لم يكن داعية إلى ما ينتحل ) وفي هذا نظر وقد جاء في صحيحه ما يخالف هذا .
فقد روى لأبي معاوية محمد بن خازم الضرير أحد رجال الستة وهو من دعاة المرجئة ، قاله أبو زرعة تاريخ بغداد (9/299) وغيره ، وروى لشبابة بن سوار أحد رجال الستة وهو من دعاة المرجئة ، قاله أحمد بن حنبل ( ميزان الاعتدال (2/260) ، وقيل رجع شبابة عن رأيه . قاله أبو زرعة ( تاريخ بغداد (9/299) وفي الجعبة غير ذلك من دعاة أهل البدع المخرج لهم في صحيح ابن حبان وغيره من دواوين أهل الإسلام المشهورة فلا أطيل بذكر ذلك ، فالأمثلة تستغرق صفحات ، والموضوع من الوضوح مالا يحتاج معه إلى كثير تمثيل والله الموفق .(4/35)
فالعبرة بحفظ الراوي وضبطه ، فإذا كان حافظاً ثقة عدلا صح حديثه (1) ويعقوب هذا قد وثقه غير واحد ، وقال عنه الإمام النسائي : ليس به بأس . وقد تقدم أنه لا يصح تفسير الخبر بعبدالله بن الزبير فإنه بهت وقول على الله بلا علم ، فأمر عبدالله بن الزبير من العلم والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله والصدع بالحق وكثرة العبادة من صلاة وصوم أمر يستحيل معه أن يكون هو الملحد في مكة وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - في وقته يثنون عليه ويعرفون له حقه .وقد جاء في البخاري (8/326- الفتح ) عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنه – أنه قال - مثنياً عليه - : ( أما أبوه فحواري النبي – صلى الله عليه وسلم – يريد الزبير وأما جده فصاحب الغار يريد أبا بكر وأما أمه فذات النطاقين يريد أسماء وأما خالته فأم المؤمنين يريد عائشة وأما عمته فزوج النبي – صلى الله عليه وسلم – يريد خديجة وأما عمة النبي صلى الله عليه وسلم فجدته يريد صفية ثم عفيف في الإسلام قارئ للقرآن ) فالحقائق ظاهرة والدلائل قائمة على فضله وجلالة قدره وسلامة دينه فلا تصغ لمن تعرض لمقت الله وسخطه ولج في الباطل وتقحم طرق الضلال وبسط لسانه في خيار الأمة وفضلاء الرجال فالصحابة كلهم عدول من لابس منهم الفتن ومن لم يلابسها لما لهم من المآثر العظيمة والفضائل الجليلة من نصر الدين وإغاظة الكفار والمجرمين وبذل الأموال والنفوس لحماية رسول الله –صلى الله عليه وسلم – والذب عنه وفتح البلاد شرقاً وغرباً وتبليغهم العلم في فجاج الأرض وأقطارها وإعلاء كلمة الإخلاص وتحقيق العمل بها باطناً وظاهراً وهذا كله بالاتفاق (2) لدلالات الكتاب والسنة فمن تزبع
__________
(1) ما لم يطرأ على حديثه علة من تفرد عمن هو أوثق منه أو غير ذلك .
(2) انظر هذا الاتفاق في الكفاية للخطيب البغدادي والاستيعاب لابن عبدالبر وشرح النووي على مسلم والتقريب مع تدريب الراوي وغيرها .(4/36)
بعد هذا وزعم أنه مباح له الكلام في ابن الزبير وغيره من نخبة الرجال وحملة الدين فقد آذى نفسه وظلم غيره { وما للظالمين من أنصار } .
قيل لأبي عبدالله أحمد بن حنبل – رحمه الله – ( ما تقول فيمن زعم أنه مباح له أن يتكلم في مساوي أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال أبو عبدالله : هذا كلام سوء رديء يجانبون هؤلاء القوم ولا يجالسون ويبين أمرهم للناس ) رواه الخلال في السنة ( ص512) بسند صحيح .
وكلام الأئمة في ذم هذا الصنف وهجرهم والتحذير من مسالكهم كثير وتراه مبسوطاً في شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي والشرح والإبانة لابن بطة والسنة للخلال وغيرها .
ولا أحسب أحداً ينقب عن عثرات الصحابة ويبحث لهم عن الزلات المبنية على الشبه الواهية إلا وقد رخص عليه دينه .
وقد قال الإمام أحمد – رحمه الله - : ( إذا رأيت أحداً يذكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوء فاتهمه على الإسلام ) (1) .
وكان المفترض ممن يدعي الإسلام والسنة محبة الصحابة ونصرتهم والذب عنهم ونشر فضائلهم ومحاسنهم والكف عن مساويهم والرد على أعدائهم من الروافض وأمثالهم من أعداء الملة وأتباع الشيطان .
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (7/1252) للالكائي رحمه الله ، وتاريخ ابن عساكر (59/209) .(4/37)
أما غض الطرف عن مجرمي هذا الزمان ومن قبل من روافض وشيوعيين وقوميين وعلمانيين والقفز إلى أئمة الإسلام كأبي هريرة ومعاوية وابن الزبير رضي الله عنهم ، وفريهم وتصيد عثراتهم واتهام مقاصدهم وإساءة الظن بهم وطمس محاسنهم بمجرد شبه واهية ومقامات محتملة فهذا ظلم مبين وهتك لأعراضهم ونزع للثقة بهم وبمروياتهم ، وتجرئة على تناول غيرهم على نسق أسلافهم ( لهم ما للناس وعليهم ما على الناس ) ) فيا ويلهم يوم تبلى السرائر ويقوم الناس لرب العالمين ، فإن هذا المشرب وهذا التجريح في أنصار الدين وحزب الرحمن الموحدين لغاية في القبح وفساد في الرأي ورقة في الدين فإن من تحركت نفسه للطعن في واحد من الصحابة الأخيار فليس بغريب منه أن يحركه جهله في ثلب آخرين وآخرين فالبعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير .
وإنني – مع كثرة ما قرأت في السنة والحديث والتاريخ وغيرها – لم أعهد أحداً من أهل السنة المناوئين لأعدائها احترف ظاهرة التجريح لأحد من الصحابة لا معاوية ولا عبدالله بن الزبير ولا غيرهما ، وإنما جاء في كتب الروافض الطعن في معاوية - رضي الله عنه - واختلاق الأحاديث والحكايات في ذمه وشتمه .
وهذا غير غريب من الروافض المخذولين فهم همج الورى و أكذب الطوائف الضالة وأجهلهم بعلم المنقولات والمناظرة في المعقولات ، وليس على أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – طائفة أضر منهم فقد جمعوا مستنقعات الضلال ومراتع الإلحاد ونتن الأمم السابقة فهم أشبه وألصق الطوائف الضالة باليهود .
ومن نظر في كتبهم استقل ما نقل عن بعض السلف من كونهم أكذب الناس وأجهلهم .
فقد جاءت في كتبهم التي يدينون الله بها ، ويعتقدونها ما فيها ويناضلون عنها ، شآبيب من العقائد الفاسدة والأكاذيب الباطلة المخالفة للمنقول والمعقول .(4/38)
إلا أنهم لمكرهم وخداعهم لا يظهرون كثيراً من اعتقاداتهم لكل أحد ، إنما هو لأتباعهم ومن هو على دينهم ، وحين يخالطون أهل السنة ويناظرونهم يلجؤون معهم إلى التقية (1) . أوباصطلاح آخر ( الغاية تبرر الوسيلة ) وهذه عقيدة عندهم يأثم تاركها بل جعلوا تركها بمنزلة ترك الصلاة .
كما قال – الملقب برئيس المحدثين عندهم – ابن بابويه القمي : ( التقية واجبة من تركها كان بمنزلة من ترك الصلاة ) .
وقال آخر : ( الاعتقاد بالتقية والمتعة اعتقاد بالقرآن والإنكار لهما إنكار للقرآن وكفر به ) .
واختلقوا كذباًَ وزوراً على جعفر بن محمد أنه قال : ( إن تسعة أعشار الدين في التقية ولا دين لمن لا تقية له ) (2) . ولهم في التقية أقوال غير هذه فقد فسروا بعض الآيات بذلك ، ولولا خشية الإطالة لذكرت طرفاً من ذلك ؛ لكنني آثرت هنا الاختصار لأن القصد بيان حقيقة دينهم ليكون المسلم بصيراً بهم عالماً بعقيدتهم . وها أنا أنقل من كتبهم بعض عقائدهم فإن هذا أعظم زاجر وأبلغ شاهد ؛ لأن الخطر الأكبر والداء الأعظم أن يسمع بعض الناس من زخرف كلامهم وحفاوتهم مالا يعرف عن أفعالهم وعقيدتهم ، فينطوي عليه أمرهم أو يغتر بما يقولونه بألسنتهم دون قلوبهم ، فقد تقدم أن التقية عندهم تسعة أعشار الدين فاسمع من كتبهم ما يكشف لك حقيقتهم .
__________
(1) وهي أن يظهر عند مخالفيه خلاف ما يبطن ليتوصل للأغراض الفاسدة والتعمية لأمره .
(2) وهذا كذب على الله وعلى رسوله –صلى الله عليه وسلم – فليست التقية على ما اصطلحوا عليه من الدين بل هي نفاق محض ، وانظر – إن كنت ذا علم – أقوالهم في التقية في المراجع الآتية : الأصول من الكافي (2/217-226) والاعتقادات (114-115) لابن بابويه و المحاسن (259) ، وكذبوا على الشيعة (373) .(4/39)
* يقول محمد الشيرازي – في مقالة الشيعة ( ص 8 ) : ( ونعتقد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – والأئمة الطاهرين أحياء عند ربهم يرزقون ، ولذا فإننا نزور قبورهم ونتبرك بآثارهم ونُقبّل أضرحتهم كما نقبل الحجر الأسود وكما نقبل جلد القرآن الكريم ) .
* وقال الرافضي محمد الرضوي : ( أما طلب الشيعة من أصحاب القبور أموراً لا يقدر عليها إلا الله تعالى ، فليس هو إلا جعلهم وسائط بينهم وبين الله وشفعاء إليه في نجاحها امتثالاً لأمره تعالى ... )
أقول كذبتم – لعمر الله - فلم يأمر الله بهذا ، أتقولون على الله مالا تعلمون ؟! فالواسطة على هذا الوجه من اتخاذ شفعاء ووسائط يدعوهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار كفر باتفاق المسلمين وهذا شرك المشركين المذكور في القرآن قال تعالى : { قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً (56) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} (سورة الإسراء ) .(4/40)
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) }( سورة الزمر ). وقال : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلإَِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} ( سورة يونس ) . وقال تعالى :{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} ( سورة فاطر ) .
والقرآن كله من فاتحته إلى ختمته يقرر هذا الأصل ويبين أن من دعا غير الله أو غلا في نبي من الأنبياء أو برجل من الأولياء فجعل فيه شيئاً من الإلهية أو استغاث بالأموات وتوكل عليهم وأنزل بهم فاقته وحاجته أو طاف على قبورهم وسألهم غفران الذنوب وتفريج الكروب ؛ أنه مشرك بالله ومستحق للخلود في الجحيم .
قال تعالى :{ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72)} ( سورة المائدة ) .
وقال تعالى : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)}( سورة الحج ) .(4/41)
والمشرك بالله أجهل الخلق وأخبثهم ؛ حيث شبه المخلوق بالخالق ، والخالق بالمخلوق ، وجعل العابد معبوداً ، والعاجز غنياً قادراً ، والباطل حقاً ، والحق باطلاً ، وهذا غاية الجهل بالله والظلم للنفس .
وقد سئل النبي – صلى الله عليه وسلم – أي الذنب أعظم عند الله قال : ( أن تجعل لله ، ندا وهو خلقك ) رواه البخاري (4477) ومسلم (86) من طريق جرير عن منصور عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - .
والندُّ هو الشبيه والمثيل قال تعالى :{ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}( سورة البقرة ) .
* وقد قالوا – في زيارة قبر علي –رضي الله عنه – : ( انكب على القبر ، فقبله وقل أشهد أنك تسمع كلامي وتشهد مقامي ، وأشهد لك يا ولي الله بالبلاغ والأداء يا مولاي يا حجة الله يا أمين الله يا ولي الله إن بيني وبين الله ذنوباً قد أثقلت ظهري ، فبحق من أئتمنك على سره واسترعاك أمر خلقه وقرن طاعتك بطاعته وموالاتك بموالاته كن لي شفيعاً ، ومن النار مجيراً وعلى الدهر ظهيراً ، ثم انكب على القبر فقبله أيضاً) (1) .
__________
(1) ضياء الصالحين للجوهرجي ) هكذا اسم هذا الكتاب ، وهو خليق أن يسمى عقيدة القبوريين .(4/42)
ومثل هذا الشرك في القبور كثير في كتبهم ورسائلهم ، فهم يعظمون القبور ويطوفون حولها ويصلون إليها ، ولو لغير القبلة ، ولها ينذرون وينحرون القرابين ، وقد جعل بعض شيوخهم قبور المخلوقين مكاناً للطائفين ، وصنفوا لها مناسك كمناسك الحج إلى بيت الله العتيق ، وهم أول من بنىعليها المساجد (1) مشابهة لليهود والنصارى ، وغلواً في أئمتهم وقد حذر النبي – صلى الله عليه وسلم – من فعل هذا ولعن فاعله ،فروى البخاري ( 435) ومسلم (531) من طريق الزهري أخبرني عبيد الله بن عبدالله أن عائشة وعبدالله بن عباس قالا : لما نزل برسول الله - صلى الله عليه سلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه ، فقال وهو كذلك : ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يحذر ما صنعوا .
وقال – صلى الله عليه وسلم – " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك " رواه مسلم (532) من طريق زيد بن أبي أُنيسة عن عمرو بن مرة عن عبدالله بن الحارث النجراني عن جندب –رضي الله عنه - .
والأدلة متواترة في تحريم البناء على القبور ، ودلت السنة الصحيحة على وجوب هدم هذه الأبنية وإزالتها ، وهي بالهدم أولى من مسجد الضرار وبناء الغاصب ، ونحو ذلك قال أبو الهياج الأسدي قال لي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ؟ أن لا تدع تمثالا إلا طمسته . ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " رواه مسلم (989) في صحيحه تحت ( باب الأمر بتسوية القبر ) .
__________
(1) انظر مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب (1/62) .(4/43)
* وقال الرافضي نعمة الله الجزائري : ( إنا لم نجتمع معهم – أي أهل السنة – على الله ولا على نبي ولا على إمام وذلك أنهم يقولون : ( إن ربهم هو الذي كان محمداً نبيه وخليفته بعده أبو بكر ، ونحن لا نقول بهذا الرب ولا بذلك النبي ، إن الرب الذي خليفة نبيه أبو بكر ليس ربنا ولا ذلك النبي نبينا ) (1) .
وقالت الروافض – عن القرآن - : بأنه محرف ومبدل ، وأنه قد زيد فيه ونقص ، قال نعمة الله الجزائري الرافضي : ( إن الأصحاب – يعني بذلك أهل الرفض – قد أطبقوا على صحة الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة بتصريحها على وقوع التحريف في القرآن ) .(2)
وقدكتب أحد علمائهم كتاباً أسماه ( فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب ) ، وهذا القول بالتحريف والتبديل في القرآن قول لجماعة منهم (3) وبعضهم ينكر هذا وينفر منه وأكثر عوامهم لا يعرفون عن هذا شيئاً .
وقد جاء في أقاويل رجال الدين عند النصارى ما يفيد شهرة هذا القول عن الرافضة ، فحين أثبت الإمام ابن حزم – رحمه الله – ما في كتب النصارى من التحريف والتبديل ، اعترضوا عليه بقول الروافض عن القرآن بأنه مبدل وقد زيد فيه ونقص ، وكان جوابه – رحمه الله – موفقاً حيث قال لهم : ( وأما قولهم في دعوى الروافض تبديل القرآن ، فإن الروافض ليسوا من المسلمين إنما هي فرقة حدث أولها بعد موت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بخمس وعشرين سنة وكان مبدؤها إجابة ممن خذله الله تعالى لدعوة من كاد الإسلام ، وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر ) (4) .
__________
(1) الأنوار النعمانية (1/278 ) .
(2) الأنوار النعمانية (2/357 ) .
(3) انظر كتاب الشيعة والتصحيح ، مبحث تحريف القرآن ص (183-189) .
(4) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/213) .(4/44)
وقال – بعد حجج ظاهرة وبراهين قاطعة على دحض قول الرافضة من امتداد أيدي التحريف على القرآن الكريم – : ( ومما يبين كذب الروافض في ذلك أن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – الذي هو عند أكثرهم إله خالق ، وعند بعضهم نبي ناطق ، وعند سائرهم إمام معصوم مفترضة طاعته ولي الأمر وملك فبقي خمسة أعوام وتسعة أشهر خليفة مطاعاً ظاهر الأمر ساكناً بالكوفة مالكاً للدنيا ، حاشا الشام ومصر والفرات ، والقرآن يُقرأ في المساجد وفي كل مكان وهو يؤم الناس به ، والمصاحف معه وبين يديه ، فلو رأى فيه تبديلاً كما تقول الرافضة أكان يقرهم على ذلك ؟!
ثم ولي ابنه الحسن – رضي الله عنه – وهو عندهم كأبيه فجرى على ذلك ، كيف يسوغ لهؤلاء النوكى أن يقولوا : إن في المصحف حرفاً زائداً أو ناقصاً أو مبدلاً مع هذا ؟! ) .(1)
وأما القول في أئمتهم فأعظم القول وأشنعه ، وهو تجهيل للعقول وخروج عن الدين بإجماع المسلمين ، فقد قالوا عن جعفر بن محمد : أنه قال : ( إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض وأعلم ما في الجنة وأعلم ما في النار وأعلم ما كان وما يكون ) (2) .
وذكروا عن الصادق أنه قال : ( والله لقد أعطينا علم الأولين والآخرين ، فقال له : ويحك إني لأعلم ما في أصلاب الرجال وأرحام النساء ) (3) .
__________
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/216-217) .
(2) الأصول من الكافي ( 1/261) ، واعلم أن هذا لا يصح عن جعفر ، ولكن الروافض لا يطيب لهم الكلام إلا بالكذب .
(3) بحار الأنوار (26/27) بواسطة بذل المجهود (2/456) .(4/45)
وجاء في كتابهم الكافي أن الأئمة ( يعني أئمة الرافضى ) يعلمون ما كان وما يكون وأنهم لا يخفى عليهم شيء ، ومثل هذا الإفك العظيم والقول الأثيم تستغرب اعتقاده والنطق به ، لولا قلوب غلف ران عليها كسب الكفر ، وعقول حساكل تكابر في المحسوسات ، وتعارض المعقولات ، وتكذب بالمنقولات ، فلو قيل في أفضل الأنبياء والمرسلين وأعظم الملائكة المقربين بأنه يعلم الغيب المطلق ويعلم ما في السماوات والأرض وما كان ، وما يكون ولا يخفى عليه شيء في الأرض ، ولا في السماء لكان كفراً بإجماع المسلمين ، فقد اختص الله - جل وعلا - بعلم الغيب فلا ينازعه فيه إلا مشرك قال تعالى :{ قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) }( سورة النمل ) ، وقال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} ( سورة الأعراف ) . وقال تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) } ( سورة لقمان ) .
وفي صحيح البخاري (1039) من طريق سفيان عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – " مفتاح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله : لا يعلم أحد ما يكون في غدٍ ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام ولا تعلم نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت وما يدري أحد متى يجيء المطر " .(4/46)
وأما عقيدتهم في الصحابة فشر العقائد وأخبثها فلا تقرأ كتاباً من كتبهم إلا وتجد أبواباً مخصصة للعن الصحابة وسبهم وتكفيرهم إلا قليلا منهم .
قال الرضوي الرافضي : ( إن مما لا يختلف فيه اثنان ممن هم على وجه الأرض أن الثلاثة الذين هم في طليعة الصحابة – يعني أبا بكر وعمر وعثمان – كانوا عبدة أوثان ) (1) .
وقال عن أبي بكر رضي الله عنه : ( كان (2) يصلي خلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والصنم معلق في عنقه يسجد له ) .
وقالوا عن عمر رضي الله عنه : ( إن كفره مساو لكفر إبليس إن لم يكن أشد (3) ، وقال نعمة الله الجزائري الرافضي : ( كان عثمان في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم - ممن أظهر الإسلام وأبطن النفاق ) .
ومثل هذه الألفاظ التي هم أحق بها وأهلها دارجة على ألسنتهم ، ولا تخلو من مثلها ونظائرها مصنفهاتهم فقد اعتادوا الكذب في الأخبار وتلفيق الروايات في سب الصحابة الأبرار ، والقدح في عدالتهم وقذفهم بالموبقات ، ورميهم بالمكفرات ، ولا سيما الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان ، فقد جعلوهم عبدة أوثان وأهل كفر ونفاق .
__________
(1) كذبوا على الشيعة لمحمد الرضوي ص (223) .
(2) الأنوار النعمانية للجزائري (1/53) .
(3) تفسير العياشي (2/223-224) .(4/47)
وقد تواترت الأخبار الثابتة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحت الآثار عن أهل البيت بأن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما -خير الناس بعد نبيهم – صلى الله عليه وسلم – وأفضل الصحابة وأقومهم بأمر الله وأطوعهم لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد روى البخاري (3662) ومسلم (2384) من طريق خالد الحذاء حدثنا أبو عثمان قال حدثني عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن النبي –صلى الله عليه وسلم – بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة فقلت من الرجال ؟ فقال أبوها . قلت ثم من ؟ قال : ثم عمر بن الخطاب فعد رجالاً ) وأجمع أهل السنة على تفضيل عثمان – رضي الله عنه – بعدهما للاتفاق على تقديمه في الخلافة ، ولقول عبدالله ابن عمر - رضي الله عنهما - : " كنا نخير بين الناس في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان –رضي الله عنهم – " رواه البخاري في صحيحه (3655) من طريق يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر . ورواه(3697) من طريق عبيدالله عن نافع بلفظ " كنا في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – لا نفاضل بينهم "
وروى البخاري في صحيحه (3671) من طريق جامع بن أبي راشد حدثنا أبو يعلى عن محمد بن الحنفية قال قلت لأبي : أي الناس خيربعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ؟ قال أبوبكر . قلت : ثم من ؟ قال : ثم عمر . وخشيت أن يقول عثمان ، قلت ثم أنت . قال : ما أنا إلا رجل من المسلمين " .
وهذا النقل عن أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - متواتر ، وانظر طرق ذلك في كتاب فضائل الصحابة للإمام أحمد ص (300) إلى ص (313) .(4/48)
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في فتح الباري (7/34) قد سبق بيان الاختلاف في أي الرجلين أفضل بعد أبي بكر وعمر : عثمان أو علي وأن الإجماع انعقد بآخره بين أهل السنة أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة رضي الله عنهم أجمعين " .
وقد جاء في الصحيحين(1) من حديث أبي موسى - رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم - أمره أن يبشر أبا بكر وعمر وعثمان بالجنة .
وروى البخاري في صحيحه (3675) من طريق سعيد عن قتادة أن أنس بن مالك - رضي الله عنه - حدثهم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم . فقال " اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان " .
وهذه الأحاديث الصحيحة في فضائل الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان غيض من فيض ،فالطعن فيهم بعد هذا ، نفاق محض ، ودعوى ردتهم وعبادتهم للأصنام كفر أكبر لا ينازع فيه مسلم ، فقد دل الكتاب والسنة المتواترة وإجماع المسلمين على خلاف قول الروافض قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} ( سورة التوبة ) .
وقال تعالى : { لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)} ( سورة الحديد ) .
__________
(1) البخاري ( 3674 ) ، ومسلم ( 2403 ) .(4/49)
فمن آمن بالقرآن ؛ آمن بفضل الصحابة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وحفظ لهم سابقتهم وجهادهم وقيامهم بالحق والعدل به ، وتبرأ من كل قول يناقض ذلك ، ويدعو إلى السطو على حقائق تاريخهم ، أو الحط من قدرهم والقدح في عدالتهم .
وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريق عبدالله بن صالح حدثني خالد بن حميد عن أبي صخر حميد بن زياد قال : قلت لمحمد بن كعب القرظي يوماً : ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما كان من رأيهم ، وإنما أريد الفتن فقال : إن الله قد غفر لجميع أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأوجب الله لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم .قلت : في أي موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه ؟ فقال : سبحان الله ! تقرأ قوله : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) } ( سورة التوبة ) .
فأوجب الله لجميع أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – الجنة والرضوان ، وشرط على التابعين شرطاً لم يشرطه عليهم ، قلت : وما اشترط عليهم ، قال اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان ، يقول : بأعمالهم الحسنة ولا يقتدون بهم في غير ذلك ، قال أبو صخر : فوالله لكأني لم أقرأها قط وما عرفت لتفسيرها حتى قرأها عليَّ محمد بن كعب) (1) .
والرافضة يحملون لأهل السنة كل كيد ، وبغض ويزعمون ردتهم ، وأنهم من أصحاب السعير ، وهذا من أعظم أنواع الردة عن الدين وأقبح الكفر .
__________
(1) تاريخ دمشق (55/146-147) .(4/50)
وقد انتزع الإمام مالك – رحمه الله – كفر الروافض من قوله تعالى :{ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ } ( سورة الفتح ( آية 29) . وهذا مما لا شك فيه كما نص عليه أئمة الإسلام ، فقد اتفقوا على أن من كان في قلبه غيض على الصحابة ، وزعم ردتهم ، أو فسقهم ، أو خيانتهم في تبليغ الدين أنه كافر .
قال بشر بن الحارث : من شتم أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فهو كافر وإن صام وصلى وزعم أنه من المسلمين (1) ) وقال الأوزاعي : ( من شتم أبا بكر الصديق - رضي الله عنه – فقد ارتد عن دينه وأباح دمه (2) ) .
وقال المروزي : سالت أبا عبدالله – يعني الإمام أحمد - : عمن شتم أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة –رضي الله عنهم – فقال : ما أراه على الإسلام (3) .
وقال أبو طالب للإمام أحمد : الرجل يشتم عثمان ؟ فأخبروني أن رجلاً تكلم فيه فقال هذه زندقة " رواه الخلال (3/493) بسند صحيح .
والشتم أو السب نوعان :
أحدهما : أن لا يكون في عدالتهم أو دينهم فهذا لا يكفر ، ولكنه ضال. ويجب تعزيره وتأديبه ، وذلك أن يقول هذا بخيل أو هذا جبان ونحو ذلك مما يوهم التنقص لقدرهم والتقليل من شأنهم .
__________
(1) الشرح والإبانة للإمام ابن بطة ص (162) .
(2) المرجع السابق ص (161) .
(3) المرجع السابق ص (161) .(4/51)
الثاني : أن يكون الطعن في دينهم أو عدالتهم أو يتجاوز ذلك ، فيزعم ردتهم أو فسقهم فهذا مرتد ، وقد تقدم قبل قليل . وقال شيخ الإسلام - رحمه الله - من ( زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضاً في كفره ، فإنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم ، بل من يشك في كفر مثل هذا ؛ فإن كفره متعين ، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق وأن هذه الأمة التي هي ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) وخيرها هو القرن الأول ، كان عامتهم كفاراً أو فساقاً , ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها ، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ، ولهذا تجد عامة من ظهر عنه شيء من هذه الأقوال فإنه يتبين أنه زنديق وعامة الزنادقة ، إنما يستترون بمذهبهم وقد ظهرت لله فيهم مثلات ) .(1)
وقال السرخسي – في أصوله ( 2/134) : ( فمن طعن فيهم فهو ملحد منابذ للإسلام دواؤه السيف إن لم يتب ).
__________
(1) الصارم المسلول (3/1110-1111) .(4/52)
وقد فعل ذلك المؤمنون في سنة ست وستين وسبع مائة كما في البداية والنهاية ( 13/310) للحافظ ابن كثير - رحمه الله - قال : ( وفي يوم الخميس سابع عشرة أول النهار وجد رجل بالجامع الأموي اسمه محمود بن إبراهيم الشيرازي ، وهو يسب الشيخين ويصرح بلعنهما ، فرفع إلى القاضي المالكي قاضي القضاة جمال المسلاتي ، فاستتابه عن ذلك وأحضر الضراب ، فأول ضربة قال : لا إله إلا الله ، علي ولي الله ، ولما ضربه الثانية ، لعن أبا بكر وعمر ، فالتهمه العامة وأوسعوه ضرباً مبرحاً فجعل القاضي يستكفهم عنه فلم يستطع ذلك ، فجعل الرافضي يسب ويلعن الصحابة وقال : كانوا على الضلال ، فعند ذلك حمل إلى نائب السلطنة وشهد عليه قوله بأنهم كانوا على الضلالة ، فعند ذلك حكم عليه القاضي بإراقة دمه ، فأخذ إلى ظاهر البلد فضربت عنقه وأحرقته العامة قبحه الله) .
ثم اعلم أن ما ذكر هنا عن الروافض غيض من فيض فلم أقصد الإطالة فضلاً عن الاستيعاب في بيان عقائدهم في الأولياء والصالحين وسائر الأموات من الطواغيت وغيرهم فقد زادوا على شرك مشركي العرب زمن بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – وقد مر بك وسمعت كيف كان غلوهم في أئمتهم وصرف خالص حق الله لهم .(4/53)
فكن منهم على حذر فقد كان أئمة المسلمين يحذرون منهم وينهون عن مجالستهم ومخالطتهم والركون إليهم والاستعانة بهم وتوليتهم شيئاً من أعمال المسلمين (1).
__________
(1) ولا يعني هذا التخلي عن مناظرتهم ودعوتهم وزعزعة دينهم وكشف التناقضات الموجودة فيه ،فإن هذا القول - وإن قاله من قاله - خلاف الكتاب والسنة والنظر الصحيح ،فإن الله أمر بدعوة المشركين وعباد القبور والأوثان وأهل الكتابين وأذن بمناظرتهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن ، وأمر الله - جل وعلا - نبيه وكليمه موسى بأن يذهب هو وأخوه هارون - عليهما السلام - إلى فرعون أكفر أهل الأرض القائل أنا ربكم الأعلى فيدعواه إلى التوحيد والإيمان بالله ، فلا نتحجّر رحمة الله تعالى وهدايته لعباده مهما بلغ كفرهم وإعراضهم ، ومهما تنوعت مسالكهم وتوجهاتهم فإن الحق يفرض نفسه ، ويعلو ولا يُعلى ، وقد أحسن من قال .
اين وجه قول الحق في صدر سامع ... ودعه فنور الحق يسري ويشرق .
ثم إن ترك هؤلاء وشأنهم يقتضي تزايدهم وتفاقم أمرهم وإحداث الأضرار بالدين والدنيا . وهذا ما تجنيه نظرية التخلي عنهم مطلقاً ؛ لأنه لا يوجد من يكمم أفواههم ويأخذ على أيديهم فلم يبق إلا سبيل المناصحة والمناظرة وكشف شبههم ونصر الحق بقدر الإمكان والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
غير أن الداعي إلى الله والمناظر يجب عليه أمران أساسيان :
أولاً : العلم بدين المسلمين وعقيدة أهل السنة والجماعة لئلا يلبسوا عليه ويوقعوه في الهلكة .
ثانياً : العلم بدينهم وأحوالهم عن طريق كتبهم وواقعهم .
وبدون هذين الأمرين لا تجوز مناظرتهم .(4/54)
فهم خونه ليس لهم دين ولا ذمة ولا إمام ولا بيعة ولا يشهدون جمعة ولا جماعة ، وقد كانوا سبباً في سقوط الدولة الإسلامية في بغداد ، يتولون المشركين وأهل الكتاب ويعاونونهم على المسلمين حتى صارت بلاد المسلمين مجازرلهؤلاء الملاعين ،يخربون ويفسدون وينتهكون الأعراض وينهبون الأموال ، وقد ذكر أهل العلم والمؤرخون أموراً من ذلك يطول ذكرها ووصفها ، فلها تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب إنا لله وإنا إليه راجعون! .
وقد جاء في المنهاج (6/374) (1) لشيخ الإسلام – رحمه الله – حديث عن ظلم الرافضة وجورهم ومعاونتهم لأعداء الله ومعاداتهم لحزب الرحمن قال : الرافضة يعاونون الكفار وينصرونهم على المسلمين كما شاهده الناس ، لما دخل هولاكو ملك الكفار الترك الشام سنة ثمان وخمسين وست مائة فإن الرافضة الذين كانوا بالشام بالمدائن والعواصم من أهل حلب وما حولها ومن أهل دمشق وما حولها وغيرهم ، كانوا من أعظم الناس أنصاراً وأعوانا على إقامة ملكه وتنفيذ أمره في زوال ملك المسلمين .
وهكذا يعرف الناس عامة وخاصة – ما كان بالعراق لما قدم هولاكو إلى العراق ، وقتل الخليفة ، وسفك فيها من الدماء مالا يحصيه إلا الله فكان وزير الخليفة ابن العلقمي والرافضة هم بطانته الذين أعانوه على ذلك بأنواع كثيرة باطنة وظاهرة يطول وصفها .
__________
(1) ونحوه في الفتاوى (28/477-480) .(4/55)
وهكذا ذكر أنهم كانوا مع جنكيز خان ، وقد رآهم المسلمون بسواحل الشام وغيرها ، إذا اقتتل المسلمون والنصارى هواهم مع النصارى ينصرونهم بحسب الإمكان ، ويكرهون فتح مدائنهم ، كما كرهوا فتح عكا وغيرها ، ويختارون إدالتهم على المسلمين ، حتى أنهم لما انكسر عسكر المسلمين سنة غازان ، سنة تسع وتسعين وخمس مائة ، وخلت الشام من جيش المسلمين ، عاثوا في البلاد ، وسعوا في أنواع من الفساد ،من القتل وأخذ الأموال ، وحمل راية الصليب ، وتفضيل النصارى على المسلمين ، وحمل السبي والأموال والسلاح من المسلمين إلى النصارى ، أهل الحرب بقبرص وغيرها ) .
وهذا قليل من كثير من خيانة الروافض للمسلمين ، وإعانة الكفار عليهم ، ولو أخذت أتتبع ما ذكره أهل العلم من تاريخهم الأسود ، لطال المقام ، وما جاء في كلام الشيخ – رحمه الله – من خيانة الوزير ابن العلقمي ، فهذا له أشباه ونظائر في الماضي والحاضر ، فإن الخميني لما تولى ، أهلك الحرث والنسل وجنى على الدين مالا يمكن وصفه هاهنا ، والوزير ابن العلقمي لما استمكن من الخليفة المعتصم العباسي ، تآمر مع التتار على نهب ديار المسلمين ، وقتل علمائهم وخيارهم فتم أمر الله : {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)} ( سورة الأحزاب ) .
وهذا الجراح والمواجع في الأمة الإسلامية بصائر لأمور الخير وعواقب الشر ، فلا بد من الاعتبار بها ، وأخذ الدروس ، والعبر من أسباب آلامها ، والسعي بقدر الإمكان لتنحية الرافضة المفسدين واستئصال شرهم ، ومنعهم من تولي المناصب والأعمال ، والاعتياض عنهم بالمصلحين ،قبل أن نكون سلباً للأعداء وحديثاً للغابرين ، فهم فساد الديار وخراب البلاد .(4/56)
ليس لهم عهد ولا ذمة ولا دين يمنعهم عن منكرات الأخلاق وفساد الأعمال ، ولا يرون بيعة لأحد لأنهم يعتبرون الحكومات الإسلامية وقضاتها في كل العصور طواغيت متآمرين على الإسلام ، كما قال بعضهم : ( تلاعبت الأيادي الأثيمة بالإسلام والمسلمين من الحكام والحاكمين منذ وفاة النبي الكريم محمد – صلى الله عليه وسلم - ) .
وقد يستثني بعضهم حكومات التشيع إلى أن يظهر مهديهم المزعوم ! محمد بن الحسن العسكري الذي دخل في سرداب سامراء (1) عام ستين ومئتين عن عمر لا يتجاوز التاسعة في قول (2) ، ولا يزال مختفياً عن الأنظار حتى الآن ، وتزعم الرافضة أن الأخبار الواردة في فضل انتظار هذا الغائب كثيرة متواترة ، وأن من جحده كمن جحد نبياً من الأنبياء ، وقال أحد علمائهم " ومثل من أنكر القائم - عليه السلام - في غيبته مثل إبليس في امتناعه عن السجود لآدم ) (3) .
قال الإمام ابن القيم في حديث عن الرافضة الإمامية ومهديها المستحيل المعدوم ( وهم ينتظرونه كل يوم يقفون بالخيل على باب السرداب ، ويصيحون به أن يخرج إليهم : اُخرجْ يا مولانا ، اُخرجْ يا مولانا ثم يرجعون بالخيبة والحرمان . فهذا دأبهم ودأبه .
ولقد أحسن من قال :
ما آن للسرداب أن يَلِدَ الذي ... كلمتموه بجهلكم ما آنا
فعلى عقولكم العفاءُ فإنكم ... ... ثلثتمُ العَنْقاءَ والغِيلانا
ولقد أصبح هؤلاء عاراً على بني آدم وضحكة يسخر منهم كل عاقل ) (4)
نسأل الله العافية والمعافاة .
كتبه
سليمان بن ناصر العلوان
في 29/1/1419هـ
القصيم – بريدة
__________
(1) انظر الكامل لابن الأثير (5/373) وسير أعلام النبلاء (13/120) .
(2) انظر السير للذهبي (13/121)
(3) إكمال الدين ( ص13 ) للرافضي ابن بابويه .
(4) المنار المنيف ص ( 152).(4/57)
فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة
المقدمة ... ... ... ... ... 2
اتفقت الأمة على أن الشريعة أتت بالمحافظة على الضروريات الخمس . 2
قال ابن المبارك من استخف بالعلماء ذهبت آخرته . ... ... 3
لحوم العلماء مسمومة . ... ... ... ... ... 3 ...
حكم الطعن في الصحابة والقدح في عدالتهم . ... ... ... ... 3
لم يعرف التاريخ البشري تاريخاً أعظم من تاريخ الصحابة . ... ... ... ... 3
الباعث على تأليف هذا الكتاب . ... ... ... ... ... 4
فصل في صفات أهل السنة ... ... ... ... ... 6
أنكر الإمام أحمد .. جمع الأحاديث التي فيها طعن على بعض الصحابة . ... 6
تخريج حديث (( لا تسبوا أصحابي .......... ... 7
تخريج قول ابن مسعود ] من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . 9
كل مؤمن آمن بالله فللصحابة الفضل إلى يوم القيامة . ... 11
معنى قوله تعالى { وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } . ... 12
من ثبَت صحبته لا يتطلب شروط التعديل . ... 12
الرد على من حصر الصحبة بالمهاجرين والأنصار . ... 12
المراد بالفتح في قوله تعالى { لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ } . ... 13
تفاوت منازل الصحابة . ... ... 14
تعليق على كتاب السلطة في الإسلام . ... ... 15
حاشية مهمة . ... ... 15
الموضوع ... الصفحة
كان السلف يقولون (( معاوية بمنزلة حلقة الباب ... ... 16
قول عبد الله بن مصعب فيمن ينتقص الصحابة . ... 17
قول الإمام أبي زرعة في ذلك ... ... 17
معاوية رضي الله عنه علم في الأمة ... ... ... 17(4/58)
حكم الحجر على الإجتهاد . ... ... 18 ...
معاوية أفضل ملوك هذه الأمة . ... ... 19
حكم سب الصحابة . ... ... 20
الأحاديث الواردة في ذم معاوية رضي الله عنه كلها كذب . ... 21
إشارة مختصرة إلى كذب الروافض على بني أمية . ... 21
حاشية في فضل على ابن أبي طالب رضي الله عنه . ... 21
لم يقل أحدمن أهل السنة بعصمة أحد من الصحابة . ... 22
الآثار المروية في مساوي الصحابة على ثلاث مراتب . ... 23
كلام أهل الجرح والتعديل في الرافضي لوط بن يحيى . ... 23
كلام أهل الجرح والتعديل في سيف بن عمر التميمي . ... 23
كلام أهل الجرح والتعديل في الواقدي . ... 23
ليس على المجتهد المخطئ إثم . ... ... 24
أصل البلاء في تضليل أهل الإجتهاد . ... ... 25
فصل في خطورة احتراف الطعن في الآخرين . ... 26
فضائل عبدالله بن الزبير . ... ... 26
تضعيف حديث ] يلحد بمكة كبش من قريش اسمه عبدالله [ . ... 26
حاشية في حقيقة التشيع عند أهل الحديث . ... 27
الموضوع ... ... الصفحة ...
قول الإمام أحمد فيمن زعم أنه مباح له أن يتكلم في مساوي الصحابة . ... 28
ليس على أمة محمد صلى الله عليه وسلم طائفة أضر من الروافض . ... 30
التقية عند الروافض . ... ... 30
عقيدة الرافضة في أصحاب القبور . ... ... 31
القرآن كله من فاتحته إلى خاتمته يقرر التوحيد ويبطل الشرك ... 32
الأدلة متواترة في تحريم البناء على القبور . ... 33
عقيدة الرافضة في القرآن . ... ... 34
قول الإمام ابن حزم بأن الرافضة ليسوا في عداد المسلمين . ... 34
عقيدة الرافضة في أئمتهم وأنهم يعلمون الغيب . ... 35
نقل الإجماع على كفر من قال بهذا القول . ... 35
عقيدة الرافضة في الصحابة رضي الله عنهم . ... 36
الأدلة الصحيحة على فضل أبي بكر وعمر وعثمان . ... 37(4/59)
قال الحافظ ابن حجر (( إن الإجماع انعقد بين أهل السنة على أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة ... 37
مَنْ آمن بالقرآن وأنه كلام الله آمن بفضل الصحابة . ... 38
أقوال أئمة السلف في تكفير الرافضة . ... ... 39
الشتم أو السب للصحابة نوعان .... ... ... 40
الحذر من مجالس الرافضة . ... ... 41
حاشية مهمة في مناظرة الرافضة . ... ... 41
قول ابن تيمية في ظلم الرافضة وجورهم ومعاونتهم للكفار . ... 42
الجراح والمواجع في أمة الإسلام بصائر لأمور الخير وعواقب الشر . ... 43
الحديث عن مهدي الرافضة المزعوم . ... ... 43(4/60)
الأسماء والمصاهرات بين أهل البيت والصحابة رضوان الله عليهم.
تأليف
أبي معاذ السيد بن أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي
من أرض الكنانة
(( قامت شبكة الدفاع عن السنة برفع هذه المادة المُباركة على شبكة المعلومات العالمية ))
www.d-sunnah.net
إهداء
إلى أهلي جميعهم
أمي وزوجتي
ولديا معاذ وبلال
وأخوالهما أبي أحمد وأبي مريم
وأعمامهما أبي أحمد وأبي منة الله
والصحبة الكريمة الطيبة
أبي حسين
وأبي محمد
وأبي عبد الرحمن
وأبي حسان
دار الإيمان للطبع والنشر والتوزيع
17 ش خليفة الخياط – مصطفى كامل – الإسكندرية
تلفا كس: 5457769 – تلفون: 5446496
إهداء... من أجل الوحدة الوطنية
أخي المسلم... أختي المسلمة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد
بادئ ذي بدء... نسأل الله تعالى لنا ولك التوفيق والسداد في تحقيق ما نصبو إليه من سعادة الدنيا وفوز الآخرة.
ويسرنا أن نقدم بين يديك هذا الإهداء المتواضع في فحواه العظيم في معناه ليحسم القول في لغط وغبار أثاره بعض علماء الأمة غفر الله لهم وجزاهم كل على قدر نيته، وذلك حين نسوا أو تناسوا اللحمة الدينية العظيمة بين آل البيت الأطهار والصحابة الأخيار والتي انعكست لحمة اجتماعية ونسيجا اجتماعياً متشابكاً بين جميع أجيالهم في العصر الذهبي الأول وما تلاه.
الأمر الذي يعكس براءة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من الخصام المفترى والذي على أساسه مزقوا الأمة الإسلامية كل ممزق بين طوائف تكفر بعضها ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فإلى الله المشتكي وهو المستعان على ما يصفون.
والمطلوب منك أخي المسلم ومنك أختي المسلمة أن يتسامى كل منا فوق مذهبه وطائفته ليذعن إلى الحق ولا شيء غير الحق.(5/1)
ولا عذر لأحد منا بعد اليوم وقد شهد بنفسه في هذا الكتيب الأدلة الدامغة على هذا التلاحم، وذلك من واقع المصادر المعتمدة من كل الأطراف المعنية.
لذا فالشكر نقدمه عظيماً جزيلاً في هذا السياق للأخ المؤلف الذي جمع الدرر والجواهر في أصحاب الذكر العاطر من آل البيت الأطهار والصحابة الأخيار فيما يتعلق بأسمائهم ومصاهراتهم التي تنبئ بالعلاقة الحميمة بينهم وليس هذا بغريب على أهل أرض الكنانة.
وإننا هنا إذ نقيم الحجة على كل مسلم ومسلمة اطلع على الفحوى العظيمة لهذا الكتيب، لنسأل الله تعالى أن يؤلف قلوب المسلمين على الحق وعلى المحبة الكاملة والولاء لآل البيت الأطهار والصحابة الأخيار، وكذالك البراء والعداء لكل من أساء إليهم بقصد أو بغير قصد، وأن يحشرنا معهم تحت لواء سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، يتقدمنا العشرة المبشرون بالجنة وأمهات المؤمنين وسيدا شباب أهل الجنة، وسائر الآل والأصحاب، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الناشر
مقدمة المؤلف
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه أحمده حمداً طيباً مباركاً دائماً وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأصلي وأسلم عليه وعلى أهله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين وبعد ، ،
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } . (1) سورة النساء.(5/2)
فمن حكمة الله عز وجل أن خلق من الطين بشراً وجعل بين خلقه نسباً وصهراً ليتعارف الخلق الذين يردّون كلهم لأب واحد آدم _ عليه السلام _ وقد كان الصحابة _ رضي الله عنهم _ من بني هاشم آل عقيل، وآل العباس، وآل علي، وآل جعفر، وغيرهم، يصاهرون الصحابة فيتزوجون منهم ويزوجونهم.
لا غضاضة في ذلك ولا أنفة ما دام الإسلام يجمع بينهم والمودة والمحبة الخالصة لوجه الله تسري في عروقهم، ولكم شذَّت طائفة من الطوائف التي تنتسب للإسلام فاتخذ علمائها نهجاً وسبيلاً آخر أنكرت فيه العديد من المصاهرات بين أهل البيت والصحابة إيهاماً لأتباعهم أن العداوة قائمة بين أولئك وهؤلاء، وقد اعتمد هؤلاء العلماء على أدلةٍ واهيةٍ لا أصل لها من الحقيقة ولا أساس لها من الصحة.(5/3)
وقد ابتدأ مسلسل الإنكار هذا الشيخ المفيد ت 413هـ في كتابة المسائل السروية، فأنكر زواج عمر بن الخطاب من أم كلثوم بنت علي بدعوى أنه رُوي من طريق الزبير بن بكار وهو زبيري ومعلوم عداوة الزبيريين للطالبيين ( كما يدعي المفيد ) وقد ذهب علماء الشيعة من بعد الشيخ المفيد مذاهب شتى في إنكار العديد من المصاهرات وقد فصلنا بعض الردود في كتابنا: زواج عمر بن الخطاب من أم كلثوم بنت علي حقيقة وليس افتراءً، فراجعه غير مأمور، إلا أن المعاصرين من علماء الشيعة الإمامية والذين تناسوا أو تغافلوا عن المصادر الأساسية والمراجع المختلفة وكتب الأنساب التي سطرها وصنفها وحققها وطبعها علماء من الشيعة الإمامية أنفسهم، هؤلاء العلماء المعاصرون ساروا على درب أسلافهم وزادوا عليهم بأن أنكروا مصاهرات أخرى، ومن هؤلاء المعاصرين علي محمد دخيل في كتابه: سكينة بنت الحسين، ومحسن باقر الموسوي في كتابه: سكينة بنت الحسين، والشيخ محمد رضا الحكيمي في كتابة: أعيان النساء، وغيرهم من العلماء ممن أنكروا زواج فاطمة بنت الحسين من عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان مع أن أمثال هذه المصاهرات ثابتة في كتب الأنساب التي صنفها كما قلت سابقاً علماء الشيعة الإمامية أنفسهم.
ولما سبق رأيت أن أجمع هذه المصاهرات بين أهل البيت وبين الصحابة الكرام _ رضي الله عنهم _ على أنني التزمت في إثبات هذه المصاهرات على مصادر ومراجع الشيعة الإمامية وعلى كتب علماء الأنساب، فلا لبس بعد ذلك ولا ريب.
ومن أهم هذه المراجع:
1- عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، لابن عنبه ت 828هـ وهو نسابة شيعي.(5/4)
2- الأصيلي في أنساب الطالبيين، لابن الطقطقي ت 709هـ وهو أيضاً نسابة شيعي صنف كتابه هذا وأهداه لأصيل الدين بن نصير الدين الطوسي وقد حقق الكتاب مهدي الرجائي معتمداً على نسخة مخطوطة كان شيخه دائماً يوصيه بالاعتماد على هذه النسخة وشيخه هو آية الله العظمى النجفي المرعشي، وطبع الكتاب في مكتبة المرعشي، هذا وكل من سبق ذكرهم المصنف والمحقق وشيخه والطبعة والمهدَى له الكتاب من علماء الشيعة.
3- سر السلسلة العلوية، لأبي نصر البخاري وهو من علماء الشيعة النسابين، كان حياً سنة341هـ.
4- الإرشاد، للشيخ المفيد وهو علمٌ من أعلام الشيعة لا يحتاج منا التعريف به أو إثبات مذهبه ت 413هـ.
5- منتهى الآمال، للشيخ عباس القمي وهو من كبار علماء الشيعة وله كتاب الكنى والألقاب..
6- تراجم أعلام النساء، لمحمد حسين الأعلمي الحائري.
7- كشف الغمة في معرفة الأئمة، للأربلي.
8- الأنوار النعمانية، لنعمة الله الجزائري ت 1112هـ.
9- أعيان النساء، للشيخ محمد رضا الحكيمي، طبعة مؤسسة الوفاء بيروت 1403هـ 1983م.
10- تاريخ اليعقوبي، لأحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح، طبعة دار صعب ودار صادر بيروت.
11- وغير هذه الكتب مما اعتمدنا عليها لعلماء الأنساب مثل: أنساب الأشراف للبلاذري، ونسب قريش لمصعب الزبيري، ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني، وغيرهم كثير من علماء الأنساب والتواريخ من الشيعة الإمامية ومن علماء الأنساب عامة.
وقد رأيت إضافة أخرى بجانب هذه المصاهرات وإثباتها وهو ذكر أسماء أبناء أهل البيت وكناهم وألقابهم مما يجعل القارئ الكريم يقف على حقائق وأمور تذكر عرضاً ولا يًلتفت إليها ولا تتَخذ غرضاً.
وسيلاحظ القارئ الكريم أن أسماء مثل: أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة ما كان يخلو بيت من بيوت أهل البيت منها محبةً واحتفاءً وكرامةً لأصحابها، وهذه الأسماء ثابتة في مصادر الشيعة الإمامية أيضاً.(5/5)
أيها القارئ الكريم نحِّ الآن مذهبك وتعصبك جانباً واقرأ ببصيرتك وعقلك قبل بصرك وهواك لتنكشف لك الحقائق كاملة.
اللهم لوجهك الكريم عملي فاقبله ويسره لي وأعني
واجعله في ميزان حسناتي إنك نعم المولى ونعم النصير
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وكتبه: السيد بن أحمد بن إبراهيم من أرض الكنانة
7 صفر 1423هـ .2 أبريل 2002م
أسماء الأعلام من أهل البيت من العلويين والهاشميين
الذين تسمُّوا بأسماء الصحابة رضوان الله عليهم
أبو بكر رضي الله عنه:
1- يعلم القاصي والداني والسني والشيعي أنه اسم أبو بكر الصديق واسمه عبد الله وهو خليفة رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ ولا يشك عاقل أن من يسمي ولده باسم أبي بكر أو حتى يكني نفسه بهذه الكنية فهو يتولى ويحب الصحابة الكرام وعلى رأسهم أبو بكر الصديق.
وممن اسمه أبو بكر:
أبو بكر بن علي بن أبي طالب:
قتل مع الحسين في كربلاء، وأمه ليلي بنت مسعود النهشلية، ذكره: الإرشاد للمفيد ص 248 – 186، تاريخ اليعقوبي في أولاد علي، ومنتهى الآمال للشيخ عباس القمي 1/261 وذكر أن اسمه محمداً وكنيته أبو بكر قال: و (( محمد يكنى بأبي بكر. . . )) 1/544، وبحار الأنوار للمجلسي 42/120.
أبو بكر بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
قتل مع عمه الحسين في كربلاء، ذكره: الشيخ المفيد في قتلى كربلاء في الإرشاد 248، وتاريخ اليعقوبي في أولاد الحسن، ومنتهى الآمال لعباس القمي 1/544 في استشهاد فتيان بني هاشم في كربلاء.
أبو بكر علي زين العابدين:
كنية علي زين العابدين بن الحسين هي أبو بكر وذكر ذلك العديد من علماء الشيعة الإمامية، راجع الأنوار النعمانية للجزائري.
أبو بكر علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق:(5/6)
كانت كنية علي الرضا أبو بكر ذكر ذلك: النوري الطبرسي في كتابه النجم الثاقب في ألقاب وأسماء الحجة الغائب قال: (( 14- أبو بكر وهي إحدى كُنى الإمام الرضا كما ذكرها أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين.
أبو بكر محمد المهدي المنتظر بن الحسن العسكري:
إحدى أسماء المهدي المنتظر الذي يعتقد الشيعة بولادته قبل أكثر من 1100 عام أبو بكر، ذكر ذلك النوري الطبرسي في الكتاب السابق ذكره وراجع اللقب رقم ( 14 ).
قُلتُ تُرى لماذا يُكنى أو ويلقب المهدي المنتظر لدى الشيعة الإمامية بأبي بكر ؟!!
أبو بكر بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب:
ذكره صاحب أنساب الأشراف ص 68 قال: (( ولد عبد الله بن جعفر. . . وأبا بكر قُتِلَ مع الحسين وأمهم الخوصاء من ربيعة. . . ))، وذكره خليفة بن خياط في تاريخه ص 240 في تسمية من قُتِلَ يوم الحرة من بني هاشم.
عمر رضي الله عنه:
لا شك أن من أشهر الصحابة الذين تسموا بـ عمر عمر بن الخطاب ومن يسمي بهذا الاسم إنما يريد التيمن بعمر بن الخطاب.
وممن اسمه عمر:
عمر بن الأطرف بن علي بن أبي طالب:
أمه أم حبيب الصهباء التغلبية من سبي الردة، راجع: سر السلسلة العلوية لأبي نصر البخاري الشيعي ص 123 في نسب عمر الأطرف، ومنتهى الآمال لعباس القمي 1/261 قال: (( عمر ورقية الكبرى التوأمان )) وبحار الأنوار للمجلسي 42/120.
عمر بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
أمة أم ولد استشهد مع عمه الحسين في كربلاء، راجع: عمدة الطالب لابن عنبه هامش ص 116، تاريخ اليعقوبي ص 228 في أولاد الحسن.
وقال اليعقوبي في تاريخه (( وكان للحسن ثمانية ذكور وهم. . . وزيد. . . وعمر والقاسم وأبو بكر وعبد الرحمن لأمهاتٍ شتى وطلحة وعبد الله. . . )).
عمر الأشرف بن علي زين العابدين بن الحسين:(5/7)
أمة أم ولد ولقب بـ الأشرف، لأن عمر الملقب بـ الأطرف، وهو عمر بن علي بن أبي طالب، راجع: الإرشاد للمفيد ص 261، عمدة الطالب لابن عنبه ص 223، ولقب بالأشرف لأنه من حسيني وحسنية أما عمر الأطرف أخذ بطرف واحد هو الأب علي بن أبي طالب.
عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد الشهيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
ذكر اسمه محمد الأعلمي الحائري في تراجم أعلام النساء تحت ذكر اسم بنت الحسن بن عبيد الله بن جعفر الطيار.. ص 359.
عمر بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق:
ذكره ابن الخشاب في أولاد موسى الكاظم.
قال ابن الخشاب: (( عشرون ابناً زاد فيهم عمراً وعقيلاً وثماني عشرةَ بنتاً )) راجع: تواريخ النبي والآل لمحمد تقي التستري.
عثمان رضي الله عنه:
الخليفة الثالث عثمان بن عفان ذو النورين زوج ابنتي رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ رقية وأم كلثوم المقتول شهيداً.
وممن اسمه عثمان:
عثمان بن علي بن أبي طالب:
قُتِلَ مع الحسين في كربلاء وأمة أم البنين بنت حزام الوحيدية ثم الكلابية، راجع الإرشاد للمفيد ص186 – 428، أعيان النساء للشيخ محمد رضا الحكيمي ص 51، تاريخ اليعقوبي في أولاد علي، منتهى الآمال 1/544، التستري في تواريخ النبي والآل ص115 في أولاد أمير المؤمنين.
عثمان بن عقيل بن أبي طالب:
ذكره البلاذري في أنساب الأشراف ص70 قال: (( ولد عقيل مسلماً... وعثمان )) .
عائشة رضي الله عنها:
عائشة بنت أبي بكر الصديق زوج رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ والملاحظ أن هناك من أهل البيت ولد له بنين وبنت واحدة فسمى البنت عائشة. تُرى لماذا هذه الرغبة الشديدة في التسمية باسم عائشة رضوان الله عليها !!؟
فليجب علماء الشيعة الإمامية إن كان لديهم جواب !!
والله يلهمنا الصواب.
وممن اسمهن عائشة:
عائشة بنت موسى الكاظم بن جعفر الصادق:(5/8)
هي من بنات موسى الكاظم وذكر ذلك الكثير من علماء الشيعة أنفسهم بما فيهم الشيخ المفيد نفسه في الإرشاد ص 303، وعمدة الطالب لابن عنبه هامش ص 266، والأنوار النعمانية لنعمة الله الجزائري 1/380.
قُلتُ:
ودليل شدة محبة أهل البيت لأم المؤمنين عائشة أن موسى الكاظم له من الولد سبعه وثلاثون ذكراً وأنثى واحدة سماها عائشة.
قال في الأنوار النعمانية 1/380 (( وأما عدد أولاده فهم سبعة وثلاثون ولداً ذكراً وأنثى: الإمام علي الرضا و... و ... و ... وعائشة )).
وإن كان هناك خلاف في عدد أولاده لكن الذي لا خلاف فيه أن له ابنة اسمها: عائشة، قال أبو نصر البخاري (( ولد موسى من ثمانية عشر ابناً واثنتين وعشرين بنتاً )) سر السلسلة العلوية ص 53.
وأورد التستري في تواريخ النبي والآل سبع عشرة بنتاً هًن (( فاطمة الكبرى وفاطمة الصغرى ورقية ورقية الصغرى وحكيمة وأم أبيها وأم كلثوم وأم سلمة وأم جعفر ولبانة وعلية وآمنة وحسنة وبريهة وعائشة وزينب وخديجة )) تواريخ النبي والآل 125 – 126.
عائشة بنت جعفر بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق:
قال العمري في المجدي: (( ولد جعفر بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق يقال له الخواري، وهو لأم ولد ثماني نسوة وهي: حسنة وعباسة و عائشة وفاطمة الكبرى وفاطمة ( أي الصغرى ) وأسماء وزينب وأم جعفر... )) سر السلسلة العلوية ص 63 الهامش الذي كتبه المحقق.
عائشة بنت علي الرضا بن موسى الكاظم:
ذكرها ابن الخشاب في كتابه مواليد أهل البيت قال: ولد الرضا خمسة بنين وابنة واحدة هم محمد القانع والحسن وجعفر وإبراهيم والحسين، والبنت اسمها عائشة. تواريخ النبي والآل ص 128.
عائشة بنت علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا:
ذكرها الشيخ المفيد في الإرشاد ص 334 قال: (( وخلف من الولد أبا محمد الحسن ابنه هو الإمام من بعده والحسين ومحمد وجعفر وابنته عائشة... )).
طلحة رضي الله عنه:
وممن تسموا باسم طلحة:(5/9)
طلحة بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
ذكره اليعقوبي في تاريخه في أولاد الحسن ص 228، والتستري في تواريخ النبي والآل ص 120.
معاوية رضي الله عنه:
وممن تسموا باسم معاوية:
معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب:
هو أحد أولاد عبد الله سماه باسم معاوية بن أبي سفيان ولمعاوية هذا عقب راجع: أنساب الأشراف ص60 – 68، وعمدة الطالب لابن عنبه ص 56.
المصاهرات بين أهل البيت
والصحابة رضوان الله عليهم
المصاهرات بين أهل البيت وآل الصديق من بني تيم
1- محمد بن عبد الله رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _:
تزوج من عائشة بنت أبي بكر الصديق.
وهذا زواج لم ينكره أحد من علماء الشيعة الأمامية وإن كان علماء الشيعة الأمامية يطولون ألسنتهم على عائشة أم المؤمنين ولا تجد عالماً منهم معاصراً أو قديماُ يترضى عنها بخلاف قذفها بارتكاب الفاحشة كما أورد القمي في تفسيره وغيره من علماء الشيعة الإمامية.
2- موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب:
تزوج من أم سلمة بنت محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.
ولدت له عبد الله. ذكر ذلك من علماء الشيعة صاحب تراجم أعلام النساء ص 273، وأبو نصر البخاري في سر السلسلة العلوية ص 20، وعمدة الطالب لابن عنبة ص 134، وأم سلمة هذه أمها عائشة بنت طلحة بن عبيد الله وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق.
3- إسحاق بن جعفر بن أبي طالب:
تزوج من أم حكيم بنت القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق.
وهي أخت أم فروة، ذكر ذلك من علماء الشيعة محمد الأعلمي الحائري في تراجم أعلام النساء ص 260.
4- محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين:
تزوج من أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.(5/10)
ولدت له جعفر الصادق وذكر هذا الزواج من مراجع ومصادر الشيعة الإمامية: الإرشاد للشيخ المفيد ص 270، وتراجم أعلام النساء لمحمد الأعلمي الحائري ص 278، وعمدة الطالب لابن عنبة ص 225، الأصيلي لابن الطقطقي ص 149، ومقالة جعفر الصادق المشهورة ( ولدني أبو بكر مرتين ) ويقال لجعفر الصادق عمود الشرف أما قوله ولدني أبو بكر مرتين لأن أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأم فروة أمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر. فانظر أيها القارئ الكريم ببصيرتك لا بصرك كيف كانوا يصاهرون آل الصديق!
5- الحسن بن علي بن أبي طالب:
تزوج من حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر.
ذكر ذلك التستري في تواريخ النبي والآل ص 107 في أزواج الإمام الحسن.
المصاهرات بين أهل بيت النبي _ صلى الله عليه وسلم _
وآل الزبير
1- صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _:
تزوجها العوام بن خويلد.
ولدت له الزبير بن العوام، أثبتت كافة المراجع وكتب الأنساب هذه المصاهرة ولم ينكرها أحد من المؤرخين أو النسابين.
2- أم الحسن بنت الحسن بن علي بن أبى طالب:
تزوجها عبد الله بن الزبير بن العوام.
ذكر هذا الزواج من علماء الشيعة عباس القمي في منتهى الآمال ص 341، وابن عنبة في عمدة الطالب ص 288، والشيخ محمد حسين الأعلمي الحائري في تراجم أعلام النساء ص 346، وأبو الحسن العمري في المجدي، ومن النسابين البلاذري في أنساب الأشراف 2/193، ومصعب الزبيري في نسب قريش ص 50.
3- رقية بنت الحسن بن علي بن أبي طالب:
تزوجها عمرو بن الزبير بن العوام.
ذكر هذا الزواج من علماء الشيعة عباس القمي في منتهى الآمال ص 342، والأعلمي في تراجم أعلام النساء ص 346، وأبو الحسن العمري في المجدي، وابن عنبه في عمدة الطالب ص 88. ومن النسابين مصعب الزبيري في نسب قريش ص 50.
4- مُليكة بنت الحسن بن علي بن أبي طالب:(5/11)
تزوجها جعفر بن مصعب بن الزبير.
ولدت له فاطمة، راجع: نسب قريش لمصعب الزبيري ص 53.
5- موسى بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
تزوج من عبيدة بنت الزبير بن هشام بن عروة بن الزبير بن العوام.
وولدت له عمر درج وصفية وزينب، راجع: نسب قريش لمصعب الزبيري ص 72.
6- جعفر الأكبر بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
تزوج من فاطمة بنت عروة بن الزبير بن العوام.
وولدت له علياً، راجع: نسب قريش لمصعب الزبيري ص 72.
7- عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
تزوج من أم عمرو بنت عمرو بن الزبير بن عروة بن عمر بن الزبير.
وولدت له جعفراً وفاطمة راجع: نسب قريش لمصعب الزبيري ص 73 – 74.
8- محمد بن عوف بن علي بن محمد بن علي بن أبي طالب:
تزوج من صفية بنت محمد بن مصعب بن الزبير.
وولدت له علياً وحسنة، راجع: نسب قريش لمصعب الزبيري ص 77.
9- بنت القاسم بن محمد بن جعفر بن أبي طالب:
تزوجها حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام.
وولدت له، راجع: نسب قريش لمصعب الزبيري ص 82.
10- محمد بن عبد الله النفس الزكية بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب:
تزوج من فاختة بنت فليح بن محمد بن المنذر بن الزبير.
وولدت له الطاهر، ذكر ذلك من نسابي الشيعة أبي نصر البخاري في سر السلسلة العلوية ص 81.
11- الحسين الأصغر بن علي زين العابدين بن الحسين:
تزوج خالدة بنت حمزة بن مصعب بن الزبير بن العوام.
ذكر هذا الزواج من نسابي الشيعة الشيخ محمد حسين الأعلمي في تراجم أعلام النساء ص 361.
12- سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب:
تزوجها مصعب بن الزبير بن العوام.
وأشير هنا إلى مرجعين من أهم المراجع وكلاهما لعالمين من علماء النسب الشيعة وهما:
عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب لابن عنبة ت 828هـ ص 118، والأصيلي في أنساب الطالبين لابن الطقطقي ت 709هـ ص65 – 66.(5/12)
13- الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
تزوج من أمينة بنت حمزة بن المنذر بن الزبير بن العوام.
قال النسابة الشيعي أبي نصر البخاري في سر السلسلة العلوية ص 103، ولد الحسين بن الحسن: محمداً وعليا وحسناً وفاطمة أمهم أمينة بنت حمزة بن المنذر بن الزبير.
14- علي الخرزي بن الحسن بن علي بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
تزوج من فاطمة بنت عثمان بن عروة بن الزبير بن العوام.
قال أبي نصر البخاري في سر السلسلة العلوية ص 102، ولد علي بن الحسن بن علي المعروف بـ خرزي حسناً وأمه فاطمة بنت عثمان بن عروة بن الزبير بن العوام.
المصاهرات بين أهل البيت وآل الخطاب من بني عدي
1- محمد بن عبد الله رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _:
تزوج من حفصة بنت عمر بن الخطاب.
وهذا زواج لم ينكره أحد من علماء الشيعة الإمامية وإن كان علماء الشيعة الإمامية يضعون أم المؤمنين حفصة مع أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليهما في كل سب ولعن وطعن.
2- الحسن الأفطس بن علي بن علي زين العابدين بن الحسين:
ذكر ذلك الزواج من علماء الشيعة ابن عنبه في عمدة الطالب ص 337، تراجم أعلام النساء ص 361.
3- الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
تزوج من رملة بنت سعيد بن زيد بن نفيل العدوي.
ولدت له محمداً ورقية وفاطمة، ذكر هذا الزواج من علماء الشيعة ابن عنبه في عمدة الطالب ص 120 الهامش.
المصاهرات ببن أهل البيت وبني تيم
الحسن بن علي بن أبي طالب:
تزوج من أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التيمي.(5/13)
ولدت للحسن فاطمة وأم عبدالله وطلحة بن الحسن وذكر ذلك النكاح من مصادر الشيعة الإمامية: الإرشاد للمفيد ص 194، ومنتهى الآمال للشيخ عباس القمي ص 651 الفصل 12 في بيان أولاد الحسين، كشف الغمة في معرفة الأئمة 2/575 في ذكر أولاد الحسن، والأنوار النعمانية للجزائري 1/374 قال: (( والحسين الأثرم بن الحسن وطلحة وفاطمة أمهم أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التيمي )).
2- الحسين بن علي بن أبي طالب:
تزوج من أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التيمي.
وقد أوصاه الحسن قبل موته بنكاح أم إسحاق فكان ذلك وولدت له فاطمة بنت الحسين، وذكر ذلك من مصادر الشيعة الإمامية: الإرشاد للمفيد ص 194، ومنتهى الآمال للشيخ عباس القمي ص 651 الفصل 12 في فصل أولاد الحسين، والأنوار النعمانية للجزائري 1/374 قال: (( وفاطمة بنت الحسين وأمها أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله )).
المصاهرات بين أهل البيت وبني أمية
1- رقية وأم كلثوم بنتي رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _:
تزوجهما عثمان بن عفان.
هذه المصاهرة لا ينكرها أحد من علماء الشيعة الإمامية ولكنهم مع ذلك يصرون على الطعن في عثمان بن عفان ويرون أن هذا النكاح وإن تم فإنه من قبيل زواج مناكحة من أظهر الإسلام وأضمر الكفر ( راجع المسائل السروية للشيخ المفيد ) ويدعي علماء الشيعة أن الذي قتل رقية هو عثمان لشدة ضربه إياها ( على حد زعمهم ) فلِمَ زوَّجة رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ أم كلثوم بعد وفاة رقية ؟ !
2- زينب بنت رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _:
تزوجها أبو العاص بن الربيع.
وأبو العاص بن الربيع هو ابن خالتها فأمه هالة بنت خويلد ولدت زينب له ابنة هي أُمامة، تزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة الزهراء وهذه مصاهره لم ينكرها أحد من علماء الشيعة الإمامية.
3- علي بن الحسن بن علي بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
تزوج من رقية بنت عمر العثمانية.(5/14)
ذكر ذلك أبو نصر البخاري قال: وعلي بن الحسن بن علي الخرزي هو الذي تزوج برقية بنت عمر العثمانية وكانت من قبل تحت المهدي بن المنصور فأنكر ذلك الهادي وأمر بطلاقها فأبى علي بن الحسن ذلك وقال: ليس المهدي برسول الله حتى نحرم نساؤه بعده ولا هو المهدي أشرف مني، سر السلسلة العلوية ص 103.
4- علي بن أبي طالب:
تزوج من أُمامة بنت أبي العاص بن الربيع.
سبق بيانه.
5- خديجة بنت علي بن أبي طالب:
تزوجها عبد الرحمن بن عامر بن كريز الأموي.
ذكر هذا النكاح من علماء الشيعة، ابن عنبة في عمدة الطالب ص 83 الهامش نقلا من المجدي لأبي الحسن العمري النسابة الشيعي، وتراجم أعلام النساء ص 345، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم ص 68، وفي عمدة الطالب قال: تزوجها عبدالرحمن بن عامر الأموي. ولم يذكر اسم كُريز.
6- رملة بنت علي بن أبي طالب:
تزوجها معاوية بن مروان بن الحكم.
نسب قريش ص 45، وجمهرة أنساب العرب ص 87 وفيه " كانت رملة عند أبي الهياج الهاشمي واسمه عبدالله بن أبي الحارث بن عبدالمطلب ولدت له وقد انقرض ولد سفيان بن الحارث ثم خلف عليها معاوية بن مروان بن الحكم".
7- زينب بنت الحسن بن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
تزوجها الوليد بن عبدالملك بن مروان.
نسب قريش ص 52، جمهرة أنساب العرب ص 108.
8- نفيسة بنت زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
تزوجها الوليد بن عبدالملك بن مروان.
ذكر هذا النكاح ابن عنبه في عمدة الطالب ص 61 وأيضاً ص 90 وهو نسابة شيعي.
9- أم أبيها بنت عبدالله بن جعفر بن أبي طالب:
تزوجها عبد الملك بن مروان.(5/15)
قال في أنساب الأشراف ص 59 – 60...: (( وكان لعبدالله ابنة يُقال لها أم أبيها تزوجها عبدالملك بن مروان ))... وقيل اسمها أم كلثوم وتزوجها عبدالملك وطلقها ثم خلف عليها أبان بن عثمان بن عفان وقيل هما اثنتان التي تزوجها عبدالله ثم علي بن عبدالله بن عباس هي أم أبيها أختها وقال محمد الحكيمي في أعيان النساء ص 20 (( وتزوجها عبدالملك بن مروان بدمشق فطلقها فتزوجها علي بن عبدالله بن عباس وهلكت عنده ))، وفي تاريخ اليعقوبي ص 322 (( وكان لعلي بن عبدالله بن عباس اثنان وعشرون ولداً... وعبد الله الأكبر أمه أم أبيها بنت عبدالله بن جعفر بن أبي طالب )).
10- فاطمة بنت الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب:
تزوجها عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان.
وولدت له محمد الديباج قتل سنة 145هـ في سجن المنصور الدوانيقي مع إخوته لأمه عبدالله المحض والحسن المثلث وغيرهم من أهل البيت وقد كانت فاطمة من قبل تحت الحسن المثنى ولدت له عبدالله المحض والحسن المثلث وإبراهيم الغمر، وعلماء الشيعة الإمامية يتغافلون عن هذا النكاح، وينكرونه أحياناً كما فعل علي محمد علي دخيل في كتابة فاطمة بنت الحسين إذ يرى أنها لم تتزوج إلا من الحسن المثنى بن الحسن السبط ولدت له، ومن الذين يتغافلون عن ذكر هذا النكاح، الشيخ محمد رضا الحكيمي في كتابه أعيان النساء عبر عصور النساء المختلفة، إذ ترجم لفاطمة بنت الحسين وذكر زواجها من الحسن المثنى وأولادها منه وسجنهم في حبس المنصور الدوانيقي وقتلهم بعد ذلك في الحبس ولكنه لم يذكر أنه قتل معهم محمد الديباج أخوهم من عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان.(5/16)
إلا أنه مع ذلك يقر علماء الشيعة الإمامية جميعاً بأن فاطمة بنت الحسين أُمها أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله، وأم إسحاق هذه كانت زوجة الحسن السبط أيضاً وولدت له وقبل موته أوصى الحسن أخاه الحسين بأن يتزوجها فتزوجها وولدت له فاطمة بنت الحسين وهذا مسطور في كافة المراجع والمصادر ولكن انظر من مصادر الشيعة الإمامية: الإرشاد للشيخ المفيد ص 194، والأنوار النعمانية لنعمه الله الجزائري 1/374، ومنتهى الآمال لعباس القمي ص 651 الفصل 12 في بيان أولاد الحسين، وانظر في ترجمة فاطمة بنت الحسين من مصادر الشيعة الإمامية: تاريخ اليعقوبي 1/374، الأصيلي 65 – 66، وعمدة الطالب ص 118.
ومن كتب الأنساب: أنساب الأشراف 4/ 607، جمهرة أنساب العرب 41 – 83، ونسب قريش ص 51.
وماتت فاطمة بنت الحسين سنة 117هـ وهي السنة نفسها التي ماتت فيها أختها سكينة بنت الحسين وفاطمة الكبرى بنت علي بن أبي طالب.
ولعل القارئ الكريم في شوق لما يشفي العلة ويود أن يقرأ النصوص الصريحة من مصادر علماء الشيعة الإمامية المثبتة لزواج فاطمة بنت الحسين من عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وهاك البيان:-
1- ذكر ابن الطقطقي ت 709هـ وهو نسابة شيعي من أكابر علماء الشيعة في كتابه الأصيلي في أنساب الطالبيين هذا الزواج، قال:
(( خلف فاطمة بنت الحسين عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان فولدت له )).
2- ذكر ابن عنبه ت 828هـ وهو نسابة شيعي معروف في كتابه عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب هذا النكاح ص 188 هامش الكتاب قال المحقق: (( وكانت فاطمة تزوجت بعد الحسن المثنى عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي... فولدت له أولاداً منهم محمد المقتول مع أخيه عبدالله بن الحسن ويقال له الديباج والقاسم ورقية بنو عبدالله بن عمرو )) عمدة الطالب ص 11 الهامش.(5/17)
والخلاصة: إن زواج فاطمة بنت الحسين من عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان ثابت في مصادر الشيعة الإمامية وأهل السنة وقد ذكر ذلك في ( 27 ) سبعة وعشرين مرجعاً منها ثلاثة مراجع للشيعة الإمامية وهي:
الأصيلي في أنساب الطالبيين لابن الطقطقي ت 709هـ ص 65 – 66، عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب لابن عنبه ت 748هـ ص 118، وتاريخ اليعقوبي 2/374.
ومن مراجع وكتب التاريخ والأنساب نشير إلى:
المعارف لابن قتيبة ت 276هـ، وتاريخ الإسلام للذهبي ت 748هـ ص442 أحداث 120 – 101هـ، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزي ت 597هـ 17/182 رقم 630، أنساب الأشراف لأحمد بن يحيى البلاذري 2/198، والبداية والنهاية لابن كثير ت 774هـ، والعقد الفريد لابن عبد ربه، وتقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني 2/482 – 609، وتهذيب التهذيب لابن حجر ت 852هـ 12/442 رقم 2863 و 10/496 رقم 8948، وتاريخ دمشق لابن عساكر 272 – 279 – 280، ونسب قريش لمصعب الزبيري ت 236هـ ص 51، الطبقات الكبرى لابن سعد 8/473 – 474، والتاريخ لابن معين 2/739، والثقات لابن حبان 3/216 والمعرفة والتاريخ 3/265، والكامل في التاريخ لابن الأثير ت 630هـ 5/518 – 523، 6/216، وتهذيب الكمال للمزي ت 742هـ 3/1192 – 392، والكاشف للذهبي 3/432 رقم 110، وجامع التحصيل 394 رقم 1032، وخلاصة تهذيب التهذيب 494، والتذكرة الحمدونية 1/482، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم ص 41 – 83.
فهل بعدَ كل هذه المراجع كلامٌ يا ذوي الأحلام !؟
11- الحسين بن علي بن أبي طالب:
تزوج من ليلى أو آمنة بنت أبي مرة.
وهذه الزوجة ثقفية أموية وجاء ذلك في أحد مصادر الشيعة قال الشيخ عباس القمي في منتهى الآمال ص 653 – 654: (( من زوجات الحسين ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفية وأمها ميمونة بنت أبي سفيان وهي أم علي الأكبر وعلي هاشمي من جهة أبيه ثقفي أموي من جهة أمه )).(5/18)
وذكر ذلك أيضاً في نسب قريش ص 57 فصل ولد الحسين وفيه: (( من زوجاته: ليلى أو آمنة بنت معتب بن عمرو بن سعد بن مسعود بن عوف بن قيس وأمها ميمونة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية )).
المصاهرات بين أهل البيت العلويين وأبناء عمومتهم من أهل البيت العباسيين
1- محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم:
تزوج من أم حبيب بنت المأمون العباسي.
وكان ذلك النكاح سنة 202هـ في آخر صفر وذكر هذا النكاح من مصادر الشيعة الإمامية: تراجم أعلام النساء لمحمد الأعلمي الحائري ص 249، وسيرة الأئمة الاثنى عشر لهاشم معروف الحسيني ص 404 – 405، والإرشاد للمفيد ص 321 وسماها أم الفضل، والمناقب لابن شهر آشوب 1/224.
2- فاطمة بنت محمد بن علي النقي بن محمد الجواد بن علي الرضا:
وتزوجها الخليفة العباسي هارون الرشيد.
وانظر من مراجع الشيعة: مناقب آل أبي طالب 2/224.
3- عبيد الله بن محمد بن عمر الأطرف بن علي بن أبي طالب:
تزوج من عمة أبي جعفر المنصور.
وكان لعمر بن عبد الله ستة وخمسون سنة وتزوج أيضاً من زينب بنت محمد الباقر، وانظر من مراجع الشيعة سر السلسلة العلوية هامش ص 125.
4- أم كلثوم بنت موسى الجون بن عبدالله المحض بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
تزوجت من ابن أخي المنصور العباسي.
قال المحقق لكتاب عمدة الطالب لابن عنبه في هامش ص 134 نقلاً عن كتاب المجدي للنسابة أبي الحسن العمري: (( ولد موسى بن عبدالله الملقب بالجون اثنى عشر ولداً منهم تسع بنات... و ... وأم كلثوم خرجت إلى ابن أخي المنصور )).
- - - -
لاحظ أيها القارئ الكريم علاقات المصاهرة مع العباسيين.
وهذا تمام قولنا في المسألة
أسأل الله العليّ الوهاب
أن يلهمنا الرشد والصواب
وأن يرزق عملنا هذا القبول عند ذوي الألباب والعقول
هو نعم المولى ونعم النصير
- - - -
ملاحق البحث
ملحق رقم ( 1 )(5/19)
* يختلف علماء الشيعة الإمامية اختلافات كثيرة حول أسماء أمهات الأئمة، وذلك عند العلماء الفقهاء وعلماء الأنساب، وهذا عجيب جداً ولم أعلم له تفسيراً والجدول التالي يوضح معظم هذه الاختلافات ( 1 ):
أسماء الأئمة
أسماء الأمهات كما ورد في مراجع الشيعة الإمامية
علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب
المراجع
محمد الباقر بن علي بن الحسين
المراجع
شاه زنان بنت يزدجرد بن كسرى، شهر بانويه، سلافه سلامة، غزالة، برة خويله.
أصول الكافي 1/539 باب مولد علي بن الحسين، نفس المهموم ص 78 – 479، منتهى الآمال 2/9، سر السلسلة العلوية 31.
فاطمة بنت الحسن بن علي بن أبي طالب، وتدعى أم الحسن.
كشف الغمة 2/304.
( 1 ) يجتهد الشيخ عباس القمي في تفسير أسماء أم علي زين العابدين فيقول: ( شاه زنان بنت يزدجرد بن كسرى لقبها، وشهر بانويه اسمها الذي سمَّاها به علي، واسمها الأصلي، سلافة، وصحف إلى سلامة أو العكس، وغزالة أو برة اسم أم ولد الحسين كانت تحتضن علي زين العابدين وكان يسميها أمَّا... )) فهل يقبل عقل القارئ الكريم هذا التفسير والتعليل الذي يضحك الثكلى ويبكي العروس!.
جعفر الصادق بن محمد بن علي بن الحسين
المراجع
موسى الكاظم بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين
المراجع
علي الرضا بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين
المراجع
محمد الجواد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين
فاطمة أو أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأمها أسماء بنت عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق. ولذلك كان يقول جعفر الصادق ( ولدني الصديق مرتين ) أي من قبل أمهاته.
سر السلسلة العلوية ص 34، منتهى الآمال 2/160، كشف الغمة 2/319 – 341.
أم ولد تدعى حميدة المغربية، أو حميدة البربرية، وقيل حميدة المصفاة من أشراف العجم، وروي أن الصادق قال: (( حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب... )).(5/20)
منتهى الآمال 2/239، كشف الغمة 3/5، عمدة الطالب ص 156.
أم ولد يقال لها تكتم، الخيزران المرسية وقيل شقراء النوبية واسمها أروى، ونجمة وسكن، وسمانة، وأم البنين، وخيرزان صقر.
سر السلسلة العلوية ص 38، كشف الغمة 3/52، منتهى الآمال 2/334.
أم ولد اسمها خيزران، أو سكينة المرسية، سبيكة. قال عباس القمي: (( نوبية من أهل بيت مارية القبطية )).
المراجع
علي النقي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر الصادق
المراجع
الحسن العسكري بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر الصادق
المراجع
المهدي المنتظر بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين
سر السلسلة العلوية ص 38، كشف الغمة 3/128، منتهى الآمال 2/419.
أم ولد اسمها سمانة المغربية وقيل غير ذلك كما ورد ذكر كشف الغمة.
كشف الغمة 3/159، سر السلسلة العلوية ص 39.
أم ولد نوبية تدعى ريحانة، وقيل سوسن وقيل الماجدة، وحديث، وسُليك، والجدة.
منتهى الآمال 2/591، سر السلسلة العلوية ص 39، كشف الغمة 3/188.
قيل اسمها نرجس، وقيل صيقل، وقيل خمط، وهي أم ولد قال النباطي العاملي: (( في سرَّ من رأى بدار العسكري ونرجس الأم بقول الأكثر )) وقيل حكيمة، وقيل هي جارية رومية من نسل أحد حواري المسيح وهو شمعون بن حمون بن الصفا واسمها مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وبهذا روايات عديدة عند ابن بابويه القمي وشيخ الطائفة الطوسي بأسانيد معتبرة عن بشر بن سليمان النخاس من ولد أبي أيوب كما ذكر عباس القمي في منتهى الآمال 2/555.
منتهى الآمال 2/559، كشف الغمة 3/224، الإرشاد ص 346، حق اليقين لشبر ص 222، الصراط المستقيم لمستحقي التقديم 2/217، عمدة الطالب ص 158.
* والمتأمل اللبيب لما سلف يلاحظ ما يلي:
1- الاختلاف حول أسماء أمهات الأئمة وعدم الجزم باسم محدد.
2- محاولة تأويل تعدد الأسماء بتأويلات واهية.(5/21)
3- الإشارة بشكل ملحوظ إلى أن أمهات الأئمة إما من أصل العجم، وإما من أصل رومي نصراني، وإما بربرية من أصل عربي.
فأم موسى الكاظم حميدة المصفاة من أشراف العجم.
وأم على زين العابدين شاه زنان بنت يزدجرد بن كسرى عظيم الفرس.
وأم علي النقي سمانة المغربية.
وأم الحسن العسكري ريحانة النويبة.
وأم علي الرضا شقراء النوبية.
وأم محمد الجواد جمعت بين كونها نوبية من أهل بيت مارية القبطية.
وأم المهدي المنتظر ينتهي نسبها إلى شمعون بن حمون بن الصفا أحد حواري المسيح وهي بنت قيصر الروم.
أليس هذا كله عجيباً أن أمهات الأئمة أمهات أولاد إما نوبيات أو قبطيات أو روميات أو من أشراف العجم.
ولا يوجد من أصل عربي إلا فاطمة بنت الحسن أم محمد الباقر، وأم فروة أو فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أم جعفر الصادق !!
فتأمل...!!
ملحق رقم ( 2 )
دليل أسماء أبناء أهل البيت وبناتهم _ رضوان الله عليهم _:
عمر الأطرف بن علي بن أبي طالب.
عمر بن محمد بن عمر الأطرف بن علي بن أبي طالب.
عمر بن حسين الشهيد بن علي بن أبي طالب.
عمر الأشرف بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
عمر بن علي الأصغر بن عمر الأشرف بن علي زين العابدين بن الحسين.
عمر بن الحسن الأفطس بن علي الأصغر بن علي زين العابدين بن الحسين.
عمر بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
عمر بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق.
عمر بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب.
عمر بن جعفر بن محمد بن عمر الأطرف بن علي بن أبي طالب.
عمر بن محمد بن عمر بن علي بن الحسين الشهيد.
عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد.
عمر بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
أبو بكر بن علي بن أبي طالب.
أبو بكر بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب.
أبو بكر بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب.
أبو بكر بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب.
أبو بكر أحد أسماء المهدي المنتظر.(5/22)
عثمان بن علي بن أبي طالب.
عثمان بن عقيل بن أبي طالب.
عائشة بنت موسى الكاظم بن جعفر الصادق.
عائشة بنت علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق.
عائشة بنت علي أبي الحسن بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر الصادق.
معاوية بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب.
طلحة بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
ملحق رقم ( 3 )
أشكال لتبسيط المصاهرات:(5/23)
الانتصار للصحابةِ الأخيار
في ردِّ أباطيل حسن المالكي
تأليف:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن سلك سبيلَه واهتدى بهديه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعدُ:
فإنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهَدْي هديُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
وبعد، فإنَّ من فضلِ الله تعالى وعظيمِ منَّتِه عليَّ أن حبَّبَ إليَّ صحابةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأخيار، وقرابتَه الأطهار، من غير إفراطٍ أو تفريطٍ، أو غُلوٍّ أوجفاءٍ، كما هي طريقةُ السَّلف الصالح، وقد ألَّفتُ رسالةً مختصرةً بعنوان: (( عقيدةُ أهل السنَّة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم ))، وقد نُشرتْ في مجلَّة الجامعة الإسلامية، في عدَدِها الثاني من السنة الرابعة، الصادر في شهر شوّال سنةَ 1391هـ، ثمَّ طُبعتْ مستقلَّة.
وألَّفتُ رسالةً بعنوان: (( فضلُ أهل البيت وعُلوُّ مكانتهم عند أهل السنَّة والجماعة )) طُبعتْ في عام 1422هـ، وسبق أن ألقيتُ محاضرةً في الموضوع في الجامعة الإسلامية في عام 1405هـ تقريباً بعنوان: (( مكانةُ أهل البيت عند الصحابة وتابعيهم بإحسان )).(6/1)
وقد ألقيتُ محاضرةً في قاعة المحاضرات في الجامعة الإسلامية في عام 1405هـ تقريباً عن معاويةَ بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكان عنوانها
في أوَّل الأمر (( معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بين المنصفين والمتعسِّفين ))، لكنِّي عند إلقائها اقتصرتُ على كلام أهل الإنصاف دون ذكر شيءٍ من كلام أهل الاعتساف، ثمَّ طُبعت بعنوان: (( من أقوال المنصفين في الصحابيِّ الخليفةِ معاويةَ رضي الله عنه )).
وفي الآونة الأخيرة وقفتُ على رسالتين لأحد المتعسِّفين الجُدُد، وهو حسن بن فرحان المالكي (نسبة إلى بَنِي مالك في أقصى جنوب المملكة)، إحداهما بعنوان: (( الصحابةُ بين الصُّحبة اللُّغوية والصُّحبة الشَّرعية ))، والثانية بعنوان: (( قراءةٌ في كتب العقائد ))، اشتملتَا على تَخبُّطٍ وتَخليطٍ في مسائل الاعتقاد، ولا سيَما في الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وعلى النَّيل من عددٍ كبيرٍ من علماء أهل السنَّة المتقدِّمين والمتأخِّرين، وإشادة بأهل البدع.
وسأقتصرُ في هذه الرسالة على دحضِ أباطيله في حقِّ الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم.(6/2)
ومن هذه الأباطيل: تقسيمُه الصحبةَ إلى صحبةٍ شرعيَّة وصحبةٍ لغويَّةٍ، ويريدُ بالصُّحبة الشرعيَّة صحبة المهاجرين والأنصار من أوَّل الهجرة إلى صُلح الحُديبية، وأنَّ ما ورد من فضائل لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنَّما هي لهؤلاء وحدهم، ومَن كان بعد الحُديبية فصحبتُه لغويَّة كصحبة المنافقين والكفّار. فأخرج بذلك الألوفَ الكثيرةَ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين أسلموا وهاجروا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الحُديبية، وكذلك الذين أسلموا عامَ الفتح، والوفودَ الذين وَفَدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرَهم، ومِن الذين زعم أنَّهم لَم يظفروا بشرف الصُّحبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنَّ صُحبَتَهم إيَّاه كصُحبة الكفَّار والمنافقين: عمُّه العباس بن عبد المطّلب وابنُه عبد الله وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومعاوية رضي الله عنهم، وسيأتي تنصيصُه على عدم صحبتِهم والردُّ عليه.
ومن هذه الأباطيل تشكيكُه في أفضليَّة أبي بكر على غيره وفي أَوْلَوِيَّته بالخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وغير ذلك مِمَّا سأذكرُه في الرَّدِّ عليه.(6/3)
والله يعلم أنَّني كارهٌ لإيراد هذه الأباطيل، لكن حالي كما جاء في
المَثَل: (( مُكرَهٌ أخوك لا بطل ))، كما في مجمع الأمثال للميداني (ص:274)، فأجدُني مضطرًّا إلى إيراد هذه التَّعسُّفات والرَّدِّ عليها،
وأقول فيها كما قال السيوطي في كتابه (( مفتاح الجنة في الاحتجاج
بالسنة )) (ص:5) في إبطال قول من قال: (إنَّه لا يُحتَجُّ بالسُّنَّة، إنَّما
يُحتجُّ بالقرآن وحده!) قال: (( اعلموا ـ يرحمكم الله ـ أنَّ من العلم كهيئة الدواء، ومن الآراء كهيئة الخلاء، لا تُذكر إلاَّ عند داعية الضرورة )) إلى أن قال في (ص:6): (( وهذه آراء ما كنتُ أستحلُّ حكايتَها لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد، الذي كان الناس في راحة منه من أعصار )).
ولشناعة هذه الأباطيل، فإنَّ مجرَّدَ تصوُّرِها يُغني عن الاشتغال في الردِّ عليها، لكنِّي رأيتُ الردَّ عليها في هذه الرسالة؛ لئلاَّ يغتَرَّ بها ذو جهل أو تغفيل، ورجاء أن يهدِيَ الله المردودَ عليه، ويُخرجه من الظلمات إلى النور، فيتوبَ من تلك الأباطيل قبل أن يفجأَه هادِمُ اللَّذَّات، والرجوعُ إلى الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل، كما قال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه (تفسير القرطبي 5/262).
وقد سَمَّيتُ هذه الرسالة:
الانتصار للصحابةِ الأخيار في ردِّ أباطيل حسن المالكي
وما أعزوُه إليه مِن كلامٍ باطل للردِّ عليه فهو في كتابه الذي في الصحابة، وما كان في الكتاب الآخر وهو: (( قراءةٌ في كتب العقائد )) فإنِّي أنصُّ عليه، فأقول: قال في (( قراءته )) كذا وكذا، وقد رددتُ عليه من كتابه هذا في موضعين من هذا الردِّ (ص:65)، (ص:115 ...)، وسأُفرِدُ بحول الله الردَّ عليه فيه بكتاب بعنوان: (( الانتصار لأهل السُّنَّة والحديث في ردِّ أباطيل حسن المالكي )).
وأسأل الله عزَّ وجلَّ التوفيقَ لِما فيه رضاه والفقهَ في دينه والثباتَ على الحقِّ، إنَّه سميعٌ مجيب.
* * *(6/4)
زعمه قَصْر الهجرة على المهاجرين قبل الحُديبية، وقَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، والرد عليه:
قال في (ص:25) في بيان مَن هم الصحابة: (( أصحابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
ـ الصحبة الشرعية ـ ليسوا إلاَّ المهاجرين والأنصار، وقد يدخل فيهم مَن كان في حكمهم مِمَّن أسلم وهاجر إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعاد إلى بلاده قبل فتح الحُديبية.
فهذا أسلمُ تعريفٍ لأصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الصُّحبةُ الشرعيةُ هي التي كان فيها النُّصرةُ والتمكينُ في أيَّام الضَّعفِ والذِّلَّة، وهي الصُّحبةُ الممدوحةُ في القرآن الكريم والسنَّة النبويّة، بمعنى أنَّ كلَّ آيات القرآن الكريم التي أثنت على (الذين مع النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -) إنَّما كان الثناءُ مُنصَبًّا على المهاجرين والأنصار فقط، وليس هناك مدحٌ عامٌّ لِمَن كان مع النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ وهو منصرفٌ لهؤلاء لا لغيرهم !! )).
وقد علَّق عند قوله: (( قبل فتح الحُديبية )) بقوله في الحاشية: (( وقد يدخل في مسمَّى (الأصحاب) مَن أسلم بَعد الحُديبية إلى فتح مكة، مع الجزم بالفرق الكبير بينهم وبين أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قبل بيعة الرِّضوان؛ لحديث خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف، لكن لا يدخل فيهم طلقاءُ قريشٍ ولا عُتقاءُ ثقيفٍ ولا مَن كان في حُكمهم من الأعراب والوفود بعد فتح مكة !!! )).
وقال في نهاية الكتاب (ص:84 ـ 85): (( الصُّحبةُ الشرعية: لا تكون إلاَّ في المهاجرين والأنصار الذين كانوا مع النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في المدينة من بداية الهجرة إلى زمن الحُديبية، ويدخل في هؤلاء السابقون بالإسلام، الذين توفوا في مكة قبل الهجرة، أو في الحبشة، أو قدموا بعد الحُديبية من مهاجرة الحبشة فقط.(6/5)
الصُّحبة العامة: التي مرجعُها العُرفُ أو اللُّغة، فهذه يدخل فيها كلُّ مَن صحب النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين أو المنافقين أو الكفَّار، والذي يُدخِل مَن صحب النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صحبةً يسيرةً لاحتمال اللُّغة ذلك لا يستطيع إخراجَ صحبة المنافق لا لغةً ولا عُرفاً؛ لأنَّ اللغةَ والعرفَ تحتملان ذلك أيضاً.
فإن قال المُخرج للمنافق أو الكافر: إنَّما أخرجناهما من الصُّحبةِ بالشرع، قلنا له: ونحنُ إنَّما حدَّدنا الصُّحبة الشرعية بالمهاجرين والأنصار بالشرع أيضاً.
فإن تَمسَّكتَ بمطلق اللغة فقد أدخلتَ على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - صحبةَ المنافقين، وإن قلتَ: أنَّ اللغة ليست حجَّةً على الشرع، قلنا: كذلك في الصحبة الشرعية، والعرفُ حكمُه حكمُ اللغة، وإن كان أقوى دلالةً من اللغة )).
أقول: إنَّ هذا الكلام يشتمل على أمور:
الأول: قصرُه المهاجرين هجرةً شرعيةً على مَن هاجر قبل الحُديبية، دون مَن هاجر بعدها.
الثاني: أنَّ المهاجرين قبل الحُديبية مع الأنصار هم أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصُّحبةَ الشرعية دون غيرِهم.
الثالث: الجزم بأنَّ كلَّ مَن صحب الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة ـ سواء كان من الطُّلَقاء والعُتقاء وأصحاب الوفود ـ لا يُعَدُّ صحابياًّ، وصحبتُه المضافة إليه لغوية، كصحبة المنافقين والكفّار.
الرابع: أنَّ أولادَ المهاجرين والأنصار ليس لهم حكم المهاجرين والأنصار.
الخامس: اعتبر مَن صَحِبَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعد الحُديبية وقبل فتح مكة من أصحابه الصُّحبة اللُّغوية التي هي شبيهةٌ بصحبة المنافقين والكفار، كما جاء في كلامه الأخير الذي هو خلاصةُ رأيه.
والجوابُ عن الأمر الأوّل أن يُقال:(6/6)
إنَّ الهجرةَ إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة تَمتدُّ مِن بدْءِ الهجرة إلى فتحِ مكة، مع التفاوت الكبير بين مَن تقدَّمتْ هجرتُه ومَن تأخَّرتْ، كما أنَّ التفاوُتَ حاصلٌ بين مَن هاجر في بداية الهجرة وبين مَن هاجر قُبَيل صُلح الحُديبية.
فإنَّ مَن شَهِد بدراً وأُحُداً والخندقَ وغيرَها أفضلُ مِمَّن هاجر قُبَيل الحُديبية وشَهِد الحُديبية.
وما ذكره في (ص:85 ـ 86) من تقسيم الهجرة إلى (هجرة شرعية) تنتهي بصلح الحُديبية و(شرعيةِ هجرةٍ) تَمتَدُّ إلى فتح مكة، وقصْره فضلَ الهجرة التي ورد لأهلها المدحُ والثناءُ على الهجرة قبل الحُديبية دون ما بعدها إلى فتح مكة تحكُّمٌ لا دليل عليه.
ويدلُّ لاستمرار الهجرة التي ورد لأهلها المدحُ والثناءُ من بدء الهجرة إلى فتح مكة ما يأتي:
1 ـ حديث ابن عباس في الصحيحين، واللفظُ للبخاري (2825)، أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال يومَ الفتح: (( لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّةٌ، وإذا استُنفِرْتُم فانفِروا )).
قال الحافظ في شرحه: (( قال الخطّابيُّ وغيرُه: كانت الهجرةُ فرضاً في أوَّل الإسلام على مَن أسلم لقلَّة المسلمين بالمدينة وحاجتِهم إلى الاجتماع، فلمَّا فتح الله مكةَ دخل النَّاسُ في دين الله أفواجاً، فسقط فرضُ الهجرة إلى المدينة، وبقي فرضُ الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدوٌّ )).
2 ـ حديث أبي عثمان النهدي عن مجاشع بن مسعود في الصحيحين، واللفظُ للبخاري (3079)، قال: (( جاء مجاشعٌ بأخيه مجالد بن مسعود إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: هذا مجالد يبايعُك على الهجرة، فقال: لا هجرةَ بعد فتح مكة، ولكن أبايعُه على الإسلام )).
وفي لفظٍ للبخاري (2963) قال مجاشع: (( أتيتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنا وأخي، فقلتُ: بايعْنا على الهجرة، فقال: مَضتِ الهجرةُ لأهلها، فقلتُ: علامَ تبايعنا؟ قال: على الإسلام والجهاد )).(6/7)
وهو يدلُّ على استمرار الهجرة ذات المدح والثناء إلى فتح مكة.
3 ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( انقطعت الهجرةُ منذُ فتح الله على نبِيِّه - صلى الله عليه وسلم - مكة )) رواه البخاري (3080).
وهو واضحٌ في استمرار الهجرة ذات الفضل إلى فتح مكة.
4 ـ حديث جرير رضي الله عنه مرفوعاً: (( المهاجرون والأنصارُ بعضُهم أولياءُ بعض في الدنيا والآخرة، والطُّلَقاءُ من قريشٍ والعتقاءُ من ثقيفٍ بعضُهم أولياءُ بعضٍ في الدنيا والآخرة ))، وهوحديثٌ صحيحٌ، انظر تخريجه في السلسلة الصحيحة للألباني (1036) والمسند (4/363).
والمقابلة بين المهاجرين والأنصار وبين الطُّلَقاء والعتقاء دالَّةٌ على استمرار الهجرة إلى فتح مكة.
وقد أورد المالكي في (ص:46 ـ 47) حديثَ مجاشعٍ، وفيه الدلالة على أنَّ الهجرة تنتهي بفتح مكة، وهو يخالفُ ما زعمَه في (ص: 45 ـ 46) من أنَّ الهجرةَ تنتهي بصُلح الحُديبية فقال: (( الدليلُ الخامس عشر ما رواه البخاري في صحيحه عن مجاشع بن مسعود قال: أتيتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بأخي بعد الفتح، فقلتُ: يا رسول الله! جِئتُك بأخي لتبايعَه على الهجرة، قال: ذهب أهلُ الهجرة بما فيها.
أقول: هذه (كذا) فيه دلالةٌ واضحةٌ على أنَّ فتحَ مكة قطع الهجرة، ولا يحصل مسلمو الفتح على اسم الهجرة ولا فضلها حتى لو وفدوا إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا فلا يُسمَّوْن مهاجرين، وإنَّما يُسمَّوْن (الناس) كما في حديث (أنا وأصحابي حيِّزٌ والناسُ حيِّزٌ)، أو يُسمَّون الطُّلَقاء، أو نحو ذلك! )).
ثمَّ علَّق على هذا بقوله:(( وقوله: (ذهب أهلُ الهجرة بِما فيها) أي
بِما فيها من فضلٍ وتسميةٍ وغيرِ ذلك مِمَّا هو من خصائص المهاجرين وفضائلهم )).(6/8)
وأقول: هذا واضحٌ في استمرار الهجرة ذات الثناء والمدح إلى فتح مكة، وهو خلافُ ما دندن حولَه من أنَّ الهجرةَ المحمود أهلُها تنتهي بصلح الحُديبية، وهذا الحديثُ قد أوردتُه قريباً من جملة الأدلَّة الدالَّة على استمرار الهجرة المحمود أهلُها إلى فتح مكة، وليس إلى صلح الحُديبية كما زعم، وقد وُفِّق هنا للصواب بتقرير أنَّ الهجرةَ تستمرُّ إلى فتح مكة، وإن كان ذلك بغير قصدٍ منه.
وأمَّا الأمورُ الأربعةُ الباقيةُ، وهي قصرُه الصُّحبةَ الشرعية التي جاء مدحُها في الكتاب والسنَّة على المهاجرين قبل الحُديبية والأنصار إلى زمن صلح الحُديبية، ونفي هذه الصحبة عن المهاجرين بعد الحُديبية، وعن الطُّلَقاء وعتقاء ثقيف وأصحاب الوفود وأبناء المهاجرين والأنصار، فيجاب عن ذلك بأنَّ هذا التقسيم للصحابة إلى مَن صُحبتُهم صُحبةٌ شرعيةٌ ومَن صُحبتُهم لُغويةٌ شبيهةٌ بصحبة المنافقين والكافرين تقسيمٌ غيرُ صحيحٍ، وهو من محدثات القرن الخامس عشر، والصحيحُ أنَّ كلَّ مَن لقي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ومات على الإسلام فهو من أصحابه.
قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/10): (( وأصحُّ ماوقفتُ عليه من ذلك أنَّ الصحابيَّ مَن لقي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ومات على الإسلام، فيدخل فيمن لقيه مَن طالت مجالسته له أوقصُرت، ومن روى عنه أو لَم يروِ، ومن غزا معه أو لَم يغزُ، ومن رآه رُؤيةً ولو لَم يجالسْه، ومَن لَم يرَه لعارضٍ كالعمى )) ثمَّ شرح تعريفَه هذا إلى أن قال (1/12): (( وهذا التعريفُ مَبنِيٌّ على الأصحِّ المختارِ عند المحقِّقين كالبخاري وشيخِه أحمدَ بن حنبل ومن تبعهما، ووراء ذلك أقوالٌ أخرى شاذَّةٌ ... )) وأشار إلى جملةٍ منها، وهذا التعريفُ هو الأسلمُ، وهو يشملُ حتى الذين رأوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مجرَّدَ رؤية ولَم يُجالِسوه، ويدلُّ لذلك أدلَّةٌ:(6/9)
الأول: قال الله عزَّ وجلَّ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.
فإنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ عامَّةٌ في جميع أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - سواءً مَن كان أسلم عام الفتح وصحبه - صلى الله عليه وسلم -، ومَن كان قبل ذلك وبعده إلى وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وقد تأوَّل المالكيُّ هذه الآيةَ بقصرِ عمومِها على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية وهو تحكُّمٌ وتعسُّفٌ، وسيأتي الرَّدُّ عليه.
الثاني: قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ الله الْحُسْنَى وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
فإنَّ الآيةَ عامَّةٌ في الصحابة، والفتحُ فيها فتحُ مكةَ على قول الجمهور، وصلحُ الحُديبية على قول بعض العلماء، وسيأتي ذكر المالكي للآية مستدلاًّ بها على رأيه الباطل والرَّدّ عليه.
الثالث: قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنكُمْ وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.(6/10)
ففي الآية دليلٌ على أنَّ مَن آمن وهاجر وجاهد مع المهاجرين والأنصار من الصحابة الذين تأخَّر إسلامُهم أنَّهم منهم في الأجر والثواب، مع التفاوت الكبير بين هؤلاء وهؤلاء، قال الشوكاني في فتح القدير: (( ثمَّ أخبر سبحانه بأنَّ من هاجر بعد هجرتهم وجاهد مع المهاجرين الأوَّلين والأنصار فهو مِن جملتِهم أي: من جملة المهاجرين الأوَّلين والأنصار في استحقاق ما استحقُّوه من الموالاة والمناصرة وكمال الإيمان والمغفرة والرزق الكريم )).
الرابع: قال الله عزَّ وجلَّ: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ}.
فإنَّ الآيةَ في الصحابة جميعاً، فيدخلُ فيها كلُّ مَن كان معه وجاهد قبل الفتح وبعده، في حُنين والطائف وغزوة تبوك، قال ابن كثير في تفسيره: ((لَمَّا ذكر تعالى ذمَّ المنافقين بيَّن ثناءَه على المؤمنين وما لهم في آخرتهم، فقال: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا} إلى آخر الآيتين من بيان حالِهم ومآلهم، وقوله: {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الخَيْرَاتُ}، أي: في الدار الآخرة في جنَّات الفردوس والدرجات العُلَى )).
ويدلُّ لذلك أيضاً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ}، أي: أنَّ الله كافيك وكافي من اتَّبَعك من المؤمنين.(6/11)
الخامس: قال الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سِيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي الله النَّبِيَّ وَالَّذين آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
ففي الآيةِ الكريمة بيانُ حال النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا معه يوم القيامة، ويدخل في ذلك الصحابة رضي الله عنهم دخولاً أوَّليًّا؛ لأنَّهم خيارُ المؤمنين وسادات الأولياء بعد الأنبياء والمرسَلين.
السادس: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:
(( يأتي على الناس زمان، يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال لهم: فيكم مَن رأى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم، ثمَّ يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال لهم: فيكم مَن رأى مَن صَحب رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم، ثمَّ يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال لهم: هل فيكم مَن رأى مَن صَحِب من صَحب رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم )) رواه مسلم (2532).
فهذا الحديث الصحيحُ دالٌّ على أنَّ الصُّحبةَ للرسول - صلى الله عليه وسلم - تحصُل برؤيته - صلى الله عليه وسلم -، وإن لَم تطُلْ صحبتُه إيَّاه.(6/12)
قال علي بن المديني ـ رحمه الله ـ في اعتقاده الذي رواه عنه اللالكائي بإسناده في كتابه (( شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة )) (1/188) فساقه، وفيه: (( مَن صَحِبَه سَنةً أو شهراً أو ساعةً، أو رآه، أو وفد إليه فهو من أصحابه، له من الصُّحبة على قدر ما صحبَه، فأدناهم صحبةً هو أفضلُ من الذين لَم يروه، ولو لقوا الله عزَّ وجلَّ بجميع الأعمال، كان الذي صحب النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ورآه بعينيه وآمن به ولو ساعة أفضلَ بصُحبته من التابعين كلِّهم، ولو عملوا كلَّ أعمال الخير )).
وقد ساق اللالكائيُّ في كتابه أيضاً (1/180) اعتقاد الإمام أحمد بإسناده إلى عَبدوس بن مالك العطَّار عنه، وفيه تعريف الصحابي وبيان فضيلة الصُّحبة بنحو كلام علي بن المديني المتقدِّم.
قال ابن تيمية في منهاج السنَّة (8/382 ـ 388): (( ومِمَّا يبيِّن هذا أنَّ الصُّحبةَ فيها عمومٌ وخصوصٌ، فيُقال: صَحبِه ساعةً ويوماً وجمعةً وشهراً وسنةً، وصَحِبَه عمرَه كلَّه.
وقد قال تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ}، قيل: هو الرفيق في السَّفر، وقيل: الزوجة، وكلاهما تقلُّ صُحبتُه وتكثر، وقد سَمَّى الله الزوجةَ صاحبةً في قوله: {أَنَّى يُكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَهُ صَاحِبَةٌ}.
ولهذا قال أحمد بن حنبل في الرسالة التي رواها عَبْدوس بن مالك عنه: (مَن صحب النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سنةً أو شهراً أو يوماً أو ساعةً، أو رآه مؤمناً به، فهو من أصحابه، له من الصُّحبة على قدر ما صحبَه).
وهذا قول جماهير العلماء من الفقهاء وأهل الكلام وغيرِهم: يَعُدُّون في أصحابه مَن قلَّت صحبتُه ومَن كثرت، وفي ذلك خلافٌ ضعيف.(6/13)
والدليلُ على قول الجمهور ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (يأتي على الناس زمان، يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال: هل فيكم مَن رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم، ثمَّ يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال: هل فيكم مَن رأى مَن صحب النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم، ثمَّ يغزو فئامٌ من الناس، فيُقال: هل فيكم مَن رأى مَن صحب من صحب رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم)، وهذا لفظ مسلم، وله في رواية أخرى: (يأتي على الناس زمان يُبعَثُ منهم البعث، فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحداً مِن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيوجد الرَّجل، فيُفتَح لهم به، ثمَّ يُبعث البعثُ الثاني، فيقولون: هل فيكم مَن رأى أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم! فيُفتَح لهم به، ثمَّ يُبعثُ البعثُ الثالث، فيُقال: انظروا هل ترون فيكم مَن رأى مَن رأى أصحابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم، ثمَّ يكون البعثُ الرابع، فيُقال: هل ترون فيكم أحداً رأى من رأى أحداً رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيوجد الرَّجل فيُفتحُ لهم به)، ولفظ البخاري ثلاث مرَّات كالرواية الأولى، لكن لفظه: (يأتي على الناس زمان يغزو فِئامٌ من الناس)، وكذلك قال في الثانية والثالثة، وقال فيها كلِّها: (صَحِب)، واتَّفقت الروايات على ذِكر الصحابةِ والتابعين وتابعيهم، وهم القرون الثلاثة، وأمَّا القرن الرابع فهو في بعضها، وذِكرُ القرن الثالث ثابت في المتفق عليه من غير وجه، كما في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خيرُ أمَّتِي القرن الذين يَلونَنِي، ثمَّ الذين يلُونَهم، ثمَّ الذين يلُونَهم، ثمَّ يجيء قومٌ تسبق شهادةُ أحدِهم يَمينَه ويَمينُه شهادتَه).(6/14)
وفي الصحيحين عن عِمران: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنَّ خيرَكم قرنِي ثمَّ الذين يلُونَهم، ثمَّ الذين يلُونَهم)، قال عِمران: فلا أدري أقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، (ثمَّ يكون بعدهم قومٌ يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون ولا يُؤتمَنون، وينذِرون ولا يوفون)، وفي رواية: (ويحلفون ولا يُستحلفون)، فقد شكَّ عمران في القرن الرابع ... )).
إلى أن قال: (( ففي الحديث الأول: (هل فيكم مَن رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟) ثمَّ قال: (هل فيكم مَن رأى مَن صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟)، فدلَّ على أنَّ الرَّائي هو الصَّاحب، وهكذا يقول في سائر الطبقات في السؤال: (هل فيكم من رأى مَن صَحبَ مَن صَحِبَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟) ثمَّ يكون المراد بالصَّاحب الرائي.
وفي الرواية الثانية: (هل تجدون فيكم أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟) ثمَّ يقال في الثالثة: (هل فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟).
ومعلومٌ إن كان الحكمُ لصاحب الصاحب معلَّقاً بالرؤية، ففي الذي صحب رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأوْلَى والأحْرَى.
ولفظ البخاري قال فيها كلِّها: (صَحِب)، وهذه الألفاظ إن كانت كلُّها من ألفاظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي نصٌّ في المسألة، وإن كان قد قال بعضَها، والراوي مثل أبي سعيد يروي اللَّفظ بالمعنى، فقد دلَّ على أنَّ معنى أحد اللَّفظين عندهم هو معنى الآخر، وهم أعلمُ بِمعاني ما سمعوه من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأيضاً فإنْ كان لفظ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (رأى) فقد حصل المقصود، وإن كان لفظه (صحب) في طبقة أو طبقات، فإن لَم يُرِد به الرؤية لَم يكن قد بيَّن مرادَه، فإنَّ الصُّحبةَ اسمُ جنسٍ ليس لها حدٌّ في الشرع ولا في اللغة، والعُرف فيها مختلف.(6/15)
والنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يُقيِّد الصُّحبةَ بقيدٍ، ولا قدَّرها بقدر، بل علَّق الحكمَ بمطلقها، ولا مُطلقَ لها إلاَّ الرؤية.
وأيضاً فإنَّه يُقال: صَحِبَه ساعةً وصَحِبَه سنةً وشهراً، فتقع على القليل والكثير، فإذا أُطلقت من غير قيد لَم يَجُز تقييدُها بغير دليل، بل تُحملُ على المعنى المشترك بين سائر موارد الاستعمال.
ولا ريب أنَّ مجرَّدَ رؤية الإنسان لغيره لا توجب أن يُقال: قد صَحِبَه، ولكن إذا رآه على وجه الاتِّباع له والاقتداء به دون غيره والاختصاص به، ولهذا لَم يُعتدَّ برؤية مَن رأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - من الكفَّار والمنافقين؛ فإنَّهم لَم يروه رؤيةَ مَن قَصْدُه أن يؤمن به، ويكون من أتباعه وأعوانه المصدِّقين له فيما أخبر، المطيعين له فيما أمر، الموالين له، المُعادين لِمَن عاداه، الذي هو أحبُّ إليهم من أنفسِهم وأموالِهم وكلِّ شيء )).
السابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى المقبرة، فقال: (( السَّلامُ عليكم دارَ قومٍ مؤمنين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، وددتُ أنَّا قد رأينا إخواننا، قالوا: أوَلَسْنا إخوانَك يا رسول الله؟! قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لَم يأتوا بعد )) الحديث، رواه مسلم (249) وغيرُه.
فدلَّ الحديثُ على التمييز بين أصحابه وإخوانِه، وأنَّ أصحابَه هم الذين أدركوه ورأوه، وإخوانَه الذين يأتون مِن بعد ولَم يروه، والمرادُ بالأُخوَّة الأخوَّة الإيمانية، والصحابةُ جمعوا بين الصُّحبةِ والأُخوَّة، والذين بعدَهم نصيبُهم الأُخوَّة وحدها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (8/389): (( ومعلومٌ أنَّ قوله (إخواني) أراد به إخواني الذين ليسوا بأصحابي، وأمَّا أنتم فلكم مزيَّة الصُّحبة ...(6/16)
فجعل هذا حدًّا فاصلاً بين إخوانه الذين ودَّ أن يراهم وبين أصحابه، فدلَّ على أنَّ مَن آمن به ورآه فهو من أصحابه، لا مِن هؤلاء الإخوان الذين لَم يَرَهم ولَم يَرَوْه، فإذا عُرف أنَّ الصُّحبةَ اسمُ جنسٍ تَعُمُّ قليلَ الصُّحبة وكثيرَها، وأدناها أن يصحبَه زمناً قليلاً، فمعلومٌ أنَّ الصِّديقَ في ذروةِ سَنَام الصُّحبة وأعلى مراتبها؛ فإنَّه صَحِبَه من حين بعثه الله إلى أن مات )).
الثامن: روى الإمام أحمد في مسنده (4/152) عن محمد بن عُبيد الطنافسي قال: ثنا محمد ـ يعني ابنَ إسحاق ـ حدَّثني يزيد بن أبي حبيب، عن مَرثد بن عبد الله اليَزَنِي، عن أبي عبد الرحمن الجُهنِيِّ قال: (( بينا نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلع رَكْبان، فلمَّا رآهما قال: كِنديان ومُذْحجِيان، حتى أتياه، فإذا رجالٌ من مُذحج، قال: فدنا إليه أحدُهما ليُبايِعه، قال: فلمَّا أخذ بيده قال: يا رسول الله! أرأيتَ مَن رآك فآمن بك وصدَّقك واتَّبعك: ماذا له؟ قال: طوبى له، قال: فمسح على يده، فانصرف، ثمَّ أقبل الآخرُ حتى أخذ بيده ليُبايِعه، قال: يا رسول الله! أرأيتَ مَن آمن بك وصدَّقك واتَّبعك ولَم يرَك؟ قال: طوبى له، ثمَّ طوبى له، ثمَّ طوبى له، فمسح على يده فانصرف )).
وهذا الإسناد فيه محمد بن عُبيد ويزيد بن أبي حبيب ومرثَد بن
عبد الله اليزني، وهم ثقات من رجال الجماعة، ومحمد بن إسحاق صدوق يدلِّس، وقد صرَّح بالتحديث.
وقد رُتِّب الفضلُ في الحديث على رؤيته - صلى الله عليه وسلم - والإيمان به وتصديقه واتِّباعه.
التاسع: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، واللِّفظ للبخاري (3650) عن عِمران بن حُصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( خيرُ أُمَّتِي قرنِي، ثمَّ الذين يلونَهم، ثمَّ الذين يلونَهم، قال عِمران: فلا أدري أَذَكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة )) الحديث.(6/17)
وروَيا أيضاً، واللفظ للبخاري (3651) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (( خيرُ الناس قرني، ثمَّ الذين يلونَهم، ثمَّ الذين يلونَهم )) الحديث.
والقرنُ الأوَّل مِن هذه القرون هو قرنُ الصحابة رضي الله عنهم، قال النووي في شرح صحيح مسلم (16/84): (( اتَّفق العلماءُ على أنَّ خيرَ القرون قرنُه - صلى الله عليه وسلم -، والمرادُ أصحابُه )).
ونقل عن القاضي عياض أنَّ شهر بن حوشَب قال: (( قرنُه: ما بَقيتْ عينٌ رأتْه، والثاني: ما بقيت عينٌ رأت مَن رآه، ثمَّ كذلك )).
وقال ابن تيمية في منهاج السنة (8/384): (( واتَّفقت الروايات على ذِكر الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهم القرون الثلاثة )).
وجاء في السنة الصحيحة وَصْفُ الذين لَم يُدركوا زمنَه - صلى الله عليه وسلم - ويَروه
بـ (التابعين)، ففي صحيح مسلم (2542) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إنِّي سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( إنَّ خيرَ التابعين رجلٌ يُقال له أُوَيس، له والدةٌ وكان به بياض، فمُروه فليستغفر لكم ))، وهو يدلُّ على التمييز بين الصحابة والتابعين.
العاشر: روى مسلم (2531) عن أبي بُردة، عن أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (( صلَّينا المغربَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاءَ، قال: فجلسنا، فخرج علينا، فقال: ما زلتُم ههنا؟ قلنا: يا رسول الله! صلَّينا معك المغربَ، ثمَّ قلنا: نجلس حتى نصلِّيَ معك العشاءَ، قال: أحسنتم أو أَصبتُم، قال: فرفع رأسَه إلى السماء، وكان كثيراً مِمَّا يرفع رأسه إلى السماء، فقال: النُّجومُ أَمَنَةٌ للسماءِ، فإذا ذهبت النجومُ أتى السماءَ ما تُوعَد، وأنا أَمَنةٌ لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يُوعَدون، وأصحابي أَمَنةٌ لأمَّتِي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمَّتي ما يوعَدون )).(6/18)
وفي صحيح البخاري (3876) أنَّ أبا موسى رضي الله عنه قدِم إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حين فتح خيبر، وكان ذلك بعد الحُديبية، وأبو موسى رضي الله عنه مِمَّن يشمله حديثه هذا، لا كما يقول المالكي مِن أنَّ الصُّحبةَ الشرعيَّة هي لِمَن كانت هجرتُه قبل الحُديبية؛ لأنَّ الحُديبية في سنة ست من الهجرة، وفتح خيبر في سنة سبع.
الحادي عشر: روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس (1739) وأبي بكرة (1741) في خطبة النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِنى في حجَّة الوداع، وفي آخرها: (( فليُبلِّغ الشاهدُ الغائبَ ))، وحديث أبي بكرة رواه مسلم أيضاً (29).
وهؤلاء الذين حجُّوا معه وشهدوا خطبتَه وسَمعوها، وأُمروا بإبلاغها غيرَهم هم من أصحابه، لا كما يقول المالكي من أنَّ الصُّحبةَ الشرعيَّة خاصَّةٌ بِمَن كان قبل الحُديبية.
الثاني عشر: روى أبو داود في سننه (3659) بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( تَسمعون ويُسمع منكم، ويُسمَع مِمَّن سَمِع منكم )).
وهو دالٌّ على أنَّ الذين سَمعوا منه - صلى الله عليه وسلم - هم من أصحابه، وأنَّ الذين سَمعوا من الصحابة هم التابعون، وأنَّ الذين سَمعوا مِمَّن سَمع من الصحابة هم أتباع التابعين، ولا يُقال: إنَّ مَن سَمع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وحدَّث عنه ليس بصحابي.
الثالث عشر: روى أبوداود في سننه (3660) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( نضَّر الله امرءاً سَمِع منَّا حديثاً فحفظه حتى يبلِّغَه ... )) الحديث.
وهوحديثٌ متواتر؛ رواه أربعة وعشرون صحابيًّا، وقد جمعتُ طرقَه وتكلَّمتُ على فقهه في بحث بعنوان: (( دراسة حديث (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتِي ...) رواية ودراية))، وهو مطبوع، وهو دالٌّ على كون مَن سَمع حديثَه - صلى الله عليه وسلم - منه أنَّه من أصحابه.(6/19)
الرابع عشر: روى البخاري في الأدب المفرد (87) قال: حدَّثنا بِشر ابن محمد، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا صفوان بن عمرو قال: حدَّثني عبد الرحمن بن جبير بن نُفير، عن أبيه قال: (( جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً، فمرَّ به رجلٌ، فقال: طوبَى لِهاتَين العينين اللَّتين رأَتا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، والله! لوَدِدنا أنَّا رأينا ما رأيتَ، وشهدنا ما شهدتَ، فاستُغضِب، فجعلت أَعْجَب: ما قال إلاَّ خيراً! ثمَّ أقْبَلَ عليه فقال: ما يَحمل الرَّجلَ على أن يتمنَّى مَحضراً غيَّبه الله عنه؟ لا يدري لو شَهدَه كيف يكون فيه؟ والله! لقد حضر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أقوامٌ كبَّهم الله على مناخرِهم في جهنَّم؛ لَم يُجيبوه ولَم يُصدِّقوه، أوَ لا تَحمدون الله عزَّ وجلَّ إذ أخرجكم لا تعرفون إلاَّ ربَّكم فتُصدِّقون بِما جاء به نبيُّكم - صلى الله عليه وسلم -، قد كُفيتُم البلاء بغيركم ... )) الحديث.
وعبد الله الذي في الإسناد هو ابن المبارك، وهو ثقة، أخرج له الجماعة، والثلاثة الذين فوقه ثقات، أخرج لهم البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن، والراوي عن ابن المبارك، قال عنه الحافظ في التقريب:
(( صدوق ))، وقد رواه عن ابن المبارك جمعٌ، منهم: يَعمر بن بشر في مسند الإمام أحمد (6/3)، وحسين بن حسن في الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (292)، وقد أورد الحديثَ ابنُ كثير في تفسيره في آخر سورة الفرقان من مسند الإمام أحمد، وقال: (( هذا إسنادٌ صحيح ولَم يخرجوه )).(6/20)
وهو يدلُّ على أنَّ التابعين يَرون أنَّ شَرَفَ الصُّحبةِ يَحصُل برؤيتِه - صلى الله عليه وسلم - مع الإيمان به؛ ولَم يُنكر ذلك المقداد رضي الله عنه، وإنَّما غضب لِتمنِّي أمرٍ لا يدري المُتمنِّي ماذا يكون حالُه عند حصولِه، وهذا الذي غضب منه المقداد نظيرُ ما جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (( لا تَتمنَّوا لقاءَ العدوِّ، وسلُوا الله العافيةَ، وإذا لقيتُموه فاصبِروا، واعلموا أنَّ الجنَّةَ تحت ظلالِ السيوف ))؛ لأنَّ متمنِّيَ لقاء العدوِّ لا يدري عن حاله حين لقائه: هل تكون حسنة أو سيِّئة؟
ويدلُّ أيضاً لفرح التابعين برؤية الصحابة ما رواه أبو داود في سننه (948) بإسنادٍ فيه ضعف، عن هلال بن يَسَاف قال: (( قدمتُ الرَّقَّةَ، فقال لي بعضُ أصحابي: هل لك في رجلٍ من أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: قلت: غنيمة! فدفعنا إلى وابِصة، قلت لصاحبِي: نبدأ فننظر إلى دلِّه، فإذا عليه قلنسوة لاطئةٌ ذات أُذنين وبُرنس خَزٍّ أغبر ... )) الحديث.
ووابِصةُ هو ابن معبد رضي الله عنه، وقد وفد على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع من الهجرة، ولَمَّا عُرض على هلال بن يساف لقاؤه فرح، وقال: (( غنيمة! )).
