ذكر فضائل الثلاثة ما هو من اعظم الحجج عليه فان كان هذا القدر حجة فهو حجة له وعليه و الا فلا يحتج به الوجه الرابع إن هذا معارض بما هو أقوى منه وهو أن إجماع الأمة حجة بالكتاب والسنة والإجماع والعترة بعض الأمة فيلزم من ثبوت إجماع الأمة إجماع العترة وأفضل الأمة أبو بكر كما تقدم ذكره ويأتي وإن كانت الطائفة التي إجماعها حجة يجب اتباع قول أفضلها مطلقا وان لم يكن هو الإمام ثبت أن أبا بكر هو الإمام وإن لم يجب إن يكون الأمر كذلك بطل ما ذكروه في إمامة علي فنسبة آبي بكر إلى جميع الأمة بعد نبيها كنسبة علي إلى العترة بعد نبيها على قول هذا فصل قال الرافضي الحادي عشر ما رواه الجمهور من وجوب محبته وموالاته روى احمد بن حنبل في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اخذ بيد حسن وحسين فقال من احبني وأحب هذين وأباهما وأمهما فهو معي في درجتي يوم القيامة
7
398
وروى ابن خالويه عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من احب إن يتمسك بقصبة الياقوت التي خلقها الله بيده ثم قال لها كوني فكانت فليتول علي بن أبي طالب من بعدي وعن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي حبك إيمان وبغضك نفاق و أول من يدخل الجنة محبك و أول من يدخل النار مبغضك وقد جعلك الله أهلا لذلك فأنت مني وأنا منك ولا نبي بعدي وعن شقيق بن سلمة عن عبد الله قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم و هو اخذ بيد علي وهو يقول هذا وليي وأنا وليه عاديت من عادى وسالمت من سالم وروى اخطب خوارزم عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءني جبريل من
7
399(188/282)
عند الله بورقة خضراء مكتوب فيها ببياض إني قد افترضت محبة علي على خلقي فبلغهم ذلك عني والأحاديث في ذلك لا تحصى كثرة من طرق المخالفين وهي تدل على أفضليته واستحقاقه للإمامة والجواب من وجوه أحدها المطالبة بتصحيح النقل وهيهات له بذلك و أما قوله رواه احمد فيقال أولا احمد له المسند المشهور وله كتاب مشهور في فضائل الصحابة روى فيه أحاديث لا يرويها في المسند لما فيها من الضعف لكونها لا تصلح إن تروى في المسند لكونها مراسيل أو ضعافا بغير الإرسال ثم إن هذا الكتاب زاد فيه ابنه عبد الله زيادات ثم إن القطيعى الذي رواه عن ابنه عبد الله زاد عن شيوخه زيادات وفيها أحاديث موضوعة باتفاق أهل المعرفة وهذا الرافضي وأمثاله من شيوخ الرافضة جهال فهم ينقلون من هذا المصنف فيظنون إن كل ما رواه القطيعي أو عبد الله قد رواه احمد نفسه ولا يميزون بين شيوخ احمد وشيوخ القطيعي ثم يظنون إن احمد
7
400
إذا رواه فقد رواه في المسند فقد رأيتهم في كتبهم يعزون إلى مسند احمد أحاديث ما سمعها احمد قط كما فعل ابن البطريق وصاحب الطرائف منهم وغيرهما بسبب هذا الجهل منهم وهذا غير ما يفترونه من الكذب فان الكذب كثير منهم وبتقدير إن يكون احمد روى الحديث فمجرد رواية احمد لا توجب إن يكون صحيحا يجب العمل به بل الإمام احمد روى أحاديث كثيرة ليعرف ويبين للناس ضعفها وهذا في كلامه وأجوبته اظهر وأكبر من أن يحتاج إلى بسط لا سيما في مثل هذا الأصل العظيم مع إن هذا الحديث الأول من زيادات القطيعي رواه عن نصر بن علي الجهضمي عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر والحديث الثاني ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وبين انه موضوع وأما رواية ابن خالويه فلا تدل على إن هذا الحديث صحيح
7
401(188/283)
باتفاق أهل العلم وكذلك رواية خطيب خوارزم فان في روايته من الأكاذيب المختلفة ما هو من اقبح الموضوعات باتفاق أهل العلم الوجه الثاني إن هذه الأحاديث التي رواها ابن خالويه كذب موضوعة عند أهل الحديث و أهل المعرفة يعلمون علما ضروريا يجزمون به إن هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه ليست في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها علماء الحديث لا الصحاح ولا المساند ولا السنن ولا المعجمات ولا نحو ذلك من الكتب الثالث إن من تدبر ألفاظها تبين له أنها مفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله من احب أن يتمسك بقصبة الياقوت التي خلقها الله بيده ثم قال لها كوني فكانت فهذه من خرافات الحديث وكأنهم لما سمعوا إن الله خلق آدم بيده من تراب ثم قال له كن فكان قاسوا هذه الياقوتة على خلق آدم و آدم خلق من تراب ثم قال له كن فكان فصار حيا بنفخ الروح فيه فإما هذا القصب فبنفس خلقه كمل ثم لم يكن له بعد هذا حال يقال له فيها كن ولم يقل أحد من أهل العلم إن الله خلق بيده ياقوتة بل قد روي في عدة آثار إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثة أشياء آدم والقلم وجنة عدن
7
402(188/284)
ثم قال لسائر خلقه كن فكان فلم يذكر فيها هذه الياقوتة ثم أي عظيم في إمساك هذه الياقوتة حتى يجعل على هذا وعدا عظيما و كذلك قوله أول من يدخل النار مبغضك فهل يقول مسلم إن الخوارج يدخلون النار قبل أبي جهل بن هشام و فرعون وأبي لهب و أمثالهم من المشركين و كذلك قوله أول من يدخل الجنة محبك فهل يقول عاقل إن الأنبياء و المرسلين سبب دخولهم الجنة أولا هو حب علي دون حب الله و رسوله و سائر الأنبياء و رسله و حب الله و رسله ليس هو السبب في ذلك و هل تعلق السعادة و الشقاوة بمجرد حب علي دون حب الله و رسوله إلا كتعلقها بحب أبي بكر و عمر و عثمان و معاوية رضي الله عنهم فلو قال قائل من احب عثمان و معاوية دخل الجنة و من ابغضهما دخل النار كان هذا من جنس قول الشيعة فصل قال الرافضي الثاني عشر روى اخطب خوارزم بإسناده عن أبي ذر الغفاري قال قال رسول الله صلى الله عليه
7
403
و سلم من ناصب عليا الخلافة فهو في كافر و قد حارب الله و رسوله و من شك في علي فهو كافر وعن انس قال كنت عند النبي صلى الله عليه و سلم فرأي عليا مقبلا فقال أنا وهذا حجة الله على أمتي يوم القيامة و عن معاوية بن حيدة القشيري قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول لعلي من مات و هو يبغضك مات يهوديا أو نصرانيا و الجواب من وجوه أحدها المطالبة بتصحيح النقل و هذا على سبيل التنزل فإن مجرد رواية الموفق خطيب خوارزم لا تدل على أن الحديث ثابت قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم و هذا لو لم يعلم ما في الذي جمعه من الأحاديث من الكذب و الفرية فأما من تأمل ما في جمع هذا الخطيب فإنه يقول سبحانك هذا بهتان عظيم الثاني إن كل من له معرفة بالحديث يشهد أن هذه الأحاديث كذب مفتراة على رسول الله صلى الله عليه و سلم
7
404(188/285)
الثالث أن هذه الأحاديث إن كانت مما رواها الصحابة و التابعون فأين ذكرها بينهم و من الذي نقلها عنهم و في أي كتاب وجد انهم رووها و من كان خبيرا بما جرى بينهم علم بالاضطرار إن هذه الأحاديث مما ولدها الكذابون بعدهم وأنها مما عملت أيديهم الوجه الرابع إن يقال علمنا بان المهاجرين والأنصار كانوا مسلمين يحبون الله و رسوله و إن النبي صلى الله عليه و سلم كان يحبهم و يتولاهم اعظم من علمنا بصحة شيء من هذه الأحاديث و إن أبا بكر الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم فكيف يجوز أن يرد ما علمناه بالتواتر المتيقن بأخبار هي اقل و أحقر من إن يقال لها أخبار آحاد لا يعلم لها ناقل صادق بل أهل العلم بالحديث متفقون على أنها من اعظم المكذوبات ولهذا لا يوجد منها شيء في كتب الأحاديث المعتمدة بل أئمة الحديث كلهم يجزمون بكذبها الوجه الخامس إن القران يشهد في غير موضع برضا الله عنهم و ثنائه عليهم كقوله تعالى و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه
7
405(188/286)
و قوله لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح و قاتل أولئك اعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى و قوله محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا و قوله لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يباعيونك تحت الشجرة و قوله للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله و رضوانا و أمثال ذلك فكيف يجوز إن يرد ما علمنا دلالة القران عليه يقينا بمثل هذه الأخبار المفتراة التي رواها من لا يخاف مقام ربه و لا يرجو لله وقارا الوجه السادس أن هذه الأحاديث تقدح في علي و توجب انه كان مكذبا بالله و رسوله فيلزم من صحتها كفر الصحابة كلهم هو و غيره أما الذين ناصبوه الخلافة فإنهم في هذا الحديث المفترى كفار و أما علي فإنه لم يعمل بموجب هذه النصوص بل كان يجعلهم مؤمنين مسلمين و شر من قاتلهم علي هم الخوارج و مع هذا فلم يحكم فيهم بحكم الكفار بل حرم أموالهم و سبيهم و كان يقول لهم قبل قتالهم إن لكم علينا إن لا نمنعكم مساجدنا و لا حقكم من فيئنا و لما قتله ابن
7
406(188/287)
ملجم قال إن عشت فأنا ولي دمي و لم يجعله مرتدا بقتله و أما أهل الجمل فقد تواتر عنه انه نهى عن أن يتبع مدبرهم وأن يجهز على جريحهم وأن يقتل أسيرهم وأن تغنم أموالهم وأن تسبى ذراريهم فإن كان هؤلاء كفارا بهذه النصوص فعلي أول من كذب بها فيلزمهم ان يكون علي كافرا و كذلك أهل صفين كان يصلي على قتلاهم ويقول إخواننا بغوا علينا طهرهم السيف و لو كانوا عنده كفارا لما صلى عليهم و لا جعلهم إخوانه و لا جعل السيف طهرا لهم و بالجملة نحن نعلم بالاضطرار من سيرة علي رضي الله عنه انه لم يكن يكفر الذين قاتلوه بل و لا جمهور المسلمين و لا الخلفاء الثلاثة و لا الحسن و لا الحسين كفروا أحدا من هؤلاء و لا علي بن الحسين و لا أبو جعفر فإن كان هؤلاء كفارا فأول من خالف النصوص علي و أهل بيته و كان يمكنهم إن يفعلوا ما فعلت الخوارج فيعتزلوا بدار غير دار الإسلام و إن عجزوا عن القتال و يحكموا على أهل دار الإسلام بالكفر و الردة كما يفعل ذلك كثير من شيوخ الرافضة و كان الواجب
7
407(188/288)
على علي إذا رأى أن الكفار لا يؤمنون أن يتخذ له و لشيعته دار غير أهل الردة و الكفر و يباينهم كما باين المسلمون لمسيلمة الكذاب و أصحابه و هذا نبي الله صلى الله عليه و سلم كان بمكة هو و أصحابه في غاية الضعف و مع هذا فكانوا يباينون الكفار و يظهرون مباينتهم بحيث يعرف المؤمن من الكافر و كذلك هاجر من هاجر منهم إلى ارض الحبشة مع ضعفهم و كانوا يباينون النصارى و يتكلمون بدينهم قدام النصارى و هذه بلاد الإسلام مملوءة من اليهود و النصارى و هم مظهرون لدينهم متحيزون عن المسلمين فان كان كل من يشك في خلافة علي كافرا عنده و عند أهل بيته و ليس بمؤمن عندهم إلا من اعتقد انه الإمام المعصوم بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و من لم يعتقد ذلك فهو مرتد عند علي و أهل بيته فعلي أول من بدل الدين و لم يميز المؤمنين من الكافرين و لا المرتدين من المسلمين و هب انه كان عاجزا عن قتالهم و إدخالهم في طاعته فلم يكن عاجزا عن مباينتهم ولم يكن اعجز من الخوارج الذين هم شرذمة قليلة من عسكره و الخوارج اتخذوا لهم دارا غير دار الجماعة و باينوهم كما كفروهم و جعلوا أصحابهم هم المؤمنين
7
408(188/289)
و كيف كان يحل للحسن إن يسلم أمر المسلمين إلى من هو عنده من المرتدين شر من اليهود و النصارى كما يدعون في معاوية و هل يفعل هذا من يؤمن بالله و اليوم الآخر وقد كان الحسن يمكنه إن يقيم بالكوفة ومعاوية لم يكن بدأه بالقتال وكان قد طلب منه ما أراد فلو قام مقام أبيه لم قاتله معاوية وأين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في فضل الحسن إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين فإن كان علي و أهل بيته والحسن منهم يقولون لم يصلح الله به بين المؤمنين والمرتدين فهذا قدح في الحسن وفي جده الذي أثنى على الحسن إن كان الأمر كما يقوله الرافضة فتبين إن الرافضة من اعظم الناس قدحا وطعنا في أهل البيت وأنهم هم الذين عادوا أهل البيت في نفس الأمر ونسبوهم إلى اعظم المنكرات التي من فعلها كان من الكفار وليس هذا ببدع من جهل الرافضة و حماقاتهم ثم إن الرافضة تدعي أن الإمام المعصوم لطف من الله بعباده ليكون ذلك ادعى إلى إن يطيعوه فيرحموا وعلى ما قالوه فلم يكن على أهل الأرض نقمة اعظم من علي فإن الذين خالفوه وصاروا مرتدين كفارا والذين وافقوه أذلاء مقهورين تحت النقمة لا يد ولا لسان وهم مع
7
409(188/290)
ذلك يقولون إن خلقه مصلحة ولطف وان الله يجب عليه أن يخلقه وإنه لا تتم مصلحة العالم في دينهم ودنياهم إلا به وأي صلاح في ذلك على قول الرافضة ثم انهم يقولون إن الله يجب عليه ان يفعل اصلح ما يقدر عليه للعباد في دينهم و دنياهم و هو يمكن الخوارج الذين يكفرون به بدار لهم فيها شوكة و من قتال أعدائهم و يجعلهم هم و الأئمة المعصومين في ذل اعظم من ذل اليهود و النصارى و غيرهم من أهل الذمة فإن أهل الذمة يمكنهم إظهار دينهم و هؤلاء الذين يدعي انهم حجج الله على عباده و لطفه في بلاده وأنه لا هدى إلا بهم و لا نجاة إلا بطاعتهم و لا سعادة إلا بمتابعتهم قد غاب خاتمتهم من اكثر من أربعمائة و خمسين سنة فلم ينتفع به أحد في دينه و لا دنياه و هم لا يمكنهم إظهار دينهم كما تظهر اليهود و النصارى دينهم و لهذا ما زال أهل العلم يقولون إن الرفض من إحداث الزنادقة الملاحدة الذين قصدوا إفساد الدين دين الإسلام و يأبى الله إلا أن يتم نوره و لو كره الكافرون فإن منتهى أمرهم تكفير علي و أهل بيته بعد أن كفروا الصحابة و الجمهور
7
410(188/291)
و لهذا كان صاحب دعوى الباطنية الملاحدة رتب دعوته مراتب أول ما يدعو المستجيب إلى التشيع ثم إذا طمع فيه قال له علي مثل الناس و دعاه إلى القدح في علي أيضا ثم إذا طمع فيه دعاه إلى القدح في الرسول ثم إذا طمع فيه دعاه إلى إنكار الصانع هكذا ترتيب كتابهم الذي يسمونه البلاغ الأكبر و الناموس الأعظم و واضعه الذي أرسل به إلى القرمطي الخارج بالبحرين لما استولى على مكة و قتلوا الحجاج وأخذوا الحجر الأسود و استحلوا المحارم وأسقطوا الفرائض و سيرتهم مشهورة عند أهل العلم و كيف يقول النبي صلى الله عليه و سلم من مات و هو يبغض عليا مات يهوديا أو نصرانيا و الخوارج كلهم تكفره و تبغضه و هو نفسه لم يكن يجعلهم مثل اليهود و النصارى بل يجعلهم من المسلمين أهل القبلة و يحكم فيهم بغير ما يحكم به بين اليهود و النصارى و كذلك من كان يسبه و يبغضه من بني أمية وأتباعهم فكيف يكون من يصلي الصلوات و يصوم شهر رمضان و يحج البيت و يؤدي الزكاة مثل اليهود و النصارى و غايته إن يكون قد خفي عليه كون هذا إماما أو عصاه بعد معرفته و كل أحد يعلم أن أهل الدين و الجمهور ليس لهم غرض مع علي و لا لأحد منهم غرض في تكذيب الرسول وأنهم لو علموا أن الرسول جعله إماما كانوا اسبق الناس إلى التصديق بذلك
7
411(188/292)
و غاية ما يقدر انهم خفي عليهم هذا الحكم فكيف يكون من خفي عليه جزء من الدين مثل اليهود و النصارى و ليس المقصود هنا الكلام في التكفير بل التنبيه على أن هذه الأحاديث مما يعلم بالاضطرار أنها كذب على النبي صلى الله عليه و سلم و أنها مناقضة لدين الإسلام و أنها تستلزم تكفير علي و تكفير من خالفه وأنه لم يقلها من يؤمن بالله و اليوم الآخر فضلا عن أن تكون من كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم بل إضافتها و العياذ بالله إلى رسول الله من اعظم القدح و الطعن فيه و لا شك أن هذا فعل زنديق ملحد لقصد إفساد دين الإسلام فلعن الله من افتراها و حسبه ما وعده به الرسول حيث قال من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار فصل قال الرافضي قالت الامامية إذا رأينا المخالف لنا يورد مثل هذه الأحاديث و نقلنا نحن أضعافها عن رجالنا الثقات وجب علينا المصير إليها و حرم العدول عنها و الجواب إن يقال لا ريب أن رجالكم الذين وثقتموهم غايتهم أن يكونوا من جنس من يروي هذه الأحاديث من الجمهور فإذا كان أهل العلم
7
412(188/293)
يعلمون بالاضطرار أن هؤلاء كذابون وأنتم اكذب منهم وأجهل حرم عليكم العمل بها و القضاء بموجبها و الاعتراض على هذا الكلام من وجوه أحدها إن يقال لهؤلاء الشيعة من أين لكم أن الذين نقلوا هذه الأحاديث في الزمان القديم ثقات وأنتم لم تدركوهم و لم تعلموا أحوالهم و لا لكم كتب مصنفة تعتمدون عليها في أخبارهم التي يميز بها بين الثقة و غيره و لا لكم أسانيد تعرفون رجالها بل علمكم بكثير مما في أيديكم شر من علم كثير من اليهود و النصارى بما في أيديهم بل أولئك معهم كتب وضعها لهم هلال و شماس وليس عند جمهورهم ما يعارضها وأما انتم فجمهور المسلمين دائما يقدحون في روايتكم و يبينون كذبكم وأنتم ليس لكم علم بحالهم ثم قد علم بالتواتر الذي لا يمكن حجبه كثرة الكذب و ظهوره في الشيعة من زمن علي و إلى اليوم وأنتم تعلمون أن أهل الحديث يبغضون الخوارج و يروون فيهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة صحيحة و قد روى البخاري
7
413(188/294)
بعضها مسلم عشرة منها و أهل الحديث متدينون بما صح عندهم عن النبي صلى الله عليه و سلم و مع هذا فلم يحملهم بغضهم للخوارج على الكذب عليهم بل جربوهم فوجدوهم صادقين وأنتم يشهد عليكم أهل الحديث و الفقهاء و المسلمون و التجار و العامة و الجند و كل من عاشركم و جربكم قديما و حديثا إن طائفتكم اكذب الطوائف و إذا وجد فيها صادق فالصادق في غيرها اكثر و إذا وجد في غيرها كاذب فالكاذب فيها اكثر و لا يخفى هذا على عاقل منصف و أما من اتبع هواه فقد اعمى الله قلبه و من يضلل الله فلن تجد له وليا مرشدا و هذا الذي ذكرناه معروف عند أهل العلم قديما و حديثا كما قد ذكرنا بعض أقوالهم حتى قال الإمام عبد الله بن المبارك الدين لأهل الحديث و الكذب للرافضة و الكلام للمعتزلة و الحيل لأهل الرأي أصحاب فلان و سوء التدبير لآل أبي فلان وهو كما قال فإن الدين هو ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه و سلم وأعلم الناس به أعلمهم بحديثه و سنته و أما الكلام فأشهر الطوائف به هم المعتزلة و لهذا كانوا اشهر الطوائف بالبدع عند الخاصة و أما الرافضة فهم المعروفون بالبدعة عند الخاصة و العامة حتى أن اكثر العامة لا تعرف في مقابلة الشيء إلا الرافضي لظهور
7
414(188/295)
مناقضتهم لما جاء به الرسول عليه السلام عند الخاصة و العامة فهم عين على ما جاء به حتى الطوائف الذين ليس لهم من الخبرة بدين الرسول ما لغيرهم إذا قالت لهم الرافضة نحن مسلمون يقولون انتم جنس آخر و لهذا الرافضة يوالون أعداء الدين الذين يعرف كل أحد معاداتهم من اليهود و النصارى و المشركين مشركي الترك و يعادون أولياء الله الذين هم خيار أهل الدين و سادات المتقين و هم الذين أقاموه و بلغوه و نصروه و لهذا كان الرافضة من اعظم الأسباب في دخول الترك الكفار إلى بلاد الإسلام و أما قصة الوزير ابن العلقمي و غيره كالنصير الطوسي مع الكفار و ممالأتهم على المسلمين فقد عرفها الخاصة والعامة و كذلك من كان منهم بالشام ظاهروا المشركين على المسلمين و عاونوهم معاونة عرفها الناس و كذلك لما انكسر عسكر المسلمين لما قدم غازان ظاهروا الكفار النصارى و غيرهم من أعداء المسلمين و باعوهم أولاد المسلمين بيع العبيد و أموالهم و حاربوا المسلمين محاربة ظاهرة و حمل بعضهم راية الصليب و هم كانوا من اعظم الأسباب في استيلاء النصارى قديما على بيت المقدس حتى استنقذه المسلمون منهم
7
415(188/296)
و قد دخل فيهم اعظم الناس نفاقا من النصيرية و الإسماعيلية و نحوهم ممن هو اعظم كفرا في الباطن و معاداة لله و رسوله من اليهود و النصارى فهذه الأمور و أمثالها مما هي ظاهرة مشهورة يعرفها الخاصة و العامة توجب ظهور مباينتهم للمسلمين و مفارقتهم للدين و دخولهم في زمرة الكفار و المنافقين حتى يعدهم من رأى أحوالهم جنسا آخر غير جنس المسلمين فإن المسلمين الذين يقيمون دين الإسلام في الشرق و الغرب قديما و حديثا هم الجمهور و الرافضة ليس لهم سعي إلا في هدم الإسلام و نقض عراه و إفساد قواعده و القدر الذي عندهم من الإسلام إنما قام بسبب قيام الجمهور به و لهذا قراءة القرآن فيهم قليلة و من يحفظه حفظا جيدا فإنما تعلمه من أهل السنة و كذلك الحديث إنما يعرفه و يصدق فيه و يؤخذ عن أهل السنة و كذلك الفقه و العبادة و الزهد و الجهاد و القتال إنما هو لعساكر أهل السنة و هم الذين حفظ الله بهم الدين علما و عملا بعلمائهم و عبادهم و مقاتليهم و الرافضة من اجهل الناس بدين الإسلام و ليس للإنسان منهم شيء يختص به إلا ما يسر عدو الإسلام و يسوء وليه فأيامهم في الإسلام
7
416(188/297)
كلها سود وأعرف الناس بعيوبهم و ممادحهم أهل السنة لا تزال تطلع منهم على أمور غيرها عرفتها كما قال تعالى في اليهود و لا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم و لو ذكرت بعض ما عرفته منهم بالمباشرة و نقل الثقات و ما رايته في كتبهم لاحتاج ذلك إلى كتاب كبير و هم الغاية في الجهل و قلة العقل يبغضون من الأمور ما لا فائدة لهم في بغضه ويفعلون من الأمور ما لا منفعة لهم فيه إذا قدر انهم على حق مثل نتف النعجة حتى كأن لهم عليها ثأرا كأنهم ينتفون عائشة و شق جوف الكبش كأنهم يشقون جوف عمر فهل فعل هذا أحد من طوائف المسلمين بعدوه غيرهم و لو كان مثل هذا مشروعا لكان بأبي جهل و أمثاله أولى و مثل كراهتهم للفظ العشرة لبغضهم للرجال العشرة و قد ذكر الله لفظ العشرة في غير موضع من القرآن كقوله و الفجر و ليال عشر و قوله و أتممناها بعشر تلك عشرة كاملة
7
417(188/298)
و أما التسعة فذكرها في معرض الذم كقوله و كان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض و لا يصلحون فهل كره المسلمون التكلم بلفظ التسعة لأجل أولئك التسعة و هم يختارون التكلم بلفظ التسعة على لفظ العشرة و كذلك كراهيتهم لأسام سمي بها من يبغضونه و قد كان من الصحابة من تسمي بأسماء تسمى بها عدو الإسلام مثل الوليد الذي هو الوحيد و كان ابنه من خيار المسلمين و اسمه الوليد و كان النبي صلى الله عليه و سلم يقنت له في الصلاة و يقول اللهم نج الوليد بن الوليد كما رواه أهل الصحيحين و مثل آبي بن خلف الذي قتله النبي صلى الله عليه و سلم و في المسلمين آبي بن كعب و غيره و مثل عمرو بن ود العامري و في الصحابة عمرو بن أمية و عمرو بن العاص و مثل هذا كثير و لم يغير النبي صلى الله عليه و سلم اسم رجل من الصحابة لكون كافر سمي به فلو قدر كفر من يبغضونه لكان كراهتهم لمثل أسمائهم في غاية الجهل مع إن النبي صلى الله عليه و سلم كان يدعوهم بها و يقال لهم كل من جرب من أهل العلم و الدين الجمهور علم انهم
7
418(188/299)
لا يرضون بالكذب و لو وافق أغراضهم فكم يروون لهم في فضائل الخلفاء الثلاثة و غيرها أحاديث بأسانيد خير من أسانيد الشيعة و يرويها مثل ابي نعيم و الثعلبي و آبي بكر النقاش و الاهوازي و ابن عساكر و أمثال هؤلاء و لا يقبل علماء الحديث منها شيئا بل إذا كان الراوي عندهم مجهولا توقفوا في روايته و أما انتم معاشر الرافضة فقد رأيناكم تقبلون كل ما يوافق رأيكم و أهواءكم لا تردون غثا و لا سمينا و يقال لكم إذا كان عند الجمهور من الأحاديث الصحيحة المعروفة عند من يعلم المسلمون كلهم صدقة و علمه و أنتم ممن يعلم ذلك أحاديث متلقاة بالقبول بل متواترة توجب العلم الضروري الذي لا يمكن دفعه عن القلب تناقض هذه الأدلة التي رواها طائفة مجهولة أو معروفة بالكذب منكم ومن الجمهور فهل يمكن أن يدفع الناس ما علموه بالضرورة و ما علموه مستفيضا بنقل الثقات الإثبات الذين يعرف صدقهم و ضبطهم هل يمكن دفع هذا بمثل هذه الروايات المسيبة التي لا زمام لها و لا خطام و لو روى رجل إن الصلوات كانت اكثر من خمس و إن الصوم الواجب شهران و إن على المسلمين حج بيت آخر هل كان الطريق إلى تكذيب هذا إلا من جنس الطريق إلى تكذيبهم و قد نبهنا في هذا الرد على طرق مما به يعلم كذب ما يعتمدون عليه
7
419(188/300)
غير طرق أهل الحديث وبينا كذبهم تارة بالعقل وتارة بما علم بالقران وتارة بما علم بالتواتر وتارة بما اجمع الناس كلهم عليه ومن المعلوم إن الأخبار المخالفة للقران والتواتر والإجماع والمخالفة للعقل يعلم بطلانها وهذا من جملة الطرق التي يعلم بها طرق ما يناقضون به مذهب أهل السنة من الأخبار وهم لا يعتمدون في أدلتهم إلا على أحد ثلاثة أشياء أما نقل كاذب و أما دلالة مجملة مشبهة و أما قياس فاسد وهذا حال كل من احتج بحجة فاسدة نسبها إلى الشريعة فان عمدته أما نص و أما قياس والنص يحتاج إلى صحة الإسناد ودلالة المتن فلا بد إن يكون النص ثابتا عن الرسول ولا بد إن يكون دالا على المطلوب والحجج الباطلة السمعية أما نقل كاذب و أما نقل صحيح لا يدل و أما قياس فاسد وليس للرافضة وغيرهم من أهل الباطل حجة سمعية إلا من هذا الجنس وقولنا نقل يدخل فيه كلام الله ورسوله وكلام أهل الإجماع عند من يحتج به فان الرافضة لا تحتج بالإجماع و الأفعال والإقرار و الإمساك يجري مجرى ذلك فصل واعلم انه ليس كل أحد من أهل النظر والاستدلال خبيرا بالمنقولات
7
420(188/301)
والتمييز بين صدقها وكذبها وصوابها وخطئها فضلا عن العامة وقد علم من حيث الجملة إن المنقول منه صدق ومنه كذب وليس لهم خبرة أهل المعرفة علماء الحديث فهؤلاء يحتاجون في الاستدلال على الصدق والكذب إلى طرق أخرى والله سبحانه الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى أعطى كل شيء خلقه ثم هدى الذي اخرج الناس من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة يهدي من يشاء من عباده بما تيسر له من الأدلة التي تبين له الحق من الباطل والصدق من الكذب كما في الحديث الصحيح الإلهي يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ولهذا تنوعت الطرق التي بها يعلم الصدق من الكذب حتى في أخبار المخبر عن نفسه بأنه رسول الله وهو دعوى النبوة فالطرق التي يعلم بها صدق الصادق وكذب المتنبئ الكذاب كثيرة متنوعة كما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع وكذلك بما يعلم به صدق المنقول عن الرسول وكذبه يتعدد ويتنوع وكذلك ما به يعلم صدق الذين حملوا العلم فان أهل العلم يعلمون صدق مثل مالك والثوري وشعبة ويحيى
7
421(188/302)
ابن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي واحمد بن حنبل والبخاري ومسلم وأبي داود و أمثال هؤلاء علما يقينا يجزمون بانهم لا يتعمدون الكذب في الحديث ويعلمون كذب محمد بن سعيد المصلوب وأبي البختري القاضي واحمد بن عبد الله الجويباري وعتاب بن إبراهيم بن عتاب وأبي داود النخعي ونحوهم ممن يعلمون انهم يتعمدون الكذب و أما الخطأ فلا يعصم من الإقرار عليه إلا نبي لكن أهل الحديث يعلمون إن مثل الزهري والثوري ومالك ونحوهم من اقل الناس غطا في أشياء خفيفة لا تقدح في مقصود الحديث ويعرفون رجالا دون هؤلاء يغلطون أحيانا والغالب عليهم الحفظ والضبط ولهم دلائل يستدلون بها على غلط الغالط ودون هؤلاء قوم كثير غلطهم فهؤلاء لا يحتجون بهم إذا انفردوا لكن يعتبرون بحديثهم ويستشهدون به بمعنى انهم ينظرون فيما رووه هل رواه غيرهم فإذا تعددت الطرق واللفظ واحد مع العلم بانهم لم يتواطأ ولا يمكن في العادة اتفاق الخطأ في مثل ذلك كان هذا مما يدلهم على صدق الحديث ولهذا قال احمد اكتب حديث الرجل لاعتبر به مثل ابن لهيعة ونحوه فانه كان عالما دينا قاضيا لكن احترقت كتبه فصار يحدث بعد
7
422(188/303)
ذلك بأشياء دخل فيها غلط لكن اكثر ذلك صحيح يوافقه عليها الثقات كالليث و امثاله و اهل الحديث يعلمون صدق متون الصحيحين ويعلمون كذب الأحاديث الموضوعة التي يجزمون بأنها كذب بأسباب عرفوا بها ذلك من شركهم فيها علم ما علموه ومن لم يشركهم لم يعلم ذلك كما إن الشهود الذين يتحملون الشهادة ويؤدونها يعرف من جربهم وخبرهم وصدق صادقهم وكذب كاذبهم و كذلك أهل المعاملات في البيع و الإجارة يعلم من جربهم و خبرهم صادقهم و كاذبهم و امينهم و خائنهم و كذلك الأخبار قد يعلم الناس صدق بعضها و كذب بعضها و يشكون في بعضها و باب المعرفة بأخبار النبي صلى الله عليه و سلم و أقواله و أفعاله و ما ذكره من توحيد و أمر و نهي و وعد و وعيد و فضائل لأعمال أو لأقوام أو أمكنة أو أزمنة و مثالب لمثل ذلك اعلم الناس به أهل العلم بحديثه الذين اجتهدوا في معرفة ذلك و طلبه من وجوهه و علموا أحوال نقلة ذلك و أحوال الرسول صلى الله عليه و سلم من وجوه متعددة و جمعوا بين رواية هذا و هذا و هذا فعلموا صدق الصادق و غلط الغالط و كذب الكاذب و هذا علم أقام الله له من حفظ به على الأمة ما حفظ من دينها و غير
7
423(188/304)
هؤلاء لهم تبع فيه أما مستدل بهم و أما مقلد لهم كما إن الاجتهاد في الأحكام أقام الله له رجالا اجتهدوا فيه حتى حفظ الله بهم على الأمة ما حفظ من الدين و غيرهم لهم تبع فيه أما استدل بهم و أما مقلد لهم مثال ذلك إن خواص أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم اعلم به ممن هو دونهم في الاختصاص مثل آبي بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة و الزبير و عبد الرحمن بن عوف و سعد و آبي بن كعب و معاذ بن جبل و ابن مسعود و بلال و عمار بن ياسر و آبي ذر الغفاري و سلمان و آبي الدرداء و آبي أيوب الأنصاري و عبادة بن الصامت و حذيفة وأبي طلحة و أمثال هؤلاء من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم اكثر اختصاصا به ممن ليس مثلهم لكن قد يكون بعض الصحابة أحفظ وأفقه من غيره وان كان غيره أطول صحبة وقد يكون اكثر مما اخذ عن غيره أيظا أخذ عن بعضهم من العلم لطول عمره وان كان غيره اعلم منه كما اخذ عن آبي هريرة وابن عمر وابن عباس وعائشة وجابر وأبي سعيد من الحديث اكثر مما اخذ عمن هو افضل منهم كطلحة والزبير ونحوهم و اما الخلفاء الأربعة فلهم في تبليغ كليات الدين ونشر أصوله واخذ الناس ذلك عنهم ما ليس لغيرهم وان كان يروى عن صغار الصحابة
7
424(188/305)
من الأحاديث المفردة اكثر مما يروى عن بعض الخلفاء فالخلفاء لهم عموم التبليغ وقوته التي لم يشركهم فيها غيرهم ثم لما قاموا بتبليغ ذلك شاركهم فيه غيرهم فصار متواترا كجمع آبي بكر وعمر القران في الصحف ثم جمع عثمان له في المصاحف التي أرسلها إلى الأمصار فكان الاهتمام بجمع القران وتبليغه أهم مما سواه وكذلك تبليغ شرائع الإسلام إلى أهل الأمصار ومقاتلتهم على ذلك واستنابتهم في ذلك الأمراء والعلماء وتصديقهم لهم فيما بلغوه عن الرسول فبلغ من أقاموه من أهل العلم حتى صار الدين منقولا نقلا عاما متواترا ظاهرا معلوما قامت به الحجة ووضحت به المحجة وتبين به إن هؤلاء كانوا خلفاءه المهديين الراشدين الذين خلفوه في أمته علما وعملا وهو صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى في حقه والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فهو ما ضل وما غوى وكذلك خلفاؤه الراشدون الذين قال فيهم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ فانهم خلفوه في ذلك فانتفى عنهم بالهدى الضلال وبالرشد الغي
7
425(188/306)
وهذا هو الكمال في العلم والعمل فان الضلال عدم العلم والغي اتباع الهوى ولهذا امرنا الله تعالى إن نقول في صلاتنا اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وقال النبي صلى الله عليه وسلم اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون فالمهتدي الراشد الذي هداه الله الصراط المستقيم فلم يكن من أهل الضلال الجهال ولا من أهل الغي المغضوب عليهم والمقصود هنا إن بعض الصحابة اعلم بالرسول من بعض وبعضهم اكثر تبليغا لما علمه من بعض ثم قد يكون عند المفضول علم قضية معينة لم يعلمها الأفضل فيستفيدها منه ولا يوجب هذا ذلك إن يكون هذا اعلم منه مطلقا ولا إن هذا الأعلم يتعلم من ذلك المفضول ما امتاز به ولهذا كان الخلفاء يستفيدون من بعض الصحابة علما لم يكن عندهم كما استفاد أبو بكر رضي الله عنه علم ميراث الجدة من محمد ابن مسلمة والمغيرة بن شعبة واستفاد عمر رضي الله عنه علم دية
7
426(188/307)
الجنين والأستأذان وتوريث المرأة من دية زوجها وغير ذلك من غيره واستفاد عثمان رضي الله عنه حديث مقام المتوفى عنها في بيتها حتى يبلغ الكتاب اجله من غيره واستفاد علي رضي الله عنه حديث صلاة التوبة من غيره وقد يخفى ذلك العلم عن الفاضل حتى يموت ولم يعلمه ويبلغه من هو دونه وهذا كثير ليس هذا موضعه لكن المقصود إن نبين طرق العلم فالصحابة الذين اخذ الناس عنهم العلم بعد الخلفاء الأربعة مثل آبي بن كعب وابن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وزيد بن ثابت وحذيفة وعمران بن حصين وأبي موسى وسلمان وعبد الله بن سلام و أمثالهم وبعد هؤلاء مثل عائشة وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو وأبي سعيد وجابر وغيرهم ومن التابعين مثل الفقهاء وغيرهم وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعلي بن الحسين وخارجة بن زيد بن ثابت وسليمان بن اليسار ومثل علقمة والاسود وشريح القاضي وعبيدة السلماني والحسن البصري ومحمد بن سيرين و أمثالهم ثم من بعد هؤلاء مثل الزهري و قتادة ويحيى بن آبي كثير
7
427(188/308)
و مكحول الشامي و أيوب السختياني و يحيى بن سعيد الأنصاري و يزيد بن أبي حبيب المصري و أمثالهم ثم من بعد هؤلاء مثل مالك و الثوري و حماد بن زبد وحماد ابن سلمة و الليث والاوزاعي و شعبة و زائدة و سفيان بن عيينة و أمثالهم ثم من بعد هؤلاء مثل يحيى القطان و عبد الرحمن بن مهدي و ابن المبارك و عبد الله بن وهب و وكيع بن الجراح و إسماعيل بن علية و هشيم بن بشير و آبي يوسف القاضي و الشافعي و احمد و الحميدي وإسحاق بن راهويه والقاسم بن سلام وأبي ثور وابن معين وابن المديني و آبي بكر بن آبي شيبة و آبي خيثمة زهير بن حرب و بعد هؤلاء البخاري و مسلم و أبو داود و أبو زرعة و أبو حاتم و عثمان بن سعيد الدارمي و عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي و محمد بن مسلم بن واره و أبو بكر الاثرم و إبراهيم الحربي و بقي بن مخلد الأندلسي و محمد بن وضاح
7
428
و مثل أبي عبد الرحمن النسائي و الترمذي و ابن خزيمة و محمد بن نصر المروزي و محمد بن جرير الطبري و عبد الله بن احمد ابن حنبل و عبد الرحمن بن أبي حاتم ثم من بعد هؤلاء مثل أبي حاتم ألبستي و أبي بكر النجاد و أبي بكر النيسابوري و أبي قاسم الطبراني و أبي الشيخ الاصبهاني وأبي احمد العسال الاصبهاني و أمثالهم ثم من بعد هؤلاء مثل أبي الحسن الدارقطني و ابن منده و الحاكم أبي عبد الله و عبد الغني بن سعيد و أمثال هؤلاء ممن لا يمكن إحصاؤهم فهؤلاء و أمثالهم اعلم بأحوال رسول الله صلى الله عليه و سلم من غيرهم و إن كان في هؤلاء من هو اكثر رواية و فيهم من هو اكثر منهم معرفة بصحيحه من وسقيمه و منهم من هو افقه فيه من غيره قال احمد بن حنبل معرفة الحديث و الفقه فيه احب إلي من حفظه و قال علي بن المديني اشرف العلم الفقه في متون الأحاديث و معرفة أحوال الرواة فان يحيى بن معين و علي بن المديني و نحوهما اعرف بصحيحيه و سقيمه من مثل أبي عبيد و أبي ثور و أبو عبيد و أبو ثور
7
429(188/309)
و نحوهما افقه من أولئك و احمد كان يشارك هؤلاء و هؤلاء و كان أئمة هؤلاء و هؤلاء ممن يحبهم و يحبونه كما كان مع الشافعي و أبي عبيد و نحوهما من أهل الفقه في الحديث و مع يحيى بن معين و علي بن المديني و نحوهما من أهل المعرفة في الحديث و مسلم بن الحجاج له عناية بصحيحه اكثر من أبي داود و أبو داود له عناية بالفقه أكثر والبخاري له عناية بهذا و هذا وليس المقصود هنا توسعة الكلام في هذا بل المقصود أن علماء أهل العلم بالحديث لهم من المعرفة بأحوال الرسول ما ليس لغيرهم فهم أئمة هذا الشان وقد يكون الرجل صادقا كثير الحديث كثير الرواية فيه لكن ليس من أهل العناية بصحيحه وسقيمه فهذا يستفاد منه نقله فانه صادق ضابط و أما المعرفة بصحيحه وسقيمه فهذا علم آخر وقد يكون مع ذلك فقيها مجتهدا وقد يكون صالحا من خيار المسلمين وليس له كثير معرفة لكن هؤلاء وان تفاضلوا في العلم فلا يروج عليهم من الكذب ما يروج على من لم يكن له علمهم فكل من كان بالرسول اعرف كان تمييزه بين الصدق والكذب أتم فقد يروج على أهل التفسير والفقه والزهد والنظر أحاديث كثيرة إما يصدقون بها و إما يجوزون بصدقها وتكون معلومة الكذب عند علماء الحديث وقد يصدق بعض هؤلاء بما يكون كذبا عند أهل المعرفة مثل ما
7
430(188/310)
يروي طائفة من الفقهاء حديث لا تفعلي يا حميراء فانه يورث البرص وحديث زكاة الأرض نبتها وحديث نهى عن بيع وشرط ونهى عن بيع المكاتب والمدبر و أم الولد وحديث نهى عن قفيز الطحان وحديث لا يجتمع العشر والخراج على مسلم وحديث ثلاث هن على فريضة وهن لكم تطوع الوتر والنحر وركعتا الفجر وحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر يتم ويقصر وحديث ثلاث هن علي فريضة وهن لكم تطوع الوتر والنحر وركعتا الفجر وحديث لا تقطع اليد إلا في عشر دراهم وحديث لا مهر دون عشرة دراهم وحديث الفرق بين الطلاق والعتاق في الاستثناء وحديث اقل الحيض ثلاثة وأكثره عشرة وحديث نهى عن البتراء وحديث يغسل الثوب من المنى والدم وحديث الوضوء مما خرج لامما دخل وحديث نهى عن البتراء وحديث كان يرفع يديه في ابتداء الصلاة ثم لا يعود إلى أمثال ذلك من الأحاديث التي يصدق بعضها طائفة من الفقهاء ويبنون عليها الحلال والحرام وأهل العلم بالحديث متفقون على إنها كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم موضوعة عليه وكذلك أهل العلم من الفقهاء يعلمون ذلك وكذلك أحاديث يرويها كثير من النساك ويظنها صدقا مثل قولهم
7
431(188/311)
أن عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا ومثل قولهم أن قوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه نزل في أهل الصفة ومثل حديث غلام المغيرة بن شعبة أحد الإبدال الأربعين وكذلك حديث فيه ذكر الإبدال والأقطاب و الاغواث وعدد الأولياء و أمثال ذلك مما يعلم أهل العلم بالحديث انه كذب وكذلك أمثال هذه الأحاديث قد تعلم من غير طريق أهل الحديث مثل أن نعلم أن قوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي في سورة الأنعام وفي سورة الكهف وهما سورتان مكيتان باتفاق الناس والصفة إنما كانت بالمدينة ومثل ما يروون في أحاديث المعراج انه رأي ربه في صورة كذا
7
432(188/312)
و أحاديث المعراج التي في الصحاح ليس فيها شيء من أحاديث ذكر الرؤية وإنما الرؤية في أحاديث مدنية كانت في المنام كحديث معاذ ابن جبل أتاني البارحة ربي في احسن صورة إلى آخره فهذا منام رآه في المدينة و كذلك ما شابههه كلها كانت في المدينة في المنام و المعراج كان بمكة بنص القرآن و اتفاق المسلمين و قد يروج على طائفة من الناس من الحديث ما هو اظهر كذبا من هذا مثل تواجد النبي صلى الله عليه و سلم حتى سقطت البردة عنه فهذا من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة و طافة يظنون هذا صدقا لما رواه محمد بن طاهر المقدسي فانه رواه في مسالة السماع و رواه أبو حفص السهرودي لكن قال يخالج سري أن هذا الحديث ليس دون اجتماع النبي صلى الله عليه و سلم بأصحابه و هذا الذي ظنه و خالج سره هو يقين عند غيره قد خالط قلبه فإن أهل العلم بالديث متفقون على أن هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم و اعظم من هذا ظن طائفة أن أهل الصفة قاتلوا النبي صلى الله عليه و سلم و انه يجوز للأولياء قتال الأنبياء إذا كان الغدر عليهم و هذا مع انه من اعظم الكفر و الكذب فقد راج على كثير ممن ينتسب إلى الأحوال و المعارف و الحقائق و هم في الحقيقة لهم أحوال شيطانية و الشياطين التي تقترن بهم قد تخبرهم ببعض الغائبات و تفعل بعض
7
433(188/313)
أغراضهم و تقضي بعض حوائجهم و يظن كثير من الناس انهم بذلك أولياء الله و إنما هم من أولياء الشياطين و كذلك قد يروج على كثير ممن ينتسب إلى السنة أحاديث يظنونها من السنة و هي كذب كالأحاديث المروية في فضائل عاشوراء غير الصوم و فضل الكحل فيه و الاغتسال و الحديث و الخضاب و المصافحة و توسعة النفقة على العيال فيه و نحو ذلك و ليس في عاشوراء حديث صحيح غير الصوم و كذلك ما يروى في فضل صلوات معينة فيه فهذا كله كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة و لم ينقل هذه الأحاديث أحد من أئمة أهل العلم في كتبهم و لهذا لما سئل الإمام احمد عن الحديث الذي يروى من وسع على أهله يوم عاشوراء فقال لا اصل له و كذلك الأحاديث المروية في فضل رجب بخصوصه أو فضل صيامه أو صيام شيء منه أو فضل صلاة مخصوصة فيه كالرغائب كلها كذب مختلق و كذلك ما يروى في صلاة الأسبوع كصلاة يوم الأحد و الاثنين
7
434(188/314)
و غيرهما كذب و كذلك ما يروى من الصلاة المقدرة ليلة النصف و أول ليلة جمعة من رجب أو ليلة سبع و عشرين منه و نحو ذلك كلها كذب و كذلك كل صلاة فيها الأمر بتقدير عدد الآيات أو السور أو التسبيح فهي كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث إلا صلاة التسبيح فان فيها قولين لهم و اظهر القولين إنها كذب و إن كان قد اعتقد صدقها طائفة من أهل العلم و لهذا لم يأخذها أحد من أئمة المسلمين بل احمد بن حنبل و أئمة الصحابة كرهوها و طعنوا في حديثها و إما مالك و أبو حنيفة و الشافعي و غيرهم فلم يسمعوها بالكلية و من يستحبها من أصحاب الشافعي و احمد و غيرهما فإنما هو اختيار منهم لا نقل عن الأئمة و أما ابن المبارك فلم يستحب الصفة المذكورة المأثورة التي فيها التسبيح قبل القيام بل استحب صفة أخرى توافق المشروع لئلا تثبت سنة بحديث لا اصل له و كذلك أيضا في كتب التفسير أشياء منقولة عن النبي صلى الله عليه و سلم يعلم أهل العلم بالحديث إنها كذب مثل حديث فضائل سور القرآن الذي يذكره الثعلبي و الواحدي في أول كل سورة و يذكره الزمخشري في آخر كل سورة و يعلمون أن اصح ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم في فضائل السور أحاديث قل هو الله أحد و لهذا رواها أهل الصحيح فافرد
7
435(188/315)
الحفاظ لها مصنفات كالحافظ أبي محمد الخلال وغيره ويعلمون أن الأحاديث المأثورة في فضل فاتحة الكتاب و آية الكرسي وخواتيم البقرة والمعوذتين أحاديث صحيحة فلهم فرقان يفرقون به بين الصدق والكذب و أما أحاديث سبب النزول فغالبها مرسل ليس بمسند ولهذا قال الإمام احمد بن حنبل ثلاث علوم لا إسناد لها وفي لفظ ليس لها اصل التفسير والمغازي والملاحم ويعني أن أحاديثها مرسلة والمراسيل قد تنازع الناس في قبولها وردها وحسب الأقوال أن منها المقبول ومنها المردود الموقوف فمن علم من حاله انه لا يرسل إلا عن ثقة قبل مرسله ومن عرف انه يرسل عن ثقة وغير الثقة كان إرساله رواية عمن لا يعرف حاله فهذا موقوف وما كان من المراسيل مخالفا لما رواه الثقات كان مردودا وإذا جاء المرسل من وجهين كل من الراويين اخذ العلم عن شيوخ الآخر فهذا مما يدل على صدقه فان مثل ذلك لا يتصور في العادة تماثل الخطأ فيه وتعمد الكذب كان هذا مما يعلم انه صدق فان المخبر إنما يؤتي من جهة تعمد الكذب ومن جهة
7
436(188/316)
الخطأ فإذا كانت القصة مما يعلم انه لم يتواطأ فيه المخبران والعادة تمنع تماثلهما في الكذب عمدا والخطأ مثل أن تكون القصة طويلة فيها أقوال كثيرة رواها هذا مثل ما رواها هذا فهذا يعلم انه صدق وهذا ما يعلم به صدق محمد صلى الله عليه وسلم وموسى عليه السلام فان كلا منهما اخبر عن الله وملائكته وخلقه للعالم وقصة آدم ويوسف وغيرهما من قصص الأنبياء عليهم السلام بمثل ما اخبر به الآخر مع العلم بانه واحدا منهما لم يستفد ذلك من الآخر وانه يمتنع في العادة تماثل الخبرين الباطلين في مثل ذلك فان من اخبر بأخبار كثيرة مفصلة دقيقه عن مخبر معين لو كان مبطلا في خبره لاختلف خبره لامتناع أن مبطلا يختلق ذلك من غير تفاوت لا سيما في أمور لا تهتدي العقول إليها بل ذلك بين كلا إن كلا منهما اخبر بعلم وصدق وهذا مما يعلمه الناس من أحوالهم فلو جاء رجل من بلد إلى آخر واخبر عن حوادث مفصلة حدثت فيه تنتطم أقوالا وأفعالا مختلفة وجاء من علمنا انه لم يوطئه على الكذب فحكي مثل ذلك علم قطعا أن الأمر كان كذلك فان الكذب قد يقع في مثل ذلك لكن على سبيل المواطأة وتلقي بعضهم عن بعض كما يتوارث أهل الباطل المقالات الباطلة مثل مقالة النصارى والجهمية والرافضة ونحوهم فإنها وان كان يعلم بضرورة العقل إنها باطلة لكنها تلقاها بعضهم عن بعض
7
437(188/317)
فلما تواظأوا عليها جاز اتفاقهم فيها على الباطل والجماعة الكثيرون يجوز اتفاقهم على جحد الضروريات على سبيل التواطؤ إما عمدا للكذب و إما خطأ في الاعتقاد و إما اتفاقهم على جحد الضروريات من دون هذا وهذا فممتنع فصل في الطرق التي يعلم بها كذب المنقول منها أن يروى خلاف ما علم بالتواتر والاستفاضة مثل أن نعلم أن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة واتبعه طوائف كثيرة من بني حنيفة فكانوا مرتدين لايمانهم بهذا المتنبئ الكذاب وان أبا لؤلؤة قاتل ععر كان مجوسيا كافرا وان أبا الهرمزان كان مجوسيا اسلم وان أبا بكر كان يصلي بالناس مدة مرض الرسول صلى الله عليه وسلم ويخلفه بالإمامة بالناس لمرضه وان أبا بكر وعمر دفن في حجرة عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم ومثل ما يعلم من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم التي كان فيها القتال كبدر واحد ثم الخندق ثم خيبر ثم فتح مكة ثم غزوة الطائف والتي لم يكن فيها قتال كغزوة تبوك وغيرها وما نزل من القران
7
438(188/318)
في الغزوات كنزول الأنفال بسبب بدر ونزول آخر آل عمران بسبب أحد ونزول أولها بسبب نصارى نجران ونزول سورة الحشر بسبب بني النضير ونزول الأحزاب بسبب الخندق ونزول سورة الفتح بسبب صلح الحديبية ونزول براءة بسبب غزوة تبوك وغيرها و أمثال ذلك فإذا روى في الغزوات وما يتعلق بها ما يعلم انه خلاف الواقع علم انه كذب مثل ما يروي هذا الرافضي و أمثاله من الرافضة وغيرهم من الأكاذيب الباطلة الظاهرة في الغزوات كما تقدم التنبيه عليه ومثل أن يعلم نزول القران في أي وقت كان كما يعلم أن سورة البقرة وال عمران والنساء والمائدة و الأنفال وبراءة نزلت بعد الهجرة في المدينة وان الأنعام والأعراف ويونس وهود ويوسف والكهف وطه ومريم واقتربت الساعة وهل أتى على الإنسان وغير ذلك نزلت قبل الهجرة بمكة وان المعراج كان بمكة وان الصفة كانت بالمدينة وان أهل الصفة كانوا من جملة الصحابة الذين لم يقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا ناسا معينين بل كانت الصفة منزلا ينزل بها من لا أهل له من الغرباء القادمين وممن دخل فيهم سعد بن أبي وقاص وأبو هريرة وغيرهما من صالحي المؤمنين وكالعرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام
7
439
فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم في الحرة يستسقون فلا يسقون و أمثال ذلك من الأمور المعلومة فإذا روى الجاهل نقيض ذلك علم انه كذب ومن الطرق التي يعلم بها الكذب أن ينفرد الواحد والاثنان بما يعلم انه لو كان واقعا لتوفرت الهمم والدواعي على نقله فانه من المعلوم انه لو اخبر الواحد ببلد عظيم بقدر بغداد والشام وبغداد والعراق لعلمنا كذبه في ذلك لانه لو كان موجودا لأخبر به الناس
7
440(188/319)
وكذلك لو اخبرنا بأنه تولى رجل بين عمر وعثمان أو تولى بين عثمان وعلي أو اخبرنا بان النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذن له في العيد أو في صلاة الكسوف أو الاستسقاء أو انه كان يقام بمدينته يوم الجمةاكثر من جمعة واحدة أو يصلى يوم العيد اكثر من عيد واحد أو انه كان يصلي العيد بمنى يوم العيد أو أن أهل مكة كانوا يتمون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى خلفه أو انه كان يجمع الصلاتين بمنى كما كان يقصر أو انه فرض صوم شهر آخر غير رمضان أو انه فرض صلاة سادسة وقت الضحى أو نصف الليل أو انه فرض حج بيت آخر غير الكعبة أو أن القران عارضه طائفة من العرب وعيرهم بكلام يشابهه ونحو هذه الأمور لكنا نعلم كذب هذا الكاذب فإنا نعلم انتفاء هذه الأمور بانتفاء لازمها فان هذه لو كانت مما يتوفر الهمم والدواعي على نقلها عامة لبني آدم وخاصة لامتنا شرعا فإذا لم ينقلها أحد من أهل العلم فضلا عن أن تتواتر علم إنها كذب ومن هذا الباب نقل النص على خلافة علي فإنا نعلم انه كذب من طرق كثيرة فان هذا النص لم ينقله أحد من أهل العلم بإسناد صحيح فضلا عن أن يكون متواترا ولا نقل أن أحدا ذكره على عهد
7
441(188/320)
الخلفاء مع تنازع الناس في الخلافة وتشاورهم فيها يوم السقيفة وحين موت عمر وحين جعل الأمر شورى بينهم في ستة ثم لما قتل عثمان واختلف الناس على علي فمن المعلوم أن مثل هذا النص و لو كان كما تقوله الرافضة من انه نص على على نصا جليا قاطعا للعذر علمه المسلمون لكان من المعلوم بالضرورة انه لا بد أن ينقله الناس نقل مثله وانه لابد أن يذكره لكثير من الناس بل أكثرهم في مثل هذه المواطن التي تتوفر الهمم على ذكره فيها غاية التوفر فانتفاء ما يعلم انه لازم يقتضي انتفاء ما يعلم انه ملزوم ونظائر ذلك كثيرة ففي الجملة الكذب هو نقيض الصدق واحد النقيضين يعلم انتفاؤه تارة بثبوت نقيضه وتارة بما يدل على انتفائه بخصوصه والكلام مع الشيعة أكثره مبني على النقل فمن كان خبيرا بما وقع وبالأخبار الصادقة التي توجب العلم اليقيني علم انتفاء ما يناقض ذلك يقينا ولهذا ليس في أهل العلم بالأحاديث النبوية إلا ما يوجب العلم بفضل الشيخين وصحة إمامتهما وكذب ما تدعيه الرافضة
7
442
ثم كل من كان اعلم بالرسول وأحواله كان اعلم ببطلان مذهب الزيدية وغيرهم ممن يدعي نصا خفيا وان عليا كان افضل من الثلاثة أو يتوقف في التفضيل فان هؤلاء إنما وقعوا بالجهل المركب أو البسيط لضعف علمهم بما علمه أهل العلم بالأحاديث والآثار فصل واعلم انه ثم أحاديث آخر لم يذكرها هذا الرافضي لو كانت صحيحة لدلت على مقصوده وفيها ما هو أدل من بعض ما ذكره لكنها كلها كذب والناس قد رووا أحاديث مكذوبة في فضل أبي بكر وعمر وعثمان وعلى ومعاوية رضي الله عنهم وغيرهم لكن المكذوب في فضل علي اكثر لان الشيعة أجرا على الكذب من النواصب قال أبو الفرج بن الجوزي فضائل علي الصحيحة كثيرة غير أن الرافضة لم تقنع فوضعت له ما يضع لا ما يرفع وحوشيت حاشيته من الاحتياج إلى الباطل قال فاعلم أن الرافضة ثلاث أصناف صنف منهم سمعوا
7
443(188/321)
أشياء من الحديث فوضعوا أحاديث وزادوا ونقصوا وصنف لم يسمعوا فتراهم يكذبون على جعفر الصادق ويقولون قال جعفر وقال فلان وصنف ثالث عوام جهله يقولون ما يريدون مما يسوغ في العقل ومما لا يسوغ فمن أماثل الموضوعات ما رواه ابن الجوزي من طريق النسائي في كتابه الذي وضعه في خصائص علي من حديث عبيد الله بن موسى حدثنا العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الاسدي قال قال علي رضي الله عنه أنا عبد الله و أخو رسول الله و أنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كاذب صليت قبل الناس سبع سنين ورواه احمد في الفضائل وفي رواية له ولقد أسلمت قبل الناس بسبع سنين ورواه من حديث العلاء بن صالح أيضا عن المنهال بن عباد
7
444
قال أبو الفرج هذا حديث موضوع والمتهم به عابد بن عبد الله قال علي بن المديني كان ضعيف الحديث وقال أبو الفرج حماد الازدي روى أحاديث لا يتابع عليها و إما المنهال فتركه شعبة قال أبو بكر الاثرم سألت أبا عبد الله عن حديث علي أنا عبد الله و أخو رسول الله فقال اضرب عليه فانه حديث منكر قلت وعباد يروي من طريقه عن علي ما يعلم انه كذب عليه قطعا مثل هذا الحديث فإننا نعلم أن عليا كان ابر واصدق واتقى لله من أن يكذب ويقول مثل هذا الكلام الذي هو كذب ظاهر معلوم بالضرورة انه كذب وما علمنا أنه كذب ظاهر لا يشتبه فقد علمنا أن عليا لم يقله لعلمنا بأنه اتقى الله من أن يتعمد هذا الكذب القبيح وانه ليس مما
7
445(188/322)
يشتبه حتى يخطئ فيه فالناقل عنه إما متعمد الكذب و إما مخطئ غالط وليس قدح المبغض لعلي من الخوارج والمتعصبين لبني مروان وغيرهم مما يشككنا في صدقه وبره وتقواه كما انه ليس قدح الرافضة في أبي بكر وعمر بل وقدح الشيعة في عثمان لا يشككنا في العلم بعرقهم وبرهم وتقواهم بل نحن نجزم بان واحدا منهم لم يكن ممن يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا هو فيما دون ذلك فإذا كان المنقول عنه مما لا يغلط في مثله وقد علمنا انه كذب جزمنا بكذب الناقل متعمدا أو مخطئا مثل ما رواه عبد الله في المناقب حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا شريك عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله عن علي وحدثنا أبو خيثمة حدثنا الأسود بن عامر حدثنا شريك عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الاسدي عن علي قال لما نزلت وانذر عشيرتك الاقربين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا من أهل بيته إن كان الرجل منهم لأكلا جذعة وان كان شاربا فرقا إلى آخر الحديث
7
446
وهذا كذب على علي رضي الله عنه لم يروه قط وكذبه ظاهر من وجوه وهذا الحديث رواه احمد في الفضائل حدثنا عثمان حدثنا أبو عوانة عن عثمان بن المغيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجز عن علي وهؤلاء يعلم انهم يروون الباطل وروى أبو الفرج من طريق اجلح عن سلمة بن كهيل عن حبة بن جوين قال سمعت عليا يقول أنا عبدت الله عز وجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يعبده رجل من هذه الأمة خمس سنين أو سبع سنين قال أبو الفرج حبة لا يساوي حبة فانه كذاب قال يحيى ليس بشيء وقال السعدي غير ثقة وقال ابن حبان كان غاليا في التشيع واهيا في الحديث و إما الاجلح فقال احمد قد روى غير حديث منكر قال أبو حاتم الرازي لا يحتج به وقال بن حبان كان لا يدري ما يقول
7
447(188/323)
قال أبو الفرج ومما يبطل هذه الأحاديث انه لا خلاف في تقدم إسلام خديجة وأبي بكر وزيد وان عمر اسلم في سنة ست من النبوة بعد أربعين رجلا فكيف يصح هذا وذكر حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنا الصديق الأكبر وهو مما عملته يد احمد بن نصر الذراع فانه كان كذابا يضع الحديث وحديثا فيه أنا أولهم إيمانا وأوفاهم بعهد الله و أقومهم بأمر الله و أقسمهم بالسوية و أعدلهم في الرعية و أبصرهم بالقضية قال وهو موضوع والمتهم به بشر بن إبراهيم قال بن عدي وابن حبان كان يضع الحديث على الثقات ورواه الابرازي الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم بن سعيد الجوهري عن مأمون عن الرشيد قال وهذا الابرازي كان كذابا
7
448
وذكر حديثا أنت أول من آمن بي وأنت أول من يصافحني يوم القيامة وأنت الصديق الأكبر وأنت الفاروق تفرق بين الحق والباطل وأنت يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الكافرين أو يعسوب الظلمة قال وهذا حديث موضوع وفي طريقه الأول عباد بن يعقوب قال ابن حبان يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك وفيه علي ابن هاشم قال ابن حبان كان يروي المناكير عن المشاهير وكان غاليا في التشيع وفيه محمد بن عبد الله قال يحيى ليس بشيء و إما الطريق الثاني ففيه أبو الصلت الهروي كان كذابا رافضيا خبيثا فقد اجتمع عباده وأبو الصلت في روايته والله اعلم بهما وأيهما سرقه من صاحبه قلت لعل الآفة فيه من محمد بن عبد الله وروي عن طريق ابن عباس وفيه عبد الله بن زاهر قال بن معين ليس بشيء لا يكتب عنه إنسان في خير قال أبو الفرج بن الجوزي كان غاليا في الرفض
7
449(188/324)
فصل و هنا طرق يمكن سلوكها لمن لم تكن له معرفة بالأخبار من الخاصة فان كثيرا من الخاصة فضلا عن العامة يتعذر عليه معرفة التمييز بين الصدق و الكذب من جهة الإسناد في اكثر ما يروى من الأخبار في هذا الباب و غيره و إنما يعرف ذلك علماء الحديث و لهذا عدل كثير من أهل الكلام و النظر عن معرفة الأخبار بالإسناد و أحوال الرجال لعجزهم عنها و سلكوا طريقا آخر و لكن تلك الطريق هي طريقة أهل العلم بالحديث العالمين بما بعث الله به رسوله و لكن نحن نذكر طريقا آخر فنقول نقدر أن الأخبار المتنازع فيها لم توجد أو لم يعلم أيها الصحيح و نترك الاستدلال بها في الطرفين و نرجع إلى ما هو معلوم بغير ذلك من التواتر و ما يعلم من العقول و العادات و ما دلت عليه النصوص المتفق عليها فنقول من المعلوم المتواتر عند الخاصة و العامة الذي لم يختلف فيه أهل العلم بالمنقولات و السير أن أبا بكر رضي الله عنه لم يطلب الخلافة لا برغبة و لا برهبة لا بذل فيها ما يرغب الناس به و لا شهر
7
450(188/325)
عليهم سيفا يرهبهم به و لا كانت له قبيلة و لا موال تنصره و تقيمه في ذلك كما جرت عادة الملوك أن أقاربهم و مواليهم يعاونونهم و لا طلبها أيضا بلسانه و لا قال بايعوني بل أمر بمبايعة عمر و أبي عبيدة و من تخلف عن بيعته كسعد بن عبادة لم يؤذه و لا اكرهه على المبايعة و لا منعه حقا له و لا حرك عليهم ساكنا و هذا غاية في عدم إكراه الناس على المبايعة ثم إن المسلمين بايعوه و دخلوا في طاعته و الذين بايعوه هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم تحت الشجرة و هم السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و هم أهل الإيمان و الهجرة و الجهاد و لم يتخلف عن بيعته إلا سعد بن عبادة و إما علي و سائر بني هاشم فلا خلاف بين الناس انهم بايعوه لكن تخلف فانه كان يريد الإمرة لنفسه رضي الله عنهم أجمعين ثم انه في مدة ولايته قاتل بهم المرتدين و المشركين لم يقاتل
7
451(188/326)
مسلمين بل أعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الردة و اخذ يزيد الإسلام فتوحا و شرع في قتال فارس و الروم و مات و المسلمون محاصرو دمشق و خرج منها ازهد مما دخل فيها لم يستأثر عنهم بشيء و لا أمر له قرابة ثم ولي عليهم عمر بن الخطاب ففتح الأمصار و قهر الكفار و اعز أهل الإيمان و أذل أهل النفاق و العدوان و نشر الإسلام و الدين و بسط العدل في العالمين و وضع ديوان الخراج و العطاء لأهل الدين و مصر الأمصار للمسلمين و خرج منها ازهد مما دخل فيها لم يتلوث لهم بمال و لا ولى أحدا من أقاربه ولاية فهذا أمر يعرفه كل أحد و إما عثمان فانه بنى على أمر قد استقر قبله بسكينة و حلم و هدى و رحمة و كرم و لم يكن فيه قوة عمر و لا سياسته و لا فيه كمال عدله و زهده فطمع فيه بعض الطمع و توسعوا في الدنيا و ادخل من أقاربه في الولاية و المال و دخلت بسبب أقاربه في الولايات و الأموال أمور أنكرت عليه فتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا و ضعف
7
452(188/327)
خوفهم من الله و منه و من ضعفه هو و ما حصل من أقاربه في الولاية و المال ما أوجب الفتنة حتى قتل مظلوما شهيدا و تولى علي على اثر ذلك و الفتنة قائمة و هو عند كثير منهم متلطخ بدم عثمان و الله يعلم براءته مما نسبه إليه الكاذبون عليه المبغضون لغيره من الصحابة فان عليا لم يعن على قتل عثمان و لا رضي به كما ثبت عنه و هو الصادق انه قال ذلك فلم تصف له قلوب كثير منهم و لا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه و لا اقتضى رأيه أن يكف عن القتال حتى ينظر ما يؤول إليه الأمر بل اقتضى رأيه القتال و ظن انه به تحصل الطاعة و الجماعة فما زاد الأمر إلا شدة و جانبه إلا ضعفا و جانب من حاربه إلا قوة و الأمة إلا افتراقا حتى كان في آخر أمره يطلب هو أن يكف عنه من قاتله كما كان في أول الأمر يطلب منه الكف و ضعفت خلافة النبوة ضعفا أوجب أن تصير ملكا فأقامها معاوية ملكا برحمة و حلم كما في الحديث المأثور تكون نبوة و رحمة ثم
7
453
تكون خلافة نبوة و رحمة ثم يكون ملك و رحمة ثم يكون ملك و لم يتول أحد من الملوك خيرا من معاوية فهو خير ملوك الإسلام و سيرته خير من سيرة سائر الملوك بعده و على آخر الخلفاء الراشدين الذين هم ولايتهم خلافة نبوة ورحمة وةكل من الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يشهد له بأنه من افضل أولياء الله المتقين بل هؤلاء الأربعة افضل خلق الله بعد النبيين لكن إذا جاء القادح فقال في أبي بكر و عمر انهما كانا ظالمين متعدين طمالبين للرئاسه مانعين للحقوق وإنهما كانا من احرص الناس على الرئاسة و انهما و من أعانهما ظلموا الخليفة المستحق المنصوص عليه من جهة الرسول و انهم منعوا أهل البيت ميراثهم و انهما كانا من احرص الناس على الرئاسة و الولاية
7
454(188/328)
الباطلة مع ما قد عرف من سيرتهما كان من المعلوم أن هذا الظن لو كان حقا فهو أولى بمن قاتل عليها حتى غلب و سفكت الدماء بسبب المنازعة التي بينه و بين منازعه و لم يحصل بالقتال لا مصلحة الدين و لا مصلحة الدنيا و لا قوتل في خلافته كافر و لا فرح مسلم فان عليا لا يفرح بالفتنة بين المسلمين و شيعته لم تفرح بها لأنها لم تغلب و الذين قاتلوه لم يزالوا أيضا في كرب و شدة و إذا كنا ندفع من يقدح في علي من الخوارج مع ظهور هذه الشبهة فلان ندفع من يقدح في أبي بكر و عمر بطريق الأولى و الأحرى و إن جاز أن يظن بابي بكر انه كان قاصدا للرئاسة بالباطل مع انه لم يعرف منه إلا ضد ذلك فالظن بمن قاتل على الولاية و لم يحصل له مقصوده أولى و أحرى فإذا ضرب مثل هذا و هذا بإمامي مسجد و شيخي مكان أو مدرسي مدرسة كانت العقول كلها تقول أن هذا ابعد عن طلب الرئاسة و اقرب إلى قصد الدين و الخير فإذا كنا نظن بعلي انه كان قاصدا للحق و الدين و غير مريد علوا في الأرض و لا فسادا فظن ذلك بابي بكر و عمر رضي الله عنهما أولى و أحرى
7
455(188/329)
وان ظن ظان بابي بكر انه كان يريد العلو في الأرض والفساد فهذا الظن بعلي اجدر و أولى إما أن يقال أن أبا بكر كان يريد العلو في الأرض والفساد وعلي لم يكن يريد علوا في الأرض ولا فسادا مع ظهور السيرتين فهذا مكابرة وليس فيما تواتر من السيرتين ما يدل على ذلك بل المتواتر من السيرتين يدل على أن سيرة أبي بكر افضل ولهذا كان الذين ادعوا هذا لعلي احالوا على ما لم يعرف وقالوا ثم نص على خلافته كتم وثم عداوة باطنة لم تظهر بسببها منع حقه ونحن الآن مقصودنا أن نذكر ما علم وتيقن وتواتر عند العامة والخاصة و إما ما يذكر من منقول يدفعه جمهور الناس ومن ظنون سوء لا يقوم عليها دليل بل نعلم فسادها فالمحتج بذلك ممن يتبع الظن وما تهوى الأنفس وهو من جنس الكفار وأهل الباطل وهي مقابلة بالأحاديث من الطرق الآخر ونحن لم نحتج بالأخبار التي رويت من الطرفين فكيف بالظن الذي لا يغني من الحق شيئا فالمعلوم المتيقن المتواتر عند العام والخاص أن أبا بكر كان ابعد عن إرادة العلو والفساد من عمر وعلي فضلا عن علي وحده وانه كان أولى بإرادة وجه الله تعالى وصلاح المسلمين من الثلاثة
7
456(188/330)
بعده فضلا عن علي وانه كان اكمل عقلا ودينا وسياسة من الثلاثة وان ولايته الأمة خير من ولاية علي وان منفعته للمسلمين في دينهم ودنياهم اعظم من منفعة علي رضي الله عنهم أجمعين وإذا كنا نعتقد انه كان مجتهدا مريدا وجه الله بما فعل وان ما تركه من المصلحة كان عاجزا عنه وما حصل من المفسدة كان عاجزا عن دفعه وانه لم يكن مريدا للعلو في الأرض ولا الفساد كان هذا الاعتقاد بابي بكر وعمر أولى واخلق وأحرى فهذا وجه لا يقدر أحد أن يعارضه إلا بما يظن انه نقل خاص كالنقل لفضائل علي ولما يقتضي انه أولى بالإمامة أو أن إمامته منصوص عليها وحينئذ فيعارض هذا بنقل الخاصة الذين هم اصدق واكثر لفضائل الصديق التي تقتضي انه أولى بالإمامة وان النصوص إنما دلت عليه فما من حجة يسلكها الشيعي إلا وبازائها للسني حجة من جنسها أولى منها فان السنة في الإسلام كالإسلام في الملل فما من حجة يسلكها كتابي إلا وللمسلم فيها ما هو أحق بالاتباع منها قال تعالى ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق واحسن تفسيرا
7
457(188/331)
لكن صاحب الهوى الذي له غرض في جهة إذا وجه له المخالف لهواه ثقل عليه سمعه واتباعه قال تعالى ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن وهنا طريق آخر وهو أن يقال دواعي المسلمين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كانت متوجهة إلى اتباع الحق وليس لهم ما يصرفهم عنه وهم قادرون على ذلك فإذا حصل الداعي إلى الحق وانتفى الصارف مع القدرة وجب الفعل فعلم أن المسلمين اتبعوا فيما فعلوه الحق وذلك انهم خير الأمم وقد اكمل الله لهم الدين و أتم عليهم النعمة ولم يكن عند الصديق غرض دنيوي يقدمونه لأجله ولا عند علي غرض دنيوي يأخرونه لأجله بل لو فعلوا بموجب الطبع لقدموا عليا وكانت الأنصار لو اتبعت الهوى أن تتبع رجلا من بني هاشم احب إليها من أن تتبع رجلا من بني تيم وكذلك عامة قبائل قريش لا سيما بنو عبد مناف وبنو مخزوم فان طاعتهم لمنافي كانت احب إليهم من طاعه تيمي لو اتبعوا الهوى وكان أبو سفيان بن حرب و أمثاله يختارون تقديم علي وقد روي أن أبا سفيان طلب من علي أن يتولى لأجل القرابة التي بينهما وقد قال أبو قحافة لما قيل له أن ابنك تولى قال أو رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو مخزوم قالوا نعم فعجب من ذلك لعلمه
7
458(188/332)
بأن بني تيم كانوا من اضعف القبائل وان إشراف قريش كانت من تينك القبيلتين وهذا و أمثاله مما إذا تدبره العاقل علم انهم لم يقدموا أبا بكر إلا لتقديم الله ورسوله لانه كان خيرهم وسيدهم واحبهم إلى الله ورسوله فان الإسلام إنما يقدم بالتقوى لا بالنسب وأبو بكر كان اتقاهم وهنا طريق آخر وهو انه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن خير هذه الأمة القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهذه الأمة هي خير الأمم كما دل عليها الكتاب والسنة وأيضا فانه من تأمل أحوال المسلمين في خلافة بني أمية فضلا عن زمن الخلفاء الراشدين علم أن أهل ذلك الزمان كان خيرا وافضل من أهل هذا الزمان وان الإسلام كان في زمنهم أقوى واظهر فان كان القرن الأول قد جحدوا حق الإمام المنصوص عليه المولى عليهم ومنعوا أهل بيت نبيهم ميراثهم وولوا فاسقا وظالما ومنعوا عادلا عالما مع علمهم بالحق فهؤلاء من شر الخلق وهذه الأمة شر الأمم لان هذا فعل خيارها فكيف بفعل شرارها وهنا طريق آخر وهو انه قد عرف بالتواتر الذي لا يخفى على العامة والخاصة أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كان لهم بالنبي صلى
7
459(188/333)
الله عليه وسلم اختصاص عظيم وكانوا من اعظم الناس اختصاصا به وصحبة له وقربا إليه واتصالا به وقد صاهرهم كلهم وما عرف عنه انه كان يذمهم ولا يلعنهم بل المعروف عنه انه كان يحبهم ويثني عليهم وحينئذ فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهرا وباطنا في حياته وبعد موته و إما أن يكونوا بخلاف ذلك في حياته أو بعد موته فان كانوا على غير الاستقامة مع هذا التقرب فأحد الأمرين لازم إما عدم علمه بأحوالهم أو مداهنته لهم وأيهما كان فهو اعظم القدح في الرسول صلى الله عليه وسلم كما قيل فان كنت لا تدري فتلك مصيبة وان كنت تدري فالمصيبة اعظم وان كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله للرسول في خواص أمته و أكابر أصحابه و من قد اخبر بما سيكون بعد ذلك أين كان عن علم ذلك و أين الاحتياط للامة حتى لا يولي مثل هذا أمرها و من وعد أن يظهر دينه على الدين كله فكيف يكون أكابر خواصه مرتدين فهذا و نحوه من اعظم ما يقدح به الرافضة في الرسول كما قال مالك و غيره إنما أراد هؤلاء الرافضة الطعن في الرسول ليقول القائل رجل سوء كان له أصحاب سوء و لو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين و لهذا قال أهل العلم أن الرافضة دسيسة الزندقة و انه وضع عليها و طريق آخر أن يقال الأسباب الموجبة لعلي أن كان هو المستحق
7
460(188/334)
قوية و الصوارف منتفية و القدرة حاصلة و مع وجود الداعي و القدرة و انتفاء الصارف يجب الفعل و ذلك أن عليا هو ابن عم نبيهم و من أفضلهم نسبا و لم يكن بينه و بين أحد عداوة لا عداوة نسب و لا إسلام بأن يقول القائل قتل أقاربهم في الجاهلية و هذا المعنى منتف في الأنصار فانهم لم يقتل أحدا من أقاربهم و لهم الشوكة و لم يقتل من بني تيم و لا عدي و لا كثير من القبائل أحدا و القبائل التي قتل منها كبني عبد مناف كانت تواليه و تختار ولايته لانه إليها اقرب فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم نص على ولايته أو كان هو الأفضل المستحق لها لم يكن هذا مما يخفى عليهم و علمهم بذلك يوجب انبعاث إرادتهم إلى ولايته إذا لم يكن هناك صارف يمنع و الأسباب كانت مساعدة لهذا الداعي و لا معارض لها و لا صارف أصلا و لو قدر أن الصارف كان في نفر قليل فجمهور المسلمين لم يكن لهم فيها صارف يصرفهم عنه بل هم قادرون على ولايته و لو قالت الأنصار علي أحق بها من سعد و من أبي بكر ما أمكن أولئك
7
461(188/335)
النفر من المهاجرين أن يدافعوهم و قام اكثر الناس مع علي لا سيما و كان جمهور الذين في قلوبهم مرض يبغضون عمر لشدته عليهم و بغض الكفار و المنافقين لعمر اعظم من بغضهم لعلي بما لا نسبة بينهما بل لم يعرف أن عليا كان يبغضه الكفار و المنافقون إلا كما يبغضون أمثاله بخلاف عمر فانه كان شديدا عليهم و كان من القياس أن ينفروا عن جهة فيها عمر و لهذا لما استخلفه أبو بكر كره خلافته طائفة حتى قال طلحة ماذا تقول لربك إذا وليت علينا فظا غليظا فقال أبالله تخوفني أقول و ليت عليهم خير اهلك فإذا كان أهل الحق مع علي و أهل الباطل مع علي فمن الذي يغلبه إذا كان الحق معه و هب انهم إذا قاموا لم يغلبوا إما كانت الدواعي المعروفة في مثل ذلك توجب أن يجري في ذلك قيل و قال و نوع من الجدال أوليس ذلك أولى بالكلام فيه من الكلام في ولاية سعد فإذا كانت الأنصار بشبهة لا اصل لها طمعوا أن يتآمر سعد فمكن يكون فيهم المحق و نص الرسول الجلي كيف لا يكون أعوانه اطمع في الحق فإذا كان لم ينبز متكلم منهم بكلمة واحدة في ذلك و لم يدع داع إلى علي
7
462(188/336)
لا هو و لا غيره و استمر الأمر على ذلك إلى أن بويع له بعد مقتل عثمان فحينئذ قام هو و أعوانه فطلبوا و قاتلوا و لم يسكتوا حتى كادوا يغلبوا علم بالاضطرار أن سكوتهم أولا كان لعدم المقتضى لا لوجود المانع و أن القوم لم يكن عندهم علم بان عليا هو الأحق فضلا عن نص جلي و انه لما بدا لهم استحقاقه قاموا معه مع وجود المانع و قد كان أبو بكر رضي الله عنه أبعدهم عن الممانعة من معاوية بكثير كثير لو كان لعلي حق فان أبا بكر لم يدع إلى نفسه و لا ارغب و لا ارهب و لا كان طالبا للرئاسة بوجه من الوجوه و لا كان في أول الأمر يمكن أحدا القدح في علي كما أمكن ذلك بعد مقتل عثمان فانه حينئذ نسبه كثير من شيعة عثمان إلى انه أعان على قتله و بعضهم يقول خذله و كان قتلة عثمان في عسكره و كان هذا من الأمور التي منعت كثيرا من مبايعته و هذه الصوارف كانت منتفية في أول الأمر فكان جنده اعظم و حقه إذا ذاك لو كان مستحقا اظهر و منازعوه اضعف داعيا و اضعف قوة و ليس هناك داع قوي يدعوا إلى منعه كما كان بعد مقتل عثمان و لا جند يجمع علي مقاتلته كما كان بعد مقتل عثمان
7
463(188/337)
و هذه الأمور و أمثالها من تأملها تبين له انتفاء استحقاقه إذا ذاك بيانا لا يمكنه دفعه عن نفسه فلو تبين أن الحق لعلي و طلبه علي لكان أبو بكر إما أن يسلم إليه و إما أن يجامله و إما أن يعتذر إليه و لو قام أبو بكر و هو ظالم يدافع عليا و هو محق لكانت الشريعة و العادة و العقل توجب أن يكون الناس مع علي المحق المعصوم على أبي بكر المعتدي الظلوم لو كان الأمر كذلك لا سيما و النفوس تنفر عن مبايعة من ليس من بيت الولاية اعظم من نفرتها عن مبايعته أهل بيت المطاع فالدواعي لعلي من كل وجه كانت اعظم و اكثر لو كان أحق و هي عن أبي بكر من كل وجه كانت ابعد لو كان ظالما لكن لما كان المقتضي مع أبي بكر و هو دين الله قويا و الإسلام في جدته و طراوته و إقباله كان اتقى لله إلا يصرفوا الحق عمن يعلمون انه الأحق إلى غيره و لو كان لبعضهم هوى مع الغير و إما أبو بكر فلم يكن لأحد معه هوى إلا هوى الدين الذي يحبه الله و يرضاه فهذه الأمور و أمثالها من تدبرها علم بالاضطرار أن القوم علموا أن أبا بكر هو الأحق بخلافة النبوة و أن ولايته أرضى لله و رسوله فبايعوه
7
464(188/338)
و أن لم يكن ذلك لزم أن يعرفوا و يحرفوا و كلاهما ممتنع عادة و دينا و الأسباب متعددة فهذا المعلوم اليقيني لا يندفع بأخبار لا يعلم صحتها فكيف إذا علم كذبها و ألفاظ لا تعلم دلالتها و مقاييس فكيف إذا علم انتفاء دلالتها و مقاييس لا نظام لها يعارضها من المعقول و المنقول الثابت الإسناد المعلوم المدلول ما هو أقوى و أولى بالحق و أحرى و هؤلاء الرافضة الذين يدفعون الحق المعلوم يقينا بطرق كثيرة علما لا يقبل النقيض بشبه في غاية الضعف هم من اعظم الطوائف الذين في قلوبهم الزيغ الذين يتبعون المتشابه و يدعون المحكم كالنصارى و الجهمية و أمثالهم من أهل البدع و الأهواء الذين يدعون النصوص الصحيحة التي توجب العلم و يعارضونها بشبه لا تفيد إلا الشك لو تعرض لم تثبت و هذا في المنقولات سفسطة كالسفسطة في العقليات و هو القدح فيما علم بالحس و العقل بشبه تعارض ذلك فمن أراد أن يدفع العلم اليقيني المستقر في القلوب بالشبه فقد سلك مسلك السفسطة فان السفسطة أنواع أحدها النفي و الجحد و التكذيب إما بالوجود و إما بالعلم به و الثاني الشك و الريب و هذه طريقة اللاأدرية الذين يقولون لا ندري فلا يثبتون و لا ينفون لكنهم في الحقيقة قد نفوا العلم و هو نوع
7
465(188/339)
من النفي فعادت السفسطة إلى جحد الحق المعلوم أو جحد العلم به الثالث قول من يجعل الحقائق تبعا للعقائد فيقول من اعتقد العالم قديما فهو قديم و من اعتقده محدثا فهو محدث و إذا أريد بذلك انه قديم عنده و محدث عنده فهذا صحيح فان هذا هو اعتقاده لكن السفسطة أن يراد انه كذلك في الخارج و إذا كان كذلك فالقدح فيما علم من أحوال الرسول صلى الله عليه و سلم مع الخلفاء الثلاثة و ما علم من سيرتهم بعده بأخبار يرويها الرافضة يكذبهم فيها جماهير الأمة من اعظم السفسطة و من روى لمعاوية و أصحابه من الفضائل ما يوجب تقديمه على علي و أصحابه كان كاذبا مبطلا مسفسطا و مع هذا فكذب الرافضة الذين يروون ما يقدح في إيمان الخلفاء الثلاثة و يوجب عصمة علي اعظم من كذب من يروي ما يفضل به معاوية على علي و سفسطتهم اكثر فان ظهور إيمان الثلاثة اعظم من ظهور فضل على علي معاوية من وجوه كثيرة و إثبات عصمة علي ابعد عن الحق من إثبات فضل معاوية
7
466(188/340)
ثم خلافة أبي بكر و عمر هي من كمال نبوة محمد صلى الله عليه و سلم و رسالته و مما يظهر انه رسول حق ليس ملكا من الملوك فان عادة الملوك إيثار أقاربهم بالولايات لوجوه أحدها محبتهم لأقاربهم اكثر من الجانب لما في الطباع من ميل الإنسان إلى قرابته و الثاني لان أقاربهم يريدون إقامة ملكهم ما لا يريده الأجنبي لان في عز قريب الإنسان عز لنفسه و من لم يكن له أقارب من الملوك استعان بممالكه و مواليه فقربهم و استعان بهم و هذا موجود في ملوك المسلمين و الكفار و لهذا لما كان ملوك بنو أمية و بنو العباس ملوكا كانوا يريدون أقاربهم و مواليهم بالولايات اكثر من غيرهم و كان ذلك مما يقيمون به ملكهم و كذلك ملوك الطوائف كبني بويه و بني سلجق و سائر الملوك بالشرق و الغرب و الشام و اليمن و غير ذلك و هكذا ملوك الكفار من أهل الكتاب و المشركين كما يوجد في ملوك الفرنج و غيرهم و كما يوجد في آل جنكشخان بان الملوك تبقى في أقارب الملك و يقولون هذا من العظم و هذا ليس من العظم أي من أقارب الملك و إذا كان كذلك فتوليه أبي بكر و عمر بعد النبي صلى الله عليه و سلم دون عمه العباس و بني عمه على و عقيل و ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب
7
467(188/341)
و أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب و غيرهم و دون سائر بني عبد مناف كعثمان بن عفان و خالد بن سعيد بن العاص و إبان بن سعيد بن العاص و غيرهم من بني عبد مناف الذين كانوا اجل قريش قدرا و اقرب نسبا إلى النبي صلى الله عليه و سلم من اعظم الأدلة على أن محمدا عبد الله و رسوله و انه ليس ملكا حيث لم يقدم في خلافته أحدا لا بقرب نسب منه و لا بشرف بيته بل إنما قدم بالإيمان و التقوى و دل ذلك على أن محمدا صلى الله عليه و سلم و أمته من بعده إنما يعبدون الله و يطيعون أمره لا يريدون ما يريده غيرهم من العلو في الأرض و لا يريدون أيضا ما أبيح لبعض الأنبياء من الملك فان الله خير محمدا بين أن يكون عبدا رسولا و بين أن يكون ملكا نبيا فاختار أن يكون عبدا رسولا و تولية أبي بكر و عمر بعده من تمام ذلك فانه لو قدم أحدا من أهل بيته لكانت شبهة لمن يظن انه كان ملكا كما انه لو ورث مالا لورثته لكانت شبهة لمن يظن انه جمع المال لورثته فلما لم يستخلف أحدا من أهل بيته و لا خلف لهم مالا كان هذا مما يبين انه كان من ابعد الناس عن طلب الرياسة و المال و أن كان ذلك مباحا و انه لم يكن من الملوك الأنبياء بل كان عبد الله و رسوله
7
468
كما قال صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح إني و الله لا أعطي أحدا و لا امنع أحدا و إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت و قال أن ربي خيرني بين أن أكون عبدا رسولا أو نبيا ملكا فقلت بل عبدا رسولا و إذا كان هذا مما دل على تنزيهه عن كونه من ملوك الأنبياء فدلالة ذلك على نبوته و نزاهته عن الكذب و الظلم اعظم و اعظم و لو تولى بعده علي أو واحد من أهل بيته لم تحصل هذه المصالح و الالطافات العظيمة و أيضا فانه من المعلوم أن الإسلام في زمن علي كان اظهر و اكثر مما كان في خلافة أبي بكر و عمر و كان الذين قاتلهم علي ابعد عن الكفر من
7
469(188/342)
الذين قاتلهم أبو بكر و عمر فان أبا بكر قاتل المرتدين و أهل الكتاب مع ما حصل للمسلمين بموت النبي صلى الله عليه و سلم من الضعف العظيم و ما حصل من الارتداد لأكثر البوادي و ضعف قلوب أهل الأمصار و شك كثيرهم في جهاد مانعي الزكاة و غيرهم ثم عمر تولى قتال أمتين عظيمتين لم يكن في العادة المعروفة أن أهل الحجاز و اليمن يقهرونهم و هما فارس و الروم فقهرهم و فتح بلادهم و تمم عثمان ما تمم من فتح المشرق و المغرب ثم فتح بعد ذلك في خلافة بني أمية ما فتح بالمشرق و المغرب كما وراء النهر و الأندلس و غيرهما مما فتح في خلافة عبد الملك فمعلوم انه لو تولى غير أبي بكر و عمر موت النبي صلى الله عليه و سلم مثل علي أو عثمان لم يمكنه أن يفعل ما فعلا فان عثمان لم يفعل ما فعلا مع قوة الإسلام في زمانه و علي كان اعجز من عثمان و كان اعوانه اكثر من أعوانهما و عدوه اقل و اقرب إلى الإسلام من عدوهما و مع هذا فلم يقهر عدوه فكيف كان يمكنه قهر المرتدين و قهر فارس و الروم مع قلة الأعوان و قوة العدو و هذا مما يبين فضل أبي بكر و عمر و تمام نعمة الله بهما على محمد صلى الله عليه و سلم و على الناس بعده و أن من اعظم نعم الله تولية
7
470(188/343)
أبي بكر و عمر بعد النبي صلى الله عليه و سلم فانه لو تولى غيرهما كان لم يفعل ما فعلا إما لعدم القدرة و إما لعدم الإرادة فانه إذا قيل لم لم يغلب علي معاوية و أصحابه فلا بد أن يكون سبب ذلك إما عدم كمال القدرة و إما عدم كمال الإرادة و إلا فمع كمال القدرة و كمال الإرادة يجب وجود الفعل و من تمام القدرة طاعة الاتباع له و من تمام الإرادة ما هو الأصلح الأنفع الأرضى لله و لرسوله و أبو بكر و عمر كانت قدرتهما اكمل و إرادتهما افضل فبهذا نصر الله بهما الإسلام و أذل بهما الكفر و النفاق و علي رضي الله عنه لم يؤت من كمال القدرة و الإرادة ما أوتيا و الله تعالى كما فضل بعض النبيين على بعض فضل بعض الخلفاء على بعض فلما لم يؤت ما أوتيا لم يمكنه أن يفعل في خلافته ما فعلا و حينئذ فكان عن ذلك بموت النبي صلى الله عليه و سلم اعجز و اعجز فانه على أي وجه قدر ذلك فان غاية ما يقول المتشيع أن اتباعه لم يكونوا يطيعونه فيقال إذا كان الذين بايعوه لم يطيعوه فكيف يطيعه من لم يبايعه و إذا قيل لو بايعوه بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم لفعل بهم اعظم مما فعل أبو بكر و عمر
7
471(188/344)
فيقال قد بايعه اكثر ممن بايع أبا بكر و عمر و نحوهما و عدوه اضعف و اقرب إلى الإسلام من عدو أبي بكر و عمر و لم يفعل ما يشبه فعلهما فضلا عن أن يفعل افضل منه و إذا قال القائل أن اتباع أبي بكر و عمر رضي الله عنهما اعظم إيمانا و تقوى فنصرهم الله لذلك قيل هذا يدل على فساد قول الرافضة فانهم يقولون أن اتباع أبي بكر و عمر كانوا مرتدين أو فاسقين و إذا كان نصرهم و تأييدهم لإيمانهم و تقواهم دل ذلك على أن الذين بايعوهما افضل من الشيعة الذين بايعوا عليا و إذا كان المقرون بإمامتهما افضل من المقرين بإمامة علي دل ذلك على انهما افضل منه و أن قالوا أن عليا إنما لم ينتصر لان اتباعه كانوا يبغضونه و يختلفون عليه قيل هذا أيضا يدل على فساد قول الشيعة أن الذين بايعوا عليا و اقروا بإمامته افضل ممن بايع أبا بكر و عمر و اقر بإمامتهما فإذا كان أولئك الشيعة الذين بايعوا عليا عصاة للإمام المعصوم كانوا من اشر
7
472(188/345)
الناس فلا يكون في الشيعة طائفة محمودة أصلا ولا طائفة ينتصر بها على العدو فيمتنع أن يكون علي مع الشيعة قادرا على قهر الكفار وبالجملة فلا بد من كمال حال أبي بكر وعمر واتباعهما فالنقص الذي حصل في خلافة علي من إضافة ذلك إما إلى الإمام و إما إلى اتباعه و إما إلى المجموع وعلى كل تقدير فيلزم أن يكون أبي بكر وعمر واتباعهما افضل من علي وإتباعه فانه أن كان سبب الكمال والنقص من الإمام ظهر فضلهما عليه وان كان من اتباعه كان المقرون بإمامتها أفضل من المقرين بإمامته فتكون أهل السنة افضل من الشيعة وذلك يستلزم كونهما افضل منه لان ما امتاز به الأفضل افضل مما امتاز به المفضول وهذا بين لمن تدبره فان الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وقاتلوا معهم هم افضل من الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه فان أولئك فيهم من عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه
7
473(188/346)
وعامة السابقين الأولين عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم إنما توفى منهم أو قتل في حياته قليل منهم والذين بايعوا عليا كان فيهم من السابقين والتابعين بإحسان بعض من بايع أبا بكر وعمر وعثمان و إما سائرهم فمنهم من لم يبايعه ولم يقاتل معه كسعد بن أبي وقاص و أسامة بن زيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت وأبي هريرة و أمثال هؤلاء من السابقين والذين اتبعوهم بإحسان ومنهم من قاتله كالذين كانوا مع طلحة والزبير وعائشة و معاوية من السابقين والتابعين وإذا كان الذين بايعوا الثلاثة وقاتلوا معهم افضل من الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه لزم أن يكون كل من الثلاثة افضل لان عليا كان موجودا على عهد الثلاثة فلو كان هو المستحق للإمامة دون غيره كما تقوله الرافضة أو كان افضل و أحق بها كما يقوله من يقوله من الشيعة لكان افضل الخلق قد عدلوا عما أمرهم الله به ورسوله به إلى ما لم يؤمروا به بل ما نهوا عنه وكان الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه فعلوا ما أمروا به ومعلوم أن من فعل ما أمر الله به ورسوله كان افضل ممن تركه وفعل ما نهى الله عنه ورسوله فلزم لو كان قول الشيعة حقا أن يكون اتباع علي
7
474(188/347)
افضل وإذا كانوا هم أفضل وإمامهم افضل من الثلاثة لزم أن يكون ما فعلوه من الخير افضل مما فعله الثلاثة وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار الذي تواترت به الأخبار وعلمته البوادي والحضار فانه في عهد الثلاثة جرى من ظهور الإسلام وعلوه وانتشاره ونموه وانتصاره وعزه وقمع المرتدين وقهر الكفار من أهل الكتاب والمجوس وغيرهم ما لم يجر بعدهم مثله وعلي رضي الله عنه فضله الله وشرفه بسوابقه الحميدة وفضائله العديدة لا بما جرى في زمن خلافته من الحوادث بخلاف أبي بكر وعمر وعثمان فانهم فضلوا مع السوابق الحميدة والفضائل العديدة بما جرى في خلافتهم من الجهاد في سبيل الله و إنفاق كنوز كسرى وقيصر وغير ذلك من الحوادث المشكورة والأعمال المبرورة وكان أبو بكر وعمر افضل سيرة واشرف سريرة من عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين فلهذا كانا ابعد عن الملام و أولى بالثناء العام حتى لم يقع في زمنهما شيء من الفتن فلم يكن للخوارج في زمنهما لا قول مأثور ولا سيف مشهور بل كان كل سيوف المسلمين مسلولة على الكفار وأهل الإيمان في إقبال وأهل الكفر في إدبار
7
475(188/348)
ثم أن الرافضة أو أكثرهم لفرط جهلهم وضلالهم يقولون انهم ومن اتبعهم كانوا كفارا مرتدين وان اليهود والنصارى كانوا خيرا منهم لان الكافر الأصلي خير من المرتد وقد رأيت هذا في عدة من كتبهم وهذا القول من اعظم الأقوال افتراء على أولياء الله المتقين وحزب الله المفلحين وجند الله الغالبين ومن الدلائل الدالة على فساده أن يقال من المعلوم بالاضطرار والمتواتر من الأخبار أن المهاجرين هاجروا من مكة وغيرها إلى المدينة وهاجر طائفة منهم كعمر وعثمان وجعفر بن أبي طالب هجرتين هجرة إلى الحبشة وهجرة إلى المدينة وكان الإسلام إذ ذاك قليلا والكفار مستولون على عامة الأرض وكانوا يؤذون بمكة ويلقون من أقاربهم وغيرهم من المشركين من الأذى ما لا يعلمه إلا الله وهم صابرون على الأذى متجرعون لمرارة البلوى وفارقوا الأوطان وهجروا الخلان لمحبة الله ورسوله والجهاد في سبيله كما وصفهم الله تعالى بقوله للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون وهذا كله فعلوه طوعا واختيارا من تلقاء أنفسهم لم يكرههم عليه مكره ولا الجاهم إليه أحد فانه لم يكن للإسلام إذ ذاك من القوة ما يكره به أحد على الإسلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك هو ومن اتبعه منهيين عن القتال مأمورين بالصفح والصبر فلم يسلم
7
476(188/349)
أحد إلا باختياره ولا هاجر أحد إلا باختياره ولهذا قال احمد بن حنبل وغيره من العلماء انه لم يكن من المهاجرين من نافق و إنما كان النفاق في قبائل الأنصار لما ظهر الإسلام بالمدينة ودخل فيه من قبائل الأوس والخزرج ولما صار للمسلمين دار يمتنعون بها ويقاتلون دخل في الإسلام من أهل المدينة وممن حولهم من الأعراب من دخل خوفا وتقية وكانوا منافقين كما قال تعالى وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ولهذا إنما ذكر النفاق في السور المدنية و إما السور المكية فلا ذكر فيها للمنافقين فان من اسلم قبل الهجرة بمكة لم يكن فيهم منافق و الذين هاجروا لم يكن فيهم منافق بل كانوا مؤمنين بالله و رسوله محبين لله و لرسوله و كان الله و رسوله احب إليهم من أولادهم و أهلهم و أموالهم و إذا كان كذلك علم أن رميهم أو رمي أكثرهم أو بعضهم بالنفاق كما يقوله من يقوله من الرافضة من اعظم البهتان الذي هو نعت الرافضة و إخوانهم من اليهود فان النفاق كثير ظاهر في الرافضة إخوان اليهود و لا يوجد في الطوائف اكثر و اظهر نفاقا منهم حتى يوجد فيهم النصيرية و الإسماعيلية و أمثالهم ممن هو من اعظم الطوائف نفاقا و زندقة و عداوة لله و لرسوله
7
477(188/350)
و كذلك دعواهم عليهم الردة من اعظم الأقوال بهتانا فان المرتد إنما يرتد لشبهة أو شهوة و معلوم أن الشبهات و الشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى فمن كان إيمانهم مثل الجبال في حال ضعف الإسلام كيف يكون إيمانهم بعد ظهور آياته و انتشار أعلامه و إما الشهوة فسواء كانت شهوة رياسة أو مال أو نكاح أو غير ذلك كانت في أول الإسلام أولى بالأتباع فمن خرجوا من ديارهم و أموالهم و تركوا ما كانوا عليه من الشرف و العز حبا لله و رسوله طوعا غير إكراه كيف يعادون الله و رسوله طلبا للشرف و المال ثم هم في حال قدرتهم على المعاداة و قيام المقتضي للمعاداة لم يكونوا معادين لله و رسوله بل موالين لله و رسوله معادين لمن عادى الله و رسوله فحين قوي المقتضي للموالاة و ضعفت القدرة على المعاداة يفعلون نقيض هذا هل يظن هذا إلا من هو من اعظم الناس ضلالا و ذلك أن الفعل إذا حصل معه كمال القدرة عليه و كمال الإرادة له وجب وجوده و هم في أول الإسلام كان المقتضي لإرادة معاداة الرسول أقوى لكثرة أعدائه و قلة أوليائه و عدم ظهور دينه و كانت القدرة من يعاديه باليد واللسان حينئذ أقوى حتى كان يعاديه آحاد الناس
7
478(188/351)
و يباشرون أذاه بالأيدي و الألسن و لما ظهر الإسلام و انتشر كان المقتضى للمعاداة اضعف و القدرة عليها اضعف و من المعلوم أن من ترك المعاداة أولا ثم عاداه ثانيا لم يكن إلا لتغير إرادته أو قدرته و معلوم أن القدرة على المعاداة كانت أولا أقوى و الموجب لإرادة المعاداة كان أولا أولى و لم يتجدد عندهم ما يوجب تغير إرادتهم ولا قدرتهم فعلم يقينا أن القوم لم يتجدد عندهم ما يوجب الردة عن دينهم ألبته و الذين ارتدوا بعد موته إنما كانوا ممن اسلم بالسيف كأصحاب مسيلمة و أهل نجد فأما المهاجرون الذين اسلموا طوعا فلم يرتد منهم والله الحمد احد وأهل مكة لما أسلموا بعد فتحها هم طئفة منهم بالردة ثم ثبتهم الله بسهيل بن عمرو و أهل الطائف لما حاصرهم النبي صلى الله عليه و سلم بعد فتح مكة ثم رأوا ظهور الإسلام فاسلموا مغلوبين فهموا بالردة فثبتهم الله بعثمان بن أبي العاص فأما أهل مدينة النبي صلى الله عليه و سلم فإنما اسلموا طوعا و المهاجرون منهم و الأنصار و هم قاتلوا الناس على الإسلام و لهذا لم يرتد من أهل المدينة أحد بل ضعف غالبهم بموت النبي صلى الله عليه و سلم و ذلت أنفسهم عن الجهاد على دينه حتى ثبتهم الله و قواهم بابي بكر الصديق رضي الله عنه فعادوا إلى ما كانوا عليه من قوة اليقين
7
479(188/352)
و جهاد الكافرين فالحمد لله الذي من على الإسلام و أهله بصديق الأمة الذي أيد الله به دينه في حياة رسوله و حفظه به بعد وفاته فالله يجزيه عن الإسلام و أهله خير الجزاء فصل قال الرافضي المنهج الرابع في الأدلة الدالة على إمامته المستنبطة من أحواله و هي اثنا عشر ثم ذكر كان ازهد الناس و اعبدهم و أعلمهم و أشجعهم و ذكر أنواعا من خوارق العادات له و اجتماع الفضائل على اوجه تقدم بها عليهم فقال الأول انه كان ازهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و الجواب المنع فان أهل العلم بحالهما يقولون ازهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم الزهد الشرعي أبو بكر و عمر و ذلك أن أبا بكر كان له مال يكتسبه فأنفقه كله في سبيل الله و تولى الخلافة
7
480
فذهب إلى السوق يبيع و يتكسب فلقيه عمر و على يده ابراد فقال له أين تذهب فقال أظننت إني تارك طلب المعيشة لعيالي فاخبر بذلك أبا عبيدة و المهاجرين ففرضوا له شيئا فاستحلف عمر و أبا عبيدة فحلفا له انه يباح له اخذ درهمين كل يوم ثم ترك ماله في بيت المال ثم لما حضرته الوفاة أمر عائشة أن ترد إلى بيت المال ما كان قد دخل في ماله من مال المسلمين فوجدت جرد قطيفة لا يساوي خمسة دراهم و حبشية ترضع ابنه أو عبدا حبشيا و بعيرا ناضحا فأرسلت بذلك إلى عمر فقال عبد الرحمن بن عوف له أتسلب هذا عيال أبي بكر فقال كلا و رب الكعبة لا يتأثم منه أبو بكر في حياته و أتحمله أنا بعد موته و قال بعض العلماء علي كان زاهدا و لكن الصديق ازهد منه لان أبا بكر كان له المال الكثير في أول الإسلام و التجارة الواسعة فأنفقه في سبيل الله و كان حاله في الخلافة ما ذكر ثم رد ما تركه لبيت المال قال ابن زنجويه و إما علي فانه كان في أول الإسلام فقيرا يعال و لا يعول ثم استفاد المال الرباع و المزارع و النخيل و الأوقاف و استشهد و عنده تسع عشرة سرية و أربع نسوة و هذا كله مباح و لله
7
481(188/353)
الحمد و لم يأمر برد ما تركه لبيت المال و خطب الحسن الناس بعد وفاته فقال ما ترك صفراء و لا بيضاء إلا سبعمائة درهم بقيت من عطائه و روى الأسود بن عامر حدثنا شريك النخعي عن عاصم بن كليب عن محمد بن كعب القرظي قال قال علي لقد رأيتني على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم اربط الحجر على بطني من شدة الجوع و أن صدقة مالي لتبلغ اليوم أربعين ألفا رواه احمد عن حجاج عن شريك و رواه إبراهيم بن سعيد الجوهري و فيه لتبلغ أربعة آلاف دينار فأين هذا من زهد أبي بكر و أن كانا رضي الله عنهما زاهدين و قال ابن حزم و قال قائلون علي كان أزهدهم قال و كذب هذا
7
482
الجاهل و برهان ذلك أن الزهد إنما هو عزوف النفس عن حب الصوت و عن المال و عن اللذات و عن الميل إلى الولد و الحاشية ليس للزهد معنى يقع عليه اسم الزهد إلا هذا المعنى فأما عزوف النفس عن المال فقد علم كل من له أدنى بصر بشيء من الأخبار الخالية أن أبا بكر اسلم و له مال عظيم قيل أربعين ألفا أنفقها في سبيل الله كلها و اعتق المستضعفين من العبيد المؤمنين المعذبين في ذات الله و لم يعتق عبيدا أجلادا يمنعونه لكن كل معذب و معذبة في الله عز و جل حتى هاجر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم يبق لأبي بكر من جميع ماله إلا ستة آلاف درهم حملها كلها مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و لم يبق لبنيه منها درهما ثم أنفقها كلها في سبيل الله حتى لم يبق له منها شيء و بقي في عباءة له قد خللها بعود إذا نزل فرشها و إذا ركب لبسها إذ تمول غيره من الصحابة و اقتنى الرباع الواسعة و الضياع العظيمة من حلها و حقها إلا أن من آثر بذلك الله في سبيل الله ازهد ممن انفق و امسك ثم ولي الخلافة فما اتخذ جارية و لا توسع في مال و عد عند موته ما انفق على نفسه و ولده من مال الله الذي لم يستوف منه
7
483(188/354)
إلا بعض حقه و أمر بصرفه إلى بيت المال من صلب ماله الذي حصل له من سهامه في المغازي و المقاسم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا هو الزهد في اللذات و المال الذي لا يدانيه فيه أحد من الصحابة لا علي و لا غيره أن إلا يكون أبا ذر و أبا عبيدة من المهاجرين الأولين فانهما جريا على هذه الطريقة التي فارقا عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم و لقد تلا أبا بكر عمر في هذا الزهد و كان فوق علي في ذلك يعني في إعراضه عن المال و اللذات و إما علي رضي الله عنه فتوسع في هذا المال من حله و مات عن أربع زوجات و تسع عشرة أم ولد سوى الخدم و العبيد و توفي عن أربعة و عشرين ولدا من ذكر و أنثى و ترك لهم من العقار والضياع ما كانوا به من أغنياء قومهم و مياسيرهم هذا أمر مشهور لا يقدر على إنكاره من له اقل علم بالأخبار و الآثار و من جملة عقاره ينبع التي تصدق بها كانت تغل ألف وسق تمر زرعها فأين هذا من هذا و إما حب الولد و الميل إليهم وإلى الحاشية فالأمر في هذا أبين من أن
7
484(188/355)
يخفى على أحد له اقل علم بالأخبار فقد كان لأبي بكر رضي الله عنه من القرابة و الولد مثل طلحة بن عبيد الله من المهاجرين الأولين و السابقين من ذوي الفضائل العظيمة في كل باب من أبواب الفضائل في الإسلام و مثل ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر و له مع النبي صلى الله عليه و سلم صحبة قديمة و هجرة سابقة و فضل ظاهر فما استعمل أبو بكر أحدا منهم على شيء من الجهات و هي بلاد اليمن كلها على سعتها و كثرة أعمالها و عمان و حضر موت و البحرين واليمامة و الطائف و مكة و خيبر و سائر اعمل الحجاز و لو استعملهم لكانوا لذلك أهلا و لكن خشي المحاباة و توقع أن يميله إليهم شيء من الهوى ثم جرى عمر رضي الله عنه على مجراه في ذلك لم يستعمل من بني عدي بن كعب أحدا على سعة البلاد و كبرها و قد فتح الشام و مصر و جميع مملكة الفرس إلى خراسان إلا النعمان بن عدي وحده على ميسان ثم أسرع عزله و فيهم من الهجرة ما ليس في شيء من أفخاذ قريش لان بني عدي لم يبق منهم أحد بمكة إلا هاجر و كان فيهم مثل سعيد بن زيد أحد المهاجرين الأولين ذي السوابق و أبي الجهم بن حذيفة و خارجة بن حذافة و معمر بن عبد الله و ابنه عبد الله بن عمر
7
485(188/356)
ثم لم يستخلف أبو بكر ابنه عبد الرحمن و هو أحد الصحابة و لا استعمل عمر ابنه في حياته و لا بعد موته و هو من فضلاء الصحابة و خيارهم و قد رضي بخلافته بعض الناس و كان أهلا لذلك و لو استخلفه لما اختلف عليه أحد فما فعل و وجدنا عليا إذ ولي قد استعمل أقاربه ابن عباس على البصرة و عبيد الله بن عباس على اليمن و قثما و معبدا ابني العباس على مكة و المدينة و جعدة بن هبيرة و هو ابن أخته أم هانئ بنت أبي طالب على خراسان و محمد بن أبي بكر و هو ابن امرأته و أخو ولده على مصر و رضي ببيعة الناس الحسن ابنه بالخلافة بعده و لسنا ننكر استحقاق الحسن للخلافة و لا استحقاق عبد الله بن عباس للخلافة فكيف بإمارة البصرة لكنا نقول أن من زهد في الخلافة لولد مثل عبد الله بن عمر أو عبد الرحمن بن أبي بكر و الناس متفقون عليه و في تأمير مثل طلحة بن
7
486
عبيد الله و سعيد بن زيد فلا شك انه أتم زهدا و اعزف عن جميع معاني الدنيا نفسا ممن يأخذ ما أبيح له أخذه فصح بالبرهان الضروري أن أبا بكر رضي الله عنه ازهد من جميع الصحابة ثم عمر رضي الله عنه فصل قال الرافضي علي قد طلق الدنيا ثلاثا و كان قوته جريش الشعير و كان يختمه لئلا يضع الإمامان فيه أدما و كان يلبس خشن الثياب و قصيرها و رقع مدرعته حتى استحى من رقعها و كان حمائل سيفه ليفا و كذا نعله و روى اخطب خوارزم عن عمار قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يا علي أن الله زينك بزينة لم يزين العباد بزينة حب إلى الله منها زهدك في الدنيا و بغضها إليك
7
487(188/357)
و حبب إليك الفقراء فرضيت بهم اتباعا و رضوا بك إماما يا علي طربى لمن احبك و صدق عليك و الويل لمن أبغضك و كذب عليك إما من احبك و صدق عليك فإخوانك في دينك و شركاؤك في جنتك و إما من أبغضك و كذب عليك فحقيق على الله أن يقيمهم مقام الكذابين قال سويد بن غفلة دخلت علي علي العصر فوجدته جالسا بين يديه صفحة فيها لبن حار و أجد ريحه من شدة حموضته و في يده رغيف أرى قشار الشعير في وجهه و هو يكسر بيده أحيانا فإذا غلبه كسره بركبته فطرحه فيه فقال ادن فاصب من طعامنا هذا فقلت إني صائم فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من منعه الصيام عن طعام يشتهيه كان حقا على الله أن يطعمه من طعام الجنة و يسقيه من شرابها قال قلت لجاريته و هي قائمة و يحك يا فضة إلا تتقين الله في هذا الشيخ إلا تنخلين طعامه مما أرى فيه من النخال فقالت
7
488
لقد عهد إلينا أن لا ننخل له طعاما قال ما قلت لها فأخبرته قال بأبي و أمي من لم ينخل له طعام و لم يشبع خبز البر ثلاثة أيام حتى قبضه الله عز و جل و اشترى يوما ثوبين غليظين فخير قنبرا فيهما فاخذ واحدا و لبس هو الآخر و رأي في كمه طولا عن أصابعه فقطعه قال ضرار بن ضمرة دخلت على معاوية بعد قتل أمير المؤمنين علي فقال صف لي عليا فقلت اعفني فقال لا بد من ذلك فقلت إما إذ لا بد فكأنه كان و الله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلا و يحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه و تنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا و زينتها و يستأنس بالليل وحشته وكان و الله غزير العبرة طويل الفكرة يعجبه من اللباس ما خشن و من الطعام ما قشب و كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه و يأتينا إذا دعوناه و نحن
7
489(188/358)
و الله مع تقريبه لنا و قربه منا لا نكلمه هيبة له يعظم أهل الدين و يقرب المساكين لا يطمع القوي في باطله و لا ييأس الضعيف من عدله فاشهد بالله لقد رأيته و هو يقول يا دنيا غري غيري إلي تعرضت أم إلي تشوفت هيهات قد بنتك ثلاثا لا رجعة فيك عمرك قصير و خطرك كثير و عيشك حقير آه من قلة الزاد و بعد السفر و وحشة الطريق فبكى معاوية و قال رحم الله أبا الحسن كان و الله كذلك فما حزنك عليه يا ضرار قال حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها و لا يسكن حزنها و الجواب إما زهد علي رضي الله عنه في المال فلا ريب فيه لكن الشأن انه كان ازهد من أبي بكر و عمر و ليس فيما ذكره ما يدل على
7
490
ذلك بل ما كان فيه حقا فلا دليل فيه على ذلك و الباقي إما كذب و إما ما لا مدح فيه إما كونه طلق الدنيا ثلاثا فمن المشهور عنه انه قال يا صفراء يا بيضاء قد طلقتك ثلاثا غري غيري لا رجعة لي فيك لكن هذا لا يدل على انه ازهد منه ممن لم يقل هذا فان نبينا و عيسى ابن مريم و غيرهما كانوا ازهد منه و لم يقولوا هذا و لان الإنسان إذا زهد لم يجب أن يقول بلسانه قد زهدت و ليس كل من قال زهدت يكون قد زهد فلا عدم هذا الكلام يدل على عدم الزهد و لا وجوده يدل على وجوده فلا دلالة فيه و إما قوله انه كان دائما يقتات جريش الشعير بلا آدم فلا دلالة في هذا لوجهين أحدهما انه كذب و الثاني انه لا مدح فيه فرسول الله صلى الله عليه و سلم إمام الزهد كان لا يرد موجودا و لا يتكلف مفقودا بل أن حضر لحم دجاج أكله أو لحم غنم أكله أو حلواء أو عسل أو فاكهة أكله و أن لم يجد شيئا لم يتكلفه و كان إذا حضر طعاما فان اشتهاه أكله و إلا تركه و لا يتكلف ما لا يحضر
7
491(188/359)
و ربما ربط على بطنه الحجر من الجوع و قد كان يقيم الشهر و الشهرين لا يوقد في بيته نار و قد ثبت في الصحيحين أن رجالا قال أحدهم أما أنا فأصوم و لا افطر و قال الآخر أما أنا فأقوم و لا أنام و قال الآخر أما أنا فلا أتزوج النساء و قال الآخر أما أنا فلا آكل اللحم فقال النبي صلى الله عليه و سلم لكني أصوم و افطر و أقوم و أنام و أتزوج النساء و آكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني فكيف يظن بعلي انه رغب عن سنة النبي صلى الله عليه و سلم و يجعل ذلك من مناقبه و أي مدح لمن رغب عنها ثم كيف يقال أن عليا كان بالعراق و لا يقتات إلا شعيرا مجروشا لا آدم له و لا يأكل خبز بر و لا لحما و النقل المتواتر بخلاف ذلك و هل من الصحابة من فعل ذلك أو هل قال أحد منهم أن ذلك مستحب و إما قوله كان حمائل سيفه ليفا و نعله ليفا فهذا أيضا كذب و لا مدح فيه فقد روي أن نعل رسول الله صلى الله عليه و سلم كان من الجلود و حمائل سيف النبي صلى الله عليه و سلم كانت ذهبا و فضة و الله قد يسر الرزق عليهم فأي مدح في أن يعدلوا عن الجلود مع تيسرها و إنما يمدح هذا عند العدم
7
492(188/360)
كما قال أبو أمامة الباهلي لقد فتح البلاد أقوام كانت خطم خيلهم ليفا و ركبهم العلابي رواه البخاري و حديث عمار من الموضوعات و كذلك حديث سويد بن غفلة ليس مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم و إما حديث الثوب الذي اشتراه فهو معروف و حديث ضرار بن ضمرة قد روي و ليس في واحد منهما ما يدل على انه ازهد من أبي بكر و عمر بل من عرف المنقول من سيرة عمر و عدله و زهده و صرفه الولايات عن أقاربه و نقصه لابنه في العطاء عن نظيره و لابنته في العطاء عن نظيرتها و أكله الخشن مع كونه هو الذي قسم كنوز كسرى و قيصر و إنما كان الذي يقسمه علي جزءا من فتوح عمر و انه مات و عليه ثمانون ألف درهم تبين له من وجوه كثيرة أن عمر كانت ازهد من علي و لا ريب أن أبا بكر ازهد من عمر فصل قال الرافضي و بالجملة زهده لم يلحقه أحد فيه و لا سبقه
7
493
أحد إليه و إذا كان ازهد كان هو الإمام لامتناع تقدم المفضول عليه و الجواب أن كلتا القضيتين باطلة لم يكن ازهد من أبي بكر و عمر و لا كل من كان ازهد كان أحق بالإمامة و ذلك أن عليا كان له من المال و السرارى و لأهله ما لم يكن لأبي بكر و عمر و قد روي عبد الله بن احمد حدثنا علي بن حكيم حدثنا شريك عن عاصم بن كليب عن محمد بن كعب القرظي قال سمعت عليا قال كنت مع النبي صلى الله عليه و سلم و إني لأربط الحجر على بطني من الجوع و أن صدقتي اليوم لتبلغ أربعين ألفا و هذا و أن كان ضعيفا فهو يقابل لمن قال انه كان لا يأكل في العراق إلا خبز الشعير مع أن ذلك النقل لا إسناد له و لا ريب أن عليا كان له مال اعظم من مال أبي بكر و عمر و لو لم يكن إلا ما كان عمر يعطيه و أولاده و أهل بيته فانه كان يعطيهم من المال اعظم مما يعطي سائر قبائل قريش و لم يكن عمر يعطي أحدا من بني عدي و لا تيم و لا غيرهم من القبائل مثل ما كان يعطي اقارب رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا وحده يوجب سعة أموالهم
7
494(188/361)
و علي له وقف معروف فهل يوقف الوقوف من لم يكن له مال و عمر إنما وقف نصيبه من خيبر لم يكن له عقار غير ذلك و علي كان له عقار بالينبع و غيرها فصل قال الرافضي الثاني انه كان اعبد الناس يصوم النهار و يقوم الليل و منه تعلم الناس صلاة الليل ونوافل النهار و اكثر العبادات و الأدعية المأثورة عنه تستوعب الوقت و كان يصلي في ليله و نهاره ألف ركعة و لم يخل في صلاة الليل حتى في ليلة الهرير و قال ابن عباس رايته في حربه و هو يرقب الشمس فقلت يا أمير المؤمنين ماذا تصنع قال انظر إلى الزوال لأصلي فقلت في هذا الوقت فقال إنما نقاتلهم على الصلاة فلم يغفل عن فعل العبادات في أول وقتها في اصعب الأوقات و كان إذا أريد إخراج الحديد من جسده يترك إلى أن يدخل
7
495
في الصلاة فيبقى متوجها إلى الله غافلا عما سواه غير مدرك للآلام التي تفعل به و جمع بين الصلاة و الزكاة و تصدق و هو راكع فانزل الله تعالى فيه قرآنا يتلى و تصدق بقوته و قوت عياله ثلاثة أيام حتى انزل الله فيهم هل أتى على الإنسان و تصدق ليلا و نهارا سرا و علانية و ناجى الرسول فقدم بين يدي نجواه صدقة فانزل الله فيه قرآنا و اعتق ألف عبد من كسب يده و كان يؤجر نفسه و ينفق على رسول الله صلى الله عليه و سلم في الشعب و إذا كان اعبد الناس كان افضل فيكون هو الإمام و الجواب أن يقال هذا الكلام فيه من الأكاذيب المختلفة ما لا يخفى إلا على اجهل الناس بأحوال القوم و مع انه كذب و لا مدح فيه و لا في عامة الأكاذيب فقوله انه كان يصوم النهار و يقوم الليل كذب عليه و قد تقدم قول النبي صلى الله عليه و سلم لكني أصوم و افطر و أقوم و أنام و أتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني
7
496(188/362)
و في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له ألم أخبر انك تقول لأصومن النهار و لأقومن الليل ما عشت قال بلى قال فلا تفعل و في رواية ألم أخبر انك تصوم الدهر و تقرأ القرآن كل ليلة فقلت يا نبي الله لم أرد بذلك إلا الخير قال فان حسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام فقلت يا نبي الله إني أطيق اكثر من ذلك قال فان لزوجك عليك حقا ولزورك عليك حقا لجسدك عليك حقا قال فصم صوم داود نبي الله فانه كان اعبد الناس كان يصوم يوما و يفطر يوما و اقرأ القرآن في كل شهر قلت إني أطيق اكثر من ذلك قال اقرأه في عشرين إلى أن قال في سبع و لا تزد على ذلك و قال في الصوم إني أطيق افضل من ذلك و في الصحيحين عن علي قال طرقني رسول الله صلى الله عليه و سلم و فاطمة فقال إلا تقومان فتصليان فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إذا شاء أن يبعثنا بعثنا قال فولى و هو يضرب فخذه و يقول و كان الإنسان اكثر شيء جدلا فهذا
7
497(188/363)
الحديث دليل على نومه في الليل مع إيقاظ النبي صلى الله عليه و سلم و مجادلته حتى ولى و هو يقول و كان الإنسان اكثر شيء جدلا و قول القائل و منه تعلم الناس صلاة الليل و نوافل النهار إن أراد أن بذلك أن بعض المسلمين تعلم ذلك منه فكهذا كل من بالصحابة علم بعض الناس أن أراد بذلك أن بعض المسلمين تعلموا ذلك منه فهذا من الكذب البارد فاكثر المسلمين ما رأوه و قد كانوا يقومون الليل و يتطوعون بالنهار فاكثر بلاد المسلمين التي فتحت في خلافة عمر و عثمان رضي الله عنهما كالشام و مصر و المغرب و خراسان ما رأوه فكيف يتعلمون منه و الصحابة كانوا كذلك في حياة النبي صلى الله عليه و سلم و منه تعلموا ذلك و لا يمكن أن يدعى ذلك إلا في أهل الكوفة ومعلوم انهم كانوا تعلموا ذلك من ابن مسعود رضي الله عنه و غيره قبل أن يقدم إليهم و كانوا من اكمل الناس علما و دينا قبل قدوم علي رضي الله عنه إليهم و الصحابة كانوا كذلك و أصحاب ابن مسعود كانوا كذلك قبل أن يقدم إليهم العراق
7
498(188/364)
و إما قوله الأدعية المأثورة عنه تستوعب الوقت فعامتها كذب عليه و هو كان اجل قدرا من أن يدعو بهذه الأدعية التي لا تليق بحاله و حال الصحابة و ليس لشيء من هذه إسناده و الأدعية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم هي افضل ما دعا به أحد و بها يدعو خيار هذه الأمة من الأولين و الآخرين و كذلك قوله انه كان يصلي في اليوم و الليلة ألف ركعة من الكذب الذي لا مدح فيه فان النبي صلى الله عليه و سلم كان مجموع صلاته في اليوم و الليلة أربعين ركعة فرضا و نفلا و الزمان لا يتسع لألف ركعة لمن ولي أمر المسلمين مع سياسة الناس و أهله إلا أن تكون صلاته نقرا كنقر الغراب و هي صلاة المنافقين التي نزه الله عنها عليا و إما ليالي صفين فالذي ثبت في الصحيح انه قال الذكر الذي علمه رسول الله صلى الله عليه و سلم لفاطمة قال ما تركته منذ سمعته عن النبي صلى الله عليه و سلم قيل و لا ليلة صفين قال و لا ليلة صفين ذكرته من السحر فقلته و ما ذكر من إخراج الحديد من جسده فكذب فان عليا لم يعرف انه
7
499(188/365)
دخل فيه حديد و ما ذكره من جمعه بين الصلاة و الزكاة فهذا كذب كما تقدم و لا مدح فيه فان هذا لو كان مستحبا لشرع للمسلمين و لو كان يستحب للمسلمين أن يتصدقوا و هم في الصلاة لتصدقوا فلما لم يستحب هذا أحد من المسلمين علمنا انه ليس عبادة بل مكروه و كذلك ما ذكره من أمر النذر و الدراهم الأربعة قد تقدم أن هذا كله كذب و ليس فيه كبير مدح و قوله اعتق ألف عبد من كسب يده من الكذب الذي لا يروج إلا على اجهل الناس فان عليا لم يعتق ألف عبد بل و لا مائة و لم يكن له كسب بيده يقوم بعشر هذا فانه لم تكن له صناعة يعملها و كان مشغولا إما بجهاد و إما بغيره و كذلك قوله كان يؤجر نفسه و ينفق على النبي صلى الله عليه و سلم في الشعب كذب بين من وجوه أحدها انهم لم يكونوا يخرجون من الشعب و لم يكن في الشعب من يستأجره و الثاني أن أباه أبا طالب كان معهم في الشعب و كان ينفق عليه و الثالث أن خديجة كانت موسرة تنفق من مالها و الرابع أن عليا لم يؤجر نفسه بمكة قط و كان صغيرا حين كان في الشعب إما مراهقا و إما محتلما فكان علي في الشعب ممن ينفق
7
500(188/366)
عليه إما النبي صلى الله عليه و سلم و إما أبوه لم يكن ممن يمكنه أن ينفق على نفسه فكيف ينفق على غيره فان دخوله في الشعب كان في حياة أبي طالب بالنقل المتواتر و أبو طالب مات قبل ذهاب النبي صلى الله عليه و سلم إلى الطائف باتفاق الناس و كان موته و موت خديجة متقاربين فدخوله في الشعب كان في أول الإسلام فانه قد ثبت أن ابن عباس ولد و هم في الشعب و مات النبي صلى الله عليه و سلم و ابن عباس مراهق و علي عاش بعد الهجرة أربعين سنة باتفاق الناس و المبعث قبل ذلك بثلاث عشرة و أقصى ما قيل في موته انه كان ابن ثلاث و ستين فغايته أن يكون حين الإسلام كان له عشر سنين فصل قال الرافضي الثالث انه كان اعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و الجواب أن اهل السنة يمنعون ذلك و يقولون ما اتفق عليه علماؤهم أن اعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو بكر ثم عمر و قد ذكر غير واحد الإجماع على أن أبا بكر اعلم الصحابة كلهم و دلائل
7
501
ذلك مبسوطة في موضعها فانه لم يكن أحد يقضي و يخطب و يفتي بحضرة النبي صلى الله عليه و سلم إلا أبو بكر رضي الله عنه و لم يشتبه على الناس شيء من أمر دينهم إلا فصله أبو بكر فانهم شكوا في موت النبي صلى الله عليه و سلم فبينه أبو بكر ثم شكوا في مدفنه فبينه ثم شكوا في قتال مانعي الزكاة فبينه أبو بكر و بين لهم النص في قوله تعالى لتدخلن المسجد الحرام أن شاء الله آمنين و بينت لهم أن عبدا خيره الله بين الدنيا و الآخرة و نحو ذلك و فسر الكلالة فلم يختلفوا عليه و كان علي و غيره يروون عن أبي بكر كما في السنن عن علي قال كنت إذا سمعت من النبي صلى الله عليه و سلم حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه فإذا حدثني غيره تاستحلفه فإذا حلف لي صدقته حدثني أبو بكر أبو بكر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما من مسلم يذنب ذنبا ثم يتوضأ و يصلي ركعتين يستغفر الله تعالى إلا غفر له
7(188/367)
502
و لم يحفظ لأبي بكر فتيا تخالف نصا و قد وجد لعمر و علي و غيرهما فتاوى كثير ة تخالف النصوص حتى جمع الشافعي مجلدا في خلاف علي و ابن مسعود و جمع محمد بن نصر المروزي كتابا كبيرا في ذلك و قد خالفوا الصديق في الجد و الصواب في الجد قول الصديق كما قد بينا ذلك في مصنف مفرد و ذكرنا فيه عشرة وجوه تدل على صحة قوله و جمهور الصحابة معه في الجد نحو بضعة عشر منهم و الذين نقل عنهم خلافة كزيد و ابن مسعود و اضطربت أقوالهم اضطرابا يبين أن قوله هو الصواب دون قولهم و قد نقل غير واحد الإجماع على أن أبا بكر اعلم من علي منهم الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني المروزي أحد أئمة الشافعية و ذكر في كتابه تقويم الأدلة الإجماع من علماء السنة أن أبا بكر اعلم من علي كيف و أبو بكر كان بحضرة النبي صلى الله عليه و سلم يفتي و يأمر و ينهى و يخطب كما كان يفعل ذلك إذا خرج النبي صلى الله عليه و سلم هو و إياه يدعو الناس إلى الإسلام و لما هاجرا و يوم حنين و غير ذلك من المشاهد و هو ساكت يقره و لم تكن هذه المرتبة لغيره و كان النبي صلى الله عليه و سلم في مشاورته لأهل الفقه و الرأي يقدم في الشورى أبا بكر و عمر فهما اللذان يتكلمان في العلم و يتقدمان
7
503(188/368)
بحضرته على سائر الصحابة مثل مشاورته في أسارى بدر و غير ذلك و قد روى في الحديث انه قال إذا اتفقتما على أمر لم أخالفكما و في السنن عنه انه قال اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر و عمر و لم يحصل هذا لغيرهما بل قال عليكم بسنتي و سنة الخلفاء فأمر باتباع سنة الخلفاء الأربعة و خص أبا بكر و عمر بالاقتداء و مرتبة المقتدي به في أفعاله و فيما سنه للمسلمين فوق مرتبة المتبع فيما سنه فقط و في صحيح مسلم أن أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم كانوا معه في سفره فذكر الحديث و فيه أن يطع القوم أبا بكر و عمر يرشدوا و ثبت عن ابن عباس انه كان يفتي بكتاب الله فان لم يجد فبما في سنة رسول الله فان لم يجد أفتى بقول أبي بكر و عمر و لم يكن يفعل ذلك بعثمان و لا بعلي و ابن عباس هو حبر الأمة و اعلم الصحابة في زمانه و هو يفتي بقول أبي بكر و عمر مقدما لهما على قول غيرهما و قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال اللهم فقهه في الدين و علمه التأويل
7
504(188/369)
و أبو بكر و عمر اكثر اختصاصا بالنبي صلى الله عليه و سلم من سائر الصحابة و أبو بكر اكثر اختصاصا به فانه كان يسمر عنده عامة الليل يحدثه في العلم و الدين و مصالح المسلمين كما روى أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش حدثنا إبراهيم حدثنا علقمة عن عمر قال كان النبي صلى الله عليه و سلم يسمر عند أبي بكر في الأمر من أمر المسلمين و أنا معه و في الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء و أن النبي صلى الله عليه و سلم قال مرة من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث و من كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس و سادس و أن أبا بكر جاء بثلاثة و انطلق نبي الله صلى الله عليه و سلم بعشرة و أن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه و سلم ثم لبث حتى صليت العشاء ثم رجع فلبث حتى نعس رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاءنا بعد ما مضى من الليل ما شاء قالت امرأته ما
7
505
حبسك عن أضيافك قال أو ما عشيتهم قالت أبو حتى تجيء عرضوا عليهم العشاء فغلبوهم و ذكر الحديث و في رواية قال كان أبي يتحدث إلى النبي صلى الله عليه و سلم من الليل و في سفر الهجرة لم يصحب غير أبي و يوم بدر لم يبق معه في العريش غيره و قال أن أمن الناس علينا في صحبته و ذات يده أبو بكر و لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و هذا من أصح في الأحاديث الصحيحة المستفيضة في الصحاح من وجوه كثيرة و في الصحيحين عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال كنت جالسا
7
506(188/370)
عند النبي صلى الله عليه و سلم إذ اقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى من ركبتيه فقال النبي صلى الله عليه و سلم إما صاحبكم فقد غامر فسلم و قال انه كان بيني و بين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي و إني أتيتك فقال يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا ثم أن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فلم يجده فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه و سلم يتمعر و غضب حتى أشفق أبو بكر و قال أنا كنت اظلم يا رسول الله مرتين فقال النبي صلى الله عليه و سلم أن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت و قال أبو بكر صدقت و واساني بنفسه و ماله فهل انتم تاركوا لي صاحبي فهل انتم تاركوا لي صاحبي فما أوذي بعدها قال البخاري سبق بالخير و قد تقدم ما في الصحيحين أن أبا سفيان يوم أحد لم يسال إلا عن النبي صلى الله عليه و سلم و أبي بكر و عمر لعلمه و علم سائر الناس أن هؤلاء هم رؤوس الإسلام و أن قيامه بهم و لهذا لما سال الرشيد مالك بن انس عن منزلتهما من النبي صلى الله عليه و سلم فقال منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه في مماته فقال شفيتني يا مالك شفيتني يامالك
7
507(188/371)
و كثرة الاختصاص و الصحبة مع كمال المودة و الائتلاف و المحبة و المشاركة في العلم و الدين تقتضي انهما أحق بذلك من غيرهما و هذا ظاهر بين لمن له خبرة بأحوال القوم إما الصديق فانه مع قيامه بأمور من العلم و الفقه عجز عنهما غيره حتى بينها لهم لم يحفظ له قول يخالف فيه نصا و هذا يدل على غاية البراعة و العلم و إما غيره فحفظت له أقوال كثيرة خالفت النصوص لكون النصوص لك تبلغه و الذي وجد لعمر من موافقته النصوص اكثر من موافقة علي يعرف هذا من عرف مسائل العلم و أقوال العلماء فيها و الأدلة الشرعية و مراتبها و ذلك مثل عدة المتوفي عنها زوجها فان قول عمر فيها هو الذي وافق النص دون القول الآخر و كذلك مسالة الحرام قول عمر و غيره فيها هو الأشبه بالنصوص من القول الآخر الذي هو قول علي و كذلك المخيرة التي خيرها زوجها و المفوضة للمهر و مسالة الخلية و البرية و البائن و البتة و كثير من مسائل الفقه و في الصحيحين عنه صلى الله عليه و سلم انه قال قد كان في الأمم قبلكم محدثون فان يكن في أمتي أحد فعمر و في الصحيحين عنه صلى الله عليه و سلم انه قال رأيت كأني أتيت
7
508(188/372)
بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج من أظافري ثم ناولت فضلي عمر قالوا ما أولته يا رسول الله قال العلم و في الترمذي و غيره عنه عليه الصلاة و السلام انه قال لو لم ابعث فيكم لبعث فيكم عمر و لفظ الترمذي لو كان بعدي نبي لكان عمر قال الترمذي حديث حسن و أيضا فان الصديق استخلفه النبي صلى الله عليه و سلم على الصلاة التي هي عمود الإسلام و على إقامة المناسك قبل أن يحج النبي صلى الله عليه و سلم فنادى أن لا يحج بعد العام مشرك و لا يطوف بالبيت عريان و أردفه بعلي فقال أمير أم مأمور فقال بل مأمور فأمر أبا بكر على على فكان ممن أمره النبي صلى الله عليه و سلم أن يسمع و يطيع لأبي بكر و هذا بعد غزوة تبوك التي استخلف فيها عليا على المدينة و كتاب أبي بكر في الصدقات اصح الكتب و آخرها و لهذا عمل به عامة الفقهاء و غيره في كتابه ما هو متقدم منسوخ فدل على انه اعلم بالسنة الناسخة و في الصحيحين عن أبي سعيد قال كان أبو بكر أعلمنا بالنبي صلى الله عليه و سلم
7
509(188/373)
و أيضا فالصحابة لم يتنازعوا في زمن أبي بكر في مسالة إلا فصلها و ارتفع النزاع فلا يعلم بينهم في زمانه مسالة تنازعوا فيها إلا ارتفع النزاع بينهم بسببه كتنازعهم في وفاة النبي صلى الله عليه و سلم و دفنه و ميراثه و تجهيزه جيش أسامة و قتال مانعي الزكاة و غير ذلك من المسائل الكبار بل كان رضي الله عنه هو خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم حقا يعلمهم و يقومهم و يشجعهم و يبين لهم من الأدلة ما تزول معه الشبهة فلم يكونوا معه يختلفون و بعده فلم يبلغ علم أحد و كماله علم أبي بكر و كماله فصاروا يتنازعون في بعض المسائل كما تنازعوا في الجد و الاخوة و في الحرام و الطلاق الثلاث و في متعة الحج و نفقة المبتوتة و سكناها و غير ذلك من المسائل المعروفة مما لم يكونوا يتنازعون فيه على عهد أبي بكر و كانوا يخالفون عمر و عثمان و عليا في كثير من أقوالهم و لم يعرف انهم خالفوا الصديق في شيء مما كان يفتي به و يقضي و هذا يدل على غاية العلم
7
510(188/374)
و قام رضي الله عنه مقام رسول الله صلى الله عليه و سلم و أقام الإسلام فلم يخل بشيء بل ادخل الناس من الباب الذي خرجوا منه مع كثرة المخالفين من المرتدين و غيرهم و كثرة الخاذلين فكمل به من علمهم و دينهم ما لا يقاومه فيه أحد و كانوا يسمونه خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم انقطع هذا الاتصال اللفظي بموته قال أبو القاسم السهيلي ظهر سر قوله تعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن أن الله معنا في اللفظ و المعنى فانهم قالوا خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم انقطع هذا بموته و أيضا فعلي تعلم من أبي بكر بعض السنة و أبو بكر لم يتعلم من علي شيئا و مما يبين هذا أن علماء الكوفة الذين صحبوا عمر و عليا كعلقمة و الأسود و شريح وغيرهم كانوا يرجحون قول عمر على قول علي و إما تابعو المدينة و مكة و البصرة فهذا عندهم اظهر و اشهر من أن يذكر و إنما ظهر علم علي و فقهه في الكوفة بحسب مقامه فيها عندهم مدة خلافته و كل شيعة علي الذين صحبوه لا يعرف عن أحد منهم أنه قدمه على أبي بكر و عمر لا في فقه و لا علم و لا دين بل كل شيعته الذين قاتلوا معه كانوا مع سائر المسلمين متفقين على تقديم أبي بكر وعمر إلا من كان ينكر عليه و يذمه مع قلتهم و حقارتهم و حقارتهم و خمولهم و هم ثلاث طوائف طائفة غلت فيه و ادعت فيه الإلهية و هؤلاء حرقهم بالنار
7
511(188/375)
و طائفة سبت أبا بكر رأسهم عبد الله بن سبأ فطلب علي قتله حتى هرب منه إلى المدائن و طائفة كانت تفضله حتى قال لا يبلغني عن أحد انه فضلني على أبي بكر و عمر إلا جلدته جلد المفتري و قد روي عن علي من نحو ثمانين وجها انه قال على منبر الكوفة خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر و عمر و في صحيح البخاري و غيره من رواية رجال همدان خاصته التي يقول فيهم و لو كنت بوابا على باب جنة لقلت لهمدان ادخلي بسلام انه قال و قد سأله ابنه محمد بن الحنفية يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أبو بكر قال ثم من قال ثم عمر قال ثم أنت قال إنما أبوك رجل من المسلمين قال البخاري حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان الثوري
7
512
حدثنا جامع بن شداد حدثنا أبو يعلى منذر الثوري عن محمد بن الحنفية قال قلت لأبي يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا بني أو ما تعرف فقلت لا فقال أبو بكر قلت ثم من قال ثم عمر و هذا يقوله لابنه الذي لا يتقيه و لخاصته و يتقدم بعقوبة من يفضله عليهما و يراه مفتريا و المتواضع لا يجوز أن يتقدم بعقوبة من يفضله عليهما يقول الحق و لا يسميه مفتريا و كل من كان افضل من غيره من الأنبياء و الصحابة و غيرهم فانه اعلم و رأس الفضائل العلم قال تعالى هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون و الدلائل على ذلك كثيرة و كلام العلماء كثير في ذلك و إما قوله قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لاقضاكم علي والقاءيستلزم العلم و الدين
7
513(188/376)
فهذا الحديث لم يثبت و ليس له إسناد تقوم به الحجة و قوله أعلمكم بالحلال و الحرام معاذ بن جبل أقوى إسنادا منه و العلم بالحلال و الحرام ينتظم القضاء اعظم مما ينتظم للحلال و الحرام و هذا الثاني قد رواه الترمذي و احمد و الأول لم يروه أحد في السنن المشهورة و لا المساند المعروفة لا بإسناد صحيح و لا ضعيف و إنما يروي من طريق من هو معروف بالكذب و قول عمر علي أقضانا إنما هو في فصل الخصومات في الظاهر مع جواز أن يكون في الباطن بخلافه كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال إنكم تختصمون إلي و لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض
7
514
فاقضي له بنحو ما اسمع فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما اقطع له قطعة من النار فقد اخبر سيد القضاة أن قضاءه لا يحل الحرام و علم الحلال و الحرام يتناول الظاهر و الباطن فكان الأعلم به اعلم بالدين و أيضا فالقضاء نوعان أحدهما الحكم عند تجاحد الخصمين مثل أن يدعي أحدهما أمرا ينكره الآخر فيحكم فيه بالبينة و نحوها و الثاني ما لا يتجاحدان فيه بل يتصادقان لكن لا يعلمان ما يستحق كل منهما كتنازعهما في قسمة فريضة أو فيما يجب لكل من الزوجين على الآخر أو فيما يستحقه كل من المتشاركين و نحو ذلك فهذا الباب هو من باب الحلال و الحرام فإذا أفتاهما من يرضيان بقوله كفاهما و لم يحتاجا إلى من يحكم بينهما و إنما يحتاجان إلى الحاكم عند التجاحد و ذلك غالبا إنما يكون مع الفجور و قد يكون مع النسيان فما لا يختص بالقضاء لا يحتاج إليه إلا قليل من الأبرار فأما الحلال و الحرام فيحتاج إليه البر و الفاجر و لهذا لما أمر أبو بكر عمر أن يقضي بين الناس مكث سنة لم يتحاكم إليه اثنان و لو عد مجموع ما قضى به النبي صلى الله عليه و سلم من هذا النوع لم يبلغ عشر حكومات فأين هذا من كلامه في الحلال و الحرام الذي هو قوام دين الإسلام
7
515(188/377)
و إذا كان قوله اعلم أمتي بالحلال و الحرام معاذ بن جبل اصح إسنادا و اظهر دلالة علم أن المحتج بذلك على أن عليا اعلم من معاذ جاهل فكيف من أبي بكر و عمر اللذين هما اعلم من معاذ مع أن الحديث الذي فيه ذكر معاذ و زيد بعضهم يضعفه و بعضهم يحسنه و الذي فيه ذكر علي فضعيف أو باطل و حديث أنا مدينة العلم و علي بابها اضعف و أوهى و لهذا إنما يعد في الموضوعات و أن رواه الترمذي و ذكره ابن الجوزي و بين أن سائر طرقه موضوعة و الكذب يعرف من نفس متنه فإن النبي صلى الله عليه و سلم إذا كان مدينة العلم و لم يكن لها إلا باب واحد و لم يبلغ عنه العلم إلا واحد فسد أمر الإسلام و لهذا اتفق المسلمون على أنه لايجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحدا بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب
7
516(188/378)
و خبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن وتلك قد تكون منتفية أو خفية عن اكثر الناس فلا يحصل لهم العلم بالقران والسنن المتواترة وإذا قالوا ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخبرة قيل لهم فلا بد من العلم بعصمته أولا وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن يعلم عصمته فانه دور ولا تثبت بالإجماع فانه لا إجماع فيها وعند الإمامية إنما يكون الإجماع حجة لان فيهم الإمام المعصوم فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه فعلم أن عصمته لو كانت حقا لا بد أن تعلم بطريق آخر غير خبره فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلا هو لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين فعلم أن هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل ظنه مدحا وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام إذ لم يبلغه إلا واحد ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر فان جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير علي أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهما ظاهر وكذلك الشام والبصرة فان هؤلاء لم يكونوا يروون عن علي إلا شيئا قليلا وإنما كان غالب علمه في الكوفة ومع هذا فأهل الكوفة كانوا يعلمون القران والسنة قبل أن يتولى عثمان فضلا عن علي
7
517(188/379)
وفقهاء أهل المدينة تعلموا الدين في خلافة عمر وتعليم معاذ لأهل اليمن ومقامه فيهم اكثر من علي ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ بن جبل اكثر مما رووا عن علي وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على معاذ بن جبل ولما قدم علي الكوفة كان شريح فيها قاضيا وهو وعبيدة السلماني نفقها على غيره فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم علي الكوفة وقال ابن حزم واحتج من احتج من الرافضة بان عليا كان أكثرهم علما قال وهذا كذب وإنما يعرف علم الصحابي بأحد وجهين لا ثالث لهما أحدهما كثرة روايته وفتاويه والثاني كثرة استعمال النبي صلى الله عليه وسلم له فمن المحال الباطل أن يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم من لا علم له وهذا اكبر شهادة على العلم وسعته فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى أبا بكر الصلاة بحضرته طول علته وجميع أكابر الصحابة حضور كعمر وعلي وابن مسعود وأبي وغيرهم وهذا بخلاف استخلاف علي إذا غزا لان ذلك على النساء وذوي الأعذار فقط فوجب ضرورة أن يكون أبو بكر اعلم الناس بالصلاة وشرائعها واعلم المذكورين بها وهي عمود الإسلام ووجدناه أيضا قد استعمله على الصدقات فوجب ضرورة
7
518(188/380)
أن يكون عنده من علم الصدقات كالذي عند غيره من علماء الصحابة لا اقل وربما كان اكثر إذ قد استعمل غيره وهو لا يستعمل إلا عالما بما استعمله فيه والزكاة ركن من أركان الدين بعد الصلاة وبرهان ما قلناه من تمام علم أبي بكر بالصدقات أن الأخبار الواردة في الزكاة أصحها والذي يلزم العمل به ولا يجوز خلافه فهو حديث أبي بكر ثم الذي من طريق عمر و إما من طريق علي فمضطرب وفيه ما قد تركه الفقهاء جملة وهو أن في خمس وعشرين من الإبل خمسا من الشياه وأيضا فوجدناه صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج فصح ضرورة انه اعلم من جميع الصحابة بالحج وهذه دعائم الإسلام ثم وجدناه قد استعمله على البعوث فصح أن عنده من أحكام الجهاد مثل ما عند سائر من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على البعوث إذ لا يستعمل إلا عالما بالعمل فعند أبي بكر من علم الجهاد كالذي عند علي وسائر أمراء البعوث لا اقل وإذا صح التقدم لأبي بكر على علي وغيره في العلم بالصلاة
7
519(188/381)
والزكاة والحج وساواه في الجهاد فهذه عمدة للعلم ثم وجدناه صلى الله عليه وسلم قد الزم نفسه في جلوسه ومسامرته وظعنه و إقامته أبا بكر فشاهد أحكامه وفتاويه اكثر من مشاهدة علي لها فصح ضرورة انه اعلم بها فهل بقيت من العلم بقية إلا و أبو بكر المقدم فيها الذي لا يلحق أو المشارك الذي لا يسبق فبطلت دعواهم في العلم والحمد لله رب العالمين و أما الرواية و الفتيا فان أبا بكر رضي الله عنه لم يعش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سنتين وستة اشهر ولم يفارق المدينة إلا حاجا أو معتمرا ولم يحتج الناس إلى ما عنده من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لان كل من حواليه أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ذلك كله فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث واثنين و أربعين حديثا مسندة ولم يرو عن علي إلا خمسمائة وستة وثمانون حديثا مسندة يصح منها نحو خمسين حديثا وقد عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أزيد من ثلاثين سنة فكثر لقاء الناس إياه وحاجتهم إلى ما عنده لذهاب جمهور الصحابة وكثر سماع أهل الافاق منه مرة بصفين وأعواما بالكوفة ومرة بالبصرة ومرة
7
520(188/382)
بالمدينة فإذا نسبنا مدة أبي بكر من حياته واضفنا تفري على البلاد بلدا بلدا وكثرة سماع الناس منه إلى لزوم أبي بكر موطنه وانه لم تكثر حاجة من حواليه إلى الرواية عنه ثم نسبنا عدد حديثه من عدد حديثه وفتاويه من فتاويه علم كل ذي حظ من علم أن الذي عند أبي بكر من العلم أضعاف ما كان عند علي منه وبرهان ذلك أن من قبل عمر من الصحابة عغفمر قليلا قل النقل عنه ومن طال عمره كثر النقل عنه إلا اليسير ممن اكتفى بنيابة غيره عنه في تعليم الناس وقد عاش علي بعد عمر سبعة عشر عاما غير اشهر ومسند عمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثا يصح منها نحو خمسين كالذي عن علي سواء فكل ما زاد حديث علي على حديث عمر تسعة و أربعون حديثا في هذه المدة ولم يزد عليه في الصحيح إلا حديث أو حديثان وفتاوى عمر موازية لفتاوي علي في أبواب الفقه فإذا نسبنا مدة من مدة وضربا في البلاد من ضرب فيها واضفنا حديثا إلى حديث
7
521
وفتاوى إلى فتاوى علم كل ذي حس علما ضروريا أن الذي كان عند عمر من العلم أضعاف ما كان عند علي ووجدنا مسند عائشة ألفي مسند ومائتي مسند وعشرة مسانيد وحديث أبي هريرة خمسة آلاف مسند وثلاثمائة مسند و أربعة وسبعون مسندا ووجدنا مسند ابن عمر وانس قريبا من مسند عائشة لكل واحد منهما ووجدنا مسند جابر وابن عباس لكل واحد منهما أزيد من ألف وخمسمائة ووجدنا لابن مسعود ثمانمائة مسند ونيفا ولكل من ذكرنا حاشا أبي هريرة وانس من الفتاوى اكثر من فتاوى علي أو نحوها فبطل قول هذا الجاهل إلى أن قال فان قالوا قد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم عليا على الأخماس علما والقضاء باليمن قلنا نعم لكن مشاهدة أبي بكر لأقضية النبي صلى الله عليه وسلم أقوى في العلم واثبت مما عند علي وهو باليمن وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم
7
522(188/383)
أبا بكر على بعوث فيها الأخماس فقد ساوى علمه علم علي في حكمها بلا شك إذ لا يستعمل النبي إلا عالما بما يستعمله عليه وقد صح أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يفتيان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم ذلك ومحال أن يبيح لهما ذلك إلا وهما اعلم من غيرهما وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا على القضاء باليمن مع علي معاذا و أبا موسى الاشعري فلعلي في هذا شركاء كثير منهم أبو بكر وعمر ثم انفرد أبو بكر بالجمهور والأغلب من العلم فصل قال الرافضي وفيه نزل قوله تعالى وتعيها أذن واعية والجواب انه حديث موضوع باتفاق أهل العلم ومعلوم بالاضطرار أن الله تعالى لم يرد بذلك أن لا تعيها إلا أذن واعية واحدة من الأذان ولا أذن شخص معين لكن المقصود النوع فيدخل في ذلك كل أذن واعية
7
523
فصل قال الرافضي وكان في غاية الذكاء شديد الحرص على التعلم ولازم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو اكمل الناس ملازمة ليلا ونهارا من صغره إلى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والجواب أن يقال من أين علم انه أذكى من عمر ومن أبي بكر أو انه كان ارغب في العلم منهما أو أن استفادته من النبي صلى الله عليه وسلم اكثر منهما وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال انه كان في الأمم قبلكم محدثون فان يكن في أمتي أحد فعمر والمحدث الملهم يلهمه الله وهذا قدر زائد على تعليم البشر وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال رأيت كأني أتيت بلبن فشربت منه حتى رأيت الري يخرج من أظفاري ثم ناولت فضلي عمر قالوا فما أولته قال العلم ولم يرو مثل هذا لعلي
7
524(188/384)
وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال قال النبي صلى الله عليه وسلم رأيت الناس يعرضون علي وعلهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك وعرض علي عمر وعليه قميص يجره قالوا فما أولته يا رسول الله قال الدين فهذان حديثان صحيحان يشهدان له بالعلم والدين ولم يرو مثل هذا لعلي وقال ابن مسعود لما مات عمر أني لأحسب هذا قد ذهب بتسعة أعشار العلم وشارك الناس في العشر الباقي ولا ريب أن أبا بكر كان ملازما للنبي صلى الله علي وسلم اكثر من علي ومن كل أحد و اكن أبو بكر و عمر رضي الله عنهما اكثر اجتماعا بالنبي صلى الله عليه و سلم من علي بكثير كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال وضع عمر رضي الله عنه على سريره فتكنفه الناس يدعون و يثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع فلم يرعني إلا رجل قد اخذ بمنكبي من ورائي فالتفت إليه فإذا هو علي و ترحم على على عمر و قال ما خلفت أحدا احب إلى أن ألقى الله عز و جل بمثل عمله منك و أيم الله أن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك و ذلك أني كثيرا ما كنت اسمع النبي صلى
7
525(188/385)
الله عليه وسلم يقول جئت أنا و أبو بكر و عمر و دخلت أنا و أبو بكر و عمر و خرجت أنا و أبو بكر و عمر فان كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك و كان النبي صلى الله عليه وسلم و أبو بكر يسمران في أمر المسلمين بالليل و المسائل التي تنازع فيها عمر و علي في الغالب يكون فيها قول عمر ارجح كمسألة الحامل المتوفي عنها زوجها و مسالة الحرام كما تقدم و لا ريب أن مذهب أهل المدينة ارجح من مذهب أهل العراق و هؤلاء يتبعون عمر و زيدا في الغالب و أولئك يتبعون عليا و ابن مسعود و كان ما يقوله عمر يشاور فيه عثمان و عليا و غيرهما و علي مع هؤلاء أقوى من علي وحده كما قال له قاضيه عبيدة السلماني رأيك مع عمر في الجماعة احب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة وقال ابن مسعود كان عمر إذا فتح لنا بابا دخلناه فوجدناه سهلا آتى في زوج و أبوين و امرأة و أبوين فقال للام ثلث الباقي ثم أن عثمان و عليا و ابن مسعود و زيدا اتبعوه و سعيد بن المسيب كان من اعلم التابعين باتفاق المسلمين و كان عمدة فقهه قضايا عمر و كان ابن عمر يسأله عنها و في الترمذي عن
7
526
النبي صلى الله عليه وسلم انه قال لو كان بعدي نبي لكان عمر قال الترمذي حديث حسن و اعلم أن أهل الكوفة و أصحاب ابن مسعود كعلقمة و الأسود و شريح و الحارث بن قيس و عبيدة السلماني و مسروق و زر بن حبيش و أبي وائل و غيرهم هؤلاء كانوا يفضلون علم عمر و علم ابن مسعود على علم علي و يقصدون في الغالب قول عمر و ابن مسعود دون قول علي فصل قال الرافضي و قال صلى الله عليه وسلم العلم في الصغر كالنقش في الحجر فتكون علومه اكثر من علوم غيره لحصول القابل الكامل و الفاعل التام و الجواب أن هذا من عدم علم الرافضي بالحديث فان هذا مثل سائر ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم و أصحابه أيدهم الله تعالى فتعلموا الإيمان و القرآن و السنن و يسر الله ذلك عليهم و كذلك
7
527(188/386)
علي فان القرآن لم يكمل حتى صار لعلي نحوا من ثلاثين سنة فإنما حفظ اكثر ذلك في كبره لا في صغره و قد اختلف في حفظه لجميع القران على قولين و الأنبياء اعلم الخلق و لم يبعث الله نبيا إلا بعد الأربعين إلا عيسى صلى الله عليه وسلم و تعليم النبي صلى الله علي وسلم كان مطلقا لم يكن يخص به أحدا و لكن بحسب استعداد الطالب و لهذا حفظ عنه أبو هريرة في ثلاث سنين و بعض أخرى ما لم يحفظه غيره و كان اجتماع أبي بكر به اكثر من سائر الصحابة و أما قوله أن الناس منه استفادوا العلوم فهذا باطل فان أهل الكوفة التي كانت داره كانوا قد تعلموا الإيمان و القران و تفسيره و الفقه و السنة من ابن مسعود و غيره قبل أن يقدم علي الكوفة و إذا قيل أن أبا عبد الرحمن قرأ عليه فمعناه عرض عليه و إلا فأبو عبد الرحمن كان قد حفظ القران قبل أن يقدم علي الكوفة و هو
7
528
و غيره من علماء الكوفة مثل علقمة و الأسود و الحارث التيمي و زر ابن حبيش الذي قرأ عليه عاصم بن أبي النجود اخذوا القران عن ابن مسعود و كانوا يذهبون إلى المدينة فيأخذون عن عمر وعائشه ولم يأخذوا عن علي كما اخذوا عن عمرو عائشة و شريح قاضيه إنما تفقه على معاذ بن جبل باليمن و كان يناظره في الفقه و لا يقلده و كذلك عبيدة السلماني كان لا يقلده بل يقول له رأيك مع عمر في الجماعة احب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة و أما أهل المدينة و مكة فعلمهم أيضا ليس مأخوذا عنه و كذلك أهل الشام و البصرة فهذه الأمصار الخمسة الحجازان و العراقان و الشام هي التي خرج منها علوم النبوة من العلوم الإيمانية و القرآنية و الشريعة و ما اخذ هؤلاء عنه فان عمر رضي الله عنه كان قد أرسل إلى كل مصر من يعلمهم القران و السنة و أرسل إلى أهل الشام معاذ بن جبل و عبادة بن الصامت و غيرهما و أرسل إلى العراق ابن مسعود و حذيفة بن اليمان و غيرهما فصل قال الرافضي و أما النحو فهو واضعه قال لأبي
7
529(188/387)
الأسود الكلام كله ثلاثة أشياء اسم و فعل و حرف و علمه وجوه الأعراب و الجواب أن يقال أولا هذا ليس من علوم النبوة و إنما هو علم مستنبط و هو وسيلة في حفظ قوانين اللسان الذي نزل به القران و لم يكن في زمن الخلفاء الثلاثة لحن فلم يحتج إليه فلما سكن علي الكوفة و بها الأنباط روي انه قال لأبي الأسود الدؤلي الكلام اسم و فعل و حرف و قال انح هذا النحو ففعل هذا للحاجة كما أن من بعد علي أيضا استخرج للخط النقط و الشكل و علامة المد و الشد و نحوه للحاجة ثم بعد ذلك بسط النحو نحاة الكوفة و البصرة و الخليل استخرج علم العروض فصل قال الرافضي و في الفقه الفقهاء يرجعون إليه و الجواب أن هذا كذب بين فليس في الأئمة الأربعة و لا غيرهم من أئمة الفقهاء من يرجع إليه في فقهه أما مالك فان علمه عن
7
530(188/388)
أهل المدينة و أهل المدينة لا يكادون يأخذون بقول علي بل اخذوا فقههم عن الفقهاء السبعة عن زيد و عمر و ابن عمر و نحوهم أما الشافعي فانه تفقه أولا على المكيين أصحاب ابن جريج كسعيد بن سالم القداح و مسلم بن خالد الزنجي و ابن جريج اخذ ذلك عن أصحاب ابن عباس كعطاء و غيره و ابن عباس كان مجتهدا مستقلا و كان إذا أفتى بقول الصحابة أفتى بقول أبي بكر و عمر لا بقول علي و كان ينكر على علي أشياء ثم أن الشافعي اخذ عن مالك ثم كتب كتب أهل العراق و اخذ مذاهب أهل الحديث و اختار لنفسه و أما أبو حنيفة فشيخه الذي اختص به حماد بن أبي سليمان و حماد عن إبراهيم و إبراهيم عن علقمة و علقمة عن ابن مسعود و قد اخذ أبو حنيفة عن عطاء و غيره و أما الإمام احمد فكان على مذهب أهل الحديث اخذ عن ابن عيينة و ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس و ابن عمر و اخذ عن هشام بن بشير و هشام عن أصحاب الحسن و إبراهيم النخعي و اخذ عن عبد الرحمن بن مهدي و وكيع بن الجراح و أمثالهما و جالس الشافعي و اخذ عن أبي يوسف و اختار لنفسه قولا و كذلك إسحاق بن راهويه وابو عبيد ونحوهم
7
531
و الاوزاعي و الليث اكثر فقههما عن أهل المدينة و أمثالهم لا عن الكوفيين فصل قال الرافضي أما المالكية فاخذوا علمهم عنه و عن أولاده و الجواب أن هنا كذب ظاهر فهذا موطأ مالك ليس فيه عنه و لا عن أحد أولاده إلا قليل جدا و جمهور ما فيه عن غيرهم فيه عن جعفر تسعة أحاديث و لم يرو مالك عن أحد من ذريته إلا عن جعفر و كذلك الأحاديث التي في الصحاح و السنن و المساند منها قليل عن ولده و جمهور ما فيها عن غيرهم فصل قال الرافضي و أما أبو حنيفة فقرأ على الصادق
7
532(188/389)
و الجواب أن هذا من الكذب الذي يعرفه من له أدنى علم فان أبا حنيفة من أقران جعفر الصادق توفي الصادق سنة ثمان و أربعين و توفي أبو حنيفة سنة خمسين و مائة و كان أبو حنيفة يفتي في حياة أبي جعفر والد الصادق و ما يعرف أن أبا حنيفة اخذ عن جعفر الصادق و لا عن أبيه مسألة واحدة بل اخذ عمن كان أسن منهما كعطاء بن أبي رباح و شيخه الأصلي حماد بن أبي سليمان و جعفر بن محمد كان بالمدينة فصل قال الرافضي و أما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن و الجواب أن هذا ليس كذلك بل جالسه و علاف عرف طريقته و ناظره و أول من اظهر الخلاف لمحمد بن الحسن و الرد عليه هو الشافعي
7
533
فان محمد بن الحسن اظهر الرد على مالك و أهل المدينة و هو أول من عرف منه رد على مخالفيه فنظر الشافعي في كلامه و انتصر لما تبين له انه الحق من قول أهل المدينة و كان انتصاره في الغالب لمذهب أهل الحجاز و أهل الحديث ثم أن عيسى بن إبان صنف كتابا تعرض فيه بالرد على الشافعي فصنف ابن سريج كتابا في الرد على عيسى بن إبان و كذلك احمد بن حنبل لم يقرأ على الشافعي لكن جالسه كما جالس الشافعي محمد بن الحسن و استفاد كل منهما من صاحبه و كان الشافعي و احمد يتفقان في أصولهما اكثر من اتفاق الشافعي و محمد بن الحسن و كان الشافعي أسن من احمد ببضع عشرة سنة و كان الشافعي قدم بغداد أولا سنة بضع و ثمانين في حياة محمد بن الحسن بعد موت أبي يوسف ثم قدمها ثانية سنة بضع و تسعين و في هذه القدمة اجتمع به احمد و بالجملة فهؤلاء اللاأمة الأربعة ليس فيهم من اخذ عن جعفر شيئا من قواعد الفقه لكن رووا عنه أحاديث كما رووا عن غيره و أحاديث غيره أضعاف أحاديثه و ليس بين حديث الزهري و حديثه نسبة لا في القوة و لا في الكثرة و قد استراب البخاري في بعض حديثه لما بلغه عن يحيى بن سعيد
7
534(188/390)
القطان فيه كلام فلم يخرج له و لم يكذب على أحد ما كذب على جعفر الصادق مع براءته كما كذب عليه فنسب إليه علم البطاقة و الهفت و الجدول و اختلاج الأعضاء و منافع القران و الكلام على الحوادث و أنواع من الإشارات في تفسير القران وتفسير قراءة السورة في المنام وكل ذلك كذب عليه وأيضا جعفر الصادق اخذ عن أبيه وعن غيره كما قدمنا وكذلك أبوه اخذ عن علي بن الحسين وغيره وكذلك علي بن الحسين اخذ العلم عن غير الحسين اكثر مما اخذ عن الحسين فان الحسين قتل سنة إحدى وستين وعلي صغير فلما رجع إلى المدينة اخذ عن علماء أهل المدينة فإن علي بن الحسين اخذ عن أمهات المؤمنين عائشة وأم سلمة وصفية واخذ عن ابن عباس والمسور بن مخرمة وأبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم ومروان بن الحكم وسعيد بن المسيب وغيرهم وكذلك الحسن كان يأخذ عن أبيه وغيره حتى اخذ عن التابعين وهذا من علمه ودينه رضي الله عنه و أما ثناء العلماء على علي بن الحسين ومناقبه فكثيرة وقال الزهري لم أدرك بالمدينة افضل من علي بن الحسين وقال يحيى بن سعيد الأنصاري هو افضل هاشمي رايته بالمدينة وقال حماد بن زيد سمعت عن علي بن الحسين وكان افضل هاشمي أدركته يقول
7
535
أيها الناس أحبونا حب الإسلام فما برح بنا حبكم حتى صار علينا عارا ذكره محمد بن سعد في الطبقات أنبأنا عارم بن الفضل أنبأنا حماد ثم قال بن سعد قالوا وكان علي بن الحسين ثقة مأمونا كثير الحديث عاليا رفيعا وروى عن شيبة بن نعامة قال كان علي بن الحسين يبخل فلما مات وجدوه يقوت أهل مائة بيت بالمدينة في السر فصل قال الرافضي ومالك قرا على ربيعة وربيعة على عكرمة وعكرمة على ابن عباس وابن عباس تلميذ علي والجواب أن هذا من الكذب فان ربيعة لم يأخذ عن عكرمة شيئا
7
536(188/391)
بل ولا ذكر مالك عن عكرمة في كتبه إلا أثرا أو اثرين ولا ذكر اسم عكرمة في كتبه أصلا لأنه بلغه عن ابن عمر وابن المسيب انهما تكلما فيه فتركه لذلك وكذلك لم يخرج له مسلم ولكن ربيعة اخذ عن سعيد بن المسيب و أمثاله من فقهاء أهل المدينة وسعيد كان يرجع علمه إلى عمر وكان قد اخذ عن زيد بن ثابت وأبي هريرة وتتبع قضايا عمر من أصحابه وكان ابن عمر يسأله عنها ولهذا يقال أن موطأ مالك أخذت أصوله عن ربيعة عن سعيد بن المسيب عن عمر وقال الرشيد لمالك قد أكثرت في موطئك عن ابن عمر وأقللت عن ابن عباس فقال كان أورع الرجلين يا أمير المؤمنين فهذا موطأ مالك يبين أن ما ذكره عن مالك من اظهر الكذب وقول ابن عباس تلميذ علي كلام باطل فان رواية ابن عباس عن علي قليلة وغالب أخذه عن عمر وزيد بن ثابت وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة وكان يفتي بقول أبي بكر وعمر ونازع عليا في مسائل مثل ما اخرج البخاري في صحيحه قال أتى علي بقوم زنادقة فحرقهم فبلغ ذلك بن عباس فقال أما لو كنت لم احرقهم لنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعذب بعذاب الله ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه فبلغ ذلك عليا فقال ويح ابن عباس ما أسقطه على الهنات تم بحمد الله(188/392)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب
منهاج السنة النبوية
اسم المؤلف
شيخ الإسلام بن تيمية
عدد الاجزاء
دار النشر
مدينة النشر
سنة النشر
رقم الطبعة
8
مؤسسة قرطبة
1406
الأولى
اسم المحقق
د. محمد رشاد سالم
الجزء الثامن
الجزء
رقم الصفحة
محتوى الصفحة
8
5
فصل قال الرافضي وأما علم الكلام فهو أصله ومن خطبة تعلم الناس وكل الناس تلاميذه والجواب أن هذا الكلام كذب لا مدح فيه فإن الكلام المخالف للكتاب والسنة باطل وقد نزه الله عليا عنه ولم يكن في الصحابة والتابعين أحد يستدل على حدوث العالم بحدوث الأجسام ويثبت حدوث الأجسام بدليل الأعراض والحركة والسكون والأجسام مستلزمة لذلك لا تنفك عنه وما لا يسبق الحوادث فهو حادث ويبنى ذلك على حوادث لا أول لها بل أول ما ظهر هذا الكلام في الإسلام بعد المائة الأولى من جهة الجعد بن درهم والجهم بن صفوان ثم صار إلى أصحاب عمرو بن عبيد كأبي الهذيل العلاف وأمثاله وعمرو بن عبيد واصل بن عطاء إنما كانا يظهران الكلام في إنفاذ الوعيد وأن النار لا يخرج منها من دخلها وفي التكذيب بالقدر وهذا كله مما نزه الله عنه عليا
8
6
وليس في الخطب الثابتة عن علي شيء من أصول المعتزلة الخمسة بل كل ذلك إذا نقل عنه فهو كذب عليه وقدماء المعتزلة لم يكونوا يعظمون عليا بل كان فيهم من يشك في عدالته ويقول قد فسق عند إحدى الطائفتين لا بعينها إما علي وإما طلحة والزبير فإذا شهد أحدهما لم أقبل شهادته وفي قبول شهادة علي منفردة قولان لهم وهذا معروف عن عمرو بن عبيد وأمثاله من المعتزلة والشيعة القدماء كلهم كالهشامين وغيرهما يثبتون الصفات ويقرون بالقدر على خلاف قول متأخري الشيعة بل يصرحون بالتجسيم ويحكى عنهم فيه شناعات وهم يدعون أنهم أخذوا ذلك عن أهل البيت
8
7(189/1)
وقد ثبت عن جعفر الصادق أنه سئل عن القرآن أخالق هو أم مخلوق فقال ليس بخالق ولا مخلوق لكنه كلام الله وأما قول الرافضي إن واصل بن عطاء أخذ عن أبي هاشم ابن محمد بن الحنفية فيقال إن الحسن بن محمد بن الحنفية قد وضع كتابا في الإرجاء نقيض قول المعتزلة ذكر هذا غير واحد من أهل العلم وهذا يناقض مذهب المعتزلة الذي يقول به واصل بن عطاء ويقال إنه أخذه عن أبي هاشم
8
8
وقيل إن أبا هاشم هذا صنف كتابا أنكر عليه لم يوافقه عليه أخوه ولا أهل بيته ولا أخذه عن أبيه وبكل حال الكتاب الذي نسب إلى الحسن يناقض ما ينسب إلى أبي هاشم وكلاهما قد قيل إنه رجع عن ذلك ويمتنع أن يكونا أخذا هذين المتناقضين عن أبيهما محمد بن الحنفية وليس نسبة أحدهما إلى محمد بأولى من الآخر فبطل القطع بكون محمد بن الحنفية كان يقول بهذا وبهذا يل المقطوع به أن محمدا مع براءته من قول المرجئة فهو من قوله المعتزلة أعظم براءة وأبو علي أعظم براءة من المعتزلة والمرجئة منه وأما الأشعري فلا ريب عنه أنه كان تلميذا لأبي علي الجبائي لكنه
8
9(189/2)
فارقه ورجع عن جمل مذهبه وإن كان قد بقي عليه شيء من أصول مذهبه لكنه خالفه في نفي الصفات وسلك فيها طريقة ابن كلاب وخالفهم في القدر ومسائل الإيمان والأسماء والأحكام وناقضهم في ذلك أكثر من مناقضة حسين النجار وضرار بن عمرو ونحوهما ممن هو متوسط في هذا الباب كجمهور الفقهاء وجمهور أهل الحديث حتى مال في ذلك إلى قول جهم وخالفهم في الوعيد وقال بمذهب الجماعة وانتسب إلى مذهب أهل الحديث والسنة كأحمد بن حنبل وأمثال وبهذا اشتهر عند الناس فالقدر الذي يحمد من مذهبه هو ما وافق فيه أهل السنة والحديث كالجمل الجامعة وأما القدر الذي يذم من مذهبه فهو ما وافق فيه المخالفين للسنة والحديث من المعتزلة والمرجئة والجهمية والقدرية ونحو ذلك وأخذ مذهب أهل الحديث عن زكريا بن يحيى الساجي بالبصرة وعن طائفة ببغداد من أصحاب أحمد وغيرهم وذكر في المقالات ما اعتقد أنه مذهب أهل السنة والحديث وقال بكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب
8
10
وهذا المذهب هو من أبعد المذاهب عن مذهب الجهمية والقدرية وأما الرافضة كهذا المصنف وأمثاله من متأخري الإمامية فإنهم جمعوا أخس المذاهب مذهب الجهمية في الصفات ومذهب القدرية في أفعال العباد ومذهب الرافضة في الإمامة والتفضيل فتبين أن ما نقل عن علي من الكلام فهو كذب عليه ولا مدح فيه وأعظم من ذلك أن القرامطة الباطنية ينسبون قولهم إليه وأنه أعطى علما باطنا مخالفا للظاهر وقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس إلا ما في هذه الصحيفة وكان فيها العقل وفكاك الأسرى وأن لا يقتل مسلم بكافر إلا فهما يؤتيه الله عبدا في الكتاب ومن الناس من ينسب إليه الكلام في الحوادث كالجفر وغيره وآخرون ينسبون إليه البطاقة وأمورا أخرى يعلم أن عليا بريء منها
8
11(189/3)
وكذلك جعفر الصادق قد كذب عليه من الأكاذيب مالا يعلمه إلا الله حتى نسب إليه القول في أحكام النجوم والرعود والبروق والقرعة التي هي من الاستقسام بالأزلام ونسب إليه كتاب منافع سور القرآن وغير ذلك مما يعلم العلماء أن جعفرا رضي الله عنه بريء من ذلك وحتى نسب إليه أنواع من تفسير القرآن على طريقة الباطنية كما ذكر ذلك عنه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب حقائق التفسير فذكر قطعة من التفاسير التي هي من تفاسيره وهي من باب تحريف الكلم عن مواضعه وتبديل مراد الله تعالى من الآيات بغير مراده وكل ذي علم بحاله يعلم أنه كان بريئا من هذه الأقوال والكذب على الله في تفسير كتابه العزيز وكذلك قد نسب إليه بعضهم الكتاب الذي يسمى رسائل إخوان الكدر وهذا الكتاب صنف بعد جعفر الصادق بأكثر من مائتي سنة فإن جعفرا توفي سنة ثمان وأربعين ومائة وهذا الكتاب صنف في أثناء الدولة العبيدية الباطنية الإسماعيلية لما استولوا على مصر وبنوا القاهرة صنفه طائفة من الذين أرادوا أن يجمعوا بين الفلسفة والشريعة والتشيع كما كان يسلكه هؤلاء العبيديون الذين كانوا يدعون أنهم من ولد علي
8
12(189/4)
وأهل العلم بالنسب يعلمون أن نسبهم باطل وأن جدهم يهودي في الباطن وفي الظاهر وجدهم ديصاني من المجوس تزوج أمرأة هذا اليهودي وكان ابنه ربيبا لمجوسي فانتسب إلى زوج أمه المجوسي وكانوا ينتسبون إلى بأهله على أنهم من مواليهم وادعى هو أنه من ذرية محمد بن إسماعيل بن جعفر وإليه انتسب الإسماعيلية وادعوا أن الحق معهم دون الاثني عشرية فإن الإثنى عشرية يدعون إمامه موسى ابن جعفر وهؤلاء يدعون إمامه إسماعيل بن جعفر وأئمة هؤلاء في الباطن ملاحدة زنادقة شر من الغالية ليسوا من جنس الاثنى عشرية لكن إنما طرقهم على هذا المذاهب الفاسدة ونسبتها إلى علي ما فعلته الاثنا عشرية وأمثالهم كذب أولئك عليه نوعا من الكذب ففرعه هؤلاء وزادوا عليه حتى نسبوا الإلحاد إليه كما نسب هؤلاء إليه مذهب الجهمية والقدرية وغير ذلك ولما كان هؤلاء الملاحدة من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم ينتسبون إلى علي وهم طرقية وعشرية وغرباء وأمثال هؤلاء صاروا يضيفون إلى علي ما براه الله منه حتى صار اللصوص من العشرية يزعمون أن معهم كتابا من علي بالإذن لهم في سرقة أموال الناس كما ادعت اليهود الخيابرة أن معهم كتابا من على بإسقاط الجزية عنهم
8
13(189/5)
وإباحة عشر أموال أنفسهم وغير ذلك من الأمور المخالفة لدين الإسلام وقد أجمع العلماء على أن هذا كله كذب على علي وهو من أبرأ الناس من هذا كله ثم صار هؤلأء يعدون ما افتروه عليه من هذه الأمور مدحا له يفضلونه بها على الخلفاء قبله ويجعلون تنزه أولئك من مثل الإباطيل عيبا فيهم وبغضا حتى صار رؤوس الباطنية تجعل منتهى الإسلام وغايته هو الإقرار بربوبية الأفلاك وأنه ليس وراء الأفلاك صانع لها ولا خالق ويجعلون هذا هو باطن دين الإسلام الذي بعث به الرسول وأن هذا هو تأويله وأن هذا التأويل ألقاه على إلى الخواص حتى اتصل بمحمد ابن إسماعيل بن جعفر وهو عندهم القائم ودولته هي القائمة عندهم وأنه ينسخ ملة محمد بن عبدالله ويظهر التأويلات الباطنة التي يكتمها التي أسرها إلى علي وصار هؤلاء يسقطون عن خواص أصحابهم الصلاة والزكاة والصيام والحج ويبيحون لهم المحرمات من الفواحش والظلم والمنكر وغير ذلك
8
14(189/6)
وصنف المسلمون في كشف أسرارهم وهتك أستارهم كتبا معروفة لما علموه من إفسادهم الدين والدنيا وصنف فيهم القاضي عبد الجبار والقاضي أبو بكر بن الطيب وأبو يعلى والغزالي وابن عقيل وأبو عبد الله الشهرستاني وطوائف غير هؤلاء وهم الملاحدة الذين ظهروا بالمشرق والمغرب واليمن والشام ومواضع متعددة كأصحاب الألموت وأمثالهم وكان من أعظم ما به دخل هؤلاء على المسلمين وأفسدوا الدين هو طريق الشيعة لفرط جهلهم وأهوائهم وبعدهم من دين الإسلام وبهذا وصوا دعاتهم أن يدخلوا على المسلمين من باب التشيع وصاروا يستعينون بما عند الشيعة من الأكاذيب والأهواء ويزيدون هم على ذلك ما ناسبهم من الافتراء حتى فعلوا في أهل الإيمان مالم يفعله عبدة الأوثان والصلبان وكان حقيقة أمرهم دين فرعون الذي هو شر من دين اليهود والنصارى وعباد الأصنام وأول دعوتهم التشيع وآخرها الانسلاخ من الإسلام بل من الملل كلها ومن عرف أحوال الإسلام وتقلب الناس فيه فلا بد أنه قد عرف شيئا من هذا
8
15(189/7)
وهذا تصديق لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن وفي الحديث الآخر المتفق عليه لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا يا رسول الله فارس والروم قال ومن الناس إلا هولاء وهذا بعينه صار في هؤلاء المنتسبين إلى التشيع فإن هؤلاء الإسماعيلية أخذوا من مذاهب الفرس وقولهم بالأصلين النور والظلمة وغير ذلك أمورا وأخذوا من مذاهب الروم من النصرانية وما كانوا عليه قبل النصرانية من مذهب اليونان وقولهم بالنفس والعقل وغير ذلك امورا ومزجوا هذا بهذا وسموا ذلك باصطلاحهم السابق والتالي وجعلوه هو القلم واللوح وأن القلم هو العقل الذي يقول هؤلاء إنه أول المخلوقات واحتجوا بحديث يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل فقال له أدبر فأدبر فقال وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطى وبك الثواب وبك العقاب وهذا الحديث رواه بعض من صنف في فضائل العقل كداود بن
8
16
المحبر ونحوه وهو حديث موضوع كذب على النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل المعرفة بالحديث كما ذكر ذلك أبو حاتم بن حبان البستي والدارقطني وابن الجوزي وغيرهم لكن لما وافق رأي هؤلاء استدلوا به على عادتهم مع أن لفظ الحديث يناقض مذهبهم فإن لفظه أول بالنصب وروى أنه لما خلق الله العقل أي أنه قال له هذا الكلام في أول أوقات خلقه فالمراد به أنه خاطبه حين خلقه لا أنه أول المخلوقات ولهذا قال في أثنائه ما خلقت خلقا أكرم علي منك فدل على أنه خلق قبله غيره ووصفه بأنه يقبل ويدبر
8
17(189/8)
والعقل الأول عندهم يمتنع عليه هذا وقال بك آخذ وبك أعطى وبك الثواب وهذا العقل عندهم هو رب العالم كله هو المبدع له كله وهو معلول الأول لا يختص به أربعة أعراض بل هو عندهم مبدع الجواهر كلها العلوية والسفلية والحسية والعقلية والعقل في لغة المسلمين عرض قائم بغيره وإما قوة في النفس وأما مصدر العقل عقل يعقل عقلا وأما العاقل فلا يسمى في لغتهم العقل وهؤلاء في اصطلاحهم العقل جوهر قائم بنفسه وقد بسطنا الكلام على هذا وبينا حقيقة أمره بالمعقول والمنقول وأن ما يثبتونه من المفارقات عند التحقيق لا يرجع إلا إلى أمر وجودها في الأذهان لا في الأعيان إلا النفس الناطقة وقد أخطأوا في بعض صفاتها وهؤلاء قولهم إن العالم معلول علة قديمة أزلية واجبة الوجود وإن العالم لازم لها لكن حقيقة قولهم إنه علة غائية وإن الأفلاك تتحرك حركة إرادية شوقية للتشبه به وهو محرك لها كما يحرك
8
18(189/9)
المحبوب المتشبه به لمحبه الذي يتشبه به ومثل هذا لا يوجب أن يكون هو المحدث لتصوراته وإرادته وحركاته فقولهم في حركة الفلك من جنس قول القدرية في أفعال الحيوان لكن هؤلاء يقولون حركة الفلك هي سبب الحوادث فحقيقة قولهم إن الحوادث كلها تحدث بلا محدث أصلا وإن الله لا يفعل شيئا ولكل مقام مقال وهم جعلوا العلم الأعلى والفلسفة الأولى هو العلم الباطن في الوجود ولواحقه وقسموا الوجود إلى جوهر وعرض ثم قسموا الأعراض إلى تسعة أجناس ومنهم من ردها إلى خمسة ومنهم من ردها إلى ثلاثة فإنه لم يقم لها دليل على الحصر وقسموا الجواهر إلى خمسة أنواع العقل والنفس والمادة والصورة والجسم وواجب الوجود تارة يسمونه جوهرا وهو قول قدمائهم كأرسطو وغيره وتارة لا يسمونه بذلك كما قاله ابن سينا وكان قدماء القوم يتصورون في أنفسهم أمورا عقلية فيظنونها ثابتة في الخارج كما يحكى عن شيعة فيثاغورس وأفلاطون وأن أولئك أثبتوا أعدادا مجردة في الخارج وهؤلاء أثبتوا المثل الأفلاطونية وهي الكليات المجردة عن الأعيان وأثبتوا المادة المجردة وهي الهيولي الأولية وأثبتوا المدة
8
19(189/10)
المجردة وهي الدهر العقلي المجرد عن الجسم وأعراضه وأثبتوا الفضاء المجرد عن الجسم وأعراضه وارسطو وأتباعه خالفوا سلفهم في ذلك ولم يثبتعوا من هذه شيئا مجردا ولكن أثبتوا المادة المقارنة للصورة وأثبتوا الكليات المقارنة للأعيان وأثبتوا العقول العشرة وأما النفس الفلكية فأكثرهم يجعلها قوة جسمانية ومنهم من يقول هي جوهر قائم بنفسه كنفس الإنسان ولفظ الصورة يريدون به تارة ما هو عرض كالصورة الصناعية مثل شكل السرير والخاتم والسيف وهذه عرض قائم بمحله والمادة هنا جوهر قائم بنفسه ويريدون بالصورة تارة الصورة الطبيعية وبالمادة المادة الطبيعية ولا ريب أن الحيوان والمعادن والنبات لها صورة هي خلقت من مواد لكن يعنون بالصورة جوهرا قائما بنفسه وبالمادة جوهرا آخر مقارنا لهذه وآخرون في مقابلتهم من أهل الكلام القائلين بالجوهر الفرد ويزعمون أنه ما ثم من حادث يعلم حدوثه بالمشاهدة إلا الأعراض وأنهم لا يشهدون حدوث جوهر من الجواهر
8
20(189/11)