أقول: وإنَّها والله غنيمة وأيُّ غنيمة؛ ظَفَرُ التابعيِّ برؤية مَن شرَّفه الله بصحبة النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مع الإيمان به والاتِّباع له!(6/21)
الخامس عشر: قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/20 ـ 21):
(( وقد كان تعظيمُ الصحابة ـ ولو كان اجتماعُهم به صلَّى الله عليه وآله وسلم قليلاً ـ مقرَّراً عند الخلفاء الراشدين وغيرهم، فمِن ذلك ما قرأت في كتاب أخبار الخوارج تأليف محمد بن قدامة المروزي، بخطِّ بعضِ مَن سمعه منه في سنة سبعٍ وأربعين ومئتين، قال: حدَّثنا علي بن الجعد، قال: حدَّثنا زهير هو الجعفي، عن الأسود بن قيس، عن نُبَيْح العَنَزِي قال: كنت عند أبي سعيد الخدري ))، ثمَّ ذكره الحافظ بإسناده إلى نُبيح قال: (( كنَّا عنده وهو متَّكئ، فذكرنا عليًّا ومعاوية، فتناول رجلٌ معاويةَ، فاستوى أبو سعيد الخدري جالساً، ثمَّ قال: كنَّا ننزلُ رفاقاً مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم، فكنَّا رفقةً فيها أبو بكر، فنزلنا على أهل أبيات وفيهم امرأة حُبلى، ومعنا رجلٌ من أهل البادية، فقال للمرأة الحامل: أَيَسُرُّك أن تلِدي غلاماً، قالت: نعم! قال: إن أعطيتِنِي شاةً ولَدتِ غلاماً، فأعطَتْه، فسَجَع لها أسجاعاً، ثمَّ عمد إلى الشاةِ فذبحها وطبخها، وجلسنا نأكل منها ومعنا أبو بكر، فلمَّا علم بالقصَّة قام فتقيَّأ كلَّ شيءٍ أكل، قال: ثمَّ رأيتُ ذلك البَدَويَّ أُتِي به عمر بن الخطاب وقد هجا الأنصارَ، فقال لهم عمر: لولا أنَّ له صحبةً من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم ما أدري ما نال فيها لَكَفَيْتُكموه، ولكن له صحبة مِن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم )).
ثمَّ قال الحافظ: (( لفظ علي بن الجعد، ورجال هذا الحديث ثقات، وقد توقَّف عمر رضي الله عنه عن معاتبتِه فضلاً عن معاقبتِه لكونه علم أنَّه لقي النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك أبينُ شاهد على أنَّهم كانوا يعتقدون أنَّ شأنَ الصحبة لا يعدله شيء )).(6/22)
ثمَّ ذكر أحاديث في فضل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورجال الإسناد ثقات كما قال الحافظ ابن حجر، فعليُّ بن الجعد خرَّج له البخاري وأبو داود، وزهير بن معاوية والأسود بن قيس خرَّج لهم أصحاب الكتب الستة، ونُبيح العَنَزي خرَّج له أصحاب السنن، قال عنه المزيُّ في تهذيب الكمال: (( روى عنه الأسود بن قيس وأبو خالد الدالاني، قال أبو
زرعة: ثقة لَم يرو عنه غير الأسود بن قيس، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات ))، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: (( قلت: وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وذكره علي بن المديني في جملة المجهولين الذين يروي عنهم الأسود بن قيس، وصحح الترمذي حديثه وكذلك ابن خزيمة وابن حبان والحاكم )).
وقول الحافظ: (( رجال هذا الحديث ثقات ))، وفيهم نُبيح هو المعتمَد، وأمَّا قوله في التقريب عنه: (( مقبول ))، أي: حيث يُتابَع، فغير مقبول.
ولا شكَّ أنَّ هجوَ هذا الأعرابي الصحابي للأنصار لا يرجع إلى نُصرتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّ ذلك نفاقٌ، وإنَّما يرجع لشيء غير ذلك، وسيأتي نقل ابن حجر عن القرطبي صاحب المفهم ما يوضح ذلك.
وقد يكون هذا الهجوُ أخفَّ من الذَّمِّ الذي أضافه المالكي للأنصار، وذلك بنسبته إلى أكثرهم كون علي رضي الله عنه أولى بالخلافة من أبي بكر، كما سيأتي عند ذِكر تشكيكه في أحقَّية أبي بكر بالخلافة، ؛ فإنَّ ذلك سوءُ ظنٍّ بهم، وأنَّهم يأبَون إلاَّ غير أبي بكر، وقد قال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
(( يأبَى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر )).
ويدلُّ أيضاً لشمول الصُّحبة لكلِّ من رآه أو سَمع منه حديثاً وصحبه مدَّة وجيزة أو طويلة ما يلي:(6/23)
الأول: أنَّ الذين دوَّنوا سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متَّفقون على ثبوت الصُّحبة لكلِّ مَن سَمِع منه - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان الذي سمعه منه حديثاً واحداً؛ فإنَّهم يسوقون الأسانيد حتى تنتهي إلى الصحابة الذين سمعوا منه ويتَرضَّون عنهم، ومن طريقة أهل السُّنَّة والجماعة الترضِّي عن الصحابة عند ذِكرهم والتَّرحُّم على مَن كان بعدهم.
الثاني: أنَّ الذين ألَّفوا في الصحابة أثبتوا فيهم مَن حصل له مجرَّد اللُّقيّ للرَّسول - صلى الله عليه وسلم -، ومَن لَم يَروِ عنه إلاَّ حديثاً واحداً.
الثالث: أنَّ الذين ألَّفوا في الصحابة وغيرهم، عندما يأتي ذكر الصحابي ـ سواء قلَّت صُحبتُه أو طالت ـ يقولون عنه: صحابي، لا يحتاجون إلى إضافة شيء على هذا الوصف إلاَّ إذا كان الوصفُ فيه زيادة فضل ومنقبة، ككونه من السابقين إلى الإسلام أو مِن أهل بدر أو مِن أهل بيعة الرضوان، فإنَّهم يُضيفون ذلك إلى وصف الصُّحبة.
الرابع: أنَّ العلماءَ على مختلف العصور والدُّهور مُطْبقون على عدِّ كلِّ مَن أسلم بعد صُلح الحُديبية وظفر بصحبة النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه من أصحابه، سواء قصرت مدَّة صحبتِه أو طالت، ومِمَّا يوضِّح ذلك أنَّ المالكيَّ الذي ابتلي بالرأي الباطل، وهو قَصْر الصحبة على المهاجرين والأنصار قبل صلح الحُديبية لَم يَجد له سَلَفاً في هذا الرأي الباطل إلاَّ شخصاً واحداً من المعاصرين سَمَّاه، وهو عبد الرحمن محمد الحكمي، وقد ذكر في ملحق قراءته أنَّه طالبٌ يُواصل دراسته العليا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وستأتي الإشارة إلى ذلك عند ذِكر إعلان المالكي إفلاسه من وجود سلفٍ له في رأيه سوى ذلك الشخص.(6/24)
وبناءً على هذا الرأي الباطل، ماذا يقالُ للصَّحابة الكثيرين الذين أسلموا وصحِبوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعد بيعة الرِّضوان وسَمعوا حديثَه؟ أيقالُ لهم: تابعون، أم ماذا يقال لهم؟!
وماذا يقال لأحاديثهم: أهي مرفوعةٌ أم غيرُ مرفوعة؟!
وعند أهل السنة أنَّ المرفوعَ تصريحاً ما قال فيه الصحابيُّ: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا، وعندهم أنَّ الإسنادَ المنتهي إلى الصحابيِّ يقال له: موقوفٌ، والمنتهي إلى التَّابعي ومَن دونه يقال له: مقطوعٌ، وما قال فيه التابعي (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يقال له مرسل، وعلى هذا الرأيِ الباطل للمالكي يحتاج الأمرُ إلى إعادة النَّظر في مصطلحات علم المصطلح، وذلك واضحٌ في شذوذه وشذوذ قدوته الحكمي، ثمَّ يقال أيضاً إنَّ هذا الرأيَ المحدَث في القرن الخامس عشر لو كان خيراً لسبق إليه سلفُ هذه الأمَّة، وليس من المعقول أن يُحجب حقٌّ في العصور المختلفة عن الناس ويُدَّخَر للمالكي وقدوته!
بقي بعد ذلك أن أُشير إلى أمورٍ:
الأمرُ الأوَّلُ: ما ذكره مِن أنَّ صحبةَ مَن رآه بعد الحُديبية ليست شرعية، وأنَّها كصحبة المنافقين والكفار، مردودٌ بأنَّ رؤيةَ الصحابة رؤيةٌ مع الإيمان به والتصديق بما جاء به، بخلاف رؤية المنافقين والكفار، وقد مرَّ في الدليل الثامن أنَّه لما قال للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ: يا رسول الله! أرأيت من رآك فآمن بك وصدَّقك واتَّبعك: ماذا له؟ فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (( طوبى له )).(6/25)
وهو واضحٌ في الفرق بين رؤية الصَّحابيِّ المصدِّق للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - المتَّبع
له، ورؤية المنافقين والكفار، ومرَّ أيضاً في أثر المقداد ـ وهو الدليلُ الرابع عشر ـ قولُه رضي الله عنه: (( والله! لقد حضر رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أقوامٌ كبَّهم الله على مناخرهم في جهنَّم؛ لَم يُجيبوه ولَم يصدِّقوه، أوَ لاَ تحمدون الله عزَّ وجلَّ إذ أخرجكم لا تعرفون إلاَّ ربَّكم، فتصدِّقون بما جاء به نبيُّكم - صلى الله عليه وسلم -، قد كُفيتم البلاء بغيركم )).
ومرَّ قولُ شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الدليل السادس:
(( ولهذا لَم يُعتدَّ برؤية مَن رأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - من الكفار والمنافقين؛ فإنَّهم لَم يروه رُؤيةَ مَن قصدُه أن يؤمن به ويكون من أتباعه وأعوانه )).
ومِمَّا تقدَّم يتَّضحُ بطلان تسوية المالكي بين صحبة مَن صحب النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعد الحُديبية وصحبةِ المنافقين والكفار، {أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}؟!
الثاني: ما ذكره في الحاشية (ص:25) من قوله: (( وقد يدخل في مسمَّى (الأصحاب) مَن أسلم بعد الحُديبية إلى فتح مكة )).
أقول: هذا الذي ذكره كلامٌ جميلٌ لو سلِمَ مِن ذكر (( قد )) في أوَّله؛ لأنَّ ذكره إيَّاه مصَدَّراً بهذا الحرف واضحٌ في عدم الجزم بصحبة هؤلاء، لكن التعريف الذي قال: إنَّه أسلمُ تعريفٍ ـ وهو في الحقيقة أفسدُ تعريفٍ ـ فيه الجزمُ بعدم صحبة مَن بعد الحُديبية، وكذا كلامه الأخير الذي ختم به الكتاب (ص:84 ـ 85) واضحٌ في قصر الصحبة على المهاجرين والأنصار إلى زمن الحُديبية.(6/26)
ومِمَّا يوضِّح فسادَ تعريف الصحبة الشرعية المحمود أهلها ، المثنى عليهم في الكتاب والسنة بقَصرِها على مَن كان قبل الحُديبية، أنَّه يخرُجُ بذلك جمعٌ كبيرٌ من الصحابة مشهورون كأبي هريرة رضي الله عنه الذي هو أكثرُ الصحابة حديثاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكأبي موسى الأشعري وخالد بن الوليد رضي الله عنهما، وغيرهم مِمَّن هاجر إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قبل فتح مكة وبعد الحُديبية، بل وكالعباس عم النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وابن عمِّه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وكلّ من هاجر إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قبل فتح مكة فهو من المهاجرين كما تقدَّم إيضاحُ ذلك بأدلَّتِه.
الثالث: وأمّا أبناءُ المهاجرين والأنصار فقد أخرجهم من الصُّحبة الشرعية التي خصَّ بها المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، فقال في (ص:28): (( ولا يدخل فيهم ـ يعني الأنصار ـ أبناءُ الأنصار (الأطفال)، كما لا يدخل في المهاجرين أبناءُ المهاجرين! ))، وقال أيضاً في (ص:28): (( ومنهم ـ يعني الذين اتَّبعوا المهاجرين والأنصار بإحسان ـ أبناءُ المهاجرين وأبناءُ الأنصار! ))، وأكَّد ذلك في (ص:85 و87).
أقول: أمَّا كونُ أبناء المهاجرين والأنصار من الذين اتّبعوهم بإحسان ففيه تفصيل، فمَن كان منهم رأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فهو من أصحابه، ومن لَم يره منهم فإنَّه يكون من التابعين للصحابة بإحسان.(6/27)
ومن المعلوم قطعاً أنَّ من القسم الأول: الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم، وهم مِن أهل بيته - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم النعمان بن بَشير رضي الله عنهما الذي كان عمرُه عند وفاة النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثمان سنين، والسائب ابن يزيد رضي الله عنهما الذي قال: (( حُجَّ بي مع النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن سبع سنين ))، وكلُّهم رَوَوا الأحاديث عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
ولكلِّ مَن رأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - من هذا القسم شرفُ الصُّحبة التي نوَّه بها - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (( طوبى له ))، جواباً لِمَن قال له: (( يا رسول الله! أرأيتَ مَن رآك فآمن بك وصدَّقك واتَّبعك: ماذا له؟ ))، وقد مرَّ ذِكر هذا الحديث قريباً.
الرابع: وأمَّا من أسلم عام الفتح وما بعده فقد جزم بعدمِ دخولِهم في مسمَّى الأصحاب، فقال في (ص:25 ـ الحاشية): (( لكن لا يدخل فيهم طُلقاء قريش، ولا عُتقاء ثقيف، ولا مَن كان في حكمهم من الأعراب والوفود بعد فتح مكة!! )).
أقول: إنَّ من المعلوم أنَّ كلَّ مَن رآه - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به متَّبعاً له فهو من أصحابه، وقد مرَّ الدليل على ذلك قريباً، ومن هؤلاء مَن أسلم وصحب النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عام فتح مكة وما بعده، وكذا الذين شهدوا معه حجَّة الوداع.
ومن أشهر الذين أسلموا عام الفتح أبو سفيان وابناه يزيد ومعاوية وسُهيل بن عمرو وعتَّاب بن أسيد الذي جعله النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أميراً على مكة بعد فتحها، والحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم.(6/28)
ولَمَّا ذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام، لقيه أبو عُبيدة وأمراء الأجناد، وأخبروه أنَّ الطاعون وقع بالشام، فاستشار عمر أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المهاجرين الأوَّلين، ثمَّ الأنصار، ثمَّ مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فقد روى البخاري (5729) ومسلم (2219) ـ واللفظ للبخاري ـ عن ابن عباس: (( أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، حتى إذا كان بِسَرْغ لقيه أُمراءُ الأجناد: أبو عُبيدة وأصحابه، فأخبروه أنَّ الوباءَ قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادْعُ لي المهاجرين الأوَّلين، فدعاهم، فاستشارهم، وأخبرهم أنَّ الوباءَ قد وقع في الشام، فاختلفوا، فقال بعضُهم: قد خرجنا لأمرٍ، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضُهم: معك بقيَّة الناس وأصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نرى أن تُقدِمَهم على هذا الوباء، فقال: ارتفِعوا عنِّي، ثمَّ قال: ادْع لي الأنصار، فدعوتُهم فاستشارهم، فسلكوا سبيلَ المهاجرين، واختلفوا كاختلافِهم، فقال: ارتفِعوا عنِّي، ثمَّ قال: ادْعُ لي مَن كان ههنا من مشيخة قريش من مُهاجِرة الفتح، فدعوتُهم فلَم يَختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تُقدِمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إنِّي مُصبحٌ على ظهر، فأصْبِحوا عليه ... )) الحديث، وفي آخره: (( فجاء
عبد الرحمن بن عوف ـ وكان متغيِّباً في بعض حاجته ـ فقال: إنَّ عندي في هذا علماً، سَمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا سَمعتُم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، فحمد الله عمرُ ثمَّ انصرف )).(6/29)
وهو واضحٌ في أنَّ عمرَ استشار الصحابةَ رضي الله عنهم، ومنهم كبار الذين أسلموا عام الفتح، واستقرَّ رأيُه على الرجوع وعدم الدخول على الطاعون، ثمَّ إنَّ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أخبر بِما عنده من الحديث في ذلك، فسُرَّ بذلك عمر وحَمِد الله ثمَّ انصرف.
* * *
هذا وقد أورد المالكي آياتٍ وأحاديث وآثاراً يستدلُّ بها على قَصْر صُحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على المهاجرين والأنصار قبل صُلح الحُديبية، وليس فيما أورده ما يدلُّ على دعواه؛ لأنَّها إمَّا نصوصٌ فيها ذِكر المهاجرين والأنصار والثناء عليهم، وذلك حقٌّ، لكن لا تدلُّ على قصر الصُّحبة عليهم دون غيرهم، وإمَّا آياتٌ وأحاديث فيها الثناء على الصحابة عموماً حَمَلَها تعسُّفاً على المهاجرين والأنصار فقط، وإمَّا أحاديثُ وآثارٌ فيها ذكرُ الصحابي أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي لا تدلُّ على إخراج المتكلِّم والمخاطَب من الصحابة، كما سيأتي إيضاح ذلك عند ذكر كثيرٍ من أدلَّتِه على وجه التفصيل، ولَم أتعقَّبْه في كلِّ دليلٍ أورده؛ لأنَّ الإجابةَ عن بعض أدلَّته تغني عن الإجابة عن غيرها مِمَّا يشابهها، ولَم أرتِّب الردَّ عليه على وفق ترتيب أدلَّته، بل قد أجيب عن دليل متأخِّرٍ قبل الإجابة على ما كان هو قدَّمه.
* * *
استدلالُه بآية {لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} والرد عليه:(6/30)
قال في (ص:25 ـ 27): (( الدليلُ الأوَّلُ: مع أنَّ غزوةَ تبوك في السنة التاسعة بعد العودة من حصار الطائف، وكان عددُ جيش المسلمين فيها ثلاثين ألفاً، يعتبر المهاجرون والأنصار فيهم قلَّة، ومع ذلك لَم يأت الثناءُ إلاَّ عليهم، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
والسؤال: لماذا لَم يخبرنا الله عزَّ وجلَّ أنَّه قد تاب على كلِّ جيش
النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يوم تبوك؟! لماذا لَم يقل الله عزَّ وجلَّ: (لقد تاب الله على النبي والذين آمنوا الذين اتّبعوه في ساعة العسرة...)؟! أو (... على النَّبِيِّ والمؤمنين ...)؟!
الجوابُ واضحٌ بأنَّ تخصيصَ الله عزَّ وجلَّ المهاجرين والأنصار بالتوبة دليلٌ على أنَّ مَن سواهم ليسوا في منزلتهم، ولا يجوز الجزمُ بالتوبة عليهم.
وإنَّما نسكتُ عنهم كما سكت الله عنهم، وكأنَّ الله ـ والله أعلم ـ أراد بقَصْره الثناءَ على المهاجرين والأنصار أن يُشعر مَن سواهم بأنَّ المهاجرين والأنصار لَم يستحقوا التوبة عليهم من الله إلاَّ بأعمال جليلةٍ قدَّموها في الماضي، وأنَّ على مَن سواهم أن يُكثروا من التَّأسِّي بهم حتى يتوب الله عليهم كما تاب على المهاجرين والأنصار، والغريبُ أنَّ بعضَ الذين يَخلطون الأمورَ يستدلُّون بالآية السابقة على أنَّ الله تاب على جميع الصحابة، مع أنَّ الله عزَّ وجلَّ كان يستطيع أن يقول ذلك ويُعمِّم التوبةَ على كلِّ المؤمنين يومئذ، ولكنَّه لَم يقتصر على المهاجرين والأنصار إلاَّ لحكمة!! )).(6/31)
وعلَّق في الحاشية على قوله: (( والغريبُ أنَّ بعضَ الذين يخلطون الأمورَ يستدلُّون بالآية السابقة على أنَّ الله تاب على جميع الصحابة )) بقوله:
(( ويقصدون بالصحابة كلَّ مَن رأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أو لَقِيَه من المسلمين، ثمَّ يقولون هذا وقلوبهم على الطُّلَقاء !! )).
والجوابُ عن ذلك من وجوه:
الأوّل: أن يقال: إنَّ الآيةَ مشتملةٌ على توبة الله على المهاجرين والأنصار الذين معه في غزوة تبوك، لكن ليس في ذلك دليلٌ على ما زعمه من قصر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية وهو الذي من أجله أورد الآية، وسبق أن أوردتُ الأدلَّةَ الدالَّة على شمول الصحبة لكلِّ مَن صحبه أو رآه بعد الحُديبية إلى حين وفاته - صلى الله عليه وسلم -.
الثاني: أنَّ الآيةَ دالَّةٌ على توبة الله عزَّ وجلَّ على مَن أسلم وهاجر إلى المدينة بعد الحُديبية وقبل فتح مكة، ومنهم أبو موسى الأشعري وأبو هريرة وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهم، وقد أخرجهم المالكي، وسبق أن ذكرت الأدلَّةَ الدالَّة على استمرار الهجرة المحمود أهلها إلى فتح مكة.
الثالث: أنَّ الآيةَ وإن لَم تنصَّ على التوبة على غير المهاجرين والأنصار، فليس فيها دليلٌ على حرمان الذين أسلموا بعد الفتح وخرجوا مع النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك من فضل الله ورحمته، بل قد ثبت في السُّنَّة الصحيحة حصول الأجر لِمَن لَم يخرج إلى تبوك بسبب العذر، تبعاً للخارجين إليها، فقد روى البخاري في صحيحه (4423) عن أنس رضي الله عنه: (( أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع من غزوة تبوك فَدَنَا من المدينة فقال: إنَّ بالمدينة أقواماً ما سِرْتُم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلاَّ كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله! وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حَبَسَهم العُذر )).(6/32)
وروى مسلم في صحيحه (1911) بإسناده عن جابر رضي الله عنه قال: (( كنَّا مع النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في غزاة، فقال: إنَّ بالمدينة لرجالاً ما سِرتُم مسيراً ولا قطعتُم وادياً إلاَّ كانوا معكم، حبسهم المرض )).
وبإسنادٍ آخر إليه، وفيه زيادة: (( إلاَّ شَرَكوكم في الأجر ))، فلماذا تحجر الواسع؟! ولماذا البخل على أهل الفضلِ بما تفضَّل الله به عليهم مِمَّن كانوا معه في غزوة تبوك من الطُّلَقاء وغيرهم، وقد فاتتهم الهجرة، لكن لَم يَفُتهم الجهادُ والنيَّة والنَّفيرُ عند الاستنفار؟! فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (( لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيَّة، وإذا استُنفرتم فانفروا )) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، واللفظ للبخاري (2825).
ثمَّ إنَّ الأنصارَ الذين أثنى الله عليهم في كتابه العزيز إنَّما حصَّلوا اسمَ النُّصرة ووصْفَها لكونِهم نصروا الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد حصَّل المهاجرون وصْفَ النُّصرةِ مع الهجرة، ومَن لَم يكن من المهاجرين والأنصار وقد نصر النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وجاهد معه في سبيل الله له نصيبٌ من هذا الوصف في الجملة، وله الثواب الجزيل من الله على ما حصل منه من النُّصرة، وقد نوَّه الله بفضل وثواب مَن آمن وجاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزواته ـ ومنها تبوك ـ بقوله: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ}، وأخبر أنَّه كافيه وكافي مَن اتَّبعه من المؤمنين في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ}.
* * *(6/33)
استدلالُه بآية: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}، والرد عليه:
قال في (ص:27 ـ 29): (( الدليل الثاني: قول الله عزَّ وجلَّ: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ}.
فهنا أخبر الله عزَّ وجلَّ بثلاث طوائف كانت كلُّها في عهد النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
الطائفة الأولى: السابقون من المهاجرين، وهذا قيْدٌ يُخرج المتأخِّرين من المهاجرين كخالد بن الوليد رضي الله عنه، ولا يدخل فيهم أبناء المهاجرين ولا رجال الوفود إن لَم يبقوا في المدينة، حتى ولو أسلموا قبل الحُديبية.
والطائفةُ الثانية: هم الأنصار، ولا يدخل فيهم أبناء الأنصار (الأطفال) كما لا يدخل في المهاجرين أبناءُ المهاجرين.
الطائفة الثالثة: الذين اتَّبعوهم بإحسان، كالمهاجرين بعد الحُديبية والمهاجرين من وفود العرب مِمَّن ثبت على الإسلام أيَّام الرِّدَّة، ومنهم أبناءُ المهاجرين وأبناء الأنصار، وقد يدخل في هؤلاء مَن حسن إسلامه من طُلقاء قريش وعُتقاء ثقيف وغير هؤلاء.
إذن فالمهاجرون والأنصار لَم يشترط الله فيهم (الإحسان)؛ لأنَّ الهجرةَ والنُّصرةَ اللَّتين تقتضيان الإنفاقَ والجهادَ في أيَّام الضَّعف هما من أفضل الأعمال، ولا يحتاج هذا لقيد الإحسان، فلَم يقل: (... من المهاجرين بإحسان والأنصار بإحسان)؛ لأنَّ الرَّجلَ إن قام بالهجرة التي تقتضي ترك الأوطان والأولاد هي غاية الإحسان، كما أنَّ النُّصرة التي أجلبت على الأنصار قبائل العرب، مع تحمُّلِهم مهمَّة حماية الإسلام في أيامه الأولى لا تحتاج لقيد الإحسان؛ لأنَّها في الذِّروة منه.(6/34)
أما بعد قوَّة الإسلام والمسلمين فأصبحت الهجرةُ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تعود على نفس المهاجر بالمصلحة بعد أن كانت قبل ذلك تعود على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالمصلحة وعلى المهاجر أيضاً، أمَّا بعد فتح مكة فأصبح الالتحاق بالمسلمين يعني الغنيمة والسلامة لكثرة المال وأمن القتل.
ولهذا كلِّه نعرف لماذا قَصَرَ الله عزَّ وجلَّ الثناءَ على المهاجرين والأنصار فقط، ثمَّ قيد المهاجرين بالسابقين منهم، وهم المهاجرون الهجرة الشرعية!! )).
ويُجاب على ذلك بما يلي:
الأول: أنَّه ليس في الآيةِ دليلٌ على ما أُورِدَت الآية من أجله، وهو قصر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، ثمَّ إنَّه جاء في سياق الآية عند المالكي زيادة حرف (( من )) قبل {تَحْتَهَا الأَنْهَارُ }، وهو خطأ، وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الذي لَم يأت فيه حرف (( من )) قبل {تَحْتَهَا الأَنْهَارُ}.
الثاني: جاء في الآية وصْف المهاجرين بالسابقين، وهو يدلُّ على أنَّ المهاجرين فيهم سابقون وفيهم متأخِّرون، وقد ذكر ابنُ كثير في تفسيره عند تفسير هذه الآية قولين في المراد بالسَّابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار، أحدهما: أنَّهم الذين أدركوا بيعة الرِّضوان عام الحُديبية، والثاني: أنَّهم الذين صلَّوا إلى القبلتين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقدكان تحويل القبلةِ إلى الكعبة بعد الهجرة بستة عشر شهراً.
وعلى القول الأول يكون المهاجرون المتأخِّرون مَن هاجر بعد الحُديبية وقبل فتح مكة، ومِن هؤلاء خالد بن الوليد رضي الله عنه وغيره، وقد أخرجهم المالكي من الصحبة ذات المدح والثناء، وكذلك الهجرة ذات المدح والثناء.
الثالث: أنَّ الذين اتَّبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بإحسان ينقسمون إلى قسمين: القسم الأول: صحابة، وهم الذين صحبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورأوه.(6/35)
والثاني: الذين لَم يَصحبوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ولَم يرَوه، مِمَّن كان في زمنهم أو بعدهم.
ويحصلُ للجميع الأجرُ العظيمُ الموعود به في الآية.
الرابع: أنَّ ما ذكره عن المهاجرين بعد الحُديبية وقبل فتح مكة من أنَّ (( الهجرة تعود على نفس المهاجر بالمصلحة، بعد أن كانت قبل ذلك تعود على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالمصلحة وعلى المهاجر أيضاً )) غير صحيح؛ فإنَّ المصلحة تعود بجهاد مَن جاهد منهم على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، ومن أوضح الأمثلة لذلك ما حصل لخالد بن الوليد رضي الله عنه من البلاء الحسن في الغزوات التي شهدها، ومنها غزوة مُؤْتة التي أمَّر نفسَه فيها بعد استشهاد الأمراء الثلاثة الذين عَيَّنَهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما حصل من الفتح للمسلمين في إمارته، فقد روى البخاري في صحيحه (4262) بإسناده عن أنس رضي الله عنه: (( أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَعى زيداً وجعفراً وابنَ رواحة للناس قبل أن يأتيَهم خبرُهم، فقال: أخذ الرايةَ زيدٌ فأُصيب، ثمَّ أخذ جعفرٌ فأُصيب، ثمَّ أخذ ابنُ رواحة فأُصيب ـ وعيناه تذرفان ـ حتى أخذ الرايةَ سيفٌ من سيوف الله حتى فتح الله عليهم )).
وهذا السيف من سيوف الله لَم يظفر بشرف الصُّحبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأي المالكي الباطل الذي قَصَر فيه الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية.(6/36)
ومن أوضَح الأمثلة أيضاً ثبوت العباس بن عبد المطلب وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ـ وهو من الطُّلقاء ـ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما انهزم الناسُ يومَ حُنين، ففي صحيح مسلم (1775) من حديث العباس رضي الله عنه قال: (( شهدتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين، فلزمتُ أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فلَم نفارِقه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلةٍ له بيضاء، أهداها له فروة بن نُفاثة الجذامي، فلمَّا التقى المسلمون والكفَّار ولَّى المسلمون مُدبرين، فطَفِق رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُركضُ بغْلَتَه قِبَل الكفَّار، قال عباس: وأنا آخذٌ بلجام بغلةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكفُّها إرادةَ أن لا تُسرِع، وأبو سفيان آخذٌ برِكاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... )) الحديث.
وهذان الصحابيان الجليلان عمُّه وابنُ عمِّه اللذان ثَبَتَا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولَم يفِرَّا يوم حُنين وقد عادت مصلحةُ إسلامهما في هذه الغزوة على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لا يعتبرهما المالكي من الصحابة؛ لأنَّ إسلامهما بعد الحُديبية، وهو يقصُر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية.
الخامس: أنَّ قولَه: (( أمَّا بعد فتح مكة فأصبح الالتحاق بالمسلمين يعني الغنيمة والسلامة؛ لكثرة المال وأمن القتل )) غيرُ صحيح؛ لأنَّ المجاهدَ في سبيل الله ليست سلامتُه من القتل مُحقَّقةً؛ فإنَّه قد يُقتل وقد يسلَم.(6/37)
السادس: أمَّا ما ذكره من أنَّ أبناءَ المهاجرين لا يدخلون في المهاجرين، وأنَّ أبناءَ الأنصار لا يدخلون في الأنصار، وقد قصَر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار، فمُقتضاه أنَّ أبناء المهاجرين والأنصار ليسوا من الصحابة، وسبق أن ذكرتُ أنَّ مَن رأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - من أبناء المهاجرين والأنصار فهو من الصحابة، بخلاف مَن لَم يرَه منهم.
* * *
استدلالُه بآيات سورة الحشر والرد عليه:
وقال في (ص:30 ـ 31): (( الدليل الثالث: وهو مفسِّرٌ للدليل السَّابق، وهو قول الله عزَّ وجلَّ: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
أقول: أيضاً في هذه الآية قَصَر الله عزَّ وجلَّ الثناءَ على المهاجرين والأنصار، وأخبرنا بعلاماتهم، ثمَّ فصَّل في الإحسان المشتَرَط فيمَن بعدهم بأنَّه ـ إضافة لصالح الأعمال ـ من علاماته الكبرى الدعاء للسابقين من المهاجرين والأنصار، وعدم التعرُّض لهم ببُغض أو سبٍّ.(6/38)
{والَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} ليس المقصود منهم إلاَّ المهاجرين والأنصار فقط، كما تدلُّ عليه الآيات السابقة دلالة واضحة، ويقول البغوي في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ} يعني التابعين، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة. اهـ.
أقول: فهذا إقرارٌ من البغوي بأنَّ مَن بعد المهاجرين والأنصار يُسمون (التابعين)، يعنِي أنَّ الناسَ مِن خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، مروراً بمعاوية والوليد، وانتهاءً بنا في هذا العصر مأمورون بحبِّ المهاجرين والأنصار، الذين قام عليهم الإسلام حتى استوى، ومأمورون بالدعاء لهم والاستغفار لهم؛ لأنَّهم السببُ بعد الله ورسولِه في قيام هذا الدِّين، بل مَن أسلم بعد الحُديبية إلى فتح مكة مأمورون ابتداءً، ومَن بعدهم من باب الأولى )).
وعلَّق في الحاشية عند قوله: (( الدعاء للسابقين من المهاجرين والأنصار، وعدم التعرُّض لهم ببُغض أو سبٍّ )) بقوله: (( وهذا الإحسان لَم يفعله بعضُ الطُّلَقاء كمعاوية والوليد بن عُقبة وبُسر بن أبي أرطاة والذين حاربوا السابقين كعليٍّ وعمَّار والبدريِّين والرِّضوانيِّين الذين كانوا مع علي، بالإضافة إلى سبِّهم عليًّا على المنابر، وسَنِّ هذه السنة السيِّئة، إذن فالذين طعنوا في الصحابة هم أولئك الطُّلَقاء، وهم أوَّلُ من خالف الأمر الإلَهي بالاستغفار للذين سبقونا بالإيمان!! )).
وعلَّق في الحاشية أيضاً على قوله: (( {والَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} ليس المقصود منهم إلاَّ المهاجرين والأنصار فقط، كما تدلُّ عليه الآيات السابقة دلالة واضحة )) بقوله: (( وعلى هذا فلا حُجَّة للذين يستدلُّون بهذه الآيات على وجوب السكوت عن دراسة التاريخ وذِكر الظالمين بظلمِهم والعادلين بعدلِهم؛ حتى يعرفَ الناسُ موطنَ القُدوة والتأسِّي من السلف!! )).
ويُجاب عن استدلاله بما يلي:(6/39)
الأول: أنَّ الآيات الثلاث في بيان مصارف الفيء، وهي مشتملةٌ على الثناء على المهاجرين والأنصار، ولا دليل فيها على ما أراده المالكي من قَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل صُلح الحُديبية.
الثاني: أنَّ الآيةَ الثالثة في الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصارمن فتح مكة وما بعده، داعين لهم لسبقهم بالإيمان، وسائلين الله عزَّ وجلَّ سلامةَ قلوبهم من الغلِّ للذين آمنوا، وليس فيها خروجُ من أسلم بعد الحُديبية وقبل فتح مكة ، كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ونحوهما من وصْف الصُّحبة والهجرة، كما زعم المالكي.
الثالث: أنَّ ما جرى من خلاف بين بعض المهاجرين السابقين كعليٍّ رضي الله عنه وبين بعض مَن أسلموا عام الفتح أو قبله أو بعده لا يقتضي نَيل مَن بعدهم مِن أحدٍ منهم، بل الواجب مَحبَّة الجميع والثناء عليهم والدعاء لهم وإنزالهم منازلهم، وقد وُعدوا جميعاً بالحُسنى، وما كان في قلوبهم من غلٍّ إن بقي فإنَّ الله ينزعُه كما أخبر بذلك في كتابه العزيز بقوله في سورتي الأعراف والحِجر: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ}، وما أحسن ما قاله شارح الطحاوية: (( والفتنُ التي كانت في أيَّامه ـ يعنِي أميرَ المؤمنين عليًّا رضي الله عنه ـ قد صان الله عنها أيدينا، فنسألُ الله أن يَصون ألسِنَتنا بِمَنِّه وكرمِه )).(6/40)
قال الشوكاني عند تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} قال بعد أن فسَّر الذين جاؤوا من بعدهم أي بعد المهاجرين والأنصار بأنَّهم التابعون لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، قال: (( أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغِلَّ للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابةُ دخولاً أوَّليًّا؛ لكونهم أشرفَ المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمَن لَم يستغفر للصحابة على العموم ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآيةِ، فإن وَجَدَ في قلبِه غِلاًّ لهم فقد أصابه نَزْغٌ من الشيطان وحلَّ به نصيبٌ وافرٌ من عصيان الله بعداوة أوليائه وخِيرة أمَّة نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم، وانفتح له بابٌ من الخذلان يَفِدُ به على نار جهنَّم إن لَم يتدارَك نفسَه باللُّجوء إلى الله سبحانه، والاستغاثة به بأن ينزع عن قلبه ما طَرَقَه مِن الغِلِّ لِخَيرِ القرون وأشرفِ هذه الأمَّة، فإن جاوز ما يَجده من الغِلِّ إلى شَتم أحد منهم فقد انقاد للشيطان بزمام، ووقع في غضب الله وسَخطِه، وهذا الدَّاءُ العُضال إنَّما يُصاب به مَن ابتُلي بِمُعلِّم من الرافضة أو صاحبٍ من أعداء خير الأمَّة الذين تلاعب بهم الشيطانُ وزيَّن لهم الأكاذيب المختلفة والأقاصيص المفتراة والخرافات الموضوعة، وصرَفَهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مِن خلفه، وعن سُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كلِّ عصرٍ من العصور، فاشتروا الضَّلالةَ بالهُدى، واستبدلوا الخسران العظيم بالرِّبح الوافر، وما زال الشيطان الرجيم ينقلُهم من منزلة إلى منزلة،(6/41)
ومن رُتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداءَ كتاب الله وسُنَّة رسوله وخير أمَّته وصالِحي عباده وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله، وهجروا شعائر الدِّين، وسَعوا في كيد الإسلام
وأهله كلَّ السَّعي، ورَموا الدِّينَ وأهلَه بكلِّ حَجَرٍ ومَدَر، والله من ورائهم مُحيط )). اهـ.
الرابع: أمَّا ما أشار إليه حول دراسة التاريخ، فيُجاب عنه بأنَّ دراسةَ التاريخ لها حالتان:
الأولى: دراسة مع سلامة القلوب والألسنة في حقِّ جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تعتمد على تَمييز ما صحَّ من أخبار عنهم مِمَّا لَم يصحَّ، فيُطَّرح ما لَم يصحَّ، وما صحَّ فيُحمَلُ على أحسن المحامل، ويُحسَّن بهم الظنُّ، ويُدعى لهم ويُستغفرُ لهم، فهذه الدراسة محمودة.(6/42)
والثانية: دراسةٌ خالية من سلامة القلوب والألسنة في حقِّ جميع الصحابة، تنبنِي على الغلوِّ في بعضٍ والجفاءِ في بعضٍ، وينتُج عنها إفسادُ النفوس وإيغارُ الصدور ومَلءُ القلوب بأمراض الشبُهات، وتعتمدُ على إظهار ما خبث من كلِّ ما جاء في التاريخ مِمَّا لَم يكن له خطام أو زِمام، فهذا النوع من الدراسة للتاريخ مذموم وحرام، ودراسة المالكي من هذا النَّوع المذموم، ويمكن معرفةُ حقيقة ذلك بالاطِّلاع على ما نقلته من كلامه ورددتُ عليه، ولا سيَما تشكيكه في أَحقيَّة أبي بكر بالخلافة، فقد جاء فيه أنَّ عليًّا رضي الله عنه لو كان موجوداً ـ أي في السقيفة ـ لَتَمَّ له الأمرُ، وذلك رجمٌ بالغيب، و(( لو )) تفتح عمل الشيطان، وأيضاً جاء فيه وصْف الطريقة التي تَمَّت بها بيعة أبي بكر رضي الله عنه بأنَّها تُضعف شرعيَّة البيعة، وتَجعلُها أشبَه ما تكون بالقهر والغلبة، وخلافةُ الخلفاء الراشدين الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على ترتيبهم مِمَّا أراده الله قَدَراً وشرعاً، فوقوع خلافتهم على هذا الترتيب دالٌّ على تقديره ذلك، وأنَّ الله قد شاءَه فوقع، ولَم يشأْ غيرَه فلَم يقع، ما شاء الله كان وما لَم يشأ لَم يكن، ويدلُّ لكونه مراداً شرعاً ما جاء في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (( ... فإنَّه مَن يَعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي )) الحديث، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: (( حديث حسن صحيح ))، ويدلُّ له أيضاً حديثُ سفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( خلافةُ النبوة ثلاثون سنة، ثمَّ يُؤتي الله المُلْكَ أو مُلْكَه مَن يشاء )) رواه أبو داود (4646) وغيرُه، ونقل تصحيحَه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (460) عن تسعة من العلماء.(6/43)
أمَّا الزعم بأنَّ الطريقةَ التي تَمَّت بها بيعة أبي بكر رضي الله عنه تُضعفُ شرعيَّة البيعة، وتجعلها أشبهَ ما تكون بالقهر والغلبة، فهو كلامٌ يُنادي على قائله بأنَّه في وادٍ، والسُّنةَ وأهلَها في وادٍ آخر، وسيأتي الرَّدُّ عليه عند ذِكر تشكيكه في أحقِّية أبي بكر بالخلافة.
ولكلِّ ساقطةٍ لاقطة، فهذه القراءة المزعومة من المالكي في كتب العقائد قد تلقَّفها ونشرها مركزٌ للدراسات التاريخية في دولة عربية، وقد اطَّلعتُ أخيراً على صورة منه، وهو من التعاون على الإثم والعدوان، فإنَّ نشرَ الباطل لا حدَّ لضرَرِه، كما أنَّ نشرَ الحقِّ لا حدَّ لنفعه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( مَن دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبِعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومَن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام مَن تبِعَه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً )) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (2674).
* * *
استدلاله بآية سورة الحديد والرد عليه:
وقال في (ص:31 ـ 32): (( الدليل الرابع: قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحُسْنَى وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
أقول: الغريب أنَّ بعضَ الناس يستدلُّ بهذه الآية على أنَّ كلَّ الصحابة في الجنَّة؛ لأنَّ الله قد وعد المتقدِّمين منهم والمتأخرين بالجنة، ووعدُه حقٌّ لن يُخلفه!(6/44)
أقول: إمَّا أن تكون هذه الآية تشمل المهاجرين والأنصار {مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ}، وتفضلهم على من جاء بعدهم إلى فتح مكة فقط، ولا تشمل الطُّلَقاءَ ولا العُتقاء ولا غيرَهم مِمَّن لَم يُقاتِل ولَم ينفق في هذه الفترة؛ لأنَّ سورةَ الحديد نزلت قبل فتح مكة، وعلى هذا فلا يشملهم الثناء، ثمَّ هي مقيَّدةٌ بالإنفاق والقتال.
مثلما الثناء على المهاجرين والأنصار لا يشملنا، فكذلك الثناء على المسلمين من بعد الحُديبية إلى فتح مكة لا يشمل مَن أسلم في الفتح أو بعد ذلك، وإمَّا أن تكون الآيةُ شاملةً لهؤلاء ولنا من باب الأولى، لكن هناك شرط الإحسان الذي سبق في الآية السابقة، بمعنى أنَّ الله وعد بالجنَّة المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان، أمَّا المتَّبعون بغير الإحسان فلا يُقال فيهم هذا.
والخلط بين الأمور هو الذي سبَّب لنا الخلل الكبير في الرؤية التعميمية التي خلطنا بها الطُّلَقاء مع السابقين، فلا بدَّ من وضع الأمور في مواضِعها الصحيحة )).
ويُجاب عن ذلك بما يلي:
الأول: أنَّ للعلماء في المراد بالفتح في هذه الآية قولين، ذكرهما ابن كثير والشوكاني:
أحدهما: أنَّه فتح مكة، وهو قول الجمهور.
والثاني: أنَّه صلح الحُديبية.
وعلى قول الجمهور فالآيةُ تدلُّ على تفضيل القتال والإنفاق مِمَّن كانوا قبل فتح مكة، على القتال والإنفاق مِمَّن كانوا بعد فتحها، وهو متَّفق مع ما جاءت به الأحاديث من استمرار الهجرة المحمود أهلها إلى فتح مكة، وهو يردُّ قولَ المالكي في قصْر الصُّحبة والهجرة المحمود أهلها على مَن كانوا قبل صُلح الحُديبية.(6/45)
وعلى القول بأنَّ المرادَ بالفتح صلح الحُديبية فليس هناك دليل يَمنعُ من دخول بقيَّة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِمَّن كان إسلامُهم وصُحبتُهم بعد الحُديبية إلى حين وفاته - صلى الله عليه وسلم - في الوعد الكريم الذي دلَّت عليه الآية، مع القطع بالتفاوت بين المتقدِّمين منهم والمتأخرين.
الثاني: أنَّه لا وجه لاستغراب المالكي الوعد لجميع الصحابة بالحُسنى وهي الجنَّة، ومِمَّن فسَّر {الحُسْنَى} في الآية بالجنَّة القرطبيُّ والشوكاني والشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفاسيرهم، وقدجاء في السُّنَّة تفسير {الحُسْنَى} في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} بأنَّها الجنَّة، وذلك من حديث صُهيب رضي الله عنه عند الإمام مسلم (297 ـ 298).
فلماذا هذا الاستغراب، وفضلُ الله واسعٌ ورحمتُه وسعت كلَّ شيء؟!
وأسْعَدُ الناسِ بجنَّتِه ورحمتِه أصحابُ رسوله - صلى الله عليه وسلم - الذين هم خير هذه الأمَّة، التي هي خير أمَّة أُخرجت للناس، الذين اختارهم الله لِصُحبته، ومتَّع أبصارَهم في هذه الحياة الدنيا بالنظر إلى طلعته، ومتَّع أسماعَهم بسماع القرآن والسُّنَّة منه - صلى الله عليه وسلم - ونقلهما إلى الناس بعدهم، وهم الواسطة بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين غيرهم.
* * *
استدلاله بآية سورة الأنفال والرد عليه:
وقال في (ص:33 ـ 34): (( الدليل الخامس: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِن وَلاَيَتِهِم مِن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.(6/46)
أقول: هذه الآية من سورة الأنفال (72) فيها فوائد عظيمة:
الأولى: إثبات ولاية المهاجرين مع الأنصار فقط، وهذا ما يُفسِّرُه الحديث الشريف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطُّلَقاء من قريش والعُتقاء من ثقيف بعضُهم أولياء بعض إلى يوم القيامة)، والحديث فيه إخراج للطُّلقاء من المهاجرين والأنصار الذين هم أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقط، كما في حديثٍ الآخر: (أنا وأصحابي حيِّز، والناس حيِّز)، قالها النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، وكلمة (أصحابي) في هذا الحديث الأخير كلمة مطلقةٌ فسَّرها الحديثُ المتقدِّم وقيَّدها بأنَّ المرادَ بها (المهاجرون والأنصار)، فتأمَّل لهذا التوافق والترابط؛ فإنَّك لن تجدَه في غير هذا المكان!
الفائدة الثانية: أنَّ الذين أسلموا ولَم يُهاجروا لا يستحقُّون من المسلمين في عهد النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الولايةَ التي تعنِي النُّصرةَ والولاء، فإذا كان المسلمون قبل فتح مكة لا يستحقُّون النُّصرةَ ولا الولاء حتى يُهاجروا، فكيف بِمَن انتظر من الطُّلَقاء حتى قال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيَّة).
فهؤلاء لَم يُدركوا فضلَ من لا يستحقُّ النُّصرة والولاية، فضلاً عن إدراكهم لفضل السابقين من المهاجرين والأنصار.
الثالثة: أنَّ المسلمين الذين لَم يُهاجِروا لا يجوز أن يُنصَروا على الكفَّار المعاهدين الذين معهم ميثاق مع المهاجرين والأنصار، وهذا الحكم يبيِّن الفرقَ الواسع بين مَن هاجر ومَن بقي مؤمناً في دياره، فكيف بِمَن لَم يؤمن إلاَّ عند إلغاء الهجرةِ الشرعية من مكة، وأسلم رغبة في الدنيا ورهبةً من السيف، حتى وإن حسُن إسلامه فيما بعد؟!!! )).
ويُجاب عن ذلك بما يلي:(6/47)
الأول: أنَّ كونَ المهاجرين والأنصار بعضُهم أولياء بعض لا يدلُّ على نفي ولايتِهم عن غيرهم مِمَّن أسلموا بعد فتح مكة، فالكلُّ خيار المؤمنين، مع التفاوت الكبير بينهم في الإيمان، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، وسيأتي لذلك زيادةُ بيان عند ذِكر حديث (( المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض )).
الثاني: أنَّ حديث (( المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض )) صحيح، وحديث (( الحيز )) ضعيف، وسيأتي بيان ذلك عند ذِكر الحديثين.
الثالث: أنَّ ما ذكره من كون المهاجرين والأنصار هم أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقط قولٌ باطلٌ، وقد تكرَّر منه قصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، وتكرَّر منِّي التنبيه على بطلان قوله بسبب تكراره.
الرابع: أنَّ الطُّلقاءَ وغيرَهم قد فاتتهم الهجرة، لكن لَم يفُتهم الجهاد والنيَّة، فقد أبلى كثيرٌ منهم في الجهادِ مع النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بلاءً حسناً، وقوله: (إنَّ إسلامهم رغبة في الدنيا ورهبة من السيف) هو مِن الظلم البيِّن، والظُّلمُ ظلمات يوم القيامة، لا سيما ما كان منه لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولو حصل إسلام أحد منهم من أجل الدنيا فإنَّ الحالة تتغيَّر إلى خير؛ لقول أنس رضي الله عنه: (( إن كان الرَّجلُ لَيُسلِم ما يريد إلاَّ الدنيا، فما يُسلم حتى يكون الإسلامُ أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها )) رواه مسلم في صحيحه (2312).
* * *
استدلاله بآية سورة الفتح والرد عليه:(6/48)
وقال (ص:36 ـ 37): (( الدليل الثامن: قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.
أقول: لولا أنَّ بعضَ الناس يورد هذه الآية للدلالة على فضل مسلمة الفتح وأمثالهم لَما أوردتُها هنا، فالآية من سورة الفتح التي نزلت قبل فتح مكة، وعلى هذا فالثناء الذي فيها على (الذين مع النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -) ينزل على المؤمنين يومئذ من المهاجرين والأنصار، ولا ينزل على مَن بعدهم، إضافةً إلى أنَّ المعيَّة تقتضي النُّصرةَ والتمكينَ أيَّام الحاجة والذُّلِّ والضَّعف )).
ويُجاب عن قوله هذا:
أنَّ الآيةَ عامَّةٌ في الصحابة، وليس فيها ذِكر المهاجرين والأنصار، لكن المالكي قصَرها عليهم، حرصاً على حِرمان مسلمة الفتح من تحصيل الفضلِ الوارد فيها، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {مَا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا}، وكون سورة الفتح ـ ومنها هذه الآية ـ نزلت قبل فتح مكة لا يدلُّ على قصْر ما فيها على مَن كان قبل نزول الآية، بل الحكم شاملٌ لكلِّ مَن كان معه إلى نهاية حياته - صلى الله عليه وسلم -.(6/49)
ثمَّ إنَّ هذه الصفات للذين مع النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قد ذُكرت في التوارة والإنجيل، وهي لجميع الصحابة، فلا وجه لإخراج أحدٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، وحرف (من) في قوله عزَّ وجلَّ: {وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} لبيان الجنس وليس للتبعيض، أي: كلّهم موعودون بالمغفرة والأجر العظيم، وهذا نظيرُ قول الله عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، فإنَّ (من) للجنس وليست للتبعيض؛ فإنَّ العذابَ حاصلٌ لهم جميعاً.
* * *
استدلالُه بحديث: (( المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض )) والرد عليه:
قال في (ص:42 ـ 43): (( الدليل الثاني عشر: قول النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطُّلَقاء من قريش والعُتقاء من ثقيف بعضُهم أولياء بعض إلى يوم القيامة).
أقول: وهذا الحديث واضحٌ في أنَّ طُلَقاء قريش وعُتقاء ثقيف ليسوا من المهاجرين ولا من الأنصار، وعلى هذا فلا يستحقُّون الفضائلَ التي نزلت في فضل المهاجرين والأنصار، وعلى هذا لا يجوز لنا أن نخلط الأمورَ ونرفع مَن وَضعه الله أو نضع مَن رفعه الله ...!! )).
والجواب:(6/50)
أنَّ الحديثَ صحيحٌ، وقد أوردتُه فيما تقدَّم في الأدلَّة الدَّالة على استمرار الهجرةِ المحمود أهلُها إلى فتح مكة، وليس إلى صُلح الحُديبية كما زعم المالكي، وهو لا يدلُّ على أنَّ العُتقاء والطُّلَقاء ليسوا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّما يدلُّ على التَّماثل والتشابه بين المهاجرين والأنصار، وبين الطُّلَقاء والعُتقاء، وليس فيهم مَن وَضعه الله كما زعم، بل كلُّهم قد رفعهم الله لِصُحبتِهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، مع تفاوتِهم في الرِّفعة.
وكون المهاجرين والأنصار بعضهم أولياء بعض لا يتنافى مع كون العُتقاء والطُّلَقاء بعضهم أولياء بعض؛ فإنَّ الصحابةَ جميعاً خيار المؤمنين، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} الآية، وقد قال ابن كثير في تفسيره في تفسير الآيات من آخر سورة الأنفال: (( ذكر تعالى أصنافَ المؤمنين، وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم وجاؤوا لنصر الله ورسوله وإقامة دينه، وبذلوا أموالَهم وأنفسهم في ذلك، وإلى أنصار: وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك، آووا إخوانَهم المهاجرين في منازلِهم وواسَوهم في أموالِهم، ونَصَروا الله ورسولَه بالقتال معهم، فهؤلاء بعضهم أولياء بعض، أي: كلٌّ منهم أحقُّ بالآخر من كلِّ أحد، ولهذا آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار، كلّ اثنين أخوان، فكانوا يتوارثون بذلك إرثاً مقدَّماً على القرابة، حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث )).
* * *
استدلالُه بحديث: (( الناسُ حيِّز وأنا وأصحابي حيِّز )) والرد عليه:(6/51)
قال في (ص: 40 ـ 42): (( الدليل الحادي عشر: حديث أبي سعيد الخدري: (لَمَّا كان يوم الفتح قرأ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ}، قال: الناس حَيِّز، وأنا وأصحابي حيِّز، فغضب مروان وأراد أن يضربَ أبا سعيد الخدري، فلمَّا رأى ذلك رافع بنُ خديج وزيد ابنُ ثابت قالا: صدق) ذكرتُه مختصراً )).
وقد علَّق عليه قائلاً: (( مسند الإمام أحمد (4/45) ـ دار الفكر، الحديث رواه الإمام أحمد، عن محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عَمرو بن مُرَّة، عن أبي البَختري الطائي، عن أبي سعيد الخدري، وهذا إسنادٌ صحيح على شرط الشيخين، فالإمام أحمد وشيخه غندر وشعبة من كبار أئمَّة الحديث الثقات الأثبات، وعمرو بن مرَّة شيخ شعبة ثقة عابد من رجال الجماعة، وأبو البختري اسمه سعيد بن فيروز وهو ثقة ثبت من رجال الجماعة وهو يرسل، وقد أخرج الشيخان عنعنته في صحيحيهما، فالإسناد من أصحِّ الأسانيد، كلُّهم رجال الجماعة إلاَّ أحمد بن حنبل وهو ثقة إمام!!! )).
وقال: (( فهذا الحديث فيه إخراج واضحٌ للطُّلَقاء الذين دخلوا في الإسلام من أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بأكثر من دلالة:
الدلالة الأولى: تلاوته - صلى الله عليه وسلم - لسورة النصر التي فيها ذكر (الناس) الذين يدخلون في دين الله أفواجاً، هؤلاء الناس المراد بهم الطُّلَقاء، ثمَّ أخبرنا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ (الناس حَيِّز)، وهو وأصحابه حيِّز آخر!! فماذا يعنِي هذا؟(6/52)
هذا بكلِّ وضوح لا يعنِي إلاَّ أنَّ هؤلاء (الناس) لايدخلون في (الأصحاب) الذين فازوا بتلك (الصحبة الشرعية) التي تستحقُّ الثناء وتتنزَّل فيها كلُّ الثناءات على الصحابة، فإذا سمعنا بأيِّ حديث يُثنِي على (أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -) أو أيِّ أثرٍ من الصحابة خاصَّة يُثنِي على (أصحاب النَّبِيِّ)، فلا تنزل تلك الأحاديث والآثار إلاَّ على هؤلاء (الأصحاب) الذين فصلهم النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن سائر (الناس) من غيرهم، وأول الناس دخولاً في هؤلاء (الناس) هم الطُّلَقاء الذين أسلموا يوم فتح مكة، ولا يجوز أن نجمعَ بين (حيِّزين) قد فرَّق بينهما النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ومَن تأكَّد له هذا ثمَّ أراد أن يجعل (الحيِّزين) حيِّزاً واحداً فقد اتَّهم النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعدم الإنصاف، مثلما اتَّهمه ذو الخُويصِرة يوم حُنين!! ونعوذ بالله أن نردَّ حديثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو نُؤوِّلَه على غير مراده - صلى الله عليه وسلم -، ذلك المراد الذي يظهر بوضوح من لفظ الحديث الصريح.
الدلالة الثانية: غضبُ مروان بن الحكم الذي أراد أن يضرب أبا سعيد الخدري على رواية هذا الحديث؛ لأنَّ هذا الحديث يعنِي إخراج مروان ووالده ومعاوية ـ الذي يعمل له مروان ـ من الصحابة إلى (الناس) الذين ليس لهم ميزة عن سائر الناس!!
الدلالة الثالثة: فهمُ رافع بن خديج وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري، فالثلاثة عَرفوا أنَّ هذا سيُغضب مروان، ولكنَّهم صدَعوا بكلمة الحقِّ بعد أن كاد يُخفيها زيد ورافع، خوفاً على نفسيهما من مروان!!
شبهة: وقد يقول البعض أنَّهم (الناس) من الطُّلَقاء وغيرهم قد اكتسبوا الصحبة فيما بعد؟!
نقول: هم (الطُّلَقاء) والعتقاء أولياء بعضهم لبعض إلى يوم القيامة، وكلا الطائفتين لا تدخلان لا في المهاجرين ولا في الأنصار؛ لما سبق شرحه )).
ويُجاب عن ذلك بِما يلي:(6/53)
الأول: أنَّ الحديثَ ضعيفٌ، والإسنادَ غيرُ صحيح فضلاً عن أن يكون من أصحِّ الأسانيد كما زعم المالكي؛ للانقطاع بين أبي البَختري وبين أبي سعيد، ففي تهذيب الكمال للمزي في ترجمة أبي البَختري سعيد بن فيروز: (( وقال أبوداود: لَم يسمع من أبي سعيد))، وقول أبي داود هذا هو في سننه قال عقِب الحديث (رقم:1559): (( قال أبو داود: أبو البَختَري لَم يسمع من أبي سعيد )).
وفي تهذيب التهذيب لابن حجر في ترجمة أبي البَختري: (( وقال ابن سعد: ... وكان كثيرَ الحديث يرسل حديثَه، ويروي عن الصحابة ولَم يسمع من كثير أحد، فما كان من حديثه سَماعاً فهو حسن، وما كان غيره فهو ضعيف، وقال ابن أبي حاتم في المراسيل عن أبيه: لَم يُدرك أبا
ذر ولا أبا سعيد ولا زيد بن ثابت ولا رافع بن خديج، وهو عن عائشة مرسل )).
الثاني: أنَّ ما ذكره من إخراج الشيخين عنعنة أبي البَختري في صحيحيهما غيرُ مُسلَّم؛ لأنَّهما لَم يُخرجَا له عن أبي سعيد شيئاً، وكلُّ الذي له في الكتب الستة من روايته عن أبي سعيد ثلاثة أحاديث، خرَّجها بعضُ أصحاب السنن، كما في تحفة الأشراف للمزي (3/356 ـ 357)، ولو صحَّ أنَّ الشيخين خرَّجَا له من روايته عن أبي سعيد بالعنعنة فإنَّ قبول ذلك يكون مُختَصًّا بما في الصحيحين لاشتراطهما الصِّحةَ فيهما، ولا تُقبل العنعنة في غيرهما إلاَّ مع ثبوت التصريح بالسماع، قال النووي في مقدمة شرحه على صحيح مسلم (1/33): (( واعلم أنَّ ما كان في الصحيحين عن المدلسين بـ (عن) ونحوها فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى، وقد جاء كثيرٌ منه في الصحيح بالطريقين جميعاً، فيذكر رواية المدلس بـ (عن) ثمَّ يذكرها بالسماع ويقصد به هذا المعنى )).
الثالث: وقوله عن رجال الإسناد: (( كلُّهم رجال الجماعة إلاَّ أحمد بن حنبل وهو ثقة إمام ))، أقول: لا وجه لاستثناء الإمام أحمد؛ فإنَّه من رجال الجماعة.(6/54)
الرابع: أنَّه لو صحَّ الحديث فإنَّه حجَّةٌ على المالكي؛ لأنَّه يدلُّ على أنَّ المهاجرين بعد الحُديبية وقبل الفتح من أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو خلاف ما زعمه في رأيه المبتَكر من أنَّ الصُّحبةَ المحمود أهلها مختصَّةٌ بالمهاجرين قبل صلح الحُديبية.
* * *
تشكيكه في أفضلية أبي بكر رضي الله عنه على غيرِه والرد عليه:
قال في (ص:52): (( الدليل العشرون: قول إبراهيم النخعي: (مَن فضَّل عليًّا على أبي بكر وعمر فقد أَزْرَى على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المهاجرين والأنصار ...) فضائل الصحابة لأحمد (1/249)، وسنده جيِّد، رجاله كلُّهم ثقات إلاَّ الوليد بن بكير مختلَف فيه.
وفي الأثر تفسير من إبراهيم النخعي للصحابة بأنَّه (كذا) المهاجرون والأنصار فقط، فتأمَّل!!
وإبراهيم هذا من كبار التابعين، مع التحفُّظ على تشنيعه على مَن فضَّل عليًّا عليهما؛ فإنَّ هذا قد فعله بعضُ السابقين من المهاجرين والأنصار، كما ذكر ذلك ابنُ عبد البر في ترجمة الإمام عليٍّ في الاستيعاب، ودلَّت عليه بعضُ الروايات )).
والجواب عنه بما يلي:
الأول: أمَّا قوله عن إسناد الأثر: (( وسنده جيِّد، رجاله ثقات إلاَّ الوليد بن بُكير مختلف فيه ))، فهو غير جيِّد؛ لأنَّ الوليد بنَ بكير قال عنه الدارقطني: (( متروك الحديث ))، وقال عنه أبو حاتم: (( شيخ ))، وذكره ابن حبان في الثقات، كما في تهذيب الكمال للمزي وتهذيبه لابن حجر، وقال الحافظ في التقريب: (( ليِّن ))، وقال الذهبي في الميزان: (( ما رأيت من وثَّقه غير ابن حبان ))، وابن حبان معروف بالتساهل في التوثيق، قال الحافظ في التقريب في ترجمة عبد السلام بن أبي الجَنوب: (( ضعيف، لا يُغترُّ بذِكر ابن حبان له في الثقات؛ فإنَّه ذكره في الضعفاء أيضاً )).
وأمَّا معنى الأثر فهو صحيح.(6/55)
الثاني: وأمَّا استدلاله بالأثر على قَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار دون غيرهم، فهو غير صحيح؛ وذِكر المهاجرين والأنصار في الأثر لا يدلُّ على إخراج غيرِهم من الصُّحبة؛ وإنَّما ذُكروا لأنَّهم مقدَّمون على غيرِهم من أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكلُّ مَن رأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فهو من أصحابه، مع الجزم بتفاوت الصحابة في الصُّحبة والفضل.
الثالث: وأمَّا تحفُّظه على ما جاء في الأثر من تفضيل الشيخين على عليٍّ رضي الله عن الجميع، فهو مخالِف لِما عليه سلفُ هذه الأمَّة، ودلَّت عليه الأحاديثُ الصحيحةُ والآثار عن بعض الصحابة وغيرِهم، ومنهم علي رضي الله عنه، وأذكر فيما يلي بعضَ الأدلَّة الدَّالَّة على ذلك مِمَّا وقفتُ عليه من الأحاديث المرفوعة والآثار عن الصحابة، وحكاية الإجماع عن عدد من العلماء:
أوَّلاً: الأحاديث المرفوعة:
1 ـ ما رواه مسلم في صحيحه (532) عن جندب بن عبد الله البَجلي رضي الله عنه أنَّه قال: سمعتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يَموت بخمس وهو يقول:
(( إنِّي أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإنَّ الله تعالى قد اتَّخذني خليلاً كما اتَّخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنتُ متَّخذاً مِن أمَّتِي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكر خليلاً )) الحديث.
فقد أخبر النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن أمرٍ لا يكون أن لو كان كيف يكون، وهو دالٌّ على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه على الصحابة جميعاً.
2 ـ ما رواه البخاري (3662) ومسلم (2384) في صحيحيهما عن عَمرو بن العاص رضي الله عنه: (( أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيتُه، فقلت: أي الناس أحبُّ إليك؟ قال: عائشة، فقلت: من الرِّجال؟ قال: أبوها، قلتُ: ثمَّ مَن؟ قال: عمر بن الخطَّاب، فعدَّ رجالاً )).(6/56)
3 ـ روى الترمذي في جامعه (3890) قال: حدَّثنا أحمد بن عَبْدة الضبِّي، حدَّثنا المعتمر بن سليمان، عن حميد، عن أنس قال: (( قيل: يا رسول الله! مَن أحبُّ الناس إليك؟ قال: عائشة، قيل: مِن الرِّجال؟ قال: أبوها ))، وهو حديث صحيح، رجاله رجال الشيخين إلاَّ أحمد بن عبدة الضبِّي فهو من رجال مسلم.
ثانياً: الآثار الموقوفة على الصحابة، ومنهم علي رضي الله عنه:
1 ـ روى البخاري في صحيحه (3671) بإسناده عن محمد بن الحنفية ـ وهو محمد بن علي بن أبي طالب ـ قال: (( قلتُ لأبي: أيُّ الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أبو بكر، قلتُ: ثمَّ مَن؟ قال: ثمَّ عمر، وخشيتُ أن يقول: عثمان، قلت: ثمَّ أنت؟ قال: ما أنا إلاَّ رجلٌ من المسلمين )).
2 ـ روى الإمام أحمد في مسنده (835 ـ تحقيق شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد) قال: حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم، أخبرنا منصور بن
عبد الرحمن يعنِي الغُداني الأشل، عن الشعبي، حدَّثني أبو جُحيفة الذي كان عليٌّ يُسمِّيه: وهْب الخير، قال: قال لي عليٌّ: (( يا أبا جُحيفة! ألا أُخبرك بأفضل هذه الأمة بعد نبيِّها؟ قال: قلت: بلى، قال: ولم أكن أرى أنَّ أحداً أفضل منه، قال: أفضلُ هذه الأمَّة بعد نبيِّها أبو بكر، وبعد أبي بكر عمر، وبعدهما آخر ثالث، ولم يُسمِّه ))، وإسناده صحيح، رجاله رجال الشيخين إلاَّ منصور بن عبد الرحمن فهو من رجال مسلم، وأثر علي هذا عن أبي جُحيفة جاء في مسند الإمام أحمد وزوائده لابنه عبد الله من طرق صحيحة أو حسنة، وأرقامها من (833) إلى (837) و(871).(6/57)
3 ـ روى الإمام أحمد في فضائل الصحابة (484): قَثَنَا الهيثم بن خارجة والحكم بن موسى قالا: نا شهاب بن خراش، قال: حدَّثني الحجاج ابن دينار، عن أبي مَعشر، عن إبراهيم النخعي، قال: (( ضرب علقمة بنُ قيس هذا المنبر، فقال: خطبنا عليٌّ على هذا المنبر، فحمِد الله وذكره ما شاء الله أن يذكرَه، ثمَّ قال: ألا إنَّه بلغنِي أنَّ أناساً يفضِّلونِي على أبي بكر وعمر، ولو كنتُ تقدَّمت في ذلك لعاقبتُ، ولكنِّي أكرَه العقوبةَ قبل التقدُّم، فمَن قال شيئاً من ذلك فهو مفْتَرٍ، عليه ما على المفتري، إنَّ خيرَ الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثمَّ عمر ... )).
وهذا إسنادٌ حسن، وأبو مَعشر هو زياد بن كُليب، وهو ثقة.
وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (993)، وقال الألباني: (( إسناده حسن )).
في زوائد فضائل الصحابة (49) عن عبد الله بن أحمد بإسنادٍ فيه ضعف إلى الحَكَم بن جَحْل قال: سمعتُ عليًّا يقول: (( لا يفضلني أحدٌ على أبي بكر وعمر إلاَّ جلدته حدَّ المفتري )).
وهو أيضاً كذلك في السنة لابن أبي عاصم (1219)، وهو قريبٌ في المعنى من الذي قبله عن علقمة.
وقد أشار إبراهيم النَّخعي إلى هذه العقوبة من عليٍّ لِمَن يفضِّله على الشيخين بقوله لرجلٍ قال له: (( عليٌّ أحبُّ إليَّ من أبي بكرٍ وعمر، فقال له إبراهيم: أما إنَّ علياًّ لو سَمع كلامَك لأَوْجَع ظَهْرَك، إذا تجالسوننا بهذا فلا تجالسونا )) رواه عنه ابن سعد في الطبقات (6/275) بإسناده إليه عن أحمد بن يونس عن أبي الأحوص ومُفضَّل بن مُهَلْهَل عن مغيرة عنه، ورجالُه ثقاتٌ محتجٌّ بهم، وهم من رجال الصحيحين، إلاَّ المفضل بن مهلهل فهو من رجال مسلم، وفيه عنعنة المغيرة عن إبراهيم، وهو مدلِّس.(6/58)
4 ـ روى ابن ماجه في سننه (106) قال: حدَّثنا علي بن محمد، ثنا وكيع، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن عبد الله بن سلِمة قال: سمعتُ علياًّ يقول: (( خيرُ الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر، وخير الناس بعد أبي بكر عمر )).
ورجاله محتجٌّ بهم، ثلاثة منهم من رجال البخاري ومسلم، وصححه الألباني.
5 ـ روى البخاري في صحيحه (3655) بإسناده إلى عبد الله بن عمر أنَّه قال: (( كنَّا نُخيِّر بين الناس في زمن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فنخيِّر أبا بكر، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان بن عفّان، رضي الله عنهم )).
ثالثاً: حكايةُ الإجماع:
قد جاء حكايةُ الإجماع أو ما يدلُّ عليه في تفضيل أبي بكر وعمر على غيرِهما من الصحابة عن جماعةٍ من العلماء، منهم:
1 ـ يحيى بن سعيد الأنصاري (144هـ) ذكره اللاّلكائي في شرح أصول الاعتقاد (2608 و2609).
2 ـ سفيان بن سعيد الثوري (161هـ)، ذكره ابن أبي زمنين في كتابه أصول السنة (194).
3 ـ شريك بن عبد الله النخعي الكوفي (177هـ)، ذكره ابن أبي زمنين في كتابه السابق (194).
4 ـ عبد الله بن المبارك (181هـ)، ذكره ابن أبي زمنين في كتابه السابق (197).
5 ـ محمد بن إدريس الشافعي (204هـ)، ذكره البيهقي في الاعتقاد (ص:192).
6 ـ يوسف بن عدي (232هـ)، ذكره ابن أبي زمنين في كتابه السابق (196).
7 و8 ـ أبوزرعة (264هـ) وأبو حاتم (277هـ) الرازيان، ذكره عنهما اللاّلكائي في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (321).
9 ـ النووي (676هـ)، ذكره في شرحه على مسلم (15/148).
10 ـ ابن تيمية (728هـ)، ذكره في الوصية الكبرى (ص:59 و60)، وفي منهاج السنة (8/413).
11 ـ الذهبي (748هـ)، ذكره في كتاب الكبائر (ص:236).(6/59)
وأمَّا ما عزاه إلى كتاب الاستيعاب لابن عبد البر من تفضيل عددٍ من الصحابة عليًّا على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، فلَم أقف على أسانيد عنهم بذلك، ولو ثبت شيءٌ من هذا فهو محمولٌ على مثل ما حصل لأبي جُحيفة رضي الله عنه قبل أن يَسمع من عليٍّ تفضيل أبي بكر وعمر عليه، حيث قال: (( ولم أكن أرى أنَّ أحداً أفضل منه ))، وقد مرَّ قريباً.
وأيضاً لو ثبت النقلُ عنهم فإنَّه لا يُقاوم ما ثبت في الأحاديث المرفوعة إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - والآثار الموقوفة على الصحابة، ومنهم عليّ رضي الله عنه، وهو مخالِف لِما نُقل من الإجماع في تفضيل الشيخين على عليٍّ رضي الله عن الجميع.
وأمَّا ما زعمه من دلالة بعض الروايات على تفضيل عليٍّ رضي الله عنه على غيره فلَم يُبيِّن شيئاً من هذه الروايات، ولعلَّه يعنِي حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لعليٍّ رضي الله عنه: (( أمَا ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى، إلاَّ أنَّه لا نبيَّ بعدي ))، وقد أشار إليه في كلامه الذي شكَّك فيه بأحقِّية أبي بكر بالخلافة، وسيأتي ذكرُه قريباً والجواب عنه، وهو يدلُّ على فضل عليٍّ رضي الله عنه، ولا يدلُّ على أفضليَّته على الخلفاء الثلاثة الذين قبله، رضي الله عن الجميع.(6/60)
ومِمَّا تقدَّم من الأحاديث والآثار وحكايات الإجماع اتَّضح أنَّ الحقَّ هو تفضيل أبي بكر رضي الله عنه على غيره من الصحابة، ومن العجب أن يُشكِّك المالكي في أفضليَّة أبي بكر على غيره، مع أنَّ تفضيلَه على سائر الصحابة دلَّت عليه الأحاديث الصحيحة وحكاية الإجماع من عددٍ من العلماء، بل قد ثبت عن عليٍّ رضي الله عنه من رواية أربعة من التابعين أنَّ عليًّا رضي الله عنه يُفضِّلُ أبا بكر عليه، وواحد منها في صحيح البخاري، وفي بعضها تفضيله ـ أي علي ـ عمرَ عليه، بل لقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الوصيَّة الكبرى (ص:59 ـ 60): (( وقد اتَّفق أهلُ السنَّة والجماعة على ما تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنَّه قال: خير هذه الأمة بعد نبيِّها أبو بكر، ثمَّ عمر، رضي الله عنهما )).
وفي ترجمة عبد الرزاق بن همام في تهذيب الكمال للمزي قال أبو الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري: سمعتُ عبد الرزاق يقول: (( أفضِّل الشيخين بتفضيل عليٍّ إيَّاهما على نفسه، ولو لَم يُفضِّلهما ما فضَّلتُهما، كفى بي إزراءً أن أحبَّ عليًّا ثمَّ أخالف قولَه )).
وفي زوائد فضائل الصحابة (126) عن عبد الله بن أحمد: قثنا سلمة ابن شَبيب أبو عبد الرحمن النيسابوري، قال: سمعتُ عبد الرزاق يقول:
(( والله! ما انشرح صدري قطُّ أن أُفضِّل عليًّا على أبي بكر وعمر، ورحمة الله على أبي بكر وعمر، ورحمة الله على عثمان، ورحمة الله على عليٍّ، ومَن لَم يحبَّهم فما هو بمؤمن، وإنَّ أوثقَ أعمالِنا حبُّنا إيَّاهم أجمعين، رضي الله عنهم أجمعين، ولا جعل لأحد منهم في أعناقنا تَبِعة، وحَشَرنا في زُمْرَتهم ومعهم، آمين رب العالمين! ))، وسلمة بن شبيب ثقة من رجال مسلم.
* * *
تشكيكه في أَحقِّية أبي بكر بالخلافة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والرد عليه:(6/61)
جاء في قراءته (ص:28) عنوان بلفظ: (( الاختلاف يوم السقيفة وموقف المسلمين منها وآثارها الفكرية ))، أورد تحته كلاماً ينتهي في (ص:34) اشتمل على تشكيك في أحقية أبي بكر وأولويَّته بالخلافة، وأنا أورد هنا بعضَ المقاطع المشتملة على جُمل من هذا التشكيك:
1 ـ ففي (ص:29) قال: (( فعند علم الأنصار بوفاة النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - اجتمعوا في سقيفة بَنِي ساعدة يريدون تولية سعد بن عبادة رضي الله عنه على المسلمين؛ بحجَّة أنَّ الأنصارَ هم أهلُ المدينة عاصمة الإسلام، وأنَّ قريشاً أخرجت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - من مكة، وأنَّ الأنصارَ هم الذين حَموا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ودعوتَه، ولقوا في ذلك الشدائد، وأنَّ المهاجرين ليسوا إلاَّ ضيوفاً عليهم في المدينة، وعلى هذا فصاحب الدار أولَى بالتصرُّف في داره من الضيف )).
2 ـ وقال في (ص:30 ـ حاشية): (( بعضُهم يرى أنَّه ليس كلُّ من بايع أبا بكر الصديق يراه أَوْلَى مِن غيره! وإنَّما بايَعه لأنَّه يراه من الأكفاء للخلافة، ولخشيته من الفتنة ورضاه بالأمر الواقع!! ... )).(6/62)
3 ـ وقال في (ص:30 ـ 32): (( وكان هناك قسمٌ آخر من كبار المهاجرين لَم يُبايعوا أبا بكر، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عمِّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وزوج ابنته فاطمة الزهراء، وكان معه بنو هاشم قاطبة، كالحسن والحسين وعمِّه العباس بن عبد المطلب وأبنائه عبد الله بن العباس والفضل بن العباس، وكوكبة من كبار المهاجرين الأوَّلين كعمار بن ياسر وسَلمان الفارسي وأبو (كذا) ذر الغفاري والمقداد بن عمرو وغيرهم، كما كان معهم بعضُ الأنصار كأُبَيِّ بن كعب والبراء بن عازب وجابر بن عبد الله، وغيرهم من عموم الصحابة الذين كانوا يرون أنَّ عليَّ ابنَ أبي طالب كان أكفأَ الناس لتولِّي الأمر بعد النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -! لكونه أوَّلَ مَن أسلم، ولكونه بمنزلة كبيرة من النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (كمنزلة هارون من موسى باستثناء النبوة)، وكان من علماء الصحابة وشجعانهم وزهادهم، ومن العشرة المبشَّرين بالجنة، مع نسبه الشريف وقربه من النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نسباً وصِهراً ونشأة وسكناً، فكان هذا القسم من المهاجرين ومعهم بعض الأنصار يرون أنَّ عليَّ بن أبي طالب هو أنسبُ الصحابة لتولِّي الخلافة بعد النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -!! بل تبيَّن أنَّ معظمَ الأنصار كانوا يَميلون مع عليٍّ أكثرَ من ميلِهم مع (أبي بكر!!)؛ لعلمِهم بأنَّ عليًّا وإن كان قرشيًّا لكنَّه لن يؤْثرعليهم قريشاً، لكن السبب في بيعتهم أبا بكر وتركهم عليًّا أنَّ عليًّا لَم يكن موجوداً في السقيفة أثناء المجادلة والمناظرة مع الأنصار، وربَّما لو كان موجوداً لَتَمَّ له الأمر!! لأنَّ بعضَ الأنصار لَمَّا رأوا أنَّ الأمر سينصرفُ عن سعد بن عبادة هتفوا باسم عليٍّ في السقيفة!! والأنصار كانوا أغلبيةً في المدينة، لكن عليًّا كان مشغولاً بِجَهاز النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، من غسله وتكفينه والإقامة على إتمام(6/63)
ذلك، فهو إمَّا أنَّه لَم يعلم بهذا الاجتماع المفاجئ في السقيفة، أو أنَّه يرى أنَّه ليس من المناسب أن يترك الجسدَ الشريف ويذهب إلى السقيفة يتنازع مع الناس في أحقيته بخلافة النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -!! فآثر البقاءَ مع الجسد الشريف غسلاً وتكفيناً مع الصلاة عليه، ثمَّ دفنه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا استغرق يومين من موته - صلى الله عليه وسلم -.
وكانت البيعة العامة لأبي بكر قد تَمَّت قبل دفن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كان له أثرٌ نفسي على علي بن أبي طالب ومن مَعه مِن أهل البيت، كفاطمة الزهراء، ومن معه من المهاجرين والأنصار، فقد كان هؤلاء يَرون أنَّ أصحابَ السقيفة لَم يُراعوا مكانتهم، وقطعوا الأمور دون مشورتِهم، وكانوا يفضِّلون أن يتأنَّى الناس حتى يتِمَّ دفنُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثمَّ يتشاور الناسُ ويوَلُّون مَن يرونه أهلاً للخلافة، أمَّا أن يتِمَّ الأمر في وسط النزاع المحتدم بين المهاجرين والأنصار، ثمَّ بين الأوس والخزرج من الأنصار، فهذا يُضعف عندهم شرعيَّة البيعة!! ويجعلها أشبه ما تكون بالقهر والغلبة التي تتنافى مع الشورى المأموربها شرعا {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} !! )).
4 ـ وقال عن الاختلاف الذي جرى في السقيفة (ص:29 ـ حاشية): (( ويرى البعضُ أنَّ هناك أسباباً قبليَّة وتعصب (كذا) لفئات وأشخاص، وليس اختلافهم لمصلحة الإسلام!! ورغم عدم تسليمنا بل وإنكارنا لهذا القول إلاَّ أنَّه ليس هناك دليلٌ شرعي ولا عقلي يمنع من هذا!! فالصحابة يعتريهم ما يعتري سائرَ البشر! )).(6/64)
5 ـ وقال في (ص:31 ـ حاشية): (( سببُ ميل الأنصار لعليٍّ أكثرمن ميلهم لأبي بكر وعمر أنَّ عليًّا كان أكثر فتكاً في مشركي قريش؛ إذ قتل من قريش في بدر وحدها نحو خمسة عشر رجلاً، وأوصلهم بعض المؤرِّخين ـ كالواقدي ـ إلى ثلاثة وعشرين رجلاً، فكان الأنصارُ يرون أنَّ عليًّا كان صارماً في موضوع قريش، وأنَّه سيكبحُ جِماحَ قريش (وخاصة الطُّلَقاء منهم، وكان الطُّلَقاء يُمثِّلون أغلب قريش)، وأنَّه لن يصيب الأنصارَ من قريش أذى أو أثرة إذا كان علي هو الخليفة؛ لأنَّ قريشاً تُبغض عليًّا لكثرة نكايته في بيوتاتهم، بعكس أبي بكر وعمر وعثمان؛ إذ لَم يثبت أنَّهم قتلوا من قريش أحداً باستثناء رجل واحد قتله عمرُ بنُ الخطاب يوم بدر، أما علي فقتل منهم العشرات في بدر وأُحُد والخندق ويوم الفتح، وهي المعارك المشهورة مع قريش ...
وقد كان بين علي والأنصار مَحبَّة عظيمة، وكان عليٌّ على علاقة كبيرة بهم، وولَّى جَمعاً من فضلائهم أيَّام خلافته ))، فذكر سبعاً منهم ثمَّ قال: (( بينما لَم يجد الأنصارُ فرصتَهم في عهد أبي بكر وعمر وعثمان؛ إذ كانت الولايات في أيدي القرشيِّين في الغالب (وهذا أمرٌ يدعو للدراسة لمعرفة الأسباب!!)، ومن الاتفاقات الجديرة بالذِّكر هنا أنَّه ورد في الأنصار حديثاً (كذا): (لا يحب الأنصارَ إلاَّ مؤمن، ولا يُبغضهم إلاَّ منافق)، وورد الحديث نفسه في علي: (لا يحب عليًّا إلاَّ مؤمن، ولا يُبغضه إلاَّ منافق)، الحديثان في مسلم، وبوَّب مسلمٌ لهذا باباً بعنوان (باب حب علي والأنصار من الإيمان)، فسبحان الله!! )).(6/65)
6 ـ وقال في (ص:33 ـ حاشية): (( أسلم يوم مكة ألفان من قريش وسُمُّوا الطُّلَقاء، فلعله لهذا السبب كان الأنصار يَخشون إذا ذهبت الخلافة لقريش أن تصل إلى هؤلاء الطُّلَقاء، وقد حصل هذا بعد ثلاثين سنة، إذ تولَّى الأمر معاوية بن أبي سفيان وهو من الطُّلَقاء، وقد وجد الأنصار في عهده الأثرة الشديدة التي أخبرهم بها النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -!!! )).
وبعد إيراد هذه المقاطع من كلامه المشتملة على جُمل من التشكيك في أحقية أبي بكر بالخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أجيب عن ذلك من جهتين:
الأولى: التنبيه على بعض ما أورده.
الثانية: في بيان الأدلة الدَّالة على أحقِّيَّة أبي بكر بالخلافة بعد
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
أما الجهة الأولى، فأقول: إنَّ مَن يرى أو يسمع مثلَ هذا الكلام الذي سطَّره المالكي لا يَشُمُّ منه رائحة السنَّة ولا رائحةَ أهلها، بل يتبادر إلى ذهنه أنَّ بين يديه كتاباً من كتب أهل البدع والضلال.
وإنَّ مجرَّدَ قراءة مثل هذا الكلام أو سماعه وتصوُّره يُغنِي عن الاشتغال بالتعليق عليه، لكنِّي أنبِّه على أمور ثلاثة:
أوَّلاً: ما أشار إليه في المقطع رقم (3) من أوْلَوِيَّة علي رضي الله عنه بالخلافة؛ لكونه بمنزلة كبيرة من النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كمنزلة هارون من موسى باستثناء النبوة، فيُجاب بأنَّ بعضَ أهل الأهواء والبدع يتشبَّثون بأوْلوية علي بن أبي طالب بالخلافة بالحديث الوارد في ذلك، وهو حديث ثابتٌ في الصحيحين عن سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه، ولفظه عند البخاري (4416): (( أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى تبوك، واستخلف عليًّا، فقال: أَتُخلِّفنِي في الصبيان والنساء؟ قال: ألا ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى، إلاَّ أنَّه ليس نبيٌّ بعدي؟! )).(6/66)
وهو لا يدلُّ لهم؛ لأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما قال ذلك تطييباً لنفس عليٍّ رضي الله عنه لَمَّا قال له: أَتُخلِّفنِي في الصبيان والنساء؟ وهذا الاستخلاف إنَّما هو مدَّة سفره إلى تبوك، كما أنَّ استخلاف موسى لهارون كان مدَّة ذهابه لمناجاة الله، فهذا هو المراد بالتشبيه، فالمشبَّه استخلافه النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لعليٍّ مدَّة غيبته، والمشبَّه به استخلاف موسى لهارون مدَّة غيبته، إلاَّ أنَّ المشبَّه به نبِيٌّ استخلف نبيًّا لوجود الأنبياء في زمن واحد، وأمَّا نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنَّه لانبِيَّ بعده، لا في زمانه ولا بعد زمانه.
وليس فيه دلالة على أحقِّيَّة علي بالخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثانياً: ما أشار إليه في المقطع رقم (5) من أوْلوية عليّ رضي الله عنه بالخلافة لكونه قد أكثر القتل في كفار قريش، أقول إنَّ كثرةَ القتل لا تعتبر دليلاً على الأولوية، ومن المعلوم أنَّ بعض من تأخَّر إسلامُهم كانت نكايتُهم بالعدوِّ أشدَّ مِمَّن هو أفضل منهم مِمَّن تقدَّم إسلامُهم، وإنَّما التفضيل والتقديم في الخلافة يُعوَّل فيه على الأدلَّة، وسبق ذكرُ الأدلَّة الدالَّة على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه على غيره، وسيأتي بعد قليل ذكر الأدلّة الدالَّة على تقديمه في الخلافة على غيره.(6/67)
ثالثاً: ما أشار إليه في المقطع رقم (5) من ورود حديثين في صحيح مسلم، أحدهما في الأنصار، والثاني في عليٍّ، يدلاَّن على أنَّه لا يحبُّهم إلاَّ مؤمنٌ ولا يبغضهم إلاَّ منافقٌ، أقول: إنَّ الحديثَ في الأنصار جاء في الصحيحين من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، ولفظه: (( الأنصار لا يحبُّهم إلاَّ مؤمنٌ ولا يبغضهم إلاَّ منافقٌ، فمَن أحبَّهم أحبَّه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله )) رواه البخاري (3783) ومسلم (129)، وأيضاً من حديث أنس رضي الله عنه، ولفظه:(( آيةُ الإيمان حبُّ الأنصار، وآيةُ النِّفاق بغضُ الأنصار )) رواه البخاري (3784) ومسلم (128).
وفي صحيح مسلم (131) عن زرٍّ قال: قال عليّ: (( والذي فَلَقَ الحَبَّة وَبَرَأَ النَّسَمَة إنَّه لعهدُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إليَّ: ألاَّ يُحبَّني إلاَّ مؤمن، ولا يبغضني إلاَّ منافقٌ )).(6/68)
وبغضُ المنافقين للأنصار إنَّما هو لنُصرتهم النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لإظهار دينه، وهذا المعنى لا يختصُّ به الأنصار؛ فإنَّ المهاجرين هم أيضاً أنصارٌ، وقد جَمعوا بين الهجرة والنُّصرة، ولهذا كانوا أفضلَ من الأنصار، وقد وصفهم الله بهذين الوصفين في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، قال الحافظ في الفتح (1/63) في شرح حديث حبّ الأنصار: (( ... فلهذا جاء التحذيرُ من بغضهم والترغيب في حبهم حتَّى جعل ذلك آيةَ الإيمان والنفاق؛ تنويهاً بعظيم فضلهم، وتنبيهاً على كريم فعلهم، وإن كان مَن شاركهم في معنى ذلك مشاركاً لهم في الفضل المذكور كلٌّ بقسطه، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عليّ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: (لا يُحبُّكَ إلاَّ مؤمن، ولا يبغضكَ إلاَّ منافقٌ)، وهذا جارٍ باطّرادٍ في أعيان الصحابة؛ لتحقق مشترك الإكرام؛ لِمَا لهم مِن حسن الغناء في الدِّين، قال صاحب المفهم: وأمَّا الحروب الواقعة بينهم فإن وقع من بعضهم بغضٌ لبعضٍ فذاك من غير هذه الجهة (يعني النصرة)، بل للأمر الطارئ الذي اقتضى المخالفة، ولذلك لَم يحكم بعضهم على بعضٍ بالنفاق، وإنَّما كان حالُهم في ذاك حالَ المجتهدين في الأحكام، للمصيب أجران، وللمخطئ أجرٌ واحد، والله أعلم )).
وكتاب المفهم هو شرحٌ لصحيح مسلم، وصاحبُه أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي، وهو شيخ لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي المفسر.(6/69)
وأمّا ما ذكره المالكي مِن أنَّ مسلماً بوَّب لهذا باباً بعنوان (( باب حبُّ عليٍّ والأنصار من الإيمان ))، فإنَّ مسلماً ـ رحمه الله ـ لَم يضع في صحيحه أبواباً، وهو في حكم المبوَّب، وتراجم الأبواب إنَّما هي من عمل غيره، قال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم (1/21): (( وقد ترجم جماعةٌ أبوابَه بتراجم بعضُها جيِّدٌ وبعضُها ليس بجيِّد، إمَّا لقصور في عبارة الترجمة، وإمَّا لركاكةِ لفظها، وإمَّا لغير ذلك، وأنا إن شاء الله أحرصُ على التعبير عنها بعبارات تليقُ بها في مواطنها، والله أعلم )).
وأما الجهة الثانية فهي في بيان الأدلَّة الدالَّة على أحقِّيَّة أبي بكر بالخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأذكر هنا بعضَ ما وقفتُ عليه من الأحاديث والآثار وحكاية الإجماع.
أوَّلاً: الأحاديث والآثار:
1 ـ روى البخاري (5666)، ومسلم (2387) في صحيحيهما، واللفظ لمسلم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضِه: ادْعِي لي أبا بكر وأخاكِ حتى أكتب كتاباً، فإنِّي أخاف أن يتمنّى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر )).
2 ـ روى البخاري (7220)، ومسلم (2386) في صحيحيهما، واللفظ للبخاري عن جُبير بن مُطْعم قال: (( أتت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - امرأةٌ فكلَّمتْه في شيءٍ، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: يا رسول الله! أرأيتَ إن جئتُ ولَم أجدْك، كأنَّها تريد الموت؟ قال: إن لَم تجديني فأتِي أبا بكر )).
3 ـ روى البخاري في صحيحه (678) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (( مرض النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فاشتدَّ مرضُه، فقال: مُروا أبا بكرٍ فليصلِّ بالناس )) الحديث، وقد أخرجه مسلم في صحيحه (420).
وجاء أمره - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر ليصلي بالناس من حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري (679) ومسلم (418).(6/70)
وقد فهم الصحابةُ رضي الله عنهم من تقديم أبي بكر رضي الله عنه في الإمامة في الصلاة أنَّه الأحقُّ بالخلافة، فروى ابن سعد في الطبقات (3/178 ـ 179) قال: أخبرنا حُسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن عاصم، عن زِرّ عن عبد الله (يعني ابن مسعود) رضي الله عنه قال: (( لَمَّا قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت الأنصار: مِنَّا أميرٌ ومنكم أميرٌ، قال: فأتاهم عمر، فقال: يا معشر الأنصار! ألستم تعلمون أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أبا بكر أن يصلّي بالناس؟ قالوا: بلى! قال: فأيُّكم تطيبُ نفسُه أن يتقدَّم أبا بكر؟ قالوا: نعوذ بالله أن نتقدَّم أبا بكر! )).
وهذا إسنادٌ صحيحٌ، رجالُه رجالُ الجماعة، وعاصم هو ابن أبي النجود، وحديثُه في الصحيحين مقرونٌ، ورواه الحاكم في المستدرك (3/67)، وقال: (( هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد ولم يخرجاه )) ووافقه الذهبي.
وفي صحيح البخاري (3668) أنَّ عمر رضي الله عنه قال لأبي بكر يوم السقيفة: (( بل نبايعُك أنت؛ فأنت سيِّدنا وخيرُنا وأحبُّنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ عمر بيده، فبايعه وبايعه الناس )).
4 ـ روى مسلم في صحيحه (532) عن جندب بن عبد الله البجلي أنَّه قال: (( سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: إنِّي أبرأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ؛ فإنَّ الله تعالى قد اتَّخذني خليلاً، كما اتَّخذ إبراهيمَ خليلاً، ولوكنتُ متَّخذاً من أُمَّتي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلاً )) الحديث.
وهذا التنويهُ بهذه الفضيلة العظيمة للصِّدِّيق في مرض موته - صلى الله عليه وسلم - وقبل وفاته بخمس ليالٍ، فيه إشارةٌ قويّةٌ إلى أنَّه الأحقُّ بالخلافة من غيره.(6/71)
5 ـ روى البخاري (3664) ومسلم (2392) في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( بينا أنا نائمٌ رأيتُني على قليبٍ عليها دلوٌ، فنزعتُ منها ما شاء الله، ثمَّ أخذها ابنُ أبي قُحافة فنزع بها ذَنُوباً أو ذَنوبين، وفي نزعه ضَعفٌ، والله يغفر له ضعفَه، ثمَّ استحالت غرباً فأخذها ابنُ الخطاب، فلَم أَرَ عَبْقرياًّ من الناس ينزع نزعَ عمر، حتى ضرب الناسُ بعَطَن )).
ورؤيا الأنبياء وحيٌ، وهذه الرؤيا فيها إشارةٌ إلى خلافة أبي بكر وقِصَرها، وإلى خلافة عمر مِن بعده، وطولها وكثرة نفعها.
6 ـ روى ابن أبي شيبة في مصنّفه (7/434 رقم:7053) فقال: حدثنا ابن نُمير، عن عبد الملك بن سلع، عن عبد خير قال: سمعتُ علياًّ يقول: (( قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خير ما عليه نَبِيٌّ من الأنبياء، قال: ثمَّ استخلف أبو بكر فعمل بعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبسنته، ثمَّ قُبض أبو بكر على خير ما قُبض عليه أحد، وكان خيرَ هذه الأمة بعد نبيِّها، ثمَّ استُخلف عمر فعمل بعملهما وسنتهما، ثمَّ قُبض على خير ما قُبض عليه أحد، وكان خيرَ هذه الأمة بعد نبيِّها وبعد أبي بكر )).
ورجالُ هذا الإسناد محتجٌّ بهم، فعبد خير وعبد الله بن نمير ثقتان، وعبد الملك بن سلع صدوق.
ثانياً: حكايةُ الإجماع والاتّفاق على خلافة أبي بكر رضي الله عنه:
لَم يأت نصٌّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صريحٌ على خلافة أبي بكر أو غيره، لكنَّه قد جاء أحاديث صحيحة تدلُّ دلالة قويَّة على أنَّه أولَى من غيره بالخلافة، وقد مرَّ جملةٌ منها، وقد حصل اتِّفاق الصحابة رضي الله عنهم على بيعته، وتحقَّق ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله في الحديث المتقدِّم قريباً: (( يأبى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر ))، ويدلُّ على حصول اتِّفاقهم على بيعته ما يلي:(6/72)
1 ـ روى الحاكم في المستدرك (3/78 ـ 79) قال: أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدَّثني أبي وأحمد بن منيع، قالا: ثنا أبو بكر بن عياش، ثنا عاصم، عن زِر، عن عبد الله (يعنِي ابنَ مسعود) قال: (( ما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيِّئاً فهو عند الله سيِّء، وقد رأى الصحابةُ جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه )).
ورجاله مُحتجٌّ بهم، والقطيعي ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء (16/210)، وقال عنه: (( الشيخ العالم المحدِّث مسند الوقت )).
2 ـ روى البخاري في صحيحه (7219) بإسناده إلى الزهري أنَّه قال: (( أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فتشهَّد وأبو بكر صامت لا يتكلَّم، قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يَدْبَرَنا، يريد بذلك أن يكون آخرَهم، فإن يكُ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - قد مات، فإنَّ الله تعالى قد جعل بين أظهرِكم نوراً تهتدون به بما هدى الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّ أبا بكر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثاني اثنين، فإنَّه أولَى الناسِ بأمورِكم، فقوموا فبايِعوه، وكانت طائفةٌ منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بَنِي ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر، قال الزهري (أي بالإسناد المتقدِّم) عن أنس بن مالك: سمعتُ عمر يقول لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر، فبايعه الناسُ عامَّة )).
3 ـ روى أبو داود في سننه (4630) قال: حدَّثنا محمد بن مسكين، حدَّثنا محمد ـ يعني الفريابي ـ قال: سمعتُ سفيان (يعني الثوري) يقول:
(( مَن زعم أنَّ عليًّا عليه السلام كان أحقَّ بالولاية منهما فقد خطَّأ أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار، وما أراه يرتفع له مع هذا عمل إلى السماء )).(6/73)
إسناده صحيح، ومحمد بن يوسف الفريابي ثقة أخرج له الجماعة، ومحمد بن مسكين ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبوداود والنسائي.
4 ـ روى البيهقي في كتابه مناقب الشافعي (1/434) بإسناده إلى الشافعي قال: (( أجمع الناسُ على خلافة أبي بكر، واستخلَف أبو بكر عمر، ثمَّ جعل عمرُ الشورى إلى ستة، على أن يُوَلُّوها واحداً، فوَلَوْها عثمان رضي الله عنهم أجمعين )).
5 ـ قال الإمام أبو الحسن الأشعري علي بن إسماعيل في كتابه الإبانة (ص:185 ـ 186): (( وأثنى الله عزَّ وجلَّ على المهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإسلام، وعلى أهل بيعة الرضوان، ونطق الكتاب بمدح المهاجرين والأنصار في مواضع كثيرة، وأثنى على أهل بيعة الرضوان، فقال عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية.
قد أجمع هؤلاء الذين أثنى عليهم ومدَحهم على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وسَمَّوه خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبايعوه وانقادوا له، وأقَرُّوا له بالفضل، وكان أفضلَ الجماعة في جميع الخصال التي يستحقُّ بها الإمامةَ من العلم والزهد وقوَّة الرأي وسياسة الأمَّة وغير ذلك )).
6 ـ قال أبو محمد عبد الله بن محمد بن عثمان الحافظ المعروف بابن السَّقاء: (( وأجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر، قالوا له: يا خليفة رسول الله! ولَم يُسَمَّ أحدٌ بعده خليفة، وقيل: إنَّه قُبض النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن ثلاثين ألف مسلم، كلٌّ قال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله! ورَضوا به مِن بعده، رضي الله عنهم، وإلى حيث انتهينا قيل لهم: أمير المؤمنين )). من تاريخ بغداد للخطيب (10/131).
والمراد أنَّ أبا بكر كان يُقال له: يا خليفة رسول الله! وأمَّا غيره فيُقال له: يا أمير المؤمنين.(6/74)
7 ـ قال أبو عثمان الصابوني إسماعيل بن عبد الرحمن في كتابه عقيدة السَّلف أصحاب الحديث (ص:87): (( ويُثبت أصحابُ الحديث خلافةَ أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باختيار الصحابة واتِّفاقهم عليه وقولهم قاطبة: رَضِيَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لدِيننا فرضيناه لدُنيانا، يعني أنَّه استخلفه في إقامة الصلوات المفروضات بالناس أيَّام مرضه وهي الدِّين، فرضيناه خليفةً للرسول - صلى الله عليه وسلم - علينا في أمور دُنيانا.
وقولهم: قدَّمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمَن ذا الذي يُؤَخِّرك؟ وأرادوا أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قدَّمَك في الصلاة بنا أيَّام مرضه، فصلينا وراءك بأمره، فمَن ذا الذي يُؤخِّرك بعد تقديمه إيَّاك؟!
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتكلَّم في شأن أبي بكر في حال حياته بِما يُبيِّن للصحابة أنَّه أحقُّ الناس بالخلافة بعده، فلذلك اتَّفقوا عليه واجتمعوا، فانتفعوا بمكانه ـ والله ـ وارتفعوا به وعَزُّوا وعَلَوْا بسببه )).
8 ـ قال الإمام البيهقي في كتابه الاعتقاد (ص:179 ـ 180): (( وقد صحَّ بما ذكرنا اجتماعُهم على مبايعته مع علي بن أبي طالب، فلا يجوز لقائل أن يقول:كان باطنُ عليٍّ أو غيرِه بخلاف ظاهرِه، فكان عليٌّ أكبرَ محلاًّ وأجلَّ قدراً من أن يقدم على هذا الأمر العظيم بغير حقٍّ أو يُظهِرَ للناس خلافَ ما في ضميره، ولو جاز هذا في اجتماعهم على خلافة أبي بكر لَم يصحَّ إجماعٌ قطُّ، والإجماعُ أَحَدُ حُجَج الشريعة، ولا يجوز تعطيلُه بالتوهُّم )).(6/75)
9 ـ قال ابن قدامة في لُمعة الاعتقاد (ص:35): (( وهو (أي أبو بكر الصديق) أحقُّ خلق الله بالخلافة بعد النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لفضله وسابقته وتقديم النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته، ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة )).
10 ـ قال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن (1/264):
(( وأجمعت الصحابةُ على تقديم الصدِّيق بعد اختلافٍ وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بَنِي ساعدة في التعيين، حتى قالت الأنصار: منَّا أميرٌ ومنكم أمير، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك، وقالوا لهم: إنَّ العربَ لا تدين إلاَّ لِهذا الحيِّ من قريش، ورَوَوا لهم الخبرَ في ذلك، فرجعوا وأطاعوا لقريش )).
11 ـ قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم (15/154 ـ 155) عند شرحه لأثر عائشة رضي الله عنها لَمَّا سُئلت: (( مَن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخلفاً لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر، فقيل لها: ثمَّ مَن بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، ثمَّ قيل لها: مَن بعد عمر؟ قالت: أبو عبيد بن الجراح، ثمَّ انتهت إلى هذا ))، قال: (( هذا دليلٌ لأهل السُّنَّة في تقديم أبي بكر ثمَّ عمر في للخلافة مع إجماع الصحابة، وفيه دلالة لأهل السُّنَّة أنَّ خلافةَ أبي بكر ليست بنصٍّ من النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - على خلافته صريحاً، بل أجمعت الصحابةُ على عقد الخلافة له وتقديمه لفضيلته، ولو كان هناك نصٌّ عليه أو على غيره لَم تقع المنازعةُ من الأنصار وغيرهم أولاً، ولَذَكر حافظ النصَّ ما معه، ولرجعوا إليه، لكن تنازعوا أوَّلاً، ولم يكن هناك نصٌّ، ثمَّ اتَّفقوا على أبي بكر واستقرَّ الأمر )).(6/76)
12 ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (6/455): (( ... فبايعه الذين بايعوا الرَّسولَ تحت الشجرة، والذين بايعوه ليلة العقبة، والذين بايعوه لَمَّا كانوا يُهاجرون إليه، والذين بايعوه لَمَّا كانوا يُسلمون من غير هجرة كالطلقاء وغيرِهم، ولم يقل أحدٌ قطُّ: إنِّي أحقُّ بهذا مِن أبي بكر، ولا قاله أحدٌ في أحدٍ بعينه: إنَّ فلاناً أحقُّ بهذا الأمر من أبي بكر )).
13 ـ عقد ابن القيم في كتابه (( الفوائد )) فصلاً في فضائل أبي بكر، ومِمَّا جاء فيه قوله في (ص:95): (( نطقتْ بفضله الآياتُ والأخبارُ، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار )).(6/77)
14 ـ قال ابن كثير في كتابه البداية والنهاية (9/415 ـ 418):
(( وقد اتَّفق الصحابةُ رضي الله عنهم على بيعة الصِّديق في ذلك الوقت، حتى عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما وأرضاهما، والدليل على ذلك ما رواه البيهقي حيث قال: أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد بن علي الحافظ الإسفراييني، ثنا أبو علي الحُسين بن علي الحافظ، ثنا أبو بكر بن خزيمة وإبراهيم بن أبي طالب، قالا: نا بُندار بن بشار، ثنا أبو هشام المخزومي، ثنا وُهيب، ثنا داود بن أبي هند، ثنا أبو نَضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: (( قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واجتمع الناسُ في دار سعد بن عُبادة، وفيهم أبو بكر وعمر، قال: فقام خطيبُ الأنصار فقال: أتَعلمون أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان من المهاجرين، وخليفتَه من المهاجرين، ونحن كنَّا أنصارَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فنحن أنصارُ خليفتِه كما كنَّا أنصارَه، قال: فقام عمرُ بنُ الخطاب، فقال: صدق قائلُكم، ولو قُلتُم غيرَ هذا لَم نُتابِعكم، فأخذ بيد أبي بكر، وقال: هذا صاحبُكم فبايِعوه، فبايعه عمر، وبايعه المهاجرون والأنصارُ، قال: فصعد أبو بكر المنبرَ، فنظر في وجوه القوم، فلَم يرَ الزبيرَ، فدعا بالزبير فجاء، قال: قلتَ: ابنُ عمَّةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحواريُّه، أردتَ أن تشُقَّ عصا المسلمين؟! قال: لا تثريبَ يا خليفة رسول الله! فقام فبايعه، ثمَّ نظر في وجوه القوم فلَم يرَ عليًّا، فدعا بعليِّ بن أبي طالب، فجاء فقال: قلتَ: ابنُ عمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وختَنُه على ابنتِه، أردتَ أن تشُقَّ عصا المسلمين؟! قال: لا تثريبَ يا خليفة رسول الله! فبايعه)، هذا أو معناه )).
وهذا إسنادٌ صحيح، رجاله رجال مسلم، وابن خزيمة هو إمام الأئمة صاحب الصحيح.(6/78)
وإبراهيم بن أبي طالب هو محمد بن نوح، ترجمه الذهبي في سير أعلام النبلاء (13/457) وقال: (( الإمام الحافظ المجوِّد الزاهد، شيخ نيسابور، وإمام المحدِّثين في زمانه ))، ونقل عن الحاكم أنَّه قال فيه: (( إمام عصره بنيسابور في معرفة الحديث والرِّجال، جمع الشيوخ والعلل )).
وأبو علي الحسين بن علي الحافظ، ترجمه الذهبي في سير أعلام النبلاء (16/51) وقال: (( الحافظ الإمام العلاَّمة الثبت أبو علي الحسين بن علي ابن يزيد بن داود النيسابوري، أحد النُّقَّاد )).
وشيخ البيهقي، ترجمه الذهبي في سير أعلام النبلاء (17/305) وقال: (( الإمام الحافظ النَّاقد القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن حسين ابن شاذان بن السَّقا الإسفراييني، من أولاد أئمَّة الحديث، سمع الكتب الكبار وأملى وصنَّف )).
وقد أورد ابن كثير حديث البيهقي هذا في البداية (8/92) بإسناده ومتنه، وفيه أنَّ كنية شيخه أبو الحسن، ثمَّ قال: (( وهذا إسناد صحيح محفوظ من حديث أبي نضرة المنذر بن مالك بن قُطَعة، عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سِنان الخدري ))، وقد ساق البيهقي في السنن الكبرى (8/143) هذا الإسناد وأحال في متنه على متن إسناد قبله، وقال:
(( بنحوه ))، وفيه أنَّ كنية شيخه: أبو الحسن.(6/79)
وقال ابن كثير أيضاً (9/417): (( وقال موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن إبراهيم، حدَّثني أبي: (أنَّ أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر، وأنَّ محمد بن مسلمة كسَر سيفَ الزبير، ثمَّ خطب أبو بكر، واعتذر إلى الناس، وقال: والله! ما كنتُ حريصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة، ولا سألتُها الله في سرٍّ ولا علانية، فقبِل المهاجرون مقالتَه، وقال عليٌّ والزبير: ما غضِبْنا، إلاَّ لأنَّنا أُخِّرنا عن المشورة، وإنَّا نرى أبا بكر أحقَّ الناس بها بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إنَّه لصاحبُ الغار، وإنَّا لنعرِف شرَفَه وخَيْرَه، ولقد أمره رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة بالناس وهو حي).
وهذا اللاَّئق بعليٍّ رضي الله عنه، والذي تدلُّ عليه الآثار من شهودِه معه الصلوات، وخروجه معه إلى ذي القَصَّة بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما سنورده، وبذلِه له النصيحةَ والمشورةَ بين يديه، وأمَّا ما يأتي من مبايعته إيَّاه بعد موت فاطمة، وقد ماتت بعد أبيها عليه الصلاة والسلام بستَّة أشهر، فذلك محمولٌ على أنَّها بيعةٌ ثانية أزالت ما كان قد وقع من وَحشةٍ بسبب الكلام في الميراث، ومنعه إيَّاهم ذلك بالنصِّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (لا نورَث ما تركنا فهو صدقة) )).
وإسناد موسى بن عقبة صحيح؛ سعد بن إبراهيم وأبوه من رجال الصحيحين، وسعدٌ ثقة، وأبوه له رؤية.
15 ـ قال يحيى بن أبي بكر العامري في كتابه الرياض المستطابة (ص:143): (( وقد كانت بيعتُه إجماعاً من الصحابة الذين هم أعرفُ بالحال، وأدرى بصحَّة الدليل في المقال، والإجماعُ حُجَّة قطعية من غيرهم، فما ظنُّك بهم؟! )).(6/80)
ومِمَّا تقدَّم من الأحاديث والآثار وحكاية الإجماع يتبيَّن أنَّ خلافةَ أبي بكر رضي الله عنه حقٌّ، وأنَّه أوْلَى بالخلافة من غيره، وأنَّ القولَ بخلاف ذلك ضلالٌ عن الحقِّ وخروجٌ عن الجادَّة واتِّباعٌ لغير سبيل المؤمنين التي بيَّنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (( يأبى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر ))، فالله يأبى إلاَّ أبا بكر، والمؤمنون يأبون إلاَّ أبا بكر، ويأبى بعضُ الذين اتَّبعوا غيرَ سبيل المؤمنين مِن أهل الأهواء والبدعِ إلاَّ غير أبي بكر، نعوذ بالله من الخذلان.
ثمَّ أقول: إنَّ غُلوَّ المالكي في عليٍّ رضي الله عنه لا يُفيد عليًّا شيئاً، وإنَّ جفاءَه في حقِّ الكثيرين من الصحابة لا يضُرُّهم شيئاً، وإنَّما مضرَّة الغلوِّ والجفاء تعود على الغالي الجافي، نسأل الله السلامةَ والعافية.
تنبيه: بعد إيراد المالكي كلامه الذي شكَّك فيه في أَوْلَوِيَّةِ أبي بكر رضي الله عنه في الخلافة أورد كلاماً يُشكِّك فيه في أوْلوية عمر وعثمان رضي الله عنهما في الخلافة من بعده، ولَم أُشغِل نفسي بإيراده هنا والردِّ عليه؛ اكتفاءاً بما تقدَّم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ومن المعلوم أنَّ مَن سهُل عليه التشكيكُ في خلافة أبي بكر فإنَّ تشكيكَه في خلافة عمر وعثمان أسهلُ وأسهل، نسأل الله السلامة والعافية من كلِّ شرٍّ وسوء.
* * *
زعمه أنَّ العبَّاس بن عبد المطلب وابنه عبد الله رضي الله عنهما ليسَا من الصحابة والرد عليه:(6/81)
ذَكَرَ آثاراً مستدلاًّ بها على أنَّ الصحابةَ ليسوا إلاَّ المهاجرين والأنصار، وأنَّ العباس وابنَه عبد الله ليسَا من الصحابة، فقال في (ص:52): (( الدليل الواحد والعشرون: وقال العباس لابنه عبد الله: (يا بُنَيَّ! أرى أمير المؤمنين
ـ يقصد عمر ـ يُقرِّبك ويَخلو بك ويستشيرُك مع ناسٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاحفظ عنِّي ثلاثاً ...) (فضائل الصحابة لأحمد 2/957) والإسناد رجاله ثقات إلاَّ مجالد بن سعيد.
أقول: إن صحَّ فالعباس لا يرى نفسه ولا ابنَه من أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، يُفهَم هذا من سياق الخبر، لكن مجالِد ضعيفٌ جدًّا، وقد اتُّهم بالكذب، لكن يشهد للمتن ما يأتي:
الدليل الثاني والعشرون: قول ابن عباس نفسه (كان عمر يسألُنِي مع أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكان يقول لي ...) (فضائل الصحابة لأحمد 2/970، وإسناده صحيح، وقد صححه المحقق).
أقول: هذا دليل على أنَّ ابنَ عباس أخرج نفسَه من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو دليل على خروج مَن أسلم بعده كالطلقاء وأمثالِهم، وهذا الإسناد صحيح إلى ابن عباس!
الدليل الثالث والعشرون: قول ابن عباس: (لَمَّا قُبض النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قلت لرجل من الأنصار: هَلُمَّ فلنسأَلْ أصحابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: العجب منك يا ابن عباس! أترى الناسَ يحتاجون إليك وفي الأرض مَن ترى من أصحاب رسول - صلى الله عليه وسلم - ...؟!) (فضائل الصحابة لأحمد 2/976، وسنده صحيح، وقد صححه المحقق).
أقول: وهذا يشهد لقول ابن عباس السابق أنَّ الصحابةَ هم المهاجرون والأنصار فقط!!!(6/82)
الدليل الرابع والعشرون: قول الليث: قيل لطاووس: (أدركتَ أصحاب محمد، وانقطعتَ إلى ابن عباس؟! فقال: أدركتُ سبعين من أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذا اختلفوا في شيء انتهوا إلى قول ابن عباس) (فضائل الصحابة لأحمد 2/967، والإسناد رجاله ثقات، إلاَّ ليث بن أبي سليم، وقد حسنه المحقق، وصحَّح الأثر).
أقول: طاووس بن كيسان من كبار التابعين، ومن ظاهر الأثر يبدو
ـ والله أعلم ـ أنَّه لا يرى ابنَ عباس من أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مع جلالة ابن عباس وفضله وعلمه )).
أقول:
إنَّ قَصْرَ المالكي الصُّحبةَ المحمود أهلها على المهاجرين والأنصار قبل صُلح الحُديبية أوقعه في إخراجِ عددٍ كبير من الصحابة من أن ينالوا شرفَ الصُّحبة، وفيهم العباسُ بن عبد المطلب عمُّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنه وابنُه عبد الله بن عباس حَبْر الأمَّة وترجمان القرآن، الذي بلغت أحاديثُه في الكتب الستة ستين وستمئة وألف حديث، كما في الخلاصة للخزرجي، اتَّفق البخاري ومسلم منها على خمسة وسبعين حديثاً، وانفرد البخاري بإخراج ثمانية وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين.
وإنَّها لإحدى الكُبَر أن يَدَّعيَ المالكيُّ أنَّ العبَّاسَ وابنَه عبد الله لَم يظفرَا بفضيلة الصُّحبة، وهو شيء لَم يُسبَق إليه، وما سمعتُ ولا رأيتُ قبل وقوفي على كلامه هذا مثل هذه الدَّعوى الباطلة الخاطئة، وإنَّ مُجرَّدَ تصوُّر هذا القول الباطل يُغنِي عن الاشتغال بالردِّ عليه، ومع هذا فإنِّي أجيب عليه بما يأتي:
الأول: أنَّه لَم يأت عن أحدٍ من الصحابة ومَن بعدهم ما يُخرج العباس وابنَه عبد الله مِن أن ينالاَ شرف الصُّحبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا فمِثْلُ هذه الدعوى من المالكي مِن مُحدَثات القرن الخامس عشر!(6/83)
الثاني: أنَّ ذِكرَ أحد الصحابة أصحابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا يُخرجه منهم، فما ذكره المالكيُّ من آثار جاء فيها ذِكرُ العباس أو ابنِه أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس فيها دليل على إخراجهما، مع أنَّ ذكرَه للعباس جاء في إسنادٍ فيه مُجالد الذي قال فيه إنَّه ضعيفٌ جدًّا، وقد اتُّهم بالكذب، ومِمَّا يُوَضِّح ذلك ما رواه أبو داود في سننه (3651) قال: حدَّثنا عمرو بن عون، أخبرنا خالد، ح وحدَّثنا مسدَّد، حدَّثنا خالد ـ المعنى ـ عن بيان بن بِشر، قال مُسدَّد: أبو بِشر، عن وَبْرة بن عبد الرحمن، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: قلت للزبير: ما يَمنعُك أن تُحدِّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يُحدِّث عنه أصحابُه؟ فقال: أما والله! لقد كان لي منه وجه ومنزلة، ولكنِّي سَمعتُه يقول: (( مَن كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقعدَه من النار ))، وهوحديث صحيح، رجال إسنادِه خرَّج لهم البخاري ومسلم في صحيحيهما إلاَّ أحد شيخي أبي داود وهو مسدَّد، فهو من رجال البخاري وحده.
وقول ابن الزبير لأبيه: (( ما يَمنعُك أن تُحدِّث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يُحدِّث عنه أصحابُه؟ )) لا يدلُّ على خروج الزبير وابنِه من أصحابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنَّ الزبير رضي الله عنه من السابقين الأولين من المهاجرين، وهو أحد العشرة المبشَّرين بالجنَّة، وابنه عبد الله أوَّل مولود وُلد بالمدينة بعد الهجرة.
ويدلُّ لذلك أيضاً ما رواه البخاري في صحيحه (2984) عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: (( يا رسول الله! يرجع أصحابُك بأجر حجٍّ وعمرةٍ، ولم أزِدْ على الحج؟ )) الحديث.(6/84)
وفي حديث عائشة في صحيح مسلم (2/875) قالت: (( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُهِلِّين بالحج؟ ... فخرج إلى أصحابه، فقال: مَن لَم يكن معه منكم هَدْيٌ فأحبَّ أن يجعلها عمرةً فليفعل، ومَن كان معه هديٌ فلا، فمنهم الآخذ بها والتَّاركُ لها مِمَّن لَم يكن معه هديٌ، فأمَّا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان معه الهدي، ومع رجال من أصحابه لهم قوَّة، فدخل عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قلتُ: سمعتُ كلامك مع أصحابك فسمعت بالعمرة فمُنِعتُ العمرة، قال: وما لك؟ قلت: لا أصلِّي )) الحديث.
فذِكرُ أمِّ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه المواضع الثلاثة لا يدلُّ على إخراجها منهم، بل إنَّه يدلُّ على أنَّ كلَّ الذين صحبوه في حجَّته هم من أصحابه. وهذا الذي جاء عن العباس وابنه وابن الزبير وعائشة رضي الله عنهم له نظائرُ كثيرةٌ في كلام أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم، وهو واضحٌ في عدم خروج المتكلِّم به ومَن يخاطبه مِن أن يكون مِن أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
الثالث: أنَّ ما زعمه المالكي مِن كون العباس وابنه عبد الله رضي الله عنهما لَم ينالا شرفَ صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هو من الجفاء في بعض أهل البيت من أصحابه - صلى الله عليه وسلم -، فقد قال شيخُ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (4/419): (( وأبعدُ الناس عن هذه الوصيَّة ـ يعني وصيَّةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أهل بيته ـ الرافضةُ؛ فإنَّهم يُعادون العباسَ وذرِّيَّتَه، بل يعادون جمهورَ أهل البيت ويُعينون الكفارَ عليهم )).(6/85)
بل إنَّ هذا من المالكي جفاءٌ في مَن هو أقربُ نسباً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عمه العباس رضي الله عنه الذي لوكان يُورَث - صلى الله عليه وسلم - لوَرثه عمُّه مع زوجاته - صلى الله عليه وسلم - وبنته رضي الله عنهنَّ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( ألْحِقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأَوْلَى رجلٍ ذَكر )) متفق عليه، وأيضاً هو جفاءٌ لابن عمِّه
عبد الله بن عباس، الذي ضَمَّه - صلى الله عليه وسلم - وقال: (( اللهمَّ علِّمه الكتاب )) رواه البخاري (75)، وفي لفظ عنده (143): (( اللهمَّ فقِّهه في الدِّين )).
أقول: أفيكون هذان الرَّجلان العظيمان لَم يظفَرَا بشرف صُحبة النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كما زعم هذا المالكي؟! نعوذ بالله من الخذلان.
* * *
زعمه أنَّ خالد بن الوليد رضي الله عنه ليسَ من الصحابة والرد عليه:
قال في (ص:43 ـ 45): (( الدليلُ الثالث عشر: حديثُ خالد بن الوليد وعبدالرحمن بن عوف، وهو قولُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسُبُّوا أحداً من أصحابي؛ فإنَّ أحدَكم لو أنفق مثلَ أُحُدٍ ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)، ثمَّ علَّق عليه هنا في الحاشية بقوله: (( مسلم ـ كتاب فضائل الصحابة )).
ثمَّ قال: (( أقول: الحديث مشهورٌ بلفظ (لا تسُبُّوا أصحابي)، وهو يخاطب خالدَ بنَ الوليد عندما تخاصم مع عبد الرحمن بنِ عوف في قضيَّة بني جَذِيمة بعد فتح مكة.
وهذا دليلٌ واضحٌ على إخراج النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لخالد بن الوليد وطبقته من الصحبة الشرعية لأكثر من دلالة:
الدلالة الأولى الأقوى: أنَّ تكملةَ الحديث فيه بيان للصحبة الشرعية، وأنَّها لا تُدرَك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فلو أنفق أحدُكم مثلَ جبل أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه).(6/86)
فهذه هي الصحبة الشرعيَّةُ تماماً، وهي التي لَم يُدْرِكْها خالد بنُ الوليد، على فضله وبلائه وشجاعته، كما لَم يُدْرِكْها طبقةٌ كعمرو بن العاص ونحوه، فمن باب أولى ألاَّ يدركَها طلقاءُ مكة، ولا عُتقاءُ ثقيف، ولا الأعرابُ، ولا الوفودُ المتأخِّرون ونحوهم.
الدلالة الثانية: أنَّ خالد (كذا) أقرَّ بهذا ولم يقل: ( يا رسول الله! أو لستُ من أصحابك؟!؛ لأنَّ خالد (كذا) يعرف الفرقَ بين الصحبة الشرعية التي قام عليها الإسلام، وبين الصحبة العامة أو اللاَّحقة التي يمكن أن يُطلق على أصحابها (التابعين) أيضاً.
الدلالة الثالثة: أنَّ قصَّةَ الحديث وقعت بعد فتح مكة، وبعد أن صحب خالد بن الوليد النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مدَّةً من الزمن، لكن لَم تشفع له في الحصول على فضيلة الصحبة الشرعية، فكيف بِمَن بعده؟! )).
والجوابُ:(6/87)
أنَّ قولَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (( لا تسبُّوا أصحابي )) ـ والمرادُ به عبد الرحمن بنُ عوف وغيرُه مِمَّن تقدَّم إسلامُهم ـ لا يدلُّ على حصر الصحبة في عبد الرحمن وأمثاله، وإنَّما يدلُّ على مزيد فضلِ هؤلاء، وإن كان غيرُهم قد شاركهم في الفضل، مع التفاوت الكبير بين الصحابة في الفضل، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (8/431 ـ 433): (( ومِمَّا يبيِّن أنَّ الصحبة فيها خصوصٌ وعمومٌ، كالولاية والمحبة والإيمان وغير ذلك من الصفات التي يتفاضلُ فيها الناسُ في قَدْرِها ونَوعِها وصِفَتِها، ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبدالرحمن بن عوف شيء، فسبَّه خالد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسُبُّوا أحداً من أصحابي؛ فإنَّ أحدَكم لو أنفق مثلَ أُحُدٍ ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)، انفرد مسلمٌ بذكر خالد وعبدالرحمن دون البخاري، فالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول لخالد ونحوه: (لا تسُبُّوا أصحابي)، يعني عبدالرحمن بن عوف وأمثاله؛ لأنَّ عبد الرحمن ونحوَه هم السابقون الأوَّلون، وهم الذين أسلموا قبل الفتح وقاتلوا، وهم أهلُ بيعة الرضوان، فهؤلاء أفضلُ وأخصُّ بصحبته مِمَّن أسلَم بعد بيعة الرضوان، وهم الذين أسلموا بعد الحديبية، وبعد مصالحة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أهلَ مكة، ومنهم خالد وعمرو بن العاص وعثمان ابن أبي طلحة وأمثالهم، وهؤلاء أسبق من الذين تأخَّر إسلامُهم إلى أن فُتحت مكة وسُمُّوا الطُّلَقاء مثل سُهيل بن عمرو والحارث بن هشام وأبي سفيان بن حرب وابنيه يزيد ومعاوية وأبي سفيان بن الحارث وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وغيرهم، مع أنَّه قد يكون في هؤلاء مَن برز بعلمِه على بعض مَن تَقَدَّمه كثيراً، كالحارث بن هشام وأبي سفيان بن الحارث وسُهيل بن عمرو، وعلى بعض مَن أسلم قبلهم مِمَّن أسلم قبل الفتح وقاتل، وكما برز(6/88)
عمر بنُ الخطاب على أكثر الذين أسلموا قبله.
والمقصود هنا أنَّه نَهْيٌ لِمَن صحِبَه آخراً أن يسبَّ مَن صحبه أوَّلاً؛ لامتيازهم عنهم في الصحبة بِما لا يمكن أن يشركهم فيه، حتى قال: لو أنفق أحدُكم مثلَ أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه.
فإذا كان هذا حالُ الذين أسلموا من بعد الفتح وقاتلوا، وهم من أصحابه التابعين للسابقين، مع من أسلم من قبل الفتح وقاتل، وهم أصحابُه السابقون، فكيف يكون حالُ مَن ليس من أصحابه بحال مع أصحابه؟! )).