وكلا القولين خطأ وقد بسطنا عليهما في غير هذا الموضع وقد يراد بالمادة الكلية المشتركة بين الأجسام وبالصورة الصورة الكلية المشتركة بين الأجسام ويدعون أن كليهما جوهر عقلي وهو غلط فإن المشترك بين الأجسام أمر كلي والكليات لا توجد كليات إلا في الأذهان لا في الأعيان وكل ما وجد في الخارج فهو مميز بنفسه عن غيره لا يشركه فيه غيره إلا في الذهن إذا أخذ كليا والأجسام يعرض لها الاتصال والانفصال وهو الاجتماع والافتراق وهما من الأعراض ليس الانفصال شيئا قائما بنفسه كما أن الحركة ليست شيئا قائما بنفسه غير الجسم المحسوس يرد عليه الاتصال والانفصال ويسمونه الهيولي والمادة وهذا وغيره مبسوط في غير هذا الموضع وكثير من الناس قد لا يفهمون حقيقة ما يقولون وما يقول غيرهم وما جاءت به الرسل حتى يعرفوا ما فيه من حق وباطل فيعلمون هل هم موافقون لصريح المعقول أو هم مخالفون له ومن أراد التظاهر بالإسلام منهم عبر عن ذلك بالعبارات الإسلامية فيعبر عن الجسم بعالم الملك وعن النفس بعالم الملكوت وعن العقل بعالم الجبروت أو بالعكس ويقولون إن العقول والنفوس هي الملائكة
8
21(189/12)
وقد يجعلون قوى النفس التي تقتضي فعل الخير هي الملائكة وقواها التي تقتضي الشر هي الشياطين وأن الملائكة التي تنزل على الرسل والكلام الذي سمعه موسى بن عمران إنما هو في نفوس الأنبياء ليس في الخارج بمنزله ما يراه النائم وما يحصل لكثير من الممرورين وأصحاب الرياضة حيث يتخيل في نفسه أشكالا نورانية ويسمع في نفسه أصواتا فتلك هي عندهم ملائكة الله وذلك هو كلام الله ليس له كلام منفصل ولهذا يدعى أحدهم أن الله كلمة كما كلم موسى بن عمران أو أعظم مما كلم موسى لأن موسى كلم عندهم بحروف وأصوات في نفسه وهم يكلمون بالمعاني المجردة العقلية وصاحب مشكاة الأنوار والكتب المضنون بها على غير أهلها وقع في كلامه قطعة من هذا النمط وقد كفرهم بذلك في مواضع آخر ورجع عن ذلك واستقر أمرة على مطالعة البخاري ومسلم وغيرهما ومن هنا سلك صاحب خلع النعلين ابن قسى وأمثاله وكذلك
8
22
ابن عربي صاحب فصوص الحكم والفتوحات المكية ولهذا أدعى أنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الأنبياء والنبي عنده يأخذ من الملك الذي يوحى به إلى الرسل لأن النبي عنده يأخذ من الخيالات التي تمثلت في نفسه لما صورت له المعاني العقلية في الصور الخيالية وتلك الصور عنده هي الملائكة وهي بزعمه تأخذ عن عقله المجرد قبل أن تصير خيالا ولهذا يفضل الولاية على النبوة ويقول مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولى والولى على أصله الفاسد يأخذ عن الله بلا واسطة لأنه يأخذ عن عقله وهذا عندهم هو الأخذ عن الله بلا واسطة إذ ليس عندهم ملائكة منفصلة تنزل بالوحي والرب عندهم ليس هو موجودا مباينا
8
23(189/13)
للمخلوقات بل هو وجود مطلق أو مشروط بنفي الأمور الثبوتية عن الله أو نفي الأمور الثبوتية والسلبية وقد يقولون هو وجود المخلوقات أو حال فيها أو لا هذا ولا هذا فهذا عندهم غاية كل رسول ونبي النبوة عندهم الأخذ عن القوة المتخيلة التي صورت المعاني العقلية في المثل الخيالية ويسمونها القوة القدسية فلهذا جعلوها الولاية فوق النبوة وهؤلاء من جنس القرامطة الباطنية الملاحدة لكن هؤلاء ظهروا في قالب التصوف والتنسك ودعوى التحقيق والتأله وأولئك ظهروا في قالب التشيع والموالاة فأولئك يعظمون شيوخهم حتى يجعلوهم أفضل من الأنبياء وقد يعظمون الولاية حتى يجعلوها أفضل من النبوة وهؤلاء يعظمون أمر الإمامة حتى قد يجعلون الأئمة أعظم من الأنبياء والإمام أعظم من النبي كما يقوله الإسماعيلية وكلاهما أساطين الفلاسفة الذين يجعلون النبي فيلسوفا ويقولون إنه يختص بقوة قدسية ثم منهم من يفضل النبي على الفيلسوف ومنهم من يفضل الفيلسوف على النبي ويزعمون أن النبوة
8
24(189/14)
مكتسبة وهؤلاء يقولون إن النبوة عبارة عن ثلاث صفات من حصلت له فهو نبي أن يكون له قوة قدسية حدسية ينال بها العلم بلا تعلم وأن تكون نفسه قوية لها تأثير في هيولى العالم وأن يكون له قوة يتخيل بها ما يعقله ومرئيا في نفسه ومسموعا في نفسه هذا كلام ابن سينا وأمثاله في النبوة وعنه أخذ ذلك العزالي في كتبه المضنون بها على غير أهلها وهذا القدر الذي ذكروه يحصل لخلق كثير من آحاد الناس ومن المؤمنين وليس هو من أفضل عموم المؤمنين فضلا عن كونه نبيا كما بسط في موضعه وهؤلاء قالوا هذا لما احتاجوا إلى الكلام في النبوة على أصول سلفهم الدهرية القائلين بأن الأفلاك قديمة أزلية لا مفعولة لفاعل بقدرته واختياره وأنكروا علمه بالجزئيات ونحو ذلك من أصولهم الفاسدة فتكلم هؤلاء في النبوة على أصول أولئك وأما القدماء ارسطو وأمثاله فليس لهم في النبوة كلام محصل والواحد من هؤلاء يطلب أن يصير نبيا كما كان السهروردي المقتول يطلب أن يصير نبيا وكان قد جمع بين النظر والتأله وسلك نحوا من مسلك الباطنية وجمع بين فلسفة الفرس واليونان وعظم أمر الأنوار وقرب دين المجوس الأول وهو نسخة الباطنية الإسماعيلية وكان له
8
25(189/15)
يد في السحر والسيمياء فقتله المسلمون على الزندقة بحلب في زمن صلاح الدين وكذلك ابن سبعين الذي جاء من المغرب إلى مكة وكان يطلب أن يصير نبيا وجدد غار حراء الذي نزل فيه الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء وحكى عنه أنه كان يقول لقد ذرب ابن آمنة حيث قال لا نبي بعدي وكان بارعا في الفلسفة وفي تصوف المتفلسفة وما يتعلق بذلك وهو وابن عربي وأمثالهما كالصدر القونوي وابن الفارض والتلمساني منتهى أمرهم القول بوحدة الوجود وأن الوجود الواجب القديم الخالق هو الوجود الممكن المحدث المخلوق ما ثم لا غير ولا سوى لكن لما رأوا تعدد المخلوقات صاروا تارة يقولون مظاهر ومجالي فإذا قيل لهم فإن كانت المظاهر أمرا وجوديا تعدد الوجود وإلا لم يكن لها حينئذ حقيقة وما هو نحو هذا الكلام الذي يبين أن الوجود نوعان خالق ومخلوق قالوا نحن نثبت عندنا في الكشف ما يناقص صريح العقل ومن
8
26
أراد أن يكون محققا مثلنا فلا بد أن يلتزم الجمع بين النقيضين وأن الجسم الواحد يكون في وقت واحد في موضعين وهؤلاء الأصناف قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع فإن هؤلاء يكثرون في الدول الجاهلية وعامتهم تميل إلى التشيع كما عليه ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما فاحتاج الناس إلى كشف حقائق هؤلاء وبيان أمورهم على الوجه الذي يعرف به الحق من الباطل فإن هؤلاء يدعون في أنفسهم أنهم أفضل أهل الأرض وأن الناس لا يفهمون حقيقة إشاراتهم فلما يسر الله أني بينت لهم حقائقهم وكتبت في ذلك من المصنفات ما علموا به أن هذا هو تحقيق قولهم وتبين لهم بطلانه بالعقل الصريح والنقل الصحيح والكشف المطابق رجع عن ذلك من علمائهم وفضلائهم من رجع وأخذ هؤلاء يثبتون للناس تناقضهم ويردونهم إلى الحق وكان من أصول ضلالهم ظنهم أن الوجود المطلق يوجد في الخارج إما مطلق لا بشرط وإما مطلق بشرط فالمطلق لا
8
27(189/16)
بشرط الذي يسمونه الكلي الطبيعي إذا قيل إنه موجود في الخارج فإن الذي يوجد في الخارج مقيدا معينا هو مطلق في الذهن مقيد في الخارج وأما من زعم أن في الذهن شيئا مطلقا وهو مطلق حال تحققه في الخارج فهو غالط غلطا ضل فيه كثير من أهل المنطق والفلسفة وأما المطلق بشرط الإطلاق فهو الوجود المقيد بسلب جميع الأمور الثبوتية والسلبية كما يوجد الإنسان مجردا عن كل قيد فإذا قلت موجود أو معدوم أو واحد أو كثير أو في الذهن أو في الخارج كان ذلك قيدا زائدا على الحقيقة المطلقة بشرط الإطلاق وهكذا الوجود تأخذه عن كل قيد ثبوتي وسلبي فلا تصفه لا بالصفات السلبية ولا الثبوتية وهذا هو واجب الوجود عند أئمة الباطنية كأبي يعقوب السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية وأمثاله لكن من هؤلاء من لا يعرف يرفع النقيضين فيقول لا موجود ولا معدوم ومنهم من يقول بل أمسك عن إثبات أحد النقيضين فلا أقول موجود ولا معدوم كأبي يعقوب وهو منتهى تجريد هؤلاء القائلين بوحدة الوجود
8
28(189/17)
وابن سينا وأتباعه يقولون الوجود الواجب هو الوجود المقيد بسلب الأمور الثبوتية دون السلبية وهذا أبعد عن الوجود في الخارج من المقيد بسلب الوجود والعدم وإن كان ذلك ممتنعا في الموجود والمعدوم فقلت لأولئك المدعين للتحقيق أنتم بنيتم أمركم على القوانين المنطقية وهذا الوجود المطلق بشرط الإطلاق المقيد بسلب النقيضين عنه لا يوجد في الخارج باتفاق العقلاء وإنما يقدر في الذهن تقديرا وإلا فإذا قدرنا إنسانا مطلقا واشترطنا فيه أن لا يكون موجودا ولا معدوما ولا واحدا ولا كثيرا لم يوجد في الخارج بل نفرض في الذهن كما نفرض الجمع بين النقيضين ففرض رفع النقيضين كفرض الجمع بين النقيضين ولهذا كان هؤلاء تارة يصفونه بجمع النقيضين أو الإمساك عنهما كما يفعل ابن عربي وغيره كثيرا وتارة يجمعون بين هذا وهذا كما يوجد أيضا في كلام اصحاب البطاقة وغيرهم فإذا قالوا مع ذلك إنه مبدع العالم وشرطوا فيه أنه لا يوصف بثبوت ولا انتفاء كان تناقضا فإن كونه مبدعا لا يخرج عن هذا وهذا وكذلك إذا قالوا موجود واجب وشرطوا فيه التجريد عن النقيضين كان تناقضا
8
29(189/18)
وحقيقة قولهم موجود لا موجود وواجب لا واجب وهذا منتهى أمرهم وهو الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين ولهذا يصيرون إلى الحيرة ويعظمونها وهي عندهم منتهى معرفة الأنبياء والأولياء والأئمة والفلاسفة ومن أصول ضلالهم ظنهم أن هذا تنزيه عن التشبيه وأنهم متى وصفوا بصفة إثبات أو نفي كان فيه تشبيه بذلك ولم يعلموا أن التشبيه المنفي عن الله هو ما كان وصفه بشيء من خصائص المخلوقين أو أن يجعل شيء من صفاته مثل صفات المخلوقين بحيث يجوز عليه ما يجوز عليهم أو يجب له ما يجب لهم أو يمتنع عليه ما يمتنع عليهم مطلقا فإن هذا هو التمثيل الممتنع المنفى بالعقل مع الشرع فيمتنع وصفه بشيء من النقائض ويمتنع مماثلة غيره له في شيء من صفات الكمال فهذان جماع لما ينزه الرب تعالى عنه كما بسطنا ذلك في مواضع كثيرة وعلى هذا وهذا دل قوله تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد سورة الإخلاص كما قد بسطنا ذلك في مصنف مفرد في تفسير هذه الشواهد فأما الموافقة في الاسم كحي وحي وموجود وموجود وعليم وعليم فهذا لا بد منه ويلزم من نفى هذا التعطيل المحض فإن كل
8
30(189/19)
موجودين قائمين بأنفسهما فحينئذ لا بد أن يجمعهما اسم عام يدل على معنى عام لكن المعنى العام لا يوجد عاما إلا في الذهن لا في الخارج فإذا قيل هذا الموجود وهذا الموجود مشتركان في مسمى الوجود كان ما اشتركا فيه لا يوجد مشتركا إلا في الذهن لا في الخارج وكل موجود فهو يختص بنفسه وصفات نفسه لا يشركه غيره في شيء من ذلك في الخارج وإنما الاشتراك هو نوع من التشابه والاتفاق والمشترك فيه الكلي لا يوجد كذلك إلا في الذهن فإذا وجد في الخارج لم يوجد إلا متميزا عن نظيره لا يكون هو إياه ولا هما في الخارج مشتركان في شيء في الخارج فاسم الخالق إذا وافق اسم المخلوق كالموجود والحي وقيل إن هذا الاسم عام كلي وهو من الأسماء المتواطئة أو المشككة لم يلزم من ذلك أن يكون ما يتصف به الرب من مسمى هذا الاسم قد شاركه فيه المخلوق بل ولا يكون ما يتصف به أحد المخلوقين من مسمى هذا الاسم قد شاركه فيه مخلوق آخر بل وجود هذا يخصه
8
31(189/20)
ووجود هذا يخصه لكن ما يتصف به المخلوق قد يماثل ما يتصف به المخلوق ويجوز على أحد المثلين ما يجوز على الآخر وأما الرب سبحانه وتعالى فلا يماثله شيء من الأشياء في شيء من صفاته بل التباين الذي بينه وبين كل واحد من خلقه في صفاته أعظم من التباين الذي بين أعظم المخلوقات وأحقرها وأما المعنى الكلي العام المشترك فيه فذاك كما ذكرنا لا يوجد كليا إلا في الذهن وإذا كان المتصفان به بينهما نوع موافقة ومشاركة ومشابهة من هذا الوجه فذاك لا محذور فيه فإنه ما يلزم ذلك القدر المشترك من وجوب وجواز وامتناع فإن الله متصف به فالموجود من حيث هو موجود أو العليم أو الحي مهما قيل إنه يلزمه من وجوب وامتناع وجواز فالله موصوف به بخلاف وجود المخلوق وحياته وعلمه فإن الله لا يوصف بما يختص به المخلوق من وجوب وجواز واستحالة كما أن المخلوق لا يوصف بما يختص به الرب من وجوب وجواز واستحالة فمن فهم هذا انحلت عنه إشكالات كثيرة يعثر فيها كثير من الأذكياء الناظرين في العلوم الكلية والمعارف الإلهية فهذا أحد أقوالهم في الوجود الواجب وهو المطلق بشرط الإطلاق عن النفي والإثبات وهو أكملها في التعطيل والإلحاد والثاني قول ابن سينا وأتباعه إنه هو الوجود المقيد بالقيود السلبية
8
32(189/21)
لا الثبوتية وقد يعبر عنه بأنه الوجود المقيد تارة لا يعرض له شيء من الماهيات كما يعبر الرازي وغيره وهذه العبارات بناء على قولهم إن الوجود يعرض للماهية الممكنة فإن للناس ثلاثة أقوال قيل إن الوجود زائد على الماهية في الواجب والممكن كما يقول ذلك أبو هاشم وغيره وهو أحد قولي الرازي وقد يقوله بعض النظار من أصحاب أحمد وغيرهم وقيل بل الوجود في الخارج هو الحقيقة الثابتة في الخارج ليس هناك شيئان وهذا قول الجمهور من أهل الإثبات وهذا قول عامة النظار من مثبتة الصفات من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم لكن ظن الشهرستاني والرازي والأمدي ونحوهم أن قائل هذا القول يقول إن لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي ونقلوا ذلك عن الأشعري وغيره وهو غلط عليهم فإن أصحاب هذا القول هم جماهير الخلق من الأولين والآخرين وليس فيهم من يقول بأن لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي إلا طائفة قليلة وليس هذا قول الأشعري وأصحابه بل هم متفقون على أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث واسم الوجود يعمهما لكن الأشعري ينفي الأحوال ويقول العموم والخصوص يعود إلى الأقوال ومقصوده أنه ليس في الخارج معنى كلي عام ليس مقصوده أن الذهن لا يقوم به معنى عام كلي
8
33(189/22)
وهؤلاء االذين قالوا إن من قال وجود كل شيء هو نفس حقيقته الموجودة إنما هذا هو قول بالاشتراك اللفظي لأنهم قالوا إذا جعلنا الوجود عاما من الألفاظ المتواطئة المتساوية أو المتفاضلة التي تسمى المشككة وقلنا إن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم ومحدث كان النوعان قد اشتركا في مسمى الوجود وهو كلي مطلق فلا بد أن يتميز أحدهما عن الآخر بما يخصه وهو حقيقة فيلزم أن يكون لكل منهما حقيقة غير الوجود فمن قال إن الشيء الموجود في الخارج ليس شيئا غير الحقيقة الموجودة في الخارج لم يمكنه أن يقول لفظ الوجود يعمهما بل يقول هو مقول عليهما بالاشتراك اللفظي وهذا غلط ضلت فيه طوائف كالرازي وأمثاله بيان ذلك من ثلاثة وجوه أحدها أن يقال لفظ الوجود كلفظ الحقيقة وكلفظ الماهية وكلفظ الذات والنفس فإذا قلتم الوجود ينقسم إلى واجب وممكن أو قديم ومحدث كان بمنزلة قولكم الحقيقة تنقسم إلى واجبة وممكنة أو إلى قديمة ومحدثة وبمنزلة قولهم الذات تنقسم إلى هذا وهذا وهذا والماهية تنقسم إلى هذا وهذا ونحو ذلك من الأسماء العامة وبمنزلة قولهم الشيء ينقسم إلى واجب وممكن وقديم وحادث وحينئذ فإذا قلتم يشتركان في الوجود أو الوجوب ويمتاز أحدهما
8
34(189/23)
عن الآخر بالحقيقة أو الماهية كان بمنزلة أن يقال يشتركان في الماهية أو الحقيقة ويمتاز أحدهما عن الآخر بالوجود أو الوجوب فإن قلتم إنما اشتركا في الرجود العام الكلي وامتاز كل منهما بالحقيقة التي تخصه قيل وكذلك يقال إنما اشتركا في الحقيقة العامة الكلية وامتاز كل منهما بالوجود الذي يخصه فلا فرق حينئذ بين ما جعلتموه كليا مشتركا كالجنس والعرض العام وبين ما جعلتموه مختصا مميزا جزئيا كالفصل والخاصة لكن عمدتم إلى شيئين متساويين في العموم والخصوص فقدرتم أحدهما في حال عمومه والآخر في حال خصوصه فهذا كان من تقديركم وإلا فكل منهما يمكن فيه التقدير كما أمكن في الآخر وكل منهما في نفس الأمر مساو للآخر في عمومه وخصوصه وكونه مشتركا ومميزا فلا فرق في نفس الأمر بين ما جعلتموه جنسا أو عرضا عاما وما جعلتموه فصلا أو خاصة إلا أنكم قدرتم أحد المتساويين عاما والاخر خاصا الوجه الثاني أن يقال إذا قلتم الموجودان يشتركان في مسمى الوجود فلا بد أن يتميز أحدهما عن الآخر بأمر آخر قيل لكم المميز أن يكون وجودا خاصا فلم قلتم إنه
8
35(189/24)
يكون شيء خارج عن مسمى الوجود حتى تثبتون حقيقة أخرى وهذا كما إذا قلنا الإنسانان يشتركان في مسمى الإنسانية وأحدهما يمتاز عن الآخر بخصوصية أخرى كان المميز إنسانيتة التي تخصه لم يحتج أن يجعل المميز شيئا غير الإنسانية يعرض له الإنسانية ولكن هؤلاء يظنون أن الأنواع المشتركة في كلي لا يفصل بينها إلا مواد أخرى وفي هذا الموضع كلام مبسوط على غلط أهل المنطق فيما غلطوا فيه في الكلمات وتقسيم الكليات وتركيب الحدود من الذاتيات وغير ذلك ومواد الأقيسة والفرق بين اليقيني وغير اليقيني منها وغير ذلك مما هو مكتوب في غير هذا الموضع الوجه الثالث أن يقال إذا قلنا الموجودان يشتركان في مسمى الوجود وأحدهما لا بد أن يمتاز عن الآخر فليس المراد أنهما اشتركا في أمر بعينه موجود في الخارج فإن هذا ممتنع بل المراد أنهما اتفقا في ذلك وتشابها فيه من هذه الجهة ونفس ما اشتركا فيه لا يكون بعينه مشتركا فيه إلا في الذهن لا في الخارج وإلا فنفس وجود هذا لم يشركه فيه هذا وحينئذ فإذا قلنا لفظ الوجود من الألفاظ العامة الكلية المتواطئة أو المشككة وهي المتواطئة التي تتفاضل معانيها لا تتماثل مع الاتفاق في أصل المسمى كالبياض المقول على بياض الثلج القوي وبياض
8
36(189/25)
العاج الضعيف والسواد المقول على سواد القار وعلى سواد الحبشة والعلو المقول على علو السماء وعلى علو السقف والواسع المقول على البحر وعلى الدار الواسعة والوجود المقول على الواجب بنفسه وعلى الممكن الموجود بغيره وعلى القائم بنفسه والقائم بغيره والقديم المقول على العرجون وعلى ما لا أول له والمحدث المقول على ما أحدث في اليوم وعلى كل ما خلقه الله بعد أن لم يكن والحي الذي يقال على الإنسان والحيوان والنبات وعلى الحي القيوم الذي لا يموت أبدا بل أسماء الله الحسنى تعالى التي تسمى بها خلقه كالملك والسميع والبصير والعليم والخبير ونحو ذلك كلها من هذا الباب فإذا قيل في جميع الألفاظ العامة ومعانيها العامة سواء كانت متماثلة أو متفاضلة إن أفرادها اشتركت فيها أو اتفقت ونحو ذلك لم يرد به أن في الخارج معنى عاما يوجد عاما في الخارج وهو نفسه مشترك بل المراد أن الموجودات المعينة اشتركت في هذا العام الذي لا يكون عاما إلا في علم العالم كما أن اللفظ العام لا يكون عاما إلا في لفظ اللافظ والخط العام لا يكون عاما إلا في خط الكاتب والمراد بكونه عاما شموله للأفراد الخارجة لا أنه نفسه شيء
8
37(189/26)
موجود يكون هو نفسه مع هذا المعين وهو نفسه مع هذا المعين فإن هذا مخالف للحس والعقل والمقصود هنا أن ابن سينا مذهبه أن الوجود الواجب لنفسه هو الوجود المقيد بسلب جميع الأمور الثبوتية لا بجعله مقيدا بسلب النقيضين أو بالإمساك عن النقيضين كما فعل السجستاني وأمثاله من القرامطة وغيرهم وعبر ابن سينا عن قولهم بأنه الوجود المقيد بأنه لا يعرض لشيء من الحقائق أو لشيء من الماهيات لاعتقادهم أن الوجود يعرض للممكنات وهو يقول وجود الواجب نفس ماهيته والجمهور من أهل السنة يقولون ذلك لكن الفرق بينهما أن عنده هو وجود مطلق بشرط سلب الماهيات عنه فليس له ماهية سوى الوجود المقيد بالسلب وأما الأنبياء وأتباعهم وجماهير العقلاء فيعلمون أن الله له حقيقة يختص بها لا تماثل شيئا من الحقائق وهي موجودة وطائفة من المعتزلة ومن وافقهم يقولون هي موجودة بوجود زائد على حقيقتها
8
38(189/27)
وأما الجمهور فيقولون الحقائق المخلوقة ليست في الخارج إلا الموجود الذي هو الحقيقة التي في الخارج وإنما يحصل الفرق بينهما بأن يجعل أحدهما ذهنيا والآخر خارجيا فإذا جعلت الماهية أو الحقيقة أسما لما في الذهن كان ذلك غير ما في الخارج وأما إذا قيل الوجود الذهني فهو الماهية الذهنية وإذا قيل الماهية الخارجية فهي الوجود الخارجي فإذا كان هذا في المخلوق فالخالق أولى ومذهب ابن سينا معلوم الفساد بضرورة العقل بعد التصور التام فإنه إذا اشترك الموجودان في مسمى الوجود لم يميز أحدهما عن الآخر بمجرد السلب فإن التمييز في نفس الأمر بين المشتركين لا يكون بمجرد العدم المحض إذ العدم المحض ليس بشيء وما ليس بشيء لا يحصل منه الامتياز في نفس الأمر ولا يكون الفاصل بين الشيئين الموجودين الذي يختص بأحدهما إلا أمرا ثبوتيا أو متضمنا لأمر ثبوتي وهذا مستقر عندهم في المنطق فكيف يكون وجود الرب مماثلا لوجود الممكنات في مسمى الوجود ولا يمتاز عن المخلوقات إلا بعدم محض لا ثبوت فيه بل على هذا التقدير يكون أي موجود قدر أكمل من هذا الموجود فإن ذلك الموجود مختص مع وجوده بأمر ثبوتي عنده والوجود الواجب لا يختص عنده إلا بأمر عدمي مع تماثلهما في مسمى الوجود فهذا القول يستلزم مماثلة الوجود الواجب لوجود كل ممكن في
8
39(189/28)
الوجود وأن لا يمتاز عنه إلا بسلب الأمور الثبوتية والكمال هو في الوجود لا في العدم إذ العدم المحض لا كمال فيه فحينئذ يمتاز عن الممكنات بسلب جميع الكمالات وتمتاز عنه بإثبات جميع الكمالات وهذا غاية ما يكون من تعظيم الممكنات في الكمال والوجود ووصف الوجود الواجب بالنقص والعدم وأيضا فهذا الوجود الذي لا يمتاز عن غيره إلا بالأمور العدمية يمتنع وجودة في الخارج بل لا يمكن إلا في الذهن لأنه إذا شارك سائر الموجودات في مسمى الوجود كان هذا كليا والوجود لا يكون كليا إلا في الذهن لا في الخارج والأمور العدمية المحضة لا توجب ثبوته في الخارج فإن ما في الذهن هو بسلب الحقائق الخارجية عنه أحق بسلبها عما في الخارج لو كان ذلك ممكنا في الخارج فكيف إذا كان ممتنعا فإذا كان الكلي لا يكون إلا ذهنيا والقيد العدمي لا يخرجه عن أن يكون كليا ثبت أنه لا يكون في الخارج وأيضا فإن ما في الخارج لا يكون إلا معينا له وجود يخصه فما لا يكون كذلك لا يكون إلا في الذهن
8
40(189/29)
فثبت بهذه الوجوه الثلاثة وغيرها أن ما ذكره في واجب الوجود لا يتحقق إلا في الذهن لا في الخارج فهذا قول من قيده بالأمور العدمية ولهم قول ثالث وهو الوجود المطلق لا بشرط الإطلاق الذي يسمونه الكلي الطبيعي وهذا لا يكون في الخارج إلا معينا فيكون من جنس القولين قبله ومنهم من يظن أنه ثابت في الخارج وأنه جزء من المعينات فيكون الوجود الواجب المبدع لكل ما سواه إما عرضا قائما بالمخلوقات وإما جزءا منها فيكون الواجب مفتقرا إلى الممكن عوضا فيه أو جزءا منه بمنزلة الحيوانية في الحيوانات لا تكون هي الخالقة للحيوان ولا الإنسانية هي المبدعة للإنسان فإن جزء الشئ وعرضه لا يكون هو الخالق له بل الخالق مباين له منفصل عنه إذ جزؤه وعرضه داخل فيه والداخل في الشئ لا يكون هو المبدع له كله فما وصفوا به رب العالمين يمتنع معه أن يكون خالقا لشئ من الموجودات فضلا عن أن يكون خالقا لكل شئ وهده الأمور مبسوطة في موضع آخر
8
41(189/30)
والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة حقيقة قولهم تعطيل الخالق وجحد حقيقة النبوات والمعاد والشرائع وينتسبون إلى موالاة علي ويدعون أنه كان على هذه الأقوال كما تدعى القدرية والجهمية والرافضة أنه كان على قولهم أيضا ويدعون أن هذه الأقوال مأخوذة عنه وهذا كله باطل كذب على علي رضي الله عنه فصل قال الرافضي وعلم التفسير إليه يعزي لأن ابن عباس كان تلميذه فيه قال ابن عباس حدثنى أمير المؤمنين في تفسير الباء من بسم الله الرحمن الرحيم من أول الليل إلى آخره والجواب أن يقال أولا أين الإسناد الثابت بهذا النقل عن ابن عباس فإن أقل مايجب على المحتج بالمنقولات أن يذكر الإسناد الذي يعلم به صحة النقل وإلا فمجرد ما يذكر في الكتب من المنقولات لا يجوز الاستدلال به مع العلم بأن فيه شيئا كثير من الكذب ويقال ثانيا أهل العلم بالحديث يعلمون أن هذا من الكذب فإن هذا الأثر المأثور عن ابن عباس كذب عليه وليس له إسناد يعرف وإنما
8
42(189/31)
يذكر مثل هذه الحكايات بلا إسناد وهذه يرويها أهل المجهولات الذين يتكلمون بكلام لا حقيقة له ويجعلون كلام علي وابن عباس من جنس كلامهم كما يقولون عن عمر أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما فإن هذا كذب على عمر باتفاق أهل العلم وكما ينقلون عن عمر أنه تزوج امرأة أبي بكر ليسألها عن علمه في السر فقالت كنت أشم من فيه رائحة الكبد المحترقة وهذا أيضا كذب وعمر لم يتزوج امرأة أبي بكر وإنما تزوجها علي تزوج أسماء بنت عميس ومعها ربيبه محمد بن أبي بكر فتربى عنده وهذا ابن عباس نقل عنه من التفسير ما شاء الله بالأسانيد الثابتة ليس في شيء منها ذكر علي وابن عباس يروى عن غير واحد من الصحابة يروى عن عمر وأبي هريرة وعبد الرحمن بن عوف وعن زيد بن ثابت وأبي بن كعب وأسامة بن زيد وغير واحد من المهاجرين والأنصار وروايته عن علي قليلة جدا ولم يخرج أصحاب الصحيح شيئا من حديثه عن علي وخرجوا حديثه عن عمر وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم وأيضا فالتفسير أخذ عن غير ابن عباس أخذ عن ابن مسعود وغيره
8
43(189/32)
من الصحابة الذين لم يأخذوا عن علي شيئا وما يعرف بأيدي المسلمين تفسير ثابت عنه وهذه كتب الحديث والتفسير مملوءة بالآثار عن الصحابة والتابعين والذي فيها عن علي قليل جدا وما ينقل في حقائق السلمى من التفسير عن جعفر الصادق عامته كذب على جعفر كما قد كذب عليه غير ذلك كما تقدم فصل قال الرافضي وأما علم الطريقة فإليه منسوب فإن الصوفية كلهم يسندون الخرقة إليه والجواب أن يقال أولا أما أهل المعرفة وحقائق الإيمان المشهورين في الأمة بلسان الصدق فكلهم متفقون على تقديم أبي بكر وأنه أعظم الأمة في الحقائق الإيمانية والأحوال العرفانية وأين من يقدمونه في الحقائق التي هي أفضل الأمور عندهم إلى من ينسب إليه الناس لباس الخرقة وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم فأين حقائق القلوب من لباس الأبدان
8
44(189/33)
ويقال ثانيا الخرق متعددة أشهرها خرقتان خرقة إلى عمر وخرقة إلى علي فخرقة عمر لها إسنادان إسناد إلى أويس القرني وإسناد إلى أبي مسلم الخولاني وأما الخرقة المنسوبة إلى علي فإسنادها إلى الحسن البصري والمتأخرون يصلونها بمعروف الكرخي فإن الجنيد صحب السري السقطى والسري صحب معروفا الكرخي بلا ريب وأما الإسناد من جهة معروف فينقطع فتارة يقولون إن معروفا صحب علي بن موسى الرضا وهذا باطل قطعا لم يذكره المصنفون لأخبار معروف بالإسناد الثابت المتصل كأبي نعيم وأبي الفرج بن الجوزي في كتابه الذي صنفه في فضائل معروف ومعروف كان منقطعا في الكرخ وعلي بن موسى كان المأمون قد جعله ولي العهد بعده وجعل شعاره لباس الخضرة ثم رجع عن ذلك وأعد شعار السواد ومعروف لم يكن ممن يجتمع بعلي بن موسى ولا نقل عنه ثقة أنه اجتمع به أوأخذ عنه شيئا بل ولا يعرف أنه رآه ولا كان معروف بوابه ولا أسلم على يديه وهذا كله كذب وأما الإسناد الآخر فيقولون إن معروفا صحب داود الطائي وهذا أيضا لا أصل له وليس في أخباره المعروفة ما يذكر فيها وفي إسناد الخرقة أيضا أن داود الطائي صحب حبيبا العجمي وهذا أيضا لم يعرف له حقيقة
8
45(189/34)
وفيها أن حبيبا العجمي صحب الحسن البصري وهذا صحيح فإن الحسن كان له أصحاب كثيرون مثل أيوب السختياني ويونس بن عبيد وعبد الله بن عوف ومثل محمد بن واسع ومالك بن دينار وحبيب العجمي وفرقد السبخي وغيرهم من عباد البصرة وفيها أن الحسن صحب عليا وهذا باطل باتفاق أهل المعرفة فإنهم متفقون على أن الحسن لم يجتمع بعلي وإنما أخذ عن أصحاب علي أخذ عن الأحنف بن قيس وقيس بن عباد وغيرهما عن علي وهكذا رواه أهل الصحيح والحسن ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر وقتل عثمان وهو بالمدينة كانت أمه أمة لأم سلمة فلما قتل عثمان حمل إلى البصرة وكان علي بالكونة والحسن في وقته صبي من الصبيان لا يعرف ولا له ذكر والأثر الذي يروى عن علي أنه دخل إلى جامع البصرة وأخرج القصاص إلا الحسن كذب باتفاق أهل المعرفة ولكن المعروف أن عليا دخل المسجد فوجد قاصا يقص فقال ما اسمك قال أبو يحيى قال هل تعرف الناسخ من المنسوخ قال لا قال
8
46
هلكت وأهلكت إنما أنت أبو اعرفوني ثم أخذ بأذنه فأخرجه من المسجد فروى أبو حاتم في كتاب الناسخ والمنسوخ حدثنا الفضل بن دكين حدثنا سفيان عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمى قال انتهى علي إلى قاص وهو يقص فقال أعلمت الناسخ والمنسوخ قال لا قال هلكت وأهلكت قال وحدثنا زهير بن عباد الرواسي حدثنا أسد بن حمران عن جويبر عن الضحاك أن علي بن أبي طالب دخل مسجد الكوفة فإذا قاص يقص فقام على رأسه فقال يا هذا تعرف الناسخ من المنسوخ قال لا قال أفتعرف مدنى القرآن من مكيه قال لا قال هلكت وأهلكت قال أتدرن من هذا هذا يقول اعرفوني اعرفوني اعرفوني وقد صنف ابن الجوزي مجلدا في مناقب الحسن البصري
8
47(189/35)
وصنف أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي جزءا فيمن لقيه من الصحابة وأخبار الحسن مشهورة في مثل تاريخ البخاري وقد كتبت أسانيد الخرقة لأنه كان لنا فيها أسانيد فبينتها ليعرف الحق من الباطل ولهم إسناد آخر بالخرقة المنسوبة إلى جابر وهو منطقع جدا وقد عقل بالنقل المتواتر أن الصحابة لم يكونوا يلبسون مريديهم خرقة ولا يقصون شعورهم ولا التابعون ولكن هذا فعله بعض مشايخ المشرق من المتأخرين وأخبار الحسن مذكورة بالأسانيد الثابتة من كتب كثيرة يعلم منها ما ذكرنا وقد أفرد أبو الفرج بن الجوزي له كتابا في مناقبه وأخباره وأضعف من هذا نسبة الفتوة إلى علي وفي إسنادها من الرجال المجهولين الذين لا يعرف لهم ذكر ما يبين كذبها وقد علم كل من له علم بأحوال الصحابة والتابعين أنه لم يكن فيهم أحد يلبس سراويل ولا يسقى ملحا ولا يختص أحد بطريقة تسمى الفتوة لكن كانوا قد اجتمع بهم التابعون وتعلموا منهم وتأدبوا بهم واستفادوا منهم وتخرجوا على أيديهم وصحبوا من صحبوه منهم وكانوا يستفيدون من جميع الصحابة
8
48(189/36)
وأصحاب ابن مسعود كانوا يأخذون من عمر وعلي وأبي الدرداء وغيرهم وكذلك أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه كانوا يأخذون عن ابن مسعود وغيره وكذلك أصحاب ابن عباس يأخذون عن ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما وكذلك أصحاب زيد بن ثابت يأخذون عن أبي هريرة وغيره وقد انتفع بكل منهم من نفعه الله وكلهم متفقون على دين واحد وطريق واحدة وسبيل واحدة يعبدون الله ويطيعون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن بلغهم من الصادقين عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا قبلوه ومن فهم من القرآن والسنة ما دل عليه القرآن والسنة استفادوه ومن دعاهم إلى الخير الذي يحبه الله ورسوله أجابوه ولم يكن أحد منهم يجعل شيخه ربا يستغيث به كالإله الذي يسأله ويرغب إليه ويعبده ويتوكل عليه ويستغيث به حيا وميتا ولا كالنبي الذي تجب طاعته في كل ما أمر فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه فإن هذا ونحوه دين النصارى الذين قال الله فيهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون سورة التوبة وكانوا متعاونين على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان متواصين بالحق متواصين بالصبر
8
49(189/37)
والإمام والشيخ ونحوهما عندهم بمنزلة الإمام في الصلاة وبمنزلة دليل الحاج فالإمام يفتدى به المأمومون فيصلون بصلاته لا يصلى عنهم وهو يصلى بهم الصلاة التي أمر الله ورسوله بها فإن عدل عن ذلك سهوا أو عمدا لم يتبعوه ودليل الحاج يدل الوفد على طريق البيت ليسلكوه ويحجوه بأنفسهم فالدليل لا يحج عنهم وإن أخطأ الدلالة لم يتبعوه وإذا اختلف دليلان وإمامان نظر أيهما كان الحق معه اتبع فالفاصل بينهم الكتاب والسنة قال تعالى يا أيها الذين امنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر الآية سورة النساء وكل من الصحابة الذين سكنوا الأمصار أخذ عنه الناس الإيمان والدين وأكثر المسلمين بالمشرق والمغرب لم يأخذوا عن علي شيئا فإنه رضي الله عنه كان ساكنا بالمدينة وأهل المدينة لم يكونوا يحتاجون إليه إلا كما يحتاجون إلى نظرائه كعثمان في مثل قصة شاورهم فيها عمر ونحو ذلك ولما ذهب إلى الكوفة كان أهل الكوفة قبل أن يأتيهم قد أخذوا الدين
8
50(189/38)
عن سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وحذيفة وعمار وأبي موسى وغيرهم ممن أرسله عمر إلى الكوفة وأهل البصرة أخذوا الدين عن عمران بن حصين وأبي بكرة وعبد الرحمن بن سمرة وأنس وغيرهم من الصحابة وأهل الشام أخذوا الدين عن معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وبلال وغيره من الصحابة والعباد والزهاد من أهل هذه البلاد أخذوا الدين عمن شاهدوه من الصحابة فكيف يجوز أن يقال إن طريق أهل الزهد والتصوف متصل به دون غيره وهذه كتب الزهد مثل الزهد للإمام أحمد والزهد لابن المبارك ولوكيع بن الجراح ولهناد بن السري ومثل كتب أخبار الزهاد كحلية الأولياء وصفوة الصفوة وغير ذلك فيها من أخبار الصحابة والتابعين أمور كثيرة وليس الذي فيها لعلي أكثر مما فيها لأبي بكر وعمر ومعاذ وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي ذر وأبي الدرداء وأبي أمامة وأمثالهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فصل قال الرافضي وأما علم الفصاحة فهو منبعه حتى
8
51(189/39)
قيل كلامه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق ومنه تعلم الخطباء والجواب أن يقال لا ريب أن عليا كان من أخطب الصحابة وكان أبو بكر خطيبا وعمر خطيبا وكان ثابت بن قيس بن شماس خطيبا معروفا بأنه خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان حسان ابن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة شعراءه ولكن كان أبو بكر يخطب عن النبي صلى الله عليه وسلم في حضوره وغيبته فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج في الموسم يدعو الناس إلى الإسلام وأبو بكر معه يخطب معه ويبين بخطابه ما يدعو الناس إلى متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ونبي الله ساكت يقره على ما يقول وكان كلامه تمهيدا وتوطئة لما يبلغه الرسول معونة له لا تقدما بين يدي الله ورسوله كما كان ثابت بن قيس بن شماس يخطب أحيانا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان يسمى خطيب رسول الله وكان عمر من أخطب الناس وأبو بكر أخطب منه يعترف له عمر بذلك وهو الذي خطب المسلمين وكشف لهم عن موت النبي صلى الله عليه وسلم وثبت الإيمان في قلوب المسلمين حتى لا يضطرب الناس لعظيم المصيبة التي نزلت بهم
8
52(189/40)
ولما قدم هو وأبو بكر مهاجرين إلى المدينة قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام أبو بكر يخاطب الناس عنه حتى ظن من لم يعرفهما أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن عرف بعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القاعد وكان يخرج معه إلى الوفود فيخاطب الوفود وكان يخاطبهم في مغيبه ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الذي خطب الناس وخطب يوم السقيفة خطبة بليغة انتفع بها الحاضرون كلهم حتى قال عمر كنت قد زورت في نفسي مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحد فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر على رسلك فكرهت أن أغضبه فتكلم أبو بكر وكان أحلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة اعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها وقال أنس خطبنا أبو بكر رضي الله عنه ونحن كالثعالب فما زال يثبتنا حتى صرنا كالأسود وكان زياد بن أبيه من أخطب الناس وأبلغهم حتى قال الشيعي ما تكلم أحد فأحسن إلا تمنيت أن يسكت خشية أن يزيد فيسيء إلا زيادا كان كلما أطال أجاد أو كما قال وقد كتب الناس خطب زياد
8
53(189/41)
وكان معاوية خطيبا وكانت عائشة من أخطب الناس حتى قال الأحنف بن قيس سمعت خطبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فما سمعت الكلام من مخلوق أفحم ولا أحسن من عائشة وكان الخطباء الفصحاء كثيرين في العرب قبل الإسلام وبعده وجماهير هؤلاء لم يأخذوا عن علي شيئا فقول القائل إنه منبع علم الفصاحة كذب بين ولو لم يكن إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أخطب منه وأفصح ولم يأخذ منه شيئا وليست الفصاحة التشدق في الكلام والتقعير في الكلام ولا سجع الكلام ولا كان في خطبة علي ولا سائر خطباء العرب من الصحابة وغيرهم تكلف الأسجاع ولا تكلف التحسين الذي يعود إلى مجرد اللفظ الذي يسمى علم البديع كما يفعله المتأخرون من أصحاب الخطب والرسائل والشعر وما يوجد في القرآن من مثل قوله وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا سورة الكهف و إن ربهم بهم سورة العاديات ونحو ذلك فلم يتكلف لأجل التجانس بل هذا تابع غير مقصود بالقصد الأول كما يوجد في القرآن من أوزان الشعر ولم يقصد به الشعر كقوله تعالى وجفان كالجواب وقدور راسيات سورة سبأ
8
54(189/42)
وقوله نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم سورة الحجر ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك سورة الشرح ونحو ذلك وإنما البلاغة المأمور بها في مثل قوله تعالى وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا سورة النساء هي علم المعاني والبيان فيذكر من المعاني ما هو أكمل مناسبة للمطلوب ويذكر من الألفاظ ما هو أكمل في بيان تلك المعاني فالبلاغة بلوغ غاية المطلوب أو غاية الممكن من المعاني بأتم ما يكون من البيان فيجمع صاحبها بين تكميل المعاني المقصودة وبين تبيينها بأحسن وجه ومن الناس من تكون همته إلى المعاني ولا يوفيها حقها من الألفاظ المبينة ومن الناس من يكون مبينا لما في نفسه من المعاني لكن لا تكون تلك المعاني محصلة للمقصود المطلوب في ذلك المقام فالمخبر مقصودة تحقيق المخبر به فإذا بينه وبين ما يحقق ثبوته لم يكن بمنزلة الذي لا يحقق ما يخبر به أو لا يبين ما يعلم به ثبوته والأمر مقصودة تحصيل الحكمة المطلوبة فمن أمر ولم يحكم ما أمر به أو لم يبين الحكمة في ذلك لم يكن بمنزلة الذي أمر بما هو حكمة وبين وجه الحكمة فيه وأما تكلف الأسجاع والأوزان والجناس والتطبيق ونحو ذلك مما
8
55(189/43)
تكلفه متأخروا الشعراء والخطباء والمترسلين والوعاظ فهذا لم يكن من دأب خطباء الصحابة والتابعين والفصحاء منهم ولا كان ذلك مما يهتم به العرب وغالب من يعتمد ذلك يزخرف اللفظ بغير فائدة مطلوبة من المعاني كالمجاهد الذي يزخرف السلاح وهو جبان ولهذا يوجد الشاعر كلما أمعن في المدح والهجو خرج في ذلك إلى الإفراط في الكذب يستعين يالتخيلات والتمثيلات وأيضا فأكثر الخطب التي ينقلها صاحب نهج البلاغة كذب على علي وعلي رضي الله عنه أجل وأعلى قدرا من أن يتكلم بذلك الكلام ولكن هؤلاء وضعوا أكاذيب وظنوا انها مدح فلا هي صدق ولا هي مدح ومن قال إن كلام علي وغيره من البشر فوق كلام المخلوق فقد أخطأ وكلام النبي صلى الله عليه وسلم فوق كلامه وكلاهما مخلوق ولكن هذا من جنس كلام ابن سبعين الذي يقول هذا كلام بشير يشبه بوجه ما كلام البشر وهذا ينزع إلى أن يجعل كلام الله ما في نفوس البشر وليس هذا من كلام المسلمين وأيضا فالمعاني الصحيحة التي توجد في كلام علي موجودة في كلام غيره لكن صاحب نهج البلاغة وأمثاله أخذوا كثيرا من كلام الناس
8
56(189/44)
فجعلوه من كلام علي ومنه ما يحكى عن علي أنه تكلم به ومنه ما هو كلام حق يليق به أن يتكلم به ولكن هو في نفس الأمر من كلام غيره ولهذا يوجد في كلام البيان والتبيين للجاحظ وغيره من الكتب كلام منقول عن غير علي وصاحب نهج البلاغة يجعله عن علي وهذه الخطب المنقولة في كتاب نهج البلاغة لو كانت كلها عن علي من كلامه لكانت موجودة قبل هذا المصنف منقوله عن علي بالأسانيد وبغيرها فإذا عرف من له خبرة بالمنقولات أن كثيرا منها بل أكثرها لا يعرف قبل هذا علم أن هذا كذب وإلا فليبين الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك ومن الذي نقله عن علي وما إسناده وإلا فالدعوى المجردة لا يعجز عنها أحد ومن كان له خبرة بمعرفة طريقة أهل الحديث ومعرفة الآثار والمنقول بالأسانيد وتبين صدقها من كذبها علم أن هؤلاء الذين ينقلون مثل هذا عن علي من أبعد الناس عن المنقولات والتمييز بين صدقها وكذبها فصل قال الرافضي وقال سلوني قبل أن تفقدوني سلوني عن طرق السماء فإني أعلم بها من طرق الأرض
8
57(189/45)
والجواب أن يقال لا ريب أن عليا لم يكن يقول هذا بالمدينة بين المهاجرين والأنصار الذين تعلموا كما تعلم وعرفوا كما عرف وإنما قال هذا لما صار إلى العراق وقد دخل في دين الإسلام خلق كثير لا يعرفون كثيرا من الدين وهو الإمام الذي يجب عليه أن يفتيهم ويعلمهم فكان يقول لهم ذلك ليعلمهم ويفتيهم كما أن الذين تأخرت حياتهم من الصحابة واحتاج الناس إلى علمهم نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة لم ينقلها الخلفاء الأربعة ولا أكابر الصحابة لأن أولئك كانوا مستغنين عن نقلها لأن الذين عندهم قد علموها كما علموها ولهذا يروى لابن عمر وابن عباس وعائشة وأنس وجابر وأبي سعيد ونحوهم من الصحابة من الحديث مالا يروى لعلي ولا لعمر وعمر وعلي أعلم من هؤلاء كلهم لكن هؤلاء احتاج الناس إليهم لكونهم تأخرت وفاتهم وأدركهم من لم يدرك أولئك السابقين فاحتاجوا أن يسألوهم واحتاج أولئك أن يعلموهم ويحدثوهم فقول علي لمن عنده بالكوفة سلوني هو من هذا الباب لم يقل هذا لابن مسعود ومعاذ وأبي بن كعب وأبي الدرداء وسلمان وأمثالهم فضلا عن أن يقول ذلك لعمر وعثمان ولهذا لم يكن هؤلاء ممن يسأله فلم يسأله قط لا معاذ ولا أبي ولا ابن مسعود ولا من هو دونهم من الصحابة وإنما كان يستفتيه المستفتي كما يستفتي أمثاله من الصحابة وكان عمر وعثمان
8
58(189/46)
يشاورانه كما يشاوران أمثاله فكان عمر يشاور في الأمور لعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي موسى ولغيرهم حتى كان يدخل ابن عباس معهم مع صغر سنه وهذا مما أمر الله به المؤمنين ومدحهم عليه بقوله وأمرهم شورى بينهم سورة الشورى ولهذا كان رأي عمر وحكمه وسياسته من أسد الأمور فما رؤى بعده مثله قط ولا ظهر الإسلام وانتشر وعز كظهوره وانتشاره وعزه في زمنه وهو الذي كسر كسرى وقصر قيصر والروم والفرس وكان أميره الكبير على الجيش الشامي أبا عبيدة وعلى الجيش العراقي سعد بن أبي وقاص ولم يكن لأحد بعد أبي بكر مثل خلفائه ونوابه وعماله وجنده وأهل شوراه وقوله أنا أعلم بطرق السماء من طرق الأرض كلام باطل لا يقوله عاقل ولم يصعد أحد ببدنه إلى السماء من الصحابة والتابعين وقد تكلم الناس في معراج النبي صلى الله عليه وسلم هل هو ببدنه أو بروحه وإن كان الأكثرون على أنه ببدنه فلم ينازع السلف في غير النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يعرج ببدنه ومن اعتقد هذا من الغلاة في أحد من المشايخ وأهل البيت فهو من الضلال من جنس من اعتقد من الغلاة في أحد من هؤلاء النبوة أو ما هو أفضل من النبوة أو الإلهية
8
59(189/47)
وهذه المقالات كلها كفر بين لا يستريب في ذلك أحد من علماء الإسلام وهذا كاعتقاد الإسماعيلية أولاد ميمون القداح الذين كان جدهم يهوديا ربيبا لمجوسي وزعموا أنهم أولاد محمد بن إسماعيل بن جعفر واعتقد كثير من أتباعهم فيهم الإلهية أو النبوة وأن محمد بن إسماعيل بن جعفر نسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك طائفة من الغلاة يعتقدون الإلهية أو النبوة في علي وفي بعض أهل بيته إما الاثنا عشر وإما غيره وكذلك طائفة من العامة والنساك يعتقدون في بعض الشيوخ نوعا من الإلهية أو النبوة أو أنهم أفضل من الأنبياء ويجعلون خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء وكذلك طائفة من هؤلاء يجعلون الأولياء أفضل من الأنبياء ويعتقد ابن عربي ونحوه أن خاتم الأنبياء يستفيد من خاتم الأولياء وأنه هو خاتم الأولياء ويعتقد طائفة أخرى أن الفيلسوف الكامل أعلم من النبي بالحقائق العلمية والمعارف الإلهية فهذه الأقوال ونحوها هي من الكفر المخالف لدين الإسلام باتفاق أهل الإسلام ومن قال منها شيئا فإنه يستتاب منه كما يستتاب نظراؤه
8
60(189/48)
ممن يتكلم بالكفر كاستتابة المرتد إن كان مظهرا لذلك وإلا كان داخلا في مقالات أهل الزندقة والنفاق وإن قدر أن بعض الناس خفى عليه مخالفة ذلك لدين الإسلام إما لكونه حديث عهد بالإسلام أو لنشأته بين قوم جهال يعتقدون مثل ذلك فهذا بمنزلة من يجهل وجوب الصلاة أو بعضها أو يرى الواجبات تجب على العامة دون الخاصة وأن المحرمات كالزنا والخمر مباح للخاصة دون العامة وهذه الأقوال قد وقع في كثير منها كثير من المنتسبين إلى التشيع والمنتسبين إلى كلام أو تصوف أو تفلسف وهي مقالات باطلة معلومة البطلان عند أهل العلم والإيمان لا يخفى بطلانها على من هو من أهل الإسلام والعلم فصل قال الرافضي وإليه يرجع الصحابة في مشكلاتهم ورد عمر في قضايا كثيرة قال فيها لولا علي لهلك عمر والجواب أن يقال ما كان الصحابة يرجعون إليه ولا إلى غيره وحده في شيء من دينه لا واضحة ولا مشكلة بل كان إذا نزلت النازلة
8
61
يشاورهم عمر رضي الله عنه فيشاور عثمان وعليا وعبد الرحمن وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبا موسى حتى يشاوره ابن عباس وكان من أصغرهم سنا وكان السائل يسأل عليا تارة وأبي بن كعب تارة وعمر تارة وقد سئل ابن عباس أكثر مما سئل علي وأجاب عن المشكلات أكثر من علي وما ذاك لأنه أعلم منه بل علي أعلم منه لكن احتاج إليه من لم يدرك عليا فأما أبو بكر رضي الله عنه فما ينقل عنه احد أنه استفاد من علي شيئا من العلم والمنقول أن عليا هو الذي استفاد منه كحديث صلاة التوبة وغيره وأما عمر فكان يشاورهم كلهم وإن كان عمر أعلم منهم وكان كثير من القضايا يقول فيها أولا ثم يتعبونه كالعمريتين والعول وغيرهما فإن عمر هو أول من أجاب في زوج وأبوين أو أمرأة وأبوين بأن للأم ثلث الباقي واتبعه أكابر الصحابة وأكابر الفقهاء كعثمان وابن مسعود
8
62(189/49)
وعلي وزيد والأئمة الأربعة وخفى وجه قوله على ابن عباس فأعطى الأم الثلث ووافقه طائفة وقول عمر أصوب لأن الله إنما أعطى الأم الثلث إذا ورثه أبواه كما قال فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث سورة النساء فأعطاها الثلث إذا ورثه أبواه والباقي بعد فرض الزوجين هو ميراث بين الأبوين يقتسمانه كما اقتسما الأصل كما لو كان على الميت دين أو وصية فإنهما يقتسمان ما يبقى أثلاثا وأما قوله إنه رد عمر إلى قضايا كثيرة قال فيها لولا علي لهلك عمر فيقال هذا لا يعرف أن عمر قاله إلا في قضية واحدة أن صح ذلك وكان عمر يقول مثل هذا لمن هو دون علي قال للمرأة التي عارضته في الصداق رجل أخطأ وامرأة اصابت وكان قد رأى أن الصداق ينبغي أن يكون مقدرا بالشرع فلا يزاد على صداق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته كما رأى كثير من الفقهاء أن أقله مقدر بنصاب السرقة وإذا كان مقدرا بالشرع والفاضل قد بذله الزوج واستوفى عوضه والمرأة لا تستحقه فيجعل في بيت المال كما يجعل في بيت المال ثمن عصير الخمر إذا باعه المسلم
8
63(189/50)
وأجره من أجر نفسه لحمل الخمر ونحو ذلك على أظهر أقوال العلماء فإن من استوفى منفعة محرمة بعوضها كالذي يزني بالمرأة بالجعل أو يستمع الملاهي بالجعل أو يشرب الخمر بالجعل إن أعيد إليه جعله بعد قضاء غرضه فهذا زيادة في إعانته على المعصية فإن كان يطلبها بالعوض فإذا حصلت له هي والعوض كان ذلك أبلغ في إعانته على الإثم والعدوان وإن أعطى ذلك للبائع والمؤجر كان قد أبيح له العوض الخبيث فصار مصروف هذا المال في مصالح المسلمين وعمر إمام عدل فكان قد رأى أن الزائد على المهر الشرعي يكون هكذا فعارضته امرأة وقالت لم تمنعنا شيئا أعطانا الله إياه في كتابه فقال وأين في كتاب الله فقالت في قوله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا سورة النساء وروى أنها قالت له أمنك نسمع أم من كتاب الله تعالى قال بل من كتاب الله فقرأت عليه الآية فقال رجل أخطأ وامرأة أصابت
8
64
ومع هذا فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حق عمر من العلم والدين والإلهام لما لم يخبر بمثله لا في حق عثمان ولا علي ولا طلحة ولا الزبير وفي الترمذي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه قال وقال ابن عمر ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال عمر فيه إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر وفي سنن أبي داود عن أبي ذر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به وفي الترمذي عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان بعدي نبي لكان عمر وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن
8
65(189/51)
يكونوا أنبياء فإن يكن في أمتي أحد فعمر قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون وقال ابن عيينة محدثون أي مفهمون وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون وعليهم قمص فنها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك وعرض علي عمر وعليه قميص يجره قالوا فما أولته يا رسول الله قال الدين وفي الصحيحين عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى أني لأرى الري يخرج من تحت أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قال من حوله فما أولت ذلك يا رسول الله قال العلم وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك وفي الصحيحين عن أنس أن عمر قال وافقت ربي في ثلاث
8
66
قلت لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى سورة البقرة وقلت يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن يحتجبن فنزلت آية الحجاب واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة فقلت عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن سورة التحريم فنزلك ذلك وهذا الباب في فضائل عمر كثيرا جدا وأما قصة الحكومة في الأرغفة فهي مما يحكم فيها وما هو أدق منها من هو دون علي وللفقهاء في تفاريع مسائل القضاء والقسمة وغير ذلك من الدقائق ما هو أبلغ من هذه وليسوا مثل علي وأما مسألة القرعة فقد رواها أحمد وأبو داود عن زيد بن أرقم
8
68
لكن جمهور الفقهاء لا يقولون بهذه وأما أحمد فنقل عنه تضعيف الخبر فلم يأخذ به وقيل أخذ به وأحمد أوسع الأئمة أخذا بالقرعة وقد أخذ بقضاء علي في الزبية وحديثها أثبت من هذا رواه سماك ابن حرب وأخذ به أحمد وأما الثلاثة فما بلغهم لا هذا ولا هذا أو بلغهم ولم يثبت عندهم وكان عند أحمد من العلم بالآثار ومعرفة صحتها من سقمها ما ليس لغيره(189/52)
8
69
وهذا يدل على فضل علي ولا نزاع في هذا لكن لا يدل على أنه أقضى الصحابة وأما قوله معرفة القضايا بالإلهام فهذا خطأ لأن الحكم بالإلهام بمعنى أنه من ألهم أنه صادق حكم بذلك بمجرد الإلهام فهذا لا يجوز في دين المسلمين وفي الصحيح عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال انكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون الحن بحجته من بعض وإنما أقضى بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فأخبر أنه يقضي بالسمع لا بالإلهام فلو كان الإلهام طريقا لكان النبي صلى الله عليه وسلم أحق بذلك وكان الله يوحى إليه معرفة صاحب الحق فلا يحتاج إلى بينة ولا إقرار ولم يكن ينهى أحدا أن يأخذ مما يقضى له ولما حكم في اللعان بالفرقة قال إن جاءت به كذا فهو الزوج وإن جاءت به فهو الذي للذي رميت به فجاءت به على النعت المكروه فقال لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن
8
70
فأنفذ الحكم باليمين ولم يحكم بالبينة وأما إن قيل إنه يلهم الحكم الشرعي فهذا لا بد فيه من دليل شرعي لا يجوز الحكم بمجرد الإلهام فإن الذي ثبت بالنص أنه كان ملهما هو عمر بن الخطاب كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر ومع هذا فلم يكن يجوز لعمر أن يفتى ولا يقضى ولا يعمل بمجرد ما يلقى في قلبه حتى يعرض ذلك على الكتاب والسنة فإن وافقه قبله وإن خالفه رده وأما ما ذكره من الحكومة في البقرة التي قتلت حمارا فهذا
8
71(189/53)
الحديث لا يعرف وليس هو في شيء من كتب الحديث والفقه مع احتياج الفقهاء في هذه المسألة إلى نص ولم يذكر له إسنادا فكيف يصدق بشيء لا دليل على صحته بل الأدلة المعلومة تدل على انتفائه ومع هذا فهذا الحكم الذي نقله عن علي وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره إذا حمل على ظاهرة كان مخالفا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال العجماء جبار وهذا في الصحيحين وغيرهما واتفق العلماء على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق والعمل به والعجماء تأنيث أعجم وكل بهيمة فهي عجماء كالبقرة والشاة وغيرهما وهذه إذا كانت ترعى في المراعي المعتادة فأفلتت نهارا من غير تفريط من صاحبها حتى دخلت على حمار فأفسدته أو
8
72
أفسدت زرعا لم يكن على صاحبها ضمان باتفاق المسلمين فإنها عجماء لم يفرط صاحبها وأما أن كانت خرجت بالليل فعلى صاحبها الضمان عند أكثر العلماء كمالك والشافعي وأحمد لقصة سليمان بن داود في النفش ولحديث ناقة البراء بن عازب فإنها دخلت حائطا فأفسدته فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن علي أهل المواشي ما أفسدت مواشيهم باليل وقضى على أهل الحوائط بحفظ حوائطهم
8
73
وذهب أبو حنيفة وابن حزم وغيرهما إلى أنه لا ضمان في ذلك وجعلوها داخلة في العجماء وضعف بعضهم حديث ناقة البراء وأما إن كان صاحبها اعتدى وأرسلها في زرع قوم أو بقرب زرعهم أو أدخلها إلى اصطبل الحمار بغير إذن صاحبها فأتلفته فهنا يضمن لعدوانه فهذه قضية البقرة والحمار إن كان صاحب البقرة لم يفرط فالتفريط
8
74(189/54)
من صاحب الحمار كما لو دخلت الماشية نهارا فأفسدت الزرع فإن صاحب الحمار لم يغلق عليه الباب كما لو دخلت البقرة على الحمار إن كان الحمار نائما وإن كان المفرط بإدخالها إلى الحمار كان ضامنا وأما أن يجعل مجرد اعتداء الحمار على البقرة أو البقرة على الحمار بدون تفريط صاحبها كاعتداء صاحبها فهذا يوجب كون البهيمة كالعبد ما أتلفه يكون في رقبتها ولا يكون جبارا وهذا ليس من حكم المسلمين ومن نقل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كذب عليه وقد قلنا غير مرة إن هؤلاء الجهال يكذبون ما يظنونه مدحا ويمدحون به فيجمعون بين الكذب وبين المدح فلا صدق ولا علم ولا عدل فيضلون في الخير والعدل وقد تقدم الكلام على قوله يهدي إلى الحق سورة يونس
8
75
فصل قال الرافضي والرابع أنه كان أشجع الناس وبسيفه ثبتت قواعد الإسلام وتشيدت أركان الإيمان ما انهزم في مواطن قط ولا ضرب بسيف إلا قط طالما كشف الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفر كما فر غيره ووقاه بنفسه لما بات على فراشه مستترا بإزاره فظنه المشركون إياه وقد اتفق المشركون على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحدقوا به وعليهم السلاح يرصدون طلوع الفجر ليقتلوه ظاهرا فيذهب دمه لمشاهدة بني هاشم قاتليه من جميع القبائل ولا يتم لهم الأخذ بثأره لاشتراك الجماعة في دمه ويعود كل قبيل عن قتال رهطه وكان ذلك
8
76(189/55)
سبب حفظ دم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمت السلامة وانتظم به الغرض في الدعاء إلى الملة فلما أصبح القوم ورأوا الفتك به ثار إليهم فتفرقوا عنه حين عرفوه وانصرفوا وقد ضلت حيلهم وانتقض تدبيرهم والجواب أنه لا ريب أن عليا رضي الله عنه كان من شجعان الصحابة وممن نصر الله الإسلام بجهاده ومن كبار السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن سادات من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله وممن قتل بسيفه عددا من الكفار لكن لم يكن هذا من خصائصه بل غير واحد من الصحابة شاركه في ذلك فلا يثبت بهذا فضله في الجهاد على كثير من الصحابة فضلا عن أفضليته على الخلفاء فضلا عن تعيين للإمامة أما قوله إنه كان أشجع الناس فهذا كذب بل كان أشجع الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أنس قال كان النبي صلى الله عليه
8
77
وسلم أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم راجعا وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عرى في عنقه السيف وهو يقول لن تراعوا قال البخاري استقبلهم وقد استبرأ الخبر وفي المسند عن علي رضي الله عنه قال كان إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كان أقرب إلى العدو منا والشجاعة تفسر بشيئين أحدهما قوة القلب وثباته عند المخاوف والثاني شدة القتال بالبدن بأن يقتل كثيرا ويقتل قتلا عظيما والأول هو الشجاعة وأما الثاني فيدل على قوة البدن وعمله وليس كل من كان قوي البدن كان قوي القلب ولا بالعكس ولهذا
8
78(189/56)
تجد الرجل الذي يقتل كثيرا يقال إذا كان معه من يؤمنه إذا خاف أصابه الجبن وانخلع قلبه وتجد الرجل الثابت القلب الذي لم يقتل بيديه كثيرا ثابتا في المخاوف مقداما على المكاره وهذه الخصلة يحتاج إليها في أمراء الحروب وقواده ومقدميه أكثر من الأولى فإن المقدم إذا كان شجاع القلب ثابتا أقدم وثبت ولم ينهزم فقاتل معه أعوانه وإذا كان جبانا ضعيف القلب ذل ولم يقدم ولم يثبت ولو كان قوي البدن والنبي صلى الله عليه وسلم كان أكمل الناس في هذه الشجاعة التي هي المقصودة في أئمة الحرب ولم يقتل بيده إلا أبي بن خلف قتله يوم أحد ولم يقتل بيده أحدا لا قبلها ولا بعدها وكان أشجع من جميع الصحابة حتى أن جمهور أصحابه انهزموا يوم حنين وهو راكب على بغلة والبغلة لا تكر ولا تفر وهو يقدم عليها إلى ناحية العدو وهو يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب فيسمى نفسه وأصحابه قد انكفوا عنه وعدوه مقدم عليه وهو مقدم على عدوه على بغلته والعباس آخذ بعنانها وكان علي وغيره يتقون برسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه
8
79(189/57)
أشجع منهم وإن كان أحدهم قد قتل بيده أكثر مما قتل النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كانت الشجاعة المطلوبة من الأئمة بشجاعة القلب فلا ريب أن أبا بكر كان أشجع من عمر وعمر أشجع من عثمان وعلي وطلحة والزبير وهذا يعرفه من يعرف سيرهم وأخبارهم فإن أبا بكر رضي الله باشر الأهوال التي كان يباشرها النبي صلى الله عليه وسلم من أول الإسلام إلى آخره ولم يجبن ولم يحرج ولم يفشل وكان يقدم على المخاوف يقي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه يجاهد المشركين تارة بيده وتارة بلسانه وتارة بماله وهو في ذلك كله مقدم وكان يوم بدر مع النبي صلى الله عليه وسلم في العريش مع علمه بأن العدو يقصدون مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ثابت القلب ربيط الجأش يظاهر النبي صلى الله عليه وسلم ويعاونه ولما قام النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويستغيث ويقول اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذا العصابة لا تعبد اللهم اللهم جعل أبو بكر يقول له يا رسول الله هكذا مناشدتك ربك إنه سينجز لك ما وعدك وهذا يدل على كمال يقين الصديق وثقته بوعد الله وثباته وشجاعته شجاعة إيمانه إيمانية زائدة على الشجاعة الطبيعية
8
80(189/58)
وكان حال رسول الله أكمل من حاله ومقامة أعلى من مقامه ولم يكن الأمر كما ظنه بعض الجهال أن حال أبي بكر أكمل نعوذ بالله من ذلك ولا نقص في استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم ربه في هذا المقام كما توهمه بعض الناس وتكلم ابن عقيل وغيره في هذا الموضع بخطل من القول مردود على من قاله بل كان رسول الله صلى الله عليه جامعا كاملا له من كل مقام ذروة سنامة ووسيلته فيعلم أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابا قدح في العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع ويعلم أن عليه أن يجاهد المشركين ويقيم الدين بكل ما يقدر عليه من جهاده بنفسه وماله وتحريضه للمؤمنين ويعلم أن الاستنصار بالله والاستغاثة به والدعاء له فيه أعظم الجهاد وأعظم الأسباب في تحصيل المأمور ودفع المحذور ولهذا كان يستفتح بصعاليك المهاجرين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبلت قريش ومعه أصحابه أخبر أصحابه بمصارعهم وقال هذا مصرع عتبة بن ربيعة وهذا مصرع شيبة بن ربيعة وهذا مصرع أمية بن خلف وهذا مصرع أبي جهل بن هشام
8
81
وهذا مصرع فلان ثم مع علمه أن ذلك سيكون يعلم أن الله إذا قضى شيئا يكون فلا يمنع ذلك أن يقضيه بأسباب تكون وأن من الأسباب ما يكون العباد مأمورين به ومن أعظم ما يؤمر به الاستغاثة بالله فقام بما يؤمر به مع علمه بأنه سيكون ما وعد به كما أنه يعبد الله ويطيعه مع علمه بأن له السعادة في الآخرة والقلب إذا غشيته الهيبة والمخافة والتضرع قد يغيب عنه شهود ما يعلمه ولا يمنعه ذلك أن يكون عالما به مصدقا له ولا أن يكون في اجتهاد وجهاد بمباشرة الأسباب ومن علم أنه إذا مات يدخل الجنة
8
82(189/59)
لم يمنع أن يجد بعض ألم الموت والمريض الذي إذا أخبر أن في دوائه العافية لا يمنعه أن يجد مرارة الدواء فقام مجتهدا في الدعاء المأمور به وكان هو رأس الأمر وقطب رحى الدين فعليه أن يقول بأفضل مما يقوم به غيره وذلك الدعاء والاستغاثة كان أعظم الأسباب التي نزل بها النصر ومقام أبي بكر دون هذا وهو معاونه الرسول والذب عنه وإخباره بأنا واثقون بنصر الله تعالى والنظر إلى جهة العدو وهل قاتلوا المسلمين أم لا والنظر إلى صفوف المسلمين لئلا تختل وتبليغ المسلمين ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال ولهذا قال تعالى إلا تنصروه فقد نصره الله إذا أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار سورة التوبة وأخبر تعالى أن الناس إذا لم ينصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار وهذه الحال كان الخوف فيها على النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره وسيأتي الكلام على هذه القصة في آخر الكتاب والوزير مع الأمير له حال وللأمير حال والمقصود هنا أن أبا بكر كان أشجع الناس ولم يكن بعد الرسول
8
83(189/60)
صلى الله عليه وسلم أشجع منه ولهذا لما مات النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت بالمسلمين أعظم نازلة نزلت بهم حتى أوهنت العقول وطيشت الألباب واضطربوا اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة القعر فهذا ينكر موته وهذا قد أقعد وهذا قد دهش فلا يعرف من يمر عليه ومن يسلم عليه وهؤلاء يضجون بالبكاء وقد وقعوا في نسخه القيامة وكأنها قيامة صغرى مأخوذة من القيامة الكبرى وأكثر البوادي قد ارتدوا عن الدين وذلت كماتة فقام الصديق رضي الله عنه بقلب ثابت وفؤاد شجاع فلم يجزع ولم ينكل قد جمع له بين الصبر واليقين فأخبرهم بموت النبي صلى الله عليه وسلم وأن الله اختار له ما عنده وقال لهم من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين سورة آل عمران فكان الناس لم يسمعوا هذه الآية حتى تلاها الصديق فلا تجد أحدا إلا وهو يتلوها ثم خطبهم فثبتهم وشجعهم قال أنس خطبنا أبو بكر رضي الله عنه وكنا كالثعالب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود
8
84(189/61)
وأخذ في تجهيز أسامة مع إشارتهم عليه وأخذ في قتال المرتدين مع إشارتهم عليه بالتمهل والتربص وأخذ يقاتل حتى مانعي الزكاة فهو من الصحابة يعلمهم إذا جهلوا ويقويهم إذا ضعفوا ويحثهم إذا فتروا فقوى الله به علمهم ودينهم وقوتهم حتى كان عمر مع كمال قوته وشجاعته يقول له يا خليفة رسول الله تألف الناس فيقول علام أتالفهم أعلى دين مفترى أم على شعر مفتعل وهذا باب واسع يطول وصفه فالشجاعة المطلوبة من الإمام لم تكن في أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل منها في أبي بكر ثم عمر وأما القتل فلا ريب أن غير علي من الصحابة قتل من الكفار أكثر مما قتل علي فإن كان من قتل أكثر يكون أشجع فكثير من الصحابة أشجع من علي فالبراء ابن مالك أخو أنس قتل مائة رجل مبارزة غير من شورك في دمه وأما خالد بن الوليد فلا يحصى عدد من قتله إلا الله وقد انكسر في يده في غزوة مؤته تسعة أسياف ولا ريب أنه قتل أضعاف ما قتله علي وكان لأبي بكر مع الشجاعة الطبيعية شجاعة دينية وهي قوة يقينية بالله عز وجل وثقة بأن الله ينصره والمؤمنين وهذه الشجاعة لا تحصل بكل من كان قوي القلب لكن هذه تزيد بزيادة الإيمان واليقين
8
85
وتنقص بنقص ذلك فمتى تيقن أنه يغلب عدوه كان إقدامه بخلاف إقدام من لم يكن كذلك وهذا كان من أعظم أسباب شجاعة المسلمين وإقدامهم على عدوهم فإنهم كانوا أيقنوا بخبر الله ورسوله أنهم منصورون وأن الله يفتح لهم البلاد ومن شجاعة الصديق ما في الصحيحين عن عروة بن الزبير قال سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله قال رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فجاء أبو بكر فدفعه عنه وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم سورة غافر
8
86(189/62)
فصل ومما ينبغي أن يعلم أن الشجاعة إنما فضيلتها في الدين لأجل الجهاد في سبيل الله وإلا فالشجاعة إذا لم يستعن بها صاحبها على الجهاد في سبيل الله كانت إما وبالا عليه إن استعان بها صاحبها على طاعة الشيطان وإما غير نافعة له إن استعملها فيما لا يقربه إلى الله تعالى فشجاعة علي والزبير وخالد وأبي دجانة والبراء بن مالك وأبي طلحة وغيرهم من شجعان الصحابة إنما صارت من فضائلهم لاستعانتهم بها على الجهاد في سبيل الله فإنهم بذلك استحقوا ما حمد الله به المجاهدين وإذا كان كذلك فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد ومنه ما يكون بالحجة والبيان والدعوة قال الله تعالى ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا سورة الفرقان فأمره الله سبحانه وتعالى أن يجاهد الكفار بالقرآن جهادا كبيرا وهذه السورة مكية نزلت بمكة قبل أن يهاجر النبي وقبل أن يؤمر بالقتال ولم يؤذن له وإنما كان هذا الجهاد بالعلم والقلب والبيان والدعوة لا بالقتال وأما القتال فيحتاج إلى التدبير والرأي
8
87(189/63)
ويحتاج إلى شجاعة القلب وإلى القتال باليد وهو إلى الرأي والشجاعة في القلب في الرأس المطاع أحوج منه إلى قوة البدن وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما مقدمان في أنواع الجهاد غير قتال البدن قال أبو محمد بن حزم وجدناهم يحتجون بأن عليا كان أكثر الصحابة جهادا وطعنا في الكفار وضربا والجهاد أفضل الأعمال قال وهذا خطأ لأن الجهاد ينقسم أقساما ثلاثة أحدها الدعاء إلى الله تعالى باللسان والثاني الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير الجهادر باليد في الطعن والضرب فوجدنا الجهاد باللسان لا يلحق فيه أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ولا عمر أما أبو بكر فإن أكابر الصحاب أسلموا على يديه فهذا أفضل عمل وليس لعلي من هذا كثير حظ وأما عمر فإنه من يوم أسلم عز الإسلام وعبد الله علانية وهذا أعظم الجهاد وقد انفرد هذان الرجلان بهذين الجهادين اللذين لا نظير لهما ولا حظ لعلي في هذا وبقي القسم الثاني وهو الرأي والمشورة فوجدناه خالصا لأبي بكر ثم لعمر
8
88(189/64)
بقي القسم الثالث وهو الطعن والضرب والمبارزة فوجدناه أقل مراتب الجهاد ببرهان ضروري وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاشك عند كل مسلم في أنه المخصوص بكل فضيلة فوجدنا جهاده صلى الله عليه وسلم إنما كان في أكثر أعماله وأحواله بالقسمين الأولين من الدعاء إلى الله عز وجل والتدبير والإرادة وكان أقل عمله الطعن والضرب والمبارزة لا عن جبن بل كان أشجع أهل الأرض قاطبة نفسا ويدا وأتمهم نجدة ولكنه كان يؤثر الأفضل فالأفضل من الأعمال فيقدمه ويشتغل به ووجدناه يوم بدر وغيره كان أبو بكر معه لا يفارقه إيثارا من النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك واستظهارا برأيه في الحرب وأنسا بمكانه ثم كان عمر ربما شورك في ذلك وقد أنفرد بهذا المحل دون علي ودون سائر الصحابة إلا في الندرة ثم نظرنا مع ذلك في هذا القسم من الجهاد الذي هو الطعن والضرب والمبارزة فوجدنا عليا لم ينفرد بالسيوف فيه بل قد شاركه فيه غيره شركة العيان كطلحة والزبير وسعد ومن قتل في صدر الإسلام كحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ومصعب بن
8
89
عمير ومن الأنصار سعد بن معاذ وسماك بن خرشة يعني أبا دجانة وغيرهما ووجدنا أبا بكر وعمر قد شاركاه في ذلك بحظ حسن وإن لم يلحقا بحظوظ هؤلاء وإنما ذلك لشغلهما بالأفضل من ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤازرته في حين الحرب وقد بعثهما على البعوث أكثر مما بعث عليا وقد بعث أبا بكر إلى بني فزارة وغيرهم وبعث عمر إلى بني فلان وما نعلم لعلي بعثا إلا إلى بعض حصون خيبر ففتحه فحصل أرفع أنواع الجهاد لأبي بكر وعمر وقد شاركا عليا في أقل أنواع الجهاد مع جماعة غيرهم فصل قلت وأما قوله بسيفه ثبت قواعد الإسلام وتشيدت أركان الدين فهذا كذب ظاهر لكل من عرف الإسلام بل سيفه جزء من أجزاء
8
90(189/65)
كثيرة جزء من أجزاء أسباب تثبيت قواعد الإسلام وكثر من الوقائع التي ثبت بها الإسلام لم يكن لسيفه فيها تأثير كيوم بدر كان سيفا من سيوف كثيرة وقد قدمنا غير مرة أن عزوات القتال كلها كانت تسع غزوات وعلي بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لم يشهد قتال الروم وفارس ولم يعرف لعلي غزاة أثر فيها تأثيرا منفردا كثيرا عن النبي صلى الله عليه وسلم بل كان نصره في المغازي تبعا لنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والحروب الكبار التي كان فيها هو الأمير ثلاثة يوم الجمل والصفين والنهروان وفي الجمل والنهروان كان منصورا فإن جيشه كان أضعاف المقاتلين له ومع هذا لم يستظهر على المقاتلين له بل ما زالوا مستظهرين عليه إلى أن استشهد إلى كرامه الله ورضوانه وأمره يضعف وأمر المقاتلين له يقوى وهذا مما يدل على أن الانتصار الذي كان يحصل له في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان نصرا من الله لرسوله ولمن قاتل معه على دينه فإن الله يقول إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد سورة غافر وكذلك انتصار غير علي كانتصار أبي بكر وعمر وعثمان وعلى من قاتلوه إنما كان نصرا من الله لرسوله كما وعده بذلك في كتابه
8
91(189/66)
فصل وأما قوله ما انهزم قط فهو في ذلك كأبي بكر وعمر وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم فالقول في أنه ما انهزم كالقول في أن هؤلاء ما انهزموا قط ولم يعرف لأحد من هؤلاء هزيمة وإن كان قد وقع شيء في الباطن ولم ينقل فيمكن أن عليا وقع منه مالم ينقل والمسلمون كانت لهم هزيمتان يوم أحد ويوم حنين ولم ينقل أن أحدا من هؤلاء انهزم بل المذكور في السير والمغازي أن أبا بكر وعمر ثبتا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ويوم حنين ولم ينهزما مع من انهزم ومن نقل أنهما انهزما يوم حنين فكذبه معلوم وإنما الذي انهزم يوم أحد عثمان وقد عفا الله عنه وما نقل من انهزام أبي بكر وعمر بالراية يوم حنين فمن الأكاذيب المختلقة التي افتراها المفترون وقوله ما ضرب بسيفه إلا قط فهذا لا يعلم ثبوته ولا انتفاؤه وليس معنا في ذلك نقل يعتمد عليه ولو قال قائل في خالد والزبير والبراء بن مالك وأبي دجانة وأبي طلحة ونحوهم إنه ما ضرب بسيفه إلا قط كان القول في ذلك كالقول في علي بل صدق هذا في مثل خالد والبراء بن مالك أولى فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال خالد سيف من سيوف الله سله الله على المشركين فإذا قيل فيمن جعله الله من سيوفه إنه ما
8
92(189/67)
ضرب إلا قط كان أقرب إلى الصدق مع كثرة ما علم من قتل خالد في الحروب وأنه لم يزل منصورا وأما قوله وطالما كشف الكروب عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم فهذا كذب بين من جنس أكاذيب الطرقية فإنه لا يعرف أن عليا كشف كربة عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم قط بل ولا يعرف ذلك عن أبي بكر وعمر وهما كانا أكثر جهادا منه بل هو صلى الله عليه وسلم الذي طالما كشف عن وجوههم الكرب لكن أبو بكر دفع عنه لما أراد المشركون أن يضربوه ويقتلوه بمكة جعل يقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله حتى ضربوا أبا بكر ولم يعرف أن عليا فعل مثل هذا وأما كون المشركين أحاطوا به حتى خلصه أبو بكر أو علي بسيفه فهذا لم ينقله أحد من أهل العلم ولا حقيقة له لكن هذا الرافضي وأمثاله كأنهم قد طالعوا السير والمغازي التي وضعها الكذابون والطرقية مثل كتاب تنقلات الأنوار للبكرى الكذاب وأمثاله مما هو من جنس ما يذكر في سيرة البطال ودلهمة والعيار وأحمد الدنف والزيبق المصري والحكايات التي يحكونها عن هارون ووزيره مع العامة والسيرة الطويلة التي وضعت لعنترة بن شداد وقد وضع الكذابون في مغاري رسول اله صلى الله عليه وسلم ما هو
8
93(189/68)
من هذا الجنس وهذا يصدقه الجهال ومن لم يكن عارفا بما ذكره العلماء من الأخبار الصحيحة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأما أهل العلم فيعلمون أن هذا كذب وما ذكره من مبيته على فراشه فقد قدمنا أنه لم يكن هناك خوف على علي أصلا وأشهر ما نقل من ذلك ذب المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد لما ولى أكثر المسلمين مدبرين فطمع العدو في النبي صلى الله عليه وسلم وحرصوا على قتله وطلب أمية بن خلف قتله فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده وشج المشركون جبينه وهشموا البيضة على رأسه وكسروا رباعيته وذب عنه الصحابة الذين حوله كسعد بن أبي وقاص عل يرمي والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له ارم فداك أبي وأمي ووقاه طلحة بيده فشلت يد طلحة وقتل حوله جماعة من خيار المسلمين
8
94
وفي الحديث أن عليا لما أمر فاطمة بغسل سيفه يوم أحد قال اغسليه غير ذميم فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن تكن أحسنت فقد أحسن فلان وفلان وعد جماعة من الصحابة فصل قال الرافضي وفي غزاة بدر وهي أول الغزوات كانت على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدمه إلى المدينة وعمره سبع وعشرون سنة قتل منهم ستة وثلاثين رجلا بانفراده وهم أعظم من نصف المقتولين وشرك في الباقين والجواب أن هذا من الكذب البين المفتري باتفاق أهل العلم العالمين بالسير والمغازي ولم يذكر هذا أحد يعتمد عليه في النقل وإنما هو من وضع جهال الكذابين بل في الصحيح قتل غير واحد لم يشرك علي في واحد منهم مثل أبي جهل وعقبة بن أبي معيط ومثل أحد ابني ربيعة إما عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة وأبي بن خلف وغيرهم وذلك أنه لما برز من المشركين ثلاثة عتبة وشيبة والوليد فانتدب
8
95(189/69)
لهم ثلاثة من الأنصار فقالوا من أنتم فسموا أنفسهم فقالوا أكفاء كرام ولكن نريد بني عمنا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاربه بالبروز إليهم فقال قم ياحمزة قم يا عبيدة قم يا علي وكان أصغر المشركين هو الوليد وأصغر المسلمين علي فبرز هذا إلى هذا فقتل علي قرنه وقتل حمزه قرنه قيل إنه كان عتبة وقيل كان شيبة وأما عبيدة فجرح قرنه وساعده حمزة على قتل قرنه وحمل عبيدة بن الحارث وقيل إن عليا لم يقتل ذلك اليوم إلا نفرا دون العشرة أو أقل أو أكثر وغاية ما ذكره ابن هشام وقبله موسى بن عقبة وكذلك الأموي
8
96
جميع ما ذكروه أحد عشر نفسا واختلف في ستة أنفس هل قتلهم هو أو غيره وشارك في ثلاثة هذا جميع ما نقله هؤلاء الصادقون فصل قال الرافضي وفي غزاة أحد لما انهزم الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا علي بن أبي طالب ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر يسير أولهم عاصم بن ثابت وأبو دجانة وسهل بن حنيف وجاء عثمان بعد ثلاثة أيام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لقد ذهبت فيها عريضة وتعجبت الملائكة من شأن على فقال جبريل وهو يعرج إلى السماء لا سيف إلا ذو الفقا ر ولا فتى إلا علي وقتل أكثر المشركين في هذه الغزاة وكان الفتح فيها على يده وروى قيس بن سعد قال سمعت عليا يقول أصابني
8
97(189/70)
يوم أحد ستة عشر ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهن فجاءني رجل حسن الوجه اللمة طيب الريح فأخذ بضبعي فأقامني ثم قال أقبل عليهم فقاتل في طاعة الله وطاعة رسوله فهما عنك راضيان قال علي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته فقال يا علي أما تعرف الرجل قلت لا ولكن شبهته بدحية الكلبي فقال يا علي أقر الله عينيك كان ذاك جبريل والجواب أن يقال قد ذكر في هذه من الأكاذيب العظام التي لا تنفق إلا على من لم يعرف الإسلام وكأنه يخاطب بهذه الخرافات من لا يعرف ما جرى في الغزوات كقوله إن عليا قتل أكثر المشركين في هذه الغزاة وكان الفتح فيها على يده فيقال آفة الكذب الجهل وهل كان في هذه الغزاة فتح بل كان المسلمون قد هزموا العدو أولا وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد وكل بثغرة الجبل الرماة وأمرهم بحفظ ذلك المكان وأن لا يأتوهم سواء غلبوا أو غلبوا فلما انهزم المشركون صاح بعضهم أي قوم الغنيمة فنهاهم أميرهم عبد الله بن جبير ورجع العدو عليهم وأمير المشركين
8
98
إذ ذاك خالد بن الوليد فأتاهم من ظهورهم فصاح الشيطان قتل محمد واستشهد في ذلك اليوم نحو سبعين ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم إلا اثنا عشر رجلا فيهم أبو بكر وعمر وأشرف أبو سفيان فقال أفي القوم محمد أفي القوم محمد والحديث في الصحيحين وقد تقدم لفظه وكان يوم بلاء وفتنة وتمحيص وانصراف العدو عنهم منتصرا حتى هم بالعود إليهم فندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين للحاقه وقيل إن في هؤلاء نزل قوله تعالى الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح سورة آل عمران وكان في هؤلاء المنتدبين أبو بكر والزبير قالت عائشة لابن الزبير أبوك وجدك ممن قال الله فيهم الذين استجابوا لله والرسول من بعد ماأصابهم القرح ولم يقتل يومئذ من المشركين إلا نفر قليل وقصد العدو رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتهدوا في قتله وكان ممن ذب عنه
8
99(189/71)
يومئذ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وجعل يرمي عنه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له ارم فداك أبي وأمي وفي الصحيحين عن سعد قال جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبويه يوم أحد وكان سعد مجاب الدعوة مسدد الرمية وكان فيهم أبو طلحة راميا وكان شديد النزع وطلحة بن عبيد الله وقي النبي صلى الله عليه وسلم بيده فشلت يده وظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين وقتل دونه نفر قال ابن إسحاق في السيرة في النفر الذين قاموا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ترس دون النبي صلى الله عليه وسلم أبو دجانة بنفسه يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه متى كثر فيه النبل ورمى سعد بن أبي وقاص دون النبي صلى الله عليه وسلم قال سعد فلقد رأيته يناولني النبل ويقول ارم فداك أبي وأمي حتى إنه ليناولني السهم ماله نصل فيقول ارم
8
100
وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين غشيه القوم من رجل يشرى لنا نفسه فقام زياد بن السكن في نفر خمسة من الأنصار وبعض الناس يقول إنما هو عمارة بن زيد بن السكن فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا ثم رجلا يقتلون دونه حتى كان آخرهم زياد أو عمارة فقاتل حتى أثبتته الجراح ثم فاءت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم أدنوه منى فأدنوه منه فوسده قدمه فمات وخده على قدم النبي صلى الله عليه وسلم قال وحدثنى عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى انعرقت سيتها فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنيه وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها بيده وكانت أحسن عينيه وأحدهما
8
101(189/72)
ولم يكن علي ولا أبو بكر ولا عمر من الذين كانوا يدفعون عن النبي صلى الله عليه وسلم بل كانوا مشغولين بقتال آخرين وجرح النبي صلى الله عليه وسلم في جبينه ولم يجرح علي فقوله إن عليا قال أصابتني يوم أحد شت عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهن كذب على علي وليس هذا الحديث في شئ من الكتب المعروفة عند أهل العلم فأين إسناد هذا ومن الذي صححه من أهل العلم وفي أي كتاب من الكتب التي يعتمد على نقلها ذكر هذا بل الذي جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثير من الصحابة قال ابن إسحاق فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس فجاء
8
102
به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منه فوجد له ريحا فعافه فلم يشرب منه وغسل عن وجه الدم وصب على رأسه وهو يقول اشتد غضب الله على من أدمى وجه نبيه وقوله إن عثمان جاء بعد ثلاثة أيام كذب آخر وقوله إن جبريل قال وهو يعرج لا سيف إلا ذو الفقا ر ولا فتى إلا علي كذب باتفاق الناس فإن ذا الفقار لم يكن لعلي ولكن كان سيفا لأبي جهل غنمه المسلمون يوم بدر فروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس قال تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه
8
103
ذا الفقار يوم بدر وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد قال رأيت في سيفي ذي الفقار فلا فأولته فلا يكون فيكم ورأيت أني مردف كبشا فأولته كبش الكتيبة ورأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة ورأيت بقرا تذبح فبقر والله خير فكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الكذب المذكور في ذي الفقار من جنس كذب بعض الجهال أنه كان له سيف يمتد إذا ضرب به كذا وكذا ذراعا فإن هذا مما يعلم العلماء أنه لم يكن قط لا سيف علي ولا غيره ولو كان سيفه يمتد لمده يوم قاتل معاوية
8
104(189/73)
وقال بعض الجهال إنه مد يده حتى عبر الجيش على يده بخيبر وإنه قال للبغلة قطع الله نسلك فانقطع نسلها هذا من الكذب البين فإنه يوم خيبر لم يكن معهم بغلة ولا كان للمسلمين بغلة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا بغلته التي أهداها له المقوقس وذلك بعد غزوة خيبر بعد أن أرسل إلى الأمم وأرسل إلى ملوك الأرض هرقل ملك الشام وإلى المقوقس ملك مصر وإلى كسرى ملك الفرس وأرسل إلى ملوك العرب مثل صاحب اليمامة وغيره وأيضا فالجيش لم يعبر أحد منهم على يد علي ولا غيره والبغلة لم تزل عقيما قبل ذلك ولم تكن قبل ذلك تلد فعقمت ولو قدر أنه دعا على بغلة معينة لم تعم الدعوة جنس البغال ومثل هذا الكذب الظاهر قول بعض الكذابين إنه لما سبى بعض أهل البيت حملوا على الجمال عرايا فنبتت لهم سنامات من يومئذ وهي البخاتي وأهل البيت لم يسب أحد منهم في الإسلام ولا حمل أحد من نسائهم مكشوف العورة وإنما جرى هذا على أهل البيت في هذه الأزمان بسبب الرافضة كما قد علمه الخاص والعام بل هذا الكذب مثل كذب من يقول إن الحجاج قتل الأشراف والحجاج لم يقتل أحدا من بني هاشم مع ظلمة وفتكه بكثير من
8
105(189/74)
غيرهم لكن قتل كثيرا من أشراف العرب وكان الملك قد أرسل إليه أن لا يقتل أحدا من بني هاشم وذكر له أنه لما قتل الحسين في ولاية بني حرب يعني ملك يزيد أصابهم شر فاعتبر عبد الملك بذلك فنهاه أن يقتل أحدا من بني هاشم حتى أن الحجاج طمع أن يتزوج هاشمية فخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته وأصدقها صداقا كثيرا فأجابه عبد الله إلى ذلك فغضب من ذلك من غضب من أولاد عبد الملك ولم يروا الحجاج أهلا لأن يتزوج واحدة من بني هاشم ودخلوا على عبد الملك وأخبروه بذلك فمنع الحجاج من ذلك ولم يروه كفؤا لنكاح هاشمية ولا أن يتزوجها وبالجملة فالأحاديث التي ينقلها كثير من الجهال لا ضابط لها لكن منها ما يعرف كذبه بالعقل ومنها ما يعرف كذبه بالعادة ومنها ما يعرف كذبه بأنه خلاف ما علم بالنقل الصحيح ومنها ما يعرف كذبه بطرق أخرى فصل قال الرافضي وفي غزاة الأحزاب وهي غزاة الخندق لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من عمل الخندق أقبلت
8
106
قريش يقدمها أبو سفيان وكنانة أهل تهامة في عشرة آلاف وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد ونزلوا من فوق المسلمين ومن تحتهم كما قال تعالى إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم سورة الأحزاب فخرج عليه الصلاة والسلام بالمسلمين مع ثلاثة آلاف وجعلوا الخندق بينهم واتفق المشركون مع اليهود وطمع المشركون بكثرتهم وموافقة اليهود وركب عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل ودخلا من مضيق في الخندق إلى المسلمين وطلبا المبارزة فقام علي وأجابه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه عمرو فسكت ثم طلب المبارزة ثانيا وثالثا وكل ذلك يقوم علي ويقول له النبي صلى الله عليه وسلم أنه عمرو فأذن له في الرابعة فقال له عمرو ارجع يا ابن أخي فما أحب أن أقتلك فقال له علي كنت عاهدت الله أن لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه وأنا أدعوك
8
107(189/75)
إلى الإسلام قال عمرو لا حاجة لي بذلك قال أدعوك إلى البراز قال ما أحب أن أقتلك قال علي بل أنا أحب أن أقتلك فحمى عمرو ونزل عن فرسه وتجاولا فقتله علي وانهزم عكرمة ثم انهزم باقي المشركين واليهود وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل علي لعمرو بن عبد ود أفضل من عبادة الثقلين والجواب أن يقال أولا أين إسناد هذا النقل وبيان صحته ثم يقال ثانيا قد ذكر في هذه الغزوة أيضا عدة أكاذيب منها قوله أن قريشا وكنانة وأهل تهامة كانوا في عشرة آلاف فالأحزاب كلهم من هؤلاء ومن أهل نجد تميم وأسد وغطفان ومن اليهود كانوا قريبا من عشرة آلاف والأحزاب كانوا ثلاثة أصناف قريش وحلفاؤها وهم أهل مكة ومن حولها وأهل نجد تميم وأسد وغطفان ومن دخل معهم واليهود بنو قريظة وقوله إن عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل ركبا ودخلا من مضيق في الخندق
8
108(189/76)
وقوله إن عمرا لما قتل وانهزم المشركون واليهود هذا من الكذب البارد فإن المشركين بقوا محاصرين للمسلمين بعد ذلك هم واليهود حتى خبب بينهم نعيم بن مسعود وأرسل الله عليهم الريح الشديدة ريح الصبا والملائكة من السماء كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا إذ جاءتكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذا يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا سورة الآحزاب إلى قوله وكفى الله المؤمنين القتال سورة الأحزاب وهذا يبين أن المؤمنين لم يقاتلوا فيها وأن المشركين ماردهم الله بقتال وهذا هو المعلوم المتواتر عند أهل العلم بالحديث والتفسير والمغازي والسير والتاريخ فكيف يقال بأنه باقتتال علي وعمرو بن عبد ود وقتله له انهزم المشركون والحديث الذي ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قتل علي لعمرو بن عبد ود أفضل من عبادة الثقلين من الأحاديث
8
109(189/77)
الموضوعة ولهذا لم يروه أحد من علماء المسلمين في شئ من الكتب التي يعتمد عليها بل ولا يعرف له إسناد صحيح ولا ضعيف وهو كذب لا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يجوز أن يكون قتل كافر أفضل من عبادة الجن والإنس فإن ذلك يدخل فيه عبادة الأنبياء وقد قتل من الكفار من كان قتله أعظم من قتل عمرو بن عبد ود وعمرو هذا لم يكن فيه من معاداة النبي صلى الله عليه وسلم ومضارته له وللمؤمنين مثل ما كان في صناديد قريش الذين قتلوا ببدر مثل أبي جهل وعقبة بن أبي معيط وشبية بن ربيعة والنضر بن الحارث وأمثالهم الذين نزل فيهم القرآن وعمرو هذا لم ينزل فيه شئ من القرآن ولاعرف له شئ ينفرد به في معاداة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وعمرو بن عبد ود هذا لم يعرف له ذكر في غزاة بدر ولا أحد ولا غير ذلك من مغازى قريش التي غزوا فيها النبي صلى الله عليه وسلم ولا في شئ من السرايا ولم بشتهر ذكره إلا في قصة الخندق مع أن قصته ليست مذكورة في الصحاح ونحوها كما نقلوا في الصحاح مبارزة الثلاثة يوم بدر إلى الثلاثة مبارزة حمزة وعبيدة وعلي مع عتبة وشبية والوليد وكتب التفسير والحديث مملوءة بذكر المشركين الذين كانوا يؤذون
8
110(189/78)
النبي صلى الله عليه وسلم مثل أبي جهل وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وغيرهم وبذكر رؤساء الكفار مثل الوليد بن المغيرة وغيره ولم يذكر أحد عمرو بن عبد ود لا في هؤلاء ولا في هؤلاء ولا كان من مقدمي القتال فكيف يكون قتل مثل هذا أفضل من عبادة الثقلين ومن المنقول بالتواتر أن الجيش لم ينهزم بقتله بل بقوا بعده محاصرين مجدين كما كانوا قبل قتله فصل قال الرافضي وفي غزاة بني النضير قتل علي رامي ثنيةالنبي صلى الله عليه وسلم وقتل بعده عشرة وانهزم الباقون والجواب أن يقال ما تذكره في هذه الغزاة وغيرها من الغزاوات من المنقولات لابد من ذكر إسناده أولا وإلا فلو أراد إنسان أن يحتج بنقل لا يعرف إسناده في جزرة بقل لم يقبل منه فكيف يحتج به في مسائل الأصول
8
111
ثم يقال ثانيا هذا من الكذب الواضح فإن بني النضير هم الذين أنزل الله فيهم سورة الحشر باتفاق الناس وكانوا من اليهود وكانت قصتهم قبل الخندق وأحد ولم يذكر فيها مصاف ولا هزيمة ولارمي أحد ثنية النبي صلى الله عليه وسلم فيها وإنما أصيبت ثنيته يوم أحد وكان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في غزاة بني النضير قد حاصروهم حصارا شديدا وقطعوا نخيلهم وفيهم أنزل الله تعالى ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفاسقين سورة الحشر ولم يخرجوا لقتال حتى ينهزم أحد منهم وإنما كانوا في حصن يقاتلون من ورائه كما قال تعالى لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى سورة الحشر ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أجلاهم إجلاء لم يقتلهم فيه قال تعالى هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ماظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتهم الله من حيث لم يحتسبوا سورة الحشر إلى قوله تعالى فاعتبروا يا أولى الأبصار سورة الحشر
8
112(189/79)
قال ابن إسحاق بعد أن ذكر نقضهم العهد وأنهم أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إليهم يستعين بهم في دية القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية قال فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير إليهم وبالتهيؤ لحربهم واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم فيما ذكر ابن هشام ونزل تحريم الخمر قال اين إسحاق فتحصنوا في الحصون فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخيل والتحريق فيها فنادوه أي محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه فما بال قطع النخيل وتحريقها قال وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج قد بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم إن قوتلتم قاتلنا معكم وإن خرجتم خرجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا وقذف الله في قلوبهم الرعب وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
8
113
يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة ففعل فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام قال وحدثنى عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أنهم استقلوا بالنساء والأموال والأبناء معهم الدفوف والمزامير والقينات يعزفن خلفهم بزهو وفخر ما رئي مثله من حي من الناس وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء فقسمها رسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة ذكرا فاقة وفقرا فأعطاهما النبي صلى الله عليه وسلم
8
114(189/80)
قال وأنزل الله تعالى في بني النضير سورة الحشر بأسرها يذكر فيها ماأصابهم من نقمة وما سلط به رسوله عليهم وما عمل فيهم وفي الصحيحين عن ابن عمر أن يهود بني النضير وبني قريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلى بني النضير وأقر قريظة ومن عليهم حتى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وسبى نساءهم وأولادهم وأموالهم وقسم أنفالهم بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنهم وأسلموا وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم بني قينقاع وهم قوم عبد الله ابن سلام ويهود بني حارثة وكل يهودي كان بالمدينة
8
115
فصل قال الرافضي وفي غزوة السلسلة جاء أعرابي فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن جماعة من العرب قصدوا أن يكبسوا عليه بالمدينة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من للوائي فقال أبو بكر أنا له فدفع إليه اللواء وضم إليه سبعمائة فلما وصل إليهم قالوا ارجع إلى صاحبك فإنا في جمع كثير فرجع فقال في اليوم الثاني من للوائي فقال عمر نا فدفع إليه الراية ففعل كالأول فقال في اليوم الثالث أين علي فقال علي أنا ذا يا رسول الله
8
116(189/81)
فدفع إليه الراية ومضى إلى القوم ولقيهم بعد صلاة الصبح فقتل منهم ستة أو سبعة وانهزم الباقون وأقسم الله تعالى بفعل أمير المؤمنين فقال والعاديات ضبحا السورة سورة العاديات فالجواب أن يقال له أجهل الناس يقول لك بين لنا سند هذا حتى نثبت أن هذا نقل صحيح والعالم يقول له إن هذه الغزاة وما ذكر فيها من جنس الكذب الذي يحكيه الطرقية الذين يحكون الأكاذيب الكثيرة من سيرة عنترة والبطال وإن كان عنترة له سيرة مختصرة والبطال له سيرة يسيرة وهي ما جرى له في دولة بني أمية وغزوة الروم لكن ولدها الكذابون حتى صارت مجلدات وحكايات الشطار كأحمد الدنف والزيبق المصري وصاروا يحكون حكايات يختلقونها عن الرشيد وجعفر فهذه الغزاة من جنس هذه الحكايات لم يعرف في شئ من كتب المغازى والسير المعروفة عند أهل العلم ذكر هذه الغزاة ولم يذكرها أئمة هذا الفن فيه كموسى بن عقبة وعروة بن الزبير والزهري وابن إسحاق وشيوخه والواقدي ويحيى بن سعيد الأموي والوليد بن مسلم ومحمد بن عائذ وغيرهم ولا لها ذكر في الحديث ولا نزل فيها شئ من القرآن
8
117(189/82)
وبالجملة مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سيما غزوات القتال معروفة مشهورة مضبوطة متواترة عند أهل العلم بأحواله مذكورة في كتب أهل الحديث والفقه والتفسير والمغازي والسير ونحو ذلك وهي مما تتوفر الدواعي على نقلها فيمتنع عادة وشرعا أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم غزاة يجري فيها مثل هذه الأمور لا ينقلها أحد من أهل العلم بذلك كما يمتنع أن يكون قد فرض في اليوم والليلة أكثر من خمس صلوات أو فرض في العام أكثر من صوم شهر رمضان ولم ينقل ذلك وكما يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد غزا الفرس بالعراق وذهب إلى اليمن ولم ينقل ذلك أحدا وكما يمتنع أمثال ذلك مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله لو كان ذلك موجودا وسورة والعاديات فيها قولان أحدهما أنها نزلت بمكة وهذا يروى عن ابن مسعود وعكرمة وعطاء وغيرهم فعلى هذا يظهر كذب هذا القول والثاني أنها نزلت بالمدينة وهو مروى عن ابن عباس وقتادة وهذا القول يناسب قول من فسر العاديات بخيل المجاهدين لكن المشهور عن علي المنقول عنه في كتب التفسير أنه كان يفسر العاديات بإبل الحجاج وعدوها من مزدلفة إلى منى وهذا يوافق القول الأول فيكون على ما قاله علي يكذب هذا القول وكان ابن عباس والأكثر يفسرونها بالخيل العاديات في سبيل الله
8
118(189/83)
وأيضا ففي هذه الغزاة أن الكفار نصحوا المسلمين وقالوا لأبي بكر ارجع إلى صاحبك فإنا في جمع كثير ومعلوم أن هذا خلاف عادة الكفار المحاربين وأيضا فأبو بكر وعمر لم ينهزما قط وما ينقله بعض الكذابين من انهزامهما يوم حنين فهو من الكذب المفترى فلم يقصد أحد المدينة إلا يوم الخندق وأحد ولم يقرب أحد من العدو المدينة للقتال إلا في هاتين الغزاتين وفي غزوة الغبة الغاية بعض الناس على سرح المدينة وأما ما ذكر في غزوة السلسلة فهو من الكذب الظاهر الذي لا يذكره إلا من هو من أجهل الناس وأكذبهم وأما غزوة ذات السلاسل فتلك سرية بعث فيها النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص أميرا فيها لأن المقصودين كانوا بني عذرة وكان بينهم وبين عمرو بن العاص قرابة فأرسله إليهم لعلهم يسلمون ثم أردفه بأبي عبيدة بن الجراح وليس لعلي فيها ذكر وكانت قريبا من الشام بعيدة من المدينة وفيها احتلم عمرو بن العاص في ليلة باردة فتيمم وصلى بأصحابه فلما أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم قال
8
119
يا عمر أصليت بأصحابك وأنت جنب قال إني سمعت الله يقول ولا تقتلوا أنفسكم سورة النساء فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على فعله ولم ينكره لما بين له عذره وقد تنازع الفقهاء هل قوله أصليت بأصحابك وأنت جنب استفهام أي هل صليت مع الجنابة فلما أخبره أنه تطهر بالتيمم ولم يكن جنبا أقره أو هو إخبار بأنه جنب والتيمم يبيح الصلاة وكان يرفع الجنابة على قولين والأول هو الأظهر فصل قال الرافضي وقتل من بني المصطلق مالكا وابنه وسبى كثيرا من جملتهم جويرية بنت الحرث ين أبي ضرار فاصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم فجاءها أبوها في ذلك
8
120(189/84)
اليوم فقال يا رسول الله ابنتي كريمة لا تسبي فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخيرها فقال أحسنت وأجملت ثم قال يا بنية لا تفضحي قومك قالت اخترت الله ورسوله والجواب أن يقال أولا لا بد من بيان إسناد كل ما يحتج به من المنقول أو عزوه إلى كتاب تقوم به الحجة وإلا فمن أين يعلم أن هذا وقع ثم يقول من يعرف السيرة هذا كله من الكذب من أخبار الرافضة التي يختلقونها فإنه لم ينقل أحد أن عليا فعل هذا في غزوة بني المصطلق ولا سبي جويرية بنت الحارث وهي لما سبيت كاتبت على نفسها فأدى عنها النبي صلى الله عليه وسلم وعتقت من الكتابة وأعتق الناس السبي لأجلها وقالوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقدم أبوها أصلا ولا خيرها وروى أبو داود عن عائشة قالت وقعت جويرية بنت الحارث بن
8
121
المصطلق في سهم ثابت بن قيس بن شماس أو ابن عم له فكاتبت على نفسها وكانت امرأة ملاحة لها في العين حظ تأخذها العين قالت عائشة فجاءت تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابتها فملا قامت على الباب فرأيتها كرهت مكانها وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرى منها مثل الذي رأيت فقالت يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث وإنه كان من أمري ما لا يخفى عليك وإني وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس وإني كاتبت على نفسي وجئتك تعينني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل لك فيما هو خير لك قالت وما هو يا رسول الله قال أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك قالت قد فعلت فلما تسامع الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية أرسلو ما في أيديهم من السبي واعتقوهم وقالوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فما رأينا امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها
8
122(189/85)
أعتق في سببها أكثر من مائة أهل بيت من بني المصطلق فصل قال الرافضي وفي غزوة خيبر كان الفتح فيها على يد أمير المؤمنين ودفع الراية إلى أبي بكر فانهزم ثم إلى عمر فانهزم ثم إلى علي وكان أرمد فتفل في عينيه وخرج فقتل مرحبا فانهزم الباقون وغلقوا عليهم الباب فعالجه أمير المؤمنين فقلعه وجعله جسرا على الخندق وكان الباب يغلقه عشرون رجلا ودخل المسلمون الحصن ونالوا الغنائم وقال عليه السلام والله ما قلعه بقوة خمسمائة رجل ولكن بقوة
8
123
ربانية وكان فتح مكة بواسطته والجواب بعد أن يقال لعنة الله على الكاذبين أن يقال من ذكر هذا من علماء النقل وأين إسناده وصحته وهو من الكذب فإن خيبر لم تفتح كلها في يوم واحد بل كانت حصونا متفرقة بعضها فتح عنوة وبعضها فتح صلحا ثم كتموا ما صالحهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم فصاروا محاربين ولم ينهزم فيها أبو بكر ولا عمر وقد روى أن عليا اقتلع باب الحصن وأما جعله جسرا فلا وقوله كان فتح مكة بواسطته من الكذب أيضا فإن عليا ليس له في فتح مكة أثر أصلا إلا كما لغيره ممن شهد الفتح والأحاديث الكثيرة المشهورة في غزوة الفتح تتضمن هذا وقد عزم علي على قتل حموين لأخته أجارتهما أخته أم هانئ فأجار رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجارت وقد هم بتزوج بنت أبي جهل حتى غضب النبي صلى الله عليه وسلم فتركه وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال كنا يوم الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليسرى
8
124(189/86)
وجعل الزبير على المجنبة اليمنى وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي فقال يا أبا هريرة ادع لي الأنصار فجاءوا يهرولون فقال يا معشر الأنصار هل ترون أوباش قريش قالوا نعم قال انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا وأحفى بيده ووضع يمينه على شماله وقال موعدكم الصفا فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه قال فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا فجاء أبو سفيان فقال يا رسول الله أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهوآمن وفي الصحيحين من حديث عروة بن الزبير قال لما سار رسول
8
125
الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشا خرج أبو سفيان ابن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة فقال أبو سفيان ما هذه لكأنها نيران عرفة فقال أبو سفيان ما هذه لكأنها نيران عرفة فقال بديل بن ورقاء نيران بني عمرو فقال أبو سفيان عمرو أقل من ذلك فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان فلما سار قال للعباس أمسك أبا سفيان عند خطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين فحبسه العباس فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم كتيبة كتيبة على أبي سفيان فمرت كتيبة فقال يا عباس من هذه قال هذه غفار قال مالي ولغفار ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك ثم مرت سعد بن هذيم فقال
8
126(189/87)
مثل ذلك ثم مرت سليم فقال مثل ذلك حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها قال من هؤلاء قال الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية فقال سعد بن عبادة يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الكعبة فقال أبو سفيان يا عباس حبذا يوم الذمار ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة قال وما قال قال قال كذا وكذا فقال كذب سعد ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة ثم أمر أن تركز رايته بالحجون فصل قال الرافضي وفي غزاة حنين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجها في عشر آلاف من المسلمين
8
127
فعانهم أبو بكر وقال لن نغلب اليوم من كثرة فنهزموا ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا تسعة من بني هاشم وأيمن بن أم أيمن وكان أمير المؤمنين يضرب بين يديه بالسيف وقتل من المشركين أربعين نفسا فانهزموا والجواب بعد المطالبة بصحة النقل أما قوله فعانهم أبو بكر فكذب مفترى وهذه كتب الحديث والسير والمغازي والتفسير لم يذكر أحد قوله إن أبا بكر عانهم واللفظ المأثور لن نغلب اليوم من قلة فإنه قد قيل إنه قد قاله بعض المسلمين وكذلك قوله لم يبق معه إلا تسعة من بني هاشم هو كذب أيضا قال ابن إسحاق في السيرة بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته وممن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث
8
128(189/88)
وابنه والفضل بن العباس وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن بن أم أيمن وبعض الناس يعد فيهم قثم بن العباس ولا يعد ابن أبي سفيان هذا من كلام ابن إسحاق وقوله إن عليا كان بين يديه يضرب بالسيف وإنه قتل أربعين نفسا فكل هذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث والمغازي والسير والذي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما وافوا وادي حنين عند الفجر وكان القوم رماه فرموهم رمية واحدة فولوا وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس وأبو سفيان بن الحارث وكان شاعرا يهجو النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم فحسن إسلامه فثبت معه يومئذ قال العباس لزمت أنا وأبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه قال البراء بن عازب وأمر النبي صلى الله عليه وسلم العباس أن ينادى فيهم وكان العباس جهوري الصوت فنادى
8
129
يا أهل الشجرة يا أهل سورة البقرة يعني الشجرة التي بايعوا تحتها فذكرهم ببيعته لهم هناك على أن لا يفروا وعلى الموت فتنادوا يالبيك وعطفوا عليه عطفة البقر على أولادها فقاتلوا حتى انهزم المشركون وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ كفا من حصباء فرمى بها القوم وقال انهزموا ورب الكعبة وكان علي بغلته وهو يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب وهذا مارواه أهل الصحيحين وفي الصحيحين عن البراء وسأله رجل قال أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة فقال أشهد أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى ولكنه انطلق أخفاء من الناس وحسر إلى هذا الحي من هوازن وهم
8
130(189/89)
قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود بغلته فنزل ودعا واستنصر وهو يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم أنزل نصرك قال البراء وكنا إذا احمر البأس نتقي به وكان الشجاع منا الذي يحاذي به يعني النبي صلى الله عليه وسلم وفي حديث سلمة بن الأكوع لما غشوا النبي صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب الأرض واستقبل بها وجوههم فقال شاهت الوجوه فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين فهزمهم الله وقسم رسول الله
8
131
صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين رواه مسلم فصل قال الرافضي الخامس إخباره بالغائب والكائن قبل كونه فأخبر أن طلحة والزبير لما استأذناه في الخروج إلى العمرة قال لا والله ما تريدان العمرة وإنما تريدان البصرة وكان كما قال وأخبر وهو بذى قار جالس لأخذ البيعة يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل لا يزيدون ولا ينقصون يبايعونني على الموت وكان كذلك وكان آخرهم أويس القرني وأخبر بقتل ذى الثدية وكان كذلك وأخبره شخص بعبور القوم في قصة النهروان فقال لن
8
132
يعبروا ثم أخبره آخر بذلك فقال لم يعبروا وإنه والله لمصرعهم فكان كذلك وأخبر بقتل نفسه الشريفة وأخبر شهربان بأن اللعين يقطع يديه ورجليه ويصلبه ففعل به معاوية ذلك وأخبر ميثم التمار بأنه يصلب على باب دار عمرو بن
8
133
حريث عاشر عاشرة وهو أقصرهم خشبة وأراه النخلة التي يصلب عليها فوقع كذلك وأخبر رشيد الهجري بقطع يديه ورجليه وصلبه وقطع لسانه فوقع وأخبر كميل بن زياد أن الحجاج يقتله وأن قنبرا يذبحه الحجاج فوقع
8
134(189/90)
وقال للبراء بن عازب إن ابني الحسين يقتل ولا تنصره فكان كما قال وأخبره بموضع قتله وأخبر بملك بني العباس وأخذ الترك الملك منهم فقال ملك بني العباس يسير لا عسر فيه لو اجتمع عليهم الترك والديلم والهند والبربر والطيلسان على أن يزيلوا ملكهم ما قدروا أن يزيلوه حتى يشذ عنهم مواليهم وأرباب دولتهم ويسلط عليهم ملك من الترك يأتي عليهم من حيث بدأ ملكهم لا يمر بمدينة إلا فتحها ولا يرفع له راية إلا نكسها الويل ثم الويل لمن ناوأه فلا يزال كذلك حتى يظفر بهم ثم يدفع ظفره إلى رجل من عترتي يقول بالحق ويعمل به ألا وإن الأمر كذلك حيث ظهر هولاكو من ناحية خراسان
8
135
ومنه ابتدأ ملك بني العباس حتى بايع لهم أبو مسلم الخراساني والجواب أن يقال أما الإخبار ببعض الأمور الغائبة فمن هو دون علي يخبر بمثل ذلك فعلى أجل قدرا من ذلك وفي أتباع أبي بكر وعمر وعثمان من يخبر بأضعاف ذلك وليسوا ممن يصلح للإمامة ولا هم أفضل أهل زمانهم ومثل هذا موجود في زماننا وغير زماننا وحذيفة بن اليمان وأبو هريرة وغيرهما من الصحابة كانوا يحدثون الناس بأضعاف ذلك وأبو هريرة يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحذيفة تارة يسنده وتارة لا يسنده وإن كان في حكم المسند وما أخبر به هو وغيره قد يكون مما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وقد يكون مما كوشف هو به وعمر رضي الله عنه قد أخبر بأنواع من ذلك والكتب المصنفة في كرامات الأولياء وأخبارهم مثل ما في كتاب الزهد للإمام أحمد وحلية الإولياء وصفوة الصفوة وكرامات الأولياء لأبي محمد الخلال وابن أبي الدنيا واللالكائي فيها من الكرامات عن بعض أتباع أبي بكر وعمر كالعلاء بن الحضرمي نائب أبي بكر وأبي مسلم الخولاني تعض أتباعهما وأبي الصهباء وعامر ابن عبد قيس وغير هؤلاء ممن على أعظم منه وليس في ذلك ما يدل
8
136(189/91)
على أنه يكون هو الأفضل من أحد من الصحابة فضلا عن الخلفاء وهذه الحكايات التي ذكرها عن علي لم يذكر لشئ منها إسنادا وفيها ما يعرف صحته وفيها ما يعرف كذبه وفيها مالا يعرف هل هو صدق أم كذب فالخبر الذي ذكره عن ملك الترك كذب على علي فإنه لم يدفع ظفره إلى رجل من العترة وهذا مما وضعه متأخروهم والكتب المنسوبة إلى علي أو غيره من أهل البيت في الأخبار بالمستقبلات كلها كذب مثل كتاب الجفر والبطاقة وغير ذلك وكذلك ما يضاف إليه من أنه كان عنده علم من النبي صلى الله عليه وسلم خصه به دون غيره من الصحابة وفي صحيح البخاري عن أبي حذيفة قال قلت لعلي هل عندكم شئ من الوحي مما ليس في القرآن فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت وما في هذه الصحيفة قال العقل وفكالك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر وكذلك ما ينقل عن غير علي من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم خصه بشئ من علم الدين الباطن كل ذلك باطل
8
137
ولا ينافى ذلك ما في الصحيحين عن أبي هريرة قال حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين أما أحدهما فبثثته فيكم وأما الآخر فلو أبثه لقطعتم هذا البلعوم فإن هذا حديث صحيح ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم خص أبا هريرة بما في ذلك الجراب بل كان أبو هريرة أحفظ من غيره فحفظ مالم يحفظه غيره وكذلك قال حذيفة والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة بيني وبين الناس وما بي أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى في ذلك شيئا لم يحدثه غيري ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدث مجلسا أنا فيه الحديث وقال إنه لم يبق من الرهط غيره وفي الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقام ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه وحديث أبي زيد عمرو بن أخطب في صحيح مسلم قال صلى(189/92)
8
138
بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر وصعد المنبر ثم خطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى بنا ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر فنزل فصلى بنا ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا وأبو هريرة أسلم عام خيبر فلم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا أقل من أربع سنين وذلك الجراب لم يكن فيه شئ من علم الدين علم الإيمان والأمر والنهي وإنما كان فيه الإخبار عن الأمور المستقبلة مثل الفتن التي جرت بين المسلمين فتنة الجمل وصفين وفتنة ابن الزبير ومقتل الحسين ونحو ذلك ولهذا لم يكن أبو هريرة ممن دخل في الفتن ولهذا قال ابن عمر لو حدثكم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم وتفعلون كذا وكذا لقلتم كذب أبو هريرة وأما الحديث الذي يروي عن حذيفة أنه صاحب السر الذي لا يعلمه غيره فرواه البخاري عن إبراهيم النخعي قال ذهب علقمة إلى الشام فلما دخل المسجد قال اللهم يسر لي جليسا صالحا فجلس إلى أبي الدرداء فقال أبو الدرداء ممن أنت قال من أهل الكوفة قال أليس منكم أو فيكم الذي أجاره الله على لسان نبيه يعني من
8
139(189/93)
الشيطان يعني عمارا قال قلت بلى قال أليس منكم أو فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره قال قلت بلى الحديث وذلك السر كان معرفته بأعيان ناس من المنافقين كانوا في غزوة تبوك هموا بأن يحلوا حزام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل ليسقط فأعلمه الله بهم وكان حذيفة قريبا فعرفه بهم وكان إذا مات الميت المجهول حاله لا يصلى عليه عمر حتى يصلى عليه حذيفة خشية أن يكون من المنافقين ومعرفة بعض الصحابة والصالحين ببعض المستقبلات لا توجب أن يكون عالما بها كلها والغلاة الذين كانوا يدعون علم علي بالمستقبلات مطلقا كذب ظاهر فالعلم ببعضها ليس من خصائصه والعلم بها كلها لم يحصل له ولا لغيره ومما يبين لك أن عليا لم يكن يعرف المستقبلات أنه في ولايته وحروبه في زمن خلافته كان يظن أشياء كثيرة فيتبين له الأمر بخلاف ما
8
140(189/94)
ظن ولو ظن أنه إذا قاتل معاوية وأصحابه يجري ما جرى لم يقاتلهم فإنه كان لو لم يقاتل أعز وانتصر وكان أكثر الناس معه وأكثر البلاد تحت ولايته فلما قاتلهم ضعف أمره حتى صار معهم كثير من البلاد التي كانت في طاعته مثل مصر واليمن وكان الحجاز دولا ولو علم أنه إذا حكم الحكمين يحكمان بما حكم لم يحكمهما ولو علم أن أحدهما يفعل بالآخر ما فعل حتى يعزلاه لم يول من يوافق على عزل ولا من خذله الحكم الآخر بل قد أشار عليه من أشار أن يقر معاوية على إمارته في ابتداء الأمر حتى يستقيم له الأمر وكان هذا الرأي أحزم عند الذين ينصحونه ويحبونه ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ولى أبا سفيان أبا معاوية نجران وكان واليا عليها حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم وقد اتفق الناس على أن معاوية كان أحسن إسلاما من أبيه ولم يتهم أحد من الصحابة والتابعين معاوية بنفاق واختلفوا في أبيه والصديق كان قد ولى أخاه يزيد بن أبي سفيان أحد الأمراء في فتح الشام لما ولى خالدا وأبا عبيدة ويزيد بن أبي سفيان لما فتحوا الشام بقي أمير إلى أن مات بالشام وكان من خيار الصحابة رجلا صالحا
8
141
أفضل من أخيه وأبيه ليس هذا هو يزيد بن معاوية الذي تولى بعد معاوية الخلافة فإن ذاك ولد في خلافة عثمان لم يكن من الصحابة ولكن سمى باسم عمه فطائفة من الجهال يظنون يزيد هذا من الصحابة وبعض غلاتهم يجعله من الأنبياء كما أن آخرين يجعلونه كافرا أو مرتدا وكل ذلك باطل بل هو خليفة من بني أمية والحسين رضي الله عنه ولعن قاتله قتل مظلوما شهيدا في خلافته بسبب خلافة لكنه هو لم يأمر بقتله ولم يظهر الرضا به ولا انتصر ممن قتله ورأس الحسين حمل إلى قدام عبيدة الله بن زياد وهو الذي ضربه بالقضيب على ثناياه وهو الذي ثبت في الصحيح
8
142(189/95)
وأما حمله إلى عند يزيد فباطل وإسناده منقطع وعمه يزيد الرجل الصالح هو من الصحابة توفي في خلافة عمر فلما مات ولى معاوية مكان أخيه وعمر من أعلم الناس بأحوال الرجال وأحذقهم في السياسة وأبعد الناس عن الهوى لم يول في خلافته أحدا من أقاربه وإنما كان يختار للولاية من يراه أصلح لها فلم يول معاوية إلا وهو عنده ممن يصلح للإمارة ثم لما توفي زاد عثمان في ولاية معاوية حتى جمع له الشام وكانت الشام في خلافة عمر أربعة أرباع فلسطين ودمشق وحمص والأردن ثم بعد ذلك فصلت قنسرين والعواصم من ربع حمص ثم بعد هذا عمرت حلب وخربت قنسرين وصارت العواصم دولا بين المسلمين وأهل الكتاب وأقام معاوية نائبا عن عمر وعثمان عشرين سنة ثم تولى عشرين سنة ورعيته شاكرون لسيرته وإحسانه راضون به حتى أطاعوه في مثل قتال علي ومعلوم أنه خير من أبيه أبي سفيان وكانت ولايته أحق بالجواز من ولاية أبيه فلا يقال إنه لم تكن تحل ولايته ولو قدر أن غيره كان
8
143(189/96)
أحق بالولاية منه أو أنه ممن يحصل به معونة لغيره ممن فيه ظلم لكان الشر المدفوع بولايته أعظم من الشر الحاصل بولايته وأين أخذ المال وارتفاع بعض الرجال من قتل الرجال الذين قتلوا بصفين ولم يكن في ذلك عز ولا ظفر فدل هذا وغيره على أن الذين أشارو على أمير المؤمنين كانوا حازمين وعلى إمام مجتهد لم يفعل إلا ما رآه مصلحة لكن المقصود أنه لو كان يعلم الكوائن كان قد علم إن إقراره على الولاية أصلح له من حرب صفين التي لم يحصل بها إلا زيادة الشر وتضاعفه لم يحصل بها من المصلحة شيء وكانت ولايته أكثر خيرا وأقل شرا من محاربته وكل ما يظن في ولايته من الشر فقد كان في محاربته أعظم منه وهذا وأمثاله كثير مما يبين جهل من يقول إنه كان يعلم الأمور المستقبلية بل الرافضة تدعى الأمور المتناقضة يدعون عليه علم الغيب مع هذه الأمور المنافية لذلك ويدعون له من الشجاعة ما يزعمون معه أنه كان هو الذي ينصر النبي صلى الله عليه وسلم في مغازيه وهو الذي قام الإسلام بسيفه في أول الأمر مع ضعف الإسلام ثم يذكرون من عجزه عن مقاومة أبي بكر رضي الله عنه مع ضعفه عندهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ما يناقض ذلك فإن
8
144(189/97)
أبا بكر رضي الله عنه لم يكن له بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم مال يستعطف به الناس ولا كان له قبيلة عظيمة ينصرونه ولا موال ولا دعا الناس إلى بيعته لا برغبة ولا برهبة وكان علي رضي الله عنه على دفعه أقدر منه على دفع الكفار الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وسلم بكثير فلو كان هو الذي دفع الكفار ولو كان مريدا لدفع أبي بكر رضي الله عنه لكان على ذلك أقدر لكنهم يجمعون بين المتناقضين وكذلك في حربه لمعاوية قد قهر وعسكره أعظم وتحت طاعته من هم أفضل وأكثر من الذين تحت طاعة معاوية وهو رضي الله عنه لا ريب أنه كان يريد أن يقهر معاوية وعكسره فلو كان هو الذي نصر النبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة الكفار وضعف المسلمين وقلتهم لكان مع كثرة عسكره على عسكر معاوية أقدر على قهر معاوية وجيشه منه على قهر الكفار الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يجمع بين تلك الشجاعة والقوة وبين هذا العجز والضعف إلا من هو جاهل متناقض بل هذا يدل على أن النصر كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله أيده بنصره وبالمؤمنين كلهم وعلي وغيره من المؤمنين الذين أيده الله بهم وكان تأييده بأبي بكر وعمر أعظم من تأييده بغيرهما من وجوه كثيرة
8
145(189/98)
ومما يبين أن عليا لم يكن يعلم المستقبل أنه ندم على أشياء مما فعلها وكان يقول لقد عجزت عجزة لا أعتذر سوف أكيس بعدها وأستمر وأجمع الرأي الشتيت المنتشر وكان يقول ليالي صفين يا حسن يا حسن ما ظن أبوك أن الأمر يبلغ هذا لله در مقام قامه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر إن كان برا إن أجره لعظيم وإن كان إثما إن خطره ليسير وهذا رواه المصنفون وتواتر عنه أنه كان يتضجر ويتململ من اختلاف رعيته علي وأنه ما كان بعض يظن أن الأمر يبلغ ما بلغ وكان الحس رأيه ترك القتال وقد جاء النص الصحيح بتصويب الحسن وفي البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن ابني هذا سيد وإن الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين فمدح الحسن على الإصلاح بين الطائفتين وسائر الأحاديث الصحيحة تدل على أن القعود عن القتال والإمساك عن الفتنة كان أحب إلى الله ورسوله وهذا قول أئمة السنة وأكثر ائمة الإسلام وهذا ظاهر في الاعتبار فإن محبة الله ورسوله للعمل بظهور ثمرته فما كان أنفع للمسلمين في دينهم ودنياهم كان أحب إلى الله
8
146(189/99)
ورسوله وقد دل الواقع على أن رأى الحسن كان أنفع للمسلمين لما ظهر من العاقبة في هذا وفي هذا وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول للحسن وأسامة اللهم أني أحبها فأحبهما وأحب من يحبهما وكلاهما كان يكره الدخول في القتال أما أسامة فإنه اعتزل القتال فطلبه علي ومعاوية فلم يقاتل مع واحد من هؤلاء كما اعتزل أكثر فضلاء الصحابة رضي الله عنهم مثل سعد بن أبي وقاص وابن عمر ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت وأبي هريرة وعمران بن حصين وأبي بكرة وغيرهم وكان ما فعله الحسن أفضل عند الله مما فعله الحسين فإنه وأخاه سيدا شباب أهل الجنة فقتل الحسين شهيدا مظلوما وصار الناس في قتله ثلاثة أحزاب حزب يرون أنه قتل بحق ويحتجون بما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق بين جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان قالوا وهو جاء والناس على رجل واحد فأراد أن يفرق جماعتهم وحزب يرون أن الذين قاتلوه كفارا بل يرون أن من لم يعتقد إمامته كافر
8
147(189/100)
والحزب الثالث وهم أهل السنة والجماعة يرون أنه قتل مظلوما شهيدا والحديث المذكور لا يتناوله بوجه فإنه رضي الله عنه لما بعث ابن عمه عقيلا إلى الكوفة فبلغه أنه قتل بعد أن بايعه طائفة فطلب الرجوع إلى بلده فخرج إليه السرية التي قتلته فطلب منهم أن يذهبوا به إلى يزيد أو يتركوه يرجع إلى مدينته أو يتركوه يذهب إلى الثغر للجهاد فامتنعوا من هذا وهذا وطلبوا أن يستأسر لهم ليأخذوه أسيرا ومعلوم باتفاق المسلمين أن هذا لم يكن واجبا عليه وأنه كان يجب تمكينه مما طلب فقاتلوه ظالمين له ولم يكن حينئذ مريدا لتفريق الجماعة ولا طالبا للخلافة ولا قاتل على طلب خلافة بل قائل دفعا عن نفسه لمن صال عليه وطلب اسره وظهر بطلان قول الحزب الأول وأما الحزب الثاني فبطلان قوله يعرف من وجوه كثيرة من أظهرها أن عليا لم يكفر أحدا ممن قاتله حتى ولا الخوارج ولا سبى ذرية أحد منهم ولا غنم ما له ولا حكم في أحد ممن قاتله بحكم المرتدين كما حكم أبو بكر وسائر الصحابة في بني حنيفة وأمثالهم من المرتدين بل على كان يترضى عن طلحة والزبير وغيرهما ممن قاتله ويحكم فيهم وفي أصحاب معاوية ممن قاتله بحكم المسلمين وقد ثبت بالنقل الصحيح أن مناديه نادى يوم الجمل لا يتبع مدبر
8
148(189/101)
ولا يجهز على جريح ولا يغنم مال وهذا مما أنكرته الخوارج عليه حتى ناظرهم ابن عباس رضي الله عنه في ذلك كما ذكر ذلك في موضعه واستفاضت الآثار عنه أنه كان يقول عن قتلى عسكر معاوية إنهم جميعا مسلمون ليسوا كفارا ولا منافقين كما قد ذكر في غير هذا الموضع وكذلك عمار وغيره من الصحابة وكانت هذه الأحزاب الثلاثة بالعراق وكان بالعراق أيضا طائفة ناصبة من شيعة عثمانتبغض عليا والحسين وطائفة من شيعة علي تبغض عثمان وأقاربه وقد ثبت في صحيح مسلم عن أسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سيكون في ثقيف كذاب ومبير فكان الكذاب الذي فيها هو المختار بن عبيد وكان الحجاج هو المبير وكان هذا يتشيع لعثمان ويبغض شيعة علي وكان الكذاب يتشيع لعلي حتى قاتل عبيد الله بن زياد وقتله ثم أدعى أن جبريل يأتيه فظهر كذبه وانقسم الناس بسبب هذا يوم عاشوراء الذي قتل فيه الحسين إلى قسمين فالشيعة اتخذته يوم مأتم وحزن يفعل فيه من المنكرات ما
8
149(189/102)
لا يفعله إلا من هو من إجهل الناس وأضلهم وقوم اتخذوه بمنزلة العيد فصاروا يوسعون فيه النفقات والأطعمة واللباس ورووا فيه أحاديث موضوعة كقوله من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته وهذا الحديث كذب على النبي صلى الله عليه وسلم قال حرب الكرماني سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال لا أصل له والمعروف عند أهل الحديث أنه يرويه سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه أنه قال بلغنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته قال ابن عيينة جربناه من ستين سنة فوجدناه صحيحا قلت ومحمد بن المنتشر هذا من فضلاء الكوفيين لكن لم يكن يذكر ممن سمعه ولا عمن بلغه ولا ريب أن هذا أظهره بعض المتعصبين إلى السنة حتى على الحسين ليتخذ يوم قتله عيدا فشاع هذا عند الجهال المنتسبين روى في حديث أن يوم عاشوراء لأجرى كذا وجرى كذا حتى جعلوا أكثر حوادث الأنبياء كانت يوم عاشوراء مثل مجيء قميص يوسف إلى يعقوب ورد بصره وعافية أيوب وفداء الذبيح وأمثال هذا وهذا الحديث كذب موضوع وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وإن كان قد رواه هو في كتاب النور في
8
150(189/103)
فضائل الأيام الشهورة وذكر عن ابن ناصر شيخه أنه قال حديث صحيح وإسناده علي شرط الصحيح فالصواب ما ذكره في الموضوعات وهو آخر الأمرين منه وابن ناصر راج عليه ظهور حال رجاله وإلا فالحديث مخالف للشرع والعقل لم يروه أحد من أهل العلم المعروفين في شيء من الكتب وإنما دلس على بعض الشيوخ المتأخرين كما جرى مثل ذلك في أحاديث أخر حتى في أحاديث نسبت إلى مسند أحمد وليست منه مثل حديث رواه عبد القادر بن يوسف عن ابن المذهب عن القطيعي عن عبد الله عن أبيه عن عبد الله بن المثنى عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعودة وهذا القول صحيح متواتر عن السلف أنهم قالوا ذلك لكن رواية هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم كذب وعزوه إلى المسند لأحمد كذب ظاهر فإن مسنده موجود وليس هذا فيه
8
151
وأحمد إمام أهل السنة في زمن المحنة وقد جرى له في مسألة القرآن ما اشتهر في الآفاق وكان يحتج لأن القرآن كلام الله غير مخلوق بحجج كثيرة معروفة عنه ولم يذكر هذا الحديث قط ولا احتج به فكيف يكون هذا الحديث عنده ولا يحتج به وهذا الحديث إنما عرف عن هذا الشيخ وكان بعض من قرأ عليه دسه في جزء فقرأه عليه مع غيره فراج ذلك على من لم يكن له معرفة وكذلك حديث عاشوراء والذي صح في فضله هو صرمه وأنه يكفر سنة وأن الله نجى فيه موسى من الغرق وقد بسطنا الكلام عليه في موضع آخر وبينا أن كل ما يفعل فيه سوى الصوم بدعة مكروهة لم يستحبها أحد من الأئمة مثل الاكتحال والخضاب وطبخ الحبوب وأكل لحم الأضحية والتوسيع في النفقة وغير ذلك وأصل هذا من ابتداع قتلة الحسين ونحوهم وأقبح من ذلك وأعظم ما تفعله الرافضة من اتخاذه مأتما يقرأ فيه المصرع وينشد فيه قصائد النياحة ويعطشون فيه أنفسهم ويلطمون في الخدود ويشقون الجيوب ويدعون فيه بدعوى الجاهلية
8
152(189/104)
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية وهذا مع حدثان العهد بالمصيبة فكيف إذا كانت بعد ستمائة ونحو سبعين سنة وقد قتل من هو أفضل من الحسين ولم يجعل المسلمون ذلك اليوم مأتما وفي مسند أحمد عن فاطمة بنت الحسين وكانت قد شهدت قتله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدمت فيحدث لها استرجاعا إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها فهذا يبين أن السنة في المصيبة إذا ذكرت وإن تقادم عهدها أن يسترجع كما جاء بذلك الكتاب والسنة قال تعالى وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون سورة البقرة وأقبح من ذلك نتف النعجة تشبيها لها بعائشة والطعن في الجبس الذي في جوفه سمن تشبيها له بعمر وقول القائل يا ثارات أبي لؤلؤة إلى غير ذلك من منكرات الرافضة فإنه يطول وصفها
8
153
والمقصود هنا أن ما أحدثوه من البدع فهو منكر وما أحدثه من يقابل بالبدعة البدعة وينسب إلى السنة هو أيضا منكر مبتدع والسنة ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي برية من كل بدعة فما يفعل يوم عاشوراء من اتخاذه عيدا بدعة أصلها من بدع النواصب وما يفعل من اتخاذه مأتماص بدعة أشنع منها وهي من البدع المعروفة في الروافض وقد بسطنا هذه الأمور فصل قال الرافضي السادس أنه كان مستجاب الدعاء دعا علي بسر بن أرطاة بأن يسلبه الله عزو جل عقله فخولط فيه ودعا على العيزار بالعمى فعمي ودعا على أنس لما
8
154(189/105)
كتم شهادته بالبرص فأصابه وعلى زيد بن أرقم بالعمى فعمي والجواب أن هذا موجود في الصحابة أكثر منه وممن بعد الصحابة ما دام في الأرض مؤمن وكان سعد بن أبي وقاص لا تخطىء له دعوة وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اللهم سدد رميته واجب دعوته وفي صحيح مسلم أن عمر لما أرسل إلى الكوفة من يسأل عن سعد فكان الناس يثنون خيرا حتى سئل عنه رجل من بني عبس فقال أما إذا أنشدتمونا سعدا فكان لا يخرج في السرية ولا يعدل في الرعية ولا يقسم بالسوية فقال سعد اللهم إن كان كاذبا قام رياء وسمعه فأطل عمر وعظم فقره وعرضه للفتن فكان يرى وهو شيخ كبير تدلى حاجباه من الكبر يتعرض للجواري يغمزهن في الطرقات ويقول شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد
8
155
وكذلك سعيد بن زيد كان مستجاب الدعوة فروى حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه أن أروى بنت أوس استعدت مروان على سعيد وقالت سرق من أرضي ما أدخله في أرضه فقال سعيد اللهم إن كانت كاذبة فأذهب بصرها واقتلها في أرضها فذهب بصرها وماتت في أرضها والبراءة بن مالك كان يقسم على الله فيبر قسمه كما في الصحيح إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك والعلاء بن الحضرمي نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نائب أبي بكر رضي الله عنه على البحرين مشهور بإجابة الدعاء روى ابن أبي الدنيا بإسناده قال سهم بن منجاب غزونا مع العلاء بن الحضرمي دارين فدعا بثلاث دعوات فاستجاب الله له فيهن كلهن قال سرنا معه ونزلنا منزلا وطلبنا الوضوء فلم نقدر عليه فقام فصلى ركعتين ثم دعا الله فقال الله يا عليم يا حكيم يا علي يا عظيم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك فاسقنا غيثا نشرب منه
8
156(189/106)
ونتوضأ من الإحداث وإذا تركناه فلا تجعل فيه نصيبا لأحد غيرنا قال فما جاوزنا غير بعيد فإذا نحن ببئر من ماء السماء تتدفق قال فنزلنا فروينا وملأت إدواتي ثم تركتها وقلت لأنظرن هل استجيب له فسرنا ميلا أو نحوه فقلت لأصحابي إني نسيت إدواتي فجئت إلى ذلك المكان فكأنما لم يكن فيه ماء قط فأخذت إدواتي فلما أتيت دارين وبيننا وبينهم البحر فدعا لله فقال الله يا عليم يا حكيم يا علي يا عظيم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك فاجعل لنا سبيلا إلى عدوك ثم اقتحم بنا البحر فوالله ما ابتلت سروجنا ثم خرجنا إليهم فلما رجعنا اشتكى البطن فمات فلم نجد ماء نغسله فلففناه في ثيابه فدفناه فلما سرنا غير بعيد إذا نحن بماء كثير فقال بعضهم لبعض ارجعوا نستخرجه فنغسله فرجعنا فخفى علينا قبره فلم نقدر عليه فقال رجل من القوم إني سمعته يدعو الله يقول اللهم يا عليم يا حكيم يا علي يا عظيم اخف حفرتي ولا تطلع على عورتي أحدا فرجعناه وتركناه وقد كان عمر دعا بدعوات أجيب فيها من ذلك أنه لما نازعه بلال وطائفة معه في القسمة قسمة الأرض فقال اللهم اكفني بلالا وذويه فما حال الحول ومنهم عين تطرف
8
157
وقال اللهم قد كبرت سني وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مفتون ولا مضيع فمات من عامه ومثل هذا كثير جدا وقد صنف ابن أبي الدنيا في مجابي الدعوة كتابا مع أن هذه القصص المذكورة عن علي لم يذكر لها إسنادا فتتوقف على معرفة الصحة مع أن فيها ما هو كذب لا ريب فيه كدعائه عن أنس بالبرص ودعائه على زيد بن أرقم بالعمى فصل قال الرافضي السابع أنه لما توجه إلى صفين لحق أصحابه عطش شديد فعدل بهم قليلا فلاح لهم دبر فصاحوا بساكنه فسألوه عن الماء فقال بيني وبينه أكثر من فرسخين ولولا أني أوتي ما يكفيني كل شهر على التقتير لتلفت عطشا
8
158(189/107)
فأشار أمير المؤمنين إلى مكان قريب من الدير وأمر بكشفه فوجدوا صخرة عظيمة فعجزرا عن إزالتها فقلعها وحده ثم شربوا الماء فنزل إليهم الراهب فقال أنت نبي مرسل أو ملك مقرب فقال لا ولكني وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم على يده وقال إن هذا الدير بني على طالب هذه الصخرة ومخرج الماء من تحتها وقد مضى جماعة قبلي لم يدركوه وكان الراهب من جملة من استشهد معه ونظم القصة السيد الحميري في قصيدته والجواب أن هذا من جنس أمثاله من الأكاذيب التي يظنها الجهال من أعظم مناقب علي وليست كذلك بل الذي وضع هذه كان جاهلا بفضل علي وبما يستحقه من الممادح فإن الذي فيه من المنقبة أنه أشار إلى صخرة فوجدوا تحتها الماء وأنه قلعها ومثل هذا يجري لخلق كثير علي رضي الله عنه أفضل منهم بل في المحبين لأبي بكر
8
159(189/108)
وعمر وعثمان من يجري لهم أضعاف هذا وأفضل من هذا وهذا وإن كان إذا جرى على يد بعض الصالحين كان نعمة من الله وكرامة له فقد يقع مثل ذلك لمن ليس من الصالحين كثيرا وأما سائر ما فيها مثل قوله إن هذا الدير بنى على طالب هذه الصخرة ومخرج الماء من تحتها فليس هذا من دين المسلمين وإنما تبنى الكنائيس والديارات والصوامع على أسماء المقتدية بسير النصارى فأما المسلمون فلا يبنون معابدهم وهي المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه إلا على اسم الله لا على اسم مخلوق وقول الراهب أنت نبي مرسل أو ملك مقرب يدل على جهله وأنه من أضل الخلق فإن الملائكة لا تشرب الماء ولا تحتاج إلى أن تستخرجه من تحت صخرة ومحمد لا نبي بعده ومعلوم أن هذا الراهب قد سمع بخبر المسلمين الذين فتحوا تلك المواضع فإن كان يجوز أن يبعث رسول بعد المسيح فمحمد هو الرسول ومعجزاته ظاهرة باطنة فإن صدقه فقد علم أنه لا نبي بعده وإن لم يصدقه فكيف يعتقد في غيره أنه نبي مرسل بمجرد دلالته على ماء تحت صخرة أو لكون الدير بني على اسمه وهم وهم يبنون الديارات على أسماء خلق كثير ليسوا من الملائكة ولا الرسل وما فيه من قول علي ولكني وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم
8
160(189/109)
هو مما يبين أنه كذب على علي وأن عليا لم يدع هذا قط لا في خلافة الثلاثة ولا ليالي صفين وقد كانت له مع منازعيه مناظرات ومقامات ما ادعى هذا قط ولا ادعاه أحد له وقد حكم الحكمين وأرسل ابن عباس لمناظرة الخوارج فذكروا فضائله وسوابقه ومناقبه ولم يذكر أحد منهم قط أنه وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بدون هذه الأسباب الموجبة لنقله لو كان حقا فكيف مع هذه الأسباب فلما رووا فضائله ومناقبه كقوله عليه السلام لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وكقوله عام تبوك ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وقوله أنت مني وأنا منك وغير ذلك من فضائله ولم يرووا هذا مع مسيس الحاجة إلى ذكره ولا ادعاه علي قط مع مسيس الحاجة إلى ذكره علم أنه من جملة ما افتراه الكذابون فصل قال الرافضي الثامن ما رواه الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بني المصطلق حيث خرجوا عن
8
161
الطريق وأدركه الليل بقرب واد وعر فهبط جبريل وأخبره أن طائفة من كفار الجن قد استبطنوا الوادي يريدون كيده وإيقاع الشر بأصحابه فدعا بعلي وعوذه وأمره بنزول الوادي فقتلهم والجواب أن يقال أولا علي أجل قدرا من هذا وإهلاك الجن موجود لمن هو دون علي لكن هذا الحديث من الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى علي عند أهل المعرفة بالحديث ولم يجر في غزوة بني المصطلق شيء من هذا وقوله إن هذا رواه الجمهور إن أريد بذلك أنه مروى بإسناد ثابت أو في كتاب يعتمد على مجرد نقله أو صححه من يرجع إلى تصحيحه فليس كذلك وإن أراد أن جمهور العلماء رووه فهذا كذب وإن أراد أنه رواه من لا يقوم بروايته حجة فهذا لا يفيد ومن هذا الجنس ما يروى أنه قاتل الجن في بئر ذات العلم وهو حديث موضوع عند أهل المعرفة
8
162(189/110)
وعلي أجل قدرا من أن تثبت الجن لقتاله ولم يقاتل أحد من الإنس الجن بل كان الجن المؤمنون يقاتلون الجن الكفار وكان من أهل المعرفة أبو البقاء خالد بن يوسف النابلسي رحمه الله سأله بعض الشيعة عن قتال علي الجن فقال أنتم معشر الشيعة ليس لكم عقل أيما أفضل عندكم عمر أو علي فقالوا بل علي فقال إذا كان الجمهور يروون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمر ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك فإذا كان الشيطان يهرب من عمر فكيف يقاتل عليا وأيضا فدفع الجن والشياطين وإهلاكهم موجود لكثير من أتباع أبي بكر وعمر وعثمان وفي ذلك قصص يطول وصفها وقد روى ابن الجوزي في كتاب الموضوعات حديثا طويلا في محاربته للجن وأنه كان في الحج عام الحديبية وأنه حاربهم ببئر ذات العلم من طريق أبي بكر محمد بن جعفر بن محمد السامري حدثنا عبد الله بن أحمد السكوني حدثنا عمار بن يزيد حدثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق حدثني يحيى بن عبيد الله بن الحارث عن أبيه عن ابن عباس قال لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية إلى مكة أصاب الناس عطش شديد وحر شديد فنزل
8
163(189/111)
رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجفة معطشا والناس عطاش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل من رجل يمضي في نفر من المسلمين معهم القرب فيردون بئر ذات العلم ثم يعود يضمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة فذكر حديث طويلا فيه أنه بعث رجلا من الصحابة ففزع من الجن فرجع ثم بعث آخر وانشد شعرا فذعر من الجن فرجع ثم أرسل علي بن أبي طالب فنزل البئر وملأ القرب بعد هول شديد وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له الذي هتف بك من الجن هو سماعة بن غراب الذي قتل عدو الله مسعرا شيطان الأصنام الذي يكلم قريشا منها وفزع من هجائي ثم قال الشيخ أبو الفرج وهذا الحديث موضوع محال والفنيد ومحمد بن جعفر والسكوني مجروحون قال أبو الفتح الأودي وعمارة يضع الحديث قلت وكتب ابن إسحاق التي رواها عنه الناس ليس فيها شيء من هذا
8
164
فصل قال الرافضي التاسع رجوع الشمس له مرتين إحداهما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والثانية بعده أما الأولى فروى جابر وأبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عليه جبريل يوما يناجيه من عند الله فلما تغشاه الوحي توسد فخذ أمير المومنين فلم يرفع رأسه حتى غابت الشمس فصلى على العصر بالإيماء فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم قال له سل الله تعالى يرد عليك الشمس لتصلي العصر قائما فدعا فردت الشمس فصلى العصر قائما وأما الثانية فلما أراد أن يعبر الفرات ببابل اشتغل كثير من أصحابه بتعبير دوابهم وصلى لنفسه في طائفة من أصحابه العصر وفات كثير منهم فتكلموا في ذلك فسأل الله رد الشمس فردت ونظمه الحميري فقال
8
165(189/112)
ردت عليه الشمس لما فاته وقت الصلاة وقد دنت للمغرب حتى تبلج نورها في وقتها للعصر ثم هوت هوى الكوكب وعليه قد ردت ببابل مرة أخرى وما ردت لخلق معرب والجواب أن يقال فضل علي وولايته لله وعلو منزلته عند الله معلوم ولله الحمد من طرق ثابتة أفادتنا العلم اليقيني لا يحتاج معها إلى كذب ولا إلى مالا يعلم صدقه وحديث رد الشمس له قد ذكره طائفة كالطحاوي والقاضي عياض وغيرهما وعدوا ذلك من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم لكن المحققون من أهل العلم والمعرفة بالحديث يعلمون أن هذا الحديث كذب موضوع كما ذكره ابن الجوزي في كتاب الموضوعات فرواه من كتاب أبي جعفر العقيلي في الضعفاء من طريق عبيد الله بن موسى عن فضيل بن مرزوق عن إبراهيم بن الحسن بن الحسن عن فاطمة بنت الحسين عن أسماء بنت عميس قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحي إليه ورأسه في حجر علي فلم يصل العصر حتى غربت الشمس فقال النبي صلى الله عليه وسلم صليت يا علي قال لا فقال رسول الله
8
166
صلى الله عليه وسلم اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس فقالت أسماء فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت قال ابو الفرج وهذا حديث موضوع بلا شك وقد اضطرب الرواة فيه فرواه سعيد بن مسعود عن عبيد الله بن موسى عن فضيل بن مرزوق عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن علي بن الحسين عن فاطمة بنت علي عن أسماء قال وفضيل بن مرزوق ضعفه يحيى وقال أبو حاتم بن حبان يروي الموضوعات ويخطىء على الثقات قال ابو الفرج وهدا الحديث مداره على عبيد الله بن موسى عنه قلت والمعروف أن سعيد بن مسعود رواه عن عبيد الله بن موسى عن فضيل بن مرزوق عن إبراهيم بن الحسن عن فاطمة بنت الحسين عن أسماء ورواه محمد بن مرزوق عن حسين الأشقر عن علي بن عاصم عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن علي بن
8
167(189/113)
الحسين عن فاطمة بنت علي عن أسماء كما سيأتي ذكره قال أبو الفرج وقد روى هذا الحديث ابن شاهين حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي حدثنا عبد الرحمن بن شريك حدثني أبي عن عروة بن عبد الله بن قشير قال دخلت على فاطمة بنت علي بن أبي طالب فحدثتني أن أسماءبنت عميس حدثتها أن علي بن أبي طالب وذكر حديث رجوع الشمس قال أبو الفرج وهذا حديث باطل أما عبدالرحمن بن شريك فقال أبو حاتم هو واهي الحديث قال وأنا لا أتهم بهذا الحديث الا ابن عقدة فإنه كان رافضيا يحدث بمثالب الصحابة قال أبو أحمد بن عدي الحافظ سمعت أبا بكر بن أبي طالب يقول ابن عقدة لا يتدين بالحديث كان يحمل شيوخا بالكوفة على الكذب يسوى لهم نسخا ويأمرهم أن يرووها وقد بينا ذلك منه في
8
168
غير نسخة وسئل عنه الدارقطني فقال رجل سوء قال أبو الفرج وقد رواه ابن مردويه من حديث داود بن فراهيج عن أبي هريرة قال وداود ضعيف ضعفه شعبة قلت فليس في هؤلاء من يحتج به فيما دون هذا وأما الثاني ببابل فلا ريب أن هذا كذب وإنشاد الحميري لا حجة فيه لأنه لم يشهد ذلك والكذب قديم فقد سمعه فنظمه وأهل الغلو في المدح والذم ينظمون ما لا تتحقق صحته لا سيما والحميري معروف بالغلو وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي هريرة قال غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة يضع امرأة يريد أن يبني بها ولما
8
169(189/114)
يبن ولا رجل قد بنى بيتا ولم يرفع سقفه ولا رجل اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر ولادها قال فغزوا فدنا من القرية حتى صلى العصر قريبا من ذلك فقال للشمس أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي شيئا فحسبت عليه حتى فتح الله عليه الحديث فإن قيل فهذه الأمة أفضل من بني اسرائيل فإذا كانت قد ردت ليوشع فما المانع أن ترد لفضلاء هذه الأمة فيقال يوشع لم كرد له الشمس ولكن تأخر غروبها طول له النهار وهذا قد لا يظهر للناس فإن طول النهار وقصره لا يدرك ونحن إنما علمنا وقوفها ليوشع بخبر صلى الله عليه وسلم وأيضا لا مانع من طول ذلك لو شاء الله لفعل ذلك لكن يوشع كان محتاجا إلى ذلك لأن القتال كان محرما عليه بعد غروب الشمس لأجل ما حرم الله عليهم من العمل ليلة السبت ويوم السبت وأما أمة محمد فلا حاجة لهم إلى ذلك ولا منفعة لهم فيه فإن الذي فاتته العصر إن كان مفرطا لم يسقط ذنبه إلا بالتوبة ومع التوبة لا يحتاج إلى
8
170(189/115)
رد وإن لم يكن مفرطا كالنائم والناسي فلا ملام عليه في الصلاة بعد الغروب وأيضا فبنفس غروب الشمس حرج الوقت المضروب للصلاة فالمصلي بعد ذلك لا يكون مصليا في الوقت الشرعي ولو عادت الشمس وقول الله تعالى وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها سورة طه يتناول الغروب المعروف فعلى العبد أن يصلي قبل هذا الغروب وإن طلعت ثم غربت والأحكام المتعلقة بغروب الشمس حصلت بذلك الغروب فالصائم يفطر ولو عادت بعد ذلك لم يبطل صومه مع أن هذه الصورة لا تقع لأحد ولا وقعت لأحد فتقديرها تقدير ما لا وجود له ولهذا لا يوجد الكلام على حكم مثل هذا في كلام العلماء المفرعين وأيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم فاتته العصر يوم الخندق فصلاها قضاء هو وكثير من أصحابه ولم يسأل الله رد الشمس وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه بعد ذلك لما أرسلهم إلى بني قريظة لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريطة فلما أدركتهم الصلاة في الطريق قال بعضهم لم يرد منا تفويت الصلاة فصلوا في الطريق فقالت طائفة لا نصلي إلا في بني قريظة فلم يعنف واحدة من الطائفتين فهؤلاء الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلوا العصر بعد
8
171(189/116)
غروب الشمس وليس علي بأفضل من النبي صلى الله عليه وسلم فإذا صلاها هو وأصحابه معه بعد الغروب فعلي وأصحابه أولى بذلك فإن كانت الصلاة بعد الغروب لا تجزىء أو ناقصة تحتاج إلى رد الشمس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى برد الشمس وإن كانت كاملة مجزئة فلا حاجة إلى ردها وأيضا فمثل هذه القضية من الأمور العظام الخارجة عن العادة التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها فإذا لم ينقلها إلا الواحد والاثنان علم بيان كذبهم في ذلك وانشقاق القمر كان بالليل وقت نوم الناس ومع هذا فقد رواه الصحابة من غير وجه وأخرجوه في الصحاح والسنن والمساند من غير وجه ونزل به القرآن فكيف برد الشمس التي تكون بالنهار ولا يشتهر ذلك ولا ينقله أهل العلم نقل مثله
8
172
ولا يعرف قط أن الشمس رجعت بعد غروبها وإن كان كثير من الفلاسفة والطبيعين وبعض أهل الكلام ينكر انشقاق القمر وما يشبه ذلك فليس الكلام في هذا المقام لكن الغرض أن هذا من أعظم خوارق العادات في الفلك وكثير من الناس ينكر إمكانه فلو وقع لكان ظهوره ونقله أعظم من ظهور ما دونه ونقله فكيف يقبل وحديثه ليس له إسناد مشهور فإن هذا يوجب العلم اليقيني بأنه كذب لم يقع وإن كانت الشمس احتجبت بغيم ثم ارتفع سحابها فهذا من الأمور المعتادة ولعلهم ظنوا أنها غربت ثم كشف الغمام عنها وهذا وإن كان قد وقع ففيه أن الله بين له بقاء الوقت حتى يصلي فيه ومثل هذا يجري لكثير من الناس وهذا الحديث قد صنف فيه مصنف جمعت فيه طرقه صنفه أبو القاسم عبد الله بن عبد الله ابن احمد الحكاني سماه مسألة في تصحيح رد الشمس وترغيب النواصب الشمس وقال هذا حديث روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أسماء بنت عميس الخثعمية ومن طريق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومن طريق أبي هريرة وأبي سعيد وذكر حديث أسماء من طريق محمد بن أبي فديك
8
173(189/117)
قال أخبرني محمد بن موسى وهو القطري عن عون بن محمد عن أمه أم جعفر عن جدتها أسماء بنت عميس أن النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ثم أرسل عليا في حاجة فرجع وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني العصر فوضع رأسه في حجر علي ولم يحركه حتى غابت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إن عبدك عليا في طاعتك وطاعة رسولك احتبس نفسه على نبيه فرد عليه شرقها قال أسماء فطلعت الشمس حتى وقعت على الجبال فقام علي فتوضأ وصلى العصر ثم غابت الشمس قال أبو القاسم المصنف أم جعفر هذه هي أم محمد بن جعفر بن أبي طالب والراوي عنها هو ابنها عون بن محمد بن علي المعروف أبوه محمد بن الحنفية والراوي عنه هو محمد بن موسى المديني المعروف بالقطري محمود في روايته ثقة والراوي عنه محمد بن إسماعيل بن أبي فديك المدني ثقة وقد رواه عنه جماعة منهم هذا الذي ذكرت روايته وهو أحمد بن الوليد الأنطاكي وقد رواه عنه نفر منهم أحمد بن عمير بن حوصاء وذكره بإسناده من طريقة وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالصهباء ثم أرسل عليا في حاجة فرجع وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر فوضع رأسه في حجر علي فلم يحركه حتى غربت الشمس فقال النبي صلى الله عليه
8
174(189/118)
وسلم اللهم إن عبدك عليا احتبس نفسه على نبيه فرد عليها شرقها قال أسماء فطلعت الشمس حتى وقعت على الجبال وعلى الأرض فقام علي وتوضأ وصلى العصر وذلك في الصهباء في غزوة خيبر قال ومنهم أحمد بن صالح المصري عن ابن أبي فديك رواه أبو جعفر الطحاوي في كتاب تفسير متشابه الأخبار من تأليفه من طريقه ومنهم الحسن بن داود عن ابن أبي فديك وذكره بإسناده ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالصهباء من أرض خيبر ثم أرسل عليا في حاجة فرجع وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه في حجر علي فلم يحركه حتى غربت الشمس فاستيقظ وقال يا علي صليت العصر قال لا وذكره قال ويرويه عن اسماء فاطمة بنت الحسين الشهيد ورواه من طريق أبي جعفر الحضرمي حدثنا محمد بن مرزوق حدثنا حسين الأشقر حدثنا فضيل بن مرزوق عن إبراهيم ابن الحسن عن فاطمة عن أسماء بنت عميس قالت نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما صلى العصر فوضع رأسه أو خده لا أدري أيهما قال في حجر علي ولم يصل العصر حتى غابت الشمس وذكره قال المصنف ورواه عن فضيل بن مرزوق جماعة منهم عبيد الله
8
175(189/119)
ابن موسى العبسي ورواه الطحاوي من طريقه ولفظه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ورأسه في حجر علي فلم يصل العصر حتى غابت الشمس ورواه أيضا من حديث عمار بن مطر عن فضيل بن مرزوق من طريق أبي جعفر العقيلي صاحب كتاب الضعفاء قلت وهذا اللفظ يناقض الأول ففيه أنه نام في حجره من صلاة العصر إلى غروب الشمس وأن ذلك في غزوة خيبر بالصهباء وفي الثاني أنه كان مستيقظا يوحى اليه جبريل ورأسه في حجر علي حتى غربت الشمس وهذا التناقض يدل على أنه غير محفوظ لأن هذا صرح بأنه كان نائما هذا الوقت وهذا قال كان يقظان يوحى إليه وكلاهما باطل فإن النوم بعد العصر مكروه منهى عنه والنبي صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه فكيف تفوت عليا صلاة العصر ثم تفويت الصلاة بمثل هذا إما أن يكون جائزا وإما أنه لا يجوز فإن كان جائزا لم يكن على علي إثم إذا صلى العصر بعد الغروب وليس علي أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم فاتته العصر يوم الخندق حتى غربت الشمس ثم صلاها ولم ترد عليه الشمس وكذلك لم ترد لسليمان لما توارت بالحجاب
8
176(189/120)
وقد نام النبي صلى الله عليه وسلم ومعه علي وسائر الصحابة عن الفجر حتى طلعت الشمس ولم ترجع لهم إلى الشرق وإن كان التفويت محرما فتفويت العصر من الكبائر وقال النبي صلى الله عليه وسلم من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله وعلي كان يعلم أنها الوسطى وهي صلاة العصر وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين لما قال شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس ملأ الله أجوافهم وبيوتهم نارا وهذا كان في الخندق وخيبر بعد الخندق فعلي أجل قدرا من أن يفعل مثل هذه الكبيرة ويقره عليها جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم ومن فعل هذا كان من مثالبه لا من مناقبه وقد نزه الله عليا عن ذلك ثم إذا فاتت لم يسقط الإثم عنه بعود الشمس وأيضا فإذا كانت هذه القصة في خيبر في البرية قدام العسكر والمسلمون أكثر من ألف وابعمائة كان هذا مما يراه العسكر
8
177(189/121)
ويشاهدونه ومثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي عن نقله فيمتنع أن ينفرد بنقله الواحد والاثنان فلو نقله الصحابة لنقله منهم أهل العلم كما نقلوا أمثاله لم ينقله المجهولون الذين لا يعرف ضبطهم وعدالتهم وليس في جميع أسانيد هذا الحديث إسناد واحد يثبت تعلم عدالة ناقليه وضبطهم ولا يعلم اتصال إسناده وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فنقل ذلك غير واحد من الصحابة وأحاديثهم في الصحاح والسنن والمساند وهذا الحديث ليس في شيء من كتب الحديث المعتمدة لا رواه أهل الصحيح ولا أهل السنن ولا المساند أصلا بل اتفقوا على تركه والإعراض عنه فكيف يكون مثل هذه الواقعة العظيمة التي هي لو كانت حقا من أعظم المعجزات المشهورة الظاهرة ولم يروها أهل الصحاح والمساند ولا نقلها أحد من علماء المسلمين وحفاظ الحديث ولا يعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة والإسناد الأول رواه القطري عن عون عن أمه عن أسماء بنت عميس وعون وأمه ليسا ممن يعرف حفظهم وعدالتهم ولا من
8
178
المعروفين بنقل العلم ولا يحتج بحديثهم في أهون الأشياء فكيف في مثل هذا ولا فيه سماع المرأة من أسماء بنت عميس فلعلها سمعت من يحكيه عن أسماء فذكرته وهذا المصنف ذكر عن ابن أبي فديك أنه ثقة وعن القطري أنه ثقة ولم يمكنه أن يذكر عمن بعدهما أنه ثقة وإنما ذكر أنسابهم ومجرد المعرفة بنسب الرجل لا توجب أن يكون حافظا ثقة وأما الإسناد الثاني فمداره على فضيل بن مرزوق وهو معروف بالخطأ على الثقات وإن كان لا يعتمد الكذب قال فيه ابن حبان يخطىء على الثقات ويروى عن عطية الموضوعات وقال فيه أبو حاتم الرازي لا يحتج به وقال فيه يحيى بن معين مرة هو ضعيف وهذا لا يناقضه قول أحمد بن حنبل فيه لا أعلم إلا خيرا وقول سفيان هو ثقة وقول يحيى مرة هو ثقة فإنه ليس ممن يتعمد الكذب ولكنه
8
179(189/122)
يخطىء وإذا روى له مسلم ما تابعه غيره عليه لم يلزم أن يروى ما انفرد به مع أنه لم يعرف سماعه عن إبراهيم ولا سماع إبراهيم من فاطمة ولا سماع فاطمة من أسماء ولا بد في ثبوت هذا الحديث من أن يعلم أن كلا من هؤلاء عدل ضابط وأنه سمع من الآخر وليس هذا معلوما وإبراهيم هذا لم يرو له أهل الكتب المعتمدة كالصحاح والسنن ولا له ذكر في هذه الكتب بخلاف فاطمة بنت الحسين فإن لها حديثا معروفا فكيف يحتج بحديث مثل هذا ولهذا لم يروه أحد من علماء الحديث المعروفين في الكتب المعتمدة وكون الرجل أبوه كبير القدر لا يوجب أن يكون هو من العلماء المأمونين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه وأسماء بنت عميس كانت عند جعفر ثم خلف عليها أبو بكر ثم خلف عليها علي ولها من كل من هؤلاء ولد وهم يحبون عليا ولم يرو هذا أحد منهم عن أسماء ومحمد بن أبي بكر الذي في حجر علي هو ابنها ومحبته لعلي مشهورة ولم يرو هذا عنها وأيضا فأسماء كانت زوجة جعفر بن أبي طالب وكانت معه في الحبشة وإنما قدمت معه بعد فتح خيبر وهذه القصة قد ذكر أنها كانت بخيبر فإن كانت صحيحة كان ذلك بعد فتح خيبر وقد كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ممن شهد خيبر أهل الحديبية ألف وأربعمائة
8
180(189/123)
وإزداد العسكر بجعفر ومن قدم معه من الحبشة كأبي موسى الأشعري وأصحابه والحبشة الذين قدموا مع جعفر في السفينة وازدادوا أيضا بمن كان معهم من أهل خيبر فلم يرو هذا أحد من هؤلاء وهذا مما يوجب القطع بأن هذا من الكذب المختلق والطعن في فضيل ومن بعده إذا تيقن بأنهم رووه وإلا ففي إيصاله إليهم نظر فإن الراوي الأول عن فضيل الحسين بن الحسن الأشقر الكوفي قال البخاري عنده مناكير وقال النسائي وقال الدارقطني ليس بالقوي وقال الأزدي ضعيف وقال السعدي حسين الأشقر غال من الشاتمين للخيرة وقال ابن عدي روى حديثا منكرا والبلاء عندي منه وكان جماعة من ضعفاء الكوفة يحيلون ما يروون عنه من الحديث فيه وأما الطريق الثالث ففيه عمار بن مطر عن فضيل بن مرزوق قال
8
181
العقيلي يحدث عن الثقات بالمناكير وقال الرازي كان يكذب أحاديث بواطل وقال ابن عدي متروك الحديث والطريق الأول من حديث عبيد الله بن موسى العبسي وفي بعض طرقه عن فضيل وفي بعضها حدثنا فإذا لم يثبت أنه قال حدثنا أمكن أن لا يكون سمعه فإنه من الدعاة إلى التشيع الحراص على جمع أحاديث التشيع وكان يروي الأحاديث في ذلك عن الكذابين وهو من المعروفين بذلك وإن كانوا قد قالوا فيه ثقة وإنه
8
182(189/124)
لا يكذب فالله أعلم أنه هل كان يتعمد الكذب أم لا لكنه كان يروى عن الكذابين المعروفين بالكذب بلا ريب والبخاري لا يروى عنه إلا ما عرف به أنه صحيح من غير طريقه وأحمد بن حنبل لم يرو عنه شيئا قال المصنف وله روايات عن فاطمة سوى ما قدمنا ثم رواه بطريق مظلمة يظهر أنها كذب لمن له معرفة منوطة بالحديث فرواه من حديث أبي حفص الكتاني حدثنا محمد بن عمر القاضي هو الجعاني حدثنا محمد بن إبراهيم بن جعفر العسكري من أصل كتابه حدثنا أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم حدثنا خلف بن سالم حدثنا عبد الرزاق حدثنا سفيان الثوري عن أشعث بن أبي الشعثاء عن أمه عن فاطمة عن أسماء أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لعلي حتى ردت عليه الشمس وهذا مما لا يقبل نقله إلا ممن عرف عدالته وضبطه لا من مجهول الحال فكيف إذا كان مما يعلم أهل الحديث أن الثوري لم يحدث به ولا حدث به عبد الرزاق وأحاديث الثوري وعبدالرزاق يعرفها أهل العلم بالحديث ولهم أصحاب يعرفونها ورواه خلف بن سالم ولو قدر أنهم رووه فأم أشعث مجهولة لا يقوم بروايتها شيء وذكر طريقا ثانيا من طريق محمد بن مرزوق حدثنا حسين الأشقر عن علي بن هاشم عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن
8
183(189/125)
علي بن الحسين عن فاطمة بنت علي عن أسماء بنت عميس الحديث قلت وقد تقدم كلام العلماء في حسين الأشقر فلو كان الإسناد كلهم ثقات والإسناد متصل لم يثبت بروايته شيء فكيف إذا لم يثبت ذلك وعلي بن هاشم بن البريد قال البخاري هو وأبوه غاليان في مذهبهما وقال ابن حبان كان غاليا في التشيع يروى المناكير عن المشاهير وإخراج أهل الحديث لما عرفوه من غير طريقه لا يوجب أن يثبت ما انفرد به ومن العجب أن هذا المصنف جعل هذا والذي بعده من طريق رواية فاطمة بنت الحسين وهذه فاطمة بنت علي لا بنت الحسين وكذلك ذكر الطريق الثالث عنها من رواية عبد الرحمن بن شريك حدثنا أبي عن عروة بن عبد الله عن فاطمة بنت علي عن أسماء عن علي بن أبي طالب رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوحى إليه فجلله بثوبه فلم يزل كذلك حتى أدبرت الشمس يقول غابت أو كادت تغيب وأن نبي الله صلى الله عليه وسلم سرى عنه فقال أصليت يا علي قال لا قال اللهم رد على علي الشمس فرجعت الشمس حتى بلغت نصف المسجد
8
184
فيقتضي أنها رجعت إلى قريب وقت العصر وأن هذا كان بالمدينة وفي ذاك الطريق أنه كان بخيبر وأنها إنما ظهرت على رؤوس الجبال وعبد الرحمن بن شريك قال أبو حاتم الرازي هو واهي الحديث وكذلك قد ضعفه غيره ورواه من طريق رابع من حديث محمد بن عمر القاضي وهو الجعاني عن العباس بن الوليد عن عباد وهو الرواجني حدثنا علي بن هاشم عن صباح بن عبدالله بن الحسين أبي جعفر عن حسين المقتول عن فاطمة عن أسماء بنت عميس قالت كان يوم خيبر شغل عليا ما كان من قسم المغانم حتى غابت الشمس أو كادت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما صليت قال لا فدعا الله فارتفعت حتى توسطت السماء فصلى علي فلما غابت الشمس سمعت لها صريرا كصرير المنشار في الحديد وهذا اللفظ الرابع يناقض الألفاظ الثلاثة المتناقضة وتبين أن
8
185(189/126)
الحديث لم يروه صادق ضابط بل هو في نفس الأمر مما اختلقه واحد وعملته يداه فتشبه به آخر فاختلق ما يشبه حديث ذلك والقصة واحده وفي هذا أن عليا إنما اشتغل بقسم المغانم لا برسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي لم يقسم مغانم خيبر ولا يجوز الاشتغال بقسمتها عن الصلاة فإن خيبر بعد الخندق سنة سبع وبعد الحديبية سنة ست وهذا من المتواتر عند أهل العلم والخندق كانت قبل ذلك إما سنة خمس أو أربع وفيها أنزل الله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى سورة البقرة ونسخ التأخير بها يوم الخندق مع أنه كان للقتال عند أكثر أهل العلم ومن قال إنه لم ينسخ بل يجوز التأخير للقتال كأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين فلم يتنازع العلماء أنه لم يجز تفويت الصلاة لأجل قسم الغنائم فإن هذا لا يفوت والصلاة تفوت وفي هذا انها توسطت المسجد وهذا من الكذب الظاهر فإن مثل هذا من أعظم غرائب العالم التي لو جرت لنقلها الجم الغفير وفيه أنها لما غابت سمع لها صرير كصرير المنشار وهذا أيضا من الكذب الظاهر فإن هذا لا موجب له أيضا والشمس عند غروبها لا تلاقى من الأجسام ما يوجب هذا الصوت العظيم الذي يصل من الفلك الرابع إلى
8
186(189/127)
الأرض ثم لو كان هذا حقا لكان من أعظم عجائب العالم التي تنقلها الصحابة الذين نقلوا ما هو دون هذا مما كان في خيبر وغير خيبر وهذا الإسناد لو روى به ما يمكن صدقه لم يثبت به شيء فإن علي ابن هاشم بن البريد كان غاليا في التشيع يروى عن كل أحد يحرضه على ما يقوى به هواه ويروى عن مثل صباح هذا وصباح هذا لا يعرف من هو ولهم في هذه الطبقة صباح بن سهل الكوفي يروى عن حصين بن عبد الرحمن قال البخاري وأبو زرعة وأبو حاتم منكر الحديث وقال الدارقطني ضعيف وقال ابن حبان يروى المناكير عن أقوام مشاهير لا يجوز الاحتجاج بخبره ولهم آخر يقال له صباح بن محمد بن أبي حازم البجلي الأحمسي الكوفي يروى عن مرة الهمداني قال ابن حبان يروى عن الثقات الموضوعات ولهم شخص يقال له صباح العبدي قال الرازي هو مجهول وآخر يقال له ابن مجالد مجهول يروى عنه بقية قال ابن عدي ليس بالمعروف هو من شيوخ بقية المجهولين
8
187(189/128)
وحسين المقتول إن أريد به الحسين بن علي فذلك أجل قدرا من أن يروى عن واحد عن أسماء بنت عميس سواء كانت فاطمة أخته أو ابنته فإن هذه القصة لو كانت حقا لكان هو أخبر بها من هؤلاء وكان قد سمعها من أبيه ومن غيره ومن أسماء امرأة أبيه وغيرها لم يروها عن بنته أو أخته عن أسماء امرأة أبيه ولكن ليس هو الحسين بن علي بل هو غيره أو هو عبد الله بن الحسن أبو جعفر ولهما أسوة أمثالهما والحديث لا يثبت إلا برواية من علم أنه عدل ضابط ثقة يعرفه أهل الحديث بذلك ومجرد العلم بنسبتة لا يفيد ذلك ولو كان من كان وفي أبناء الصحابة والتابعين من لا يحتج بحديثه وإن كان أبوه من خيار المسلمين هذا إن كان علي بن هاشم رواه وإلا فالراوي عنه عباد بن يعقوب الرواجني قال ابن حبان كان رافضيا داعية يرى المناكير عن المشاهير فاستحق الترك وقال ابن عدي روى أحاديث أنكرت عليه في فضائل أهل البيت ومثالب غيرهم والبخاري وغيره روى عنه من الأحاديث ما يعرف صحته وإلا فحكاية قاسم المطرز عنه أنه قال إن عليا حفر البحر وإن الحسن أجرى فيه الماء مما يقدح فيه قدحا بينا
8
188(189/129)