* * *
زعمه أنَّ معاويةَ رضي الله عنه ليسَ من الصحابة والرد عليه:
قال في معاوية رضي الله عنه في (ص:54 ـ 55): (( الدليلُ الخامس والعشرون: أثر الأسود بن يزيد قال: قلت لعائشة: ألا تعجبين لرجلٍ من الطُّلَقاء ـ يقصد معاوية ـ ينازِع أصحابَ محمد - صلى الله عليه وسلم - في الخلافة؟
قالت: وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البرَّ والفاجر، وقد ملك فرعونُ أهلَ مصر أربعمائة سنة.
أقول: الأثر فيه إخراجُ عائشة لمعاوية من أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وفيه أيضاً أنَّ التابعين لَم يكونوا يرون الطُّلقاءَ من أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بل والصحابة أيضاً؛ كما نرى من اتِّفاق رأي عائشة مع رأي التابعي الجليل الأسود بن يزيد النخعي! )).
وقد علَّق على هذا الأثر بقوله في الحاشية: (( الأثر رواه ابن عساكر من طريق أبي داود الطيالسي، حدثنا أيوب بن جابر عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد، وهذا الإسناد رجاله ثقات إلاَّ أيوب بن جابر مختلف فيه، وقد قوَّى أمرَه أحمدُ بن حنبل وعمرو بن عليّ الفلاَّس وابن عدي والذهبي والبخاري، وضعَّفه ابن معين والنسائي وابن المديني وأبو حاتم وأبو زرعة ويعقوب بن سفيان، وتوسَّط فيه الذهبي: مشهور صالح الحديث، ضعَّفه بعضُهم.
أقول: فالإسناد جيِّد في الجملة إن شاء الله )).(6/89)
وقال في معاوية رضي الله عنه وغيره في (ص:50 ـ 51): (( الدليل التاسع عشر: قولُ عائشة: (أُمروا بالاستغفار لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فسبُّوهم) (مسلم 4/231).
كانت تلمِّح لِمَا يفعله أهلُ الشام من لعن علي وبعض أهل العراق في لعن عثمان.
أقول: وهذا يُفهم منه أنَّ هؤلاء ليسوا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومثله قول ابن عمر: (لا تسبُّوا أصحاب محمد؛ فلَمقَامُ أحدهم ساعة خيرٌ من عمل أحدكم عمره ) (فضائل الصحابة لأحمد 1/57، 2/97).
فهذا القول وقول عائشة وأقوال لسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وغيرهم، إنَّما انتشرت لمَّا انتشر بين الناس سبُّ عليٍّ وعثمان، فهما من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان يسبُّهما بعضُ من رأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أو له صحبة حسب فَهْمنا للصحبة، فلمَّا طال علينا الأمرُ وانقطع سبُّ علي وعثمان وطلحة والزبير وأمثالهم، وبقي سبُّ معاوية وعمرو وأمثالهما أخذنا هذه النصوص والآثار لنواجه بها الشاتِمين الجُدد، لكن المشتومين من الطُّلَقاء ليسوا مثل المشتومين من السابقين، بل إنَّ الطُّلَقاء ليسوا من الصحابة أصلاً، لكنهم دخلوا الصحبة بسبب الدفاعات التي تستلهم معها مثل هذه الآثار (تتبَّع هذا؛ فإنَّه مُهمٌّ ولن تجده بسهولة)!! )).(6/90)
ثمَّ علَّق في الحاشية على هذا الكلام بقوله: (( خاطب بالآثار السابقة ابنُ عمر الذين (كذا) مَن يلعن عثمان، وخاطب به سعيدُ بن زيد المغيرةَ ابنَ شعبة، وخاطبت عائشة مَن يسبُّ السابقين، وخاطب سعدُ بنُ أبي وقَّاص مَن يسبُّ عليًّا، وهكذا، بل قد كان ابن عباس يلعن معاوية بسبب قطعه التلبية يوم عرفة (المسند 3/264 تحقيق أحمد شاكر)، فابن عباس قد روى بعضَ النصوص في تحريم سبِّ الصحابة، ومع ذلك يرى جواز لعن معاوية، ويفعله لسببين: لأنَّه يعرف أنَّ معاوية ليس صحابيًّا، ولأنَّه رأى تغييراً لسُنَّة النَّبِيِّ (ص) (كذا)، وغيَّرها أهلُ الشام بُغضاً لعليٍّ لأنَّه كان يُلبِّي يوم عرفة اقتداءً بالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان يلعَن معاويةَ كثيرٌ من المهاجرين السابقين والأنصار، كعليٍّ وعمَّار وقيس بن سعد بن عبادة وغيرهم، وقد ذهب إلى جواز لعنه من العلماء المتأخِّرين محمد بن عقيل (وهو عالم سُنِّي) في كتابه النصائح الكافية!! )).
وقال في (ص:55): (( الدليل السادس والعشرون: قول معاوية لكعب لَمَّا بشَّره بأنَّه سيكون بعد عثمان: تقول هذا وها هنا علي والزبير وأصحاب محمد؟ قال: أنت صاحبها، يعنِي صاحب الخلافة.
أول: لَم أجد نصًّا عن معاوية يَدَّعي أنَّه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الأثر دليل على أنَّه لَم يكن يرى نفسَه منهم، وإن كان قد ثبت عنه أنَّه يقول: (قد صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فيقصدُ الصُّحبةَ العامة لا الشرعية، فإن قصد الشرعيَّة فقوله مردودٌ بالكتاب والسُّنَّة.
وهناك أدلَّة أخرى سأستوفيها في النسخة النهائية لهذا المبحث الذي أطمع أن يخرج كتاباً إن شاء الله )).
وعلَّق على الأثر بقوله: (( السنة للخلال (ص:281، 457)، وإسناد (كذا) صحيح، وقد صحَّح إسناده المحقق، ورواه ابن عساكر بالإسناد نفسه في تاريخه (59/123) )).
ويُجاب عن هذا من وجوه:(6/91)
الأول: أنَّ هذا الأثر عن عائشة رضي الله عنها غيرُ ثابت؛ لأنَّ الذين ضعَّفوا أيوب بن جابر كثيرون، والذين لَم يُضعِّفوه كلامهم فيه
ليس واضحاً في تقوية أمره، بل مقتضاه أنَّه يحتاج إلى مَن يعضده، وقد
قال عنه الذهبي في الكاشف: (( ضعيف ))، وقال عنه الحافظ في التقريب:
(( ضعيف )).
وإسناده عند ابن عساكر في تاريخ دمشق (59/145) هكذا: أخبرنا أبو القاسم الحُسين بن الحسن بن محمد، أنا أبو القاسم بن أبي العلاء، أنا عبد الرحمن بن محمد بن ياسر، أنا علي بن يعقوب بن أبي العَقَب، حدَّثني القاسم بن موسى بن الحسن، نا عبدة الصفار، نا أبو داود، نا أيوب بن جابر، عن أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد قال: قلت لعائشة ... إلخ.
وفي إسناد ابن عساكر هذا القاسم بن موسى بن الحسن المشهور بالأشيب، ذكره الخطيب في تاريخ بغداد (12/435)، ولم يزِد على ذِكر اثنين من تلاميذه، واثنين من شيوخه، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، فهو مجهول الحال، وفيه أيضاً عبد الرحمن بن محمد بن ياسر، ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (17/415)، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وفي ترجمته عنده أنَّه حسن الرأي في معاوية رضي الله عنه.
الثاني: أنَّ ما فهِمَه من قول الأسود بن يزيد لعائشة: ألا تعجبين لرجل من الطُّلَقاء ينازع أصحابَ محمد - صلى الله عليه وسلم - في الخلافة؟ وإجابتها على ذلك، من أنَّ الطُّلَقاء ـ ومنهم معاوية ـ ليسوا من أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - هو فَهْمٌ خاطئ، وسبق أن أَوْضحتُ ذلك فيما تقدَّم من زعمه أنَّ العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله رضي الله عنهما ليسَا من الصحابة، وبهذا الجواب يُجابُ أيضاً عمَّا فهمه من قول عائشة رضي الله عنها: (( أُمروا أن يستغفروا لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فسبُّوهم )).(6/92)
الثالث: أمَّا ما ذَكَره عن ابن عباس من أنَّه يرى جواز لعن معاوية، وأنَّ من أسباب ذلك أنَّه يعتبره غير صحابي، فجوابه أن يُقال:
1 ـ إنَّ ابنَ عباس رضي الله عنه أيضاً قال فيه المالكي إنَّه ليس بصحابي كما قال في أبيه العباس، وقد مرَّ بيان ذلك.
2 ـ إنَّ ابنَ عباس رضي الله عنه أثنى على معاوية رضي الله عنه ووصفه بأنَّه فقيه، وأنَّه صَحِبَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، ففي صحيح البخاري (3764) بإسناده إلى ابن أبي مُليكة قال: (( أوتر معاويةُ بعد العشاء بركعة وعنده مولًى لابن عباس، فأتى ابنَ عباس، فقال: دَعْه؛ فإنَّه قد صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )).
وفي صحيح البخاري أيضاً (3765) بإسناده إلى ابن أبي مليكة أنَّه قال: (( قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؛ فإنَّه ما أوتر إلاَّ بواحدة؟ قال: إنَّه فقيه )).
3 ـ إنَّ ابنَ عباس لَم يلعن معاوية رضي الله عنه، ولَم يرَ جوازَ لعنِه، بل الذي حصل منه الثناء عليه ومدحه، وأمَّا الأثر الذي استند عليه في ذلك وعزاه إلى المسند بتحقيق أحمد شاكر، فهو في المسند هكذا، قال الإمام أحمد: حدَّثنا إسماعيل، حدَّثنا أيوب، قال: لا أدري أَسمعتُه من سعيد بن جُبير أم نُبِّئتُه عنه، قال: (( أتيتُ على ابنِ عباس بعرفة وهو يأكل رُمَّاناً، فقال: أفطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة، وبعثتْ إليه أمُّ الفضل بلَبَنٍ فشرِبَه، وقال: لعن الله فلاناً؛ عمَدوا إلى أعظم أيَّام الحجِّ فَمَحَوْا زينَتَه، وإنَّما زينة الحجِّ التلبية )).
وقد ضعَّفه الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ فقال: (( إسناده ضعيف؛ لشكِّ أيوب في سماعه من سعيد بن جُبير ))، وقد اطَّلع على هذا التضعيف المالكي.
وقد عاش ابن عباس بعد معاوية ثمان سنين، فلو صحَّ الأثر احتمل أن يكون الذي عناه ابنُ عباس غيرَ معاوية رضي الله عنه؛ لأنَّ اللَّعنَ فيه بالإبهام وليس بالتعيين.(6/93)
وما جاء في الأثر من كون النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُفطراً بعرفة وشربه اللَّبن الذي بعثت به أمُّ الفضل فهو ثابت.
4 ـ أمَّا قول المالكي: (( وقد كان يلعن معاويةَ كثيرٌ من المهاجرين السابقين والأنصار، كعلي وعمار وقيس بن سعد بن عبادة وغيرهم ))، فلَم يذكر مستندَه في ذلك، وإن كان له مستندٌ فالغالب أنَّه من جنس مستندِه فيما أضافه إلى ابن عباس، وقد بيَّنتُ فسادَه.
5 ـ وأمَّا قوله: وقد ذهب إلى جواز لعنه من العلماء المتأخِّرين محمد بن عقيل ـ وهو عالم سُنِّي! ـ في كتابه النصائح الكافية!! ))، فأقول: إنَّ ابنَ عقيل الذي ذكره هو الحضرمي المتوفى سنة (1350هـ)، وهو ليس من أهل السُّنَّة، بل هو من المبتدِعة، وقد ذكر صاحب معجم المؤلفين (10/297) في مصادر ترجمته كتاب أعيان الشيعة للعاملي، والضرر الذي حصل للمالكي إنَّما حصل له بقراءة كُتب هذا الرَّجل وأمثاله من أهل البدع والضلال، وكتابه الذي أشار إليه اسمه (( النصائح الكافية لِمَن يتولَّى معاوية )) ومقتضى عنوان هذا الكتاب ومضمونه زعم النُّصح لِمَن يحبُّ معاوية ألاَّ يحبَّه، بل عليه أن يُبغضَه، وهذا النُّصحُ هو من جنس نصح إبليس لآدم وحواء ـ عليهما السلام ـ الذي ذكره الله عنه بقوله: {وَقَاسَمَهُمَا إِنَّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}، ومن جنس نصح إخوة يوسف ليوسف - صلى الله عليه وسلم - الذي ذكره الله عنهم بقوله: {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}، وقد أشار إلى ما أودعه في نصائحه الكافية وغيره من كتبه من ذمِّ بعضِ الصحابة والنَّيلِ منهم في مطلع كتابه (( العتب الجميل )) (ص:31)، فقال: (( لَم أتعرَّض في كتابي هذا لذكر تحامل بعضهم على عالي مقام مولانا أمير المؤمنين علي والحسنين وأمهما البَتول عليهم سلام الله، ولا لرَدِّ ما مدحوا به زوراً عدوَّهم معاوية وأباه كهف المنافقين وأمه آكلة الأكباد وعمرا بن العاص والمغيرة بن شعبة وسمرة بن جندب وأبا الأعور(6/94)
السلمي والوليد بن عقبة وأضرابهم، مِمَّن لو مُزجت مياه البحار بذرَّة من كبائر فظائعهم لأنتنت، وذلك لظهور فساده للعاقل المنصف، ولأنِّي قد ذكرتُ شيئاً من ذلك في كتاب (النصائح الكافية)، ثمَّ في كتاب (تقوية الإيمان) ... )).
فهذا نموذج من كلام هذا الناصح بزعمه، الذي ابتُلي المالكي بقبول نُصحه، وفي الصحابة الذين سمَّاهم المغيرة بن شعبة، وهو من أهل بيعة الرضوان الذين قال الله فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، وأخبر النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّهم لا يدخلون النار، كما سيأتي بيان ذلك عند ذكر المالكي المغيرة بن شعبة والنَّيل منه.
6 ـ في النسخة التي اطَّلعتُ عليها من كتاب المالكي قد شُطب
بالقلم على جملة: (( وقد كان يلعن معاويةَ كثيرٌ من المهاجرين السابقين والأنصار )) إلى (( وهو عالم سُنِّي في كتابه النصائح الكافية ))، ولا أدري هل هذا الشطب مقصود أو غير مقصود؟ وهل هو من المالكي أو من غيره؟
فإن كان الشَّطب مقصوداً وهو من المالكي فهو حسن، وكان ينبغي له أن يشطب على الكتاب من أوَّله إلى آخره؛ لأنَّ كلَّ ما فيه باطلٌ، وليس فيه شيءٌ من الحقِّ، وهو حقيق بالإحراق.
وقد نقل ابن عقيل الحضرمي قدوة المالكي في كتابه العتب الجميل (ص:60) أبياتاً عن أحد شيوخه، آخرها قوله:
قُلامة من ظفر إبهامه تعدل من مثل البخاري مئة
والضمير فيه يرجع إلى الإمام جعفر الصادق رحمه الله، وهو واضحٌ في الغلوِّ فيه، وفي الجفاء في الإمام البخاري رحمه الله، ولقد أحسن أبو سليمان الخطابي في قوله:
ولا تغْلُ في شيء من الأمر واقتصِد كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ(6/95)
وهذا الذي حصل لابن عقيل من الغلوِّ والجفاء قد ورثَه عن شيخه وأمثاله، وورثه المالكي عنهما وعن أمثالهما، وهو يُوَضِّح أنَّ البلاءَ الذي يحصل للتلاميذ غالباً إنَّما هو من شيوخهم، فابن عقيل ابتلي بمتابعة شيخه وأمثاله في الجفاء والغلوِّ، والمالكي تتلمذ على كتب ابن عقيل وأمثالها، وقد يكون تتلمذ مباشرة على علماء من أهل الضلال، فمِن أجل ذلك كان في كلامه ورأيه منحرفاً عن عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة الصافية النَّقيَّة إلى عقائد أهل البدع والضلال، نعوذ ?الله من الخذلان.
الرابع: ما ذكره من أنَّه لَم يجد نصًّا عن معاوية يَدَّعي أنَّه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نقضه بعده بقوله بأنَّه قد ثبت أنَّه يقول: (( قد صحِبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ))، وقول معاوية ذلك جاء في صحيح البخاري (3766) بإسناده إليه قال: (( إنَّكم لتُصلُّون صلاةً لقد صَحِبنا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فما رأيناه يُصلِّيها، ولقد نهى عنهما، يعني الركعتين بعد العصر )).
وقول المالكي: (( وإن كان قد ثبت عنه أنَّه يقول: (قد صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فيقصدُ الصُّحبة العامة لا الشرعيَّة، فإن قصد الشرعيَّةَ فقوله مردود بالكتاب والسنَّة ))، وهذا مِمَّا يَعجبُ منه العُقلاء؛ لأنَّ نفيَ الصُّحبةِ عن كلِّ مَن كان بعد الحُديبية ومنهم معاوية رضي الله عنه، بل والعباس وابنه عبد الله وأبو هريرة وخالد بن الوليد وأبو موسى الأشعري وغيرهم
رضي الله عنهم شذوذٌ عن سبيل المؤمنين لَم يسبقه إليه أحد، وما ذكره من أنَّ معاويةَ (إن قصد الصُّحبة الشرعيَّةَ فقوله مردود بالكتاب والسنَّة)، أقول: ليس في الكتاب والسنَّة دليل على نفي الصُّحبة عن معاوية، وما أورده من أدلَّة ففهمُه فيها فهمٌ خاطئ، وهو من مُحدثات القرن الخامس عشر، وقد بيَّنتُ ذلك فيما سبق.(6/96)
وأمَّا الأثر، ففي إسناده عنعنة الأعمش عن أبي صالح، وهومدلِّس، وكلام كعب فيه منكر، وما جاء فيه من ذكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ لو ثبت ـ لا يدلُّ على خروج معاوية منهم كما زعم بقوله: (( وهذا الأثر دليل على أنَّه لَم يكن يرى نفسَه منهم )).
تنبيه: روى الخطيب في تاريخ بغداد (1/209) بإسناده إلى رباح بن الجراح الموصلي قال: (( سمعتُ رجلاً يسأل المعافى بن عمران، فقال: يا أبا مسعودأين عمر بن عبد العزيز من معاوية بن أبي سفيان؟ فغضب من ذلك غضباً شديداً، وقال: لا يُقاس بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدٌ، معاوية صاحبه وصِهرُه وكاتبه وأمينه على وحي الله عزَّ وجلَّ )).
وروى (1/209) بإسناده إلى أبي توبة الربيع بن نافع قال: (( معاوية ابن أبي سفيان ستر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كَشف الرَّجلُ السِّتْرَ اجترأ على ما وراءه )).
وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق (59/209) بإسناده إلى عبد الله ابن المبارك أنَّه قال: (( معاوية عندنا مِحنة، فمَن رأيناه ينظر إليه شزَراً اتَّهمناه على القوم، يعني الصحابة )).
هذه ثلاثة نماذج من كلام أهل الإنصاف في معاوية رضي الله عنه، وقد ذكرتُ جملةً من كلام المنصفين فيما كتبته عن معاوية رضي الله عنه، وطُبع بعنوان: (( من أقوال المنصفين في الصحابيِّ الخليفة معاوية رضي الله عنه )).(6/97)
وصدق أبو توبة وابن المبارك رحمهما الله؛ فإنَّ المالكيَّ لَمَّا تَجرَّأ على معاوية ونال منه ونفى عنه الصُّحبة، تجرَّأ على غيرِه وقال بنفي الصُّحبة عن كلِّ الذين صحِبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد صُلح الحُديبية، بل تعدَّى ذلك إلى النَّيل من خلافة أبي بكر وعمر وعثمان والتشكيك فيها، ولا شكَّ أنَّ الزَّيغَ ينتج عنه إزاغة القلوب لقول الله عزَّ وجلَّ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ}، وإنَّ من العقوبة على السيِّئة أن يُبتلَى المسيئُ بسيِّئة بعدها، كما أنَّ من الثواب على الحسنة أن يُوفَّق المُحسنُ لحسنةٍ بعدها.
وأحاديث معاوية رضي الله عنه في الصحيحين وغيرهما، قال الخزرجي في الخلاصة: (( له ـ أي في الكتب الستة ـ مئة وثلاثون حديثاً، اتَّفقا على أربعة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة ))، وقد بلغت أحاديثه في مسند الإمام أحمد أحد عشر حديثاً ومئة حديث من رقم (16828) إلى (16938).
* * *
زعمه أنَّ عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما ليسَا من الصحابة والرد عليه:
قال في حاشية (ص:78): (( سيتبع هذا البحث بحوثاً (كذا) موسَّعة عن بعض مَن رأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، لكن أُخِذَت عليه مآخذ كبيرة أو صغيرة )).
فذكر أمثلة من هؤلاء، ثمَّ قال: (( وسيكون هناك أيضاً مباحث عن المختلف فيهم كمعاوية وعمرو بن العاص والمغيرة ونحوهم ))، وقد جاء ذكر عمرو بن العاص وأنَّه ليس من الصحابة في كلام المالكي المتقدِّم
في خالد بن الوليد، وجاء ذمُّه وذمُّ المغيرة بن شعبة في كلامه المتقدِّم في معاوية.
ويُجاب عن ذلك بما يلي:(6/98)
أولاً: لا أعلمُ أنَّ أحداً قال بعدم صُحبة هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا خالف في أنَّهم صحابة إلاَّ هذا المالكي الذي اعتبر أنَّ الصحابةَ هم الأنصار والمهاجرون قبل الحُديبية فقط، وكذا الحكمي الذي حكى عنه المالكي أنَّه يقصر الصحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحُديبية، والمغيرة قبل الحُديبية، فلا أدري هل الحكمي يُخرجه من الصُّحبة كما أخرجه المالكي أم لا؟
وسبق أن ذكرتُ أنَّ هذا من مُحدثات القرن الخامس عشر، بل إنَّ بعضَ فِرَق الضلال التي ابتُليت ببغض الصحابة وسبِّهم وتفسيقهم أو تكفيرهم لَم يقولوا بعدم صُحبتِهم للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّما قالوا بارتدادهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثانياً: تقدَّم نقلُ جملة من كلامه السيِّئ القبيح في أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه والجواب عنه.
ثالثاً: أمَّا عمرو بن العاص رضي الله عنه، فهو صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأميره على أحد الجيوش، ويدلُّ لفضله ما يلي:
1 ـ روى البخاري في صحيحه (3662) بإسناده إلى عمرو بن العاص: (( أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السَّلاسل، فأتيتُه فقلت: أيُّ النَّاسِ أحبُّ إليك؟ قال: عائشة، فقلتُ: مِن الرِّجال؟ قال: أبوها، قلتُ: ثمَّ مَن؟ قال: ثمَّ عمر بن الخطاب، فعدَّ رجالاً )).(6/99)
أورده البخاري في مناقب أبي بكر رضي الله عنه، وأورده (358) في باب غزوة ذات السلاسل، ورواه مسلم في صحيحه (2384) وقد كان في الجيش أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، قال الحافظ ابن حجر في شرحه في باب غزوة ذات السلاسل: (( وفي الحديث جوازُ تأمير المفضول على الفاضل إذا امتاز المفضول بصفةٍ تتعلَّق بتلك الولاية، ومزيَّةُ أبي بكر على الرجال وبنتِه على النساء، وقد تقدَّمت الإشارةُ إلى ذلك في المناقب، ومنقبةٌ لعَمرو بن العاص لتأميره على جيشٍ فيهم أبو بكر وعمر، وإن كان لا يقتضي أفضليَّته عليهم، لكن يقتضي أنَّ له فضلاً في الجملة )).
أقول: أَفَيَكُونُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمَّر على هذا الجيش الذي فيه أبو بكر وعمر رجلاً ليس من أصحابه - صلى الله عليه وسلم -، كما هو مقتضى كلام المالكي؟!(6/100)
2 ـ روى مسلم في صحيحه (192) بإسناده إلى عبد الرحمن بن شماسة المهري قال: (( حَضَرْنا عمرو بنَ العاص وهو في سياقة الموت، فبكى طويلاً وحوَّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنُه يقول: يا أبتاه! أمَا بشَّرك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا؟ أما بشَّرك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه فقال: إنَّ أفضلَ ما نُعِدُّ شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، إنِّي كنتُ على أطباقٍ ثلاث، لقد رأيتُنِي وما أحدٌ أشدَّ بُغضاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - منِّي، ولا أحب إلَيَّ أن أكون قد استمكنتُ منه فقتلتُه، فلو مِتُّ على تلك الحال لكنتُ من أهل النار، فلمَّا جعل الله الإسلامَ في قلبي، أتيتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ابسُط يَمينَك فلأُبايِعكَ، فبسط يَمينَه، قال: فقبضتُ يدي، قال: ما لك يا عَمرو؟ قال: قلت: أردتُ أن أشترطَ، فقال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يُغفرَ لي، قال: أما علمتَ أنَّ الإسلامَ يَهدِم ما كان قبله، وأنَّ الهجرةَ تَهدِم ما كان قبلها، وأنَّ الحجَّ يَهدِمُ ما كان قبله؟
وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أجلَّ في عينِي منه، وما كنت أُطيقُ أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سُئلتُ أن أَصِفَه ما أطقتُ؛ لأنَّي لَم أكن أملأُ عيني منه، ولو مِتُّ على تلك الحال لرجوتُ أن أكون من أهل الجنَّة، ثمَّ وَلِينا أشياء ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا مِتُّ فلا تصحبْنِي نائحةٌ ولا نار ... )).(6/101)
والحديثُ مشتمِلٌ على جُمل دالَّة على فضل عَمرو بن العاص رضي الله عنه، وما جاء فيه من بُكائه ليس عيباً فيه؛ فشأنُ أولياء الله أنَّهم يخافون الله ويرجونه، وقد جاء عن بعض أهل العلم أنَّ الخوفَ والرَّجاء للمؤمن بمنزلة الجناحَين للطائر، لا يكون راجياً فقط ولا يكون خائفاً فقط، بل يكون راجياً خائفاً، ومن صفات أولياء الله في الكتاب العزيز ما ذكره الله عنهم بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتَوْنَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}.
وأحاديث عمرو بن العاص رضي الله عنه في الصحيحين وغيرهما، وقد قال الذهبي في ترجمته في سير أعلام النبلاء (3/55): (( داهيةُ قريش ورجل العالَم، ومَن يُضرب به المَثَل في الفِطْنَة والدَّهاء والحزم، هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلماً في أوائل سنة ثمان، مرافقاً لخالد بن الوليد وحاجب الكعبة عثمان بن طلحة، ففرح النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقدومِهم وإسلامِهم، وأمَّر عَمراً على بعض الجيش، وجهَّزه للغزو، له أحاديث ليست كثيرة، تبلغ بالمكرَّر نحو الأربعين، اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثَين )).
رابعاً: أمَّا المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، فهو صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومِمَّن بايَع تحت الشجرة، ويدلُّ لفضله ما يلي:
1 ـ أنَّه من الذين قال الله فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}.(6/102)
وقال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( لا يدخل النارَ إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها )) أخرجه مسلم في صحيحه (2496) من حديث أمِّ مُبشِّر رضي الله عنها، ويبيِّن كونه من أهل بيعة الرِّضوان حديث المِسوَر بن مخرمة ومروان بن الحكم في صحيح البخاري (2731، 2732) في صلح الحُديبية: (( وجعل (أي عروة بن مسعود الثقفي) يُكلِّم النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فكلَّما تكلَّم كلمةً أخذ بلِحيتِه، والمغيرة بن شعبة قائمٌ على رأس النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومعه السَّيف وعليه المِغفر، فكلَّما أهوى عُروة بيده إلى لِحية النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ضرب يدَه بنعل السيف، وقال له: أخِّر يدَك عن لِحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )).
2 ـ وفي صحيح البخاري (3159) عن جُبير بن حيَّة قال: (( بعث عمرُ الناسَ في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين ... فنَدَبَنا عمر (أي لقتال الفرس)، واستعمل علينا النُّعمان بن مقرِّن، حتى إذا كنَّا بأرض العدوِّ وخرج علينا عاملُ كسرى في أربعين ألفاً، فقام ترجمان فقال: لِيُكلِّمنِي رجلٌ منكم، فقال المغيرةُ: سَلْ عمَّا شئتَ، قال: ما أنتم؟ قال: نحن أناسٌ من العرب، كنَّا في شقاء شديد وبلاء شديد، نَمُصُّ الجِلدَ والنَّوى من الجوع، ونلبسُ الوَبَر والشَّعر، ونعبدُ الشَّجر والحَجَرَ، فبينا نحن كذلك إذ بعث ربُّ السموات وربُّ الأرضين تعالى ذِكرُه وجلَّت عظمتُه إلينا نبيًّا من أنفسنا، نعرفُ أباه وأمَّه، فأمرنا نبيُّنا رسولُ ربِّنا - صلى الله عليه وسلم - أن نُقاتِلَكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤتُوا الجِزيَةَ، وأخبرنا عن رسالة ربِّنا أنَّه مَن قُتل منَّا صار إلى الجنَّة في نعيم لَم ير مثلَها قطُّ، ومَن بقي مِنَّا مَلَكَ رِقابَكم )).(6/103)
أقول: الله اكبر! ما أحسن هذا الكلام، وما أعظمَه، وما أجزلَه! وهو صادرٌ عن قوَّة إيمان، وبهذه القوَّة انتصر الصحابةُ رضي الله عنهم ومَن سار على نهجِهم، وحصلت العِزَّةُ للإسلام والمسلمين، وهذا الكلام بمنطق القوَّة والشجاعة، ومع الأسف نجد في هذا الزمان كثيراً من الإسلاميِّين يتكلَّمون بمنطق الضَّعف والذِّلَّة، فيقولون: إنَّ الجهادَ إنَّما شُرع في الإسلام للدِّفاع فقط، والله المستعان، وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (( بُعثتُ بين يدي الساعة بالسَّيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعل رِزقي تحت ظِلِّ رُمْحِي، وجُعل الذُّلُّ والصَّغارُ على مَن خالف أمري، ومن تشبَّه بقومٍ فهو منهم )) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/50، 92) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهو حديث ثابت، رجاله مُحتجٌّ بهم، وقد شرحه الحافظ ابن رجب في جزء لطيف مطبوع بعنوان: (( الحِكَم الجديرة بالإشاعة في شرح حديث بُعثت بين يدي الساعة )).
3 ـ وكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أميراً على الكوفة، وتوفي سنة (50هـ)، وقد روى البخاري في صحيحه (58) بإسناده إلى زياد بن عِلاَقَة قال: (( سمعتُ جرير بن عبد الله يقول يوم مات المغيرة بن شعبة، قام فحمِد الله وأثنى عليه، وقال: عليكم باتِّقاء الله وحده لا شريك له، والوَقار والسَّكينة، حتى يأتيكم أمير، فإنَّما يأتيكم الآن، ثمَّ قال: استعفوا لأميرِكم؛ فإنَّه كان يُحبُّ العفوَ، ثمَّ قال: أمَّا بعد، فإنِّي أتيتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قلتُ: أُبايِعُك على الإسلام، فشرط عليَّ: والنُّصح لكلِّ مسلم، فبايعتُه على هذا، وربِّ هذا المسجد! إنِّي لناصحٌ لكم، ثمَّ استغفَرَ ونزل )).
وهذا الكلام من جرير رضي الله عنه لأهل الكوفة فيه وَصْفُ المغيرة رضي الله عنه بالأمير وثناؤه عليه، وبيان أنَّ مقالتَه هذه هي من النُّصح للمسلمين، الذي بايع عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(6/104)
هذه بعضُ فضائل المغيرة بن شعبة، وأهمُّها كونه مِمَّن بايَع تحت الشجرة، ومع هذا لا يُسلِّم المالكيُّ بأنَّ المغيرة رضي الله عنه ظفر بشرف صُحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع أنَّ رأيَه المبتَكر في القرن الخامس عشر هو قَصْر الصُّحبة المحمود أهلها على المهاجرين والأنصار قبل صلح الحُديبية، والمغيرة من هؤلاء، لكن مصيبة المغيرة عند المالكي كونه أميراً لمعاوية رضي الله عنه، فلذلك لَم تشفع له عنده هذه الفضائل، وقد وعد بكتابة بحوث موَسَّعة عنه وعن أمثاله، أي من وِجهته المنحرفة عن الصحابة، وهو وعْدٌ بباطل يجبُ إخلافُه.
وأحاديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في الصحيحين وغيرِهما، قال الخزرجي في الخلاصة: (( شهد الحُديبية، وأسلم زمن الخندق، له ـ أي في الكتب الستة ـ مئة وستة وثلاثون حديثاً، اتَّفقا على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين.
* * *
زعمه أنَّ صُحبةَ الكثيرين من أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لغوية لا شرعية والرد عليه:
قال في (ص:56): (( قد يورد البعضُ على ما سبق بعضَ الاعتراضات، وهذا من حقِّ كلِّ مَن قرأ البحثَ أو سمع به، كما أنَّه من حقِّنا أن نبيِّن رأينا في هذه الاعتراضات، سواء كانت بحقٍّ أم بغيره، ومن تلك الاعتراضات:
1 ـ قد يقول البعض: ما دام أنَّ اللغة واسعةٌ ويجوز فيها أن تطلق الصحابي أو الصاحب على من صحب ولو صحبة يسيرة، فلماذا التضييق في الأمر؟
الجواب: نحن للأسف تجاوزنا مسألة اللغة نفسها، فأصبحنا نطلق الصاحب على من رأى وليس على من صحب، فهذا أوَّلاً.(6/105)
ثانياً: سبق أن كرَّرنا أننا لا نُمانع من إطلاق الصحبة إذا أريد بها مطلق الصحبة، لكن هذا الإطلاق جائز في الكفَّار والمنافقين أيضاً، بمعنى أنَّ المنافقين يدخلون في الصحبة من حيث اللغة كما أنَّ الكفَّار يدخلون كذلك، فاللغة تحتمل ذلك، ولذلك نحن ذكرنا أنَّ الصُّحبةَ الشرعيَّة فقط هي التي تقول: إنَّه لا يجوز أن تطلق على المسلمين بعد فتح مكة حتى ولو رأوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وصَحبوه؛ لأنَّهم وإن كانوا صحابة لغة، وقد يكون بعضُهم صحابةً من حيث العُرف، لكنَّهم ليسوا صحابةً من الناحية الشرعية )).
ويُجاب عن ذلك بما يلي:
أوَّلاً: أنَّ اعتبارَ الصُّحبة اليسيرة للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بل ومجرَّد الرؤية للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كافٍ لعَدِّ مَن حصل له ذلك صحابيًّا، وسبق ذِكرُ الأدلَّة الدَّالة على اعتبار مَن لقيه - صلى الله عليه وسلم - صحابيًّا في أوَّل هذا الردِّ، منها الدليل السادس والثامن والرابع عشر التي فيها النص على اعتبار مَن رآه - صلى الله عليه وسلم - صحابيًّا.
ثانياً: ما ذكره مِن أنَّ الصُّحبةَ الشرعيَّة لا يجوز أن تُطلَق على المسلمين بعد فتح مكة حتى ولو رأوا النَّبِيَّ وصحبوه ... إلخ، أقول: لَم يقتصِر على نفي الصُّحبة الشرعية المحمود أهلها على مَن أسلم بعد فتح مكة، بل تعدَّى ذلك إلى نفي الصُّحبة الشرعية عن الذين أسلموا بعد الحديبية وهاجروا إليه وصحِبوه - صلى الله عليه وسلم -، كما ذكر ذلك في تعريف الصحابيِّ الذي ذكره في أوَّل رسالته، وذكر ذلك أيضاً في آخرها، وأثنائها، وسبقت الإجابةُ عن ذلك فيما مضى مراراً.(6/106)
ثالثاً: ما ذكره من أنَّ مَن أُضيفت إليه الصُحبة وليست صحبتُه شرعية، أنَّ صحبتَه شبيهةٌ بصُحبة الكفار المنافقين، أقول: سبق أن بيَّنتُ في أوَّل هذا الرَّدِّ أنَّ صُحبةَ هؤلاء للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كانت مع الإيمان به وتصديقه واتِّباعه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا خلاف صحبة المنافقين والكفار، وبناءً على هذا أقول: أَيَجوز في عقل ودين أن تكون تلك الألوف الكثيرةُ مِمَّن أسلم وصحِب النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعد الحديبية إلى حين وفاته - صلى الله عليه وسلم - أن تكون صُحبتُهم كصحبةِ الكفار والمنافقين، وفيهم العباس عم النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وابنه عبد الله وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومعاوية، بل والمغيرة بن شعبة ـ وهو من أهل بيعة الرضوان ـ رضي الله عنهم جميعاً؟! وسبق للمالكيِّ أن نفى صُحبتَهم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ونقلتُ كلامَه في ذلك ورددتُ عليه فيما مضى.
رابعاً: قوله في أول كلامه: (( كما أنَّه من حقِّنا أن نبيِّن رأينا في هذه الاعتراضات، سواء كانت بحقِّ أم بغيره ))، أقول: إذا كانت الاعتراضات بحقٍّ، فإنَّ الإجابةَ عليها بغير الرجوع والتسليم من المجادلة بالباطل.
* * *
فهمه الخاطئ للصُّحبة الشرعيَّة والرد عليه:
وقال في (ص:57 ـ 59): (( 2 ـ وماذا تعنِي بالصُّحبة الشرعية؟ وهل سبقك أحدٌ إلى هذا المُسمَّى؟(6/107)
الجواب: الصُّحبة الشرعية هي تلك الصُّحبة التي أثنى عليها الله ورسولُه - صلى الله عليه وسلم - جزماً، ونزلت الآيات في وصفِها، وكانت أيَّام الضَّعف والذِّلَّة، أيَّام حاجة الإسلام والنَّبِيّ إلى النُّصرة، تلك الصُّحبة التي إن ورد الثناء على الأصحاب أو الأمر بعدم سبِّهم أو الأمر باقتداء بهم فلا تنصرف هذه المعاني إلاَّ للصُّحبة الشرعية، وهذا لا يعنِي عدم الثناء على الصالحين في أيِّ زمن، وإنَّما يعني احترام خصوصية السابقين الذين فضَّلهم الله ورسولُه وهم المهاجرون والأنصار.
أمَّا هل سبقنِي أحدٌ إلى هذه التسمية، فهذا سؤال له جوابان: عام وخاص:
أمَّا العام: فهناك كثيرٌ من المصطلحات أعطاها الشرعُ دلالةً خاصَّة غير دلالتها الأولى، وعلى سبيل المثال مصطلحات الزكاة والصلاة والحج، فمعانيها من حيث اللغة الطهارة أو التطهُّر والدعاء والقصد ... لكن الإسلام بنصوص الكتاب والسنة قد أعطى هذه المعاني دلالات أخرى
مع عدم نفي الدلالات السابقة، فالحجُّ قصدٌ لكن إلى بيت الله الحرام
لأداء شعائر معيَّنة، والزكاة تُطهِّر مالَ المزكى وتطَهِّر المزَكِّي من الإثم، ونحو هذا.(6/108)
بمعنى أنَّ الشرعَ يضيف تقييدات على المصطلحات العامة ليُصبح
لها مدلولاً شرعيًّا مقيَّداً (كذا) بعد أن كان المدلول مشتركاً لفظيًّا أو يكثر فيه المجازات اللغوية، فكذلك الصُّحبة، إذا قال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسبُّوا أصحابي ...) عرفنا أنَّ كلمة (أصحابي) في هذا الحديث لا تعنِي إلاَّ السابقين من المهاجرين أو الأنصار؛ بدلالة أنَّ المخاطب صحابي تأخر إسلامه إلى بعد الحديبية، وهو يدخل في الخطاب بطريق الأولى، وكذلك إذا وجدنا آيةً تُثني على (الذين معه) أي الذين مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلا تنصرف إلاَّ إلى الصُّحبة الشرعية؛ بدلالة الآيات الأخرى التي تقتصر على (المهاجرين والأنصار)، وهذا يعنِي أنَّ كلمة (الذين معه) كلمة مُجملة مفسرة بـ (المهاجرين والأنصار)، والقرآن مفسِّرٌ بعضه بعضاً.
وأمَّا الجواب الخاص: نعم! قد سبقنِي بعضُ الباحثين لإطلاق هذا، ومع ذلك فلا أطلب من أحدٍ أن يلتزم بهذا الإطلاق (الصُّحبة الشرعية)، لكن عليه إن أثنى على الصحابة ألاَّ ينزل هذا الثناء إلاَّ على مَن أنزله الله ورسوله عليه من المهاجرين والأنصار فقط، أمَّا أن يأتي وينزل الآيات والأحاديث في فضل بيعة الرضوان على الطلقاء أو مَن بعدهم فهذا خلاف المنهج العلمي.
وقد سبقنِي لكن بألفاظ مقاربة بعضُ العلماء، منهم إبراهيم النخعي وابن عبد البر، ومن المعاصرين الشيخ عبد الرحمن الحكمي، فهو يرى أنَّ مَن أسلم بعد بيعة الرضوان لا يدخل في مسمى الصحابة، وعنده بحث في الموضوع عندي نسخة منه.
ثمَّ أقول: مَن سبقكم إلى اعتبار الآيات الكريمة التي وردت في حقِّ المهاجرين والأنصار، من سبقكم إلى اعتبارها نازلة فيمَن بعدهم؟!(6/109)
ثمَّ لا يُشترط أن يسبق في الموضوع أحدٌ ما دام للموضوع أدلَّته وبراهينه، فينطلق النَّقد على تلك البراهين والأدلة، ولا ينطلق على غير ذلك، وكلمة (مَن سبقك) ليس دليلاً؛ فقد أطلق المتأخرون ألفاظاً أو مصطلحات لَم تكن موجودة فيهم قبلهم، مثل التفسير والتجويد والمصطلح نفسه وأصول الفقه والخاص والعام والمطلق والمقيد ونحو ذلك من الألفاظ التي لَم تكن موجودة في عهد النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولا القرن الأول )).
ويُجاب عن إجابته عن هذا الاعتراض الذي أورده على نفسه بما يلي:
أولاً: ما أشار إليه من الأدِلَّة الدَّالَّةِ على الثناءِ على المهاجرين والأنصار، فذلك حقٌّ وهم أهل ذلك الفضل، لكن ذلك لا ينفي أن يكون غيرُهم من أهل الفضل.
ثانياً: ما أشار إليه من أدلَّة عامَّة فيها الثناء على الذين كانوا مع النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّها محمولةٌ على المهاجرين والأنصار فقط غير صحيح؛ بل هي تشمل المهاجرين والأنصار وغيرهم مِمَّن جاء بعدهم، والمهاجرون والأنصار داخلون فيها دخولاً أوَّليًّا، ولا يجوز للمالكيِّ أن يَحقِدَ على أحدٍ من الصحابةِ، ولا أن يَحملَه الحِقدُ على كثير من الصحابة كالطُّلقاء أن يَجعلَ ما ورد عامًّا لجميع الصحابة خاصًّا بالمهاجرين والأنصار.
ثالثاً: ما ذكره من اللَّوم لِمَن ينزِّل الآيات والأحاديث في فضل بيعة الرِّضوان على الطلقاء أو من بعدهم، أقول: لا يُتصوَّر تنزيل قول الله عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} مثلاً على أحدٍ سواهم من الطلقاء وغيرهم، كما أنَّ الفضائلَ الخاصَّة بأهل بدر لا تُنزَّل على مَن سواهم، لكنَّه التهويل من هذا المالكي هداه الله.(6/110)
رابعاً: ما أشار إليه من أنَّ كثيراً من المصطلحات أعطاها الشرعُ دلالةً خاصَّةً غير دلالتها الأولى، أقول: نعم! الأمر كذلك، لكن لا يجوز أن يُفهم فهمٌ خاطئ بقَصْر الصُّحبة المحمود أهلها على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية وإضافة ذلك إلى الشرع، كما فعل المالكي؛ فإنَّ الصُّحبةَ في اللغة عامَّةٌ تشملُ القليلَ والكثيرَ، وتشمل المؤمنين والمنافقين والكفار، ولكن صُحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد جاء الشرع بقصْرها على مَن آمن به واتَّبعه مِمَّن لقيه وصحبه، وسبق أن مرَّ في الأدلة في أوَّل هذا الرَّدِّ ما يوضح ذلك.
خامساً: ما ذكره من أنَّ الصُّحبةَ حيث وردت تُقصَر على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية، يُجاب عنه بأنَّ لفظَ الصُّحبة مثل لفظ الإيمان يشترك فيه كلُّ مؤمن ومسلم مع التفاوت الكبير بينهم فيه، وكذلك الصُّحبة يشترك فيها كلُّ صحابيٍّ طالت صُحبتُه أو قصُرت مع التفاوت الكبير بين الصحابة في الفضل، ونظير ذلك في المحسوسات البصر، فإنَّ أهلَه متفاوتون فيه، منهم مَن هو حادُّ البصر يرى الهلال، ويرى من مسافات بعيدة، ويرى الشيءَ الدَّقيق، ومنهم مَن دون ذلك، ومنهم مَن هو ضعيف النَّظر لا يرى إلاَّ الشيءَ القريب والشيء الكبير، ومنهم مَن يُبصرُ الخطَّ الدقيق، ومنهم من لا يُبصر إلاَّ بزجاجة، وهم مشتركون جميعاً في أنَّهم مُبصرون ليسوا من أهل العمى، وسبق أن مرَّ الكلامُ على حديث: (( لا تسبُّوا أصحابي )) عند ذكر المالكي خالد بن الوليد وأنَّه ليس من الصحابة بزعمه.(6/111)
سادساً: هذا الرأي الفاسد للمالكي وهو قَصْر الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية لَم يَجد له سلفاً فيه خلال ما مضى من قرون مع حِرصِه الشديد على وجود سلف، وقد أعلن إفلاسَه من وجود سلف بقوله هنا بأنَّه سبقه إلى ذلك شخصٌ من المعاصرين، وهو عبد الرحمن الحكمي، أمَّا ما ذكره عن النخعي وابن عبد البر فلَم يذكر كلامَهما حتى يُمكن النَّظر فيه من حيث الثبوت ومن حيث المعنى، وقوله: (( وقد سبقنِي لكن بألفاظ مقاربة بعضُ العلماء، منهم إبراهيم النخعي وابن عبد البر ))، أقول: تعبيره بقوله: (( بألفاظ مقاربة )) يدلُّ على عدم اطمئنانه إلى معنى ما عزاه إليهما.
سابعاً: قوله: (( ثمَّ لا يُشترط أن يسبق في الموضوع أحدٌ ما دام للموضوع أدلَّته وبراهينه، فينطلق النَّقد على تلك البراهين والأدلة، ولا ينطلق على غير ذلك ))، أقول: كان الأوْلَى بالمالكيِّ بدلاً من اللُّجوء إلى هذا الكلام عند إفلاسِه أن يتَّهم رأيَه ويقتدي ببعض أهل بيعة الرِّضوان الذين لَم يرتاحوا إلى بعض شروط الصُّلح وراجعوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وكانوا فيما بعد يقولون: يا أيها الناس! اتَّهموا الرأي في الدِّين، والأدلَّة التي أشار إليها قد فهمها السَّلفُ فهماً صحيحاً، فلم يقصروها على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية، والواجب الاعتماد على نصوص الكتاب والسنَّة وفقاً لفهم السلف، وكان الأليقُ بالمالكي أن يستحيي مِن ذِكر هذا الرأي الفاسد الذي لَم يسبقه إليه إلاَّ عبد الرحمن الحكمي.(6/112)
ثامناً: أمَّا ما ذكره من حصول مصطلحات جديدة تعود بالنَّفع على العلم وأهله كعلم الأصول وعلم التجويد وعلم المصطلح وغير ذلك، فهذا شيءٌ محمود، وفيه تيسير العلم وتسهيل الوصول إليه، أمَّا ما ابتلي به المالكي من فهم خاطئ للنصوص وقصره الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية فلا علاقة له في تلك المصطلحات، وإنَّما هو من الإحداث في الدِّين والتنكُّب عن سبيل المؤمنين.
* * *
زعمه أنَّ الإجماعَ لا بدَّ فيه من اتِّفاق أمَّة الإجابة بفِرَقِها المختلفة والرد عليه:
قال في (ص:59): (( 3 ـ قد يُقال: إنَّ تقييدَك للصحبة بـ (المهاجرين والأنصار) خلاف الإجماع الذي استقرَّ عليه المحدثون من (اعتبار كل من لقي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ومات على الإسلام فهو صحابي) )).
وقد أجاب عن هذا الاعتراض بنفي وجود الإجماع، وأورد تساؤلات على هذا الاعتراض، آخرها قوله في (ص:60 ـ 61): (( هل ما استقرَّ عليه المحدِّثون يُعدُّ إجماعاً حتى لو خالف في ذلك الأصوليُّون؟! بل هل ما أجمع عليه أهلُ السنَّة يُعدُّ إجماعاً معتبراً أم لا بدَّ من إجماع كل أمَّة الإجابة؟! فهذا سؤال يحتاج لبحث منفصل.
كل هذه الأسئلة بحاجة إلى بتٍّ فيها، ولا يحتمل هذا البحث الإجابة عليها؛ لكون كاتب هذا البحث لَم يبحثها بحثاً يرضى عنه، ولا يريد أن يتكلَّم بما لا يعلم فيقع في المحظور الذي حذَّر منه، وأنا أدعو إخواني للبحث المنصف فقط، أو محاولة ذلك على الأقل، مع التواضع في الاعتراف بالقصور في العلم )).(6/113)
وعلَّق على قوله: (( فهذا سؤال يحتاج لبحث منفصل )) بقوله: (( لأنَّ أقوى دليل للذين يرون الإجماع هو الحديث المشهور: (لا تجتمع أمَّتي على ضلالة)، والحديث وإن كان فيه كلام من حيث الثبوت، لكن (الأمة) فيه لا تعني بعض الأمة، وإنَّما كل أمة الإجابة، كل المسلمين باختلاف مذاهبهم الفقهية والعقدية والسياسية، ومَن زعم بأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أراد من (أمتي) أنَّها تعني المحدثين أو أصحاب المذاهب الأربعة فقد جازف ...!! )).
ويُجاب عن ذلك بما يلي:
أوَّلاً: أنَّ تعريف الصحابي بأنَّه مَن رأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أو صحبه ثبت بأدلَّة سبق أن أوردتُ جملة منها في أول هذا الرَّد، وذلك كافٍ لاعتبار هذا التعريف، سواء أحصل فيه الإجماع أم لَم يحصل.
ثانياً: أنَّ الإجماعَ منعقدٌ على بطلان الرأي الفاسد للمالكي، وهو قصْره الصُّحبة على المهاجرين والأنصار قبل الحديبية؛ بدليل أنَّ المالكي لَم يجد له سلفاً في هذا الرأي إلاَّ مَن سَمَّاه: عبد الرحمن الحكمي.
ومِن الذين أخرجهم تعريفُ الصحابي عند المالكي: العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله وخالد بن الوليد وأبو هريرة وأبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص ومعاوية وغيرهم، وهم صحابة بإجماع العلماء على مختلف العصور، لَم يخالف في ذلك إلاَّ المالكي وقدوته الحكمي!(6/114)
ثالثاً: إنَّ كلامَه واضحٌ في أنَّ الإجماع لايَتِمُّ إلاَّ باتِّفاق أهل السنَّة والجماعة وسائر فرق الضلال، ومقتضى ذلك نفي وجود الإجماع أصلاً؛ لأنَّه من المستحيل اتِّفاق أهل السنَّة وأصحاب البدع والأهواء على أمر عقدي، ولا شكَّ أنَّ الذين يُعتبر إجماعهم هم أهل السنَّة والجماعة دون غيرهم من أهل الأهواء، وقد بيَّن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما ذكر افتراق الأمَّة ـ وهم أمَّة الإجابة ـ على ثلاث وسبعين فرقة (( كلُّها في النار إلاَّ واحدة ))، وهم من كان على ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه وأصحابُه، فبيَّن أنَّ هؤلاء هم النَّاجون، فيكون الإجماع المعتبَر هو إجماعهم، ومن العجب أن يزعم زاعمٌ أنَّه لا بدَّ في الإجماع من اتِّفاق الفرق الثلاث والسبعين باختلاف مذاهبها الفقهية والعقدية والسياسية!
ومقتضى ذلك أنَّه لا بدَّ من اتِّفاق من يقول: إنَّ القرآن مخلوقٌ، ومن يقول: إنَّ القرآن غير مخلوق، واتفاق من يُثبِت عذاب القبر ومن يُنكره، واتِّفاق مَن يُثبت معراج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء ومن يُنكره، واتِّفاق مَن لا يدعو إلاَّ الله ولا يستغيث إلاَّ به ومن يدعو أو يستغيث بالملائكة والجنِّ وأصحاب القبور، واتِّفاق مَن يعتقد أن الله يُرى في الدار الآخرة ومن يعتقد أنَّه لا يُرى أبداً!
ورؤية الله في الدار الآخرة اتَّفق عليها الصحابة ومَن تبعهم بإحسان على تتابع القرون، ودلَّت عليها آيات الكتاب العزيز والأحاديث المتواترة، وأنكرها الجهمية والمعتزلة والخوارج والرافضة والباطنية، فعلى قول المالكي لا بدَّ في الإجماع من موافقة هذه الفرق، وإلاَّ فإنَّها تبقى مسألة خلافية لا إجماع فيها!(6/115)
ومن أراد الوقوف على تفصيل القول في مسألة رؤية الله في الدار الآخرة وذِكر الأدلة من الكتاب والسنة يُمكنه ذلك بالرجوع إلى كتب أهل السنة، ومن ذلك كتاب (( حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح )) لابن القيم (ص:179 ـ 219).
رابعاً: ما ذكره المالكي من أنَّ هذه التساؤلات التي ذكرها تحتاج إلى بتٍّ فيها ولا يحتمل هذا البحث الإجابة عليها، أقول: لقد بادر بالإجابة كما هو واضح من كلامه الذي يرى فيه أنَّ الإجماع لا بدَّ فيه من اتَّفاق كلِّ المسلمين على اختلاف مذاهبهم الفقهية والعقدية والسياسية!
خامساً: قوله: (( وأنا أدعو إخواني للبحث المنصف فقط، أو محاولة ذلك على الأقل، مع التواضع في الاعتراف بالقصور في العلم! ))، أقول: ما أحوج المالكي إلى الإنصاف والتواضع ومعرفة قدر نفسه؛ ليَسْلَم من الشذوذ واتباع غير سبيل المؤمنين.
سادساً: ما ذكره من أنَّ الإجماع لا بدَّ فيه من اتِّفاق أمَّة الإجابة باختلاف مذاهبهم الفقهية والعقدية والسياسية، فيه احتفاؤه بأهل البدع والأهواء على اختلافها وتعدُّدها مع نيله من أهل السنَّة، ومن كلامه بالإشادة بأهل البدع والأهواء قوله في قراءته (ص:70): (( ولذلك كان أكثر بل كل التيارات التي نَصِمها بالبدعة كالجهمية والقدرية والمعتزلة والشيعة والزيدية وغيرهم، كل هؤلاء كانوا من الدعاة إلى تحكيم كتاب الله وتحقيق العدالة، وكانوا من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر!! )).
وقال أيضاً (ص:75): (( لكن المعتزلة مثل غيرهم مِن الفرق أصابوا في أشياء وأخطؤوا في أشياء، لكنهم في الجملة لا يستغنى عنهم ولا عن تراثهم وعلومهم، وهم مسلمون متديِّنون بدين الإسلام باطناً وظاهراً!!! )).
وقال أيضاً (ص:67): (( وللقدرية نصوص شرعية يستشهدون بها مثلما للسنة والشيعة والمعتزلة نصوص شرعية يرون فيها الدليل الكافي على ما يذهبون إليه!!! )).(6/116)
ومن ذلك قوله في (ص:69 ـ 70) من قراءته بأنَّ قتلَ الجعد بن درهم والجهم بن صفوان كان سياسياً ولَم يكن من أجل البدعة!!
وأيضاً تأسفه (ص:71) من قراءته على سنوات أضاعها في بُغض ولعن الجهمية والقدرية، وأنَّه لَم يتنبَّه لبراءتهما وظلمه لهما إلاَّ بعد بحثه في الموضوع في فترة متأخرة!
وقال في (ص:83) من قراءته: (( وقد احتوت كتبُ العقائد ـ ومن أبرزها كتب عقائد الحنابلة ـ على كثير من العيوب الكبيرة التي لا تزال تفتك بالأمَّة!!! )).
مع هذا ومع وصفه أيضاً في قراءته (ص:80 ـ 81) للكتب المؤلفة في العقائد بأنَّها تمزِّق المسلمين، وذِكره أمثلة كثيرة للكتب التي عوَّل عليها الحنابلة في العقيدة وهي كثيرة، منها كتاب التوحيد لابن خزيمة والشريعة للآجري وأصول السنة للالكائي وكتب ابن تيمية وابن القيم، مع ذلك يقول في (ص:154) من قراءته: (( أنا لا أرى معنى لمنع كتب الأشاعرة والشيعة والإباضية وغيرهم من المسلمين من دخول المملكة في ضوء هذا التفجُّر المعرفي!!! )).
فقد جمع في ذلك بين التهوين من شأن كتب أهل السنة والإشادة بكتب غيرهم، فاستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير!
وكتاباته مبنيَّةٌ على النَّيل من أهل السنة، بدءاً من الصحابة رضي الله عنهم حتى مَن كان في هذا العصر على طريقتهم في المملكة وغيرها، ومع ذلك يزعم أنَّه حنبليٌّ، وأنَّه نشأ في هذه البلاد وتعلَّم فيها، فيقول في (ص:149) من قراءته: (( بل لا أعتبر نفسي إلاَّ حنبليًّا؛ بحكم النشأة والتعليم والبيت والتلقي والطريقة في الاستدلال )).
أقول: ما زعمه مِن اعتبار نفسه حنبليًّا وأنَّه على طريقتهم في الاستدلال غير صحيح؛ لأنَّ طريقةَ مَن زعم أنَّه منهم ـ وليس منهم ـ هي طريقة أهل السنة والجماعة، وأمَّا هو فطريقته طريقة أهل البدع.
وأما ما ذكره من النَّشأة والتعلم، ثمَّ انحرافه عمَّا تعلَّمه، وعقوقه لِمَن علَّمه، فإنَّه يصدق عليه قول الشاعر:(6/117)
... فوا عجباً مِمَّن ربَّيتُ طفلاً أُلَقِّمُه بأطراف البنان
... أعلِّمُه الرِّمايةَ كلَّ يوم فلمَّا اشتدَّ ساعِدُه رمانِي
... وكم علَّمتُه نظمَ القوافي فلمَّا قال قافيةً هَجَانِي
وقال في (ص:122) من قراءته: (( وتتردَّد عندنا في العقائد ألفاظ كثيرة ومصطلحات فضفاضة لا نعرف معناها، أو على الأقل يختلف الناس في تحديدها من شخص لآخر، فنُطلقها بلا تحديد، مثل: (السلف الصالح ـ أهل السنة ـ أهل الأثر ـ أهل الحديث ـ الطائفة المنصورة ـ البدعة ـ الإجماع ـ الضلالة ـ الأمة ـ علماء الأمَّة ـ الرافضة ـ الجهمية ـ الخوارج ـ النواصب ـ الشيعة ـ الكتاب ـ السنة ... إلخ)، وكذلك قول بعضهم: (عليك بما كان عليه الصحابة)، نصيحة مطاطة؛ فإن كان يعرف أنَّ الصحابةَ قد اختلفوا في أمور كثيرة عقدية وفقهية وسياسية، فأيُّهم نتبع؟!! )).
أقول: إنَّ الذي أرشد إلى اتِّباع ما كان عليه الصحابة هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بقوله - صلى الله عليه وسلم - في بيان الفرقة الناجية من ثلاث وسبعين فرقة: (( هم من كان على ما أنا عليه وأصحابي ))، وفي لفظ: (( هي الجماعة ))، وبقوله في حديث العرباض بن سارية: (( فإنَّه مَن يَعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسُنَّتِي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي )) الحديث، والصحابةُ رضي الله عنهم لَم يختلفوا في العقيدة.
ومِثْل اختلاف عائشة وابن عباس رضي الله عنهما في رؤية النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ربَّه ليلة المعراج لا يُعدُّ خلافاً في العقيدة؛ لدلالة الآيات الكثيرة والأحاديث المتواترة وإجماع أهل السنة والجماعة على ثبوت رؤية الله في الدار الآخرة، وقد مرَّت الإشارة إلى ذلك قريباً.(6/118)
ويَصف المالكيُّ كثيراً من علماء السنَّة بأنَّهم نواصب، فيقول في (ص:134) من قراءته بعد أن أشار إلى جملة منهم: (( ثمَّ تتابع علماءُ الشام كابن تيمية وابن كثير وابن القيم على التوجس من فضائل علي وأهل بيته وتضعيف الأحاديث الصحيحة في فضلهم مع المبالغة في مدح غيرهم!!
وعلماء الشام ـ مع فضلهم ـ بشرٌ لا ينجون من تأثير البيئة الشامية التي كانت أقوى من محاولات الإنصاف، خاصَّة مع استئناس هؤلاء بالتراث الحنبلي الذي خلَّفه لهم ابن حامد وابن بطة والبربهاري وعبد الله بن أحمد والخلال وأبو بكر بن أبي داود!! )).
ومثل ذلك قوله في (ص:48): (( ثمَّ جاء بعد هؤلاء آل تيمية بحرَّان ثمَّ دمشق، وابن كثير إلى حدٍّ كبير، والذهبي إلى حدٍّ ما، أما ابن تيمية فاشتهر عنه النَّصب، وكُتُبُه تشهد بذلك، ولذلك حاكَمه علماء عصره على جملة أمور، منها بغضُ علي!!
ولَم يُحاكموا غيرَه من الحنابلة مع أنَّ فيهم نصباً وَرثوه عن ابن بطة وابن حامد والبربهاري.
والتيار الشامي العثماني له أثر بالغ على الحياة العلمية عندنا في الخليج، وهذا من أسرار حساسيتنا من الثناء على الإمام علي أو الحسين، وميلنا الشديد لبَنِي أمية، فتنبَّه!!
والنواصب لهم أقوال عجيبة كغلاة الشيعة، فمنهم مَن كان ينشد الأشعار التي قيلت في هجاء النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم من يلعن عليًّا وهم الأكثر، ومنهم من يتَّهم عليًّا بمحاولة اغتيال النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم من يُحرِّف الأحاديث في فضله إلى ذمٍّ، وغير ذلك مِمَّا لا أستحلُّ ذكره، والغريب في أمرنا سكوتنا عن هذه الطائفة التي كان منها من يذم النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نفسَه!!! )).(6/119)
وهكذا يُبالِغ المالكي بالجفاء في أهل السنَّة والنَّيل بالباطل منهم ومن كتبهم، مع إشادته بأهل البدع والأهواء، وليس بغريب على مَن لَم يسْلَم منه أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَسْلَم منه مَن جاء بعدهم على طريقتهم، فقد مرَّ في أثناء هذا الرَّدِّ نيلُه من كثير منهم، لا سيما الطلقاء، وإخراجُه كلّ مَن أسلم وصحب النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعد الحديبية أن يكونوا من أصحابه - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.
وقد نقلتُ في كتابي: (( فضل أهل البيت وعلو مكانتهم عند أهل السنة والجماعة )) جملةً من النقول عن بعض مَن وصفهم بأنَّهم نواصب تشتمل على توقير أهل بيت النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومحبَّتهم وموالاتهم، والنقل عن ابن كثير (ص:37) وعن ابن القيم (ص:35)، وأمَّا الذهبي فقد قال في تذكرة الحفاظ (1/9): (( علي بن أبي طالب أبو الحسن الهاشمي، قاضي الأئمَّة وفارس الإسلام وخَتَن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، كان مِمَّن سبق إلى الإسلام ولَم يَتَلَعْثَم، وجاهد في الله حقَّ جهاده، ونهض بأعباء العلم والعمل، وشهد له النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالجنَّة، وقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه)، وقال له: (أنت منِّي بِمنزلة هارون من موسى، إلاَّ أنَّه لا نبِيَّ بعدي)، وقال: (لايحبُّك إلاَّ مؤمن ولا يُبغضك إلاَّ منافق)، ومناقب هذا الإمام جَمَّة أفردتُها في مجلد، وسَمَّيتُه بـ (فتح المطالب في مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه)، وكان إماماً عالِماً متحرِّياً في الأخذ؛ بحيث إنَّه يستحلف مَن يُحدِّثه بالحديث )).
أَفَمِثل هذا الكلام يقوله ناصبيٌّ، كما زعم المالكي؟!(6/120)
وأمَّا شيخ الإسلام ابن تيمية الذي له نصيبٌ كبير من حقد المالكي وذمِّه، والذي زعم زوراً أنَّه يُبغض عليًّا رضي الله عنه، فله كتاب (( فضل أهل البيت وحقوقهم ))، وهو مطبوع، ونقلتُ عن هذا الإمام عدَّةَ نقول في كتابي المشار إليه في (ص:33 ـ 35)، و(ص:44)، ومن ذلك قوله ـ رحمه الله ـ في العقيدة الواسطية: (( ويُحبُّون (يعني أهل السُّنَّة والجماعة) أهلَ بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتوَلَّوْنَهم، ويحفظون فيهم وصيَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال يوم غدير خُمّ: (أُذكِّرُكم الله في أهل بيتِي) ... )) إلى أن قال: (( ويتبرَّؤون من طريقة الروافض الذين يُبغضون الصحابةَ ويَسبُّونَهم، وطريقةِ النَّواصب الذين يُؤذون أهلَ البيت بقول أو عمل )).
وقال في مجموع الفتاوى (28/491): (( وكذلك أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجبُ مَحبَّتُهم وموالاتُهم ورعايةُ حقِّهم )).
وقال في منهاج السنة (6/18): (( وأمَّا عليٌّ رضي الله عنه، فأهل السُّنَّة يُحبُّونَه ويتولَّونه، ويشهدون بأنَّه من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديِّين )).
وقول المالكي في كلامه الأخير عن النواصب: (( والغريب في أمرنا سكوتنا عن هذه الطائفة التي كان منها من يذم النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نفسَه!!! ))، أقول: تقدَّمت الإشارة إلى مذهب أهل السنَّة وبراءتهم من النَّصب، ونحن لَم نسكت عمَّن ذمَّ علماء أهل السنَّة على مختلف العصور، وذمَّ قبلهم الكثيرين من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكيف نسكت عمَّن يهجو الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو يذمُّه؟!
ولشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كتاب مفيد اسمه: (( الصارم المسلول على شاتم الرسول )).
* * *
إنكاره القول بعدالة الصحابة والرد عليه:(6/121)
وقال في (ص:61 ـ 63):(( 4 ـ قد يقول قائل: كيف تناقش مسألة عدالة الصحابة وهي مسألة إجماع؟! ثمَّ مَن نحن حتى نعرف هل الصحابة عدول أم لا؟! ثمَّ ماذا تفعل بتعديل الله لهم في كتابه؟
هل لك اعتراض على ذلك؟
أقول: أولاً: هذه أسئلة مُكابر وليست أسئلة باحث عن الحقيقة، وللأسف أنَّ هذا النمط من الأسئلة هي المنتشرة اليوم، وهي ممقوتة عند العقلاء الذين يحترمون البحث العلمي، ويمكن الإجابة على مثل هذه الأسئلة المكابرة بأسئلة مثلها، فيقال: كيف تخصُّون الصحابة بالعدالة مع أنَّ هذا التخصيص لَم يَرد عليه دليل لا من كتاب ولا من سنة؟! وهذه مسألة إجماع؛ فحكم الصحابة هو حكم غيرهم في الشهادة، لقوله تعالى: {وليشهد به ذوا عدل منكم} (كذا)، فلو كان للصحابة خصوصية لكفى شاهد واحد عدل، ولو كان للصحابة خصوصية لاكتفى منهم بشاهد واحد في الزنا والقذف وغيرها، وهذا خلاف الإجماع؛ فإنَّ النصوص القرآنية والحديثية لا تفرق في الشهادة بين صحابي وتابعي، فلماذا تفرقون أنتم في الرواية بين الصحابي وغير الصحابي، فلا تبحثون عن عدالة الصحابي وتبحثون عن عدالة التابعي؟!
بأيِّ دليل من شرع أو عقل يُبيح لكم هذا التفريق؟! إذا كنتم تحتجُّون بأنَّ الله أثنى على الصحابة في كتابه، فهذا الثناء العام معارَض بذمٍّ عامٍّ في القرآن أيضاً )).
ثمَّ ذكر آيات عديدة فيها الذم العام بزعمه، وذكر بعدها حديثاً واحداً وأشار إليه وإلى كثير من الآيات التي ذكرها، فقال: (( ومن الأحاديث في الذمِّ العام قول النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث الحوض في ذهاب أفواج من أصحابه إلى النار، فيقول النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابي! أصحابي! فيُقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك) الحديث متفق عليه، وفي بعض ألفاظه في البخاري: (فلا أرى ينجو منكم إلاَّ مثل همل النعم).(6/122)
فيأتي المعارِض للثناء العام بهذا الذَّمِّ العام، ويقول: كيف تجعلون للصحابة ميزة وقد أخبر النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لا ينجو منهم إلاَّ القليل، وأنَّ البقيَّة يؤخذون إلى النار؟!
وكيف أنَّهم استمتعوا بخلاقهم كما استمتع الذين من قبلهم بخلاقهم، وقد تحبط أعمالهم كما حبطت أعمال الأمم الماضية، وأنَّهم يقولون ما لايفعلون، وأنَّ هذا يعقبه مقتٌ كبير عند الله، وأنَّهم يتثاقلون كلَّما دُعوا إلى الجهاد مع النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّهم يتَّكلون على كثرتهم وتعجبهم، وينسون أنَّ أمر النَّصر والهزيمة بيد الله، وأنَّهم يتنازعون ويعصون الرسول، وبعضهم يريد الدنيا، وأنَّهم يظنون بالله الظنون، ويُسِرُّون بالمودَّة إلى الكفار، وهذا خلاف ما أُمروا به من الولاء للمؤمنين والبراءة من المشركين، وحَكم على بعضهم بالكذب، وحَكَم على آخرين بأنَّهم يقولون المنكر والزور، وهدَّد بعضَهم بإبطال الأعمال عندما لا يتأدَّبون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويرفعون أصواتهم فوق صوته، وإذا كان هذا التهديد نزل في حقِّ أبي بكر وعمر فكيف بالباقين؟!
وحَكَم على بعضِهم بأنَّهم لايعقلون، وعلى آخرين بالفسق، وحذر الله النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - من طاعتهم في كثيرمن الأمور، فكيف يكون عدلاً مَن تكون طاعته مضرة وإثماً؟!
وأخبر الله عن إخلاف بعضهم للوعد، فيُعاهد الله ثمَّ لا يفي ويتحوَّل إلى منافق، وأخبر بأنَّ من منهم منافقون (كذا) لا يعلمهم النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، كما أخبر النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لا ينجو من أصحابه يوم القيامة إلاَّ القليل (مثل همل النعم)، كما ثبت في صحيح البخاري ـ كتاب الرقاق.(6/123)
أقول: يستطيع المحتجُّ على إبطال عدالة الصحابة جملة بمثل هذه الآيات والأحاديث الصحيحة، وحجته لن تكون أضعف من حجَّة القائل بتعديل كلِّ من رأى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين!!
فما الحلُّ إذاً؟! هل القرآن متناقض؛ فيُثنِي على أناسٍ ثمَّ يجرحهم ويذمُّهم؟ اللهمَّ لا! نعوذ ?الله أن نضرب القرآن الكريم بعضه ببعض، لكن نقول: آيات الثناء تنزل على من يستحقها من المهاجرين والأنصار، وآيات الذَّمِّ بين أمرين: إمَّا عتاب لا ذنب فيه إن شاء الله، مثل الأمر بعدم رفع الصوت فوق صوت النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وإمَّا ذمٌّ عام وأريد به الخصوص، يعني أريد به طائفة منهم، وتُعرف هذه الطائفة إمَّا بسبب نزول أو بمعرفة صفتها في آيات أخرى جاء ذكرهم صريحاً، أو على المتأخرين في الإسلام الذين لَم يصدر منهم في عهد النبوة ما يطمئن إلى صحَّة إسلامهم من قوة جهاد وقوة إنفاق!!! )).
أقول: إنَّ مَن وفقَّه الله لاتِّباع السُّنَّة والسلامة من البدعة، عندما يرى أو يسمع مثل هذا الكلام المُظلِم في حقِّ الصحابة رضي الله عنهم يتألَّم قلبُه ويقشعرُّ جِلدُه، ويحمد الله على العافية مِمَّا ابتلي به قائله، ويسأل الله الهدايةَ لهذا المُبتَلَى.
ويُجاب عن كلامه بما يلي:
الأول: ما ذكره عن الأسئلة التي تُورَد على من لا يقول بتعديل الصحابة أنَّها (( أسئلة مُكابر وليست أسئلة باحث عن الحقيقة، وللأسف أنَّ هذا النمط من الأسئلة هي المنتشرة اليوم، وهي ممقوتة عند العقلاء الذين يحترمون البحث العلمي ))، أقول: التعويل على البحث العلمي بدون قيود وضوابط هي طريقة المستشرقين الذين لا يلتزمون بدين، وهي طريقة أيضاً مَن أُعجب بهم، وأمَّا البحث العلمي في الإسلام، فيكون في حدود النصوص الشرعية وعلى وفق فهم السلف لها.(6/124)
الثاني: مسألة عدالة الصحابة اتَّفق عليها السلف، قال ابن عبد البر في التمهيد (22/47): (( ولا فرق بين أن يُسمِّي التابعُ الصاحبَ الذي حدَّثه أو لا يُسميه في وجوب العمل بحديثه؛ لأنَّ الصحابةَ كلَّهم عدولٌ مرضيُّون ثقاتٌ أثباتٌ، وهذا أمر مجتمعٌ عليه عند أهل العلم بالحديث )).
وقال القرطبي في تفسيره (16/299): (( فالصحابة كلُّهم عدولٌ، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخِيرتُه من خلقه بعد أنبيائه ورسله، هذا مذهب أهل السنَّة والذي عليه الجماعة من أئمَّة هذه الأمَّة، وقد ذهبت شِرذمةٌ لا مبالاة بهم إلى أنَّ حالَ الصحابة كحال غيرهم، فيلزم البحث عن عدالتهم!! )).
وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/17): (( واتَّفق أهلُ السنَّة على أنَّ الجميعَ عدولٌ، ولَم يخالف في ذلك إلاَّ شذوذ من المبتدعة )).
وقد أشار السيوطي في تدريب الراوي (ص:400) إلى هؤلاء الشذوذ من المبتدعة، فقال: (( وقالت المعتزلة: عدول إلاَّ من قاتل عليًّا ))، وبهذا يتبيَّن سلفُ المالكي!
وقال أبو عمرو بن الصلاح في علوم الحديث (ص:264): (( للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي أنَّه لا يُسأل عن عدالة أحدٍ منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه؛ لكونهم على الإطلاق معدَّلين بنصوص الكتاب والسنَّة وإجماع مَن يُعتدُّ به في الإجماع من الأمَّة ... )) إلى أن قال: (ص:265):
(( ثمَّ إنَّ الأمَّةَ مجمعةٌ على تعديلِ جميع الصحابة، ومَن لابس الفتنَ منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يُعتدُّ بهم في الإجماع؛ إحساناً للظَّنِّ بهم، ونظراً إلى ما تمهّد لهم من المآثر، وكأنَّ الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماعَ على ذلك لكونهم نقلة الشريعة، والله أعلم )).
وقال النووي في شرحه على مسلم (15/149): (( ولهذا اتَّفق أهلُ الحقِّ ومن يُعتدُّ به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم، رضي الله عنهم أجمعين )).(6/125)
الثالث: ما جاء من نصوص في أهل بدر وأهل بيعة الرضوان والمهاجرين والأنصار فهي دالَّةٌ على فضل هؤلاء وتعديلهم، وما جاء من نصوص عامَّة في الصحابة فهي تدلُّ على فضل جميع الصحابة وتعديلهم، وماجاء من نصوص في فضل هذه الأمَّة فأصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - داخلون فيها دخولاً أوَّلياًّ، هذه طريقةُ أهل السنَّة والجماعة، بخلاف غيرهم من أهل الأهواء والبدع، الذين ابتُلوا بعدم سلامة القلوب والألسنة في حقِّ كثيرٍ من الصحابة رضي الله عنهم.
الرابع: ما ذكره من الاعتراض على أهل السنة من تعديلهم للصحابة على العموم والبحث في عدالة غيرهم، وقوله: إنَّهم لو كانوا كذلك لاكتفى بشاهدٍ واحدٍ منهم في الزنا وغيره.
أقول: هذا الذي ذكره مكابرةٌ كما وصفه هو نفسه بذلك، وأهلُ السنة يقولون: إنَّ التشريعَ عامٌّ للصحابة وغيرهم، لكن الصحابةُ لا يحتاجون إلى تعديل المعَدِّلين، بعد ثناء الله عزَّ وجلَّ وثناء رسولِه - صلى الله عليه وسلم - عليهم، بخلاف غيرهم، وليس في القرآن آيةٌ باللفظ الذي ذكره، وهو قولُه: (وليشهد به ذوا عدل منكم).
الخامس: ما ذكره من إنكار التفريق بين الصحابة وغيرهم في الرواية، في قوله: (( لماذا تُفرِّقون أنتم في الرواية بين الصحابيِّ وغير الصحابيِّ فلا تبحثون عن عدالة الصحابيِّ، تبحثون عن عدالة التابعي؟! بأيِّ دليلٍ من شرعٍ أو عقلٍ يبيح لكم هذا التفريق؟! ))، يجاب عنه بوجهين:(6/126)
الأول: أنَّ المعَوَّل على كلامهم في هذا التفريق بين الصحابة وغيرهم هم أهل السنة والجماعة المتَّبعون لنصوص الكتاب والسنَّة، وليس أهل البدع والأهواء، وقال الخطيب البغدادي في الكفاية (ص: 46): (( كلُّ حديثٍ اتَّصل إسنادُه بين من رواه وبين النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَم يلزم العمل به إلاَّ بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظرُ في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّ عدالَةَ الصحابة ثابتةٌ معلومةٌ بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن )) ثمَّ ذكر الآيات والأحاديث في ذلك.
ونقل الخطيب في (ص: 415) عن أبي بكر الأثرم قال: قلتُ لأبي
عبد الله يعني أحمد بن حنبل: (( إذا قال رجلٌ من التابعين: حدَّثني رجلٌ من أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فالحديثُ صحيحٌ؟ قال: نعم! )).
ونقل أيضاً عن الحسين بن إدريس قال: (( وسألتُه يعني محمد بن عبد الله بن عمار: إذا كان الحديثُ عن رجلٍ من أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أيكون ذلك حجَّة؟ قال: نعم! وإن لَم يسمِّه؛ فإنَّ جميعَ أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كلّهم حجّة )).
الثاني: أنَّ دواوينَ السنَّة صحاحها وجوامعها وسننها ومسانيدها ومعاجمها وغير ذلك مشتملةٌ على الرواية عن الصحابة على الإبهام، وما ثبت بالإسناد إليهم فهو حجَّةٌ عند أهل السنَّة، ولا تؤثِّر جهالتُهم؛ لأنَّ المجهول منهم في حكم المعلوم.
وما كان في كتب أصحاب الكتب الستة من ذلك أورده المزي في تحفة الأشراف (11/123 ـ 240)، وقال في أوَّله: (( فصل: ومن مسند جماعةٍ من الصحابة روي عنهم فلم يُسمَّوْا، رتَّبنا أحاديثهم على ترتيب أسماء الرواة عنهم ))، وفيهم مَن روايتُه في صحيح البخاري وصحيح مسلم، وكذا ذكر المزّي المبهمات من الصحابيات مرتِّباً أحاديثهنَّ على ترتيب أسماء الرواة عنهنَّ في (13/111 ـ 129).(6/127)
السادس: ما أورده من آياتٍ فيها ذمٌّ عامٌّ للصحابة بزعمه، منها آياتٌ في المنافقين، كآية {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّة ...}الآية، كما في تفسير الشوكاني، وكآية {وَمِنْهُم مَنْ عَاهَدَ الله ...} الآية، كما في تفسير ابن كثير.
السابع: قوله (ص:63): (( ومن الأحاديث في الذمِّ العامِّ: قول النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث الحوض في ذهاب أفواجٍ من أصحابه إلى النَّار، فيقول النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (أصحابي! أصحابي! فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك)، الحديث متفق عليه، وفي بعض ألفاظه في البخاري: (فلا أرى ينجو منكم إلاَّ مثل همل النعم).
فيأتي المعارِض للثناء العام بهذا الذمِّ العامِّ، ويقول: كيف تجعلون للصحابة ميزةً وقد أخبر النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لا ينجو منهم إلاَّ القليلُ، وأنَّ البقيَّةَ يؤخذون إلى النَّار ؟! )).
وقال عن هذا الحديث أيضاً (ص:64): (( كما أخبر النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لا ينجو من أصحابه يوم القيامة إلاَّ القليلُ (مثل همل النعم)، كما ثبت في صحيح البخاري ـ كتاب الرقاق )).
ويُجابُ عنه بأنَّ لفظَ الحديث في صحيح البخاري في كتاب الرقاق (6587) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (( بينا أنا نائمٌ فإذا زمرةٌ، حتى إذا عرفتُهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم، فقال: هلمَّ، فقلتُ: أين؟ قال: إلى النار والله! قلت: وماشأنُهم؟ قال: إنَّهم ارتدُّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثمَّ إذا زمرةٌ، حتى إذا عرفتُهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم، فقال: هلمَّ، قلتُ: أين؟ قال: إلى النار والله! قلت: ماشأنُهم؟ قال: إنَّهم ارتدُّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أُراه يخْلُصُ منهم إلاَّ مثل همل النعم )).(6/128)
قال الحافظ في شرحه: (( قوله: (بينا أنا نائمٌ) كذا بالنون للأكثر، وللكشميهني (قائم) بالقاف، وهو أوجه، والمراد به قيامُه على الحوض يوم القيامة، وتوجه الأولى بأنَّه رأى في المنام في الدنيا ما سيقع له في الآخرة ))، وقال أيضاً: (( قوله: (فلا أُراه يخْلُصُ منهم إلاَّ مثل همل النعم) يعني من هؤلاء الذين دَنَوْا من الحوض وكادوا يَرِدونه فصُدُّوا عنه ))، وقال أيضاً:
(( والمعنى أنَّه لا يرِدُه منهم إلاَّ القليل؛ لأنَّ الهمل في الإبل قليلٌ بالنسبة
لغيره )).
واللفظُ الذي ورد في الحديث: (( فلا أُراه يخْلُصُ منهم إلاَّ مثل همل النعم )) أي من الزمرتين المذكورتين في الحديث، وهو لا يدلُّ على أنَّ الذين عُرضوا عليه هاتان الزمرتان فقط، والمالكي أورد لفظ الحديث على لفظ خاطئ لَم يرد في الحديث، وبناءً عليه حكم على الصحابة حكماً عاماًّ خاطئاً، فقال فيه: (( وفي بعض ألفاظه في البخاري: (فلا أرى ينجو منكم إلاَّ مثل همل النعم)، فجاء بلفظ (( منكم )) على الخطاب بدل (( منهم ))، وبناءً عليه قال: ((كيف تجعلون للصحابة ميزة وقد أخبر النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لا ينجو منهم إلاَّ القليل، وأمَّا البقية يُؤخذون إلى النار ))، وقال: (( كما أخبر النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لا ينجو من أصحابه يوم القيامة إلاَّ القليل (مثل همل النعم)، كما ثبت في صحيح البخاري ـ كتاب الرقاق!! ))، وهذا كذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنَّه لَم يُخبر أنَّ أصحابَه لَم يَنْجُ منهم إلاَّ القليل، ولعل هذا الذي وقع من المالكي حصل خطأً لا عمداً.(6/129)
وأمَّا ما جاء في بعض الأحاديث مِن أنَّه يُذاد عن حوضه أُناسٌ من أصحابه، وأنَّه يقول (( أصحابي! )) وفي بعض الألفاظ (( أُصيْحابي! ))، فيُقال: (( إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ))، فهو محمولٌ على القلَّة التي ارتدَّت منهم بعد وفاة النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقُتِلوا في ردَّتِهم على أيدي الجيوش المظفرة التي بعثها أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وبعضُ أهل الأهواء والبدع يَحملون هذه الأحاديث على ارتداد الصحابة بعد وفاة النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ نفراً يسيراً منهم، وكلام المالكي الذي قال فيه: إنَّه لا ينجو منهم إلاَّ القليل وأنَّ البقيَّةَ يُؤخذون إلى النار شبيهٌ بكلامهم، والحقيقة أنَّ هذه الفرقة الضالَّة الحاقدة على الصحابة وهم الرافضة هي الجديرة بالذَّوْد عن الحوض؛ لعدم وجود سِيمَا التحجيلِ فيها التي جاءت في الحديث في الصحيحين، وهو عند البخاري (136) من حديث أبي هريرة مرفوعاً: (( إنَّ أمَّتِي يُدعَون يوم القيامة غُرًّا مُحَجَّلين
من آثار الوضوء ))، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: (( ويلٌ للأعقاب من النار )) أخرجه البخاري (165) ومسلم (242)، ولم أجد في الصحيحين التعبير بذهاب أفواج من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النار، كما زعم المالكي، وقد تقدَّم للمالكي أنَّه أخرج كلَّ مَن أسلم وصحب النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعد الحُديبية إلى حين وفاته - صلى الله عليه وسلم -، أخرجهم من أن يكونوا صحابة، وأنَّ الصحابةَ عنده وعند قدوته الحكمي هم المهاجرون والأنصار قبل الحديبية فقط، فعلى قوله هنا أنَّه لَم يَنْجُ من الصحابة إلاَّ القليل مثل همل النعم، وأنَّ البقية يؤمر بهم إلى النار، لا ينجو من المهاجرين والأنصار إلاَّ القليل مثل همل النعم!(6/130)
الثامن: أنَّ قولَ أهل السنَّة والجماعة بعدالة الصحابة لا يعنِي عصمتهم؛ لأنَّ العصمةَ عندهم لا تكون إلاَّ للرُّسُل والأنبياء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية (ص:28): (( وهم مع ذلك (يعنِي أهل السنة والجماعة) لا يعتقدون أنَّ كلَّ واحدٍ من الصحابة معصومٌ عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السَّوابِق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنَّهم يُغفر لهم من السيِّئات ما لا يُغفر لِمَن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّهم خير القرون، وأنَّ المُدَّ من أحدِهم إذا تصدَّق به كان أفضلَ من جبل أُحُد ذهباً مِمَّن بعدهم، ثمَّ إذا كان قد صدر عن أحدٍ منهم ذنبٌ فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غُفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي هم أحقُّ الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفِّر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المُحقَّقة فكيف الأمور التي كانوا فيها مُجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور.
ثمَّ القدر الذي يُنكَر من فِعل بعضِهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنِهم من الإيمان ?الله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنُّصرة والعلم النافع والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلمٍ وبصيرةٍ وما منَّ الله عليهم من الفضائل علِمَ يقيناً أنَّهم خيرُ الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنَّهم الصَّفوةُ من قرون هذه الأمَّة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله )).(6/131)
التاسع: إنَّ قولَ أهل السنَّة بتعديل الصحابة، كما أنَّه مستندٌ إلى نصوص من الكتاب والسُّنَّة، فهو مَبنِيٌّ على حُسن الظنِّ بهم، ومن أحسن الظنَّ بهم فهو مأجور، والقول بخلاف ذلك مَبنِيٌّ على إساءة الظنِّ بهم، ومَن أساء الظنَّ بهم فهو آثمٌ، قال بَكر بن عبد الله المُزني، كما في ترجمته في تهذيب التهذيب لابن حجر: (( إيَّاك من الكلام ما إن أصبتَ فيه لَم تُؤجَر، وإن أخطأت فيه أثمتَ، وهو سوء الظنِّ بأخيك )).
وإذا كان هذا في آحاد الناس، فإنَّه في حقِّ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشدُّ وأعظم.
وفي ختام هذا الردِّ على المالكي، أقول: إنَّ جُلَّ كلامه المردود عليه من كتابه في الصحابة، وأمَّا كتابُه (( قراءةٌ في كتب العقائد )) المشتمل على تخبُّط وتخليط في العقيدة، فلم أنقل عنه في هذه الرسالة للردِّ عليه إلاَّ في موضعين في تشكيكه في أحقِّيَّة أبي بكر بالخلافة، وفي إشادته بأهل البدع ونيله من علماء أهل السنة وكتبهم على مختلف العصور.
* * *
آثارٌ في توقير الصحابة وبيان خطرِ النَّيل من أحدٍ منهم:
وبعد أن أوردتُ كارهاً مضطراًّ كلماتٍ للمالكي في الصحابة الأخيار مظلمةً مُحزنةً موحشةً، فإنِّي أورد كلماتٍ فيهم لبعض أهل العلم مشرقةً مضيئةً، سارَّةً مؤنسةً، وجلُّها مثبتٌ في كتابي (( من أقوال المنصفين في الصحابي الخليفة معاوية رضي الله عنه )).
الإمام مالك بن أنس (179هـ) رحمه الله:(6/132)
قال البغوي في شرح السنة (1/229): (( قال مالك: مَن يبغض أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان في قلبه عليه غِلٌّ فليس له حقٌّ في فَيءِ المسلمين، ثم قرأ قولَه سبحانه وتعالى:{مَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى} إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} الآية، وذُكر بين يديه رجلٌ ينتقص أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ مالكٌ هذه الآية {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}، ثم قال: مَن أصبح من الناس في قلبه غِلٌّ على أحدٍ من أصحاب النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقد أصابته هذه الآية )).
الإمام أحمد بن حنبل (241هـ) رحمه الله:
قال في كتابه السنة: (( ومن السنَّة ذكرُ محاسن أصحاب رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - كلِّهم أجمعين، والكفّ عن الذي جرى بينهم، فمَن سبَّ أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو وأحداً منهم فهو مبتدعٌ رافضيٌّ، حبُّهم سنَّةٌ والدعاءُ لهم قربةٌ والاقتداءُ بهم وسيلةٌ والأخذُ بآثارهم فضيلةٌ )).
وقال: (( لا يجوز لأحدٍ أن يذكر شيئاً من مساوئهم ولا يطعن على أحدٍ منهم فمَن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبُه وعقوبتُه ليس له أن يعفوَ عنه بل يعاقبُه ثمَّ يستتيبُه فإن تاب قبِلَ منه وإن لَم يتب أعاد عليه العقوبة وخلَّده في الحبس حتى يتوب ويراجع )).
الإمام أبوزرعة الرازي (264هـ) رحمه الله:(6/133)
روى الخطيبُ البغدادي في كتابه الكفاية (ص:49) بإسناده إليه قال: (( إذا رأيت الرجلَ ينتقصُ أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنَّه زنديقٌ؛ وذلك أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندنا حقٌّ والقرآن حقٌّ، وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرآنَ والسننَ أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنَّما يريدون أن يجرحوا شهودَنا ليُبطلوا الكتاب والسنة، والجرحُ بهم أولى وهم زنادقةٌ )).
الإمام أبوجعفر الطحاوي (322هـ) رحمه الله:
قال في عقيدة أهل السنة والجماعة: (( ونحبُّ أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نفرط في حبِّ أحدٍ منهم، ولا نتبرَّأ من أحدٍ منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلاَّ بخيرٍ، وحبُّهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، وبغضُهم كفرٌ ونفاقٌ وطغيانٌ )).
الإمام ابن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (327هـ) رحمه الله:
قال في كتابه الجرح والتعديل (1/87): (( فأمَّا أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم الذين شهدوا الوحيَ والتنزيلَ، وعرفوا التفسيرَ والتأويلَ، وهم الذين اختارهم الله عزَّ وجلَّ لصحبة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ونصرتِه وإقامةِ دينه وإظهارِ حقِّه، فرضيهم له صحابةً، وجعلهم لنا أعلاماً وقدوةً، فحفظوا عنه - صلى الله عليه وسلم - ما بلَّغهم عن الله عزَّ وجلَّ، وما سنَّ وشرع وحكم وقضى وندب وأمر ونهى وحظر وأدّب، ووعَوْه وأتقنوه، ففقهوا في الدين، وعلموا أمرَ الله ونهيه ومراده بمعاينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومشاهدتهم منه تفسيرَ الكتاب وتأويله، وتلقّفهم منه واستنباطهم عنه، فشرَّفهم الله عزَّ وجلَّ بما مَنَّ عليهم وأكرمهم به من وضعه إيَّاهم موضع القدوة ))، إلى أن قال: (( فكانوا عدولَ الأمَّة وأئمَّةَ الهدى وحججَ الدِّين ونقلةَ الكتاب والسنة.(6/134)
وندب الله عزَّ وجلَّ إلى التمسُّك بهديهم والجري على منهاجهم والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم، فقال: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية.
ووجدنا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد حضَّ على التبليغ عنه في أخبار كثيرة، ووجدناه يخاطبُ أصحابَه فيها، منها أن دعا لهم فقال: (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فحفظها ووعاها حتّى يبلِّغها غيرَه)، وقال - صلى الله عليه وسلم - في خطبته: (فليبلِّغ الشّاهدُ منكم الغائبَ)، وقال: (بلِّغوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج).
ثمَّ تفرَّقت الصحابةُ رضي الله عنهم في النَّواحي والأمصار والثغور، وفي فتوح البلدان والمغازي والإمارة والقضاء والأحكام، فبثَّ كلُّ واحدٍ منهم في ناحيته وبالبلد الذي هو به ما وعاه وحفظه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحكموا بحكم الله عزَّ وجلَّ وأمضوا الأمور على ما سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأفتوا فيما سُئلوا عنه مِمَّا حضرهم من جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظائرها من المسائل، وجرّدوا أنفسهم مع تقدمة حسن النيّة والقربة إلى الله تقدّس اسمُه، لتعليم الناس الفرائض والأحكام والسنن والحلال والحرام، حتّى قبضهم الله عزَّ وجلَّ رضوانُ الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين )).
الإمام ابن ابن أبي زيد القيرواني (386هـ) رحمه الله:(6/135)
قال في مقدَّمة رسالته:(( وأنَّ خيرَ القرون القرنُ الذين رأوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا به، ثمَّ الذين يلونهم، ثمَّ الذين يلونهم، وأفضل الصحابة الخلفاءُ الراشدون المهديّون: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان،ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، وأن لا يُذكر أحدٌ من صحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ بأحسن ذكرٍ، والإمساك عمَّا شجر بينهم، وأنَّهم أحقُّ الناس أن يُلتمس لهم أحسن المخارج، ويُظنَّ بهم أحسنَ المذاهب )).
الإمام أبوعثمان الصابوني (449هـ) رحمه الله:
قال في كتابه عقيدة السلف وأصحاب الحديث: (( ويَرون الكفَّ عمَّا شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمَّن عيباً لهم أو نقصاً فيهم ويرون التَّرحُّم على جميعهم والموالاة لكافَّتهم )).
الإمام أبو المظفَّر السمعاني (489هـ) رحمه الله:
نقل الحافظ في الفتح (4/365) عنه أنَّه قال: (( التعرُّضُ إلى جانب الصحابة علامةٌ على خذلان فاعله، بل هو بدعةٌ وضلالةٌ )).
شيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ) رحمه الله:(6/136)
قال في كتابه العقيدة الواسطية: (( ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما وصفهم الله في قوله: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}، وطاعة للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنَّ أحدَكم أنفق مثلَ أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه) إلى أن قال: ويتبرَّءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبّونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهلَ البيت بقول أوعملٍ، ويُمسكون عمَّا جرى بين الصحابة، ويقولون إنَّ هذه الآثار المرويّة في مساوئهم منها ما هو كذبٌ ومنها ما قد زِيد فيه ونُقص وغُيِّر عن وجهه، والصحيحُ منه هم فيه معذورون إمَّا مجتهدون مصيبون وإمَّا مجتهدون مخطئون )).
وقد مرَّ ذِكرُ بقيَّة كلامه في عدالة الصحابة قريباً.
الحافظ ابن كثير (774هـ) رحمه الله:(6/137)
قال في تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} الآية قال: (( فقد أخبر الله العظيم أنَّه قد رضي عن السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان، فيا ويلَ مَن أبغضَهم أو سبَّهم أو أبغضَ أو سبَّ بعضَهم ولا سِيَما سيِّدُ الصحابة بعد الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - وخيرُهم وأفضلُهم أعني الصِّديقَ الأكبرَ والخليفةَ الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه، فإنَّ الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضلَ الصحابة، ويبغضونهم ويسبُّونهم عياذاً بالله من ذلك، وهذا يدلُّ على أنَّ عقولَهم معكوسةٌ وقلوبَهم منكوسةٌ، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون مَن رضي الله عنهم، وأمَّا أهلُ السنة فإنَّهم يترَضَّوْن عمَّن رضي الله عنه ويسبون من سبَّه الله ورسولُه ويوالون من يوالي الله ويعادون من يعادي الله، وهم متَّبعون لا مبتدعون ويقتدون ولا يبتدون، ولهذا هم حزبُ الله المفلحون وعبادُه المؤمنون )).
الشيخ ابن أبي العزّ الحنفي (792هـ) رحمه الله:
قال في شرح الطحاوية (ص:469): (( فمن أضلُّ مِمَّن يكون في قلبه غلٌّ على خيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيِّين، بل قد فضَلهم اليهودُ والنصارى بخصلة، قيل لليهود مَن خيرُ أهل ملَّتكم؟ قالوا: أصحابُ موسى، وقيل للنصارى: من خير أهل ملَّتكم؟ فقالوا: أصحابُ عيسى، وقيل للرافضة:من شرُّ أهل ملَّتكم؟ فقالوا: أصحابُ محمد، ولم يستثنوا منهم إلاَّ القليل، وفيمن سبّوهم من هو خير مِمَّن استثنوهم بأضعافٍ مضاعفةٍ )).
وهذا المعنى جاء في شعر أحد علمائهم بين القرن الثاني عشر والثالث عشر الهجري، وهو كاظم الأزري، فقال:
أهم خير أمة أخرجت للنا ... س هيهات ذاك بل أشقاها!!!(6/138)
وقفتُ عليه في نقد الأستاذ محمود الملاح لقصيدته الأزرية المطبوع بعنوان: (( الرزيّة في القصيدة الأزرية )) (ص:51).
وما جاء في هذا البيت غايةٌ في الجفاء والخبث، ومثله في الغلوِّ في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه والجفاء في الصحابة قوله (ص:45):
أَنَبِيٌّ بلا وَصِيٍّ؟!! تعالى اللـ ـه عمَّا يقوله سفهاها!!!
ومن غلوِّه في علي رضي الله عنه قوله كما في (ص:34):
وهو الآيةُ المحيطة في الكو ن ففي عين كل شيء تراها!!!
وقوله كما في (ص:36):
ورأت قسوراً لو اعترضته الـ إنسُ والجنُّ في وغى أفناها!!!
والبيتان الأخيران يصدق عليهما الوصف المشهور: يُضحك النمل في قراها، والنحل في خلاياها!
الحافظ ابن حجر العسقلاني (852هـ) رحمه الله:
قال في كتابه فتح الباري (13/34): (( واتّفق أهلُ السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من حروبٍ ولو عُرف المحقُّ منهم؛ لأنَّهم لَم يقاتلوا في تلك الحروب إلاَّ عن اجتهادٍ وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد بل ثبت أنَّه يؤجر أجراً واحداً وأنَّ المصيبَ يؤجر أجرين )).
الشيخ يحيى بن أبي بكر العامري (893هـ) رحمه الله:
قال في كتابه الرياض المستطابة في من له روايةٌ في الصحيحين من الصحابة (ص:311): (( وينبغي لكلِّ صيِّنٍ متديِّنٍ مسامحة الصحابة فيما صدر بينهم من التشاجر والاعتذار عن مخطئهم وطلب المخارج الحسنة لهم وتسلِيم صحة إجماع ما أجمعوا عليه على ما علموه، فهم أعلم بالحال، والحاضرُ يرى ما لا يرى الغائبُ، وطريقةُ العارفين الاعتذارُ عن المعائب، وطريقةُ المنافقين تتبُّعُ المثالب، وإذا كان اللاَّزمُ من طريقة الدين سترُ عورات المسلمين فكيف الظنُّ بصحابة خاتم النبيّين مع اعتبار قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسبُّوا أحداً من أصحابي)، وقوله: (من حُسْن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه) هذه طريقةُ صلحاء السلف وما سواها مهاوٍ وتلف )).
* * *(6/139)
آياتٌ وأحاديث في حفظ اللسان من الكلام إلاَّ في خير:
وقد رأيتُ من المناسب أن أورد هنا آياتٍ من كتاب الله وأحاديثَ من سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أهميّة حفظ اللسان من الكلام إلاَّ في الخير؛ وذلك نصيحة لنفسي وللمالكي ولِمَن شاء الله أن يطَّلع على هذه الرسالة، وأسأل الله للجميع التوفيقَ لِمَا تُحمد عاقبتُه في الدنيا والآخرة.
قال الله عزَّ وجلَّ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَحِيمٌ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيَانِ عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}، وفي صحيح مسلم (2589) عن أبي هريرة أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( أتدرون ما الغيبةُ؟ قالوا: الله ورسولُه أعلم، قال: ذكرُك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لَم يكن فيه فقد بهتَّه )).
وقال الله عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}.(6/140)
روى البخاري في صحيحه (10) عن عبد الله بن عمرو عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (( المسلمُ مَن سلم المسلمون من لسانه ويده ))، ورواه مسلم في صحيحه (64) أنَّ رجلاً سأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ المسلمين خيرٌ؟ قال:
(( مَن سلم المسلمون من لسانه ويده )).
وروى مسلمٌ أيضاً من حديث جابر (65) بلفظ حديث عبد الله بن عمرو عند البخاري.
أقول: ولا شكَّ أنَّ أولى المسلمين بالسلامة من اللسان ومن الكتابة باليد أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال الحافظ في شرح الحديث: (( والحديث عامٌّ بالنسبة إلى اللسان دون اليد؛ لأنَّ اللسانَ يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بعد، بخلاف اليد، نعم! يمكن أن تشارك اللسان في ذلك بالكتابة، وإنَّ أثرها في ذلك لعظيم )).
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
... كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
... فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
وروى البخاري في صحيحه (6474) عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( مَن يضمن لي ما بين لحْيَيْه وما بين رجليه أضمن له الجنَّة ))، المراد بِما بين اللّحْيَيْن والرِّجْلَين اللسانُ والفرْجُ.
وروى البخاري في صحيحه (6475) ومسلم في صحيحه (74) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )) الحديث.
قال الإمام أبو حاتم بن حبان البستي في كتابه روضةُ العقلاء ونزهة الفضلاء (ص:45): (( الواجبُ علىالعاقل أن يلزم الصمتَ إلى أن يلزمه التكلُّمُ، فما أكثرَ مَن ندم إذا نطق، وأقلَّ من يندم إذا سكت، وأطول الناس شقاءً وأعظمهم بلاءً من ابتُلي بلسانٍ مطلقٍ، وفؤادٍ مطبقٍ )).(6/141)
وقال أيضاً (ص:47): (( الواجبُ على العاقل أن يُنصف أذنيه من فيه، ويعلم أنَّه إنَّما جُعلت له أذنان وفم واحدٌ ليسمع أكثر مِمَّا يقول؛ لأنَّه إذا قال ربَّما ندم، وإن لَم يقل لَم يندم، وهو على ردِّ ما لَم يقل أقدر منه على ردِّ ما قال، والكلمةُ إذا تكلَّم بها ملكَتْه، وإن لَم يتكلَّم بها ملكها )).
وقال أيضاً في (ص:49): (( لسانُ العاقل يكون وراء قلبه، فإذا أراد القولَ رجع إلى القلب، فإن كان له قال، وإلاَّ فلا، والجاهلُ قلبُه في طرف لسانه، ما أتى على لسانه تكلَّم به، وما عقل دينَه من لَم يحفظ لسانه )).
وروى البخاري في صحيحه (6477) ومسلم في صحيحه (2988)، واللفظُ لمسلم عن أبي هريرة أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلمة ما يتبيَّن ما فيها، يهوي بها في النار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب )).
وفي آخر حديث وصيّة النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ أخرجه الترمذي (2616) وقال: (( حديثٌ حسنٌ صحيحٌ ))، قال - صلى الله عليه وسلم -: (( وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو على مناخِرهم إلاَّ حصائدُ ألسنتهم ))، قاله جواباً لقول معاذ رضي الله عنه: (( يا نبيَّ الله! وإنَّا لمؤاخذون بِمَا نتكلَّم به؟ )).
قال الحافظ ابن رجب في شرحه من كتابه جامع العلوم والحكم (1/147): (( والمرادُ بحصائد الألسنة: جزاءُ الكلام المحرَّم وعقوباته؛ فإنَّ الإنسانَ يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيِّئات، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع، فمَن زرع خيراً مِن قولٍ أو عملٍ حَصَد الكرامة، ومن رزع شراًّ من قولٍ أو عملٍ حصد غداً الندامة )).(6/142)
وروى مسلم في صحيحه (2581) عن أبي هريرة أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( أتدرون مَن المُفلِس؟ قالوا: المُفلِسُ فينا مَن لا دِرهم له ولا متاع، فقال: إنَّ المفلسَ من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيَتْ حسناتُه قَبْل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثمَّ طُرح في النار )).
وروى مسلم في صحيحه (2564) عن أبي هريرة رضي الله عنه حديثاً طويلاً جاء في آخره: (( بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرامٌ، دمُه ومالُه وعرضُه )).
وروى البخاري في صحيحه (1739) ومسلم في صحيحه واللفظُ للبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما (( أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناسَ يوم النحر، فقال: يا أيُّها الناس! أيُّ يومٍ هذا؟ قالوا: يومٌ حرامٌ، قال: أيُّ بلدٍ هذا؟ قالوا: بلدٌ حرامٌ، قال: فأيُّ شهرٍ هذا؟ قالوا: شهرٌ حرامٌ، قال: فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومِكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، فأعادها مراراً، ثم رفع رأسَه فقال: اللهمَّ هل بلَّغتُ؟ اللهمَّ هل بلَّغتُ؟ قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: فوالَّذي نفسي بيده! إنَّها لوصيَّتُه إلى أمَّته، فليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضُكم رقابَ بعض )).
وروى مسلم في صحيحه (2674) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( مَن دعا إلى هُدى كان له مِن الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومَن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً )).(6/143)
قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب (1/65) تعليقاً على حديث (( إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلاَّ من إحدى ثلاث ... )) الحديث، قال: (( وناسخ العلم النافع له أجره وأجر من قرأه أو نَسَخَه أو عمل به من بعده ما بقي خطُّه والعملُ به؛ لهذا الحديث وأمثاله، وناسخ غير النافع مِمَّا يوجب الإثمَ، عليه وزره ووزر مَن قَرَأَه أو نَسَخَه أو عمل به من بعده ما بقي خطُّه والعملُ به؛ لِمَا تقدم من الأحاديث (مَن سنَّ سُنَّةً حسنة أو سيِّئة)، والله أعلم )).
وروى البخاري في صحيحه (6502) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( إنَّ الله قال: مَن عادَى لِي وَلِياًّ فقدآذنتُه بالحرب )) الحديث.
وإذا كان هذا في وَلِيٍّ واحدٍ من آحاد الأولياء، فكيف بالكثيرين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين هم ساداتُ الأولياء رضي الله عنهم وأرضاهم.
* * *
وإلى هنا انتهت هذه الرسالة التي هي من أحبِّ كُتُبِي إلى نفسي، وأرجاها لي عند ربِّي؛ لِمَا تضَمَّنتْه من الدِّفاع عن الصحابة الأخيار والذَّبِّ عنهم، والحمد لله الذي مَنَّ عليَّ بِحُبِّهم، وبغض مَن يُبغضهم، وبغير الخير يَذكرُهم، ورضي الله عن أنس بن مالك خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أظهر فرحَ الصحابة الشديد لحديث (( المرء مع من أحبَّ )) فقال بعد روايته للحديث كما في صحيح البخاري (3688): (( فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنت مع من أحببتَ، قال أنس: فأنا أُحبُّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعُمر، وأرجو أن أكون معهم بِحُبِّي إيَّاهم، وإن لَم أعمل بمثل أعمالِهم ))، والحديث متواترٌ، ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره سورة الشورى، عند قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}.(6/144)
أقول: وأنا أُحبُّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا والحَسَن والحُسين وأمَّهما فاطمة وأمَّهات المؤمنين وأنس بنَ مالك قائل هذا الكلام وسائرَ الصحابة رضي الله عنهم، وأرجو أن أكون معهم بِحُبِّي إيَّاهم، وإن لَم أعمل بمثل أعمالِهم.
اللهمَّ إنَّك تعلمُ ما في قلبِي من الحبِّ للصحابةِ الأخيار والقرابة الأطهار، وتعلم سلامةَ لساني وقلبي مِمَّا لا يليق بهم، وتعلم أنَّ ما كتبتُه انتصارٌ لصحابةِ نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم وأرضاهم، اللهمَّ إنِّي أسألك بهذا الحبِّ والسلامة والانتصار أن تُثبِّتَنِي بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن تُحسِنَ عاقبَتِي في الأمور كلِّها، وتُجيرَنِي من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، وأن تدخلَنِي الجنَّة، وتُعيذَنِي من النار، ربِّ أوزِعنِي أن أشكر نعمتَك التي أنعمتَ عليَّ وعلى والِديَّ وأن أعمل صالِحاً ترضاه، وأدخلنِي برحمتِك في عبادك الصَّالحين، ربِّ أوزِعنِي أن أشكر نعمتَك التي أنعمتَ عليَّ وعلى والدَيَّ وأن أعمل صالِحاً ترضاه، وأَصلِح لي في ذُريَّتِي إنِّي تُبتُ إليك وإنِّي من المسلمين، اللهمَّ اغفر لي ولآبائي وأمَّهاتِي وأهلِي وأبنائي وبناتِي وإخوانِي وأخواتِي وأعمامي وعمَّاتي وأخوالِي وخالاتي وأصهاري وسائر أقربائي وشيوخي وأصدقائي وزملائي وتلاميذي وسائر المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنَّك سميعٌ مجيبُ الدَّعوات، ربَّنا آتنا من لدنك رحمةً وهيِّء لنا من أمرنا رشداً، ربَّنا لا تُزِغ قلوبَنا بعد إذ هديتَنا وهَب لنا من لدنك رحمة إنَّك أنت الوهَّاب، ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا ربَّنا إنَّك رؤوف رحيم، سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عمَّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربِّ العالمين.(6/145)
وكان الفراغ من تأليف هذه الرسالة صباح يوم الجمعة 27 شوال 1422هـ.(6/146)
الرد على الرافضة (الشيعة)
في اتهامهم الصحابة رضوان الله عليهم
وأهل السنة بتحريف القرآن الكريم
الشيخ ناصر بن حمد الفهد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن بعض حمقى الروافض ممن أضلهم الله أراد أن يتهم الصحابة وأهل السنة بأنهم حرفوا القرآن، وهذا كما قيل (رمتني بدائها وانسلت)، فأخذ يجمع بعض مرويات قراءات الصحابة رضوان الله عليهم مما يخالف ما عليه الرسم العثماني اليوم؛ وذلك نحو قراءة عمر وغيره لقوله تعالى (فاسعوا إلى ذكر الله) (فامضوا)، وبعض ما نقل عن أبي بن كعب في قراءة بعض الآيات وغيرها، وجعل هذا من باب تحريف القرآن !!.
ولا شك أن هذا القائل جمع بين الجهل بهذه القراءات وأصولها، وبين الافتراء على الصحابة، والجواب عليه من وجهين:
الأول: بيان المقصود بالتحريف.
والثاني: بيان قراءات الصحابة رضوان الله عليهم وأنها من باب الأحرف التي نزل بها القرآن.
الوجه الأول:
المقصود بالتحريف:
اعلم أنه ليس المقصود بالتحريف هو أن يُقرأ القرآن بحرف يختلف عن الحرف الموجود في المصحف الذي بين أيدينا، وذلك أن المصحف الذي بين أيدينا هو على حرفٍ واحدٍ من سبعة أحرفٍ نزل بها القرآن - كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى -، وإنما المقصود أن يزاد أو ينقص أو يُغيّر حرف من القرآن بغير حجة ولا برهان صحيح ولا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل يجعل فيه ما ليس منه كذباً وافتراء على الله، وهذا كزيادة الروافض في قوله تعالى (يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) فزادوا (ما أنزل إليك من ربك في علي)، وكزيادتهم في سورة الانشراح (وجعلنا علياً صهرك)، وكزيادتهم سورة الولاية وغيرها مما هو مثبت في دواوينهم.(7/1)
وتحريفهم للقرآن عليه شاهدان:
الأول: أنه مكذوب لا يستطيعون إثبات شيء منه بسند صحيح ولا ضعيف؛ لأن كتبهم لم تؤلف إلا في وقت متأخر.
الثاني: أنها حرفت المعنى واللفظ تبعاً لغلوهم و عقائدهم الباطلة في علي رضي الله عنه.
والتحريف للقرآن نوعان:
الأول: تحريف اللفظ: وهو أن يغيّر اللفظ ويبدّل من غير حجة كما سبق.
الثاني: تحريف المعنى: وهو أن يفسّر اللفظ على معنى باطل غير مقصودٍ.
والتحريف بنوعيه عند الروافض:
فالأول: نحو الأمثلة التي سقناها سابقاً.
والثاني: نحو تفسيرهم قوله تعالى (بإمام مبين) أنه علي، وتفسيرهم (البقرة) بأنها عائشة، وغيرها من حماقاتهم.
والوجه الثاني:
بيان قراءات الصحابة رضوان الله عليهم وأنها من باب الأحرف التي نزل بها القرآن.(7/2)
اعلم أن القرآن قد أنزله الله سبحانه وتعالى على سبعة أحرف، فقد تختلف بعض الأحرف من قراءة صحابي لآخر، وتكون من إقراء النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وهي من الأحرف التي نزل بها القرآن، إلا أن المعنى لا يتناقض، وذلك نحو قراءة عمر وغيره لآية الجمعة (فامضوا إلى ذكر الله)، وقراءة أبي بن كعب وغيره لآية الليل (والذكر والأنثى)، وقراءة ابن مسعود لآية الكفارة (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)، وقراءة عائشة لآية الصلاة الوسطي (حافظا على الصلوات والصلاة الوسطي صلاة العصر)، وغيرها، والأدلة على أن هذه القراءات هي من الأحرف التي نزل بها القرآن كثيرة، وسوف أذكر الأحاديث التي تبين ذلك ثم أنقل من كلام أهل العلم ما تيسر:
فقد ثبت في الصحيحين عن عروة بن الزبير أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد القاري حدثاه: أنهما سمعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:
سمعت هشام بن حكيم يقرأ (سورة الفرقان) في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروفٍ كثيرةٍ لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلبّبته بردائه.
فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ ؟.
قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت: كذبت فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها خلاف ما قرأت.
فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروفٍ لم تقرئنيها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله، اقرأ يا هشام.
فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك أنزلت.
ثم قال: اقرأ يا عمر. فقرأت القراءة التي أقرأني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه.
وثبت أيضاً في الصحيحين عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله(7/3)
عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(أقرأني جبريل على حرف، فلم أزل أستزيده حتى انتهى إلى سبعة أحرف).
وثبت في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بن كعب قال:
كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه. فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه.
فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرءا فحسّن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما، فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقاً وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقاً.
فقال لي: يا أبي، أرسل إلّي أن اقرأ القرآن على حرف. فرددت إليه: أن هوّن على أمتي. فرد إليّ الثانية: اقرأه على حرفين. فرددت إليه: أن هوّن على أمتي. فرد إليّ الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف. فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها. فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
وقد قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى في معنى (الأحرف) (التمهيد) لابن عبد البر 8 / 281:
(وقالوا إنما معنى السبعة الأحرف: سبعة أوجه من المعاني المتفقة المتقاربة بألفاظ مختلفة؛ نحو: أقبل وتعال وهلم، وعلى هذا الكثير من أهل العلم.
فأما الآثار المرفوعة فمنها - وساق بسنده- :
أن أبا جهيم الأنصاري قال: إن رجلين اختلفا في آية من القرآن، فقال أحدهما: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الآخر: تلقيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: إن القرآن نزل على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن، فإن المراء فيه كفر.
-وساق بسنده- عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(7/4)
أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهر وبطن ولكل حد ومطلع.
وروى حماد بن سلمة قال: أخبرني حميد عن أنس عن عبادة بن الصامت عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف.
وروى همام بن يحيى عن قتادة عن يحيى بن يعمر عن سليمان بن صرد عن أبي بن كعب قال: قرأ أبي آية، وقرأ ابن مسعود آية خلافها، وقرأ رجل آخر خلافهما، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم.
فقلت: ألم تقرأ آية كذا وكذا كذا وكذا ؟.
وقال ابن مسعود: ألم تقرأ آية كذا وكذا كذا وكذا ؟.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلكم محسن مجمل.
قال: قلت: ما كلنا أحسن ولا أجمل.
قال: فضرب صدري، وقال: يا أبي، إني أقرئت القرآن. فقيل: على حرف أو حرفين ؟. فقال لي الملك الذي عندي: على حرفين. فقلت: على حرفين. فقيل: على حرفين أو ثلاثة ؟ فقال الملك الذي معي: على ثلاثة. فقلت: على ثلاثة. هكذا حتى بلغ سبعة أحرف، ليس منها إلا شاف كاف قلت: غفوراً رحيماً، أو قلت: سميعاً حكيماً، أو قلت: عليماً حكيماً، أو عزيزاً حكيماً، أي ذلك قلت فإنه كما قلت.
وزاد بعضهم في هذا الحديث: ما لم تختم عذاباً برحمة، أو رحمة بعذاب.
قال أبو عمر -أي ابن عبد البر -: أما قوله في هذا الحديث قلت: سميعاً عليماً وغفوراً رحيماً وعليماً حكيماً ونحو ذلك؛ فإنما أراد به ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها أنها معان متفق مفهومها مختلف مسموعها، لا تكون في شيء منها معنى وضده، ولا وجه يخالف وجهاً خلافا ينفيه أو يضاده، كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده وما أشبه ذلك. وهذا كله يعضد قول من قال أن معنى السبعة الأحرف المذكورة في الحديث سبعة أوجه من الكلام المتفق معناه المختلف لفظه؛ نحو: هلم وتعال، وعجل وأسرع، وانظر وأخر، ونحو ذلك، وسنورد من الآثار وأقوال علماء الأمصار في هذا الباب ما يتبين لك به أن ما اخترناه هو الصواب فيه إن شاء الله - ثم سرد ما ذكر فراجعه في التمهيد-(7/5)
).
وقال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الأحرف (تفسير القرطبي) 1 / 42:
(الذي عليه أكثر أهل العلم: كسفيان بن عيينة وعبد الله بن وهب والطبري و الطحاوي وغيرهم:
أن المراد: سبعة أوجه في المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة؛ نحو: أقبل وتعال وهلم.
قال الطحاوي: وأبين ما ذكر في ذلك حديث أبي بكرة قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ على حرف. فقال ميكائيل: استزده. فقال: اقرأ على حرفين. فقال ميكائيل: استزده. حتى بلغ إلى سبعة أحرف. فقال: اقرأ، فكل شاف كاف، إلا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة. على نحو: هلم وتعال وأقبل، واذهب وأسرع وعجل. وروى ورقاء عن ابن أبي نجيح عم مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب: أنه كان يقرأ (للذين آمنوا انظرونا ) ( للذين آمنوا أمهلونا) (للذين آمنوا أخرونا) (للذين آمنوا ارقبونا). وبهذا الإسناد عن أبي: أنه كان يقرأ (كلما أضاء لهم مشوا فيه) (مروا فيه) (سعوا فيه).
وفي البخاري ومسلم قال الزهري: إنما هذه الأحرف في الأمر الواحد، ليس يختلف في حلال ولا حرام.
قال الطحاوي: إنما كانت السعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن لأنهم كانوا أميين لا يكتب إلا القليل منهم، … فوسع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقاً، فكانوا كذلك حتى كثر منهم من يكتب وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدروا بذلك على تحفظ ألفاظه، فلم يسعهم حينئذ أن يقرءوا بخلافها.
قال ابن عبدالبر: فبان بهذا أن تلك السبعة الأحرف إنما كان في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك ثم ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف وعاد ما يقرأ به القرآن على حرف واحد.
روى أبو داود عن أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبي، إني أقرئت القرآن، فقيل لي: على حرف أو حرفين ؟. فقال الملك الذي معي: قل على حرفين. فقيل لي: على حرفين أو ثلاثة؟ فقال الملك الذي معي: قل على(7/6)
ثلاثة. حتى بلغ سبعة أحرف. ثم قال: ليس منها إلا شاف كاف إن قلت: سميعاً عليماً عزيزاً حكيماً، ما لم تخلط آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب.
وأسند ثابت بن قاسم نحو هذا الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر من كلام ابن مسعود نحوه.)
وقد تكلم شيخ الإسلام على هذا بكلام شاف كاف لمن أراد الحق، فقال رحمه الله تعالى (مجموع الفتاوى) 13/389 وما بعدها جواباً على سؤال عن قول النبي صلى الله عليه وسلم ( أنزل القرآن على سبعة أحرف):
ما المراد بهذه السبعة ؟.
وهل هذه القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم وغيرهما هي الأحرف السبعة ؟
أو واحد منها ؟.
وما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف؟.
وهل تجوز القراءة برواية الأعمش وابن محيصن وغيرهما من القراءات الشاذة أم لا ؟.
وإذا جازت القراءة بها فهل تجوز الصلاة بها أم لا ؟.(7/7)
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين:
هذه مسألة كبيرة قد تكلم فيها أصناف العلماء من الفقهاء والقراء وأهل الحديث والتفسير والكلام وشرح الغريب وغيرهم، حتى صنف فيها التصنيف المفرد،..ولكن نذكر النكت الجامعة التي تنبه على المقصود بالجواب، فنقول:
لا نزاع بين العلماء المعتبرين أن الأحرف السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها ليست هي قراءات القراء السبعة المشهورة بل، أول من جمع قراءات هؤلاء هو الإمام أبو بكر بن مجاهد وكان على رأس المائة الثالثة ببغداد، …
إلى أن قال: ولا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده، بل قد يكون معناها متفقاً أو متقارباً، كما قال عبد الله بن مسعود: إنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال.
وقد يكون معنى أحدهما ليس هو معنى الآخر، لكن كلا المعنيين حق، وهذا اختلاف تنوع وتغاير، لا اختلاف تضاد وتناقض. وهذا كما جاء في الحديث المرفوع عن النبي في هذا حديث (أنزل القرآن على سبعة أحرف، إن قلت: غفوراً رحيماً، أو قلت: عزيزاً حكيماً، فالله كذلك، ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب أو آية عذاب بآية رحمة ) …
ومن القراءات ما يكون المعنى فيها متفقاً من وجه، متبايناً من وجه، كقوله (يخدعون) و (يخادعون) و (يكذبون) و (يكذبون) و (لمستم) و(لامستم) و (حتى يطهُرن) و(يطَّهّرن) ونحو ذلك، فهذه القراءات التي يتغاير فيها المعنى كلها حق، وكل قراءة منها مع القراءة الأخرى بمنزلة الآية مع الآية يجب الإيمان بها كلها، واتباع ما تضمنته من المعنى علماً وعملاً، لا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظناً أن ذلك تعارض، بل كما قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه (من كفر بحرف منه فقد كفر به كله)…
ولذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتبوعين من السلف والأئمة في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعينة في جميع أمصار المسلمين، بل من ثبت عنده قراءة الأعمش(7/8)
شيخ حمزة أو قراءة يعقوب بن إسحق الحضرمي ونحوهما، كما ثبت عنده قراءة حمزة والكسائي، فله أن يقرأ بها بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع والخلاف.
بل أكثر العلماء الأئمة الذين أدركوا قراءة حمزة كسفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل وبشر بن الحارث وغيرهم يختارون قراءة أبى جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح المدنيين وقراءة البصريين كشيوخ يعقوب بن اسحق وغيرهم على قراء حمزة والكسائي.
وللعلماء الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف عند العلماء ولهذا كان أئمة أهل العراق الذين ثبتت عندهم قراءات العشرة أو الأحد عشر كثبوت هذه السبعة يجمعون ذلك في الكتب ويقرؤونه في الصلاة وخارج الصلاة، وذلك متفق عليه بين العلماء لم ينكره أحد منهم.
وأما الذي ذكره القاضي عياض - ومن نقل من كلامه - من الإنكار على ابن شنبوذ الذي كان يقرأ بالشواذ في الصلاة في أثناء المائة الرابعة، وجرت له قصة مشهورة، فإنما كان ذلك في القراءات الشاذة الخارجة عن المصحف كما سنبينه.
ولم ينكر أحد من العلماء قراءة العشرة، ولكن من لم يكن عالماً بها أو لم تثبت عنده كمن يكون في بلد من بلاد الإسلام بالمغرب أو غيره ولم يتصل به بعض هذه القراءات فليس له أن يقرأ بما لا يعلمه؛ فإن القراءة كما قال زيد بن ثابت: سنة يأخذها الآخر عن الأول. كما أن ما ثبت عن النبي من أنواع الاستفتاحات في الصلاة ومن أنواع صفة الأذان والإقامة وصفة صلاة الخوف وغير ذلك كله حسن يشرع العمل به لمن علمه.
وأما من علم نوعاً ولم يعلم غيره فليس له أن يعدل عما علمه إلى ما لم يعلمه، وليس له أن ينكر على من علم ما لم يعلمه من ذلك ولا أن يخالفه، كما قال النبي: لا تختلفوا فان من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا.
وأما القراءة الشاذة الخارجة عن رسم المصحف العثماني، مثل:
قراءة ابن مسعود وأبى الدرداء رضى الله عنهما (والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والذكر والأنثى) كما قد ثبت ذلك في(7/9)
الصحيحين.
ومثل: قراءة عبد الله (فصيام ثلاثة أيام متتابعات).
وكقراءته (إن كانت إلا زقية واحدة ).
ونحو ذلك؛ فهذه إذا ثبتت عن بعض الصحابة فهل يجوز أن يقرأ بها في الصلاة ؟.
على قولين للعلماء - هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد وروايتان عن مالك -:
إحداهما: يجوز ذلك؛ لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرؤون بهذه الحروف في الصلاة.
والثانية: لا يجوز ذلك، وهو قول أكثر العلماء؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي وإن ثبتت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة؛ فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس رضى الله عنهم: أن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي بالقرآن في كل عام مرة فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين والعرضة الآخرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها في المصاحف …
وهذا النزاع لابد أن يبنى على الأصل الذي سأل عنه السائل وهو أن القراءات السبعة هل هي حرف من الحروف السبعة أم لا ؟.
فالذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة أنها حرف من الحروف السبعة، بل يقولون إن مصحف عثمان هو أحد الحروف السبعة، وهو متضمن للعرضة الآخرة التي عرضها النبي على جبريل والأحاديث والآثار المشهورة المستفيضة تدل على هذا القول.
وذهب طوائف من الفقهاء والقراء وأهل الكلام إلى أن هذا المصحف مشتمل على الأحرف السبعة، وقرر ذلك طوائف من أهل الكلام كالقاضي أبى بكر الباقلانى وغيره بناء على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الأحرف السبعة، وقد اتفقوا على نقل هذا المصحف الإمام العثماني وترك ما سواه، حيث أمر عثمان بنقل القرآن من الصحف التي كان أبو بكر وعمر كتبا القرآن فيها ثم أرسل عثمان بمشاورة الصحابة إلى كل مصر من أمصار المسلمين بمصحف وأمر بترك ما سوى ذلك.
قال هؤلاء: ولا يجوز أن ينهى عن القراءة ببعض الأحرف السبعة.
ومن نصر قول الأولين يجيب تارة بما ذكر محمد(7/10)
بن جرير وغيره: من أن القراءة على الأحرف السبعة لم يكن واجباً على الأمة وإنما كان جائزاً لهم مرخصاً لهم فيه، وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه، كما أن ترتيب السور لم يكن واجباً عليهم منصوصاً، بل مفوضاً إلى اجتهادهم؛ ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب مصحف زيد، وكذلك مصحف غيره.
وأما ترتيب آيات السور فهو منزل منصوص عليه فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية في الرسم كما قدموا سورة على سورة؛ لأن ترتيب الآيات مأمور به نصاً، وأما ترتيب السور فمفوض إلى اجتهادهم.
قالوا: فكذلك الأحرف السبعة؛ فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على حرف واحد اجتمعوا على ذلك اجتماعاً سائغاً، وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة ولم يكن في ذلك ترك لواجب ولا فعل محظور.
ومن هؤلاء من يقول: بأن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيراً عليهم وهو أرفق بهم أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الآخرة، ويقولون: إنه نسخ ما سوى ذلك.
وهؤلاء يوافق قولهم قول من يقول: إن حروف أبى بن كعب وابن مسعود وغيرهما مما يخالف رسم هذا المصحف منسوخة.
وأما من قال عن ابن مسعود: إنه كان يجوز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه، وإنما قال: قد نظرت إلى القراء فرأيت قراءتهم متقاربة، وإنما هو كقول أحدكم: أقبل وهلم وتعال، فاقرؤوا كما علمتم. - أو كما قال -.
ثم من جوّز القراءة بما يخرج عن المصحف مما ثبت عن الصحابة قال: يجوز ذلك لأنه من الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها، ومن لم يجوّزه فله ثلاثة مآخذ:
تارة يقول: ليس هو من الحروف السبعة.
وتارة يقول: هو من الحروف المنسوخة.
وتارة يقول: هو مما انعقد إجماع الصحابة على الإعراض عنه.
وتارة يقول: لم ينقل إلينا نقلاً يثبت بمثله القرآن.
وهذا هو الفرق بين(7/11)
المتقدمين والمتأخرين.
ولهذا كان في المسألة قول ثالث - وهو اختيار جدي أبى البركات - أنه إن قرأ بهذه القراءات في القراءة الواجبة وهى الفاتحة عند القدرة عليها لم تصح صلاته؛ لأنه لم يتيقن أنه أدى الواجب من القراءة لعدم ثبوت القرآن بذلك، وإن قرأ بها فيما لا يجب لم تبطل صلاته؛ لأنه لم يتيقن أنه أتى في الصلاة بمبطل لجواز أن يكون ذلك من الحروف السبعة التي أنزل عليها.
…
إلى أن قال: وكذلك ليست هذه القراءات السبعة هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها باتفاق العلماء المعتبرين، بل القراءات الثابتة عن أئمة القراء كالأعمش ويعقوب وخلف وأبى جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح ونحوهم هي بمنزلة القراءات الثابتة عن هؤلاء السبعة عند من ثبت ذلك عنده كما ثبت ذلك، وهذا أيضا مما لم يتنازع فيه الأئمة المتبوعون من أئمة الفقهاء والقراء وغيرهم وإنما تنازع الناس من الخلف في المصحف العثماني الإمام الذي أجمع عليه أصحاب رسول الله والتابعون لهم بإحسان والأمة بعدهم:
هل هو بما فيه من القراءات السبعة وتمام العشرة وغير ذلك: هل هو حرف من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها ؟ أو هو مجموع الأحرف السبعة ؟.
على قولين مشهورين:
والأول: قول أئمة السلف والعلماء.
والثاني: قول طوائف من أهل الكلام والقراء وغيرهم.
وهم متفقون على أن الأحرف السبعة لا يخالف بعضها بعضاً خلافاً يتضاد فيه المعنى ويتناقض، بل يصدق بعضها بعضاً، كما تصدق الآيات بعضها بعضاً.)
---
خاتمة:(7/12)
وفي الخاتمة أنبه إلى أمر وهو:
أن الرافضي إذا نقلت له ما في صحيح البخاري وغيره مما سبق ذكره على وجود القراءات هذه في وقت النبي صلى الله عليه وسلم وإقرارهم عليها فهو بين أمرين:
الأمر الأول: أن يصدّق بهذه الأحاديث فيكون بين حالين:
الأول: أن يقرّ بأن هذا ليس تحريفاً فيخصم.
الثاني: أن يقول إنه تحريف مع ذلك فيرمي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وقد التزمه بعض الروافض لعنهم الله فرموا الرسول صلى الله عليه وسلم بتحريف بعض الوحي وكتمانه.
الأمر الثاني: أن لا يصدّق بهذه الأحاديث، ويقول: إنها من مصادركم - أهل السنة - وأنا لا أقبل منها شيئاً، فيقال له:
وما نقلته من زعمك تحريف الصحابة للقرآن إنما نقلته من مصادرنا، فأنت بين أربعة أشياء:
1- إن احتججت علينا بها لتصحيحك إياها، فيجب أن تصحّح هذه الأحاديث لأنها من مشكاة واحدة.
2- وإن لم تصحّح هذه الأحاديث، فلا حجة لك بتلك النقول لأنها لا تصح عندك.
3- وإن صحّحت تلك النقول، وضعّفت هذه الأحاديث فقد تناقضت.
4- وإن قلت: أنا لا أصحّح هذا ولا هذا، ولكني أنقلها من باب إقامة الحجة عليكم من مصادركم أنتم، فنحن نقول: وهذه الإجابة عليها من مصادرنا فليست لك حجة فيها على ما زعمت ولا تدل على ما ذكرت.
وصلى الله على نبينا محمد.(7/13)
الرد على الطاعن
في أبي هريرة رضي الله عنه
الحسن بن علي الكتاني
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين.
و بعد؛
فإن السنة النبوية هي الأصل الثاني عند المسلمين، و عليها المعتمد في شريعة رب العالمين، إذ الله تبارك و تعالى جعل الحبيب محمدًا - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء و المرسلين، و أمره بتبليغ دينه و توضيحه بالسنة المباركة، فقال سبحانه و تعالى: (و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا) (الحشر: 7) و قال جل شأنه: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) (آل عمران: 164) .
قال الإمام الشافعي: سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) . ثم أخرج بأسانيده عن الحسن و قتادة و يحيى بن أبي كثير أنهم قالوا: الحكمة في هذه الآية السنة (2) .
و قد اختار الله سبحانه و تعالى لصحبة نبيه خيرة خلقه فبلغوه باللسان و جاهدوا لنشره بالسيف و السنان، كما قال عبدالله بن مسعود، رضي الله عنه، في وصفهم: "إن الله تعالى نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، و ابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، و ما رأوه سيئًا فهو عند الله سئ" (3) .(8/1)
و قال أيضًا رضي الله عنه: "من كان مستنًّا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوبًا، و أعمقها علمًا، و أقلها تكلفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه و لإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، و اتبعوهم على آثارهم، و تمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم و سيرهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" (4) .
و قد ابتلينا هذه الأيام بشرذمة من العلمانيين و جماعة من المبتدعة الضالين، همهم التشكيك في المقدسات، و الطعن في الأئمة الثقات، سلوا سيوف الحقد على العمود الثاني من أعمدة الإسلام، و ذلك بالطعن في رجال السنة الأعلام، فعمدوا إلى أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، وهو» صحيح الإمام البخاري « فأعملوا فيه طعنًا و في صاحبه سبًّا و قدحًا، و اتجهوا إلى أكثر صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواية فجعلوا يسقطون عدالته بالشبه الواهية، و التُّرَّهَات الفارغة.
و إن الناظر إلى هذه الحملة الجديدة لا يشك أنها أمر دبر بليل، و أن مقصود أصحابها هدم السنة الشريفة ليتسنى لهم بعد ذلك هدم القرآن نفسه.
و لكن هيهات هيهات فقد قال سبحانه و تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون) .
و يا ناطح الجبل الأشم ليحطمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
فكما حفظ الله سبحانه و تعالى كتابه الكريم فقد حفظ سنة نبيه عليه الصلاة و أزكى السلام، بالعلماء الذين أفنوا أعمارهم في الذب عنها و الذود عن حماها.
كما قال صلى الله عليه و سلم: (يَحمِل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه انتحال المبطلين و تأويل الجاهلين و تحريف الغالين) (5) .
و عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين، إلى يوم القيامة) (6) .(8/2)
و عن عبد الله بن المبارك و يوسف بن أسباط قال: قال عبد الله بن مسعود: إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليًّا من أوليائه يذب عنها و ينطق بعلامتها، فاغتنموا حضور تلك المواطن، و توكلوا على الله. قال ابن المبارك: و كفى بالله وكيلاً (7) .
و نحن في هذه الأبحاث المباركة، إن شاء الله تعالى، قد توكلنا على الله سبحانه و تعالى في رد شبهات المدعو مصطفى بوهندي في كتابه السقيم » أكثر أبو هريرة « الذي أعاد فيه تلك الأسطوانة المملة التي رددها أسلافه من المعتزلة و الخوارج و الرافضة، و تلقفها منهم المستشرقون و تلاميذهم العلمانيون فصدق فيهم ما قاله الإمام الحافظ أبو زرعة الرازي، رحمه الله تعالى:
"إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق، و القرآن حق، و إنما أدى إلينا هذا القرآن و السنة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، و إنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب و السنة، و الجرح بهم أولى و هم زنادقة". (8)
و إن نظرة عاجلة إلى ما كتب هذا الشخص تبين أن الرجل يريد هدم السنة كلها لا هدم أبي هريرة رضي الله عنه – وحده – و ذلك صريح في قوله، عليه من الله ما يستحق:
"و لعلَّ هذا الوجود لمثل هذه الأخبار ليطرح على مصداقية هذه الكتب و نقلها للإسلام الحنيف شكوكًا كثيرة. كما يطرح على المنهجية المعتمدة في علوم الحديث و قواعده و رجالاته و تصحيحه و تضعيفه و تعديله و تجريحه و مصطلحاته أسئلة عميقة تدفع الباحثين إلى إعادة قراءة هذه العلوم بمنهجية جديدة تجاوز ما هي عليه الآن" (9) .(8/3)
و أساس منهج هذا الطاعن هو إنكاره للمعجزات و ما لم يقبله عقله القاصر، كما فعل أسلافه من الزنادقة و أصحاب الأهواء في الماضي، إذ بدل أن يعمل المنهج العلمي الفريد الذي أصله أئمتنا و نقحوه و هذبوه حتى أضحى صرحًا عاليًا سامقًا راح يعمل هواه و رأيه السقيم مع تطبيق الجزئي على الكلي و التضخيم و التهويل و إنكار جزء عظيم من الإسلام ألا و هو علم الغيب، قال تعالى: (ألم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتقين، الذين يومنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون ) (البقرة:1-2)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيني و بينكم كتاب الله، فما وجدناه فيه حلالاً استحللناه، و ما وجدناه فيه حرامًا حرمناه، ألا و إن ما حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل ما حرم الله" (10) .
قال الإمام البيهقي: "و هذا خبر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يكون بعده من رد المبتدعة حديثه، فوجد تصديقه فيما بعد" (11) .
و عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "إياكم و أهل الرأي فإنهم أعداء السنة، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا و أضلوا" (12) .
و عن أبي قلابة الجرمي رحمه الله تعالى أنه قال: "إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعنا من هذا و هات كتاب الله، فاعلم أنه ضال" (13) .
و ليعلم القراء الكرام أن الكلام عن أبي هريرة رضي الله عنه إنما هو خداع السذَّج من النَّاس، إذ إنه ما من حديث رواه رضي الله عنه إلاَّ و قد شاركه فيه جماعة آخرون من الصحابة، و لا يكاد ينفرد إلاَّ بأشياء معدودة هي نقطة في بحر ما روي، و قد بين ذلك العلامة الشيخ عبد المنعم صالح العزى في كتابه الفريد "أقباس من مناقب أبي هريرة" بما لا مزيد عليه.(8/4)
و هذا لوحده كاف لنسف رسالة هذا الضَّال من أولها إلى آخرها. و لكن لكي لا يغتر من لا علم عنده بها سنخصص لذلك جولات بحول الله تعالى، خاصة و أن العلمانيين طاروا بهذا الكتاب كل مطار و كأنهم وقعوا على كنز عظيم، و الله يقول الحق و هو يهدي إلى السبيل.
الحسن بن علي الكتاني
مقدمات لا بد منها:
قبل الخوض في الموضوع الذي نحن بصدد مناقشة صاحب كتاب » أكثر أبو هريرة « فيه يجدر بنا أن نؤصل لقواعد هامة سنحتاج إليها في سائر هذه الردود، و هذه القواعد هي:
من هو الصحابي؟.
و ماذا يجب علينا نحو الصحابة؟.
و ماهي سيرة و فضائل أبي هريرة - رضي الله عنه ؟.
و بَعد ذلك فكل ما سنذكره ما هو إلا فرع عن هذا الأصل.
مَنْ هُوَ الصَّحَّابِي؟
اختلف أهل العلم في تحديد مفهوم الصحابي على أقوال عدة، و لكنها جميعها تنطبق على أبي هريرة رضي الله عنه.
و أولى هذه الأقوال بالصواب و أشهرها ما عليه جماهير أهل الحديث من أن الصحابي هو كل مسلم رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - و لو لحظة و عقل عنه شيئًا، سواء كان ذلك قليلاً أو كثيرًا.
و هذا ما حكاه إمام المغرب القاضي عياض السبتي رحمه الله تعالى عن الإمام أحمد بن حنبل، و رواه عنه عبدوس بن مالك العطار: قال: سمعت أبا عبد الله – أحمد بن حنبل – رحمه الله يقول: "كل من صحبه سنة أو شهرًا أو ساعةً، أو رآه فهو من أصحابه" (14) .
و قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في »صحيحه «: "من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه" (15) .
و قال آخرون: إنه لا يكتفى بمجرد الرؤية، بل لابد مما يطلق عليه اسم الصحبة، و لو ساعة طفيفة، و هذا قول الإمام محمد بن عمر الواقدي و بعض الأصوليين (16) .(8/5)
و قال غيرهم: لا يعد الرجل صحابيًا حتى يقيم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة أو سنتين، أو يغزو معه غزوة أو غزوتين. و هذا قول سيد التابعين سعيد بن المسيب (17) رحمه الله تعالى و هو أضيق الأقوال.
و أنت ترى أن أبا هريرة رضي الله عنه يدخل في جميع هذه الأقوال فقد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - و لازمه أكثر من أربع سنوات من فتح خيبر سنة 7 هـ إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى صلوات ربي و سلامه عليه سنة 11هـ.
فضل الصحابة و عدالتهم:
أجمع أئمة الإسلام أهل السنة و الجماعة الذين عليهم المعول في الدين و عن طريقهم تفهم شريعة رب العالمين على أن أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم صحابته و أنهم عدول خيار لا نتكلم فيهم إلاَّ بالخير، و أن شانئهم أو مبغضهم ضال مضل يجب تأديبه.
و قال الإمام أبو جعفر الطحاوي (ت. 321) في عقيدته المشهورة: "و نحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و لا نفرط في حب أحد منهم، و نبغض من يبغضهم، و بغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، و حبهم دين و إيمان و إحسان، و بغضهم كفر و نفاق و طغيان" (18) .
و قال الإمام ابن أبي زمنين الأندلسي المالكي (ت. 399) في رسالته »أصول السنة « (19) : " ومن قول أهل السنة أن يعتقد المرء المحبة لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - و أن ينشر محاسنهم و فضائلهم و يمسك عن الخوض فيما دار بينهم ".
و كذلك قال الحافظ أبو عمرو الداني الأندلسي (ت. 440) في »الرسالة الوافية « في اعتقاد أهل السنة و الجماعة (20) : "و من قولهم – أي أهل السنة – أن يحسن القول في السادات الكرام أصحاب محمد عليه السلام، وأن تذكر فضائلهم و تنشر محاسنهم و يمسك عما سوى ذلك مما شجر بينهم".(8/6)
و هذا قول جميع أئمة الإسلام الذين صنفوا في العقائد، لا يخالف في ذلك إلا أهل البدع. لأن الله سبحانه مدح الصحابة في القرآن الكريم بقوله تعالى: ( محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ) إلى قوله: ( وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرًا عظيمًا ) ( الفتح: 29) .
و قال سبحانه: ( و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) ( التوبة: 100) (21) .
أما السنة المطهرة فهي صريحة في هذا المعنى فعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (22) .
و في رواية قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: "أنا و من معي" ، قيل: ثم من يا رسول الله؟. قال: "الذي على الأثر" (23).
و عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، و أنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، و أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" (24) .
وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا من بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، و من أبغضهم فببغضي أبغضهم، و من آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، و من آذى الله فيوشك أن يأخذه" (25) .
و قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، و الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مدَّ أحدهم و لا نصيفه" (26) .(8/7)
و الأحاديث بهذا المعنى كثيرة متواترة، قال جد جدنا الإمام محمد بن جعفر رحمه الله تعالى: "ذكر اللقاني في شرحه لـ »جوهرته « أنها بالغة مبلغ التواتر، و إن كانت تفاصيلها آحادًا" (27) .
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وقد علم بالكتاب و السنة و النقل المتواتر محاسن الصحابة و فضائلهم و ما دل عليه الكتاب و السنة و إجماع السلف من المنقولات المتواترة عن أدلَة العقل من أن الصحابة رضي الله عنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء" (28) .
و قال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: "قد ثبت إجماع الأئمة من أهل البيت على تحريم سبِّ الصحابة و تحريم التكفير و التفسيق لأحد منهم" ثم ذكر النقول عنهم من اثنتي عشر طريقًا (29) .
و قد نقل القاضي عياض رحمه الله تعالى عن أيوب السختياني، أحد كبار التابعين من مشايخ الإمام مالك أنه قال: "و من انتقص أحدًا منهم – الصحابة – فهو مبتدع مخالف للسنة و السلف الصالح و أخاف ألاَّ يصعد له عمل إلى السماء حتى يحبهم جميعًا، و يكون قلبه سليمًا" ثم نقل عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: "لم يومن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - من لم يوقر أصحابه و لم يعز أوامره" (30) .
و قد أطال الإمام الشريف ابن الوزير اليماني في تقرير عدالة الصحابة في كتابيه» العواصم و القواصم في الذب عن سنة أبي القاسم «و مختصره » الروض الباسم « بما يشفي و يكفي. و من طلب الهداية تكفيه كلمة، و من غرق في الضلالة فلا تكفيه و لا تنفعه المجلدات ذوات العدد. و بالله نتأيد.
فصل:
فضل أبي هريرة رضي الله عنه:
أبو هريرة رضي الله عنه من خيرة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - – أسلم قديمًا في بلاده دوس على يد الطفيل بن عمرو الدوسي و له من العمر 26 سنة، ثم قدم على النبي صلى الله عليه وآله و سلم سنة سبع بعد انتصاره في غزوة خيبر على اليهود بيوم (31) .(8/8)
ثم لزم النبي - صلى الله عليه وسلم - ملازمة تامة فحمل عنه علمًا كثيرًا و أضحى من أحفظ الصحابة، و أحد فقهائهم الذين تدور عليهم الفتيا مع الورع التام و العبادة و الزهد في الدنيا. و قد أخذ عنه العلم أكثر من 800 شخص ما بين صحابي و تابعي (32) .
و صفه الإمام الذهبي بقوله: "الإمام الفقيه المجتهد الحافظ صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد الحفاظ الأثبات". و الحافظ الذهبي موصوف بأنه صاحب استقراء تام في معرفة الرجال و الخبرة بهم.
و عن وكيع عن الأعمش عن أبي صالح قال: كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب رسول الله و لم يكن من أفضلهم (33) .
و قال الذهبي أيضًا: "أبو هريرة إليه المنتهى في حفظ ما سمعه من الرسول عليه السلام و أدائه بحروفه". ثم قال:"وقد كان أبو هريرة وثيق الحفظ، ما علمنا أنه أخطأ في حديث" (34) .
قلت: المحدثون يقارنون حديث الرجل بحديث أقرانه فيعلمون مستواه في الحفظ، و كذلك كان هدي الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى.
و قد ذكره الذهبي في » طبقات القراء « و في » تذكرة الحفاظ «، و في » السير«، و قال: فهو رأس في القرآن، و في السنة، و في الفقه (35) .
و عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: "كان أبو هريرة جريئًا على النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن أشياء لا نسأله عنها" (36) .
و عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - و أعلمنا بحديثه (37) .
توفي أبو هريرة سنة 57 ه و دفن بالبقيع رضي الله عنه.
فصل:
في نقض ادعائه انفراد أبي هريرة بعجائب:(8/9)
افتتح بوهندي كتيبه بالتهويل في رواية أبي هريرة، رضوان الله عليه للحديث النبوي، و زعم أن ربع الأحاديث المتعلقة بأخبار الأمم السالفة في الكتب التسعة راويها هو أبو هريرة رضي الله عنه ثم قال: "إن المتأمل في أحاديث أبي هريرة يجد أن مسألة إكثاره من الرواية، و انفراده بما لم يرو عن الصحابة مهاجرين و أنصارًا كانت محط جدل في عصره، و قد أثارها أبو هريرة في غير ما رواية، و رد عليها ردودًا تحتاج إلى غير قليل من التأمل و المدارسة" (38) .
و لنا مع هذا الكلام وقفات:
الوقفة الأولى:
لا شك أن العلماء اتفقوا على أن سبعة من الصحابة أكثروا من الروايةعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى زادت أحاديثهم على الألف، و هؤلاء السبعة هم: أبو هريرة و ابن عمر و أنس و عائشة و ابن عباس و جابر و أبو سعيد الخدري و ليس بعد ذلك في الصحابة رضي الله عنهم من يزيد حديثه على ألف (39) .
و اتفقوا على أن أكثرهم رواية هو أبو هريرة رضي الله عنه و حددوا عدد أحاديثه بـ (5374) كما جزم به ابن حزم و انفرد البخاري بـ (325) و مسلم بـ (189) (40) .
فإذا علمت أن المحدثين يطلقون على الإسناد المستقل و الاختلاف في الألفاظ أنها أحاديث و علمت أن أبا هريرة رضي الله عنه رزق البركة في التلاميذ فقد روى عنه ما يربو على الثمانمائة (800) من الصحابة و التابعين (41) ، تبين لك أن ذلك العدد الضخم الذي أورده بوهندي (8740) من الكتب التسعة ما هو في حقيقة أمره إلاَّ الطرق و الأسانيد و اختلاف الألفاظ، مع ما في ذلك من الأحاديث الضعيفة و الموضوعة التي لا يمكن أن تنسب إلى أبي هريرة رضي الله عنه.
و قد قام بعض العلماء الباحثين المعاصرين و هو الشيخ محمد ضياء الرحمن الأعظمي الهندي بدراسة مسند أبي هريرة من »مسند الإمام أحمد« مع ما رواه أصحاب الكتب الستة فلم يبلغ ذلك كله إلاَّ (1336) حديث فقط.(8/10)
ثم قال: "نعم توجد مرويات أخرى في »مستدرك « الحاكم و » سنن « البيهقي و الدارقطني و »مصنف « عبد الرزاق و غيرها من كتب الحديث، و لكنى جازم بأن هذا العدد لن يبلغ العدد الذي ذكره العلماء بل لا يتجاوز ألفي حديث على أكبر تقدير" (42) .
الوقفة الثانية:
صحيح أن العديد من الناس تعجبوا من قوة حافظة أبي هريرة رضي الله عنه و لا غرابة في ذلك فإن أي إنسان يتفوق على أقرانه يصبح حديث مجالسهم و عرضة للامتحان حتى يتأكدوا من صدقه، و هذا الذي حدث لأبي هريرة رضي الله عنه فإن كبار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فمن بعدهم سلموا له علمه و مدحوه و زكوه، لا كما يوهم كلام الكاتب " بوهندي " من أن التوجس من أحاديثه بقي كما هو!!.
و قد حدث هذا لجماعة من حفاظ الحديث بعد أبي هريرة رضي الله عنه كما حدث للإمام البخاري رحمه الله في بغداد ثم ثبت لهم حفظه و جلالة قدره.
فهذا طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة أتاه رجل فقال: يا أبا محمد، أرايت هذا اليماني – يعني أبا هريرة – أهو أعلم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منكم؟ نسمع منه أشياء لا نسمعها منكم، أم هو يقول على رسول الله ما لم يقل؟.
فقال: أمَّا أن يكون سمع ما لم نسمع، فلا شك. سأحدثك عن ذلك: إنَّا كنَّا أهل بيوتات و غنم و عمل، كنا نأتي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم طرفي النهار، و كان مسكينًا، ضيفًا على باب رسول الله، يده مع يده، فلا نشك أنه سمع ما لم نسمع، و لا تجد أحدًا فيه خير يقول على رسول الله ما لم يقل (43) .(8/11)
و شهد له الزبير بن العوام، حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن عثمان بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة قال: قال لي أبي الزبير: ادنني من هذا اليماني –يعني أبا هريرة- فإنه يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فأدنيته منه، فجعل أبو هريرة يحدث و جعل الزبير يقول: صدق، كذب، صدق، كذب! قال: قلت: يا أبت ما قولك: صدق كذب؟ قال: يا بني أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا شك، و لكن منها ما يضعه على مواضعه و منها ما وضعه على غير مواضعه (44).
و أخرج البخاري في »التاريخ « و البيهقي في »المدخل « من حديث محمد بن عمارة بن حزم أنه قعد في مجلس فيه مشيخة من الصحابة بضعة عشر رجلاً، فجعل أبو هريرة يحدثهم بالحديث فلا يعرفه بعضهم، فيراجعون فيه حتى يعرفوه، ثم يحدثهم بالحديث كذلك حتى فعل مرارًا، فعرفت يومئذ أن أبا هريرة أحفظ الناس (45) .
و أخرج أحمد و الترمذي عن ابن عمر أنه قال لأبي هريرة: كنت ألزمنا لرسول الله و أعرفنا بحديثه. قال الترمذي: حسن (46) .
و قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: "أبو هريرة أكثرهم حديثًا و حمل عنه الثقات" (47) .
و أسند البيهقي في » المدخل « عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: "أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره" (48) .
و لو ذهبنا نتتبع ما قاله الصحابة و التابعون و من بعدهم في صدق أبي هريرة و حفظه لطال بنا المقام و خرجنا عمَّا قصدنا له من الاختصار.
فقارن بين هذه الشهادات المفصلة و بين ما هول به الكاتب الشانئ من أن الناس كلهم كانوا يستنكرون على أبي هريرة يتبين لك حقيقة الأمر، نعم كان يستنكر عليه بعض الظلمة أمثال مروان بن الحكم و غيره فكان يجيبهم بأجوبة مسكتة و يلقمهم الحجارة فلا يعودون لما قالوا (49) .
الوقفة الثالثة:(8/12)
أمَّا زعمه أن أبا هريرة رضي الله عنه انفرد عن الصحابة مهاجرين و أنصارًا فهذا من تهويلاته التي بينت لك حقيقتها، و أنه لم ينفرد بحديث عن غيره إلاَّ أشياء معدودة تحدث لكل عالم محدث يتفق له ما لم يتفق لغيره و بنظرة متفحصة إلى النقول التي ذكرتها قبل قليل يتبين أن الصحابة كانوا إذا راجعوا محفوظاتهم و تذاكروها تبينوا أنهم يشاركون أبا هريرة فيما يحفظ. و قد عمد الشيخ محمد ضياء الرحمن الأعظمي، جزاه الله عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل خير فجمع أحاديث في الحلال و الحرام من رواية أبي هريرة ثم ذكر شواهدها من طرق صحابة آخرين. فتبين أنه ما من حديث يرويه إلا و يشاركه فيه جمع آخر من الصحابة (50) ، و كذلك صنع الشيخ عبد المنعم بن صالح العزي العراقي حفظه الله. و كتب هؤلاء موجودة فإمَّا أن الكاتب لم يطلع عليها فهذا قصور منه شديد وهو قد ارتقى مرتقًى صعبًا كهذا فنصب نفسه لثلم عرض صحابي جليل، و إمَّا أنه اطلع عليه فكتم ما علم، و هذه خيانة و جريمة.
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
و إن كنت تدري فالمصيبة أعظم
الوقفة الرابعة:
و أي عيب في أن يكثر أبو هريرة رضي الله عنه أو غيره من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يؤديه على وجهه؟ و الرجل يمدح إذا كان غزير العلم كثير التدريس و التصنيف و كان مؤهلاً لذلك و تكلم بعلم.
و إلاَّ فقل لي بربِّك هل ستذم بقية المكثرين من رواية الحديث ممن ذكرنا آنفًا؟ و ماذا تقول في أئمة الإسلام الذين كان أحدهم يحفظ مائة ألف حديث بل و ألف ألف حديث كالإمام أحمد أو البخاري أو مسلم أو غيرهم ممن حفظوا على المسلمين دينهم؟!(8/13)
و قد عقد الإمام الحجة أبو محمد بن حزم الأندلسي رحمه الله فصلاً ماتعًا في كتابه » الإحكام في أصول الأحكام « بعنوان » فصل في فضل الإكثار من الرواية للسنن « (51) ، و مما قال فيه: "يقال لمن ذم الإكثار من الرواية لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخير هي أم شر؟ و لا سبيل إلى وجه ثالث، فإن قال هي خير، فالإكثار من الخير خير، و إن قال هي شر، فالقليل من الشر شر، وهم قدأخذوا منه بنصيب، فيلزمهم أن يعترفوا بأنهم يتعلمون الشر و يعملون به. و أمَّا نحن فلسنا نقر بذلك. بل نقول: إن الإكثار منها لطلب ما صح هو الخير كله" (52)
و كذلك فعل حافظ المغرب أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى فقال: "احتج بعض من لا علم له و لا معرفة من أهل البدع و غيرهم الطاعنين في السنن بحديث عمر هذا " أقلوا الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " و فيما ذكرنا في هذا الباب من الأحاديث و غيرها، و جعلوا ذلك ذريعة إلى الزهد في سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي لا توصل إلى مراد كتاب الله عز و جل إلا بها، و الطعن على أهلها، و لا حجة في هذا الحديث و لا دليل على شئ مما ذهبوا إليه من وجوه قد ذكرها أهل العلم" ثم شرع يبينها (53)
الوقفة الخامسة:
من الأمور التي استنكرها الكاتب أن الغالب على رواية أبي هريرة رضي الله عنه هو طابع القصص و أخبار الأمم السالفة.(8/14)
فيقال له: و ما العيب في ذلك إذا صح الإسناد إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - بها؟! و قد حدثنا القرآن الكريم عن العديد من القصص و ضرب لنا بها الأمثلة و العبر، و كذلك الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - خصص حيزًا كبيرًا من أحاديثه لذلك ربطًا للدعوة بأئمتها و هم الأنبياء عليهم السلام، و تحفيزًا للصحابة. قال تعالى: ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن و إن كنت من قبله لمن الغافلين ) (يوسف:3) و قال سبحانه: ( و كلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك و جاءك في هذه الحق و موعظة و ذكرى للمؤمنين ) ( هود:120) .
و يرد الشيخ الأعظمي على هذه الشبهة فيقول: ". . . فإنهم لم يدرسوا هذا الموضوع دراسة فحص دقيق و إلاَّ لما وقعوا في هذه الشبهة الواهية، فإن أبا هريرة لم يرو الأحاديث الغريبة التي لا يقبلها العقل و المنطق، بل إن هذه الغرائب نسبت إليه على رغمه، فهو برئ من هذا كله، و إذا وجد هناك حديث يتصعب فهمه و هو حديث صحيح فإن أبا هريرة لم يكن منفردًا بروايته، بل شاركه فيه جماعة من الآخرين، فتكون المسؤولية مجزأة بين هؤلاء جميعًا" (54)
و هذه الشبهة الخبيثة كان قد سبق الكاتب إليها سلفه من غلاة الجهمية و المعتزلة الذين كفرهم السلف كالنظام و المريسي، و أئمة المستشرقين من يهود و نصارى أمثال جولدزيهر و شاخت، و بعض الزنادقة المعاصرين كمحمود أبو رية و الرافضي عبدالحسين شرف الدين.
فانظر إلى سلفنا من العلماء الربانيين و الأيمة المصلحين ماذا قالوا في أبي هريرة رضي الله عنه، و انظر إلى سلف هذا الضال ثم احكم عليه بما شئت!!.
فصل:
ضعف في اللغة:(8/15)
الملاحظ أن الكاتب جل شبهاته جاءت إما من فهم خاطئ أو تحريف متعمد فانظر إلى قوله: "إن أبا هريرة كان على علم بما في أحاديثه من الاختلاف عن أحاديث غيره من الصحابة الآخرين مهاجرين و أنصارًا، فهم لا يحدثون مثل حديثه و لا يكثرون مثل إكثاره، و هو ما دعاه إلى الرد على الناس و تبرير إكثاره و مخالفته" (55) .
فانظر كيف فهم الآثار التي تقول: "لا يحدثون مثل أحاديثه" فهمًا أعجميًا يدل على ضعفه في اللغة العربية، و هي لغة الإسلام التي يفهم بها الدين. و إلاَّ فإن معنى تلك الآثار أن عدد أحاديث أبي هريرة التي يرويها يختلف عن عدد غيره، لا أن نفس ما يحدث به مختلف عن أحاديث غيره، و شتَّان بين الأمرين!!.
و هذا بحمد الله بين واضح، و قد بينَّا في الصفحات السابقة كيف أن الصحابة كانوا إذا سمعوا حديثًا من أبي هريرة رضي الله عنه سأل بعضهم بعضًا فيجدون الأمر كما قال رضوان الله عليه.
و للكاتب مثل هذا الفهم الأعجمي في مواطن أخرى، و لذلك حذر العلماء من الخوض في دين الله تعالى لمن كان ضعيفًا في اللغة إذ أنه يقع في البدع و الضلالات و هو لا يشعر.
قضية كتمان العلم:
أورد الكاتب روايات عن أبي هريرة يعتذر فيها عن كثرة أحاديثه بالخوف من كتم العلم مع ما ورد في ذلك من ترهيب في القرآن الكريم، ثم أورد على ذلك جملة من الشبه ملخصها:
كيف يكون هذا مع كتم أبي هريرة لجملة من الأحاديث "خوفًا من أن يقطع بلعومه"؟! و يتساءل الكاتب بجهل و بلاهة: " فهل يخشى أبو هريرة الله أم الناس؟!!" (56) .
و كيف يستقيم هذا مع نهي عمر و عثمان رضي الله عنهما عن التحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم؟.
و هل كتم المهاجرون و الأنصار العلم و بثه أبو هريرة؟!.
و لماذا لم يكن أبو هريرة مرجعًا للصحابة في هذا العلم الخاص الذي آثره دونهم؟!.
و الجواب عن هذا المسكين و بالله نستعين كالتالي:(8/16)
كلاَّ لم يكن أبو هريرة رضي الله عنه ليخشى الناس في الله سبحانه و تعالى و هو المعروف بصرامته في الحق و مواجهته للحكام بما يكرهون، و لكنك أيها الشانئ قلَّ علمك فكثر اعتراضك، فاسمع ما قاله العلماء الأعلام في تأويل هذا الحديث، فقد قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: "هذا دال على جواز كتمان بعض الأحاديث التي تحرك فتنة في الأصول، أو الفروع، أو المدح و الذم، أمَّا حديث يتعلق بحل أو حرام فلا يحل كتمانه بوجه، فإنه من البينات و الهدى. و في »صحيح البخاري « قول الإمام علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون و دعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله و رسوله؟! و كذا لو بث أبو هريرة ذلك الوعاء لأوذي، بل لقتل، و لكن العالم قد يؤديه اجتهاده إلى أن ينشر الحديث الفلاني إحياءً للسنة، فله ما نوى و له أجر –و إن غلط– في اجتهاده" (57) .
و هذا الأثر عن علي كرم الله وجهه أسنده البخاري (رقم127) في باب: "من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية ألاَّ يفهموا" . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله -: "و ممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، و مالك في أحاديث الصفات، و أبو يوسف في الغرائب. و من قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين و أن المراد ما يقع من الفتن، و نحوه عن حذيفة و عن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي. و ضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة و ظاهره في الأصل غير مراد. فالإمساك عنه عند من يُخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب" (58) .
و هذا كلام يكتب بماء الذهب، فللَّه در أئمتنا الأعلام ما كان أفقههم لمقاصد الشريعة و لَحَى الله الجهلة الطِّغام الذين يريدون أن يفسدوا علينا ديننا بالجهل و الشبه التافهة.(8/17)
و مع ذلك نقول إن أبا هريرة رضوان الله عليه ما كتم من ذلك شيئًا بل كان يوري و يشير إلى ذلك، فقد قال الحافظ أيضًا، رحمه الله تعالى: "و حمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء و أحوالهم و زمنهم، و قد كان أبو هريرة يكني عن بعضه و لا يصرح به خوفًا على نفسه منهم، كقوله: أعوذ بالله من رأس الستين و إمارة الصبيان، يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية لأنها كانت سنة ستين من الهجرة. . . " (59) .
و أما الجواب عن الشبهة الثانية وهي منع عمر و عثمان رضي الله عنهما الناس من التحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان لعمر رضي الله عنه في ذلك سياسة خاصة، و هي توجيه الناس للاهتمام بالقرآن أولاً ثم السنة مع التثبت و التدبر ثانيًا، لا أنه كان يأمر بكتم الحديث و ينهى عن بثه.
و قد بين ذلك أئمتنا جيدًا فقد أورد الحافظ ابن عبد البر الآثار عن عمر رضي الله عنه، بذلك تحت باب "ذكر من ذم الإكثار من الحديث دون التفهم له و التفقه فيه". ثم قال: "و لا يخلو الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم من أن يكون خيرًا أو شرًّا، فإن كان خيرًا – ولا شك فيه أنه خير – فالإكثار من الخير أفضل، و إن كان شرًّا فلا يجوز أن يتوهم أن عمر رضي الله عنه يوصيهم بالإقلال من الشر، وهذا يدلك على أنه إنما أمرهم بذلك خوف مواقعة الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و خوف الاشتغال عن تدبر السنن و القرآن لأن المكثر لا تكاد تراه إلاَّ غير متدبر و لا متفقه (60) .
و كذلك قال الإمام ابن كثير: "و هذا محمول من عمر على أنه خشي من الأحاديث التي يضعها الناس على غير مواضعها، و أنهم يتكلمون على ما فيها من أحاديث الرخص، و أن الرجل إذا أكثر من الحديث ربما وقع في أحاديثه بعض الغلط أو الخطأ فيحملها الناس عنه أو نحو ذلك" (61) .(8/18)
و بكل حال فهذه سياسة عمرية ارتأى فيها المصلحة و ليست من كتم العلم في شئ بل هي من باب تنظيم مدارسة العلم، و مع هذا فقد ورد أن عمر أذِن لأبي هريرة رضي الله عنهما بالتحديث فعن يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة قال: بلغ عمر حديثي فأرسل إلي فقال كنت معنا يوم كنا مع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في بيت فلان؟ قلت: نعم، و قد علمت لأي شئ سألتني قال: و لم سألتك ؟ قلت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يومئذ: "من كذب عليًّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". قال: أمَّا لا، فاذهب فحدث (62) .
و قد أورد الحافظان ابن عبد البر و ابن حزم آثارًا كثيرة عن عمر رضي الله عنه في الحض على نشر السنن والعمل بها يكفي أن نمثل لها بما جاء عن بكير بن الأشج أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز و جل" (63) .
و هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه رد صريح و جواب مفحم لهذا الكاتب و أمثاله من أعداء السنن و الآثار.
و أما عثمان رضي الله عنه فالثابت عنه بخلاف هذا و لا ندري من أين استقى الكاتب هذه الشبهة عنه؟! إلا إذا كان يعني أن عثمان رضي الله عنه نهى أبا هريرة عن التحديث فهذا أيضًا لم يأت بسند متصل تقوم به الحجة، و لو ثبت لكان من باب تنظيم العلم كما فعل في قضية المصاحف و غيرها. رضي الله عن الصحابة أجمعين.
و أما الجواب عن الشبهة الثالثة فيقال لهذا المتهكم بأصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: قد بينا مرارًا أن أبا هريرة لم ينفرد بشئ عن غيره من الصحابة، و إنما جمع محفوظات تفرقت عند غيره، و أنه ما من شئ حفظه هو إلا و شاركه فيه غيره، و أن مخالفته لهم هي في كثرة محفوظه دونهم ليس إلاَّ فافهم و لا تكن من الغلفلين!!(8/19)
و يوضح هذا و يبينه ما رواه عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه كان قاعدًا عند عبد الله بن عمر، إذ طلع خباب صاحب المقصورة، فقال: يا عبد الله بن عمر ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟ إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من خرج مع جنازة من بيتها و صلى عليها ثم تبعها حتى تدفن كان له قيراطان من أجر، كل قيراط مثل أحد، و من صلى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد". فأرسل ابن عمر خبابًا إلى عائشة فسألها عن قول أبي هريرة، ثم يرجع إليه فيخبره ما قالت، و أخذ ابن عمر قبضة من حصباء المسجد يقلبها في يده حتى رجع إليه الرسول، فقال: قالت عائشة: صدق أبو هريرة، فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض ثم قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة" (64) .
و في رواية قال ابن عمر: "أنت أعلمنا يا أبا هريرة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - و أحفظنا لحديثه" (65) .
فهذه عائشة رضي الله عنها تصدق أبا هريرة، و هذا ابن عمر على جلالته و إكثاره من الرواية يعزب عنه حديث هام كهذا، بل قد قال الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى: "هذا الحديث رواه اثنا عشر صحابيًّا" (66) ، فيهم ثوبان و أبي بن كعب و أبو سعيد الخدري و عبد الله بن مغفل و أنس بن مالك و ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين (67) . فهؤلاء علماء المهاجرين و الأنصار.
و قد كان أبو هريرة يجلس إلى حجرة عائشة فيحدث ثم يقول: " يا صاحبة الحجرة، أتنكرين مما أقول شيئًا؟ " فلما قضت صلاتها لم تنكر ما رواه، لكن قالت: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسرد الحديث سردكم (68).
و معلوم أن عائشة من المكثرات في الرواية، فقد ذكر لها المحدثون ألفين و مائتين و عشرة أحاديث، اتفق الشيخان منها على مائة و أربعة و سبعين و انفرد البخاري بأربعة و خمسين و مسلم بثمانية و ستين (69) .
و هذا طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة يقول عنه " لا نشك أنه سمع ما لم نسمع " (70) .(8/20)
فتأمل هذا جيدًا ثم أخبرني بربك أليست هذه الآثار و النصوص، و غيرها كثير، تدل على أن أبا هريرة كان باتفاق كبار الصحابة و علمائهم أوسعهم رواية، و أنهم كانوا يقرون له بذلك، و أنه لم ينفرد عن جملتهم بعلم لا يعلمونه، و أنَّ كلاًّ بلَّغ ما عنده من علم على قدر طاقته و جهده و أدائه فرض الكفاية عليه، إذ تبليغ العلم باتفاق العلماء فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين. و بالله التوفيق.
و بهذا يظهر لك أيضًا الجواب عن سؤال الكاتب الأخير و أن أبا هريرة بالفعل كان مرجعًا للصحابة في روايته بل و في فهمه كما سيأتي في المباحث التالية بحول الله تعالى و قوته. و بالله نتأيد.
ملازمة أبي هريرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
إن ملازمة أبي هريرة رضي الله عنه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مسألة بدهية في سيرته رضي الله عنه، و مع هذا فقد عقد الضال بوهندي لذلك فصلاً جعل يناقش فيه بأسلوب السفسطة و المكابرة التي ترد الحقائق الواضحة التي لا شك فيها ولا مين، و ادعى أن ملازمة أبي هريرة رضي الله عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر ادعاه أبو هريرة نفسه و لم يشهده أحد إلاَّ ما كان من حسان بن ثابت و عبد الله بن عمر رضي الله عنهما و هي أيضًا رواية تحتاج لمدارسة (71) .
و هذا الكلام قد مللنا من تكراره و الرد عليه، إذ قد قدمنا أن جمعًا من الصحابة الكبار شهدوا له بأنه سمع ما لم يسمعوا و شهد ما لم يشهدوا، و أنهم أقروا بصدقه في كل ما يرويه، و أن هؤلاء الذين شهدوا له فيهم جمع كبير من شيوخ الصحابة و أهل السابقة كطلحة و الزبير و عائشة و غيرهم، رضوان الله عليهم جميعًا. لا كما يدعي هذا المفتري الأفاك.(8/21)
ثم إنه انتهى في آخر الفصل إلى إيراد جملة من الشبه على قضية الملازمة هذه حتى ينسفها من أصلها و من هذه الشبه التافهة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن كحال العلماء الذين يجلسون للدروس ثم ينصرفون لمشاغلهم فمن حضر الدرس استفاد و من لم يحضره ضاعت عليه الفائدة، بل كان كثير المهام و الأشغال و كانت الدعوة و التدريس جزءًا صغيرًا من مهامه الشريفة.
و الجواب عن هذا أن يقال و ماذا في ذلك؟ و أبو هريرة يقول إنه كان يصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - في جل أموره و يلازم مجالسه العلمية و يوقف نفسه على ذلك، و هذا كان ديدن طلبة العلم قديمًا في ملازمة المشايخ أنى حلوا و ارتحلوا حتى جمعوا بين العلم و العمل، و سيرهم في ذلك معروفة معلومة لمن اهتم بها.
و من طالع السنة تبين له صدق أبي هريرة رضي الله عنه، و تفاهة شبه هذا الضال، فهذا الإمام البخاري رحمه الله تعالى يعقد بابًا في »الصحيح « بعنوان: "باب التناوب في العلم". وأورد تحته هذا الحديث عن عمر رضي الله عنه قال : " كنت أنا و جار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد – و هي من عوالي المدينة – و كنا نتناوب النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل يومًا و أنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي و غيره و إذا نزل فعل مثل ذلك (72) .
قال الحافظ ابن حجر، رحمه الله تعالى: "و فيه أن الطالب لا يغفل عن النظر في أمر معاشه ليستعين على طلب العلم و غيره، مع أخذه الحزم في السؤال فيما يفوته يوم غيبته، لما علم من حال عمر أنه كان يتعانى التجارة إذَّاك" (73) .
فهذا الحديث و غيره كثير يدل على تناوب الصحابة في حضور مجالس النبي - صلى الله عليه وسلم - لمشاغلهم، و يدل على وجود مجالس علمية يعقدها صلوات ربي و سلامه عليه.(8/22)
على أن أبا هريرة يقول إنه كان يحضر ما لا يحضر غيره و هذا عام في كل موقف و اجتماع و أمر يفعله الحبيب المصطفى، و نحن نعلم بعض العلماء المجاهدين و غيرهم و لهم أصحاب لازموهم في الحل و الترحال حتى أضحوا يعلمون عنهم ما لا يعلمه نساؤهم و أبناؤهم، و لكن بوهندي لما حُرم صحبة العلماء، و كان قصارى علمه الصحف و شهادات الزور لم يتقبل عقله القاصر هذا فصار يرد الأمورالبينة و قديمًا قيل: "إنكار الواضحات من الفاضحات".
فصل:
مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
عقد الخبيث فصلاً يتدخل فيه لينافح بزعمه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها و ادعى أن أبا هريرة قلل أدبه عليها.
فقد افتتح الفصل بأثر ابن سعد عن سعيد بن العاص الأموي قال: قالت عائشة لأبي هريرة: إنك لتحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا ما سمعته منه فقال أبو هريرة: يا أمَّه طلبتها و شغلك عنها المرآة و المكحلة، و ما كان يشغلني عنها شئ.
و في رواية قالت: لعله – أي لعل ذلك هو السبب" (74) .
و بوهندي هنا يلبس لبوس النسَّاك و يظهر الورع الكاذب، و لو اتقى الله تعالى لعلم أن هذين علمين كبيرين و أنه قزم صغير قصارى أمره أن يترضى عليها لأنه لا يدخل بين الجلد و الظفر إلاَّ الوسخ كما يقول المثل المغربي.
و لقد طالت حياة السيدة عائشة أم المؤمنين و حياة أبي هريرة، فكانت حاجة الناس إليهما بمقدار حياتهما فيهم. و لهذا روي عنهما من الحديث ما لم يرو عن غيرهما، و قد كان أبو هريرة يحدث فتستدرك عليه السيدة عائشة تارة، و توافقه تارة أخرى، كما كان يحدث مع غيره من الصحابة. فقد استدركت السيدة عائشة على أبي بكر و عمر و عثمان و علي و ابن عمر و أبي هريرة، و قد جمع ذلك كله الإمام الزركشي في كتاب مفرد سماه " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة " بين وجه الصواب في كل مسألة من تلك المسائل.(8/23)
و في كل هذا لم يشعر الصحابة بغضاضة أو حرج لأن هدفهم جميعًا واحد، و هو تطبيق الشرع، و ما كان الصحابة يكذب بعضهم بعضًا، إلاَّ أن من جاء بعدهم من أهل الأهواء الذين استغلوا ما دار بين الصحابة من نقاش علمي، أو تثبت في الحديث و جعلوا منه مادة ينفذون من خلالها لمآربهم. و ما من حادثة و نعت لأبي هريرة مع أمنا عائشة رضي الله عنها إلاَّ بين العلماء وجه الحق فيها، و لم يروا في عائشة موقف المكذب لأبي هريرة، و لم يفهم أحد فيما دار بينهما أن أبا هريرة كذاب يتهمه الصحابة في صدقه و علمه، إلاَّ ما كان من أعداء السنة، أهل البدع و الأهواء (75) .
و قد تقدم معنا بعض الروايات التي تشهد فيها عائشة بصدق أبي هريرة و تبين أنها إنما تنكر سرده للحديث و طريقة حكايته.
و قد كان بين عائشة و أبي هريرة من الود و الاحترام و التقدير ما هو معلوم في سيرتهما، و يكفي أنه هو الذي صلى عليها بعدما توفيت رضي الله عنها (76) .
و أما مقارنة هذا الجاهل أحاديث أبي هريرة ذات الطابع العجائبي بزعمه مع أحاديث السيدة عائشة العلمية، فهذا من فرط ضلاله و رده السنة بالهوى و الرأي، و ما أحوجه أن يصنع به ما صنع عمر رضي الله عنه بصبيغ العراقي لما جعل يناقش معاني القرآن بالهوى (77) .
و نحن لا نستبعد أن يخرج علينا هذا الرجل بكتاب آخر عنوانه »أكثرت عائشة«؛ فإنها من المكثرات رضي الله عنها، فيعمد إلى ما كتبه عنها أسياده من الرافضة لعنهم الله فيجمعه كما فعل في هذا الكتاب الخبيث، و إلاَّ فنحن نعلم أنه لا يهمه لا أبو هريرة و لا عائشة، إنما همه هدم السنة كلها، و هيهات فقد فشل في ذلك كبار أئمة الضلال الذين مروا في التاريخ فبقيت السنة صامدة محفوظة بحفظ الله، و ذهب الضالون و الزنادقة مقبوحين ملعونين على لسان كل مخلص صادق.
فصل:
طعن المؤلف في الأحاديث المتواترة:(8/24)
الأحاديث المتواترة: هي التي رواها جمع من الناس عن من قبلهم بحيث يستحيل أن يتفقوا فيها على الكذب، و هي تفيد القطع، و منكرها منكر لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، و هذا كفر و العياذ بالله تعالى (78) .
... و قد عمد بوهندي إلى جملة من الأحاديث التي يستنكرها على أبي هريرة رضي الله عنه و يزعم أنها من العجائب و الغرائب مع أنها أحاديث متواترة.
فمن ذلك:
أحاديث تكثير القليل من الطعام للنبي صلى الله عليه وآله و سلم، أشار لتواترها القاضي عياض في » الشفا « و قال: "وقد اجتمع على معنى هذا الفصل بضعة عشر من الصحابة و رواه عنهم أضعافهم من التابعين، ثم من لا يعد بعدهم، و أكثرها في قصص مشهورة ومجامع مشهودة لا يمكن التحدث عنها إلا بالحق و لا يسكت الحاضر لها على ما أنكره" (79) .
حديث الشفاعة العظيم الجليل: و هو في » المسند « و الصحيحين و سائر كتب السنة، و أطال ابن خزيمة رحمه الله في كتاب » التوحيد « (2/588) في تخريجه، و قد رواه غير أبي هريرة: ابن عمر و ابن عباس و أنس و حذيفة، رضي الله عنهم أجمعين، و نص على تواتر أحاديث الشفاعة جمع من الأعلام (80) .
أحاديث الفتن و أعلام النبوة: لم ينفرد بها أبو هريرة رضي الله عنه، بل أفرد لها الحفاظ مصنفات خاصة لذكرها، و قد جمع جملة صالحة مما تواتر منها جد جدنا الإمام محمد بن جعفر، رحمه الله تعالى في » نظم المتناثر « و عم والدنا العلامة محمد الناصر بن محمد الزمزمي الكتاني في: » عيون الآثار فيما تواتر من الأحاديث و الأخبار «.(8/25)
أحاديث أن الأئمة من قريش، رواها الإمام أحمد في »المسند« وهي في الصحيحين و السنن عن جمع من الصحابة غير أبي هريرة رضي الله عنه كأبي برزة وأنس و علي و أبي بكر الصديق و ابن عمر و عمرو بن العاص و معاوية و جبير بن مطعم و عبد الله بن السائب و عبد الله بن حنطب و جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، و نص على تواترها الحافظان ابن حجر والسخاوي، و أجمع أئمة الإسلام على العمل بمضمونها (81) .
أحاديث وجوب الخضوع للإمام المسلم الحاكم بالشريعة و ملازمة الجماعة: نص على تواترها جمع من أهل الحديث، و قد ذكر الإمام أبو الطيب القنوجي في كتاب » العبرة فيما جاء في الغزو و الشهادة و الهجرة « أنها متواترة و ممن رواها غير أبي هريرة وائل ابن حجر وأبو مالك و ابن عمر و أبو ليلى رضي الله عنهم (82) .
و بهذا يتبين صدق أبي هريرة رضي الله عنه فيما حدث به و أن تلك الأحاديث نطق بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و رواها عنه الثقات الأثبات، و من رد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان للكفر أقرب منه للإيمان، نسأل الله السلامة و العافية.
فصل:
حفظ أبي هريرة رضي الله عنه:
قد تمهد بما قدمناه – بحمد الله تعالى – صدق أبي هريرة - رضي الله عنه- فيما يحدث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، و تقرر عند كافة أهل العلم أنه أحفظ الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، و أن السبب في ذلك كثرة ملازمته النبي - صلى الله عليه وسلم - مع اهتمامه و قوة حفظه، و يضاف إلى ذلك ما أكرمه الله تعالى به من المعجزة النبوية التي رواها المحدثون في » المسند « و » الصحيحين « و » السنن « و اللفظ للبخاري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: "قلت: يا رسول الله إني أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه، قال: "أبسط رداءك". فبسطته. قال: فغرف بيديه ثم قال: "ضمَّه"، فضممته، فما نسيت شيئًا بعده" (83) .(8/26)
و عند أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ألا من رجل يأخذ بما فرض الله و رسوله، كلمة أو كلمتين أو ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا فيجعلهن في طرف ردائه فيتعلمهن و يعلمهن"، قال أبو هريرة فقلت: أنا يا رسول الله، قال: "فأبسط ثوبك"، قال: فبسطت ثوبي فحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: "ضم إليك"، فضممت ثوبي إلى صدري (84) .
قال الحافظ في » الفتح « (85) : "في هذين الحديثين فضيلة ظاهرة لأبي هريرة و معجزة واضحة من علامات النبوة، لأن النسيان من لوازم الإنسان، و قد اعترف أبو هريرة بأنه كان يكثر منه ثم تخلف عنه ببركة النبي - صلى الله عليه وسلم -".
إلا أن هذا كله لم يرق لصاحبنا بوهندي، فعقد فصلاً يتهكم فيه من هذا الصحابي الجليل بعنوان "يحفظ فلا ينسى"، و أورد جملة من هذه الأحاديث التي تقرر هذا المعنىالذي ذكرته ثم عقب عليها بعدة شبه ملخصها:
أن هذه المعجزة لم ترو إلا عن أبي هريرة و لم يشهد له بها أحد، و هو في نفسه غير مقبول الشهادة!!.
أنه من غير المعقول أن يحجم الصحابة عن بسط أرديتهم في هذا الموقف مع دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم لذلك و لا يقدم على ذلك إلا أبو هريرة.
أن هذا لو حدث لكان أبو هريرة مرجعًا للصحابة و لسموه "صاحب النمرة أو الرداء" تخليدًا لهذه المعجزة، لا أن يكنوه بأبي هريرة!!.
هذا ملخص هراء هذا الرجل الذي لا يدري ما يخرج من رأسه، و ردًّا عليه نقول، و بالله نتأيد و نستعين:
أولاً: ثبت للقارئ الكريم مرارًا في هذه الأبحاث المسدَّدة، بتوفيق من الله سبحانه، ثقة و عدالة أبي هريرة، بل و جميع الصحابة الكرام، رضوان الله و رحمته عليهم أجمعين.
و ثانيًا: قد ثبتت هذه الكرامة لأبي هريرة من طريق غيره من الصحابة رضي الله عنهم.(8/27)
فقد روى الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في » المستدرك على الصحيحين « من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "كنت أنا و أبو هريرة و آخر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ادعو". فدعوت أنا و صاحبي و أمن النبي صلى الله عليه و آله و سلم ثم دعى أبو هريرة فقال : اللهم إني أسألك مثل ما سألك صاحباي، و أسألك علمًا لا ينسى، فأمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: و نحن كذلك يا رسول الله، فقال: "سبقكما الغلام الدوسي" (86) .
و هذا الحديث ذكره الحافظ في » الفتح « (1/285) و سكت عنه، و هو أيضًا في » السنن الكبرى « للنسائي بسند جيد في كتاب العلم.
و ثالثًا: هب أن أحدًا لم يذكر هذه الكرامة غير أبي هريرة رضي الله عنه، فقد ثبتت كثير من القصص عن جمع من الناس لم تُعلم إلا من طريقهم، و لمَّا تلقاها الناس بالقبول علمنا صدقهم فيما رووا، و كذلك الحال مع أبي هريرة رضي الله عنه، فقد وردت هذه القصة عنه بروايات كثيرة عن جماعة من التابعين، و ما علمنا أحدًا كذبها و لا أنكرها، بل ما زالوا يذكرونها في مناقبه و يردون بها على من سأل من التابعين عن سبب كثرة روايته.
و الدليل على صدق أبي هريرة في تلك القصة واقع الحال فقد روى حماد بن زيد: حدثني عمرو بن عبَيد الأنصاري: حدثني أبو الزعيزعة – كاتب مروان، أن مروان أرسل إلى أبي هريرة، فجعل يسأله، و أجلسني خلف السرير، و أنا أكتب، حتى إذا كان رأس الحول دعا به، فأقعده من وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد و لا نقص، و لا قدم و لا أخر.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: "هكذا فليكن الحفظ" (87) .(8/28)
قال أبو محمد كاتب هذه السطور-: قد كان جولدزيهر اليهودي المستشرق أكثر إنصافًا من بوهندي، فإنه زعم أن هذه الكرامة وضعها العامة ليرفعوا بها من قيمة أبي هريرة (88) . و أما بوهندي فزعم أن أبا هريرة رضي الله عنه هو الذي افتراها، (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا) .
و أما قوله إنه من المستحيل أن يُقْدِم أبو هريرة على بسط ثوبه و يُحْجِم بقية الصحابة، فيقال: كلا، فلا عجب و لا استحالة في ذلك، و لهذا نظائر عدة في مواقف أشد من هذه.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ سيفًا يوم أحد فقال: "من يأخذ مني هذا؟" فبسطوا أيديهم، كل إنسان يقول: أنا، أنا، قال: "فمن يأخذه بحقه؟". قال فأحجم القوم، فقال سِماك بن خرشة –أبو دجانة-: أنا آخذه بحقه. قال: فأخذه ففلق به هام المشركين (89) .
و أشد من ذلك ما حدث يوم الأحزاب، فعن محمد بن كعب القرظي قال: "قال فتى منا من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، رأيتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و صحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي. قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: و الله كنا نجتهد، قال: و الله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض و لجعلناه على أعناقنا. قال: فقال حذيفة: يا ابن أخي، و الله لقد رأيتُنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخندق، و صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل هُويا، ثم التفت إلينا فقال: "من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم، يشترط له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يرجع أدخله الله الجنة"، فما قام رجل، ثم قال في المرة الثانية: "أن يكون رفيقي في الجنة"، فما قام رجل من القوم مع شدة الخوف و شدة الجوع و شدة البرد، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" الحديث (90) .(8/29)
و هناك نظائر أخرى لهذه ذكرها أهل العلم أحجم فيها صحابة و خص الله فيها آخرين بكرامة و فضل {ذلك فضل الله يوتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم} .
و ثالثًا: فقد تقدم معنا مرارًا أن أبا هريرة كان مرجعًا للصحابة و التابعين في الرواية و أما لماذا لم يلقب الصحابة أبا هريرة بصاحب النمرة أو ما شابه هذا، فهو سؤال سخيف إذ الألقاب و الكنى أمور تتفق دون أن يسأل عنها الناس و ليس بهذا ترد الأحاديث الصحيحة و الروايات الثابتة.
أوردها سعد و سعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل
فصل:
أبو هريرة و عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:
روى البخاري في » الصحيح « (113) عن وهب بن منبه عن أخيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: ما من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب و لا أكتب.
و أخرج الإمام أحمد (6947) بسند صحيح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله أكتب ما أسمع منك؟ قال: "نعم"، قلت: في الرضا و الغضب؟ قال: "نعم؛ فإني لا أقول إلا حقًّا" .
و قد أورد بوهندي على قضية كتابة ابن عمرو الحديث و أنه أكثر حديثًا من أبي هريرة عدة إشكالات و شبها هذا ملخصها:
تأخر إسلام ابن عمرو عن أبي هريرة و قلة ملازمته النبي - صلى الله عليه وسلم -.
واقع الحال أن أحاديث أبي هريرة أكثر بكثير من أحاديث ابن عمرو ثم استنتج بأسلوب شيطاني ماكر أنه عندما كان ابن عمرو أكثر رواية ذكر أبو هريرة هذا الحديث، فلما تجاوزت روايات أبي هريرة كل الصحابة – و هو ما كان يطمح إليه- و ملأت رواياته الآفاق ادعى هذه الدعاوى!! (91) .
فأقول: ما أشد جرأتك في الباطل و أقل حياءك أيها المكذب لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبتغي لنا الفتنة في الدين.(8/30)
فعبد الله بن عمرو بن العاص أسلم قبل أبيه الذي هاجر مسلمًا أوائل سنة 8 فيكون إسلامه قريبًا من قدوم أبي هريرة (92) على النبي - صلى الله عليه وسلم - و تلك الفترة كانت ذات شأن عظيم تفرغ فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - للدعوة و التوجيه بعد مهادنته لقريش، ثم إن الصحابة يروي بعضهم عن بعض فليس كل ما رووه بالضرورة سمعوه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مباشرة (93).
أما الشبه الأخرى فقد تكفل بالرد عليها خاتمة الحفاظ الإمام ابن حجر رحمه الله فقال: "هذا استدلال من أبي هريرة على ما ذكره من أكثرية ما عند عبد الله بن عمرو على ما عنده و يستفاد من ذلك أن أبا هريرة كان جازمًا بأنه ليس في الصحابة أكثر حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منه إلا عبد الله، مع أن الموجود المروي عن عبد الله بن عمرو أقل من الموجود المروي عن أبي هريرة بأضعاف مضاعفة، فإن قلنا الاستثناء منقطع فلا إشكال، إذ التقدير: لكن الذي كان من عبد الله و هو الكتابة لم يكن مني، سواء لزم كونه أكثر حديثًا لما تقتضيه العادة أم لا. و إن قلنا الاستثناء متصل فالسبب فيه من جهات:
أحدها: أن عبد الله كان مشتغلاً بالعبادة أكثر من اشتغاله بالتعليم فقلت الرواية عنه.
ثانيها: أنه كان أكثر مُقامِه بعد فتوح الأمصار بمصر أو بالطائف و لم تكن الرحلة إليهما ممن يطلب العلم كالرحلة للمدينة، و كان أبو هريرة متصديًا للفتوى و التحديث إلى أن مات. و يظهر هذا من كثرة من حمل عن أبي هريرة، و قد ذكر البخاري أنه روى عنه 800 نفس من التابعين و لم يقع هذا لغيره.
ثالثها: ما اختص به أبو هريرة من دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - له بأن لا ينسى ما يحدث به.
رابعها: أن عبد الله كان قد ظفر في الشام بحَمْل جَمَلٍ من كتب أهل الكتاب فكان ينظر فيها و يحدث منها فتجنب الأخذ عنه لذلك كثير من أئمة التابعين".(8/31)
ثم قال بعد: "و يحتمل أن يقال تحمل أكثرية عبد الله بن عمرو على ما فاز به عبد الله من الكتابة قبل الدعاء لأبي هريرة، لأنه قال في حديثه: فما نسيت شيئًا بعد. فجاز أن يدخل عليه النسيان فيما سمعه قبل الدعاء، بخلاف عبد الله فإن ما سمعه مضبوط بالكتابة" (94).
و يضاف إلى هذا أن عبد الله بن عمرو لم يكن على وفاق مع معاوية و ابنه يزيد فلم يفسح له مجال التحديث و الاشتغال بالتعليم.
فعن عبد الله بن أبي الهذيل، عن شيخ من النخع قال: دخلت مسجد إيليا – بيت المقدس – فصليت إلى سارية ركعتين، فجاء رجل فصلى قريبًا مني، فمال إليه الناس، فإذا هو عبد الله بن عمرو بن العاص، فجاءه رسول يزيد بن معاوية: أن أجب، فقال: هذا ينهاني أن أحدثكم كما كان أبوه ينهاني. و إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أعوذ بك من نفس لا تشبع و من قلب لا يخشع و من دعاء لا يسمع و من علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع" (95) .
فهذا هو جواب أهل العلم و الإيمان فيه الجمع بين النصوص و التعظيم لأصحاب الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. أما غيرهم فقد حرموا ذلك كله فضلوا ضلالاً مبينًا، نسأل الله الهداية و السلامة.
فصل:
إنكار بوهندي وجود أصحاب الصفة:
أقدم بوهندي على إنكار جملة من الواضحات التي لا شك فيها، مكابرة منه و دفعًا بالصدر، ففضح بذلك نفسه.
و من الأمور المستفيضة المشهورة التي أنكرها وجود أصحاب الصفة رضي الله عنهم، فقال: "و من هم أضياف الإسلام هؤلاء، الذين سموا بأصحاب الصفة؟ إننا لا نعرف عنهم شيئُا إلا من روايات أبي هريرة. ما هي أسماؤهم؟ أو أسماء بعضهم غير أبي هريرة؟ لماذا لا يتحدثون عن أنفسهم و يقولون: نحن أضياف الإسلام الذين لا شغل لنا إلا انتظار الصدقات في المسجد النبوي؟ و هل كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يبارك تجمعهم هذا؟" إلخ هرائه و هذيانه (96) .(8/32)
و أقول: إني لأكثر الاستغراب و التعجب من هذا الجاهل كيف يجعل عدم علمه و اطلاعه حجة على الناس، و أعجب من ذلك أن يجعل مدرسًا و "دكتورًا" في الجامعة بقسم الدراسات الإسلامية فلا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم، و لله در الإمام الحافظ ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى لما قال:
تصدر للتدريس كل مهوس
جهول يسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا
ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها
كلاها و حتى سامها كل مفلس
أما أصحاب الصفة – يا عدو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - فهم الذين كانوا يجاورون بيت المصطفى - صلى الله عليه وسلم - و يكونون على دكة من المسجد يتدارسون القرآن، و يتفقهون في الدين و يأتيهم رزقهم مما تجود به جعاب الناس من تمر و أقط و سويق، و يشاركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زاده، و كانوا يزدادون و يكثرون، فربما بلغوا أكثر من سبعين رجلاً، و يقلون إلى أن يكونوا نحوًا من ثلاثين، وسبب ذلك أن أحدهم إذا وجد عملاً اشتغل به و ترك مكانه من الصفة و لجأ إلى الاكتساب و طلب المعيشة (97) .
و مكان الصفة اليوم هو الدَّكَّة المرتفعة الموجودة وراء المواجهة الشريفة من جهة الداخل من باب عثمان رضي الله عنه، و تسمى دكَّة الأَغَوَات، و عهدي بها لا يجلس فيها إلا الأخيار و العلماء و الصالحون، و هكذا تلقينا عن سيدنا الجد الإمام محمد المنتصر رحمه الله تعالى، و كان من الملازمين للجلوس بها.(8/33)
قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني، رحمه الله تعالى، في » حلية الأولياء«: "و كان عدد قاطني الصفة يختلف على حسب اختلاف الأوقات و الأحوال، فربما تفرق عنها و انتقص طارقوها من الغرباء و القادمين فيقل عددهم، و ربما يجتمع فيها واردوها من الوراد و الوفود فينضم إليهم فيكثرون، غير أن الظاهر من أحوالهم، و المشهور من أخبارهم غلبة الفقر عليهم، و إيثارهم القلة، و اختيارهم لها" (98) .
و قد اعتنى الحافظ أبو نعيم، رحمه الله تعالى، بأصحاب الصفة في كتابه » الحلية « فذكر أسماءهم و أحوالهم، و لخص ذلك الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في » صفة الصفوة «، و تراجم القوم مبثوثة في » الاستيعاب « لابن عبد البر -حافظ المغرب-، و » أسد الغابة « لابن الأثير، و » الإصابة « لخاتمة الحفاظ ابن حجر العسقلاني و غيرها من المراجع كالطبقات و كتب التاريخ.
و أما أنك أيها الجاهل لا تعرف عنهم شيئا إلا من روايات أبي هريرة رضي الله عنه، فذلك لضعف همتك عن مطالعة الكتب التي قدمت لك، و لكن قصارى أمرك التقميش و التهويش و التشويش.
فقد ورد ذكر أصحاب الصفة عن جماعة من الصحابة فمن بعدهم فمن ذلك ما جاء عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، رضي الله عنهما قال: "إن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء، و إن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال: "من كان له طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس، بسادس". أو كما قال. و إن أبا بكر جاء بثلاثة، و انطلق نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بعشرة. " و هذا حديث صحيح متفق على صحته (99) .
و عن طلحة بن عمرو قال: كان الرجل إذا قدم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - و كان له بالمدينة عريف نزل عليه، و إذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة، قال: و كنت فيمن نزل الصفة، فوافقت رجلا و كان يجري علينا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل يوم مد من تمر بين رجلين.(8/34)
و عن أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لماولدت فاطمة حسينًا قالت: يا رسول الله ألا أعق عن ابني؟ قال: "لا و لكن احلقي رأسه و تصدقي بوزن شعره ورِقًا على الأوفاض و المساكين"، يعني بالأوفاض أهل الصفة (100) .
و عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و نحن في الصفة فقال: "أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان و العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم و لا قطيعة رحم؟" فقلنا: يا رسول الله، كلنا نحب ذلك. قال: "أو لا يغدوا أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله تعالى خير له من ناقتين، و ثلاث، و أربع، خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل" (101) .
و الأحاديث و الآثار بهذا المعنى كثيرة عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، تركتها رومًا للاختصار، و يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
أما أسماء أصحاب الصفة فكثير سأسرد لك بعضها {ليهلك من هلك عن بينة و يحي من حي عن بينة}، و ليظهر للقارئ الكريم مدى جهل هذا الكويتب الذي ابتلي به المسلمون، و فرح به العلمانيون و أهل اليسار، لا بارك الله فيهم و لا فيمن انتمى إليهم.
فمن أهل الصفة أسماء بن حارثة الأسلمي (102) و الأغر المزني (103) و بلال بن رباح (104) و البراء بن مالك –شقيق أنس بن مالك- كما حكى ذلك محمد بن اسحق صاحب المغازي، رحمه الله تعالى (105) و أبو ذر الغفاري (106) و جرهد الأسلمي - صاحب حديث: "الفخد عورة" (107)، و جُعَيْل بن سراقة الضمري و حذيفة بن اليمان –خالط أهل الصفة مدة فنسب إليهم- و حذيفة بن اسيد الغفاري و حارثة بن النعمان الأنصاري، حكى النسائي أنه من أهل الصفة، و هو من أهل بدر، و حازم بن حرملة الأسلمي، حكى ذلك الحسن بن سفيان الفسوي رحمه الله تعالى (108).(8/35)
و يطول بنا المقام في تعداد أسماءبقية أهل الصفة، و لكن من أراد ذلك فعليه بكتاب » أصحاب الصفة « لعلامة الحجاز الأديب اللغوي أبي تراب الظاهري، رحمه الله تعالى، ففيه الكفاية و السداد.
و لك أن تقارن هذا مع ما كان عليه أصحاب الصفة من الاجتهاد في العبادة و العلم، و الزهد في الدنيا، و ما قاله بوهندي الجاهل من أنهم كانوا متسولين عالة على المسلمين...
فحقيقة أهل الصفة هي أنهم كانوا أضيافًا على المسلمين، و كانت الصفة مَضافة و مدرسة لهم، و لذلك فقد كانوا يقلون و يكثرون بحسب الظروف و الأحوال، فمن وجد منهم عملاً انشغل به و انصرف إليه، و من كان حديث الهجرة و لا مال له و لا أحد ينزل عليه كان ينزل على المسلمين في الصفة.
و عليه فلا مكان لما هذى به بوهندي من قوله السخيف: "ألم يقل لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا: اخرجوا من هذه المسكنة و الذلة التي أنتم فيها، و اكسبوا قوتكم من عرق جبينكم فإن الإسلام الذي جئتم به لا يصنع المعتكفين المتسولين، و إنما يصنع العباد العاملين ذوي الأيد؟.." (109) .
وقوله: "و لم آتكم لأجدكم أوعية لنقل أخبار الحاضرين و السالفين دون أن يكون لذلك أي تأثير في حياتكم و سلوككم" (110) .
لأن واقع حال أصحاب الصفة، رضوان الله عليهم، يكذب هذا و يدل على أنهم كانوا من خيار الصحابة علمًا و عملاً فكم واحد منهم أصبح من كبار علماء الصحابة و عامتهم أبلوا البلاء الحسن في الجهاد في سبيل الله تعالى. و لكن إذا قل علم المرء و اغتر بنفسه و صادف شياطين من الإنس و الجن يزينون له ضلاله تتايع في الباطل و غرق في الضلالة. نسأل الله العافية و السلامة.(8/36)
و قد أنكر –هذا الجاهل- كذلك معجزة تكثير اللبن الذي شرب منه أصحاب الصفة بأجمعهم ثم أبو هريرة ثم بقيت فضلة شربها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "و قصة تكثير اللبن هذه من خصوصيات رواية أبي هريرة، و المشكلة أننا لا نعرف أحدًا من أهل الصفة حتى نسأله عن هذه المعجزة التي لا يشهدها أحد إلا أبو هريرة" (111) .
و قد بان للقارئ الكريم قيمة هذا الهراء الذي يهرف به بوهندي و تقدم معنا قبل صفحات قليلة إنكاره للأحاديث المتواترة، ومنها تكثير الطعام ببركته - صلى الله عليه وسلم -، فقد قال جد جدنا الإمام محمد بن جعفر، رحمه الله تعالى: "وردت من رواية جماعة من الصحابة حتى قال بعضهم: إنها متواترة تواترًا معنويًا و أشار لتواترها أيضًا عياض فيما تقدم قريبًا عنه، بل أشار إلى أن القصص المشهورةعنه - صلى الله عليه وسلم - في هذا المعنى كلها معلومة على القطع، ثم قال بعد كلام في الاستدلال على ذلك: و هذا حق لا غطاء عليه، و قد قال به من أئمتنا القاضي (الباقلاني) و الأستاذ أبو بكر بن فورك و غيرهما، و ما عندي أوجب قول القائل: إن هذه القصص المشهوة من باب الخبر الواحد إلا قلة مطالعته للأخبار و روايتها و شغله بغير ذلك من المعارف، و إلا فمن اعتنى بطرق النقل و طالع الأحاديث و السير لم يرتب في صحة هذه القصص المشهورة على الوجه الذي ذكرناه" (112) .
و قال شيخ مشايخنا الحافظ الشريف أبو الفيض أحمد بن الصديق الغماري رحمه الله واصفًا أمثال هذا المتلاعب بدينه:(8/37)
"و لعلمهم أن السنة النبوية مبينة للشريعة و أن فيها جميع ما يحتاج إليه في الدين، يطعنون في صحة الأحاديث بعقلهم و هواهم لا بحجة و دليل، فقائل منهم يقول: لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أربعة أحاديث، و قائل يقول: إن الأحاديث اختلطت فلا يعرف صحيحها من سقيمها فلا يلزم العمل بشئ منها، و قائل يقول: إن جميع الأحاديث التي في »صحيح البخاري « كذب... و قائل يقول: إن الأحاديث ظنية و إنما القاطع هو القرآن، فكل ما لم يرو فيه صريحًا فنحن لا نقول به" (113) . ثم ذكر أحاديث تشير إلى هذا كله. نسأل الله سبحانه الهداية و الثبات على الحق.
فصل:
قاصمة الظهر: بوهندي ينكر صحبة أبي هريرة:
ما كنت أظن أن يصل الحال بالمردود عليه لهذه الدرجة من السقوط العلمي و إنكار البدهيات، و قد كان منذ بداية كتيبه يمهد لنتيجة ما سبقه إليها أحد من أعداء الإسلام و السنة المحمدية و هي إنكار أن يكون أبو هريرة قد صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، و أنه ما أسلم إلاََّّ زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، و أنه لم يشهد له أحد بالصحبة، إلى غير ذلك من الطوام و المصائب.
و نحن نرثى لحال العلم ببلادنا و التدهور الذي وصل إليه البحث العلمي، و لو كان هذا الكويتب في زمن كبار العلماء لأجروا له محاكمة قاسية و حكموا عليه بما يستحقه جزاء تلاعبه بدين المسلمين، و لكن كما قيل:
خلا لك الجو فبيضي و اصفري
و الناظر في الصفحات السابقة التي وفقنا الله سبحانه و تعالى لكتابتها لا يجد صعوبة في تكذيب ما يقوله هذا الكويتب، و لكن لزيادة الأمور وضوحًا لا بد من الرد على هذه النتيجة و المكابرة التي خرق بها إجماع الناس.(8/38)
فنقول: يا هذا، إنك لا تتكلم عن نكرة لم يعرف في التاريخ، أو مجهول شحت المصادر التاريخية أن تعطينا أخباره، أو رجل مغمور لا يكاد يعرفه إلاَّ الباحثون الكبار، و لكنك تتكلم عن صحابي عرفه الخاص و العام و اشتهر لا بكثرة الرواية فقط، بل و بالفتوى و العلم و المعرفة بالقرآن الكريم، و بكلمة أخرى أنت تتحدث عن إمام علاَّمة ملأ حياته بالمعرفة و أفاد المسلمين كثيرًا.
فهل يقول قائل إن سائر أئمة المسلمين و علمائهم من فقهاء و محدثين و قراء و صوفية و مدرسين كلهم جهلوا و غفلوا و لم يتبين لهم الحق حتى جاء هذا الرجل التافه في قومه المغمور في نفسه فأراد أن يظهر الحق الذي كان مكتومًا و تتابعت الأمة خمسة عشر قرنًا على عدم معرفته ...إن هذا لأمر عجاب.
و قد بنى المذكور هذه النتيجة على روايات ضعيفة و حسابات خاطئة. قال الإمام محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عمر- و هو الواقدي- حدثنا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح: سمعت أبا هريرة يقول لمروان: "و الله ما أنت وال و إن الوالي لغيرك فدعه – يعني حين أرادوا دفن الحسن بن علي عليهما السلام مع النبي - صلى الله عليه وسلم - – و لكنك تدخل فيما لا يعنيك، إنما تريد بها إرضاء من هو غائب عنك – يعني معاوية – فأقبل عليه مروان مغضبًا و قال: يا أبا هريرة إن الناس قد قالوا: أكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، و إنما قدم قبل وفاته بيسير، فقال: قدمت و الله و رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر و أنا يومئذ قد زدت على الثلاثين سنة سنوات و أقمت معه حتى توفي أدور معه في بيوت نسائه و أخدمه و أغزو و أحج معه و أصلي خلفه فكنت و الله أعلم الناس بحديثه" (114) .(8/39)
و بما أن المؤرخين قد ذهبوا إلى أن عمره بلغ ثمانيًا و سبعين سنة، و وفاته كانت حوالي سنة سبع و خمسين، فقد استنتج هذا الكويتب بحسابات نقص و زيادة أنه إنما أسلم في خلافة عمر بن الخطاب، و لم يصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - و لو سنة واحدة.
و الرد عليه سهل بحمد الله واضح جلي من أوجه:
الوجه الأول: أن هذا من كلام أبي هريرة نفسه، و أنت عقدت كتابك كله لتكذبه، فكيف صدقته هنا و كذبته في أحاديث أخرى؟
الوجه الثاني: أن هذا الأثر الذي بنى عليه الكويتب هذه الجبال من الجهالات باطل شديد الضعف فهو من رواية محمد بن عمر الواقدي، و هو ضعيف، بل كذبه جماعة من أهل الحديث، و توسط الحافظ ابن حجر فقال: "محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، المدني القاضي، نزيل بغداد، متروك مع سعة علمه، مات سنة سبع و مائتين، و له ثمان و سبعون" (115) .
و يروى عن كثير بن زيد، و قد ضعفه أغلب أئمة الجرح و التعديل، قال ابن حبان في » المجروحين« (2/222) :" كان كثير الخطأ على قلة روايته لا يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد. سمعت الحنبلي يقول سمعت أحمد بن زهير يقول: سئل يحيى بن معين عن كثير بن زيد فقال: ليس بذلك القوى. و قال: كان لا شئ ثم ضرب عليه".
و توسط الحافظ ابن حجر أيضًا فقال فيه: "صدوق يخطئ، مات في آخر خلافة المنصور" (116) ، و معنى صدوق إذا توبع و إلا فإن روايته ضعيفة.
الوجه الثالث:أن تحديد عمر أبي هريرة، رضي الله عنه، لما مات هو مأخوذ من هذه الرواية كما قال الحافظ في » الإصابة «: قال أبو سليمان بن زبر في » تاريخه « عاش أبو هريرة ثمانيًا و سبعين سنة. قلت: و كأنه مأخوذ من الأثر المتقدم عنه أنه كان في عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ابن ثلاثين سنة و أزيد من ذلك.(8/40)
و قد تفرد الواقدي أيضًا بأن عمر أبي هريرة رضي الله عنه كان ثمان و سبعين سنة لما مات، و مما يدل على خطئه في ذلك أنه زعم أن أبا هريرة صلى على أم سلمة رضي الله عنها لما ماتت، مع أنه مات قبلها بسنين إذ وفاتها كانت زمن يزيد بن معاوية (117) .
الوجه الرابع:أن القاعدة الأصولية المنطقية تقررأن اليقين مقدم على الشك، و المحكم مقدم على المتشابه، و اليقين المحكم هنا هو الذي تتابع عليه الناس جيلاً بعد جيل، و قرنا بعد قرن، عالمهم و جاهلهم، مسلمهم و كافرهم، كبيرهم و صغيرهم أن الرجل المكنى بأبي هريرة صحابي معروف و حياته مدونة في التواريخ، و جل أموره معروفة.
و الشك و المتشابه هو حساب الأعمار الذي لم يكن في ذلك الوقت دقيقًا لانعدام (الحالة المدنية) وقتذاك، و عدم وجود ديوان المواليد و الأموات و ما إلى ذلك. و قد قال تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تاويله} (آل عمران:7) .
الوجه الخامس:أن المثبت مقدم على النافي لأن معه زيادة علم، و هذه قاعدة حديثية منطقية أيضًا. و هنا لا نعلم أحدًا من الصحابة على كثرتهم و لا التابعين و لا من بعدهم حتى من أعداء أبي هريرة بل حتى الذين زعم الكويتب أنهم قالوا: أكثر أبو هريرة، أقول: لا نعلم واحدًا منهم أنكر صحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، و قد كانوا ينكرون أمورًا مخالفة للشرع أصغر من ذلك و أدق، فهل يتصور أن يجلس أبو هريرة المجالس تلو المجالس و هو يقول حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و قد أخذ عنه أكثر من 800 صحابي و تابعي ثم لا ينكر عليه أحد و يقول: أنت كاذب و إنما أسلمت حديثًا و لم تسمع أي شئ من رسول الله ...
الوجه السادس: أن الكويتب لقلة اطلاعه و مداركه العلمية يظن جهله بالشئ علمًا، و ينفي ما يكون قد أثبته العلماء الكبار كما قد مر معنا مرارًا.(8/41)
و هاهنا يقول: "الملاحظ أن الحديث عن هذه الملازمة إنما كان من أبي هريرة عن نفسه، و لم نجد أحدًا من الصحابة يتحدث عن هذه الملازمة و هذا الحضور، بل لم نجد له عندهم ذكرًا و لو عارضًا، أو أن أحدهم قد كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و كان أبو هريرة ملازمه حاضرًا و لو مرة واحدة إلا ما كان من رواية حسان الشاعر و عبد الله بن عمر و هي تحتاج إلى مدارسة خاصة" (118) .
و قال: "و من هذه الإشكالات أن هذه الملازمة لا يشهد بها المهاجرون و الأنصار و لو كان الأمر كذلك لشهدوا و لكنهم لا يعلمون عنه شيئًا" (119) .
و الكويتب هنا يتحدث بثقة كبيرة و كأنه من أهل الاستقراء التام في معرفة الرجال كابن عساكر أو الذهبي أو ابن حجر..
و قد تقدم معنا أكثر من مرة شهادات جمع من الصحابة لأبي هريرة بالحفظ و الصدق في الرواية فيها مشيخة من المهاجرين و الأنصار، و طلحة بن عبيد الله و الزبير بن العوام و عائشة الصديقة مع عبد الله بن عمر و حسان بن ثابت التي اعترف بها الكويتب.
و الرجل نفسه أورد العديد من الروايات التي تضحد شبهاته تجعلها كالريح لا قيمة لها و صدق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذ يقول: "إني أضمن ألاَّ يأتيني أحد بكلام لمبتدع إلا و في كلامه ما يبطله".
فقد مر معنا أثر أبي هريرة مع أمنا عائشة رضي الله عنها لما قال لها: "ما كانت تشغلني عنه المرآة و المكحلة و الدهن" قالت: "لعله" (120).
بل كل استدراكات السيدة عائشة رضي الله عنها إنما هي تصحيح أو مؤاخذة على فهم أبي هريرة و لكنها تقر بصحبته في كل ذلك.(8/42)
و نضيف شهادات صحابة آخرين فمنها: شهادة أبي أيوب الأنصاري، رضي الله عنه، فعن أشعث بن سليم عن أبيه قال: "أتيت المدينة فإذا أبو أيوب يحدث عن أبي هريرة فقلت: تحدث عن أبي هريرة و أنت صاحب رسول الله ؟ قال إنه قد سمع ما لم نسمع و أن أحدث عنه عن رسول الله أحب إلي من أن أحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (121) .
و روى هذا الأثر الحاكم في » المستدرك « (6175) و قال: "قال أبو بكر -هو ابن خزيمة إمام الأئمة-: و قد روى عنه أبو أيوب الأنصاري مع جلالة قدره و نزول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنده".
و ممن شهد له أبي بن كعب كما عند أحمد في » المسند « (20307) و أم الدرداء عنده أيضًا (10552) . رضي الله عن جميع الصحابة الكرام.
فصل:
أبو هريرة مقرئ فقيه:
تقدم معنا أن أبا هريرة ليس بالمحدث فقط بل هو مقرئ أيضًا. قال الذهبي: "و قد ذكرته في "طبقات القراء" و أنه قرأعلى أبي بن كعب. أخذ عنه: الأعرج و أبو جعفر، و طائفة و ذكرته في "تذكرة الحفاظ" فهو رأس في القرآن و في السنة و في الفقه".
و نقل عن أبي محمد بن حزم الأندلسي رحمه الله في "الأحكام" أنه قال: "المتوسطون فيمن روى عنهم من الفتاوى: عثمان و أبو هريرة و عبد الله بن عمرو بن العاص و أم سلمة و أنس و أبو سعيد و أبو موسى و عبد الله بن الزبير و سعد بن أبي وقاص وسلمان و جابر و معاذ و أبو بكر الصديق. فهم ثلاثة عشر فقط، يمكن أن يجمع من فتيا كل امرئ منهم جزء صغير" (122) .(8/43)
فأين هذا من قول هذا الضال المفتري : "و لم يكن أبو هريرة عالمًا و لا فقيهًا و لا حتى كاتبًا يمكن الاعتماد على علمه و فقهه في تمحيص النصوص و نقدها و مدارستها، إنما كان راوية قصاصًا كتبت له الإمامة بحسن وعظه وكثرة تحديثه وجرأته حتى أصبح واحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يحضر ما لا يحضرون و يحفظ ما لا يحفظون، وكتبت له الشهرة بولائه لبني أمية و آل مروان، و خدمته لهم و دفاعه عن حكمهم و ملكهم و جماعتهم و قبيلتهم، حتى أصبح صهرًا لهم، و أميرًا من أمرائهم وإمامًا من أئمتهم.." (123) .
فأقول: قد بين حالك أنت و مخازيك من هو أعرف مني بك فأترك له وصفك بالحق كما وصفت هذا الصحابي الجليل بالباطل، فقد قال أخونا الأستاذ حسن العلمي عن هذا الضال: "عرفت هذا المغبون جاهلا مغرمًا بشبه المستشرقين، صفر اليدين من علوم الدين، التي يعد بها المرء في ديوان أهل العلم، حاورته منذ سنتين فألفيته مولعًا بسخافات المعتزلة و العقلانيين الجدد، ومنها الطعن في عصمة الأنبياء، و إنكار نزول المسيح عليه السلام، و إنكار النسخ في القرآن الكريم، و التشكيك في عدالة الصحابة، و الاستهزاء بمناهج المفسرين، و كتب التفسير، و الاستهانة بكتب السنة، مع صفاقة وجه و قلة حياء في مطاولة الأكابر" (124) .
ثم قال: " وقد بلغني أنه يسير وفق مشروع مخطط له سلفًا، فهو حسب زعمه بعد أن انتهى من محو اسم أبي هريرة من ديوان الصحابة و الطعن في السنة سيستل صحفا أخرى من جرابه في موضوع » نحن و القرآن « لبيان فساد مناهج المفسرين، و ليقترح على الأمة منهج تفسير جديد للقرآن على سنة محمد شحرورالمهندس الحروري الكذاب" (125) .(8/44)
فيا أنصار الإسلام، و أهل العلم و الإيمان هبوا لنصرة الدين في المغرب، قبل أن نلتحق بحال إخواننا في الأندلس أو في غيرها، فنبكي ولات حين مندم فقد تحزم العلمانيون و اليساريون لهدم الدين فهل من ناصر؟! و هل من غيور ؟!. اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد.
فصل:
هل كان أبو هريرة مدلسا؟
عقد الكويتب بوهندي فصلا بعنوان: "تدليس أبي هريرة"، حشاه بالمغالطات المبنية على مقدمات باطلة؛ بينا – بفضل الله – قيمتها في الميزان العلمي. وقبل أن نخوض في الرد عليه؛ نبين للقارئ الكريم معنى التدليس عند علماء الحديث وحكمه. فنقول :
هو أن يروي الرجل عمن عاصره وسمع عنه ما لم يسمعه منه، بصيغة تحتمل السماع؛ كـ (عن) ، و (أن) ، وهو أنواع ذكرها أهل العلم في كتب مصطلح الحديث. وهو مأخوذ من الدلس؛ وهو: اختلاط الظلام.
والتدليس بجميع أنواعه مكروه عند أكثر أهل العلم بالحديث، وبعضه أشد كراهة من بعض، والسبب في ذلك هو: أن الراوي عليه أن يبين رجال السند حتى يعرف المحدث صحة الحديث بمعرفة تواريخهم وثقتهم وعدالتهم (126) .
إلا أنهم لما اتفقوا على عدالة الصحابة الكرام؛ لم يبالوا بعد ذلك بتدليس بعضهم عن بعض؛ لأنهم كلهم عدول؛ فجهالتهم في الإسناد لا تضر. ولذلك قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى: "كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظر في أحوالهم؛ سوى الصحابة. . . لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم" (127) .
هذا ما قاله أئمة علم الحديث ومقعدوه، أما الكويتب الشانئ فقد أبى إلا مخالفتهم، وتكلم في هذا الفصل بجهل كبير لا يطاق، وخلط تخليطا فاحشا في القواعد العلمية.
والحق أنه في هذا الفصل إنما جارى عبد الحسين شرف الدين الرافضي وتابِعِه أبي رية المصري.(8/45)
قال بوهندي: "روى الذهبي بسنده قال: سمعت الشعبي يقول: كان أبو هريرة يدلس...قلت: تدليس الصحابة كثير ولا عيب فيه؛ فإن تدليسهم عن صاحب أكبر منهم، والصحابة كلهم عدول.." (128) .
ثم أتبع هذا بشبهات حاصلها:
أن أبا هريرة يدعي الصحبة كذبا، فيخفي شيوخه حتى يقال : إنه صحابي سمع من النبي صلى الله عليه وأله وسلم بنفسه.
أن شيوخ أبي هريرة فيهم الصحابي والتابعي وأهل الكتاب، ولم يسمع ذلك كله من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان ينكشف أمره كان يعترف بهذا التدليس. ثم ضرب لذلك مثالا برواية أبي هريرة : " من أصبح جنبا فلا صوم له "، وأنه كان يدعي أنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما افتضح أمره برد أم المؤمنين عائشة وأم سلمة عليه؛ اعتذر بأنه سمعه من الفضل بن العباس، ثم رجع عن فتواه - .
والجواب عن هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا كلام جاهل أجنبي عن هذا العلم الشريف؛ فإن أول كلمة من كلامه تبين ذلك؛ إذ الذهبي لم يرو شيئا عن الشعبي ... إنما قال: " قال يزيد بن هارون. . . إلخ "، ولو رواه؛ لذكر إسناده منه إليه. فتأمل جيدا ...
الوجه الثاني: قد أجاب الذهبي نفسه عن ذلك كما نقله بوهندي، ورده الحافظ ابن عساكر كما أسنده في تاريخ دمشق (129) ؛ فإنه أصل هذه الرواية، وردها الإمام ابن كثير بقوله: " كان شعبة يشير إلى حديثه: من أصبح جنبا فلا صيام له. فإنه لما حوقق عليه قال: أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. . . ثم قال: وقد كان أبو هريرة من الصدق والحفظ والديانة والعبادة والزهادة والعمل الصالح على جانب عظيم (130) .(8/46)
وقال الحافظ الذهبي: " هذا لا شئ؛ بل احتج المسلمون بحديثه قديما وحديثا، لحفظه وجلالته وإتقانه وفقهه. وناهيك أن مثل ابن عباس يتأدب معه ويقول: افت يا أبا هريرة.." (131) ، ووصفه أول الترجمة بقوله: " الإمام الفقيه المجتهد الحافظ؛ سيد الحفاظ الأثبات..." (132) .
وقال الشيخ محمد أبو شهبة رحمه الله تعالى: " وكلام شعبة ظاهر في أنه لم يرد التدليس بمعناه المعروف عند المحدثين، وإنما أراد شيئا آخر اعتبره هو تدليسا وليس بمعناه. . . ثم قال: وهذا ما يسمى في اصطلاح المحدثين: مرسل الصحابي. وهو حجة باتفاق الأئمة، لأن الغالب أن الصحابي لا يروي إلا عن صحابي، والصحابة كلهم عدول... (133) .
الوجه الثالث: أن هذاه الرواية أخرجها الحافظ ابن عساكر من طريق الحسن بن عثمان التستري عن سلمة بن حبيب قال: سمعت يزيد بن هارون قال: سمعت الشعبي يقول: " كان أبو هريرة يدلس.." (134) .
وهذا إسناد باطل لا يحتج به البتة، فيه الحسن بن عثمان التستري، قال فيه ابن عدي: كان عندي يضع الحديث ويسرق حديث الناس، وسألت عنه عبدان الأهوازي فقال: كذاب.. وقال أبو علي النيسابوري: هذا كذاب يسرق الحديث...فتأمل هذا جيدا، ولاحظ كيف اعتمد بوهندي الجاهل روايات موضوعة لإسقاط عدالة أناس لا شك في عدالتهم ولا ريب. وقد حدث له هذا – كذلك – فيما جلبه ليبين متى أسلم أبو هريرة رضي الله عنه. ووالله لولا مخافة أن تنطلي شبهات هذا الجاهل على الناس، ولولا ما طلبه مني بعض الأحبة من التصدي له ما أعرته انتباها؛ لأنه أقل من أن يرد عليه، لكن الجهل قد عم وطم، وأصبحت أي شبهة تجد لها آذانا صاغية، وطبل العلمانيون لهذا الكتاب ونوهوا به في صحفهم؛ فوجب الرد عليه، إذ هو – في حقيقة الأمر – رد على العلمانيين، وفضح لمخططاتهم الخطيرة في بلاد المسلمين، والله المستعان.(8/47)
الوجه الرابع: أن أبا هريرة رضوان الله عليه صحابي لا شك في صحبته؛ كما بينت في الصفحات الماضية، وهو عدل ضابط ثقة، لا شك في ذلك، كما أشبعت ذلك بالحجج في ثنايا هذه الأبحاث المباركة.
أما أنه يروي عن صحابة وتابعين وأهل كتاب؛ فهذا من تهويلات هذا الكويتب الجاهل المعتادة، وإلا؛ فحقيقة الأمر أن جل أحاديثه سمعها مباشرة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعضها من صحابة آخرين، كما كان يفعل كثير من الصحابة الآخرين – خاصة من صغر سنه أو تأخر إسلامه.
وقد روى الحاكم في » المستدرك « وصححه على شرط الشيخين عن البراء بن عازب قال: " ليس كلنا سمع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كانت لنا ضيعة واشتغال، ولكن الناس كانوا لا يكذبون يومئذ؛ فيحدث الشاهد الغائب".
والأمثلة عن الصحابة في رواية الأصاغر عن الأكابر أكثر من أن تحصر، وليس الأمر خاصا بأبي هريرة حتى يجعجع به هذا الشانئ المبطل لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الوجه الخامس : إن مسألة قضاء من أصبح على جنابة ليومه وهو صائم ليومه؛ إنما كانت فتوى يفتي بها أبو هريرة لحديث سمعه من الفضل بن العباس وأسامة بن زيد وقد كان ذلك حكما شرعيا ثم نسخ بعد ذلك، فلما بلغ أبا هريرة النسخ عن أمي المؤمنين أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما رجع إلى الصواب كما هو شأن أي عالم منصف يرجع للحق إذا علم الحكم فيه.
ولم ينفرد أبو هريرة رضي الله عنه بهذه الفتيا، بل قد قال بها بعض أهل العلم ولم يبلغهم حكم النسخ، أو لم يسلموه؛ منهم إبراهيم النخعي وعروة بن الزبير وطاووس اليماني والحسن البصري وسالم بن عبد الله بن عمر. وكان الحسن بن صالح بن حي يستحب لمن أصبح جنبا أن يقضي ذلك اليوم (135).
فأين هذا من زعم بوهندي من أن أباهريرة تعمد الكذب وألصقه بصحابي مات قديما؛ وهو الفضل، حتى لا يفتضح أمره؟، مع أنه قد رواه – أيضا عن أسامة بن زيد وهو قد مات بعد أبي هريرة بزمن (136) .(8/48)
أما أن هذا الحكم كان في أول الإسلام ثم نسخ؛ فهو الذي عليه جماعة أهل العلم وفقهاء الأمصار، وقد أدخلوا هذا الحديث في حكم المنسوخ كما فعله ابن شاهين في "ناسخ الحديث ومنسوخه"، وأبوبكر الحازمي في "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار "، وسائر شراح الحديث رحمهم الله تعالى.
فأي ذنب لعالم فقيه عمل بما وصل إليه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما بلغه نسخه؛ رجع عن فتياه؟، اللهم غفرانك من تطاول السفهاء على العلماء، وتجرؤ الجهال للكلام في دينك وشريعة نبيك - صلى الله عليه وسلم -.
وقد أسند الحافظ أبو بكر الحازمي عن الإمام الخطابي أنه قال: فأحسن ما سمعت في تأويل ما رواه أبو هريرة في هذا: أن يكون ذلك محمولا على النسخ، وذلك أن الجماع كان في أول الإسلام محرما على الصائم في الليل بعد النوم – كالطعام والشراب – فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر؛ جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم ذلك اليوم لارتفاع الحظر المتقدم، فيكون تأويل قوله: من أصبح فلا يصوم. أي: من جامع في الصوم بعد النوم فلا يجزيه صوم غده؛ لأنه لا يصبح جنبا إلا وله أن يطأ قبل الفجر بطرفة عين. وكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل بن العباس على الأمر الأول، ولم يعلم بالنسخ، فلما سمع خبر عائشة وأم سلمة صار إليه. . . وقد روى عن سعيد بن المسيب أنه قال: رجع أبو هريرة عن فتياه فيمن أصبح جنبا أنه لا يصوم" (137) .
فصل:
أبو هريرة و الإسرائيليات:
سبق أن ادعى الكويتب بوهندي أن أبا هريرة رضي الله عنه مدلس و أنه دلس شيوخًا له من أهل الكتاب ثم زاد فحددهم بثلاثة و هم بصرة الغفاري، و عبد الله بن سلام، و كعب الاحبار.
و قد تخيل هذا الرجل من رحلة أبي هريرة رضي الله عنه للطور و مناقشاته العلمية لكعب و ابن سلام أسطورة طويلة الذيول و بنى عليها بناء فاسدًا سرعان ما يتهاوى تحت مطارق العلم.(8/49)
قال الكويتب (ص. 83): "إن رحلة أبي هريرة كانت من أجل عرض أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كعب الأحبار ليصدقها بالتوراة و لقد نجح أبو هريرة في مهمته رغم خداع كعب و صدق ما يحمله من أحاديث بما في توراة كعب ثم قفل راجعًا من حيث أتى".
ويقول (ص. 84): "إن رحلة أبي هريرة و كعبه و طوره و ما تحمله من رمزية إسرائيلية، لتجعل من معابد اليهود قبلة لنا تشد إليها الرحال و من أحبارهم علماء لنا تعرض عليهم الأخبار و من كتابهم ميزانا لما عندنا يقوم بدور التصديق و الهيمنة".
و الناظر في الفصول الأخيرة للكتاب يخرج بالنتائج التالية:
أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يروي الإسرائيليات على أنها أحاديث نبوية.
أن أبا بصرة الغفاري شخصية وهمية اخترعها أبو هريرة ليروي بها حديثًا فيه تعظيم لمعابد اليهود.
كذب كعب الأحبار.
التشكيك في إسلام الصحابي الجليل عبد الله بن سلام – رضي الله عنه.
الطعن في صحة حديث النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة، و حديث آخر ساعة يوم الجمعة.
و كل هذا قرره بجهل عجيب و فهم سقيم، كأنه قرر شيئًا في ذهنه ثم جعل يبحث عن حججه بفهم أعجمي لا يخطر على بال أحد و سنرد عليه في النقاط التالية:
أبو هريرة يروي الإسرائيليات على أنها أحاديث:
هذه تهمة باطلة تلقفها الكويتب عمن سبقه كعبد الحسين الرافضي و أبي رية المصري و غيرهما.
و المقصود بالإسرائيليات هي الروايات التي يرويها من أسلم من أهل الكتاب عن علمائهم من أخبار و قصص و الأصل في ذلك ما رواه البخاري (3461) و الترمذي (2669) في باب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بلغوا عني و لو آية و حدثوا عن بني إسرائيل و لا حرج و من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار".(8/50)
و عند أبي داود (3662) في باب الحديث عن بني إسرائيل من رواية أبي هريرة مرفوعًا: "حدثوا عن بني إسرائيل و لا حرج". و عن عبد الله بن عمرو (3663) بإسناد صحيح أنه قال كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يحدثنا عن بني إسرائيل حتى يصبح ما يقوم إلا إلى عظم صلاة.
و بذلك تقرر عند أهل العلم جواز الرواية عن بني إسرائيل شرط ألا يخالف ذلك ما عندنا و إلا فإنه يرد.
و لذلك فقد روى جمع من الصحابة و التابعين عن بني إسرلئيل كما هو معروف في كتب العلم و كما عرف ذلك عن عبد الله بن عمرو و وهب بن منبه و غيرهما و بكل حال لم يثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قط أنه زعم رواية إسرائيلية حديثا نبويا إلا ما كان في مخيلة بوهندي كذبًا منه و افتراء على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
أما أن يجمع المجلس أبا هريرة مع عالم آخر من أهل الكتاب فيصدق أحدهما الآخر فيما يتذاكرانه من العلم فهذا أي عيب فيه؟. و ما زال العلماء يتذاكرون في العلم و كل يدلي بما عنده من علم دون أن يكون في ذلك غضاضة على أحد.
أبو بصرة الغفاري شخصية وهمية!.
مرة أخرى يزعم الكويتب الجهول انفراد أبي هريرة بذكر هذا الصحابي، و بذلك نفاه من الوجود، وزاد تخليطا شديدا في اسمه و كنيته.
و حقيقة الأمر أن بوهندي أتي من جهله و قلة اطلاعه، فإن أبا هريرة لم ينفرد بذكر هذا الصحابي الجليل، بل قد روى عنه نفس حديث النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة مرثد بن عبد الله كما عند أحمد في "المسند" (6/397) و عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كما عنده أيضًا (6/7) و عند البخاري في » التاريخ « و الطبراني في » المعجم الكبير«.(8/51)
و ما خلط به الكويتب في اسم هذا الصحابي الجليل فلعدم اهتدائه لشيخ متقن يأخذ بيده في العلم، و لذلك حذر العلماء أخذ العلم عن الصحف. و الصحيح أنه أبو بصرة جميل بن بصرة بن وقاص بن حبيب بن غفار. قال على بن المديني: "اسم أبي بصرة الغفاري جميل بن بصرة، قاله لي بعض ولده" روى عنه أبو تميم الجيشاني مرفوعا في المحافظة على صلاة العصر و أنه لا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد، و الشاهد النجم. سكن أبو بصرة الحجاز ثم تحول إلى مصر (137) .
كذب كعب الأحبار!.
كعب الأحبار من التابعين، و أئمة الجرح و التعديل اتفقوا على توثيقه، و قد ترجم له الذهبي ترجمة قصيرة في » تذكرة الحفاظ « و أطال الحافظ ابن عساكر ترجمته في » تاريخ دمشق « و كذلك فعل أبو نعيم في » الحلية «في أخباره و عظاته لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، و ترجم له الحافظ ابن حجر في » الإصابة « و» تهذيب التهذيب « و قال عنه في » التقريب « (5674) : " كعب بن ماتع الحميري، أبو إسحق، المعروف بكعب الأحبار، ثقة، مخضرم، كان من أهل اليمن فسكن الشام، مات في آخر خلافة عثمان، و قد زاد على المائة " اهـ. و قد اتفقت كلمة النقاد على توثيقه. فلا عبرة باتهامات بوهندي فإنها عند التحقيق اتهام له.
التشكيك في إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه:
و هذه أيضًا من المسائل التي سيبوء بإثمها بين يدي الله تعالى إن لم يتب. فإن هذا الصحابي الجليل من أفراد بني إسرائيل الذين أسلموا لما قدم النبي صلى الله عليه و آله و سلم المدينة. و له فضائل جمة عقد لها أئمة الحديث أبوابًا في مصنفاتهم. من ذلك ما رواه مسلم في » الصحيح « (2483) من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لحي يمشي إنه في الجنة إلا لعبد الله بن سلام.(8/52)
و روى من حديث قيس بن عباد (2484) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عنه: "يموت عبد الله و هو آخذ بالعروة الوثقى".
إلى غير ذلك كثير. و ترجمته و فضائله مبسوطة عند علمائنا، و لا عبرة بهراء هذا الجاهل.
الطعن في حديث "لا تشد الرحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد":
و هذا أمر عجيب، إذ قد تقرر عند المسلمين أن المسجد الأقصى هو ثالث الحرمين الشريفين، و هذا الجاهل يقول إنه من معابد اليهود، فلا أدري هل هو بذلك ينسف جهاد المسلمين في فلسطين و يوافق على المشروع الصهيوني أمَّاذا؟!!
أما هذا الحديث فلا شك في صحته، بل هو حديث متواتر له طرق متعددة عن أبي سعيد الخدري و أبي بصرة الغفاري و جابر بن عبد الله و عبد الله بن عمر و عبد الله بن عمرو بن العاص و علي بن أبي طالب و أبي الجعد الضمري و واثلة بن الأسقع و المقدام بن معدي كرب و أبي أمامة و عمر بن الخطاب، رضي الله عنهم جميعًا.
أخرج ذلك عنهم أصحاب الصحاح وكتب السنة والمسانيد و المعاجم والأجزاء والطبقات والتواريخ.
و بقيت مسألة خلط و خبط فيها هذا الكويتب و هي حديث آخر ساعة يوم الجمعة، و لو أنصف نفسه ورحمها لطالع ما قاله شراح الحديث ففيه الشفاء لمن أراد الهداية، و أما الضال فلا علاج ينفعه.
و بهذا نأتي إلى نهاية هذه الأبحاث المسددة و أختمها بكلمة نفيسة نقلها الإمام الحافظ أبو عبد الله الحاكم النيسابوري في »المستدرك على الصحيحين « (3/513) عن إمام الأئمة أبي بكر محمد بن إسحق بن خزيمة (223-311 هـ) رحمهما الله تعالى و رضي عنهما، قال: "و إنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم، فلا يفهمون معاني الأخبار:
"إما معطل جهمي، يسمع أخباره التي يرونها خلاف مذهبهم، الذي هو كفر، فيشتمون أبا هريرة، و يرمونه بما الله تعالى قد نزهه عنه، تمويهًا على الرعاء و السفل أن أخباره لا تثبت بها الحجة".(8/53)
"و إما خارجي يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه و آله و سلم و لا يرى طاعة خليفة و لا إمام، إذا سمع أخبار أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف مذهبهم الذي هو ضلال، لم يجد حيلة في دفع أخباره بحجة، كان مفزعه الوقيعة في أبي هريرة".
"أو قدري، اعتزل الإسلام و أهله، و كفر أهل الإسلام الذين يتبعون الأقدار الماضية التي قدرها الله تعالى و قضاها قبل كسب العباد لها، إذ تنظر إلى أخبار أبي هريرة التي قد رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إثبات القدر لم يجُد بحجة تؤيد صحة مقالته التي هي كفر و شرك كانت حجته عند نفسه أن أخبار أبي هريرة لا يجوز الاحتجاج بها".
"أو جاهل يتعاطى الفقه و يطلبه من غير مظانه، إذا سمع أخبار أبي هريرة فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبه و اختاره تقليدًا بلا حجة و لا برهان تكلم في أبي هريرة و دفع أخباره التي تخالف مذهبه و يحتج بأخباره عن مخالفيه إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه".
"و قد أنكر بعض هذه الفرق على أبي هريرة أخبارًا لم يفهموا معناها أنا ذاكر بعضها بمشيئة الله عز و جل" اهـ.
و أقول: و ينكر عليه علماني خبيث، قد رفض شريعة الله رأسًا، و خاف أن يفتضح أمره عند المسلمين، و نفاقه عند المؤمنين، و افتتن بأفكار و آراء المستشرقين و زبالة أذهان المستغربين، فجعل يطعن في هذا الصحابي الجليل.
فعذرًا يا سيدي أبا هريرة رضوان الله عليك من سفه هؤلاء المجرمين فلن يزيدك ذلك إلا رفعة في أعين المسلمين.
و أما انتم يا أعداء السنن و الآثار و الشريعة و الأخبار فباب التوبة مفتوح، و رحمة الله واسعة، و إلا؛ {ويمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين}، {يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم و الله متم نوره و لو كره الكافرون} .
و صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله و صحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.(8/54)
كتبه الحسن بن علي بن محمد المنتصر بالله بن محمد الزمزمي بن محمد بن جعفر الكتاني الإدريسي الحسني بمدينة رباط الفتح بالمغرب الأقصى أدامها الله دار إسلام و سنة 26 جمادى الأولى عام 1423 هـ.
الهوامش
( 1) "السنة" لابن نصر المروزي ( 431) و "مفتاح الجنة" للسيوطي ( ص. 26).
( 2) "التفسير"للطبري ( 4/163) و "شرح أصول اعتقاد أهل السنة و الجماعة" للاَّلكائي ( 1/7) و "جامع العلم " لابن عبد البر ( 1/17) و "الفقيه و المتفقه" للخطيب ( 1/88) و "مفتاح الجنة " ( ص. 62).
( 3) أحمد في "المسند" ( 1/379) و "فضائل الصحابة" ( 541) و الطبراني ( 8582) و الخطيب في "الفقيه و المتفقه" ( 1/166) و صححه الحاكم في "المستدرك" ( 3/78) و وافقه الذهبي.
( 4) ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" و أبو نعيم في "الحلية" ( 1/305) بلفظ مقارب عن ابن مسعود رضي الله عنه، و الأثر لا بأس به.
( 5) رواه البيهقي في "السنن" ( 10/209) و ابن عبد البر في "التمهيد" ( 1/58) و الخطيب في "شرف أصحاب الحديث" ( 29) و ابن وضاح في "البدع" ( 1، 2) و غيرهم. و صححه الإمام أحمد و الحافظ العلائي.
( 6) رواه مسلم في "صحيحه" ( 173) و غيره، وله طرق و روايات عن جماعة من الصحابة في كتب السنة.
( 7) رواه ابن وضاح القرطبي في "البدع و النهي عنها" ( 4).
( 8) الخطيب في "ااكفاية في علوم الرواية" ( 1/49).
( 9) ( ص. 92).
(10) أحمد ( 4/142) و الترمذي ( 2664) و حسنه، و ابن ماجه ( 12) و الدارمي ( 592) من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه بسند صحيح، و له طرق و روايات عن جمع من الصحابة.
( 11) " المدخل إلى الدلائل" ( 1/65).
( 12) اللاَّلكائي ( 1/123) و الخطيب في "الفقيه و المتفقه" ( 1/180) و غيرهم.
( 13) ابن سعد في "الطبقات" ( 7/184).
( 14) " تحقيق منيف الرتبة لمن تبث له شريف الصحبة " للحافظ العلائي ( ص.33).(8/55)
( 15) " فتح الباري " للحافظ ابن حجر ( 7/3).
( 16) " تحقيق منيف الرتبة " ( ص.35).
( 17) نفس الصدر ( ص.38) و انظر " المستصفى " للغزالي ( 1/105) و " عمدة القاري " ( 16/169) و " تدريب الراوي " ( ص.396) و " شرح الألفية " للعراقي ( 3/4).
( 18) " شرح العقيدة الطحاوية " لابن أبي العز ( ص.689).
( 19) ( ص.263).
( 20) ( ص.132)
( 21) انظر آيات أخرى في هذا المعنى في كتاب " فضائل الصحابة " ( ص.37) لشيخنا العلاَّمة عبد الله التليدي حفظه الله، و " منيف الرتبة " ( ص. 75).
( 22) رواه أحمد ( 4/426) و البخاري ( 3673) و مسلم ( 2541) و غيرهم.
( 23) رواه أحمد ( 2/297) بسند حسن.
( 24) رواه أحمد ( 4/399) و مسلم ( 2531).
( 25) رواه أحمد ( 4/87) و الترمذي ( 3862) و قال: هذا حديث حسن غريب.
( 26) رواه أحمد ( 3/266) و مسلم ( 2540) عن أنس رضي الله عنه.
( 27) "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" ( ص.210)، و راجع "فضائل الصحابة" للتليدي ( ص.5) و "منيف الرتبة " ( ص.80).
( 28) "منهاج السنة" ( 3/291) و ( 4/210) و انظر"عيون الآثار" لعم والدنا محمد الناصر الكتاني ( ص.77).
( 29) " إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي " ( ص.51).
( 30) " الشفا في حقوق المصطفى " ( 2/39)، و كلام أيوب رواه ابن أبي زمنين في " أصول السنة " ( 189) و اللآلكائي ( 2333) بأتم من هذا.
( 31) " صفة الصفوة" لابن الجوزي ( 1/245).
( 32) انظر " الاستيعاب " لابن عبد البر ( 4/1768) و" سير أعلام النبلاء " ( ترجمة 222) و " حلية الأولياء " ( 1/376) و تهذيب الكمال ( 8275) و غيرهم كثير.
( 33) " الاستيعاب " ( 4/1771).
( 34) " السير " ( 4/198).
( 35) نفس المصدر ( 4/203).
( 36) " تاريخ دمشق " لابن عساكر ( 29/194).
( 37) الترمذي ( 3836) و حسنه.
( 38) ( ص.3).(8/56)
( 39) " تدريب الراوي " للسيوطي ( 2/217).
( 40) " جامع السيرة " لابن حزم ( 275) و " تلقيح فهوم أهل الأثر " لابن الجوزي ( 184) و " تدريب الراوي " ( 216) و " قواعد التحديث " للقاسمي ( 72).
( 41) " السير" ( 4/176).
( 42) " أبو هريرة في ضوء مروياته " للدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي ( 76).
( 43) أخرجه الحاكم في " المستدرك " ( 6175) و ذكره الذهبي في " السير " ( 4/191)، و رواه الترمذي بنحو من هذا.
( 44) " البداية و النهاية " لابن كثير ( 8/503).
( 45) " فتح الباري " للحافظ ابن حجر ( 1/283) " التاريخ الكبير " ( 574) و " تاريخ دمشق " ( 29/190).
( 46) " فتح الباري " ( 1/283) أحمد ( 4453) و الحاكم ( 6167) و صححه و أقره الذهبي.
( 47) " علوم الحديث " ( 296).
( 48) " تدريب الراوي " ( 2/217).
( 49) انظر شيئًا من ذلك في " البداية و النهاية " ( 8/502) و " سير النبلاء " ( 4/187).
( 50) كتاب " أبو هريرة في ضوء مروياته " و هو نفيس في بابه
( 51) "الإحكام " ( 2/134).
( 52) نفس المصدر ( 2/135).
( 53) " جامع بيان العلم و فضله " ( 1/1004) بتحقيق الزهيري.
( 54) " أبو هريرة في ضوء مروياته " ( 77).
( 55) ( ص.6).
( 56) ( ص.8).
( 57) " سير أعلام النبلاء " ( 4/186).
( 58) " فتح الباري " ( 1/297).
( 59) " فتح الباري " ( 1/286).
( 60) " جامع بيان العلم " ( 2/1001)، و انظر " الإحكام " لابن حزم ( 2/140).
( 61) " البداية و النهاية " ( 8/501).
( 62) " تاريخ دمشق " ( 29/192) و فيه يحيى بن عبيد الله وثقه الإمام يحيى بن سعيد القطان و ضعفه غيره.و للأثر طريق آخر . " السير " ( 4/189) و " البداية " ( 8/501).
( 63) " جامع بيان العلم " ( 1927)، و اللالكائي ( 202) و " أصول السنة " ( رقم 7) و سنده لا بأس به.(8/57)
( 64) رواه البخاري ( 1325) و مسلم ( 945).
( 65) " طبقات ابن سعد " ( 2/118 قسم 2) و انظر " البداية " ( 8/503).
( 66) "سبل السلام" ( 3/296).
( 67) "أبو هريرة في ضوء مروياته" ( ص.181).
( 68) رواه مسلم ( 2493) في فضائل أبي هريرة بلفظ قريب، و رواه ابن عساكر في "التاريخ" ( 29/195).
( 69) "تدريب الراوي" ( 2/217) و "الرياض المستطابة" (ص 310).
( 70) "تاريخ الإسلام" ( 3/336).
( 71) ( ص.11).
( 72) أخرجه البخاري ( 89).
( 73) "فتح الباري" ( 1/245).
( 74) ( ص.18).
( 75) انظر: 'السنة قبل التدوين' ( ص.46) و "أبو هريرة رواية الإسلام" فقرة ( أبو هريرة و عائشة) لمحمد عجاج الخطيب.
( 76) "الاستيعاب" ( 4/1885 )..
( 77) انظر "الشريعة" للآجري ( 143 ، 144).
( 78) "نزهة النظر" للحافظ ابن حجر ( ص.22) ط. الرشاد الحديثة.
( 79) "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" ص. ( 224).
( 80) "نظم" ( ص.305) و "عيون الآثار" ( ص.401) و "الشفاعة" لمقبل بن هادي و قد استوعب كل ما ورد في الباب.
( 81) "نظم المتناثر " ( ص.129).
( 82) المصدر نفسه ( ص.170) و "اتحاف ذوي الفضائل المشتهرة" لشيخنا عبد العزيز بن الصديق ( ص.116).
( 83) رواه البخاري ( 119).
( 84) رواه أحمد في "المسند" ( 8081)، بسند ضعيف، لكن له شواهد تقويه.
( 85) "فتح الباري" ( 1/285).
( 86) "المستدرك " كتاب "معرفة الصحابة" ( 6158)، و فيه حماد بن شعيب و هو ضعيف، لكن تابعه الفضل بن علاء و هو صدوق فصح بذلك الحديث ولله الحمد.
( 87) "سير أعلام النبلاء " ( 4/187) و الأثر أخرجه الحاكم في " المستدرك" ( 6164) و صححه و أقره الذهبي.
( 88) "السنة و مكانتها في التشريع" ( ص 272) لمصطفى السباعي.
( 89) رواه أحمد ( 3/123) و مسلم ( 2470) و الحاكم ( 3/230).(8/58)
( 90) رواه أحمد ( 5/392) و مسلم ( 1788) و الحاكم ( 3/31) و قال: صحيح الإسناد و وافقه الذهبي.
( 91) "أكثر أبو هريرة " ( ص.32).
( 92) "سير أعلام النبلاء" ( 4/241) ، ( 4/257) و "الاستيعاب" ( 3/957).
( 93) "السنة قبل التدوين" ( ص.450).
( 94) "فتح الباري" ( 1/274).
( 95) رواه أحمد في "المسند" ( 6865) و انظر: ( 6952) و "السنة قبل التدوين" ( ص.455).
( 96) "أكثر أبو هريرة" ( ص. 37).
( 97) "أصحاب الصفة" لأبي تراب الظاهري ( ص.7).
( 98) "حلية الأولياء و طبقة الأصفياء" ( 1/373).
( 99) رواه أحمد ( 1/198) و البخاري ( 602) و مسلم ( 2057).
( 100) أخرجه أحمد في "المسند" ( 6/390) و البيهقي في "السنن الكبرى" ( 9/304) بسند حسن.
( 101) أخرجه مسلم في "الصحيح" ( 803).
( 102) "الإصابة" ( 1/54) و "أسد الغابة" ( 1/78).
( 103) "الإصابة" ( 1/70) و "الأسد" ( 1/104).
( 104) "أصحاب الصفة" ( ص.20).
( 105) نفس المصدر.
( 106) "صفة الصفوة" ( 1/237) و "الإصابة" ( 4/63).
( 107) "الإصابة" ( 1/233) و "الأسد" ( 1/277).
( 108) "أصحاب الصفة" ( ص.35،36).
( 109) "أكثر أبو هريرة" ( ص.37).
( 110) نفس المصدر ( ص.38).
( 111) نفس المصدر ( ص.40).
( 112) "نظم المتناثر" ( ص.224).
( 113) "مطابقة الاختراعات العصرية" ( ص.108).
( 114) "أكثر أبو هريرة" ( ص.45).
( 115) "تقريب التهذيب" ( رقم 6215).
( 116) "التقريب" ( رقم 5646).
( 117) "السير" ( 4/202) و "تهذيب التهذيب" ( 12/290).
( 118) "أكثر أبو هريرة" ( ص 11).
( 119) "أكثر أبو هريرة" ( ص 16).
( 120) "أكثر أبو هريرة" ( ص 18).
( 121) "طبقات ابن سعد" ( 2/372).
( 122) "السير" ( 4/203-205).
( 123) "أكثر أبو هريرة" ( ص.61).
( 124) "التشيع و العلمانية بالمغرب" ( ص.100).(8/59)
( 125) نفس المصدر ( ص.102). و قد صدر كتابه الذي حذر منه أخونا المذكور.
( 126) انظر: "التقييد والإيضاح" ص 78، و"الباعث الحثيث" ( ص 50)، و"النكت" لابن حجر ( 2: 612) ، و"فتح المغيث" للسخاوي ( 1 : 179 ) ، و"تدريب الراوي" ( 1 : 223 ) .
( 127) "الكفاية" ( 1 : 63 ) .
( 128) "أكثر أبو هريرة" ص 49 .
( 129) "مختصر تاريخ دمشق" ( 29 : 198 ) .
( 130) "البداية والنهاية" ( 8 : 504 ) .
( 131) "سير أعلام النبلاء" ( 4 : 193 ) .
( 132) "سير أعلام النبلاء" ( 4 : 175 ) .
( 133) "دفاع عن السنة" ص 11 .
( 134) "تاريخ دمشق" ( 67 : 397 ) .
( 135) "الاستذكار" لابن عبد البر ( 3 : 290 ) . ط العلمية .
( 136) شرح الزرقاني على "الموطأ" ( 2 : 216 ) ، و"فتح الباري" ( 4 : 146 ) .
( 137) "الاعتبار" للحازمي ص 346 .
( 137) هذا كله كلام ابن عبد البر في "الاستيعاب" ( 4/1612) و انظر كلامه في تحقيق اسمه و كنيته و من غلط في ذلك في "التمهيد" ( 23/37).(8/60)
الصحابة في أعين أئمة آل البيت
عليهم السلام أجمعين
بسم الله الرحمن الرحيم
الصحابة في أعين أئمة آل البيت عليهم السلام أجمعين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإنه قد كثر الكذب ودعوى أن هناك بغضاء وعداوة بين أئمة آل البيت والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولهذا فقد جمعت هذا الموضوع من كتب الشيعة المعتمدة، لتوضح وتبين محبة آل البيت عليهم السلام للصحابة رضوان الله عليهم، وأن ادِّعاء وجود العداء دعوى باطلة:
والدعاوى ما لم يقيموا عليها ... ... ... بينات أصحابها أدعياء
الله عز وجل مدح الصحابة رضوان الله عليهم بما فيهم الصحابة من آل البيت عليهم السلام، وقد بلغ من شرف مكانتهم وعلوها عند الله عز وجل أنه نوّه بصفاتهم في كتبه السابقة فقال: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ))[الفتح:29].
وكذلك مدحهم عز وجل وبين أنه قد رضي عنهم، وهي أعظم منة يمن الله بها على عباده، فقال تعالى: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً))[الفتح:18].(9/1)
فالله عز وجل علم ما في قلوبهم من الإيمان والخير فرضي عنهم وطمأنهم وأثابهم وثبتهم، وقد مدحهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى، وقد مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه، وهو أعرف الناس بهم ومكانتهم، فخص منهم بالذكر أعظمهم وأفضلهم، ثم مدحهم على العموم والإجمال.