قال المصنف قد رواه عن أسماء سوى هؤلاء وروى من طريق أبي العباس بن عقدة وكان من حفظه جماعا لأكاذيب الشيعة قال أبو أحمد بن عدي رأيت مشايخ بغداد يسيئون الثناء عليه يقولون لا يتدين بالحديث ويحمل شيوخا بالكوفة على الكذب ويسوى لهم نسخا ويأمرهم بروايتها وقال الدارقطني كان ابن عقدة رجل سوء قال ابن عقدة حدثنا يحيى بن زكريا أخبرنا يعقوب بن معبد حدثنا عمرو بن ثابت قال سألت عبد الله بن حسن بن حسن بن علي عن حديث رد الشمس على علي هل ثبت عندكم فقال لي ما أنزل الله في علي في كتابه أعظم من رد الشمس قلت صدقت جعلني الله فداك ولكني أحب أن أسمعه منك قال حدثني عبد الله حدثني أبي الحسن عن أسماء بنت عميس أنها قالت أقبل علي ذات يوم وهو يريد أن يصلي العصر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافق
8
189(189/130)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انصرف ونزل عليه الوحي فأسنده إلى صدره فلم يزل مسنده إلى صدره حتى أفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصليت العصر يا علي قال جئت والوحي ينزل عليك فلم أزل مسندك إلى صدري حتى الساعة فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة وقد غربت الشمس فقال اللهم إن عليا كان في طاعتك فارددها عليه قالت أسماء فأقبلت الشمس ولها صرير كصرير الرحي حتى ركدت في موضعها وقت العصر فقام علي متمكنا فصلى العصر فلما فرغ رجعت الشمس ولها صرير كصرير الرحى فلما غابت الشمس اختلط الظلام وبدت النجوم قلت بهذا اللفظ الخامس يناقض تلك الألفاظ المتناقضة ويزيد الناظر بيانا في أنها مكذوبة مختلقة فإنه ذكر فيها أنها ردت إلى موضعها وقت العصر وفي الذي قبله إلى نصف النهار وفي الآخر حتى ظهرت على رؤوس الجبال وفي هذا أنه كان مسنده إلى صدره وفي ذاك أنه كان رأسه في حجره وعبد الله بن الحسن لم يحدث بهذا قط وهو كان أجل قدرا من أن يروي مثل هذا الكذب ولا أبوه الحسن روى هذا عن أسماء وفيه ما أنزل الله في علي في كتابه أعظم من رد الشمس شيئا ومعلوم أن الله لم ينزل في علي ولا غيره في كتابه في رد الشمس شيئا
8
190(189/131)
وهذا الحديث إن كان ثابتا عن عمرو بن ثابت الذي رواه عن عبد الله فهو الذي اختلقه فإنه كان معروفا بالكذب قال أبو حاتم بن حبان يروى الموضوعات عن الأثبات وقال يحيى بن معين ليس بشيء وقال مرة ليس بثقة ولا مأمون وقال النسائي متروك الحديث قال المصنف وأما رواية أبي هريرة فأنبأنا عقيل بن الحسن العسكري حدثنا أبو محمد صالح بن أبي الفتح الشناسي حدثنا أحمد بن عمرو بن حوصاء حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا يحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي عن أبيه قال حدثنا داود بن فراهيج عن عمازة بن فرو عن أبي هريرة رضي الله عنه وذكره قال المصنف اختصرته من حديث طويل قلت هذا إسناد مظلم لا يثبت به شيء عند أهل العلم بل يعرف
8
191
كذبه من وجوه فإنه وإن كان داود بن فراهيج مضعفا كان شعبة يضعفه وقال النسائي ضعيف الحديث لا يثبت الإسناد إليه فإن فيه يزيد بن عبد الملك النوفلي وهو الذي رواه عنه وعن عمارة قال البخاري أحاديثه شبه لا شيء وضعفه جدا وقال النسائي متروك ضعيف الحديث وقال الدارقطني منكر الحديث جدا وقال أحمد عنده مناكير وقال الدارقطني ضعيف وإن كان حدث به إبراهيم بن سعيد الجوهري فالآفة من هذا وإن كان يقال إنه لم يثبته لا إلى إبراهيم بن سعيد الجوهري ولا إلى ابن حوصاء فإن هذين معروفان وأحاديثهما معروفقد رواها عنهما الناس ولهذا لما روى ابن حوصاء الطريق الأول كان الإسناد إليه معروفا عنه رواه بالأسانيد المعروفة لكن الآفة فيه ممن بعده وأما هذا فمن قبل ابن حوصاء لا يعرفون وإن قدر أنه ثابت عنه فالآفة بعده وذكر أبو الفرج بن الجوزي أن ابن مردويه رواه من طريق داود بن فراهيج وذكر ضعف ابن فراهيج ومع هذا فالإسناد إليه فيه الكلام أيضا قال المصنف وأما رواية أبي سعيد الخدري فأخبرنا محمد بن
8
192(189/132)
إسماعيل الجرجاني كتابه أن أبا طاهر محمد بن علي الواعظ أخبرهم أنبأنا محمد بن أحمد بن منعم أنبأنا القاسم بن جعفر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمر حدثني أبي عن أبيه محمد عن أبيه عبد الله عن أبيه محمد عن أبيه عمر قال قال الحسين بن علي سمعت أبا سعيد الخدري يقول دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رأسه في حجر علي وقد غابت الشمس فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا علي صليت العصر قال لا يا رسول الله ما صليت كرهت أن أضع رأسك من حجري وأنت وجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادع يا علي أن ترد عليك الشمس فقال علي يا رسول الله ادع أنت أومن قال يا رب إن عليا في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس قال ابو سعيد فوالله لقد سمعت للشمس صريرا كصرير البكرة حتى رجعت بيضاء نقية قلت هذا الإسناد لا يثبت بمثله شيء وكثير من رجاله لا يعرفون بعدالة ولا ضبط ولا حمل للعلم ولا لهم ذكر في كتب العلم وكثير من رجاله لو لم يكن فيهم إلا واحد بهذه المنزلة لم يكن ثابتا فكيف إذا كان كثير منهم أو أكثرهم كذلك ومن هو معروف بالكذب مثل عمرو بن ثابت
8
193(189/133)
وفيه أنه كان وجعا وأنه سمع صوتها حين طلعت كصرير البكرة وهذا باطل عقلا ولم يذكره أولئك ولو كان مثل هذا الحديث عن أبي سعيد مع محبته لعلي وروايته لفضائله لرواه عنه أصحابه المعروفون كما رووا غير ذلك من فضائل علي مثل رواية أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الخوارج قال تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ومثل روايته أنه قال لعمار تقتلك الفئة الباغية فمثل هذا الحديث الصحيح عن أبي سعيد بين فيه أن عليا وأصحابه أولى بالحق من معاوية وأصحابه فكيف لا يروى عنه مثل هذا لو كان صحيحا ولم يحدث بمثل هذا الحسين ولا أخوه عمر ولا علي ولو كان مثل هذا عندهما لحدث به عنهما المعروفون بالحديث عنهما فإن هذا أمر عظيم قال المصنف وأما رواية أمير المؤمنين فأخبرنا أبو العباس الفرغاني أخبرنا أبو الفضل الشيباني حدثنا رجاء بن يحيى الساماني حدثنا هارون بن مسلم بن سعيد بسامرا سنة أربعين ومائتين
8
194
حدثنا عبد الله بن عمرو الأشعث عن داود بن الكميت عن عمه المستهل بن زيد عن زبي زيد بن سهلب عن جويرية بنت مسهر قالت خرجت مع علي فقال يا جويرية إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه ورأسه في حجري وذكره قلت وهذا الإسناد أضعف مما تقدم وفيه من الرجال المجاهيل الذين لا يعرف أحدهم بعدالة ولا ضبط وانفرادهم بمثل هذا الذي لو كان علي قاله لرواه عنه المعرفون من أصحابه وبمثل هذا الإسناد عن هذه المرأة ولا يعرف حال هذه المرأة ولا حال هؤلاء الذين رووا عنها بل ولا تعرف أعيانهم فضلا عن صفاتهم لا يثبت فيه شيء وفيه ما يناقض الرواية التي هي أرجح منه مع أن الجميع كذب فإن المسلمين رووا من فضائل علي ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم ما هو دون هذا وهذا لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث وقد صنف جماعة من علماء الحديث في فضائل علي كما صنف الإمام أحمد فضائله وصنف أبو نعيم في فضائله وذكر فيها أحاديث
8
195(189/134)
كثيرة ضعيفة ولم يذكر هذا لأن الكذب ظاهر عليه بخلاف غيره وكذلك لم يذكره الترمذي مع أنه جمع في فضائل علي أحاديث كثير منها ضعيف وكذلك النسائي وأبو عمر بن عبدالبر وجمع النسائي مصنفا في خصائص علي قال المصنف وقد حكى أبو جعفر الطحاوي عن علي بن عبد الرحمن عن أحمد بن صالح المصري أنه كان يقول لا ينبغي لمن كان سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء في رد الشمس لأنه من علامات النبوة قلت أحمد بن صالح رواه من الطريق الأول ولم يجمع طرقه وألفاظه التي تدل من وجوه كثيرة على أنه كذب وتلك الطريق راويها مجهول عنده ليس معلوم الكذب عنده فلم يظهر له كذبه والطحاوي ليست عادته نقد الحديث كنقد أهل العلم ولهذا روى في شرح معاني الآثار الأحاديث المختلفة وإنما يرجح ما يرجحه منها في الغالب من جهة القياس الذي رآه حجة ويكون أكثرها مجروحا من جهة الإسناد لا يثبت ولا يتعرض لذلك فإنه لم تكن معرفته بالإسناد
8
196
كعرفة أهل العلم به وإن كان كثير الحديث فقيها عالما قال المصنف وقال عبد الله البصري عود الشمس بعد مغيبها آكد حالا فيما يقتضي نقله لأنه وإن كان فضيلة لأمير المؤمنين فإنه من أعلام النبوة وهو مفارق لغيره من فضائله في كثير من أعلام النبوة قلت وهذا من أظهر الأدلة على أنه كذب فإن أهل العلم بالحديث رووا فضائل علي التي ليست من أعلام النبوة وذكروها في الصحاح والسنن والمساند رووها عن العلماء الأعلام الثقات المعروفين فلو كان هذا مما رواه الثقات لكانوا أرغب في روايته وأحرص الناس على بيان صحته لكنهم لم يجدوا أحدا رواه بإسناد يعرف أهله بحمل العلم ولا يعرفون بالعدالة والضبط مع ما فيه من الأدلة الكثيرة على تكذيبه
8
197(189/135)
قال وقال أبو العباس بن عقدة حدثنا جعفر بن محمد بن عمرو أنبأنا سليمان بن عباد سمعت بشار بن دراع قال لقى أبو حنيفة محمد بن النعمان فقال عمن رويت حديث رد الشمس فقال عن غير الذي رويت عنه يا سارية الجبل قال المصنف وكل هذه أمارات ثبوت الحديث قلت هذا يدل على أن أئمة أهل العلم لم يكونوا يصدقون بهذا الحديث فإنه لم يروه أمام من أئمة المسلمين وهذا أبو حنيفة أحد الأئمة المشاهير وهو لا يتهم على علي فإنه من أهل الكوفة دار الشيعة وقد لقي من الشيعة وسمع من فضائل علي ما شاء الله وهو يحبه ويتولاه ومع هذا أنكر هذا الحديث علي محمد بن النعمان وأبو حنيفة أعلم وأفقه من الطحاوي وأمثاله ولم يجبه ابن النعمان بجواب صحيح بل قال عن غير من رويت عنه حديث يا سارية الجبل فيقال له هب أن ذلك كذب فأي شيء في كذبه مما يدل على
8
198
صدق هذا فإن كان كذلك فأبو حنيفة لا ينكر أن يكون لعمر وعلي وغيرهما كرامات بل أنكر هذا الحديث للدلائل الكثيرة على كذبه ومخالفته للشرع والعقل وأنه لم يروه أحد من العلماء المعروفين بالحديث من التابعين وتابعيهم وهم الذين يروون عن الصحابة بل لم يروه إلا كذاب أو مجهول لا يعلم عدله وضبطه فكيف يقبل هذا من مثل هؤلاء وسائر علماء المسلمين يودون أن يكون مثل هذا صحيحا لما فيه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وفضيلة علي على الذين يحبونه ويتولونه ولكنهم لا يستجيزون التصديق بالكذب فردوه ديانة فصل قال الرافضي العاشر ما رواه أهل السير أن الماء زاد بالكوفة وخافوا الغرق ففزعوا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فركب بغله رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج الناس معه فنزل على شاطىء الفرات فصلى ثم دعا وضرب صفحة الماء بقضيب كان في يديه فغاص الماء
8
199(189/136)
فسلم عليه كثير من الحيتان ولم ينطق الجري ولا المرماهى فسئل عن ذلك فقال أنطق الله ما طهره من السمك وأسكت ما أنجسه وأبعده والجواب من وجوب أحدها المطالبة بأن يقال أين إسناد هذه الحكاية الذي يدل على صحتها وثبوتها وإلا فمجرد الحكايات المرسلة بلا إسناد يقدر عليه كل أحد لكن لا يفيد شيئا الثاني أن بغله النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن عنده الثالث أن هذا لم ينقله أحد من أهل الكتب المعتمد عليهم ومثل هذه القصة لو كانت صحيحة لكانت مما تتوفر الهمم والدواعي على نقلها وهذا الناقل لم يذكر لها إسنادا فكيف يقبل ذلك بمجرد حكاية لا اسناد لها الرابع أن السمك كله مباح كما ثبت عن النبي النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته
8
200
وقد قال تعالى أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة سورة المائدة وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على حل السمك كله وعلي مع سائر الصحابة يحلون هذه الأنواع فكيف يقولون إن الله أنجسه ولكن الرافضة جهال يحرمون ما أحل الله بمثل هذه الحكاية المكذوبة الخامس أن يقال نطق السمك ليس مقدورا له في العادة ولكن هو من خوارق العادات فالله تعالى هو الذي أنطق ما أنطق منها وأسكت ما أسكته إن كان قد وقع فأي ذنب لمن أسكته الله حتى يقال هو نجس ومن جعل للعجماء ذنبا بأن الله لم ينطقها كان ظالما لها وإن قال قائل بل الله أقدرها على ذلك فامتنعت منه فيقال إقداره لها على ذلك لو وقع إنما كان كرامة لعلي رضي الله عنه والكرامة إنما تحصل بالنطق بالسلام عليه لا بمجرد القدرة عليه مع الامتناع منه فإذا لم يسلم عليه لم يكن في إقدارها مع امتناعها كرامة له بل فيه تحريم الطيبات على الناس فإن لحمها طيب وذلك من باب العقوبات كما قال تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا سورة النساء
8
201(189/137)
وقد قيل إن تحريم ذلك كان من أخلاق اليهود وما هو من إخوانهم الرافضة ببعيد السادس أن يقال المقصود هنا كان حاصلا بنضوب الماء فأما تسليم السمك فلم يكن إليه حاجة ولا كان هناك سبب يقتضي خرق العادة لتقوية الإيمان فإن ذلك يكون حجة وحاجة ولم يكن هناك حجة ولا حاجة ألا ترى أن انفلاق البحر لموسى كان أعظم من نضوب الماء ولم يسلم السمك على موسى ولما ذهب موسى إلى الخضر وكان معه حوت مالح في مكتل فأحياه الله حتى انساب ونزل في الماء وصار البحر عليه سربا ولم يسلم على موسى ولا على يوشع والبحر دائما يجزر ويمد ولم يعرف أن السمك سلم على أحد من الصحابة والتابعين وغيرهم وعلى أجل قدرا من أن يحتاج إلى إثبات فضائله بمثل هذه الحكايات التي تعلم العقلاء أنها من المكذوبات فصل قال الرافضي الحادي عشر روى جماعة أهل السير أن
8
202
عليا كان يخطب على منبر الكوفة فظهر ثعبان فرقى المنبر وخاف الناس وأرادوا قتله فمنعهم فخاطبه ثم نزل فسأل الناس عنه فقال إنه حاكم الجن التبست عليه قصة فأوضحتها له وكان أهل الكوفة يسمون الباب الذي دخل منه الثعبان باب الثعبان فأراد بنو أمية إطفاء هذه الفضيلة فنصبوا على ذلك الباب قتلى مدة حتى سمى باب القتلى والجواب أنه لا ريب أن من دون علي بكثير تحتاج الجن إليه وتستفتيه وتسأله وهذا معلوم قديما وحديثا فإن كان هذا قد وقع فقدره أجل من ذلك وهذا من أدنى فضائل من هو دونه وإن لم يكن وقع لم ينقص فضله بذلك وإنما يحتاج أن يثبت فضيلة علي بمثل هذه الأمور من يكون مجدبا منها فأما من باشر أهل الخير والدين الذين لهم أعظم من هذه الخوارق أو رأى في نفسه ما هو أعظم من هذه الخوارق لم يكن هذا مما يوجب أن يفضل بها علي ونحن نعلن أن من هو دون علي بكثير من الصحابة خير منا بكثير
8
203(189/138)
فكيف يمكن مع هذا أن يجعل مثل هذا حجة على فضيلة علي على الواحد منا فضلا عن أبي بكر وعمر ولكن الرافضة لجهلهم وظلمهم وبعدهم عن طريق أولياء الله سمعوا ليس لهم من كرامات الأولياء المتقين ما يعتد به فهم لإفلاسهم منها إذا سمعوا شيئا من خوارق العادات عظموه تعظيم المفلس للقليل من النقد والجائع للكسرة من الخبز ولو ذكرنا ما باشرناه نحن من هذا الجنس مما هو أعظم من ذلك مما قد رآه الناس لذكرنا شيئا كثيرا والرافضة لفرط جهلهم وبعدهم عن ولاية الله وتقواه ليس لهم نصيب كثير من كرامات الأولياء فإذا سمعوا مثل هذا عن علي ظنوا أن هذا لا يكون إلا لأفضل الخلق بل هذه الخوارق المذكورة وما هو أعظم منها يكون لخلق كثير من أمة محمد النبي صلى الله عليه وسلم المعروفين بأن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا خير منهم الذين يتولون الجميع ويحبونهم ويقدمون من قدم الله ورسوله لاسيما الذين يعرفون قدر الصديق ويقدمونه فإنهم أخص هذه الأمة بولاية الله وتقواه واللبيب يعرف ذلك بطرق إما أن يطالع الكتب المصنفة في أخبار الصالحين وكرامات الأولياء مثل كتاب ابن أبي الدنيا وكتاب الخلال واللالكائي وغيرهم ومثل ما يوجد من ذلك في أخبار الصالحين مثل الحلية لأبي نعيم وصفوة الصفوة وغير ذلك
8
204(189/139)
وأما أن يكون قد باشر من رأى ذلك وإما أن يخبره بذلك من هو عنده صادق فما زال الناس في كل عصر يقع لهم من ذلك شيء كثير ويحكى ذلك بعضهم لبعض وهذا كثير في هذا كثير من المسلمين وأما أن يكون بنفسه وقع له بعض ذلك وهذه جيوش أبي بكر وعمر ورعيتها لهم من ذلك أعظم من ذلك مثل العلاء ابن الحضرمي وعبوره على الماء كما تقدم ذكره كما تقدم فإن هذا أعظم من نضوب الماء ومثل استقائه ومثل البقر الذي كلم سعد بن أبي وقاص في وقعة القادسية ومثل نداء عمر يا سارية الجبل وهو بالمدينة وسارية بنهاوند ومثل شرب خالد بن الوليد السم ومثل إلقاء أبي مسلم الخولاني في النار فصارت عليه النار بردا وسلاما لما ألقاه فيها الأسود العنسى المنتبىء الكذاب وكان قد استولى على اليمن فلما امتنع أبو مسلم من الإيمان به ألقاه في النار فجعلها الله عليه بردا وسلاما فخرج منها يمسح جبينه وغير ذلك مما يطول وصفه ومما ينبغي أن يعلم أن خوارق العادات تكون لأولياء الله بحسب حاجتهم فمن كان بين الكفار أو المنافقين أو الفاسقين احتاج إليها لتقوية اليقين فظهرت عليه كظهور النور في الظلمة فلهذا يوجد بعضها لكثير من المفضولين أكثر مما يوجد للفاضلين لحاجتهم إلى ذلك
8
205(189/140)
وهذه الخوارق لا تراد لنفسها بل لأنها وسيلة إلى طاعة الله ورسوله فمن جعلها غاية له ويعبد لأجلها لعبت به الشياطين وأظهرت له خوارق من جنس خوارق السحرة والكهان فمن كان لا يتوصل إلى ذلك إلا بها كان أحوج إليها فتكثر في حقه أعظم مما تكثر في حق من استغنى عنها ولهذا كانت في التابعين أكثر منها في الصحابة ونظير هذا في العلم علم الأسماء واللغات فإن المقصود بمعرفة النحو واللغة التوصل إلى فهم كتاب الله ورسوله وغير ذلك وأن ينحو الرجل بكلامه نحو كلام العرب والصحابة لما استغنوا عن النحو واحتاج إليه من بعدهم صار لهم من الكلام في قوانين العربية ما لا يوجد مثله للصحابة لنقصهم وكمال الصحابة وكذلك صار لهم من الكلام في أسماء الرجال وأخبارهم ما لا يوجد مثله للصحابة لأن هذه وسائل تطلب لغيرها فكذلك كثير من النظر والبحث احتاج إليه كثير من المتأخرين واستغنى عنه الصحابة وكذلك ترجمة القرآن لمن لا يفهمه بالعربية يحتاج إليه من لغته فارسية تركية ورومية والصحابة لما كانوا عربا استغنوا عن ذلك وكذلك كثير من التفسير والغريب يحتاج إليه كثير من الناس والصحابة استغنوا عنه فمن جعل النحو ومعرفة الرجال والاصطلاحات النظرية والجدلية المعينة على النظر والمناظرة مقصودة لنفسها رأى أصحابها أعلم من
8
206(189/141)
الصحابة كما يظنه كثير ممن أعمى الله بصيرته ومن علم أنها مقصودة لغيرها علم أن الصحابة الذين علموا المقصود بهذه أفضل ممن لم تكن معرفتهم مثلهم في معرفة المقصود وإن كان بارعا في الوسائل وكذلك الخوارق كثير من المتأخرين صارت عنده مقصودة لنفسها فيكثر العبادة والجوع والسهر والخلوة ليحصل له نوع من المكاشفات والتأثيرات كما يسعى الرجل ليحصل له من السلطان والمال وكثير من الناس إنما يعظم الشيوخ لأجل ذلك كما تعظم الملوك والأغنياء لأجل ملكهم وملكهم وهذا الضرب قد يري أن هؤلاء أفضل من الصحابة ولهذا يكثر في هذا الضرب المنكوس الخروج عن الرسالة وعن أمر الله ورسوله ويقفون مع أذواقهم وإراداتهم لا عند طاعة الله رسوله ويبتلون بسلب الأحوال ثم الأعمال ثم أداء الفرائض ثم الإيمان كما أن من أعطى ملكا ومالا فخرج فيه عن الشريعة وطاعة الله ورسوله واتبع فيه هواه وظلم الناس عوقب على ذلك إما بالعزل وإما بالخوف والعدو وإما بالحاجة والفقر وإما بغير ذلك والمقصود لنفسه في الدنيا هو الاستقامة على ما يرضاه الله ويحبه باطنا وظاهرا فكلما كان الرجل أتبع لما يرضاه الله ورسوله وأتبع لطاعة الله ورسوله كان أفضل ومن حصل له المقصود من الإيمان واليقين والطاعة بلا خارق لم يحتج إلى خارق
8
207(189/142)
كما أن صديق الأمة أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وطلحة والزبير وأمثالهم من السابقين الأولين لما تبين لهم أن محمدا النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله آمنوا به ولم يحتاجوا مع ذلك من الخوارق إلى ما احتاج إليه من لم يعرف كمعرفتهم ومعرفة الحق له أسباب متعددة وقد نبهنا على ذلك في غير هذا الموضع في تقرير الرسالة وأعلام النبوة وبينا أن الطريق إلى معرفة صدق الرسول كثيرة جدا وأن طريق المعجزات طريق من الطرق وأن من قال من النظار إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بالمعجزة كان كمن قال إن معرفة الصانع لا تحصل إلا بالمعرفة بحدوث العالم وهذا وأمثاله مما يقوله كثير من النظار الذين يحصرون نوعا من العلم بدليل معين يدعون أنه لا يحصل إلا بذلك مما أوجب تفرق الناس فطائفة توافقهم على ذلك فيوجبون على كل أحد مالم يوجبه الله ورسوله لا سيما إن كان ذلك الطريق الذي استدلوا به مقدوحا في بعض مقدماته كأدلتهم على حدوث العالم بحدوث الأجسام وطائفة تقدح في الطرق النظرية جملة وتسد باب النظر والمناظرة وتدعى تحريم ذلك مطلقا واستغناء الناس عنه فتقع الفتنة بين هؤلاء وهؤلاء
8
208(189/143)
وحقيقة الأمر أن طرق العلم متعددة وقد يغنى الله كثيرا من الناس عن تلك الطرق المعينة بل عن النظر بعلوم ضرورية تحصل لهم وإن كانت العبادة قد تعد النفس لتلك العلوم الضرورية حتى تحصل إلهاما وطائفة من الناس يحتاجون إلى النظر أو إلى تلك الطرق إما لعدم ما يحصل لغيرهم وإما لشبه عرضت لهم لا تزول إلا بالنظر وكذلك كثير من الأحوال التي تعرض لبعض السالكين من الصعق والغشى والاضطراب عند الذكر وسماع القرآن وغيره ومن الفناءعن شهود المخلوقات بحيث يصطلم ويبقى لا يشهد قلبه إلا الله حتى يغيب بمشهوده عن نفسه فمن الناس من يجعل هذا لازما لا بد لكل من سلك منه ومنهم من يجعله هو الغاية ولا مقام وراءه ومنهم من يقدح في هذا ويجعله من البدع التي لم تنقل عن الصحابة والتحقيق أن هذا أمر يقع لبعض السالكين بحسب قوة الوارد
8
209(189/144)
عليه وضعف القلب عن التمكين بحبه فمن لم يجد ذلك قد يكون لكمال قوته وكمال إيمانه وقد يكون لضعف إيمانه مثل كثير من البطالين والفساق وأهل البدع وليس هذا من لوازم الطرق بل قد يستغنى عنه كثير من السالكين وليس هو الغاية بل كمال الشهود بحيث يميز بين المخلوق والخالق ويشهد معاني أسماء الله وصفاته ولا يشغله هذا عن هذا هو أكمل في الشهود وأقوى في الإيمان ولكن من عرض له تلك الحال التي تعرض احتاج إلى ما يناسبها وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع لكن المقصود أن تعرف مرتبة الخوارق وأنها عند أولياء الله الذين يريدون وجهه ويحبون ما أحبه الله ورسوله في مرتبة الوسائل التي يستعان بها كما يستعان بغير الخوارق فإن لم يحتاجوا إليها استغناء بالمعتادات لم يتلفتوا إليها وأما عند كثير ممن يتبع هواه ويحب الرياسة عند الجهال ونحو ذلك فهي عندهم أعلى المقاصد كما أن كثيرا من طلبة العلم ليس مقصودهم به إلا تحصيل رياسة أو مال ولكل امرىء ما نوى وأما أهل العلم والدين الذين هم أهله فهو مقصود عندهم لمنفعته لهم وحاجتهم إليه في الدنيا والآخرة كما قال معاذ بن جبل في صفة العلم إن طلبة لله عبادة ومذكراته
8
210(189/145)
تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة به يعرف الله ويعبدونه ويمجد الله ويوحد ولهذا تجد أهل الانتفاع به يزكون به نفوسهم ويقصدون فيه اتباع الحق لا اتباع الهوى ويسلكون فيه سبيل العدل والإنصاف ويحبونه ويلتذون به ويحبون كثرته وكثرة أهله وتنبعث هممهم على العمل به وبموجبه ومقتضاه بخلاف ما لم يذق حلاوته وليس مقصوده إلا مالا أو رياسة فإن ذلك لو حصل له بطريق آخر سلكه وربما رجحه إذا كان أسهل عليه ومن عرف هذا تبين له أن المقاصد التي يحبها الله ويرضاها التي حصلت لأبي بكر أكمل مما حصل لعمر والتي حصلت لعمر أكمل مما حصل لعثمان والتي حصلت لعثمان أكمل مما حصل لعلي وإن الصحابة كانوا أعلم الخلق بالحق وأتبعهم له وأحقهم بالعدل وإيتاء كل ذي حق حقه وأنه لم يقدح فيهم إلا مفرط في الجهل بالحقائق التي بها يستحق المدح والتفضيل وبما آتاهم الله من الهدى إلى سواء السبيل ولهذا من لم يسلك في عبادته الطريق الشرعية التي أمر الله بها
8
211(189/146)
ورسوله وتعلقت همته بالخوارق فإنه قد يقترن به من الجن والشياطين من يحصل له به نوع من الخبر عن بعض الكائنات أو يطير به في الهواء أو يمشي به على الماء فيظن ذلك من كرامات الأولياء وأنه ولي لله ويكون سبب شركه أو كفره أو بدعته أو فسقه فإن هذا الجنس قد يحصل لبعض الكفار وأهل الكتاب وغيرهم وقد يحصل لبعض الملحدين المنتسبين إلى المسلمين مثل من لا يرى الصلوات واجبة بل ولا يقر بأن محمدا رسول الله بل يبغضه ويبغض القرآن ونحو ذلك من الأمور التي توجب كفره ومع هذا تغويه الشياطين ببعض الخوارق كما تغوي المشركين كما كانت تقترن بالكهان والأوثان وهي اليوم كذلك في المشركين من أهل الهند والترك والحبشة وفي كثير من المشهورين في البلاد التي فيها الإسلام ممن هو كافر أو فاسق أو جاهل مبتدع كما قد بسط في موضع آخر فصل قال الرافضي الثاني عشر الفضائل إما نفسانية أو بدنية أو خارجية وعلى التقديرين الأولين فإما أن تكون متعلقة بالشخص نفسه أو بغيره وأمير المؤمنين علي جمع
8
212
الكل أما فضائله النفسانية المتعلقة به كعلمه وزهده وكرمه وحلمه فأشهر من أن تحصى والمتعلقة بغيره كذلك كظهور العلوم عنه واستيفاء غيره منه وكذا فضائله البدنية كالعبادة والشجاعة والصدقة وأما الخارجية كالنسب فلم يلحقه فيه أحد لقربه من النبي النبي صلى الله عليه وسلم وتزويجه إياه بابنته سيدة نساء العالمين وقد روى أخطب خوارزم من كتاب السنة بإسناده عن جابر قال لما تزوج علي فاطمة زوجها الله إياه من فوق سبع سماوات وكان الخاطب جبريل وكان ميكائيل وإسرافيل في
8
213(189/147)
سبعين ألفا من الملائكة شهودا فأوحى الله إلى شجرة طوبى انثري ما فيك من الدر والجوهر ففعلت فأوحى الله إلى الحور العين أن القطن فلقطن منهن إلى يوم القيامة وأورد أخبارا كثيرة في ذلك وكان أولاده رضي الله عنه أشرف الناس بعد رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أبيهم وعن حذيفة بن اليمان قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد الحسين بن علي فقال أيها الناس هذا الحسين ألا فاعرفوه وفضلوه فوالله لجده أكرم على الله من جد يوسف بن يعقوب هذا الحسين جده في الجنة وجدته في الجنة وأمه في الجنة وأبوه في الجنة وخاله في الجنة وعمه في الجنة
8
214
وعمته في الجنة وأخوه في الجنة وهو في الجنة ومحبوه في الجنة ومحبو محبيهم في الجنة وعن حذيفة قال بت عند النبي النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فرأيت عنده شخصا فقال لي هل رأيت قلت نعم قال هذا ملك لم ينزل إلى منذ بعثت أتاني من الله فبشرني أن الحسن والحسين سيد شباب أهل الجنة والأخبار في ذلك كثيرة وكان محمد بن الحنفية فاضلا عالما حتى ادعى قوم فيه الإمامة والجواب أما الأمور الخارجية عن نفس الإيمان والتقوى فلا يحصل بها فضيلة عند الله تعالى وإنما يحصل بها الفضيلة عند الله إذا كانت معينة على ذلك فإنها من باب الوسائل لا المقاصد كالمال والسلطان والقوة والصحة ونحو ذلك فإن هذه الأمور لا يفضل بها الرجل عند الله إلا إذا أعانته على طاعة الله بحسب ما يعينه قال الله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم
8
215(189/148)
شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم سورة الحجرات وفي الصحيحين عن النبيي النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الناس أكرم فقال أتقاهم لله قيل ليس عن هذا نسألك قال يوسف نبي الله بن يعقوب نبي الله بن إسحاق نبي الله بن إبراهيم خليل الله قيل ليس عن هذا نسألك قال أفعن معادن العرب تسألوني خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا بين لهم أولا أن اكرم الخلق عند الله أتقاهم وإن لم يكن ابن نبي ولا أبا نبي فإبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم أكرم على الله من يوسف وإن كان أبوه آزر وهذا أبوه يعقوب وكذلك نوح أكرم على الله من إسرائيل وإن كان هذا اولاده أنبياء وهذا أولاده ليسوا بأنبياء فلما ذكروا أنه ليس مقصودهم إلا الأنساب قال لهم فأكرم أهل الأنساب من انتسب إلى الأنبياء وليس في ولد آدم مثل يوسف فإنه نبي ابن نبي ابن نبي فلما أشاروا إلى أنه ليس مقصودهم إلا ما يتعلق بهم قال أفعن معادن العرب تسألوني الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا بين أن الأنساب كالمعادن فإن الرجل يتولد منه كما يتولد من المعدن الذهب والفضة
8
216(189/149)
ولا ريب أن الأرض التي تنبت الذهب أفضل من الأرض التي تنبت الفضة فهكذا من عرف أنه يلد الأفاضل كان أولاده أفضل ممن عرف أنه يلد المفضول لكن هذا سبب ومظنه وليس هو لازما فربما تعطلت أرض الذهب وربما قل نبتها فحينئذ تكون أرض الفضة أحب إلى الإنسان من أرض معطلة والفضة الكثيرة أحب إليهم من ذهب قليل لا يماثلها في القدر فلهذا كان أهل الأنساب الفاضلة يظن بهم الخير ويكرمون لأجل ذلك فإذا تحقق من أحدهم خلاف ذلك كانت الحقيقة مقدمة على المظنة وأما ما عند الله فلا يثبت على المظان ولا على الدلائل إنما يثبت على ما يعلمه هو من الأعمال الصالحة فلا يحتاج إلى دليل ولا يجتزىء بالمظنة فلهذا كان أكرم الخلق عنده أتقاهم فإذا قدر تماثل اثنين عنده في التقوى تماثلا في الدرجة وإن كان أبو أحدهما أو ابنه أفضل من أبي الآخر أو ابنه لكن إن حصل له بسبب نسبه زيادة في التقوى كان أفضل لزيادة تقواه ولهذا حصل الأزواج النبي النبي صلى الله عليه وسلم إذا قنتن لله ورسوله وعملن صالحا لا لمجرد المصاهرة بل لكمال الطاعة كما أنهن لو أتين بفاحشة مبينة لضوعف لهن العذاب ضعفين لقبح المعصية
8
217
فإن ذا الشرف إذا ألزم نفسه التقوى كما تقواه أكمل من تقوى غيره كما أن الملك إذا عدل كان عدله أعظم من عدل الرجل في أهله ثم إن الرجل إذا قصد الخير قصدا جازما وعمل منه ما يقدر عليه كان له أجر كامل كما قال النبي النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا وهم في المدينة قال وهم بالمدينة حبسهم العذر ولهذا قال النبي النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من أتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا وهذا مبسوط في موضع آخر
8
218(189/150)
ولهذا لم يثن الله على أحد في القرآن بنسبه أصلا لا على ولد نبي ولا على أبي نبي وإنما أثنى على الناس بإيمانهم وأعمالهم وإذا ذكر صنفا وأثنى عليهم فلما فيهم من الإيمان والعمل لا لمجرد النسب ولما ذكر الأنبياء ذكرهم في الأنعام وهم ثمانية عشر قال ومن آبائهم وذرياتهم وإخواتهم وأجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم سورة الأنعام فبهذا حصلت الفضيلة باجتبائه سبحانه وتعالى وهدايته إياهم إلى صراط مستقيم لا بنفس القرابة وقد يوجب النسب حقوقا ويوجب لأجله حقوقا ويعلق فيه أحكاما من الإيجاب والتحريم والإباحة لكن الثواب والعقاب والوعد والوعيد على الأعمال لا على الأنساب ولما قال تعالى إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين سورة آل عمران وقال أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما سورة النساء كان هذا مدحا لهذا المعدن الشريف لما فيهم من الإيمان والعمل الصالح ومن لم يتصف بذلك منهم لم يدخل في المدح كما في قوله تعالى ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون سورة الحديد وقال تعالى وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين سورة الصافات
8
219(189/151)
وفي القرآن الثناء والمدح للصحابة بإيمانهم وأعمالهم في غير آية كقوله والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه سورة التوبة وقوله لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى سورة الحديد وقوله لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا سورة الفتح وقوله هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم سورة الفتح وقوله للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويوثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة سورة الحشر وقوله محمد رسول الله والذين معه سورة الفتح الآية وهكذا في القرآن الثناء على المؤمنين من الأمة أولها وآخرها على المتقين والمحسنين والمقسطين والصالحين وأمثال هذه الأنواع وأما النسب ففي القرآن إثبات حق لذوي القربى كما ذكروا هم في
8
220(189/152)
آية الخمس والفيء وفي القرآن أمر لهم بما يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا وفي القرآن الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقد فسر ذلك بأن يصلى عليه وعلى آله وفي القرآن الأمر بمحبة الله ومحبه رسوله ومحبة أهله من تمام محبته وفي القرآن أن أزواجه أمهات المؤمنين وليس في القرآن مدح أحد لمجرد كونه من ذوي القربى وأهل البيت ولا الثناء عليهم بذلك ولا ذكر استحقاقه الفضيلة عند الله بذلك ولا تفضيله على من يساويه في التقوى بذلك وإن كان قد ذكر ما ذكره من اصطفاء آل إبراهيم واصطفاء بني إسرائيل فذاك أمر ماض فأخبرنا بي في جعله عبرة لنا فبين مع ذلك أن الجزاء والمدح بالأعمال ولهذا ذكر ما ذكره من اصطفاء بني إسرائيل وذكر ما ذكره من كفر من كفر منهم وذنوبهم وعقوبتهم فذكر فيهم النوعين الثواب والعقاب وهذا من تمام تحقيق أن النسب الشريف قد يقترن به المدح تارة إن كان صاحبه من أهل الإيمان والتقوى وإلا فإن ذم صاحبه أكثر كما كان الذم لمن ذم من بني إسرائيل وذرية إبراهيم وكذلك المصاهرة قال تعالى ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهم من الله شيئا
8
221(189/153)
وقيل أدخلا النار مع الداخلين وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذا قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين سورة التحريم وإذا تبين هذا فيقال إذا كان الرجل أعجميا والآخر من العرب فنحن وإن كنا نقول مجملا إن العرب أفضل جملة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وغيره لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب وقال إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء الناس رجلان مؤمن تقى وفاجر شقى ولذلك إذا كان الرجل من أفناء العرب والعجم وآخر من قريش فهما عند الله بحسب تقواهما إن تماثلا فيها تماثلا في الدرجة عند الله وإن تفاضلا فيها تفاضلا في الدرجة وكذلك إذا كان رجل من بني هاشم ورجل من الناس أو العرب أو العجم فاضلهما عند الله أتقاهما فإن تماثلا في التقوى تماثلا في الدرجة ولا يفضل أحدهما عند الله لا بأبيه ولا ابنه ولا بزوجته ولا بعمه ولا بأخيه
8
222
كما أن الرجلين إن كانا عالمين بالطب أو الحساب أو الفقه أو النحو أو غير ذلك فأكملهما بالعلم بذلك أعلمهما به فإن تساويا في ذلك تساويا في العلم ولا يكون أحدهما أعلم بكون أبيه أو ابنه أعلم من الآخر وهكذا في الشجاعة والكرم والزهد والدين إذا تبين ذلك فالفضائل الخارجية لا عبرة بها عند الله تعالى إلا أن تكون سببا في زيارة الفضائل الداخلية وحينئذ فتكون الفضيلة بالفضائل الداخلية وأما الفضائل البدنية فلا اعتبار بها إن لم تكن صادرة عن الفضيلة النفسانية وإلا فمن صلى وصام وقاتل وتصدق بغير نية خالصة لم يفضل بذلك فالاعتبار بالقلب كما في الصحيحين عن النبيصلى الله عليه وسلم أنه قال ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب
8
223(189/154)
وحينئذ فمن كام أكمل في الفضائل النفسانية فهو أفضل مطلقا وأهل السنة لا ينازعون في كمال علي وأنه في الدرجة العليا من الكمال وإنما النزاع في كونه أكمل من الثلاثة وأحق بالإمامة منهم وليس فيما ذكره ما يدل على ذلك وهذا الباب للناس فيه طريقان منهم من يقول إن تفضيل بعض الأشخاص على بعض عند الله لا يعلم إلا بالتوقيف فإن حقائق ما في القلوب ومراتبها عند الله مما استأثر الله به فلا يعلم ذلك إلا بالخبر الصادق الذي يخبر عن الله ومنهم من يقول قد يعلم ذلك بالاستدلال وأهل السنة يقولون إن كلا من الطريقين إذا أعطى حقه من السوك دل على أن كلا من الثلاثة أكمل من علي ويقولون نحن نقرر ذلك في عثمان فإذا ثبت ذلك في عثمان كان في أبي بكر وعمر بطريق الأولى فإن تفضيل أبي بكر وعمر على عثمان لم ينازع فيه أحد بل وتفضيلهما على عثمان وعلي لم يتنازع فيه من له عند الأمة قدر لا من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة السنة بل إجماع المسلمين على
8
224(189/155)
ذلك قرنا بعد قرن أعظم من إجماعهم على إثبات شفاعة نبينا في أهل الكبائر وخروجهم من النار وعلى إثبات الحوض والميزان وعلى قتال الخوارج ومانعي الزكاة وعلى صحة إجارة العقار وتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها بل إيمان أبي بكر وعمر وعدالتهما مما وافقت عليه الخوارج مع تعنتهم وهم ينازعون أيمان علي وعثمان واتفقت الخوارج على تكفير علي وقدحهم فيه أكثر من قدحهم في عثمان والزيدية بالعكس والمعتزلة كان قدماؤهم يميلون إلى الخوارج ومتأخروهم يميلون إلى الزيدية كما أن الرافضة قدماؤهم يصرحون بالتجسيم ومتأخروهم على قول الجهمية والمعتزلة وكانت الشيعة الأولى لا يشكون في تقديم أبي بكر وعمر وأما عثمان فكثير من الناس يفضل عليه عليا وهذا قول كثير من الكوفيين وغيرهم وهو القول الأول للثورى ثم رجع عنه وطائفة أخرى لا تفضل أحدهما على صاحبه وهو الذي حكاه ابن القاسم عن مالك عمن أدركه من المدنيين لكن قال ما أدركت أحدا ممن يقتدي به يفضل أحدهما على صاحبه وهذا يحتمل السكوت عن الكلام في ذلك فلا يكون قولا وهو الأظهر ويحتمل التسوية بينهما وذكر ابن القاسم عنه أنه لم يدرك
8
225(189/156)
أحدا ممن يقتدي به يشك في تقديم أبي بكر وعمر على عثمان وعلي وأما جمهور الناس ففضلوا عثمان وعليه استقر أمر أهل السنة وهو مذهب أهل الحديث ومشايخ الزهد والتصوف وأئمة الفقهاء كالشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وأبي حنيفة وأصحابه وإحدى الروايتين عن مالك وعليها أصحابة قال مالك لا أجعل من خاض في الدماء كمن لم يخض فيها وقال الشافعي وغيره إنه بهذا قصد والى المدينة الهاشمي ضرب مالك وجعل طلاق المكره سببا ظاهرا وهو أيضا مذهب جماهير أهل الكلام الكرامية والكلابية والأشعرية والمعتزلة وقال أيوب السختياني من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار وهكذا قال أحمد والدارقطني وغيرهما أنهم اتفقوا على تقديم عثمان ولهذا تنازعوا فيمن لم يقدم عثمان هل يعد مبتدعا على قولين هما روايتان عن أحمد فإذا قام الدليل على تقديم عثمان كان ما سواه أوكد وأما الطريق التوفيقي فالنص والاجماع أما النص ففي الصحيحين عن ابن عمر قال كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان
8
226(189/157)
وأما الإجماع فالنقل الصحيح قد أثبت أن عمر قد جعل الأمر شورى في ستة وأن ثلاثة تركوه لثلاثه عثمان وعلي وعبد الرحمن وأن الثلاثة اتفقوا على أن عبد الرحمن يختار واحدا منهما وبقي عبد الرحمن ثلاثة أيام حلف أنه لم ينم فيها كبير نوم يشاور المسلمين وقد اجتمع بالمدينة أهل الحل والعقد حتى أمراء الأنصار الأنصار وبعد ذلك اتفقوا على مبايعة عثمان بغير رغبة ولا رهبة فيلزم أن يكون عثمان هو الأحق ومن كان هو الأحق كان هو الأفضل فإن أفضل الخلق من كان أحق أن يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وإنما قلنا يلزم أن يكون هو الأحق لأنه لو لم يكن ذلك للزم إما جهلهم وإما ظلمهم فإنه إذا لم يكن أحق وكان غيره أحق فإن لم يعلموا ذلك كانوا جهالا وإن علموه وعدلوا عن الأحق إلى غيره كانوا ظلمة فتبين أن عثمان إن لم يكن أحق لزم إما جهلهم وإما ظلمهم وكلاهما منتف لأنهم أعلم بعثمان وعلي منا وأعلم بما قاله الرسول فيهما منا وأعلم بما دل عليه القرآن في ذلك منا ولأنهم خير القرون فيمتنع أن نكون نحن أعلم منهم بمثل هذه المسائل مع أنهم أحوج إلى علمها منا فإنهم لو جهلوا مسائل أصول دينهم وعلمناها نحن لكنا أفضل منهم وذلك ممتنع
8
227(189/158)
وكونهم علموا الحق وعدلوا عنه أعظم وأعظم فإن ذلك قدح في عدالتهم وذلك يمنع أن يكونوا خير القرون بالضرورة ولأن القرآن آثنى عليهم ثناء يقتضي غاية المدح فيمتنع إجماعهم وإصرارهم على الظلم الذي هو ضرر في حق الأمة كلها فإن هذا ليس ظلما للممنوع من الولاية فقط بل هو ظلم لكل من منع نفعه من ولاية الأحق بالولاية فإنه إذا كان راعيان أحدهما هو الذي يصلح للرعاية ويكون أحق بها كان منعه من رعايتها يعود بنقص الغنم حقها من نفعه ولأن القرآن والسنة دلا على أن هذه الأمة خير الأمم وأن خيرها أولها فإن كانوا مصرين على ذلك لزم أن تكون هذه الأمة شر الأمم وأن لا يكون أولها خيرها ولأنا نحن نعلم أن المتأخرين ليسوا مثل الصحابة فإن كان أولئك ظالمين مصرين على الظلم فالأمة كلها ظالمة فليست خير الأمم وقد قيل لابن مسعود لما ذهب إلى الكوفة من وليتم قال ولينا أعلانا ذا فوق ولم نأل وذو الفوق هو السهم يعني أعلانا سهما في الإسلام فإن قيل قد يكون أحق بالإمامة وعلي أفضل منه
8
228(189/159)
قيل أولا هذا السؤال لا يمكن أن يورده أحد من الإمامية لأن الأفضل عندهم أحق بالإمامة وهذا قول الجمهور من أهل السنة وهنا مقامان إما أن يقال الأفضل أحق بالإمامة لكن يجوز توليه المفضول إما مطلقا وإما للحاجة وإما أن يقال ليس كل من كان أفضل عند الله يكون أحق بالإمامة وكلاهما منتف ههنا أما الأول فلأن الحاجة إلى تولية المفضول في الاستحقاق كانت منتفية فإن القوم كانوا قادرين على تولية علي وليس هناك من ينازع أصلا ولا يحتاجون إلى رغبة ولا رهبة ولم يكن هناك لعثمان شوكة تخاف بل التمكن من تولية هذا كان كالتمكن من تولية هذا فامتنع أن يقال ما كان يمكن إلا تولية المفضول وإذا كانوا قادرين وهم يتصرفون للأمة لا لأنفسهم لم يجز لهم تفويت مصلحة الأمة من ولاية الفاضل فإن الوكيل والولي المتصرف لغيره ليس له أن يعدل عما هو أصلح لمن ائتمنه مع كونه قادرا على تحصيل المصلحة فكيف إذا كانت قدرته على الأمرين سواء وأما الثاني فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وكل من كان به أشبه فهو أفضل ممن لم يكن كذلك والخلافة كانت خلافة نبوة لم تكن ملكا فمن خلف النبي وقام مقامه كان أشبه به ومن كان أشبه به كان أفضل فالذي يخلفه أشبه به من غيره والأشبة به أفضل فالذي يخلفه أفضل
8
229(189/160)
وأما الطريق النظرية فقذ ذكر من ذكره من العلماء فقالوا عثمان كان أعلم بالقرآن وعلي أعلم بالسنة وعثمان أعظم جهادا بماله وعلي أعظم جهادا بنفسه وعثمان أزهد في الرياسة وعلي أزهد في المال وعثمان أورع عن الدماء وعلي أورع عن الأموال وعثمان حصل له من جهاد نفسه حيث صبر عن القتال ولم يقاتل مالم يحصل مثله لعلي وقال النبي صلى الله عليه وسلم المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله وسيرة عثمان في الولاية كانت أكمل من سيرة علي فقالوا فثبت أن عثمان أفضل لأن علم القرآن أعظم من علم السنة وفي صحيح مسلم وغيره أنه قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة وعثمان جمع القرآن كله بلا ريب وكان أحيانا يقرؤه في ركعة وعلي قد اختلف فيه هل حفظ القرآن كله أم لا
8
230(189/161)
والجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس كما في قوله تعالى وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله سورة التوبة الآية وقوله الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم سورة التوبة الآية وقوله إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض سورة الأنفال وذلك لأن الناس يقاتلون دون أموالهم فإن المجاهد بالمال قد أخرج ماله حقيقة لله والمجاهد بنفسه لله يرجو النجاة لا يوافق أنه يقتل في الجهاد ولهذا أكثر القادرين على القتال يهون على أحدهم أن يقاتل ولا يهون عليه إخراج ماله ومعلوم أنهم كلهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم لكن منهم من كان جهاده بالمال أعظم ومنهم من كان جهاده بالنفس أعظم وأيضا فعثمان له من الجهاد بنفسه بالتدبير في الفتوح ما لم يحصل مثله لعلي وله من الهجرة إلى أرض الحبشة مالم يحصل مثله لعلي وله من الذهاب إلى مكة يوم صلح الحديبيية مالم يحصل مثله لعلي وإنما بايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان لما بلغه أن المشركين قتلوا عثمان وبايع بإحدى يديه عن عثمان وهذا من أعظم الفضل حيث بايع عنه النبي صلى الله عليه وسلم
8
231(189/162)
وأما الزهد والورع في الرياسة والمال فلا ريب أن عثمان تولى ثنتى عشر سنة ثم قصد الخارجون عليه قتله وحصروه وهو خليفة الأرض والمسلمون كلهم رعيته وهو مع هذا لم يقتل مسلما ولا دفع عن نفسه بقتال بل صبر حتى قتل لكنه في الأموال كان يعطي لأقاربه من العطاء مالا يعطيه لغيرهم وحصل منه نوع توسع في الأموال وهو رضى الله عنه ما فعله إلا متأولا فيه له اجتهاد وافقه عليه جماعة من الفقهاء منهم من يقول إن ما أعطاه الله للنبي من الخمس والفيء هو لمن يتولى الأمر بعده كما هو قول أبي ثور وغيره ومنهم من يقول ذوو القربى المذكورون في القرآن هم ذوو قربى الإمام ومنهم من يقول الإمام العامل على الصدقات يأخذ منها مع الغنى وهذه كانت مآخذ عثمان رضي الله عنه كما هو منقول عنه فما فعله هو نوع تأويل يراه طائفة من العلماء وعلي رضي الله عنه لم يخص أحدا من أقاربه بعطاء لكن ابتدأ بالقتال لمن لم يكن مبتدئا بالقتال حتى قتل بينهم ألوف مؤلفة من المسلمين وإن كان ما فعله هو متأول فيه تأويلا وافقه عليه طائفة من العلماء وقالوا إن هؤلاء بغاة والله تعالى أمر بقتال البغاة بقوله فقاتلوا التي تبغي سورة الحجرات
8
232(189/163)
لكن نازعة أكثر العلماء كما نازع عثمان أكثرهم وقالوا إن الله تعالى قال وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل الآية سورة الحجرات قالوا فلم يأمر الله بقتال البغاة ابتداء بل إذا وقع قتال بين طائفتين من المؤمنين فقدأمر الله بالإصلاح بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى قوتلت ولم يقع الأمر كذلك ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها ترك الناس العمل بهذه الآية رواه مالك بإسناده المعروف عنها ومذهب أكثر العلماء أن قتال البغاة لا يجوز إلا أن يبتدؤوا الإمام بالقتال كما فعلت الخوارج مع علي فإن قتاله الخوارج متفق عليه بين العلماء ثابت بالأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف قتال صفين فإن أولئك لم يبتدؤوا بقتال بل امتنعوا عن مبايعته
8
233(189/164)
ولهذا كان أئمة السنة كمالك وأحمد وغيرهما يقولون إن قتاله للخوارج مأمور به وأما قتال الجمل وصفين فهو قتال فتنة فلو قام قوم نحن نقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ولا ندفع زكاتنا إلى الإمام ونقوم بواجبات الإسلام لم يجز للإمام قتلهم عند أكثر العلماء كأبي حنيفة وأحمد وأبو بكر الصديق رضي الله عنه إنما قاتل مانعي الزكاة لأنهم امتنعوا عن أدائها مطلقا وإلا فلو قالوا نحن نؤديها بأيدينا ولا ندفعها إلى أبي بكر لم يجز قتالهم عند الأكثرين كأبي حنيفة وأحمد وغيرهما ولهذا كان علماء الأمصار على أن القتال كان قتال فتنة وكان من قعد عنه أفضل ممن قاتل فيه وهذا مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة والأوزاعي بل والثوري ومن لا يحصى عدده مع أن ابا حنيفة ونحوه من فقهاء الكوفيين فيما نقله القدوري وغيره عندهم لا يجوز قتال البغاة إلا إذا ابتدؤوا الإمام بالقتال وأما إذا أدوا الواجب من الزكاة وامتنعوا عن دفعها إليه لم يجز قتالهم وكذلك مذهب أحمد وغيره وهكذا جمهور الفقهاء على أن ذوي القربى هم قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه ليس للإمام ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود أن كليهما رضي الله عنه وإن كان ما فعله فيه هو متأول
8
234(189/165)
مجتهد يوافقه عليه طائفة من العلماء المجتهدين الذين يقولون بموجب العلم والدليل ليس لهما عمل يتهمون فيه لكن اجتهاد عثمان كان أقرب إلى المصلحة وأبعد عن المفسدة فإن الدماء خطرها أعظم من الأموال ولهذا كانت خلافة عثمان هادية مهدية ساكنة والأمة فيها متفقة وكانت ست سنين لا ينكر الناس عليه شيئا ثم أنكروا أشياء في الست الباقية وهي دون ما أنكروه على علي من حين تولى والذين خرجوا على عثمان طائفة من أوباش الناس وأما علي فكثير من السابقين الأولين لم يتبعوه ولم يبايعوه وكثير من الصحابة والتابعين قاتلوه وعثمان في خلافته فتحت الأمصار وقوتلت الكفار وعلي في خلافته لم يقتل كافر ولم تفتح مدينة فإن كان ما صدر عن الرأي فرأى عثمان أكمل وإن كان عن القصد فقصده أتم قالوا وإن كان علي تزوج بفاطمة رضي الله عنهما فعثمان قد زوجه النبي صلى الله عليه وسلم ابنتين من بناته وقال لو كان عندنا ثالثة لزوجناها عثمان وسمى ذو النورين بذلك إذ لم يعرف أحد جمع بين بنتي نبي غيره
8
235(189/166)
وقد صاهر النبي صلى الله عليه وسلم من بني أمية من هو دون عثمان أبو العاص بن الربيع فزوجه زينب أكبر بناته وشكر مصاهرته محتجا به على علي لما أراد أن يتزوج بنت أبي جهل فإنه قال إن بني المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا فتاتهم علي بن أبي طالب وإني لا آذان ثم لا آذان إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل أبدا إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه وقال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي وهكذا مصاهرة عثمان له لم يزل فيها حميدا لم يقع منه ما يعتب عليه فيها حتى قال لو كان عندنا ثالثة لزوجناها عثمان وهذا يدل على أن مصاهرته للنبي صلى الله عليه وسلم أكمل من مصاهرة علي له وفاطمة كانت أصغر بناته وعاشت بعده وأصيبت به فصار لها من الفضل ما ليس لغيرها ومعلوم أن كبيرة البنات في العادة تزوج قبل الصغيرة فأبو العاص تزوج أولا زينب بمكة ثم عثمان تزوج برقية وأم كلثوم واحدة بعد واحدة
8
236(189/167)
قالوا وشيعة عثمان المختصون به كانوا أفضل من شيعة علي المختصين به وأكثر خيرا وأقل شرا فإن شيعة عثمان أكثر ما نقم عليهم من البدع أنحرافهم عن علي وسبهم له على المنابر لما جرى بينهم وبينه من القتال ما جرى لكن مع ذلك لم يكفروه ولا كفروا من يحبه وأما شيعة علي ففيهم من يكفر الصحابة والأمة ويلعن أكابر الصحابة ما هو أعظم من ذاك بأضعاف مضاعفة وشيعة عثمان تقاتل الكفار والرافضة لا تقاتل الكفار وشيعة عثمان لم يكن فيها زنديق ولا مرتد وقد دخل في شيعة علي من الزنادقة والمرتدين مالا يحصى عدده إلا الله تعالى وشيعة عثمان لم توال الكفار والرافضة يوالون اليهود والنصارى والمشركين على قتال المسلمين كما عرف منهم وقائع وشيعة عثمان ليس فيهم من يدعي فيه الإلهية ولا النبوة وكثير من الداخلين في شيعة علي من يدعي نبوته أو إلهيتة وشيعة عثمان ليس فيهم من قال إن عثمان إمام معصوم ولا منصوص عليه والرافضة تزعم أن عليا منصوص عليه معصوم
8
237(189/168)
وشيعة عثمان متفقة على تقديم أبي بكر وتفضيلهما على عثمان وشيعة علي المتأخرون أكثرهم يذمونهما ويسبونهما وإما الرافضة فمتفقة على بغضها وذمهما وكثير منهم يكفرونهما وأما الزيدية فكثير منهم أيضا يذمهما ويسبهما بل ويلعنهما وخيار الزيدية الذين يفضلونه عليهما ويذمون عثمان أو يقعون به وقد كان أيضا في شيعة عثمان من يؤخر الصلاة عن وقتها يؤخر الظهر أو العصر ولهذا لما تولى بنو العباس كانوا أحسن مراعاة للوقت من بني أمية لكن شيعة علي المختصون به الذين لا يقرون بإمامة أحد من الأئمة الثلاثة وغيرهم أعظم تعطيلا للصلاة بل ولغيرها من الشرائع وأنهم لا يصلون جمعة ولا جماعة فيعطلون المساجد ولهم في تقديم العصر والعشاء وتأخير المغرب ما هم أشد انحرافا فيه من أولئك وهم مع هذا يعظمون المشاهد مع تعطيل المساجد مضاهاة للمشركين وأهل الكتاب الذين كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا فأين هذا من هذا فالشر والفساد الذي في شيعة علي أضعاف أضعاف الشر والفساد الذي في شيعة عثمان والخير والصلاح الذي في شيعة عثمان اضعاف أضعاف الخير الذي في شيعة علي وبنو أمية كانوا شيعة
8
238(189/169)
عثمان فكان الإسلام وشرائعه في زمنهم أظهر وأوسع مما كان بعدهم وفي الصحيحين عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى اثنى عشر خليفة كلهم من قريش ولفظ البخاري اثنى عشر أميرا وفي لفظ لا يزال أمر الناس ماضيا ولهم أثنا عشر رجلا وفي لفظ لا يزال الإسلام عزيزا إلى أثنى عشر خليفة كلهم من قريش وهكذا كان فكان الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ثم تولى من اجتمع الناس عليه وصار له عز ومنعة معاوية وابنه يزيد ثم عبد الملك وأولاده الأربعة وبينهم عمر بن عبد العزيز وبعد ذلك حصل في دولة الإسلام من النقص ما هو باق إلى الآن فإن بني أمية تولوا على جميع أرض الإسلام وكانت الدولة في زمنهم عزيزة والخليفة يدعى باسمه عبد الملك وسليمان لا يعرفون عضد الدولة ولا عز الدين وبهاء الدين وفلان الدين وكان أحدهم هو الذي يصلي بالناس الصلوات الخمس وفي المسجد يعقد الرايات ويؤمر الأمراء وإنما يسكن داره لا يسكنون الحصون ولا يحتجبون عن الرعية
8
239(189/170)
وكان من أسباب ذلك أنهم كانوا في صدر الإسلام في القرون المفضلة قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم وأعظم ما نقمه الناس على بني أمية شيئان أحدهما تكلمهم في علي والثاني تأخير الصلاة عن وقتها ولهذا روى عمر بن مرة الجملي بعد موته فقيل له ما فعل الله بك قال غفر لي بمحافظتي على الصلوات في مواقيتها وحبي علي بن أبي طالب فهذا حافظ على هاتين السنتين حين ظهر خلافهما فغفر الله له بذلك وهكذا شأن من تمسك بالسنة إذا ظهرت بدعة مثل من تمسك بحب الخلفاء الثلاثة حيث يظهر خلاف ذلك وما أشبهه ثم كان من نعم الله سبحانه ورحمته بالإسلام أن الدولة لما انتقلت إلى بني هاشم صارت في بني العباس فإن الدولة الهاشمية أول ما ظهرت كانت الدعوة إلى الرضا من آل محمد وكانت شيعة الدولة محبين لبني هاشم وكان الذي تولى الخلافة من بني هاشم يعرف قدر الخلفاء الراشدين والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فلم يظهر في دولتهم إلا تعظيم الخلفاء الراشدين وذكرهم على المنابر والثناء عليهم وتعظيم الصحابة وإلا فلو تولى والعياذ بالله رافضي يسب الخلفاء والسابقين الأولين لقلب الإسلام
8
240(189/171)
ولكن دخل في غمار الدولة من كانوا لا يرضون باطنه ومن كان لا يمكنهم دفعه كما لم يمكن عليا قمع الأمراء الذين هم أكابر عسكره كالأشعث بن قيس والأشتر النخعي وهاشم المرقال وأمثالهم ودخل من أبناء المجوس ومن في قلبه غل على الإسلام من أهل البدع والزنادقة وتتبعهم المهدي بقتلهم حتى اندفع بذلك شر كبير وكان من خيار خلفاء بني العباس وكذلك الرشيد كان فيه من تعظيم العلم والجهاد والدين ما كانت به دولته من خيار دول بني العباس وكأنما كانت تمام سعادتهم فلم ينتظم بعدها الأمر لهم مع أن أحدا من العباسيين لم يستولوا على الأندلس ولا على أكثر المغرب وإنما غلب بعضهم على إفريقية مدة ثم أخذت منهم بخلاف أولئك فإنهم استولوا على جميع المملكة الإسلامية وقهروا جميع أعداء الدين وكانت جيوشهم جيشا بالأندلس يفتحه وجيشا ببلاد الترك يقاتل القان الكبير وجيشا ببلاد العبيد وجيشا بأرض الروم وكان الإسلام في زيادة وقوة عزيزا في جميع الأرض وهذا تصديق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال لا
8
241(189/172)
يزال هذا الدين عزيزا ما تولى اثنا عشر خليفة كلهم من قريش وهؤلاء الاثنا عشر خليفة هم المذكورون في التوراة حيث قال في بشارته بإسماعيل وسيلد اثنى عشر عظيما ومن طن أن هؤلاء الاثنى عشر هم الذين تعتقد الرافضة إمامتهم فهو في غاية الجهل فإن هؤلاء ليس فيهم من كان له سيف إلا علي بن أبي طالب ومع هذا فلم يتمكن في خلافته من غزو الكفار ولا فتح مدينة ولا قتل كافرا بل كان المسلمون قد اشتغل بعضهم بقتال بعض حتى طمع فيهم الكفار بالشرق والشام من المشركين وأهل الكتاب حتى يقال إنهم أخذوا بعض بلادالمسلمين وإن بعض الكفار كان يحمل إليه كلام حتى يكف عن المسلمين فأي عز للإسلام في هذا والسيف يعمل في المسلمين وعدوهم قد طمع فيهم ونال منهم وأما سائر الأئمة غير علي فلم يكن لأحد منهم سيف لا سيما المنتظر بل هو عند من يقول بإمامته إما خائف عاجز وإما هارب مختف من أكثر من أربعمائة سنة وهو لم يهد ضالا ولا أمر بمعروف ولا نهى عن منكر ولا نصر مظلوما ولا أفتى أحدا في مسألة ولا حكم
8
242(189/173)
في قضية ولا يعرف له وجود فأي فائدة حصلت من هذا لو كان موجودا فضلا عن أن يكون الإسلام به عزيزا ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإسلام لا يزال عزيزا ولا يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى يتولى اثنا عشر خليفة فلو كان المراد بهم هؤلاء الاثنا عشر وآخرهم المنتظر وهو موجود الآن إلى أن يظهر عندهم كان الإسلام لم يزل عزيزا في الدولتين الأموية والعباسية وكان عزيزا وقد خرج الكفار بالمشرق والمغرب وفعلوا بالمسلمين ما يطول وصفه وكان الإسلام لا يزال عزيزا إلى اليوم وهذا خلاف ما دل عليه الحديث وأيضا فالإسلام عند الإمامية هو ما هم عليه وهم اذل فرق الأمة فليس في أهل الأهواء أذل من الرافضة ولا أكتم لقوله منهم ولا أكثر استعمالا للتقية منهم وهم على زعمهم شيعة الاثنى عشر وهم في غاية الذل فأي عز للإسلام بهؤلاء الاثنى عشر على زعمهم وكثير من اليهود إذا أسلم يتشيع لأنه رأى في التوراة ذكر الاثنى عشر فظن أن هؤلاء هم أولئك وليس الأمر كذلك بل الاثنا عشر هم الذين ولوا على الأمة من قريش ولاية عامة فكان الإسلام في زمنهم عزيزا وهذا معروف
8
243(189/174)
وقد تأول ابن هيبرة الحديث على أن المراد أن قوانين المملكة باثنى عشر مثل الوزير والقاضي ونحو ذلك وهذا ليس بشيء بل الحديث على ظاهره لا يحتاج إلى تكلف وآخرون قالوا فيه مقالة ضعيفة كأبي الفرج بن الجوزي وغيره ومنهم من قال لا افهم معناه كأبي بكر بن العربي وأما مروان وابن الزبير فلم يكن لواحد منهما ولاية عامة بل كان زمنه زمن فتنة لم يحصل فيها من عز الإسلام وجهاد أعدائه ما يتناوله الحديث ولهذا جعل طائفة من الناس خلافة على من هذا الباب وقالوا لم تثبت بنص ولا إجماع وقد أنكر الإمام أحمد وغيره على هؤلاء وقالوا من لم يربع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله واستدل على ثبوت خلافته بحديث سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة ثم تكون ملكا فقيل للرواي إن بني أمية يقولون إن عليا لم يكن خليفة فقال كذبت أستاه بني الزرقاء والكلام على هذه المسألة لبسطه موضع آخر
8
244
والمقصود هنا أن الحديث الذي فيه ذكرالاثنى عشر خليفة سواء قدر أن عليا دخل فيه أو قدر انه لم يدخل فالمراد بهم من تقدم من الخلفاء من قريش وعلي أحق الناس بالخلافة في زمنه بلا ريب عند أحد من العلماء فصل إذ تبين هذا فما ذكره من فضائله التي هي عند الله فضائل فهي حق لكن للثلاثة ما هو أكمل منها وأما ما ذكره من الفضيلة بالقرابة فعنه أجوبة أحدها أن هذا ليس هو عند الله فضيلة فلا عبرة به فإن العباس أقرب منه نسبا وحمزة من السابقين الأولين من المهاجرين وقد روى أنه سيد الشهداء وهو أقرب نسبا منه وللنبي صلى الله عليه وسلم من بني العم عدد كثير كجعفر وعقيل وعبد الله وعبيد الله والفضل وغيرهم من بني العباس وكربيعة وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب
8
245(189/175)
وليس هؤلاء أفضل من أهل بدر ولا من أهل بيعة الرضوان ولا من السابقين الأولين إلا من تقدم بسابقته كحمزة وجعفر فإن هذين رضي الله عنهما من السابقين الأولين وكذلك عبيدة بن الحارث الذي استشهد يوم بدر وحينئذ فما ذكره من فضائل فاطمة والحسن والحسين لا حجة فيه مع أن هؤلاء لهم من الفضائل الصحيحة ما لم يذكره هذا المصنف ولكن ذكر ما هو ذكب كالحديث الذي رواه أخطب خوارزم أنه لما تزوج علي بفاطمة زوجه الله إياها من فوق سبع سموات وكان الخاطب جريل وكان إسرافيل وميكائيل في سبعين ألف من الملائكة شهودا وهذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث وكذلك الحديث الذي ذكره عن حذيفة الثاني أن يقال إن كان إيمان الأقارب فضيلة فأبو بكر متقدم في هذا الفضيلة فإن أباه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم باتفاق الناس وأبو طالب لم يؤمن وكذلك أمة آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأولاده وأولاد وأولاده وليس هذا لأحد من الصحابة غيره فليس في أقارب أبي بكر ذرية أبي قحافة لا من الرجال ولا من النساء إلا من قد آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بنته وكانت أحب أزواجه إليه وهذا أمر لم يشركه فيه أحد من الصحابة إلا عمر ولكن لم تكن حفصة
8
246(189/176)
ابنته بمنزله عائشة بل حفصة طلقها ثم راجعها وعائشة كان يقسم لها ليلتين لما وهبتها سودة ليلتها ومصاهرة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم كانت على وجه لا يشاركه فيه أحد وأما مصاهرة علي فقد شركه فيها عثمان وزوجه النبي صلى الله عليه وسلم بنتا بعد بنت وقال لو كان عندنا ثالثة لزوجناها عثمان ولهذا سمى ذو النورين لأنه تزوج بنتي نبي وقد شركه في ذلك أبو العاص بن الربيع زوجه النبي صلى الله عليه وسلم أكبر بناته زينب وحمد مصاهرته وأراد أن يتشبه به علي في حكم المصاهرة لما أراد علي أن يتزوج بنت أبي جهل فذكر صهره هذا قال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي وأسلمت زينب قبل إسلامه بمدة وتأيمت عليه حتى أعادها إليه النبي صلى الله عليه وسلم قيل أعادها بالنكاح الأول وقيل بل جدد لها نكاحا والصحيح أنه أعادها بالنكاح الأول هذا الذي ثبته أئمة الحديث كأحمد وغيره وقد تنازع الناس في مثل هذه المسألة إذا أسلمت الزوجة قبل زوجها على أقوال مذكورة في غير هذا الموضع
8
247
باب قال الرافضي الفصل الرابع في إمامة باقي الأئمة الاثنى عشر لنا في ذلك طرق أحدها النص وقد توارثته الشيعة في البلاد المتباعدة خلفا عن سلف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للحسين هذا إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم اسمه كاسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما والجواب من وجوه أحدها أن يقال أولا هذا كذب على الشيعة فإن هذا لا ينقله إلا طائفة من طوائف الشيعة وسائر طوائف الشيعة تكذب هذا والزيدية بأسرها تكذب هذا وهم أعقل الشيعة وأعلمهم وخيارهم والإسماعيلية كلهم يكذبون بهذا وسائر فرق الشيعة تكذب بهذا إلا الاثنى عشرية وهم فرقة من نحو سبعين فرقة من طوائف الشيعة
8
248(189/177)
وبالجملة فالشيعة فرق متعددة جدا وفرقهم الكبار أكثر من عشرين فرقة كلهم تكذب هذا إلا فرقة واحدة فأين تواتر الشيعة الثاني أن يقال هذا معارض بما نقله غير الاثنى عشرية من الشيعة من نص آخر يناقض هذا كالقائلين بإمامة غير الاثنى عشر وبما نقله الرواندية أيضا فإن كلا من هؤلاء يدعى من النص غير ما تدعيه الاثنا عشرية الثالث أن يقال علماء الشيعة المتقدمون ليس فيهم من نقل هذا النص ولا ذكره في كتاب ولا احتج به في خطاب وأخبارهم مشهورة متواترة فعلم أن هذا من اختلاف المتأخرين وإنما اختلق هذا لما مات الحسن بن علي العسكري وقيل إن ابنه محمدا غائب فحينئذ ظهر هذا النص بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من مائتين وخمسين سنة الرابع أن يقال أهل السنة وعلماؤهم أضعاف أضعاف الشيعة كلهم يعلمون أن هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم علما يقينا لا يخالطه الريب ويباهلون الشيعة على ذلك كعوام الشيعة مع علي فإن ادعى علماء الشيعة أنهم يعلمون تواتر هذا لم يكن هذا أقرب من دعوى علماء السنة بكذب هذا
8
249(189/178)
الخامس أن يقال إن من شروط التواتر حصول من يقع به العلم من الطرفين والوسط وقبل موت الحسن بن علي العسكري لم يكن أحد يقول بإمامة هذا المنتظر ولا عرف من زمن علي ودولة بني أمية أحد أدعى إمامة الاثنى عشر وهذا القائم وإنما كان المدعون يدعون النص على علي أو على ناس بعده وأما دعوى النص على الاثنى عشر وهذا القائم فلا يعرف أحد قاله متقدما فضلا عن أن يكون نقله متقدما السادس أن الصحابة لم يكن فيهم أحد رافضي أصلا وإن ادعى مدع على عدد قليل منهم أنهم كانوا رافضة فقد كذب عليهم ومع هذا فأولئك لا يثبت بهم التواتر لأن العدد القليل المتفقين على مذهب يمكن عليهم التواطؤ على الكذب والرافضة تجوز الكذب على جمهور الصحابة فكيف لا يجوز على من نقل هذا النص مع قلتهم إن كان نقله أحد منهم وإذا لم يكن في الصحابة من تواتر به هذا النقل انقطع التواتر من أوله السابع أن الرافضة يقولون إن الصحابة ارتدوا عن الإسلام بجحد النص إلا عددا قليلا نحو العشرة أو أقل أو أكثر مثل عمار وسلمان وأبي ذر والمقداد ومعلوم أن أولئك الجمهور لم ينقلوا هذا النص فإنهم قد كتموه عندهم فلا يمكنهم أن يضيفوا نقله إلى هذه
8
250(189/179)
الطائفة وهؤلاء كانوا عندهم مجتمعين على موالاة علي متواطئين على ذلك وحينئذ فالطائفة القليلة التي يمكن تواطؤها على النقل لا يحصل بنقلها تواتر لجواز اجتماعهم على الكذب فإذا كانت الرافضة تجوز على جماهير الصحابة مع كثرتهم الارتداد عن الإسلام وكتمان ما يتعذر في العادة التواطؤ على كتمانه فلأن يجوز على قليل منهم تعمد الكذب بطريق الأولى والأخرى والأحرى وهم يصرحون بكذب الصحابة إذا نقلوا ما يخالف هواهم فكيف يمكنهم مع ذلك تصديقهم في مثل هذا إذا كان الناقلون له ممن له هوى ومعلوم أن شيعة علي لهم في نصره فكيف يصدقون في نقل النص عليه هذا مع أن العقلاء وأهل العلم بالنقل يعلمون أنه ليس في فرق المسلمين أكثر تعمدا للكذب وتكذيبا للحق من الشيعة بخلاف غيرهم فإن الخوارج وإن كانوا مارقين فهم يصدقون لا يتعمدون الكذب وكذلك المعتزلة يتدينون بالصدق وأما الشيعة فالكذب عليهم غالب من حين ظهروا
8
251(189/180)
الوجه الثامن أن يقال قد علم أهل العلم أن أول ما ظهرت الشيعة الإمامية المدعية للنص في أواخر أيام الخلفاء الراشدين وافترى ذلك عبدالله بن سبأ وطائفة الكذابون فلم يكونوا موجودين قبل ذلك فأي تواتر لهم التاسع أن الأحاديث التي نقلها الصحابة في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان أعظم تواترا عند العامة والخاصة من نقل هذا النص فإن جاز أن يقدح في نقل جماهير الصحابة لتلك الفضائل فالقدح في هذا أولى وإن كان القدح في هذا متعذرا ففي تلك أولى وإذا ثبتت فضائل الصحابة التي دلت عليها تلك النصوص الكثيرة المتواترة امتنع اتفاقهم على مخالفة هذا النص فإن مخالفته لو كان حقا من أعظم الإثم والعدوان العاشر أنه ليس أحد من الإمامية ينقل هذا النص بإسناد متصل فضلا عن أن يكون متواترا وهذه الألفاظ تحتاج إلى تكرير فإن لم يدرس ناقلوها عليها لم يحفظوها وأين العدد الكبير الذين حفظوا هذه الألفاظ كحفظ ألفاظ القرآن وحفظ التشهد والأذان جيلا بعد جيل إلى الرسول ونحن إذا ادعينا التواتر في فضائل الصحابة ندعى تارة التواتر من جهة المعنى كتواتر خلافة الأربعة ووقعة الجمل وصفين
8
252(189/181)
وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة وعلي بفاطمة ونحو ذلك مما لا يحتاج فيه إلى نقل لفظ معين يحتاج إلى درس وكتواتر ما للصحابة من السابقة والأعمال وغير ذلك وتارة التواتر في نقل ألفاظ حفظها من يحصل العلم بنقله الوجه الحادي عشر أن المنقول بالنقل المتواتر عن أهل البيت يكذب مثل هذا النقل وأنهم لم يكونوا يدعون أنهم منصوص عليهم بل يكذبون من يقول ذلك فضلا عن أن يثبتوا النص على اثنى عشر الوجه الثاني عشر أن الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدد الاثنى عشر مما أخرجاه في الصحيحين عن جابر بن سمرة قال دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول لا يزال أمر الناس ماضيا ولهم اثنا عشر رجلا ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عني فسألت أبي ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم قال قال كلهم من قريش وفي لفظ لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثنى عشر خليفة ثم قال كلمة لم أفهمها قلت لأبي ما قال قال كلهم من قريش وفي لفظ لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى اثنى عشر خليفة
8
253(189/182)
والذي في التوراة يصدق هذا وهذا النص لا يجوز أن يراد به هؤلاء الاثنا عشر لأنه قال لا يزال الإسلام عزيزا ولا يزال هذا الأمر عزيزا ولا يزال أمر الناس ماضيا وهذا يدل على أنه يكون أمر الإسلام قائما في زمان ولايتهم ولا يكون قائما إذا انقطعت ولايتهم وعند هؤلاء الاثنى عشرية لم يقم أمر الأمة في مدة أحد من هؤلاء الاثنى عشر بل مازال أمر فاسدا منتقضا يتولى عليهم الظالمون المعتدون بل المنافقون الكافرون وأهل الحق أذل من اليهود وأيضا فإن عندهم ولاية المنتظر دائمة إلى آخر الدهر وحينئذ فلا يبقى زمان يخلو عندهم من الاثنى عشر وإذا كان كذلك لم يبق الزمان نوعين نوع يقوم فيه أمر الأمة ونوع لا يقوم بل هو قائم في الأزمان كلها وهو خلاف الحديث الصحيح وأيضا فالأمر الذي لا يقوم بعد ذلك إلا إذا قام المهدي إما المهدي الذي يقر به أهل السنة وإما مهدي الرافضة ومدته قليلة لا ينتظم فيها أمر الأمة وأيضا فإنه قال في الحديث كلهم من قريش ولو كانوا مختصين بعلى وأولاده لذكر ما يميزون به ألا ترى أنه لم يقل كلهم من ولد
8
254
إسماعيل ولا من العرب وإن كانوا كذلك لأنه قصد القبيلة التي يمتازون بها فلو امتازوا بكونهم من بني هاشم أو من قبيل علي مع علي لذكروا بذلك فلما جعلهم من قريش مطلقا علم أنهم من قريش بل لا يختصون بقبيلة بل بنو تيم وينو عدي وينو عبد شمس وبنو هاشم فإن الخلفاء الراشدين كانوا من هذه القبائل فصل وأما الحديث الذي رواه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه كاسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وذلك هو المهدي فالجواب أن الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره
8
255(189/183)
كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن مسعود لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه رجل منى أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ورواه الترمذي وأبو داود من رواية أم سلمة وأيضا فيه المهدي من عترتي من ولد فاطمة ورواه أبو داود من طريق أبي سعيد وفيه يملك الأرض سبع سنين ورواه عن علي رضي الله عنه أنه نظر إلى الحسن وقال إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق يملأ الأرض قسطا
8
256
وهذه الأحاديث غلط فيها طوائف طائفة أنكروها واحتجوا بحديث ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا مهدي إلا عيسى بن مريم وهذا الحديث ضعيف وقد اعتمد أبو محمد بن الوليد البغدادي وغيره عليه وليس مما يعتمد عليه ورواه ابن ماجه عن يونس عن الشافعي والشافعي رواه عن رجل من أهل اليمن يقال له محمد ابن خالد الجندي وهو ممن لا يحتج به ولس هذا في مسند الشافعي وقد قيل إن الشافعي لم يسمعه وأن يونس لم يسمعه من الشافعي الثاني أن الاثنى عشرية الذين أدعوا أن هذا هو مذهبهم مهديهم اسمه محمد بن الحسن والمهدي المنعوت الذي وصفه النبي صلى
8
257(189/184)
الله عليه وسلم اسمه محمد بن عبد الله ولهذا حذفت طائفة ذكر الأب من لفظ الرسول حتى لا يناقض ما كذبت وطائفة حرفته فقالت جده الحسين وكنيته أبو عبد الله فمعناه محمد بن أبي عبد الله وجعلت الكنية اسما وممن سلك هذا ابن طلحة في كتابه الذي سماه غاية السول في مناقب الرسول ومن أدنى نظر يعرف أن هذا تحريف صريح وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل يفهم أحد من قوله يواطىء اسمه اسمي واسم ابيه اسم أبي إلا أن اسم أبيه عبد الله وهل يدل هذا اللفظ على أن جده كنيته أبو عبد الله ثم أي تمييز يحصل له بهذا فكم من ولد الحسين من اسمه محمد وكل هؤلاء يقال في أجدادهم محمد بن أبي عبد الله كما قيل في هذا وكيف يعدل من يريد البيان إلى من اسمه محمد بن الحسن فيقول اسمه محمد بن عبدالله ويعنى بذلك أن جده أبو عبد الله وهذا كان تعريفه بأنه محمد بن الحسن أو ابن أبي الحسن لأن
8
258(189/185)
جده على كنيته أبو الحسن أحسن من هذا وأبين لمن يريد الهدى والبيان وأيضا فإن المهدي المنعوت من ولد الحسن بن علي لا من ولد الحسين كما تقدم لفظ حديث علي الثالث أن طوائف ادعى كل منهم أن المهدي المبشر به مثل مهدي القرامطة الباطنية الذي أقام دعوتهم بالمغرب وهو من ولد ميمون القداح وأدعوا أن ميمونا هذا هو من ولد محمد بن إسماعيل وإلى ذلك انتسب الإسماعيلية وهم ملاحدة في الباطن خارجون عن جميع الملل أكفر من الغالية كالنصيرية ومذهبهم مركب من مذهب المجوس والصابئة والفلاسفة مع إظهار التشيع وجدهم رجل يهودي كان ربيبا لرجل مجوسي وقد كانت لهم دولة وأتباع وقد صنف العلماء كتبا في كشف أسرارهم وهناك أستارهم مثل كتاب القاضي أبي بكر الباقلاني والقاضي عبد الجبار الهمداني وكتاب الغزالي ونحوهم وممن ادعى أنه المهدي ابن التومرت الذي خرج أيضا بالمغرب وسمى أصحابه الموحدين وكان يقال له في خطبهم الإمام المعصوم والمهدي المعصوم الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا
8
259(189/186)
وظلما وهذا ادعى أنه من ولد الحسن دون الحسين فإنه لم يكن رافضيا وكان له من الخبرة بالحديث ما ادعى به دعوى تطابق الحديث وقد علم بالاضطرار أنه ليس هو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ومثل عدة آخرين ادعوا ذلك منهم من قتل ومنهم من ادعى ذلك فيه أصحابه وهؤلاء كثيرون لا يحصى عددهم إلا الله وربما حصل بأحدهم نفع لقوم وإن حصل به ضرر لآخرين كما حصل بمهدي المغرب انتفع به طوائف وتضرر به طوائف وكان فيه ما يحمد وإن كان فيه ما يذم وبكل حال فهو وأمثاله خير من مهدي الرافضة الذي ليس له عين ولا أثر ولا يعرف له حس ولا خبر لم ينتفع به أحد لا في الدنيا ولا في الدين بل حصل باعتقاد وجوده من الشر والفساد مالا يحصيه إلا رب العباد وأعرف في زماننا غير واحد من المشايخ الذين فيهم زهد وعبادة يظن كل منهم أنه المهدي وربما يخاطب أحدهم بذلك مرات متعددة ويكون المخاطب له بذلك الشيطان وهو يظن أنه خطاب من قبل الله ويكون أحدهم اسمه أحمد بن إبراهيم فيقال له محمد وأحمد سواء
8
260
وإبراهيم الخليل هو جد رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم وأبوك إبراهيم فقد واطأ اسمك اسمه واسم ابيك اسم أبيه ومع هذا فهؤلاء مع ما وقع لهم من الجهل والغلط كانوا خيرا من منتظر الرافضة ويحصل بهم من النفع مالا يحصل بمنتظر الرافضة ولم يحصل بهم من الضرر ما حصل بمنتظر الرافضة بل ما حصل بمنتظر الرافضة من الضرر أكثر منه فصل قال الرافضي الثاني أنا قد بينا أنه يجب في كل زمان إمام معصوم ولا معصوم غير هؤلاء إجماعا والجواب من وجوه أحدها منع المقدمة الأولى كما تقدم والثاني منع طوائف لهم المقدمة الثانية
8
261(189/187)
الثالث أن هذا المعصوم الذي يدعونه في وقت ما له مذ ولد عندهم أكثر من أربعمائة وخمسين سنة فإنه دخل السرداب عندهم سنة ستين ومائتين وله خمس سنين عند بعضهم وأقل من ذلك عند آخرين ولم يظهر عنه شيء مما يفعله أقل الناس تأثيرا مما يفعله آحاد الولاة والقضاة والعلماء فضلا عما يفعله الإمام المعصوم فأي منفعة للوجود في مثل هذا لو كان موجودا فكيف إذا كان معدوما والذين آمنوا بهذا المعصوم أي لطف وأي منفعة حصلت لهم به نفسه في دينهم أو دنياهم وهل هذا إلا أفسد مما يدعيه كثير من العامة في القطب والغوث ونحو ذلك من أسماء يعظمون مسماها ويدعون في مسماها ما هو أعظم من رتبة النبوة من غير تعيين لشخص معين يمكن أن ينتفع به الانتفاع المذكور في مسمى هذه الأسماء
8
262
وكما يدعى كثير منهم حياة الخضر مع أنهم لم يستفيدوا بهذا الدعوى منفعة لا في دينهم ولا في دنياهم وإنما غاية من يدعى ذلك أن يدعى جريان بعض ما يقدره الله على يدى مثل هؤلاء وهذا مع أنه لا حاجة لهم به فلا حاجة بهم إلى معرفته ولم ينتفعوا بذلك لو كان حقا فكيف إذا كان ما يدعونه باطلا ومن هؤلاء من يتمثل له الجنى في صورة ويقول أنا الخضر ويكون كاذبا وكذلك الذين يذكرون رجال الغيب ورؤيتهم إنما رأوا الجن وهم رجال غائبون وقد يظنون أنهم إنس وهذا قد بيناه في مواضع تطول حكايتها مما تواتر عندنا وهذا الذي تدعيه الرافضة إنما مفقود عندهم وإما معدوم عند العقلاء وعلى التقديرين فلا منفعة لأحد به لا في دين ولا في دنيا فمن علق به دينه بالمجهولات التي لا يعلم ثبوتها كان ضالا في دينه لأن ما علق به دينه لم يعلم صحته ولم يحصل له به منفعة فهل يفعل مثل هذا إلا جاهل لكن الذين يعتقدون حياة الخضر لا يقولون إنه يجب على الناس طاعته مع أن الخضر كان حيا موجودا
8
263(189/188)
فصل قال الرافضي الثالث الفضائل التي اشتمل كل واحد منهم عليها الموجبة لكونه إماما والجواب من وجوه أحدها أن تلك الفضائل غايتها أن يكون صاحبها أهلا أن تعقد له الإمامة لكنه لا يصير إماما بمجرد كونه أهلا كما أنه لا يصير الرجل قاضيا بمجرد كونه أهلا لذلك الثاني أن أهلية الإمامة ثابتة لأخرين من قريش كثبوتها لهؤلاء وهم أهل أن يتولوا الإمامة فلا موجب للتخصيص ولم يصيروا بذلك أئمة الثالث أن الثاني عشر منهم معدوم عند جمهور العقلاء فامتنع أن يكون إماما الرابع أن العسكريين ونحوهما من طبقة أمثالهما لم يعلم لها تبريز في عالم أو دين كما عرف لعلي بن الحسين وأبي جعفر وجعفر بن محمد
8
264
باب قال الرافضي والفصل الخامس أن من تقدمه لم يكن إماما ويدل عليه وجوه قلت والجواب أنه إن أريد بذلك أنهم لم يتولوا على المسلمين ولم يبايعهم المسلمون ولم يكن لهم سلطان يقيمون به الحدود ويوفون به الحقوق ويجاهدون به العدو ويصلون بالمسلمين الجمع والأعياد وغير ذلك مما هو داخل في معنى الإمامة فهذا بهت ومكابرة فإن هذا أمر معلوم بالتواتر والرافضة وغيرهم يعلمون ذلك ولو لم يتولوا الإمامة لم تقدح فيهم الرافضة لكن هم يطلقون ثبوت الإمامة وانتفاءها ولا يفصلون هل المراد ثبوت نفس الإمامة ومباشرتها أو نفس استحقاق ولاية الإمامة ويطلقون لفظ الإمام على الثاني ويوهمون أنه يتناول النوعين
8
265(189/189)
وإن أريد بذلك أنهم لم يكونوا يصلحون للإمامة وأن عليا كان يصلح لها دونهم أو أنه كان أصلح لها منهم فهذا كذب وهو مورد النزاع ونحن نجيب في ذلك جوابا عاما كليا ثم نجيب بالتفصيل أما الجواب العام الكلي فنقول نحن عالمون بكونهم أئمة صالحين للإمامة علما يقينا قطعيا وهذا لا يتنازع فيه اثنان من طوائف المسلمين غير الرافضة بل أئمة الأمة وجمهورها يقولون إنا نعلم أنهم كانوا أحق بالإمامة بل يقولون إنا نعلم أنهم كانوا أفضل الأمة وهذا الذي نعلمه ونقطع به ونجزم به لا يمكن أن يعارض بدليل قطعي ولا ظني أما القطعي فلأن القطعيات لا يتناقض موجبها ومقتضاها وأما الظنيات فلأن الظني لا يعارض القطعي وجملة ذلك أن كل ما يورده القادح فلا يخلو عن أمرين إما نقل لا نعلم صحته أو لا نعلم دلالته على بطلان إمامتهم وأي المقدمتين لم يكن معلوما لم يصلح لمعارضته ما علم قطعا وإذا قام الدليل القطعي على ثبوت إمامتهم لم يكن علينا أن نجيب عن الشبه المفضلة كما أن ما علمناه قطعا لم يكن علينا أن نجيب عما يعارضه من الشبه السوفسطائية وليس لأحد أن يدفع ما علم أيضا يقينا بالظن سواء كان ناظرا أو مناظرا بل أن تبين له وجه فساد الشبهة وبينه لغيره كان ذلك زيادة علم ومعرفة
8
266(189/190)
وتأييد للحق في النظر والمناظرة وإن لم يتبين ذلك لم يكن له أن يدفع اليقين بالشك وسنبين إن شاء الله تعالى الأدلة الكثيرة على استحقاقهم للإمامة وأنهم كانوا أحق بها من غيرهم فصل قال الرافضي الأول قول أبي بكر إن لي شيطانا يعتريني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني ومن شأن الإمام تكميل الرعية فكيف يطلب منهم الكمال والجواب من وجوه أحدها أن المأثور عنه أنه قال وإن لي شيطانا يعتريني يعني عند الغضب فإذا اعتراني فاجتنبوني لا أؤثر في أبشاركم وقال أطيعوني ما أطعت الله فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم وهذا الذي قاله أبو بكر رضي الله عنه من أعظم ما يمدح به كما سنبينه إن شاء الله تعالى
8
267
الثاني أن الشيطان الذي يعتريه قد فسر بأنه يعرض لابن آدم عند الغضب فخاف عند الغضب أن يعتدى على أحد من الرعية فأمرهم بمجانبته عند الغضب كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان فنهى عن الحكم عند الغضب وهذا هو الذي أراده أبو بكر أراد أن لا يحكم وقت الغضب وأمرهم أن لا يطلبوا منه حكما أو يحملوه على حكم في هذا الحال وهذا من طاعته لله ورسوله الثالث أن يقال الغضب يعتري بني آدم كلهم حتى قال سيد ولد آدم اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر وإني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه أيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة
8
268(189/191)