فقد جاء في وصف أبي بكر رضي الله عنه بـ(الصديق) ما رواه القمي في تفسيره عن أبيه عن بعض رجاله، رفعه إلى أبي عبد الله قال: (لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار قال لأبي بكر: كأني أنظر إلى سفينة جعفر في أصحابه تقوم في البحر، وأنظر إلى الأنصار محتبين في أفنيتهم، فقال أبو بكر: وتراهم يا رسول الله! قال: نعم، قال: فأرنيهم، فمسح على عينيه فرآهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت الصديق)(1).
__________
(1) تفسير القمي: (1/289).(9/2)
وهذا الإمام الحادي عشر حسن العسكري عليه السلام يروي عن الإمام علي عليه السلام واقعة الهجرة: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن سأل علياً عليه السلام أن ينام في فراشه، قال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: «أرضيت أن تكون معي يا أبا بكر تُطلب كما أُطلب، وتُعرف بأنك أنت الذي تحملني على ما أدّعيه، فتحمل عني أنواع العذاب؟ قال أبو بكر: يا رسول الله! أما أنا فلو عشت الدنيا أعذب في جميعها أشد العذاب، لا ينزل عليّ موت صريح ولا أفرح، وكان ذلك في محبتك؛ لكان ذلك أحب إليّ من أن أتنعم فيها، وأنا مالك لجميع مماليك ملوكها في مخالفتك، وهل أنا ومالي وولدي إلا فداءك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا جرم أن اطلع الله على قلبك ووجده موافقاً لما جرى على لسانك؛ جعلك مني بمنزلة السمع والبصر والرأس من الجسد، والروح من البدن) (1).
عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال: حدثني علي بن محمد بن علي الرضا عن أبيه، عن آبائه، عن الحسن بن علي عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أبا بكر مني بمنزلة السمع، وإن عمر مني بمنزلة البصر، وإن عثمان مني بمنزلة الفؤاد) - قال: فلما كان من الغد دخلت عليه وعنده أمير المؤمنين عليه السلام، وأبو بكر، وعمر، وعثمان فقلت له: يا أبت! سمعتك تقول في أصحابك هؤلاء قولاً، فما هو؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (نعم)، ثم أشار بيده إليهم، فقال: (هم السمع والبصر والفؤاد) (2).
__________
(1) تفسير الحسن العسكري (ص:164- 165)، نقلاً عن الأدلة الباهرة على نفي البغضاء بين الصحابة والعنزة الطاهرة. للدكتور: عمر عبد الله كامل.
(2) البرهان: (4/564، 565).(9/3)
وعن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا معشر الأنصار! إن الله قد أحسن إليكم الثناء، فماذا تصنعون؟ قالوا: نستجني بالماء) (1).
وهذا الحديث في مدح الأنصار رضي الله عنهم، وجاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم في مدحهم أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم! اغفر للأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، يا معشر الأنصار! أما ترضون أن ينصرف الناس بالشاه والنعم، وفي سهمكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (2).
وقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً في مدحه للأنصار: (الأنصار كرشي وعيبي، ولو سلك الناس وادياً، وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار) (3).
ولقد سئل الإمام الرضا علي بن موسى عليه السلام عن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم) -والحديث ضعيف ولكن معناه صحيح إن شاء الله- وعن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (دعوا لي أصحابي!) فقال الإمام الرضا عليه السلام: «هذا صحيح» (4).
وعن موسى الكاظم عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا أمنة لأصحابي، فإذا قبضت دنا مني أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا قبض أصحابي دنا من أمتي ما يوعون، ولا يزال هذا الدين ظاهراً على الأديان كلها ما دام فيكم من قد رآني) (5).
__________
(1) البرهان: (3/499).
(2) كشف الغمة: (1/224).
(3) كشف الغمة: (1/224).
(4) عيون أخبار الرضا للقمي: (2/87). نقلاً عن الشيعة وأهل البيت (ص:42). لإحسان إلهي ظهير.
(5) بحار الأنوار للمجلسي: (22/309-310). نقلاً عن أصول مذهب الشيعة الإثني عشرية للقفاري (ص:926).(9/4)
ويروي لنا الإمام الباقر عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينفي النفاق عن صحابته رضي الله عنهم، يقول أبو جعفر عليه السلام: (أما إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: يا رسول الله! نخاف علينا النفاق، قال: فقال لهم: ولم تخافون ذلك؟ قالوا: إنا إذا كنا عندك فذكرتنا روعنا ووجلنا، نسينا الدنيا وزهدنا فيها حتى كأنا نعاين الآخرة، والجنة والنار، ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك، ودخلنا هذه البيوت، وشممنا الأولاد، ورأينا العيال والأهل والمال، يكاد أن نحول عن الحال التي كنا
عليها عندك، وحتى كأنا لم نكن على شيء، أفتخاف علينا أن يكون هذا النفاق؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كلا، هذا من خطوات الشيطان، ليرغبنكم في الدنيا، والله! لو أنكم تدومون على الحال التي تكونون عليها وأنتم عندي في الحال التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة، ومشيتم على الماء، ولولا أنكم تذنبون، فستغفرون الله لخلق الله خلقاً لكي يذنبوا، ثم يستغفروا فيغفر الله لهم). يقول أبو جعفر عليه السلام للسائل: «إن المؤمن مفتن تواب، أما تسمع لقوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ))[البقرة:222]^.. الآية، وقال تعالى : ((اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ))[هود:3] » (1).
وجاء في البحار للمجلسي أن النبي صل الله عليه وآله وسلم قال: «طوبى لمن رآني، طوبى لمن رأى من رآني، وطوبى لمن رأى من رأى من رآني» (2).
__________
(1) تفسير العياشي: (1/128-129)، البرهان: (1/475- 476).
(2) بحار الأنوار: (22/305)، أمالي الصدوق: (ص:240- 241)، نقلاً عن أصول مذهب الشيعة للقفاري (ص:926).(9/5)
بعد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي هي من طريق أئمة آل البيت عليهم السلام، في المدح والثناء على الصحابة رضوان الله عليهم فإن الأئمة أثنوا على الصحابة لثناء الله عليهم ولثناء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً، وهم أشد الناس اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والآن نسوق شيئاً طيباً من ثناء الأئمة.
1-أقوال الإمام علي عليه السلام في الثناء على الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين:
سئل الإمام علي عليه السلام: لم اختار المسلمون أبا بكر خليفة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإماماً لهم؟
فأجاب عليه السلام بقوله: «إنا نرى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار وثاني اثنين، وإنا لنعرف له سنه، ولقد أمره رسول الله بالصلاة وهو حي» (1).
وجاء عنه عليه السلام: «لولا أنا رأينا أبا بكر لها أهلاً لما تركناه» (2).
وقال عليه السلام في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: «وكان أفضلهم في الإسلام -كما زعمت- وأنصحهم لله ولرسوله: الخليفة الصديق، والخليفة الفاروق، ولعمري إن مكانهما في الإسلام لعظيم، وإن المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد رحمهما الله، وجزاهما بأحسن ما عملا (3).
وكذلك من أواصر المحبة والألفة بين الصحب والآل، فقد روى كثير النواء عن محمد بن علي الباقر عليه السلام أنه قال: «أخذت أبا بكر الخاصرة، فجعل علي عليه السلام يسخن يده بالنار فيكوي بها خاصرة أبي بكر رضي الله عنه»(4).
__________
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: (1/332)، نقلاً عن الشيعة وأهل البيت (ص:51).
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: (1/130)، نقلاً عن الشيعة وأهل البيت (ص:51- 52).
(3) شرح نهج البلاغة للميثم: (1/31)، ط: طهران، نقلاً عن الشيعة وأهل البيت.
(4) الرياض النضرة للمحب الطبري: (ج:1). نقلاً عن المرتضى سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لأبي الحسن الفروني.(9/6)
وورد عن الضحاك بن مزاحم، عن علي عليه السلام قال: «كان خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يحبس شيئاً لغد، وكان أبو بكر يفعل» (1).
وقال علي عليه السلام كما في نهج البلاغة يثني على عمر الفاروق رضي الله عنه: «لله بلاء فلان -أي عمر رضي الله عنه- فقد قوّم الأود، وداوى العمد، خلّف الفتنة، وأقام السنة، ذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها وسبق شرها، أدّى إلى الله طاعته، واتقاه بحقه» (2).
ومما يدل على وجود الألفة والمحبة ما جاء في مشاورة عمر رضي الله عنه لعلي عليه السلام في خروجه بنفسه إلى غزو الروم، فقال له علي عليه السلام: «إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم بشخصك فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً مجرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهره الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى كنت ردءاً للناس، ومثابة للمسلمين» (3).
وعندما استشاره عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الشخوص لقتال الفرس بنفسه، قال الإمام علي عليه السلام: «إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعده وأمده، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع، ونحن على موعود من الله، والله منجز وعده وناصر جنده، والعرب اليوم -وإن كانوا قليلاً، فهم- كثيرون بالإسلام، وعزيزون بالاجتماع، فكن قطباً، واستدر الرّحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت - أي خرجت - من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك مما بين يديك.
إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكَلَبِهم عليك، وطمعهم فيك» (4).
__________
(1) وسائل الشيعة (15/108).
(2) نهج البلاغة: (2/505).
(3) نهج البلاغة: (2/309).
(4) نهج البلاغة: (2/320- 321).(9/7)
وعندما قدم الإمام علي عليه السلام الكوفة، قيل له: يا أمير المؤمنين! أتنزل القصر قال: «لا حاجة لي في نزوله، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يبغضه، ولكني نازل الرحبة» (1).
يدل هذا الحديث على أن الإمام علي عليه السلام كان يجل عمر رضي الله عنه ويقدره ويقتدي به.
ولما استشهد عمر رضي الله عنه، وهو يصلي بالمسلمين الفجر، وشيع جنازته الصحابة، وفي مقدمتهم الإمام علي عليه السلام، ووضعوا الجنازة جوار القبر، قال الإمام علي عليه السلام مقولته المشهورة ودموعه تنهمر: «إني لأرجو الله أن يلحقك بصاحبيك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر، فطالما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: دخلت أنا وأبو بكر وعمر، خرجت أنا وأبو بكر وعمر، صعدت أنا وأبو بكر وعمر، أكلت أنا وأبو بكر وعمر، وإني أرجو الله أن يلحقك بصاحبيك، ثم التفت إلى الصحابة، وهم على شفير القبر فقال: والله ما أحب أن ألقى الله بأكثر مما في صحيفة هذا المسجى» (2).
وقال علي عليه السلام في مدح عثمان رضي الله عنه معترفاً بفضله ومكانته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أعرف شيئاً تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه، إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه. وقد رأيت كما رأينا وسمعت كما سمعنا، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما صحبنا، وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب أولى بعمل الحق منك، وأنت أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشيجة رحم منهما، وقد نلت من صهره ما لم ينالا» (3).
__________
(1) الذريعة إلى تصانيف الشيعة، لآغابزرك الطهراني، نقلاً عن (اذهبوا فأنتم الرافضة) لعبد العزيز الزبيري.
(2) كتاب الشافي لعلم الهدى السيد المرتضى، وتلخيص الشافي للطوسي، نقلاً عن (اذهبوا فأنتم الرافضة) لعبد العزيز الزبيري (ص:240).
(3) نهج البلاغة: (2/357).(9/8)
وكذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام في سيف الزبير: «طال –والله- ما جلّى به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» (1).
وعن جعفر بن محمد عن أبيه أن رجلاً من قريش جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: سمعتك تقول في الخطبة آنفاً: «اللهم أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين» فمن هما؟ قال عليه السلام: «حبيباي وعماك: أبو بكر وعمر، إماما الهدى، وشيخا الإسلام، ورجلا قريش، والمقتدى بهما بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من اقتدى بهما عصم، ومن اتبع آثارهما هدي إلى صراط مستقيم» (2).
وعن سويد بن غفلة أنه قال: مررت بقوم ينتقصون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فأخبرت علياً كرم الله وجهه ورضي عنه، فقلت: لولا يرون أنك تضمر ما أعلنوا ما اجترءوا على ذلك، منهم عبد الله بن سبأ، فقال علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه: نعوذ بالله! رحمنا الله، ثم نهض، وأخذ بيدي وأدخلني المسجد فصعد المنبر، ثم قبض على لحيته وهي بيضاء، فجعلت دموعه تتحادر عليها، وجعل ينظر للقاع حتى اجتمع الناس، ثم خطب فقال:
__________
(1) الاحتجاج: (1/380).
(2) تلخيص الشافي: (2/428)، نقلاً عن الشيعة وأهل البيت (ص:53).(9/9)
(( ما بال أقوام يذكرون أخوي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووزيريه وصاحبيه وسيدي قريش وأبوي المسلمين، وأنا برئ مما يذكرون، وعليه معاقب، صحبا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحب والوفاء، والجد في أمر الله، يأمران وينهيان، ويغضبان ويعاقبان، ولا يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كرأيهما رأياً، ولا يحب كحبهما حُباً، لما يرى من عزمهما في أمر الله، فقُبض وهو عنهما راض، والمسلمون راضون، فما تجاوزا في أمرهما وسيرتهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمره في حياته وبعد مماته، فقُبضا على ذلك رحمهما الله، فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة! لا يحبهما إلا مؤمن فاضل، ولا يبغضهما إلا شقي مارق، وحبهما قربة، وبغضهما مروق)).
وفي رواية: «لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل» (1).
وقال عليه السلام في مدح خباب بن الأرت رضي الله عنه: «يرحم الله خباب بن الأرت، فلقد أسلم راغباً، وهاجر طائعاً وقنع بالكفاف، ورضي عن الله وعاش مجاهداً» (2).
وقد ورد عنه عليه السلام في مدح صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الإجمال حيث يقول: «لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فما أرى أحداً يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب» (3).
__________
(1) طوق الحمامة للمؤيد بالله يحيى بن حمزة الذماري اليماني رحمه الله تعالى، نقلا عن (اذهبوا فأنتم الرافضة) لعبد العزيز الزبيري (ص:242، 245).
(2) نهج البلاغة: (4/672).
(3) نهج البلاغة: (1/244).(9/10)
وروى المجلسي عن الطوسي رواية موثوقة عن الإمام علي كرم الله وجهه أنه قال لأصحابه: «أوصيكم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسبوهم؛ فإنهم أصحاب نبيكم، وهم أصحابه الذين لم يبتدعوا في الدين شيئاً، ولم يوقروا صاحب بدعة، نعم! أوصاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هؤلاء» (1).
وعن الصادق عن آبائه عن علي عليه السلام قال: «أوصيكم بأصحاب نبيكم لا تسبوهم، الذين لم يحدثوا بعده حدثاً، ولم يئووا محدثاً؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى بهم الخير» (2).
وعندما ضرب ابن ملجم عليه من الله ما يستحق الإمام عليه بن أبي طالب عليه السلام، وأحس بالموت أوصى ولده الحسن عليه السلام، وكان مما قال: «الله! الله! في ذمة نبيكم فلا يُظلمن بين أظهركم. والله! الله! في أصحاب نبيكم، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصى بهم» (3).
__________
(1) حياة القلوب للمجلسي، نقلاً عن الأدلة الباهرة على نفي البغضاء بين الصحابة والعترة الطاهرة (ص:122).
(2) بحار الأنوار: (22/305- 306)، نقلاً عن أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية للدكتور القفاري (ص:925).
(3) مقاتل الطالبيين للأصفهاني (ص:39)، كشف الغمة: (2/59).(9/11)
وقال عليه السلام مخاطباً أصحابه وتخاذلهم عنه متذكراً أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسرعة مناصرتهم له صلى الله عليه وآله وسلم: «أين القوم الذين دعو إلى الإسلام فقبلوه، وقرأوا القرآن فأحكموه، وهُيجوا إلى القتال، فَوَلَهُوْا وَلَهَ اللقاح إلى أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً، وصفاً صفاً، بعض هلك وبعض نجا. لا يبشرون بالأحياء، ولا يعزون عن الموتى، مُره العيون من البكاء، خُمص البطون من الصيام، ذُبل الشفاه من الدعاء، صفر الألون من السهر، على وجوههم غبرة الخاشعين، أولئك أخواني الذاهبون، فحق لنا أن نظمأ إليهم، ونعض الأيدي على فراقهم» (1).
وعندما طلب الصحابة من الإمام علي عليه السلام، معاقبة من أجلب على عثمان رضي الله عنه فقال عليه السلام:
«يا إخوتاه! إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف لي بقوة؟! والقوم المجلبون على حد شوكتهم، يملكوننا ولا نملكهم، وهاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، والتفّت إليكم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، ثم يقول في آخر كلامه: اصبروا حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق مسمحة فاهدءوا عني» (2).
وهاهو الإمام علي عليه السلام أيضاً يصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك حين خذله أصحابه في حروبه فقال:
__________
(1) نهج البلاغة: (1/288).
(2) نهج البلاغة: (2/369- 370).(9/12)
«ولقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً، ومضياً على اللقم -أي جادة الطريق-، وصبراً على مضض الألم، وجداً في جهاد العدو، ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صحابه كأس المنون، فمرة لنا من عدونا، ومرة لعدونا منا، فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر، حتى استفز الإسلام ملقياً جرانه، ومتبوِّئاً أوطانه، ولعمري! لو كنا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود، ولا اخضرّ للإيمان عود، وايم الله لتحتلبنها دماً، ولتُتبعُنّا ندماً» (1).
وقال عليه السلام في مدحه وثنائه للأنصار: «هم –والله- ربّوا الإسلام كما يربّى الفلو مع غنائهم، بأيديهم السباط، وألسنتهم السلاط» (2).
ولقد نهى الإمام علي عليه السلام أصحابه عن سب أهل الشام أيام صفين حيث قال: «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم؛ كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم! أحقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يَعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به» (3). وجاء عن جعفر الصادق عن أبيه أن علياً عليه السلام كان يقول لأصحابه: «إنا لم نقاتلهم على التكفير لهم، ولم نقاتلهم على التكفير لنا، ولكنا رأينا أنا على حق، ورأوا أنهم على حق» (4).
__________
(1) نهج البلاغة: (1/160).
(2) نهج البلاغة: (4/767).
(3) نهج البلاغة: (2/469).
(4) قرب الإسناد للحميري، نقلاً عن (اذهبوا فأنتم الرافضة) لعبد العزيز الزبيري (ص:246، 247).(9/13)
ويقول عليه السلام في شأن البيعة مبيناً مكانة الصحابة من المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم: «وأن الحق ما اجتمعوا فيه، وكان ذلك كتاباً أرسله إلى معاوية يطلب منه البيعة مع من بايعوا قال: إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه ما تولى» (1).
وجاء في وصف الذي قاتلوا علياً عليه السلام من أهل الشام بالإخوان البغاة، فعن جعفر الصادق عن أبيه عليهما السلام أن عليا عليه السلام لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق، ولكنه كان يقول: «هم إخواننا بغوا علينا» (2).
وورد عن جعفر عن أبيه عن جده عليهم السلام أن مروان بن الحكم قال: لما هزمنا علي عليه السلام بالبصرة رد على الناس أموالهم، من أقام بينة أعطاه، ومن لم يقم بينة أحلفه، قال: فقال له قائل: يا أمير المؤمنين! اقسم الفيء بيننا والسبي، قال: فلما أكثروا عليه قال: «أيكم يأخذ أم المؤمين في سهمه؟!» فكفوا (3).
2- الإمام الحسن بن علي عليهما السلام يمدح الصحابة رضوان الله عليهم:
لقد كان الحسن عليه السلام يوقر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما إلى حد أن جعل من أحد الشروط على معاوية بن أبي سفيان أنه يعمل ويحكم في الناس بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرة الخلفاء الراشدين - وفي نسخة - الخلفاء الصالحين (4).
ومما يبين سلامة الصدور عند آل البيت والصحابة مهما حصل بينهم من قتال واختلاف، وأن المودة لم تفقد وإليك هذا الخبر الدال على ما ذكرنا.
__________
(1) نهج البلاغة: (3/526).
(2) وسائل الشيعة: (15/83).
(3) وسائل الشيعة: (15/78).
(4) منتهى الآمال: (2/212)، نقلاً عن الشيعة وأهل البيت (ص:56).(9/14)
وعن زيد بن وهب الجهني، قال: لما طعن الحسن بن علي عليهما السلام بالمدائن أتيته وهو متوجع، فقلت: ما ترى يا بن رسول الله! فإن الناس متحيرون؟ فقال عليه السلام: «أرى –والله- أن معاوية خير لي من هؤلاء، يزعمون أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي، والله! لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي، وآمن به في أهلي، خير من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي وأهلي» (1).
3- الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام:
فقد روي عنه أنه جاء إليه نفر من العراق فقالوا في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلما فرغوا من كلامهم قال لهم: «ألا تخبروني: أنتم المهاجرون الأولون ((الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ))[الحشر:8]؟! قالوا: لا، قال: فأنتم ((الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ))[الحشر:9]؟! قالوا: لا، قال: أما أنتم قد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين، وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم: ((يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا))[الحشر:10] اخرجوا عني فعل الله بكم» (2).
__________
(1) الاحتجاج: (2/69).
(2) كشف الغمة: (2/291).(9/15)
وورد الثناء والمدح منه عليه السلام كما جاء في الصحيفة السجادية الكاملة قال فيها: «...اللهم! وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحابة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته، وانتصروا به... » (1).
وعن يحيى بن كثير عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال: «جاء رجل إلى أبي زين العابدين عليه السلام فقال أخبرني عن أبي بكر؟! قال: عن (الصديق) تسأل؟! قال: وتسميه (الصديق)؟!! قال: ثكلتك أمك! قد سماه من هو خير مني، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون والأنصار، فمن لم يسمه (الصديق) فلا صدق الله قوله، اذهب فأحب أبا بكر وعمر وتولهما، فإن كان من أمر ففي عنقي» (2).
4- ثناء الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام على الصحابة وأبنائهم:
عن عروة بن عبد الله قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام عن حلية السيوف فقال: «لا بأس به، قد حلى أبو بكر (الصديق) رضي الله عنه سيفه، قلت: فتقول: (الصديق)؟! قال: فوثب وثبة، واستقبل القبلة، وقال: نعم! (الصديق) نعم! (الصديق) نعم! (الصديق)، فمن لم يقل له: (الصديق) فلا صدق الله له قولاً في الدنيا ولا في الآخرة» (3).
وورد عن محمد بن علي الباقر وزيد بن علي عليهما السلام أنهما قالا: «إنه لم يكن من أبي بكر فيما يختص بآبائهم شيء من الجور أو الشطط، أو ما يشكونه من الحيف أو الظلم» (4).
__________
(1) الصحيفة السجادية، دار البلاغة (ط:2).
(2) كشف الغمة: نقلاً عن اذهبوا فأنتم الرافضة للزبيري (ص:242).
(3) كشف الغمة: (2/360).
(4) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: (4/113)، نقلاً عن المرتضى سيرة أمير المؤمنين، سيدنا أبي الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام، لأبي الحسن الندوي.(9/16)
وهذه الرواية تبرئ أبا بكر وتبين بطلان الادعاءات التي تقول بأن أبا بكر ظلم آل البيت حقهم، وها هم الأئمة عليهم السلام يقدرون أبا بكر، ويجلونه ويثنون عليه، ويمدحونه بما هو أهله.
5- ثناء الإمام جعفر الصادق عليه السلام على الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين:
عن أبي بصير قال: كنت جالساً عند أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السلام، إذ دخلت علينا أم خالد تستأذن عليه، فقال أبو عبد الله: «أيسرك أن تسمع كلامها؟ قال: فقلت: نعم، قال: فأذن لها، قال: واجلسني معه على الطنفسة قال: ثم دخلت، فتكلمت؛ فإذا امرأة بليغة، فسألته عنهما - أي: عن أبي بكر وعمر - فقال لها: توليهما، قالت: فأقول لربي إذا لقيته: إنك أمرتني بولايتهما، قال: نعم» (1).
وروي عن الصادق أنه قال: «ولدني أبو بكر مرتين» (2).
وذلك لأن أم الصادق هي أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأمها - أي أم أمه - هي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم (3).
وروي أن رجلاً سأل الإمام الصادق عليه السلام، فقال: «يا بن رسول الله! ما تقول في حق أبي بكر وعمر؟ فقال عليه السلام: إمامان عادلان قاسطان، كانا على الحق، وماتا عليه، فعليهما رحمة الله يوم القيامة» (4).
ويروي السيد المرتضى في كتابه الشافي: عن جعفر بن محمد عليه السلام أنه «كان يتولاهما - أي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما - ويأتي القبر فيسلم عليهما مع تسليمه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» (5).
__________
(1) روضة الكافي: (ص:88).
(2) كشف الغمة: (2/161).
(3) انظر مقاتل الطالبيين (ص:159).
(4) إحقاق الحق للشوشتري: (1/161)، نقلاً عن الشيعة وأهل البيت (ص:58).
(5) الشافي: (ص:238)، نقلاً عن الشيعة وأهل البيت (ص:59).(9/17)
وكان الإمام جعفر الصادق عليه السلام يقول: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اثني عشر ألفاً: ثمانية آلاف من المدينة، وألفان من مكة، وألفان من الطلقاء، ولم ير فيهم قدري، ولا مرجئ، ولا حروري، ولا معتزلي، ولا صاحب رأي، كانوا يبكون الليل والنهار، ويقولون: أقبض أرواحنا من قبل أن نأكل خبر الخمير» (1).
لعله يقصد بالعدد في فترة من الفترات وإلا فالصحابة أكثر من ذلك، والشاهد هو وصف الصحابة رضوان الله عليهم بالزهد في الدنيا، وابتعادهم عن البدع والانحرافات، وكذلك خوفهم من ربهم عز وجل.
وينقل إلينا الإمام الصادق عليه السلام شدة محبة الصحابة رضوان الله عليهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول: «قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله! فداك آباؤنا وأمهاتنا! إن أهل المعروف في الدنيا عرفوا بمعروفهم، فبمَ يعرفون في الآخرة؟ فقال: إن الله عز وجل إذا أدخل أهل الجنة الجنة، أمر ريحاً عبقة فلصقت بأهل المعروف، فلا يمر أحد منهم بملأ من أهل الجنة إلا وجدوا ريحه، فقالوا: هذا من أهل المعروف» (2).
ومما جاء في مدح وثناء الإمام جعفر عليه السلام على أبناء الصحابة وغيرهم، ومنهم جده القاسم بن محمد بن أبي بكر والد أمه يقول: كان سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر وأبو خالد الكابلي من ثقات علي بن الحسين عليه السلام وهو جده أبو أبيه، ثم قال في مدح أمه: «وكانت أمي ممن آمنت، واتقت، وأحسنت، والله يحب المحسنين» (3).
حدثنا عبد الله بن الزبير الأسدي، وكان في صحابة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام الملقب بالنفس الزكية، قال الزبيري:
__________
(1) كتاب الخصال للصدوق (ص:64)، نقلاً عن الشيعة وأهل البيت (ص:43- 44).
(2) وسائل الشيعة: (15/304).
(3) أصول الكافي: (1/545).(9/18)
رأيت محمد بن عبد الله النفس الزكية عليه السلام، وعليه سيف محلى يوم خرج، فقلت له: أتلبس سيفاً محلى؟! فقال: «أي بأس بذلك؟! قد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبسون السيوف المحلاة» (1).
6- ثناء الحسن العسكري عليه السلام، وإخراجه للروايات في تفسيره التي تبين مكانة الصحابة رضوان الله عليهم، وأنهم أفضل من صحابة موسى عليه السلام:
يقول: «إن كليم الله موسى سأل ربه: هل في أصحاب الأنبياء أكرم عندك من صحابتي؟ قال الله: يا موسى! أما علمت أن فضل صحابة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على جميع صحابة المرسلين كفضل محمد صلى الله عليه وآله وسلم على جميع المرسلين والنبيين» (2).
وجاء أيضاً في تفسير العسكري عليه السلام في عقوبة من يبغض آل البيت عليهم السلام وصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورضي الله عنهم: «إن رجلاً ممن يبغض آل محمد وأصحابه الخيرين، أو واحداً منهم يعذبه الله عذاباً لو قسم على مثل عدد خلق الله لأهلكهم أجمعين» (3).
ومما يدل على وجود الألفة والمحبة بين الصحابة رضوان الله عليهم وبين آل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليهم السلام وجود المصاهرة والنسب، وكذلك أن أئمة آل البيت عليهم السلام يسمون أبناءهم بأسماء الصحابة رضي الله عنهم.
فهذا الإمام علي عليه السلام يزوج ابنته أم كلثوم رضي الله عنها من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو دليل على الارتباط بينهما (4).
__________
(1) مقاتل الطالبيين (ص:290).
(2) تفسير الحسن العسكري: (ص:65) ط.الهند، نقلاً عن الشيعة وأهل البيت (ص:41).
(3) تفسير العسكري: (ص:196)، نقلاً عن الشيعة وأهل البيت (ص:41).
(4) مجالس المؤمنين للقاضي نور الله الشوشتري، والمسالك شرح الشرائع لأبي القاسم القمي، نقلاً عن المرتضى سيرة أمير المؤمنين عليه السلام لأبي الحسن الندوي.(9/19)
والإمام علي عليه السلام أيضاً يسمي أولاده بأسماء الخلفاء الراشدين من قبله، ومن أولاده: عمر، وعثمان، وأبي بكر (1).
وكذلك الإمام زين العابدين عليه السلام سمى إحدى بناته: عائشة، ومن أولاده: عبد الرحمن، وعمر، وهو شقيق زيد بن علي عليهم السلام (2).
وهذا موسى بن جعفر الملقب بالكاظم عليه السلام سمى أحد أبنائه، أبا بكر، وآخر سماه: عمر، وسمى إحدى بناته: عائشة، وأخرى: أم سلمة (3).
وقال الشيخ المفيد في الإرشاد: باب ذكر أولاد الحسن بن علي عليه السلام، ومنهم: الحسين، وطلحة، وفاطمة(4).
وكذلك الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام من أسماء بناته: عائشة (5).
ومما روي في مدح الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ما جاء في أجوبة الإمام محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد الملقب بالجواد، على مسائل يحيى بن أكثم في مجلس المأمون ومنها:
فقال يحيى بن أكثم: وقد روي: «أن السكينة تنطق على لسان عمر، فقال الإمام الجواد عليه السلام: لست بمنكر فضل عمر، ولكن أبا بكر أفضل من عمر» (6).
الخاتمة:
__________
(1) كشف الغمة: (2/67، 68)، ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني (ص:83).
(2) الإرشاد للمفيد، وعمدة الطالب لابن عتبة. نقلاً عن (اذهبوا فأنتم الرافضة) (ص:229)، لعبد العزيز الزبيري.
(3) كشف الغمة: (3/29).
(4) كشف الغمة: (2/199).
(5) كشف الغمة: (3/60).
(6) الاحتجاج: (2/479).(9/20)
بعد أن أوردنا الروايات عن أئمة آل البيت عليهم السلام في الثناء والتقدير للصحابة رضوان الله عليهم: بقي أن ندعو كل من يدعي محبة آل البيت أن يحب من أحب آل البيت عليهم السلام، وأن يعرف حق الصحابة كما عرفه الأئمة عليهم السلام، وهي دعوة صادقة لكل باحث عن الحق أن حب آل البيت عليهم السلام والصحابة من المهاجرين والأنصار ومن اتبعهم بإحسان إيمان وبغضهم نفاق، فإياك..! ثم إياك..! أن تقع في الفسوق والنفاق، أعاذنا الله وإياكم من الضلالات ومن النفاق إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار والتابعين الأبرار، وسلم تسليماً كثيراً.
قائمة المراجع:
تفسير القمي: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت - لبنان (1412هـ-1991م).
الأدلة الباهرة على نفي البغضاء بين الصحابة والعترة الطاهرة. للدكتور: عمر عبد الله كامل. دار البيارق.
الاحتجاج: انتشارات أسوة (ط:1) (1413هـ)للطبرسي.
أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية للدكتور: ناصر القفاري. دار الرضا للنشر والتوزيع.
(اذهبوا فأنتم الرافضة) للشيخ: عبد العزيز محمد الزبيري (ط:1) عام (1423هـ-2002م).
مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني - دار إحياء الكتب العربية.
كشف الغمة لأبي الحسن الأربلي طبع دار الأضواء.
الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير، ط: دار الاعتصام للطبع والنشر والتوزيع.
نهج البلاغة ط دار البلاغة. بيروت - لبنان - شرح محمد عبده.
وسائل الشيعة للعاملي (ط:20) (1324هـ-2003م) ، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.
المرتضى سيرة أمير المؤمنين سيدنا أبي الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقلم أبو الحسن الندوي - دار القلم - دمشق (ط:2) (1419هـ-1998م).
الصحيفة السجادية الكاملة - دار البلاغة - (ط:2) - (1421هـ-2000م).
تفسير البرهان - للبحراني - مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت - لبنان (1419هـ-1999م).(9/21)
تفسير العياشي - مؤسسة الأعلمي للمنشورات - بيروت - لبنان (ط:1) - (1411هـ-1991م).
أصول الكافي للكليني - دار التعارف للمطبوعات - بيروت - لبنان - (1417-1997م).
روضة الكافي للكليني - دار التعارف للمطبوعات - بيروت - لبنان - (1417هـ-1997م).
* ... * ... *(9/22)
الصحابة والمنافقون
في ضوء الكتاب والسنة
وأقوال أئمة أهل البيت رحمهم الله
بقلم:
عبد الله بن محمد آل حسين
Breedy@gawab.com
بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إلى كل مسلم يريد رضا الله سبحانه ويريد الجنة..
إلى كل مسلم نبذ التعصب وترك تكفير المسلمين..
إلى كل مسلم آمن بالله ربا وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً وبالإسلام ديناً..
إلى كل مؤمن ومؤمنة أهدي هذا الجهد المتواضع..
فأسأل الله التوفيق والسداد في الدنيا والآخرة..
المقدمة
عزيزي القارئ: قبل أن أدخل معك في صلب الموضوع دعني وإياك نتأمل الوقفات التالية:
ألا نجعل احتمالاً ولو بنسبة واحد في المائة؟
ما زلت أتذكر ذلك الألماني النصراني الذي أسلم، كان لا يرضى أن يناقش مسلماً البتة، بل ولا يريد أن يسمع شيئاً عن الإسلام، لا عن طريق كتاب ولا شريط ولا إذاعة، بل حتى اسم الإسلام كان لا يريد سماعه.
وشاء الله في ذات يوم أن يبدأ طريقه في الهداية، فقد وقف في أحد الأماكن فأراد أحد المسلمين أن يناقشه، فقال هذا الألماني: فضلاً دعني وشأني، وكان هذا المسلم يعرف هذا الألماني، فقال له: ألا تجعل عندك ولو احتمالاً بنسبة واحد بالمائة أن دين الإسلام حق؟!!.
يقول هذا الألماني: فوقعت هذه الكلمة في نفسي، وظللت أفكر وأتأمل، ثم ذهبت بنفسي إلى المركز الإسلامي وأخذت بعض الكتب والأشرطة فكانت سبباً في إسلامي والحمد لله.
حقاً إنه عقل راجح حين قبل بمثل هذا المبدأ، والذي استعمله قبله بعض صناديد المشركين الذين كانوا يقدمون للحج زمن بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيحذرهم كفار مكة من الاستماع إليه، فكان بعض المخدوعين يجعل في أذنيه القطن حتى لا يسمع شيئاً من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان العاقل يقول: ألا أستمع لكلامه فإن كان حقاً قبلته وإن كان غير ذلك لم يضرني شيئاً..(10/1)
إنه مبدأ ينبغي أن يسير عليه المسلمون _ بل جميع العقلاء المنصفين _ في حواراتهم ونقاشاتهم، مع ترك إلقاء الاتهامات جزافاً.
إن كل فرقة من الفرق الإسلامية تقول بأنها هي التي على حق، وكل فرقة تنسب ما شاءت من الأحاديث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يؤيد مذهبها، وأصحاب كل فرقة يقولون: علماؤنا ثقات لا يمكن أن يكذبوا علينا، وهم أعرف الناس بما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته الطاهرين..
وإذا كان كذلك؛ فإن كل من أعطاه الله عقلاً إنما أعطاه إياه ليميز به بين الحق والباطل ولا يعير عقله لغيره، وهو محاسب ولا شك يوم القيامة، وهيهات هيهات أن يقول: دعني أسأل العالم الفلاني أو الشيخ العلاني..
إن كل إنسان سيسأل يوم القيامة عما عمل في الدنيا، ولن ينفع المرء أن يخالف القرآن في أمور العقيدة ثم يقول: عذري في ذلك أنني عامي أتبع العالم الفلاني؛ لأن العقائد لا يجوز فيها التقليد، ولا يعذر أحد في تقليده في أمور العقائد..
حوار ساخن بين مسلم ونصراني..
دار حوار بين أحد المسلمين وأحد النصارى فقام النصراني مغضباً وقال للمسلم: أنت رجل لا تستحق أن أناقشك فأنت لا تؤمن بالسيد المسيح، ولا تؤمن بالإنجيل، إنك لا تريد إلا أن تطعن في الأنبياء والمرسلين، وتريد أن تفرق بين الأنبياء..
قال المسلم بهدوء: لعلك تجلس فتسمع جيداً ما أقول، فأنا أؤمن بالمسيح عليه السلام وأؤمن بالإنجيل، وهذا واجب علينا نحن المسلمين..، فقاطعه النصراني قائلاً: فلماذا أنتم إذا لا تقبلون منَّا نحن النصارى أن نوزع الإنجيل وندعو للنصرانية، فهذا دليلٌ كافٍ على أنكم تبغضون السيد المسيح.(10/2)
قال المسلم: ولكن المسيح عليه السلام نزل عليه إنجيل واحد، وأنتم عندكم عدة أناجيل، وهذا دليل على أنكم حرفتم الإنجيل، ولو جئتمونا بالإنجيل الصحيح المنزل من الله لوجدتم فيه التبشير بسيد الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام، فالإنجيل والقرآن كلام الله..، ثم إنكم تجعلون المسيح ابناً لله، والله لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وتكذبون على المسيح عليه السلام، وتريدون منا أن نتبع هذا الكذب، وإلا اعتبرتمونا كارهين له..
واستمر النقاش دون أن يتفق المسلم والنصراني على شيء، وانصرف النصراني وهو يقول: أنتم تزعمون أنكم تحبون السيد المسيح في حين أنكم تحاربون دينه وتحرقون الإنجيل، فموعدكم النار فموعدكم النار..
التعصب وأثره في تفرق المسلمين..
عزيزي القارئ: لعلك قرأت هذا الحوار السابق بين ذلك المسلم والنصراني، هذا الحوار الذي قد يقع مع متعصبة النصارى الذين لا يريدون أن يقتنعوا بالحق، وإنما يريدون أن يتمسكوا بالباطل مهما كان ضلاله، فنسأل الله الهداية والعصمة من الغواية..
إنّ من المحزن أن نرى في المسلمين من يسلك مسلك هذا النصراني في النقاش، فلا يستمع لمن يناقشه، بل يردد: أنتم على ضلال وأنتم تريدون هدم الإسلام..
ومن المؤسف أن نجد هذه الحقيقة المرة عند عدد من متعصبة المسلمين ممن لا يريدون أن يسمعوا كلام الآخرين، ويريدون أن يقولوا للناس: إننا نشأنا على معتقد فلا نشك أنه هو الصواب، فلا تناقشونا ولا تسألونا فإنكم على باطل، بل وكفار!!.
أما الإسلام فقد دعانا للحوار بالتي هي أحسن حتى مع اليهود والنصارى كما قال سبحانه: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ..) [العنكبوت: 46] وقال سبحانه آمراً نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النحل: 126] .(10/3)
وهذا هو ما سار عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذا الأئمة من آل بيته رضوان الله عليهم، ولا يخفى محاورة ابن عباس رضي الله عنهما للخوارج الذين خرجوا على الإمام علي عليه السلام، حتى رجع كثير منهم إلى الحق بعد أن تبين لهم..(1)
إننا لو نظرنا لكل صاحب دين لوجدناه مقتنعاً تمام الاقتناع بما هو عليه في الغالب، وكذا الحال بالنسبة لأصحاب المذاهب الإسلامية المنتسبة للإسلام، وهي كثر كما لا يخفى، وقد جاء في الحديث أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة..
إنه قد يكون من السهل على كل فرقة إسلامية تريد تأييد ما تعتقده أن تنسب الكذب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم تريد من الناس أن يتبعوا هذا الكذب، وإلا لعدوا مبغضين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم..
ومن المعلوم أن البعض من أتباع هذه الفرق قد يجهل كون بعض هذه الأحاديث مكذوباً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا ما يجعله مقتنعا بما هو عليه، وإليك بعض الأمثلة:
فتجد أن الإسماعيلية، وهي فرقة من فرق الشيعة تنتسب إلى إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق رحمه الله، وهؤلاء يرون أنهم هم أتباع مذهب آل البيت عليهم السلام وأما غيرهم فهم ضلال، ويقول الإسماعيلية: إن الله لم يحدد في القرآن عدد الأئمة باثني عشر، وهذا دليلٌ على صحة مذهبنا؛ لأن أئمتنا غير محدودين بعدد، قال تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)[الأنبياء: 73](2) وهذا دليل على عدم حصرهم بعدد معين.
__________
(1) _ نهج البلاغة: 59، 465 – بحار الأنوار، 2/234، 31/307، 33/376.
(2) _ هذا حسب استدلالهم، وإلا فهذه الآية تتحدث عن عدد من الأنبياء عليهم السلام.(10/4)
والشيعة الزيدية، وهي فرقة من فرق الشيعة أيضاً، تدعي أنها على الصواب، وتنتسب إلى الإمام زيد بن علي بن الحسين حفيد الإمام الحسين عليه السلام، وتنسب إليه كثيراً من الروايات التي تؤيد مذهبها، ويقولون نحن أتباع مذهب آل البيت عليهم السلام، ونحن الذين نأخذ بحديث الغدير وبحديث الكساء ونحن لم نحدد أسماء الأئمة من آل البيت بعد ذلك كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما يظهرهم الله سبحانه فيعرفهم الناس؛ إذ كل من خرج من آل البيت من نسل الحسن أو الحسين عليهما السلام بالسيف فهو الإمام الواجب الطاعة، وأما أن يكون إماماً جالساً في بيته حتى يقتل بالسم فلا فائدة من إمامته..، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أنه يكون بعده اثنا عشر خليفة، ولا يمكن أن تكون خلافة بدون إمارة، وأما من جلس في بيته من آل البيت ولم يتول الإمارة والخلافة فهذا دليل على كونه ليس بإمام..
كما تجد أن الشيعة الاثني عشرية مقتنعون بما هم عليه كذلك، فهم يقولون: نحن أتباع آل البيت الذين أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسك بهم مع القرآن، وهم سفينة النجاة، فنحن أهل الإسلام الصادقون الذين تمسكوا بالقرآن وبسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته الطاهرين..(10/5)
ثم لو نظرنا في واقع الشيعة الاثني عشرية أنفسهم لوجدنا أصحاب كل فرقة منهم يقولون نحن أصحاب الحق، ويجعلون غيرهم هو المخطئ..، حيث انقسموا إلى أخبارية(1) وأصولية(2)، بل أوصل بعضهم فرق الشيعة الاثني عشرية إلى أكثر من عشر فرق(3).
وقد شنع كل منهم على الآخر وحمل عليه، ووضع للرد عليه مصنفات، واتهمه بالخروج عن التشيع الصحيح..
بل وصل الخلاف بينهم إلى حد التكفير، وقد أفتى بعضهم بتحريم الصلاة خلف الأخر، كما ذكره شيخ الشيعة محمد جواد مغنية في كتابه المعروف: مع علماء النجف(4).
وكان من شيوخ الأخبارية من لا يلمس مؤلفات الأصوليين بيده تحاشياً من نجاستها وإنما يقبضها من وراء ملابسه(5).
وكذا تجد هذا بين أصحاب المراجع، فالذين يقلدون الشيرازي أو السيستاني أو التبريزي أو المدرسي مثلاً يرون أن الذين يقلدون العصفور أو البحراني مثلاً على ضلال، وهؤلاء جميعاً يرون بأن أتباع الإحقاقي على ضلال، والعكس كذلك، وهكذا..
__________
(1) _ الأخبارية هم الذين لا يرون الأدلة الشرعية إلا الكتاب والحديث، وكل ما نقل عن الأئمة فهو حديث عندهم، وهو حجة؛ لأنه نقل عن معصومين، وما نقل عنهم فهو حجة على اليقين، ولا ينظر إلى هذا الحديث ما منزلته وشأنه ما دام وجد في الأصول الأربعمائة.
(2) _ الأصولية هم الذين يلجئون في مقام استنباط الأحكام الشرعية إلى الأدلة الأربعة من الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل..
(3) _ أصولية، أخبارية، شيخية، كشفية، ركنية، كريمخانية، قزلباشية، قرتية، بابية، كوهرية، نوربخشية، على خلاف بين الباحثين، وعلى العموم فأشهرها هي الأصولية والأخبارية.
(4) _ مع علماء النجف: ص74.
(5) _ انظر كتاب الشيخية: ص 9، لمحمد آل طالقان.(10/6)
فالجميع يدعي أنه على حق، بينما الحق الذي لا محيد عنه هو اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والذي سار عليه أئمة آل البيت رضوان الله عليهم أجمعين، وليس ما ادعاه كل أحد ونسبه إلى آل البيت ليقبل..
لا أريد الإطالة في هذا الموضوع؛ لأنه ليس موضوع حديثنا ، وإنما ذكرت شيئاً منه لأبين قضية مهمة، وهي أنّ كل أحد يحصر الحق معه، بل ويضلل غيره، مع أن الشعار ربما يكون واحداً.
وإذا كان كذلك، فعلى أي أساس نحكم بين هذه الفرق؟!. وكل فرقة تقول بأن نقولاتها هي عين الصواب، ونقولات غيرها كذب على الأئمة، والكل يحتاج إلى إقامة البرهان على ذلك؟.
ثم نقول لكل فرقة تدعي أنها هي عين الصواب: بالله عليكم أتعتبرون اجتهادات كل مرجع من مراجعكم عين الصواب أم لا؟.
والجواب كما هو معلوم: أن الصواب واحد لا يتعدد، وعليه: فأي اجتهادات هؤلاء المراجع هو الموافق لمذهب آل البيت؟ .
وبهذا يتضح أنه يجب الاجتهاد في معرفة الحق أياً كان، وأن المسألة لا تؤخذ بالتقليد، فهي مسألة اجتهادية ومن ثم فعلى طالب العلم البحث عما وافق الدليل ولو خالف المرجع؟!، لا كما يعمل البعض من تقليد المرجع بكل حال؟!.
والله سبحانه وتعالى إنما تعبدنا باتباع المرسلين، ولم يتعبدنا باتباع المراجع دون النظر في الدليل، وإلا لعُدَّ الذي يتبع الدليل من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقلد مرجعاً من المراجع آثم، وهذا لا يقول به عاقل.
إن الذي لاشك فيه أن الله أعطى للإنسان عقلاً يميز به، وأنزل هذا القرآن العظيم وحفظه من التحريف ليبقى مرجعاً لهذه الأمة تحتكم إليه عند الاختلاف، وإلا لقال من شاء ما شاء..
والمقصود أن المسلم ينبغي له أن ينظر ويتفكر بنفسه؛ فقد يكون الصواب معه وقد يكون مع غيره، ومما يُعين على ذلك هو المحاورة العلمية المتجردة البعيدة عن الهوى..(10/7)
نسأل الله سبحانه أن يهدينا للصواب، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، اللهم آمين..
موضوع بحثنا
من الموضوعات التي كثر حولها الجدل بين الفرق الإسلامية موضوع الصحابة، هل هم عدول أم لا؟، وهل حصلت منهم الردة والنفاق أم لا؟ وهل الآيات التي تذم المنافقين الذين في المدينة يراد بها بعض الصحابة، أم أنها تتكلم عن أناس آخرين؟ وفي الحقيقة هذا موضوع له أهمية كبيرة؛ لأن الصحابة هم الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونقلوا عنه القرآن والسنة النبوية، فهل يقبل ما نقلوه أم لا؟ أم لا ينقل إلا عن بعضهم ممن لم يغير ولم يبدل؟
ومنشأ الخلط في كثير من هذه القضايا هو عدم التفريق بين معنى الصحبة اللغوي ومعناه الشرعي، فلا بد من العلم بأن الحديث عن الصحابة رضوان الله عليهم إنما يراد به المعنى الشرعي، وهو أن الصحابي: من لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته مؤمناً به ومات على الإسلام(1).
فبناء على هذا التعريف نعلم أن لفظ الصحابة لا يراد به المنافقون لعدم إيمانهم أصلاً، وكذا لا يراد به من ارتد ومات على الكفر، كما لا يراد به من آمن بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو آمن في حياته ولكنه لم يلتق به.. إلخ.
إن موضوع الصحابة يتعلق بالعقيدة، ولذا سأتطرق للآيات فيهم وفي المنافقين لنرى حقيقة الأمر، ولنعلم سمة كل منهم، وسأستعين بإذن الله بأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبأقوال أئمة آل البيت رضوان الله عليهم أجمعين..
قد يقول قائل: وكيف لي أن أعرف الصحيح من السقيم من الأحاديث، فأنا لست عالماً..
أقول: هذا صحيح، ولكنك تستطيع أن تقرأ القرآن الكريم وتتدبره، وقد أنزله الله بلسان عربي مبين، أي واضح، وقد نص الله فيه على العقائد بوضوح تام حتى لا يبقى لأحد حجة..
__________
(1) _ الإصابة في تمييز الصحابة 1/158.(10/8)
كما أن الله وهبك عقلاً تستطيع به أن تميز بين الحق والباطل على ضوء هذا القرآن الكريم، وتعرف بهذا القرآن العظيم ما إذا كان الحديث مكذوباً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم لا؟، فإن السنة النبوية لا يمكن أن تعارض القرآن الكريم..، ومعارضتها الصريحة للقرآن دليل على أنها غير صحيحة..
روى الطبرسي وهو أحد علماء الشيعة الكبار في كتابه الاحتجاج عن الإمام الباقر عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: إذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله عز وجل وسنتي، فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوه، وما خالف كتاب الله فلا تأخذوه"(1).
وروي مثل هذا عن بعض أعلام أئمة آل البيت عليهم السلام ومن ذلك:
ما روي عن الإمام جعفر الصادق رضوان الله عليه أنه قال: لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنة"(2).
وقال أيضاً: فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنا إذا حدثنا قلنا: قال الله عز وجل وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).
ويقول الإمام الباقر رحمه الله: وانظروا أمرنا وما جاءكم عنا، فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردوه"(4).
فأنت ترى أخي المسلم أن القرآن هو المعيار، فما وافقه أخذ به وقبل، وما خالفه رد وضرب به عرض الحائط، وهذا هو ما أوصانا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذا أئمة آل البيت رضوان الله عليهم أجمعين، فإلى رحاب هذا القرآن لننهل من معينه الصافي..
الصحابة والمنافقون في القرآن الكريم
__________
(1) _ الاحتجاج للطبرسي ص229، باب: احتجاج أبي جعفر في أنواع شتى، الكافي، 1/96، التهذيب، 1/275، الاستبصار، وغيرها.
(2) _ رجال الكشي: ص195، البحار: 2/239، رجال أبي داود: 517.
(3) _ رجال الكشي: ص195، تحت تذكرة المغيرة بن سعيد، البحار، 2/239، رجال أبي داود، 517.
(4) _ الأمالي للطوسي: 1/237، وسائل الشيعة، 27/120، البحار، 2/235.(10/9)
هل ينكر أحدٌ وجودَ منافقين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة وفيما حولها؟.
وهل ينكر أحدٌ أنّ الله أثنى على الصحابة في عدد من الآيات؟.
وهل فرق القرآن بين هاتين الفئتين؟.
وهل ينكر أحدٌ حديثَ الحوضِ الثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه سيُرَدُّ أناسٌ عن الحوض؟.
هذه حقائق لاشك فيها ولا ريب ولا مرية، لكن ما الجمع بينها؟!!..
كيف نجمع بين هذا وذاك، وهل الصحابة الذين أثنى الله عليهم في بعض الآيات ووعدهم بالخلود في الجنات هم الذين ارتدوا بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟!!..
كل هذا يحتاج إلى نظر وتدبر، والله نسأل أن يوفقنا لما يحب ويرضى..
هل فرق القرآن بين الصحابة والمنافقين؟!.
قد يجهل بعض المسلمين قضية مهمة، وهي أن المدينة يوجد بها منافقون حين كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فتجده ينفي هذا الأمر مع أن القرآن قد نص عليه، كما قال سبحانه: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ)[التوبة: 101]، وأما في مكة فإن النفاق لم يظهر بعد.
كما يخلط البعض بين الآيات الواردة في الصحابة رضوان الله عليهم، وبين الآيات الواردة في المنافقين، ويشكل عليه مثل هذا الأمر، مما يجعله يتساءل: هل بعض هؤلاء الصحابة منافقون، أم أن هؤلاء غير هؤلاء؟ والجواب عن هذا يتضح فيما يلي:
مما لا شك فيه أنه قد نزلت آيات كثيرة في صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك نزلت آيات كثيرة في المنافقين، وهذا لا يخفى على من قرأ كتاب الله وتدبره..
ولهذا فالصحابة غير المنافقين، والمنافقون غير الصحابة، وإلا لما كان لتفريق القرآن بينهما فائدة، فعندما يثني القرآن ويمتدح الصحابة فهو لا يعني المنافقين، وعندما يذم المنافقين ويعدهم بالنار والعذاب فهو لا يريد الصحابة.(10/10)
ومثال هذا تفريقه سبحانه بين المؤمنين والكفار، وتفريقه بين المتقين والفجار..
أما الفرق بين الصحابة والمنافقين من كتاب الله سبحانه وتعالى فواضح جلي في خطاب الله لهم، فتجده في نفس السورة الواحدة يثني على المؤمنين ثم يذم المنافقين، وهذا يدل على أن هؤلاء غير هؤلاء. قال تعالى: (وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ..)[التوبة: 56] الآية. فبين سبحانه أن المنافقين يحلفون بأنهم من الصحابة رضوان الله عليهم، ثم أخبر بأنهم ليسوا منهم..
وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}[التوبة: 101_102] .
ففي هاتين الآيتين بين الله سبحانه وتعالى أنه وعد المهاجرين والأنصار جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، ووعد الله حق لا يقع الخلف فيه، ثم بين وجود المنافقين في المدينة وما حولها، فدل هذا على أن المهاجرين والأنصار ليسوا هم المنافقين وكذا العكس، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله عند الحديث عن هذه الآية.
وبهذا يتضح لك أن الله تحدث عن الصحابة في عدد من الآيات، كما تحدث عن المنافقين في آيات أخرى، وجعل لكل منهم صفاته وخصائصه.
منهج أئمة آل البيت يسير على منهج القرآن الكريم
جرت لي مناقشات مع بعض الشيعة الذين عشت بينهم وجاورتهم حول بعض الآيات الواردة في القرآن الكريم، وفي موضوع الصحابة بالذات..(10/11)
وقبل أن أورد بعض النقاشات أقول: لا شك أن المنهج الحق هو منهج القرآن الكريم، ومنهج القرآن سار عليه أئمة آل البيت رضوان الله عليهم أجمعين..
ومما ينبغي أن يعلم: أن أئمة آل البيت عليهم السلام قد كذب عليهم كثيراً كما كذب على جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، و اتِّباعهم لا يعني الأخذ بتلك الروايات المكذوبة عليهم؛ بل اتِّباعهم يكون بمعرفة ما صح عنهم، ثم بعد ذلك يكون الاتباع..، ومع ذلك فمن اتبع القرآن الكريم وما ثبت من السنة المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم فإنه يكون حينئذ قد سار وهو وأئمة آل البيت على طريق واحد؛ فإن الدين قد اكتمل، فلا حاجة لأن يكمله أحد بعد ذلك..
وفي هذا المعنى يقول الإمام جعفر رحمه الله: اتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنا إذا حدثنا قلنا: قال الله عز وجل وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "(1).
وقال أيضاً: لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنة"(2).
فأئمة آل البيت أوصوا بأن لا يقبل عليهم حديث إلا ما وافق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والعجيب ممن يقلب الأمر، فلا يقبل من القرآن والسنة إلا ما وافق ما كذب على الأئمة رحمهم الله، فنسأل الله العافية.
عزيزي القارئ: نحن لا نريد أن نسلك مسلك ذلك النصراني؛ حيث ننسب إلى آل البيت ما لا يصح نسبته إليهم ثم نتهم الناس بعد ذلك بأنهم لا يسيرون على منهج آل البيت، وهو في الحقيقة مناقض أشد المناقضة لمذهب آل البيت رحمهم الله.
__________
(1) _ رجال الكشي: ص195، تحت تذكرة المغيرة بن سعيد.
(2) _ رجال الكشي: ص195.(10/12)
إن الذين يدّعون أنهم على منهج آل البيت عشرات الفرق، وكل فرقة تدعي أنها هي التي على صواب وأن غيرها قد جانب الصواب، وتجد أن كلاً منها تنسب ما شاءت من الروايات إلى الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه، أو إلى الإمام جعفر رحمه الله أو غيرهما، ثم تريد من الناس أن يتبعوا ذلك..
فأقول: لا بد أن نتعرف على منهج آل البيت بكل مصداقية وتجرد حتى تكون نظرتنا وحكمنا على أساس صحيح.
أول تلك الحوارات
أما الحوارات التي دارت بيني وبين بعض الشيعة فهي في الحقيقة كثيرة جداً، ومن أوائل تلك الحوارات ما دار بيني وبين بعض الشيعة حول ثناء الله على الصحابة في القرآن الكريم، وكذلك الآيات عن المنافقين، فقد استشهدت في إحدى جلساتي مع بعض الشيعة بهذه الآية العظيمة وهي قول الله سبحانه: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[محمد: 29]..
ثم قلت: إن هذه الآية من أعظم الآيات في الثناء على الصحابة، ومن أدل الدلائل على إعجاز القرآن، وعلى عظمة الباري وسعة علمه..
فبادرني أحد الشيعة قائلاً: هذه الآية لا دلالة فيها على فضل الصحابة.
قلت له كيف؟!.
فقال: لأن الله قال في آخر الآية: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} فمنهم أي بعضهم.
فقلت له:
أولاً: حصرك "من" بأنها تبعيضية تَحكُّم!!.(10/13)
ثانياً: كلامك جميل لو ألغينا أوّل الآية؛ ذلك أن الآية لا تتحدث إلا عمن آمن وعمل الصالحات، وذلك مثلهم في التوراة والإنجيل، أي قبل أن يخلقوا، فلو أراد الله سبحانه وتعالى بعضهم لذكره واضحاً جلياً.. قال سبحانه {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}، فالله سبحانه قال: (وَالذِينَ مَعَه) ثم ذكر صفاتهم، وأنهم: (أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) فهل يعني أن بعضهم وعده الله مغفرة وأجراً عظيماً، وبعضهم لا، فاقرأ الآية من أولها وتدبر..
فهؤلاء الذين ذكر الله أنهم في عبادة دائمة وأنهم يبتغون فضلاً منه ورضواناً لاشك أنهم آمنوا وعملوا الصالحات، وعليه يكون معنى (من) في الآية أحد أمرين:
إما أنها لبيان الجنس، أي وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من جنس هؤلاء وأمثالهم مغفرة وأجراً عظيماً، وذلك كقوله سبحانه: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ)[الحج: 30] أي من جنس هذه الأوثان، وليس معناها اجتنبوا الرجس من الأوثان وأما باقي الأوثان فلا تجتنبوها، وهذا ما ذكره علماء أهل السنة كما ذكره بعض علماء الشيعة(1)..
__________
(1) _ ذكر هذا من علماء السنة الطبري في فتح القدير: ج3، ص57، والثعالبي: في تفسيره ج 4 ص 119، وذكره من علماء الشيعة الطبرسي في مجمع البيان عند كلامه عن قوله سبحانه (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) في مجمع البيان ج 9 ص 157.(10/14)
والأمر الآخر: أن تكون مؤكدة، أي وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هؤلاء بالذات مغفرة وأجراً عظيماً، وذلك مثل قوله سبحانه: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ)[الإسراء: 82] وليس قوله: (مِنَ الْقُرْآنِ) أي بعض القرآن شفاء ورحمة وبعضه ليس كذلك، بل (من) هناك مؤكدة فكذلك هنا (1)..
قال لي: هذا صحيح، ولكن الآية تدل على فضل الصحابة الذين اتصفوا بهذه الصفات وهي أنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، وليس كل الصحابة كذلك..
قلت له: جوابي ألخصه لك في أمرين:
الأول: أن الذين قالوا بأن (مِنْهُم) للتبعيض إنما قالوه لمعرفتهم أن هذه الآية تشمل كل من كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصحابة، وهم الذين قاتلوا معه في بدر وأحد والخندق والأحزاب وتبوك وغيرها، وقد شق ذلك عليهم فحاولوا أن يجعلوا قوله سبحانه: (مِنْهُم) للتبعيض، مع أن القول بذلك طعن في أول الآية، بل وفي وصف الله للصحابة في التوراة والإنجيل؛ حيث لم يستثن الله فيهما أحداً دون أحد.
الثاني: أن المسلم لا يجوز له أن يحكم بهواه على كتاب الله سبحانه وتعالى بسبب قصَصٍ وحكايات حفظها من الصغر وهي لا تصح بوجه من الوجوه كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، ثم إن هذا الثناء العاطر من الله سبحانه وتعالى يبين كذب هذه القصص واختلاقها، أو أنه زيد فيها ونقص، أو حرف منها ما حرف، فصدقها بعض المسلمين وأبغضوا الصحابة بسبب ذلك.
ولهذا فإن الحق الذي لا محيص عنه أن ثناء الله عز وجل عليهم في التوراة والإنجيل ووصفهم بأعظم الصفات دليل على أنهم أهل لما وعدهم الله به..
__________
(1) _ انظر معاني القرآن للنحاس ج 4 ص 187، فتح القدير للشوكاني ج 3 ص 253.(10/15)
ثم تأمل هذا الحديث من كتب الشيعة: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سأل قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيمن نزلت هذه الآية: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) قال: إذا كان يوم القيامة عقد لواء من نور أبيض ونادى مناد: ليقم سيد المؤمنين ومعه الذين آمنوا فقد بعث محمد، فيقوم علي بن أبي طالب فيعطي الله اللواء من النور الأبيض بيده، تحته جميع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، لا يخالطهم غيرهم حتى يجلس على منبر من نور رب العزة، ويعرض الجميع عليه رجلاً رجلاً فيعطى أجره ونوره، فإذا أتي على آخرهم قيل لهم: قد عرفتم موضعكم ومنازلكم من الجنة، إنّ ربكم يقول لكم: عندي لكم مغفرة وأجر عظيم – يعني الجنة – فيقوم علي بن طالب والقوم تحت لوائه معهم حتى يدخل الجنة، ثم يرجع إلى منبر فلا يزال يعرض عليه جميع المؤمنين فيأخذ نصيبه منهم إلى الجنة وينزل أقواماً إلى النار فذاك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ)[الحج: 49] يعني للسابقين الأولين والمؤمنين وأهل الولاية، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )[الحج: 50] قالوا: يعني بالولاية بحق علي، وحق علي الواجب على العالمين(1).
ولاحظ هنا كلمة (جميع) فكيف يقول البعض بأن الآية تبعيضية!!
بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من مات في أحد الحرمين: مكة أو المدينة لم يعرض إلى الحساب، ومات مهاجراً إلى الله، وحشر يوم القيامة مع أصحاب بدر(2).
__________
(1) _ أمالي الطوسي، 387 البحار، 8/4، 23/388، 39/213 كنز جامع الفوائد، 345 البرهان، 4/202 المناقب، 3/27 نور الثقلين، 5/79،245.
(2) _ كامل الزيارات ص 44.(10/16)
فالرواية تشير بوضوح إلى فضل أصحاب بدر خاصة، من دون تقييد بأحد دون أحد، والذين في مقدمتهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبو عبيدة وعبد الرحمن بن عوف والزبير وطلحة رضوان الله عليهم أجمعين، فهل تأملت الانسجام التام بين الآية والحديث.
وأخيراً أقول: إن الله ذكر هذا الوصف في التوراة، وأخبر به بني إسرائيل، فلو سألت أحدهم: هل هؤلاء الذين ذكر الله أنهم مع خاتم الأنبياء والمرسلين وهذه صفاتهم، هل هم من أهل الجنة أم لا؟
أتظن أنه سيقول لك: نعم هؤلاء من أهل الجنة أم أنه سيقول لك: لا، بل منهم منافقون وأخذ يردد لك القصص الخرافية أو القصص المحرفة أو التي زيد فيها ونقص..
عزيزي القارئ: قليلاً من التدبر وقليلاً من الإنصاف، وقبل هذا كله ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى..
وأمرٌ آخرُ مهمٌ، وهو وصف الله لهم في التوراة والإنجيل فتأمل فيهما وفقك الله لمرضاته:
الأول: وصفهم في التوراة فهو كما قال الله سبحانه وتعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ) فهل ترى في هذا الوصف لهم في التوراة استثناء أو تقييداً أو غير ذلك؟! ولو كانوا سيرتدون ويكونون سبباً في هدم الإسلام هل يستحقون هذه الأوصاف؟! وأين؟ في التوراة!!.
الثاني: (وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) فهل ترى في هذا الوصف أيضا استثناءً أو تقييداً أو غير ذلك؟!.
ولهذا فقوله سبحانه في آخر الآية إنما هو تأكيد لما سبق ولا يمكن أن تناقض الكتب السماوية بعضها بعضاً..(10/17)
وكذا القرآن لابد أن يؤخذ بجميعه فلا يؤخذ بعضه ويترك بعضه، ولا يؤخذ جزء من آية ويترك الجزء الآخر منها..
وأنبه أخي القارئ إلى أن المعية في هذه الآية معية تشريف لهم باقترانهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونلحظ هذه المعية من صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سائر أحواله، في سلمه وحربه، وصحته ومرضه، وهذا ما نلمسه جلياً في غزوة بدر وأحد والخندق وصلح الحديبية وفتح مكة وتبوك وغيرها.. وفقنا الله لنصرة دينه وإعلاء كلمته..
عزيزي القارئ: هذا هو منطوق كتاب الله سبحانه وتعالى، وتأمل في الوصف التالي من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.
يقول رضي الله عنه كما في نهج البلاغة: لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله فما أرى أحداً يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب(1).
إنني كلما قرأت هذا النص تذكرت هذه الآية، فحق لنا أن نقول: إن منهج الأئمة هو منهج القرآن، وسيأتي مزيد بسط في الآية التالية بإذن الله.
الآية الثانية: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ..)
__________
(1) _ نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 143، شرح محمد عبده: 190، شرح ابن أبي الحديد: 7/77، وانظر: الكافي للكليني 2/236.(10/18)
قال الله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) [التوبة: 100 _ 101]
فتأمل كيف قال سبحانه: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا..) .
فذكر المهاجرين والأنصار ثم قال في الآية التي تليها مباشرة عن المنافقين: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ) .
فهل لاحظت التفريق بين الصحابة رضي الله عنهم وبين المنافقين..، ولكنَّ مشكلة بعض الشيعة أنهم لا يفرقون بين هؤلاء السابقين وبين هؤلاء المنافقين..
عزيزي القارئ: هذه الآية أوضح من الشمس في رابعة النهار، فهل تعلم ما قاله لي أحد الشيعة عندما تلوت عليه هذه الآية؟
أخذ يحاول أن يصرفها عمن توفرت فيه هذه الصفات، وقال كلاماً لا يمت إلى العربية بصلة، حيث قال: المراد بالأنصار: هم الذين أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبايعوه في مكة..(10/19)
وأما المهاجرون: فإن كان المقصود في الآية السابقون إلى الهجرة فهم الذين هاجروا إلى الحبشة، وإن كان المقصود السابقين إلى الإسلام فأول من أسلم هو الإمام علي بن أبي طالب وقد صلى مع الرسول صلى الله عليه وسلم سبع سنين ليس معهما إلا خديجة سلام الله عليها، فالإمام علي هو المقصود بالسابقين، ثم أخذ يحاول أن يثبت أن لفظ الجمع قد يطلق على الواحد!!.
ثم قال: ولكن في جميع الأحوال لاحظ كلمة (بِإِحْسَانٍ)، والتي تفيد أنه لا بد من عمل الصالحات والإيمان..
قلت له: والله لقد أحزنني هذا الجواب كثيراً، لأنني كنت آمل منك الإنصاف والموضوعية وطلب الحق، فهل غاية ما تتمنى هو اطِّراحُ الآية، أم أنك تريد الانتصار لمذهبك حتى ولو كان فيه مخالفة للآية أو معارضة لها؟!! فأسأل الله أن يعيذني وإياك من الهوى..
أخي الفاضل: لو أراد الله أن يخص أصحاب بيعة العقبة أو المهاجرين للحبشة فحسب لنص على ذلك، ولكنه سبحانه أطلق ولم يخصه بأحد معين، وإنما ذكر وصف السبق للنصرة والهجرة..
وثانياً: هل تعلم ماذا قال العلماء؟
لقد بيَّن بعض علماء الشيعة كالطبرسي في مجمع البيان، والطباطبائي في تفسير الميزان؛ أن السابقين من المهاجرين والأنصار غير محصور بشخص معين وإنما فيمن توفرت فيه صفات السبق، كأصحاب الهجرتين..
قال الطبرسي: وفي هذه الآية دلالةٌ على فضل السابقين ومزيتهم على غيرهم لِمَا لحقهم من أنواع المشقة في نصرة الدين، فمنها مفارقة العشائر والأقربين، ومنها مباينة المألوف من الدين، ومنها نصرة الإسلام وقلة العدد وكثرة العدو، ومنها السبق إلى الإيمان والدعاء إليه(1).
__________
(1) _ مجمع البيان: 5/98، وانظر: البحار: 22/302، 69/59.(10/20)
ويقول الطباطبائي: المراد بالسابقين هم الذين أسسوا أساس الدين ورفعوا قواعده قبل أن يشيد بنيانه ويهتز راياته، صنف منهم بالإيمان واللحوق بالنبي صلى الله عليه وآله والصبر على الفتنة والتعذيب، والخروج من ديارهم وأموالهم بالهجرة إلى الحبشة والمدينة، وصنف بالإيمان ونصرة الرسول وإيوائه وإيواء من هاجر إليهم من المؤمنين والدفاع عن الدين قبل وقوع الوقائع(1).
فلاحظ قول الطباطبائي: "صنف.. بالهجرة إلى الحبشة والمدينة"، وقوله: "وصنف بالإيمان ونصرة الرسول وإيوائه وإيواء من هاجر إليهم من المؤمنين..".
وأخيراً أقول: هذه الآية أخبر الله عز وجل فيها بأنه وعد المهاجرين والأنصار بالجنة والخلود فيها، وهذا دليل على أنهم يموتون على الإسلام، فالله يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون..
إنه دليلٌ على موتهم على الإيمان، ولا يعني هذا أنهم لا يعصون أبداً، بل قد يقع شرب الخمر منهم، بل وقد تقع منهم الفاحشة، ولكنهم يتوبون ويستغفرون ولا يصرون على ما فعلوا، والتوبة تَجُبُّ ما قبلها، وقد زنى في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الصحابة ورجمهم، ومع ذلك شهد لهم بأعظم الإيمان، كقوله عن المرأة الغامدية بعد أن رجمها: "لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ".
وشَرِبَ أَحَدُ الصَّحَابَةِ الخَمْرَ فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
__________
(1) _ تفسير الميزان، 9/373.(10/21)
فعدالة عموم الصحابة لا يعني أنهم لا يعصون أبداً، وعصيانهم لا يعني إمكانية كذبهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبداًَ.
لقد ذكر الله المتقين في القرآن وبيَّن صفاتهم ووعدهم بجنات عرضها السموات والأرض، كما قال سبحانه: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )[آل عمران: 133_135].
فانظر كيف وعدهم بهذا الجزاء العظيم، ووصفهم بالتقوى، ومع ذلك بيَّن سبحانه أنهم قد تقع منهم الفواحش، ولكنهم يتوبون منها ولا يصرون على فعلها، فهم يوافون الله سبحانه وتعالى مع وصفهم بالمتقين، فهذا هو المراد من عدالة الصحابة عند الإطلاق فتأمل.
والسابقون من المهاجرين والأنصار مِنْ أتقى المتقين، ومع ذلك يمكن أن تقع منهم بعض الذنوب، ولكنهم يتوبون منها ويموتون على الإسلام..، بل ويوافون الله عدولاً.
ثم إن الله وعد من اتبع السابقين من المهاجرين والأنصار بإحسان أن ينال رضا الله سبحانه وتعالى وينال الجنة، فقد وعده الله بأن يرضى عنه وأن يدخله جنات تجري تحتها الأنهار خالداً فيها أبداً.. قال سبحانه: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ..) الآية.
واتباعهم بإحسان يكون بأخذ العلم عنهم، هذا العلم الذي أخذوه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذا بمحبتهم ومعرفة فضائلهم والذب عن أعراضهم، ورد الكذب عنهم، والاقتداء بهم..(10/22)
واتباعهم بإحسان لا يكون بافتراء القصص المكذوبة عليهم ولا بسبهم وشتمهم وتنقصهم والطعن فيهم..، أعاذنا الله وإياكم من ذلك..
أما المنافقون ومن ارتد فلا يطلق عليهم صحابة في المصطلح الشرعي، وليس هذا البحث الصغير محل بسط هذا.
الآية الثالثة: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ..)
قال الله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا..)[الفتح: 18] الآيات.
كم كان عدد هؤلاء الصحابة، وما هي هذه البيعة؟
أترك الجواب لأحد علماء الشيعة وهو الطبرسي حيث يقول: يعني بيعة الحديبية وتسمى بيعة الرضوان لهذه الآية ورضا الله سبحانه عنهم وإرادته تعظيمهم وإثابتهم، وهذا إخبار منه سبحانه أنه رضي عن المؤمنين إذ بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية تحت الشجرة المعروفة وهي شجرة السمرة...، وكان عدد الصحابة رضوان الله عليهم يوم بيعة الرضوان ألفاً ومائتين، وقيل وأربعمائة، وقيل وخمسائة، وقيل وثمانمائة(1).
وينبغي أن يعلم أنه لم يحضر في الحديبية أحد من المنافقين على الصحيح إلا الجدُّ بن قيس كما ذكر ذلك بعض علماء التاريخ والسير، ولكنه لم يبايع وتنحى بعيداً(2)، ولو بايع لفضحه الله عز وجل، ولأخبر بأنه لا يشمله هذا الرضا، وكذا لو حضر غيره من المنافقين؛ لأن الله أخبر في كتابه بأنه لا يرضى عن القوم الكافرين، والنفاق أشد من الكفر، والعياذ بالله.
__________
(1) _ مجمع البيان، 5/167، وانظر البحار، 20/346،365، 24/93، 36/55،121 روضة الكافي، 322 تأويل الآيات، 2/595 البرهان، 4/196 المناقب، 2/22.
(2) _ انظر على سبيل المثال: تاريخ الطبري: 2/280، البداية والنهاية لابن كثير: 4/191.(10/23)
فإذن.. عدد الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحت الشجرة في أوسط الأقوال ألف وأربعمائة..
وسميت ببيعة الرضوان لإخبار الله عز وجل أنه رضي عنهم، وهذا الرضا جاء مطلقاً عاماً..
ولكن:
هل يمكن أن يرضى الله سبحانه وتعالى عن المنافقين..
وهل يخبر سبحانه وتعالى برضاه عن أحد ثم يخبر أنه سخط عليه بعد ذلك..
والجواب يتبين في الآتي:
أما المخلوق فيمكن أن يرضى اليوم ويسخط غداً؛ ويمكن أن يرضى عن منافق يظنه مؤمناً؛ لأنه لا يعلم مِنَ الشخص إلا ما يشاهده أمامه..
أما الله سبحانه وتعالى فإنه لا يمكن أن يرضى عن المنافقين؛ لأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وإذا رضي الله عن أحد فلا يمكن أن يسخط عليه بعد ذلك؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يخبر برضاه عن أحد سيكفر أو ينافق..
ثم إنه سبحانه إذا رضي عن عبد وفقه وسدده في أمور حياته وآخرته، وحفظ عليه دينه..
ألا ترى أن الله لما أخبر عن رضاه عن المهاجرين والأنصار قال بعدها (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا..)[التوبة: 100] فلو لم يكن رضاه عنهم دليلاً على حفظه لهم لما قرنه بالوعد بالخلود في الجنات..
ويؤيد هذا ما رواه الكليني في الكافي عن أبي عبدالله عليه السلام، قال: إن الله خلق السعادة والشقاء قبل أن يخلق خلقه، فمن خلقه الله سعيداً لم يبغضه أبداً، وإن عمل شراً أبغض عمله ولم يبغضه، وإن كان شقياً لم يحبه أبداً، وإن عمل صالحاً أحب عمله وأبغضه لما يصير إليه، فإذا أحب الله شيئاً لم يبغضه أبداً، وإذا أبغض شيئاً لم يحبه أبداً(1).
__________
(1) _ الكافي: 1/152.(10/24)
فالرواية عن أبي عبد الله عليه السلام تبين وتثبت أن رضا الله تعالى عن الصحابة لما بايعوا تحت الشجرة والذين اتبعوه في ساعة العسرة دائمٌ، لا يمكن أن يعقبه سخطٌ عليهم، كما أن الرواية تبين أن الله لا يمكن أن يرضى عن شقي أبداً، ولو حصل منه عمل صالح لأحب العمل وأبغض هذا الشقي بسبب ما سيصير إليه أمره من الارتداد والشقاء.
وبهذا يعلم أن الله سبحانه وتعالى إذا رضي عن أحد لم يسخط عليه أبداً.
وأخيراً أقول: اعلم أن الله سبحانه وتعالى لم يخبر أنه سخط على من بايع تحت الشجرة كما أخبر برضاه عنهم، ولهذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما كما ترويه عنه كتب الشيعة: "أخبرنا الله أنه رضي عنهم، عن أصحاب الشجرة، فعلم ما في قلوبهم، هل حدثنا أحد أنه سخط عليهم بعد؟"(1).
نعم.. الله سبحانه أخبر عن رضاه عنهم، فمن يتألى على الله ويدعي الغيب ويخبر ويحدث بأن الله سخط على بعضهم أو على فلان وفلان؟
ومن العجائب أن تجد من ينسب نفسه للفقه والتحقيق يجعل المنافقين مع الذين بايعوا!، فينسب الجهل إلى الله تعالى؛ إذ كيف رضي سبحانه عنهم وفيهم المنافقون!.
وتارة يفر من الآية ويقول: الرضى حصل لدقائق محدودة _ أي ساعة المبايعة _ ثم سخط بعد ذلك؟!.
سبحان الله، تنقُّص ما بعده تنقص لله سبحانه وتعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)[الأنعام: 91].
اللهم اجعلنا ممن رضوا عنك ورضيت عنهم يا رب العالمين..
آيات آخرى
ومن الآيات الواردة في الصحابة أيضاً قول الله سبحانه وتعالى: (لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)[الحديد: 10] فتأمل قوله: (وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)
__________
(1) _ الإرشاد، 13 روضة الواعظين، 75 البحار، 38/243، 40/51 فرات، 2/421.(10/25)
والحسنى هي الجنة كما قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ..)[الأنبياء: 101] .
وقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)[الجمعة: 2] فأنت تلحظ أنهم كانوا من قبل في ضلال مبين، فهم غير معصومين، وإن كنا نعتقد دخول الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه معهم؛ لأنه غير معصوم كما عند جميع الفرق المنتسبة للإسلام باستثناء الشيعة الإمامية..
وخلاصة القول: أن الله سبحانه وتعالى بين في هذه الآية الكريمة أن هؤلاء الصحابة حصلت لهم الهداية والتزكية والتعليم، ومن ثمَّ نقلوا القرآن والسنة إلى من بعدهم، وعلى رأسهم أبو بكر الصدِّيق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وأُبيّ بن كعب، وكانوا هم الواسطة بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبين من جاء بعدهم، ولو لم يكونوا عدولاً لما حصلت الثقة بنقلهم للقرآن الكريم، ولا بالسنة النبوية، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين..
فمن طعن في عدالة أي واحدٍ من هؤلاء فقد طعن في القرآن والسنة، كيف لا والأخبار لا تؤخذ من الفاسق، فكيف بالقرآن!!.
ويؤيد هذا ما جاء في الكافي عن منصور بن حازم، قال: قلت لأبي عبدالله: ".. فأخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صدقوا على محمد أم كذبوا؟ قال: بل صدقوا.." إلخ(1)، فالرواية تثبت عدالة الصحابة رضوان الله عليهم في روايتهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد سبق الحديث عن العدالة، فراجعه إن شئت.
فضل الصحابة وعلو قدرهم
__________
(1) _ الكافي للكليني: 1/65.(10/26)
إن مما يدل على فضل الصحابة وعلو قدرهم، ثناء الإمام علي رضي الله عنه عليهم وثناؤهم عليه:
فهاهو رضي الله عنه يقول عن بيعته لأبي بكر رضي الله عنه:.. (فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته ونهضت في تلك الأحداث حتى زاغ الباطل وزهق، وكانت كلمة الله هي العليا ولو كره الكافرون، فتولى أبو بكر تلك الأمور فيسر وسدد وقارب واقتصد فصحبته مناصحاً وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهداً)(1).
وهذه الرواية جاء في أولها أن علياً رضي الله عنه وأرضاه امتنع عن المبايعة أول الأمر؛ لأنه كان يرى أنه أحق بها لقرابته، ثم بايع بعد ذلك، وكذلك أثنى هذا الثناء، ولا يمكن أن يثني هذا الثناء على أبي بكر رضي الله عنه ويشهد له بأنه يسر وسدد وقارب لو لم يكن كذلك.
وقد صرح السيد محمد آل كاشف الغطاء بهذه الحقيقة فقال: (وحين رأى أن الخليفتين _ أعني الخليفة الأول والثاني _ بذلا أقصى الجهد في نشر التوحيد وتجهيز الجنود وتوسيع الفتوح ولم يستأثرا ولم يستبدا، بايع وسالم)(2).
وبهذا يظهر فساد القول بخلاف الصحابة رضوان الله عليهم لأمر الله ورسوله، واغتصاب الخلفاء الثلاثة لحق الإمام علي رضي الله عنهم أجمعين وتصرفهم في الأرض بغير وجه حق، وقد رأيت كلام الإمام علي رضي الله عنه مع ما سيأتي من ظاهر أحوالهم معه وأحواله معهم رضي الله عنهم أجمعين مما ينبئ بخلاف ذلك، فلم يكن يجمعهم سوى المحبة والاحترام وإقرار كل واحد منهم بفضيلة الآخر..
إن علياً رضي الله عنه كان يرى أن الخلافة الشرعية هي ما تمت بمشورةٍ من المهاجرين والأنصار، وكان يرى شرعية خلافة أبي بكر وعمر، بل وكان يثني عليهما كثيراً، وسيأتي مزيد بيان لهذا..
__________
(1) _ شرح النهج: 6/94، البحار: 33/566، الغارات للثقفي: 2/305 _ 307.
(2) _ انظر: أصل الشيعة الاثني عشرية وأصولها ص 123 _ 124.(10/27)
يقول رضي الله عنه: (إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضا، فإن خرج منهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى)(1).
لقد احتج رضي الله عنه وأرضاه بهذا على معاوية ليلزمه ببيعته، وليبين أن الحق هو: أن من بايعه المهاجرون والأنصار تمت بيعته، وكان هذا وفق مرضاة الله سبحانه، وما كان لمثل الإمام علي رضي الله عنه أن يحابي أحداً في دين الله، ولا أن يستدل بباطل ليثبت حقاً، ولا أن يتفوه بباطل عمداً مسايرة لأحد، كيف لا والشيعة تدعي أنه معصوم، والمعصوم كما سيأتي بيانه لا ينطق بباطل بحال من الأحوال، فرضي الله عنه وأرضاه.
علاوة على ذلك نجد أنه يقول عن بيعة المهاجرين والأنصار: فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضا، وهم ولا شك قد اجتمعوا على بيعته، كما اجتمعوا قبل ذلك على بيعة أبي بكر ثم بيعة عمر ثم بيعة عثمان، وسموا كل واحد منهم: إمام المسلمين..
إن علياً رضي الله عنه بيَّن أشد البيان، ووضح غاية التوضيح، وإن من المحزن أن يتجاهل الشيعة مثل هذا النص أو يجهلوه، أو يحاولوا تأويله، ثم يدعون بعد ذلك أنهم أتباع الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه.
لقد بيّن أن الخلافة الشرعية هي ما تمت عن طريق المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، ولم يقل إنها بنص من الله، وإلا لو قلنا بارتداد عامة الصحابة من المهاجرين والأنصار فكيف وصل الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه للخلافة؟!!.
__________
(1) _ نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 246، 247، البحار، 33/67.(10/28)
والشيعة هداهم الله للحق لم يقتصروا على زعم النص على إمامة علي رضي الله عنه وأرضاه وأن من بعده قد اغتصب الخلافة، بل زادوا على ذلك قصصاً تشعل العداوة والشحناء بين المسلمين كمظلومية الزهراء رضي الله عنها وأرضاها، وهذا ما سأتحدث عنه بإذن الله.
مظلومية الزهراء رضي الله عنها وأرضاها
إن من أعظم ما تشعل به الشحناء والبغضاء بين السنة والشيعة، قضية ظلم الزهراء رضي الله عنها..
وأنا وأنت لم نشهد ذلك العصر، ولذا فإنني أرضى بشهادة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه بما حصل؛ لأن هذا من لازم محبتنا له، ولا أظنك عزيزي القارئ إلا كذلك..
لقد أثنى الإمام عليٌ رضي الله عنه وأرضاه على عمر بألفاظ تبين مدى تقواه وورعه وعدم إمكان حصول شيء كهذا منه، بل أخبر بأنه مات نقي الثوب قليل العيب، ولا أطيل عليك بل أتركك مع الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه ليحدثك بنفسه..
لقد أثنى رضي الله عنه على عمر بن الخطاب رضي الله عنه غاية الثناء وأبلغه، فقد قال واصفاً لعمر بن الخطاب [وقيل لأبي بكر]: "لله بلاء فلان(1) _ أي عمر على الأرجح _ لقد قوم الأود، وداوى العمد، وأقام السنة، وخلف البدعة، وذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها واتقى شرها، أدى لله طاعته، واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدي إليها الضال، ولا يستيقن المهتدي.."(2)
__________
(1) - ورويت (لله بلاد فلان)، وقال ابن أبي الحديد: سألت عنه النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد العلوي فقال لي هو عمر بن الخطاب، فقلت له: أيثني عليه أمير المؤمنين هذا الثناء؟ فقال: نعم، ويقول أيضا: إذا اعترف أمير المؤمنين بأنه أقام السنة وذهب نقي الثوب قليل العيب وأنه أدى إلى الله طاعته واتقاه بحقه فهذا غاية ما يكون المدح.[شرح نهج البلاغة: 2/4].
(2) - نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 430.(10/29)
فلله در قائل هذا الكلام، فما أبلغه وأحسنه، ومعنى قوله: قوم الأود، أي قوم العوج، وداوى العَمَد، أي داوى العلة.
فهذا الكلام منه رضي الله عنه يوافق مدح الله للمهاجرين ومنهم عمر ولاشك، والمؤسف أن الشيعة لم يرضهم هذا الكلام؛ إذ هو عقبة أمامهم، وهذا ما دفع الشيخ ابن ميثم البحراني(1) لأن يقول: "واعلم أن الشيعة قد أوردوا هنا سؤالاً فقالوا: إن هذه الممادح التي ذكرها في حق أحد الرجلين _ يعني أبا بكر وعمر _ تنافي ما أجمعنا عليه من تخطئتهما وأخذهما لمنصب الخلافة، فإما أن لا يكون هذا الكلام من كلامه رضي الله عنه ، وإما أن يكون إجماعنا خطأ".
والغريب في الأمر هو كثرة محاولات الشيعة رد هذا الكلام الجزل من الأمير علي رضي الله عنه، وكأنهم لا يريدون منه أن يقول إلا ما يوافق أهواءهم والعياذ بالله..
ألا يحتمل عند الشيعة ولو بنسبة ضئيلة أن يكون هذا الكلام قد ورد من الإمام علي رضي الله عنه على سبيل المدح الحق الذي لا مرية فيه ولا شك؟!!.
لقد حاول بعض الشيعة تأويل هذا النص، فقال بعضهم: إنه قاله لاستجلاب قلوب الناس لاعتقادهم في الشيخين _ أي أبي بكر وعمر _ أشد الاعتقاد، وهذا فيه اتهام له بالكذب من أجل الدنيا، حاشاه رضي الله عنه ، ثم هل يحتاج رضي الله عنه إلى كل هذه التأكيدات والمبالغات لو لم يرد حقيقة المدح!..
فيا أيها العقلاء: ماذا يضركم لو كانت الحقيقة هي أن عمر لم يضرب فاطمة ولم يهدد بحرق بيتها، وأن هذا كله مكذوبٌ عليه، ألستم تتمنون ألا يكون قد آذاها وضربها؟!.
__________
(1) - ميثم بن علي البحراني (كمال الدين) من شيوخ الإمامية، من أهل البحرين، من كتبه: (شرح نهج البلاغة)، توفي في البحرين سنة 679 س (معجم المؤلفين:13/55).(10/30)
فهذه شهادة من الإمام عليٍ رضي الله عنه وأرضاه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه تشهد بأنه ذهب نقي الثوب قليل العيب، أدى لله طاعته واتقاه بحقه..، أفلا يكون ذلك كافياً بعد الآيات الواضحات البينات لأن نُقرَّ بالحقيقة، ولا نتعلق بأشياء لم تقع، ومن ثم نقع في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لن ينفعنا يوم القيامة شيئاً؟!!.
فأَعظِم بها من شهادة، وأَعظِم به من شاهد، وإذا علمنا ذلك فلا غرو أن يسمي الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه أحد أبنائه بعمر، ولا غرو أن يزوجه أيضاً ابنته أم كلثوم.
عمر وزواجه من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين
جرى حوار بيني وبين أحد الشيعة حول قضية تسمية الإمام علي رضي الله عنه أحد أبنائه بعمر وآخر بأبي بكر وآخر بعثمان وكلهم قتل مع الحسين رضي الله عنه في كربلاء..(1).
وكذا فعل عدد من الأئمة، فقد سمى الحسن والحسين أبناءهما باسم أبي بكر وعمر، وكذا علي بن الحسين سمى باسم عمر وعثمان، وكان يحب أن يكنى بأبي بكر، وكذا الكاظم سمى باسم أبي بكر وعمر، وكان الرضا يحب أن يكنى بأبي بكر..، وغيرهم كثير وليس هذا مجال حصره(2).
رد علي قائلاً: ليس في هذا دلالة على المحبة.
فقلت له: إذن فسم ابنك باسم شارون إن كنت صادقاً!.
فقال: هذه أسماء أعجمية ولو كانت عربيةً لسميت بها!.
فقلت له: وهل ترضى أن تسمي ابنك باسم أبي لهب، أو غيره من صناديد قريش؟!. فصمت ولم يجب..
__________
(1) _ انظر: الإرشاد: 167، المناقب: 4/112، الكافي: 1/286، معجم الخوئي: 13/45 وغيرها من المراجع.
(2) _ مقاتل الطالبيين: 92، 453، المناقب: 4/112، 113، 175، 176، إعلام الورى: 212، 243، البحار: 44/163، 168، 169، 45/36، 63، 67، 10/250، التنبيه والإشراق: 263، كشف الغمة: 2/217، 341.(10/31)
قلت له: دع عنك هذا، وأخبرني: لم زوج الإمام عليٌ رضي الله عنه وأرضاه ابنته أم كلثوم لعمر رضي الله عنه؟. فهل كان الإمام عليٌ رضي الله عنه يجهل ما عمل عمر رضي الله عنه من ضربٍ وإيذاءٍ لفاطمة رضي الله عنها، ولهذا زوجه ابنته؟!.
فيا ترى، هل كان الإمام علي رضي الله عنه يجهل أعمال هؤلاء التي نسجها القصاصون بعد ذلك، أم أن الإمام علياً كان يريد التزلف والتقرب من الطغاة، حاشاه وحاشاهم رضي الله عنهم أجمعين.
قال: لا يصح هذا الزواج كما قال العلماء..
قلت له: هذا كلام عامٌ وليس كلاماً علمياً؛ فإن المجلسي وهو من أكبر علماء الشيعة في القرون المتأخرة قال في كتابه مرآة العقول بأن أحاديث تزويج الإمام علي ابنته أم كلثوم بعمر بن الخطاب صحيحة لا شك فيها، وقد ذكر الأحاديث التي أوردها صاحب الكافي ثم حكم على الأول والثاني بأن درجتهما حسن والثالث بأن درجته موثق والرابع بأن درجته صحيح.
أما الحديث الأول والثاني فقد أوردهما في باب تزويج أم كلثوم، والثالث والرابع في باب المتوفى عنها زوجها المدخول بها أين تعتد وما يجب عليها؟.
ثم ذكر بعد ذلك المجلسي إنكارَ المفيدِ لهذا التزويجِ ثم قال: (.. وكذا إنكارُ المفيدِ (ره) أصلَ الواقعة إنما هو لبيانِ أنه لم يثبت ذلك من طرقهم، وإلا فبعد ورود تلك الأخبار وما سيأتي بأسانيد أن علياً عليه السلام لما توفي عمر أتى أم كلثوم فانطلق بها إلى بيته، وغير ذلك مما أوردته في كتاب بحار الأنوار، إنكار ذلك عجيبٌ، والأصلُ في الجوابِ هو أن ذلك وقع على سبيل التقية والاضطرار، ولا استبعاد في ذلك.. إلخ)(1).
__________
(1) _ انظر: مرآة العقول: 20/42، و 21/197].(10/32)
إن بعض الشيعة يستدلون على إيمان أبي طالب بأن زوجته مؤمنة والكافر لا يتزوج مؤمنة، مع أن التحريم جاء متأخراً ولم يكن في أول الإسلام، وكان جائزاً في شرع من قبلنا بدليل كفر امرأتي نوح ولوط عليهما السلام، ولكن عندما يأتي مثل زواج عمر بأم كلثوم فإنهم ينسون ما استدلوا به على إيمان أبي طالب.
أيها القارئ العزيز: أيمتدح الإمام عليٌ رضي الله عنه وأرضاه عمر وغيره من الصحابة، بل ويسمي بأسمائهم ويزوجهم، ثم بعد ذلك نحاول رد ذلك متذرعين بأنه قاله أو فعله تقية واضطراراً، وهذا مَخرجٌ سهلٌ نستطيع أن نصرف به كل مدحٍ للصحابةِ على لسان الأئمة رضوان الله عليهم، ولكن هيهات أن يفيد يوم القيامة (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ. إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88_89].
وقفة لا بد منها حول التقية.
ثمت سؤالٌ مهمٌ عن التقية يضع النقاط على الحروف، وهو كما يلي:
السؤال: هل التقيةُ حالَ الضرورة جائزةٌ أم لا، وهل المعصومُ تجوز عليه التقية؟
الجواب: التقية حال الضرورة جائزةٌ لغير المعصوم؛ ودليل هذا ما حصل لعمارٍ رضي الله عنه عندما آذاه المشركون فتكلم بما يرضيهم حتى يتركوه، فلما تركوه وذهب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: إن عادوا فعد.
أما المعصوم، فإنه لا تجوز له التقية بحال من الأحوال..
لماذا؟
لأن المعصوم لا ينطق عن الهوى كما قال سبحانه: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى)[النجم: 3_4] فالذي لا ينطق عن الهوى يعتبر كلامه وحياً وتشريعاً، ولهذا لا يمكن أن يكذب حتى في حال الضرورة؟ وهذا معنى كونه معصوماً.
وتجويز الكذب عليه في الدين حتى حال الضرورة تجويزٌ للكذب على الله سبحانه، ولهذا لما سأل أحد الصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هل يكتب كل ما يقول حتى في حال الغضب، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اكتب فإني لا أقول إلا حقاً..(10/33)
أما قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الرجل: "بئس أخو العشيرة" فلما دخل عليه هش في وجهه وابتسم فهذا ليس تقيةً؛ لأن التبسم في وجوه الناس خلقٌ إسلاميٌ رفيعٌ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل له أنت نعم أخو العشيرة وإلا لعد كذباً في حقه.
إذن، فمن يقول بعصمة الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه ثم يقول بعد ذلك بأنه قد يكذب في حال التقية فإنه يناقض نفسه؛ لأن المعصوم لا يمكن أن يكذب ولو تقية، والذي يستعمل الكذب في حال الضرورة تقية لا يمكن أن يكون معصوماً.
وعليه فإنَّ كَونَ المعصوم لا يكذب أبداً أمرٌ لا غبار عليه، ولا مرية فيه، وإنما جعل الشيعة الإمام علياً رضي الله عنه وأرضاه معصوماً، ثم فوجئوا بكلام له رضي الله عنه وأرضاه يصادم عقائدهم ويهدمها، فلم يأخذوا بكلامه ولا بكلام غيره من الأئمة رحمهم الله مما فيه مدح للخلفاء الذين قبله أو غير ذلك، فماذا فعلوا؟
لجئوا إلى القول بأن هذا الكلام تقية، وجعلوا التمسك بما تربوا عليه واعتقدوه مما نسب كذباً إلى الأئمة مقدماً على ما صح وتواتر عن الأئمة..
فكيف يجتمع عقلاً القول بالعصمة والتقية؟!!. اللهم إذا اجتمع السمك والضب في مكان واحد..
ومما يدل على أن الأئمة كانوا لا يتقون أحداً، بل كان شأنهم الصراحة والوضوح والخوف من الله وحده حديث الخواتيم، فقد روى الكليني وغيره حديث الخواتيم، وفيه: إن كل إمام فض الخاتم الخاص به في أول إمامته، ولما فتح الباقر خاتمه وجد فيه: (فسر كتاب الله تعالى، وصدق أباك، وورث ابنك، واصطنع الأمة، وقم بحق الله عز وجل، وقل الحق في الخوف والأمن، ولا تخش إلا الله) ففعل(1)، ثم ذكر في الرواية التي تليها نحو هذا عن الإمام الصادق رحمه الله.
__________
(1) _ الكافي ج1 ص280، وابن بابويه في التبصرة ص39، والصدوق في علل الشرائع ج1 ص172.(10/34)
فالرواية تشير بوضوح إلى أن الباقر والصادق رحمهما الله لم يكونا يتقيان أحداً من الناس، وإنما كانا يقولان الحق في الخوف والأمن ولا يخشيان إلا الله.
فأين هذا مما كذبه الشيعة على هؤلاء الأئمة رحمهم الله، وأنهم يقولون ويمتدحون أحياناً على سبيل التقية من الحكام والسلاطين؟!!..
ولعمري لقد صدق ابن ميثم البحراني حين قال: "إن هذه الممادح التي ذكرها في حق أحد الرجلين _ يعني أبا بكر وعمر _ تنافي ما أجمعنا عليه من تخطئتهما وأخذهما لمنصب الخلافة، فإما أن لا يكون هذا الكلام من كلامه رضي الله عنه ، وإما أن يكون إجماعنا خطأ".
ولم يجعل هذا على سبيل التقية كما قال غيره، وإنما جعله محتملاً لأحد أمرين _ إما أن لا يكون من كلامه، وإما أن يكون إجماع الشيعة خطأ _ وقد صرح عدد من علماء الشيعة بأن نهج البلاغة مما لا شك في نسبته إلى الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه، فلم يبق إلا الأمر الآخر.
ألا ليت الشيعة يعون هذه الممادح التي وردت في كتاب نهج البلاغة وغيره، حتى يدركوا حقيقة ما هم عليه، ويعرفوا حقيقة الأمر وجليته..
بل ليتهم والله يتدبرون كتاب الله ويعملون بما فيه حتى يحظوا بالفوز يوم القيامة ويكونوا في ركاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته وصحابته.
وقفات حول الآيات الواردة في المنافقين
ذكرت فيما سبق أن الصحابة غير المنافقين، ولهذا فالثناء في القرآن على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإخبار بتزكية الله لهم، لا يتناول المنافقين جملة وتفصيلاً..(10/35)
وقد ذكرت من الأدلة عدة مرات قول الله سبحانه وتعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) وفي الآية بعدها مباشرة: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ) [التوبة: 101_102].
فهل يساوى من وعد بالخلود في الجنات بمن أخبر الله أنه سيعذب مرتين؟!!.
إن الحديث عن الآيات الواردة في المنافقين يبين صفاتهم التي تميزوا بها عن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ومن ثَمّ لا يدع مجالاً لأن يوصف هؤلاء بصفات هؤلاء ، إذ إن لكلٍ منهم صفاتٍ تميزه وتختص به..
لقد تحدث الله في سورة التوبة عن المنافقين في مواضع عدة بين فيها الفرق بين المنافقين والصحابة الكرام.. فمن ذلك ما يلي:
قال سبحانه عن المنافقين: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ . يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ)[التوبة: 93_94].
فانظر كيف يعتذرون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن الصحابة لما رجعوا إلى المدينة بعد غزوة تبوك، وكان عدد الصحابة قرابة ثلاثين ألفاً..، فدل على الفرق بين الصحابة والمنافقين.
وقال سبحانه مبيناً كذب دعوى المنافقين: (وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ)[التوبة: 56]..(10/36)
فتأمل أيضاً كيف يحلف هؤلاء المنافقون للصحابة، ويقسمون بأنهم منهم، ثم يخبر الله بأنهم ليسوا منهم..، فسبحان الله كيف يجرؤ مسلم على وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنفاق مع أن الله سبحانه وتعالى دافع عنهم ورد على المنافقين الذين زعموا أنهم منهم!!..
إن سمة المنافقين العامة هي عدم الخروج للجهاد، ولذا استأذنوا في عدم الخروج كما قال تعالى: (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ. وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ..)[التوبة: 45_46] إلى آخر الآيات.
وعلل بعضهم بخشية الفتنة كما زعم، قال سبحانه: (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ..)[التوبة: 49] .(10/37)
ولا ينفي هذا خروج القلة القليلة منهم، سواء كان إرجافاً أو طمعاً في غنيمةٍ أو غيرَ ذلك، ولهذا لم يغفل سبحانه حال أولئك المنافقين القلة الذين خرجوا ونالوا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففضحهم وبين ما تخفيه قلوبهم، حيث استهزءوا بأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قالوا: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء قط أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء"، فأنزل الله فيهم: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ. وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ. لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ)[التوبة: 64_66].
وتنبه وفقني الله وإياك لمرضاته أن الله لم يغفل حال أولئك الثلاثة الذين لم يخرجوا للقتال وهم غير منافقين، فبرأهم الله من جملتهم وأخبر أنه تاب عليهم في عدم خروجهم، كما قال سبحانه: (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[التوبة: 118] وهم: مرارة بن الربيع وهلال بن أمية وكعب بن مالك..(10/38)
ثم يأتينا بعد ذلك من يقول بأنَّ ثُلةً من خِيرةِ المهاجرين والأنصار من السابقين الأولين قد ارتدوا ونافقوا، بل وتولوا زمام الأمة وقيادتها زمناً ليس بالهيِّن..، فكيف بالله العظيم يبين الله حال أولئك النفر القليل، ولا يبين حال أولئك الذين يجب أن تحذر منهم الأمة كما يدعي هؤلاء؟!!..
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب..
لقد أخبر الله سبحانه وتعالى بأن نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يَعْلَم المنافقين، كما قال سبحانه: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)[التوبة: 100] .
ثم بَيّن الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم عموم هؤلاء المنافقين بعد ذلك، وبَيّن له من صفاتهم ما يعرفهم بها، كما قال سبحانه: (وَلَوْ نَشَاء لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ)[محمد: 30].
وقد عرف الصحابة الكرام هؤلاء المنافقين المتخلفين عن هذه الغزوة العظيمة، حيث ذكروا أنه لم يتخلف عنها إلا منافق أو من عذر الله، أي من النساء والضعفة ونحوهم..
وبين سبحانه وتعالى أيضاً حال أولئك الذين بنوا مسجد الضرار: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)[التوبة: 107] ومسجد الضرار معروف ومن بناه معروف..(10/39)
فمن قرأ صفاتهم وجد أنهم قد تميزوا بها فلم يشتبهوا بالصحابة الكرام، قال سبحانه: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً. مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً)[النساء: 142_143].
فقارن بين هذا الوصف وبين وصف الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم: (أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ)[محمد: 29].
ولك أن تراجع تكرماً لا أمراً وصفَ الإمامِ عليٍ رضي الله وأرضاه لهم حين قال: لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله فما أرى أحداً يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وخدودهم.. إلخ.
ثم تأمل وفقك لله لمرضاته وصف الله للمنافقين: (وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً)[النساء: 142] مع ما هو معلوم من أن القرآن أعظم الذكر، وقد نقل إلينا بالتواتر عن طريق الصحابة الكرام، كعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن مسعود، وأُبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، فإنك ستجد الفرق واضحاً، كيف لا والقرآن الكريم هو أفضل الذكر وأعظمه..
ولو طعنَّا في نقلة القرآن هؤلاء لحصل الطعن في القرآن الكريم وفي تواتره؟، بل لوقع الطعن في الدين كله.
وإذا علمنا هذا تبين سببُ أمرِ الله لنا باتباع المهاجرين والأنصار بإحسان؛ إذ الدين نقل عن طريقهم رضي الله عنهم وأرضاهم..(10/40)
ولك أن تقارن بين تقاعس المنافقين عن الخروج للقتال وتثاقلهم عنه وخروج القلة القليلة منهم للإرجاف وطلب المغنم، وبين وصف الله للمهاجرين بأنهم ينصرون الله ورسوله كما قال سبحانه واصفاً لهم: (وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)[الحشر: 8]..
ومما يبين لك الفرق أيضاً أن الله لما ذكر المهاجرين قال: (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ..)[الحشر: 8] .
فتأمل أن من صفاتهم: (وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وهذه النصرة نرى تحققها واضحاً جلياً في غزوة بدرٍ وأُحدٍ والخندقِ وتبوكَ وغيرِها من الفتوحات الإسلامية في عهد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين..
أما المنافقون فلم يكونوا يشهدون الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً، وهذا مصداق قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ. لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ..}[التوبة: 46_47] إلى آخر الآيات..
فهل تأملت الفرق؟!!
ثم إن هذه الآيات في سورة التوبة، وقد ذكر سبحانه في آخر هذه السورة الآيتين اللتين ذَكَرتُ قبل قليل وهي قوله سبحانه: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ…) ثم قال بعدها: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ..) [التوبة: 101_102] .(10/41)
وقال أيضاً في آخر السورة: (لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ)[التوبة: 117].
لقد وصف الله المهاجرين بأنهم ينصرون الله ورسوله، كما قال سبحانه: (وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)[الحشر: 8] ولهذا استحقوا الخلود في الجنات كما في سورة التوبة، ثم قال سبحانه بعد أن ذكر المهاجرين والأنصار: ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)[الحشر: 10]
نعم.. هذه هي الحقيقة التي نطق بها القرآن، وهذه هي الآيات بوضوحها وبلاغتها، وما على المسلم إلا التدبر والعمل..
اللهم اهدنا للحق ووفقنا إليه، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم.
أسئلة مهمة يحسن الإشارة إليها
لسائل أن يسأل: إذا كان الله قد وعد المهاجرين والأنصار بالخلود في الجنات فلم وقع التحذير عليهم، ألا يعتبر ذلك دليلاً على إمكان دخولهم النار؟ ولماذا أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الحوض بأن بعضهم سيغِّير ويبدل ويذاد عن الحوض؟
والجواب: أن الصحابة غير معصومين، ولهذا قد يحصل منهم الوقوع في المعاصي كغيرهم من البشر لكنهم لا يقارنون بغيرهم في فضل الصحبة، ونصرتهم لدين الله وفتوحاتهم وغير ذلك..(10/42)
وتحذير الله لهم من الذنوب لا إشكال فيه، فهم غير معصومين، وأيضاً هو من باب: "تحذير الأعلى لتنبيه الأدنى"، ومثاله أيضاً: تحذير الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم من الشرك كما قال سبحانه: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الزمر: 65] وهذا لا يعني تصور وقوع الشرك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإنما يراد به بيان خطورة الشرك وتحذير الأمة منه.
ومثاله أيضاً: نهي الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم عن طاعة المنافقين كقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ..)[الأحزاب: 1] ومن الأمثلة أيضاً قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ)[التحريم: 1] وقوله: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ)[الأحزاب: 37] وغيرها كثير..، فهذه الآيات كلها فيها تربية للأمة من باب الأولى، فتأمل.
وأما السؤال عن حديث الحوض فمشتهر، ولنا أن نناقشه بما يلي:
أولاً: الحديث ورد بصيغ متعددة ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " يَرِدُ عَلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِي فَيُحَلَّونَ عَنْ الْحَوْضِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيَقُولُ إِنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى".(10/43)
وفي رواية: "بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ هَلُمَّ فَقُلْتُ أَيْنَ قَالَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ قُلْتُ وَمَا شَأْنُهُمْ قَالَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى ثُمَّ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ هَلُمَّ قُلْتُ أَيْنَ قَالَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ قُلْتُ مَا شَأْنُهُمْ قَالَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى فَلَا أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ" رواه البخاري.
ثانياً: لو قال لنا قائل: إن النص عام فيشمل الإمام علياً رضي الله عنه وأرضاه، وكذا المقداد وعمار وسلمان وأبو ذر رضي الله عنهم أجمعين، فما الجواب؟
لقلنا له: إن الأدلة قد دلت على عدم شمول حديث الحوض للمهاجرين والأنصار؛ لأن الله وعدهم بالجنة والخلود فيها، فالأدلة التي دلت على خروج هؤلاء دلت كذلك على خروج باقي إخوانهم من المهاجرين والأنصار..
ولهذا فنحن نقول: إن هذا الحديث صحيحٌ عندنا ولا شك، لكنه لا يراد به الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه قطعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة، وكذلك لا يراد به غيره من الصحابة السابقين للإسلام ممن شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة كأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعمار والمقداد وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وكذلك لا يمكن أن يراد به السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار؛ لأن الله أخبر ووعد بأن لهم (جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)[التوبة: 100] .(10/44)
وكذلك لا يمكن أن يراد به من بايع تحت الشجرة وهم ألف وأربعمائة؛ لأن الله أخبر بأنه رضي عنهم، والله إذا رضي عن أحد لم يسخط عليه بعد ذلك؛ لأنه سبحانه لا يرضى إلا عمن هو أهل للرضا.. قال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا..)[الفتح: 18] الآيات.
فهل يقول مسلم بأن هؤلاء الذين وعدهم الله بالجنات والخلود فيها هم المرتدون الناكثون، أو أن الله وعدهم بالجنات وهو لا يعلم بأنهم سيرتدون، تعالى الله وتقدس عن الجهل والنقائص والعيوب.
ثالثاً: أما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى)، وفي رواية: (لم يزالوا مرتدين على أعقابهم مذ فارقتهم)، وفي رواية: (إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك)
فالجواب ظاهر: وهو أن هؤلاء الذين يخلصون (مثل همل النعم)، هم من بين تلك الزمر التي عرضت عليه صلى الله عليه وسلم، وليسوا يخلصون من بين سائر الصحابة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإذا زمرة، ولم يقل تعرضون أنتم..
وتوضيح ذلك، أن الصحابة عددهم كثير جداً، وهؤلاء الصحابة يعرضون على الحوض ويشربون منه، ولكنْ هناك زمرٌ (أي مجموعات) منهم تُردُّ عن الحوض لأنها بدلت وغيرت، فيعفى عن مجموعة يسيرة من بين تلك المجموعات، وذلك فضل من الله سبحانه وتعالى.
فالنبي صلى الله عليه وآله سلم قال: بينا أنا قائم فإذا زمرة، ولم يقل: بينا أنا قائم فإذا أصحابي، وهذا يدل على أن هذه الزمر عددها قليل بالنسبة لمجموع الصحابة رضوان الله عليهم؛ ولهذا فبقية الصحابة لا يدخلون في هذا الحديث، بل من أول من يرد الحوض ويشرب منه.(10/45)
ومثاله لو قال مدير مدرسة عنده في مدرسته ثلاثة آلاف طالب: عرض علي مجموعة من الطلاب بسبب شغبهم ولعبهم، فعاقبتهم إلا مجموعة يسيرة عفوت عنهم لأسباب ما. فإن السامع لهذا الكلام يعلم أن الذين عرضوا عليه لا يشكلون نسبة تذكر إلى بقية طلاب المدرسة.
فاقرأ أخي الحبيب وفقك الله لمرضاته الحديث مرة أخرى، ثم تأمل الفرق.
رابعاً: في المراد بمن يذاد عن الحوض عدة أقوال مع ملاحظة عدم تحديد أسمائهم؛ فالحكم بذلك لله سبحانه وتعالى:
1_ فقد قال بعض العلماء: إن لفظ الصحابي في اللغة يشمل المنافق، فيحتمل أن يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنافقين الذين لم يعرفهم أو لم يظهر له نفاقهم، وإن كان يعلم غالبهم بالصفات التي وصفهم الله بها كما سبق ذكره؛ والدليل على ذلك أن رأس المنافقين وهو عبد الله بن أبيِّ بن أبي سلول لما قال: أقد تداعوا علينا؟، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل، فقال عمر: ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث _ يعني عبد الله بن أبيّ بن سلول _ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ.
ففي هذه الرواية دليل على أن مسمى الصحابة في اللغة يطلق على المنافقين أيضاً، ومن ثَمَّ يمكن حمل روايات الذم على هؤلاء، أي يراد بلفظ الصحبة الوارد في حديث الحوض هؤلاء المنافقون، وليس الصحابة بالمصطلح الشرعي الوارد في القرآن، والذين وعدهم الله بالحسنى وبالخلود في الجنات. وبهذا يحصل الجمع بين الروايات.
2_ وقال بعض العلماء: إنهم أناسٌ ممن أسلموا ولم يحسن إسلامهم، كأولئك الذين في أطراف الجزيرة وحصلت الردة منهم بعد ذلك، ونحن نعلم أنه قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد فتح مكة عشرات الوفود بالإسلام من قومهم، وأن الذين شهدوا حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتجاوز عددهم مائة ألف..، وهذا القول من أعدل الأقوال وأحسنها.(10/46)
فكيف بالله عليك يتهم من عُلم قطعاً تزكية الله له من المهاجرين والأنصار، ويترك أولئك المرتدون الذين قاتلهم المهاجرون والأنصار ومن انضم معهم..
أقول: كيف يتهم هؤلاء الصحابة الذين زكاهم الله ويترك أولئك المرتدون أمثال مسيلمة الكذاب وسجاح وطليحة بن خويلد والأسود العنسي وأمثالهم، وكذا من اتبعهم ممن كان قد دخل في الإسلام وشاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم ارتد بعد ذلك ولم يمت على الإسلام؟!!...
وتأمل هذا المعنى الجليل من الإمام جعفر الصادق رحمه الله إذ يقول: كان أصحاب رسول الله اثني عشر ألفا، ثمانية آلاف من المدينة، وألفان من مكة، وألفان من الطلقاء، ولم ير فيهم قدري ولا مرجيء ولا حروري ولا معتزلي ولا صاحب رأي، كانوا يبكون الليل والنهار ويقولون: اقبض أرواحنا من قبل أن نأكل خبز الخمير(1).
فالإمام جعفر الصادق رضوان الله عليه يمتدح اثني عشر ألفاً من الصحابة جلهم من المدينة، ويشهد بأنهم لم يغيروا ولم يبدلوا حتى ماتوا، ثم يأتي الشيعة اليوم وقبل اليوم ليقولوا: لا؛ بل إن هؤلاء الصحابة قد غيروا وبدلوا وارتدوا على أعقابهم!!.
خامساً: تأمل هداني الله وإياك للحق إخبار الله سبحانه وتعالى أنه غفر للمهاجرين والأنصار الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك: (لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ)[التوبة: 117] .
فأي افتراء على صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين اتبعوه في ساعة العسرة وتركوا أهلهم وأموالهم من أجل الله سبحانه وتعالى..
أي جريمة والله فيمن ينال من هؤلاء الذين أخبر سبحانه أنه تاب عليهم، والذين أخبر سبحانه وتعالى أنه رضي عنهم ووعدهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً؟!!.
وأي مخالفةٍ لتزكية الله لهم في كثيرٍ من الآيات..
__________
(1) _ الخصال: 640، البحار: 22/305 حدائق الأنس: 200.(10/47)
بل أي جريمةٍ أن يأتي أحدٌ ويحدد من لم يحدده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الحوض، فيحدده بهؤلاء المهاجرين والأنصار والذين وعد الله وأخبر _ وهو أصدق القائلين _ أنه: (رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)[التوبة: 100] ويترك أولئك المرتدين في أرض اليمامة وغيرها؟!!.
قال تعالى بعد ذكره للمهاجرين والأنصار (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)[الحشر: 10] .
الطعن فيمن فر يوم أحد من الصحابة رضي الله عنهم
يستشهد البعض على ردة الصحابة بقوله سبحانه: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ..)[آل عمران: 144] الآية.
وألخص الجواب ومعنى الآية وما يتعلق بها فيما يلي:
أولا: اعلم أن هذه الآية قد نزلت في معركةِ أحدٍ عتاباً لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك بسبب ما حصل من بعضهم كالتولي أو القعود عن القتال لما أشيع موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم..
ثانيا: أن أبا بكر وعمر لم يفر واحدٌ منهما..، وإن كان قد ثبت أن عمر قعد في مكانه لما أشيع موت النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه عاود القتال لما نادى بعض الصحابة: موتوا على ما مات عليه..، فالقعود لفترة يسيرة شيء، والفرار شيء آخر.(10/48)
ثم إن الذين ثبتوا ولم يفروا كثر، منهم أبو بكر رضي الله عنه فقد كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في العريش، ومنهم الإمام علي رضي الله عنه، ومنهم أيضاً طلحة والزبير وغيرهم، وقد عدّ بعض العلماء أسماء اثني عشر صحابياً لم يفروا(1)، ناهيك عن الذين قتلوا بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
وكذلك الحال في غزوة حنين، فقد ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وكذا العباس وغيره، وقد جاء في بعض الروايات أن الذين لم يفروا من المهاجرين والأنصار نحو ثمانين صحابياً(2).
وسواء كان هذا العدد أو غيره فإن الله أخبر بأنه عفا عن الذين فروا وتاب عليهم، فلا يجوز بعد ذلك الطعن فيهم وتعييرهم بذلك، وبيان ذلك في النقطة الرابعة.
ثالثا: أن الارتداد على الأعقاب هنا لا يعني الكفر، فهو إن سلمنا بوقوعه فإنه سيكون معصيةً منهم، فهم غيرُ معصومين..
رابعا: بيّن الله عز وجل أنه تاب على من فرّ من الصحابة يوم أحد كما قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ)[آل عمران: 155]، كما أخبر أيضاً أنه تاب عليهم بعد غزوة تبوك كما في آخر سورة التوبة: (لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ..)[التوبة: 100] .
ولي أن أسأل من يقع فيهم ويشنع عليهم: هل عفو الله عز وجل عنهم لا يعجبك؟!! أم هل أنت أعلم من الله عز وجل في لومهم؟!! أم هل أنت تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض، فتأخذ بأول الآية وتتناسى آخرها، وتغمض العين عنه، مع أن الآية في آخرها البشارة لهم بمغفرة الذنوب والعفو عنهم!! وهل.. وهل..
__________
(1) _ انظر منهاج السنة: 4/169.
(2) _ رواية ابن حنبل رحمه الله – انظر البداية والنهاية، 4/332.(10/49)
أيجوز أن نشنع عليهم في شيء قد عفي عنهم فيه، أم يجب التسليم لعفو الله سبحانه، ومن ثم يحرم التشنيع؟!!.
والجواب متروك لك أيها القارئ العزيز.
هل فكرت في هذا السؤال؟
عزيزي القارئ: لو أردت أن تتزوج امرأةً فعلمت قبل أن تتزوجها أنها مريضةٌ بمرض السرطان، فهل ستتم هذا الزواج؟
بل لو كانت هذه المرأة سليمةً، ولكن علمت أنها ستصاب بالشلل بعد عشر سنوات، أو أن أولادها سيكونون معوقين، فهل ستقدم على الزواج بها؟
وما رأيك فيمن يعلم مثل هذا ثم يقدم على الزواج؟
ثم ما رأيك لو علمت بأن هذه المرأة ستتنصر بعد خمسة عشر سنة أو ستعتنق اليهودية، أو سترتد عن الإسلام إلى غير دين، أو أنها ستنافق وتظهر الإسلام وهي على خلافه..
هل سترضى أن تتزوج بمثل هذه، وهل من يُقدِمُ على الزواج بمثل هذه يُعدُّ مؤمناً مؤْثراً لدينه غيوراً عليه أم لا؟
بل ما رأيك فيمن يُقدِمُ عليه، ثم يمسك هذه المرأة ويبقيها في عصمته بعد تنصرها حتى يموت؟
إنّ من المحزن أن لا نرضى هذا لأنفسنا ثم نرضى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتزوج بامرأة ستنافق وترتد وتفعل وتفعل، ثم يبقيها معه حتى يموت، وكأننا ننزه أنفسنا عما لا ننزه عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل وما لا ننزه عنه ربنا سبحانه وتعالى حيث رضيه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم..
إننا نعلم أنه في شريعة الأنبياء السابقين يجوز أن يتزوج المسلم من كافرةٍ كحال لوطٍ ونوحٍ عليهما السلام، أما في شرعنا فقد نُسخ ذلك وحُرِّم في ديننا، فلا يجوز بحالٍ من الأحوال..، ونوح ولوط عليهما السلام كان زواجهما بهاتين المرأتين قبل بعثتهما، أي قبل كفر زوجتيهما، ولهذا قال الله: (فَخَانَتَاهُمَا)، وأما عائشة فقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة بأكثر من عشر سنين.(10/50)
فاعلم أنه عندما تتكلم في إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنك تتهمه أولاً باختيار مثل هذه الزوجة، بل وتتهم الله الذي رضي له ما لا ترضاه أنت لنفسك..، بل وتتهمه كذلك بأنه أبقاها معه حتى مات ورضي بكل ما حصل منها؟!!.
ألا يحق لنا بعد ذلك أن نقول: إن الطعن في زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم طعن فيه؟!!.
لقد خير الله نساء النبي صلى الله عليه وسلم بين اختيار الآخرة والبقاء مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبين اختيار الدنيا ومفارقة النبي صلى الله عليه وسلم، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة؛ إذ لم يطلّق النبي صلى الله عليه وسلم أحداً منهن، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً. وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 28_29].
ولكل مسلم أن يسأل نفسه: هل تخيير الله عز وجل لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الآخرة والبقاء مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين اختيار الدنيا ومفارقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبث أم لا؟ وهل حصل مقتضى هذا التخيير؟ أم يمكن أن تختار واحدةٌ منهنَّ الدنيا ثم تبقى معه؟! ومن ثَمَّ فما الفائدةُ من التخيير؟!.
والجواب كما لا يخفى أن الله خيرهنَّ لفائدةٍ، وأنّ مقتضى هذا التخيير حاصلٌ ولاشك؛ حيث اخترن الآخرة فأبقاهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم معه إلى أن مات عليه الصلاة والسلام.
وهذا يبين أنه لا يصح فيهن ما يورده بعض الشيعة من روايات لا يقبلها العقل، ولو قبلناها لكنَّا قد اتهمنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمخالفته أمر الله في مفارقة من تريد الدنيا منهن..(10/51)
وأما ما يحصل منهن من معاصٍ، فإنهن بشر، وقد تابت كلٌ منهن مما حصل منها، ولهذا أبقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جميعهن، ناهيك عن أن فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم محفوظ وعرضه مصون..
هل كان بين الإمام علي ومعاوية عداوة أو خصومة؟
أما حرب الإمام عليٍ رضي الله عنه مع معاويةَ وطلحةَ والزبيرِ وغيرِهم فالكلام فيه يطول، وقد قال سبحانه: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ..)[الحجرات: 9] فسمى الله الفئة الباغية مع ذلك مؤمنة كما هو ظاهر في الآية..
ولهذا أقول: سأتكلم بناء على ما جاء في كتاب ربنا سبحانه وتعالى، ثم أنقل بعد ذلك كلام الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه..
فحقيقة الحال أن الذي حصل بينهم إنما هو قتالٌ بسبب التأوُّلِ في دمِ عثمانَ رضي الله عنه، فهم إخوةٌ في الله عز وجل، وقتالهم لا يخرجهم عن دائرة الإسلام ولا يلغي فضل صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكلاهما من الصحابة رضوان الله عليهم، وإن كان الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه أفضل من معاوية ولا شك، فهو من السابقين الأولين، وله من الفضائل ما لا يخفى..(10/52)
والحاصل أن القتال الذي حصل بينهم لم يكن بسبب العداوة في الدين، وإنما كان بسبب التأوّلِ في دم عثمان، حيث إن الإمام علياً رضي الله عنه كان يقول: لا بد من مبايعة جميع المسلمين ثم بعد ذلك نقتص من قتلة عثمان، ومعاوية كان يقول: لا نبايع إلا بعد الاقتصاص من قتلة عثمان، فهذا هو سبب قتالهم، وقد قال تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[الحجرات: 9].
وهذا الكلام ليس من قبل نفسي، بل هو كلام الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان يقول _ كما في نهج البلاغة _ ذاكراً فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين: (وكان بدء أمرنا أنا التقينا والقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربنا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإيمان بالله، والتصديق برسوله ولا يستزيدوننا، والأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء)(1).
وإلا هل يعقل أن يتنازل سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما وأرضاهما لعدو الإسلام والمسلمين كما يزعم البعض؟!!.
وهل يعقل أن يقول عن شيعته الذين شنعوا عليه لَمّا صالح معاوية: (أرى والله معاويةَ خيراً لي من هؤلاء، يزعمون أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثَقَلي وأخذوا مالي، والله لأن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وآمن به في أهلي، خيرٌ من أن يقتلوني فتضيع أهل بيتي وأهلي)(2).
__________
(1) _ نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 543، بحار الأنوار: 33/307.
(2) _ الاحتجاج للطبرسي 2/290.(10/53)
فلا شك أن سيدنا الحسن رضي الله عنه وأرضاه قد فعل ما هو الأصلح له وللأمة حين تنازل.. لحديث (إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).
وكذا عمل الأصلح سيدنا الحسين رضي الله عنه لما صبر طيلة فترة معاوية رضي الله عنه ولم يخرج عليه، حتى تولى يزيد ابنه فخرج عليه، ويزيد كما هو معلوم ليس بصحابي..
فمما سبق يتضح لك لِمَ تنازل الإمام الحسنُ رضي الله عنه لمعاويةَ رضي الله عنه، وكذا الإمام الحسين رضي الله عنه لِمَ لم يخرج في زمن معاوية بل كان مطيعاً له تابعاً لإمرته، فلما ولي يزيد خرج عليه ولم يبايعه..
ولهذا فإن الإمام علياً رضي الله عنه لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق، ولكنه يقول: (هم بغوا علينا)(1).
وهنا أذكرك بالآية مرة أخرى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ..)[الحجرات: 9] فلاحظ التوافق في التسمية بالبغي.
بل كان ينهى عن السب والشتم واللعن حيث قال لشيعته كما في نهج البلاغة: "إني أكره لكم أن تكونوا سبابين"(2)، فالمسلم لا يكون سباباً ولا لعاناً، ومعلوم أن اللعّانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة.
والمحزن هو انشغال الشيعة بالشتم واللعن والسب بدل انشغالهم بما ينفعهم في الآخرة من التسبيح والتحميد والتهليل؟!!