وقربة تقربه إليك يوم القيامة أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة وأخرجه مسلم عن عائشة قال دخل رجلان على النبي صلى الله عليه وسلم فأغضباه فسبهما ولعنهما فلما خرجا قلت يا رسول الله من أصاب من الخير ما أصاب هذان الرجلان قال وما ذاك قلت لعنتهما وسببتهما قال أو ما علمت ما شارطت عليه ربي قلت إنما أنا بشر فأي المسلمين سببته أو لعنته فاجعله له زكاة وأجرا وفي رواية أنس إني اشترطت على ربي فقلت إنما انا بشر أرضى كما يرضى البشر وأعضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من
8
269
أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة وأيضا فموسى رسول كريم وقد أخبر الله عن غضبه بما ذكره في كتابه فإذا كان مثل هذا لا يقدح في الرسالة فكيف يقدح في الإمامة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه أبا بكر بإبراهيم وعيسى في لينه وحلمه وشبه عمر بنوح وموسى في شدته في الله فإذا كانت هذه الشدة لا تنافي الإمامة فكيف تنافيها شدة أبي بكر الرابع أن يقال أبو بكر رضي الله عنه قصد بذلك الاحتراز أن يؤذى أحدا منهم فأنما أكمل هذا أو غيره ممن غضب علي من عصاه وقاتلهم وقاتلوه بالسيف وسفك دماءهم فإن قيل كانوا يستحقون القتال بمعصية الإمام وإغضابه قيل ومن عصى أبا بكر وأغضبه كان أحق بذلك لكن أبو بكر ترك ما يستحقه إن كان علي يستحق ذلك وإلا فيمتنع أن يقال من عصى
8
270(189/192)
عليا وأغضبه جاز أنه يقاتله ومن عصى أبا بكر لم يجز له تأديبه فدل على أن ما فعله أبو بكر أكمل من الذي فعله علي وفي المسند وغيره عن أبي برزة أن رجلا أغضب أبا بكر قال فقلت له أتأذن لي أن أضرب عنقه يا خليفة رسول الله فال فأذهبت كلمتي غضبه ثم قال ما كانت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستحل أن يقتل مسلما بمجرد مخالفة أمره والعلماء في حديث أبي برزة على قولين منهم من يقول مراده أنه لم يكن لأحد أن يقتل أحدا سبه إلا الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهم من يقول ما كان لأحد أن يحكم بعلمه في الدماء إلا الرسول وقد تخلف عن بيعته سعد بن عبادة فما آذاه بكلمة فضلا عن فعل وقد قيل إن عليا وغيره امتنعوا عن بيعته ستة أشهر فما أزعجهم ولا ألزمهم بيعته فهل هذا كله إلا من كمال ورعه عن أذى الأمة وكمال عدله وتقواه وهكذا قوله فإن اعتراني فاجتنبوني الخامس أن في الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه
8
271
وسلم أنه قال ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن قالوا وإياك يا رسول الله قال وإياي ولكن ربي أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير وفي الصحيح عن عائشة قالت يا رسول الله أو معي شيطان قال نعم قالت ومع كل إنسان قال نعم ومعك يا رسول الله قال نعم ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم والمراد في أصح القولين استسلم وانقاد لي ومن قال حتى أسلم أنا فقد حرف معناه ومن قال الشيطان صار مؤمنا فقد حرف لفظه وقد قال موسى لما قتل القبطي هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين سورة القصص وقال فتى موسى وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره سورة الكهف وذكر الله في قصة آدم وحواء فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه سورة البقرة وقوله
8
272(189/193)
فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وورى عنهما من سوءآتهما سورة الأعراف فإذا كان عرض الشيطان لا يقدح في نبوة الأنبياء عليهم السلام فكيف يقدح في إمامة الخلفاء وإن ادعى مدح أن هذه النصوص مؤولة قيل له فيجوز لغيرك أن يتأول قول الصديق لما ثبت بالدلائل الكثيرة من إيمانه وعلمه وتقواه وورعه فإذا ورد لفظ مجمل يعارض ما علم وجب تأويله وأما قوله فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني فهذا من كمال عدله وتقواه وواجب على كل إمام أن يقتدي به في ذلك وواجب على الرعية أن تعامل الأئمة بذلك فإن استقام الإمام أعانوه على طاعة الله تعالى وإن زاغ وأخطأ بينوا له الصواب ودلوه عليه وإن تعمد ظلما منعوه منه بحسب الإمكان فإذا كان منقادا للحق كأبي بكر فلا عذر لهم في ترك ذلك وإن كان لا يمكن دفع الظلم إلا بما هو أعظم فسادا منه لم يدفعوا الشر القليل بالشر الكثير
8
273(189/194)
وأما قول الرافضي ومن شأن الإمام تكميل الرعية فكيف يطلب منهم التكميل عند أجوبة أحدها أنا لا نسلم أن الإمام يكملهم وهم لا يكملونه أيضا بل الإمام والرعية يتعاونون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان بمنزلة أمير الجيش والقافلة والصلاة والحج والدين قد عرف بالرسول فلم يبق عند الإمام دين ينفرد به ولكن لا بد من الاجتهاد في الجزئيات فإن كان الحق فيها بينا أمر به وإن كان متبينا للإمام دونهم بينه لهم وكان عليهم أن يطيعوه وإن كان مشتبها عليهم اشتوروا فيه حتى يتبين لهم وإن تبين لأحد من الرعية دون الإمام بينه له وإن اختلف الاجتهاد فالإمام هو المتبع في اجتهاده إذ لا بد من الترجيح والعكس ممتنع وهذا كما تقوله الرافضة الإمامية في نواب المعصوم فإنه وإن تبين لهم الكليات فلا بد في تبيين الجزئيات من الاجتهاد وحينئذ فكل إمام هو نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ريب في عصمته ونوابه أحق بالاتباع من نواب غيره والمراد بكونهم نوابه أن عليهم أن يقوموا بما قام به ليس المراد استخلافهم فإن طاعة الرسول واجبة على كل متول سواء ولاه الرسول أو غيره وطاعته بعد موته كطاعته في
8
274(189/195)
حياته ولو ولى هو رجلا لوجب عليه وعلى غيره ما يجب على غيره من الولاة الوجه الثاني أن كلا من المخلوقين قد استكمل بالآخر كالمتناظرين في العلم والمتشاورين في الرأي والمتعاونين المتشاركين في مصلحة دينهما ودنياهما وإنما يمتنع هذا في الخالق سبحانه لأنه لا بد أن يكون للممكنات المحدثات فاعل مستغن بنفسه غير محتاج إلى أحد لئلا يفضي إلى الدور في المؤثرات والتسلسل فيها وأما المخلوقات فكلاهما يستفيد حوله وقوته من الله تعالى لا من نفسه ولا من الآخر فلا دور في ذلك الوجه الثالث أنه ما زال المتعلمون ينبهون معلمهم على أشياء ويستفيدها المعلم منهم مع أن عامة ما عند المتعلم من الأصول تلقاها من معلمه وكذلك في الصناع وغيرهم الوجه الرابع أن موسى صلى الله عليه وسلم قد استفاد من الخضر ثلاث مسائل وهو أفضل منه وقد قال الهدهد لسليمان أحطت بما لم تحط به سورة النمل وليس الهدهد قريبا من سليمان ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يشاور أصحابه وكان أحيانا يرجع إليهم في الرأي كما قال له الحباب يوم بدر يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أهو منزل أنزلكه الله تعالى فليس لنا أن نتعداه أم هو الحرب
8
275(189/196)
والرأي والمكيدة فقال بل هو الحرب والرأي والمكيدة فقال ليس هذا بمنزل قتال قال فرجع إلى رأي الحباب وكذلك يوم الخندق كان قد رأى أن يصالح غطفان على نصف تمر المدينة وينصرف عن القتال فجاءه سعد فقال يا رسول الله إن كان الله أمرك بهذا فسمعا وطاعة أو كما قال وإن كنت أنت إنما فعلت هذا لصلحتنا فلقد كانوا في الجاهلية وما ينالون منها تمرة إلا بشراء أو قراء فلما أعزنا الله بالإسلام نعطيهم تمرنا ما نعطيهم إلا السيف أو كما قال فقبل منه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وعمر أشار عليه لما أذن لهم في غزوة تبوك في نحر الركاب أن يجمع أزوادهم ويدعو فيها بالبركة فقبل منه وأشار عليه بأن يرد أبا هريرة لما أرسله بنعليه يبشر من لقيه وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله بالجنة لما خاف أن يتكلوا فقبل منه
8
276(189/197)
وأبو بكر لم يكن يرجع إليهم فيما ليس فيه نص من الله ورسوله بل كان إذا تبين له ذلك لم يبال بمن خالفه ألا ترى أنه لما نازعه عمر في قتال أهل الردة لأجل الخوف على المسلمين ونازعوه في قتال مانعي الزكاة ونازعوه في إرسال جيش أسامة لم يرجع إليهم بل بين لهم دلالة النص على ما فعله وأما في الأمور الجزئية التي لا يجب أن تكون منصوصة بل يقصد بها المصلحة فهذه ليس هو فيها بأعظم من الأنبياء الخامس أن هذا الكلام من أبي بكر ما زاده عند الأمة إلا شرفا وتعظيما ولم تعظم الأمة أحدا بعد نبيها كما عظمت الصديق ولا أطاعت أحدا كما أطاعته من غير رغبة أعطاهم إياها ولا رهبة أخافهم بها بل الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة بايعوه طوعا مقرين بفضيلته واستحقاقه ثم مع هذا لم نعلم أنهم اختلفوا في عهده في مسألة واحدة في دينهم إلا وأزال الاختلاف ببيانه لهم ومراجعتهم له وهذا أمر لا يشركه فيه غيره وكان عمر أقرب إليه في ذلك ثم عثمان وأما علي فقاتلهم وقاتلوه فلا قومهم ولا قوموه فأي الإمامين حصل به مقصود الإمامة أكثر وأي الإمامين أقام الدين ورد المرتدين
8
277(189/198)
وقاتل الكافرين واتفقت عليه الكلمة كلمة المؤمنين هل يشبه هذا بهذا إلا من هو في غاية النقص من العقل والدين فصل قال الرافضي الثاني قول عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة وقي الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه وكونها فلته يدل على أنها لم تقع عن رأي صحيح ثم سأل وقاية شرها ثم أمر بقتل من يعود إلى مثلها وكان ذلك يوجب الطعن فيه والجواب أن لفظ عمر ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس من خطبة عمر التي قال فيها ثم إنه قد بلغني أن قائلا منكم يقول والله لو مات عمر بايعت فلانا فلا يغترن أمرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلته ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن قد وقى الله شرها وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا وإنه كان من خيرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث وفيه أن الصديق قال وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما
8
278
شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة وهو جالس بيننا فلم أكره مما قال غيرها كان والله أن أقدم فيضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر اللهم إلا أن تسول لي نفسي شيئا عند الموت لا أجده الآن وقد تقدم الحديث بكماله ومعنى ذلك أنها وقعت فجأة لم تكن قد استعددنا لها ولا تهيأنا لأن أبا بكر كان متعينا لذلك فلم يكن يحتاج في ذلك إلى أن يجتمع لها الناس إذ كلهم يعلمون أنه أحق بها وليس بعد أبي بكر من يجتمع الناس على تفضيله واستحقاقه كما اجتمعوا على ذلك في أبي بكر فمن أراد أن ينفرد ببيعة رجل دون ملأ من المسلمين فاقتلوه وهو لم يسأل وقاية شرها بل أخبر أن الله وقى شر الفتنة بالاجتماع فصل قال الرافضي الثالث قصورهم في العلم والتجاؤهم في أكثر الأحوال إلى علي
8
279(189/199)
والجواب أن هذا من أعظم البهتان أما أبو بكر فما عرف أنه استفاد من علي شيئا أصلا وعلي قد روى عنه واحتذى حذوه واقتدى بسيرته وأما عمر فقد استفاد علي منه أكثر مما استفاد عمر منه وأما عثمان فقد كان أقل علما من أبي بكر وعمر ومع هذا فما كان يحتاج إلى علي حتى أن بعض الناس شكا إلى علي بعض سعاة عمال عثمان فأرسل إليه بكتاب الصدقة فقال عثمان لا حاجة لنا به وصدق عثمان وهذه فرائض الصدقة ونصبها التي لا تعلم إلا بالتوقيف فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي من أربع طرق أصحها عند علماء المسلمين كتاب أبي بكر الذي كتبه لأنس بن مالك وهذا هو الذي رواه البخاري وعمل به أكثر الأئمة وبعده كتاب عمر وأما الكتاب المنقول عن علي ففيه أشياء لم يأخذ بها أحد من
8
280
العلماء من قوله في خمس وعشرين خمس شاة فإن هذا خلاف النصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كان ما روى عن علي إما منسوخ وإما خطأ في النقل والرابع كتاب عمرو بن حزم كان قد كتبه لما بعثه إلى نجران وكتاب أبي بكر هو آخر الكتب فكيف يقول عاقل إنهم كانوا يلجأون إليه في أكثر الأحكام وقضاته لم يكونوا يلتجئون إليه بل كان شريح القاضي وعبيدة السلماني ونحوهما من القضاة الذين كانوا في زمن علي يقضون بما تعلموه من غير علي وكان شريح قد تعلم من معاذ بن جبل وغيره من الصحابة وعبيدة تعلم من عمر وغيره وكانوا لا يشاورونه في عامة ما يقضون به استغناء بما عندهم من العلم فكيف يقال إن عمر وعثمان كانا يلتجئان إليه في أكثر الأحكام وقد قال علي كان رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن والآن قد رأيت أن يبعن فقال له عبيدة السلماني رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة
8
281(189/200)
فهذا قاضيه لا يرجع إلى رأيه في هذه المسألة مع أن أكثر الناس إنما منع بيعها تقليدا لعمر ليس فيها نص صريح صحيح فإذا كانوا لا يلتجئون إليه في هذه المسألة فكيف يلتجئون إليه في غيرها وفيها من النصوص ما يشفى ويكفى وإنما كان يقضى ولا يشاور عيا وربما قضى بقضية أنكرها علي لمخالفتها قول جمهور الصحابة كابني عم وأخوين أحدهما أخ لأم قضى له بالمال فأنكر ذلك علي وقال بل يعطى السدس ويشتركان في الباقي وهذا قول سائر الصحابة زيد وغيره فلم يكن الناس مقلدين في ذلك أحدا وقول علي في الجد لم يقل به أحد من العلماء إلا ابن أبي ليلى وأما قول ابن مسعود فقال به أصحابه وهم أهل الكوفة وقول زيد قال به خلق كثير وأما قول الصديق فقال به جمهور الصحابة وقد جمع الشافعي ومحمد بن نصر المروزي كتابا كثيرا فيما لم يأخذ به المسلمون من قول علي لكون قول غيره من الصحابة أتبع للكتاب والسنة وكان المرجوح من قوله أكثر من المرجوح من قول أبي بكر وعمر وعثمان والراجح من أقاويلهم أكثر فكيف أنهم كانوا يلتجئون إلي ه في أكثر الأحكام
8
282(189/201)
فصل قال الرافضي الرابع الوقائع الصادرة عنهم وقد تقدم اكثرها قلنا الجواب قد تقدم عنها مجملا ومفصلا وبيان الجواب عما ينكر عليهم أيسر من الجواب عما ينكر على علي وأنه لا يمكن أحد له علم وعدل أن يجرحهم ويزكى عليا بل متى زكى عليا كانوا أولى بالتزكية وإن جرحهم كان قد طرق الجرح إلى علي بطريق الأولى والرافضة إن طردت قولها لزمها جرح على أعظم من جرح الثلاثة وإن لم تطرده تبين فساده وتناقضه وهو الصواب كما يلزم مثل ذلك اليهود والنصارى إذا قدحوا في نبوة محمد دون نبوة موسى وعيسى فما يورد الكتابي على نبوة محمد سؤالا إلا ويرد على على نبوة موسى وعيسى أعظم منه وما يورد الرافضي على الثلاثة إلا ويرد على إمامة علي ما هو أعظم منه وما يورده الفيلسوف على أهل الملل يرد عليه ما هو أعظم منه وهكذا كل من كان أبعد عن الحق من غيره يرد عليه أعظم مما يرد على الأقرب إلى الحق
8
283
ومن الطرق الحسنة في مناظرة هذا أن يورد عليه من جنس ما يورده على أهل الحق وما هو أغلظ منه فإن المعارضة نافعة وحينئذ فإن فهم الجواب الصحيح علم الجواب عما يورد على الحق وإن وقع في الحيرة والعجز عن الجواب اندفع شره بذلك وقيل له جوابك عن هذا هو جوابنا عن هذا فصل قال الرافضي الخامس قوله تعالى لا ينال عهدي الظالمين سورة البقرة أخبر بأن عهد الإمامة لا يصل إلى الظالم والكافر ظالم لقوله والكافرون هم الظالمون سورة البقرة ولا شك في أن الثلاثة كانوا كفارا يعبدون الأصنام إلى أن ظهر النبي صلى الله عليه وسلم والجواب من وجوه أحدها أن يقال الكفر الذي يعقبه الإيمان الصحيح لم يبق على صاحبه منه ذم هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام بل من دين الرسل كلهم كما قال تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف سورة الأنفال وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث
8
284(189/202)
الصحيح إن الإسلام يجب ما قبله وفي لفظ يهدم من كان قبله وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها وإن الحج يهدم ما كان قبله الثاني أنه ليس كل ولد على الاسلام بأفضل من أسلم بنفسه بل قد ثبت بالنصوص المستفيضة أن خير القرون القرن الأول وعامتهم أسلموا بأنفسهم بعد الكفر وهم أفضل من القرن الثاني الذين ولدوا على الإسلام ولهذا قال أكثر العلماء إنه يجوز على الله أن يبعث نبيا ممن آمن بالأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم فإنه إذا جاز أن يبعث نبيا من ذرية إبراهيم وموسى فمن الذين آمنوا بهما أولى وأحرى كما قال تعالى فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي سورة العنكبوت وقال تعالى وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى اليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننهم الأرض من بعدهم سورة إبراهيم وقال تعالى قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا
8
285(189/203)
كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا الآية سورة الأعراف وطرد هذا من تاب من الذنب وغفر له لم يقدح في علو درجته كائنا من كان والرافضة لهم في هذا الباب قول فارقوا به الكتاب والسنة وإجماع السلف ودلائل العقول والتزموا لأجل ذلك ما يعلم بطلانه بالضرورة كدعواهم إيمان آزر وأبوي النبي وأجداده وعمه أبي طالب وغير ذلك الثالث أن يقال قبل أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد مؤمنا من قريش لا رجل ولا صبي ولا أمرأة ولا الثلاثة ولا علي وإذا قيل عن الرجال إنهم كانوا يعبدون الأصنام فالصبيان كذلك علي وغيره وإن قيل كفر الصبي ليس مثل كفر البالغ قيل ولا إيمان الصبي مثل إيمان البالغ فأولئك يثبت لهم حكم الإيمان والكفر وهم بالغون وعلي يثبت له حكم الكفر والإيمان وهو دون البلوغ والصبي المولود بين أبوين كافرين يجري عليه حكم الكفر في الدنيا
8
286(189/204)
باتفاق المسلمين وإذا أسلم قبل البلوغ فهل يجري عليه حكم الإسلام قبل البلوغ على قولين للعلماء بخلاف البالغ فإنه يصير مسلما باتفاق المسلمين فكان إسلام الثلاثة مخرجا لهم من الكفر باتفاق المسلمين وأما إسلام علي فهل يكون مخرجا له من الكفر على قولين مشهورين ومذهب الشافعي أن إسلام الصبي غير مخرج له من الكفر وأما كون صبي من الصبيان قبل النبوة سجد لصنم أو لم يسجد فهو لم يعرف فلا يمكن الجزم بأن عليا أو الزبير ونحوهما لم يسجدوا لصنم كما أنه ليس معنا نقل بثبوت ذلك بل ولا معنا نقل معين عن أحد من الثلاثة أنه سجد لصنم بل هذا يقال لأن من عادة قريش قبل الإسلام أن يسجدوا للأصنام وحينئذ فهذا ممكن في الصبيان كما هو العادة في مثل ذلك الرابع أن أسماء الذم كالكفر والظلم والفسق التي في القرآن لا تتناول إلا من كان مقيما على ذلك وأما من صار مؤمنا بعد الكفر وعادلا بعد الظلم وبرا بعد الفجور فهذا تتناوله أسماء المدح دون أسماء الذم باتفاق المسلمين فقوله عز وجل لا ينال عهدي الظالمين سورة البقرة أي
8
287(189/205)
ينال العادل دون الظالم فإذا قدر أن شخصا كان ظالما ثم تاب وصار عادلا تناوله العهد كما يتناوله سائر آيات المدح والثناء لقوله تعالى إن الإبرار لفي نعيم سورة المطففين وقوله إن المتقين في جنات ونعيم سورة الطور الخامس أن من قال إن المسلم بعد إيمانه كافر فهو كافر بإجماع المسلمين فكيف يقال عن أفضل الخلق إيمانا إنهم كفار لأجل ما تقدم السادس أنه قال لموسى إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم سورة النمل السابع أنه قال إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله عن المؤمنين والمؤمنات الآية سورة الاحزاب فقد أخبرنا الله عن جنس الإنسان أنه ظلوم جهول واستثنى من العذاب من تاب ونصوص الكتاب صريحة في أن كل بني آدم لا بد أن يتوب وهذه المسألة متعلقة بمسألة العصمة هل الأنبياء معصومون من الذنوب أم لا فيحتاجون إلى توبة والكلام فيها مبسوط قد تقدم
8
288
فصل قال الرافضي السادس قول أبي بكر أقيلوني فلست بخيركم ولو كان إماما لم يجز له طلب الإقالة والجواب أن هذا أولا كان ينبغي أن يبين صحته وإلا فما كل منقول صحيح والقدح بغير الصحيح لا يصح وثانيا إن صح هذا عن أبي بكر لم تجز معارضته بقول القائل الإمام لا يجوز له طلب الإقالة فإن هذه الدعوى مجردة لا دليل عليها فلم لا يجوز له طلب الإقالة إن كان قال ذلك بل إن كان قاله لم يكن معنا إجماع على نقيض ذلك ولا نص فلا يجب الجزم بأنه باطل وإن لم يكن قاله فلا يضر تحريم هذا القول وأما تثبيت كون الصديق قاله والقدح في ذلك بمجرد الدعوى فهو كلام من لا يبالي ما يقول وقد يقال هذا يدل على الزهد في الولاية والورع فيها وخوف الله أن لا يقوم بحقوقها وهذا يناقض ما يقوله الرافضه إنه كان طالبا للرياسة راغبا في الولاية(189/206)
8
289
فصل قال الرافضي السابع قول أبي بكر عند موته ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل للأنصار في هذا الأمر حق وهذا يدل على شكه في صحة بيعة نفسه مع أنه الذي دفع الأنصار يوم السقيفة لما قالوا منا أمير ومنكم أمير بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش والجواب أما قول النبي صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش فهو حق ومن قال إن الصديق شك في هذا أو في صحة إمامته فقد كذب ومن قال إن الصديق قال ليتني كنت سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل للأنصار ف الخلافة نصيب فقد كذب فإن المسألة عنده وعند الصحابة أظهر من أن يشك فيها لكثرة النصوص فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على بطلان هذا النقل وإن قدر صحته ففيه فضيلة للصديق لأنه لم يكن يعرف النص
8
290
واجتهد فوفق اجتهاده النص ثم من اجتهاده وورعه تمنى أن يكون معه نص يعينه على الاجتهاد فهذا يدل على كمال علمه حيث وافق اجتهاده النص ويدل على ورعه حيث خاف أن يكون مخالفا للنص فأي قدح في هذا فصل قال الرافضي الثامن قوله في مرض موته ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكبسه وليتني كنت في ظلة بني ساعدة ضربت على يد أحد الرجلين وكان هو الأمير وكنت الوزير وهذا يدل على إقدامه علي بيت فاطمة عند اجتماع أمير المؤمنين والزبير وغيرهما فيه والجواب أن القدح لا يقبل حتى يثبت اللفظ بإسناد صحيح ويكون
8
291(189/207)
دالا دلالة ظاهرة على القدح فإذا انتفت إحداهما انتفى القدح فكيف إذا انتفى كل منهما ونحن نعلم يقينا أن أبا بكر لم يقدم على علي والزبير بشيء من الأذى بل ولا على سعد بن عبادة المتخلف عن بيعته أولا وآخرا وغاية ما يقال إنه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال الله الذي يقسمه وأن يعطيه لمستحقه ثم رأى أنه لو تركه لهم لجاز فإنه يجوز أن يعطيهم من مال الفيء وأما إقدامه عليهم أنفسهم بأذى فهذا ما وقع فيه قط باتفاق أهل العلم والدين وإنما ينقل مثل هذا جهال الكذابين ويصدقه حمقى العالمين الذين يقولون إن الصحابة هدموا بيت فاطمة وضربوا بطنها حتى أسقطت وهذا كله دعوى مختلق وإفك مفترى باتفاق أهل الإسلام ولا يروج إلا على من هو من جنس الأنعام وأما قوله ليتني كنت ضربت على يد أحد الرجلين فهذا لم يذكر له إسنادا ولم يبين صحته فإن كان قاله فهو يدل على زهده وورعه وخوفه من الله تعالى
8
292
فصل قال الرافضي التاسع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جهزوا جيش أسامة وكرر الأمر بتنفيذه وكان فيهم أبو بكر وعمر وعثمان ولم ينفذ أمير المؤمنين لأنه أراد منعهم من التوثب على الخلافة بعده فلم يقبلوا منه والجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة النقل فإن هذ لا يروي بإسناد معروف ولا صححه أحد من علماء النقل ومعلوم أن الاحتجاج بالمنقولات لا يسوغ إلا بعد قيام الحجة بثبوتها وإلا فيمكن أن يقول كل أحد ما شاء الثاني أن هذا كذب بإجماع علماء النقل فلم يكن في جيش أسامة لا أبو بكر ولا عثمان وإنما قد قيل إنه كان فيه عمر وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استخلف أبا بكر على الصلاة حتي مات وصلى أبو بكر رضي الله عنه الصبح يوم موته وقد كشف
8
293(189/208)
سجف الحجرة فرآهم صفوفا خلف أبي بكر فسر بذلك فكيف يكون مع هذا قد أمره أن يخرج في جيش أسامة الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أراد تولية علي لكان هؤلاء أعجز أن يدفعوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكان جمهور المسلمين أطوع لله ورسوله من أن يدعوا هؤلاء يخالفون أمره لا سيما وقد قاتل ثلث المسلمين أو أكثر مع علي لمعاوية وهم لا يعلمون أن معه نصا فلو كان معه نص لقاتل معه جمهور المسلمين الرابع أنه أمر أبا بكر أن يصلي بالناس ولم يأمر عليا فلو كان علي هو الخليفة لكان يأمره بالصلاة بالمسلمين فكيف ولم يؤمر عليا على أبي بكر قط بل في الصحيحين أنه لما ذهب يصلح بين بني عمرو بن عوف قال لبلال إذا حضرت الصلاة فمر أبا بكر أن يصلي بالناس وكذلك في مرضه ولما أراد إقامة الحج أمر أبا بكر أن يحج وأردفه بعلي تابعا له وأبو بكر هو الإمام الذي يصلي بالناس بعلي وغيره ويأمر عليا وغيره فيطيعونه وقد أمر أبا بكر على علي في حجة سنة تسع وكان أبو بكر مؤمرا عليهم إماما لهم
8
294
فصل قال الرافضي العاشر أنه لم يول أبا بكر شيئا من الأعمال وولي عليه والجواب من وجوه أحدها أن هذا باطل بل الولاية التي ولاها أبا بكر لم يشركه فيها أحد وهي ولاية الحج وقد ولاه غير ذلك الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى من هو بإجماع أهل السنة والشيعة من كان عنده دون أبي بكر مثل عمرو بن العاص والوليد ابن عقبة وخالد بن الوليد فعلم أنه لم يترك ولايته لكونه ناقصا عن هؤلاء الثالث أن عدم ولايته لا يدل على نقصه بل قد يترك ولايته لأنه عنده أنفع له منه في تلك الولاية وحاجته إليه في المقام عنده وغنائه عن المسلمين أعظم من حاجته إليه في تلك الولاية فإنه هو وعمر كانا مثل الوزيرين له يقول كثيرا دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر وكان أبو بكر يسمر عنده عامة ليله
8
295(189/209)
وعمر لم يكن يولى أهل الشورى كعثمان وطلحة والزبير وغيرهم وهم عنده أفضل ممن ولاه مثل عمرو بن العاص ومعاوية وغيرهما لأن أنتفاعه بهؤلاء في حضوره أكمل من انتفاعه بواحد منهم في ولاية يكفي فيها من دونهم وأبو بكر كان يدخل مع النبي صلى الله عليه وسلم ويليه عمر وقال لهما إذا اتفقتما على شيء لم أخالفكما وإذا قدم عليه الوفد شاورهما فقد يشير هذا بشيء ويشير هذا بشيء ولذلك شاروهما في أسرى بدر وكان مشاورته لأبي بكر أغلب واجتماعه به أكثر هذا أمر يعلمه من تدبر الأحاديث الصحيحة التي يطول ذكرها فصل قال الرافضي الحادي عشر أنه صلى الله عليه وسلم أنفذه لأداء سورة براءة ثم أنفذ عليا وأمره برده وأن يتولى هو ذلك من لا يصلح لأداء سورة أو بعضها فكيف يصلح
8
296
للإمامة العامة المتضمنة لأداء الأحكام إلى جميع الأمة والجواب من وجوه أحدها أن هذا كذب باتفاق أهل العلم وبالتواتر العام فإن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج سنة تسع لم يرده ولا رجع بل هو الذي أقام للناس الحج ذلك العام وعلي من جملة رعيته يصلي خلفه ويدفع بدفعه ويأتمر بأمره كسائر من معه وهذا من العلم المتواتر عند أهل العلم لم يختلف اثنان في أن أبا بكر هو الذي أقام الحج ذلك العام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يقال إنه أمره برده ولكن أردفه بعلي لينبذ إلى المشركين عهدهم لأن عادتهم كانت جارية أن لا يعقد العقود ولا يحلها إلا المطاع أو رجل من أهل بيته فلم يكونوا يقبلون ذلك من كل أحد وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وفي رواية ثم أردف النبي صلى الله عليه
8
297(189/210)
وسلم بعلي وأمره أن يؤذن ببراءة فأذن علي معنا في أهل منى يوم النحر ببراءة وبأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان قال فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج عام حجة الوداع التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك قال أبو محمد بن حزم وما حصل في حجة الصديق كان من أعظم فضائله لأنه هو الذي خطب بالناس في ذلك الموسم والجمع العظيم والناس منصتون لخطبته يصلون خلفه وعلي من جملتهم وفي السورة فضل بن أبي بكر وذكر الغار فقرأها علي على الناس فهذا مبالغة في فضل أبي بكر وحجة قاطعة وتأميره لأبي بكر على علي هذا كان بعد قوله أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ولا ريب أن هذا الرافضي ونحوه من شيوخ الرافضة من أجهل الناس بأحوال الرسول وسيرته وأموره ووقائعه يجهلون من ذلك ما هو متواتر معلوم لمن له أدنى معرفة بالسيرة ويجيئون إلى ما وقع فيقبلونه ويزيدون فيه وينقصون وهذا القدر وإن كان الرافضي لم يفعله فهو فعل شيوخه وسلفه
8
298
الذين قلدهم ولم يحقق ما قالوه ويراجع ما هو المعلوم عند أهل العلم المتواتر عندهم المعلوم لعامتهم وخاصتهم الثاني قوله الإمامة العامة متضمنة لاداء جميع الأحكام إلى الأمة قول باطل فالأحكام كلها قد تلقتها الأمة عن نبيها لا تحتاج فيها إلى الإمام إلا كما تحتاج إلى نظائره من العلماء وكانت عامة الشريعة التي يحتاج الناس إليها عند الصحابة معلومة ولم يتنازعوا زمن الصديق في شيء منها إلا واتفقوا بعد النزاع بالعلم الذي كان يظهره بعضهم لبعض وكان الصديق يعلم عامة الشريعة وإذا خفى عنه الشيء اليسير سأل عنه الصحابة ممن كان عنده علم ذلك كما سألهم عن ميراث الجدة فأخبره من أخبره منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس
8
299(189/211)
ولم يعرف لأبي بكر فتيا ولا حكم خالف نصا وقد عرف لعمر وعثمان وعلي من ذلك أشياء والذي عرف لعلي أكثر مما عرف لهما مثل قوله في الحامل المتوفى عنها زوجها إنها تعتد أبعد الأجلين وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسبيعة الأسلمية لما وضعت بعد وفاة زوجها بثلاث ليلال حللت فانكحي من شئت ولما قالت له إن أبا السنابل قال ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الأجلين قال كذب أبو السنابل وقد جمع الشافعي في كتاب خلاف علي وعبدالله من أقوال علي التي تركها الناس لمخالفتها النص أو معنى النص جزءا كبيرا وجمع بعده محمد بن نصر المروزي أكثر من ذلك فإنه كان إذا ناظره الكوفيون يحتج بالنصوص فيقولون نحن أخذنا بقول علي وابن مسعود يحتج بالنصوص فيقولون نحن أخذنا بقول علي وابن مسعود فجمع لهم أشياء كثيرة من قول علي وابن مسعود تركوه أو تركه الناس يقول إذا جاز لكم خلافهما في تلك المسائل لقيام الحجة على خلافهما فكذلك في سائر المسائل ولم يعرف لأبي بكر مثل هذا
8
300
الثالث أن القرآن بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم كل أحد من المسلمين فيمتنع أن يقال إن أبا بكر لم يكن يصلح لتبليغه الرابع أنه لا يجوز أن يظن أن تبليغ القرآن يختص بعلي فإن القرآن لا يثبت بخبر الآحاد بل لا بد أن يكون منقولا بالتواتر الخامس أن الموسم ذلك العام كان يحج فيه المسلمون والمشركون وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن ينادي في الموسم أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان كما ثبت في الصحيحين فأي حاجة كانت بالمشركين إلى أن يبلغوا القرآن فصل قال الرافضي الثاني عشر قول عمر إن محمدا لم يمت وهذا يدل على قلة علمه وأمر برجم حامل فنهاه علي فقال لولا علي لهلك عمر وغير ذلك من الأحكام التي غلط فيها وتلون فيها
8
301(189/212)
والجواب أن يقال أولا ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قد كان قبلكم في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر ومثل هذا لم يقله لعلي وأنه قال رأيت أني أتيت بقدح فيه لبن فشربت حتى أني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم ناولت فضلي عمر قالوا فما أولته يا رسول الله قال العلم فعمر كان أعلم الصحابة بعد أبي بكر وأما كونه ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت فهذا كان ساعة ثم تبين له موته ومثل هذا يقع كثيرا قد يشك الإنسان في موت ميت ساعة وأكثر ثم يتبين له موته وعلي قد تبين له أمور بخلاف ما كان يعتقده فيها أضعاف ذلك بل ظن كثيرا من الأحكام على خلاف ما هي عليه ومات على ذلك ولم يقدح ذلك في إمامته كفتياه في المفوضة التي ماتت ولم يفرض لها وأمثال ذلك مما هو معروف عند أهل العلم وأما الحامل فإن كان لم يعلم أنها حامل فهو من هذا الباب فإنه قد يكون أمر برجمها ولم يعلم أنها حامل فأخبره علي أنها حامل فقال لولا أن عليا أخبرني بها لرجمتها فقتلت الجنين فهذا هو الذي خاف منه
8
302(189/213)
وإن قدر أنه كان يظن جواز رجم الحامل فهذا مما قد يخفى فإن الشرع قد جاء في موضع بقتل الصبي والحامل تبعا كما إذا حوصر الكفار فإن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف ونصب عليهم المنجنيق وقد يقتل النساءو الصبيان وفي الصحيح أنه سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وصبيانهم فقال هم منهم وقد ثبت عنه أنه نهى عن قتل النساء والصبيان وقد اشتبه هذا على طائفة من أهل العلم فمنعوا من البيات خوفا من قتل النساء والصبيان فكذلك قد يشتبه على من ظن جواز ذلك ويقول إن الرجم حد واجب على الفور فلا يجوز تأخيره لكن السنة فرقت بين ما يمكن تأخيره كالحد وبين ما يحتاج إليه كالبيات والحصار وعمر رضي الله عنه كان يراجعه آحاد الناس حتى في مسألة الصداق قالت امرأة له أمنك نسمع أم من كتاب الله فقال بل من كتاب الله فقالت إن الله يقول وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا
8
303
منه شيئا سورة النساء فقال امرأة أصابت ورجل أخطأ وكذلك كان يرجع إلى عثمان وغيره وهو أعلم من هؤلاء كلهم وصاحب العلم العظيم إذا رجع إلى من هو دونه في بعض الأمور لم يقدح هذا في كونه أعلم منه فقد تعلم موسى من الخضر ثلاث مسائل وتعلم سليمان من الهدهد خبر بلقيس وكان الصحابة فيهم من يشير على النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور وكان عمر أكثر الصحابة مراجعة للنبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن بموافقته في مواضع كالحجاب وأسارى بدر واتخاذ مقام إبراهيم مصلى وقوله عسى ربه إن طلقكن وغير ذلك وهذه الموافقة والمراجعة لم تكن لا لعثمان ولا لعلي وفي الترمذي لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر ولو كان بعدي نبي لكان عمر
8
304(189/214)
فصل قال الرافضي الثالث عشر أنه ابتدع التراويح مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيها الناس إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة جماعة بدعة وصلاة الضحى بدعة فإن قليلا في سنة خير من كثير في بدعة ألا وإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها إلى النار وخرج عمر في شهر رمضان ليلا فرأى المصابيح في المساجد فقال ما هذا فقيل له إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع فقال بدعة ونعمت البدعة فاعترف بأنها بدعة فيقال ما رؤى في طوائف أهل البدع والضلال أجرا من هذه الطائفة الرافضة على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقولها عليه ما لم يقله والوقاحة المفرطة في الكذب وإن كان فيهم من لا يعرف أنها كذب فهو مفرط في الجهل كما قال فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
8
305(189/215)
والجواب من وجوه أحدها المطالبة فيقال ما الدليل على صحة هذا الحديث وأين إسناده وفي أي كتاب من كتب المسلمين روى هذا ومن قال من أهل العلم بالحديث إن هذا صحيح الثاني أن جميع أهل المعرفة بالحديث يعلمون علما ضروريا أن هذا من الكذب الموضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدنى من له معرفة بالحديث يعلم أنه كذب لم يروه أحد من المسلمين في شئ من كتبه لا كتب الصحيح ولا السنن ولا المساند ولا المعجمات ولا الأجزاء ولا يعرف له إسناد لا صحيح ولا ضعيف بل هو كذب بين الثالث أنه قد ثبت أن الناس كانوا يصلون بالليل في رمضان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وثبت أنه صلى بالمسلمين جماعة ليلتين أو ثلاثا ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى صلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفق رجال يقولون الصلاة فلم يخرج إليهم حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم
8
306(189/216)
ولكن خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك وذلك في رمضان وعن أبي ذر قال صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقى سبع فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل فلما كانت السادسة لم يقم بنا فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل فقلت يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة قال إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة فلما كانت الليلة الرابعة لم يقم بنا فلما كانت الليلة الثالثة جمع أهله ونساءه فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح قلت وما الفلاح قال السحور ثم لم يقم بنا بقية الشهر رواه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود
8
307
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر فيه بعزيمة ويقول من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر وخرج البخاري عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال خرجت مع عمر ليلة من رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلى الرجل لنفسه ويصلى الرجل فيصلى بصلاته الرهط فقال عمر إني لأرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر نعمت البدعة هذه والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون يريد بذلك آخر الليل وكان الناس يقومون أوله وهذا الاجتماع العام لما لم يكن قد فعل سماه بدعة لأن ما فعل ابتداء
8
308(189/217)
يسمى بدعة في اللغة وليس ذلك بدعة شرعية فإن البدعة الشرعية التي هي ضلالة هي ما فعل بغير دليل شرعي كاستحباب ما لم يحبه الله وإيجاب ما لم يوجبه الله وتحريم ما لم يحرمه الله فلا بد مع الفعل من اعتقاد يخالف الشريعة وإلا فلو عمل الانسان فعلا محرم يعتقد تحريمه لم يقل إنه فعل بدعة الرابع أن هذا لو كان قبيحا منهيا عنه لكان علي أبطله لما صار أمير المؤمنين وهو بالكوفة فلما كان جاريا في ذلك مجرى عمر دل على استحباب ذلك بل روى عن علي أنه قال نور الله على عمر قبره كما نور علينا مساجدنا وعن أبي عبد الرحمن السلمي أن عليا دعا القراء في رمضان فأمر رجلا منهم يصلى بالناس عشرين ركعة قال وكان علي يوتر بهم وعن عرفجة الثقفي قال كان علي يأمر الناس بقيام شهر رمضان ويجعل للرجال إماما وللنساء إماما قال عرفجة فكنت أنا إمام النساء رواهما البيهقي في سننه وقد تنازع العلماء في قيام رمضان هل فعله في المسجد جماعة أفضل أم فعله في البيت أفضل على قولين مشهورين هما قولان
8
309
للشافعي وأحمد وطائفة يرجحون فعلها في المسجد جماعة منهم الليث وأما مالك وطائفة فيرجحون فعلها في البيت ويحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة أخرجاه في الصحيحين وأحمد وغيره احتجوا بقوله في حديث أبي ذر الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة وأما قوله أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة فالمراد بذلك ما لم تشرع له الجماعة وأما ما شرعت له الجماعة كصلاة الكسوف ففعلها في المسجد أفضل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة واتفاق العلماء
8
310(189/218)
قالوا فقيام رمضان إنما لم يجمع النبي صلى الله عليه وسلم الناس عليه خشية أن يفترض وهذا قد أمن بموته فصار هذا كجمع المصحف وغيره وإذا كانت الجماعة مشروعة فيها ففعلها في الجماعة أفضل وأما قول عمر رضي الله عنه والتي تنامون عنها أفضل يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله فهذا كلام صحيح فإن آخر الليل أفضل كما أن صلاة العشاء في أوله أفضل والوقت المفضول قد يختص العمل فيه بما يوجب أن يكون أفضل منه في غيره كما أن الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة أفضل من التفريق بسبب أوجب ذلك وإن كان الأصل أن الصلاة في وقتها الحاضر والإبراد بالصلاة في شدة الحر أفضل وأما يوم الجمعة فالصلاة عقب الزوال أفضل ولا يستحب الإبراد بالجمعة لما فيه من المشقة على الناس وتأخير العشاء إلى ثلث الليل أفضل إلا إذا اجتمع الناس وشق عليهم الانتظار فصلاتها قبل ذلك أفضل وكذلك الاجتماع في شهر رمضان في النصف الثاني إذا كان يشق على الناس وفي السنن عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
8
311
صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله ولهذا كان الإمام أحمد في إحدى الروايتين يستحب إذا أسفر بالصبح أن يسفر بها لكثرة الجمع وإن كان التغليس أفضل فقد ثبت بالنص والاجماع أن الوقت المفضول قد يختص بما يكون الفعل فيه أحيانا أفضل وأما الضحى فليس لعمر فيها اختصاص بل قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام
8
312(189/219)
وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء مثل حديث أبي هريرة وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهى عن المنكر صدقة ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى فصل قال الرافضي الرابع عشر أن عثمان فعل أمورا لا يجوز فعلها حتى أنكر عليه المسلمون كافة واجتمعوا على قتله أكثر من اجتماعهم على إمامته وإمامة صاحبيه
8
313
والجواب من وجوه أحدها أن هذا من أظهر الكذب فإن الناس كلهم بايعوا عثمان في المدينة وفي جميع الأمصار لم يختلف في إمامته اثنان ولا تخلف عنها أحد ولهذا قال الإمام أحمد وغيره إنها كانت أوكد من غير باتفاقهم عليها وأما الذين قتلوه فنفر قليل قال ابن الزبير يعيب قتلة عثمان خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية فقتلهم الله كل قتلة ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب يعني هربوا ليلا ومعلوم بالتواتر أن أهل الأمصار لم يشهدوا قتله فلم يقتله بقدر من بايعه وأكثر أهل المدينة لم يقتلوه ولا أحد من السابقين الأولين دخل في قتله كما دخلوا في بيعته بل الذين قتلوه أقل من عشر معشار من بايعه فكيف يقال إن اجتماعهم على قتله كان أكثر من اجتماعهم على بيعته لا يقول هذا إلا من هو من أجهل الناس بأحوالهم وأعظمهم تعمدا للكذب عليهم الثاني أن يقال الذين أنكروا على علي وقاتلوه أكثر بكثير من الذين أنكروا على عثمان وقتلوه فإن عليا قاتله بقدر الذين قتلوا عثمان أضعافا مضاعفة وقطعه كثير من عسكره خرجوا عليه وكفروه وقالوا أنت ارتددت عن الإسلام لا نرجع إلى طاعتك حتى تعود إلى الاسلام
8
314(189/220)
ثم إن واحدا من هؤلاء قتله قتل مستحل لقتله متقرب إلى الله بقتله معتقدا فيه أقبح مما اعتقده قتله عثمان فيه فإن الذين خرجوا على عثمان لم يكونوا مظهرين لكفره وإنما كانوا يدعون الظلم وأما الخوارج فكانوا يجهرون بكفر علي وهم أكثر من السرية التي قدمت المدينة لحصار عثمان حتى قتل فإن كان هذا حجة في القدح في عثمان كان ذلك حجة في القدح في علي بطريق الأولى والتحقيق أن كليهما حجة باطلة لكن القادح في عثمان بمن قتله أدحض حجة من القادح في علي بمن قاتله فإن المخالفين لعلي المقاتلين له كانوا أضعاف المقاتلين لعثمان بل الذين قاتلوا عليا كانوا أفضل باتفاق المسلمين من الذين حاصروا عثمان وقتلوه وكان في المقاتلين لعلي أهل زهد وعبادة ولم يكن قتله عثمان لا في الديانة ولا في إظهار تكفيره مثلهم ومع هذا فعلى خليفة راشد والذين استحلوا دمه ظالمون معتدون فعثمان أولى بذلك من علي الثالث أن يقال قد علم بالتواتر أن المسلمين كلهم اتفقوا على مبايعة عثمان لم يتخلف عن بيعته أحد مع أن بيعة الصديق تخلف عنها سعد بن عبادة ومات ولم يبايعه ولا بايع عمر ومات في خلافة
8
315(189/221)
عمر ولم يكن تخلف سعد عنها قادحا فيها لأن سعدا لم يقدح في الصديق ولا في أنه أفضل المهاجرين بل كان هذا معلوما عندهم لكن طلب أن يكون من الأنصار أمير وقد ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الأئمة من قريش فكان ما ظنه سعد خطأ مخالفا للنص المعلوم فعلم أن تخلفه خطأ بالنص وإذا علم الخطأ بالنص لم يحتج فيه إلى الإجماع وأما بيعة عثمان فلم يتخلف عنها أحد مع كثرة المسلمين وانتشرهم من إفريقية إلى خراسان ومن سواحل الشام إلى أقصى اليمن ومع كونهم كانوا ظاهرين على عدوهم من المشركين وأهل الكتاب يقاتلونهم وهي في زيادة فتح وانتصار ودوام دولة ودوام المسلمين على مبايعته والرضا عنه ست سنين نصف خلافته معظمين له مادحين له لا يظهر من أحد منهم التكلم فيه بسوء ثم بعد هذا صار يتكلم فيه بعضهم وجمهورهم لا يتكلم فيه إلا بخير وكانت قد طالت عليهم إمارته فانه بقي اثنتي عشرة سنة لم تدم خلافة أحد من الأربعة ما دامت خلافته فإن خلافة الصديق كانت سنتين وبعض الثالثة وخلافة عمر عشر سنين وبعض الأخرى وخلافة على أربع سنين وبعض الخامسة ونشأ في خلافته من دخل في الإسلام
8
316(189/222)
كرها فكان منافقا مثل ابن سبأ وأمثاله وهم الذين سعوا في الفتنة بقتله وفي المؤمنين من يسمع المنافقين كما قال تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم سورة التوبة أي وفيكم من يسمع منهم فيستجيب لهم ويقبل منهم لأنهم يلبسون عليه وهكذا فعل أولئك المنافقون لبسوا على بعض من كان عندهم يحب عثمان ويبغض من كان يبغضه حتى تقاعد بعض الناس عن نصره وكان الذين اجتمعوا على قتله عامتهم من أوباش القبائل ممن لا يعرف له في الإسلام ذكر بخير ولولا الفتنة لما ذكروا وأما علي فمن حين تولى تخلف عن بيعته قريب من نصف المسلمين من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وغيرهم ممن قعد عنه فلم يقاتل معه ولا قاتله مثل أسامة بن زيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة ومنهم من قاتله ثم كثير من الذين بايعوه رجعوا عنه منهم من كفره واستحل دمه ومنهم من ذهب إلى معاوية كعقيل أخية وأمثاله
8
317
ولم تزل شيعة عثمان القادحين في علي تحتج بهذا على أن عليا لم يكن خليفة راشدا وما كانت حجتهم أعظم من حجة الرافضة فإذا كانت حجتهم داحضة وعلي قتل مظلوم فعثمان أولى بذلك باب قال الرافضي الفصل السادس في فسخ حججهم على إمامة أبي بكر احتجوا بوجوه الأول الإجماع والجواب منع الإجماع فإن جماعة من بني هاشم لم يوافقوا على ذلك وجماعة من أكابر الصحابة كسلمان وأبي ذر والمقداد وعمار وحذيفة وسعد بن عبادة وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد وخالد بن سعيد بن العاص وابن عباس
8
318(189/223)
حتى أن أباه أنكر ذلك وقال من استخلف على الناس فقالوا ابنك فقال وما فعل المستضعفان إشارة إلى علي والعباس قالوا اشتغلوا بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا أن ابنك أكبر الصحابة سنا فقال أنا أكبر منه وبنو حنيفة كافة لم يحملوا الزكاة إليه حتى سماهم أهل الردة وقتلهم وسباهم فأنكر عمر عليه ورد السبايا أيام خلافته والجواب بعد أن يقال الحمد لله الذي أظهر من أمر هؤلاء إخوان المرتدين ما تحقق به عند الخاص والعام أنهم إخوان المرتدين حقا وكشف أسرارهم وهتك أستارهم بألسنتهم فإن الله لا يزال يطلع على خائنة منهم تبين عداوتهم لله ورسوله ولخيار عباد الله وأوليائه المتقين ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا
8
319
فنقول من كان له أدنى علم بالسيرة وسمع مثل هذا الكلام جزم بأحد أمرين إما بأن قائله من أجهل الناس بأخبار الصحابة وإما أنه من أجرأ الناس على الكذب فظنى أن هذا المصنف وأمثاله من شيوخ الرافضة ينقلون ما في كتب سلفهم من غير اعتبار منهم لذلك ولا نظر في أخبار الإسلام وفي الكتب المصنفة في ذلك حتى يعرف أحوال الإسلام فيبقى هذا وأمثاله في ظلمة الجهل بالمنقول والمعقول ولا ريب أن المفترين للكذب من شيوخ الرافضة كثيرون جدا وغالب القوم ذوو هوى أو جهل فمن حدثهم بما يوافق هواهم صدقوه ولم يبحثوا عن صدقة وكذبه ومن حدثهم بما يخالف أهواءهم كذبوه ولم يبحثوا عن صدقه وكذبه ولهم نصيب وافر من قوله تعالى فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه سورة الزمر كما أن أهل العلم والدين لهم نصيب وافر من قوله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون سورة الزمر ومن أعظم ما في هذا الكلام من الجهل والضلال جعله بني حنيفة
8
320(189/224)
من أهل الإجماع فإنهم لما امتنعوا عن بيعته ولم يحملوا إليه الزكاة سماهم أهل الردة وقتلهم وسباهم وقد تقدم مثل هذا في كلامه وبنو حنيفة قد علم الخاص والعام أنهم آمنوا بمسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة باليمامة وادعى أنه شريك النبي صلى الله عليه وسلم في الرسالة وادعى النبوة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقتل هو والأسود العنسى بصنعاء اليمن وكان اسمه عبهلة واتبع الأسود أيضا خلق كثير ثم قتله الله بيد فيروز الديلمي ومن أعانه على ذلك وكان قتله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قتل قتله وقال رجل صالح من أهل بيت صالحين والأسود ادعى الاستقلال بالنبوة ولم يقتصر على المشاركة وغلب على اليمن وأخرج منها عمال النبي صلى الله عليه وسلم حتى قتله
8
321
الله ونصر عليه المسلمين بعد أن جرت أمور وقد نقل في ذلك ما هو معروف عند أئمة العلم وأما مسيلمة فانه ادعى المشاركة في النبوة وعاش إلى خلافة أبي بكر وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رأيت في منامي كأن في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما فقيل لي انفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما الكذابين صاحب صنعاء وصاحب اليمامة وأمر مسيلمة وادعاؤه النبوة واتباع بني حنيفة له أشهر وأظهر من أن يخفي إلا على من هو من أبعد الناس عن المعرفة والعلم وهذا أمر قد علمه من يعلمه من اليهود والنصارى فضلا عن المسلمين وقرآنه الذي قرأه قد حفظ الناس منه سورا إلى اليوم مثل قوله يا ضفدع بنت ضفدعين نقي كم تنقين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين رأسك في الماء وذنبك في الطين ومثل قوله الفيل وما أدراك ما الفيل له زلوم طويل إن ذلك من خلق ربنا لقليل
8
322(189/225)
ومثل قوله إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وهاجر ولاتطع كل ساحر وكافر ومثل قوله والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا إهالة وسمنا إن الأرض بيننا وبين قريش نصفين ولكن قريشا قوم لا يعدلون وأمثال هذا الهذيان ولهذا لما قدم وفد بني حنيفة على أبي بكر بعد قتل مسيلمة طلب منهم أبو بكر أن يسمعوه شيئا من قرآن مسيلمة فلما أسمعوه قال لهم ويحكم أين يذهب بعقولكم إن هذا كلام لم يخرج من إل أي من رب وكان مسيلمة قد كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب ولما جاء رسوله إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له أتشهد أن مسيلمة رسول الله قال نعم قال لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك ثم بعد هذا أظهر أحد الرسولين الردة
8
323
بالكوفة فقتله ابن مسعود وذكره بقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا وكان مسيلمة قد قدم في وفد بني حنيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأظهر الإسلام ثم لما رجع إلى بلده قال لقومه إن محمد قد أشركني في الأمر معه واستشهد برجلين أحدهما الرحال بن عنفوة فشهد له بذلك ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لثلاثة أحدهم أبو هريرة والثاني الرحال هذا إن أحدكم ضرسه في النار أعظم من كذا وكذا فاستشهد الثالث في سبيل الله وبقي أبو هريرة خائفا حتى شهد هذا لمسيلمة بالنبوة واتبعه فعلم أنه هو كان المراد بخبر النبي صلى الله عليه وسلم وكان مؤذن مسيلمة يقول أشهد أن محمدا ومسيلمة رسولا الله
8
324(189/226)
ومن أعظم فضائل أبي بكر عند الإمة أولهم وآخرهم أنه قاتل المرتدين وأعظم الناس ردة كان بنو حنيفة ولم يكن قتاله لهم على منع الزكاة بل قاتلهم على أنهم آمنوا بمسيلمة الكذب وكانوا فيما يقال نحو مائة ألف والحنيفة أم محمد بن الحنيفة سرية علي كانت من بني حنيفة وبهذا احتج من جوز سبي المرتدات إذا كان المرتدون محاربين فإذا كانوا مسلمين معصومين فكيف استجاز علي أن يسبي نساءهم ويطأ من ذلك السبي وأما الذين قاتلهم على منع الزكاة فأولئك ناس آخرون ولم يكونوا يؤدونها وقالوا لا نؤديها إليك بل امتنعوا من أدائها بالكلية فقاتلهم على هذا لم يقاتلهم ليؤووها إليه وأتباع الصديق كأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهما يقولون إذا قالوا نحن نؤديها ولا ندفعها إلى الإمام لم يجز قتالهم لعلهم بأن الصديق إنما قاتل من امتنع عن أدائها جملة لا من قال أنا أؤديها بنفسي ولو عد هذا المفترى الوافضي من المتخلفين عن بيعة أبي بكر المجوس واليهود والنصارى لكان ذلك من جنس عدة لبني حنيفة بل كفر بني حنيفة من بعض الوجوه كان أعظم من كفر اليهود والنصارى والمجوس فإن أولئك كفار مليون وهؤلاء مرتدون وأولئك يقرون
8
325(189/227)
بالجزية وهؤلاء لا يقرون بالجزية وإولئك لهم كتاب أو شبهة كتاب وهؤلاء اتبعوا مفتريا كذابا لكن كان مؤذنه يقول أشهد أن محمدا ومسيلمة رسولا الله وكانوا يجعلون محمدا ومسيلمة سواء وأمر مسيلمة مشهور في جميع الكتب الذي يذكر فيها مثل ذلك من كتب الحديث والتفسير والمغازي والفتوح والفقه والأصول والكلام وهذا أمر قد خلص إلى العذاري في خدورهن بل قد أفرد الإخباريون لقتال أهل الردة كتبا سموها كتب الردة والفتوح مثل كتاب الردة لسيف بن عمر والواقدي وغيرهما يذكرون فيها من تفاصيل أخبار أهل الردة وقتالهم ما يذكرون كما قد أوردوا مثل ذلك في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتوح الشام فمن ذلك ما هو متواتر عند الخاصة والعامة ومنه ما نقله الثقات ومنه أشياء مقاطيع ومراسيل يحتمل أن تكون صدقا وكذبا ومنه ما يعلم أنه ضعيف وكذب
8
326(189/228)
لكن تواتر ردة مسليمة وقتال الصديق وحربة له كتواترهرقل وكسرى وقيصر ونحوهم ممن قاتله الصديق وعمر وعثمان وتواتر كفر من قاتله النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والمسركين مثل عتبة وأبي ابن خلف وحيى بن أخطب وتتواتر نفاق عبد الله بن أبي بن سلول وأمثال ذلك بل تواتر ردة مسيلمة وقتال الصديق له أظهر عند الناس من قتال الجمل وصفين ومن كون طلحة والزبير قاتلا عليا ومن كون سعد وغيره تخلفوا عن بيعة علي وفي الصحيحين عن ابن عباس قال قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فجعل يقول إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته فقدمها في بشر كثير من قومه فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم قطعة من جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال لو سألني هذه القطعة ما أعطيتكها ولن تعدو أمر الله فيك ولئن أدبرت ليعقرنك الله وإني لأراك الذي أريت فيك ما رأيت وهذا ثابت يجيبك عني ثم انصرف عنه قال ابن عباس فسألت عن قول النبي صلى الله عليه وسلم أريت فيك ما رأيت
8
327
فأخبرني أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما فأوحى إلى في المنام أن أنفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان بعدي فكان أحدهما العنس صاحب صنعاء والآخر مسيلمة وأما قول الرافضي إن عمر أنكر قتال أهل الردة فمن أعظم الكذب والافتراء على عمر بل الصحابة كانوا متفقين على قتال مسليمة وأصحابه ولكن كانت طائفة أخرى مقرين بالإسلام وامتنعوا عن أداء الزكاة فهؤلاء حصل لعمر أولا شبهة في قتالهم حتى ناظره الصديق وبين له وجوب قتالهم فرجع إليه والقصة في ذلك مشهورة وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن عمر قال لأبي بكر كيف تقاتل
8
328(189/229)
الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا عصموا مني دماءهم وأقوالهم إلا بحقها وحسابهم على الله قال أبو بكر ألم يقل إلا بحقها فإن الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها قال عمر فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق وعمر احتج بما بلغه أو سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فبين له الصديق أن قوله بحقها يتناول الزكاة فإنهما حق المال وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فهذا اللفظ الثاني الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين فقه أبي بكر وهو صريح في القتال عن أداء الزكاة وهو مطابق للقرآن قال تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة
8
329(189/230)
فخلوا سبيلهم سورة التوبة فعلق تخلية السبيل على الإيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأخبار المنقولة عن هؤلاء أن منهم من كان قد قبض الزكاة ثم أعادها إلى أصحابها لما بلغه موت النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من كان يتربص ثم هؤلاء الذين قاتلهم الصديق عليها لما قاتلهم صارت العمال الذين كانوا على الصدقات زمن النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم يقبضونها كما كانوا يقبضونها في زمنه ويصرفونها كما كانوا يصرفونها وكتب الصديق لمن كان يستعمله كتابا للصدقة فقال بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي أمر بها وبهذا الكتاب ونظائره يأخذ علماء المسلمين كلهم فلم يأخذ لنفسه منها شيئا ولا ولى أحدا من أقاربه لا هو ولا عمر بخلاف عثمان وعلي فإنهما وليا أقاربهما فإن جاز أن يطعن في الصديق والفاروق أنهما قاتلا لأخذ المال فالطعن في غيرهما أوجه فإذا وجب الذب عن عثمان وعلي فهو عن أبي بكر وعمر أوجب وعلي يقاتل ليطاع ويتصرف في النفوس والأموال فكيف يجعل هذا
8
330(189/231)
قتالا على الدين وأبو بكر يقاتل من ارتد عن الإسلام ومن ترك ما فرض الله ليطيع الله ورسوله فقط ولا يكون هذا قتالا على الدين وأما الذين عدهم هذا الرافضي أنهم تخلفوا عن بيعة الصديق من أكابر الصحابة فذلك كذب عليهم إلا على سعد بن عبادة فإن مبايعة هؤلاء لأبي بكر وعمر أشهر من أن تنكر وهذا مما اتفق عليه أهل العلم بالحديث والسير والمنقولات وسائر أصناف أهل العلم خلفا عن سلف وأسامة بن زيد ما خرج في السرية حتى بايعه ولهذا يقول له يا خليفة رسول الله وكذلك جميع من ذكره بايعه لكن خالد بن سعيد كان نائبا للنبي صلى الله عليه وسلم فلم مات النبي صلى الله عليه وسلم قال لا أكون نائبا لغيره فترك الولاية وإلا فهو من المقرين بخلافة الصديق وقد علم بالتواتر أنه لم يتخلف عن بيعته إلا سعد بن عبادة وأما علي وبنو هاشم فكلهم بايعه باتفاق الناس لم يمت أحد منهم إلا وهو مبايع له لكن قيل علي تأخرت بيعته ستة أشهر وقيل بل بايعه ثاني يوم وبكل حال فقد بايعوه من غير إكراه
8
331(189/232)
ثم جميع الناس بايعوا عمر إلا سعدا لم يتخلف عن بيعة عمر أحد لابنو هاشم ولا غيرهم وأما بيعة عثمان فاتفق الناس كلهم عليها وكان سعد قد مات في خلافة عمر فلم يدركها وتخلف سعد قد عرف سببه فإنه كان يطلب أن يصير أميرا ويجعل من المهاجرين أميرا ومن الأنصار أميرا وما طلبه سعد لم يكن سائغا بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين وإذا ظهر خطأ الواحد المخالف للإجماع ثبت أن الإجماع كان صوابا وأن ذلك الواحد الذي عرف خطؤه بالنص شاذ لا يعتد به بخلا ف الواحد الذي يظهر حجة شرعية من الكتاب والسنة فإن هذا يسوغ خلافة وقد يكون الحق معه ويرجع إليه غيره كما كان الحق مع أبي بكر في تجهيز جيش أسامة وقتال مانعي الزكاة وغير ذلك حتى تبين صواب رأيه فيما بعد وما ذكره عن أبي قحافة فمن الكذب المتفق عليه ولكن أبو قحافة كان بمكة وكان شيخا كبيرا أسلم عام الفتح أتى به أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورأسه ولحيته مثل الثغامة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو أقررت الشيخ مكانة لأتيناه إكراما لأبي بكر وليس
8
332(189/233)
في الصحابة من أسلم أبوه وأمه وأولاده وأدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وأدركه أيضا بنو أولاده إلا أبو بكر من جهة الرجال والنساء فمحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة هؤلاء الأربعة كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنين وعبد الله بن الزبير بن أسماء بنت أبي بكر كلهم أيضا آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحبوه وأم أبي بكر أم الخير آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم فهم أهل بيت إيمان ليس فيهم منافق ولا يعرف في الصحابة مثل هذا لغير بيت أبي بكر وكان يقال للإيمان بيوت وللنفاق بيوت فبيت أبي بكر من بيوت الإيمان من المهاجرين وبنو النجار من بيوت الإيمان من الأنصار وقوله إنهم قالوا لأبي قحافة إن أبنك أكبر الصحابة سنا كذب ظاهر وفي الصحابة خلق كثير أسن من أبي بكر مثل العباس فإن العباس كان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين والنبي صلى الله عليه وسلم كان أسن من أبي بكر قال أبو عمر بن عبد البر لا يختلفون أنه يعني أبا بكر مات وسنه ثلاث وستون سنة وأنه استوفى سن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما لا يصح لكن المأثور عن أبي قحافة أنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم
8
333(189/234)
وسلم ارتجت مكة فسمع ذلك أبو قحافة فقال ما هذا قالوا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أمر جليل فمن ولى بعده قالوا ابنك قال فهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة قالوا نعم قال لا مانع لما أعطى ولا معطى لما منع وحينئذ فالجواب عن منعه الإجماع من وجوه أحدها أن هؤلاء الذين ذكرهم لم يتخلف منهم إلا سعد بن عبادة وإلا فالبقية كلهم بايعوه باتفاق أهل النقل وطائفة من بني هاشم قد قيل إنها تخلفت عن مبايعته أولا ثم بايعته بعد ستة أشهر من غير رهبة ولا رغبة والرسالة التي يذكر بعض الكتاب أنه أرسلها إلى علي كذب مختلق عند أهل العلم بل على أرسل أبي بكر أن ائتنا فذهب هو إليهم فاعتذر على إليه وبايعه ففي الصحيحين عن عائشة قالت أرسلت فاطمة إلى أبي بكر رضي الله عنهما تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نورث ما تركناه صدقة وإنما
8
334(189/235)
يأكل آل محمد من هذا المال وإني والله لأغير شيئا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليه في عهده وإني لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله علي وسلم يعمل به إلا عملت به وإني اخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ فوجدت فاطمة على أبي بكر فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر فلما توفيت دفنها علي ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها علي وكان لعلي وجه من الناس حياة فاطمة فلما ماتت استنكر علي وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن بايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر أن أئتنا ولا يأتنا معك أحد كراهة محضر عمر فقال عمر لأبي بكر والله لا تدخل عليهم وحدك فقال أبو بكر ما عساهم أن يفعلوا بي والله لآتينهم فدخل عليهم أبو بكر فتشهد علي ثم قال إنا قد عرفنا فضيلتك يا أبا بكر وما أعطاك الله ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك استبددت ب الأمر علينا وكنا نرى أن لنا فيه حقا لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يكلم أبا بكر حتى فاضت عينا أبا بكر فلما تكلم أبو بكر قال والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فإني لم آل فيها عن الحق ولم أترك أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته فقال علي
8
335(189/236)
لأبي بكر موعدك العشية للبيعة فلما صلى أبو بكر الظهر رقى على المنبر وتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره الذي اعتذر به ثم استغفر وتشهد علي فعظم حق أبي بكر وأنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ولا إنكار للذي فضله الله به ولكنا كنا نرى أن لنا في الأمر نصيبا فاستبد علينا به فوجدنا في أنفسنا فسر بذلك المسلمون وقالوا أصبت وكان المسلمون إلى علي قريبا حين راجع الأمر بالمعروف ولا ريب أن الإجماع المعتبر في الإمامة لا يضر فيه تخلف الواحد والاثنين والطائفة القليلة فإنه لو اعتبر ذلك لم يكد ينعقد إجماع على إمامة فإن الإمامة أمر معين فقد يتخلف الرجل لهوى لا يعلم كتخلف سعد فإنه كان قد استشرف إلى أن يكون هو أميرا من جهة الأنصار فلم يحصل له ذلك فبقي في نفسه بقيه هوى ومن ترك الشيء لهوى لم يؤثر تركه بخلاف الإجماع على الاحكام العامة كالإيجاب والتحريم والإباحة فإن هذا لو خالف فيه الواحد أو الاثنان فهل يعتد بخلافهما فيه قولان للعلماء وذكر عن أحمد في ذلك روايتان إحداهما لا يعتد بخلاف الواحد والاثنين وهو قول طائفة كمحمد بن جرير الطبري والثاني يعتد بخلاف الواحد والاثنين في الأحكام وهو قول الأكثرين والفرق بينه وبين الإمامة أن الحكم أمر عام يتناول هذا وهذا فإن القائل بوجوب الشيء يوجبه على
8
336(189/237)
نفسه وعلى غيره والقائل بتحريمه يحرمه على نفسه وعلى غيره فالمنازع فيه ليس متهما ولهذا تقبل رواية الرجل للحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في القصة وإن كان خصما فيها لأن الحديث عام يتناولها ويتناول غيرها وإن كان المحدث اليوم محكوما له بالحديث فغدا يكون محكوما عليه بخلاف شهادته لنفسه فإنها لا تقبل لأنه خصم والخصم لا يكون شاهدا فالإجماع على إمامة المعين ليس حكما على أمر عام كلي كالأحكام على أمر خاص معين وأيضا فالواحد إذا خالف النص المعلوم كان خلافة شاذا كخلاف سعيد بن المسيب في أن المطلقة ثلاثا إذا نكحت زوجا غيره أبيحت للأول بمجرد العقد فإن هذا لما جاءت السنة الصصحيحة بخلافه لم يعتد به وسعد كان مراده أن يولوا رجلا من الأنصار وقد دلت النصوص الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإمام من قريش فلو كان المخالف قرشيا واستقر خلافة لكان شبهة بل علي كان من قريش وقد تواتر أنه بايع الصديق طائعا مختارا الثاني أنه لو فرض خلاف هؤلاء الذين ذكرهم وبقدرهم مرتين لم يقدح ذلك في ثبوت الخلافة فإنه لا يشترط في الخلافة إلا اتفاق أهل الشوكة والجمهور الذين يقام بهم الأمر بحيث يمكن أن يقام بهم مقاصد الإمامة
8
337
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة وقال إن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد
8
338
وقال إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية وقال عليكم بالسواد الأعظم ومن شذ شذ في النار الثالث أن يقال إجماع الأمة على خلافة أبي بكر كان أعظم من اجتماعهم على مبايعة علي فإن ثلث الأمة أو أقل أو أكثر لم يبايعوا عليا بل قاتلوه والثلث الآخر لم يقاتلوا معه وفيهم من لم يبايعه أيضا والذين لم يبايعوه منهم من قاتلهم ومنهم من لم يقاتلهم فإن جاز القدح في الإمامة بتخلف بعض الأمة عن البيعة كان القدح في إمامة علي أولى بكثير
8
339(189/238)
وإن قيل جمهور الأمة لم تقاتله أو قيل بايعه أهل الشوكة والجمهور أو نحو ذلك كان هذا في حق أبي بكر أولى وأحرى وإذا قالت الرافضة إمامة ثبتت بالنص فلا يحتاج إلى الإجماع والمبايعة قيل النصوص إنما دلت على خلافة أبي بكر لا على خلافة علي كما تقدم التنبيه عليه وكما سنذكره إن شاء الله تعالى ونبين أن النصوص دلت على خلافة أبي بكر الصديق وعلى أن عليا لم يكن هو الخليفة في زمن الخلفاء الثلاثة فخلافة أبي بكر لا تحتاج إلى الإجماع بل النصوص دالة على صحتها وعلى انتفاء ما يناقضها الرابع أن يقال الكلام في إمامة الصديق إما أن يكون في وجودها وإما أن يكون في استحقاقه لها أما الأول فهو معلوم بالتواتر واتفاق الناس بأنه تولى الأمر وقام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفه في أمته وأقام الحدود واستوفى الحقوق وقاتل الكفار والمرتدين وولى الأعمال وقسم الأموال وفعل جميع ما يفعل الإمام بل هو أول من باشر الإمامة في الأمة وأما إن أريد بإمامته كونه مستحقا لذلك فهذا عليه أدلة كثيرة غير الإجماع فلا طريق يثبت بها كون علي مستحقا للإمامة إلا وتلك الطريق يثبت بها أن أبا بكر مستحق للإمامة وأنه أحق للإمامة من علي
8
340(189/239)
وغيره وحينئذ فالإجماع لا يحتاج إليه في الأولى ولا في الثانية وإن كان الإجماع حاصلا فصل قال الرافضي وأيضا الإجماع ليس أصلا في الدلالة بل لا بد أن يستند المجمعون إلى دليل على الحكم حتى يجتمعوا عليه وإلا كان خطأ وذلك الدليل إما عقلي وليس في العقل دلالة على إمامته وإما نقلي وعندهم أن النبي صلى الله عليه وسلم مات من غير وصية ولا نص على إمام والقرآن خال منه فلو كان الإجماع متحققا كان خطأ فتنتفى دلالته والجواب من وجوه أحدها أن قوله الإجماع ليس أصلا في الدلالة إن أراد به أمر المجتمعين لا تجب طاعته لنفسه وإنما تجب لكونه دليلا على أمر الله ورسوله فهذا صحيح ولكن هذا لا يضر فإن أمر الرسول كذلك لم تجب طاعته لذاته بل لأن أطاع الرسول فقد أطاع
8
341
الله ففي الحقيقة لا يطاع أحد لذاته إلا الله له الخلق والأمر وله الحكم وليس الحكم إلا لله وإنما وجبت طاعة الرسول لأن طاعته طاعه الله ووجبت طاعة المؤمنين المجتمعين لأن طاعتهم طاعة الله والرسول ووجب تحكيم الرسول لأن حكمة حكم الله وكذلك تحكيم الأمة لأن حكمها حكم الله وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني وقد قامت الأدلة الكثيرة على أن الأمة لا تجتمع على ضلالة بل ما أمرت به الأمة فقد أمر الله به ورسوله والأمة أمرت بطاعة أبي بكر في إمامته فعلم أن الله ورسوله أمرا بذلك فمن عصاه كان عاصيا لله ورسوله وإن أراد به أنه قد يكون موافقا للحق وقد يكون مخالفا له وهذا هو الذي أراده فهذا قدح في كون الإجماع حجة ودعوى أن الأمة قد تجتمع علي الضلالة والخطأ كما يقول ذلك من يقوله من الرافضة الموافقين للنظام وحينئذ فيقال كون علي إماما ومعصوما وغير ذلك من الأصول
8
342(189/240)
الإمامية أثبتوه بالإجماع إذ عمدتهم في أصول دينهم على ما يذكرونه من من العقليات وعلى الإجماع وعلى ما ينقلونه فهم يقولون علم بالعقل لأنه لا بد للناس من إمام معصوم وإمام منصوص عليه وغير علي ليس معصوما ولا منصوصا عليه بالإجماع فيكون المعصوم هو عليا وغير ذلك من مقدمات حججهم فيقال لهم إن لم يكن الإجماع حجة فقد بطلت تلك الحجج فبطل ما بنوه على الإجماع من أصولهم فبطل قولهم وإذا بطل ثبت مذهب أهل السنة وإن كان الإجماع حقا فقد ثبت أيضا مذهب أهل السنة فقد تبين بطلان قولهم سواء قالوا الإجماع حجة أم لم يقولوا وإذا بطل قولهم ثبت مذهب أهل السنة وهو المطلوب وإن قالوا نحن ندع الإجماع ولا نحتج به في شيء من أصولنا وإنما عمدتنا العقل والنقل عن الأئمة المعصومين قيل لهم إذا لم تحتجوا بالإجماع لم يبق معكم حجة سمعية غير النقل المعلوم عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن ما ينقلونه عن علي وغيره من الأئمة لا يكون حجة حتى نعلم عصمة الواحد من هؤلاء
8
343(189/241)
وعصمة الواحد من هؤلاء لا تثبت إلا بنقل عمن علم عصمته والمعلوم عصمتة هو الرسول فما لم يثبت نقل معلوم عن الرسول بما يقولونه لم يكن معهم حجة سمعية اصلا لا في اصول الدين ولا في فروعه وحينئذ فيرجع الأمر إلى دعوى خلافة علي بالنص فإن أثبتم النص بالإجماع فهو باطل لنفيكم كون الإجماع حجة وان لم تثبتوه إلا بالنقل الخاص الذي يذكره بعضكم فقد تبين تطلانه من وجوه وتبين أن ما ينقله الجمهور وأكثر الشيعة مما يناقض هذا القول يوجب علما يقينا بأن هذا كذب وهذه الأمور من تدبرها تبين له أن الإمامية لا يرجعون في شيء مما ينفردون به عن الجمهور إلى الحجة أصلا لا عقلية ولا سمعية ولا نص ولا إجماع وإنما عمدتهم دعوى نقل مكذوب يعلم أنه كذب أو دعوى دلالة نص أو قياس يعلم أنه لا دلالة له وهم وسائر أهل البدع كالخوارج والمعتزلة وإن كانوا عند التحقيق لا يرجعون إلى حجة صحيحة لا عقلية ولا سمعية وإنما لهم شبهات لكن حججهم اقوى من حجج الرافضة السمعية والعقلية أما السمعيات فإنهم لا يتعمدون الكذب كما تتعمده الرافضة ولهم في النصوص الصحيحة شبهة أقوى من شبه الرافضة وأيضا فإن سائر أهل البدع أعلم بالحديث والآثار منهم والرافضة أجهل الطوائف بالأحاديث والآثار وأحوال النبي صلى الله عليه وسلم
8
344(189/242)
ولهذا يوجد في كتبهم وكلامهم من الجهل والكذب في المنقولات ما لا يوجد في سائر الطوائف وكذلك لهم في العقليات مقاييس هي مع ضعفها وفسادها أجود من مقاييس الرافضة وأيضا فنحن نشير إلى ما يدل على أن الإجماع حجة بالدلالة المبسوطة في غير هذا الموضع ولكل مقام مقال ونحن لا نحتاج في تقرير إمامة الصديق رضي الله عنه ولا غيره إلى هذا الإجماع ولا نشترط في إمامة أحد هذا الإجماع لكن هو لما ذكر أن أهل السنة اعتمدوا على الإجماع تكلمنا على ذلك فنشير إلى بعض ما يدل على صحة الإجماع فنقول أولا ما من حكم اجتمعت الأمة عليه إلا وقد دل عليه النص فالإجماع دليل على نص موجود معلوم عند الأئمة ليس مما درس علمه والناس قد اختلفوا في جواز الإجماع عن اجتهاد ونحن نجوز أن يكون بعض المجمعين قال عن اجتهاد لكن لا يكون النص خافيا على جميع المجتهدين وما من حكم يعلم أن فيه إجماعا إلا وفي الأمة من يعلم أن فيه نصا وحينئذ فالإجماع دليل على النص ولهذا قال تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى سورة النساء فعلق الوعيد
8
345(189/243)
بمشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين مع العلم بأن مجرد مشاقة الرسول توجد الوعيد ولكن هما متلازمان فلهذا علقه بهما كما كما يعلقه بمعصية الله ورسوله وهما متلازمان أيضا وخلافة الصديق من هذا الباب فإن النصوص الكثيرة دلت على أنها حق وصواب وهذا مما لم يختلف العلماء فيه واختلفوا هل انعقدت بالنص الذي هو العهد كخلافة عمر أو بالإجماع والاختيار وأما دلالة النصوص على أنها حق وصواب فما علمت أحدا نازع فيه من علماء السنة كلهم يحتج على صحتها بالنصوص إذا كنا نبين أن ما انعقد عليه الإجماع فهو منصوص عليه كان ذكر الإجماع لأنه دليل على النص لا يفارقه البتة ومع هذا فنحن نذكر بعض ما يستدل به على الإجماع مطلقا ويستدل به على من يقول قد لا يكون معه نص كقوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر سورة آل عمران فهذا يقتضي أنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر ومن المعلوم أن إيجاب ما أوجبه الله وتحريم ما حرمه الله هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل هو نفسه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيجب أن يوجبوا كل ما أوجبه الله ورسوله ويحرموا كل ما حرمه الله ورسوله وحينئذ فيمتنع أن يوجبوا حراما ويحرموا واجبا بالضرورة فإنه لا يجوز عليهم السكوت عن
8
346(189/244)
الحق في ذلك فكيف نجوز السكوت عن الحق والتكلم بنقيضه من الباطل ولو فعلوا ذلك لكانوا قد أمروا بالمنكر ونهوا عن المعروف وهو خلاف النصر فلو كانت ولاية أبي بكر حراما وطاعته حراما منكرا لوجب أن ينهوا عن ذلك ولو كانت مبايعة علي واجبة لكان ذلك من أعظم المعروف الذي يجب أن يأمروا به فلما لم يكن كذلك أعلم أن مبايعة هذا إذ ذاك لم تكن معروفا ولا واجبا ولا مستحبا ومبايعة ذلك لم تكن منكرا وهو المطلوب وأيضا فقوله تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر سورة التوبة والاستدلال به كما تقدم وأيضا فقوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس سورة البقرة وقوله هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس سورة الحج ومن جعلهم الرب شهداء على الناس فلا بد أن يكونوا عالمين بما يشهدون به ذوي عدل في شهادتهم فلو كانوا يحللون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله ويوجبون ما عفا الله عنه ويسقطون ما أوجبه الله لم يكونوا كذلك وكذلك إذا كانوا يجرحون الممدوح ويمدحون المجروح
8
347(189/245)
فإذا شهدوا أن أبا بكر أحق بالإمامة وجب أن يكونوا صادقين في هذه الشهادة عالمين بما شهدوا به وكذلك إذا شهدوا أن هذا مطيع لله وهذا عاص لله وهذا فعل ما يستحق عليه الثواب وهذا فعل ما يستحق عليه العقاب وجب قبول شهادتهم فإن الشهادة على الناس تتناول الشهادة بما فعلوه من مذموم ومحمود والشهادة بأن هذا مطيع وهذا عاص هي تتضمن الشهادة بأفعالهم وأحكام أفعالهم وصفاتهم وهو المطلوب وفي الصحيحين عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال وجبت ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال وجبت فقيل يا رسول الله ما قولك وجبت قال هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض وأيضا فقوله ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى الآية سورة النساء فإنه توعد على المشاقة للرسول واتباع غير سبيل المؤمنين وذلك يقتضي أن كلا منهما مذموم فإن مشاقة الرسول وحدها مذمومة بالإجماع فلو لم يكن الآخر
8
348(189/246)
مذموما لكان قد رتب الوعيد على وصفين مذموم وغير مذموم وهذا لا يجوز ونظير هذا قوله تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا سورة الفرقان فإنه يقتضي أن كل واحد من الخصال الثلاثة مذموم شرعا وحينئذ فإذا كان المؤمنون قد أوجبوا أشياء وحرموا أشياء فخالفهم مخالف وقال إن ما أوجبوه ليس بواجب وما حرموه ليس بحرام فقد اتبع غير سبيلهم لأن المراد بسبيلهم اعتقاداتهم وأفعالهم وإذا كان كذلك كان مذموما ولو لم يكن سبيلهم صوابا وحقا لم يكن المخالف لهم مذموما وأيضا فقوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول سورة النساء فجعل وجوب الرد إلى الله والرسول معلقا بالتنازع والحكم المعلق بالشرط عدم عند عدمه فعلم أنه عند انتفاء التنازع لا يجب الرد إلى الله ورسوله فدل على أن إجماعهم إنما يكون على حق وصواب فإنه لو كان على باطل وخطأ لم يسقط عنهم وجوب الرد الى الكتاب والسنة لأجل باطلهم وخطئهم ولأن أمر الله ورسوله حق حال إجماعهم
8
349(189/247)
ونزاعهم فإذا لم يجب الرد عليه عند الإجماع دل على أن الإجماع موافق له لا مخالف له فلما كان المستدل بالإجماع متبعا له في نفس الأمر لم يحتج إلى الرد إليه وأيضا قوله تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا سورة آل عمران أمرهم بالاجتماع ونهاهم عن الافتراق فلو كان في حال الاجتماع قد يكونون مطيعين لله تارة وعاصين له أخرى لم يجز أن يأمر به إلا إذا كان اجتماعا على طاعة والله أمر به مطلقا ولأنه لو كان كذلك لم يكن فرق بين الإجتماع والإفتراق لأن الإفتراق إذا كان معه طاعة كان مأمورا به مثل أن يكون الناس نوعين نوع يطيع الله ورسوله ونوع يعصيه فإنه يجب أن يكون مع المطيعين وإن كان في ذلك فرقة فلما أمرهم بالاجتماع دل على أنه مستلزم لطاعة الله وأيضا فإنه قال إنما وليكم الله ورسوله سورة المائدة فجعل موالاتهم كموالاة الله ورسوله وموالاة الله ورسوله لا تتم إلا بطاعة أمره وكذلك المؤمنون لا تتم موالاتهم إلا بطاعة أمرهم وهذا لا يكون إلا إذا كان أمرهم أمرا متفقا فإن أمر بعضهم بشيء وأمر آخر بضده لم يكن موالاة هذا بأولى من موالاة هذا فكانت الموالاة في حال النزاع بالرد إلى الله والرسول وأيضا فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة
8
350
متعددة الأمر بالاعتصام بالجماعة والمدح لها وذم الشذوذ وأن الخير والهدى والرحمة مع الجماعة وأن الله لم يكن ليجمع هذه الأمة على ضلالة وأنه لن يزال فيها طائفة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم ولا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم فيه بطاعة الله وأن خير هذه الأمة القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وقد روى الحاكم وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يجمع الله أمتي على الضلالة أبدا ويد الله على الجماعة وعن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
8
351(189/248)
من خالف جماعة المسلمين شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجعه ومن مات وليس عليه إمام جماعة فإن ميتته ميتة جاهلية وعن الحارث الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمركم بخمس كلمات أمرني الله بهن الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد فمن خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من رأسه إلا أن يرجع
8
352
وعن معاوية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من فارق الجماعة شبرا دخل النار وعن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من فارق أمته أو عاد أعرابيا بعد هجرته فلا حجة له وعن ربعي قال أتيت حذيفة ليالي سار الناس إلى عثمان فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من فارق الجماعة واستبدل الإمارة لقي الله ولا حجة له
8
353