ولذا أقول لكل شيعي: ألا يسعك من القول ما وسع إمامنا وسيدنا علياً رضي الله عنه وأرضاه؟!!.
__________
(1) _ وسائل الشيعة: 11/62، البحار: 20/118، الاحتجاج: 2/312، تفسير العياشي: 2/20، 151.
(2) _ نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 323، شرح محمد عبده: 398، شرح النهج لابن أبي الحديد: 11/21، البحار: 32/561.(10/54)
أخيراً تأمل هذه الروايات عن الأئمة عليهم السلام(1)
لقد ذكرت فيما سبق عدداً من الروايات، والروايات في الحقيقة كثيرةٌ جداً وسأختم بذكر بشيءٍ منها إتماماً للفائدة، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل..
من الروايات الواردة في كتب الشيعة ما جاء في كشف الغمة عن علي زين العابدين، تقول الرواية: وفد نفرٌ من أهل العراق على الإمام زين العابدين رحمه الله، فقالوا في أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ رضي الله عنهم، فلما فرغوا من كلامهم، قال لهم: ألا تخبروني: أنتم المهاجرون الأولون: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)؟ قالوا: لا، قال: فأنتم: (الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)؟ قالوا: لا، قال: أما أنتم قد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم: (وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا) اخرجوا عني فعل الله بكم(2).
__________
(1) _ راجع للفائدة كتاب: الإمامة والنص، للشيخ فيصل نور، وكتاب: ثم أبصرت الحقيقة، للشيخ محمد الخضر، ففيهما علم غزير.
(2) _ كشف الغمة، 2/291.(10/55)
فهذا القول ممن يأتي بعدهم ممن يقول: (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا)[الحشر: 10] دليلٌ على أنه سيحصل من الفتن التي تلتبس على بعض الناس فينالَ منهم، وقد أكدَّ رسولنا الكريم هذا بقوله: (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا) كما ترويه كتب الشيعة(1).
وكم من متغنٍ بحب الإمام زين العابدين يضرب بهذه الرواية عرض الحائط..
أما الشيعة الزيدية وهم أتباع الإمام زيد بن علي بن الحسين رحمه الله فإنهم قد أخذوا بها، ولهذا فهم لا يرون جواز سب الصحابة وخصوصاً الشيخين، وإن كانوا يرون أن علياً أحق بالخلافة ولكنه تنازل عنها وبايع راضياً..
إن ثبات المؤمنين على الصراط له علاقةٌ بشدةِ حبهم لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولآل بيته الطاهرين، فعن الباقر عن آبائه قال: قال رسول الله: أثبتكم على الصراط أشدكم حباً لأهل بيتي ولأصحابي(2).
وليس بعزيزٍ على الله بعد كل هذا أن يجعلهم أئمةً ويجعلهم وارثين وأن يستخلفهم في الأرض، كما قال في محكم كتابه: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)[النور: 55]، فالله وعد في هذه الآيات المؤمنين بالاستخلاف وتمكين الدين والأمن العظيم من الأعداء، ولا بد من وقوع ما وعد به ضرورة امتناع الخلف في وعده تعالى، وقد وقع ذلك في عهد الخلفاء الراشدين الذين كانوا حاضرين وقت نزول هذه الآيات، كما ذكر ذلك بعض المفسرين.
__________
(1) _ انظر: نور الثقلين، 4/407 البحار، 58/276 – 55/276.
(2) _ البحار، 27/133. نوادر الراوندي، 15 – الجعفريات، 182.(10/56)
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين حفر الخندق بأنه أمته ستفتح قصور الحيرة ومدائن كسرى، وكذا قصور الحمر من أرض الروم، وقال بأن جبريل أخبره بذلك، فاستبشر المؤمنون وآمنوا بذلك، وسخر المنافقون فنزل القرآن: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا)(1).
وهذا يدلك على أن الصحابة الذين جاهدوا وفتحوا بلاد الفرس والشام كانوا من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنص الحديث، فما بالك بمن أرسل الجيوش وجهزها وهم أبو بكر وعمر وعثمان، الذين وقع فضل الفتوحات على أيديهم، فرضي الله عنهم أجمعين..
ويحسن الإشارة هنا إلى أنَّ من أسباب قتل أبي لؤلؤة المجوسي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه هو حقد الفرس على عمر؛ وذلك لأنه هو الذي أطفأ نار الفرس الوثنية والتي كانت مشعلة عبر أجيال دون أن تطفأ أكثر من ألف سنة..
ثم تأمل في خروج أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه مع النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة وتضحيته بنفسه حتى إن أبا جهل كان يقول: من جاء بمحمدٍ أو دل عليه فله مائة بعير، أو جاء بابن أبي قحافة أو دل عليه فله مائة بعير(2).
فجعل مكافأة العثور على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه الصديق ورفيقه في الغار رضي الله عنه سواء.
__________
(1) _ تفسير القمي: 2/167، التبيان: 8/322، جوامع الجامع: 3/306، تفسير البرهان: 4/295، نور الثقلين: 4/243، مجمع البيان: 4/534، كنز الدقائق: 10/354، تفسير الميزان: 16/302، تقريب القرآن: 21/140، من محي القرآن: 18/290، الأمثل: 13/169، البصائر: 32/20، بحار الأنوار: 17/170، 18/103، 20/190.
(2) _ البحار، 19/40 المنتقى في مولود المصطفى، في خروجه وخروج أبي بكر إلى الغار.(10/57)
فلا غرابة إذن أن ينص الله على خروج أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الهجرة كما قال سبحانه: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا..)[التوبة: 40] .
لقد عجبت ولا زلت أتعجب ممن بلغ به ما في نفسه إلى محاولة صرف هذا النص الظاهر البَيِّن بألوانٍ من التأويلات العجيبة، وكل ذلك ليقول: إن الآية لا دلالة فيها على فضل الصديق رضي الله عنه..
ولعلي أن أشير ولو شيئاً يسيراً إلى بعض دلالات هذه الآية:
أولاً: كفى شرفاً وفخراً لمن نالته معيّةُ الله سبحانه وتعالى الخاصة، التي تدل على الحفظ والتأييد والنصرة والتوفيق، وفي هذه الآية حصل هذا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأبي بكرٍ حيث قال الله تعالى: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا) ولم يقل إن الله معي، فشملهما سبحانه وتعالى بالمعيّة الخاصة، فهو معهما ضد الكفار المطارِدين، وكفى بهذه المعيّة فخراً..(10/58)
إنَّ من قرأ القرآن كله فإنه سيجد حقيقة واضحة، وهي أن المعيّة الخاصة لم ترد أبداً لأحد من المنافقين أو المرتدين أو الكافرين، ولهذا لما لحق فرعون بموسى ومن معه، وكان مع موسى من سيغير ويبدل قال الله تعالى: (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء: 61_62] فلاحظ أنه قال: (إِنَّ مَعِيَ)، ولم يقل: إن الله معنا، بينما شملت المعيّة موسى وهارون عليهما السلام لما أرسلهما الله لفرعون، كما قال سبحانه: (قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)[طه: 46] وفي آية الغار هذه قال سبحانه: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا)[التوبة: 40].
ثانياً: الحزن أمر جِبِلّيٌ طبعيٌ، ولهذا نهت الملائكة لوطاً عليه السلام عنه حيث قالت له كما أخبر الله بذلك: (وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ)[العنكبوت: 33]، وقال سبحانه مخاطباً نبينا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم: (وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ)[يونس: 65] فحزن أبي بكر لا غبار عليه، فقد حزن الأنبياء قبله، وحزنه إنما كان لأجل الدين بدلالة إخبارِ الله بأنه معه.
ثالثاً: أفرد الله الضمير في أول الآية: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ) فناسب أن يستمر الإفراد في الضمير حيث قال سبحانه: (فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ)، وأما جملة: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ..) فهي كالمعترضة في ثنايا الكلام..، ثم إن من لازم معيّة الله للعبد أن ينزل سكينته عليه فلا داعي لتثنية الضمير لحصول المراد.(10/59)
رابعاً: عندما يقال: فلانٌ صاحبُ فلانٍ، فإن هذا دليلٌ على شدة ملازمته له، ولما كان أبو بكرٍ قد اشتهر بشدة مصاحبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال الله: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ) وهذا يغني عن التعريف، وأما الصحبة العارضة في السجن ونحوه فلا فضيلة فيها، ولا يفهم منها شيء عند الإطلاق فتأمل الفرق..
والحقيقة أن الكلام في الآية يطول، فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه..
لقد كان الصادق رحمه الله يفتخر ويقول: ولدني أبو بكر مرتين(1)؛ وذلك أن أمه هي أم فروة بنت القاسم بن أبي بكر، وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم، فهل يفتخر أحدٌ إلا بمن يراه أهلاً للفضائل.
أما استشهادُ أئمةِ آل البيت بفعل أبي بكرٍ فحدث ولا حرج، كيف لا وهو من السابقين الأولين من المهاجرين الذين أمر الله باتباعهم بإحسان، فقد روى القوم أن عروة بن عبدالله سأل الباقر عن حِلية السيوف؟ فقال: لا بأس به، قد حَلَّى أبو بكرٍ الصديقُ رضي الله عنه سيفه، فقال: فتقول الصديق؟ قال: فوثب وثبةً واستقبل القبلة وقال: نعم الصديق، نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل له الصديق فلا صدَّق الله له قولاً في الدنيا ولا في الآخرة(2).
وما أدري والله ماذا سيقول الإمام الجواد رضوان الله عليه لو رأى بعض أهل زماننا من الشيعة هداهم الله!!.
__________
(1) _ عمدة الطالب، 195.
(2) _ كشف الغمة، 2/360.(10/60)
إن مما يبين عظم علم أبي بكر وفضله أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بأن يؤم الصحابة في الصلاة، وكان ذلك في آخر حياته صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن صلى الله عليه وسلم ليجعل صحابياً يؤم الصحابة كلهم إلا وهو أهل لذلك، ويدل على هذا ما رواه الصدوق عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: من أمَّ قوماً وفيهم من هو أعلم منه، لم يزل أمرهم إلى سفال إلى يوم القيامة(1).
وبما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أبا بكر أن يصلي بالناس في مرضه الذي توفي فيه، فإن هذا يدل على أعلمية أبي بكر رضي الله عنه على جميع الصحابة، ولا أقل من دلالتها على فضيلته رضي الله عنه.
ولعلي أختم بهذه الرواية، فقد روى الكليني عن الإمام الصادق عليه السلام، قال له أبو بصير: أقرأ القرآن في شهر رمضان في ليلة؟ قال: لا، قال: ففي ليلتين؟ قال: لا، قال: ففي ثلاث؟ قال: ها، وأشار بيده، ثم قال _ أي الإمام الصادق _: ".. كان أصحاب محمد يقرأ أحدهم القرآن في شهر أو أقل.." إلخ(2).
فهذه الرواية قد استشهدت بفعل مجموع الصحابة رضوان الله عليهم، وهذا يدل على منزلة الصحابة العظيمة عند الإمام جعفر الصادق رحمه الله، بل وتدل على أنهم أهلٌ للاقتداء والاتباع.
أما عن علاقة عمر مع الإمام علي رضي الله عنهما ببعض فبحرٌ لا ساحل له، وقد ذكرت شيئاً من ثناء الإمام علي على عمر رضي الله عنهما، ومن ذلك أيضاً:
__________
(1) _ في علل الشرائع 2/326.
(2) _ في الكافي 2/617.(10/61)
ما رواه صاحب نهج البلاغة، وهو أن الإمام علياً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما لما شاوره في الخروج إلى غزو الروم: إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كانفةٌ دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجعٌ يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً مجرّباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهره الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى، كنت رِدءاً للناس ومثابةً للمسلمين(1).
وهذا من أعظم الأدلة على تعظيم الإمام عليٍ لعمرَ رضي الله عنهما ومعرفته لقدره، الذي جهله كثير من الشيعة.
بل قال عليه السلام فيه وفي صاحبه الصديق رضي الله عنهما: لعَمْرِي إنّ مكانهما في الإسلام لعظيمٌ وإن المصاب بهما لجرحٌ في الإسلام شديد، فرحمهما الله وجزاهما أحسن ما عملا(2).
فكيف بالله يقول: إنَّ مكانهما في الإسلام لعظيمٌ، وإنَّ المصاب بهما لجرحٌ في الإسلام شديد، ثم يأتي من يأتي ممن يزعم حب الإمام علي رضي الله عنه فيقع فيهما ويسبهما ويلعنهما..
إننا لو أردنا أن نحصي المناقب لألفنا في ذلك مجلداً، وأنا أنصح الشيعة أن يراجعوا كتاب الله أولاً ثم يراجعوا هذه الروايات ثانياً، ليروا فيها النور الذي خفي على الكثير..
مسك الختام
أيها الأخ الحبيب: إنني لا أطالب أيَّ مسلم إلا بالرجوع إلى الإسلام الصحيح الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما مجرد الانتساب وتسمية ذلك اتِّباعاً فإنه لا يغني من الحق شيئاً..
ودين الإسلام بحمد الله واضحٌ كلَّ الوضوح، كالشمسِ في رابعةِ النهار، ليس فيه ما يستحيا من إظهاره أو يخاف، فهو دين الفطرة، والحاكم على الأديان، والمهيمن عليها..، وإنما الباطل هو الذي يخشى من إظهاره.
__________
(1) _ نهج البلاغة، شرح محمد عبده: 246، 247.
(2) _ شرح نهج البلاغة، 15/67، وقعة صفين، 88.(10/62)
ومن نِعَمِ الله علينا أن أنزل هذا القرآن العظيم وتكفل بحفظه إلى يوم الدين، ونص فيه على أصول العقائد والأحكام ليبقى مرجعاً عند التنازع والخصام.
ولهذا عندما تريد أن تنظر في معتقداتك الدينية هل هي صحيحة أم لا: فاقرأ القرآن بتجرد، وانظر ماذا تفهم من الآيات التي تقرؤها، هل تجد فيها نصاً واضحاً على ما تعتقد أم لا؟ فإن الله أنزل القرآن بلسان عربي مبين..
وقد نص الله سبحانه على جميع أصول العقائد كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره..، كما نصّ فيه على أصول الأحكام كالصلاة والزكاة والصيام..، وأما التفاصيل فالسنة كفيلة بها..
ولكن هل تجد آية في القرآن تنص على إمامة اثني عشر إماماً بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهل تجد آية تحث على دعاء غير الله في الشدة والكربات، وهل تجد آية تنص على مشروعية الطواف بالقبور والأضرحة، وهل تجد آية تحث على ضرب الصدور والقامات، وهل تجد ذماً للصحابة الذين قاتلوا في بدر أو أحد أو غيرها من الغزوات مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يتضمن القدح فيهم إلا أن يكون تنبيها لخطأ مقروناً ببيان العفو والمغفرة، وهل تجد..، وهل تجد..؟ أسئلة كثيرة أترك إجابتها لك.
أخي العزيز: إنني لا ألزمك بشيء أبداً إلا بما ألزمك الله به، وإني أقول لك: هذا كتاب الله بين يديك، وستحاسب يوم القيامة عن نفسك، فانظر لنفسك ماذا أنت تختار؟!. وأعد للسؤال جواباً.
اللهم هل بلغت.. اللهم فاشهد..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين(10/63)
عدالة الصحابة رضى الله عنهم
في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية
ودفع الشبهات
الدكتور
عماد السيد الشربيني
مدرس الحديث وعلومه
بجامعة الأزهر
1425 هـ - 2005 م
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله عز وجل
{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ
ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } (1)0
وقال رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -
" إن الله اختار أصحابي على العالمين ، سوى النبيين والمرسلين ،
واختار لي من أصحابي أربعة :
أبا بكر، وعمر, وعثمان ، وعلياً - رضي الله عنهم -
فجعلهم أصحابي
قال في أصحابي كلهم خير , وأختار أمتي على الأمم
وأختار من أمتي أربعة قرون
القرن الأول , والثاني , والثالث ، والرابع "( (2) )0
تقديم
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام علي المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد , وعلي آله , وصحبه البررة الأوفياء ، أئمة الدين ، وصفوة الخلق بعد الأنبياء والمرسلين , ورضي الله عمن تبع سنتهم ، وسلك طريقتهم ، واقتفى أثرهم ، ونصرهم إلى يوم الدين0
ثم أما بعد
__________
(1) الآية 29 من سورة الفتح0
(2) سيأتي تخريجه ص 20 .(11/1)
فإن الطعن فى عدالة رواة السنة النبوية من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتابعين فمن بعدهم إلى الأئمة أصحاب المصنفات الحديثية ، من وسائل غلاة المبتدعة الرافضة ، والخوارج ، والمعتزلة ، والزنادقة(1)- فى الطعن فى السنة النبوية0
وغرضهم من ذلك تحطيم الوسيلة التى وصلت السنة النبوية بها إلينا ، وإذا تحطمت الوسيلة يصبح الأصل معتمداً على لا شئ فيصبح لا شئ 0
وقديماً صرح بذلك أحد الزنادقة فيما رواه الخطيب البغدادي فى تاريخه عن أبى داود السجستانى قال : "لماء جاء الرشيد بشاكر - رأس الزنادقة ليضرب عنقه - قال : أخبرنى ، لم تعلِّمون المتعلم منكم أول ما تعلمونه الرفض - أى الطعن فى الصحابة - ؟ قال : إنا نريد الطعن على الناقلة ، فإذا بطلت الناقلة ؛ أوشك أن نبطل المنقول" (2)0
وبذلك صرح ذيل ( شاكر) محمود أبو ريه فى كتابه أضواء على السنة قائلاً : "إن عدالة الصحابة تستلزم ولا ريب الثقة بما يروون ، وما رووه قد حملته كتب الحديث بما فيه من غثاء ، وهذا الغثاء هو مبعث الضرر وأصل الداء"(3)0
نعم : إن الصحابة - رضي الله عنهم - "هم حجر الزاوية فى بناء الأمة المسلمة ، عنهم قبل غيرهم تلقت الأمة كتاب الله - عز وجل - ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - , فالغض من شأنهم والتحقير لهم ، بل النظر إليهم بالعين المجردة من الإعتبار، لا يتفق والمركز السامى الذي تبوءوه ، ولا يوائم المهمة الكبرى التى انتدبوا لها ونهضوا بها0
__________
(1) حكاه عنهم الشاطبى فى الإعتصام 1/186، والبغدادي فى أصول الدين ص 19، وابن قتيبة فى تأويل مختلف الحديث ص 28 0
(2) ينظر : تاريخ بغداد 4/308 0
(3) أضواء على السنة ص 340 0(11/2)
كما أن الطعن فيهم , والتجريح لهم ؛ يغال فى الباطل ! ، وتهجم على الأكابر , وجرح لشعور المسلمين , وهو مرفوض بادئ ذى بدء , كما أنه يقوض دعائم الشريعة ، ويشكك فى صحة القرآن ، ويضيع الثقة بسنة سيد الأنام - صلى الله عليه وسلم - ! ؛ فضلاَ عن أنه تجريح وقدح , فيمن بوأهم تلك المكانة ، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس !!! . ولا يقبل عاقل مثل هذا القول !!.
لذلك عنى علماء الإسلام قديماً وحديثاً , بالدفاع عن عدالة الصحابة ، لأنه - كما رأيت - دفاع عن الإسلام ، ولم يكن ذلك الدفاع نزوة هوى ، ولا عصبية ؛ بل كان نتيجة لدراسات تحليلية وأبحاث تاريخية ، وتحقيقات بارعة واسعة ، عرضتهم على أدق موازين الرجال ؛ مما تباهى به الأمة الإسلامية كافة الأمم والأجيال0
وبعد هذا التحقيق والتدقيق ، خرج الصحابة - رضي الله عنهم - من بوتقة هذا البحث ، وإذا هم خير أمة أخرجت للناس ، وأسمى طائفة عرفها التاريخ ، وأنبل أصحاب لنبي ظهر على وجه الأرض ، وأوعى وأضبط جماعة لما استحفظوا عليه من كتاب الله - عز وجل - , وهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وقد اضطر أهل السنة والجماعة ، أن يعلنوا رأيهم هذا كعقيدة ، فقرروا أن الصحابة كلهم عدول0 ولم يشذ عن هذا الرأى إلا المبتدعة والزنادقة قبحهم الله"(1)0
وطعون المبتدعة والزنادقة قديماً وحديثاً فى صحابة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرة 0
وسوف أتناول هنا بمشيئة الله تعالى نماذج من تلك الطعون والشبهات ؛ التي طعنوا بها في عدالة الصحابة ، استعرضها وأفندها 0
على أن أًفرد أيضاً ترجمة لراوية الإسلام الأول أبو هريرة - رضي الله عنه - لنتعرف على مكانته فى الإسلام .
وهذا البحث يقع في ثمانية مباحث :
المبحث الأول : التعريف بالصحابة لغة واصطلاحاً0
المبحث الثاني : التعريف بالعدالة لغة واصطلاحاً0
__________
(1) مناهل العرفان فى علوم القرآن للشيخ محمد الزرقانى 1/334، 335 0(11/3)
المبحث الثالث : أدلة عدالة الصحابة- رضي الله عنهم - 0
المبحث الرابع : شبهات حول عدالة الصحابة والرد عليها 0
المبحث الخامس : سنة الصحابة - رضي الله عنهم - حجة شرعية 0
المبحث السادس : من أراد معاوية - رضي الله عنه - فإنما أراد الصحابة جميعاً - رضي الله عنهم - .
المبحث السابع : شبهات حول راوية السنة الأول ( أبو هريرة- رضي الله عنه - ) والرد عليها 0
المبحث الثامن : حكم الطاعن فى عدالة الصحابة - رضي الله عنهم -.
الخاتمة : في نتائج هذا البحث , وفهرس الموضوعات 0
منهجي في البحث :
1ـ استعرضت شبه ومطاعن أهل الزيغ والهوي , قديمَا وحديثَا , المتضمنة الطعن في عدالة
صحابة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , و قرنت ذلك بالرد الحاسم الذي يبين بطلان وزيف تلك
الشبه والمطاعن معتمدَا في ذلك علي القرآن الكريم , والسنة المطهرة , والسيرة العطرة ,
وكلام أهل السنة قديمَا وحديثَا .
2 ـ بينت مواضع الآيات التي وردت في البحث بذكر اسم السورة , ورقم الآية في الهامش , مع
وضع الآية بين قوسين 0
3 ـ عزوت الأحاديث التي أوردتها في البحث إلي مصادرها الأصلية , من كتب السنة المعتمدة
فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بالعزو إليهما ، بذكر اسم الكتاب ، واسم
الباب ، وذكر الجزء والصفحة ورقم الحديث ، وأقدم في التخريج من ذكرت لفظه ، مع البيان
غالباً لدرجة الحديث , من خلال أقوال أهل العلم بالحديث ، أو دراستي للسند ، إن كان الحديث
في غير الصحيحين ، وفيما عدا ذلك اقتصر على ما يفيد ثبوت الحديث أورده0
4 ـ اعتمدت في التخريج من الصحيحين على طبعتى البخارى "بشرح فتح البارى" لابن حجر،
والمنهاج "شرح صحيح مسلم" للنووي ، لصحة متون الأحاديث في الشرحين ، ولصحة(11/4)
عرضهما على أصول الصحيحين ، وتسهيلاً للقارئ لكثرة تداول تلك الشروح ، وإتماماً
للفائدة بالإطلاع على فقه الحديث المخرَّج 0
5 ـ التزمت عند النقل من أي مرجع ، أوالإستفادة منه الإشارة إلى رقم جزئه وصفحته
بالإضافة إلى ذكر طبعات المراجع في الفهرست0
6ـ عند النقل من فتح البارى ، أو المنهاج شرح مسلم للنووي ، أذكر رقم الجزء والصفحة
ورقم الحديث الوارد فيه الكلام المنقول ، تيسيراً للوصول إلى الكلام المنقول ، نظراً
لاختلاف رقم الصفحات تبعاً للطبعات المتعددة 0
7ـ اكتفيت في تراجم الأعلام من الصحابة بذكر مصادر تراجمهم بذكر رقم الجزء والصفحة
ورقم الترجمة ، ولم أترجم لهم لعدالتهم جميعا ، ولم أخالف في ذلك إلا في القليل عندما
تقتضى الترجمة الدفاع عن شبهة 0
8 ـ ترجمت لكثير من الأعلام الذين جرى نقل شئ من كلامهم ، مع ذكر مصادر تراجمهم ،
بذكر رقم الجزء والصفحة ورقم الترجمة 0
9- شرحت المفردات الغريبة التي وردت في بعض الأحاديث مستعيناً في ذلك بكتب غريب
الحديث ، ومعاجم اللغة ، وشروح الحديث 0
والله عز وجل أسال أن ينفع بما كتبت , وأن يتقبله خالصَا لوجهه الكريم 0
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا ومولانا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الراجي عفو ربه الكريم
أبو نور الدين
د/ عماد السيد محمد الشربيني
مدرس الحديث وعلومه
بكلية أصول الدين
جامعة الأزهر(11/5)
هذا الكتاب
يتناول فيه المؤلف الرد علي الطاعنين في عدالة صحابة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , من أعداء الإسلام من المستشرقين, وأذيالهم ممن يسمون أنفسهم (القرآنيون) وذلك من خلال عدة قضايا أهمها مايلى:
- بيان أن الصحابة - رضي الله عنهم - هم حجر الزاوية فى بناء الأمة المسلمة ، عنهم قبل غيرهم تلقت الأمة كتاب الله - عز وجل -، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - , فالغض من شأنهم والتحقير لهم ، بل النظر إليهم بالعين المجردة من الإعتبار، لا يتفق والمركز السامى الذي تبوءوه ، ولا يوائم المهمة لكبرى التى انتدبوا لها ونهضوا بها0 كما أن الطعن فيهم والتجريح لهم ، يقوض دعائم الشريعة ، ويشكك فى صحة القرآن ، ويضيع الثقة بسنة سيدالأنام - صلى الله عليه وسلم - ! ؛ فضلاَ عن أنه تجريح وقدح فيمن بوأهم تلك المكانة ، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس !!!
- بيان أن المنافقين الذين كشف الله ورسوله – سترهم ، ووقف المسلمون على حقيقة أمرهم ، والمرتدين الذين ارتدوا فى حياة النبى - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته ، ولم يتوبوا ويرجعوا إلى الإسلام ، وماتوا على ردتهم ، هم بمعزل من شرف الصحبة ، وبالتالى بمعزل عن أن يكونوا من المرادين بقول جمهور العلماء والأئمة إنهم عدول ، وفى تعريف العلماء للصحبة ما ينفى عنها هؤلاء ؛ وأولئك .
- إن الآيات القرآنية , التى جاء فيها عتاب للصحابة أو لبعضهم لارتكابهم بعض المعاصى لخير دليل شاهد على أن المراد بعدالتهم جميعاً ؛ عصمتهم من الكذب فى حديث سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وليس معنى عدالتهم عصمتهم من المعاصى أو من السهو أو الغلط ، فهذا لم يقل به أحد من أهل العلم , وحتى مع ارتكاب بعضهم لبعض الذنوب ، فقد امتن الله - عز وجل - عليهم بالتوبة والمغفرة لذنوبهم ؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .(12/1)
- أن الصورة الحقيقية لسيدنا معاوية - رضي الله عنه -, تخالف الصورة الكاذبة التى يصورها الزنادقة من الرافضة ؛ ومن تابعهم من أعداء الإسلام ، والسنة المطهرة ، تلك الصورة التى تنكر ما جاء فى السنة المطهرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعن الصحابة ، والتابعين ، من الشهادة له بالصحبة ، والفقه ، والملك العادل ، وحسن السيرة , حتى شهد له من أدركه كمجاهد ؛ والأعمش بأنه المهدى .
- ما اتهم به سيدنا أبو هريرة - رضي الله عنه - ، من أكاذيب وافتراءات من قبل أرباب الأهواء قديماً وحديثاً ، سندهم فيه إما روايات مكذوبة أو ضعيفة ، وإما روايات صحيحة لم يفهموها على وجهها ، بل تأولوها تأويلاً باطلاً يتفق وأهواءهم .
ونسأل الله - عز وجل - التوفيق والسداد ...(12/2)
المبحث الأول
التعريف بالصحابة لغةً واصطلاحاً
... الصحابة فى اللغة : يقال صحب أى دعاه إلى الصحبة ولازمه ، وكل شئ لازم شيئاً فقد استصحبه(1)0
... وقال أبو بكر الباقلانى(2): "لا خلاف بين أهل اللغة فى أن القول "صحابى" مشتق من الصحبة، وأنه ليس بمشتق من قدر منها مخصوص، بل هو جار على كل من صحب غيره قليلاً كان أو كثيراً … يقال صحبت فلاناً حولاً، ودهراً، وسنة، وشهراً، ويوماً، وساعة، فيوقع اسم المصاحبة بقليل ما يقع منها وكثيرة0
وذلك يوجب فى حكم اللغة : إجراء هذا على من صحب سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أى قدر من الوقت .(3) .
... وقال الإمام ابن تيمية (4)
__________
(1) لسان العرب 1/519، والقاموس المحيط 1/91، والصحاح للجوهرى 1/162، ومختار الصحاح ص 356 0
(2) هو محمد بن الطيب بن محمد، القاضى أبو بكر الباقلانى، البصرى المالكى الأشعرى الأصولى المتكلم ، صاحب المصنفات الكثيرة فى علم الكلام وغيره توفى سنة 403هـ0 له ترجمة فى : الديباج المذهب 363 رقم 490، وشذرات الذهب 3/168، ووفيات الأعيان 3/400 رقم 580، وسير أعلام النبلاء 11/43 رقم 3734، وشجرة النور الزكية 1/92 رقم 209 0
(3) ينظر : الكفاية ص 100، وأسد الغابة 1/119، 120 0
(4) هو : أحمد بن عبد الحليم بن تيميه، الحرانى الدمشقى، تقى الدين، أبو العباس ، الإمام المحقق ، الحافظ، المفسر، الأصولى، الأديب، النحوى، بلغت تصانيفه ثلاثمائة مجلد : منها رفع الملام عن الأئمة الأعلام، ومنهاج السنة النبوية فى نقض كلام الشيعة والقدرية، وغير ذلك مات سنة 727هـ له ترجمة فى : تذكرة الحفاظ 4/1496 رقم 1175، والدر الكامنة لابن حجر 1/144 رقم 409، وطبقات المفسرين للداودى 1/46 رقم 42 0(13/1)
: "والأصحاب جمع صاحب ، والصاحب اسم فاعل من صحبه يصحبه، وذلك يقع على قليل الصحبه وكثيرها" (1)0 وعلى هذا التعريف اللغوى جرى أصحاب الحديث فى تعريفهم بالصحابى اصطلاحاً : فذهبوا إلى إطلاق (الصحابى) على كل من صحب سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو ساعة واحدة فما فوقها0
الصحابة فى الاصطلاح :
قال الإمام بدر الدين الزركشى(2) : "ذهب الأكثرون إلى أن الصحابى من اجتمع - مؤمناً – بسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه ولو ساعة ، روى عنه أو لا ، لأن اللغة تقتضى ذلك، وإن كان العرف يقتضى طول الصحبة وكثرتها … وهو ما ذهب إليه جمهور الأصوليين ، أما عند أصحاب الحديث فيتوسعون فى تعريفهم لشرف منزلة النبى - صلى الله عليه وسلم -(3)0
... يقول الإمام ابن حزم (4)
__________
(1) الصارم المسلول ص 575، وينظر : الروض الباسم فى الذب عن سنة أبى القاسم لابن الوزير اليمانى 1/57 – 60. قرر بتوسع , واستدل أن تسمية يسير المخالطة (صحبة) ثابت بالكتاب والسنة ، وعبارات الأئمة أ0هـ0
(2) هو : محمد بن بهادر بن عبد الله، أبو عبد الله الزركشى، الشافعى، الفقيه الأصولى المحدث،من مؤلفاته "البحر المحيط" و"شرح جمع الجوامع" توفى سنة794هـ له ترجمة فى شذرات الذهب 6/335، والفتح المبين فى طبقات الأصوليين لعبد الله مصطفى المراغى 2/209 0
(3) البحر المحيط فى أصول الفقه 4/301 , 349 .
(4) هو على بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهرى، أبو محمد، عالم الأندلس فى عصره، وأحد أئمة الإسلام، روى ابنه أبو رافع أن مصنفات والده بلغت الأربعمائة، من أشهرها : الإحكام فى أصول الأحكام، والفصل فى الملل والنحل، مات سنة 456هـ له ترجمة فى : لسان الميزان لابن حجر 4/724 رقم 5782، وتذكرة الحفاظ للذهبى 3/1146 رقم 1016، ووفيات الأعيان لابن خلكان 3/325 رقم448 .(13/2)
: " فأما الصحابة - رضي الله عنهم - فهم كل من جالس النبى - صلى الله عليه وسلم - ولو ساعة ، وسمع منه ولو كلمة فما فوقها ، أو شاهد منه عليه السلام أمراً يعيه " (1)0
والتعريفات التى وضعها العلماء للصحابة (اصطلاحاً) كثيرة ، ولكن التعريف الصحيح المعتمد هو ما قرره الحافظ ابن حجر(2) بقوله : "وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابى هو من لقى النبى - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ، ومات على الإسلام ، ولو تخللت ردة على الأصح 0
ثم شرح التعريف فقال : "فيدخل فيمن لقيه" من طالت مجالسته له، أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية، ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى0
ومن هنا كان التعبير بالًّلقِىِّ أولى من قول بعضهم : "الصحابى من رأى النبى - صلى الله عليه وسلم -" لأنه يخرج حينئذ ابن أم مكتوم ونحوه من العميان وهم صحابة بلا تردد0
ويخرج "بقيد الإيمان" من لقيه كافراً ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة أخرى0
وقولنا"به"يخرج من لقيه مؤمناً بغيره كمن لقيه مؤمناً من مؤمنى أهل الكتاب قبل البعثة0
ويدخل فى قولنا "مؤمناً به" كل مكلف من الجن والإنس …0
__________
(1) الإحكام فى أصول الأحكام لابن حزم 5/86 0
(2) هو : أحمد بن على بن محمد العسقلانى، أبو الفضل، أصله من عسقلان بفلسطين، ولكنه ولد بالقاهرة، حافظ أهل زمانه، وواحد وقته وأوانه، من مصنفاته النفيسة التى عم النفع بها "فتح البارى بشرح صحيح البخارى" و"الإصابة فى معرفة الصحابة" وغير ذلك مات سنة 852هـ له ترجمة فى: الضوء اللامع للسخاوى 2/36 رقم 104، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص552 رقم 1190، والبدر الطالع للشوكانى 1/87 رقم 51 0(13/3)
وخرج بقولنا "ومات على الإسلام" من لقيه مؤمناً به ثم ارتد ومات على ردته والعياذ بالله - كعبيد الله بن جحش، وابن خطل، ويدخل فيه من ارتد وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت سواء اجتمع به - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى أم لا، كالأشعث بن قيس فإنه كان ممن ارتد ثم أسلم فى حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , لكنه لم يلقه . وأتى به إلى أبى بكر الصديق أسيرا ً، فعاد إلى الإسلام فقبل منه، وزوجه أخته ، ولم يتخلف أحد عن ذكره فى الصحابة، ولا عن تخريج أحاديثه فى المسانيد وغيرها0
... وهذا هو الصحيح المعتمد، ووراء ذلك أقوال شاذة أخرى كقول من قال لا يعد صحابياً إلا من وصف بأحد أوصاف أربعة :
من طالت مجالسته ، أو حفظت روايته، أو ضبط أنه غزا معه ، أو استشهد بين يديه، وكذا من اشترط فى صحة الصحبة بلوغ الحلم ، أو المجالسة ولو قصرت"(1)0
قال الحافظ السيوطى(2) مؤيداً الحافظ ابن حجر- رحمهما الله تعالى- :
"وهو المعتبر " (3)0
__________
(1) ينظر : الإصابة 1/10 - 12، ونزهة النظر ص 51، 52 0
(2) هو : عبد الرحمن بن أبى بكر محمد السيوطى، جلال الدين، كان إماماً حافظاً بارعاً، ذا قدم
راسخة فى علوم شت ، فكان مفسراً، محدثاً، فقيهاً، أصولياً، لغوياً، مؤرخاً، له مؤلفات بلغت نحو ستمائة مصنف منها : الأشباه والنظائر فى القواعد الفقيهة، والأشباه والنظائر فى العربية، والدر المنثور فى التفسير بالمأثور، والجامع الكبير والصغير، مات سنة 911هـ له ترجمة فى : حسن المحاضرة للسيوطى 1/335 رقم 77 ، وطبقات المفسرين للسيوطى ص3، والبدر الطالع للشوكانى 1/328 رقم 228 0
(3) تدريب الراوى 2/216 0(13/4)
وذهب إليه الجمهور من الأصوليين، منهم الآمدى فى الإحكام(1)، وابن عبد الشكور فى فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت(2)، والزركشى فى البحر المحيط (3)، والشوكانى فى إرشاد الفحول(4) وغيرهم0
ويقول الحافظ السخاوى (5) مؤيداً رأى شيخه ابن حجر "والعمل عليه عند المحدثين والأصوليين" (6)0
السر فى التعميم فى تعريف الصحابى :
__________
(1) ينظر : الإحكام للآمدى 2/84 ، 85 0
(2) ينظر : فواتح الرحموت 2/ 158 0
(3) ينظر : البحر المحيط 4/302، 305 0
(4) ينظر : إرشاد الفحول 1/279، 280 0
(5) هو : أبو عبد الله , محمد بن عبد الرحمن بن أبى بكر , السخاوى الأصل , المصرى المولد والنشأة , الشافعى المذهب , ينسب " لسخا " قرية غربى الفسطاط بمصر, برع فى العلوم النقلية والعقلية , وانتهت إليه رياسة علم الحديث , وعلم التاريخ , ولازم شيخه ابن حجر , حتى شهد له بأنه أمثل جماعته , من مؤلفاته النافعة : فتح المغيث شرح ألفية الحديث , وشرح التقريب للنووى , والضوء اللامع لأهل القرن التاسع , وغيرها الكثير. مات سنة 902 هـ . له ترجمة فى : الضوء اللامع 8 /2–32 , والبدر الطالع 2 /184-187 . , ومعجم المؤلفين 10 / 150- 151 .
(6) ينظر : فتح المغيث للسخاوى 3/ 85 0(13/5)
... التعميم فى تعريف الصحابى نظراً إلى أصل فضل الصحبة، ولشرف منزلة النبى - صلى الله عليه وسلم -، ولأن لرؤية نور النبوة قوة سريان فى قلب المؤمن، فتظهر آثارها على جوارح الرائى فى الطاعة والاستقامة مدى الحياة ، ببركته - صلى الله عليه وسلم - ويشهد لهذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : " طوبى لمن رآنى وآمن بى، وطوبى لمن رأى من رآنى، ولمن رأى من رأى من رآنى وآمن بى "(1)0
وفى ذلك يقول الإمام السبكى (2) : "والصحابى هو كل من رأى النبى - صلى الله عليه وسلم - مسلماً، وقيل : من طالت مجالسته، والصحيح الأول، وذلك لشرف الصحبة، وعظم رؤية النبى - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن رؤية الصالحين لها أثر عظيم، فكيف رؤية سيد الصالحين؟! فإذا رآه مسلم ولو لحظة، انطبع قلبه على الاستقامة، لأنه بإسلامه متهيئ للقبول، فإذا قابل ذلك النور العظيم، أشرق عليه وظهر أثره فى قلبه وعلى جوارحه"(3)0
__________
(1) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر فضائل الأمة بعد الصحابة والتابعين4/96 رقم 6994، من حديث عبد الله بن بسر- رضي الله عنه -، وقال الحاكم هذا حديث قد روى بأسانيد قريبة عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - مما علونا فى أسانيد منها، وأقرب هذه الروايات إلى الصحة ما ذكرناه ، وقال الذهبى (جميع بن ثوب) واه0 والقول ما قاله الحاكم . ينظر : مجمع الزوائد 10/20 0
(2) هو: الإمام الفقيه ، المحدث الحافظ ، المفسر الأصولى ، على بن عبد الكافى بن يوسف ، شيخ الإسلام، قال فيه ولده ليس بعد الذهبى ، والمزى، أحفظ منه0 مات سنة 756 هـ0له ترجمة فى: طبقات الحفاظ للسيوطى ص525، 526 رقم 1148، والبداية والنهاية لابن كثير 14/195، وطبقات المفسرين للداودى1/416رقم360 0
(3) الإبهاج فى شرح المنهاج 1/15، وينظر : البحر المحيط للزركشى 4/301، وفتح البارى 7/9 رقم 3651 حديث (خير الناس قرنى، ثم الذين يلونهم - الحديث)0(13/6)
يقول الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة - رحمه الله - : "فالتعميم فى تعريف (الصحابى) نظراً إلى أصل فضل الصحبة، وأما تفاوت من يشملهم هذا اللقب فى الفضل والدين وسائر خصال الخير … فهذا أمر وراء ذلك"(1) أ0هـ0
طريق معرفة الصحبة :
... تثبت الصحبة بأمور متعددة منها :
التواتر كأبى بكر الصديق المعنى بقوله تعالى : { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } (2) وسائر العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم0
أو باشتهار قاصر عن التواتر؛ وهو الاستفاضة , كعكاشة بن محصن، وضمام بن ثعلبة
وغيرهما 0
أو بقول صاحب آخر معلوم الصحبة ، إما بتصريح بها كأن يجئ عنه أن فلاناً له صحبة
مثلاً أو نحوه ، كقوله : كنت أنا وفلان عند النبى - صلى الله عليه وسلم - , أو دخلنا على النبى - صلى الله عليه وسلم - 0
بشرط أن يعرف إسلام المذكور فى تلك الحالة 0
4- وكذا تعرف بقول آحاد ثقات التابعين ؛ على الراجح من قبول التزكية من عدل واحد"(3)0
انتهى .
المبحث الثانى
التعريف بالعدالة لغة واصطلاحاً
... العدالة لغة : العدل ضد الجور، يقال عدل عليه فى القضية فهو عادل، وبسط الوالى عدله ومَعْدِلَتَه – بكسر الدال وفتحها - ، وفلان من أهل المَعْدَلَة – بفتح الدال - ، أى : من أهل العدل ، ورجل عدل ، أى : رضا ومقنع فى الشهادة0
__________
(1) لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث ص 51 0
(2) جزء من الآية 40 من سورة التوبة0
(3) ينظر: فتح المغيث للسخاوى3/87، 88، وتدريب الراوى2/213،214، والكفاية ص98-101 0(13/7)
والعدالة : وصف بالمصدر معناه ذو عدل، قال تعالى : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } (1) ويقال : رجل عدل ورجلان عدل، ورجال عدل، وامرأة عدل، ونسوة عدل، كل ذلك على معنى رجال ذوو عدل، ونسوة ذوات عدل، فهو لا يثنى، ولا يجمع، ولا يؤنث، فإن رأيته مجموعاً، أو مثنى أو مؤنثاً، فعلى أنه قد أجرى مجرى الوصف الذى ليس بمصدر، وتعديل الشئ تقويمه، يقال عدلته فاعتدل، أى قومته فاستقام(2) أ0هـ
فمن هذه التعاريف اللغوية يتبين أن معنى العدالة فى اللغة الاستقامة ، والعدل هو المتوسط فى الأمور من غير إفراط فى طرفى الزيادة والنقصان، ومنه قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } (3) أى عدلاً فالوسط والعدل بمعنى واحد(4)0
والعدالة اصطلاحاً : تنوعت فيها عبارات العلماء من محدثين وأصوليين وفقهاء، إلا أنها ترجع إلى معنى واحد وهو أنها : ملكة أى صفة راسخة فى النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة0
... والتقوى ضابطها : امتثال المأمورات، واجتناب المنهيات من الكبائر ظاهراً، وباطناً من شرك أو فسق أو بدعة0
... والمروءة ضابطها : آداب نفسية تحمل صاحبها على التحلى بالفضائل , والتخلى عن الرذائل ، وترجع معرفتها إلى العرف 0
وليس المراد بالعرف هنا سيرة مطلق الناس بل الذين نقتدى بهم .
__________
(1) جزء من الآية 2 من سورة الطلاق0
(2) ينظر : لسان العرب 11/430، والصحاح للجوهرى 5/1760 - 1761، ومختار الصحاح 417، والقاموس المحيط 4/13، والمصباح المنير 2/397 0
(3) الآية 143 من سورة البقرة0
(4) الإحكام للآمدى 2/69، ومقاصد الحديث فى القديم والحديث لفضيلة الدكتور التازى 2/64 0(13/8)
... ولا تتحقق العدالة فى الراوى إلا إذا اتصف بصفات خمسة : الإسلام , والبلوغ والعقل , والسلامة من أسباب الفسق , وخوارم المروءة (1)0
وليس المقصود من العدل أن يكون بريئاً من كل ذنب ، وإنما المراد أن يكون الغالب عليه التدين ، والتحرى فى فعل الطاعات0
وفى ذلك يقول الإمام الشافعى : " لو كان العدل من لا ذنب له لم نجد عدلاً، ولو كان كل مذنب عدلاً لم نجد مجروحاً ، ولكن العدل من اجتنب الكبائر؛ وكانت محاسنه أكثر من مساويه " (2)0
ويعبر أبو يوسف عن هذا الإتجاه حين يقول : "من سلم أن تكون منه كبيرة من الكبائر التى أوعد الله تعالى عليها النار ، وكانت محاسنه أكثر من مساوئه فهو عدل "(3)0
ونخلص مما سبق فيما يخص بتعريف الصحابة - رضي الله عنهم - أن المنافقين الذين كشف الله ورسوله – سترهم ، ووقف المسلمون على حقيقة أمرهم ، والمرتدين الذين ارتدوا فى حياة النبى وبعد وفاته ، ولم يتوبوا ويرجعوا إلى الإسلام ، وماتوا على ردتهم ، هم بمعزل من شرف هذه الصحبة ، وبالتالى بمعزل عن أن يكونوا من المرادين بقول جمهور العلماء والأئمة إنهم عدول ، وفى تعريف العلماء للصحبة ما ينفى عنها ؛ هؤلاء وأولئك 0
ومعنى عدالة الصحابة : " أنهم لا يتعمدون الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لما اتصفوا به من قوة الإيمان، والتزام التقوى، والمروءة، وسمو الأخلاق والترفع عن سفاسف الأمور0
وليس معنى عدالتهم أنهم معصومون من المعاصى أو من السهو أو الغلط فإن ذلك لم يقل به أحد من أهل العلم0
__________
(1) يٍنظر : فتح المغيث للسخاوى 3/315 - 317، وتوضيح الأفكار للصنعانى 2/114 - 118، ومقاصد الحديث فى القديم والحديث للدكتور التازى 2/65، 66 0
(2) ينظر : الروض الباسم فى الذب عن سنة أبى القاسم لابن الوزير اليمانى 1/28 0
(3) نقلاً عن توثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى للدكتور رفعت فوزى ص 129 0(13/9)
ومما ينبغى أن يعلم أن الذين قارفوا إثماً ثم حدوا - كان ذلك كفارة لهم - وتابوا وحسنت توبتهم ، وهم فى نفس الوقت قلة نادرة جداً ؛ لا ينبغى أن يغلب شأنهم وحالهم على حال الألوف المؤلفة من الصحابة الذين ثبتوا على الجادة والصراط المستقيم ، وجانبوا المآثم ، والمعاصى ما كبر منها وما صغر، وما ظهر منها وما بطن ، والتاريخ الصادق أكبر شاهد على هذا " (1) أ0هـ0
ويؤكد ما سبق الإمام الأبيارى(2) بقوله : "وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم ، واستحالة المعصية عليهم ، وإنما المراد : قبول روايتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية ، إلا أن يثبت ارتكاب قادح ، ولم يثبت ذلك ولله الحمد ! فنحن على استصحاب ما كانوا عليه فى زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حتى يثبت خلافه ، ولا التفات إلى ما يذكره أهل السير، فإنه لا يصح ، وما صح فله تأويل صحيح " (3) أهـ 0
المبحث الثالئث
أدلة عدالة الصحابة - رضي الله عنهم -
__________
(1) دفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شهبة ص 92، 244 بتقديم وتأخير وينظر : الحديث والمحدثون للدكتور محمد أبو زهو ص 150 وما بعدها ، وتدريب الراوى 2/216 هامش0
(2) الأبيارى هو : على بن إسماعيل بن على بن عطية الأبيارى ، نسبه إلى "إبيار" بلدة بمديرية الغربية، وهى بفتح الهمزة وبعدها ياء مثناة من تحت وبعدها ألف، ثم راء مهملة، وبعضهم يصحفها بانبار بنون بعد الهمزة0 وهو من العلماء الأعلام، وأئمة الإسلام، فقيه مالكى محدث أصولى0 من مؤلفاته "شرح البرهان" لإمام الحرمين فى الفقه مات سنة 618هـ0 له ترجمة فى : الديباج المذهب 306 رقم 409، وحسن المحاضرة للسيوطى 1/454، وشجرة النور الزكية 1/166 رقم 520 0
(3) ينظر:فتح المغيث للسخاوى3/96،وفتح الباقى على الفية العراقى للإمام زكريا الأنصارى 3/14، والبحر المحيط للزركشى 4/300، وإرشاد الفحول 1/278، والشفا للقاضى عياض 2/52 0(13/10)
... إن العدالة التى نثبتها لصحابة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - لم نعطها هبة لهم من عند أنفسنا - فنحن أقل من ذلك فضلاً عن أننا لا نملك ذلك، وإنما العدالة ثابتة لهم جميعاً بنص الكتاب العزيز, والسنة الشريفة - سواء منهم من تقدم إسلامه ومن تأخر، ومن هاجر ومن لم يهاجر، ومن اشترك فى الغزوات ومن لم يشترك ، ومن لابس الفتنة ومن لم يلابسها(1)0 فهذه العدالة لهم جميعاً تضافرت عليها الأدلة من الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة0
أولاً : دلالة القرآن الكريم على عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - :
لقد وصف رب العزة صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعدالة وأثنى عليهم فى آيات يطول ذكرها منها مايلى :
__________
(1) ينظر:تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير للدكتور مروان ص95بتقديم وتأخير0(13/11)
1- قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (1) ووجه الاستدلال بهذه الآية على عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - أن وسطاً بمعنى "عدولاً خياراً"(2)، ولأنهم المخاطبون بهذه الآية مباشرة(3)0 وقد ذكر بعض أهل العلم أن اللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد به الخصوص ، وقيل : "إنه وارد فى الصحابة دون غيرهم(4)0
2- وقوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (5) ووجه دلالة هذه الآية على عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - أنها أثبتت الخيرية المطلقة لهذه الأمة على سائر الأمم قبلها ، وأول من يدخل فى هذه الخيرية المخاطبون بهذه الآية مباشرة عند النزول ، وهم الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - ، وذلك يقتضى استقامتهم فى كل حال ، وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة ، ومن البعيد أن يصفهم الله - عز وجل - بأنهم خير أمة ولا يكونوا أهل عدل واستقامة ، وهل الخيرية إلا ذلك ؟
__________
(1) الآية 143 من سورة البقرة0
(2) ينظر : جامع البيان للطبرى 2/7، وتفسير الرازى 4/97، والجامع لأحكام القرآن 2/154، وتفسير القرآن العظيم 1/190 0
(3) ويؤيد ذلك ما أخرجه الترمذى فى سنته عن بهز عن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول فى قوله : "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" قال - صلى الله عليه وسلم - إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله" أ0هـ أخرجه الترمذى كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة آل عمران 5/211 رقم 3001، وقال الترمذى : هذا حديث حسن0
(4) ينظر : الكفاية ص 93 0
(5) الآية 110 من سورة آل عمران 0(13/12)
... كما أنه لا يجوز أن يخبر الله تعالى بأنه جعلهم أمة وسطاً – أى عدولاً – وهم على غير ذلك ، فيصح أن يطلق على الصحابة أنهم خير أمة بإطلاق ، وأنهم وسط أى عدول بإطلاق"(1)0
وهكذا سائر الآيات التى جاءت بمدحهم قال تعالى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(8)وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (2) فالصادقون هم المهاجرون، والمفلحون هم الأنصار، بهذا فسر أبو بكر الصديق، هاتين الكلمتين، من الآيتين، حيث قال فى خطبته يوم السقيفة مخاطباً الأنصار:"إن الله سمانا (الصادقين) وسماكم (المفلحين)،وقد أمركم أن تكونوا حيثما كنا ، فقال : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } (3) 0
فهذه الصفات الحميدة فى هاتين الآيتين كلها حققها المهاجرون والأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، واتصفوا بها، ولذلك ختم الله صفات المهاجرين بالحكم بأنهم صادقون ، وختم صفات الذين آزروهم ونصروهم وآثروهم على أنفسهم بالحكم لهم بأنهم مفلحون0
__________
(1) الموافقات 4/450 - 452 بتصرف، وانظر : عقيدة أهل السنة والجماعة فى الصحابة للدكتور ناصر على الشيخ 2/801، 802 0
(2) الآيتان 8،9 من سورة الحشر0
(3) الآية 119 من سورة التوبة وينظر : العواصم من القواصم لابن العربى ص 62، والبداية والنهاية 5/217 وما بعدها0(13/13)
وهذه الصفات العالية لا يمكن أن يحققها قوم ليسوا بعدول " (1)0
وحتى الآيات التى جاء فيها عتاب لهم أو لبعضهم شاهدة بعدالتهم حيث غفر الله لهم ما عاتبهم فيه وتاب عليهم قال تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(67)لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(68)فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (2) وتأمل ختام العتاب "إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" وهل بعد مغفرة الله - عز وجل - من شئ؟!0
وقال تعالى : { وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } وتأمل ختام الآية "إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"(3)0
... وغير ذلك من الآيات الشاهدة بمغفرة الله - عز وجل - لهم لما ارتكبوا من بعض المعاصى - وسيأتى ذكر بعضها فى الرد على الشبهات حول عدالة الصحابة0
__________
(1) عقيدة أهل السنة والجماعة فى الصحابة 2/807 0
(2) الآيات 67 - 69 من سورة الأنفال0
(3) الآية 118 من سورة التوبة0(13/14)
إن تلك الآيات التى جاء فيها عتاب للصحابة أو لبعضهم لارتكابهم بعض المعاصى لخير دليل شاهد على ما سبق ذكره ، من أن المراد بعدالتهم جميعاً عصمتهم من الكذب فى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس معنى عدالتهم عصمتهم من المعاصى أو من السهو أو الغلط، فهذا لم يقل به أحد من أهل العلم0 وحتى مع ارتكاب بعضهم لبعض الذنوب، فقد امتن الله - عز وجل - عليهم بالتوبة والمغفرة لذنوبهم0
وما هذه المنة من ربهم - عز وجل - إلا بيان لعباده مؤمنهم وكافرهم إلى قيام الساعة ؛ بعظم مكانة من اختارهم لصحبة سيد أنبيائه ورسله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن التجريح والقدح فى تلك المكانة والعدالة إنما هو تجريح وقدح فيمن بوأهم تلك المكانة ، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس !!!
نعوذ بالله - عز وجل - من الخذلان 0
ثانياً : دلالة السنة المطهرة على عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - :
لقد وصف النبى - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالعدالة ، وأثنى عليهم فى أحاديث يطول تعدادها منها :
1- قوله - صلى الله عليه وسلم -:"ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب"(1) "ففى هذا الحديث أعظم دليل على أن الصحابة كلهم عدول ليس فيهم مجروح ، ولا ضعيف إذ لو كان فيهم أحد غير عدل ، لاستثنى فى قوله - صلى الله عليه وسلم - وقال : "ألا ليبلغ فلان منكم الغائب" فلما أجملهم فى الذكر بالأمر بالتبليغ لمن بعدهم، دل ذلك على أنهم كلهم عدول، وكفى بمن عدله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرفاً " (2) 0
__________
(1) أخرجه مسلم (بشرح النووي) كتاب القسامة ، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض 6/ 182 رقم 1679 , والبخاري (بشرح فتح الباري) كتاب التوحيد، باب قال الله تعالى {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} 13 / 433 رقم 7447 من حديث أبى بكرة - رضي الله عنه - .
(2) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 1/91 0(13/15)
2- وقال - صلى الله عليه وسلم - : "خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئ قوم تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِم يَمِيَنهُ ويَميِنُهُ شَهَادَتَهُ"(1) وهذه الشهادة بالخيرية مؤكدة لشهادة رب العزة : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } (2)0
3- وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "النجومُ أَمنةٌ للسماءِ، فإذا ذهبتِ النجوُمِ، أَتى السماءَ ما تُوعدُ، وأَنا أَمَنةٌ لأَصْحَابى0 فإذا ذهبتُ أَتَى أَصْحَابِى ما يُوعدونَ، وأَصْحَابى أَمنةٌ لأُمَّتِى، فإِذا ذهب أصحابى أتى أُمِتى ما يُوعَدُون"(3)0
4- وقال - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله اختار أصحابى على العالمين، سوى النبيين والمرسلين، واختار لى من أصحابى أربعة أبا بكر، وعمر وعثمان، وعلياً - رضي الله عنهم - فجعلهم أصحابى قال فى أصحابى كلهم خير، وأختار أمتى على الأمم، وأختار من أمتى أربعة قرون، القرن الأول والثانى والثالث، والرابع"(4)0
__________
(1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم -، ومن صحب النبى - صلى الله عليه وسلم - أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه 7/5 رقم 3651، ومسلم (بشرح النووى) كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم 8/324 رقم 2533 من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - 0
(2) الآية 110 من سورة آل عمران0
(3) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب فضائل الصحابة، باب بيان أن بقاء النبى- صلى الله عليه وسلم - آمان لأصحابه، وبقاء أصحابه أمان للأمة 8/322 رقم 2531 من حديث أبى موسى الأشعرى - رضي الله عنه -0
(4) أخرجه البزار فى مسنده ينظر:كشف الأستار كتاب المناقب،باب مناقب أصحاب النبى- صلى الله عليه وسلم -1/88، وقال الحافظ الهيثمى فى مجمع الزوائد 10/16رواه البزار ورجاله ثقات، وفى بعضهم خلاف0(13/16)
وهذا الحديث مؤكد لقوله تعالى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } (1)0
ويؤكد ابن مسعود - رضي الله عنه - ما سبق من الآية والحديث قائلاً : "إن الله نظر فى قلوب العباد، فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته، ثم نظر فى قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه - صلى الله عليه وسلم - يقاتلون عن دينه " (2)0
يقول الإمام الآمدى (3) : " واختيار الله لا يكون لمن ليس بعدل " (4)0
__________
(1) الآية 29 من سورة الفتح0
(2) أخرجه أحمد فى مسنده 1/379، وقال الهيثمى فى مجمع الزوائد 1/178 رواه أحمد ورجاله موثقون0 ورواه ابن عبد البر فى مقدمة الإستيعاب 1/12، 13 0
(3) هو: على بن أبى على بن محمد بن سالم الثعلبى ، المكنى بأبى الحسن، الملقب بسيف الدين، كان فقيهاً أصولياً منطقياً , حسن الأخلاق, فصيح اللسان بارع البيان0من مصنفاته : الإحكام فى أصول الأحكام ، ودقائق الحقائق فى الحكمة ، مات سنة 631هـ0 له ترجمة فى : وفيات الأعيان 3/293 رقم 432، وطبقات الشافعية لابن السبكى 8 /306 رقم 1207، والبداية والنهاية 13 /140 .
(4) الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى 2/82 0(13/17)
5- وقال - صلى الله عليه وسلم - : "لا تسبوا أصحابى0 لا تَسُبُّوا أصحابى : فوالذى نفسى بيده! لو أن أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مثلَ أُحُدٍ ذهباً، ما أَدركَ مُدَّ أَحَدِهِم، ولا نَصِيَفهُ"(1)0
يقول الصحابى الجليل سعيد بن زيد بن عمرو(2)، أحد العشرة المبشرين بالجنة - رضي الله عنهم - لما سمع رجلاً من أهل الكوفة يسب رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "… والله لمشهد شهده رجل يغبر فيه وجهه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أفضل من عمل أحدكم ، ولو عمر عمر نوح عليه السلام " (3)0
يقول فضيلة الشيخ محمد الزرقانى - رحمه الله - "فأنت ترى من هذه الشهادات العالية فى الكتاب والسنة ، ما يرفع مقام الصحابة إلى الذروة ، وما لا يترك لطاعن فيهم دليلاً، ولا شبهة دليل 0
والواقع أن العقل المجرد من الهوى والتعصب، يحيل على الله فى حكمته ورحمته، أن يختار لحمل شريعته الختامية، أمة مغموزة، أو طائفة ملموزة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً0
__________
(1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة 8/332 رقم ,2540 والبخارى (بشرح فتح البارى) كتاب فضائل الصحابة، باب قول - صلى الله عليه وسلم - "لو كنت متخذاً خليلاً" 7/25 رقم 3673، من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - 0
(2) له ترجمة فى: الإستيعاب 2/614 رقم 982، وأسد الغابة 2/476 رقم 2076، والإصابة 2/44 رقم 3271، وتاريخ الصحابة ص25 رقم 8، ومشاهير علماء الأمصار ص 13 رقم 11 0
(3) أخرجه أحمد فى مسنده 1/187, و أبو داود فى سنته كتاب السنة، باب فى الخلفاء4/212 رقم4650، وصحح إسناده الشيخ أحمد محمد شاكر فى تعليقه على المسند 3/108 0(13/18)
ومن هنا كان توثيق هذه الطبقة الكريمة طبقة الصحابة ، يعتبر دفاعاً عن الكتاب، والسنة، وأصول الإسلام من ناحية، ويعتبر إنصافاً أدبياً لمن يستحقونه من ناحية ثانية، ويعتبر تقديراً لحكمة الله البالغة فى اختيارهم لهذه المهمة العظمى من ناحية ثالثة0
كما أن تَوْهِينهم والنيل منهم، يعد غمزاً فى هذا الاختيار الحكيم، ولمزاً فى ذلك الاصطفاء والتكريم، فوق ما فيه من هدم الكتاب، والسنة، والدين"(1) أ0هـ0
ثالثاً : دلالة إجماع الأمة على عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - :
... أجمعت الأمة - إلا من شذ ممن لا يعتد بخلافهم(2)0 على ما سبق من تعديل الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - للصحابة أجمع ، والنقول فى هذا الإجماع كثيرة عن علماء الأمة ، من المحدثين، والفقهاء، والأصوليين0
... يقول الخطيب البغدادى : "إنه لو لم يرد من الله - عز وجل - ورسوله فيهم شئ مما ذكرناه، لأوجبت الحال التى كانوا عليها من الهجرة، والجهاد، والنصرة، وبذل المهج، والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة فى الدين، وقوة الإيمان واليقين : القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين، الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين0 هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء"(3)0
... وقال ابن الصلاح : " للصحابة بأسرهم خصيصة ، وهى أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب، والسنة، وإجماع من يعتد به فى الإجماع من الأمة"(4)0
__________
(1) مناهل العرفان فى علوم القرآن 1/336 - 337 0
(2) راجع أقوالهم فى : تدريب الراوى 2/214، وفواتح الرحموت 2/155 - 156، والبحر المحيط 4/299، 300، وإرشاد الفحول 1/274 - 278 0
(3) الكفاية ص 96 0
(4) علوم الحديث ص 176 0(13/19)
... وقال العراقى : "إن جميع الأمة مجمعة على تعديل من لم يلابس الفتن منهم وأما من لابس الفتن منهم وذلك حين مقتل عثمان - رضي الله عنه - فأجمع من يعتد به أيضاً فى الإجماع على تعديلهم إحساناً للظن بهم، وحملاً لهم فى ذلك على الاجتهاد " (1)0
... وقال الإمام الغزالى : "والذى عليه سلف الأمة ، وجماهير الخلق ، أن عدالتهم معلومة بتعديل الله - عز وجل - إياهم وثنائه عليهم فى كتابه، فهو معتقدنا فيهم ، إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه به، وذلك مما لا يثبت فلا حاجة لهم إلى التعديل – ثم ذكر بعض ما دل على عدالتهم من كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : فأى تعديل أصح من تعديل علام الغيوب – سبحانه - وتعديل رسوله - صلى الله عليه وسلم - كيف ولو لم يرد الثناء لكان فيما اشتهر وتواتر من حالهم فى الهجرة، والجهاد، وبذل المهج، والأموال، وقتل الآباء والأهل، فى موالاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونصرته، كفاية فى القطع بعدالتهم"(2)0
... فهذه النقول المباركة للإجماع من هؤلاء الأئمة وغيرها كثير0 كلها فيها بيان واضح، ودليل قاطع على أن ثبوت عدالة الصحابة عموماً بلا استثناء، أمر مفروغ منه ، ومسلم به 0
فلا يبقى لأحد شك ،ولا ارتياب بعد تعديل الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الأمة على ذلك(3)0
...
__________
(1) شرح ألفية العراقى المسماة بالتبصرة والتذكرة للعراقى 3/13، 14 0
(2) المستصفى 1/164، وينظر : الإحكام للآمدى 2/81، 82، والبحر المحيط للزركشى 4/299
(3) ينظر : المكانة العلمية لعبد الرزاق الصنعانى فى الحديث النبوى لفضيلة الأستاذ الدكتور إسماعيل الدفتار 1/291 مبحث (لا يستثنى فى ثبوت العدالة أحد من الصحابة)، وينظر : توضيح الأفكار 2/470، 471 .(13/20)
"وإذا تقرر لك عدالة جميع من ثبتت له الصحبة ، علمت أنه إذا قال الراوى عن رجل من الصحابة، ولم يسمه كان ذلك حجة، ولا يضر الجهالة، لثبوت عدالتهم على العموم"(1)0
... قال الإمام الجوينى : "ولعل السبب فى قبولهم من غير بحث عن أحوالهم ، والسبب الذى أتاح الله الإجماع لأجله، أن الصحابة هم نقلة الشريعة، ولو ثبت توقف فى رواياتهم، لانحصرت الشريعة على عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولما استرسلت على سائر الأعصار" (2)0
أولئك آبائى فجئنى بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع
غمرهم الله برحمته ورضوانه … آمين 0
__________
(1) إرشاد الفحول للشوكانى 1/278، وينظر : فتح المغيث للسخاوى 3/97 0
(2) البرهان فى أصول الفقه 1/242، وينظر : إرشاد الفحول 1/275 0(13/21)
المبحث الرابع
شبهات حول عدالة الصحابة
والرد عليها
ويشتمل على مطلبين :
المطلب الأول : شبهاتهم من القرآن الكريم والرد عليها .
المطلب الثانى : شبهاتهم من السنة النبوية والرد عليها .
المطلب الأول
شبهاتهم من القرآن الكريم والرد عليها
إن لأهل الزيغ والإلحاد قديماً وحديثاً ؛ شبهات كثيرة , يطعنون بها فى عدالة الصحابة ، وأساس تلك الشبهات الرافضة ؛ الذين فاقوا اليهود والنصارى فى خصلتين كما قال الشعبى(1) - رحمه الله تعالى - فيما رواه عنه ابن الجوزى فى الموضوعات قال : "… فضلت الرافضة على اليهود والنصارى بخصلتين0سئلت اليهود من خير أهل ملتكم ؟ قالوا أصحاب موسى-عليه السلام - وسئلت النصارى فقالوا أصحاب عيسى- عليه السلام - ، وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم ؟ فقالوا حوارى محمد ، وأمروا بالإستغفار لهم فسبوهم " (2)0
... فمن مطاعنهم فى عدالة الصحابة : ما استدلوا به من :
__________
(1) هو : عامر بن شراحيل بن عبد ذى كبار، الشعبى الحميرى ، أبو عمرو ، علامة التابعي ن، كان إماماً حافظاً يضرب المثل بحفظه ، روى عن على ، وأبى هريرة ، وعائشة ، وابن عمر , وغيرهم مات سنة 103هـ0 له ترجمة فى : تقريب التهذيب 1/461 رقم 3103، والكاشف 1/522 رقم 2531، والثقات للعجلى ص243 رقم 751، ووفيات الأعيان 3/12-16 رقم 317 0
(2) الموضوعات 1/339 0(14/1)
1- قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } (1) وقالوا نزلت فى أكثر الصحابة الذين انفضوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العير التى جاءت من الشام، وتركوه وحده فى خطبة الجمعة، وتوجهوا إلى اللهو، واشتغلوا بالتجارة، وذلك دليل على عدم الديانة (2)0
2- واستدلوا أيضاً بما ورد فى القرآن الكريم من آيات تتحدث عن النفاق والمنافقين، وحملوها على أتقى خلق الله ، وأطهرهم (رضوان الله عليهم أجمعين) كقوله تعالى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } (3)0
وأيدوا ذلك بما جاء فى السنة المطهرة من أحاديث يطلق فيها لفظ الصحابة على المنافقين 0
__________
(1) الآية 11 من سورة الجمعة 0
(2) مختصر التحفة الإثنى عشرية ص 271 -272، وينظر : الصافى فى تفسير القرآن للكاشانى 2/701، وتفسير القمى لعلى بن إبراهيم القمى 2/367، ومجمع البيان للطبرسى 5/287، 288، وتفسير فرات الكوفى لفرات بن إبراهيم ص 185، وأعيان الشيعة لمحسن الأمين 1/114، وأضواء على السنة لمحمود أبو رية ص 359، وركبت السفينة لمروان خليفات ص 223، والإفصاح فى إمامة على بن أبى طالب لمحمد بن النعمان العكبرى ص 37 0
(3) الآية 101 من سورة التوبة0(14/2)
مثل حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : "أتى رَجُلٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِالجِعْرَانَة مُنْصَرَفَهُ من حُنين0 وفى ثوب بلال - رضي الله عنه - فِضَةٌ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبض منها 0 يعطى الناس0 فقال: يا محمد ُ! اعْدِلْ 0 قال : " ويلك ومن يَعْدِلُ إذا لم أَكُنْ اَعْدِلُ؟ لقد خِبْتُ وَخَسِرْتُ إن لم أكن أعدِل ُ" فقال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - دعنى يا رسول الله فأقُتل هذا المنافق 0فقال : "مَعَاذ الله ! أَنْ يتحدث الناس أَنى أَقْتُلُ أَصْحَاِبى 0 إِنَّ هذا وأصحابَهُ يقرأون القرآنّ لا يُجاوزُ حَنَاجِرَهُم 0 يَمرُقُونَ منه كما يَمْرُقُ السَّهْمُ من الرَّمِيِة " (1)0
__________
(1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الزكاة باب ذكر الخوارج وصفاتهم 4/170، 171 رقم 1063. وينظر : الفصول المهمة فى تأليف الأمة لعبد الحسين الموسوى ص 203، والصحابة فى نظر الشيعة الإماميةلأسد حيدر ص 31 – 32، ومقدمة مرآة العقول فى شرح أخبار آل الرسول لمرتضى العسكرى 1/8، ومعالم المدرستين له أيضاً المجلد 1/130، وأضواء على السنة محمود أبو رية ص 354، 356، والحسبة ص 60 وما بعدها، ولماذا القرآن ص 82 – 84 كلاهما لأحمد صبحى منصور، وانظر : له أيضا مقاله (الصحابة بين القداسة والتكفير) مجلة روزاليوسف العدد 3564 ص 22–24، والنص والاجتهاد لعبد الحسين شرف الدين ص335، 336، وركبت السفينة لمروان خليفات ص 219 – 223، ومساحة للحوار لأحمد حسين يعقوب ص 131، 169، 171، ونظرية عدالة الصحابة له أيضاً ص 39،وأهل السنة شعب الله المختار لصالح الوردانى ص 37، 102، ومع الدكتور موسى الموسوى فى كتابه الشيعة والتصحيح للدكتور علاء الدين القزوينى ص 151، 153، والإفصاح فى إمامة على للشيخ محمد العكبرى ص 37، 39، والخلافة المغتصبة لإدريس الحسينى ص 45، 91، والشيعة هم أهل السنة للدكتور محمد التيجانى ص285 0(14/3)
3- واستدلوا أيضاً بقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا } (1)
وقوله تعالى : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } (2)
وقالوا : الفرار من الزحف من أكبر الكبائر(3)0
ويجاب عما سبق بمايلى :
أولاً : قصة انفضاض أكثر الصحابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العير القادمة من الشام ، وتركهم خطبة الجمعة ، إنما وقع ذلك فى بدء زمن الهجرة ، ولم يكونوا إذ ذاك واقفين على الآداب الشرعية كما ينبغى ، كما أن كبار الصحابة كأبى بكر وعمر كانوا قائمين عنده، كما ثبت ذلك فى الأحاديث الصحيحة 0
__________
(1) الآية 155 من سورة آل عمران0
(2) الآية 25 من سورة التوبة0
(3) مختصر التحفة الإثنى عشرية ص 273، وينظر : تفسير الصافى للكاشانى 1/691، وتفسير القمى لعلى إبراهيم القمى 1/287، والميزان فى تفسير القرآن محمد حسين الطباطبائى 9/226، وركبت السفينة لمروان خليفات ص230،والإفصاح فى إمامة على بن أبى طالب لمحمد بن النعمان العكبرى ص 36، 41، ولقد شيعنى الحسين لإدريس الحسينى ص 350 0(14/4)
فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : بينما النبى - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة قائماً إذ قدمت عير المدينة ، فابتدرها(1) أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لم يبق منهم إلا اثنى عشر رجلاً فيهم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهم - ونزلت الآية : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } (2)،
ولذا لم يشنع عليهم ، ولم يتوعدهم سبحانه وتعالى بعذاب ولم يعاتبم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً " (3)0
__________
(1) ابتدرها : أى أسرعوا إليها0 لسان العرب 4/48 0
(2) الآية 11 من سورة الجمعة، والحديث أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجمعة، باب فى قوله تعالى : "وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا" 3/415 رقم863 , والبخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التفسير، باب تفسير "وإذا رأوا تجارة أو لهواً " 8/511 رقم 4899.
(3) مختصر التحفة الإثنى عشرية ص 272 بتصرف . وينظر : روح المعانى للألوسى 28/107 0(14/5)
ورد آخر على هذه القصة وهو : أنه ورد فى بعض الأخبار أنها وقعت لما كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يقدم الصلاة على الخطبة يوم الجمعة ، وانفضاضهم وقع فى الخطبة ، وليس فى الصلاة كما هو الظاهر من بعض الروايات ، والتى ركز عليها بعض الرافضة ، كمحمود أبو رية(1)،
ومروان خليفات(2) ، وغيرهم 0
... ويدل على أن الإنفضاض كان فى الخطبة ما جاء فى رواية مسلم السابقة : بينما النبى - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة قائماً 0
__________
(1) كاتب مصرى كان منتسباً إلى الأزهر فى صدر شبابه، فلما انتقل إلى مرحلة الثانوية الأزهرية أعياه أن ينجح فيها، اكثر من مرة ، فعمل مصححاً للأخطاء المطبعية بجريدة فى بلده، ثم موظفاً فى دائرة البلدية حتى أحيل إلى التقاعد، من مصنفاته التى طعن فيها فى السنة المطهرة والسيرة الواردة فيها. أضواء على السنة، وقصة الحديث المحمدى، وشيخ المضيرة (أبو هريرة) ينظر : السنة ومكانتها فى التشريع للدكتور السباعى ص466 0وينظر استدلاله بهذه الشبهة فى كتابه أضواء على السنة ص 359 0
(2) كاتب سورى معاصر حصل على العالية (الليسانس) من كلية الشريعة بسوريا، تشيع وغالي في
تشيعه من مؤلفاته : وركبت السفينة0وينظر استدلاله بهذه الشبهة فى كتابه وركبت السفينة ص 223 0(14/6)
يقول الحافظ ابن حجر : "ترجيح كون الإنفضاض وقع فى الخطبة لا فى الصلاة ، هو اللائق بالصحابة تحسيناً للظن بهم ، وعلى تقدير أن يكون فى الصلاة حمل على أن ذلك وقع قبل النهى كآية { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } (1) وقبل النهى عن الفعل الكثير فى الصلاة ونزول قوله تعالى : { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } (2)0
ويؤيد ذلك : ما رواه أبو داود فى المراسيل أن هذه القصة كانت لما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى الجمعة قبل الخطبة ، مثل العيدين ، فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس فى ترك الجمعة شئ ، فأنزل الله - عز وجل - : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا }
فقدم النبى - صلى الله عليه وسلم - الخطبة يوم الجمعة , وأخر الصلاة . (3) 0
وهو ما رجحه أيضاً النووى فى شرحه على مسلم (4) 0
وعلى كل تقدير أنه فى الصلاة ، فلم يكن تقدم لهم نهى عن ذلك ، فلما نزلت آية الجمعة ، وفهموا منها ذم ذلك ، اجتنبوه " (5)0
__________
(1) الآية 33 من سورة محمد 0
(2) الآية 2 من سورة المؤمنون وانظر : فتح البارى 2/493 رقم 936 بتصرف يسير0
(3) المراسيل ص 50 رقم 61 0
(4) المنهاج شرح مسلم 3/416، 417 رقم 863، وينظر : تفسير القرآن العظيم 4/367 0
(5) ينظر : فتح البارى 2/493 رقم 936 0(14/7)
... يقول الألوسى (1) : " ورواية أن ذلك وقع منهم مراراً" إن أريد بها رواية البيهقى فى شعب الإيمان(2) عن مُقَاتِل بن حيان(3) أنه قال : بلغنى والله أعلم أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات، فمثل ذلك لا يلتفت إليه، ولا يعول عند المحدثين عليه، وإن أريد بها غيرها فليبين، ولتثبت صحته، وأنى بذلك؟
وبالجملة : الطعن فى الصحابة بهذه القصة التى كانت من بعضهم فى أوائل أمرهم، وقد أعقبها منهم عبادات لا تحصى، سفه ظاهر، وجهل وافر " (4)0
ثانياً : أما نسبة النفاق إلى خيار هذه الأمة بدعوى أنه كان فى المدينة منافقين، وأن النبى - صلى الله عليه وسلم - أطلق لفظ الصحابة عليهم : "معاذ الله! أن يتحدث الناس أنى أقتل أصحابى "0
هذه الشبهة فى وهن بيت العنكبوت ، وهى فرية واضحة لا تثبت لها قدم 0
__________
(1) هو : محمود شكرى بن عبد الله بن شهاب الدين، محمود الألوسى، الحسينى، أبو المعالى، عالم بالأدب, والدين، والتاريخ، ومن الدعاة إلى الإصلاح، من مصنفاته : روح المعانى، ومختصر التحفة الإثنى عشرية ، مات بغداد سنة 1342هـ ، له ترجمة فى الأعلام للزركلى 7/172،173 .
(2) الرواية أوردها السيوطى فى الدر المنثور : 8/166، ولم يعزها لغيره0
(3) هو:مقاتل بن حَيَّان النَّبَطىُّ، أبو بسطام البَلْخِىُّ، صدوق فاضل، اخطأ الأزدى فى زعمه أن وكيعاً كذبه، إنما كذب مقاتل بن سليمان0 مات قبيل الخمسين بأرض الهند0 له ترجمة فى : تقريب التهذيب 2/210 رقم6891، وتذكرة الحفاظ 1/174 رقم 168، وطبقات المفسرين للداودى 2/329، وخلاصة تهذيب الكمال ص 330، ولسان الميزان 9/198 رقم 14548 0
(4) روح المعانى للألوسى 28/107 0(14/8)
أولاً : لأن إطلاق لفظ الصحابة على المنافق كما جاء فى الحديث هذا الإطلاق لغوى، وليس اصطلاحى نظير قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ } (1) وقوله تعالى : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } (2) فإضافة صحبة النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين والكافرين إنما هى صحبة الزمان والمكان لا صحبة الإيمان، وذلك كقوله تعالى فى حق سيدنا يوسف - عليه السلام - : { يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } (3)0
فالصحبة فى الحديث الشريف، بمعناها اللغوى كما فى الآيات السابقة، وليست الصحبة الاصطلاحية، فتعريفها السابق يخرج المنافقين والمرتدين0
__________
(1) الآية 184 من سورة الأعراف0
(2) الآية 2 من سورة النجم، وفى هذه الآية وما فى معناها بطلان لسؤال الرافضى مروان خليفات ومن قال بقوله0 قال : قال تعالى "وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ" الآية 101 من سورة التوبة، قال : فنصت الآية على أن هناك منافقين لا يعلمهم إلا الله فمن هم حتى نتجنب أخذ الأحاديث عنهم" أ0هـ ينظر : وركبت السفينة ص 230، 231، ونسى خليفات على فرض التسليم بزعمه، ما أفاض فيه رب العزة من ذكر أوصافهم فى سورة التوبة، وغيرها من سائر سور القرآن، كما تناسى وعد الله المذكور فى ختام الآية، وهو فضحهم فى الدنيا، ولهم فى الآخرة عذاب عظيم : "نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ" وإلا فالخطاب للنبى - صلى الله عليه وسلم - كان فى بدء الأمر ثم أعلمه رب العزة بأسمائهم، فضلاً عما= =ذكر فى القرآن من صفاتهم، ويؤكد هذا أخبار النبى - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة بن اليمان - رضي الله عنهم - بأسمائهم، وسيأتى قريباً ذكر الحديث 0
(3) الآية 39 من سورة يوسف 0(14/9)
ثم كيف يكون المنافقون من الصحابة بالمعنى الإصطلاحى وقد نفاه عنهم رب العزة بقوله : { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } (1)0
ثم إن المنافقين لم يكونوا مجهولين فى مجتمع الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - ولم يكونوا هم السواد الأعظم، والجمهور الغالب فيهم، وإنما كانوا فئة معلومة آل أمرهم إلى الخزى والفضيحة، حيث علم بعضهم بعينه، والبعض الآخر منهم علم بأوصافه، فقد ذكر الله فى كتابه العزيز من أوصافهم ، وخصوصاً فى سورة التوبة ، ما جعل منهم طائفة متميزة منبوذة، لا يخفى أمرها على أحد، كما لا يخفى على أحد حالهم فى زماننا0
فأين هذه الفئة المنافقة ممن أثبت الله لهم فى كتابه نقيض صفات المنافقين، حيث أخبر عن رضاه عنهم، من فوق سبع سماوات، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس"(2)0
ويدل على ما سبق من قلة المنافقين فى المجتمع الإسلامى، وأنهم فئة معلومة تكفل رب العزة بفضحهم فى الدنيا ، ولهم فى الآخرة عذاب عظيم0
__________
(1) الآية 56 من سورة التوبة 0
(2) ينظر : عقيدة أهل السنة والجماعة فى الصحابة للدكتور ناصر الشيخ 3/963 0(14/10)
ما رواه حذيفة بن اليمان(1) - رضي الله عنه - صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى المنافقين0 قال : قال النبى - صلى الله عليه وسلم - فى أمتى - وفى رواية - فى أصحابى إثنا عشر منافقاً فيهم ثمانيةٌ لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها حتى يَلِجَ الجَمَلُ فى سم الخياط0 ثَمانيةٌ منهم تَكْفِيكُهُمُ الدُّبِيْلَةُ، سِرَاجٌ من النارِ، يظهرُ فى أكتافِهِم حتى يَنْجُمَ من صُدَورِهِم"(2)0
وعن ابن عباس (3) - رضى الله عنهما- قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى ظل حجرةٍ من حجره ، وعنده نفرٌ من المسلمين قد كان يقلصُ عنها الظل ، قال : سيأتيكم رجل ينظر إليكم بعين شيطان فلا تكلموه، فدخل رجل أزرق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما تسبُنى أنت وفلانٌ وفلان ، لقوم دعا بأسمائهم، فانطلق إليهم فدعاهم فحلفوا واعتذروا فأنزل الله - عز وجل - { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } (4)0
__________
(1) له ترجمة فى:الإستيعاب1/334 رقم 492، وأسد الغابة 1/706 رقم 1113، والإصابة 1/317 رقم 1652، وتاريخ الصحابة 73 رقم 267، ومشاهير علماء الأمصار ص55 رقم 267 0
(2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب صفات المنافقين 9/136، 137 رقم 2779 0
(3) هو : عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، صحابى جليل0 له ترجمة فى : الإستيعاب 3/933 رقم 1606، أسد الغابة 3/291 رقم 3037، وتاريخ الصحابة ص 148 رقم 717، ومشاهير علماء الأمصار ص 15 رقم 17، وتذكرة الحفاظ 1/40 رقم 18 0
(4) الآية 18 من سورة المجادلة، والحديث أخرجه أخرجه البيهقى فى دلائل النبوة 5/282، 283 والحاكم فى المستدرك كتاب التفسير، باب تفسير سورة المجادلة 2/524 رقم 3795، وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، وسكت عنه الذهبى .(14/11)
... أما ما استدل به محمود أبو رية من قول "أُسَيْدُ بن حُضَيْر، لسعدُ بنُ عبادةُ إنك منافق تجادل عن المنافقين" وقوله فهؤلاء البدريون منهم من قال لآخر منهم : "إنك منافق ولم يكفر النبى لا هذا ولا ذاك"(1)0
هذا الذى يزعمه الرافضى محمود أبو ريه من فرط جهله ، وتضليله وبتره لسبب ذلك القول0
وهو كما جاء فى الصحيحين فى قصة الإفك لما قال - صلى الله عليه وسلم - وهوعلى المنبر : "يا معشر المسلمين من يعذرنى من رجل قد بلغ أذاه فى أهل بيتى فوالله ما علمت على أهلى إلا خيراً0 ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً0 وما كان يدخل على أهلى إلا معى" فقام سعد بن معاذ الأنصارى فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه0 وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك . قالت عائشة - رضى الله عنها - فقام سعد بن عبادة(2)، وهو سيد الخزرج ، وكان رجلاً صالحاً0 ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله ! لا تقتله ، ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير(3) ، وهو ابن عم
__________
(1) أضواء على السنة ص 359 0
(2) سعد بن عبادة صحابى جليل له ترجمة فى : الإصابة 2/30 رقم 3173، والإستيعاب 2/594 رقم 944، وأسد الغابة 2/441 رقم 2012، ومشاهير علماء الأمصار 15 رقم 20 0
(3) أسٍيد بن حضير صحابى جليل له ترجمة فى : الإصابة 1/49 رقم 185، وتاريخ الصحابة ص30 رقم 25، ومشاهير علماء الأمصار ص20 رقم 36، والإستيعاب 1/92 رقم 54، و أسد الغابة 1/240 رقم 170 0(14/12)
سعد بن معاذ ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله ! لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين ... " (1)0
فكما هو واضح من قصة الحديث أن قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة "فإنك منافق" وقع منه على جهة المبالغة ، فى زجره عن القول الذى قاله حمية للخزرج ، ومجادلته عن ابن أُبى، وغيره0
ولم يرد أُسيدُ بإطلاقه "فإنك منافق" لم يرد به نفاق الكفر، وإنما أراد أنه كان يظهر المودة للأوس، ثم ظهر منه فى هذه القصة، ضد ذلك فأشبه حال المنافق، لأن حقيقته إظهار شئ وإخفاء غيره0
ولعل هذا هو السبب فى ترك إنكار النبى - صلى الله عليه وسلم -(2) وهو أقوى دليل على الخصم0
... ومع كل هذا فقد تقرر أن العدالة لا تعنى العصمة من الذنوب ، أو السهو، أو الخطأ، ومن فضل الله عليهم - رضي الله عنهم - أن وعدهم بالمغفرة ، ولا سيما أهل بدر، وهم من أهلها .
__________
(1) جزء من حديث طويل أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التفسير، باب "لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً … إلى قوله هم الكاذبون" 8/306-308= =رقم 4750 ومسلم (بشرح النووى) كتاب التوبة، باب فى حديث الإفك وقبول توبة القاذف 9/115، 118 رقم 2770 0
(2) فتح البارى 8/330 رقم 4750 بتصرف، وينظر : منهاج السنة لابن تيمية 3/192 0(14/13)
فعن ابن عباس قال : قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب حاطب بن أبى بلتعه إلى أهل مكة فأطلع الله تعالى عليه نبيه - صلى الله عليه وسلم - فبعث علياً والزبير فى أثر الكتاب فأدركا امراة على بعير فاستخرجاه من قرن من قرونها، فأتيا به نبى الله - صلى الله عليه وسلم - فقرئ عليه ، فأرسل إلى حاطب فقال "يا حاطب إنك كتبت هذا الكتاب ؟ " قال نعم : يا رسول الله ! قال : "فما حملك على ذلك"؟ قال : يا رسول الله ! إنى والله لناصح لله - عز وجل - ، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولكنى كنت غريباً فى أهل مكة وكان أهلى بين ظهرانيهم ، فخشيت عليهم ، فكتبت كتاباً لا يضر الله ورسوله شيئاً ، وعسى أن يكون فيه منفعة لأهلى0 قال عمر : فاخترطت سيفى وقلت : يا رسول الله أمكنى منه فإنه قد كفر فأضرب عنقه 0 فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا ابن الخطاب وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل هذه العصابة من أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فإنى قد غفرت لكم " (1) أ0هـ0
ثالثاً : أما ما استدلوا به من فرار بعض الصحابة يوم الزحف فى غزوتى أحد وحنين، ما استدلوا به حجة عليهم0
ففى عتاب الفرار يوم أحد قال - عز وجل - : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا } ثم ختم العتاب بقوله تعالى : { وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } (2)0
ولا تعيير بعد عفو الله تعالى عن الجميع(3) "0
__________
(1) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر أهل بدر 4/87 رقم 6966، وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبى 0
(2) الآية 155 من سورة آل عمران0
(3) روح المعانى للألوسى 4/99، وينظر : مختصر التحفة الإثنى عشرية ص 273 0(14/14)
وفى عتاب الفرار يوم حنين قال - عز وجل - : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } ثم يمتن رب العزة عليهم بقوله تعالى : { ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } (1)0
وهل تنزل السكينة إلا على قوم مؤمنين؟!! .
نعم تنزل السكينة على قوم مؤمنين ليزدادوا بها إيماناً مع إيمانه ، وصدق رب العزة : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } (2) ويقول - عز وجل - : { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } (3)0
وهل بعد تلك الشهادات العلا لهم بالإيمان والتقوى من تعيير؟!!
اللهم إنى أعوذ بك من الخذلان وسوء العاقبة ... آمين .
المطلب الثانى
شبهاتهم من السنة النبوية والرد عليها
__________
(1) الآية 26 من سورة التوبة0
(2) الآية 4 من سورة الفتح0
(3) الآية 26 من سورة الفتح0(14/15)
بعد أن تحايل أهل الزيغ من الرافضة وأذيالهم , على بعض آيات من القرآن الكريم , ليحوروا معانيها، ويستدلوا بهذا التحوير على عدم عدالة الصحابة , وتكفيرهم ، نجدهم هنا باسم السنة النبوية , ونصوصها يستشهدون بها أيضًا على عدم عدالتهم ، وهكذا عكس المشاغبون القضية ، ونظروا في السنة النبوية المطهرة ، فما وافق دعواهم منها قبلوه ، واعترضوا به على منازعيهم , وما احتجوا به لا حجة لهم فيه ؛ لأن ما استشهدوا به إما أحاديث مكذوبة ، وضعيفة ، وإما صحيحة مع ضعف دلالتها على ما احتجوا به .
وإليك ما استشهدوا به والجواب عنه .(14/16)
1- استدلوا من السنة المطهرة : بقوله - صلى الله عليه وسلم - : "… ألا وإنه سَيْجَاءُ برجالٍ من أمتى فيؤخذُ بِهمْ ذات الشمال، فأقول : يا ربِّ أُصيحَابى، فيقال : إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح : { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } (1) فيقال : إن هؤلاء لا يَزَالوا مُرْتَدِّينَ على أعقابِهِم منذ فَارَقْتَهُم"(2)0
__________
(1) جزء من الآية 117 من سورة المائدة0
(2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التفسير، باب قوله تعالى : "وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ " 8/135 رقم 4625، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة 9/210 رقم 2860 من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -0 وينظر : مختصر التحفة الإثنى عشرية ص 272، وشبهات حول الشيعة لعباس الموسوى ص 115، 116، ثم اهتديت لمحمد التيجانى ص 119، 120، وأعيان الشيعة لمحسن الأمين 1/117، ومعالم المدرستين : لمرتضى العسكرى المجلد 1/132، والنص والاجتهاد لعبد الحسين شرف الدين ص 337، وركبت السفينة 224 - 228، ونظرية عدالة الصحابة ص 53-54، والخدعة رحلتى من السنة إلى الشيعة 98، ومع الدكتور موسى الموسوى للدكتور علاء الدين القزوينى ص 152، 153 - 159، والإفصاح فى إمامة على بن أبى طالب ص 30، 31، والخلافة المغتصبة ص 193، ولقد شيعنى الحسين ص349، وأضواء على السنة ص354-356، وأهل السنة شعب الله المختار ص 37 0(14/17)
2- واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : "لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض "(1) وقالوا : تقاتل الصحابة فى صفين والجمل (2) 0
__________
(1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الفتن، باب قول النبى - صلى الله عليه وسلم - لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض 13/29 رقم 7080، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب بيان معنى قول النبى - صلى الله عليه وسلم - لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض 1/332 رقم 65 من حديث جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -0
(2) أضواء على السنة ص 354، وينظر : نظرية عدالة الصحابة لأحمد حسين يعقوب ص 53، والخلافة المغتصبة لإدريس الحسينى ص93، والفتنة الكبرى (عثمان) لطه حسين ص170-173، دين السلطان لنيازى عز الدين ص 34، 103، 110، 124، 795، والسلطة فى الإسلام لعبدالجواد ياسين ص 241، 260، 267، والصلاة لمحمد نجيب 32 – 37، وحوار ومناقشة كتاب عائشة لهشام آل قطيط ص312 وغيرهم0(14/18)
3- واستدلوا بماروى عن بُرَيْدَة - رضي الله عنه -(1) قال: جاء رجل إلى قوم فى جانب المدينة فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنى أن أحكم برأيى فيكم، فى كذا وكذا0 وقد كان خطب امرأة منهم فى الجاهلية، فأبوا أن يزوجوه، فبعث القوم إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - يسألونه، فقال : "كذب عدو الله"0 ثم أرسل رجلاً فقال : "إن أنت وجدته ميتاً فأحرقه" فوجده قد لدغ فمات، فحرقه، فعند ذلك قال النبى - صلى الله عليه وسلم - : "من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"(2)
__________
(1) بُرَيْدَةُ هو : بُرَيْدَةُ بن الحُصَيْب، صحابى جليل له ترجمة فى : الإستيعاب 1/185 رقم 217، ومشاهير علماء الأمصار ص 78 رقم 414، أسد الغابة 1/367رقم 398.
(2) أخرجه ابن عدى فى الكامل 4/1371، ونقله عنه ابن الجوزى فى مقدمة كتابة (الموضوعات) 1/55، 56 من حديث بريدة - رضي الله عنه -، وفى إسناده بروايته عند ابن عدى ، وروايتيه عند ابن الجوزى (صالح بن حيان القرشى) اتفقت كلمة المحدثين النقاد على تضعيفه وجرحه ، كما تراه فى ترجمته فى : تهذيب التهذيب 4/386، وتقريب التهذيب 1/427 رقم 2862، والجرح والتعديل 4/398 رقم 1739، والمجروحين لابن حبان 1/365، والضعفاء والمتروكين للنسائى ص135 رقم 311، وخلاصة تذهيب تهذيب الكمال ص 170 وترجم له الحافظ الذهبى فى الميزان 2/292 فذكر من منكراته هذا الحديث نفسه ، وقال : رواه كله صاحب (الصارم المسلول) ص 169 من طريق البغوى عن يحيى الحمانى عن على بن مسهر وصححه، ولم يصح بوجه0 والحديث أخرجه الطبرانى فى الأوسط 3/59 عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنه -، وفى إسناده عطاء بن السائب الكوفى وقد اختلط كما قال الهيثمى فى مجمع الزوائد 1/145، وقد نص الطبرانى أن هذا الحديث لم يروه عن عطاء إلا وهيب بن خالد ، وقد ذكر أبو داود أنه سمع منه بعد اختلاطه0 ينظر : نهاية الاغتباط ص241 رقم 71، وفى تهذيب التهذيب 7/203 رقم 385 رواية وهيب عنه فى جملة ما يدخل فى الإختلاط، هذا وقد تتبع الأستاذ عبدالفتاح أبو غدة هذا الحديث برواياته المتعددة فى كتابه "لمحات من تاريخ السنة" تحت عنوان "بطلان الأحاديث الدالة على وجود الكذب على النبى - صلى الله عليه وسلم - فى حياته ص 56 – 65، وقال : وأما الحديث الذى جاء فى سبب ورود حديث "من كذب علىَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، فهو حديث منكر لا يصح الإلتفات إليه ولا التعويل عليه، ينظر: لمحات من تاريخ السنة ص 56.(14/19)
... واستدل آخرون بالطعن فى عدالة الصحابة بما تمليه عليهم عقولهم الضالة من فهم أعوج لسيرة الصحابة ، وتاريخهم المجيد ، كما فعل مفتى الماركسية خليل عبد الكريم(1) فى كتابه "مجتمع يثرب العلاقة بين الرجل والمرأة فى العهدين المحمدى والخليفى" فقد صور مجتمع المدينة المنورة بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخلفائه الراشدين ، وصحابته الأطهار، تصويراً شائناً قبيحاً، وجعله أشبه بمجتمع الحيوانات التى لا هم لها إلا إشباع الغرائز الجنسية بأى شكل ، وبغير ضابط من دين أو خلق ، غير مكترثين بالنصوص الدينية التى تمنعهم من هذا الهبوط "( (2) 0
__________
(1) خليل عبد الكريم : كاتب مصرى معاصر، حاصل على ليسانس الحقوق من جامعة فؤاد الأول - جامعة القاهرة حالياً0 أطلق عليه "مفتى الماركسية" أونة، "والشيوعى الملتحى" آونة أخرى0 ينظر: السنة ودورها فى الفقه الجديد لجمال البنا ص 163 0
(2) ينظر : مجلة الأزهر مقال " لا تسبوا أصحاب ى" لفضيلة الشيخ عبد المقصود عسكر عدد ربيع الأول 1418هـ - يوليه 1997 ص 384 0(14/20)
كما أصدر كتاباً آخر بعنوان " شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة " وهو من ثلاثة أسفار، الأول بعنوان " محمد والصحابة " والثانى " الصحابة والصحابة " والثالث " الصحابة والمجتمع " تناول فيها المؤلف تاريخ الصحابة ، وسيرتهم بأسلوب فج قبيح ينبئ عن سوء فهمه ، وجهله ، وحقده الدفين ، ضد صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك فعل سعيد العشماوى(1) وغيرهم(2) .
ويجاب عما سبق بمايلى :
أولاًً : أما استدلالهم بحديث الحوض ، وما جاء فيه من وصف الصحابة بالردة 0 فهذا من زندقة الرافضة ، ومن تلبيسهم ، وتضليلهم 0
فإن المراد بالأصحاب هنا ليس المعنى الإصطلاحى عند علماء المسلمين ، بل المراد بهم مطلق المؤمنين بالنبى - صلى الله عليه وسلم - المتبعين لشريعته ، وهذا كما يقال لمقلدى أبى حنيفة أصحاب أبى حنيفة ، ولمقلدى الشافعى أصحاب الشافعى وهكذا ، وإن لم يكن هناك رؤية واجتماع .
وكذا يقول الرجل للماضين , الموافقين له فى المذهب : " أصحابنا " مع أن بينه وبينهم عدة من السنين ، ومعرفته - صلى الله عليه وسلم - لهم مع عدم رؤيتهم فى الدنيا ؛ بسبب أمارات تلوح عليهم يعرفها النبى - صلى الله عليه وسلم - 0
__________
(1) ينظر : له الخلافة الإسلامية ، وأصول الشريعة ، وحصاد العقل وغير ذلك 0
(2) سيأتى ذكر من طعن فى الصحابة باتهامهم بالكذب قريباًً0 و ينظر فيمن طعن فى عدالة الصحابة بحجة أنهم بشر لا عصمة لهم0 نقد الحديث فى علم الرواية والدراية لحسين الحاج 1/350، 351، وإنذار من السماء ص 39 ، 69 ، 127 ،154، وتبصير الأمة بحقيقة السنة ص396-426، والدولة والمجتمع محمد شحرور 160 وما بعدها ، والإمام الشافعى لنصر أبو زيد ص55،56، 76، والأصلان العظيمان ص 284 - 288 , والسنة ودورها فى الفقه الجديد ص 24 - 28، 30، 65، 85، 261 0(14/21)
فعن حذيفة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : " إن حوضى لأبعد من أَيَلَةَ مِن عَدَنٍ(1)، والذى نفسى بيده ! إنى لأزودُ عنه الرجال كما يَزُودُ الرجلُ الإبلَ الغريبةَ عن حوضه "، قالوا: يا رسول الله ! أو تعرفنا ؟ قال : " نعم تَرِدُون علىَّ غُرًّا مُحَجَّلينَ من آثار الوضوء0 ليست لأَحدٍ غَيْرِكُم " (2) 0
...
ولو افترضنا أن المراد بالأصحاب فى الحديث ، الأصحاب فى زمنه - صلى الله عليه وسلم - 0
فالمراد بهم : الذين صاحبوه صحبة الزمان والمكان مع نفاقهم ، كما سبق من قوله تعالى : { ما ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } (3)0
وعلى هذا فالمراد بالمرتدين من أصحابه فى الحديث هم الذين ارتدوا من الأعراب على عهد الصديق - رضي الله عنه - 0
وقد علمت أن التعريف الإصطلاحى للصحابة يخرج من ارتد ومات على ردته - والعياذ بالله -0
__________
(1) أيلة : مدينة على ساحل بحر القلزم (البحر الأحمر حالياً) مما يلى الشام0 معجم البلدان 1/347، وعدن : مدينة مشهورة على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن0 معجم البلدان 4/100، وبحر الهند يسمى الآن المحيط الهندى0
(2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل فى الوضوء 2/137 رقم 248 0 وينظر : مختصر التحفة الإثنى عشرية ص 272 0
(3) الآية 2 من سورة النجم 0(14/22)
وفى الحديث ما يؤيد المعانى السابقة ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - "أصيحابى" بالتصغير، كما جاء فى بعض الروايات ، قال الخطابى : "فيه إشارة إلى قلة عدد من وقع لهم ذلك ، وإنما وقع لبعض جفاة الأعراب ، ولم يقع من أحد من الصحابة المشهورين " (1)0 وفى قوله - صلى الله عليه وسلم - : "فيقال" : هل شعرت ما عملوا بعدك " "فيه إشارة إلى أنه لم يعرف أشخاصهم بأعيانها ، وإن كان قد عرف إنهم من هذه الأمة " (2)0
أما حمل الحديث على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى الإصطلاحى- فهذا ما لا يقوله مسلم!! وهو ما يدحضه ما سبق ذكره من تعديل الله - عز وجل - ، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وإجماع الأمة على ذلك أ0هـ0
ثانياً : أما ما احتجوا به من حديث " لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " والزعم بأن الصحابة استحل بعضهم دماء بعض فى صفين والجمل 0
... فالحق أن هذه الشبهة من أخطر الشبه ؛ التى احتج بها الرافضة الزنادقة ، وأذيالهم من دعاة العلمانية، الذين اتخذوا من تلك الفتن مادة دسمة ، طعنوا بها فى عدالة الصحابة، وفتنوا بذلك عوام المسلمين ، وممن لا علم له ، بضربهم على (الوتر الحساس) وهو : دعوى ظلم الصحابة - رضي الله عنهم - لآل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى تلك الفتن "0
__________
(1) ينظر: فتح البارى 8/135،136 رقم 4625، وينظر : تأويل مختلف الحديث ص 213-215 0
(2) فتح البارى 11/484 رقم 6593 ، ومختصر التحفة الإثنى عشرية ص 273 0(14/23)
وهذا ما فعله طه حسين فى كتابه " الفتنة الكبرى - عثمان بن عفان - رضي الله عنه - " (1)0 وقال بقوله محمود أبو رية (2)، وغير واحد من دعاة الرافضة واللادينية (3) 0
حتى وجدنا من يجهر من الرافضة قائلاً : "معاوية بن أبى سفيان - رضي الله عنه -" - كافر ابن كافر - ولعنة الله على معاوية ، فقد بغى على الحق ، وخرج على طاعة الإمام علىّ ، وشتت شمل المسلمين ، وفرق كلمتهم ، فأساس فرقة المسلمين إلى الآن هو معاوية الذى خرج عن طاعة الإمام على بن أبى طالب - رضي الله عنه -" (4) 0
...
والجواب عن هذا الإفك يطول(5)، وهو بحاجة إلى تحقيق دقيق(6)0 أكتفى هنا بخلاصة القول 0
وهو أنه لا حجة لهم فى الحديث ، ولا فى الفتن التى وقعت بين سلفنا الصالح - رضوان الله عليهم أجمعين- والتى أشعلها سلفهم من الخوارج ، والرافضة ، والزنادقة 0
فقوله : "لا ترجعوا بعدى"0 بصيغة النهى والتحذير من قتال المؤمن 0
وإطلاق الكفر على قتال المؤمن محمول على معانى متعددة :
__________
(1) ينظر : الفتنة الكبرى ص 170 - 173 0
(2) ينظر : أضواء على السنة ص 360 - 362 0
(3) ينظر : دين السلطان لنيازى عز الدين ص 34، 103، 110، 124، 795، والسلطة فى الإسلام لعبد الجواد ياسين ص 260 وما بعدها 0
(4) قال ذلك الرافضى حسن شحاته (قبحه الله تعالى) ينظر:مجلة روز اليوسف العدد3562 ص35 0
(5) سيأتى الدفاع عن سيدنا معاوية - رضي الله عنه - فى المبحث السادس : من أراد معاوية - رضي الله عنه - فإنما أراد الصحابة جميعاً - رضي الله عنهم - .
(6) ممن حقق فى تلك الفتن الإمام ابن العربى فى العواصم من القواصم ، وابن تيمية فى منهاج السنة0 وغيرهما والأمر فى حاجة إلى مزيد من التحقيق 0 والله أعلم 0(14/24)
1- مبالغة فى التحذير من ذلك ، لينزجر السامع عن الإقدام عليه وليس ظاهر اللفظ مراداً ، أو أنه على سبيل التشبيه لأن ذلك فعل الكافر " (1)0
والمعنى لا تفعلوا فعل الكفار فتشبهوهم فى حالة قتل بعضهم بعضاً (2)0
2- وقيل : المعنى كفاراً بحرمة الدماء ، وحرمة المسلمين ، وحقوق الدين .
3- وقيل : كفاراً بنعمة الله - عز وجل -.
4- وقيل : المراد ستر الحق ، والكفر لغة الستر، لأن حق المسلم على المسلم أن ينصره ويعينه ، فلما قاتله كأنه غطى على حقه الثابت له عليه .
5- وقيل: إن الفعل المذكور يفضى إلى الكفر، لأن من اعتاد الهجوم على كبار المعاصى جره شؤم ذلك إلى أشد منها ؛ فيخشى أن لا يختم له بخاتمة الإسلام .
6- وقيل : اللفظ على ظاهره للمستحل قتال أخيه المسلم 0
وقيل غير ذلك (3)0
... وما جرى بين الصحابة - رضي الله عنهم - من قتال لم يكن عن استحلال له حتى يحمل الحديث على ظاهره وأن قتالهم كفر، كما استدل الخوارج ومن شايعهم بقوله - صلى الله عليه وسلم - : "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"(4)0
__________
(1) ينظر : فتح البارى 13/30 أرقام 7076 - 7080 0
(2) ينظر : المصدر السابق 1/262 رقم 121 0
(3) المصدر نفسه 12/201، 202 رقم 6868، 13/30 أرقام 7076 - 7080 0
(4) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الإيمان باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر 1/135 رقم 48، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب بيان قول النبى- صلى الله عليه وسلم - سباب المسلم فسوق وقتاله كفر 1/330 رقم 64 من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - 0(14/25)
كيف والقرآن الكريم يكذبهم فى هذا الفهم السطحى قال تعالى: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (1)0
فسماهم أخوة ، ووصفهم بأنهم مؤمنون ، مع وجود الاقتتال بينهم ، والبغى من بعضهم على بعض 0
يقول الحافظ ابن كثير(2)
__________
(1) الآيتان 9 ، 10 من سورة الحجرات 0
(2) هو : إسماعيل بن عمر بن كثير ، أبو الفداء ، الدمشقى، الشافعى ، كان عالماً حافظاً فقيهاً ، ومفسراً نقاداً ، ومؤرخاً كبيراً، من مصنفاته : تفسير القرآن العظيم، والبداية والنهاية، مات سنة 774هـ. له ترجمة فى : الدرر الكامنة لابن حجر 1/373 رقم 944، وطبقات المفسرين للداودى 1/111 رقم 103، والبدر الطالع للشوكانى 1/153 رقم 95 0(14/26)
: " وبهذا استدل البخارى(1) وغيره على أنه لا يخرج عن الإيمان بالمعصية وإن عظمت ، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم ، وهكذا ثبت فى صحيح البخارى من حديث الحسن(2)، عن أبى بكرة(3) - رضي الله عنه - قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر- والحسن بن علىّ إلى جنبه- وهو يقبل على الناس مرة ، وعليه أخرى ويقول : إن ابنى هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين (4) .
__________
(1) صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الإيمان ، باب المعاصى من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بإرتكابها إلا بالشرك لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبى ذر : "إنك امرؤ فيك جاهلية" وقول الله تعالى : "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" وباب "وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" فسماهم مؤمنين 1/106 رقمى 30، 31 0
(2) الحسن هو : ابن على بن أبى طالب - رضى الله عنهما - صحابى جليل له ترجمة فى : الإصابة 1/328 رقم 1719، وأسد الغابة 2/13 رقم 1165، ومشاهير علماء الأمصار 12 رقم 6 0
(3) أبو بكرة هو:نفيع بن مسروح بن كلده ، صحابى جليل ، له ترجمة : أسد الغابة 5/334 رقم 5289، وتاريخ الصحابة ص249 رقم 1373، ومشاهير علماء الأمصار ص48 رقم 220 والإستيعاب 4/1614 رقم 2877 0
(4) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الصلح، باب قول النبى- صلى الله عليه وسلم - للحسن بن على - رضي الله عنه -"إن ابنى هذا سيد … الحديث" وقوله جل ذكره "فأصلحوا بينهما" 5/361 رقم 2704 0(14/27)
فكان كما قال - صلى الله عليه وسلم -، أصلح الله تعالى به بين أهل الشام ، وأهل العراق ، بعد الحروب الطويلة ، والواقعات المهولة " (1)
يقول الإمام ابن تيمية : "والذين قاتلوا الإمام على - رضي الله عنه - لا يخلوا : إما أن يكونوا عصاة ، أو مجتهدين مخطئين أو مصيبين ، وعلى كل تقدير، فهذا لا يقدح فى إيمانهم ، ولا فى عدالتهم ، ولا يمنعهم الجنة ، بما سبق من تصريح القرآن الكريم ، من تسميتهم إخوة ، ووصفهم بأنهم مؤمنون ، وتأكيد النبى - صلى الله عليه وسلم - ذلك بما سبق من رواية الحسن بن على عن أبى بكرة - رضي الله عنه - 0
ولهذا اتفق أهل السنة على أنه لا تفسق واحدة من الطائفتين ، وإن قالوا فى إحداهما أنهم كانوا بغاة(2) .
والبغى إذا كان بتأويل كان صاحبه مجتهدا ً، والمجتهد المخطئ لا يكفر، ولا يفسق وإن تعمد البغى فهو ذنب من الذنوب ، والذنوب يرفع عقابها بأسباب متعددة كالتوبة ، والحسنات الماحية ، والمصائب المكفرة ، وشفاعة النبى - صلى الله عليه وسلم - ودعاء المؤمنين، وغير ذلك(3)0
وعلى هذا القول إجماع الأمة من علمائها0
__________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/211 0
(2) ويعنون بهذه الطائفة التى بغت طائفة معاوية - رضي الله عنه - ودليلهم فى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمار "تقتلك الفئة الباغية" أخرجه مسلم "بشرح النووى" كتاب الفتن وأشراط الساعة ، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر أخيه 9/266 رقم 2916، من حديث أم سلمة –رضى الله عنها- وكان عمار - رضي الله عنه - يقاتل مع الإمام على - رضي الله عنه - والوصف بالبغى هنا لا ينفى عنهم العدالة كما تشهد بذلك آية الحجرات فى قوله تعالى : "فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ"0
(3) منهاج السنة 2/205 بتصرف . وينظر : أصول الدين للبغدادى ص 289 وما بعدها 0(14/28)
يقول الإمام الآمدى : " فالواجب أن يحمل كل ما جرى بينهم من الفتن على أحسن حال، وإن كان ذلك إنما لما أدى إليه اجتهاد كل فريق من اعتقاده أن الواجب ما صار إليه ، وأنه أوفق للدين وأصلح للمسلمين 0
وإلا فجمهور الصحابة وسادتهم تأخروا عن تلك الفتن والخوض فيها كما قال محمد بن سيرين (1) : "هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف فما حضر منهم مائة بل لم يبلغوا ثلاثين "
وإسناد هذه الرواية كما قال ابن تيمية أصح إسناد على وجه الأرض (2)0
وعلى هذا فالذى خاض فى تلك الفتن من الصحابة إما أن يكون كل مجتهد مصيباً، أو أن المصيب واحد ، والآخر مخطئ فى اجتهاده مأجور عليه0
وعلى كلا التقديرين ، فالشهادة والرواية من الفريقين لا تكون مردودة ، إما بتقدير الإصابة فظاهر، وإما بتقدير الخطأ مع الاجتهاد فبالإجماع " (3)0
يقول الإمام الجوينى(4)
__________
(1) هو محمد بن سيرين الأنصارى ، أبو بكر بن أبى عمرة البصرى ، ثقة، ثبت، عابد، كبير القدر، مات سنة 110هـ . له ترجمة فى : تقريب التهذيب 2 /85 رقم 5966، والكاشف 2 /178 رقم 4898، والثقات للعجلى ص 450 رقم 1464، ومشاهير علماء الأمصار ص 113 رقم 643 0
(2) منهاج السنة 3/186 0
(3) الإحكام للآمدى 2/82 بتصرف . وينظر : فواتح الرحموت 2/155، 156، والبحر المحيط 4/299، وإرشاد الفحول 1/275، والباعث الحثيث ص 154، وعقيدة أهل السنة فى الصحابة الكرام للدكتور ناصر الشيخ مبحث (الحرب التى دارت بين على بن أبى طالب، وبعض الصحابة - رضى الله عنهم- وموقف أهل السنة منها 2/700 – 748 .
(4) هو : عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجوينى ، المكنى بأبى المعالى ، الملقب بإمام الحرمين ،أعلم
المتأخرين من أصحاب الشافعى .من مؤلفاته : البرهان فى أصول الفقه ، والإرشاد فى علم الكلام0
مات سنة 478هـ0 له ترجمة فى : سير أعلام النبلاء 11 /137 رقم 4313، وشذرات الذهب 3 /360، وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير 2 /466-470 رقم 8 .(14/29)
: "أما التوقف فى تعديل كل نفر من الذين لابسوا الفتن، وخاضوا المحن ، ومتضمن هذا، الإنكفاف عن الرواية عنهم ، فهذا باطل من دين الأمة، وإجماع العلماء على تحسين الظن بهم ، وردهم إلى ما تمهد لهم من المآثر بالسبيل السابقة ، وهذا من نفائس الكلام " (1) أ0هـ0
وصدق عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى : "تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا تخضب بها السنتنا " (2) أ0هـ0
والله تبارك وتعالى
أعلى أعلم
__________
(1) البرهان فى أصول الفقه 1/241، 242 0
(2) ينظر : فتح المغيث للسخاوى 3/96 0(14/30)
ثالثاً : أما ما زعمه غلاة الشيعة , والمستشرقون , ودعاة اللادينية : أن بداية الوضع كانت فى زمن النبى - صلى الله عليه وسلم - ووقعت من صحابته الكرام ، واستدلالهم على ذلك بالروايات السابقة (1)0 وغيرها مما جاء فيها تخطئة بعض الصحابة لبعضهم ، واستشهادهم بذلك على أنهم كانوا يشكون فى صدق بعضهم بعضاً , وأنهم كانوا يكذِّب بعضهم بعضاً ، وأنهم تسارعوا على الخلافة وانقسموا شيعاً وأحزاباً ( وأخذ كل حزب يدعم موقفه بحديث يضعه على النبى - صلى الله عليه وسلم - ، واشتد ذلك الأمر فى العصر الأموى ، والعباسى حيث تحولت تلك الأكاذيب إلى أحاديث ، وتم تدوينها فى العصر العباسى ضمن كتب الحديث الصحاح ) (2)0
فهذا لا يقوله إلا قوم امتلأت قلوبهم حقداً وبغضاً على من اختارهم واصطفاهم ربهم - عز وجل - لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وتبليغ رسالته إلى الخلق كافة .
وهذا الكذب ترديد لما قاله قديماً جولد تسيهر(3)
__________
(1) ينظر : أضواء على السنة ص 65، والسنة ودورها فى الفقه الجديد ص 139، وإنذار من السماء ص 700، 701، ودين السلطان ص 258، 325، وتبصير الأمة بحقيقة السنة ص 294،428، وفجر الإسلام ص 211، ومعالم المدرستين المجلد 1/435، والنص والاجتهاد عبد الحسين شرف الدين ص 335، وتأملات فى الحديث عند السنة والشيعة زكريا داود ص 126، ودراسات محمدية ترجمة الأستاذ الصديق بشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 10 ص539 0
(2) قاله أحمد صبحى فى كتابه الحسبة ص 10، 39، وينظر مجلة روزاليوسف العدد 3563 ص 35، والصلاة فى القرآن ص56،57، وينظر: الحديث فى الإسلام للمستشرق الفريد غيوم ص20-30 نقلاً عن منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل للدكتورة عزية على طه ص 57، 58 0
(3) مستشرق مجرى يهودى ، رحل إلى سورية وفلسطين ومصر، ولازم بعض علماء الأزهر، له تصانيف باللغات
الألمانية، والإنجليزية، والفرنسية، ترجم بعضها إلى العربية، قال الدكتور السباعى : عرف بعدائه للإسلام ،
وبخطورة كتاباته عنه ، وهو من محررى دائرة المعارف الإسلامية، كتب عن القرآن والحديث ، ومن كتبه : تاريخ
مذاهب التفسير الإسلامى، والعقيدة والشريعة فى الإسلام، وغير ذلك مات سنة 1921م له ترجمة فى : الأعلام
للزركلى 1/284، والاستشراق للدكتور السباعى ص31، 32، وآراء المستشرقين حول القرآن وتفسيره
للدكتور عمر إبراهيم 1/161، 162 .(14/31)
فى العقيدة والشريعة فى الإسلام قائلاً: " ولا نستطيع أن نعزو الأحاديث الموضوعة للأجيال المتأخرة وحدها، بل هناك أحاديث عليها
طابع القدم ، وهذه إما قالها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو هى من عمل رجال الإسلام القدامى … " (1) .
وردد ذلك من غلاة الشيعة على الشهرستانى(2) فى كتابه " منع تدوين الحديث أسباب ونتائج" قائلاً : "السنة المتداولة اليوم ليست سنة الرسول , بل هى سنة الرجال ؛ فى كم ضخم من أبوابها ومفرداتها "(3) وفى موضع آخر : يصف السنة المطهرة بأنها " فقه الرجال " (4)
ويجاب عما سبق بما يلى :
بداية الوضع فى الحديث وبراءة الصحابة - رضي الله عنهم - منه :
اختلف العلماء فى بداية ظهور الوضع فى الحديث إلى قولين :
__________
(1) العقيدة والشريعة ص49،50 ، وينظر : له دراسات محمدية ترجمة الأستاذ الصديق بشير نقلاً عن
مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 10 ص 511، 521 0 وينظر : أصول الفقه المحمدى لشاخت
ترجمة الصديق بشير نقلاً عن المرجع السابق العدد 11 ص 689 0
(2) كاتب شيعي معاصر، من مصنفاته منع تدوين الحديث أسباب ونتائج، طعن فيه في حجية السنة
النبوية وفي رواتها من الصحابة الأعلام ، وخاصة أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية - رضي الله عنهم - .
(3) منع تدوين الحديث ص 302 0
(4) المصدر السابق ص 330 0(14/32)
1- القول الأول : ذهب إلى أن بدايته فى عهد النبوة المباركة ، وبه قال الدكتور صلاح الدين الأدلى(1)، والدكتور فاروق حماده(2)، واستدلوا على ذلك بما روى عن بُرَيْدَة - رضي الله عنه - قال : جاء رجل إلى قوم فى جانب المدينة فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنى أن أحكم برأيى فيكم، فى كذا وكذا0 وقد كان خطب امرأة منهم فى الجاهلية، فأبوا أن يزوجوه ، فبعث القوم إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - يسألونه، فقال : "كذب عدو الله"0 ثم أرسل رجلاً فقال : "إن أنت وجدته ميتاً فأحرقه" فوجده قد لدغ فمات، فحرقه، فعند ذلك قال النبى - صلى الله عليه وسلم - : "من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"(3)0
2- القول الثانى : ذهب إلى أن بداية الوضع فى الحديث ، كانت باندلاع الفتنة التى أشعل فتيلها أقوام من الحاقدين على الإسلام ، ويعتبر الدكتور السباعى سنة أربعين من الهجرة هى الحد الفاصل بين صفاء السنة وخلوصها من الكذب والوضع ، وبين التزايد فيها واتخاذها وسيلة لخدمة الأغراض السياسية والإنقسامات الداخلية بعد أن اتخذ الخلاف بين علىّ ومعاوية - رضى الله عنهما- شكلاً حربياً سالت به دماء وأزهقت منه أرواح ، وبعد أن انقسم المسلمون إلى طوائف متعددة(4)0 وربما بدأ قبل ذلك ، فى الفتنة التى كانت زمن عثمان - رضي الله عنه - ، هذا إذا اعتبرناها الفتنة المذكورة فى خبر ابن سيرين ، والتى جعلها بداية لطلب الإسناد 0
__________
(1) منهج نقد المتن عند علماء الحديث ص 40، 41 0
(2) المنهج الإسلامى فى الجرح والتعديل ص 271 - 273 0
(3) سبق تخريجه ص 35 .
(4) السنة ومكانتها للدكتور السباعى ص 75، وممن ذهب إلى القول الثانى الدكتور همام سعيد فى كتابه الفكر المنهجى عند المحدثين ص 51، والدكتور أبو لبابة فى كتابه أصول علم الحديث ص89–91، والأستاذ أبو غدة فى كتابه لمحات من تاريخ السنة ص 73 - 76 وغيرهم0(14/33)
قلت : وأياً كانت بداية الوضع فى الحديث " زمن النبوة المباركة " أو " زمن الفتنة " فلا يمكن أن يكون الوضع فى الحديث وقع من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العدول الثقات المعروفين بالخيرية ، والتقى ، والبر والصلاح ، والذين يدور عليهم نقل الحديث 0
وعلى فرض صحة الروايات التى تشير إلى أن بداية الوضع زمن النبوة المباركة0 فليس فيها ما يشكك فى صدق الصحابة ، ولا ما يطعن فى عدالتهم ، إذ كان معهم منافقون ، وهم الذين كانت تصدر منهم أعمال النفاق ، فلا يبعد أن يكون الرجل الوارد فى تلك الروايات واحد من المنافقين ؛ وبذلك قال الدكتور صلاح الدين الأدلبى(1)، والدكتور فاروق حمادة(2)
__________
(1) منهج نقد المتن عند علماء الحديث ص 41 0
(2) المنهج الإسلامى فى الجرح والتعديل ص 273، وسبقهم إلى ذلك الإمام ابن حزم فى كتابة الإحكام فى مباحث المرسل فصل (ليس كل من أدرك النبى - صلى الله عليه وسلم - ورآه صحابياً 2/218 0 فبعد أن روى الحديث السابق من رواية بريدة - رضي الله عنه - وفى إسناده أيضاً "صالح بن حيان القرشى"، قال ابن حزم : فهذا من كان فى عصره - صلى الله عليه وسلم - يكذب عليه كما ترى فلا يقبل إلا من سمى وعرف فضله، وقبل ذكره للحديث قال : "وقد كان فى المدينة فى عصره عليه السلام منافقون بنص القرآن، وكان بها أيضاً من لا ترضى حاله "كهيت" المخنث الذى أمر عليه السلام بنفيه، والحكم ابن أبى العاص الطريد وغيرهما، فليس هؤلاء ممن يقع عليهم اسم الصحابة أ0هـ0 وهذا الذى قاله الإمام ابن حزم قبل روايته لحديث بريدة يؤكد حمله تلك الرواية على رجل من المنافقين، لا على أحد من الصحابة العدول الثقات0 ومن العجب أن محمود أبو رية استشهد برواية ابن حزم ولم ينقل كلامه السابق0 بنظر : أضواء على السنة ص 65، وتابعه على ذلك من الشيعة زكريا عباس داود فى كتابه تأملات فى الحديث ص 123، كما لم يلتفت الأستاذ أبو غدة –رحمه الله- إلى أن ابن حزم حمل رواية بريدة على رجل من المنافقين، فغلط الأستاذ أبو غدة الإمام ابن حزم ظناً منه أنه اعتد بصحة الحديث عندما ذكره فى موضعين من كتابه0 ينظر : لمحات من تاريخ وعلوم الحديث للأستاذ أبو غدة ص 58 هامش 0(14/34)
دفاعاً عن تهمة الصحابة بالكذب عليه - صلى الله عليه وسلم - فى زمانه ، وهما من أصحاب القول الأول أن بداية الوضع زمن النبوة المباركة 0
... وصفوة القول : " لا يختلف منصفان فى أن العصر الأول للإسلام يُعَدُ أنظف العصور وأسلمها من حيث استقامة المجتمع , وتوفيق رجاله وصلاحهم ولا غرو ، فإن جلّ القيادات كانت من الصحابة "(1) .
كما أن التربية القرآنية التى غرسها - صلى الله عليه وسلم - فى صحبه ، وتعهدها بالرعاية كانت عاملاً فعالاً فى تطهير نفوس الأصحاب مما يطرأ عادة على القلوب والنفوس من أهواء ورغائب تكون مدعاة للكذب والإفتراء ، ولا سيما والقرآن الكريم يتوعد الكاذبين بأشد الوعيد ، ويصف الكذب بأنه ظلم قال تعالى: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } (2) .
وقال سبحانه : { قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ } (3)0
وكيف يكذبون! وقد اشتهر وأعلن فيهم وتواتر عنهم قوله - صلى الله عليه وسلم - : "من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (4)
وكيف نتصور وصفهم بالكذب وعشرات من الآيات القرآنية ، وعشرات أخرى من الأحاديث النبوية تزكيهم وتصفهم بالصدق ، والإخلاص ، والتقوى؟!! .
...
__________
(1) أصول علم الحديث للدكتور أبو لبابة ص89 .
(2) الآية 32 من سورة الزمر0
(3) الآية 69 من سورة يونس0
(4) أخرجه مسلم (بشرح النووى) المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم -1/101 رقم4 والبخارى (بشرح فتح البارى)كتاب الجنائز، باب ما يكره من النياحة على الميت3/191رقم 1291 .(14/35)
بل إنه كما يقول الدكتور السباعى – رحمه الله تعالى- : " ليس من السهل علينا أن نتصور صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين فدوا الرسول بأرواحهم وأموالهم وهجروا فى سبيل الإسلام أوطانهم وأقرباءهم ، وامتزج حب الله وخوفه بدمائهم ولحومهم : ليس من السهل أن نتصور هؤلاء الأصحاب يقدمون على الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهما كانت الدواعى إلى ذلك(1) … ولقد دلنا تاريخ الصحابة فى حياة الرسول وبعده ، أنهم كانوا على خشية من الله وتقى يمنعهم من الإفتراء على الله ورسوله ، وكانوا على حرص شديد على الشريعة وأحكامها ، والذب عنها ، وإبلاغها إلى الناس ، كما تلقوها عن رسوله , يتحملون فى سبيل ذلك كل تضحية ويخاصمون كل أمير أو خليفة أو أى رجل يرون فيه انحرافاً عن دين الله - عز وجل - لا يخشون لوماً ، ولا موتاً ، ولا أذى ، ولا اضطهاداً , وإليك أمثلة على صدق ذلك .
نماذج من جراءة الصحابة فى حفظ الشريعة :
__________
(1) السنة ومكانتها للدكتور السباعى ص 76 , وقارن بالإسلام على مفترق الطرق للأستاذ محمد أسد ص 94 0(14/36)
1- فهذا الفاروق عمر - رضي الله عنه - الذى تهابه أعتى الإمبراطوريات ويخاف سطوته العادلة أشجع الرجال، تقف فى وجهه امرأة لتقول له : لا، وذلك حين دعا إلى أمر رأت فيه هذه المرأة مخالفة لتعاليم القرآن، فقد خطب الناس يوماً فقال : " أيها الناس لا تغالوا فى مهور النساء لو كان ذلك مكرمة عند الله لكان أولاكم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -0 فتتصدى له امرأة على مسمع من الصحابة فتقول له : "يا أمير المؤمنين! كتاب الله - عز وجل - أحق أن يتبع أو قولك ؟ قال : بل كتاب الله - عز وجل - ، فما ذلك ؟ قالت نهيت الناس آنفاً أن يغالوا فى صدق النساء والله - عز وجل - يقول فى كتابه العزيز : { وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } (1) فقال عمر : كل أحد أفقه من عمر، مرتين أو ثلاثاً , ثم رجع إلى المنبر فقال للناس : إنى نهيتكم أن تغالوا فى صدق النساء ؛ ألا فليفعل كل رجل فى ماله ما بدا له(2) .
__________
(1) جزء من الآية 20 من سورة النساء0
(2) أخرجه سعيد بن منصور فى سننه باب ما جاء فى الصداق 1/166، 167 رقم 598 وأخرجه أبو يعلى فى مسنده وفيه " كل الناس أفقه من عمر"، قال الهيثمى فى مجمع الزوائد 4/284 : فيه مجالد بن سعيد وفيه ضعف وقد وثق 0(14/37)
2- ويذهب أبو بكر - رضي الله عنه - إلى محاربة الممتنعين عن أداء الزكاة فيعارضه عمر طالما أن نصاً نبوياً يمنع دماء من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله، فقد عصم منى ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله"، فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال والله لو منعونى عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لقاتلتهم على منعه فقال عمر بن الخطاب : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله - عز وجل - قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعرفت أنه حق " (1) 0
3- وهذا على بن أبى طالب - رضي الله عنه - يعارض عمر - رضي الله عنه - فى همه برجم امرأة ولدت لستة أشهر، فقال له علىّ : ليس ذاك لك : إن الله - عز وجل - يقول فى كتابه { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } (2) فقد يكون فى البطن ستة أشهر، والرضاع أربعة وعشرين شهراً فذلك تمام ما قال الله : ثلاثون شهراً ، فخلى عنها عم ر"( (3)0
__________
(1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان ، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله 1/232 رقم 32 , والبخارى (بشرح فتح البارى) كتاب استتابة المرتدين، باب قتل من أبى قبول الفرائض 12/288 رقم 6924،
(2) جزء من الآية 15 من سورة الأحقاف0
(3) أخرجه سعيد بن منصور فى سننه ، باب المرأة تلد لستة أشهر 2/66 رقم 2074 0(14/38)
4- وهذا أبو سعيد الخدرى - رضي الله عنه - ينكر على مروان من الحكم والى المدينة تقديم الخطبة على صلاة العيد مبيناً أنه عمل مخالف للسنة النبوية (1) 0
5- وها هو ابن عمر- كما يروى لنا الذهبى فى "تذكرة الحفاظ" يقوم - والحجاج(2)يخطب فيقول : أى ابن عمر متكلماً عن الحجاج : عدو الله استحل حرم الله , وخرب بيت الله وقتل أولياء الله - جل جلاله -.
وروى الذهبى أن الحجاج خطب فقال : إن ابن الزبير بدل كلام الله ، فقال ابن عمر: كذبت لم يكن ابن الزبير يستطيع أن يبدل كلام الله ولا أنت ، قال الحجاج : إنك شيخ قد خرفت اقعد0 قال ابن عمر : أما إنك لو عدت عدت ) (3)0
__________
(1) قصة الحديث أخرجها البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب العيدين، باب الخروج إلى المصلى بغير منبر 2/520 رقم 956، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب بيان كون النهى عن المنكر من الإيمان 1/296 رقمى 78، 79، وينظر : إنكار كعب بن عجرة - رضي الله عنه - على عبد الرحمن ابن أم الحكم خطبته يوم الجمعة قاعداً قائلاً : "انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا " وقال الله تعالى : "وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا" أ0هـ الآية 11 من سورة الجمعة، والحديث أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجمعة باب قوله تعالى : "وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا" 3/416 رقم 864 0
(2) الحجاج : هو الحجاج ابن يوسف بن أبى عقيل الثقفى، الأمير، المشهور، الظالم، المبير، وقع ذكره وكلامه فى الصحيحين وغيرهما، وليس بأهل بأن يروى عنه، ولى إمرة العراق عشرين سنة، مات سنة 95هـ0 له ترجمة فى : تقريب التهذيب 1/190 رقم 1144، ووفيات الأعيان 2/29 رقم 149، والجرح والتعديل 3/168 رقم 717، والكاشف 1/313 رقم 946، وسير أعلام النبلاء 4/343 رقم 117، ولسان الميزان 2/333 رقم 2351 0
(3) تذكرة الحفاظ 1/37، 39 0(14/39)
... مثل هذه الأخبار، ومئات أمثالها قد استفاضت بها كتب التاريخ ، وهى تدل دلالة قاطعة على ما كان عليه الصحابة من الشجاعة ، والأمانة ، والجرأة فى الحق ، والتفانى فى الدفاع عنه ، بحيث يستحيل أن يكذبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتباعاً لهوى أو رغبة فى دنيا ، إذ لا يكذب إلا الجبان ، كما يستحيل عليهم أن يسكتوا عمن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم الذين لا يسكتون عن اجتهاد خاطئ ؛ يذهب إليه بعضهم بعد فكر وإمعان نظر0
وهذا غاية ما يكون بينهم من خلاف فقهى لا يتعدى اختلاف وجهات النظر فى أمر دينى وكل منهم يطلب الحق وينشده (1) 0
وما يرد من ألفاظ التكذيب على ألسنة بعضهم ، فإنما هو تخطئة بعضهم لبعض، وبيان ما وقع فيه بعضهم من وَهَم الكلام 0
... والكذب بهذا المعنى لا يعصم منه أحد ، لا من الصحابة ، ولا ممن دونهم ، وقد جاءت كلمة "الكذب" فى أحاديث كثيرة بمعنى الخطأ ، من ذلك مايلى :
قول النبى - صلى الله عليه وسلم - : "كذب من قال ذلك"(2) فى الرد على من ظن أن عامر بن الأكوع(3) : "قتل نفسه فى غزوة خيبر حيث أصابه سيفه ، وهو يبارز "مرحباً" ملك اليهود .
__________
(1) السنة ومكانتها فى التشريع للدكتور السباعى ص 76 - 78 بتصرف0
(2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر 6/404 رقم 1802، وباب غزوة ذى قرر وغيرها 6/419 رقم 1807 0
(3) عامر بن الأكوع : صحابى جليل له ترجمة فى : الاستيعاب 2/785 رقم 1317، واسد الغابة 3/114 رقم 2680، وتجريد أسماء الصحابة 1/283، والإصابة 3/350 رقمى 364، 393 0(14/40)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "كذب أبو السنابل(1)، ليس كما قال، قد حللت فانكحى"0 وذلك فى الرد على أبى السنابل الذى قال لسبيعة بنت الحارث(2)، وقد وضعت حملها بعد وفاة زوجها
بأيام : إنك لا تحلين حتى تمكثى أربعة أشهر وعشراً0 فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " كذب أبو السنابل ، ليس كما قال "(3)0
...
وعلى نحو هذا الإستعمال لكلمة "كذب" جاء استعمال الصحابة لها .
1- كقول ابن عباس - رضى الله عنهما - عن نوف البكالى(4) : "كذب نَوْف" عندما قال صاحب الخضر ليس موسى بنى إسرائيل ، وإنما موسى آخر - ونوف من الصالحين العبا ، ومقصود ابن عباس : اخطأ نوف (5)0
2- ومنه قول عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - : "كذب أبو محمد" حيث قال : " الوتر واجب " .
__________
(1) أبو السنابل : هو حَبَّةُ بن بَعْكَكٍ، صحابى جليل له ترجمة فى : الاستيعاب 1/318 رقم 468، أسد الغابة 1/669 رقم 1030، وتاريخ الصحابة ص 77 رقم 299، ومشاهير علماء الأمصار ص 28 رقم 84، والإصابة 1/304 رقم 1565 0
(2) سبيعة بنت الحارث:صحابية جليلة لها ترجمة فى:تاريخ الصحابة ص130 رقم 630، والاستيعاب 4/1859 رقم 3370، واسد الغابة 7/138 رقم 6979، والإصابة 4/326 رقم 11278 0
(3) أخرجه سعيد بن منصور فى سننه كتاب الطلاق، باب فى عدة الحامل المتوفى عنها زوجها 1/350 رقمى 1506، 1508 0
(4) نَوْف البكالى : هو نَوْف، بفتح النون وسكون الواو، ابن فَضَالة، بفتح الفاء والمعجمة، البكالى، بكسر الموحدة وتخفيف الكاف، ابن امرأة كعب، شامى مستور، وإنما كذب ابن عباس ما رواه عن أهل الكتاب، مات سنة بعد التسعين من الهجرة0 له ترجمة فى : تقريب التهذيب 2/255 رقم 7239، والجرح والتعديل 8/505 رقم 2311 0
(5) انظر : الفكر المنهجى عند المحدثين للدكتور همام عبد الرحيم ص 52 0(14/41)
3- ومنه قول عائشة - رضى الله عنها - لما بلغها أن أبا هريرة يحدث بأنه "لا شؤم إلا فى ثلاث" قالت : "كذب - والذى أنزل على أبى القاسم - من يقول : " لا شؤم إلا فى ثلاث - ثم ذكرت الحديث " (1) .
4- "واسْتَمَعَ الزبير بن العوام - رضي الله عنه - ، إلى أبى هريرة يحدث ، فجعل يقول كلما سمع حديثاً : كذب … صدق … كذب ، فسأله عروة ابنه : يا أبت ما قولك : صدق … كذب 0 قال : يا بنى : أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا شك فيه ، ولكن منها ما يضعه على مواضعه ، ومنها ما وضعه على غير مواضعه " (2) .
فعائشة والزبير- رضى الله عنهما - لا يريدان بقولهما - كذب أى اختلق - حاشاهم من ذلك – وإنما المراد اخطأ فى فهم بعض الأحاديث ؛ ووضعها فى غير محل الإستشهاد بها، كما صرح الزبير بن العوام - رضي الله عنه -، فعدالة أبى هريرة بين الصحابة أعظم من أن تمس بجرح ، وما اتهم به كذباً من أعداء الإسلام تصدى للرد عليه رهط من علماء الإسلام (3)0
__________
(1) أخرجه أبو داود كتاب الصلاة ، باب فيمن لم يوتر 2/62 رقم 1420، والنسائى فى سننه كتاب الصلاة، باب المحافظة على الصلوات الخمس والمحافظة عليها 1/230 رقم 461، والموطأ كتاب صلاة الليل، باب الأمر بالوتر 1/120 رقم 13 0
(2) البداية والنهاية لابن كثير 8/ 112، وانظر : توثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى للدكتور رفعت فوزى ص 34 0
(3) ينظر بعض من تصدى للدفاع عنه فى المبحث السابع " أبو هريرة راوية الإسلام رغم آنف الحاقدين" .(14/42)
فهذا كله من الكذب الخطأ، ومعناه "اخطأ قائل ذلك"0 وسمى كذباً ؛ لأنه يشبهه , لأنه ضد الصواب ، كما أن الكذب ضد الصدق، وإن افترقا من حيث النية والقصد(1) .
وما استدرك به بعض الصحابة بعضاً فى الرواية لا يعد كذباً ، كيف لا ! والصحابة يتفاوتون فى روايتهم عن النبى - صلى الله عليه وسلم - بين مكثر ومقل ، يحضر بعضهم مجلساً للرسول - صلى الله عليه وسلم - يغيب عنه آخرون، فينفرد الحاضرون بما لم يسمعه المتخلفون ، حتى يبلغوا به فيما بعد0 ومن هذا القبيل كتاب " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة " للإمام بدر الدين الزركشى0 كما وقع لجماعة من الصحابة غيرها ، استدركوا على مثيلهم ، ونفوا ما رواه وخطؤوه فيه 0
... ويدل على ما سبق ما رواه الحاكم عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - : " ليس كلنا كان يسمع حديث النبى - صلى الله عليه وسلم -، كانت لنا ضيعة وأشغال ، ولكن كان الناس لم يكونوا يكذبون فيحدث الشاهد الغائب " (2)0
__________
(1) ينظر : لسان العرب 1/704، وينظر : فتح البارى 1/242، والمكانة العلمية لعبد الرزاق الصنعانى فى الحديث النبوى لفضيلة الأستاذ الدكتور إسماعيل الدفتار مبحث (مراجعة الصحابة بعضهم لبعض فى ضبط ما يروونه لا تعنى الاتهام) 1/295 0
(2) المستدرك كتاب العلم , باب فضل توقير العالم 1/ 216 رقم 438 وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه , ووافقه الذهبى .(14/43)
... وعن القاسم بن محمد(1) قال : " لما بلغ عائشة قول عمر وابن عمر مرفوعاً : إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه قَالَتْ إِنَّكُم لَتُحَدِّثُونِّىٍ عَنْ غَيْرِ كَاذِبَيْنِ وَلاَ مُكَذَّبَيِنْ وَلِكَنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ(2)، وفى رواية قالت : "يغفر الله لأبى عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسى
أو اخطأ، إنما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يهودية يُبكى عليها فقال : إنهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب فى قبرها"(3)0
... كل ذلك وغيره الكثير، يدل على ثقة الصحابة بعضهم ببعض، ثقة لا يشوبها شك ولا ريبة، لما يؤمنون به من تدينهم بالصدق، وأنه عندهم رأس الفضائل، وبه قام الإسلام ، وساد أولئك الصفوة المختارة من أهله الأولين .
__________
(1) القاسم بن محمد : هو القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق التيمى، ثقة، أحد الفقهاء بالمدينة، روى عن عائشة، وأبى هريرة، وفاطمة بنت قيس، وعنه الزهرى، وأبو الزناد0 مات سنة 106هـ على الصحيح0 له ترجمة فى : تقريب التهذيب 2/23 رقم 5506 والكاشف 2/130 رقم 4528 ، ومشاهير علماء الأمصار ص 82 رقم 427 0
(2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجنائز،باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه3/501رقم929
(3) أخرجه مسلم فى الموضع السابق 3/503 رقم 932، وينظر : فتح البارى 3/184 حيث نقل عن القرطبى قوله : "إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوى بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضاً ولم يسمع بعضاً بعيد، لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون وهم جازمون فلا وجه للنفى مع إمكان حمله على محمل صحيح .. إلخ"0(14/44)
وصدقت أم المؤمنين عائشة - رضى الله عنهما - ما كَانَ خُلُق أَبْغضَ إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الكذب(1)0
... وعلى هذا : فإذا ورد على لسان أحد من الصحابة نفى ما رواه نظيره ، أو قوله فى مثيله : كذب فلان …، أو نحو هذا من العبارات، فالمراد به أنه أخطأ أو نسى؛ لأن الكذب عند أهل السنة هو الإخبار عن الشئ بخلاف ما هو عليه عمداً أو نسياناً أو خطأ ، ولكن الإثم يختص بالعامد ، كما جاء فى الحديث : " من كذب علىَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " (2)0
قال الإمام النووى (3) : بعد تعريفه للكذب عند أهل السنة : "وقالت المعتزلة ، شرطة العمدية ودليل خطاب هذه الأحاديث لنا، فإن قيده عليه السلام بالعمد ، لكونه قد يكون عمداً، وقد يكون سهواً ، مع أن الإجماع والنصوص المشهورة فى الكتاب والسنة متوافقة متظاهرة على أنه لا إثم على الناسى والغالط ، فلو أطلق - صلى الله عليه وسلم - الكذب لتوهم أنه يأثم الناسى أيضاً فقيده وأما الروايات المطلقة ، فمحمولة على المقيدة بالعمد (4) 0 أ0هـ0
__________
(1) أخرجه الترمذى فى سننه كتاب البر والصلة، باب ما جاء فى الصدق والكذب 4/307 رقم1973 وقال : هذا حديث حسن، وأخرجه أحمد فى مسنده 6/152، وابن أبى الدنيا فى مكارم الأخلاق 112 رقم 139، 145، والحديث ذكره الحافظ الهيثمى فى مجمع الزوائد 1/142، وعزاه إلى أحمد، والبزار، وقال إسناده صحيح 0
(2) سبق تخريجه ص 35 . وينظر : لمحات من تاريخ السنة للأستاذ عبد الفتاح أبو غدة ص 73 0
(3) هو أبو زكريا، يحيى بن شرف الحوارنى، الشافعى ، كان إماماً حافظاً متفناً ، صاحب تصانيف نافعة فى الحديث ، والفقه ، وغيرها "كشرح مسلم" و"شرح المهذب" و"المبهمات" وغير ذلك مات سنة 676هـ له ترجمة فى : تذكرة الحفاظ 4/1470 رقم 1162، وشذرات الذهب 5/345، وطبقات الشافعية لابن كثير 2/909 0
(4) المنهاج شرح مسلم للنووى 1/104 0(14/45)
الرد على زعم أعداء السنة المطهرة بأن لفظة "متعمداً" فى حديث "من كذب علىّ" مختلقة :
زعم أعداء السنة بأن لفظة "متعمداً" مختلقة ، وأدرجها العلماء ليسوغوا بها ، وضع الحديث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسبة من غير عمد ، كما كان يفعل الصالحون من المؤمنين ويقولون "نحن نكذب له لا عليه " أو يتكئ عليها الرواة فيما يروونه عن غيرهم على سبيل الخطأ ، أو الوهم أو سوء الفهم … إلخ"(1)0
... الجواب : هذا زعم كله كذب لأن " لفظة متعمداً " أخرجها البخارى فى صحيحه فى أكثر رواياته(2)،واتفق معه الإمام مسلم فى تخريجها فى صحيحه(3)0
وأفاض الحافظ ابن حجر فى بيان ثبوتها (4)، ورغم ذلك يكذب محمود أبو رية بذكره للبخارى وابن حجر ضمن من لا يثبتون هذه الزيادة (5) 0
__________
(1) ينظر : أضواء على السنة ص 60، وتابعه جمال البنا فى كتابة السنة ودورها فى الفقه الجديد ص139 وقال بقولهم نيازى عز الدين فى كتابيه إنذار من السماء ص 700، 701، ودين السلطان ص 170، 243، 258، 325، وينظر : تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 294 0
(2) البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبى - صلى الله عليه وسلم - 1/243، 244 رقمى 108، 110 0
(3) ينظر:مسلم (بشرح النووى) المقدمة ، باب تغليظ الكذب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم -100،101رقمى3،4 .
(4) فتح البارى 1/242 رقمى 108، 110 0
(5) أضواء على السنة ص 62 هامش0(14/46)
يقول فضيلة الدكتور محمد أبو شهبة : ولا أحد يدرى - كيف يجتمع الوضع حسبة مع عدم التعمد ؟ إن معنى الحسبة أن يقصد الواضع وجه الله ، وثوابه ، وخدمة الشريعة – على حسب زعمه – بالترغيب فى فعل الخير والفضائل ، وهم قوم من جهلة الصوفية ، والكرامية ، جوزوا الوضع فى الترغيب والترهيب ، وربما تمسكوا بقوله تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ } (1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - "من كذب علىَّ ليضل به الناس"(2)0 فكيف يجامع قصد الوضع ، عدم التعمد ؟!
وتفسير الحسبة بأنها عن غير عمد غير مقبول ولا مسلم 0
ثم إن رفع إثم الخطأ أو السهو ليس بهذه الكلمة ، وإنما ثبت بأدلة أخرى ، وقد تقرر فى الشريعة أنه لا إثم على المخطئ والناسى ، ما لم يكن بتقصير منه فذكر الكلمة لا يفيد هؤلاء الرواة شيئاً ما دام هذا أمراً مقرراً .
__________
(1) جزء من الآية 144 من سورة الأنعام0
(2) قال الحافظ ابن حجر : الحديث أخرجه البزار من حديث ابن مسعود وقد اختلف فى وصله وإرساله، ورجح الدارقطنى والحاكم إرساله، وأخرجه الدارمى من حديث يعلى بن مرة بسند ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فليست اللام فيه للعلة بل للصيرورة كما فسر قوله تعالى "فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ" : والمعنى أن مال أمره إلى الإضلال، أو هو من تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر فلا مفهوم له كقوله تعالى : "لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً" وقوله تعالى : "وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ" فإن قتل الأولاد، ومضاعفة الربا والإضلال فى هذه الآيات إنما هو لتأكيد الأمر فيها لا اختصاص الحكم أ0هـ0 ينظر : فتح البارى 1/241، 6/626، وفتح المغيث للسخاوى 1/288، 289، وينظر : الموضوعات لابن الجوزى 1/94 - 98 0(14/47)
والسر فى ذكرها أن الحديث لما رتب وعيداً شديداً على الكاذب ، والمخطئ ، والساهى، والناسى، لا إثم عليهم ، كان من الدقة والحيطة فى التعبير التقييد بالعمد ، وذلك لرفع توهم الإثم على المخطئ والغالط والناسى ، وهو ما نقله الإمام النووى عن مذهب أهل السنة والمعتزلة أيضاً 0
على أن أئمة الحديث وإن قالوا برفع الإثم عن المخطئ ، والناسى ، والغالط ، فقد جعلوا ما ألحق بالحديث غلطاً ، أو سهوا ً، أو خطأً ، من قبيل الشبيه بالموضوع فى كونه كذباً فى نسبته إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا تحل روايته إلا مقروناً ببيان أمره ، وإلى هذا ذهب الأئمة، الخليلى ، وابن الصلاح ، والعراقى ، وغيرهم ، وقد اعتبره بعض أئمة الجرح - كابن معين ، وابن أبى حاتم - من قبيل الموضوع المختلق ، وذهب بعض الأئمة إلى أنه من قبيل المدرج ، ومهما يكن من شئ فقد جعلوا هذا النوع من الغلط أو الوهم مما يطعن فى عدالة الراوى وضبطه (1) أ0هـ0
...
فأين هذا الذى يقرره الجهابذة من المحدثين مما يزعمه الأفاكون أمثال محمود أبو رية ، فى قوله كلمة "متعمداً" "يتكئ عليها الرواة فيما يروونه عن غيرهم على سبيل الخطأ ، أو الوهم أو سوء الفهم … إلخ" ؟!! .
__________
(1) دفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شهبة ص52، 53 بتصرف، وينظر : رد الأئمة للراوى المتساهل فى التحمل والأداء وصور من ذلك التساهل فى: فتح المغيث للسخاوى 1/385-389، وتدريب الراوى 1/299،340، وتوضيح الأفكار 2/255 - 258 0(14/48)
يقول الشيخ المعلمى اليمانى : "ولا يتوهمن أحد أن كلمة "متعمداً" تخرج من حدث جازماً وهو شاك ، كلا فإن هذا متعمد بالإجماع ، ولا نعلم أحداً من الناس حتى من أهل الجهل والضلالة زعم أن كلمة "متعمداً" تخرج هذا ، وإنما وجد من أهل الجهل والضلال من تشبث بكلمة " علىَّ " فقال : نحن نكذب له لا عليه . فلو شكك محمود أبو ريه ، ومن قال بقوله، فى كلمة " علىَّ " لكان أقرب (1)0أهـ
والله تبارك وتعالى
أعلى وأعلم
المبحث الخامس
سنة الصحابة - رضي الله عنهم - حجة شرعية
... إذا كان أعداء الإسلام يشككون فى عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - فهم أيضاً يشككون فى سنتهم، وسنة الخلفاء الراشدين0
يقول محمد شحرور(2): "فإذا سألنى سائل الآن ألا يسعك ما وسع الصحابة فى فهم القرآن؟ فجوابى بكل جرأة ويقين هو : كلا لا يسعنى ما وسعهم، لأن أرضيتى العلمية تختلف عن أرضيتهم، ومناهج البحث العلمى عندى تختلف عنهم ، وأعيش فى عصر مختلف تماماً عن عصرهم والتحديات التى أواجهها تختلف عن تحدياتهم " (3)0
__________
(1) الأنوار الكاشفة ص 72، وينظر : مزيد من الرد على أكاذيب محمود أبو ريه حول هذا الحديث فى الأنوار الكاشفة، مع دفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شبهة0
(2) كاتب سورى معاصر، حاصل على الدكتوراه فى الهندسة من الجامعة القومية الإيرلندية فى دبلن0 من مؤلفاته : الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ، والإسلام والإيمان منظومة القيم، والدولة والمجتمع0
(3) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ص567، وينظر: منع تدوين الحديث لعلى الشهرستانى133،142، 166، 249، 334-340، 503، وركبت السفينة لمروان خليفات ص 280، ونظرية عدالة الصحابة لأحمد حسين يعقوب 56-58، والإفصاح فى إمامة على بن أبى طالب لمحمد العكبرى ص140، 141، والخلافة المغتصبة لإدريس الحسينى، وغيرهم ممن طعنوا فى عدالة الصحابة 0(14/49)
... والحق أن هذا كلام من يرى الشريعة الإسلامية قرأناً وسنة غير صالحة لكل زمان ومكان ، فكلامه هو وغيره من أعداء السنة المطهرة فى سنة الصحابة لا قيمة له 0
لأن سنة الصحابة وهى ما جاء عنهم من قول أو فعل أو تقرير إذا كان مما لا يقال من قبل الرأى ، ومما لا مجال للإجتهاد فيه ، فله حكم المرفوع المسند تحسيناً للظن بهم ، وجزم بذلك الرازى فى المحصول ، وغير واحد من أئمة الأصول والحديث(1)0
وإذا كانت سنتهم فى غير ذلك ، فقد اختلف العلماء فى ذلك 0
والراجح من هذا الخلاف(2) : أن سنتهم كسنة الرسول يعمل بها ، ويرجع إليها، وانتصر لهذا الرأى غير واحد من أئمة الأصول ، منهم الشاطبى - رحمه الله - فبعد أن ذكر الآيات والأحاديث الدالة على عدالتهم قال : "فيصح أن يطلق على الصحابة أنهم خير أمة بإطلاق، وأنهم وسط أى عدول بإطلاق ، وإذا كان كذلك فقولهم معتبر، وعملهم مقتدى به0 ثم استدل الشاطبى لما رجح بأدلة منها :
__________
(1) ينظر : المحصول 2/221، والإحكام للآمدى 2/87، وأعلام الموقعين 4/123، وفتح المغيث للسخاوى 1/144، وتدريب الراوى 1/190، 191، وتوضيح الأفكار 1/280 0
(2) ينظر : الأدلة المختلف فيها وأثرها فى الفقه الإسلامى للدكتور عبد الحميد أبو المكارم ص 303، والفقيه والمتفقه للخطيب البغدادى ، باب ما جاء فى قول الواحد من الصحابة 1/437 0(14/50)
1- ما جاء فى الحديث من الأمر باتباعهم ، وأن سنتهم فى طلب الإتباع كسنة النبى - صلى الله عليه وسلم - لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين،تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ " (1) .
2- أن جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل ، فقد جعل طائفة قول أبى بكر وعمر حجة ودليلاً، وبعضهم عد قول الخلفاء الأربعة دليلاً، وبعضهم يعد قول الصحابى على الإطلاق حجة ودليلاً، ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة وهذه الآراء - وإن ترجح عند العلماء خلافها - ففيها تقوية تضاف إلى أمر كلى هو المعتمد فى المسألة، وذلك أن السلف والخلف من التابعين ومن بعدهم ، يهابون مخالفة الصحابة، ويتكثرون بموافقتهم ، وأكثر ما تجد هذا المعنى فى علوم الخلاف الدائرة بين الأئمة المعتبرين، فتجدهم إذا عينوا مذاهبهم قوَّوها بذكر من ذهب إليها من الصحابة ، وما ذاك إلا لما اعتقدوا فى أنفسهم وفى مخالفيهم من تعظيمهم ، وقوة مآخذهم دون غيرهم ، وكبر شأنهم فى الشريعة ، وأنهم مما يجب متابعتهم وتقليدهم فضلاً عن النظر معهم فيما نظروا فيه0
...
ويؤيد هذا ما جاء عن السلف الصالح ، من تزكيتهم والحث على متابعتهم 0
__________
(1) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب السنة، باب لزوم السنة 4/200 رقم 4607، والترمذى فى سننه كتاب العلم ، باب ما جاء فى الأخذ بالسنة واجتناب البدع 5/43 رقم 2676 وقال : حسن صحيح ، وأخرجه ابن ماجة فى سننه المقدمة ، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين 1/15 رقمى 42، 43، وأحمد فى مسنده 4/126، وابن حبان فى صحيحه (الإحسان فى ترتيب صحيح ابن حبان) 1/178 رقم 5 ، والمروزى فى السنة ص26 رقم 69 – 72 0(14/51)
فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : "من كان مستناً فليستن(1) بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً ، وأعمقها علماً ، وأقلها تكلفا ، وأقومها هدياً ، وأحسنها حالاً، قوماً اختارهم الله لصحبة نبيه ، وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم فى آثارهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم " (2)0
... وقال عمر بن عبد العزيز : " سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وولاة الأمر بعده سننا ً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله ، وقوة على دين الله ، من عمل بها مهتدٍ، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم ، وساءت مصيراً 0
...
وفى رواية بعد قوله - وقوة على دين الله - ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ، ولا النظر فى رأى خالفها ، من اهتدى بها مهتد … الحديث"(3) .
__________
(1) ذهب الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة إلى أن هذا هو الأصح فى بداية الأثر، وأن ابن قيم الجوزية، وابن عبد البر،تأولاه (من كان متأسياً) ينظر: لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث ص 38 0
(2) أخرجه البغوى فى شرح السنة كتاب الإيمان ، باب رد البدع والأهواء 1/214، وأخرجه ابن عبدالبر فى جامع بيان العلم 2/97، وذكره ابن قيم الجوزية فى أعلام الموقعين 4/139 0
(3) أخرجه الخطيب فى الفقيه والمتفقة، باب القول فى أنه يجب إتباع ما سنه السلف من الإجماع والخلاف وأنه لا يجوز الخروج عنه1/435رقم 455، والآجرى فى الشريعة ص48،65،306، وابن عبد البر فى جامع بيان العلم ، باب الحض على لزوم السنة والإقتصار عليها 2/187 .(14/52)
فقال مالك فأعجبنى عزم عمر على ذلك"(1) والآثار فى هذا المعنى يكثر إيرادها ، وقد استوعب كثيراً منها الإمام ابن قيم الجوزية فى كتابه أعلام الموقعين عن رب العالمين(2)0
... ويقول الإمام الشاطبى فى موضع آخر من كتابه مبيناً أن بيان الصحابى حجة ، قال: "وأما بيان الصحابة ، فإن أجمعوا على ما بينوه ، فلا إشكال فى صحته أيضاً، كما أجمعوا على الغسل من التقاء الختانين المبين لقوله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } (3) وهذا الإجماع حجة موجبة للعلم ،ولا يعتد بخلاف من خالفهم ،كما حكاه السرخسى(4)،عن أبى حازم القاضى(5) .
وإن لم يجمعوا عليه فهل يكون بيانهم حجة أم لا ؟ هذا فيه نظر وتفصيل0
ولكنهم يترجح الإعتماد عليهم فى البيان ، من وجهين :
أحدهما : معرفتهم باللسان العربى، فإنهم عرب فصحاء، لم تتغير ألسنتهم، ولم تنزل عن
رتبتها العليا فصاحتهم ، فهم أعرف فى فهم الكتاب والسنة من غيرهم ، فإذا جاء
عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان صح اعتماده من هذه الجهة0
__________
(1) الموافقات 4/452 - 455، وينظر : الإعتصام 2/519 0
(2) أعلام الموقعين 4/118 - 156، وينظر : الرسالة للشافعى ص 596 فقرات رقم 1682، 1805 – 1811 0
(3) جزء من الآية 6 من سورة المائدة 0
(4) أصول السرخسى 1/317، وينظر : علم أصول الفقه وتاريخ التشريع الإسلامى للشيخ أحمد إبراهيم ص 24، 25 0
(5) أبو حازم هو : سلمة بن دينار المخزومى، عالم المدينة، وقاضيها، وشيخها، قال فيه ابن سعد : كان ثقة كثير الحديث مات سنة 140هـ0 له ترجمة فى : تقريب التهذيب 1/376 رقم 2496، وتذكرة الحفاظ 1/133 رقم 119، وشذرات الذهب 1/ 208 .(14/53)
ثانيهما : مباشرتهم للوقائع والنوازل ، وتنزيل الوحى بالكتاب والسنة ، فهم أقعد فى فهم القرائن الحالية، وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات، أو تخصيص بعض العمومات ، فالعمل عليه صواب ، وهذا إن لم ينقل عن أحد منهم خلاف فى المسألة، فإن خالف بعضهم فالمسالة اجتهادية " (1)0
ويقول فى كتابه الإعتصام : "الصحابة هم المتقلدون لكلام النبوة ، المهتدون للشريعة ، الذين فهموا أمر دين الله بالتلقى من نبيه مشافهة على علم ، وبصيرة بمواطن التشريع، وقرائن الأحوال ، بخلاف غيرهم : فإذا كل ما سنوه ، فهو سنة ، من غير نظير فيه، بخلاف غيرهم ، فإن فيه لأهل الاجتهاد مجالاً للنظر رداً وقبولاً " (2)0
سنة الصحابة مصدراً للأحكام الدستورية :
يقول المستشار الدكتور على حريشة بعد أن رد اعتراضات المنكرين لحجية مذهب الصحابى(3)، قال : وسنة الصحابة يمكن أن تكون مصدراً للأحكام الدستورية : ولقد كان نظام الخلافة وليد اجتهاد الصحابة فضرورة البيعة – وهى مظهر رضا المسلمين – كانت عليها سنة الصحابة ، فلم يل أحدهم دون بيعة ، ولم يكن الإستخلاف بالنسبة لمن استخلفوا إلا ترشيحاً، واستمرار الخلافة مدى حياة الخليفة … كان سنة للصحابة ، تحقق بها ميزات عجز عنها كل من النظام الجمهورى ، والنظام الملكى على السواء ، فقد وفرت الثبات الذى ينقص الأنظمة الجمهورية ، ونفت التوارث الذى يعيب الأنظمة الملكية 0
__________
(1) الموافقات 3/300، 301 0
(2) الإعتصام 2/519 0
(3) مصادر الشريعة الإسلامية مقارنة بالمصادر الدستورية ص 42 – 48 0(14/54)
وهكذا يتبين أن سنة الخلفاء كانت مصدراً لكثير من الأحكام الدستورية ؛على غير ما يذهب إليه بعض "المجتهدين" "المحدثين " (1) أ0هـ0
والله تبارك وتعالى
أعلى وأعلم
__________
(1) كالأستاذ الدكتور عبد الحميد متولى فى كتابه مبادئ نظام الحكم فى الإسلام ص 263، وفى كتابه ترديد لكثير مما قاله على عبد الرازق فى كتابه (الإسلام وأصول الحكم)، ينظر : مصادر الشريعة الإسلامية مقارنة بالمصادر الدستورية ص 49 0(14/55)
المبحث السادس
من أراد معاوية - رضي الله عنه - فإنما أراد الصحابة
جميعاً - رضي الله عنهم -
يحرص أعداء السنة النبوية من غلاة الرافضة وأذيالهم , فى الطعن فى صحة إسلام سيدنا معاوية - رضي الله عنه - ، وأنه فتح باب الوضع فى السنة النبوية , وعلى هذا الزعم بنى نيازى عز الدين كتابه (دين السلطان) فهو يعنى بالسطان معاوية بن أبى سفيان - رضي الله عنه - ، وسيدنا معاوية فى زعمه هو الذى فتح باب الروايات بالأحاديث المفتراة لتحل محل القرآن ، وأصبحت ديناً، وساعده على ذلك جنوده من الفقهاء ، والمحدثين ، وفى ذلك يقول : "والتاريخ الإسلامى يحدثنا أن معاوية كان من دهاة العرب … فأعاد عقلية الجاهلية بتوقيفه أحكام القرآن، من خلال فتح باب الروايات بالأحاديث المفتراة لتحل محل القرآن0 وقد وجد كثيراً من المساعدين من بين أصحاب المصالح من علماء السوء ، والحساد، والمنافقين من أعداء الإسلام " (1)0
...
وبنفس هذا الزعم تقول الرافضة طاعنين بذلك فى عقيدة أهل السنة 0
__________
(1) دين السلطان ص36،37 وينظر من نفس المصدر ص 34-41،795 حيث تصريحه بأن معاوية هو السلطان ، وجنوده فى وضع الأحاديث ، هم المحدثون ، والفقهاء ، وينظر:أيضاً من نفس المصدر ص 11، 103، 110، 114، 117، 119، 124، وينظر:152،202،671،حيث استشهاده بالأحاديث السابقة ، وقارن بكتابة إنذار من السماء ص 39، 123، وأصول الحديث للدكتور عبد الهادى الفضلى ص 133، والشيعة هم أهل السنة للدكتور محمد التيجانى ص260، وأحاديث أم المؤمنين عائشة، أدوار من حياتها لمرتضى العسكرى ص 284 وما بعدها0(15/1)
يقول صالح الوردانى بعد أن ذكر نماذج من الأحاديث السابقة وما فى معناها قال : "إن هذه الروايات ، وهذه العقيدة ، هى التى خلقت فقهاء السلاطين ، وخلقت الحكام الطغاة الظالمين فى تاريخ المسلمين … ولولا هذه الروايات وهذه العقيدة ما هيمنت القبلية ، والأموية ، والعباسية ، على واقع المسلمين0 فإن جميع الحكومات التى قامت من بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، اعتمدت هذه الروايات فى دعم سلطانها ونفوذها وإضفاء المشروعية عليها " (1) .
... ويقول رافضى آخر زكريا عباس داود : "إننا عندما نبحث فى أسباب الوضع نلاحظ أن الجانب السياسى ، كان دافعاً قوياً لمعاوية كى يوظف السنة لخدمة أهدافه …، ولذا عمد لاستخدام مجموعة من الصحابة ، والتابعين ، كى يضعوا أحاديث تبرر له أعماله ، وتضفى الشرعية الدينية على ملكه (2) 0
__________
(1) أهل السنة شعب الله المختار ص 88 ، وينظر : له أيضاً الخدعة رحلتى من السنة إلى الشيعة ص55-61، ودفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين ص 292 وما بعدها، وينظر : قراءة فى صحيح البخارى لأحمد صبحى منصور ص 41 0
(2) تأملات فى الحديث عند السنة والشيعة ص 145 0(15/2)
... وممن قال بذلك أيضاً : عبد الحسين شرف الدين(1)، ومرتضى العسكرى(2)، ومحمود أبو رية(3)، ومحمد نجيب(4)، وعلى الشهرستانى(5)
__________
(1) عبد الحسين شرف الدين : هو عبد الحسين شرف الدين الموسوى، شيعى إمامى، ولد فى الكاظمية، ببغداد سنة1290هـ من مؤلفاته : أبو هريرة ، والنص والاجتهاد0 مات سنة1377هـ - 1957م 0ترجم له محمد صادق الصدر فى مقدمة كتاب النص والاجتهاد ص5-39، ينظر : استشهاد بالشبهة التى معنا فى كتابيه النص والاجتهاد ص331-332، وأبو هريرة ص39 - 51 0
(2) : كات شيعي معاصر، وعميد كلية أصول الدين الأهلية ببغداد (سابقًا) من مصنفاته: عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى، ومعالم المدرستين، وخمسون ومائة صحابي مختلق، وأحاديث عائشة وأطوار من حياتها، وهو في كل مؤلفاته السابقة يٌعلن مذهب الرافضة في السنة والصحابة . ينظر : استشهاد بالشبهة التى معنا فى معالم المدرستين المجلد 1/361، والمجلد 2/53، وأحاديث عائشة أدوار من حياتها ص 255، 359 - 409 0
(3) أضواء على السنة ص 126، 137، 179، وشيخ المضيرة ص 170 - 263 0
(4) كاتب معاصر0 من مؤلفاته (الصلاة) أنكر فيه السنة المطهرة، وزعم أن تفاصيل الصلاة واردة فى القرآن الكريم0والكتاب صادر عن ندوة أنصار القرآن، نشر دائرة المعارف العلمية الإسلامية0 ينظر : استشهاد بالشبهة التى معنا فى الصلاة ص 37-41 0
(5) كاتب شيعي معاصر، من مصنفاته منع تدوين الحديث أسباب ونتائج، طعن فيه في حجية السنة النبوية وفي رواتها من الصحابة الأعلام ، وخاصة أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية (رضى الله عنهم أجمعين). ينظر : استشهاد بالشبهة التى معنا فى منع تدوين الحديث أسباب ونتائج ص 32، 274، 352، 362، 387، 494 0(15/3)
، وعلى الوردى(1)، وجمال البنا(2)،
وعبدالجواد ياسين(3)، وإدريس الحسينى(4)، والسيد صالح أبو بكر(5)0
والناظر فيما قاله أعداء السنة سابقاً يرى أنهم يطعنون فى :
__________
(1) على الوردى : كاتب معاصر، من مؤلفاته : وعاظ السلاطين ، ينظر : استشهاده بالشبهة التى معنا فى كتابه وعاظ السلاطين ص 116-138-165 0
(2) هو: ابن العالم المحدث الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا، صاحب الفتح الربانى فى ترتيب مسند أحمد، وشقيق الأستاذ حسن البنا، المرشد الأول لجامعة الإخوان المسلمين، من آثاره التى طعن فيها فى حجية السنة، الأصلان العظيمان ، والسنة ودورها فى الفقه الجديد . وغير ذلك . ينظر استشهاده بالشبهة التى معنا فى كتابه 0 السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 182، 256 0
(3) قاضى مصرى سابق ، تخرج من كلية الحقوق في جامعة القاهرة سنة 1976 ، من مؤلفاته (السلطة في الإسلام العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ) شكك في هذا الكتاب في حجية السنة وفي رواتها. ينظر : استشهاده بالشبهة التى معنا في كتابة السلطة في الإسلام ص ص 258 - 292، 301 0
(4) كاتب صحفى معاصر، تشيع ، من مؤلفاته:"لقد شيعنى الحسين-الإنتقال الصعب فى رحاب المعتقد والمذهب" والخلافة المغتصبة، ينظر : استشهاده بالشبهة التى معنا فى الخلافة المغتصبة ص179، ولقد شيعنى الحسين ص 247 - 290 0
(5) كاتب مصرى ، كان ينتمى إلى جماعة أنصار السنة بالإسكندرية، وعندما أصدر كتابه الأضواء القرآنية فى اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخارى منها، والذى تابع فيه محمود أبو رية، قررت جماعة أنصار السنة فصله من الجماعة0 ينظر : استشهاده بالشبهة التى معنا فى الأضواء القرآنية ص 45 0(15/4)
صحة إسلام معاوية - رضي الله عنه - ، ووصفهم له بأنه كان منافقاً اعتماداً على ما ورد من أنه أسلم يوم الفتح ، وكان من الطلقاء المؤلفة قلوبهم ، وأنه فتح باب الوضع فى السنة ، وصرح بذلك الرافضة السابق ذكرهم ، وتبعهم على ذلك دعاة الفتنة , وأدعياء العلم 0
الجواب عن الطعن فى صحة إسلام سيدنا معاوية - رضي الله عنه - ،
وأنه فتح باب الوضع فى السنة النبوية .
ما طعن به أعداء السنة المطهرة فى صحة إسلام سيدنا معاوية - رضي الله عنه - ، دافع عنه فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو شهبة بقوله : "وقد غاب عن أعداء الإسلام أن الكاتبين فى تاريخ الصحابة ذكروا عن الواقدى ، وابن سعد ، أنه أسلم بعد الحديبية قبل الفتح ، وأنه أخفى إسلامه مخافة أهله ، وأنه كان فى عمرة القضاء مسلما ً، وإذا كان هو وأبوه من المؤلفة قلوبهم فى رأى البعض ، ففى رأى الكثيرين أنه ليس من المؤلفة قلوبهم ، قال ابن عبد البر : "معاوية وأبوه من المؤلفة قلوبهم ، ذكره فى ذلك بعضهم "، وهو يشعر بأن الكثيرين لا يرون هذا الرأى ، ولذا نجد الحافظ المحقق ابن حجر لم يذكر فى ترجمته شيئاً من هذا ، وإنما ذكر فى ترجمة أبيه أنه من المؤلفة قلوبهم (1) 0
قلت : ومهما يكن من شئ فقد أسلم وحسن إسلامه ، وحتى لو كان ممن أسلموا يوم الفتح ، فلا يقدح ذلك فى عدالته وصحبته ، بعد تزكية رب العزة لمن أسلموا بعد الفتح
__________
(1) ينظر : فى ترجمته : الإستيعاب 3/1416 رقم 2435، وتاريخ الصحابة ص 231 رقم 1239، وأسد الغابة 5/201 رقم 4984، والإصابة 4/433 رقم 8068 0 وينظر : الطبقات الكبرى لابن سعد 7/406، وفتح البارى 7/130 رقم 3764، والبداية والنهاية 8/120 0(15/5)
أيضاً قال تعالى : { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (1)0
وكيف يصح الطعن فى صحة إسلامه - رضي الله عنه - ، وقد كان أحد كتبة الوحى بين يدى النبى - صلى الله عليه وسلم - (2) .
يدل على ذلك ما روى عن ابن عباس - رضى الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى معاوية ليكتب له ، فقال : إنه يأكل ، ثم بعث إليه ، فقال : إنه يأكل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا أشبع الله بطنه " (3)0
...
__________
(1) الآية 10 من سورة الحديد 0
(2) دفاع عن السنة ص65 بتصرف ، وينظر تطهير الجنان واللسان لابن حجر الهيتمى ص7،وما بعدها
(3) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب البر والصلة، باب من لعنه النبى - صلى الله عليه وسلم - أو سبه … إلخ 8/399 رقم 3604، وأخرجه أبو داود الطيالسى فى مسنده ص 359 رقم 2746واللفظ له، والبيهقى فى دلائل النبوة 6/243 0(15/6)
يقول الأستاذ محب الدين الخطيب(1) - رحمه الله - : " قد يستغل بعض الفرق من أعداء الإسلام(2)0 هذا الحديث ليتخذوا منه مطعناً فى معاوية - رضي الله عنه - وليس فيه ما يساعدهم على ذلك ، كيف وفيه أنه كان كاتب النبى - صلى الله عليه وسلم -؟! .
فالظاهر أن هذا الدعاء منه - صلى الله عليه وسلم - غير مقصود ، بل هو مما جرت به عادة العرب فى وصل كلامها بلا نية كقوله - صلى الله عليه وسلم - : ماله تربت يداه (3) , وثكلتك أمك يا معاذ (4) . ونحو ذلك .
__________
(1) هو : محب الدين الخطيب بن أبى الفتح محمد بن عبد القادر بن صالح الخطيب ، من كبار الكتاب الإسلاميين، ولد فى دمشق وتعلم بها ، أصدر مجليته (الزهراء) و (الفتح) ، وكان من أوائل مؤسسى جمعية الشبان المسلمين، وتولى تحرير مجلة الأزهر الشريف ، وانشأ المطبعة السلفية ومكتبتها ، من مؤلفاته : تاريخ مدينة الزهراء بالأندلس ، وغير ذلك0 مات سنة 1969م0 له ترجمة فى : الأعلام 5/282 0
(2) ينظر : دفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين صالح الوردانى ص 264 0
(3) ينظر الحديث وقصته فى الترمذى فى الشمائل المحمدية ص106 رقم 157، وأبو داود فى سننه كتاب الطهارة ، باب فى ترك الوضوء مما مست النار 1/48 رقم 88 ورجاله كلهم ثقات – فالإسناد صحيح 0
(4) ينظر الحديث وقصته فى ابن أبى الدنيا فى الصمت ص37 رقم 6، والترمذى فى سننه مطولاً كتاب الإيمان، باب ما جاء فى حرمة الصلاة 5/13 رقم 2616 وقال : حسن صحيح، والنسائى فى سننه الكبرى كتاب التفسير، باب قوله تعالى : "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" 6/428 رقم 11394، وابن ماجة، فى سننه كتاب الفتن، باب كف اللسان فى الفتنة 2/486 رقم 3973، وأحمد فى المسند 5/231، 237، والحاكم فى المستدرك 4/319 رقم 7774 وقال : على شرط الشيخين، ووافقه الذهبى0(15/7)
ويمكن أن يكون ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - بباعث البشرية التى أفصح عنها هو نفسه - صلى الله عليه وسلم - فى أحاديث كثيرة متواترة : منها حديث عائشة – رضى الله عنها – مرفوعاً : "… أَوَ مَاَ عَلِمْتِ مَا شَرَطْتُ عَلَيْهِ رَبِىِّ ؟ قُلْتُ : اللَّهُمَّ "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَىُّ المُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ ، فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاَةً وَأَجْرا ً" (1)0
ولم تعرف عن معاوية - رضي الله عنه - دخلة فى إيمانه , ولا ريبة فى إخلاصه لإسلامه , ولا فى إمارته 0
يقول القاضى أبو بكر بن العربى(2)
__________
(1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب البر والصلة، باب من لعنة النبى - صلى الله عليه وسلم - أو سبه أو دعا عليه 8/396 رقم 2600، وينظر : شبهات أعداء السنة حول هذا الحديث والرد عليها فى كتاب"رد شبهات حول عصمة النبى - صلى الله عليه وسلم - فى ضوء القرآن الكريم و السنة النبوية " للمؤلف الفصل السابع من الباب الرابع .دار اليقين بالمنصورة , ودار القبلتين بالسعودية, الطبعة الأولى1424 هـ-2003 م .
(2) هو : محمد بن عبد الله بن محمد المعافرى الأشبيلى المالكى , بلغ رتبة الإجتهاد فى علوم الدين ,
وهو ختام علماء الأندلس , وآخر أئمتها وحفاظها. من مصنفاته : أحكام القرآن , والمحصول فى
أصول الفقه , وغير ذلك . توفى سنة 543هـ له ترجمة فى : طبقات المفسرين للداودى 2/167
رقم 511 , وشجرة النور الزكية ص136 رقم 408 , والديباج المذهب ص 376 رقم 509 .(15/8)
: مبيناً ما اجتمع فى معاوية من خصال الخير إجمالاً قال : "معاوية اجتمعت فيه خصال : وهى أن عمر جمع له الشامات كلها وأفرده بها، لما رأى من حسن سيرته، وقيامه بحماية البيضة وسد الثغور، وإصلاح الجند ، والظهور على العدو، وسياسة الخلق0 وقد شهد له فى صحيح الحديث بالصحبة والفقه ، فيما رواه البخارى فى صحيحه بسنده عن ابن أبى مليكه قال : "أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس، فقال : دعه؛ فإنه صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 0
وفى رواية أخرى قيل لابن عباس : هل لك فى أمير المؤمنين معاوية ؛ فإنه ما أوتر إلا بواحدة ، قال : إنه فقيه (1) .
... يقول ابن العربى : "وشهد بخلافته فى حديث أم حرام – رضى الله عنها (2)
__________
(1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر معاوية - رضي الله عنه - 7/130 رقمى 3764، 3765، وينظر : كتاب مروان بن الحكم إلى معاوية بن أبى سفيان يستفتيه فى مجنون قتل رجلاً0 أخرجه مالك فى الموطأ كتاب العقول ، باب ما جاء فى دية العمد إذا قبلت وجناية المجنون 2/648 رقم 3 ، وينظر : أسد الغابة 5/202 رقم 4984 0
(2) هى : أم حرام بنت ملحان بن خالد بن حرام بن جندب بن النجار، الأنصارية الخزرجية، النجارية، زوج عبادة بن الصامت ، وأخت أم سليم ، وخالة أنس بن مالك ، ولا يصح لها اسم، وتلقب بالغميصاء ، والغمص والرمص، نقص يكون بالعين ، وكان للنبى - صلى الله عليه وسلم - عليها وعلى أختها، من البسط والإدلال مالا يعرف لغيرهما، حتى قيل: إن ثمة محرمية من رضاع وغيره، دعا لها النبى - صلى الله عليه وسلم - بالشهادة ، ماتت فى خلافة سيدنا عثمان رضى الله عنه. لها ترجمة فى : أسد الغابة 7/304 رقم 7411، والرياض المستطابة ص327، 328، والإستيعاب 4/1931 رقم 4137 .(15/9)
– فيما رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نام عندها القيلولة ثم استيقظ وهو يضحك ؛ لأنه رأى ناساً من أمته غزاة فى سبيل الله يركبون ثبج البحر – أى وسطه ومعظمه – ملوكاً على الأسرة0 ثم وضع رأسه فنام واستيقظ وقد رأى مثل الرؤيا الأولى فقالت له أم حرام : أدع الله أن يجعلنى منهم، فقال، أنت من الأولين"، فركبت أم حرام البحر فى زمن معاوية فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر0 فهلكت"(1)0
قال الحافظ ابن كثير : يعنى بالأول جيش معاوية حين غزا قبرص ففتحها سنة 27 أيام عثمان بن عفان ، بقيادة معاوية ، عقب إنشائه الأسطول الإسلامى الأول فى التاريخ، وكانت معهم أم حرام فى صحبة زوجها عبادة بن الصامت0 ومعهم من الصحابة أبو الدرداء وأبو ذر وغيرهم 0 وماتت أم حرام فى سبيل الله , وقبرها بقبرص إلى اليوم 0
__________
(1) أخرجه البخارى (بشرح البارى) كتاب الجهاد السير، باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء 6/13 رقم 2788، 2789، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإمارة، باب فضل الغزو فى البحر 7/65 رقم 1912 0(15/10)
قال ابن كثير : ثم كان أمير الجيش الثانى يزيد بن معاوية فى غزوة القسطنطينية0 قال : وهذا من أعظم دلائل النبوة(1) فى الشهادة لسيدنا معاوية ، وابنه يزيد بالفضل ، والمغفرة والجنة كما جاء فى حديث أم حرام مرفوعاً : " أول جيش من أمتى يركبون البحر قد أوجبوا (2)0 وأول جيش من أمتى يغزون مدينة قيصر مغفور لهم0 فقلت : أنا فيهم يا رسول الله ؟ قال : لا " (3)0
...
يقول الإمام ابن تيمية : "لم يكن من ملوك المسلمين ملك خيراً من معاوية ، ولا كان الناس فى زمان ملك من الملوك خيراً منهم فى زمن معاوية ، إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده ، وإذا نسبت إلى أيام أبى بكر وعمر ظهر التفاضل 0
...
وقد روى أبو بكر بن الأثرم - ورواه ابن بطه من طريقه عن قتادة قال : "لو أصبحتم فى مثل عمل معاوية لقال أكثركم : هذا المهدى "0
وروى ابن بطه بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش عن مجاهد قال : لو أدركتم معاوية لقلتم هذا المهدى 0
وروى الأثرم عن أبى هريرة المكتب قال : كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبدالعزيز وعدله ، فقال الأعمش ، فكيف لو أدركتم معاوية ؟ قالوا فى حلمه ؟ قال : لا والله ، بل فى عدله0
وعن أبى إسحاق السبيعى أنه ذكر معاوية فقال : لو أدركتموه أو أدركتم أيامه لقلتم : كان المهدى 0
__________
(1) البداية والنهاية 8/229، وينظر : النهاية فى الفتن والملاخم 1/17، وفتح البارى 6/23، 120 أرقام 2799، 2800، 2924 0
(2) "قد أوجبوا" قال ابن حجر : أى فعلوا فعلاً وجبت لهم به الجنة، قال المهلب وفى الحديث : منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر، ومنقبه لولده يزيد لأنه أول من غزا مدينة قيصر0 ينظر : فتح البارى 6/120 –121 رقم 2924 0
(3) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل فى قتال الروم 6/120 رقم 2924 0(15/11)
وهذه الشهادة من هؤلاء الأئمة الأعلام لأمير المؤمنين معاوية صدى استجابة المولى - عز وجل - لدعاء سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , لهذا الخليفة الصالح يوم قال - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم اجعله هادياً ، مهدياً ، واهد به " (1)0
وقبل أن أنهى الكلام على شهادات الصحابة ، والتابعين ، وآراء العلماء ، فى معاوية ، أنقل رأياً طريفاً للمؤرخ العلامة ابن خلدون فى اعتبار معاوية من الخلفاء الراشدين قال : "إن دولة معاوية وأخباره كان ينبغى أن تلحق بدول الخلفاء الراشدين وأخيارهم فهو تاليهم فى الفضل والعدالة والصحبة (2) 0
__________
(1) أخرجه الترمذى فى سننه كتاب المناقب، باب مناقب لمعاوية بن أبى سفيان- رضي الله عنه -5/645رقم 3842 من حديث عبد الرحمن بن عميرة - رضي الله عنه -، وقال الترمذى : هذا حديث حسن غريب0 وينظر : منهاج السنة 3/185، والبداية والنهاية 8/124 - 125 0
(2) تاريخ ابن خلدون 2/458 0(15/12)
ويقول أيضاً فى مقدمته : مدافعاً عن إيثاره ابنه يزيد بالعهد، دون من سواه قال : " إنما هو مراعاة المصلحة فى اجتماع واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بنى أمية … وهم عصابة قريش(1) وأهل الملة أجمع ، وأهل الغلب منهم ، فآثره بذلك دون غيره … حرصاً على الإتفاق ، واجتماع الأهواء الذى شأنه أهم عند الشارع ، ولا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه ، دليل على انتفاء الريب فيه ، فليسوا ممن يأخذهم فى الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة فى قبول الحق فإنهم كلهم أجل من ذلك وعدالتهم مانعة منه " (2)0
...
__________
(1) ينظر : دفاعه عن حديث (الأئمة من قريش) ورده لما اعترض به عليه من آيات قرآنية، وأحاديث نبوية، فى المقدمة ص 214، وينظر : تأويل مختلف الحديث ص 115 0
(2) المقدمة 228، 233 وينظر:دفاعه عما وجه إليه من اعتراض على اخذه العهد لابنه يزيد ص240 وراجع : للاستزادة : العواصم من القواصم للقاضى أبو بكر بن العربى، والصواعق المحرقة وتطهير الجنان واللسان كلاهما لابن حجر الهيتمى 0(15/13)
" نذكر جميع هذه الشهادات ، وقبلها الأحاديث النبوية فى فضل معاوية(1)، مع اعترافنا - يشهد الله تعالى - بفضل على بن أبى طالب - رضي الله عنه -، وأنه أفضل منه والحق غالبه معه ، وكل كان مجتهدا ً(2)0 وقد جاء فى الحديث الصحيح : "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب؛ فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم اخطأ؛ فله أجر"(3)0
وقد أوردت هذه الأمثلة القليلة التى لا يسع المقام لأكثر منها ؛ ليعلم الناس أن الصورة الحقيقية لمعاوية - رضي الله عنه - تخالف الصورة الكاذبة التى يصورها الزنادقة من الرافضة ومن تابعهم من أعداء الإسلام ، والسنة المطهرة ، تلك الصورة التى تنكر ما جاء فى السنة المطهرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعن الصحابة ، والتابعين ، من الشهادة له بالصحبة ، والفقه، والملك العادل ، وحسن السيرة , حتى شهد له من أدركه كمجاهد والأعمش بأنه المهدى 0
...
__________
(1) لا يشك أحد فى أنه وضع فى فضائل معاوية وكذا الخلفاء الراشدون أحاديث كثيرة، ولكن أحصاها الأئمة ، وبينوا الموضوع منها ، من الصحيح، وقد عرض الحافظ ابن كثير لما ورد فى فضائل معاوية - رضي الله عنه - وميز الصحيح من الموضوع ، ينظر : البداية والنهاية 8/120 – 147، وينظر : مجمع الزوائد 9/356 , ويراجع : الكتب المؤلفة فى الموضوعات , باب المناقب 0
(2) ينظر : مقدمة ابن خلدون ص 227، ومختصر التحفة الإثنى عشرية 305 - 324، والعواصم من القواصم ص 172 وما بعدها، ومنهاج السنة لابن تيمية ص 205، والبداية والنهاية 8/129 0
(3) أخرجه البخارى(بشرح فتح البارى)كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة،باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو اخطأ 13/330 رقم 7352، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ 6/254رقم1716 من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - .(15/14)
فهل من كان هذا حاله يكون له دخل أو حتى رضا بالوضع فى السنة المطهرة , سواء فى فضائله ، وفضائل الشام , أو فى وضع ما يثبت ملكه ، أو غير ذلك مما يزعمه أعداء الإسلام من الرافضة ومن شايعهم ؟! نعم إذا لم تستح فاصنع ما شئت ....
وأخيراً : " إنما الإسلام كدار لها باب ، فباب الإسلام الصحابة ، فمن آذى الصحابة ؛ إنما أراد الإسلام ، كمن نقر الباب - أى نقبه - إنما يريد دخول الدار، قال : فمن أراد معاوية فإنما أراد الصحابة " (1)0
والله تبارك وتعالى
أعلى وأعلم
المبحث السابع
شبهات حول راوية السنة الأول (أبو هريرة - رضي الله عنه -)
والرد عليها
لهج أعداء الإسلام ، وأعداء السنة المطهرة ، قديماً وحديثاً ، وشغفوا بالطعن فى أبى هريرة وتشكيك الناس فى إسلامه ، وفى صدقه وروايته ، وما إلى ذلك أرادوا ! ؛ وإنما أرادوا أن يصلوا إلى التشكيك فى راوية السنة الأول ، وأحفظ من رواها فى دهره ، فأبو هريرة - رضي الله عنه - على رأس السبعة المكثرين من الرواية الذين عناهم من أنشد :
من الحديث عن المختار خير مضر
صديقة ، وابن عباس، كذا ابن عمر
***
***
سبع من الصحب فوق الألف قد نقلوا
أبو هريرة ، سعد، جابر، أنس
فأبو هريرة هو أكثرهم حديثاً فقد روى (5374) حديثاً، ثم عبد الله بن عمر روى (2630) حديثاً، ثم أنس بن مالك روى (2286) حديثاً، ثم عائشة أم المؤمنين روت (2210) حديثاً، ثم ابن عباس روى (1660) حديثاً، ثم جابر بن عبد الله روى (1540) حديثاً، ثم أبو سعيد الخدرى (سعد بن مالك) روى (1170) حديثاً(2)0
__________
(1) إجابة الإمام النسائى لما سئل عن سيدنا معاوية - رضي الله عنه - . ينظر : تهذيب الكمال للحافظ للمزى 1/339 ترجمة الإمام النسائى0
(2) ينظر:تدريب الراوى2/216-218، وفتح المغيث للسخاوى3/97، وشذرات الذهب1/63 0(15/15)
وما اتهم به أبو هريرة - رضي الله عنه - ، من أكاذيب وافتراءات من قبل أرباب الأهواء قديماً وحديثاً، سندهم فيه إما روايات مكذوبة أو ضعيفة ، وإما روايات صحيحة لم يفهموها على وجهها ، بل تأولوها تأويلاً باطلاً يتفق وأهواءهم 0
وقد تصدى للرد على تلك الطعون رهط من علماء الإسلام0 على رأسهم أبى هريرة نفسه ، وصدق على دفاعه - على ما سيأتى - كبار الصحابة ، والتابعين ، فمن بعدهم من أئمة المسلمين، منهم الحاكم فى المستدرك ، وابن عساكر فى تاريخه ، وابن كثير فى البداية والنهاية، وابن قتيبة فى تأويل مختلف الحديث ، وعبد المنعم صالح العلى فى كتابه دفاع عن أبى هريرة ، والدكتور محمد السماحى فى كتابيه "أبو هريرة فى الميزان"، والمنهج الحديث فى علوم الحديث ، والدكتور السباعى فى كتابه "السنة ومكانتها فى التشريع ، والدكتور عجاج الخطيب فى كتابيه السنة قبل التدوين ، وأبو هريرة راوية الإسلام ، والشيخ عبد الرحمن
المعلمى فى كتابه (الأنوار الكاشفة) ، والدكتور أبو زهو فى الحديث والمحدثون ، والدكتور أبو شهبة فى دفاع عن السنة ، والدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف فى كتابه "المختصر فى علم رجال الأثر" وفى مقدمة كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمى وغيرهم 0(15/16)
وأكتفى هنا بترجمة للصحابى الجليل لنتعرف بها على مكانته فى الإسلام ، وبراءته مما نسب إليه من أكاذيب0 وذلك بعد أن نتعرف على أصناف الطاعنين فيه ، والذين ذكرهم الإمام ابن خزيمة (1) بقوله : "إنما يتكلم فى أبى هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معانى الأخبار0
1- إما معطل جهمى يسمع أخباره التى يرونها خلاف مذهبهم الذى هو كفر، فيشتمون أبا هريرة، ويرمونه بما الله تعالى قد نزهه عنه ، تمويهاً على الرعاء ، والسفل أن أخباره لا تثبت بها الحجة 0
2- وإما خارجى يرى السيف على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يرى طاعة خليفة ولا إمام ، إذا سمع أخبار أبى هريرة - رضي الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - خلاف مذهبهم الذى هو ضلال لم يجد حيلة فى دفع أخباره بحجة وبرهان ، كان مفزعة الوقيعة فى أبى هريرة 0
3- أو قدرى اعتزل الإسلام وأهله ، وكفر أهل الإسلام الذين يتبعون الأقدار الماضية التى قدرها الله تعالى ، وقضاها قبل كسب العباد لها ، إذا نظر إلى أخبار أبى هريرة التى قد رواها عن النبى - صلى الله عليه وسلم - فى إثبات القدر لم يجد حجة يؤيد صحة مقالته التى هى كفر وشرك ، كانت حجته عند نفسه أن أخبار أبى هريرة ، لا يجوز الاحتجاج بها 0
__________
(1) ابن خزيمة هو : الحافظ الكبير، أبو بكر، محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة النيسابورى، انتهت إليه الإمامة، والحفظ فى عصره بخرسان، قال فيه ابن حبان : ما رأيت على وجه الأرض من يحسن صناعة السنن، ويحفظ ألفاظها الصحاح وزيادتها حتى كأن السنن نصب عينيه إلا ابن خزيمة قط0ومصنفاته:تزيد على مائة وأربعين كتاباً ، منها صحيحة فى السنن، مات سنة 311هـ0 له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 2/720 رقم 734، والبداية والنهاية 11/149، وطبقات الشافعية للسبكى2/109 0(15/17)
4- أو جاهل يتعاطى الفقه ، ويطلبه من غير مظانة ، إذا سمع أخبار أبى هريرة فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبه ، وأخباره تقليداً بلا حجة ولا برهان ، تكلم فى أبى هريرة ، ودفع أخباره التى تخالف مذهبه , ويحتج بأخباره على مخالفته إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه ، وقد أنكر بعض هذه الفرق على أبى هريرة أخباراً لم يفهموا معناها " (1) 0
قلت : والله - عز وجل - إن من يتكلم فى أبى هريرة فى عصرنا لا يخرج فى عقيدته ، ومذهبه عما ذكرهم الإمام ابن خزيمة - رحمه الله تعالى -0
أبو هريرة - رضي الله عنه -
إسلامه وصحبته :
قدم أبو هريرة مهاجراً من اليمن إلى المدينة ليالى فتح خيبر فى المحرم سنة سبع من الهجرة ، وكان قد أسلم على يد الطفيل بن عمرو(2) فى اليمن ، وشهد هذه الغزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولازمه إلى آخر حياته يخدمه ، ويتلقى العلم عنه - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) مستدرك الحاكم 3/587 رقم 6176 .
(2) الطفيل بن عمرو : صحابى جليل له ترجمة فى : الإصابة 2/225 رقم 4254، وتاريخ الصحابة ص145 رقم 705، والإستيعاب 2/757 رقم 1274، وأسد الغابة 3/77 رقم 2613 0(15/18)
ويتحدث هو عن ذلك لما سأله مروان بن الحكم قائلاً له : " إن الناس قد قالوا إنك أكثرت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث ، وإنما قدمت قبل وفاة النبى - صلى الله عليه وسلم - بيسير، فقال أبو هريرة : نعم ! قدمت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر سنة سبع ، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين سنة سنوات ، وأقمت معه حتى توفى، أدور معه فى بيوت نسائه وأخدمه ، وأنا والله يومئذ مقل (أى فقير)، وأصلى خلفه ، وأحج، وأغزو معه ، فكنت والله أعلم الناس بحديثه ، قد والله سبقنى قوم بصحبته والهجرة إليه من قريش والأنصار ، وكانوا يعرفون لزومى له فيسألونى عن حديثه ، منهم عمر، وعثمان، وعلى ، وطلحة والزبير ، فلا والله ما يخفى على كل حديث كان بالمدينة 0
قال : فوالله ما زال مروان يقصر عن أبى هريرة ، ويتقيه بعد ذلك ، ويخافه، ويخاف جوابه(1) .
وفيما سبق رد على دعوى الرافضة ومن قال بقولهم : " إن أبا هريرة لم يصاحب النبى - صلى الله عليه وسلم - إلا سنة وتسعة أشهر(2)، فالمعروف أن أبا هريرة أسلم عام خيبر، وخيبر كانت فى جمادى الأولى سنة سبع(3)0 وبين خيبر ووفاة النبى - صلى الله عليه وسلم - أربع سنوات ، إلا شهرين تقريباً فإن الوفاة كانت فى ربيع الأول سنة 11هـ (4) 0
خلقه وتقواه :
__________
(1) البداية والنهاية 8/111، 112، وانظر : الاستيعاب لابن عبد البر 4/1771 رقم 3208 0
(2) ينظر : شبهات حول الشيعة لعباس الموسوى ص 141، وشيخ المضيرة ص 135، وأضواء على السنة ص 200 كلاهما لمحمود أبو ريه، والسلطة فى الإسلام لعبد الجواد ياسين ص 241، والشيعة هم أهل السنة للدكتور محمد التيجانى السماوى ص220 0
(3) ينظر : طبقات ابن سعد 2/81 0
(4) ينظر : سير أعلام النبلاء 2/589 - 590 0(15/19)
كان - رضي الله عنه -، صادق اللهجة ، خفيف الروح محبباً إلى الصحابة ، وكان - رضي الله عنه - تقياً ورعاً كثير التعبد ، شديد الخشية لله تعالى، وكان يقول : "وأيم الله لولا آية فى كتاب الله ما حدثتكم بشئ أبداً ، ثم يتلو قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } (1)0
وكان صواماً قواماً يتناوب قيام الليل ، هو وزوجته ، وخادمه ، فيما رواه عنه أبو عثمان النهدى(2) - رضي الله عنه - قال : "تضيفت أبا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته ، وخادمه يتعقبون الليل أثلاثاً : يصلى هذا ، ثم يوقظ الآخر فيصلى ، ثم يوقظ الثالث " (3)0
وقد أرسله النبى - صلى الله عليه وسلم - مع العلاء بن الحضرمى(4) إلى البحرين لينشر الإسلام ، ويفقه المسلمين فى الدين(5) 0
كما استعمله الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على البحرين فترة ثم عزله ، وبعد ذلك دعاه عمر ليوليه فلم يقبل أبو هريرة وقال : "أخشى أن أقول بغير علم ، وأقضى بغير حلم ، وأن يضرب ظهرى , وينزع مالى ، ويشتم عرضى " (6)0
__________
(1) الآية 159 من سورة البقرة0
(2) أبو عثمان النهدى هو : عبد الرحمن بن مل، مخضرم، ثقة ثبت عابد، مات سنة 95هـ0 له ترجمة فى : تقريب التهذيب 1/592 رقم 4031، وتذكرة الحفاظ 1/65 رقم 56، وشذرات الذهب 1/118، وطبقات ابن سعد 7/61 0
(3) ينظر : البداية والنهاية 8/113، وتذكرة الحافظ 1/36 0
(4) العلاء بن الحضرمى : صحابى جليل له ترجمة فى : أسد الغابة 4/71 رقم3745، ، ومشاهير علماء الأمصار ص75 رقم 400، والإصابة 2/497 رقم 5642 0
(5) البداية والنهاية 8/116، وينظر : زاد المعاد 3/692، 693 0
(6) البداية والنهاية 8/114، 115 0(15/20)
يقول الإمام الجوينى : "وهذا مما يتمسك به فى أبى هريرة - رضي الله عنه - فعمر مع تنزهه عن المداراة والمداجاة والمداهنة ، اعتمده وولاه فى زمانه أعمالاً جسيمة ، وخطوباً عظيمة ، وكان يتولى زماناً على الكوفة وكان يبلغه روايته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلو لم يكن من أهل الرواية ، لما كان يقرره عمر - رضي الله عنه - مع العلم بإكثاره (1)0
...
ولم يشترك أبو هريرة فى الفتن التى حدثت بعد استشهاد الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بل اعتزلها0 ولم يفارق الحجاز منذ استعمله عمر على البحرين ثم عزله0 ولم يزل يسكن المدينة ، وبها كانت وفاته 0
... وفى هذا رد على الرافضة ومن قال بقولهم 0 من اشتراك أبى هريرة فى الفتنة بين على ومعاوية- رضى الله عنهما - :
" فكان يأكل مع معاوية فإذا حضرت الصلاة صلى خلف على- رضي الله عنه - ، فإذا قيل له فى ذلك قال: مضيرة(2)معاوية أدسم ،والصلاة خلف علىّ أفضل"(3) .
...
فهذه القصة التى بنى عليها الرافضى محمود أبو رية تسمية كتابه "شيخ المضيرة أبو هريرة" هذه القصة لا يصدقها عاقل ، والأحداث التاريخية تكذبها 0
يقول الدكتور محمد أبو شهبة : "كيف يصح هذا فى العقول ، وعلىّ كان بالعراق ، ومعاوية كان بالشام ، وأبو هريرة كان بالحجاز، إذ الثابت أنه بعد أن تولى إمارة البحرين فى عهد عمر - رضي الله عنه - لم يفارق الحجاز(4)0
__________
(1) البرهان فى أصول الفقه 1/240 0
(2) شيخ المضيرة لمحمود أبو رية ص 61 وينظر له أيضاً : أضواء على السنة ص 197-199، وشبهات حول الشيعة لعباس الموسوى ص 144 0
(3) المضيرة : مريقة تطبخ بلبن وأشياء، وهى عند العرب أن تطبخ اللحم باللبن البحت الصريح الذى قد حذى اللسان حتى ينضج اللحم0 لسان العرب 5/178 0
(4) دفاع عن السنة ص 99 0(15/21)
وقال الإمام ابن عبد البر : استعمله عمر على البحرين ثم عزله ، ثم أراده على العمل، فأبى عليه ، ولم يزل يسكن المدينة وبها كانت وفاته (1)0
وبهذا يتبين لنا كذب ادعاءاتهم ، ويظهر لنا مدى حقدهم ، اللهم إلا إذا كانت الشيعة ترى أن أبا هريرة أعطى بساط سيدنا سليمان عليه السلام أو كانت الأرض تطوى له طياً !!! (2)0
... وعودة إلى خلقه وتقواه - رضي الله عنه - : فقد اشتهر - رضي الله عنه - بالتواضع، والمرح ، فكان يداعب الأطفال ، ويمازح الناس ويلاطفهم ، ومن ذلك أنه كان يمر فى السوق ، يحمل الحزمة من الحطب على ظهره- وهو يومئذ أمير مروان على المدينة فيقول: أوسعوا الطريق للأمير(3)0
فمعاوية - رضي الله عنه - استعمله فى عهده على المدينة ثم عزله وولى عليها مروان ، ثم استخلفه مروان عليها حين توجه إلى الحج " (4)0
قوة ذاكرته وروايته :
لقد لازم أبو هريرة رسول الله منذ قدم عليه مهاجراً، ينهل من عمله، ويتلقى عنه أحاديثه ويحفظها، واجتهد فى ذلك حتى صار أحفظ أصحابه، وأكثرهم رواية للحديث، فقد روى (5374) خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثاً نبوياً - كما فى مسند بقى ابن مخلد- اتفق الشيخان البخارى ومسلم على (325) ثلاثمائة وخمسة وعشرين حديثاً منها،وانفرد البخارى بثلاثة وتسعين،ومسلم بمائة وتسعة وثمانين(5)،وقيل غير ذلك0
... وهذه الروايات التى زادت على خمسة آلاف هى بالمكرر0
__________
(1) الإستيعاب 4/1771 0
(2) دفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شهبة ص 99، وينظر : الشيعة والصحابة للدكتور عمر الفرماوى ص 97، 98 0
(3) ينظر : ما قاله الدكتور السباعى دفاعاً ضد من طعن فى مزاح أبى هريرة - رضي الله عنه - فى السنة ومكانتها فى التشريع ص 337-341. 0
(4) البداية والنهاية 8/116، 117 0
(5) تدريب الراوى 2/216، 217، وانظر : سير أعلام النبلاء 2/632 0(15/22)
وذكر الدكتور الأعظمى فى كتابه : أبو هريرة فى ضوء مروياته(1) أن أحاديثه فى المسند والكتب الستة هى 1336 حديثاً فقط ، وذلك بعد حذف الأسانيد المكررة0 وهذا القدر يستطيع طالب عادى أن يحفظه فى أقل من عام، فما بالك بمن كان حفظه من معجزات النبوة " (2)0
ويقول الدكتور أبو شهبة : "وأحب ألا يعزب عن بالنا أن هذه الخمسة آلاف والثلاثمائة والأربعة والسبعون حديثاً، الكثير منها لا يبلغ السطرين أو الثلاثة ، ولو جمعتها كلها لما زادت عن جزء فأى غرابة فى كثرة مروياته مع حداثة صحبته ، مع أن السنين الأربع ليست بالزمن القصير فى عمر الصحبة(3)، ولا سيما ما توافر له دون غيره من الصحابة من أمور كانت سبباً فى تفوقه فى الرواية وكثرة مروياته منها :
أسباب كثرة مروياته :
أولاً : شدة ملازمته للنبى - صلى الله عليه وسلم - منذ قدم مهاجراً إليه سنة سبع من الهجرة يدور معه فى بيوت نسائه يخدمه، ويصلى خلفه، ويحج، ويغزو معه كما حدث عن نفسه، ومما أعانه على التفرغ لذلك أنه كان فقيراً، ولم تكن له زوجه، ولا أولاد حينئذ - ونحو ذلك مما يشغل، مع شدة حرصه على تلقى الحديث عن النبى - صلى الله عليه وسلم -، وشهد له النبى - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحرص .
__________
(1) أبو هريرة فى ضوء مروياته ص 76، نقلاً عن (مع الشيعة الإثنى عشرية فى الأصول والفروع) للدكتور على السالوس 3/77 0
(2) مع الشيعة الإثنى عشرية فى الأصول والفروع 3/77 0
(3) دفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شهبة ص 103، 104 0(15/23)
ومن الآثار الدالة على ذلك : ما جاء فى الصحيح عنه - رضي الله عنه - قال : "يقولون : إن أبا هريرة قد أكثر والله الموعد0 ويقولون : ما بال المهاجرين والأنصار لا يتحدثون مثل أحاديثه؟ وسأخبركم عن ذلك : إن إخوانى من الأنصار كان يشغلهم عمل أراضيهم0 وإن إخوانى من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق0 وكنت ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملئ بطنى فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً : "أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثى هذا، ثم يجمعه إلى صدره، فإنه لن ينس شيئاً سمعه ، فبسطت بردة على حتى فرغ من حديثه، ثم جمعتها إلى صدرى، فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئاً حدثنى به0 ولولا آيتان أنزلهما الله فى كتابه ما حدثت شيئاً أبداً : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ(159)إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } (1)0
__________
(1) الآيتان 159، 160 من سورة البقرة، والحديث أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب فضائل الصحابة، باب من أبى هريرة 8/290، 292 رقم 2492و البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب العلم، باب حفظ العلم 1/258 رقم 118.(15/24)
ثانياً : دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له بالحفظ وعدم النسيان، ومما يدل على ذلك الرواية السابقة، وما رواه الحاكم فى المستدرك عن زيد بن ثابت، أن رجلاً جاء إليه فسأله عن شئ فقال له زيد : عليك بأبى هريرة، فإنه بينما أنا وأبو هريرة فى المسجد وفلان فى المسجد ذات يوم ندعوا الله تعالى، ونذكر ربنا خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جلس إلينا قال : فجلس وسكتنا0 فقال عودوا للذى كنتم فيه، قال زيد فدعوت أنا وصاحبى قبل أبى هريرة ، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤمن على دعائنا قال:ثم دعا أبو هريرة فقال : اللهم إنى أسألك مثل الذى سألك صاحباى هذان وأسألك علماً لا ينسى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: آمين"فقلنا يا رسول الله ! ونحن نسأل الله علماً لا ينسى ؛ فقال:"سبقكما بها الدوسى"(1)0
ثالثاً : إن أبا هريرة تميز بقوة ذاكرته وحفظه وحسن ضبطه، خاصة بعد أن دعا له الرسول بالحفظ وعدم النسيان - كما سبق - فكان حافظاً متقناً ضابطاً لما يرويه0
__________
(1) أخرجه النسائى فى سننه الكبرى كتاب العلم، باب مسألة علم لا ينسى 3/440 رقم 5870، والحاكم فى المستدرك كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر أبى هريرة الدوسى- رضي الله عنه -3/582 رقم6158 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبى فى التلخيص بقوله فيه حماد = =ابن شعيب ضعيف، وكذا قال فى سير أعلام النبلاء 2/600، وفى موضع آخر من السير 2/616 ذكر الخبر بإسناد آخر فيه الفضل بن العلاء بدلاً من حماد، ثم قال : تفرد به الفضل ابن العلاء وهو صدوق، وقال : ابن حجر فى الإصابة 4/208 سند النسائى جيد0 وانظر:تهذيب التهذيب 12/266(15/25)
... ويدل على ذلك قصة امتحان مروان له فيما رواه الحاكم عن أبى الزُّعَيْزِعَة(1) كاتب مروان بن الحكم ، أن مروان بن الحكم دعا أبا هريرة فأقعدنى خلف السرير، وجعل يسأله وجعلت أكتب حتى إذا كان عند رأس الحول ، دعا به فأقعده وراء الحجاب فجعل يسأله عن ذلك، فما زاد ولا نقص، ولا قدم ولا آخر"(2) وقد نقل هذه القصة الذهبى فى سير أعلام النبلاء، ثم عقب بقوله : "قلت هكذا فليكن الحفظ"(3)0
... وهذه القصة نقلها أيضاً ابن حجر فى الإصابة(4)، وابن كثير فى البداية(5)، وهى تدل على قوة حفظه وإتقانه، كما شهد له بذلك الصحابة، والتابعون فمن بعدهم من أئمة المسلمين إلى يومنا هذا على ما سيأتى بعد قليل0
... وكان - رضي الله عنه - يراجع ما يسمعه من النبى - صلى الله عليه وسلم - تأكيداً لحفظه ، فقد روى عنه أنه قال : "جزأت الليل ثلاثة أجزاء : ثلثاً أصلى،وثلثاً أنام، وثلثاً أذكر فيه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(6)0
رابعاً : أدرك أبو هريرة كبار الصحابة، وروى عنهم كثيراً من الأحاديث فتكامل علمه بها واتسع أُفُقُهُ فيها0
__________
(1) ابن الزعيزعة : ذكره الدولابى فى الكنى فقال : "أبو زعيرة كاتب مروان" ص 183، ثم ذكره باسم أبى الزعيزعة، وذكر له خبراً عن مروان . ينظر الكنى ص 184، روى عن مكحول، وعمرو بن عبيد الأنصارى، والنضر بن محرز0 قال أبو حاتم : مجهول، وقال الذهبى : أبو الزعيزعة عن مكحول لا يكاد يعرف0 عداده فى الشاميين . ينظر : الجرح والتعديل 9/375 رقم 1734، وميزان الاعتدال 4/525 رقم 10200، ولسان الميزان 7/655 رقم 9985 0
(2) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر أبى هريرة 3/583 رقم 6164، وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى 0
(3) سير أعلام النبلاء 2/598 0
(4) الإصابة 4/205 0
(5) البداية والنهاية 8/106 0
(6) المصدر السابق 8/113 0(15/26)
خامساً : امتداد عمره - رضي الله عنه - بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حيث عاش بعده نحو سبعة وأربعين عاماً، واحتياج الناس إليه فكان يحدثهم ويبث بينهم ما يحفظه من أحاديث، وأعانه على ذلك : ابتعاده عن الفتن وغيرها من المشاغل ووجوده فى المدينة، والناس يفدون إليها، وكانت له حلقة فى مسجد الرسول يحدث الناس فيها بالأحاديث النبوية، فساعد ذلك على انتشار مروياته وتداولها، وكثرة أتباعه وتلامذته، حتى بلغوا نحو ثمانمائة من الصحابة والتابعين كلهم يجلونه ويثقون به ويثنون عليه على ما سيأتى بعد قليل0
... قال الإمام البخارى - رحمه الله - : "روى عنه نحواً من ثمانمائة رجل أو أكثر من أهل العلم، من الصحابة والتابعين وغيره"(1)0 ومن أشهر من روى عنه من الصحابة : زيد ابن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وعائشة، وأبو أيوب الأنصارى0 ومن أشهر من روى عنه من التابعين : مروان بن الحكم، والحسن البصرى، وسعيد بن المسيب، وعامر الشعبى، وعروة ابن الزبير، وهمام بن منبه - وقد كتب عنه الصحيفة المشهورة(2)0 وغيرهم كثير0
شهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم من أهل العلم بقوة حفظه
وإتقانه وكثرة سماعه وحرصه على الحديث
__________
(1) ينظر : تهذيب التهذيب 12/265، والبداية والنهاية 8/107، وتذكرة الحفاظ 1/33 0
(2) الإصابة 7/201، 202،وتهذيب التهذيب 12/263 - 265، وتذكرة الحفاظ 1/32، 33، وسير أعلام النبلاء 2/418 - 436، وينظر : من كتب عنه فى دراسات فى الحديث النبوى للدكتور الأعظمى 1/97 - 99 0(15/27)
1- روى عنه - رضي الله عنه - أنه قال ذات يوم : يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألنى عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتى يوم القيامة من قال : لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه(1)0
2- وعن ابن عمر - رضى الله عنهما - أنه مر بأبى هريرة - رضي الله عنه - ، وهو يحدث عن النبى - صلى الله عليه وسلم -: من تبع جنازة فله قيراط ، فإن شهد دفنها فله قيراطان أعظم من أحد0 فقال ابن عمر : يا أبا هريرة انظر ما تحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام إليه أبو هريرة حتى انطلق إلى عائشة -رضى الله عنها- فقال لها : يا أم المؤمنين أنشدك الله أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، وإن شهد دفنها فله قيراطان؟ فقالت : اللهم نعم، فقال أبو هريرة : إنه لم يكن يشغلنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرس ولا صفق بالأسواق، إنما كنت أطلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمة يعلمنيها أو أكلة يطعمنيها0
... فقال ابن عمر : يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلمنا بحديثه(2)0
وكان ابن عمر يترحم عليه فى جنازته ويقول : "كان يحفظ على المسلمين حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(3)0
...
__________
(1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب العلم،باب الحرص على الحديث1/233 رقم 99 0
(2) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر أبى هريرة 3/584 رقم 6167 وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبى0
(3) طبقات ابن سعد 4/340، وسير أعلام النبلاء 2/604، والبداية والنهاية 8/111، وفتح البارى 1/258 رقم 118 0(15/28)
وعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال : قال رجل لابن عمر : إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ابن عمر : أعيذك بالله أن تكون فى شك مما يجئ به، ولكنه اجترأ وجبنا "(1) ومعنى "اجترأ" هنا أى على سؤال النبى - صلى الله عليه وسلم - والتعلم منه ، فى حين كانوا يهابون سؤال النبى - صلى الله عليه وسلم -0
يدل على ذلك ما رواه الحاكم عن أبى بن كعب - رضي الله عنه - قال : كان أبو هريرة جريئاً على النبى - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن أشياء لا نسأله عنها (2)0
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : "نهينا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شئ فكان يعجبنا أن يجئ الرجل من أهل البادية العاقل0 فيسأله ونحن نسمع … الحديث"(3)0
__________
(1) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر أبى هريرة الدوسى - رضي الله عنه - 3/83 رقم 6165، وسكت عنه الحاكم والذهبى0
(2) أخرجه الحاكم فى الأماكن السابقة 3/584 رقم 6166، وسكت عنه الحاكم، والذهبى0
(3) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب السؤال عن أركان الإسلام 1/201 رقم 12(15/29)
3- وعن مالك بن أبى عامر قال : كنت عند طلحة بن عبيد الله فدخل عليه رجل فقال : يا أبا محمد والله ما ندرى هذا اليمانى أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم أنتم، تقول على رسول - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل - يعنى أبا هريرة - فقال طلحة : والله ما نشك أنه سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قوماً أغنياء لنا بيوت وأهلون كنا نأتى نبى الله - صلى الله عليه وسلم - طرفى النهارى ثم نرجع، وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - مسكيناً لا مال له، ولا أهل ولا ولد , وإنما كانت يده مع يد النبى - صلى الله عليه وسلم - وكان يدور معه حيثما دار، ولا نشك أنه قد علم ما لم نعلم، وسمع ما لم نسمع، ولم يتهمه أحد منا، أنه تقول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل"(1)0
وهذا الخبر ذكره ابن حجر فى الإصابة وزاد فى قوله طلحة : "قد سمعنا كما سمع، ولكنه حفظ ونسينا " (2)0
4- وقال ابن خزيمة : وقد روى عن أبى هريرة أبو أيوب الأنصارى مع جلالة قدره، ونزول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنده، ولما يقبل له : تحدث عن أبى هريرة وأنت صاحب منزلة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع ، وإنى إن أحدث عنه أحب إلىَّ ؛ من أن أحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعنى ما لم أسمعه منه(3)0
__________
(1) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر أبى هريرة 3/585 رقم 6172، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الذهبى على شرط مسلم0
(2) الإصابة 4/209 0
(3) ينظر : المستدرك للحاكم كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر أبى هريرة 3/586 رقم 6175، وينظر : البداية والنهاية 8/109 0(15/30)
5- وعن محمد بن عمرو بن حزم الأنصارى(1) أنه قعد فى مجلس فيه أبو هريرة، وفيه مشيخة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل أبو هريرة يحدثهم عن النبى - صلى الله عليه وسلم - بالحديث، فلا يعرفه بعضهم ، ثم يتراجعون فيه ، فيعرفه بعضهم ثم يحدثهم بالحديث، فلا يعرفه بعضهم ، ثم يعرفه0 حتى فعل ذلك مراراً0 قال : فعرفت يومئذ أنه أحفظ الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2)0
6- ولم يكن أبو هريرة - رضي الله عنه - من أهل الحفظ فقط وإنما كان من أهل الفقه وشهد له بذلك الصحابى الجليل ابن عباس - رضي الله عنه -0
يقول الحافظ السخاوى : "ولا عبرة برد بعض الحنفية روايات سيدنا أبى هريرة - رضي الله عنه -، وتعليلهم بأنه ليس فقيهاً، فقد عملوا برأيه فى الغسل ثلاثاً من ولوغ الكلب وغيره، وولاه عمر - رضي الله عنه - الولايات الجسيمة 0
وقال ابن عباس له كما فى مسند الشافعى(3)، وقد سئل عن مسألة " افته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة ، فأفتى ، ووافقه على فتياه " (4)0
__________
(1) هو : محمد بن عمرو بن حزم الأنصارى، أبو مالك المدنى، له رؤية وليس له سماع إلا من الصحابة قتل يوم الحرة سنة 63هـ0 له ترجمة فى : تقريب التهذيب 2/118 رقم 6202، والكاشف 2/206 رقم 5081، وطبقات ابن سعد 5/71 0
(2) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر أبى هريرة 3/585 رقم 6171، وسكت عنه هو والذهبى0وينظر: سير أعلام النبلاء 2/617، وفتح البارى 1/259 رقم 118 .
(3) ينظر : مسند الشافعى ص 450 رقم 1292، وأخرجه أيضاً الإمام مالك فى الموطأ كتاب الطلاق،باب طلاق البكر 2/447 رقم39،والبيهقى فى السنن كتاب الخلع والطلاق، باب ما جاء فى إمضاء الطلاق الثلاث وإن كن مجموعات 7/335 0
(4) فتح المغيث للسخاوى 3/96 0(15/31)
7- وعن أبى صالح السمان(1) قال : " كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن بأفضلهم " (2)0
وفى هذا رد على من يحاول الربط بين المنزلة فى الدين , وكثرة الرواية ، فالربط بينهما ليس من التحقيق العلمى فى شئ (3) 0
...
وقال الإمام الشافعى : "أبو هريرة أحفظ من روى الحديث فى دهره"(4)0
وقال الإمام الذهبى : "أبو هريرة إليه المنتهى فى حفظ ما سمعه من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأدائه بحروفه"(5)0
وقال أيضاً : "وكان من أوعية العلم ،ومن كبار أئمة الفتوى مع الجلالة ،والعبادة،والتواضع(6).
10- وقال شمس الأئمة السرخسى : "إن أبا هريرة ممن لا يشك أحد فى عدالته ، وطول صحبته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -0
إن كل هذه النقول وغيرها كثير تبين لنا مدى افتراء الرافضة ، والمستشرقين، وضعفاء الإيمان الذين اتهموا أبا هريرة بالكذب ، والخيانة ، فى رواية الحديث ، بسبب كثرة أحاديثه مع قلة صحبته0
وأعتقد أنه ليس هناك ما يدعوا إلى اتهام أبى هريرة بتلك الإفتراءات، وقد تهيأت له الأسباب السابقة التى أعانته على هذا التفوق فى الرواية ، وشهد له بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبار الصحابة، ومن بعدهم من أئمة المسلمين السابق ذكرهم(7)0
__________
(1) أبو صالح السمان هو : ذكوان أبو صالح السمان الزيات، المدنى، روى عن سعد بن أبى وقاص، وأبى هريرة، وأبى الدرداء، وغيرهم، وعنه منصور، والأعمش، وسهيل ابنه، متفق على توثيقه، مات سنة 101هـ0 له ترجمة فى : تقريب التهذيب 1/287 رقم 1846، والكاشف 1/386 رقم 1489، والثقات للعجلى 150 رقم 404 0
(2) البداية والنهاية 8/109، 110 0
(3) دفاع عن السنة للدكتور أبو شهبة ص 105 0
(4) الرسالة للشافعى ص 281 رقم 772، والبداية والنهاية 8/110 0
(5) سير أعلام النبلاء 2/619 0
(6) تذكرة الحفاظ 1/33 0
(7) أصول السرخسى 1/340 0(15/32)
... وأى غرابة فى حفظ أبى هريرة أحاديث لم تبلغ خمسة آلاف وخمسمائة ومعلوم أن العرب قد اشتهروا وامتازوا بقوة حفظهم، ووجد فى الصحابة والتابعين من كان آية عجباً فى قوة الذاكرة ، وسرعة الحفظ ؛ فالإمام أحمد بن حنبل ، والبخارى ، وأبو زرعة ، وأشباههم ، كان كل واحد منهم يحفظ عشرات الألوف من الأحاديث بأسانيدها " (1) 0
... يقول الدكتور السباعى _ رحمه الله تعالى _ دفاعاً عن أبى هريرة : "إن صحابياً يظل يحدث الناس سبعاً وأربعين سنة بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على مسمع من كبار الصحابة، وأقرب الناس إليه من زوجته وأصحابه، ثم لا يلقى إلا تجلة وإعظاماً، يرجع إليه فى معرفة الأحاديث، ويهرع إليه التابعون من كل جانب … ويبلغ الآخذون عنه ثمانمائة من أهل العلم … وكلهم يجمعون على جلالته والثقة به … وتمر هذه القرون وكلها شهادات صدق فى أحاديثه وأخباره … ويأتى اليوم من يزعم أن المسلمين جميعاً … لم يعرفوه على حقيقته، وأنه فى الواقع كان يكذب ويفترى، إن موقفاً كهذا يقفه بعض الناس من مثل هذا الصحابى العظيم، لجدير بأن يجلب لأهله والقائلين به الاستخفاف، والازدراء بعلومهم، وعقولهم جميعاً (2)0
...
__________
(1) السنة ومناهج المحدثين للدكتور رجب صقر ص 66 بتصرف0
(2) السنة ومكانتها فى التشريع ص 319 بتصرف يسير0(15/33)
إن حب هذا الصحابى الجليل لعلامة على الإيمان وبغضه لعلامة على النفاق وهذا تصديقاً لدعوة النبى - صلى الله عليه وسلم - لما سأله أبو هريرة بأن يدعو الله له بأن يحببه هو وأمه إلى عباده المؤمنين0 ويحببهم إليهما ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم حبب عبيدك هذا - يعنى أبا هريرة - وأمه إلى عبادك المؤمنين ، وحبب إليهم المؤمنين " يقول أبو هريرة - رضي الله عنه - ، فما خلق الله مؤمناً يسمع بى ولا يرانى إلا أحبنى(1)0
... يقول الحافظ ابن كثير: "وهذا الحديث من دلائل النبوة ، فإن أبا هريرة محبب إلى جميع الناس، وقد شهر الله ذكره بما قدره أن يكون من روايته من إيراد هذا الخبر عنه على رؤوس الناس فى الجوامع المتعددة فى سائر الأقاليم فى الإنصات يوم الجمعة بين يدى الخطبة، والإمام على المنبر، وهذا من تقدير الله العزيز العليم، ومحبة الناس له - رضي الله عنه -(2)أ0هـ
... يقول الأستاذ الدكتور على أحمد السالوس : " هذا أبو هريرة وعاء العلم، فكيف نجد فى عصرنا من ينسب نفسه للإسلام ويعرض عن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة والتابعين، والأئمة الأعلام الهداة المهديين ، ويأخذ بقول الضالين المضلين ؟! " (3)0
__________
(1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبى هريرة الدوسى - رضي الله عنه - 8/290 رقم 2491 0
(2) البداية والنهاية 8/108 0
(3) قصة الهجوم على السنة للدكتور على السالوس ص 88 0(15/34)
هذا المسلك يفسره العلامة المرحوم الشيخ أحمد شاكر فيقول : " وقد لهج أعداء السنة ، أعداء الإسلام، فى عصرنا، وشغفوا بالطعن فى أبى هريرة، وتشكيك الناس فى صدقه وفى روايته0 وما إلى ذلك أرادوا، وإنما أرادوا أن يصلوا –زعموا- إلى تشكيك الناس فى الإسلام، تبعاً لسادتهم المبشرين، وإن تظاهروا بالقصد إلى الإقتصار على الأخذ بالقرآن، أو الأخذ بما صح من الحديث فى رأيهم، وما صح من الحديث فى رأيهم إلا ما وافق أهواءهم، وما يتبعون من شعائر أوروبا وشرائعها0 ولن يتورع أحدهم عن تأويل القرآن، إلى ما يخرج الكلام عن معنى اللفظ فى اللغة التى نزل بها القرآن، ليوافق تأويلهم هواهم وما إليه يقصدون!!0
...
وما كانوا بأول من حارب الإسلام من هذا الباب، ولهم فى ذلك سلف من أهل الأهواء قديماً0 والإسلام يسير فى طريقه قدماً ، وهم يصيحون ما شاءوا، لا يكاد الإسلام يسمعهم ، بل هو إما يتخطاهم لا يشعر بهم، وإما يدمرهم تدميراً0
ومن عجب أن تجد ما يقول هؤلاء المعاصرون ، يكاد يرجع فى أصوله ومعناه إلى ما قال أولئك الأقدمون ! بفرق واحد فقط : أن أولئك الأقدمين ، زائغين كانوا أم ملحدين ، كانوا علماء مطلعين أكثرهم ممن أضله الله على علم !! أما هؤلاء المعاصرون ، فليس إلا الجهل والجرأة ، وامتضاغ ألفاظ لا يحسنوها، يقلدون فى الكفر، ثم يتعالون على كل من حاول وضعهم على الطريق القويم !! " (1) 0
وبعد
فإن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - هم خير جيل عرفته البشرية ، وهم أبرز وجوه حضارتنا ، وأكثرها إشراقا ً، وأخلدها ذكراً، وأنبلها أخلاقا ً، وهم بشر، ولكنهم فى القمة ديناً , وخلقاً ؛ رغم أنف الحاقدين !0
__________
(1) ينظر : مسند الإمام أحمد بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر 12/84-85 هامش0(15/35)
رضى الله تعالى عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى الحافظ علينا شرائع الدين أبى هريرة - رضي الله عنه - , وجعلنا الله - عز وجل - من محبيه ، وجمعنا معه فى واسع جنته (1) آمين أ0هـ0
والله تبارك وتعالى
أعلى وأعلم
__________
(1) ينظر ترجمته فى : الإصابة 7/425 - 445 رقم 10674، وتذكرة الحفاظ 1/32 رقم 16، وأسد الغابة 6/313 رقم 6326، والإستيعاب 4/1768 رقم 3208، وتجريد أسماء الصحابة 2/209، وتاريخ الصحابة ص 181 رقم 940، ومشاهير علماء الأمصار ص 21 رقم 46، وغير ذلك من المراجع السابقة0(15/36)
المبحث الثامن
حكم الطاعن فى عدالة الصحابة - رضي الله عنهم -
عرفت فيما سبق أن الصحابة- رضي الله عنهم - , هم وسيلتنا وشهودنا على شريعتنا الغراء , فعنهم قبل غيرهم تلقت الأمة كتاب الله - عز وجل - ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - , و هذا يعنى أن الطعن في عدالتهم , وتجريحهم ، يزلزل بناء الإسلام ، ويقوض دعائم الشريعة ، ويشكك فى صحة القرآن ، ويضيع الثقة بسنة سيد الأنام - صلى الله عليه وسلم - ! .
ومن هنا جاءت أقوال أهل السنة والجماعة , صريحة فى بيان حكم من ينتقصهم ,
وأن أمثال هؤلاء لهم خبيئة سوء ، ومتهمين فى دينهم ، وإليك نماذج من أقوالهم :
قال الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - لما سئل عن رجل تنقص معاوية ، وعمرو بن العاص أيقال له رافضى ؟ فقال : " إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء ، ما انتقص أحدٌ أحداً من الصحابة إلا وله داخلة سوء"0 وفى رواية أخرى قال : " إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام " (1)0
ويُسئل الإمام النسائى عن معاوية بن أبى سفيان - رضى الله عنهما - فيقول : " إنما الإسلام كدار لها باب ، فباب الإسلام الصحابة ، فمن آذى الصحابة إنما أراد الإسلام ، كمن نقر الباب - أى نقبه - إنما يريد دخول الدار، قال : فمن أراد معاوية فإنما أراد الصحابة(2)0
__________
(1) البداية والنهاية 8/142 0
(2) تهذيب الكمال للحافظ للمزى 1/339 ترجمة الإمام النسائى0(16/1)
وقال الإمام الحافظ أبى زُرْعة الرازى(1) - رحمه الله تعالى- : " إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاعلم أنه زنديق ، وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندنا حق ، والقرآن حق ، وما جاء به حق ، وإنما أدى إلينا هذا القرآن ، والسنن ، أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،
وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة ، والجرح بهم أولى ، وهم زنادقة " (2)0
...
وعن عبد الله بن مصعب(3) قال : قال المهدى : ما تقول فيمن ينتقص الصحابة ؟ فقلت زنادقة ، لأنهم ما استطاعوا أن يصرحوا بنقص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنقصوا أصحابه ، فكأنهم قالوا : كان يصحب صحابة السوء ) (4)0
...
__________
(1) أبو زُرْعة الرازى هو : عُبَيدُ الله بِنُ عبد الكريم بن يزيد القرشى المخزومى، أحد الأئمة الأعلام، وحفاظ الإسلام، وفضائله أكثر من أن تعد، مات سنة 264هـ0 له ترجمة فى تذكرة الحفاظ 2/557 رقم 579، وطبقات الحفاظ للسيوطى 253 رقم 561، والعبر 1/379 رقم 264، 213 ، والإرشاد للخليلى ص 226، وطبقات المفسرين للداودى 1/375 رقم 321.
(2) رواه الخطيب فى الكفاية ص 97، والحافظ ابن حجر فى الإصابة 1/10 0
(3) هو عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، ولى للرشيد إمرة المدينة، وقال فيه الخطيب: كان محموداً فى ولايته، جميل السيرة مع جلالة قدرة ، ووثقة ابن حبان . مات سنة 184هـ0 له ترجمة فى: تعجيل المنفعة ص271 رقم583، وتاريخ بغداد 10/173 رقم5313، والثقات لابن حبان 7/56، وميزان الاعتدال 2/505 رقم 4609، والتاريخ الكبير للبخارى 5/211 رقم 678 0
(4) أخرجه الخطيب البغدادى فى تاريخه 10/175، ونقله الحافظ ابن حجر فى تعجيل المنفعة ، ترجمة عبد الله بن مصعب ص 271 رقم 583 0(16/2)
وصدق شمس الأئمة السرخسى : " الشريعة إنما بلغتنا بنقلهم فمن طعن فيهم فهو ملحد , منابذ للإسلام , دواؤه السيف إن لم يتب " (1)0
وتكفير ساب الصحابة اختلف فيه الفقهاء فيما يلى :
1- ذهب إلى تكفيرهم فريق من أهل العلم من الحنفية , والمالكية , والشافعية ، والحنابلة ، والظاهرية . (2) .
2- وذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن ساب الصحابة لا يكفر بسبهم ، بل يفسق ويضلل ، ولا يعاقب بالقتل ، بل يكتفى بتأديبه ، وتعزيره تعزيراً شديداً حتى يرجع ؛ وإن لم يرجع تكرر عليه العقوبة حتى يظهر التوبة . (3) .
3- قال الملا على القارئ : " وإذا كان لكل فريق أدلته على ما ذهب إليه ؛ فالقول الذى تطمئن إليه النفس ؛ ويرتاح إليه القلب , أن من أبغضهم جميعاً أو أكثرهم أو سبهم سباً يقدح فى دينهم ، وعدالتهم ، فإنه يكفر بهذا ، لأن هذا يؤدى إلى إبطال الشريعة بكاملها لأنهم هم الناقلون لها ، أما من سب أحداً من الصحابة فهو فاسق ، ومبتدع بالإجماع ، إلا إذا اعتقد إنه مباح أو يترتب عليه ثواب كما عليه بعض الشيعة أو اعتقد كفر الصحابة فإنه كافر بالإجماع " (4) .
__________
(1) أصول السرخسى 2/132 0
(2) ينظر : الشرح والإبانة لابن بطة ص162، والنهى عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم
والعقاب ص 23، وفتاوى السبكى 2/580، والصارم المسلول على شاتم الرسول ص 570،
والإحكام فى أصول الأحكام لابن حزم 1/149، وأصول السرخسى 2/132 وما بعدها0
(3) عزاه القاضى عياض إلى بعض أهل العلم . ينظر: الشفا 2/54 وما بعدها0
(4) ينظر : مجموعة رسائل ابن عابدين كتاب تنبيه الولاة والحكام 1/367 0(16/3)
4- وقال القاضى عياض - رحمه الله تعالى - : "وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة ، وتكفير جميع الصحابة ... , وجميع الأمة بعد النبى - صلى الله عليه وسلم - إذ لم تقدم علياً ، وكفرت علياً إذ لم يتقدم ، ويطلب حقه فى التقديم ، فهؤلاء قد كفروا … لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها " (1) .
قلت : وبالقول الثالث , والرابع , أقول . أهـ .
وأخيراً : دع عنك – أخى المسلم – أباطيل هؤلاء المبتدعة الذين يجادلون فى عدالة الصحابة
جميعاً , ويتحدثون عنهم بأسلوب غير لائق ، وينصبون أنفسهم حكماً فيما شجر بينهم
من خلاف ، ويقبلون رواية هذا ، ويرفضون رواية ذلك ، وهم لا يملكون سبباً واحداً
من أسباب ذلك كله 0 واعلم أن أمثال هؤلاء لهم خبيئة سوء ، ومتهمين فى دينهم ،
على ما سبق من أقوال الأئمة - رضي الله عنهم - أ . هـ
والله تبارك وتعالى
أعلى وأعلم
***
**
*
__________
(1) ينظر : الشفاء 2/286 .(16/4)
الخاتمة
مما تقدم فى مباحث ومطالب هذا الكتاب , يتضح للقارئ الفطن عددٌ من النتائج التى يمكن إجمال أهمها فيما يلى :
1- أن التعريف الصحيح المعتمد للصحابى هو : من لقى النبى - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ، ومات على الإسلام ، ولو تخللت ذلك ردة على الأصح 0
2- أن المنافقين الذين كشف الله ورسوله – سترهم ، ووقف المسلمون على حقيقة أمرهم ، والمرتدين الذين ارتدوا فى حياة النبى - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته ، ولم يتوبوا ويرجعوا إلى الإسلام ، وماتوا
على ردتهم ، هم بمعزل من شرف الصحبة ، وبالتالى بمعزل عن أن يكونوا من المرادين بقول
جمهور العلماء والأئمة إنهم عدول ، وفى تعريف العلماء للصحبة ما ينفى عنها ؛ هؤلاء وأولئك .
3- أن معنى عدالة الصحابة : أنهم لا يتعمدون الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لما اتصفوا به من
قوة الإيمان ، والتزام التقوى ، والمروءة ، وسمو الأخلاق والترفع عن سفاسف الأمور0 وليس معنى عدالتهم أنهم معصومون من المعاصى أو من السهو أو الغلط فإن ذلك لم يقل به أحد من أهل العلم 0
4- أن فى القرآن الكريم ؛ والسنة المطهرة ، من الشهادات العالية , ما يرفع مقام الصحابة - رضي الله عنهم - إلى الذروة ، وما لا يترك لطاعن فيهم دليلاً , ولا شبهة دليل ؛ والعقل المجرد من الهوى والتعصب ، يحيل على الله - عز وجل - فى حكمته ورحمته ، أن يختار لحمل شريعته الختامية ، أمة مغموزة ، أو طائفة ملموزة ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً 0(17/1)
5- إن الصحابة - رضي الله عنهم - هم حجر الزاوية فى بناء الأمة المسلمة ، عنهم قبل غيرهم تلقت الأمة كتاب الله - عز وجل -، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - , فالغض من شأنهم والتحقير لهم ، بل النظر إليهم بالعين المجردة من الإعتبار، لا يتفق والمركز السامى الذي تبوءوه ، ولا يوائم المهمة لكبرى التى انتدبوا لها ونهضوا بها0 كما أن الطعن فيهم والتجريح لهم ، يقوض دعائم الشريعة ، ويشكك فى صحة القرآن ، ويضيع الثقة بسنة سيد الأنام - صلى الله عليه وسلم - ! ؛ فضلاَ عن أنه تجريح وقدح فيمن بوأهم تلك المكانة ، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس !!! .
6- إن الآيات القرآنية , التى جاء فيها عتاب للصحابة أو لبعضهم لارتكابهم بعض المعاصى لخير دليل شاهد على ما سبق ذكره ، من أن المراد بعدالتهم جميعاً عصمتهم من الكذب فى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وليس معنى عدالتهم عصمتهم من المعاصى أو من السهو أو الغلط ، فهذا لم يقل به أحد من أهل العلم , وحتى مع ارتكاب بعضهم لبعض الذنوب ، فقد امتن الله - عز وجل -عليهم بالتوبة والمغفرة لذنوبهم ؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
7- أجمعت الأمة - إلا من شذ ممن لا يعتد بخلافهم ؛ على تعديل الله - عز وجل - , ورسوله - صلى الله عليه وسلم - للصحابة أجمع ، والنقول فى هذا الإجماع كثيرة عن علماء الأمة ، من المحدثين ، والفقهاء، والأصوليين0
8- إن جميع الأمة مجمعة على تعديل من لم يلابس الفتن من الصحابة - رضي الله عنهم - , وأما من لابس الفتن منهم , وذلك حين مقتل عثمان - رضي الله عنه - , فأجمع من يعتد به أيضاً فى الإجماع على تعديلهم إحساناً للظن بهم ، ولما أدى إليه اجتهاد كل فريق من اعتقاده ؛ أن الواجب ما صار إليه ، وأنه أوفق للدين وأصلح للمسلمين 0(17/2)
9- إن شبهات أعداء السنة المطهرة – ممن هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا – حول صحابة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ قائمة على إعلان الكفر صراحة بالشطر الثانى من الوحى الإلهى؛ وهم فيما يزعمون من شبهات , يتسترون بعباءة القرآن الكريم ، وفاق تسترهم كل حد ، إذ تجرأوا على كتاب ربهم - عز وجل - ، ففسروه وأولوه ، بما يأتى فى النهاية صراحة بردهم على الله تعالى كلامه وتطاولهم عليه - عز وجل - من حيث يشعرون أو لا يشعرون 0
وما استشهدوا به من أحاديث للطعن فى الصحابة - رضي الله عنهم - إما أحاديث مكذوبة ، وضعيفة ، وإما صحيحة مع ضعف دلالتها على ما احتجوا به .
10- أياً كانت بداية الوضع فى الحديث " زمن النبوة المباركة " أو " زمن الفتنة " فلا يمكن أن يكون الوضع فى الحديث وقع من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العدول الثقات المعروفين بالخيرية ، والتقى ، والبر والصلاح ، والذين يدور عليهم نقل الحديث 0 وعلى فرض صحة الروايات التى تشير إلى أن بداية الوضع زمن النبوة المباركة ؛ فليس فيها ما يشكك فى صدق الصحابة ، ولا ما يطعن فى عدالتهم ، إذ كان معهم منافقون ، وهم الذين كانت تصدر منهم أعمال النفاق ، فلا يبعد أن يكون الرجل الوارد فى تلك الروايات واحد من المنافقين ، وبذلك قال أهل العلم ممن ذهب إلي أن بداية الوضع زمن النبوة المباركة .
11- أن الصورة الحقيقية لسيدنا معاوية - رضي الله عنه -, تخالف الصورة الكاذبة التى يصورها الزنادقة من الرافضة ومن تابعهم من أعداء الإسلام ، والسنة المطهرة ، تلك الصورة التى تنكر ما جاء فى السنة المطهرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعن الصحابة ، والتابعين ، من الشهادة له بالصحبة ، والفقه ، والملك العادل ، وحسن السيرة , حتى شهد له من أدركه كمجاهد والأعمش بأنه المهدى 0(17/3)
12- ما اتهم به أبو هريرة - رضي الله عنه - ، من أكاذيب وافتراءات من قبل أرباب الأهواء قديماً وحديثاً، سندهم فيه إما روايات مكذوبة أو ضعيفة ، وإما روايات صحيحة لم يفهموها على وجهها ، بل تأولوها تأويلاً باطلاً يتفق وأهواءهم .
13- ليس هناك ما يدعوا إلى اتهام أبى هريرة بتلك الإفتراءات ، وقد تهيأت له الأسباب التى أعانته على التفوق فى الرواية ، وشهد له بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وكبار الصحابة ، ومن بعدهم من أئمة المسلمين .
14- أقطع بتكفير كل قائل قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة ، وتكفير جميع الصحابة , وجميع الأمة بعد النبى - صلى الله عليه وسلم - إذ لم تُقدم علياً ، وكفرت علياً إذ لم يَتقدم ، ويطلب حقه فى التقديم ، فهؤلاء قد كفروا … لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها , أما غيرهم ممن لا يصرحون بتضليل الأمة ، وتكفير جميع الصحابة , وجميع الأمة بعد النبى - صلى الله عليه وسلم - , فإن أقوال أهل السنة والجماعة , صريحة فى بيان أن أمثال هؤلاء لهم خبيئة سوء ، ومتهمين فى دينهم أيضاَ .
وبعد
فإن صحابة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - , هم خير جيل عرفته البشرية ، وهم أبرز وجوه حضارتنا ، وأكثرها إشراقا ً، وأخلدها ذكراً ، وأنبلها أخلاقا ً، وهم بشر، ولكنه فى القمة ديناً , وخلقاً , رغم أنف الحاقدين !0
رضى الله تعالى عن صحابة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى الحافظين علينا شرائع الدين ,
وجعلنا الله - عز وجل - من محبيهم ، وجمعنا معهم فى واسع جنته . آمين أ0هـ0
وآخر دعوانا
أن الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد , خاتم النبيين
وإمام المرسلين ، المبعوث رحمة للعالمين , وعلى آله ، وصحبه
والمتمسكين بسنته أجمعين 0(17/4)
أهم المصادر والمراجع
أهمل في الترتيب الألف واللام، وأب، وابن، في أول اسم الكتاب، وكذلك كلمة (كتاب)0
1- القرآن الكريم0
( أ )
2- الإبانة عن أصول الديانة، لأبى الحسن الأشعرى ، تحقيق الدكتورة فوقية حسين محمود ، دار الأنصار بالقاهرة، الطبعة الأولى 1397هـ-1977م .
3- الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول ، " للقاضي البيضاوي" لعلى السبكى وولده عبد الوهاب، حققه جماعة من العلماء، دار الكتب العلمية بيروت، 1404هـ – 1984م0
4- أحاديث أم المؤمنين عائشة، أدوار من حياتها، لمرتضى العسكرى، دار الزهراء، بيروت، الطبعة الثانية 1413هـ-1992م0
5- الأحكام في أصول الأحكام ، لابن حزم الظاهري، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ – 1985م0
6- الأحكام في أصول الأحكام ، لعلى بن محمد الآمدى ، مطبعة البابى الحلبي بمصر، 1387هـ – 1967م0
7- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر، تحقيق على محمد البجاوى، دار الجيل
بيروت، الطبعة الأولى 1412هـ – 1992م 0
8- أسد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير، تحقيق على معوض، وعادل أحمد، دار الكتب
العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1415هـ – 1994م0
9- الإسلام على مفترق الطرق، لمحمد أسد (ليبولد فايس) ترجمة الدكتور عمر فروخ، دار العلم بيروت، 1987م0
10- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، لمحمد بن على الشوكانى، تحقيق الدكتور شعبان إسماعيل، دار الكتبى بمصر، بدون تاريخ0
12- الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلانى، دار السعادة بمصر 1328هـ0
13- أصل الشيعة وأصولها، لمحمد الحسين آل كاشف الغطاء، مؤسسة الأعلمى للمطبوعات، بيروت، الطبعة الرابعة 1413هـ-1993م0
14- أصول الحديث ، للدكتور عبد الهادى الفضلى، دار المؤرخ العربى، بيروت، الطبعة الأولى 1414هـ-1993م0(18/1)
15- أصول السرخسى، لمحمد بن أحمد السرخسى، تحقيق أبو الوفا الأفغانى، حيدر أباد الدكن
بالهند، تصوير الكتب العلمية بيروت 1414هـ – 1993م0
16- أصول الشريعة، لمحمد سعيد العشماوى، طبعة القاهرة 1979م
17- أصول علم الحديث بين المنهج والمصطلح، للدكتور أبو لبابة حسين، دار الغرب
الإسلامى، بيروت، الطبعة الأولى، بدون تاريخ0
18- أصول الفقه المحمدى، لجوزيف شاخت، ترجمة الأستاذ الصديق بشير بن نصر، نشر مجلة كلية الدعوة، بليبيا، العدد 11 لسنة 1994م0
19- الأصلان العظيمان – الكتاب والسنة – رؤية جديدة، لجمال البنا، مطبعة حسان بمصر0
20- أضواء على السنة المحمدية، لمحمود أبو ريه، دار المعارف بمصر، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ0
21- الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية، وتطهير البخارى منها، للسيد صالح أبو بكر، مطبعة محرم الصناعية 1974م0
22- إعادة تقييم الحديث، لقاسم أحمد، مكتبة مدبولى الصغير بمصر، الطبعة الأولى 1997م0
23- إعادة قراءة القرآن، لجاك بيرك، ترجمة وائل غالى شكرى، تقديم أحمد صبحى منصور، دار النديم للصحافة بمصر، الطبعة الأولى 1996م0
24- الاعتصام ، للشاطبى ، تحقيق محمود طعمة ، دار المعرفة بيروت، الطبعة الأولى 1418هـ – 1997م0
25- الأعلام، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين،
لخير الدين الزركلى، دار العلم، بيروت، الطبعة السادسة 1984م0
26- أعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزية، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد،
مطبعة السعادة بمصر، الطبعة الأولى 1374هـ0
27- الإفصاح فى إمامة على بن أبى طالب، لمحمد بن النعمان العكبرى، دار المنتصر، بيروت، الطبعة الثانية 1409هـ-1989م0
28- إنذار من السماء ، لنيازى عز الدين ، الأهالى للطباعة بيروت ، الطبعة الأولى 1996م0(18/2)
29- أهل السنة شعب الله المختار، لصالح الوردانى، كنوته للطباعة، الطبعة الأولى 1417هـ- 1997 م 0
( ب )
30- البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشى، تحقيق الدكتور عمر سليمان الأشقر وغيره، دار الصفوة بالغردقة، الطبعة الثانية 1413هـ – 1992م0
31- البداية والنهاية في التاريخ، لابن كثير، تحقيق الدكتور أحمد أبو ملحم وغيره، دار الريان
للتراث، الطبعة الأولى 1408هـ – 1988م0
32- البرهان في أصول الفقه، للجوينى، تحقيق صلاح محمد عويضة، دار الكتب العلمية
بيروت، الطبعة الأولى 1418هـ – 1997م0
( ت )
33- تاج العروس في جواهر القاموس، للزبيدى، المطبعة الخيرية بمصر، الطبعة الأولى 1306هـ0
34- تدريب الراوى شرح تقريب النواوى، لعبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى، تحقيق
الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، الطبعة الثانية
1399 هـ- 1979م0
35- تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، للذهبى، تحقيق الدكتور عمر التدمرى، دار
الكتاب العربي بيروت 1990م0
36- تاريخ أسماء الثقات ممن نقل عنهم العلم ، لابن شاهين ، تحقيق الدكتور عبد المعطى أمين
قلعجى ، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1406هـ – 1986م0
37- تاريخ بغداد ، للخطيب البغدادى ، مطبعة السعادة، الطبعة الأولى 1349هـ – 1930م0
38- تاريخ الثقات، للعجلى ، بترتيب الحافظ الهيثمى ، وتضمينات ، الحافظ ابن حجر، تحقيق
الدكتور عبد المعطى قلعجى، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ – 1984م
39- تاريخ الصحابة الذين روى عنهم الأخبار، لابن حبان، تحقيق بوران الضناوى، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ – 1988م0
40- تاريخ الطبرى، لمحمد بن جرير الطبرى، تحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر 1979م0(18/3)
41- تأملات في الحديث عند السنة والشيعة، لزكريا عباس داود، دار النخيل بيروت، الطبعة الأولى، 1416هـ – 1995م0
42- تبصير الأمة بحقيقة السنة، لإسماعيل منصور جودة، خال من مكان الطبع 1416هـ – 1995م0
43- تجريد أسماء الصحابة، للذهبى، دار المعرفة بيروت، بدون تاريخ0
44- تذكرة الحفاظ، للذهبى، تصحيح عبد الرحمن المعلمى اليمانى، حيدر آباد الدكن بالهند،
الطبعة الأولى 1395هـ – 1975م0
45- تطهير الجنان واللسان، لابن حجر الهيتمى، تحقيق الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف،
مكتبة القاهرة ، بمصر ، الطبعة الثانية ، 1385هـ – 1965م0
46- التعليق المغنى على الدارقطنى، للعظيم آبادى، تحقيق السيد عبد الله هاشم يمانى، دار
المحاسن للطباعة بمصر 1386هـ 0
47- تفسير فرات الكوفى، لفرات بن إبراهيم الكوفى، المطبعة الحيدرية، النجف0
48- تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، تحقيق عبد العزيز غنيم وغيره، مطبعة دار الشعب
بمصر بدون تاريخ0
49- تفسير القمى، لعلى بن إبراهيم القمى، مؤسسة دار الكتب للطباعة والنشر، قم، إيران،
الطبعة الثانية 1387هـ-1968م0
50- التفسير الكبير، (المسمى مفاتيح الغيب) للفخر الرازى، دار إحياء التراث العربي بيروت0
51- تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلانى، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية
بيروت، الطبعة الأولى 1413هـ – 1993م0
52- تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعى الكبير، لابن حجر العسقلانى، تحقيق عادل عبد
الموجود، وعلى معوض، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1419هـ – 1998م0
53- تهذيب التهذيب، لابن حجر العسقلانى، حيدر أباد الدكن بالهند 1907م
54- توجيه النظر إلى أصول الأثر ، لطاهر بن صالح الجزائرى ، دار المعرفة ، بيروت ، بدون
تاريخ0(18/4)
55- توضيح الأفكار لمعانى تنقيح الأنظار، لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعانى،
تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، مكتبة الخانجى، الطبعة الأولى 1366هـ0
56- توثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى، أسسه واتجاهاته، للدكتور رفعت فوزىعبدالمطلب، مكتبة الخانجى بالقاهرة ، الطبعة الأولى 1400هـ-1981م0
57- تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير، للدكتور مروان محمد
شاهين، مكتب فوزى الشيمى للطباعى، بطنطا، بدون تاريخ0
( ث )
58- الثقات ، لابن حبان البستى، حيدر أباد الدكن بالهند ، الطبعة الأولى 1404هـ – 1984م0
( ج )
59- جامع بيان العلم وفضله ، لابن عبد البر، المطبعة المنيرية 1978، تصوير دار الكتب العلمية0
60- جامع البيان عن تأويل آى القرآن، لابن جرير الطبرى، مطبعة مصطفى البابى الحلبي بمصر، الطبعة الثالثة 1388هـ0
61- الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبى، تصحيح أحمد عبد العليم، الطبعة الثانية 1952م0
( ح )
62- الحسبة دراسة أصولية تاريخية، لأحمد صبحى منصور، مركز المحروسة للنشر بمصر، الطبعة الأولى 1995م0
63- حصاد العقل، لمحمد سعيد العشماوى، مكتبة مدبولى الصغير 1992م0
( خ )
64- الخطوط العريضة ، لمحب الدين الخطيب ، تحقيق محمد مال الله ، المطبعة الفنية،
بالقاهرة، بدون تاريخ0
65- الخلافة المغتصبة، أزمة تاريخ أم أزمة مؤرخ ، لإدريس الحسينى ، دار الخليج للطباعة والنشر، الطبعة الثانية 1416هـ-1996م0
( د )
66- دراسات محمدية ، لجولدتسيهر، ترجمة الأستاذ الصديق بشير نصر، نشر مجلة كلية
الدعوة الإسلامية، بليبيا، العدد الثامن لسنة 1991م، والعدد العاشر لسنة 1993م0
67- الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة، لابن حجر العسقلانى، حيدر آباد الدكن، الهند،
الطبعة الأولى 1349هـ-1930م، تصوير دار إحياء التراث العربى0(18/5)
68- دفاع عن الحديث والمحدثين وتفنيد شبهات خصومه لجماعة من نوابغ العلماء، تصحيح
زكريا على يوسف، مطبعة الإمام، توزيع مكتبة المتنبى بالقاهرة 1972م0
69- دفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين، لصالح الوردانى، الناشر تريدنكو بيروت
1997م0
70- الدولة والمجتمع ، لمحمد شحرور، مطبعة الأهالى بيروت، الطبعة الرابعة 1997م0
71- الديباج المذهب فى معرفة أعيان علماء المذهب (المالكى)، لإبراهيم بن على، المعروف
بابن فرحون المالكى، تحقيق مأمون محيى الدين الجنان، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة
الأولى 1417هـ-1996م0
72- دين السلطان ، لينازى عز الدين ، دار الأهالى بيروت ، الطبعة الأولى 1997م0
( ر )
73- الربا والفائدة في الإسلام، للعشماوى ، مكتبة مدبولى الصغير بمصر، الطبعة الأولى 1996م0
74- الرياض المستطابة في جملة من روى في الصحيحين من الصحابة، ليحيى العامرى
اليمنى، تصحيح عمر أبو حجلة، مكتبة المعارف بيروت 1983م0
( س )
75- السلطة في الإسلام، لعبد الجواد ياسين، الدار البيضاء، بالمغرب، الطبعة الأولى 1998م0
76- السنة ، لابن أبى عاصم ، تحقيق ناصر الدين الألبانى، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة 1413هـ – 1993م0
77- السنة ودورها في الفقه الجديد، لجمال البنا، دار الفكر بمصر، 1997 0
78- سنن أبى داود، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، دار الكتب العلمية بيروت0
79- سنن ابن ماجة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى، عيسى البابى الحلبي بمصر 1954م0
80- سنن الترمذى ، تحقيق أحمد شاكر، ومحمد فؤاد عبد الباقى وغيرهما، عيسى البابى الحلبي بمصر 1385هـ نشر وتصوير دار الحديث0
81- سنن الدارقطنى، تحقيق السيد عبد الله هاشم يمانى، دار المحاسن بمصر، الطبعة الأولى 1386هـ – 1966م0(18/6)
82- سنن الدارمى، تحقيق فواز أحمد زمرلى، وخالد العلمى، دار الريان بمصر، الطبعة الأولى 1407هـ – 1987م0
83- السنن الكبرى، للبيهقى، دار المعارف العثمانية، الطبعة الأولى 1344هـ – 1925م0
84- السنن الكبرى، للنسائى، تحقيق الدكتور عبد الغفار سليمان البندارى وغيره، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1411هـ – 1991م0
85- سنن النسائى، (المجتبى) تحقيق الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية بيروت، الطبعة الثانية 1406هـ – 1986م0
86- سير أعلام النبلاء، للذهبى، تحقيق شعيب الأرنؤوط وغيره، مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الثامنة، 1412هـ – 1992م0
87- سيرة المصطفى، نظرة جديدة، لهاشم معروف، دار التعارف بيروت 1996م0
88- السيرة النبوية، لابن هشام، تحقيق الدكتور فتحى أنور، ومجدى فتحى، دار الصحابة بطنطا، الطبعة الأولى 1416هـ – 1995م0
( ش )
89- شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، للشيخ محمد محمد مخلوف، دار الفكر0
90- شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد، مكتبة القدسى بمصر، الطبعة الأولى 1371هـ – 1951م0
91- شرح ألفية العراقى المسماة بالتبصرة والتذكرة، لأبى الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقى، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ0
92- شرح السنة ، للبغوى ، تحقيق زهير الشاويش وغيره، المكتب الإسلامي بيروت، الطبعة
الثانية 1403هـ – 1983م0
93- الشريعة ، لأبى بكر محمد بن الحسينى الآجرى، تحقيق محمد حامد الفقى، دار
الكتب العلمية ، بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ-1983م0
94- الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، للقاضي عياض، دار الكتب العلمية بيروت0
95- شيخ المضيرة (أبو هريرة)، لمحمود أبو ريه، مؤسسة الأعلمى بيروت 1413هـ
96- الشيعة هم أهل السنة، للدكتور محمد التيجانى السماوى، شمس المشرق ومؤسسة الفجر،
لندن، الطبعة الأولى 1413هـ- 1993م0
( ص )(18/7)
97- الصارم المسلول على شاتم الرسول، لابن تيمية، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، عالم الكتب بيروت، 1982م 0
98- الصحابة فى نظر الشيعة الإمامية، لأسد حيدر، نشر مطبوعات النجاح بالقاهرة، بدون
تاريخ0
99- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، للجوهرى، تحقيق أحمد العطار، مصر، الطبعة الثانية
1402هـ – 1982م0
100- صحيح البخارى ، مع (فتح البارى) تحقيق محب الدين الخطيب ومحمد فؤاد عبد الباقى،
دار الريان بمصر، الطبعة الأولى 1407هـ – 1986م0
101- صحيح ابن حبان، بترتيب الأمير ابن بلبان، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة
بيروت، الطبعة الثانية 1414هـ – 1993م0
102- صحيح ابن خزيمة ، تحقيق محمد مصطفى الأعظمى ، المكتب الإسلامي بيروت ،
الطبعة الثانية 1412هـ – 1992م0
103- صحيح مسلم ، مع (المنهاج شرح مسلم) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى ، دار الحديث
بمصر، الطبعة الأولى 1415هـ – 1994م0
( ض )
104- الضعفاء والمتروكين، للنسائى، تحقيق كمال يوسف الحوت وغيره، مؤسسة الكتب الثقافية بيروت، الطبعة الثانية 1407هـ – 1987م0
105- الضعفاء والمتروكين، لابن الجوزى ، تحقيق عبد الله القاضى، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1406هـ – 1984م0
106- الضعفاء الكبير، للعقيلى، تحقيق الدكتور عبد المعطى قلعجى، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1404هـ – 1984م0
( ط )
107- طبقات الحفاظ، للسيوطى، دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الأولى 1983م0
108- طبقات الشافعية الكبرى ، للسبكى، تحقيق محمود الطناحى وغيره، مطبعة عيسى الحلبي
بمصر، الطبعة الأولى 1383هـ – 1964م0
109- طبقات الفقهاء الشافعيين ، لابن كثير، تحقيق الدكتور أحمد عمر هاشم ، والدكتور زينهم عزب ، المكتبة الثقافية بمصر 1413هـ – 1993م0(18/8)
110- الطبقات الكبرى، لابن سعد، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1410هـ – 1990م0
111- طبقات المفسرين، للداودى ، دار الكتب العلمية بيروت ، بدون تاريخ 0
112- طبقات المفسرين، للسيوطى ، دار الكتب العلمية بيروت ، بدون تاريخ 0
( ع )
113- العقيدة والشريعة فى الإسلام، تاريخ التطور العقدى والتشريعى فى الدين الإسلامى،
لجولدتسهير، نقله إلى العربية الدكتور على حسن عبد القاهر، ومحمد يوسف موسى،
وعبد العزيز عبد الحق، الناشر : دار الكتب الحديثة بمصر، ومكتبة المثنى ببغداد، الطبعة
الثانية ، بدون تاريخ0
114- علوم الحديث ، لابن عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزورى المعروف بابن
الصلاح ، تحقيق صلاح عويضة ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ،
1416هـ-1995م .
115- العواصم من القواصم فى تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبى - صلى الله عليه وسلم -، لأبى بكر ابن
العربى المالكى، تحقيق محب الدين الخطيب، ومحمود مهدى الإستانبولى، مكتبة السنة
بالقاهرة، الطبعة السادسة 1412هـ0
116- العواصم والقواصم فى الذب عن سنة أبى القاسم ، لمحمد بن إبراهيم الوزير، تحقيق
شعيب الأرنؤوط، دار البشير، عمان، الطبعة الأولى 1405هـ-1985م0
( ف )
117- فتح البارى بشرح صحيح البخارى، لابن حجر العسقلانى، تحقيق محب الدين الخطيب، ومحمد فؤاد عبد الباقى، دار الريان بمصر 1986م0
118- فتح الباقى على ألفية العراقى، لأبى يحيى زكريا بن محمد الأنصارى، تحقيق محمد بن الحسينى العراقى، دار الكتب العلمية، بيروت، بهامش شرح ألفية العراقى المسماه بالتبصرة والتذكرة
119- فتح المغيث بشرح ألفية الحديث ، لأبى الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقى، تحقيق
أحمد محمد شاكر، ومحمود ربيع ، مكتبة السنة ، بالقاهرة، الطبعة الثانية 1408هـ-(18/9)
1988م0
120- فتح المغيث شرح ألفية الحديث ، للعراقى ، شرح السخاوى ، تحقيق صلاح محمد
عويضة , دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1414هـ – 1993م0
121- الفقيه والمتفقه، لأبى بكر أحمد بن على الخطيب البغدادى، تحقيق عادل يوسف
العزازى، دار ابن الجوزى بالرياض، الطبعة الأولى 1417هـ-1997م، توزيع دار التوعية الإسلامية، مصر0
122- الفكر المنهجى عند المحدثين، للدكتور همام عبد الرحيم سعيد، كتاب الأمة، الطبعة
الأولى 1408هـ0
123- فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت ، لعبد العلى محمد بن نظام الأنصارى ، المطبعة الأميرية ببولاق ، 1322هـ مطبوع بهامش المستصفى0
( ق )
124- القاموس المحيط، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادى، المطبعة الأميرية، الطبعة الثالثة 1301هـ، تصوير الهيئة المصرية العامة للكتاب 1397هـ-1977م0
125- قراءة في صحيح البخارى، لأحمد صبحى منصور، مخطوط0
( ك )
126- الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، لمحمد شحرور، شركة المطبوعات بيروت، الطبعة الأولى 1412هـ – 1992م0
127- كشف الأستار عن زوائد البزار، للهيثمى، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمى، مؤسسة الرسالة 1979م0
128- الكفاية فى علم الرواية، لأبى بكر أحمد بن على، الشهير بالخطيب البغدادى، تحقيق
محمد الحافظ التيجانى، وعبد الحليم محمد، وعبد الرحمن حسن، دار ابن تيمية،
بالقاهرة، 1410هـ-1990م0
129- لقد شيعنى الحسين ، الانتقال الصعب فى رحاب المعتقد والمذهب ، لإدريس الحسينى ، دار النخيل العربى، بيروت، الطبعة الرابعة 1416هـ-1996م0
( ل )
130- لسان العرب، لابن منظور، دار صادر بيروت، بدون تاريخ0
131- لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث ، للأستاذ عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الرابعة 1417هـ0(18/10)
132- لماذا القرآن، لعبد الله الخليفة = أحمد صبحى منصور، خال من مكان الطبع وتاريخه0
( م )
133- مجلة روز اليوسف، الأعداد 3559 – 3563 – 3564، مطابع الأهرام بمصر0
134- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمى، دار الكتاب العربي بيروت 1402هـ – 1982م0
135- المحصول فى أصول الفقه، لفخر الدين محمد بن عمر الرازى، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ-1988م0
136- مختار الصحاح، لمحمد بن أبى بكر الرازى، عنى بترتيبه محمود خاطر، دار النهضة
للطباعة0
137- مختصر التحفة الإثنى عشرية ، تأليف شاه عبد العزيز الإمام ولى الله أحمد الدهلوى،
تعريب غلام محمد الأسلمى ، وتهذيب السيد محمود شكرى الألوسى ، تحقيق محب الدين
الخطيب، طبعة الرئاسة العامة للإفتاء والإرشاد بالسعودية 1404هـ0
138- المراسيل ، لأبى داود سليمان بن أشعث السجستانى ، تحقيق كمال يوسف
الحوت ، دار الجنان ، بيروت ، الطبعة الأولى 1408هـ-1988م0
139- مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، لعبد المؤمن البغدادى، تحقيق على البجاوى،
دار المعرفة بيروت، 1373هـ0
140- مروج الذهب ومعادن الجوهر، للمسعودى، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، دار المعرفة بيروت 1368هـ – 1948م0
141- مساحة للحوار من أجل الوفاق ومعرفة الحقيقة ، لأحمد حسين يعقوب، الغدير بيروت،
الطبعة الأولى 1418هـ – 1997م0
142- المستدرك على الصحيحين، للحاكم، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى 1411هـ – 1990م0
143- المستصفى من علم الأصول ، للغزالى ، المطبعة الأميرية بمصر 1322هـ0
144- المسلم العاصى، هل يخرج من النار ليدخل الجنة، لأحمد صبحى منصور، القاهرة 1407هـ – 1987م0
145- مسند أبى داود الطيالسى، لأبى داود ، حيدر أباد الدكن بالهند 1321هـ – 1903م0(18/11)
146- مسند أبى يعلى الموصلى، لأبى يعلى، تحقيق حسين أسد، ودار المأمون 1415هـ – 1990م0
147- مسند الإمام أحمد ، لأحمد بن حنبل ، المطبعة الميمنية بمصر 1313هـ – 1895م0
148- مسند الحميدى ، للحميدى ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمى ، عالم الكتب بيروت0
149- مسند الشافعى،للإمام الشافعى، تحقيق سعيد محمد اللحام وغيره، دار الفكر بيروت 1996م0
150- مسند الشهاب ، للقضاعى، تحقيق حمدى عبد المجيد السلفى، مؤسسة الرسالة بيروت 1405هـ0
151- مشاهير علماء الأمصار، لابن حبان، تحقيق مجدى الشورى، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الثانية 1416هـ – 1995م0
152- مصادر الشريعة الإسلامية مقارنة بالمصادر الدستورية، للمستشار الدكتور على جريشة، مكتبة وهبة بالقاهرة، الطبعة الأولى 1399هـ-1979م0
153- المصباح المنير فى غريب الشرح الكبير للرافعى، لأحمد بن محمد بن على الفيومى، تحقيق الدكتور عبد العظيم الشناوى، دار المعارف، بدون تاريخ0
154- المصنف، لابن أبى شيبة، تصحيح عامر الأعظمى، حيدر أباد الدكن بالهند 1966م0
155- المصنف، لعبد الرزاق، تحقيق حبيب الأعظمى، المجلس العلمى بالهند 1970م0
156- المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، لابن حجر، تحقيق حبيب الأعظمى، دار عباس أحمد الباز0
157- مع الشيعة الإثنى عشرية فى الأصول والفروع، للدكتور على أحمد السالوس، دار التقوى بمصر، دار الثقافة، قطر، الطبعة الأولى 1417هـ-1997م0
158- معالم المدرستين، لمرتضى العسكرى، الدار العالمية بيروت، الطبعة الخامسة 1993م0
159- المعجم الأوسط، للطبرانى، تحقيق طارق عوض وغيره، دار الحرمين بمصر 1415هـ – 1995م0
160- معجم البلدان، لياقوت الحموى، دار إحياء التراث العربي بيروت0
161- المعجم الصغير، للطبرانى، تحقيق محمد سمارة، دار إحياء التراث العربي 1992م0(18/12)
162- المعجم الكبير، للطبرانى، صدر منه 25 جزء، وناقص أجزاء 15، 16، 21، تحقيق حمدى عبد المجيد السلفى، الدار العربية للطباعة 1398هـ0
163- معجم مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهانى، تصحيح إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1418هـ – 1997م0
164- مقاصد الحديث فى القديم والحديث، للدكتور مصطفى أمين إبراهيم التازى، مطبعة دار التأليف بالقاهرة، الطبعة الثالثة، 1971م0
165- مقدمة ابن خلدون ، لعبد الرحمن بن محمد بن خلدون، دار الجيل، بيروت، بدون تاريخ0
166- المكانة العلمية لعبد الرازق بن همام الصنعانى فى الحديث النبوى، لشيخى الجليل فضيلة
الدكتور إسماعيل عبد الخالق الدفتار، مخطوط بكلية أصول الدين ، بالقاهرة ، رقم 2332،
لسنة 1396هـ-1976م0
167- منهاج السنة النبوية فى نقض كلام الشيعة والقدرية ، لأبى العباس أحمد بن تيمية، المطبعة الأميرية ، ببولا ق، الطبعة الأولى1321هـ،تصوير دار الكتب العلمية،بيروت.
168- المنهج الإسلامى فى الجرح والتعديل، للدكتور فاروق حمادة ، مكتبة المعارف ،
المغرب ، الطبعة الأولى 1402هـ-1982م0
169- منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوى ، للدكتور صلاح الدين الأدلبى ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت ، الطبعة الأولى 1403هـ-1983م0
170- منع تدوين الحديث أسباب ونتائج ، لعلى الشهرستانى ، مؤسسة الأعلمى بيروت ، الطبعة
الأولى 1418هـ – 1997م0
171- المنهاج شرح مسلم ، للنووى ، تحقيق عصام الصبابطى وغيره ، دار الحديث بمصر، الطبعة الأولى 1415هـ – 1994م0
172- المواجهة مع رسول الله وآله ، لأحمد حسين يعقوب ، مركز الغدير بيروت، الطبعة
الأولى 1417هـ – 1996م0
173- الموافقات في أصول الشريعة، للشاطبى، تحقيق عبد الله دراز وغيره، دار المعرفة
بيروت، الطبعة الثانية 1416هـ – 1996م0(18/13)
174- موطأ الإمام مالك ، برواية يحيى الليثى ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى، دار الحديث
بمصر 1993م0
( ن )
175- نزهة النظر شرع نخبة الفكر فى مصطلح أهل الأثر، لابن حجر العسقلانى، تحقيق
إسحاق عزوز، مكتبة منارة العلماء، الإسماعيلية، القاهرة، 1409هـ-1989م0
176- النص والاجتهاد، لعبد الحسين شرف الدين الموسوى، مؤسسة الأعلمى للمطبوعات، بيروت، الطبعة الرابعة 1386هـ-1966م0
177- نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية فى الإسلام، لأحمد حسين يعقوب، مطبعة الخيام، عمان، الأردن، الطبعة الأولى، بدون تاريخ0
178- النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، خرج أحاديثه وعلق عليه صلاح عويضة،
دار الكتب العلمية بيروت ، الطبعة الأولى 1418هـ – 1997م0
( هـ )
179- أبو هريرة ، لعبد الحسين شرف الدين الموسوى ، دار الزهراء ، بيروت ، الطبعة
السادسة 1415هـ-1995م0
( و )
180- وركبت السفينة، لمروان خليفات ، مركز الغدير للدراسات بيروت 1418هـ– 1997م.
181- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ، لأحمد بن خلكان ، تحقيق الدكتور إحسان عباس،
دار الثقافة , بيروت0
هذا وقد تركت ذكر بعض المصادر والمراجع، لقلة رجوعى إليها، وهى مبينة عند مواطن النقل منها، أو العزو إليها للاستفادة منها 0
فهرس الموضوعات
الموضوع رقم الصفحة
تقديم 0000000000000000000000000000000000000000000 5 - 8
المبحث الأول
التعريف بالصحابة لغةً واصطلاحاً
9 - 13(18/14)
( الصحابة فى اللغة..................................................... 9
( الصحابة فى الاصطلاح............................................ 10
( السر فى التعميم فى تعريف الصحابى ............................... 12
( طريق معرفة الصحبة........................................ 13
المبحث الثانى
التعريف بالعدالة لغة واصطلاحاً
14 – 16
( العدالة لغةً.................................................................. 14
( العدالة اصطلاحاً .................................................................... 14 ( ليس المقصود من العدل أن يكون بريئاً من كل ذنب ........................ 15
( معنى عدالة الصحابة - رضي الله عنهم -................................................... 15
( ليس معنى عدالتهم أنهم معصومون من المعاصى أو من السهو أو .......... 15
( صفوة القول فى عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - ....................................... 16
المبحث الثالث
أدلة عدالة الصحابة - رضي الله عنهم -
17- 23
أولاً : دلالة القرآن الكريم على عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - ........................ 17(18/15)
( الآيات التى جاء فيها عتاب لهم أو لبعضهم شاهدة بعدالتهم ............ 18
ثانياً : دلالة السنة المطهرة على عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - ........................ 19
الموضوع رقم الصفحة
ثالثاً : دلالة إجماع الأمة على عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - ............................... 22
( السبب فى قبول روايتهم من غير بحث عن أحوالهم ....................... 23
المبحث الرابع
شبهات حول عدالة الصحابة - رضي الله عنهم -
24 – 54
المطلب الأول : شبهاتهم من القرآن الكريم والرد عليها ....................... 25
( استعراض شبهاتهم ................................................... 26
( الجواب عن شبهاتهم ............................................................ 27
أولاً : الجواب عن قصة انفضاض أكثر الصحابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العير
القادمة من الشام .......................................................... 27
ثانياً : الجواب عن نسبة النفاق إلى خيار هذه الأمة بدعوى أنه كان فى المدينة
منافقين ................................................................. 29
ثالثاً : الجواب على ما استدلوا به من فرار بعض الصحابة يوم الزحف فى
غزوتى أحد وحنين ..................................................... 33
المطلب الثانى : شبهاتهم من السنة النبوية والرد عليها ........................ 34(18/16)
( استعراض شبهاتهم ................................................... 34
( الجواب عن شبهاتهم ......................................................... 36
أولاًً : الجواب عن حديث الحوض ، وما جاء فيه من وصف الصحابة بالردة ... 36
( المراد بالأصحاب فى الحديث الذين صاحبوه صحبة الزمان والمكان مع نفاقهم
وهم الذين ارتدوا من الأعراب على عهد الصديق - رضي الله عنه - ..................... 37
( وفى الحديث ما يؤيد المعانى السابقة .......................................... 37
ثانياً : الجواب عن حديث " لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " .. 38
الموضوع رقم الصفحة
( إطلاق الكفر على قتال المؤمن محمول على معانى متعددة ................... 39
(ما جرى بين الصحابة - رضي الله عنهم - من قتال لم يكن عن استحلال له ................ 39
(اتفق أهل السنة على أنه لا تفسق واحدة من الطائفتين ، وإن قالوا فى إحداهما
أنهم كانوا بغاة ............................................................. 41
( التوقف فى تعديل كل نفر من الذين لابسوا الفتن، والإنكفاف عن الرواية عنهم
باطل من دين الأمة ........................................................ 42
ثالثاً : الجواب عما زعمه غلاة الشيعة وأذيالهم من أن بداية الوضع كانت فى زمن
النبى - صلى الله عليه وسلم - ووقعت من صحابته الكرام ...................................... 43
( بداية الوضع فى الحديث وبراءة الصحابة - رضي الله عنهم - منه ................ 44(18/17)
( اختلف العلماء فى بداية ظهور الوضع فى الحديث إلى قولين ................ 44
( نماذج من جراءة الصحابة - رضي الله عنهم - فى حفظ الشريعة .................. 47
( ما يرد من ألفاظ التكذيب على ألسنة بعضهم ، فإنما هو تخطئة بعضهم لبعض
وبيان ما وقع فيه بعضهم من وَهَم الكلام ..................................... 49
( أمثلة على استعمال سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمة " الكذب " بمعنى الخطأ ....... 49
( أمثلة على استعمال الصحابة - رضي الله عنهم - كلمة " الكذب " بمعنى الخطأ ............ 49
(ما استدرك به بعض الصحابة بعضاً فى الرواية لا يعد كذباً ................ 51
( الرد على زعم أعداء السنة المطهرة بأن لفظة " متعمداً " فى حديث
"من كذب علىّ" مختلفة ................................................. 52
( الحكمة فى ذكر كلمة " متعمداَ " فى الحديث ........................... 54
( أئمة الحديث وإن قالوا برفع الإثم عن المخطئ ، والناسى ، والغالط ، فقد جعلوا
ما ألحق بالحديث غلطاً ، أو سهوا ً، أو خطأً ، من قبيل الشبيه بالموضوع فى كونه
كذباً فى نسبته إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ........................................... 54
الموضوع رقم الصفحة
المبحث الخامس
سنة الصحابة - رضي الله عنهم - حجة شرعية
55 - 58(18/18)
( استعراض شبهة من يطعن فى سنة الصحابة - رضي الله عنهم - .......................... 55
( ما جاء عن الصحابة - رضي الله عنهم - من قول أو فعل أو تقرير , إذا كان مما لا يقال من
قبل الرأى ، ومما لا مجال للإجتهاد فيه ، فله حكم المرفوع المسند ............ 55
( سنة الصحابة - رضي الله عنهم - كسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعمل بها ، ويرجع إليها ، وانتصر لهذا
الرأى غير واحد من أئمة الأصول .......................................... 55
( الأدلة على أن سنتهم فى طلب الإتباع كسنة النبى - صلى الله عليه وسلم - ................... 56
( أوجه ترجيح الإعتماد علي الصحابة فى بيان القرآن الكريم ................ 57
( سنة الصحابة مصدراً للأحكام الدستورية .................................. 58
المبحث السادس
من أراد معاوية - رضي الله عنه - فإنما أراد الصحابة
جميعاً - رضي الله عنهم -
59 – 67 ( استعراض شبهة الطاعنين فى سيدنا معاوية - رضي الله عنه - ..................... 59
( الجواب عن الطعن فى صحة إسلام سيدنا معاوية - رضي الله عنه - , وأنه فتح باب
الوضع فى السنة النبوية ............................................. 61
( شهادات التزكية لسيدنا معاوية - رضي الله عنه - فى القرآن الكريم , والسنة النبوية ,
وأقوال أئمة المسلمين ........................................................ 62
( العلامة ابن خلدون يرى أن معاوية - رضي الله عنه - من الخلفاء الراشدين........ 66
المبحث السابع(18/19)
شبهات حول راوية السنة الأول ( أبو هريرة - رضي الله عنه - ) والرد عليها
68 – 82
الموضوع رقم الصفحة
( ما اتهم به أبو هريرة - رضي الله عنه - ، من أكاذيب وافتراءات من قبل أرباب الأهواء
قديماً وحديثاً ، سندهم فيه إما روايات مكذوبة أو ضعيفة ، وإما روايات
صحيحة لم يفهموها................................................... 68
( تصدى للرد على الطعون الموجهة إلى سيدنا أبى هريرة - رضي الله عنه - رهط من علماء
الإسلام على رأسهم أبى هريرة نفسه .......................................... 68
( أصناف الطاعنين فى سيدنا أبى هريرة - رضي الله عنه - .................................. 69
( إسلامه وصحبته.......................................................... 70
( خلقه وتقواه .............................................................. 71
( القصة التى بنى عليها الرافضى محمود أبو رية تسمية كتابه "شيخ المضيرة
أبو هريرة" هذه القصة لا يصدقها عاقل ، والأحداث التاريخية تكذبها........... 72
( قوة ذاكرته وروايته..................................................... 73
( أسباب كثرة مروياته......................................................... 73
( شهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم من أهل العلم بقوة حفظه
وإتقانه وكثرة سماعه وحرصه على الحديث.................................. 76(18/20)
( حب هذا الصحابى الجليل علامة على الإيمان , وبغضه علامة على النفاق..... 80
المبحث الثامن
حكم الطاعن فى عدالة الصحابة - رضي الله عنهم -
83 - 85
( أقوال أهل السنة والجماعة , صريحة فى بيان حكم من ينتقصهم........ 83
( اختلاف الفقهاء في تكفير ساب الصحابة ............................. 84
الخاتمة : في نتائج هذا البحث............................................ 86
فهرس أهم المصادر والمراجع ..................................... 89
فهرس الموضوعات................................................. 103
صدق الله العظيم صدق الله العظيم صدق الله العظيم صدق الله العظيم
صدق الله العظيم(18/21)
الله أكبر في الذَّبِّ عن الصدِّيق الأكبر
تأليف
عبد الرحمن بن سعد الشثري
http://www.saaid.net/
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعلَ في كلِّ زمان فترة من الرسل , بقايا من أهل العلم يَدعُونَ من ضلَّ إلى الهدى , ويَصبرونَ منهم على الأذى , يُحيونَ بكتاب الله الْموتى , ويُبصِّرونَ بنور الله أهلَ العَمَى , فكم من قتيلٍ لإبليسَ قد أحيوه , وكم من ضالٍّ تائهٍ قد هَدَوه , فما أحسنَ أثرَهم على الناس , وأقبحَ أثرَ الناس عليهم , يَنفونَ عن كتاب الله تحريفَ الغالين , وانتحالَ المبطلين , وتأويلَ الجاهلينَ , الذينَ عقدوا ألوية البدع , وأطلقوا عقال الفتنة , فهم مُختلفونَ في الكتاب , مُخالفونَ للكتاب , مُجمعونَ على مفارقة الكتاب , يقولونَ على الله , وفي الله , وفي كتاب الله بغير علم , يَتكلَّمونَ بالْمتشابه من الكلام , ويَخدعونَ جُهَّالَ الناس بما يُشبِّهونَ عليهم , فنعوذُ بالله من فِتَنِ الضالين ( ) .
والصلاة والسلام على عبدالله ورسوله القائل :
( إنَّ الله لا يَقبضُ العِلمَ انتزاعاً يَنتزعُه مِنَ العبادِ , ولكنْ يَقبضُ العِلمَ بقبضِ العلماءِ , حتَّى إذا لَمْ يُبْقِ عَالِمَاً اتَّخَذَ الناسُ رُؤساءَ جُهَّالاً , فَسُئِلُوا فأفتوا بغير علمٍ , فَضَلُّوا وأَضَلُّوا ) ( ) .
والمَروِيِّ عنه صلى الله عليه وسلم قولُه :
( يَرثُ هذا العِلمَ مِنْ كلِّ خَلَفٍ عُدولُه , يَنفُونَ عنه تأويلَ الْجاهلينَ , وانتحالَ الْمُبطلينَ , وتحريفَ الغالين ) ( ) .
ورضي الله عن صحابته والتابعين , ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين .
أما بعد :(19/1)
فقد وقفتُ على كلام المدعو ( ... ) في جريدة ( ... ) في الخامس والعشرين من ذي الحجة عام 1425هـ في العدد ( 13375 ) فرأيتُ لهذا الْمُبتلَى من الكلام ما يُوجبُ للمؤمن الْمُعافى مِمَّا ابتُلي به هذا : أنْ يُكثر من حمد الله تعالى وشكره , ومن سؤال الله العافية , وأيُّ بليََّةٍ أعظم من القول على الله تعالى بلا علم .
وخلوُّ الذهن من العلم , وعدمُ الشعور بشيء منه : أخفُّ ضرراً , وأقلُ خطراً مِمَّا ابتُليَ به هذا الْمُبتلَى , من تحريف الكَلم , والخروج عمَا عليه أهل السنة والجماعة , والتعرُّض لخير خلق الله تعالى بعد الأنبياء عليهم السلام بالكذب والبهتان .
وما حالُ هذا الْمُبتلَى إلاَّ حالَ ذلك المُغفَّل القائل : ( سأعملُ عملاً أُذكرُ به في التاريخ , فما كانَ منه في جمعٍ حاشدٍ إلاَّ أنْ خلَع ثيابه وتعرَّى أمامهم , فتحقَّقَ له الذي أراده ) ( ) .
فواجبٌ تحذير المسلمين من هذه الفتنة ، ومن هذا المفتون ، المتجاوز لحدود ربِّ العالمين ( (((( ((((((((((( (((((( ((((((((((((((( ((((( ((((((((( ((((((((((( ((( (((((((( (((( ((((((((((( ((((( ( .
وإنه من الضلالِ المبين ، والغشِّ للمسلمين ، والتدليس على شبَبَتِهم ما افتراه هذا الكاتب على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً واحتجاجاً منه على أبي بكر الصديق رضي الله عنه لحربه للمرتدين .
والمصيبة تعظمُ : إذا عُلم بأنَّ هذا الْمُبتلَى يُحاولُ أن يكسو مقالته بلِحَاء الشريعة ، ونسبتها إلى مذهب أهل السنة والجماعة نتيجة لردود الأفعال ، ضد فكر التكفير - زَعَمَ - وهكذا من ردِّ الباطل بأضلَّ وأبطل منه ، والضلالة بأخريات , ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم .(19/2)
وفعلُ هذا الْمُبتلَى من جادة الأخسرين أعمالاً ، وقد فضحَ الله المنافقين بها ، وهتكَ أستارهم فيها في مواضع من كتابه ، منها في صدر سورة البقرة , إذ قالوا لتأييد إفسادهم : ( ((((((( (((((( ((((((((((( (((( ( فكذَّبهم الله تعالى بقوله : ( (((( (((((((( (((( ((((((((((((((( (((((((( (( ((((((((((( (((( ( .
ولَمَّا صَدُّوا عما أَنزلَ الله تعالى حكَى الله عنهم اعتذارهم : ( (((( ((((((((( ((((((((((( (((((( (((( (((((((((( (((( (((((((((( (((((((((((( (((( ( .
فالواجبُ ردُّ الباطل والأهواء المضِلَّة بالكتاب والسنة , وما عليه سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم فمن تبعهم بإحسان .
ولا أرَى مثلَ هذا التوجُّهِ من هذا الْمُبتلَى وجريدته ، إلاَّ من السقوط في الفتنة ( (((( ((( (((((((((((( ((((((((( ( ( .
ومَنْ أرادَ اللهُ سعادته جعلَه يعتبرُ بما أصابَ غيره فيسلك مسلك مَنْ أيده الله ونصره ، ويجتنب مسلك من خذله الله وأهانه … ( ) .
وهذه الرسالةُ مما أحتسبه عند الله تعالى كِفاحاً ودفاعاً عن دين الصدِّيق رضي الله عنه , وصوناً لأفكار شباب المسلمين من هذا الوباء , مبتعدين عن النِزاع والمماظة , والخوض في تلك المخاضة , ولكنْ : من جرَّ أذيال الناس بباطلٍ , جرُّوا ذيله بحقٍّ ( ) .
هاشمٌ جدنا فإن كنتِ غَضْبَى فاملئي وجهَكِ الجميلَ خُدوشاً ( ) .(19/3)
قال الْمُبتلَى المفتون : ( نتحدثُ فيها عن جذور الفكر الذي قادَ إلى الإرهاب كسلوك , بدءاً من فكر الخوارج والمُكفِّرين , ومروراً بفكر المتطرِّفين الغلاة , وانتهاءً بأفكار المنظِّرين لفكر الإرهاب الجديد ) إلى أن قال : ( لَمْ يخرج فكرُ التكفير إلى الوجود بغتة , بل إنَّ له جذوراً وسوابق في التاريخ الإسلامي , ولعلَّ أولَ وأهمَّ واقعة تاريخية عبَّرَت عن ميلاد فكرة التكفير في الإسلام هي : حروب الردة , التي خاضها الخليفة أبو بكر الصديق في مطلع عهده , حيث عَنِيَ تكفيرَ المرتدين وقتالهم بالسيف حكماً قاطعاً بتراجعهم عن ملَّة الإسلام , وخروجهم عن عقيدته , وهو الأمرُ الذي حسمه الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه , مُحتسباً عصيانَ المرتدينَ عن دفع الزكاة تمرُّداً على الدين , لا على السلطة فحسب , باعتبار أنَّ الزكاة من أركان الإسلام الأساسية , وبذلك تكونُ حروب الرِّدة أول بيان رسميٍّ يُعلن ميلاد أيديولوجيا التكفير , ويقرن التعبير عن حكم التكفير بقتال الجهة التي يشملها الحكم إياه , ثُمَّ بدأ التكفيرُ في طوره التاريخي الثاني : بظهور فرقة الخوارج ... وبرزَ فكرهم ظاهراً ليتسلَّلَ إلى فكر الأمة الإسلامية في أطوار متعدِّدة من تاريخها , فمن تكفير المرتدين إلى تكفير مرتكب الكبيرة إلى تكفير بعض الفرق من الباطنية والطرق الصوفية وأصحاب البدع حيث تدرَّجت فكرة التكفير وتنامت ... والواقعُ أنَّ عناصرَ الشبه والتقارب بين أفكار التكفير القديمة وأفكار التكفير الحديثة قائمة ومتكرِّرة ... فكرُ العنف والتطرُّف والغلو , والذي يتقاطع مع فكر التكفير في أكثر من مناسبة وشاهد تاريخي , إذ يُمثِّلُ الإرهاصات الأولى للتكفير باعتباره أعلى أشكال التعبير عنه وان اختلفت النتيجة التي تنتهي إليها من حيث الحكم على الآخر والعلاقة به ) الخ .
فنخلصُ من كلام هذا الْمُبتلَى إلى ما يلي :(19/4)
أولاً : تفريق الْمُبتلَى بين الخوارج والمكفِّرين , فالخوارج على حسب قوله خرجوا في زمن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه , وأما المكفِّرون : فهم الصحابة رضي الله عنهم بتكفيرهم لمانعي الزكاة , فاستحلُّوا دمائهم : باسم حروب الرِّدة , حيث قال : ( بدءاً من فكر الخوارج والمُكفِّرين ) .
ثانياً : أنَّ الْمُبتلَى اعتبر الصديقَ رضي الله عنه أول من أوجد أيديولوجيا التكفير ؟!! حيث قال الْمُبتلَى : ( حيث عنيَ تكفيرَ المرتدين وقتالهم بالسيف حكماً قاطعاً بتراجعهم عن ملَّة الإسلام , وخروجهم عن عقيدته ) .
ثالثاً : أنَّ حُكمَ الصحابة رضي الله عنهم على كل المرتدين بالرِّدَّة من أجل امتناعهم عن دفع الزكاة فقط , حيث قال الْمُبتلَى : ( مُحتسباً عصيانَ المرتدين عن دفع الزكاة تمرُّداً على الدين ) .
رابعاً : أنَّ إجماع الصحابة رضي الله عنهم على حرب المرتدين هي أول واقعة تاريخية عبَّرت عن ميلاد التكفير في الإسلام ؟؟!! حيث قال الْمُبتلَى : ( وبذلك تكونُ حروب الرِّدة أول بيان رسمي يُعلن ميلاد أيديولوجيا التكفير ) .
خامساً : أنَّ عقيدة الخوارج المكفِّرين لمرتكب الكبيرة إنما هم امتداد لفكر الصحابة رضي الله عنهم المكفِّرين للمرتدين عن الدين , حيث قال الْمُبتلَى : ( ثمَّ بدأ التكفير في طوره التاريخي الثاني : بظهور فرقة الخوارج ... فمن تكفير المرتدين إلى تكفير مرتكب الكبيرة ) .
سادساً : لَمْ يَجِدِ الْمُبتلَى من يُشْبِهُ الصحابةَ رضي الله عنهم في حفاظهم على الإسلام في قتالهم للمرتدين إلاَّ الخوارج !!؟ حيث قال الْمُبتلَى : ( والواقعُ أنَّ عناصرَ الشَبَهِ والتقاربِ بين أفكار التكفير القديمة وأفكار التكفير الحديثة قائمةٌ ومتكررةٌ ) .
أيها المسلمون :(19/5)
لقد امتلأت كتب العقائد السنيَّة في بيان موقف أهل السنة والجماعة فيمن تعرَّض لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عموماً , ولخلفائه الراشدين رضي الله تعالى عنهم خصوصاً .
وقبلَ أنْ أسوقَ بعض النقول , أذكرُ معنى السَّبِّ ؟ .
السَبُّ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( هو الكلامُ الذي يُقصدُ منه الانتقاصُ , والاستخفافُ , وهو ما يُفهمُ منه السَّبُّ في عقولِ الناسِ على اختلافِ اعتقاداتهم ) ( ) .
ويذكرُ رحمه الله تعالى : أنَّ حدَّ السَبِّ وضابطه هو العُرف ، فيقول : ( فما عدَّه أهلُ العُرفِ سبَّاً , وانتقاصاً ، أو عيباً ، أو طعناً ونحو ذلك فهو من السَبِّ ) ( ) .
ويقولُ ابن حجر : ( الشتمُ : هو الوصفُ بما يقتضي النقص ) ( ) .
وأما النقولُ الواردةُ عن السلف فيمن تعرَّض للصحابة عموماً , وللصدِّيق رضي الله عنه خصوصاً , فكثيرةٌ منها :
قول الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى : ( ومَنْ أحسنَ القولَ في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كلِّ دَنَسٍ , وذرياته المقدَّسين من كلِّ رجسٍ , فقد بريء من النفاق ) ( ) .
ولَمَّا سبَّ عبيد الله بن عمر المقدادَ بن الأسود رضي الله عنه , همَّ عمرُ رضي الله عنه بقطع لسانه , فكلَّمه فيه أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم , فقال : ذروني أقطعُ لسانَ ابني حتى لا يجترئ أحدٌ مِنْ بعدي يسبُّ أحداً مِنْ أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم أبداً ( ) .
ولَمَّا بلَغَ علياً رضي الله عنه أنَّ ابن السوداء تنقَّص أبا بكرٍ وعمرَ رضي الله عنهما , فدعا به وبالسيف , فهمَّ بقتله , فكُلِّمَ فيه فقال : لا يُساكِنِّي بلَداً أنا فيه , فنفاه إلى الشام ( ) .
وقال أيضاً - رضي الله تعالى عنه - : ( ما أَرَى رَجُلاً يسبُّ أبا بكر رضوان الله عليه يتيسر له توبة .(19/6)
وانتقل جرير بن عبد الله البجلي , وحنظلة بن الربيع , وعدي بن حاتم , ومحمد بن عبدالعزيز التيمي رضي الله تعالى عنهم من الكوفة , وقالوا : لا نُقيمُ ببلدةٍ يُشتمُ فيها عثمان رضي الله عنه .
وكذلك فعل العلامة الخِرَقِي الحنبلي ت334هـ رحمه الله , حيث خرجَ من بغداد لَمَّا ظَهَرَ سبُّ الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ( ) .
وكذلك فعل العالم المالكي محمد بن نظيف البزاز الإفريقي ت355هـ رحمه الله , حيث خرج من إفريقية ( ) هرباً إلى المشرق لَمَّا ظَهَرَ فيها سَبُّ السلف ( ) .
وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى :
( لا ينبغي الإقامةُ بأرض يكونُ العملُ فيها بغير الحقِّ والسبِّ للسلف ) ( ) .
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام الشافعي رحمه الله تعالى :
( عاشرتُ الناس , وكلَّمتُ أهلَ الكلام , فما رأيتُ قوماً أوسخَ وسخاً , ولا أقذرَ قذراً , ولا أضعفَ حُجَّةً , ولا أحمقَ من الرافضة , ولقد وُلِّيتُ قضاء الثغور فنفيتُ منهم ثلاثة رجالٍ جهمِيْيَنِ ورافضياً , أو رافضِيْيَنِ وجهمياً , وقلتُ : مثلكم لا يُساكنُ أهلَ الثغور , فأخرجتُهم ) ( ) .
وسَألَ عبد الرحمنُ بن أبزَى أباهُ عبد الرحمن :
( فيمن سبَّ أبا بكرٍ ما كنتَ تصنعُ به ؟ قال : كنتُ أضربُ عنقه , قلتُ : فعُمَر ؟ قال : أضربُ عنقه .
وقال طلحةُ بن مُصرِّف رحمه الله تعالى :
كان يُقالُ : بُغضُ بني هاشم نفاقٌ , وبُغضُ أبي بكر وعمر نفاقٌ , والشاكُّ في أبي بكر رضي الله تعالى عنه كالشاكِّ في السنة .
وعن عبد الله بن أحمد قال :
سألتُ أبي عن رجلٍ سبَّ رجلاً من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم , قال : أرى أنْ يُضرب , فقلتُ : له حدٌّ , فلم يقف على الحدِّ , إلاَّ أنه قال : يُضربُ وما أَرَاهُ على الإسلام .
وقال الأجلح :
سمعنا أنه ما سبَّ أبا بكر وعمر أحدٌ إلا ماتَ قتلاً , أو فقراً ) ( ) .(19/7)
( وسُئل محمد بن يوسف الفريابي عمَّن شتمَ أبا بكرٍ رضي الله عنه ؟ .
قال : كافرٌ .
قيل : فيُصلَّى عليه ؟ .
قال : لا .
وسأله : كيف يُصنعُ به وهو يقولُ لا إله إلا الله ؟ .
قال : لا تَمَسُّوهُ بأيديكم , ادفعوه بالخشب حتى تُواروه في حفرته ) ( ) .
وقال الإمامُ مالكٌ رحمه الله تعالى :
( مَنْ شتمَ أحداً من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم : أبا بكر , أو عمر , أو عثمان , أو معاوية , أو عمرو بن العاص , فإنْ قالَ : كانوا على ضلالٍ , أو كفرٍ , قُتلَ ) ( ) .
وقال هشام بن عمَّار رحمه الله تعالى :
( سمعتُ مالكاً يقول : من سبَّ أبا بكرٍ وعُمَرَ رضي الله عنهما قُتِلَ ) ( ) .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى :
( على هذا مَضَت سيرةُ أهل العلم , وأفتى بعض الشافعية : أنَّ من سبَّ أبا بكرٍ , أوْ عُمَرَ , أو عثمانَ , أو علياً رضي الله عنهم فهو كافرٌ ) ( ) .
وقال الهيثمي : ( ونَقل بعضهم عن أكثر العلماء : أنَّ من سبَّ أبا بكرٍ وعمرَ كان كافراً ) ( ) .
وقد أنكرَ الإمامُ أحمد رحمه الله تعالى على مَنْ جمعَ الأخبارَ التي فيها طعنٌ على بعض أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم , وغضِبَ لذلك غضَباً شديداً وقال : ( لو كان هذا في أفناء ( ) الناس لأنكرتُهُ , فكيفَ في أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم , وقال : أنا لَمْ أكتب هذه الأحاديث , قلتُ لأبي عبدالله : فَمَن عرفتُهُ يكتبُ هذه الأحاديثَ الرديئة ويجمعها أَيُهجرُ ؟ قال : نعمْ , يستأهلُ صاحبُ هذه الأحاديث الرديئة الرَّجْمُ ) ( ) .
فكيف بهذا الْمُفتري على أبي بكر رضي الله عنه لأنه حاربَ المرتدين .
وقد كان أئمة السلف رحمهم الله تعالى يقولون :
( معاويةُ رضي الله عنه بِمَنْزِلةِ حَلْقةِ الباب , مَنْ حرَّكَهُ اتهمناه على مَنْ فوقه ) ( ) .(19/8)
فكيف بهذا الْمُبتلَى وطعنه في الصدِّيق رضي الله عنه , فمَنْ فوْقَ الصدِّيق إلاَّ النبي صلى الله عليه وسلم ؟ .
وقال الربيع بن نافع رحمه الله تعالى : ( معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سِتْرُ أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم , فإذا كَشَفَ الرَّجل السِتْرَ اجتَرَأَ على ما وراءَهُ ) ( ) .
فيا تُرى مَنْ سيجترأُ عليه هذا الْمُبتلَى بعد أبي بكر إلاَّ النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال الإمام أبو زرعة رحمه الله تعالى :
( إذا رأيتَ الرَّجُلَ ينتقصُ أحداً من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديقٌ ) ( ) .
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى : ( فيا ويلَ مَنْ أبغضهم , أو سبَّهم , أو أبغضَ أو سبَّ بعضهم , ولا سيِّما سيِّدُ الصحابة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم , وخيرهم , وأفضلهم أعني الصدِّيق الأكبر , والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه , فإنَّ الطائفةَ المخذولةَ من الرافضة يُعادون أفضلَ الصحابة , ويُبغضونهم , ويسبُّونهم , عياذاً بالله من ذلك , وهذا يدلُّ على أنَّ عقولهم معكوسة , وقلوبهم منكوسة , فأينَ هؤلاء من الإيمان بالقرآن , إذ يسبُّون مَنْ رضيَ الله عنهم ) ( ) .
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى : ( لكنَّ الله أشقاهم فخذلهم بالتكلُّم في أنصار الدين , كلٌّ مُيسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له ) ( ) .
فكيف إذا كان هذا الانتقاص مِنْ أجلِ حربه للمرتدِّين ؟ .(19/9)
وروى الإمام أحمد عن ابن أبي ليلى قال : ( تَدَارَوْا في أبي بكرٍ وعُمَرَ , فقال رجُلٌ من عَطارِد : عمرُ أفضلُ من أبي بكرٍ , فقال الجارودُ : بل أبو بكرٍ أفضلُ منه , فبلغَ ذلك عمرَ , قال : فجعلَ يضربُهُ ضرباً بالدُّرَّةِ حتَّى شَغَرَ ( ) , ثمَّ أقبلَ إلى الجارود فقال : إليك عنِّي , ثمَّ قال عمرُ : أبو بكرٍ كانَ خيرَ الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كذا وكذا , ثم قال عمرُ : مَنْ قال غير هذا أقمنا عليه ما نقيمُ على الْمُفتري ) ( ) .
وكذلك قال أميرُ المؤمنين علي بن أبى طالب رضي الله عنه :
( لا يُفضِّلُنِي أحدٌ على أبى بكرٍ وعمرَ رضي الله عنهما إلاَّ جلدتُهُ حدَّ المُفتري ) ( ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
( فإذا كانَ الخليفتانِ عُمَرُ وعليٌّ رضي الله عنهما يَجلدان حدّ الْمُفتري لِمَنْ يُفضِّلُ عليَّاً على أبي بكرٍ وعمر , أوْ مَنْ يُفضِّلُ عمرَ على أبي بكرٍ , معَ أنَّ مُجرَّدَ التفضيلِ ليس فيهِ سبٌّ ولا عيبٌ , عُلِمَ أنَّ عقوبةَ السَّبِّ عندَهُما فوقَ هذا بكثير ) ( ) .
الله أكبر , أفلا نعلمُ أيها المسلمون :
ألا يخافُ هذا الكاتب الْمفتون أن تكون عقوبته بطعنه في أبي بكرٍ رضي الله تعالى عنه , وأنه أوَّل من أوجدَ التكفير لحربه للمرتدِّين أكبر من عقوبة حدِّ الْمُفتري .
وعن الفضل بن زياد قال : ( سمعتُ أبا عبد الله وسُئل عن رجلٍ انتقصَ معاوية وعمرو بن العاص أيُقالُ له رافضيٌّ ؟ قال : إنه لَمْ يجترئ عليهما إلاَّ وله خبيئةُ سوءٍ , ما يُبغضُ أحدٌ أحداً مِنْ أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ وله داخلةُ سوءٍ ) ( ) .(19/10)
وقال الإمامُ أحمد رحمه الله تعالى فيما هو أقلّ من فعل هذا الكاتب : ( .. فمَنْ فعلَ ذلك فقد وَجَبَ على السلطان تأديبُه وعقوبتُه , ليسَ له أنْ يعفوَ عنه ، بل يعاقبُه ويستتيبُه ، فإنْ تابَ قُبِلَ منه ، وإنْ ثبتَ أعادَ عليه العقوبةَ وخلَّدهُ في الحبس حتَّى يموتَ أو يُراجعَ ) ( ) , ( وحكى الإمام أحمد هذا عمَّن أدركه من أهل العلم , وحكاه الكرماني عنه وعن إسحاق , والحميدي , وسعيد بن منصور , وغيرهم ) ( ) .
فانظروا يا علماء الإسلام : إلى قول إمامِ أهلِ السنةِ فيمن يَعيبُ أو يَطعنُ في واحدٍ مِنَ الصحابة رضي الله عنهم , ووجوب عقوبته وتأديبهِ , وليس له أن يعفو عنه , فكيفَ إذا كان الطعنُ في أعظم الصحابة , ومِنْ أجلِ حربه للمرتدين عن الإسلام .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( .. وأمَّا إنْ سبَّهُم سبَّاً لا يقدحُ في عدالتهم ولا في دينهم , مثل وصفِ بعضهِم بالبخلِ , أو الْجُبْنِ , أو قلَّة العلم , أو عدم الزهد , ونحو ذلك فهو الذي يستحقُّ التأديبَ والتعزيرَ , ولا نحكمُ بكفره بمجرَّدِ ذلك ، وعلى هذا يُحملُ كلام مَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُم مِنَ العلماء ) ( ) .
وذكر أبو يعلى من الأمثلة على ذلك : ( اتِّهَامهم بقلَّةِ المعرفة بالسياسة ) ( ) .
فهل يقول عاقلٌ يا علماء الإسلام بأنَّ افتراء هذا الكاتب على صدِّيق هذه الأمة رضي الله عنه : بأنه أولّ مَنْ أنشأَ أيديولوجيا التكفير بحربه للمرتدِّين لا يقدحُ في عدالته ودينه رضي الله عنه ؟؟؟ .
وقال الإمامُ مالك رحمه الله تعالى عن أناسٍ فعلوا أقلَّ مِمَّا فعلَ هذا الكاتب الْمُبتلَى : ( إنما هؤلاءِ أقوامٌ أرادوا القدحَ في النبيِّ صلى الله عليه وسلم فلَمْ يُمكنهم ذلك , فقدَحُوا في أصحابه حتى يُقال : رجلُ سوءٍ ، ولو كانَ رجلاً صالحاً لكانَ أصحابهُ صالحين ) ( ) .(19/11)
أَمَا يَخشى هذا الكاتب وأمثاله أن ينطبقَ عليهم قول الإمام أحمد رحمه الله : ( إذا رأيتَ رجلاً يذكرُ أحداً من الصحابة بسوءٍ فاتهمه على الإسلام ) ( ) .
وإنَّنِي في هذا المقام أشكرُ علماءَ الأزهر على إصدارهم البيان الآتي في علمانيِّي العصر الحاضر , حيث قالوا :
( لقد رأيناهم يغتالون التاريخ الإسلامي كلَّه فلا يرونَ فيه إلا سلسلةً من الْمجونِ والْمظالِم !! .. بل لَمْ يَسلَمْ من سِهامهم السابقونَ الأولونَ من المهاجرينَ والأنصار ، فرأيناهم يَرَوْنَ في أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه مُغتصباً لحقوق النبيِّ صلى الله عليه وسلم !! مُستحِلاً لقتال المسلمين بِما خاضه من حروب الرِّدَّة !! وينتصرون لإخوانهم المرتدِّين !! ناقلينَ في ذلك أحاديثَ الإفك من المستشرقين ، ضاربينَ عرض الحائط بحقائق الكتاب والسنة وإجماع المسلمين .. إننا من جانبنا نُعلنُ - إبراءَ الذمَّة - أنَّ مثل هذا التصرُّف العلماني ثورة على دين الأمة !! وعدوانٌ سافرٌ على مرجعيتها المقدَّسة كتاباً وسنة !! .. كما أنه من ناحية أخرى يُولِّدُ تطرُّفاً مُقابلاً نشهدُه في حوادث العنف التي تتابعت على مسرح الحياة المصرية في الآونة الأخيرة , وإننا بقدر ما نُعلنُ إدانتنا للتطرُّف الذي يُنسبُ إلى الدِّين ، وإنكارنا على ما يقعُ في هذا الجانب من أحداثٍ داميةٍ ، فإننا ندينُ وبنفس القدر هذا الغلوَّ في معاداة الإسلام ، ورفض شريعته ، وتزييف تاريخه ، وتشويه رموزه وأعلامه .. وإنَّ مَثَلَنا ومَثَل هؤلاء كَمَثَلِ قومٍ استهموا في سفينة ، فأصابَ فريقٌ منهم أعلاها وأصاب آخرونَ أسفلها ، فإذا الذين في أسفلها يُحاولون أنْ يَخرقوا في نصيبهم خرقاً ليستقوا منه الماء ، فلو تُركوا وما يُريدون لَغَرَقَتِ السفينةُ بِمَنْ فيها أجمعين !! .. إنَّ هذا الذي تشهده الساحةُ المعاصرةُ من استطالة دُعاة العلمانية واستماتتهم في عزل هداية الإسلام عن مسيرة هذه(19/12)
الأمة ، والزجِّ بِها في مجاهل الأرض وخوادع السُبل يُعدُّ خيانةً عُظمى لهذه الأمة وللحقيقة المجرَّدة !! وإنَّ التمكينَ لذلك يُعدُّ إعانةً على هذه الخيانة ، ومَسلَكاً عدائياً لا تصلحُ به دنيا ولا يبقى معه دين ! ... إنَّ ثوابتَ هذه الأمة ومُحكِّماتِ هذه الْمِلَّةِ قد أصبحت عرضاً مُباحاً لهؤلاء يتخوَّضونَ فيه طعناً , وتسفيهاً , وتشويهاً , وتزييفاً بلا حريجةٍ دينيةٍ أو خُلُقيةٍ !! .. إننا نُعلنُ براءتنا إلى الله عزَّ وجلَّ من كلِّ دعوةٍ تُخاصم شريعة الله تعالى ، وتُجاهرُ أحكامها بالعداء ، ونُعلنُ أنَّ مثل هذه الدعوات امتدادٌ للوجود الاستعماريِّ في بلادنا ! وأنها لا تجتمعُ مع أصلِ الإسلام بحالٍ من الأحوال !! كما ندعو الصحفَ المصرية جميعها : القومية - أي الحكومية - منها , والمعارضة : أن لا تُسوِّدَ أعمدتها بإشاعةِ أحاديث الإفك التي يتداولها هؤلاء ، فإنْ أبتْ إلاَّ أنْ تفعلَ , فلا أقلَّ مِنْ أنْ تُتيحَ لحملَةِ الشريعةِ ودعاةِ الإسلام من المساحة ما يكفي لدفعِ التُهمة بالْحُجة ، ومقارعةِ الكلمة بالكلمة إحقاقاً للحقِّ ، وإبطالاً للباطل ، واتقاءً لسخط الله عز وجل ، فإنَّ هذا هو أدنى ما يُمكنُ قبوله منها باعتبارها تصدرُ في بلادٍ لا تزالُ تنتسبُ إلى الإسلام , وقد آلينا على أنفسنا - نحن الموقعين على هذا البيان - أنْ نقومَ بواجبنا تجاهَ ديننا وأُمَّتنا , وأنْ نصدعَ بكلمة الحقِّ لا نخافُ في الله لومة لائم ، كما اتفقنا فيما بيننا على التصدِّي لكلِّ ما يُثارُ حولَ الإسلام من شبهاتٍ ومفترياتٍ مِنْ خلالِ الحواراتِ والمناظراتِ العلميةِ الجادةِ لكلِّ مَنْ يرغبُ في الحوار والمناظرة ، لتكونَ نوعاً من استفاضة البلاغ , وإقامة الحجة على الكافة ، ليهلِكَ مَنْ هلكَ عن بيِّنةٍ ، ويَحْيَى من حَيَّ عن بيِّنةٍ ، مسترشدينَ بقول المولى سبحانه : ( (((((( (((((( ((((((( ((((((( (((((((((((((( (((((((((((((((((19/13)
(((((((((((( ( (((((((((((( ((((((((( (((( (((((((( ( ( كما ندعو الأمة جميعاً إلى أنْ تكونَ على بيِّنة مِنْ أمرِ هؤلاء الذين يحرثونَ الطريقَ أمامَ أعدائها في الدنيا ، ويجرُّونها بدعوتهم إلى جحيم الْخُلد وشقاء الأبد في الآخرة ! ( ((((((((((((((( (((( ((((((( (((((( ( ((((((((((( (((((((( ((((( (((( ( (((( (((( ((((((( ((((((((((((( (((( ( .
هذا بلاغٌ لكم والبعثُ موعدنا وعند ذي العرشِ يَدْرِي الناسُ ما الخبرُ )( ) .
وندعو لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية , رئيس القضاة , والشئون الإسلامية - رحمه الله تعالى - على موقفه مع عبدالله الخنيزي مؤلفِ كتاب ( أبو طالب مؤمن قريش ) حيث قال سماحته رحمه الله تعالى :
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم مدير شرطة الرياض سلمه الله .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , وبعد :
فبالإشارة إلى المعاملة الواردة منكم برقم 944 وتاريخ 10/11/1381 المتعلقة بمحاكمة عبد الله الخنيزي , فإنه جرى الإطلاع على المعاملة الأساسية ووجدنا بها الصك الصادر من القضاة الثلاثة المقتضي إدانته ، والمتضمن تقريرهم عليه :
يُعزَّر بأمور أربعة :
أولاً : مصادرة نسخ الكتاب وإحراقها , كما صرَّح العلماء بذلك في حكم كتب المبتدعة .
ثانياً : تعزير جامع الكتاب بسجنه سنةً كاملةً ، وضربه كلَّ شهرين عشرين جلدة في السوق مدة السنة المُشار إليها بحضور مندوب من هيئة الأمر بالمعروف , مع مندوب الإمارة والمحكمة .
ثالثاً : إستتبابته , فإذا تاب وأعلن توبته , وكتب كتابة ضدَّ ما كتبه في كتابه المذكور , ونُشرت في الصحف , وتَمَّت مدة سجنه خُلِّي سبيله بعد ذلك ، ولا يُطلق سراحه وإنْ تَمَّت مدة سجنه ما لَمْ يقم بما ذكرنا في هذه المادة .
رابعاً : فصله من عمله ، وعدم توظيفه في جميع الوظائف الحكومية ، لأنَّ هذا من التعزير .(19/14)
هذا ما يتعلَّق بالتعزير الذي قرَّرته اللجنة , وبعد استكماله يبقى موضوع التوبة يُجرى فيه ما يلزم إن شاء الله , والسلام عليكم ( ص/ف 27 في 10/1/ 1382 ) .
( توبته )
من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم .. وفقه الله .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , وبعد :
فبالإشارة إلى خطاب جلالتكم رقم 17/7/337 في 14/3/1382 بشأن عبد الله الخنيزي مؤلف كتاب ( أبو طالب مؤمن قريش ) وما رأى جلالتكم من إحضاره لدينا وأخذ اعترافاته كتابةً بالتكذيب لِما كتبه .
ونفيد جلالتكم أننا استدعينا المذكور ، وقرَّر التوبة المرفقة ، والتزم بالكتابة والنشر في الصحف ردَّاً على ما افتراه في كتابه ، كما أخذنا عليه التعهد بعدم إعادة طبع الكتاب أو الإذن لأحد بطبعه ، ومتى حصل ذلك فإنه معرَّض للعقوبة , ونُعيد إلى جلالتكم أوراق المعاملة , والله يحفظكم ( ص/ ف 496 في 2/4/1382 ) .
إعترافه بالخطأ خطياً
بسم الله الرحمن الرحيم
أنا عبد الله الخنيزي مؤلف كتاب ( أبو طالب مؤمن قريش ) أعترفُ بأنَّ كتابي المذكور يشتمل على ما يأتي :
(1) الجزم بإيمان أبي طالب .
(2) انتهاك حرمة أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم : برمي بعضهم بالزنا ، وتفسيق البعض ، وتكفير البعض ، ونسبة البعض إلى أخذ الرشوات مقابل وضع الحديث , واختلاقه على النبيِّ صلى الله عليه وسلم .
(3) أحاديث مختلَقة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم اعتمدتُ عليها في الكتاب المذكور .
أعترفُ بوقوع هذه الأشياء في كتابي ( أبي طالب مؤمن قريش ) وأنني إذ أعترفُ بذلك أُقرُّ بخطئي في ذلك جميعه ، وأتوبُ إلى الله من هذه الأشياء ، وأعتقدُ في أبي طالب بما صحَّ به الحديث أنه مات على ملَّة عبد المطلب وهي الكفر ( ) .(19/15)
وأقولُ في جميع الصحابة أنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء ، وأنَّ نصوص الكتاب والسنة الدالة على فضلهم تشملُ مَنْ تكلَّمتُ في شأنهم في الكتاب المذكور ، وأُبرئُ جنابَهم من جميع ما رميتهم به من الزنا والفسق والكفر , وأخذ الرشوات مُقابل الكذب على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأترضَّى عن جميع الصحابة ، وأعتبرُ الطعن فيهم طعناً في الشريعة لأنهم نَقَلَتُها .
كما أني تائبٌ إلى الله من ذكر الأحاديث الموضوعة .
وأعتقدُ الإمساك عمَّا شجر بين الصحابة ، وأقول : إنَّ هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذبٌ ، ومنها ما قد زيدَ فيه ونُقص وغيِّر عن وجهه ، الصحيح منه هم فيه معذورون : إمَّا مجتهدون مصيبون ، وإمَّا مجتهدون مخطئون , وخطؤهم مغفور لهم , كما أني تائبٌ إلى الله من ذكر الأحاديث الموضوعة التي ذكرتها في هذا الكتاب ونسبتها إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم , حَذَراً من الوعيد الثابت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلَّم في قوله : ( مَنْ كَذَبَ عليَّ مُتعمِّداً فليتبوأ مقعدَه من النار ) ( ) , وفي رواية ( ) : ( مَنْ قالَ عليَّ ما لَمْ أقل فليتبوأ مقعده من النار ) .
وكما أُعلن توبتي من هذه الطامات التي تُعتبر جناية على الشريعة الإسلامية , ومُنكَراً , وزوراً , وبُهتاناً , أتعهَّدُ بأنْ أردَّ مافي الكتاب المذكور من الأخطاء رَدَّاً مُفصَّلاً مُستمَدَّاً من كتب المُعتبرين عند أهل الحقِّ , هذا وأسأل الله أن يقبل مِنِّي توبتي ، ويجزيَ عنِّي مَنْ صاروا سبباً في هذه التوبة خيرَ الجزاء , وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم ( توقيعه ) .
كما أَنِّي أتعهدُ بعدم إعادة طبع الكتاب مِنْ قِبَلِي , وعدم الإذن مني لِمَنْ شاءَ إعادة طبعه , وعليه أُوقع 3/4/1382 ( توقيعه ) انتهى ( ) .
أيها المسلمون :(19/16)
إنَّ صُوَرَ الرِّدَّةِ التي حَصَلَتْ بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم , تتمثل بإيجاز في ( أنَّ العربَ افترقت في رِدَّتِها : فطائفةٌ رجعت إلى عبادة الأصنام وقالوا : لو كانَ نبيَّاً لَمَا مات .
وفرقةٌ قالت : نؤمنُ بالله ولا نُصلِّي .
وطائفةٌ أقرُّوا بالإسلام وصلُّوا ، ولكنْ منعوا الزكاة .
وطائفةٌ شهدوا أن لا إله إلا الله , وأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلَّم رسول الله , ولكنْ صدَّقوا مسيلمة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أشركه معه في النبوة .
ولم يشكَّ أحدٌ من الصحابة في كُفرِ مَنْ ذكرنا , ووجوبِ قتالهم إلاَّ مانع الزكاة .. ثُمَّ زالت الشبهةُ عن الصحابة رضي الله عنهم , وعرفوا وجوبَ قتالِهم فقاتلوهم ) ( ) .
لِذا فإنَّ مِنْ توفيق المرء وحسنِ علمه وعمله أنه إذا تطرَّق لأقوال وأفعال الصحابة رضي الله عنهم , أو بَحَثَ فيما يتعلَّقُ بهم , استحضرَ في ذهنه أنهم صفوة الخلق بعد الأنبياء والمرسلين ، وأنَّ الله قد اصطفاهم لحمل رسالته ، وأنهم تلَقَّوا العلم من فِيِّ رسول صلى الله عليه وسلم , وفعله , وتقريره , ومشاهدة جميع أحواله , ففهموا حقَّ الفهم مُرادَ الله , ومرادَ رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعملوا بما علموا .
ألَمْ يعلم ( الْمفتون ) ومَنْ على شاكلته :
أنَّ الطعنَ في أبي بكر رضي الله عنه ولو بالإشارة طعنٌ في الدِّين .
قال الإمام البربهاري رحمه الله تعالى :
( واعلم أنَّ مَنْ تناولَ أحداً من أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه إنَّما أرادَ محمداً وقد آذاه في قبره ) ( ) .
وعن أبي قتادة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال :
( فإنْ يُطِيعُوا أبا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا ) ( ) .
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما :(19/17)
( لو اجتمعتما في مشورةٍ ما خالفتكما ) ( ) .
فهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُخبرُ أنه لا يُخالفهما ولا يعصيهما لو اتفقا , فلماذا يتهم الْمفتون اتفاقهما , وبل اتفاق جميع الصحابة على قتال المرتدِّين أنهم بذلكَ أحدثوا فكر التكفير في الأمة .
وما أشبهَ الْمفتون بتلك الفرقة التي دخلَت على جندب بن عبد الله رضي الله عنه فقالوا : ( ندعوكَ إلى كتاب الله , فقال : أنتم , قالوا : نحنُ , قال : أنتم , قالوا : نحنُ , فقال : يا أخابيثَ خلق الله ؟ في اتباعنا تختارون الضلالة , أم في غير سنتنا تلتمسون الهدى , اخرجوا عَنِّي ) ( ) .
أما آنَ للمفتون أنْ يتمعَّن في قول إبراهيم النخعي ( ) : ( لو بلغني أنهم - يعنى الصحابة - لَمْ يُجاوزوا بالوضوء ظفراً لَمَا جاوزتُه به , وكفى بنا على قومٍ إزراءً أنْ نُخالف أعمالهم ) .
ويقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى : ( ومَنْ نَسَبَ جمهور أصحابه صلى الله عليه وسلم إلى الفسق والظلم ، وجعل اجتماعهم على الباطل , فقد أَزْرَى بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وازدراؤه كفرٌ ) ( ) .
وقال السبكي : ( فيتلخَّصُ : أنَّ سبَّ أبي بكر رضي الله عنه على مذهب أبي حنيفة وأحد الوجهين عند الشافعية كفرٌ ) ( ) .
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله تعالى : ( وإنِ امتنعَ مِنَ الزكاة وكابرَ عليها , وقاتلَ دونها , فكذلك يُقاتلُ , كما قاتلَ الصحابةُ مانعي الزكاة مع أبي بكر رضي الله عنه , وحكموا عليهم بالرِّدَّة ) ( ) .
أيها المسلمون :
ومن خطورة كتابة هذا الكاتب : إبرازُهُ لِمذهب غُلاة المرجئة , بعدم دخول الأعمال في مسمَّى الإيمان , شعَرَ بذلك أَمْ لَمْ يشعر .(19/18)
قال الله تعالى : ( ((((((( ((((((((( (((((((((( (((((((((( ((((((((((((( ((((((((((((((( (((((( (((((((((((((( ((((((((((( ((((((((((((((( ((((((((((((( (((((( (((( (((((((( ( ((((( (((((((( (((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ((((((((( ((((((((((( ( (((( (((( ((((((( ((((((( ((( ( .
ثمَّ قال سبحانه بعدها : ( ((((( (((((((( (((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ((((((((((((((( ((( ((((((((( ( ((((((((((( ((((((((( (((((((( ((((((((((( (((( ((((( (((((((((( (((((((((((( ((((( (((((( (((((((((( ((((((((((( ((( ((((((((( ((((((((((((( (((((((( (((((((((( ( (((((((( (( ((((((((( (((((( (((((((((( (((((((((( (((( ( .
فجعل سبحانه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع الإيمان بالله وترك الشرك - شرطاً في تخليه السبيل ، وعصمة الدم ، واستحقاق الأُخوَّة من المؤمنين ، وجعل نقضَ ذلك مُوجباً للقتال على الكفر .
ولهذا قال أنس رضى الله عنه - وهو ممن أدرك ظهور المرجئة - : ( هو دينُ الله الذي جاءت به الرُّسل , قبلَ هرج الأحاديث , واختلاف الأهواء , وتصديقُ ذلك في كتاب الله عز وجل في آخر ما نزل ( ((((( (((((((( ( قال : توبتهم خلعُ الأوثان وعبادتها ( (((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ((((((((((((((( ((( ((((((((( ( ( ) ( ) .(19/19)
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيرها : ( ولهذا اعتمدَ الصديقُ رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها , حيث حرَّمت قتالهم بشرط هذه الأفعال ، وهي : الدخولُ في الإسلام , والقيام بأداء واجباته ، ونبَّهَ بأعلاها على أدناها , فإنَّ أشرفَ الأركان بعد الشهادة الصلاة التي هي حقٌّ لله عزَّ وجلَّ ، وبعدها أداءُ الزكاة التي هي نفعٌ متعدٍ إلى الفقراء أو المحاويج ، وهي أشرفُ الأفعال المتعلِّقة بالمخلوقين , ولهذا كثيراً ما يَقرنُ الله بين الصلاة والزكاة , وقد جاء في الصحيحين ( ) عن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أُمِرْتُ أنْ أُقاتلَ الناسَ حتَّى يشهدوا أنْ لا إله إلا الله , وأنَّ محمداً رسولُ الله ، ويُقيموا الصلاةَ ، ويُؤتُوا الزكاةَ … » الحديث , وقال أبو إسحاق : عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : « أُمرتم بإقام الصلاةِ وإيتاء الزكاة ، ومَنْ لَمْ يُزكِّ فلا صلاةَ له » ( ) , وقال عبدالرحمن بن يزيد بن أسلم : « أبى الله أن يقبل الصلاة إلاَّ بالزكاة ، وقال : يَرحم الله أبا بكرٍ ما كانَ أفقهه » ) ( ) .
حتى لقد قال عمر رضي الله عنه : ( والذي نفسي بيده لو أطاعنا أبو بكرٍ لكفرنا في صبيحةٍ واحدةٍ , إذْ سألوا التخفيفَ عن الزكاة فأبى عليهم , قال : لو منعوني عقالاً لجاهدتهم ) ( ) , بعد أن تبيَّنَ لهم الأمرُ وزالت الشبهة رضي الله عنهم .
لقد كان الصحابةُ رضى الله عنهم أجلّ وأفقه مِنْ أن يقولوا : نسألهم ، فإنْ كانوا مُقرِّين بوجوبها مع الامتناع عن أدائها بالكلية فهم مسلمون ، وإنْ كانوا جاحدين لوجوبها فهم مرتدُّون ، ولكلِّ حالةٍ أحكامها !! .(19/20)
فقد انعقدَ إجماعهم رضي الله عنهم على أنَّ الامتناع عن أدائها بالكلية - وهو الواقعُ من المرتدين , وليس عن دفعها للإمام - هو رِدَّةٌ صريحةٌ ، تضمنُ إسقاط حقِّ الله في المال ، والتفريق بين الصلاة والزكاة , وهم لَمْ يُخالف أحدٌ منهم قطُّ في تكفير تارك الصلاة , لحديث عبد الله بن شقيق العقيلي رحمه الله تعالى قال : ( كانَ أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم لا يرونَ شيئاً من الأعمال تركُه كفرٌ غيرُ الصلاة ) ( ) .
قال الشوكاني : ( والظاهرُ من الصيغة أنَّ هذه المقالة اجتمعَ عليها الصحابة , لأنَّ قوله : كانَ أصحاب رسول الله جمعُ مضاف , وهو من المشعرات بذلك ) ( ) .
ولذا ألزمهم الصدِّيق رضى الله عنه وعنهم ، حتَّى انعقدَ إجماعهم على هذه ، كما انعقدَ على تلك ، وبناءً على ذلك سَمَّوا الْمُمتنعين عن أداء الزكاة مُرتدِّين في كلِّ النصوص الواردة عنهم ، وقاتَلوهم قتالَ سائر المرتدِّين , أي : كمن ادَّعى نبوة مسيلمة , وسجاح , والأسود ، دون تفريقٍ بينهم في شيءٍ من أحكام القتال ، وشهدَ لهذا فقهاءُ السلف .
كما قال الحافظُ أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله : ( والمصدقُ لهذا : جهاد أبي بكر الصدِّيق رحمه الله تعالى بالمهاجرين والأنصار على منع الزكاة ، كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواء ، لا فرق بينهما في سفك الدماء , وسبي النساء , واغتنام المال ، فإنما كانوا مانعين لَها غير جاحدين بِها ) ( ) .(19/21)
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى : ( والصحابةُ لَمْ يقولوا : أأنتَ مقرٌّ لوجوبها أو جاحداً لَها ؟ هذا لَمْ يُعهد عن الخلفاء والصحابة ، بلْ لقد قالَ الصدِّيقُ لعمر رضى الله عنه : « والله لو منعوني عقالاً أو عناقاً كانوا يُؤدُّونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها » ( ) , فجعلَ المُبيحَ للقتال مُجرَّد المنعِ لا جحدَ الوجوب ، وقد رُوي أنَّ طوائفَ منهم كانوا يُقرُّون بالوجوب لكنْ بخلوا بها ، ومع هذا فسيرةُ الخلفاء فيهم جميعاً سيرةٌ واحدةٌ ، وهي قتلُ مُقاتلتهم وسبيُ ذراريهم , وغنيمةُ أموالهم , والشهادة على قتلاهم بالنار ، وسمَّوهم جميعاً أهل الرِّدَّة ) ( ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( وأمَّا قتال مانعي الزكاة إذا كانوا ممتنعينَ عن أدائها بالكلية أو عن الإقرار بها فهو أعظمُ من قتال الخوارج ) ( ) .
أيها المسلمون :(19/22)
فتبين لنا مما مضى أنَّ هذا الْمُبتلَى وَدَّعَ الأمانةَ العلمية , وكَسَرَ طَوْقَهَا بِما أَحدثَ , وحرَّفَ , وغيَّرَ , وبدَّلَ , وما إلى ذلك مِنْ شَوَاظِ العصبيَّةِ والغُلوِّ , وما عَلِمَ المسكينُ أنَّ علماء السنة - نضَّرَ الله وجوههم - سيقعدون إن شاء الله تعالى له وللغُلاةِ كُلَّ مَرْصَدٍ , فيرمون في آثارهم بالشُّهُبِ , ويُطاردونهم , ويأخذون بنواصيهم , فيُعرِّفونهم بالحقِّ , ويُعرِّفونهم بأقدارهم , ومبلغِ علمهم , حتَّى لا تتسرَّبَ كتاباتهم لأهل السنة في هذه البلاد وغيرها - زادها الله تعالى وأهلها شرفاً - فأهلُ السنة ينتظرون من علمائهم الفتاوى والبيانات في التحذير من روابض أهل الصحافة , حتى لا تَتَشرَّب نفوس شبابنا بِبِدَعِهم , ومساوي نحلتهم , فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سيأتي على الناسِ سَنَواتٌ خدَّاعاتٌ ، يُصدَّقُ فيها الكاذبُ ، ويُكَذَّبُ فيها الصادقُ ، ويُؤتمنُ فيها الخائنُ ، ويُخوَّنُ فيها الأمينُ ، ويَنطقُ فيها الرُّويبضةُ ، قيل : وما الرُّويبضةُ ؟ قال : الرَّجلُ التافهُ في أمرِ العامَّةِ ) ( ) .
فأهل البدع أَضرُّ على أمتنا من أهل الذنوب ( ) .
ففعلة هذا الكاتب خيانةٌ , تخرق حجاب الأمانة , ومَنْ هتكَ أمانته , جَرَحَ عَدَالَتَه ( وَمَا خائِنٌ بمُزَكَّى ) .
ومن أهم الأسباب الواقية من هذا اللاَّغي ومَنْ على شاكلته :
إعمالُ أحكام الشريعة الغراَّء : بمنع سُكنى الْمُبتلَى بين الأصحَّاء , ( ولهذا نصَّ الفقهاء رحمهم الله تعالى على مشروعية الحجر على الْمُفتي الْمَاجن , والْمُتطبب الجاهل , وإذا سكن الْمُبتلى بين الأصحاء فلهم أن يمنعوه ) ( ) .
إلحاقُ أدب القضاء , في ظهر هذا الْمُبتلَى وأعوانه .
منعُ تسويق الجرائد والمجلات التي تنشر مثل هذا الإفساد , وهجرها في حَيِّزِ العدم , وهجر أهلها في حيِّز العوام .(19/23)
قال أبو محمد عبدالله بن أحمد بن قدامة المقدسي ت620هـ رحمه الله تعالى : ( ومِنَ السنة : هجران أهل البدع , ومباينتهم , وترك الجدال والخصومات في الدين , وترك النظر في كتب المبتدعة , والإصغاء إلى كلامهم , وكل محدثة في الدين بدعة ) ( ) .
وله رحمه الله كتاب لطيف بعنوان : تحريم النظر في كتب أهل الكلام ( ) .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : ( قال المروزي : قلتُ لأحمد رحمه الله تعالى : استعرتُ كتاباً فيه أشياء رديئة , ترى أنْ أخرقه أو أحرقه ؟ قال : نعم ) .
وقال أيضاً : ( وكلُّ هذه الكتب المتضمنة لمخالفة السنة : غير مأذونٍ فيها , بلْ مأذونٌ في محقها وإتلافها , وما على الأمة أضرّ منها , وقد حرَّق الصحابة رضي الله عنهم جميع المصاحف المخالفة لمصحف عثمان رضي الله تعالى عنه , لَمَّا خافوا على الأمة من الاختلاف , فكيف لو رأوا هذه الكتبَ التي أوقعت الخلافَ والتفرُّق بين الأمة ) ( ) .
إصدارُ البيانات والفتاوى من قبل علماء الإسلام في مثل هذا الْمُبتلَى , فهم أخطرُ على الأمة من الخوارج , وتحطيمُهم وأمثالهم بالكشف والبيان , بالقلم واللسان .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى :(19/24)
( وأنتَ إذا تأمَّلت تأويلات القرامطة , والملاحدة , والفلاسفة , والرافضة , والقدرية , والجهمية , ومَنْ سَلَك سبيلَ هؤلاء من المقلِّدينَ لَهم في الحكم والدليل , ترى الإخبار بمضمونها عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يقصرُ عن الإخبار عنه بالأحاديث الموضوعة المصنوعة , التي هي مما عملته أيدي الوضَّاعين , وصاغته ألسنة الكذابين , فهؤلاء اختلقوا عليه ألفاظاً وضعوها , وهؤلاء اختلقوا في كلامه معاني ابتدعوها , فيا مِحنةَ الكتاب والسنة بين الفريقين , وما نازلة نزَلت بالإسلام إلاَّ من الطائفتين , فهما عدوَّان للإسلام كائدان , وعن الصراط المستقيم ناكبان , وعن قصد السبيل جائران , فلو رأيتَ ما يصرفُ إليه المحرِّفون أحسنَ الكلام وأبينه وأفصحه , وأحقَّه بكل هدى وبيان وعلم , من المعاني الباطلة , والتأويلات الفاسدة , لكدتَ تقضي من ذلك عجباً , وتتخذُ في بطن الأرض سَرَباً , فتارةً تعجب , وتارةً تغضب , وتارةً تبكي , وتارةً تضحك , وتارةً تتوجَّع , لِمَا نزل بالإسلام وحلَّ بساحة الوَحْي , مِمَّنْ هم أضلُّ من الأنعام .
فكشفُ عورات هؤلاء , وبيان فضائحهم , وفساد قواعدهم : من أفضل الجهاد في سبيل الله .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت : « إنَّ روحَ القدسِ معكَ ما دمتَ تُنافحُ عن رسوله » ( ) .. ) ( ) .
وختاماً : اعلم أخي المسلم :
أنه لا يجوز إطلاق لفظ الفسق أو الكفر على الغير إلاَّ بدليل , وبعد توفُّر الشروط , وانتفاء الموانع ( ) .
فعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق , ولا يرميه بالكفر , إلا ارتدَّت عليه , إنْ لَمْ يكن صاحبه كذلك ) ( ) .(19/25)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : ( وهذا يقتضي أنَّ من قال لآخر : أنت فاسق , أو قال له : أنت كافر , فإنْ كان ليس كما قال , كان هو المستحق للوصف المذكور , وأنه إذا كان كما قال , لم يرجع عليه بشيء , لكونه صَدَق فيما قال , ولكن لا يلزم من كونه لا يصير بذلك فاسقاً ولا كافراً , أن لا يكون آثماً في صورة قوله له : أنت فاسق , بل في هذه الصورة تفصيل : إن قصد نصحه أو نصح غيره ببيان حاله جاز , وإن قصد تعييره وشهرته بذلك , ومحض أذاه لَمْ يَجُزْ , لأنه مأمور بالستر عليه وتعليمه وعظته بالحسنى , فمهما أمكنه ذلك بالرفق لا يجوز له أن يفعله بالعنف , لأنه قد يكون سبباً لإغرائه وإصراره على ذلك الفعل , كما في طبع كثير من الناس من الأنفة , ولا سيَّما إن كان الآمر دون المأمور في الْمَنْزلة ) ( ) .
وقرَّر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى هذه القاعدة في مواضع من فتاواه , منها قوله : ( فإنَّ نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة , ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك , لا يستلزم ثبوت موجَبها في حق المعيَّن , إلاَّ إذا وُجدت الشروط وانتفت الموانع , لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع , هذا في عذاب الآخرة , فإنَّ المستحقَّ للوعيد من عذاب الله ولعنته وغضبه في الدار الآخرة خالد في النار , أو غير خالد , وأسماء هذا الضرب من الكفر والفسق , يدخل في هذه القاعدة , سواء كان بسبب بدعة اعتقادية , أو عبادية , أو بسبب فجور في الدنيا , وهو الفسق بالأعمال ) ( ) .
وقال رحمه الله تعالى : ( لكنَّ تكفير الواحد المعيَّن منهم , والحكم بتخليده في النار , موقوفٌ على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه , فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد , والتكفير والتفسيق , ولا نحكم للمعيَّن بدخوله في ذلك العام , حتى يقوم فيه المقتضي الذي لا مُعارض له ) ( ) .(19/26)
وقال رحمه الله تعالى : ( هذا مع أني دائماً , ومَنْ جالسني يعلمُ ذلك مِنِّي , أني من أعظم الناس نهياً عن أنْ يُنسب معيَّنٌ إلى تكفيرٍ وتفسيقٍ ومعصية , إلاَّ إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية , التي مَنْ خالفها كان كافراً تارة , وفاسقاً أخرى , وعاصياً أخرى .. وما زال السلفُ يتنازعون في كثير من هذه المسائل , ولَمْ يشهد أحدٌ منهم على أحدٍ , لا بكفرٍ ولا بفسقٍ ولا بمعصيةٍ ) ( ) .
هذا ما أردتُ بيانه دفاعاً عن دين الإسلام من أهل الزيغ والتحريف والتبديل , والله من وراء القصد , وهو سبحانه الهادي إلى سواء السبيل .
( (((( ((((((( (((( ((((((((((( ((( (((((((((((( ( ((((( ((((((((((( (((( (((((( ( (((((((( (((((((((( (((((((((( ((((((( (((( ( ( ) .
وصلى الله وسلَّم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلَّم .
كتبه
عبدالرحمن بن سعد الشثري ( )(19/27)
أوجز الخطاب في بيان موقف الشيعة من الأصحاب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه .
وبعد
فإن الله تبارك وتعالى قد اختار نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم واختار له أصحابا وأصهارا مدحهم في كتابه الكريم في مواضع عديدة وأثنى عليهم وأرشد إلى فضلهم وبين أنهم خير الأمم رضوان الله تعالى عنهم.
وقد مدحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشاد بهم وأخبر بفضلهم ونص على أنهم خير قرون الأمة في قوله صلى الله عليه وسلم :"خير أمتي قرني"(1)وأوجب علينا محبتهم ونهانا عن بغضهم أو سبهم أو إيذائهم بأي نوع من أنواع الأذى فقال صلى الله عليه وسلم :"الله الله في أصحابي لاتتخذوهم غرضا بعدي (2) فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن ابغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله تبارك وتعالى ومن آذى الله فقد يوشك أن يأخذه(3).
__________
(1) صحيح البخاري واللفظ له 5/63 ك فضائل الصحابة الباب الأول منه وصحيح مسلم 4/ 1964 ك فضائل الصحابة باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم"
(2) والغرض هو الهدف الذي يرمى إليه ومراده عليه السلام من قوله نهى الناس عن التكلم في أصحابه أو الوقيعة فيهم فشرف صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم توجب على الناس احترامهم وتوقيرهم والسكوت عما شجر بينهم
(3) أخرجه الترمذي في جامعه 5/ 358 ك المناقب باب من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال هذا حديث حسن غريب وأحمد في مسنده 4/ 87،88 و 5/ 54-55 وابن حبان في صحيحه موارد الظمآن للهيثمي ص 568-569 ك المناقب ، باب فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم والمقدسي في النهي عن سب الأصحاب 2/ب –3أ(20/1)
فإياك إياك يا محب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تبغض أصحابه فلئن أبغضتهم لقد دخلت في قوله :"ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم"فتكون مبغضا لرسولك صلى الله عليه وسلم فيا خسارتك ويا سوء عاقبتك إن كنت تبغض نبيك محمدا صلى الله عليه وسلم بل عليك يا من أحببت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحب من أحب حبيبك ومن أمرك بحبه فلقد كان صلى الله عليه وسلم لا يحب إلا طيبا ولا يأمر إلا بحب الطيبين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
ولتعلم يا عبد الله أن سب صحابة نبيك صلى الله عليه وسلم أعظم جرما من بغضهم فأدنى أحوال الساب أن يكون مبغضا فلتحذر من ذلك ولتتأمل قول نبيك صلى الله عليه وسلم :"لا تسبوا أصحابي"(1)فستجد فيه النهي الواضح منه - عليه السلام - عن سب أصحابه رضوان الله تعالى عنهم عن سب أصحابه رضوان الله تعالى عنهم (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) (2).
ولقد اقتدى المسلمون الصادقون في إسلامهم برسولهم محمد صلى الله عليه وسلم فأحبوا صحابته ووقروهم وأجمعوا على سمو منزلتهم ورفعة شأنهم وعدالتهم وعدوا كل واحد من الصحابة عدلا إماما فاضلا فرض على المسلمين توقيره ومحبته والاستغفار له والاعتقاد بأن تمرة يتصدق بها أفضل من صدقة أحدهم دهره كله وحكموا على ساب الصحابة بالكفر إذا اشتمل سبه لهم على إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة أو اصطدم مع نص صريح (3)
__________
(1) صحيح البخاري 5/72 ك فضائل الصحابة باب منه وصحيح مسلم واللفظ له 4/ 1967- 1968 ك فضائل الصحابة باب تحريم سب الصحابة - رضي الله عنهم -
(2) سورة النور الآية 63
(3) أنظر المصادر الآتية : الشفاء في حقوق المصطفى للقاضي عياض 2/ 286. والصارم المسلول لابن تيمية ص 565 – 566 ، 586 – 587 . وبغية المرتاد له ص 343 –344 والمنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص 536 –537 وتذكرة الحفاظ له 2/ 294 . ورسالة في الرد على الرافضة للتميمي ص8(20/2)
ومن أمثلة ذلك :
حكموا بكفر من قال بكفر الصحابة جميعا وارتدادهم إلا نفرا يسيرا لأنه قد عارض النصوص الصريحة التي أخبر الله تعالى بها برضاه عن الصحابة والتي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فضلهم وأشاد بهم وبين مكانتهم إذ حال من عارض هذه النصوص كحال من كذب بها.
حكموا بكفر من كفر الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما لأنه قد رد النصوص الكثيرة التي أجمعت على أنهما من أفضل المؤمنين ومن أهل عليين.
حكموا بكفر من نسب الصديقة الطاهرة عائشة إلى الفاحشة أو أنكر براءتها مما رماها به رأس المنافقين فهذا يقطع بكفره لأنه طعن في المبرأة من فوق سبع سماوات وكذب النص الصريح الذي حكم ببراءتها وخالف الله تعالى في قوله:"يعظكم الله ان تعودوا لمثله أبدا إن كنتم صادقين"(1)
وقد أجمع الناس على فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخالف في ذلك إلا الشيعة الرافضة الذين أشرعوا سهامهم في وجه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمدوا إلى تشويه صورتهم المرضية وتسويد صحائفهم البيضاء النقية واتهامهم بالنفاق والخيانة والكذب وتكفيرهم بما هو صراحة بما فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وبقية العشرة الذين بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ومات وهو راض عنهم وغيرهم من سادات الصحابة وخيارهم رضي الله عنهم أجمعين.
وقد صدق عليهم قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2) فضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين : سئلت اليهود : من خير أهل ملتكم ؟ قالوا : أصحاب موسى . وسئلت النصارى : من خير ملتكم ؟ قالوا : حواري عيسى . وسئلت الرافضة : من شر ملتكم؟ قالوا : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم.... " (3).
__________
(1) سورة النور جزء من الآية 17
(2) وبعض هذا القول ثابت عن الإمام الجليل الفاضل الفقيه عامر بن شراحيل الشعبي رحمه الله
(3) منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1 / 27(20/3)
فالشيعة لم يتبعوا في صنيعهم هذا كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كان قدوتهم في ذلك: ابن السوداء عبدالله بن سبأ اليهودي الذي يعد أول من أحدث الطعن في الصحابة رضوان الله عليهم وكفرهم وأول من أظهر البراءة منهم باعتراف الشيعة أنفسهم" (1).
فابن سبأ اليهودي باعتراف الشيعة (2) هو أول من وضع نواة الرفض المشتمل على تكفير الصحابة وسبهم وأرسى قواعده وعنه أخذ الشيعة هذا المعتقد الباطل وغيره من المعتقدات الفاسدة التي خالفت كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولم يكتف الشيعة باعتناق مذهب الرفض المشتمل على سب الصحابة فحسب بل عملوا على نشره والدعوة إليه سالكين في سبيل ذلك مختلف الطرق آخذين بشتى الوسائل والسبل في محاولة منهم لاستدراج الكثير من المسلمين الغافلين إلى هذا المذهب الفاسد تحت أغطية كثيرة منها إدعاؤهم حب أهل البيت وزعمهم أن الصحابة دفعوهم عن حقهم وغصبوهم إياه وتواطأوا على ظلمهم وغير تلك من المزاعم التي تعد عند أرباب العقول إفكا غير مقبول .
ولا ريب أن أهل بيت نبينا الطيبين الطاهرين بريئون كل البراءة من كل ما ألصقه بهم الشيعة وما نسبوه إليهم من معتقدات وبخاصة معتقد الرفض فهم يحبون الصحابة ويجلونهم ويحترمونهم وينزلونهم المنزلة التي يستحقونها .
__________
(1) أنظر المصادر الشيعية الآتية : مقالات الفرق لمحمد بن سعد القمي ص21 وفرق الشيعة للنوبختي ص 44 واختيار معرفة الرجال للطوسي ص 108-109 وتنقيح المقال للمامفاني 2/ 184 وغيرها من المصادر
(2) لاحظ الحاشية السابقة(20/4)
وفي هذا الزمان وبعد قيام دولة الرافضة ازداد خطر الشيعة واستفحل ضررهم وتفاقم شرهم في غفلة من أهل السنة وعدم انتباه منهم لهذه الموجه الفكرية الشرسة التي تحاول اصطياد العديد من أهل السنة وجرهم إلى معتقد الرفض ومحاولة غرس بغض الصحابة في قلوبهم كل ذلك بشباك يلقونها عليهم محملة بشتى أنواع الشبه التي لا يصمد جاهل إن لم يعصمه الله في وجهها.
وقد ازداد هذا الخطر رسوخا بجهل الكثير من أهل السنة بمعتقدات الشيعة وظنهم أن ما بيننا وما بين الشيعة من خلاف كالذي بين أتباع المذاهب الفقهية أي أنه خلاف في الفروع .
لذا أردت أن أوضح لإخواني المسلمين معتقدا من معتقدات الشيعة الكثيرة التي خالفوا فيها أهل السنة أشد المخالفة ألا وهو اعتقادهم كفر الصحابة - رضي الله عنهم - وارتدادهم وقولهم بوجوب سبهم وبغضهم وذلك كي يكونوا على حذر من شبهاتهم محترزين عن التكلم في أصحاب نبيهم أو سبهم أو الوقيعة فيهم وبذلك يتضح الصبح لدى العينين وتتجلى الحقائق لذوي العقول فيتنبه الغافلون من غفلتهم ليتعرفوا على معتقد الشيعة في أفضل جيل عرفته البشرية ألا وهو جيل الصحابة وفي أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين ألا وهم صحابة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين والتابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين .
ولله در القائل :
لاتركنن إلى الروافض إنهم
لعنوا كما بغضوا صحابة أحمد
حب الصحابة والقرابة سنة
احذر عقاب الله وارج ثوابه
شتموا الصحابة دونما برهان
وودادهم فرض على الإنسان
ألقى بها ربي إذا أحياني
حتى تكون كمن له قلبان(20/5)
ومن هنا جاء الكتاب مبينا بإيجاز معتقد الشيعة في الصحابة من كتب القوم أنفسهم بلا واسطة وفي هذا إقامة الحجة عليهم وإلزام لهم بما هو مسطور في كتبهم التي امتدحوها ومدحوا مصنفيها وشهدوا لمن سطر ما فيها من معتقدات بالاستقامة وحسن المعتقد وقد جاء هذا الكتاب مقسما إلى مجالس تلقي الضوء على معتقد الشيعة الإثني عشرية في الصحابة بإيجاز .
المجلس الأول
دعوى الشيعة الإثني عشرية ارتداد الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا يرتاب مسلم صادق في إسلامة في سمو منزلة الصحابة وفضلهم ورفعة شأنهم قوم اختصهم الله تبارك وتعالى لصحبة أفضل رسله محمد صلى الله عليه وسلم فصدقوه وآزروه ونصروه واتبعوا النور الذي جاء به فتلقوه عذبا زلالا وسائغا فراتا من مشكاة النبوة وأخلصوا دينهم لله وبذلوا فيه سبيله المهج والأرواح والغالي والنفيس والأموال والأولاد فشادوا بنيانه وأكملوا صرحه وفتحوا البلاد وهدوا العباد فكانوا بذلك أهلا لرضوان الله ومحبته ورحمته وجنته فكانوا خير أمة أخرجت للناس وخير القرون.
ثم الشيعة الإثنا عشرية بعدما تبين لهم فضل أولئك الصحب الأبرار والخيرة الأطهار يزعمون أن هؤلاء الكرام البررة رضي الله تعالى عنهم قد ارتدوا جميعا على أدبارهم القهقرى إلا نفرا يسيرا منهم رجحوا أنهم ثلاثة : وهم سلمان وأبو ذر والمقداد استثنوهم من عداد من ارتد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال التستري -من كبار علمائهم- :"كما جاء موسى للهداية وهدى خلقا كثيرا من بني إسرائيل وغيرهم فارتدوا في أيام حياته ولم يبق فيهم أحد على إيمانه سوى هارون(ع) كذلك جاء محمد صلى الله عليه وسلم وهدى خلقا كثيرا لكنهم بعد وفاته ارتدوا على أعقابهم".(1)
__________
(1) إحقاق الحق للتستري ص 316(20/6)
ولئن سألت الشيعة أدلة جلية ألجأتهم إلى هذا القول لرأيتهم قد افتروا أقوالا ونسبوها –زورا وبهتانا- إلى من يدعون أنهم أئمة لهم أمثال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق وموسى بن جعفر الكاظم وغيرهم .
فمن الأقوال التي نسبوها إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - :"أن الناس كلهم ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرأربعة"(1) زادوا عمار بن ياسر - رضي الله عنه - علىالثلاثة السابقين-.
ومن الأقوال التي نسبوها إلى محمد بن علي الباقر رحمه الله:"كان الناس أهل ردة بعد النبي إلا ثلاثة" (2)، و"ارتد الناس إلا ثلاثة نفر"(3).
وقد وصف الشيعة أسانيد هذه الروايات أنها معتبرة (4).
وهناك روايات أخرى مكذوبة ملأ الشيعة بها كتبهم ونسبوها –كذبا وبهتانا- إلى عدد من أئمتهم (5).
ولا ريب أن هؤلاء الأئمة الطيبين بريئون من ذلك وما نسبه إليهم الشيعة هو محض إفك مفترى والحق أنه قد كذب على أئمة أهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم أكثر مما كذب على غيرهم حتى شكا الأئمة –وعلى رأسهم جعفر الصادق- من ذلك .
__________
(1) أنظر السقيفة لسليم بن قيس ص 92 والأنوار النعمانية للجزائري 1/81
(2) روضة الكافي للكليني ص 115 وتفسير العياشي 1/199واختيار معرفة الرجال ص 6-8-11 ، وانظر علم اليقين للكاشاني 1 / 743-744 ، وتفسير الصافي له 1/148-305، وقرة العيون له ص 426، والبرهان للبحراني 1/ 319، وبحار الأنوار للمجلسي 6/749، وحياة القلوب له 2/837، والدرجات الرفيعة للشيرازي ص 223، وحق اليقين لعبدالله شبر 1/ 218-219
(3) المصادر السابقة نفسها
(4) أنظر تفسير الصافي للكاشاني 1/148، وقرة العيون له ص 426، وحق اليقين لشبر 1/ 218
(5) راجع في ذلك كتابي : موقف الشيعة الإثني عشرية من الصحابة رضي الله عنهم(20/7)
وقد بين الإمام جعفر بن محمد الصادق رحمه الله-إمام الشيعة السادس- ذلك بقوله :"إنا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا ويسقط صدقنا –بكذبه علينا- عند الناس"(1).
أضف إلى ذلك معارضة هذه المزاعم-ما زعمه الشيعة من ارتداد الصحابة- لما أخبر الله به تبارك وتعالى من أنه رضي عن الصحابة في غيرما موضع من كتابه الكريم وأمر بالاستغفار لهم والمؤمن المطيع المتبع لا يصنع كصنيع الشيعة مع الصحابة أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم بل يستغفر لهم ويترضى عنهم ويعتقد أن ما نحن فيه من نعمة فهو من جهودهم - رضي الله عنهم - وجهادهم ونتائج أعمالهم الطيبة المباركة وثمرة لما قدموه من مال وولد في سبيل نصر دين الله ونشره وإعلاء كلمة الله حتى لا يعبد أحد سواه .
والله تبارك وتعالى أخبر أنه رضي عن الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة بقوله:"لقد رضي الله عن المؤمنين إذا يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا"(2).
__________
(1) اختيار معرفة الرجال للطوسي ص 108 وتنقيح المقال للمامقاني 2/184، ومعجم رجال الحديث للخوئي 1/202
(2) سورة الفتح الآية 18(20/8)
وكانت عدتهم - رضي الله عنهم - ألفا وثلاثمائة باعتراف الشيعة أنفسهم (1) ولم يرتد منهم أحد فكيف يجوز الشيعة أن يرضى الله عز وجل عن أقوام ويحمدهم وهو يعلم أنهم سيرتدون على أعقابهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ بل وكيف يزعمون بعد هذا الإخبار أن الصحابة ارتدوا إلا نفرا يسيرا؟ إلا أن يقولوا : إن الله لم يعلم ذلك حتى وقع فإن قالوها فقد عرضوا أنفسهم للعنة أحد الأئمة –المعصومين عندهم- جعفر الصادق الذي لعن من قال : إن الله لا يعلم الشيء حتى يكون(2) ودعا عليه بالخزي فقال :"من قال هذا أخزاه الله"(3).
والآية عامة في الرضا عن المبايعين تحت الشجرة تشمل جميع المبايعين فـ(إذ) في قوله (إذ يبايعونك) ظرف وسواء أكانت ظرفا محضا أم كانت ظرفا فيها معنى التعليل فإنها تدل على تعلق الرضا بجميع المبايعين فعلم أنهم جميعا من المرضي عنهم .
وخلاصة القول : أن دعوى الشيعة ارتداد الصحابة أمر قائم على الهوى وليس لديهم دليل نقلي صحيح ولا عقلي صريح يسوغ لهم الإقدام على مثل هذا الادعاء الخطير .
اللهم اعصمنا بالتقوى واحفظ علينا حبنا لصحابة نبيك صلى الله عليه وسلم كما ترضى يا رب العالمين .
المجلس الثاني
دعوى الشيعة الإثني عشرية نفاق أكثر الصحابة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم
لم يكتف الشيعة الإثني عشرية بنسبة الصحابة - رضي الله عنهم - إلى الإرتداد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل زعموا أن أكثرهم أظهروا الإسلام و أضمروا الكفر في حياته عليه السلام .
__________
(1) انظر مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب المازندراني 2/22، والبرهان للبحراني 4/ 196-197
(2) أسنده إليه الكشي الشيعي في كتابه معرفة الرجال، (اختيار معرفة الرجال للطوسي ص 151)
(3) أسنده الكليني في كتابه الكافي . (الأصول من الكافي للكليني 1/148(20/9)
قال التستري –من علماء الشيعة- عن الصحابة :"إنهم لم يسلموا بل استسلم الكثير رغبة في جاه رسول الله .... إنهم داموا مجبولين على توشح النفاق وترشح الشقاق"(1).
والمتأمل لهذا القول يسخر من سفاهة هذا الشيعي وسوء رأيه إذ أي مال أو منصب أو شيء من حطام الدنيا كان لديه - عليه السلام - وقومه قد رموه من قوس واحدة وتآمروا على قتله وقتل من معه من صحابته وأذاقوهم من العذاب ألوانا وأنزلوا بهم من الكربات ما الله به عليم مما لا يصبر عليه صناديد الرجال وهم ثابتون مقيمون على إسلامهم قابضون على دينهم ولو تركوه صلى الله عليه وسلم وتركوا دينه لأكرمهم المشركون وأعطوهم حتى يعطوهم من حطام الدنيا ولكن نظرتهم لم تكن إلى هذه الفانية بل كانت نظرة عميقة إلى ما وراء هذه الحياة مما أعد الله لهم فلا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
وكان الواحد منهم يلقى في رمضاء مكة في الأيام الشديدة الحر وتوضع عليه الصخور والأحجار الكبيرة حتى يرجع عن دينه فلا يزيده هذا إلا ثباتا على أمر الله ومضيا على الحق ولسان حاله يقول لعتاة المشركين وجبابرتهم :"اقض ما أنت قاض إنما تقض هذه الحياة الدنيا" ولو قال لهم كلمة واحدة أحسوا منها أنه مستعد لترك دينه لأغدقوا عليه وأعطوه ولكنه الإيمان إذا لامس بشاشة القلوب يلتحم به التحاما لا يمكن فكه إلا أن يشاء الله .
فقل لي بربك يا مسلم : هل هذه من صفات المنافقين وهل هؤلاء الأبرار منافقون كما زعم الشيعة؟!.
__________
(1) إحقاق الحق للتستري ص3(20/10)
وقد أكد حسن الشيرازي –وهو من الشيعة المعاصرين- نفاق أكثر الصحابة وتساءل عن سبب قبول النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين في صفوف المؤمنين؟ ثم أجاب نفسه بقوله :"إنه لم يكن من صالح النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ فجر الإسلام أن يقبل المخلصين فقط ويرفض المنافقين وإنما كان عليه أن يكدس جميع خامات الجاهليه ليسيج بها الإسلام عن القوى الموضعية والعالمية التي تظاهرت ضده فكان يهتف :"قولوا لا إله إلا الله تفلحوا".... إلى أن قال : - ولم يكن للنبي أن يرفضهم وإلا لبقي هو وعلي وسلمان وأبو ذر والعدد القليل من الصفوة المنتجيين"(1).
ثم استرسل حسن الشيرازي في حديثه عن الصحابة فقال :"غير أنهم تكاثروا مع الأيام وعلى إثر كثرتهم استطاع رؤوس النفاق أن يتسللوا إلى المراكز القيادية فخبطوا في الإسلام خبطا ذريعا كاد أن يفارق واقعه لولا أن تداركه بطله العظيم علي بن أبي طالب - عليه السلام - .."(2).
ومراده برؤوس النفاق : أبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - فهم الذين عناهم الشيعي بقوله :"استطاع رؤوس النفاق..".
وهذه المزاعم التي فيها طعن واضح برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن يهتم بالكيف بل كان جل اهتمامه منصبا على الكم –على حد زعم هذا الشيعي- فكان على حد ما زعم يجمع الناس دون اهتمام منه بسلامة عقيدتهم وصدق رغبتهم في الدخول في الإسلام ليقاتل بهم القوى الموضعية والعالمية وكان هذا الشيعي لا يدرك أن المنافقين من أشد القوى الموضعية خطرا على الدين وعلى أتباعه المسلمين المتربصين بهم الدوائر . وكأنه لا يعلم أيضا أن المنافقين ممن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجهادهم في قوله تعالى :"يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم"(3).
__________
(1) الشعائر الحسينية لحسن الشيرازي ص 8-9
(2) المصدر نفسه ص 10
(3) سورة براءة ، جزء من الآية 73(20/11)
وقال المامقاني –من الشيعة- :"إن من المعلوم بالضرورة بنص الآيات الكريمة وجهود الفساق و المنافقين في الصحابة بل كثرتهم فيهم وعروض الفسق بل الارتداد لجمع منهم في حياته ولآخرين بعد وفاته.."(1).
وقول المامقاني بوجود المنافقين في صفوف الصحابة صحيح لكن زعمه كثرتهم من الكذب إذ لو كانوا كثيرين كما زعم هو وأسلافه لأحاطوا برسول الله وصحابته وقضوا عليهم وأقاموا دولة حال ظهور الإسلام دون قيامها ولكنهم كانوا قلة حقيرة وشرذمة قليلة لم يكن لهم حول ولا طول وقوة عقيدة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفت حاجزا منيعا بينهم وبين مخططاتهم وسورا عاليا منعهم من تحقيق مآربهم لذلك لذلك لم تصدر منهم إلا أقوال يسيرة دلت على أفئدتهم وما يعتمل في نفوسهم من حقد دفين نحو الإسلام ورسوله وأصحابه .
وهناك أقوال أخرى كثيرة صدرت عن الشيعة تحاول إلصاق تهمة النفاق بصحابة أطهار أبعد ما يكونون عن الاتصاف بها (2).
ولست أدري كيف تتفق هذه الأقوال مع ما ذكره الشيعة في كتبهم . ونسبوه إلى أئمتهم من مدح للصحابة رضوان الله عليهم وثناء عليهم ووصف لهم بصفات لا يتصف بها المنافقون منها :
قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مخاطبا من كان في جيشه يحكي لهم عن إخوانه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم :"فقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله فما أرى أحدا يشبهه منكم لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا وقد باتوا سجدا وقياما ويراوحون بين جباههم وخدودهم ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم وإذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم مادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفا من العقاب ورجاء للثواب"(3).
__________
(1) تنقيح المقال للمامقاني 1/213
(2) انظر على سبيل المثال لا الحصر : تفسير القمي 2/186، والبرهان للبحراني 3/299، وتفسير الصافي للكاشاني 2/342، وقرة العيون له ص 416-420
(3) ذكره الشريف الرضي في نهج البلاغة ص 143(20/12)
فهل هذه صفات المنافقين الذين وصفهم الله تبارك وتعالى بقلة الذكر لله وتكاسلهم في أداء الصلاة وخداعهم لله ورسوله وللمؤمنين بقوله :"إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا"(1)؟ اللهم لا .
وتأمل كذلك قول جعفر الصادق –رحمه الله- فيهم :"كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله اثني عشر ألفا ثمانية آلاف من المدينة وألفان من مكة وألفان من الطلقاء ولم ير فيهم قدري ولا حروري ولا معتزلي ولا صاحب رأي كانوا يبكون الليل والنهار ويقولون اقبض أرواحنا من قبل أن نأكل خبز الخمير"(2).
فهل هذه صفات المنافقين ؟؟!! اللهم لا.
ولكن الشيعة أعرضوا عن أقوال أئمتهم واتبعوا أهواءهم وما تمليه عليهم معتقداتهم الفاسدة ويبدلوا قولا غير الذي قيل لهم .
وخلاصة القول : أن الصحابة رضوان الله تعالى عنهم كانوا من أبعد الناس عن الإتصاف بصفة النفاق بل كانوا يخافون النفاق فيفرون منه إلى أقوالهم وأفعالهم وقد كانوا - رضي الله عنهم - مدركين أن الدخول في النفاق يسلبهم اسم الإسلام ولقب الصحبة الشريف الذي يحملونه .
المجلس الثالث
إنكار الشيعة الإثني عشرية لعدالة الصحابة - رضي الله عنهم -
__________
(1) سورة النساء الآية 142
(2) أسنده إليه الصدوق في كتابه الخصال 2/639-640(20/13)
لا يشك مسلم في أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أمناء هذه الأمة وحملة الشريعة ونقلتها إلى الأمناء من بعدهم لا يحتاج واحد منهم إلى توثيق أو تعديل وكيف وقد أثنى عليهم ربهم وإلههم جل وعلا ثناء يقطع لهم بالعدالة والوثاقة في آيات كثيرة من كتابه الكريم مثل قوله تعالى :"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله"(1) وقوله جل وعلا :"وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس"(2) والوسط العدل والصحابة أول من يدخل في شمول الخطاب أضف إلى ذلك الكثير من الآيات التي أثنى الله تعالى من خلالها على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين فضلهم وأخبره برضاه عنهم وكذلك إثبات الخيرية لهم من رسولهم صلى الله عليه وسلم ونهيه عن سبهم ومعلوم أن إنكار عدالتهم سب لهم ونشره لفضائلهم ومناقبهم كل ذلك مما يستلزم العدالة لهم دون توقف .
قال محمد بن أحمد الحنبلي – الشهير بابن النجار- :"إن من أثنى الله سبحانه وتعالى عليه بهذا الثناء كيف لا يكون عدلا؟ فإذا كان التعديل يثبت بقول اثنين من الناس فكيف لا تثبت العدالة بهذا الثناء العظيم من الله سبحانه وتعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم"(3).
__________
(1) آل عمران الآية 110
(2) البقرة الآية 143
(3) شرح الكوكب المنير لابن النجار 2/475(20/14)
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله –بعدما ذكر جملة من فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -- :"كلها مطابقة لما ورد في نص القرآن وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة والقطع على تعديلهم ونزاهتهم فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم المطلع على بواطنهم إلى تعديل أحد من الخلق له.... على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما كرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وفوة الإيمان واليقين القطع على عدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين وهو مذهب كافة العلماء"(1).
فالحكم بتعديل الصحابة - رضي الله عنهم - مبني على تعديل الله تعالى وتعديل رسوله صلى الله عليه وسلم لهم ولسنا نحتاج بعد تعديل الله تعالى وتعديل رسوله صلى الله عليه وسلم لهم إلى تعديل أحد أيا كان .
ولكن الشيعة الإثني عشرية رغم هذا البيان الواضح من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم أنكروا عدالة الصحابة جملة وتفصيلا وزعموا أن حكم الصحابة من حيث العدالة كحكم غيرهم ليس لهم مزية على غيرهم –فهم على حد زعمهم- قوم من الناس لهم ما للناس وعليهم ما على الناس.
قال المجلسي –شيخ الدولة الصفوية ومرجع الشيعة المعاصرين- في معرض حديثه عن عدالة الصحابة بعد أن ذكر قول أهل السنة فيها:"وذهبت الإمامية إلى أنهم –أي الصحابة- كسائر الناس من أن فيهم العادل وفيهم المنافق والفاسق الضال بل كان أكثرهم كذلك" (2) أي كان أكثر الصحابة منافقا وفاسقا وضالا –على حد قوله-.
__________
(1) الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص 48-49
(2) بحار الأنوار للمجلسي 8/8 ونقله عنه المعلق على كتاب الإيضاح لابن شاذان ص 49 وعلى كتاب أمالي المفيد ص 38(20/15)
وقال الشيرازي –من الشيعة- :"حكم الصحابة عندنا في العدالة حكم غيرهم ولا يتحتم الحكم بالإيمان والعدالة بمجرد الصحبة ولا يحصل بها النجاة من عقاب النار وغضب الجبار إلا أن يكون مع يقين الإيمان وخلوص الجنان فمن علمنا عدالته وإيمانه وحفظه وصية رسول الله في أهل بيته وأنه مات على ذلك كسلمان وأبي ذر وعمار : واليناه وتقربنا إلى الله بحبه ومن علمائنا أنه انقلب على عقبه وأظهر العداوة لأهل البيت -ع- عاديناه لله تعالى وتبرأنا إلى الله منه"(1).
وقال التستري الشيعي :"الصحابي كغيره لا يثبت إيمانه إلا بحجة"(2).
وقال في موضع آخر :"ليس كل صحابي عدلا مقبولا"(3).
وقد تكلم الكاشاني –من مفسري الشيعة- في مقدمة كتابه عن أخذ الناس من تفاسير الصحابة لآيات القرآن فقال :"إن هؤلاء الناس لم يكن لهم معرفة حقيقة بأحوالهم –يعني بأحوال الصحابة- لما تقرر عنهم أن الصحابة كلهم عدول ولم يكن لأحد منهم عن الحق عدول ولم يعلموا أن أكثرهم كانوا يبطنون النفاق ويجترئون على الله ويفترون على رسول الله في عزة وشقاق"(4).
وبين الزنجاني –من الشيعة المعاصرين-موقف الشيعة من عدالة الصحابة فقال:"قول الشيعة في الصحابة أنهم كغيرهم من الرجال فيهم العدول من الرجال والفساق..."(5).
ونقل المامقاني –من علماء الرجال عند الشيعة- إجماع الإمامية على ذلك فقال :"قد اتفق أصحابنا الإمامية على أن صحبة النبي بنفسها وبمجردها لا تستلزم عدالة المتصف بها ولا حسن حاله وأن حال الصحابي حال من لم يدرك الصحبة في توقف قبول خبره على ثبوت عدالته أو وثاقته أو حسن حاله ومدحه المعتد به مع إيمانه"(6).
__________
(1) الدرجات الرفيعة للشيرازي ص11
(2) الصوارم المهرقة للتستري ص 6
(3) المصدر نفسه ص9
(4) تفسير الصافي للكاشاني 1/4
(5) عقائد الإمامية الإثني عشرية للزنجاني 3/85
(6) تنقيح المقال للمامقاني 1/213(20/16)
وممن نقل إجماع الشيعة الإمامية علىإنكار عدالة الصحابة : محمد جواد مغنية –وهو من الشيعة المعاصرين- حيث قال :"قال الإمامية : إن الصحابة كغيرهم فيهم الطيب والخبيث والعادل والفاسق"(1).
إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة التي ذكرها الشيعة منكرين من خلالها عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - .
وخلاصة القول : أن الشيعة الإثني عشرية مجمعون على إنكار عدالة الصحابة ولم يخالف منهم أحد في ذلك .
ولا شك أن إنكار الشيعة لعدالة الصحابة تعد مخالفة لما ورد في الكتاب والسنة من أدلة تثبت العدالة التي أنكروها وقد تقدم ذكر بعضها.
ومنها قوله عليه الصلاة والسلام :"خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"(2).فقد أثبت الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لصحابته الخيرية المطلقة والأفضلية على سائر أمته التي هي خير الأمم فدل على أن الصحابة - رضي الله عنهم - خيار من خيار.
والحق أن إنكار الشيعة لعدالة الصحابة –إضافة إلى كونه يعد مخالفا لكتاب الله وسنة رسوله - عليه السلام -- جد خطير يفضي بهم إلى رد ما رواه الصحابة وما نقلوه من الدين جملة وتفصيلا وبالتالي إبطال الكتاب والسنة ومن يقرأ كتبهم يجد هذا واضحا .
وهذا الذي حدا بعلماء أهل السنة إلى التشدد في قبول رواية المبتدعين وخاصة الذين يطعنون في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) الشيعة في الميزان لمغنية ص 82
(2) صحيح البخاري –واللفظ له- 5/63 ك فضائل الصحابة الباب الأول منه وصحيح مسلم 4 / 1964 ك فضائل الصحابة باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم.(20/17)
قال الإمام أبو زرعة الرازي رحمه الله:"إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حق والقرآن حق وإنما أدى إلنيا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة"(1).
وقال يحيى بن معين رحمه الله في تليد بن سليمان المحاربي الكوفي:"كذاب كان يشتم عثمان وكل من شتم عثمان أو طلحة أو أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دجال لا يكتب عنه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين"(2).
وقال أبو أحمد الحاكم الكرابيسي (ت378هـ) في يونس بن خباب الأسيدي مولاهم أبو حمزة الكوفي وكان يشتم عثمان - رضي الله عنه - :"تركه يحيى (3) وعبدالرحمن(4) وأحسنا في ذلك لأنه كان يشتم عثمان ومن سب أحدا من الصحابة فهو أهل أن لا يروى عنه"(5).
__________
(1) أسنده إليه الخطيب البغدادي في "الكفاية في علم الرواية" ص 97 وانظر الإصابة لابن حجر 1/11
(2) أسنده إليه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 7 / 138، وانظر : التاريخ لابن معين-رواية الدوري- 2/66، وتهذيب التهذيب لابن حجر 1/509
(3) ابن معين
(4) ابن مهدي
(5) تهذيب التهذيب لابن حجر 11/438(20/18)
والحق أن الإنسان يعجب حين يجد الشيعة يجعلون لمن نظر إلى الإمام الثاني عشر –عندهم(1)- نظرة واحدة مرتبة أعلى من مرتبة العدالة بينما يجدهم يمنعون مرتبة العدالة عن الصحابة الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه وبذلوا أنفسهم وأموالهم وأرخصوا أرواحهم في سبيل نصرة دعوة الله وإعلاء كلمته رجاء لما عند الله وطمعا في جنته : قال المامقاني –وهو من كبار علماء الجرح والتعديل عند الشيعة- في معرض كلامه على الأمور التي تعرف بها عدالة الرجل من شيعتهم :"ومنها تشرف الرجل برؤية الحجة المنتظر- عجل الله تعالى فرجه وجعلنا من كل مكروه فداه- بعد غيبته (2) فإنا نستشهد بذلك على كونه في مرتبة أعلى من مرتبة العدالة"(3)
ضرورة أنه لا يحصل تلك القابلية إلا بتصفية النفس وتخلية القلب من كل رذيلة وعراء الفكر من كل قبيح وإلى هذا المعنى أشار مولانا العسكري (ع) بقوله لمن أراد الحجة –روحي فداه- : لولا كرامتك على الله لما أريتك ولدي هذا ..."(4).
وهذا يدل -والعياذ بالله- على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة .
المجلس الرابع
موقف الشيعة الإثني عشرية من الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه
ولكني أحب بكل قلبي
رسول الله والصديق حبا
وأعلم أن ذاك من الصواب
به أرجو غدا حسن الثواب
__________
(1) مع انه لم يخلق ، فالحسن العسكري كان عقيما ولم ينجب
(2) يقصد الغيبة الصغرى إذ له غيبتان على حد زعمهم غيبة صغرى أمكن رؤيته فيها وغيبة كبرى لم يره احد فيها
(3) تأمل :"في مرتبة أعلى من مرتبة العدالة"، بينما يمنعون مرتبة العدالة عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(4) تنقيح المقال للمامقاني 1/211(20/19)
والله إن المرء ليستشعر نقصه ويعجز عن البداية وعن بلوغ النهاية مع بعد الغاية إذا أراد أن يكتب عن سيرة رجل لم تحمل الغبراء ولم تظل السماء بعد الأنبياء والمرسلين رجلا أفضل منه رجل جمع الله فيه الفضائل كلها والمزايا الخلقية جميعها فكان خيرا كله .
ذاكم هو الصديق أبو بكر أول الصحابة إسلاما وأخصهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضلهم على الإطلاق .
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذبه الناس ولم يتردد في قبول دعوته إلى الإسلام حين تردد وأبى الأدنون وواسى رسول الله صلى الله عليه وسلمبنفسه وماله حتى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق وواساني بنفسه وماله" (1).
أسلم على يديه صفوة الأصحاب وأعتق بماله الكثير من الرقاب وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم صديقا واتخذه أخا في الله صديقا وانتقل إلى جوار ربه وهو عنه راض فرضي الله تعالى عن أبي بكر وأرضاه .
ولكن الشيعة الإثني عشرية لم يرقبوا في أبي بكر صدق صحيته وفضله وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرموه بكل شين ونقيصة واتهموه في إسلامه وأخلاقه وعرضه وأمانته وسلقوه بألسنة حداد أشحة على الخير .
وليس هذا القول افتراء على الشيعة فكتبهم هي الشاهد على صدق هذه الدعوى وعدم كذبها .
وسأقتصر على ذكر بعض هذه المطاعن ليكون المسلم على بينة من أمر هذه الطائفة التي لم يسلم منها خيار عباد الله تعالى (2).
فمنها :
أولا : طعن الشيعة في صدق إيمان أبي بكر - رضي الله عنه - :
__________
(1) صحيح البخاري 5/67-68 ك المناقب، باب فضل أبي بكر
(2) المطاعن التي وجهها الشيعة إلى الصديق رضي الله تعالى عنه كثيرة جدا وهذا الذي ذكرته غيض من فيض مما في كتبهم(20/20)
يطعن الشيعة في صدق إيمان أبي بكر - رضي الله عنه - ويصفونه بأنه رجل سوء (1) أمضى أكثر عمره مقيما على الكفر خادما للأوثان (2) عابدا للأصنام (3) حتى شاب قرنه وابيض فؤاده(4).
ولم يكتفوا بهذا بل زعموا أن إيمانه كان كإيمان اليهود والنصارى لأنه لم يتابع محمدا صلى الله عليه وسلم لاعتقاده انه نبي بل لاعتقاده أنه ملك (5) لهذا لم يكن إسلامه صادقا فقد استمر على عبادة الأصنام حتى إنه –على حد قولهم- "كان يصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وآله والصنم معلق في عنقه يسجد له"(6) وكان يفطر متعمدا في نهار رمضان ويشرب الخمر ويهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم (7).
قال الطوسي الشيعي :"إن من الناس من شك في إيمانه لأن في الأمة من قال : إنه لم يكن عارفا بالله تعالى قط"(8).
وأما ابن طاوس الشيعي فقد جزم بأن أبابكر مشكوك في هدايته (9).
وجزم المجلسي بعدم إيمانه (10).
__________
(1) كما ذكر ذلك الجزائري الشيعي في الأنوار النعمانية 4/60
(2) ذكر ذلك البياضي الشيعي في الصراط المستقيم 3/155 والكاشاني الشيعي في علم اليقين 2/707
(3) ذكر ذلك الكركي الشيعي في"نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت" ق 3أ
(4) ذكر ذلك الكاشاني الشيعي في علم اليقين 2/707-708 والفود : معظم شعر الرأس فيما يلي الأذن، وفود الرأس : حانباه (انظر لسان العرب لابن منظور 3/340
(5) كما ذكر ذلك حيدر الآملي-الشيعي- في كتابه الكشكول ص 104
(6) نفحات اللاهوت للكركي ق 3أ والأنوار النعمانية للجزائري 1/53
(7) البرهان للبحراني 1/500
(8) تلخيص الشافي للطوسي ص 407
(9) الطرائف لابن طاوس ص 32
(10) مرآة العقول –شرح الروضة- للمجلسي 3/429-430(20/21)
أما باطنه - رضي الله عنه - فقد زعموا أنهم اطلعوا عليه وتبين لهم من خلال هذا الاطلاع أنه كافر (1) حتى إنهم حرفوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن أبا بكر لم يسؤني قط" بما يوافق مزاعمهم الباطلة فقالوا :"هذه صيغة ماض وهي تستلزم أن كفر أبي بكر لم يسؤه عليه السلام"(2).
وهذه المزاعم التي قالها الشيعة كلها كاذبة ولا تمت إلى الحقيقة بصلة وليس لهم دليل عليها إلا ما يعتمل في صدورهم من حقد على الصديق - رضي الله عنه - وإخوانه الصحابة قالصديق - رضي الله عنه - صحب رسول الله صلى الله عليه وسلممؤمنا به من مبعثه إلى أن مات .
وقد أجمع المسلمون على أن الصديق - رضي الله عنه - أول من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن به من الرجال (3) وعليا أول من آمن من الصبيان وخديجة أول من آمنت من النساء وزيد بن حارثة أول من أسلم من الموالي(4).
وقد سئل الحبر ابن عباس رضي الله عنهما :"من أول من آمن؟ فقال : أبو بكر الصديق أما سمعت قول حسان :
إذا تذكرت شجوا من اخي ثقة
خير البرية أوفاها وأعدلها
والتالي الثاني المحمود مشهده
فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
بعد النبي وأولاها بما حملا
وأول الناس منهم صدق الرسلا(5)
__________
(1) ذكر ذلك الكوفي الشيعي في كتابه الاستغاثة في بدع الثلاثة ص 20
(2) ذكر ذلك البياضي الشيعي في الصراط المستقيم 3/149
(3) فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/223-227 وتاريخ دمشق لابن عساكر ، 9/529 ، 538-543 والروض الأنيق لابن زنجويه ق 3/ب – 8/ب ، 86/ب والسيرة النبوية لابن كثير 1/435
(4) السيرة النبوية لابن هشام 1/240-250 والسيرة النبوية لاين كثير 1/428-427
(5) فضائل الصحابة للإمام احمد 1/ 142 وتاريخ دمشق لابن عساكر 9/540 والسيرة النبوية لابن كثير 1/435 وانظر أيضا المستدرك للحاكم 3/64 ودر السحابة للشوكاني ص 151 فهو مروي عن الإمام الشعبي أيضا .(20/22)