وعن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يسأل عنهم رجل فارق الجماعة وعصى إمامه فمات عاصيا فذكر الحديث وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة المكتوبة إلى التي بعدها كفارة لما بينهما والجمعة إلى الجمعة والشهر إلى الشهر يعني رمضان كفارة لما بينهما قال بعد ذلك إلا من ثلاث فعرفت أن ذلك من أمر حدث فقال إلا من الإشراك بالله ونكث الصفقة وترك السنة وأن تبايع رجلا بيمينك ثم تخالف تقاتله بسيفك وترك السنة الخروج من الجماعة وعن النعمان بن بشير قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال نضر الله وجه امريء سمع مقالتي فحملها فرب حامل فقه
8
354(189/249)
غير فقيه ورب حامل إلى من هو أفقه منه ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة ألأمر ولزوم جماعة المسلمين روى هذه الأحاديث الحاكم في المستدرك وذكر أنها على شرط الصحيح وذلك يقتضي أن اجتماع الأمة لا يكون إلا على حق وهدى وصواب وأن أحق الأمة بذلك هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يقتضى أن ما فعلوه من خلافة الصديق كان حقا وهدى وصوابا وأيضا فإن السلف كان يشتد إنكارهم على من يخالف الإجماع ويعدونه من أهل الزيغ والضلال فلو كان ذلك شائعا عندهم لم ينكروه وكانوا ينكرون عليه إنكارا هم قاطعون به لا يسوغون لأحد أن يدع الإنكار عليه فدل على أن الإجماع عندهم كان مقطوعا به
8
355
والعقول المتباينة لا تتفق على القطع من غير تواطؤ ولا تشاعر إلا لما يوجب القطع وإلا فلو لم يكن هناك ما يوجب القطع بل لا يوجب الظن لم تكن الطوائف الكثيرة مع تباين هممهم وقرائحهم وعدم تواطئهم يقطعون في موضع لا قطع فيه فعلم أنه كان عندهم أدلة قطعية توجب كون الإجماع حجة يجب اتباعها ويحرم خلافها وأيضا فإن السنة والشيعة اتفقوا على أنه إذا كان علي معهم كان إجماعهم حجة ولا يجوز أن يكون ذلك لأجل عصمة علي لأن عصمته لم تثبت إلا بالإجماع فإن عمدتهم في ذلك الإجماع على انتفاء العصمة من غيره إذ ليس في النص ولا المعقول ما ينفى العصمة عن غيره وهذا مما يبين تناقض الرافضة فإن أصل دينهم بنوه على الإجماع ثم قدحوا فيه والقدح فيه قدح في عصمة علي فلا يبقى لهم ما يعتمدون عليه وهذا شأنهم في عامة أقوالهم التي ينفردون بها ولهذا قال فيهم الشعبي يأخذون بأعجاز لا صدور لها أي بفروع لا أصول لها فإن كان الإجماع ليس بحجتهم لم تثبت عصمته وإن كان حجة لم يحتج إلى عصمته فثبت أنه على التقديرين لا يجوز أن يكون قولهم
8
356(189/250)
حجة لأجل علي فلزم أن يكون الإجماع حجة وإلا لزم بطلان قول السنة والشيعة فصل قال الرافضي وأيضا الإجماع إما أن يعتبر فيه قول كل الأمة ومعلوم أنه لم يحصل بل ولا أجماع أهل المدينة أو بعضهم وقد أجمع أكثر الناس على قتل عثمان والجواب أن يقال أما الإجماع على إلإمامة فإن أريد به الإجماع الذي ينعقد به الإمامة فهذا يعتبر فيه موافقة أهل الشوكة بحيث يكون متمكنا بهم من تنفيذ مقاصد الإمامة حتى إذا كان رؤوس الشوكة عددا قليلا ومن سواهم موفق لهم حصلت الإمامة بمبايعتهم له هذا هو الصواب الذي عليه أهل السنة وهو مذهب الأئمة كأحمد وغيره وأما أهل الكلام فقدرها كل منهم بعدد وهي تقديرات باطلة وإن أريد به الإجماع على الإستحقاق والأولوية فهذا يعتبر فيه إما الجميع وإما المجهور وهذه الثلاثة حاصلة في خلافة أبي بكر وأما عثمان فلم يتفق على قتله إلا طائفة قليلة لا يبلغون نصف عشر عشر عشر الأمة كيف وأكثر جيش علي والذين قاتلوه والذين قعدوا عن القتال لم يكونوا من قتلة عثمان وإنما كان قتلة عثمان فرقة يسيرة من عسكر علي
8
357(189/251)
والأمة كانوا في خلافة عثمان مئى ألوف والذين اتفقوا على قتله الألف أو نحوهم وقد قال عبدا لله بن الزبير يعيب قتلة عثمان خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية وقتلهم الله كل قتلة ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب فصل قال الرافضي وأيضا كل واحد من الأمة يجوز عليه الخطأ فأي عاصم لهم عن الكذب عند الإجماع والجواب أن يقال من المعلوم إن الإجماع إذا حصل حصل له من الصفات ما ليس للآحاد لم يجز أن يجعل حكم الواحد الاجتماع فإن كل واحد من المخبرين يجوز عليه الغلط والكذب فإذا انتهى المخبرون إلى حد التواتر امتنع عليهم الكذب والغلط وكل واحد من اللقم والجرع والأقداح لا يشبع ولا يروى ولا يسكر فإذا اجتمع من ذلك عدد كثير أشبع وأروى وأسكر وكل واحد من الناس لا يقدر على قتال العدو فإذا اجتمع طائفة كثيرة قدروا على القتال فالكثرة تؤثر في زيادة القوة وزيادة العلم وغيرهما ولهذا قد يخطىء
8
358(189/252)
الواحد والإثنان في مسائل الحساب فإذا كثر العدد امتنع ذلك فيما لم يكن يمتنع في حال الإنفراد ونحن نعلم بالإضطرار أن علم الإثنين أكثر من علم أحدهما إذا انفرد وقوتهما أكثر من قوته فلا يلزم من وقوع الخطأ حال الانفراد وقوعه حال الكثرة قال تعالى إن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى سورة البقرة والناس في الحساب قد يخطىء الواحد منهم ولا تخطىء الجماعة كالهلال فقد يظنه الواحد هلالا وليس كذلك فأما العدد الكثير فلا يتصور فيهم الغلط وتعلم أن المسلمين إذا اجتمعوا وكثروا يكون داعيهم إلى الفواحش والظلم أقل من داعيهم إذا كانوا قليلا فإنهم في حال الإجتماع لا يجتمعون على مخالفة شرائع الإسلام كما يفعله الواحد والإثنان فإن الإجتماع والتمدن لا يمكن إلا مع قانون عدلي فلا يمكن أهل مدينة أن يجتمعوا على إباحة ظلم بعضهم بعضا مطلقا لأنه لا حياة لهم مع ذلك بل نجد الأمير إذا ظلم بعض الرعية فلا بد أن يكون بعض أصحابه لا يظلم حين يظلم الرعية وما استووا كلهم فيه فليس فيه ظلم من بعضهم لبعض ومعلوم أن المجموع قد خالف حكمه حكم الأفراد سواء كان اجتماع أعيان أو أعراض ومن الأمثال التي يضربها المطاع لأصحابه أن السهم الواحد
8
359(189/253)
يمكن كسره وإذا اجتمعت السهام لم يمكن كسرها والإنسان قد يغلبه عدوه ويهزمه فإذا صاروا عددا كثيرا لم يمكن ذلك كما كان يمكنه حال الانفراد وأيضا فإن كان الإجماع قد يكون خطأ لم يثبت أن عليا معصوم فإنه إنما علمت عصمته بالإجماع على أنه لا معصوم سواه فإذا جاز كون الإجماع أخطأ أمكن أن يكون في الأمة معصوم غيره وحينئذ فلا يعلم أنه هو المعصوم فتبين أن قدحهم في الإجماع يبطل الأصل الذي اعتمدوا عليه في إمامة المعصوم وإذا بطل أنه معصوم بطل أصل مذهب الرافضة فتبين أنهم إن قدحوا في الإجماع بطل أصل مذهبهم وإن سلموا أنه حجة بطل مذهبهم فتبين بطلان مذهبهم على التقديرين فصل قال الرافضي وقد بينا ثبوت النص الدال على إمامة أمير المؤمين فلو أجمعوا على خلافه لكان خطأ لأن الإجماع الواقع على خلاف النص يكون عندهم خطأ
8
360
والجواب من وجوه أحدها أنه قد تقدم ببيان بطلان كل ما دل على أنه إمام قبل الثلاثة الثاني أن النصوص إنما دلت على خلافة الثلاثة قبله الثالث أن يقال الإجماع المعلوم حجة قطعية لا سمعية لا سيما مع النصوص الكثيرة الموافقة له فلو قدر ورود خبر يخالف الإجماع كان باطلا إما لكون الرسول لم يقله وإما لكونه لا دلالة فيه الرابع أنه يمتنع تعارض النص المعلوم والإجماع المعلوم فإن كليهما حجة قطعية والقطعيات لا يجوز تعارضها لوجوب وجود مدلولاتها فلو تعارضت لزم الجمع بن النقيضين وكل من أدعى إجماعا يخالف نصا فأحد الأمرين لازم إما بطلان إجماعه وإما بطلان نصه وكل نص اجتمعت الأمة على خلافه فقد علم النص الناسخ له وأما أن يبقى في الأمة نص معلوم والإجماع مخالف له فهذا غير واقع وقد دل الإجماع المعلوم والنص المعلوم على خلافة الصديق رضي الله عنه وبطلان غيرها ونص الرافضة مما نحن نعلم كذبه بالاضطرار وعلى كذبه أدلة كثيرة
8
361(189/254)
فصل قال الرافضي الثاني ما رووه عن النبي أنه قال اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر والجواب المنع من الرواية ومن دلالتها على الإمامة فإن الإقتداء بالفقهاء لا يستلزم كونهم أئمة وأيضا فإن أبا بكر وعمر قد اختلفا في كثير من الأحكام فلا يمكن الإقتداء بهما وأيضا فإنه معارض لما رووه من قوله أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم مع إجماعهم على انتفاء إمامتهم والجواب من وجوه أحدها أن يقال هذا الحديث بإجماع أهل العلم بالحديث أقوى من النص الذي يروونه في إمامة علي فإن هذا أمر معروف في كتب أهل الحديث المعتمدة ورواه أبو داود في سننه وأحمد في مسنده والترمذي في جامعه
8
362
وأما النص على علي فليس في شيء من كتب أهل الحديث المعتمدة وأجمع أهل الحديث على بطلانه حتى قال أبو محمد بن حزم وما وجدنا قط رواية عن أحد في هذا النص المدعى إلا رواية واهية عن مجهول إلى مجهول يكنى أبا الحمراء لا نعرف من هو في الخلق فيمتنع أن يقدح في هذا الحديث مع تصحيح النص على علي وأما الدلالة فالحجة في قوله باللذين من بعدي أخبر أنهما من بعده وأمر بالإقتداء بهما فلو كانا ظالمين أو كافرين في كونهما بعده لم يأمر بالإقتداء بهما فإنه لا يأمر بالإقتداء بالظالم فإن الظالم لا يكون قدوة يؤتم به بدليل قوله لا ينال عهدي الظالمين سورة البقرة فدل على أن الظالم لا يؤتم به والائتمام هو الإقتداء فلما أمر بالإقتداء بمن بعده والاقتداء هو الائتمام مع إخباره أنهما يكونان بعده دل على أنهما إمامان قد أمر بالائتمام بهما بعدت وهذا هو المطلوب وأما قوله اختلفا في كثير من الأحكام فليس الأمر كذلك بل
8
363(189/255)
لا يكاد يعرف اختلاف أبي بكر وعمر إلا في الشيء اليسير والغالب أن يكون عن أحدهما فيه روايتان كالجد مع الإخوة فإن عمر عنه فيه روايتان إحداهما كقول أبي بكر وأما اختلافهما في قسمة الفيء هل يسوى فيه بين الناس أو يفضل فالتسوية جائزة بلا ريب كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم الفيء والغنائم فيسوى بين الغانمين ومستحقي الفيء والنزاع في جواز التفضيل وفيه للفقهاء قولان هما روايتان عن أحمد والصحيح جوازه للمصلحة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفضل أحيانا في قسمة الغنائم والفيء وكان يفضل السرية في البدأة الربع بعد الخمس وفي الرجعة الثلث بعد الخمس فما فعله الخليفتان فهو جائز مع أنه قد روى عن عمر أنه أختار في آخر عمره التسوية وقال لئن عشت إلى قابل لأجعل الناس بابا واحدا وروى عن عثمان التفضيل وعن علي التسوية ومثل هذا لا يسوغ فيه إنكار إلا أن يقال فضل من لا يستحق التفضيل كما أنكر على عثمان في بعض قسمه وأما تفضيل عمر فما بلغنا أن أحدا ذمه فيه وأما تنازعهما في تولية خالد وعزله فكل منهما فعل ما كان أصلح فكان الأصلح لأبي بكر تولية خالد لأن أبا بكر ألين من عمر فينبغي لنائبه أن يكون أقوى من نائب عمر فكانت استنابة عمر لأبي عبيدة أصلح له واستنابة أبي بكر لخالد أصلح له ونظائر هذا متعددة
8
364(189/256)
وأما الأحكام التي هي شرائع كلية فاختلافهما فيها إما نادر وإم معدوم وإما لأحدهما فيه قولان وأيضا فيقال النص يوجب الإقتداء بهما فيما اتفقا عليه وفيما اختلفا فيه فتسويغ كل منهما المصير إلى قول الآخر متفق عليه بينهما فإنهما اتفقا على ذلك وأيضا فإذا كان الإقتداء بهما يوجب الإئتمام بهما فطاعة كل منهما إذا كان إماما وهذا هو المقصود وأما بعد زوال إمامته فالإقتداء بهما أنهما إذا تنازعا رد ما تنازعا فيه إلى الله والرسول وأما قوله أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم فهذا الحديث ضعيف ضعفه أهل الحديث قال البزار هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هو في كتب الحديث المعتمدة وأيضا فليس فيه لفظ بعدي والحجة هناك قوله بعدي وأيضا فليس فيه الأمر بالإقتداء بهم وهذا فيه الأمر بالإقتداء بهم فصل قال الرافضي الثالث ما ورد فيه من الفضائل كآية
8
365
الغار وقوله تعالى وسيجنبها الأتقى سورة الليل وقوله قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد سورة الفتح والداعي هو أبو بكر وكان أنيس رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش يوم بدر وأنفق على النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم في الصلاة قال والجواب أنه لا فضيلة له في الغار لجواز أن يستصحبه حذرا منه لئلا يظهر أمره وأيضا فإن الآية تدل على نقيضه لقوله لا تحزن فإنه يدل على خوره وقله صبره وعدم يقينه بالله تعالى وعدم رضا بمساواته النبي صلى الله عليه وسلم وبقضاء الله وقدره ولأن الحزن إن كان طاعة استحال أن ينهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان معصية كان ما ادعوه من الفضيلة رذيلة وأيضا فإن القرآن حيث ذكر إنزال السكينة على رسول الله
8
366(189/257)
شرك معه المؤمنين إلا في هذا الموضع ولا نقص أعظم منه وأما وسيجنبها الأتقى فإن المراد أبو الدحداح حيث اشترى نخلة شخص لأجل جاره وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم على صاحب النخلة نخلة في الجنة فأبى فسمع أبو الدحداح فاشتراها ببستان له ووهبها الجار فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عوضها له بستانا في الجنة وأما قوله تعالى قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد سورة الفتح يريد سندعوكم إلى قوم فإنه أراد الذين تخلفوا عن الحديبية والتمس هؤلاء أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى بقوله قل لن
8
367
تتبعونا سورة الفتح لأنه تعالى جعل غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ثم قال قل للمخلفين من الأعراب ستدعون سورة الفتح يريد سندعوكم فيما بعد إلى قتال قوم أولى بأس شديد وقد دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوات كثيرة كمؤتة وحنين وتبوك وغيرهما فكان الداعي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضا جاز أن يكون علي هو الداعي حيث قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين وكان رجوعهم إلى طاعته إسلاما لقوله عليه الصلاة والسلام يا علي حربك حربي وحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر وأما كونه أنيسه في العريش يوم بدر فلا فضل فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أنسه بالله تعالى مغنيا له عن كل أنيس لكن لما عرف النبي صلى الله عليه وسلم أن أمره
8
368(189/258)
لأبي بكر بالقتال يؤدي إلى فساد الحال حيث هرب عدة مرات في غزواته وإنما أفضل القاعد عن القتال أو المجاهد بنفسه في سبيل الله وأما إنفاقه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذب لأنه لم يكن ذا مال فإن أباه كان فقيرا في الغاية وكان ينادي على مائدة عبد الله بن جدعان بمد كل يوم يقتات به فلو كان أبو بكر غنيا لكفى أباه وكان أبو بكر في الجاهلية معلما للصبيان وفي الإسلام كان خياطا ولما ولي أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة فقال إني محتاج إلى القوت فجعلوا له كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال والنبي
8
369
الله عليه وسلم كان قبل الهجرة غنيا بمال خديجة ولم يحتج إلى الحرب وتجهيز الجيوش وبعد الهجرة لم يكن لأبي بكر ألبتة شيء ثم لو أنفق لوجب أن ينزل فيه قرآن كما نزل في علي هل أتى سورة الإنسان ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف من الذين تصدق عليهم أمير المؤمين والمال الذي يدعون إنفاقه أكثر فحيث لم ينزل فيه قرآن دل على كذب النقل وأما تقديمه في الصلاة فخطأ لأن بلالا لما أذن بالصلاة أمرته عائشة أن يقدم أبا بكر ولما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم سمع التكبير فقال من يصلي بالناس فقالوا أبو بكر
8
370
فقال أخرجوني فخرج بين علي والعباس فنحاه عن القبلة وعزله عن الصلاة وتولى هو الصلاة قال الرافضي فهذه حال أدلة القوم فلينظر العاقل بعين الإنصاف وليقصد اتباع الحق دون اتباع الهوى ويترك تقليد الآباء والأجداد فقد نهى الله تعالى في كتابه عن ذلك ولا تلهيه الدنيا عن إيصال الحق إلى مستحقه ولا
8
371(189/259)
يمنح المستحق عن حقه فهذا آخر ما أردنا إثباته في هذه المقدمة والجواب أن يقال في هذا الكلام من الأكاذيب والبهت والفرية ما لا يعرف مثله لطائفة من طوائف المسلمين ولا ريب أن الرافضة فيهم شبه قوى من اليهود فإنهم قوم بهت يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون وظهور فضائل شيخي الإسلام أبي بكر وعمر أظهر بكثير عند كل عاقل من فضل وغيرهما فيريد هؤلاء الرافضة قلب الحقائق ولهم نصيب من قوله تعالى فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه فمن أظلم ممن افترى الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون سورة يونس ونحو هذه الآيات فإن القوم من أعظم الفرق تكذيبا بالحق وتصديق بالكذب وليس في الإمة من يماثلهم في ذلك
8
372
أما قوله لا فضيلة في الغار فالجواب أن الفضيلة في الغار ظاهرة بنص القرآن لقوله تعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله معه ومع صاحبه كما قال لموسى وهارون إنني معكما أسمع وأرى سورة طه وقد أخرجا في الصحيحين من حديث أنس عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال نظرت إلى إقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما وهذا الحديث مع كونه مما اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق فلم يختلف في ذلك اثنان منهم فهو مما دل القرآن على معناه يقول إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة والمعية في كتاب الله على وجهين عامة وخاصة فالعامة كقوله تعالى هو الذي خلق السموات والأرض في سنة أيام ثم استوى على
8
373(189/260)
العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم الآية سورة الحديد وقوله ألم تر أن الله يعلم ما في السموات والأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما علموا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم سورة المجادلة فهذه المعية عامة لكل متناجين وكذلك الأولى عامة لجميع الخلق ولما أخبر سبحانه في المعية أنه رابع الثلاثة وسادس الخمسة قال النبي صلى الله عليه وسلم ما ظنك باثنين الله ثالثهما فإنه لما كان معهما كان ثالثهما كما دل القرآن على معنى الحديث الصحيح وإن كان هذه معية خاصة وتلك عامة وأما المعية الخاصة فكقوله تعالى لما قال لموسى وهارون لا تخافا انني معكما اسمع وأرى سورة طه فهذا تخصيص لهما دون فرعون وقومه فهو مع موسى وهارون دون فرعون وكذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر لا تحزن إن الله معنا كان معناه إن الله معنا دون المشركين الذين يعادونهما
8
374(189/261)
ويطلبونهما كالذين كانوا فوق الغار ولو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصر ما تحت قدميه وكذلك قوله تعالى إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون سورة النحل فهذا تخصيص لهم دون الفجار والظالمين وكذلك قوله تعالى إن الله مع الصابرين سورة البقرة تخصيص لهم دون الجازعين وكذلك قوله تعالى ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي الآية سورة المائدة وقال إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سورة الأنفال وفي ذكره سبحانه للمعية عامة تارة وخاصة أخرى ما يدل على أنه ليس المراد بذلك أنه بذاته في كل مكان أو أن وجوده عين وجود المخلوقات ونحو ذلك من مقالات الجهمية الذين يقولون بالحلول العام والاتحاد العام أو الوحدة العامة لأنه على هذا القول لا يختص بقوم دون قوم ولا مكان دون مكان بل هو في الحشوش على هذا القول وأجواف البهائم كما هو فوق العرش فإذا أخبر أنه مع قوم دون قوم كان هذا مناقضا لهذا المعنى لأنه على هذا القول لا يختص
8
375(189/262)
بقوم دون قوم ولا مكان دون مكان بل هو في الحشوش على هذا القول كما هو فوق العرش والقرآن يدل على اختصاص المعية تارة وعمومها أخرى فعلم أنه ليس المراد بلفظ المعية اختلاطه وفي هذا أيضا رد على من يدعى أن ظاهر القرآن هو الحلول لكن يتعين تأويله على خلاف ظاهره ويجعل ذلك أصلا يقيس عليه ما يتأوله من النصوص فيقال له قولك إن القرآن يدل على ذلك خطأ كما أن قول قرينك الذي اعتقد هذا المدلول خطأ وذلك لوجوه أحدها أن لفظ مع في لغة العرب إنما تدل على المصاحبة والموافقة والاقتران ولا تدل على أن الأول مختلط بالثاني في عامة موارد الإستعمال كقوله تعالى محمد رسول الله والذين معه سورة الفتح لم يرد أن ذواتهم مختلطة بذاته وقوله اتقوا الله وكونوا مع الصادقين سورة التوبة وكذلك قوله والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم سورة الانفال وكذلك قوله عن نوح وما آمن معه إلا قليل سورة هود
8
376
وقوله عن نوح أيضا فأنجيناه والذين معه في الفلك الآية سورة الأعراف وقوله عن هود فأنجيناه والذين معه برحمة منا سورة الأعراف وقول قوم شعيب لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا سورة الأعراف وقوله إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين الآية سورة النساء وقوله وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين سورة الأنعام وقوله ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم سورة المائدة وقوله ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم سورة الحشر وقوله عن نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم سورة هود وقوله وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين سورة الأعراف
8
377(189/263)
وقوله فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين سورة التوبة وقوله رضوا بأن يكونوا مع الخوالف سورة التوبة وقال لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم سورة التوبة ومثل هذا كثير في كلام الله تعالى وسائر الكلام العربي وإذا كان لفظ مع إذا استعملت في كون المخلوق مع المخلوق لم تدل على اختلاط ذاته بذاته فهي أن لا تدل على ذلك في حق الخالق بطريق الأولى فدعوى ظهورها في ذلك باطل من وجهين أحدهما أن هذا ليس معناها في اللغة ولا اقترن بها في الاستعمال ما يدل على الظهور فكان الظهور منتفيا من كل وجه الثاني أنه إذا انتفى الظهور فيما هو أولى به فانتفاؤه فيما هو أبعد عنه أولى الثاني أن القرآن قد جعل المعية خاصة أكثر مما جعلها عامة ولو كان المراد اختلاط ذاته بالمخلوقات لكانت عامة لا تقبل التخصيص الثالث أن سياق الكلام أوله وآخره يدل على معنى المعية كما
8
378
قال تعالى في آية المجادلة ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله كل شيء عليم سورة المجادلة فافتتحها بالعلم وختمها بالعلم فعلم أنه أراد عالم بهم لا يخفى عليه منهم خافية وهكذا فسرها السلف الإمام أحمد ومن قبله من العلماء كابن عباس والضحاك وسفيان الثوري وفي آية الحديد قال ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ننزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير سورة الحديد فختمها أيضا بالعلم وأخبر أنه مع استوائه على العرش يعلم هذا كله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال والله فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه فهناك أخبر بعموم العلم لكل نجوى
8
379(189/264)
وهنا أخبر أنه مع علوه على عرشه يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج
8
380
منها وهو من العباد أينما كانوا يعلم أحوالهم والله بما يعملون بصير وأما قوله إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون سورة النحل فقد دل السياق على أن المقصود ليس مجرد علمه وقدرته بل هو معهم في ذلك بتأييده ونصره وأنه يجعل للمتقين مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون وكذلك قوله لموسى وهارون إننس معكما أسمع وأرى سورة طه فإنه معهما بالتأييد والنصر والإعانة على فرعون وقومه كما إذا رأى الإنسان من يخاف فقال له من ينصره نحن معك اي معاونوك وناصروك على عدوك
8
381
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لصديقه إن الله معنا يدل على أنه موافق لهما بالمحبة والرضا فيما فعلاه وهو مؤيد لهما ومعين وناصر وهذا صريح في مشاركة الصديق للنبي في هذه المعية التي اختص بها الصديق لم يشركه فيها أحد من الخلق والمقصود هنا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر إن الله معنا هي معية الاختصاص التي تدل على أنه معهم بالنصر والتأييد والإعانة على عدوهم فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الله ينصرني وينصرك يا أبا بكر على عدونا ويعيننا عليهم ومعلوم أن نصر الله نصر إكرام ومحبة كما قال تعالى إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا سورة غافر وهذا غاية المدح لأبي بكر إذ دل على أنه ممن شهد له الرسول بالإيمان المقتضى نصر الله له مع رسوله وكان متضمنا شهادة الرسول له بكمال الإيمان المقتضى نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي بين الله فيها غناه عن الخلق فقال إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار سورة التوبة ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره إن الله عاتب الخلق جميعهم في نبيه إلا أبا بكر وقال من أنكر صحبة أبي بكر فهو كافر لأنه كذب القرآن
8
382(189/265)
وقال طائفة من أهل العلم كأبي القاسم السهيلي وغيره هذه المعية الخاصة لم تثبت لغير أبي بكر وكذلك قوله ما ظنك باثنين الله ثالثهما بل ظهر اختصاصهما في اللفظ كما ظهر في المعنى فكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم محمد رسول الله فلما تولى أبو بكر بعده صاروا يقولون وخليفة رسول الله فيضيفون الخليفة إلى رسول الله المضاف إلى الله والمضاف إلى المضاف مضاف تحقيقا لقوله إن الله معنا ما ظنك باثنين الله ثالثهما ثم لما تولى عمر بعده صاروا يقولون أمير المؤمنين فانقطع الاختصاص الذي امتازه به أبو بكر عن سائر الصحابة ومما يبين هذا أن الصحبة فيها عموم وخصوص فيقال صحبة ساعة ويوما وجمعة وشهرا وسنة وصحبة عمره كله وقد قال تعالى والصاحب بالجنب سورة النساء قيل هو الرفيق في السفر وقيل الزوجة وكلاهما تقل صحبته وتكثر وقد سمى الله الزوجة صاحبة في قوله أني يكون له ولد ولم تكن له صاحبة سورة الأنعام ولهذا قال أحمد بن حنبل في الرسالة التي رواها عبدوس بن مالك
8
383(189/266)
عنه من صحب النبي صلى الله عليه وسلم سنة أو شهرا أو يوما أو ساعة أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه وهذا قول جماهير العلماء من الفقهاء وأهل الكلام وغيرهم يعدون في أصحابه من قلت صحبته ومن كثرت وفي ذلك خلاف ضعيف والدليل على قول الجمهور ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس فيقال هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال هل فيكم من رأى من صحب النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم وهذا لفظ مسلم وله في رواية أخرى يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث فيقولون انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيوجد الرجل فيفتح لهم به
8
384(189/267)
ثم يبعث البعث الثاني فيقولون هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم به ثم يبعث البعث الثالث فيقال انظروا هل ترون فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم ثم يكون البعث الرابع فيقال هل ترون فيكم أحدا رأى من رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيوجد الرجل فيفتح لهم به ولفظ البخاري ثلاث مرات كالرواية الأولى لكن لفظه يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس وكذلك قال في الثانية والثالثة وقال فيها كلها صحب واتفقت الروايات على ذكر الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم القرون الثلاثة وأما القرن الرابع فهو في بعضها وذكر القرن الثالث ثابت في المتفق عليه من غير وجه كما في الصحيحين عن أبن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أمتي القرن الذين يلونني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته
8
385
وفي الصحيحين عن عمران أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران فلا أدري أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون وفي رواية ويحلفون ولا يستحلفون فقد شك عمران في القرن الرابع وقوله يشهدون ولا يستشهدون حمله ظائفة من العلماء على مطلق الشهادة حتى كرهوا أن يشهد الرجل بحق قبل أن يطلب منه المشهود له إذا علم الشهادة وجمعوا بذلك بين هذا وبين قوله ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها وقال طائفة أخرى إنما المراد ذمهم على الكذب أي يشهدون
8
386(189/268)
بالكذب كما ذمهم على الخيانة وترك الوفاء فإن هذه من آيات النفاق التي ذكرناها في قوله آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان أخرجاه في الصحيحين وأما الشهادة بالحق إذا أداها الشاهد لمن علم أنه محتاج إليها ولم يسأله ذلك فقد قام بالقسط وأدى الواجب قبل أن يسأله وهو أفضل ممن لا يؤديه إلا بالسؤال كمن له عند غيره أمانة فأدها قبل أن يسأله أداءها حيث يحتاج إليها صاحبها وهذا أفضل من أن يحوج صاحبها إلى ذل السؤال وهذا أظهر القولين وهذا يشبه اختلاف الفقهاء في الخصم إذا ادعى ولم يسأل الحاكم سؤال المدعي عليه هل يسأله الجواب والصحيح أنه يسأله الجواب ولا يحتاج ذلك إلى سؤال المدعي لأن دلالة الحال تغني عن السؤال ففي الحديث الأول هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال هل فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدل على أن الرائي هو الصاحب وهكذا يقول في سائر الطبقات في السؤال هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله ثم يكون المراد بالصاحب الرائي
8
387(189/269)
وفي الرواية الثانية هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقال في الثالثة هل فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعلوم إن كان الحكم لصاحب الصاحب معلقا بالرؤية ففي الذي صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأخرى ولفظ البخاري قال فيها كلها صحب وهذه الألفاظ إن كانت كلها من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي نص في المسألة وإن كان قد قال بعضها والراوي مثل أبي سعيد يروي اللفظ بالمعنى فقد دل على أن معنى أحد اللفظين عندهم هو معنى الآخر وهم أعلم بمعاني ما سمعوه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضا فإن كان لفظ النبي صلى الله عليه وسلم رأى فقد حصل المقصود وإن كان لفظه صحب في طبقة أو طبقات فإن لم يرد به الرؤية لم يكن قد بين مراده فإن الصحبة اسم جنس ليس لها حد في الشرع ولا في اللغة والعرف فيها مختلف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقيد الصحبة بقيد ولا قدرها بقدر بل علق الحكم بمطلقها ولا مطلق لها إلا الرؤية
8
388(189/270)
وأيضا فإنه يقال صحبه ساعة وصحبه سنة وشهرا فتقع على القليل والكثير فإذا أطلقت من غير قيد لم يجز تقييدها بغير دليل بل تحمل على المعنى المشترك بين سائر موارد الإستعمال ولا ريب أن مجرد رؤية الإنسان لغيره لا توجب أن يقال قد صحبه ولكن إذا رآه على وجه الاتباع له والاقتداء به دون غيره والاختصاص به ولهذا لم يعتد برؤية من رأى النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار والمنافقين فإنهم لم يروه من قصده أن يؤمن به ويكون من أتباعه وأعوانه المصدقين له فيما أخبر المطيعين له فيما أمر الموالين له المعادين لمن عاداه الذي هو أحب إليهم من أنفسهم وأموالهم وكل شيء وامتاز أبو بكر عن سائر المؤمنين بأن رآه وهذه حاله معه فكان صاحبا له بهذا الاعتبار ودليل ثان ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وددت أني رأيت إخواني قالوا يا رسول الله أولسنا إخوانك قال بل أنتم أصحابي وإخواني الذين يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني
8
389(189/271)
ومعلوم أن قوله إخواني أراد به إخواني الذين ليسوا بأصحابي وأما أنتم فلكم مزية الصحبة ثم قال قوم يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني فجعل هذا حدا فاصلا بين إخوانه الذين ود أن يراهم وبين أصحابه فدل على أن من آمن به ورآه فهو من أصحابه لا من هؤلاء الإخوان الذين لم يرهم ولم يروه فإذا عرف أن الصحبة اسم جنس تعم قليل الصحبة وكثيرها وأدناها أن يصحبه زمنا قليلا فمعلوم أن الصديق في ذروة سنام الصحبة وأعلى مراتبها فإنه صحبه من حين بعثه الله إلى أن مات وقد أجمع الناس على أنه أول من آمن به من الرجال الأحرار كما أجمعوا على أن أول من آمن به من النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد بن حارثة وتنازعوا في أول من نطق بالإسلام بعد خديجة فإن كان أبو بكر أسلم قبل علي فقد ثبت أنه أسبق صحبة كما كان أسبق إيمانا وإن كان علي أسلم قبله فلا ريب أن صحبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم كانت أكمل وأنفع له من صحبة علي ونحوه فإنه شاركه في الدعوة فأسلم على يديه أكابر أ هل الشورى كعثمان وطلحة والزبير
8
390(189/272)
وسعد وعبد الرحمن وكان يدفع عنه من يؤذيه ويخرج معه إلى القبائل ويعينه في الدعوة وكان يشتري المعذبين في الله كبلال وعمار وغيرهما فإنه اشترى سبعة من المعذبين في الله فكان أنفع الناس له في صحبته مطلقا ولا نزاع بين أهل العلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن مصاحبة أبي بكر له كانت أكمل من مصاحبة سائر الصحابة من وجوه أحدها أنه كان أدوم اجتماعا به ليلا ونهارا وسفرا وحضرا كما في الصحيحين عن عائشة أنها قالت لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمض علينا يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا فيه طرفي النهار فكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يذهب إلى أبي بكر طرفي النهار والإسلام إذا ذاك ضعيف والأعداء كثيرة وهذا غاية الفضيلة والاختصاص في الصحبة وأيضا فكان أبو بكر يسمر عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد العشاء يتحدث معه في أمور المسلمين دون غيره من أصحابه وأيضا فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استشار أصحابه أول من يتكلم أبو بكر في الشورى وربما تكلم غيره وربما لم يتكلم غيره فيعمل برأيه وحده فإذا خالفه غيره اتبع رأيه دون رأي من يخالفه
8
391(189/273)
فالأول كما في الصحيحين أنه شاور أصحابه في أسارى بدرفتكلم أبو بكر فروى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال لما أسر الأسارى يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر ما ترون في هؤلاء الأسارى فقال أبو بكر هم بنو العم والعشيرة فأرى أن تقبل منهم الفدية فتكون لنا قوة على الكفار فقال عمر لا والله يا رسول الله ما أرى ما رأى أبو بكر ولكن أن تمكننا فنضرب أعناقهم تمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه وتمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه وأشار ابن رواحة بتحريقهم فاختلف أصحابه فمنهم من يقول الرأي ما رأى أبو بكر ومنهم من يقول الرأي ما رأى عمر ومنهم من يقول الرأي ما رأى ابن رواحة قال فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت وذكر تمام الحديث وأما الثاني ففي يوم الحديبية لما شاورهم على أن يغير على ذرية الذين أعانوا قريش أو يذهب إلى البيت فمن صده قاتله والحديث معروف عند أهل العلم أهل التفسير والمغازي والسير والفقه والحديث رواه البخاري ورواه أحمد في مسنده حدثنا عبد الرزاق عن معمر قال قال الزهري أخبرني عروة بن
8
392(189/274)
الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يصدق كل منهما صاحبه قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدى وأشعره وأحرم بعمرة وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريب من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال إني قد تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش قال أحمد وقال يحيى بن سعيد عن ابن المبارك قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا لك جموعا وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم أشيروا علي أترون أن أميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين وإن نجوا يكن عنقا قطعها الله أو ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه فقال أبو بكر الله ورسوله أعلم يا نبي الله إنما جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد ولكن من
8
393
حال بيننا وبين البيت قاتلناه قال النبي صلى الله عليه وسلم فروحوا إذا قال الزهري وكان أبو هريرة يقول ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الزهري حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق ومن هنا رواه البخاري من طريق ورواه في المغازي والحج وقال الزهري في حديث المسور الذي اتفق عليه أحمد والبخاري حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم إن خالد ابن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيرا لقريش وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط
8
394(189/275)
عليهم منها بركت به راحلته فقال الناس حل حل فألحت فقالوا خلأت القصواء خلأت القصواء فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ثم قال والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت قال فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضا فلم يلبث الناس أن نزحوه وشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه فو الله مازال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه فبينما هم كذلك إذا جاء بديل بن ورقاء الخزاعي ونفر من قومه من خزاعة وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة وفي لفظ لأحمد مسلمهم ومشركهم فقال إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحدينية ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت
8
395(189/276)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لم نجئ لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين فإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره قال بديل سأبلغهم ما تقول فانطلق حتى أتى قريشا فقال إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم لا حاجةلنا أن تخبرنا عنه بشئ وقال ذوو الرأي منهم هات ما سمعته يقول قال سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عروة بن مسعود فقال أي قوم ألستم بالوالد قالوا بلى قال أولست بالولد قالوا بلى قال فهل تتهموني قالوا لا قال ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني قالوا بلى قال فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها منه ودعوني آته قالوا اءته فأتاه
8
396(189/277)
فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم له نحوا من قوله لبديل فقال عروة عند ذلك أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت أحدا من العرب اجتاح أصله قبلك وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوها وإني لأرى أوباشا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك ولفظ أحمد خلقاء أن يفروا ويدعوك فقال له أبو بكر رضي الله عنه امصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه فقال من ذا قالوا أبو بكر قال أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر فكلما أهوى عروة بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف ويقول أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع عروة رأسه فقال من ذا قالوا المغيرة بن شعبة
8
397
قال أي غدر أو لست أسعى في غدرتك وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شئ ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه قال فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما له فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكا عظيما قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا والله إن تنخم بنخامة إلا وقعت في يد رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده
8
398(189/278)
وما يحدون النظر إليه تعظيما له وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها فقال رجل من كنانة دعوني آته فقالوا ائته فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثت له واستقبله الناس يلبون فلما رأى ذلك قال سبحان الله ما ينبغي لهذا أن يصد عن البيت فلما رجع إلى أصحابه قال رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصد عن البيت فقام رجل يقال له مرز بن حفص فقال دعوني آته فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا مكرز بن حفص وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه جاء سهيل بن عمرو قال معمر فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبي صلى الله عليه وسلم قد سهل لكم من أمركم قال معمر عن الزهري في حديثه فجاء سهيل فقال له هات اكتب بيننا وبينك كتابا فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب فقال النبي صلى الله عليه وسلم
8
399(189/279)
اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل أما الرحمن فما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كماكنت تكتب فقال المسلمون والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب باسمك اللهم ثم قال هذا ما قاضي عليه محمد رسول الله فقال سهيل والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله قال الزهري وذلك لقوله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها قال النبي صلى الله عليه وسلم على أن تخلوا بيننا وبين المسجد الحرام نطوف به فقال سهيل والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذاك من العام المقبل فكتب وقال سهيل وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا قال المسلمون سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل
8
400(189/280)
ابن عمرو يرسف في قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لم نقض الكتاب بعد قال فوالله إذا لا أصالحك على شئ أبدا قال النبي صلى الله عليه وسلم فأجزه لي قال ما أنا مجيزه قال بلى فافعل قال ما أنا بفاعل قال مكرز بلى قد أجزناه لك قال أبو جندل أي معاشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت وقد كان عذب عذابا شديدا في الله فقال عمر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت ألست نبي الله حقا قال بلى قال قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطي الدنية في ديننا إذا قال إني رسول الله ولست آعصيه وهو ناصري قلت أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به قال فأخبرتك أنك آتيه العام قلت لا قال فإنك آتيه ومطوف به قال فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر أليس
8
401
هذا نبي الله حقا قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطي الدنية في ديننا إذا قال أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزة فوالله إنه على الحق قلت أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به قال بلى أفأخبرك أنك تأتيه العام قلت لا قال فإنك آتيه ومطوف به قال عمر فعملت لذلك أعمالا قال فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا قال فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقىمن الناس فقالت أم سلمة يا نبي الله أتحب ذلك اخرج ولا تكلم أحدا منهم حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك فنحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى
8
402(189/281)
كاد بعضهم يقتل بعضا غما ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار إلى قوله ولا تمسكوا بعصم الكوافر سورة الممتحنة فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاء أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا فاستله الآخر فقال أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضرب به حتى برد وفر الآخر حتى آتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه لقد رأى هذا ذعرا فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير رضي الله عنه فقال يا نبي الله قد وفى بذمتك فلقد رددتني إليهم ثم أنجاني
8
403(189/282)
الله منهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر قال وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل رضي الله عنه فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة قال فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه منهم فهو آمن فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وأنزل الله عزا وجل وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة سورة الفتح حتى بلغ حمية الجاهلية سورة الفتح وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم وحالوا بينهم وبين البيت رواه البخاري عن عبد الله بن محمد المسندي عن عبد الرازق ورواه أحمد عن عبد الرازق وهو
8
404
أجل قدرا من المسندي شيخ البخاري فما فيه من زيادة هي أثبت مما في البخاري وفي الصحيحين عن البراء بن عازب قال كتب علي بن أبي طالب الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين يوم الحديبية فكتب هذا ماكاتب عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لا تكتب رسول الله لو نعلم أنك نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي امحة فقال ما أنا بالذي أمحوه قال فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده قال وكان فيما اشترطوا عليه أن يدخلوا فيقيموا بها ثلاثا ولا يدخلوا بسلاح إلا جلبان السلاح قال شعبة قلت لأبي إسحاق وما جلبان السلاح قال القراب وما فيه
8
405(189/283)
وفي الصحيحين عن أبي وائل قال قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال يا أيها الناس اتهموا أنفسكم وفي لفظ اتهموا رأيكم على دينكم لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين وجاء عمر فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل قال بلى قال أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار قال بلى قال ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بننا وبينهم قال يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا قال فانطلق عمر فلم يصبر متغيضا فأتى أبا بكر فقال يا أبا بكر ألسنا على حق وهم على باطل قال بلى قال أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار قال بلى قال فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم فقال يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا قال فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح فأرسل إلى عمر
8
406
فأقرأه إياه فقال يا رسول الله أو فتح هو قال نعم وفي لفظ مسلم فطابت نفسه ورجع وفي لفظ لمسلم أيضا أيها الناس اتهموا رأيكم لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله لرددته وفي رواية والله ورسوله أعلم والله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر قط إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه إلا أمركم هذا ما
8
407(189/284)
نسد منه خصما إلا انفجر علينا خصم ما ندري كيف نأتي له يعني يوم صفين وقال ذلك سهل يوم صفين لما خرجت الخوارج على علي حين أمر بمصالحة معاوية وأصحابه وهذه الأخبار الصحيحة هي باتفاق أهل العلم بالحديث في عمرة الحديبية تبين اختصاص أبي بكر بمنزلة من الله ورسوله لم يشركه فيها أحد من الصحابه لا عمر ولا علي ولا غيرهما وأنه لم يكن فيهم أعظم إيمانا وموافقة وطاعة لله ورسوله منه ولا كان فيهم من يتكلم بالشورى قبله فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصدر عن رأيه وحده في الأمور العظيمة وإنه كان يبدأ بالكلام بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم معاونة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يفتي بحضرته وهو يقره على ذلك ولم يكن هذا لغيره فإنه لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم جاسوسه الخزاعي وأخبره أن قريشا قد جمعوا له الأحابيش وهي الجماعات المستجمعة من
8
408(189/285)
قبائل والتحبش التجمع وأنهم مقاتلوه وصادوه عن البيت استشار أصحابه أهل المشورة مطلقا هل يميل إلى ذراري الأحابيش أو ينطلق إلى مكة فلما أشار عليه أبو بكر أن لا يبدأ أحدا بالقتال فإنا لم نخرج إلا للعمرة لا للقتال فإن منعنا أحد من البيت قاتلناه لصده لنا عما قصدنا لا مبتدئين له بقتال قال النبي صلى الله عليه وسلم روحوا إذا ثم إنه لما تكلم عروة بن مسعود الثقفي وهو من سادات ثقيف وحلفاء قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم وأخذ يقول له عن أصحابه إنهم أشواب أي أخلاط وفي المسند أوباش يفرون عنك ويدعوك قال له الصديق رضي الله عنه امصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه فقال له عروة ولما يجاوبه عن هذه الكلمة لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك وكان الصديق قد أحسن إليه قبل ذلك فرعى حرمته ولم يجاوبه عن هذه الكلمة ولهذا قال من قال من العلماء إن هذا يدل على جواز التصريح باسم العورة للحاجة والمصلحة وليس من الفحش المنهى عنه كما في حديث أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سمعتموه يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضموه هن أبيه ولا تكنوا رواه
8
409
أحمد فسمع أبي بن كعب رجلا يقول يا فلان فقال اعضض أير أبيك فقيل له في ذلك فقال بهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنه لما صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشا كان ظاهر الصلح فيه غضاضة وضيم على المسلمين وفعله النبي صلى الله عليه وسلم طاعة لله وثقة بوعده له وأن الله سينصره عليهم واغتاظ من ذلك جمهور الناس وعز عليهم حتى على مثل عمر وعلي وسهل بن حنيف ولهذا كبر عليه علي رضي الله عنه لما مات تبيينا لفضله على غيره يعني سهل بن حنيف فعلي أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يمحو اسمه من الكتاب فلم يفعل حتى أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب ومحاه بيده
8
410(189/286)
وفي صحيح البخاري أنه قال لعلي امح رسول الله قال لا والله لا أمحوك أبدا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله وسهل بن حنيف يقول لو استطعت أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته وعمر يناظر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول إذا كنا على الحق وعدونا على الباطل وقتلانا في الجنة وقتلاهم في النار وأنت رسول الله حقا فعلام نعطي الدنية في ديننا ثم إنه عن ذلك وعمل له أعمالا وأبو بكر أطوعهم لله ورسوله لم يصدر عنه مخالفة في شئ قط بل لما ناظره عمر بعد مناظرته للنبي صلى الله عليه وسلم أجابه أبو بكر بمثل ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يسمع جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من أبين الأمور دلالة على موافقته للنبي صلى الله عليه وسلم ومناسبته له واختصاصه به قولا وعملا وعلما وحالا إذ كان قوله من جنس قوله وعمله من جنس عمله وفي المواطن التي ظهر فيها تقدمه على غيره في ذلك فأين مقامه من مقام غيره هذا يناظره ليرده عن
8
411(189/287)
أمره وهذا يأمره ليمحو اسمه وهذا يقول لو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته وهو يأمر الناس بالحلق والنحر فيتوقفون ولا ريب أن الذي حملهم على ذلك حب الله ورسوله وبغض الكفار ومحبتهم أن يظهر الإيمان على الكفر وأن لا يكون قد دخل على أهل الإيمان غضاضة وضيم من أهل الكفر ورأوا أن قتالهم لئلا يضاموا هذا الضيم أحب إليهم من هذه المصالحة التي فيها من الضيم ما فيها لكن معلوم وجوب تقديم النص على الرأي والشرع على الهوى فالأصل الذي افترق فيه المؤمنون بالرسل والمخالفون لهم تقديم نصوصهم على الآراء وشرعهم على الأهواء وأصل الشر من تقديم الرأي على النص والهوى على الشرع فمن نور الله قلبه فرأى ما في النص والشرع من الصلاح والخير وإلا فعليه الانقياد لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه وليس له معارضته برأيه وهواه كما قال صلى الله عليه وسلم إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري فبين أنه رسول الله يفعل ما أمره به مرسله لا يفعل من تلقاء
8
412(189/288)
نفسه وأخبر أنه يطيعه لا يعصيه كما يفعل المتبع لرأيه وهواه وأخبر أنه ناصره فهو على ثقة من نصر الله فلا يضره ما حصل فإن في ضمن ذلك من المصلحة وعلو الدين ماظهر بعد ذلك وكان هذا فتحا مبينا في الحقيقة وإن كان فيه ما لم يعلم حسن ما فيه كثير من الناس بل رأى ذلك ذلا وعجزا وغضاضة وضيما ولهذا تاب الذين عارضوا ذلك رضي الله عنهم كما في الحديث رجوع عمر وكذلك في الحديث أن سهل بن حنيف اعترف بخطئه حيث قال والله ورسوله أعلم وجعل رأيهم عبرة لمن بعدهم فأمرهم أن يتهموا رأيهم على دينهم فإن الرأي يكون خطأ كما كان رأيهم يو الحديبية خطأ وكذلك علي الذي لم يفعل ما أمره به والذين لم يفعلوا ما أمروا به من الحلق والنحر حتى فعل هو ذلك قد تابوا من ذلك والله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات والقصة كانت عظيمة بلغت منهم مبلغا عظيما لا تحمله عامة النفوس وإلا فهم خير الخلق وأفضل الناس وأعظمهم علما وإيمانا وهم الذين بايعوا تحت الشجرة وقد رضي الله عنهم وأثنى عليهم وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ولاعتبار في الفضائل بكمال النهاية لا بنقص البداية وقد قص الله
8
413(189/289)
علينا من توبة أنبيائه وحسن عاقبتهم وما آل إليه أمرهم من علي الدرجات وكرامة الله لهم بعد أن جرت لهم أمور ولا يجوز أن يظن بغضهم لأجلها إذا كان الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية وهكذا السابقون الأولون من ظن بغضهم لأجلها إذا كان الاعتبار بكمال النهاية كما ذكر فهو جاهل لكن المطلوب أن الصديق أكمل القوم وأفضلهم وأسبقهم إلى الخيرات وأنه لم يكن فيهم من يساويه وهذا أمر بين لا يشك فيه إلا من كان جاهلا بحالهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم أو كان صاحب هوى صده اتباع هواه عن معرفة الحق وإلا فمن كان له علم وعدل لم يكن عنده في ذلك شك كما لم يكن عند أهل العلم والإيمان شك بل كانوا مطبقين على تقديم الصذيق وتفضيله على من سواه كما اتفق على ذلك علماء المسلمين وخيارهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم وهو مذهب مالك وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وداود وأصحابه والثوري وأصحابه والأوزاعي وأصحابه والليث وأصحابه وسائر العلماء الذين لهم في الأمة لسان صدق ومن ظن أن مخالفة من خالف أمر الرسول يوم الحديبية أو غيره لم تكن من الذنوب التي تجب التوبة منها فهو غالط كما قال من أخذ يعتذر
8
414(189/290)
لمن خالف أمره عذرا يقصد به رفع الملام بأنهم إنما تأخروا عن النحر والحلق لأنهم كانوا ينتظرون النسخ ونزول الوحي بخلاف ذلك وقول من يقول إنما تخلف من تخلف عن طاعته إما تعظيما لمرتبته أن يمحو اسمه أو يقول مراجعة من راجعه في مصالحة المشركين إنما كانت قصدا لظهور أ الإيمان على الكفر ونحو ذلك فيقال الأمر الجازم من الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أراد به الإيجاب موجب لطاعته باتفاق أهل الإيمان وإنما نازع في الأمر المطلق بعض الناس لاحتمال أنه ليس بجازم أراد به الإيجاب وأما مع ظهور الجزم والإيجاب فلم يسترب أحد في ذلك ومعلوم أن أمره بالنحر والحلق كان جازما وكان مقتضاه الفعل على الفور بدليل أنه ردده ثلاثا فلما لم يقم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس وروى أنه غضب وقال مالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا يتبع وروي أنه قال ذلك لما أمرهم بالتحلل في حجة الوداع
8
415
ومعلوم أن الأمر بالتحلل بهذه العمرة التي أحصروا فيها كان أوكد من الأمر بالتحلل في حج الوداع وأيضا فإنه كان متحاجا إلى محو اسمه من الكتاب ليتم الصلح ولهذا محاه بيده والأمر بذلك كان جازما والمخالف لأمره إن كان متأولا فهو ظان أن هذا لا يجب لما فيه من قلة احترام الرسول صلى الله عليه وسلم أو لما فيه من انتظار العمرة وعدم إتمام ذلك الصلح فحسب المتأول أن يكون مجتهدا مخطئا فإنه مع جزم النبي صلى الله عليه وسلم وتشكيه ممن لم يمتثل أمره وقوله مالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر ولا أتبع لا يمكن تسويغ المخالفة لكن هذا مما تابوا منه كما تابوا من غيره فليس لأحد أن يثبت عصمة من ليس بمعصوم فيقدح بذلك في أمر المعصوم صلى الله عليه وسلم كما فعل ذلك في توبة من تاب وحصل له بالذنب نوع من العقاب فأخذ ينفى على الفعل ما يوجب الملام والله قد لامه لوم المذنبين فيزيد تعظيم البشر فيقدح في رب العالمين
8
416(189/291)
ومن علم أن الاعتبار بكمال النهاية وأن التوبة تنقل العبد إلى مرتبة أكمل مما كان عليه علم أن ما فعله الله بعباده المؤمنين كان من أعظم نعمه الله عليهم وأيضا ففي المواضع التي لا يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم من أكابر الصحابة إلا واحد كان يكون هو ذلك الواحد مثل سفره في الهجرة ومقامه يوم بدر في العريش لم يكن معه فيه إلا أبو بكر ومثل خروجه إلى قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام كان يكون معه من أكابر الصحابة أبو بكر وهذا الاختصاص في الصحبة لم يكن لغيره باتفاق أهل المعرفة بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأما من كان جاهلا أحوال النبي صلى الله عليه وسلم أو كذابا فذلك يخاطب خطاب مثله فقوله تعالى في القرآن إذ يقول لصاحبه لا تحزن سورة التوبة لا يختص بمصاحبته في الغار بل هو صاحبه المطلق الذي كمل في الصحبة كمالا لم يشركه فيه غيره فصار مختصا بالأكملية من الصحبة كما في الحديث رواه البخاري عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أيها الناس اعرفوا لأبي بكر حقه فإنه لم
8
417
يسؤني قط أيها الناس إني راض عن عمر وعثمان وعلي وفلان وفلان فقد تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم خصه دون غيره مع أنه قد جعل غيره من أصحابه أيضا لكن خصه بكمال الصحبة ولهذا قال من قال من العلماء إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره ومن أراد أن يعرف فضائلهم ومنازلهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فليتدبر الأحاديث الصحيحة التى صححها أهل العلم بالحديث الذين كملت خبرتهم بحال النبي صلى الله عليه وسلم ومحبتهم له وصدقهم في التبليغ عنه وصار هواهم تبعا لما جاء به فليس لهم غرض إلا معرفة ما قاله وتمييزه عما يخلط بذلك من كذب الكاذبين وغلط الغالطين كأصحاب الصحيح مثل البخاري ومسلم والإسماعيلي
8
418(189/292)
والبرقاني وأبي نعيم والدارقطني ومثل صحيح ابن خزيمة وابن منده وأبي حاتم البستي والحاكم وما صححه أئمة أهل الحديث الذين هم أجل من هؤلاء أو مثلهم من المتقدمين والمتأخرين مثل مالك وشعبة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وابن المبارك وأحمد وابن معين وابن المديني وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين وخلائق لا يحصى عددهم إلا الله تعالى فإذا تدبر العاقل الأحاديث الصحيحة الثابتة عند هؤلاء وأمثالهم عرف الصدق من الكذب فإن هؤلاء من أكمل الناس معرفة بذلك وأشدهم رغبة في التمييز بين الصدق والكذب وأعظمهم ذبا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم المهاجرون إلى سنته وحديثه والأنصار له في الدين يقصدون ضبط ما قاله وتبليغه للناس وينفون عنه ما كذبه الكذابون وغلط فيه الغالطون ومن شركهم في علمهم علم ما قالوه وعلم بعض قدرهم وإلا فليسلم القوس إلى باريها كما يسلم إلى الأطباء طبهم وإلى النحاة نحوهم وإلى الفقهاء فقههم وإلى أهل الحساب حسابهم مع أن جميع هؤلاء قد يتفقون على خطأ في
8
419(189/293)
صناعتهم إلا الفقهاء فيما يفتون به من الشرع وأهل الحديث فيما يفتون به من النقل فلا يجوز أن يتفقوا على التصديق بكذب ولا على التكذيب بصدق بل إجماعهم معصوم في التصديق والتكذيب بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم كما أن إجماع الفقهاء معصوم في الإخبار عن الفعل بدخوله في أمره أو نهيه أو تحليله أو تحريمه ومن تأمل هذا وجد فضائل الصديق التي في الصحاح كثيرة وهي خصائص مثل حديث المخالة وحديث إن الله معنا وحديث إنه أحب الرجال إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحديث الإتيان إليه بعده وحديث كتابة العهد إليه بعده وحديث تخصيصه بالتصديق ابتداء والصحبة وتركه له وهو قوله فهل أنتم تاركولي صاحبي وحديث دفعه عنه عقبة بن أبي معيط لما وضع الرداء في عنقه حتى خلصه أبو بكر وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وحديث استخلافه في الصلاة وفي الحج وصبره وثباته بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقياد الأمة له وحديث الخصال التي اجتمعت فيه في يوم وما اجتمعت في رجل إلا وجبت له الجنة وأمثال ذلك
8
420
ثم له مناقب يشركه فيها عمر كشهادته بالإيمان له ولعمر وحديث علي حيث يقول كثيرا ما كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول خرجت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وحديث استقائه من القليب وحديث البقرة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم أومن بها أنا وأبو بكر وعمر وأمثال ذلك وأما مناقب علي التي في الصحاح فأصحها قوله يوم خيبر لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وقوله في غزوة تبوك ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ومنها دخوله في المباهلة وفي الكساء ومنها قوله أنت مني وأنا منك وليس في شيء من ذلك خصائص وحديث لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ومنها ما تقدم من حديث الشورى وإخبار عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو راض عن عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن(189/294)
8
421
فمجموع ما في الصحيح لعلي نحو عشرة أحاديث ليس فيها ما يختص به ولأبي بكر في الصحاح نحو عشرين حديثا أكثرها خصائص وقول من قال صح لعلي من الفضائل مالم يصح لغيره كذب لا يقول أحمد ولا غيره من أئمة الحديث لكن قد يقال روي له ما لم يرو لغيره لكن أكثر ذلك من نقل من علم كذبه أو خطؤه ودليل واحد صحيح المقدمات سليم عن المعارضة خير من عشرين دليلا مقدماتها ضعيفة بل باطلة وهي معارضة بأصح منها يدل على نقيضها والمقصود هنا بيان اختصاصه في الصحبة الإيمانية بما لم يشركه مخلوق لا في قدرها ولا في صفتها ولا في نفعها فإنه لو أحصى الزمان الذي كان يجتمع فيه أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم والزمان الذي كان يجتمع فيه عثمان أو علي أو غيرهما من الصحابة لوجد ما يختص به أبو بكر أضعاف ما اختص به واحد منهم لا أقول ضعفه وأما المشترك بينهم فلا يختص به واحد وأما كمال معرفته ومحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وتصديقه له فهو
8
422(189/295)
مبرز في ذلك على سائرهم تبريزا باينهم فيه مباينه لا تخفى على من كان له معرفة بأحوال القوم ومن لا معرفة له بذلك لم تقبل شهادته وأما نفعه للنبي صلى الله عليه وسلم ومعاونته له على الدين فكذلك فهذه الأمور التي هي مقاصد الصحبة ومحامدها التي بها يستحق الصحابة أن يفضلوا بها على غيرهم لأبي بكر فيها من الاختصاص بقدرها ونوعها وصفتها وفائدتها ما لا يشركه فيه أحد ويدل على ذلك ما رواه البخاري عن أبي الدرداء قال كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل أبو بكر آخذا بطرق ثوبه حتى أبدي عن ركبتيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما صاحبكم فقد غامر فسلم وقال إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته ان يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك فقال يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل أثم أبو بكر قالوا لا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه وقال يا رسول الله والله أنا كنت أظلم مرتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي مرتين فما أوذي بعدها
8
423(189/296)
وفي رواية كانت بين أبي بكر وعمر محاورة فأغضب أبو بكر عمر فانصرف عنه مغضبا فأتبعه أبو بكر يسأله أن يغفر له فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه فأقبل أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم الحديث قال وغضب النبي صلى الله عليه وسلم وفيه إني قلت يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت فهذا الحديث الصحيح فيه تخصيصه بالصحبة في قوله فهل أنتم تاركو لي صاحبي وبين فيه من أسباب ذلك أن الله لما بعثه إلى الناس قال إني رسول الله إليكم جميعا قالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت فهذا يبين فيه أنه لم يكذبه قط وأنه صدقه حين كذبه الناس طرا وهذا ظاهر في أنه صدقه قبل أن يصدقه أحد من الناس الذين بلغهم الرسالة وهذا حق فإنه أول ما بلغ الرسالة فآمن وهذا موافق لما رواه مسلم عن عمرو بن عبسة قلت يا رسول الله من معك على هذا الأمر قال حر وعبد ومعه يومئذ أبو بكر وبلال
8
424
وأما خديجة وعلي وزيد فهؤلاء كانوا من عيال النبي صلى الله عليه وسلم وفي بيته وخديجة عرض عليها أمره لما فجأه الوحي وصدقته ابتداء قبل أن يؤمر بالتبليغ وذلك قبل أن يجب الإيمان به فإنه إنما يجب إذا بلغ الرسالة فأول من صدق به بعد وجوب الإيمان به أبو بكر من الرجال فإنه لم يجب عليه أن يدعو عليا إلى الإيمان لأن عليا كان صبيا والقلم عنه مرفوع ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالإيمان وبلغه الرسالة قبل يأمر أبا بكر ويبلغه ولكنه كان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم فيمكن أنه آمن به لما سمعه يخبر خديجة وإن كان لم يبلغه فإن ظاهر قوله يا أيها الناس إني أتيت اليكم فقلت إني رسول الله إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت كما في الصحيحين يدل على أن كل من بلغه الرسالة كذبه أولا إلا أبا بكر ومعلوم أن خديجة وعليا وزيدا كانوا في داره وخديجة لم تكذبه فلم تكن داخله فيمن بلغ
8
425(189/297)
وقوله في حديث عمرو بن عبسة قلت يا رسول الله من معك على هذا الأمر قال حر وعبد والذي في صحيح مسلم موافق لهذا أي اتبعه من المبلغين المدعوين ثم ذكر قوله وواساني بنفسه وماله وهذه خاصة لم يشركه فيها أحد وقد ذكر هذا النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث المخالة التي هي متواترة عنه كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده فبكى أبو بكر وقال فديناك بآبائنا وأمهاتنا قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من آمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أنا بكر خليلا ولكن غخوة الإسلام لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر وفي رواية للبخاري لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام
8
426(189/298)
ومودته وفي رواية إلا خلة الاسلام وفيه قد فعجبنا له وقال الناس انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه الله من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده وهو يقول فديناك بآبائنا وأمهاتنا وفي رواية وبين ما عنده فاختار ما عنده وفيه فقال لا تبك إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر وروى البخارى من حديث ابن عباس قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال إنه ليس أحد من الناس أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ولو كنت متخذا من الناس خليلالاتخذت أبا بكر خليلا ولكن خلة الإسلام أفضل سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر وفي رواية لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذته ولكن أخوة الإسلام أفضل وفي رواية ولكن أخي وصاحبي ورواه البخاري عن ابن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
8
427(189/299)
وسلم لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذته يعني أبا بكر ورواه مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا وفي رواية لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لأتخذت ابن أبي قحافة ولكن صاحبكم خليل الله وفي أخرى ألا إني إبرأ كل خل من خله ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا إن صاحبكم خليل الله فهذه النصوص كلها مما تبين اختصاص أبي بكر من فضائل الصحبة ومناقبها والقيام بها وبحقوقها بما لم يشركه فيه أحد حتى استوجب أن يكون خليله دون الخلق لو كانت المخالة ممكنة وهذه النصوص صريحة بأنه أحب الخلق إليه وأفضلهم عنده كما صرح بذلك في حديث عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل قال فأتيته فقلت أي الناس أحب إليك قال عائشة قلت فمن الرجال قال أبوها قلت ثم من قال عمر وعد رجالا وفي رواية للبخاري قال فسكت مخافة أن يجعلني آخرهم
8
428
فصل ومما يبين من القرآن فضيلة أبو بكر في الغار أن الله تعالى ذكر نصره لرسوله في هذه الحال التي يخذل فيها عامة الخلق إلا من نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار سورة التوبة أي أخرجوه في هذه القلة من العدد لم يصحبه إلا الواحد فإن الواحد أقل ما يوجد فإذا لم يصحبه إلا واحد دل على أنه في غاية القلة ثم قال إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة وهذا يدل على أن صاحبه كان مشفقا عليه محبا له ناصرا له حيث حزن وإنما يحزن الإنسان حال الخوف على من يحبه وأما عدوه فلا يحزن إذا انعقد سبب هلاكه فلو كان أبو بكر مبغضا كما يقول المفترون لم يحزن ولم ينه عن الحزن بل كان يضمر الفرح والسرور ولا كان الرسول يقول له لا تحزن إن الله معنا فإن قال المفتري إنه خفي على الرسول حاله لما أظهر له الحزن وكان في الباطن مبغضا
8
429(189/300)
قيل له فقد قال إن الله معنا فهذا إخبار بأن الله معهما جميعا بنصره ولا يجوز للرسول أن يخبر بنصر الله لرسوله وللمؤمنين وأن الله معهم ويجعل ذلك في الباطن منافقا فإنه معصوم في خبره عن الله لا يقول عليه إلا الحق وإن جاز أن يخفى عليه حال بعض الناس فلا يعلم أنه منافق كما قال وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سورة التوبة فلا يجوز أن يخبر عنهم بما يدل على إيمانهم ولهذا لما جاءه المخلفون عام تبوك فجعلوا يحلفون ويعتذرون وكان يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله لا يصدق أحدا منهم فلما جاء كعب وأخبره بحقيقة أمره قال أما هذا فقد صدق أو قال صدقكم وأيضا فإن سعد بن أبي وقاص لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم أعطيت فلانا وفلانا وتركت فلانا وهو مؤمن قال أو مسلم مرتين أو ثلاثا فأنكر عليه إخباره بالإيمان ولم يعلم منه إلا ظاهر الإسلام
8
430
فكيف يشهد لأبي بكر بأن الله معهما وهو لا يعلم ذلك والكلام بلا علم لا يجوز وأيضا فإن الله أخبر بهذا عن الرسول إخبار مقرر له لا إخبار منكر له فعلم أن قوله إن الله معنا من الخبر الصدق الذي أمر الله به ورضيه لا مما أنكره وعابه وأيضا فمعلوم أن أضعف الناس عقلا لا يخفى عليه حال من يصحبه في مثل هذا السفر الذي يعاديه فيه الملأ الذين هم بين أظهرهم ويطلبون قتله وأولياؤه هناك لا يستطيعون نصره فكيف يصحب واحدا ممن يظهر له موالاته دون غيره وقد أظهر له هذا حزنه وهو مع ذلك عدو له في الباطن والمصحوب يعتقد أنه وليه وهذا لا يفعله إلا أحمق الناس وأجهلهم فقبح الله من نسب رسوله الذي هو أكمل الخلق عقلا وعلما وخبرة إلى مثل هذه الجهالة والغباوة ولقد بلغني عن ملك المغول خدابنده الذي صنف له هذا الرافضي
8
431(189/301)
كتابه هذا في الإمامة أن الرافضة لما صارت تقول له مثل هذا الكلام إن أبا بكر كان يبغض النبي صلى الله عليه وسلم وكان عدوه ويقولون مع هذا إنه صحبه في سفر الهجرة الذي هو أعظم الأسفار خوفا قال كلمة تلزم عن قولهم الخبيث وقد برأ الله رسوله منها لكن ذكرها على من افترى الكذب الذي أوجب أن يقال في الرسول مثلها حيث قال كان قليل العقل ولا ريب أن فعل ما قالته الرافضة فهو قليل العقل وقد برأ الله رسوله وصديقه من كذبهم وتبين أن قولهم يستلزم القدح في الرسول فصل ومما يبين أن الصحبة فيها خصوص وعموم كالولاية والمحبة والإيمان وغير ذلك من الصفات التي يتفاضل فيها الناس في قدرها ونوعها وصفتها ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه انفرد مسلم بذكر خالد وعبد الرحمن دون البخاري فالنبي
8
432(189/302)
صلى الله عليه وسلم يقول لخالد ونحوه لا تسبوا اصحابي يعني عبد الرحمن بن عوف وأمثاله لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون وهم الذين أسلموا قبل الفتح وقاتلوا وهم أهل بيعة الرضوان فهؤلاء أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان وهم الذين أسلموا بعد الحديبية وبعد مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة ومنهم خالد وعمرو بن العاص وعثمان بن أبي طلحة وأمثالهم وهؤلاء أسبق من الذين تأخر إسلامهم إلى أن فتحت مكة وسموا الطلقاء مثل سهيل بن عمرو والحارث بن هشام وأبي سفيان بن حرب وابنيه يزيد ومعاوية وأبي سفيان بن الحارث وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وغيرهم مع أنه قد يكون في هؤلاء من برز بعلمه على بعض من تقدمه كثيرا كالحارث بن هشام وأبي سفيان بن الحارث وسهيل بن عمرو وعلى بعض من أسلم قبلهم ممن أسلم قبل الفتح وقاتل وكما برز عمر بن الخطاب على أكثر الذين أسلموا قبله والمقصود هنا أنه نهى لمن صحبه آخرا يسب من صحبه أولا لامتيازهم عنهم في الصحبة بما لا يمكن أن يشركهم فيه حتى قال
8
433(189/303)
لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه فإذا كان هذا حال الذين أسلموا من بعد الفتح وقاتلوا وهم من أصحابه التابعين للسابقين مع من أسلم من قبل الفتح وقاتل وهم أصحابه السابقون فكيف يكون حال من ليس من أصحابه بحال مع أصحابه وقوله لا تسبوا أصحابي قد ثبت في الصحيحين من غير وجه منها ما تقدم ومنها ما أخرجوه في الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه فصل وأما قول الرافضي يجوز أن يستصحبه معه لئلا يظهر أمره حذرا منه والجواب أن هذا باطل من وجوه كثيرة لا يمكن استقصاؤها أحدها أنه قد علم بدلالة القرآن موالاته له ومحبته لا عداوته فبطل هذا الثاني أنه قد علم بالتواتر أن أبا بكر كان محبا للنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به من أعظم الخلق اختصاصا به أعظم مما تواتر
8
434(189/304)
من شجاعة عنترة ومن سخاء حاتم ومن موالاة علي ومحبته له ونحو ذلك من التواترات المعنوية فيها الأخبار الكثيرة على مقصود واحد والشك في محبة أبي بكر كالشك في غير وأشد ومن الرافضة من ينكر كون أبي عمر مدفونين في الحجرة النبوية وبعض غلاتهم ينكر أن يكون هو صاحبه الذي كان معه في الغار وليس هذا من بهتانهم ببعيد فإن القوم قوم بهت يجحدون المعلوم ثبوته بالاضطرار ويدعون ثبوت ما يعلم انتفاؤه بالاضطرار في العقليات والنقليات ولهذا قال من قال لو قيل من أجهل الناس لقيل الرافضة حتى فرضها بعض الفقهاء مسألة فقهية فيما إذا أوصى لأجهل الناس قال هم الرافضة لكن هذه الوصية باطلة فإن الوصية باطلة فإن الوصية والوقف لا يكونان معصية بل على جهة لا تكون مذمومة في الشرع والوقف والوصية لأجهل الناس فيه جعل الأجهلية والبدعية موجبة للاستحقاق فهو كما لو أوصى لأكفر الناس أو للكفار دون المسلمين بحيث يجعل الكفر شرطا في الاستحقاق فإن هذا لا يصح وكون أبيبكر كان مواليا للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم من غيره أمر علمه المسلمون والكفار والأبرار والفجار حتى أني أعرف طائفة من الزنادقة كانوا يقولون إن دين الإسلام اتفق عليه في الباطن النبي صلى
8
435(189/305)
الله عليه وسلم وأبو بكر وثالثهما عمر لكن لم يكن عمر مطلعا على سرهما كله كما وقعت دعوة الإسماعيلية الباطنية والقرامطة فكان كل من كان أقرب إلى إمامهم كان أعلم بباطن الدعوة وأكتم لباطنها من غيره ولهذا جعلوهم مراتب فالزنادقة المنافقون لعلمهم بأن أبا بكر أعظم موالاة واختصاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم من غيره جعلوه ممن يطلع على باطن أمره ويكتمه عن غيره ويعاونه على مقصوده بخلاف غيره فمن قال إنه كان في الباطن عدوه كان من أعظم أهل الأرض فرية ثم إن قاتل هذا إذا قيل له مثل هذا في علي وقيل له إنه كان في الباطن معاديا للنبي صلى الله عليه وسلم وإنه كان عاجزا في ولاية الخلفاء الثلاثة عن إفساد ملته فلما ذهب أكابر الصحابة وبقي هو طلب حينئذ إفساد ملته وإهلاك أمته ولهذا قتل من المسلمين خلقا كثيرا وكان مراده إهلاك الباقين لكن عجز وإنه بسبب ذلك انتسب إليه الزنادقة المنافقون المبغضون للرسول كالقرامطة والإسماعيلية والنصيرية فلا تجد عدوا للإسلام إلا وهو يستعين على ذلك بإظهار موالاة على استعانة لا تمكنه بإظهار موالاة أبي بكر وعمر
8
436(189/306)
فالشبهة في دعوى موالاة علي للرسول أعظم من الشبهة في دعوى معاداة أبي بكر وكلاهما باطل معلوم الفساد بالاضطرار لكن الحجج الدالة على بطلان هذه الدعوى في أبي بكر أعظم من الحجج الدالة على بطلانها في حق علي فإذا كانت الحجة على موالاة علي صحيحة والحجة على معاداته باطلة فالحجة على موالاة أبي بكر أولى بالصحة والحجة على معاداته أولى بالبطلان الوجه الثالث أن قوله استصحبه حذرا من أن يظهر أمره كلام من هو من أجهل الناس بما وقع فأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم في خروجه من مكة ظاهر عرفه أهل مكة وأرسلوا الطلب فإنه في الليلة التي خرج فيها عرفوا في صبيحتها أنه خرج وانتشر ذلك وأرسلوا إلى أهل الطرق يبذلون الدية فيه وفي أبي بكر بذلوا الدية لمن يأتى بأبي بكر فأي شيء كان يخاف وكون المشركين بذلوا الدية لمن يأتى بأبي بكر دليل على أنهم كانوا يعلمون موالاته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه كان عدوهم في الباطن ولو كان معهم في الباطن لم يفعلوا ذلك الرابع أنه إذا كان خرج ليلا كان وقت الخروج لم يعلم به أحد فما يصنع بأبي بكر واستصحابه معه فإن قيل فلعله علم خروجه دون غيره قيل أولا قد كان يمكنه أن يخرج في وقت لا يشعر به كما خرج
8
437(189/307)
في وقت لم يشعر به المشركون وكان يمكنه أن لا يعينه فكيف وقد ثبت في الصحيحين أن أبا بكر استأذنه في الهجرة فلم يأذن له حتى هاجر معه والنبي صلى الله عليه وسلم أعلمه بالهجرة في خلوة ففي الصحيحين عن البراء بن عازب قال جاء أبو بكر إلى أبي في منزله فاشترى منه رحلا فقال لعازب أبعث ابنك معي يحمله إلى منزلي فحملته وخرج أبي معه ينتقد ثمنه فقال أبي يا أبا بكر حدثني كيف صنعتما ليلة سريت مع النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم سرينا ليلتنا كلها ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يمر بنا فيه أحد حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بعد فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا ينام فيه النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها ثم بسطت عليه فروة ثم قلت نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك فنام رسول الله
8
438
صلى الله عليه وسلم في ظلها وخرجت أنفض ما حوله فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردنا فلقيته فقلت لمن أنت يا غلام فقال لرجل من أهل المدينة يريد مكة لرجل من قريش سماه فعرفته فقلت له أفي غنمك لبن فقال نعم قلت أفتحلب لي قال نعم فأخذ شاة فقلت له انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى فحلب لي في قعب معه كثبة من لبن قال ومعي إداوة أرتوى فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منها ويتوضأ قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وكرهت أن أوقظه من نومه فوافيته قد استيقظ فصببت على اللبن الماء حتى برد أسفله فقلت يا رسول الله اشرب من هذا اللبن فشرب حتى رضيت ثم قال ألم يأن للرحيل قلت بلى فارتحلنا بعد ما زالت الشمس واتبعنا سراقة بن مالك قال ونحن في جلد من الأرض فقلت
8
439(189/308)
يا رسول الله أتينا فقال لا تحزن إن الله معنا فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتطمت فرسه إلى بطنها فقال إني قد علمت أنكما دعوتما علي فادعوا لله لي فالله لكما أن أرد عنكما اطلب فدعا الله فنجا فرجع لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتم ماهنا ولا يلقى أحدا إلا رده وقال خذ سهما من كنانتي فإنك قمر بإبلي وغلماني فخذ منها حاجتك فقال لا حاجة لي في أبلك قال فقدمنا المدينة فتنازعوا أيهم ينزل عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك فصعد الرجال والنساء فوق البيوت وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون يا محمد يا رسول الله يا محمد يا رسول الله وروى البخاري عن عائشة قالت لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا
8
440
إلى الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال أين تريد يا أبا بكر قال أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي قال ابن الدغنة إن مثلك لا يخرج ولا يخرج فإنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق وأنا لك جار فاعبد ربك ببلدك فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر فطاف في أشراف كفار قريش فقال لهم إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجل يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف
8
441(189/309)
ويعين على نوائب الحق فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بالصلاة والقراءة في غير داره ثم بدا لأبي بكر فأبتني بفناء داره مسجدا وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فتنقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا إنا كنا قد أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره وأعلن بالصلاة والقراءة وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فأته فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإلا فإن أبي إلا أن يعلن ذلك فسله
8
442
أن يرد إليك جوارك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان قالت عائشة فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال قد علمت الذي عقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إلي ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له قال أبو بكر إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله ورسول الله يومئذ بمكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان فهاجر من هاجر إلى المدينة ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي فقال أبو بكر وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي قال نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر وهو
8
443(189/310)
لخبط أربعة أشهر قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر فداه أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر قالت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أخرج من عندك فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله قال فإني قد أذن لي في الخروج قال أبو بكر الصحابة يا رسول الله قال نعم قال أبو بكر فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن قالت عائشة
8
444
فجهزناهما أحث الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين قالت ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبدالله بن أبي بكر هو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت ولا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما
8
445(189/311)
حين تذهب ساعة من الليل فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بها عامر بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا والخريت الماهر بالهداية قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث فانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل وأخذ بهما طريق الساحل قال ابن شهاب فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة ابن مالك بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم يقول جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم
8
446
وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه قال سراقة فعرفت أنهم هم فقلت له إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقا بأعيننا ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحبسها علي وأخذت رمحي ثم خرجت به من ظهر البيت فحططت بزحة الأرض وخفضت عالية حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم
8
447(189/312)
أرده فآخذ المائة ناقة أم لا فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الوجه الخامس أنه لما كان في الغار كان يأتيه بالأخبار عبد الله بن أبي بكر وكان معهما عامر بن فهيرة كما تقدم ذلك فكان يمكنه أن
8
448
يعلمهم بخبره السادس أنه إذا كان كذلك والعدو قد جاء إلى الغار ومشوا فوقه كان يمكنه حينئذ أن يخرج من الغار وينذر العدو به وهو وحده ليس معه أحد يحميه منه ومن العدو فمن يكون مبغضا لشخص طالبا لإهلاكه ينتهز الفرصة في مثل هذه الحال التي لا يظفر فيها عدو بعدوه إلا أخذه فإنه وحده في الغار والعدو قد صاروا عند الغار وليس لمن في الغار هناك من يدفع عنه وأولئك هم العدو الظاهرون الغالبون المتسلطون بمكة ليس بمكة من يخافونه إذا أخذوه فإن كان أبو بكر معهم مباطنا لهم كان الداعي إلى أخذه تاما والقدرة تامة وإذا اجتمع القدرة التامة والداعي التام وجب وجود الفعل فحيث لم يوجد دل على انتفاء الداعي أو انتفاء القدرة والقدرة موجودة فعلم انتفاء الداعي وأن أبا بكر لم يكن له غرض في أذاه كما يعلم ذلك جميع الناس إلا من أعمى الله قلبه ومن هؤلاء المفترين من يقول إن أبا بكر كان يشير بإصبعه إلى العدو يدلهم على النبي صلى الله عليه وسلم فلدغته حيه فردها حتى كفت عنه الألم وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له إن نكثت نكث يدك وإنه نكث بعد ذلك فمات منها وهذا يظهر كذبه من وجوده نبهنا على بعضها
8
449(189/313)
ومنهم من قال أظهر كعبه ليشعروا به فلدغته الحية وهذا من نمط الذي قبله فصل وأما قول الرافضي الآية تدل على نقصه لقوله تعالى لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة فإنه يدل على خوره وقله صبره وعدم يقينه وعدم رضاه بمساواته للنبي صلى الله عليه وسلم وبقضاء الله وقدره فالجواب أولا أن هذا يناقض قولكم إنه استصحبه حذرا منه لئلا يظهر أمره فإنه إذا كان عدوه وكان مباطنا لعداه الذين يطلبونه كان ينبغي أن يفرح ويسر ويطمئن إذا جاء العدو وأيضا فالعدو قد جاءوا ومشوا فوق الغار فكان ينبغي أن ينذرهم به وأيضا فكان الذي يأتيه بأخبار قريش ابنه عبد الله فكان يمكنه أن يأمر ابنه أن يخبر بهم قريشا وأيضا فغلامه عامر بن فهيرة هو الذي كان معه رواحلهما فكان يمكنه أن يقول لغلامه أخبرهم به فكلامهم في هذا يبطل قولهم إنه كان منافقا ويثبت أنه كان مؤمنا به واعلم أنه ليس في المهاجرين منافق وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار لأن أحدا لم يهاجر إلا باختياره والكافر بمكة لم يكن يختار
8
450(189/314)
الهجرة ومفارقة وطنه وأهله لنصر عدوه وإنما يختارها الذين وصفهم الله تعالى للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون سورة الحشر وقوله أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله سورة الحج وأبو بكر أفضل هؤلاء كلهم وإذا كان هذا الكلام يستلزم إيمانه فمعلوم أن الرسول لا يختار لمصاحبته في سفر هجرته الذي هو أعظم الأسفار خوفا وهو السفر الذي جعل مبدأ التاريخ لجلالة قدره في النفوس ولظهور أمره فإن التاريخ لا يكون إلا بأمر ظاهر معلوم لعامة الناس لا يستصحب الرسول فيه من يختص بصحبته إلا وهو من أعظم الناس طمأنينة إليه ووثوقا به ويكفي هذا في فضائل الصديق وتمييزه على غيره وهذا من فضائل الصديق التي لم يشركه فيها غيره ومما يدل على أنه أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده
8
451
فصل وأما قوله إنه يدل على نقصه فنقول أولا النقص نوعان نقص ينافي إيمانه ونقص عمن هو أكمل منه فإن أراد الأول فهو باطل فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون سورة النحل وقال للمؤمنين عامة ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون سورة آل عمران وقال ولقد أتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لاتمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم سورة الحجر فقد نهى نبيه عن الحزن في غير موضع ونهى المؤمنين جملة فعلم أن ذلك لا ينافي الإيمان وإن أراد بذلك أنه ناقص عمن هو أكمل منه فلا ريب أن حال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من حال أبي بكر وهذا لا ينازع فيه أحد من أهل السنة ولكن ليس في هذا ما يدل على أن عليا أو عثمان أو عمر أو غيرهم أفضل منه لأنهم لم يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في
8
452(189/315)
هذه الحال ولو كانوا معه لم يعلم أن حالهم يكون أكمل من حال الصديق بل المعروف من حالهم دائما وحاله أنهم وقت المخاوف يكون الصديق أكمل منهم كلهم يقينا وصبرا وعند وجود أسباب الريب يكون الصديق أعظم يقينا وطمأنينة وعند ما يتأذى منه النبي صلى الله عليه وسلم يكون الصديق أتبعهم لمرضاته وأبعدهم عما يؤذيه هذا هو المعلوم لكل من استقرأ أحوالهم في محيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته حتى أنه لما مات وموته كان أعظم المصائب التي تزلزل بها الإيمان حتى ارتد أكثر الأعراب واضطرب لها عمر الذي كان أقواهم إيمانا وأعظمهم يقينا كان مع هذا تثبيت الله تعالى للصديق بالقول الثابت أكمل وأتم من غيره وكان في يقينه وطمأنينته وعلمه وغير ذلك أكمل من عمر وغيره فقال الصديق رضي الله عنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم قرأ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفأن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا الآية سورة آل عمران
8
453(189/316)
وفي البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح فقام عمر يقول والله ما مات رسول الله قالت وقال عمر والله ما كان يقع في نفسي إلا ذلك وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم فجاء أبو بكر فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله وقال بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا ثم خرج فقال أيها الحالف على رسلك فلما تكلم أبو بكر جلس عمر فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقال إنك ميت وإنهم ميتون سورة الزمر وقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين سورة آل عمران قال فنشج الناس يبكون وفي صحيح البخاري عن أنس أنه سمع خطبة عمر الأخيرة حين جلس على المنبر وذلك وذلك الغد من يوم توفى رسول الله عليه وسلم فتشهد وأبو بكر صامت لا يتكلم قال كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا يريد بذلك أن يكون آخرهم فإن بك محمد قد مات فإن الله قد جعل بين أظهركم نورا
8
454(189/317)
تهتدون به وبه هدى الله محمدا وإن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ثاني اثنين وإنه أولى المسلمين بأمورهم فقوموا فبايعوه وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة وكانت بيعة العامة على المنبر وفي طريق آخر في البخاري أما بعد فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم وهذا الذي هدى به رسوله فخذوا به تهتدوا وإنما هدى الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ذكره البخاري في كتاب الاعتصام بالسنة وروى البخاري أيضا عن عائشة في هذه القصة قالت ما كان من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها لقد خوف عمر الناس وإن فيهم لنفاقا فردهم الله بذلك ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى وعرفهم الحق الذي عليهم وأيضا فقصة يوم بدر في العريش ويوم الحديبية في طمأنينته وسكينته معروفة برز بذلك على سائر الصحابة فكيف ينسب إلى
8
455(189/318)
الجزع وأيضا فقيامه بقتال المرتدين ومانعي الزكاة وتثبيت المؤمنين مع تجهيز أسامة مما يبين أنه أعظم الناس طمأنينة ويقينا وقد روى أنه قيل له قد نزل بك ما لو نزل بالجبال لهاضها وبالبحار لغاضها وما نراك ضعفت فقال ما دخل قلبي رعب بعد ليلة الغار فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حزني أو كما قال لا عليك يا أبا بكر فإن الله قد تكفل لهذا الأمر بالتمام ثم يقال من شبه يقين أبي بكر وصبره بغيره من الصحابة عمر أو عثمان أو علي فإنه يدل على جهله والسنى لا ينازع في فضله على عمر وعثمان ولكن الرافضي الذي أدعى أن عليا كان أكمل من الثلاثة في هذه الصفات دعواه بهت وكذب وفرية فإن من تدبر سيرة عمر وعثمان علم أنهما كانا في الصبر والثبات وقلة الجزع في المصائب أكمل من علي فعثمان حاصروه وطلبوا خلعه من الخلافة أو قتله ولم يزالوا به حتى قتلوه وهو يمنع الناس من مقاتلتهم إلى أن قتل شهيدا وما دافع عن نفسه فهل هذا إلا من أعظم الصبر على المصائب ومعلوم أن عليا لم يكن صبره كصبر عثمان بل كان يحصل له من إظهار التأذي من عسكره الذين يقاتلون معه ومن العسكر الذين
8
456(189/319)
يقاتلهم ما لم يكن يظهر مثله لا من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان مع كون الذين يقاتلونهم كانوا كفارا وكان الذين معهم بالنسبة إلى عدوهم أقل من الذين مع علي بالنسبة إلى من يقاتله فإن الكفار الذين قاتلهم أبو بكر وعمر وعثمان كانوا أضعاف المسلمين ولم يكن جيش معاوية أكثر من جيش علي بل كانوا أقل منه ومعلوم أن خوف الإمام من استيلاء الكفار على المسلمين أعظم من خوفه من استيلاء بعض المسلمين على بعض فكان ما يخافه الأئمة الثلاثة أعظم مما يخافه علي والمقتضي للخوف منهم أعظم ومع هذا فكانوا أكمل يقينا وصبرا مع أعدائهم ومحاربيهم من علي مع أعدائه ومحاربيه فكيف يقال إن يقين علي وصبره كان أعظم من يقين أبي بكر وصبره وهل هذا إلا من نوع السفسطة والمكابرة لما علم بالتواتر خلافة فصل قول الرافضي إن الآية تدل على خوره وقلة صبره وعدم يقينه بالله وعدم رضاه بمساواته للنبي صلى الله عليه وسلم وبقضاء الله وقدره
8
457(189/320)
فهذا كله كذب منه ظاهر ليس في الأية ما يدل على هذا وذلك من وجهين أحدهما أن النهي عن الشيء لا يدل على وقوعه بل يدل على أنه ممنوع منه لئلا يقع فيما بعد كقوله تعالى يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين سورة الاحزاب فهذا لا يدل على أنه كان يطيعهم وكذلك قوله ولا تدع مع الله إلها آخر سورة القصص أو لا تجعل مع الله إلها آخر سورة الإسراء فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مشركا قط لا سيما بعد النبوة فالأمة متفقة على أنه معصوم من الشرك بعد النبوة وقد نهى عن ذلك بعد النبوة ونظائره كثيرة فقوله لا تحزن لا يدل على أن الصديق كان قد حزن لكن من الممكن في العقل أنه يحزن فقد ينهى عن ذلك لئلا يفعله الثاني أنه بتقدير أن يكون حزن على النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يقتل فيذهب الإسلام وكان يود أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارة ووراءه تارة فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون وراءك رواه أحمد
8
458(189/321)
في كتاب مناقب الصحابة فقال حدثنا وكيع عن نافع عن ابن عمر عن ابن أبي مليكة قال لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم خرج معه أبو بكر فأخذ طريق ثور قال فجعل أبو بكر يمشي خلفه ويمشي أمامه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مالك قال يا رسول الله أخاف أن تؤتى من خلفك فأتأخر وأخاف أن تؤتى من أمامك فأتقدم قال فلما انتهينا إلى الغار قال أبو بكر يا رسول الله كما أنت حتى أقمه قال نافع حدثني رجل عن ابن أبي مليكة أن أبا بكر رأى جحرا في الغار فألقمها قدمه وقال يا رسول الله إن كانت لسعة أو لدغة كانت بي وحينئذ لم يكن يرضى بمساواة النبي صلى الله عليه وسلم لا بالمعنى الذي أراده الكاذب المفترى عليه أنه لم يرض بأن يموتا جميعا بل كان لا يرضى بأن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيش هو بل كان يختار أن يفديه بنفسه وأهله وماله وهذا واجب على كل مؤمن والصديق أقوم المؤمنين بذلك قال تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم سورة الأحزاب وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من ولده ووالده والناس أجمعين
8
459(189/322)
وحزنه على النبي صلى الله عليه وسلم يدل على كمال موالاته ومحبته ونصحه له واحتراسه عليه وذبه عنه ودفع الأذى عنه وهذا من أعظم الإيمان وإن كان مع ذلك يحصل له بالحزن نوع ضعف فهذا يدل على أن الأتصاف بهذه الصفات مع عدم الحزن هو المأمور به فإن مجرد الحزن لا فائدة فيه ولا يدل ذلك على أن هذا ذنب يذم به فإن من المعلوم أن الحزن على الرسول اعظم من حزن الإنسان على ابنه فإن محبة الرسول أوجب من محبة الإنسان على ابنه فإن محبة الرسول أوجب من محبة الإنسان لابنه ومع هذا فقد أخبر الله عن يعقوب أنه حزن على ابنه يوسف وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله الآية سورة يوسف فهذا إسرائيل نبي كريم قد حزن على ابنه هذا الحزن على النبي صلى الله عليه وسلم خوفا أن يقتل وهو الذي علقت به سعادة الدنيا والآخرة ثم إن هؤلاء الشيعة وغيرهم يحكون عن فاطمة من حزنها على النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يوصف وأنها بنت بيت الأحزان ولا يجعلون ذلك ذما لها مع أنه حزن على أمر فائت لا يعود وأبو بكر إنما حزن عليه في حياته خوف أن يقتل وهو حزن يتضمن الاحتراس ولهذا لما مات لم يحزن هذا الحزن لأنه لا فائدة فيه فحزن أبي بكر بلا ريب
8
460(189/323)
أكمل من حزن فاطمة فإن كان مذموما على حزنه ففاطمة أولى بذلك وإلا فأبو بكر أحق بأن لا يذم على حزنه على النبي صلى الله عليه وسلم من حزن غيره عليه بعد موته وإن قيل أبو بكر إنما حزن على نفسه لا يقتله الكفار قيل فهذا يناقض قولكم إنه كان عدوه وكان استصحبه لئلا يظهر أمره وقيل هذا باطل بما علم بالتواتر من حال أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم وبما أوجبه الله على المؤمنين ثم يقال هب أن حزنه كان عليه وعلى النبي صلى الله عليه وسلم أفيستحق أن يشتم على ذلك ولو قدر أنه حزن خوفا أن يقتله عدوه لم يكن هذا مما يستحق به هذا السب ثم إن قدر أن ذلك ذنب فلم يصبر عنه بل لما نهاه عنه انتهى فقد نهى الله تعالى الأنبياء عن أمور كثيرة انتهوا عنها ولم يكونوا مذمومين بما فعلوه قبل النهي وأيضا فهؤلاء ينقلون عن علي وفاطمة من الجزع والحزن على فوت مال فدك وغيرها من الميراث ما يقتضي أن صاحبه إنما يحزن على فوت الدنيا وقد قال تعالى لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم سورة الحديد فقد دعا الناس إلى أن لا يأسوا على ما فاتهم من الدنيا ومعلوم أن الحزن على الدنيا أولى بأن ينهى عنه من الحزن على الدين
8
461(189/324)
وإن قدر أنه حزن على الدنيا فحزن الإنسان على نفسه خوفا أن يقتل أولى أن يعذر به من حزنه على مال لم يحصل له وهؤلاء الرافضة من أجهل الناس يذكرون فيمن يوالونه من أخبار المدح وفيمن يعادونه من أخبار الذم ما هو بالعكس أولى فلا تجدهم يذمون أبا بكر وأمثاله بأمر إلا ولو كان ذلك الأمر ذما لكان علي أولى بذلك ولا يمدحون عليا بمدح يستحق أن يكون مدحا إلا وأبو بكر أولى بذلك فإنه أكمل في الممادح كلها وأبرأ من المذام كلها حقيقيها وخياليها فصل وأما قوله إنه يدل على قلة صبره فباطل بل ولا يدل على انعدام شي من الصبر المأمور به فإن الصبر على المصائب واجب بالكتاب والسنة ومع هذا فحزن القلب لا ينافي ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم إن الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا على حزن القلب ولكن يؤاخذ على هذا يعني اللسان أو
8
462
يرحم وقوله إنه يدل على عدم يقينه بالله كذب وبهت فإن الأنبياء قد حزنوا ولم يكن ذلك دليلا على عدم يقينهم بالله كما ذكر الله عن يعقوب وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم قال تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضى الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون وقد نهى الله عن الحزن نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله ولا تحزن عليهم سورة النحل وكلك قوله يدل على الخور وعدم الرضا بقضاء الله وقدره هو باطل كما تقدم نظائره فصل وقوله وإن كان الحزن طاعة استحال نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه وإن كان معصية كان ما ادعوه فضيلة رذيلة
8
463(189/325)
والجواب أولا أنه لم يدع أحد أن مجرد الحزن كان هو الفضيلة بل الفضيلة ما دل عليه قوله تعالى إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا الآية سورة التوبة فالفضيلة كونه هو الذي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال واختص بصحبته وكان له كمال الصحبة مطلقا وقول النبي صلى الله عليه وسلم له إن الله معنا وما يتضمنه ذلك من كمال موافقته للنبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وطمأنينته وكمال معونته للنبي صلى الله عليه وسلم وموالاته ففي هذه الحال من كمال إيمانه وتقواه ما هو الفضيلة وكمال محبته ونصره للنبي صلى الله عليه وسلم هو الموجب لحزنه إن كان حزن مع أن القرآن لم يدل على أنه حزن كما تقدم ويقال ثانيا هذا بعينه موجود في قوله عز وجل لنبيه ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون سورة النحل وقوله لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم سورة الحجر ونحو ذلك بل في قوله تعالى لموسى خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى سورة طه
8
464(189/326)
فيقال إن كان الخوف طاعة فقد نهى عنه وإن كان معصية فقد عصى ويقال إنه أمر أن يطمئن ويثبت لأن الخوف يحصل بغير اختيار العبد إذا لم يكن له ما يوجب الأمن فإذا حصل ما يوجب الأمن زال الخوف فقول لموسى ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى سورة طه هو أمر مقرون بخبره بما يزيل الخوف وكذلك قوله فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى سورة طه هو نهي عن الخوف مقرون بما يوجب زواله وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لصديقه لا تحزن إن الله معنا نهى عن الحزن مقرون بما يوجب زواله وهو قوله إن الله معنا وإذا حصل الخبر بما يوجب زوال الحزن والخوف زال وإلا فهو تهجم على الإنسان بغير اختياره وهكذا قول صاحب مدين لموسى لما قص عليه القصص لا تخف نجوت من القوم الظالمين سورة القصص وكذلك قوله ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين سورة آل عمران قرن النهى عن ذلك بما يزيله من إخباره أنهم هم الأعلون إن كانوا مؤمنين وكذلك قوله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون سورة
8
465(189/327)
النحل مقرون بقوله إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون سورة النحل وإخبارهم بأن الله معهم يوجب زوال الضيق من مكر عدوهم وقد قال لما أنزل الله الملائكة يوم بدر وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم سورة آل عمران ويقال ثالثا ليس في نهيه عن الحزن ما يدل على وجوده كما تقدم بل قد ينهى عنه لئلا يوجد إذا وجد مقتضيه وحينئذ فلا يضرنا كونه معصية لو وجد قالنهي قد يكون نهي تسلية وتعزية وتثبيت وإن لم يكن المنهي عنه معصية بل قد يكون مما يحصل بغير اختيار المنهى وقد يكون الحزن من هذا الباب ولذلك قد ينهى الرجل عن إفراطه في الحب وإن كان الحب مما لا يملك وينهى عن الغشى والصعق والاختلاج وإن كان هذا يحصل بغير اختياره والنهي عن ذلك ليس لأن المنهى عنه معصية إذا حصل بغير اختياره ولم يكن سببه محظورا فإن قيل فيكون قد نهي عما لا يمكن تركه قيل المراد بذلك أنه مأمور بأن يأتي بالضد المنافي للحزن وهو قادر على اكتسابه فإن الإنسان قد يسترسل في أسباب الحزن والخوف وسقوط بدنه فإذا سعى في اكتساب ما يقويه ثبت قلبه وبدونه وعلى
8
466(189/328)
هذا فيكون النهي عن هذا أمرا بما يزيله وإن لم يكن معصية كما يؤمر الإنسان بدفع عدوه عنه وبإزالة النجاسة ونحو ذلك مما يؤذيه وإن لم يكن حصل بذنب منه والحزن يؤذي القلب فأمر بما يزيله كما يؤمر بما يزيل النجاسة والحزن إنما حصل بطاعة وهو محبة الرسول ونصحه وليس هو بمعصية يذم عليه وإنما حصل بسبب الطاعة لضعف القلب الذي لا يذم المرء عليه وأمر باكتساب قوة تدفعه عنه ليثاب على ذلك ويقال رابعا لو قدر أن الحزن كان معصية فهو فعله قبل أن ينهى عنه فلما نهي عنه لم يفعله وما فعل قبل التحريم فلا إثم فيه كما كانوا قبل تحريم الخمر يشربونها ويقامرون فلما نهوا عنها انتهوا ثم تابوا كما تقدم قال أبو محمد بن حزم وأما حزن أبي بكر رضي الله عنه فإنه قبل أن ينهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه كان غاية الرضا لله فإنه كان إشفاقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك كان الله معه والله لا يكون قط مع العصاه بل عليهم وما حزن أبو بكر قط بعد أن
8
467
نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن ولو كان لهؤلاء الأرذال حياء أو علم لم يأتوا بمثل هذا إذ لو كان حزن أبي بكر عيبا عليه لكان ذلك على محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام عيبا لأن الله تعالى قال لموسى سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون سورة القصص ثم قال عن السحرة لما قالوا إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى إلى قوله فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى سورة طه فهذا موسى رسول الله وكليمه كان قد أخبره الله عز وجل بأن فرعون وملأه لا يصلون إليهما وأنه هو الغالب ثم أوجس في نفسه خيفة بعد ذلك فإيجاس موسى لم يكن إلا لنسيانه الوعد المتقدم وحزن أبي بكر كان قبل أن ينهى عنه وأما
8
468(189/329)
محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله قال ومن كفر فلا يحزنك كفره سورة لقمان وقال تعالى ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون سورة النحل وقال فلا يحزنك قولهم سورة يس فلا تذهب نفسك عليهم حسرات سورة فاطر ووجدناه تعالى قد قال قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون سورة الأنعام فقد أخبرنا أنه يعلم أن رسوله يحزنه الذي يقولون ونهاه عن ذلك فيلزمهم في حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي أوردوا في حزن أبي بكر سواء ونعم إن حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كانوا يقولون من الكفر كان طاعة لله قبل أن ينهاه الله كما كان حزن أبي بكر طاعه لله قبل أن ينهاه عنه وما حزن أبو بكر
8
469
بعد ما نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن فكيف وقد يمكن أن أبا بكر لم يكن حزن يومئذ لكن نهاه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون منه حزن كما قال تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا سورة الإنسان فصل قال شيخ الإسلام المصنف رحمه الله تعالى ورضي الله عنه وقد زعم بعض الرافضة أن قوله تعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة لا يدل على إيمان أبي بكر فإن الصحبة قد تكون من المؤمن والكافر كما قال تعالى واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا سورة الكهف إلى قوله قال له صاحبه وهو
8
470(189/330)
يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة سورة الكهف الآية فيقال معلوم أن لفظ الصاحب في اللغة يتناول من صحب غيره ليس فيه دلالة بمجرد هذا اللفظ على أنه وليه أو عدوه أو مؤمن أو كافر إلا لما يقترن به وقد قال تعالى والصاحب بالجنب وابن السبيل سورة النساء وهو يتناول الرفيق في السفر والزوجة وليس فيه دلالة على إيمان أو كفر وكذلك قوله تعالى والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى سورة النجم وقوله وما صاحبكم بمجنون سورة التكوير المراد به محمد صلى الله عليه وسلم لكونه صحب البشر فإنه إذا كان قد صحبهم كان بينه وبينهم من المشاركة ما يمكنهم أن ينقلوا عنه ما جاءه من الوحي وما يسمعون به كلامه ويفقهون معانيه بخلاف الملك الذي لم يصحبهم فإنه لا يمكنهم الأخذ عنه وأيضا قد تضمن ذلك أنه بشر من جنسهم وأخص من ذلك أنه عربي بلسانهم كما قال تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه سورة التوبة وقال وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه سورة إبراهيم فإنه إذا كان قد صحبهم كان قد تعلم لسانهم وأمكنه
8
471(189/331)
أن يخاطبهم بلسانهم فيرسل رسولا بلسانهم ليتفقهوا عنه فكان ذكر صحبته لهم هنا على اللطف بهم والإحسان إليهم وهذا بخلاف إضافة الصحبة إليه كقوله تعالى لا تحزن إن الله معنا وقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وقوله هل أنتم تاركي لي صاحبي وأمثال ذلك فإن إضافة الصحبة إليه في خطابه وخطاب المسلمين تتضمن صحبة موالاة له وذلك لا يكون إلا بالإيمان به فلا يطلق لفظ صاحبه على من صحبه في سفره وهو كافر به والقرآن يقول فيه إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة فأخبر الرسول أن الله معه ومع صاحبه وهذا المعية تتضمن النصر والتأييد وهو إنما ينصره على عدوه وكل كافر عدوه فيمتنع أن يكون الله مؤيدا له ولعدوه معا ولو كان مع عدوه لكان ذلك مما يوجب الحزن ويزيل السكينة فعلم أن لفظ صاحبه تضمن صحبة ولاية ومحبة وتستلزم الإيمان له وبه
8
472(189/332)
وأيضا فقوله لا تحزن دليل على أنه وليه وإنه حزن خوفا من عدوهما فقال له لا تحزن إن الله معنا ولو كان عدوه لكان لم يحزن إلا حيث يتمكن من قهره فلا يقال له لا تحزن إن الله معنا لأن كون الله مع نبيه مما يسر النبي وكونه مع عدوه مما يسوءه فيمتنع أن يجمع بينهما لا سيما مع قوله لا تحزن ثم قوله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار سورة التوبة ونصره لا يكون بأن يقترن به عدوه وحده وإنما يكون باقتران وليه ونجاته من عدوه فكيف لا ينصر على الذين كفروا من يكونون قد لزموه ولم يفارقوه ليلا ولا نهارا وهم معه في سفره وقوله ثاني اثنين حال من الضمير في أخرجه أي أخرجوه في حال كونه نبيا ثاني اثنين فهو موصوف بأنه أحد الاثنين فيكون الاثنان مخرجين جميعا فإنه يمتنع أن يخرج ثاني اثنين إلا مع الآخر فإنه لو أخرج دونه لم يكن قد أخرج ثاني اثنين فدل على أن الكفار أخرجوه ثاني اثنين فأخرجوه مصاحبا لقرينه في حال كونه معه فلزم أن يكونوا أخرجوهما وذلك هو الواقع فإن الكفار أخرجوا المهاجرين كلهم كما قال تعالى للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون
8
473(189/333)
فضلا من الله ورضوانا سورة الحشر وقال تعالى أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله سورة الحج وقال إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم سورة الممتحنة وذلك أنهم منعوهم أن يقيموا بمكة مع الإيمان وهم لا يمكنهم ترك الإيمان فقد أخرجوهم إذا كانوا مؤمنين وهذا يدل على أن الكفار أخرجوا صاحبه كما أخرجوه والكفار إنما أخرجوا أعداءهم لا من كان كافرا منهم فهذا يدل على أن صحبته صحبة موالاة وموافقة على الإيمان لا صحبة مع الكفر وإذا قيل هذا يدل على أنه كان مظهرا للموافقة وقد كان يظهر الموافقة له من كان في الباطن منافقا وقد يدخلون في لفظ الأصحاب في مثل قوله لما استؤذن في قتل بعض المنافقين قال لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه فدل على أن هذا اللفظ قد كان الناس يدخلون فيه من هو منافق
8
474(189/334)
قيل قد ذكرنا فيما تقدم أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق وينبغي أن يعرف أن المنافقين كانوا قليلين بالنسبة إلى المؤمنين وأكثرهم انكشف حاله لما نزل فيهم القرآن وغير ذلك وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف كلا منهم بعينه فالذين باشروا ذلك كانوا يعرفونه والعلم يكون الرجل مؤمنا في الباطن أو يهوديا أو نصرانيا أو مشركا أمر لا يخفى مع طول المباشرة فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه وقال تعالى ولو نشا لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم سورة محمد وقال ولتعرفنهم في لحن القول سورة محمد فالضمر للكفر لا بد أن يعرف في لحن القول وأما بالسيما فقد يعرف وقد لا يعرف وقد قال تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنونهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار سورة الممتحنة والصحابة المذكورون في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم والذين يعظمهم المسلمون على الدين كلهم كانوا مؤمنين به ولم يعظم المسلمون ولله الحمد على الدين منافقا والإيمان يعلم من الرجل كما يعلم سائر أحوال قلبه من موالاته ومعاداته وفرحه وغضبه وجوعه وعطشه وغير ذلك فإن هذه الأمور لها لوازم ظاهرة والأمور الظاهرة تستلزم أمورا باطنة وهذا أمر يعرفه
8
475(189/335)
الناس فيمن جربوه وامتحنوه ونحن نعلم بالاضطرار أن ابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك وأبا سعيد الخدري وجابر أو نحوهم كانوا مؤمنين بالرسول محبين له معظمين له ليسوا منافقين فكيف لا يعلم ذلك في مثل الخلفاء الراشدين الذين أخبارهم وإيمانهم ومحبتهم ونصرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد طبقت البلاد مشارقها ومغاربها فهذا مما ينبغي أن يعرف ولا يجعل وجود قوم منافقين موجبا للشك في إيمان هؤلاء الذين لهم في الأمة لسان صدق بل نحن نعلم بالضرورة إيمان سعيد بن المسيب والحسن وعلقمة والأسود ومالك والشافعي وأحمد والفضيل والجنيد ومن هو دون هؤلاء فكيف لا يعلم إيمان الصحابة ونحن نعلم إيمان كثير ممن باشرناه من الأصحاب وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن العلم بصدق الصادق في أخباره إذا كان دعوى نبوة أو غير ذلك وكذب الكاذب مما يعلم بالاضطرار في مواضع كثيرة بأسباب كثيرة وإظهار الإسلام من هذا الباب فإن الإنسان إما صادق وإما كاذب فهذا يقال أولا ويقال ثانيا وهو ما ذكره أحمد وغيره ولا أعلم بين العلماء فيه نزاعا أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق أصلا وذلك
8
476(189/336)
لأن المهاجرين إنما هاجروا باختيارهم لما آذاهم الكفار على الإيمان وهم بمكة لم يكن يؤمن أحدهم إلا باختياره بل مع احتمال الأذى فلم يكن أحد يحتاج أن يظهر الإيمان ويبطن الكفر لا سيما إذا هاجر إلى دار يكون فيها سلطان الرسول عليه ولكن لما ظهر الإسلام في قبائل الأنصار صار بعض من لم يؤمن بقلبه يحتاج إلى أن يظهر موافقة قومه لأن المؤمنين صار لهم سلطان وعز ومنعة وصار معهم السيف يقتلون من كفر ويقال ثالثا عامة عقلاء بني آدم إذا عاشر أحدهم الآخر مدة يتبين له صداقته من عداوته فالرسول يصحب أبا بكر بمكة بضع عشرة سنة ولا يتبين له هل هو صديقه أو عدوه وهو يجتمع معه في دار الخوف وهل هذا إلا قدح في الرسول ثم يقال جميع الناس كانوا يعرفون أنه أعظم أوليائه من حين المبعث إلى الموت فإنه أول من آمن به من الرجال الأحرار ودعا غيره إلى الإيمان به حتى آمنوا وبذل أمواله في تخليص من كان آمن به من المستضعفين مثل بلال وغيره وكان يخرج معه إلى الموسم فيدعو القبائل إلى الإيمان به ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم إلى بيته إما غدوة وإما عشية وقد آذاه الكفار على إيمانه حتى خرج من مكة فلقيه ابن الدغنة أمير من أمراء العرب سيد القارة وقال إلى
8
477(189/337)
أين وقد تقدم حديثه فهل يشك من له أدنى مسكة من عقل أن مثل هذا لا يفعله إلا من هو في غاية الموالاة والمحبة للرسول ولما جاء به وأن موالاته ومحبته بلغت به إلى أن يعادي قومه ويصبر على أذاهم وينفق أمواله على من يحتاج إليه من إخوانه المؤمنين وكثير من الناس يكون مواليا لغيره لكن لا يدخل معه في المحن والشدائد ومعاداة الناس وإظهار موافقته على ما يعاديه الناس عليه فأما إذا أظهر اتباعه وموافقته على ما يعاديه عليه جمهور الناس وقد صبر على أذى المعادين وبذل الأموال في موافقته من غير أن يكون هناك داع يدعو إلى ذلك من الدنيا لأنه لم يحصل له بموافقته في مكة شيء من الدنيا لا مال ولا رياسة ولا غير ذلك بل لم يحصل له من الدنيا إلا ما هو أذى ومحنة وبلاء والإنسان قد يظهر موافقته للغير إما لغرض يناله منه أو لغرض آخر يناله بذلك مثل أن يقصد قتله أو الأحتيال عليه وهذا كله كان منتفيا بمكة فإن الذين كانوا يقصدون أذى النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من أعظم الناس عداوة لأبي بكر لما آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن بهم اتصال يدعو إلى ذلك ألبتة ولم يكونوا يحتاجون في مثل ذلك إلى أبي بكر بل كانوا أقدر على ذلك ولم يكن يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم أذى قط من أبى بكر مع خلوته به واجتماعه به ليلا ونهارا وتمكنه مما يريد المخادع من إطعام سم أو قتل أو غير ذلك
8
478(189/338)
وأيضا فكان حفظ الله لرسوله وحمايته له يوجب أن يطلعه على ضميره السوء لو كان مضمرا له سوءا وهو قد أطلعه الله على ما في نفس أبي عزة لما جاء مظهرا للإيمان بنية الفتك به وكان ذلك في قعدة واحدة وكذلك أطلعه على ما في نفس الحجبي يوم حنين لما انهزم المسلمون وهم بالسوأة وأطلعه على ما في نفس عمير بن وهب لما جاء من مكة مظهرا للإسلام يريد الفتك به وأطلعه الله على المنافقين في غزوة تبوك لما أرادوا أن يحلوا حزام ناقته وأبو بكر معه دائما ليلا ونهارا حضرا وسفرا في خلوته وظهوره ويوم بدر يكون معه وحده في العريش ويكون في قلبه ضمير سوء والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم ضمير ذلك قط وأدنى من له نوع فطنة يعلم ذلك في أقل من هذا الاجتماع فهل يظن ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم وصديقه إلا من هو مع فرط جهله وكمال نقص عقله من أعظم الناس تنقصا للرسول وطعنا فيه وقدحا في معرفته فإن كان هذا الجاهل مع ذلك محبا للرسول فهو كما قيل عدو عاقل خير من صديق جاهل ولا ريب أن كثيرا ممن يحب الرسول من بني هاشم وغيرهم وقد تشيع قد تلقى من الرافضة ما هو من أعظم الأمور قدحا في الرسول فإن أصل الرفض إنما أحدثه زنديق غرضه إبطال دين الإسلام والقدح
8
479(189/339)
في رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قد ذكر ذلك العلماء وكان عبد الله بن سبأ شيخ الرافضة لما أظهر الإسلام أراد أن يفسد الإسلام بمكره وخبثه كما فعل بولص بدين النصارى فأظهر النسك ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى سعى في فتنة عثمان وقتله ثم لما قدم على الكوفة أظهر الغلو في علي والنص عليه ليتمكن بذلك من أغراضه وبلغ ذلك عليا فطلب قتله فهرب منه إلى قرقيسيا وخبره معروف وقد ذكره غير واحد من العلماء وإلا فمن له أدنى خبرة بدين الإسلام يعلم أن مذهب الرافضة مناقض له ولهذا كانت الزنادقة الذين قصدهم إفساد الإسلام يأمرون باظهار التشيع والدخول إلى مقاصدهم من باب الشيعة كما ذكر ذلك إمامهم صاحب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم قال القاضي أبو بكر بن الطيب وقد اتفق جميع الباطنية وكل مصنف لكتاب ورسالة منهم في ترتيب الدعوة المضلة على أن من سبيل الداعي إلى دينهم ورجسهم المجانب لجميع أديان الرسل والشرائع أن يجيب الداعي إليه الناس بما يبين وما يظهر له من أحوالهم
8
480(189/340)
ومذاهبهم وقالوا لكل داع لهم إلى ضلالتهم ما أنا حاك لألفاظهم وصيغة قولهم بغير زيادة ولا نقصان ليعلم بذلك كفرهم وعنادهم لسائر الرسل والملل فقالوا للداعي يجب عليك إذا وجدت من تدعوه مسلما أن تجعل التشيع عنده دينك وشعارك واجعل المدخل عليه من جهة ظلم السلف وقتلهم الحسين وسبيهم نساءه وذريته والتبرى من تيم وعدي ومن بني أمية وبني العباس وأن تكون قائلا بالتشبيه والتجسيم والبدء والتناسخ والرجعة والغلو وأن عليا إله يعلم الغيب مفوض إليه خلق العالم وما أشبه ذلك من أعاجيب الشيعة وجهلهم فإنهم أسرع إلى إجابتك بهذ الناموس حتى تتمكن منهم مما تحتاج إليه أنت ومن بعدك ممن تثق به من أصحابك فترقيهم إلى حقائق الأشياء حالا فحالا ولا تجعل كما جعل المسيح ناموسه في زور موسى القول بالتوراة وحفظ السبت ثم عجل وخرج عن الحد وكان له ما كان يعني من قتلهم له بعد تكذيبهم إياه وردهم عليه وتفرقهم عنه فإذا آنست من بعض الشيعة عند الدعوة إجابة ورشدا أوفقته على مثالب علي وولده وعرفته حقيقة الحق لمن هو وفيمن هو وباطل بطلان كل ما عليه أهل ملة محمد صلى الله عليه وسلم وغيره
8
481(189/341)
من الرسل ومن وجدته صابئا فأدخله مداخله بالأشانيع وتعظيم الكواكب فإن ذلك ديننا وجل مذهبنا في أول أمرنا وأمرهم من جهة الأشانيع يقرب عليك أمره جدا ومن وجدته مجوسيا اتفقت معه في الأصل في الدرجة الرابعة من تعظيم النار والنور والشمس والقمر واتل عليهم أمر السابق وأنه نهر من الذي يعرفونه وثالثه المكنون من ظنه الجيد والظلمة المكتوبة فإنهم مع الصابئين أقرب الأمم إلينا وأولاهم بنا لولا يسير صحفوه بحهلهم به قالوا وإن ظفرت بيهودي فادخل عليه من جهة انتظار المسيح وأنه المهدى الذي ينتظره المسلمون بعينه وعظم السبت عندهم وتقرب إليهم بذلك وأعلمهم أنه مثل يدل على ممثول وأن ممثوله يدل على السابع المنتظر يعنون محمد بن إسماعيل بن جعفر وأنه دوره وأنه هو المسيح وهو المهدي وعند معرفته تكون الراحة من الأعمال وترك التكليفات كما أمروا بالراحة يوم السبت وأن راحة السبت هو دلالة على الراحة من التكليف والعبادات في دور السابع المنتظر وتقرب من قلوبهم بالطعن على النصارى والمسلمين الجهال الحياري الذين يزعمون أن عيسى
8
482(189/342)
لم يولد ولا أب له وقو في نفوسهم أن يوسف النجار أبوه وأن مريم أمه وأن يوسف النجار كان ينال منها ما ينال الرجال من النساء وما شاكل ذلك فإنهم لن يلبثوا أن يتبعوك قال وإن وجدت المدعي نصرانيا فادخل عليه بالطعن على اليهود والمسلمين جميعا وصحة قولهم في الثالوث وأن الأب والابن وروح القدس صحيح وعظم الصليب عندهم وعرفهم تأويله وإن وجدته مثانيا فإن المثانية تحرك الذي منه يعترف فداخلهم بالممازجة في الباب السادس في الدرجة السادسة من حدود البلاغ التي يصفها من بعد وامتزج بالنور وبالظلام فإنك تملكهم بذلك وإذا آنست من بعضهم رشدا فاكشف له الغطاء ومتى وقع إليك فيلسوف فقد علمت أن الفلاسفة هم العمدة لنا وقد أجمعنا نحن وهم على إبطال نواميس الأنبياء وعلى القول بقدم العالم لولا ما يخالفنا بعضهم من أن للعالم مدبرا لا يعرفونه فإن وقع الاتفاق منهم على أنه لا مدبر للعالم فقد زالت الشبهة بيننا وبينهم وإذا وقع لك ثنوي منهم فبخ بخ قد ظفرت يداك بمن يقل معه تعبك والمدخل عليه بإبطال التوحيد والقول بالسابق والتالي ورتب له ذلك على ما هو مرسوم لك في أول درجة البلاغ وثانيه وثالثه
8
483(189/343)
وسنصف لك عنهم من بعد واتخذ غليظ العهود وتوكيد الأيمان وشدة المواثيق جنة لك وحصنا ولا تهجم على مستجيبك بالأشياء الكبار التي يستبشعونها حتى ترقيهم إلى أعلى المراتب حالا فحالا وتدرجهم درجة درجة على ما سنبينه من بعد وقف بكل فريق حيث احتمالهم فواحد لا تزيده على التشيع والائتمام بمحمد بن إسماعيل وأنه حي لا تجاوز به هذا الحد لا سيما إن كان مثله ممن يكثر به وبموضع اسمه وأظهر له العفاف عن الدرهم والدينار وخفف عليه وطأتك مرة بصلاة السبعين وحذره الكذب والزنا واللواط وشرب النبيذ وعليك في أمره بالرفق والمداراة له والتودد وتصبر له إن كان هواه متبعا لك تحظ عنده ويكون لك عونا على دهرك وعلى من لعله يعاديك من أهل الملل ولا تأمن أن يتغير عليك بعض أصحابك ولا تخرجه عن عبادة إلهة والتدين بشريعة محمد نبيه صلى الله عليه وسلم والقول بإمامة علي وبنيه إلى محمد بن إسماعيل وأقم له دلائل الأسابيع فقط ودقه بالصوم والصلاة دقا وشدة الاجتهاد فإنك يومئذ إن أو مات إلى كريمته فضلا عن ماله لم يمنعك وإن أدركته الوفاة فوض إليك ما خلفه وورثك إياه ولم ير في العالم من هو أوثق منك وآخر ترقية إلى نسخ شريعة محمد وأن السابع هو الخاتم للرسل وأنه ينطق كما ينطقون ويأتي بأمر جديد وأن محمدا صاحب
8
484(189/344)
الدور السادس وأن عليا لم يكن إماما وإنما كان سوسا لمحمد وحسن القول فيه وإلا سياسية فإن هذا باب كبير وعمل عظيم منه ترقى إلى ما هو أعظم منه وأكبر منه ويعينك على زوال ما جاء به من قبلك من وجوب زوال النبوات على المنهاج الذي هو عليه وإياك أن ترتفع من هذا الباب إلا إلى من تقدر فيه النجابة وآخر ترقيه من هذا إلى معرفة القرآن ومؤلفه وسببه وإياك أن تغتر بكثير ممن يبلغ معك إلى هذه المنزلة فترقيه إلى غيرها ألا يغلطون المؤانسة والمدارسة واستحكام الثقة به فإن ذلك يكون لك عونا على تعطيل النبوات والكتب التي يدعونها منزلة من عند الله وآخر ترقية إلى إعلامه أن القائم قد مات وأنه يقوم روحانيا وأن الخلق يرجعون إليه بصورة روحانية تفصل بين العباد بأمر الله عز وجل ويستصفى المؤمنين من الكافرين بصوره روحانية فإن ذلك يكون أيضا عونا لك عند إبلاغه إلى إبطال المعاد الذي يزعمونه والنشور من القبر وآخر ترقيه من هذا إلى إبطال أمر الملائكة في السماء والجن في الأرض وأنه كان قبل آدم بشر كثير وتقيم على ذلك الدلائل المرسومة في كتبنا فإن ذلك مما يعينك وقت بلاغه على تسهيل التعطيل للوحى والإرسال إلى البشر بملائكة والرجوع إلى الحق والقول بقدم العالم
8
485(189/345)
وآخر ترقية إلى أوائل درجة التوحيد وتدخل عليه بما تضمنه كتابهم المترجم بكتاب الدرس الشافعي للنفس من أنه لا إله ولا صفة ولا موصوف فإن ذلك يعينك على القول بالإلهية لمستحقها عند البلاغ وإلى ذلك يعنون بهذا أن كل داع منهم يترقى درجة درجة إلى أن يصير إماما ناطقا ثم ينقلب الها روحانيا على ما سنشرح قولهم فيه من بعد قالوا ومن بلغته إلى هذا المنزلة فعرفه حسب ما عرفناك من حقيقة أمر الإمام وأن إسماعيل وأباه محمدا كانا من نوابه ففي ذلك عون لك على إبطال إمامة على وولده عند البلاغ والرجوع إلى القول بالحق ثم لا يزال كذلك شيئا فشيئا حتى يبلغ الغاية القصوى على تدريج يصفه عنهم فيما بعد قال القاضي فهذه وصيتهم جميعا للداعي إلى مذاهبهم وفيها أوضح دليل لكل عاقل على كفر القوم وإلحادهم وتصريحهم بإبطال حدوث العالم ومحدثه وتكذيب ملائكته ورسله وجحد المعاد والثواب والعقاب وهذا هو الأصل لجميعهم وإنما يتمحرقون بذكر الأول والثاني والناطق والأساس إلى غير ذلك ويخدعون به الضعفاء حتى إذا استجاب لهم مستجيب أخذوه بالقول بالدهر والتعطيل
8
486(189/346)
وسأصف من بعد من عظيم سبهم لجميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وتجريدهم القول بالاتحاد وأنه نهاية دعوتهم ما يعلم به كل قار له عظيم كفرهم وعنادهم للدين قلت وهذا بين فإن الملاحدة من الباطنية الإسماعيلية وغيرهم والغلاة النصيرية وغير النصيرية إنما يظهرون التشيع وهم في الباطن أكفر من اليهود والنصارى فدل ذلك على أن التشيع دهليز الكفر والنفاق والصديق رضي الله عنه هو الإمام في قتال المرتدين وهؤلاء مرتدون فالصديق وحزبه هم أعداؤه والمقصود هنا أن الصحبة المذكورة في قوله إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة صحبة موالاة للمصحوب ومتابعة له لا صحبة نفاق كصحبة المسافر للمسافر وهي من الصحبة التي يقصدها الصاحب لمحبة المصحوب كما هو معلوم عند جماهير الخلائق علما ضروريا بما تواتر عندهم من الأمور الكثيرة أن أبا بكر كان في الغاية من محبة النبي صلى الله عليه وسلم وموالاته والإيمان به أعظم مما يعلمون أن عليا كان مسلما وأنه كان ابن عمه وقوله إن الله معنا لم يكن لمجرد الصحبة الظاهرة التي ليس فيها
8
487(189/347)
متابعة فإن هذه تحصل للكافر إذا صحب المؤمن ليس الله معه بل إنما كانت المعية للموافقة الباطنية والموالاة له والمتابعة ولهذا كل من كان متبعا للرسول كان الله معه بحسب هذا الاتباع قال الله تعالى يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين سورة الأنفال أي حسبك وحسب من اتعبك فكل من اتبع الرسول من جميع المؤمنين فالله حسبه وهذا معنى كون الله معه والكفاية المطلقة مع الاتباع المطلق والناقصة مع الناقص وإذا كان بعض المؤمنين به المتبعين له قد حصل له من يعاديه على ذلك فالله حسبه وهو معه وله نصيب من معنى قوله إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فإن هذا قلبه موافق للرسول وإن لم يكن صحبه ببدنه والأصل في هذا القلب كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن بالمدينة رجالا ما سرتم ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا وهم بالمدينة قال وهم بالمدينة حبسهم العذر
8
488
فهؤلاء بقلوبهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغزاة فلهم معنى صحبته في الغزاة فالله معهم بحسب تلك الصحبة المعنوية ولو انفرد الرجل في بعض الأمصار والأعصار بحق جاء به الرسول ولم تنصره الناس عليه فإن الله معه وله نصيب من قوله إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة فإن نصر الرسول هو نصر دينه الذي جاء به حيث كان ومتى كان ومن وافقه فهو صاحبه عليه في المعنى فإذا قام به ذلك الصاحب كما أمر الله فإن الله مع ما جاء به الرسول ومع ذلك القائم به وهذا المتبع له حسبه الله وهو حسب الرسول كما قال تعالى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين سورة الأنفال فصل وأما قول الرافضي إن القرآن حيث ذكر إنزال السكينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم شرك معه المؤمنين إلا هذا الموضع ولا نقص أعظم منه
8
489(189/348)
فالجواب أولا أن هذا يوهم أنه ذكر ذلك في مواضع متعددة وليس كذلك بل لم يذكر ذلك إلا في قصة حنين كما قال تعالى ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها سورة التوبة فذكر إنزال السكينة على الرسول والمؤمنين بعد أن ذكر توليتهم مدبرين وقد ذكر إنزال السكينة على المؤمنين وليس معهم الرسول في قوله إنا فتحنا لك فتحا مبينا سورة الفتح إلى قوله هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين سورة الفتح الآية وقوله لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم سورة الفتح ويقال ثانيا الناس قد تنازعوا في عود الضمير في قوله تعالى فأنزل الله سكينته عليه سورة التوبة فمنهم من قال إنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال إنه عائد إلى أبي بكر لأنه أقرب المذكورين ولأنه كان محتاجا إلى إنزال السكينة فأنزل السكينة عليه كما أنزلها على المؤمنين الذين بايعوه تحت الشجرة
8
490(189/349)
والنبي صلى الله عليه وسلم كان مستغنيا عنها في هذه الحال لكمال طمأنينته بخلاف إنزالها يوم حنين فإنه كان محتاجا إليها لانهزام جمهور أصحابه وإقبال العدو نحوه وسوقه ببغلته إلى العدو وعلى القول الأول يكون الضمير عائدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما عاد الضمير إليه في قوله وأيده بجنود لم تروها سورة التوبة ولأن سياق الكلام كان في ذكره وإنما ذكر صاحبه ضمنا وتبعا لكن يقال على هذا لما قال لصاحبه إن الله معنا والنبي صلى الله عليه وسلم هو المتبوع المطاع وأبو بكر تابع مطيع وهو صاحبه والله معهما فإذا حصل للمتبوع في هذه الحال سكينة وتأييد كان ذلك للتابع أيضا بحكم الحال فإنه صاحب تابع لازم ولم يحتج أن يذكر هنا أبو بكر لكمال الملازمة والمصاحبة التي توجب مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في التأييد بخلاف حال المنهزمين يوم حنين فإنه لو قال فأنزل الله سكينته على رسوله وسكت لم يكن في الكلام ما يدل على نزول السكينة عليهم لكونهم بانهزامهم فارقوا الرسول ولكونهم لم يثبت لهم من الصحبة المطلقة التي تدل على كمال الملازمة ما ثبت لأبي بكر
8
491(189/350)
وأبو بكر لما وصفه بالصحبه المطلقة الكاملة ووصفها في أحق الأحوال أن يفارق الصاحب فيها صاحبه وهو حال شدة الخوف كان هذا دليلا بطريق الفحوى على أنه صاحبه وقت النصر والتأييد فإن من كان صاحبه في حال الخوف الشديد فلأن يكون صاحبه في حال حصول النصر والتأييد أولى وأحرى فلم يحتج أن يذكر صحبته له في هذه الحال لدلالة الكلام والحال عليها وإذا علم أنه صاحبه في هذه الحال علم أن ما حصل للرسول من إنزال السكينة والتأييد بإنزال الجنود التي لم يرها الناس لصاحبه المذكور فيها أعظم مما لسائر الناس وهذا من بلاغة القرآن وحسن بيانه وهذا كما في قوله والله ورسوله أحق أن يرضوه سورة التوبة فإن الضمير في قوله أحق أن يرضوه إن عاد إلى الله فإرضاؤه لا يكون إلا بإرضاء الرسول وإن عاد إلى الرسول فإنه لا يكون إرضاؤه إلا بإرضاء الله فلما كان ارضاؤهما لا يحصل أحدهما إلا مع الآخر وهما يحصلان بشئ واحد والمقصود بالقصد الأول إرضاء الله وإرضاء الرسول تابع وحد الضمير في قوله أحق أن يرضوه وكذلك وحد الضمير في قوله فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها لأن نزول ذلك على أحدهما يستلزم مشاركة الآخر له إذ محال
8
492(189/351)
أن ينزل ذلك على الصاحب دون المصحوب أو على المصحوب دون الصاحب الملازم فلما كان لا يحصل ذلك إلا مع الآخر وحد الضمير وأعاده إلى الرسول فإنه هو المقصود والصاحب تابع له ولو قيل فأنزل السكينة عليهما وأيدهما لأوهم أبا بكر شريك في النبوة كهارون مع موسى حيث قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا الآية سورة القصص وقال ولقد مننا على موسى وهارون ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم ونصرناهم فكانوا هم الغالبين وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم سورة الصافات فذكرهما أولا وقومهما فيما يشركونهما فيه كما قال فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين سورة الفتح إذا ليس في الكلام ما يقتضي حصول النجاة والنصر لقومهما إذا نصرا ونجيا ثم فيما يختص بهما ذكرهما بلفظ التثنية إذا كانا شريكين في النبوة لم يفرد موسى كما أفرد الرب نفسه بقوله والله ورسوله أحق أن يرضوه سورة التوبة وقوله أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله سورة التوبة فلو قيل أنزل الله سكينته عليهما وأيدهما لأوهم الشركة بل عاد الضمير إلى الرسول المتبوع وتأييده تأييد لصاحبه التابع له الملازم بطريق الضرورة
8
493(189/352)
ولهذا لم ينصر النبي صلى الله عليه وسلم قط في موطن إلا كان أبو بكر رضي الله عنه أعظم المنصورين بعده ولم يكن أحد من الصحابة أعظم يقينا وثباتا في المخاوف منه ولهذا قيل لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح كما في السنن عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال هل رأى أحد منكم رؤيا فقال رجل أنا رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر ثم وزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر ثم وزن عمر وعثمان فرجح عمر ثم رفع الميزان فاستاء لها النبي صلى الله عليه وسلم فقال خلافة نبوة ثم يؤتى الله الملك من يشاء وقال أبو بكر بن عياش ما سبقهم أبو بكر بصلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه فصل قال الرافضي وأما قوله وسيجنبها الأتقى سورة الليل فإن المراد به أبو الدحداح حيث اشترى نخلة لشخص لأجل جاره وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم على
8
494
صاحب النخلة نخلة في الجنة فسمع أبو الدحداح فاشتراها ببستان له ووهبها الجار فجعل النبي صلى الله عليه وسلم له بستانا عوضها في الجنة والجواب أن يقال لا يجوز أن تكون هذه الآية مختصة بأبي الدحداح دون أبي بكر باتفاق أهل العلم بالقرآن وتفسيره وأسباب نزوله وذلك أن هذه السورة مكية باتفاق العلماء وقصة أبي الدحداح كانت بالمدينة باتفاق العلماء فإنه من الأنصار والأنصار إنما صحبوه بالمدينة ولم تكن البساتين وهي الحدائق التي تسمى بالحيطان إلا بالمدينة فمن الممتنع أن تكون الآية لم تنزل إلا بعد قصة أبي الدحداح بل إن كان قد قال بعض العلماء إنها نزلت فيه فمعناه
8
495(189/353)
أنه ممن دخل في الآية وممن شمله حكمها وعمومها فإن كثيرا ما يقول بعض الصحابة والتابعين نزلت هذه الآية في كذا ويكون المراد بذلك أنها دلت على هذا الحكم وتناولته وأريد بها هذا الحكم ومنهم من يقول بل قد تنزل الآية مرتين مرة لهذا السبب ومرة لهذا السبب فعلى قول هؤلاء يمكن أنها نزلت مرة ثانية في قصة أبي الدحداح وإلا فلا خلاف بين أهل العلم أنها نزلت بمكة قبل أن يسلم أبو الداحداح وقبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أنها نزلت في قصة أبي بكر فذكر ابن جرير في تفسيره بإسناده عن عبد الله بن الزبير وغيره أنها نزلت في أبي بكر وكذلك ذكره ابن أبي حاتم والثعلبي أنها نزلت في أبي بكر عن عبد الله وعن سعيد بن المسيب وذكر ابن أبي حاتم في تفسيره حدثنا أبي حدثنا محمد بن أبي عمر العدني حدثنا سفيان حدثنا هشام بن عروة عن أبيه قال أعتق أبو بكر سبعة كلهم يعذب في الله بلالا وعامر بن فهيرة والنهدية
8
496(189/354)
وابنتها وزنيرة وأم عميس وأمه بني المؤمل قال سفيان فأما زنيرة فكانت رومية وكانت لبني عبد الدار فلما أسلمت عميت فقالوا أعمتها اللات والعزى قالت فهي كافرة باللات والعزى فرد الله إليها بصرها وأما بلال فاشتراه وهو مدفون في الحجارة فقالوا لو أبيت إلا أوقية لبعناكه فقال أبو بكر لو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته قال وفيه نزلت وسيجنبها الأتقى سورة الليل إلى آخر السورة وأسلم وله أربعون ألفا فأنفقها في سبيل الله ويدل على أنها نزلت في أبي بكر وجوه أحدها أنه قال وسيجنيها الأتقى وقال إن أكرمكم عند الله أتقاكم سورة الحجرات فلا بد أن يكون أتقى الأمة داخلا في هذه الآية وهو أكرمهم عند الله ولم يقل أحد إن أبا الدحداح ونحوه أفضل وأكرم من السابقين الأولين من المهاجرين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم بل الأمة كلهم سنيهم وغير سنيهم متفقون على أن هؤلاء وأمثالهم من المهاجرين أفضل من أبي الدحداح فلا بد أن يكون الأتقى الذي يؤتى ماله يتزكى فيهم وهذا القائل قد ادعى أنها نزلت في أبي الدحداح فإذا كان القائل قائلين قائلا يقول نزلت فيه وقائلا يقول نزلت في أبي بكر كان هذا القائل هو الذي يدل القرآن على قوله وإن قدر عموم الأية لهما فأبو بكر أحق بالدخول فيها من أبي الدحداح
8
497(189/355)
وكيف لا يكون كذلك وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما نفعني مال قط كمال أبي بكر فقد نفى عن جميع مال الأمة أن ينفعه مال أبي بكر فكيف تكون تلك الأموال المفضولة دخلت في الآية والمال الذي هو أنفع الأموال له لم يدخل فيها الوجه الثاني أنه إذا كان الأتقى هو الذي يؤتى ماله يتزكى وأكرم الخلق أتقاهم كان هذا أفضل الناس والقولان المشهوران في هذه الآية قول أهل السنة أن أفضل الخلق أبو بكر وقول الشيعة علي فلم يجز أن يكون الأتقى الذي هو أكرم الخلق على الله واحدا غيرهما وليس منهما واحد يدخل في الأتقى وإذا ثبت أنه لا بد من دخول أحدهما في الأتقى وجب أن يكون أبو بكر داخلا في الآية ويكون أولى بذلك من علي لأسباب أحدها أنه قال الذي يؤتى ماله يتزكى سورة الليل وقد ثبت في النقل المتواتر في الصحاح وغيرها أن أبا بكر أنفق ماله وأنه مقدم في ذلك على جميع الصحابة كما ثبت في الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة فقعد على المنبر فحمد الله
8
498(189/356)
وأثنى عليه ثم قال إنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن خلة الإسلام أفضل سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد إلا خوخة أبي بكر وفي الصحيحين عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم إن أمن الناس في صحبته وماله أبو بكر وفي البخاري عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت وواساني بنفسه ماله فهل أنتم تاركوا لي صاحبي مرتين فما أوذى بعدها وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر فبكى أبو بكر وقال هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله وعن عمر قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك قلت مثله وجاء أبو بكر بماله كله فقال له النبي صلى الله
8
499(189/357)
عليه وسلم ما أبقيت لأهلك قال أبقيت لهم الله ورسوله فقلت لا أسابقك إلى شيء أبدا رواه أبو داود والترمذي وصححه فهذه النصوص الصحيحة المتواترة الصريحة تدل على أنه كان من أعظم الناس إنفاقا لماله فيما يرضى الله ورسوله وأما علي فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمونه لما أخذه من أبي طالب لمجاعة حصلت بمكة وما زال علي فقيرا حتى تزوج بفاطمة وهو فقير وهذا مشهور معروف عن أهل السنة والشيعة وكان في عيال النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له ما ينفقه ولو كان له مال لأنفقه لكنه كان منفقا عليه لا منفقا السبب الثاني قوله وما لأحد عنده من نعمة تجزى سورة الليل وهذه لأبي بكر دون علي لأن أبا بكر كان للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة الإيمان أن هداه الله به وتلك النعمة لا يجزى بها الخلق بل أجر الرسول فيها على الله كما قال تعالى قل ما أسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين سورة ص وقال قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله سورة سبأ وأما النعمة التي يجزى بها الخلق فهي نعمة الدنيا وأبو بكر لم تكن للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة الدنيا بل نعمة دين بخلاف علي فإنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة دنيا يمكن أن تجزى
8
500(189/358)
الثالث أن الصديق لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم سبب يواليه لأجله ويخرج ماله إلا الإيمان ولم ينصره كما نصره أبو طالب لأجل القرابة وكان عمله كاملا في إخلاصه لله تعالى كما قال إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى سورة الليل وكذلك خديجة كانت زوجته والزوجة قد تنفق مالها على زوجها وإن كان دون النبي صلى الله عليه وسلم وعلي لو قدر أنه أنفق لكان أنفق على قريبه وهذه أسباب قد يضاف الفعل إليها بخلاف إنفاق أبي بكر فإنه لم يكن له سبب إلا الإيمان بالله وحده فكان من أحق المتقين بتحقيق قوله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى وقوله وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى سورة الليل إستثناء منقطع والمعنى لا يقتصر في العطاء على من له عنده نعمة يكافئه بذلك فإن هذا من باب العدل الواجب للناس بعضهم على بعض بمنزلة المعاوضة في المبايعة والمؤاجرة وهو واجب لكل أحد على أحد فإذا لم يكن لأحد عنده نعمة تجزى لم يحتج إلى هذه المعاوضة فيكون عطاؤه خالصا لوجه ربه الأعلى بخلاف من كان عنده لغيره نعمة يحتاج أن يجزيه بها فإنه يحتاج أن
8
501(189/359)
يعطيه مجازاة على ذلك وهذا الذي ما لأحد عنده من نعمة تجزى إذا أعطى ماله يتزكى في معاملته للناس دائما يكافئهم ويعاوضهم ويجازيهم فحين إعطائه ماله يتزكى لم يكن لأحد عنده من نعمة تجزى وفيه أيضا ما يبين أن الفضل بالصدقة لا يكون إلا بعد أداء الواجب من المعاوضات كما قال تعالى ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو سورة البقرة فمن عليه ديون من أثمان وقرض وغير ذلك فلا يقدم الصدقة على قضاء هذه الواجبات ولو فعل ذلك فهل ترد صدقته على قولين معروفين للفقهاء فهذه الآية يحتج بها من صدقته لأن الله تعالى إنما أثنى على من آتى ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى فإذا كان عنده نعمة تجزى فعليه أن يجزى بها قبل أن يؤتى ماله يتزكى فإذا آتى ماله يتزكى قبل أن يجزى بها لم يكن ممدوحا فيكون عمله مردودا لقوله صلى الله عليه وسلم من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد
8
502
الرابع أن هذه الآية إن قدر أنه دخل فيها من دخل من الصحابة فأبو بكر أحق الأمة بالدخول فيها فيكون هو الأتقى من هذه الأمة فيكون أفضلهم وذلك لأن الله تعالى وصف الأتقى بصفات أبو بكر أكمل يها من جميع الأمة وهو قوله الذي يؤتى ماله يتزكى وقوله وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى سورة الليل أما إيتاء المال فقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إنفاق أبي بكر أفضل من إنفاق غيره وأن معاونته له بنفسه وماله أكمل من معاونة غيره وأما ابتغاء التي تجزى فأبو بكر لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم مالا قط ولا حاجة دنيوية وأنه كان يطلب منه العلم لقوله الذي ثبت في الصحيحين أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني
8
503(189/360)
إنك أنت الغفور الرحيم ولا أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم مالا يخصه به قط بل إن حضر غنيمة كان كآحاد الغانمين وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ماله كله وأما غيره من المنفقين من الأنصار وبني هاشم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم مالا يعطى غيرهم فقد أعطى بني هاشم وبني المطلب نمن الخمس ما لم يعط غيرهم واستعمل عمر وأعطاه عماله وأما أبو بكر فلم يعطه شيئا فكان أبعد الناس من النعمة التي تجزى وأولاهم بالنعمة التي لا تجزى وأما إخلاصه في ابتغاء وجه ربه الأعلى فهو أكمل الأمة في ذلك فعلم أنه أكمل من تناولته الآية في الصفات المذكورة كما أنه أكمل من تناول قوله والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون سورة الزمر وقوله لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى سورة الحديد
8
504
وقوله والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار سورة التوبة وأمثال ذلك من الآيات التي فيها مدح المؤمنين من هذه الأمة فأبو بكر أكمل الأمة في الصفات التي يمدح الله بها المؤمنين فهو أولاهم بالدخول فيها وأكمل من دخل فيها فعلم أنه أفضل الأمة فصل قال الرافضي وأما قوله تعالى قل للمخلفين من الأعراب سورة الفتح فإنه أراد الذين تخلفوا عن الحديبية والتمس هؤلاء أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى بقوله قل لن تتبعونا سورة الفتح لأنه تعالى جعل غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ثم قال تعالى قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد سورة الفتح وقد دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوات كثيرة
8
505(189/361)
كمؤته وحنين وتبوك وغيرها وكان الداعي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضا جاز أن يكون عليا حيث قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين وكان رجوعهم إلى طاعته إسلاما لقوله صلى الله عليه وسلم يا علي حربك حربي وحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر فالجواب أما الاستدلال بهذه الآية على خلافة الصديق ووجوب طاعته فقد استدل بها طائفة من أهل العلم منهم الشافعي والأشعري وابن حزم وغيرهم واحتجوا بأن الله تعالى قال فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا الآية سورة التوبة قالوا فقد أمرالله رسوله أن يقول لهؤلاء لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا فعلم أن الداعي لهم إلى القتال ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجب أن يكون من بعده وليس إلا أبا بكر ثم عمر ثم عثمان الذين دعوا الناس إلى قتال فارس والروم وغيرهم أو يسلمون حيث قال تقاتلونهم أو يسلمون وهؤلاء جعلوا المذكورين في سورة الفتح هم المخاطبين في سورة براءة ومن هنا صار في الحجة نظر فإن الذين في سورة الفتح هم الذين دعوا زمن الحديبية ليخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لما
8
506(189/362)
أراد أن يذهب إلى مكة وصده المشركون وصالحهم عام حينئذ بالحديبية وبايعه المسلمون تحت الشجرة وسورة الفتح نزلت في هذه القصة وكان ذلك العام عام ست من الهجرة بالاتفاق وفي ذلك نزل قوله وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى سورة البقرة وفيها نزلت فدية الأذى في كعب بن عجرة وهي قوله ففدية من صيام أو صدقة أو نسك سورة البقرة ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة خرج إلى خيبر ففتحها الله على المسلمين في أول سنة سبع وفيها أسلم أبو هريرة وقد جعفر وغيره من مهاجرة الحبشة ولم يسهم النبي صلى الله عليه وسلم لأحد ممن شهد خيبر إلا لأهل الحديبية الذين بايعوا تحت الشجرة إلا أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر وفي ذلك نزل قوله سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا سورة الفتح إلى قوله تقاتلونهم أو يسلمون سورة الفتح وقد دعا الناس بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام ثمان من الهجرة وكانت خيبر سنة سبع ودعاهم عقب الفتح إلى قتال هوازن بحنين ثم حاصر الطائف سنة ثمان وكانت هي آخر الغزوات التي قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه
8
507(189/363)
وسلم وغزا تبوك سنة تسع لكن لم يكن فيها قتال غزا فيها النصارى بالشام وفيها أنزل الله سورة براءة وذكر فيها المخلفين الذين قال فيهم فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا سورة التوبة وأما مؤته فكانت سرية قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم أميركم زيد فإن قتل فجعفر فإن قتل فعبد الله بن رواحة وكانت بعد عمرة القضية وقبل فتح مكة فإن جعفرا حضر عمرة القضية وتنازع هو وعلي وزيد في بنت حمزة قضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء إمرأة جعفر خاله البنت وقال الخالة بمنزلة الأم ولم يشهد زيد ولا جعفر ولا ابن رواحة فتح مكة لأنهم استشهدوا قبل ذلك في غزوة مؤتة واذا عرف هذا فوجه الاستدلال من الآية أن يقال قوله تعالى ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون سورة الفتح يدل على أنهم متصفون بأنهم أولو بأس شديد وبأنهم يقاتلون أو يسلمون قالوا فلا يجوز أن يكون دعاهم إلى قتال أهل مكة وهوازن عقيب عام الفتح لأن هؤلاء هم الذين دعوا إليهم عام الحديبية ومن لم يكن منهم فهو من جنسهم ليس هو أشد بأسا منهم كلهم عرب من أهل الحجاز وقتالهم من جنس واحد وأهل مكة ومن
8
508(189/364)
حولها كانوا أشد بأسا وقتالا للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر وأحد والخندق من أولئك وكذلك في غير ذلك من السرايا فلا بد أن يكون هؤلاء الذين تقع الدعوة إلى قتالهم لهم اختصاص بشدة البأس ممن دعوا إليه عام الحديبية كما قال تعالى أولي بأس شديد سورة الفتح وهنا صنفان أحدهما بنو الأصفر الذين دعوا إلى قتالهم عام تبوك سنة تسع فإنهم أولو بأس شديد وهم أحق بهذه الصفة من غيرهم وأول قتال كان معهم عام مؤتة عام ثمان قبل تبوك فقتل فيها أمراء المسلمين زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة ورجع المسلمون كالمنهزمين ولهذا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لما رجعوا نحن الفرارون فقال بل أنتم العكارون أنا فئتكم وفئة كل مسلم ولكن قد عارض بعضهم هذا بقوله تقاتلونكم أو يسلمون سورة الفتح وأهل الكتاب يقاتلون حتى يعطوا الجزية فتأول الآية طائفة أخرى في المرتدين الذين قاتلهم الصديق أصحاب مسيلمة الكذاب فإنهم كانوا أولي بأس شديد ولقي المسلمون في قتالهم شدة
8
509(189/365)
عظيمة واستحر القتل يومئذ بالقراء وكانت من أعظم الملاحم التي بين المسلمين وعدوهم والمرتدون يقاتلون أو يسلمون لا يقبل منهم جزية وأول من قاتلهم الصديق وأصحابه فدل على وجوب طاعته في الدعاء إلى قتالهم والقرآن يدل والله اعلم على أنهم يدعون إلى قوم موصوفين بأحد الأمرين إما مقاتلتهم لهم وإما إسلامهم لا بد من أحدهما وهم أولو بأس شديد وهذا بخلاف من دعوا إليه عام الحديبية فإنهم لم يوجد منهم لا هذا ولا هذا ولا أسلموا بل صالحهم الرسول بلا إسلام ولا قتال فبين القرآن الفرق بين من دعوا إليه عام الحديبية وبين من يدعون إليه بعد ذلك ثم إذا فرض عليهم الإجابة والطاعة إذا دعوا إلى قوم أولي بأس شديد فلأن يجب عليهم الطاعة إذا دعوا إلى من ليس بذي بأس شديد بطريق الأولى والأحرى فتكون الطاعة واجبة عليهم في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة وهوازن وثقيف ثم لما دعاهم بعد هؤلاء إلى بني الأصفر كانوا أولي بأس شديد والقرآن وقد وكد الأمر في عام تبوك وذم المتخلفين عن الجهاد ذما عظيما كما تدل عليه سورة براءة وهؤلاء وجد فيهم أحد الأمرين القتال أو الإسلام وهو سبحانه لم يقل تقاتلونهم أو يسلمون سورة
8
510(189/366)
الفتح إلى أن يسلموا ولا قال قاتلوهم حتى يسلموا بل وصفهم بأنهم يقاتلون أو يسلمون ثم إذا قوتلوا فإنهم يقاتلون كما أمر الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فليس في قوله تقاتلونهم ما يمنع أن يكون القتال إلى الإسلام وأداء الجزية لكن يقال قوله ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد سورة الفتح كلام حذف فاعله فلم يعين الفاعل الداعي لهم إلى القتال فدل القرآن على وجوب الطاعة لكل من دعاهم إلى قتال قوم أولي بأس شديد يقاتلونهم أو يسلمون ولا ريب أن أبا بكر دعاهم إلى قتال المرتدين ثم قتال فارس والروم وكذلك عمر دعاهم إلىقتال فارس والروم وعثمان دعاهم إلى قتال البربر ونحوهم والآية تناول هذا الدعاء كله أما تخصيصها بمن دعاهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم كما قاله طائفة من المحتجين بها على خلافة أبي بكر فخطأ بل إذا قيل تتناول هذا وهذا كان هذ مما يسوغ ويمكن أن يراد بالآية ويستدل عليه بها ولهذا وجب قتال الكفار مع كل أمير دعا إلى قتالهم وهذا أظهر الأقوال في الآية وهو أن المراد تدعون إلى قتال أولي بأس شديد أعظم من العرب لا بد فيهم من أحد أمرين إما أن يسلموا وإما أن يقاتلوا بخلاف من دعوا إليه عام الحديبية فإن بأسهم لم يكن شديدا مثل هؤلاء ودعوا إليهم ففي ذلك لم يسلموا ولم يقاتلوا
8
511(189/367)
وكذلك عام الفتح في أول الأمر لم يسلموا ولم يقاتلوا لكن بعد ذلك أسلموا وهؤلاء هم الروم والفرس ونحوهم فإنه لا بد من قتالهم إذا لم يسلموا وأول الدعوة إلى قتال هؤلاء عام مؤتة وتبوك وعام تبوك لم يقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلموا لكن في زمن الصديق والفاروق كان لا بد من أحد الأمرين إما الإسلام وإما القتال وبعد القتال أدوا الجزية لم يصالحوا ابتداء كما صالح المشركون عام الحديبية فتكون دعوة أبي بكر وعمر إلى قتال هؤلاء داخلة في الآية وهو المطلوب والآية تدل على أن قتال علي لم تتناوله الآية فإن الذين قاتلهم لم يكونوا أولي بأس شديد أعظم من بأس أصحابه بل كانوا من جنسهم وأصحابه كانوا أشد بأسا وأيضا فهم لم يكونوا يقاتلون أو يسلمون فإنهم كانوا مسلمين وما ذكره في الحديث من قوله حربك حربي لم يذكر له إسنادا فلا يقوم به حجة فكيف وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث ومما يوضح الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول براءة وآية الجزية كان الكفار من المشركين وأهل الكتاب تارة يقاتلهم وتارة يعاهدهم فلا يقاتلهم ولا يسلمون فلما أنزل الله براءة وأمره فيها بنبذ
8
512(189/368)
العهد إلى الكفار وأمره أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون صار حينئذ مأمورا بأن يدعو الناس إلى قتال من لا بد من قتالهم أو إسلامهم وإذا قاتلهم قاتلهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية لم يكن له حينئذ أن يعاهدهم بلا جزية كما كان يعاهد الكفار من المشركين وأهل الكتاب كما عاهد أهل مكة عام الحديبية وفيها دعا الأعراب إلى قتالهم وأنزل فيها سورة الفتح وكذلك دعا المسلمين وقال فيها قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون سورة الفتح بخلاف هؤلاء الذين دعاهم إليهم عام الحديبية والفرق بينهما من وجهين أحدهما أن الذين يدعون إلى قتالهم في المستقبل أولوا بأس شديد بخلاف أهل مكة وغيرهم من العرب والثاني أنكم تقاتلونهم أو يسلمون ليس لكم أن تصالحوهم ولا تعاهدوهم بدون أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون كما قاتل أهل مكة وغيرهم والقتال إلى أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وهذا يبين أن هؤلاء أولي البأس لم يكونوا ممن يعاهدون بلا جزية فإنهم يقاتلون أو يسلمون ومن يعاهد بلا جزية له حال ثالث لا يقاتل فيها ولا يسلم وليسوا أيضا من جنس العرب الذين قوتلوا قبل ذلك
8
513(189/369)
فتبين أن الوصف لا يتناول الذين قاتلهم بحنين وغيرهم فإن هؤلاء بأسهم من جنس بأس أمثالهم من العرب الذين قوتلوا قبل ذلك فتبين أن الوصف يتناول فارس والروم الذين أمر الله بقتالهم أو يسلمون وإذا قوتلوا قبل ذلك فإنهم يقاتلون حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وإذا قيل إنه دخل ذلك في قتال المرتدين لأنهم يقاتلون أو يسلمون كان أوجه من أن يقال المراد قتال أهل مكة وأهل حنين الذين قوتلوا في حال كان يجوز فيها مهادنة الكفار فلا يسلمون ولا يقاتلون والنبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وحنين كان بينه وبين كثير من الكفار عهود بلا جزية فأمضاها لهم ولكن لما أنزل الله براءة بعد ذلك عام تسع سنة غزوة تبوك بعث أبا بكر بعد تبوك أميرا على الموسم فأمره أن ينادي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وأن من كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته وأردفه بعلى يأمره بنبذ العهود المطلقة وتأجيل من لا عهد له أربعة أشهر كان آخرها شهر ربيع سنة عشر وهذه الحرم المذكورة في قوله فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية سورة التوبة ليس المراد الحرم
8
514(189/370)
المذكورة في قوله منها أربعة حرم سورة التوبة ومن قال ذلك فقد غلط غلطا معروفا عند أهل العلم كما هو مبسوط في موضعه ولما أمر الله بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من المجوس واتفق المسلمون على أخذها من أهل الكتاب والمجوس وتنازع العلماء في سائر الكفار على ثلاثة أقوال فقيل جميعهم يقاتلون بعد ذلك حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون إذا لم يسلموا وهذا قول مالك وقيل يستثنى من ذلك مشركون العرب وهو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه وقيل ذلك مخصوص بأهل الكتاب ومن له شبهة كتاب وهو قول الشافعي وأحمد في رواية أخرى عنه والقول الأول والثاني متفقان في المعنى فإن آية الجزية لم تنزل إلا بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من قتال مشركي العرب فإن آخر غزواته للعرب كانت غزوة الطائف وكانت بعد حنين وحنين بعد فتح مكة وكل ذلك سنة ثمان وفي السنة التاسعة غزا النصارى عام تبوك وفيها نزلت سورة براءة وفيها أمر بالقتال حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على جيش أو سرية أمره أن يقاتلهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون كما رواه مسلم
8
515(189/371)
في صحيحه وصالح النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران على الجزية وهم أول من أدى الجزية وفيهم أنزل الله صدر سورة آل عمران ولما كانت سنة تسع نفى المشركون عن الحرم ونبذ العهود إليهم وأمره الله تعالى أن يقاتلهم وأسلم المشركون من العرب كلهم فلم يبق مشرك معاهد لا بجزية ولا بغيرها وقبل ذلك كان يعاهدهم بلا جزية فعدم أخذ الجزية منهم هل كان لأنه لم يبق فيهم من يقاتل حتى يعطوا الجزية بل أسلموا كلهما لما رأوا من حسن الإسلام وظهوره وقبح ما كانوا عليه من الشرك وأنفتهم من أن يؤتوا الجزية عن يد وهم صاغرون أو لأن الجزية لا يجوز أخذها منهم بل يجب قتالهم إلى الإسلام فعلى الأول تؤخذ من سائر الكفار كما قاله أكثر الفقهاء وهؤلاء يقولون لما أمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
8
516
صاغرون ونهى عن معاهدتهم بل جزية كما كان الأمر أولا وكان هذا تبيها على أن من هو دونهم من المشركين أولى أن لا يهادن بغير جزية بل يقاتل حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في المجوس سنوا بهم سنة أهل الكتاب وصالح أهل البحرين على الجزية وفيهم مجوس واتفق على ذلك خلفاؤه وسائر علماء المسلمين وكان الأمر في أول الإسلام أنه يقاتل الكفار ويهادنهم بلا جزية كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله قبل نزوله براءة فلما نزلت براءة أمره فيها بنبذ هذه العهود المطلقة وأمره أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية فغيرهم أولى أن يقاتلوا ولا يعاهدوا وقوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصرووهم واقعدوا لهم كل مرصد وقال
8
517(189/372)
فإن تابوا سورة التوبة ولم يقل قاتلوهم حتى يتوبوا وقوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله حق فإن من قال لا إله إلا الله لم يقاتل بحال ومن لم يقلها قوتل حتى يعطى الجزية وهذا القول هو المنصوص صريحا عن أحمد والقول الآخر الذي قاله الشافعي ذكره الخرقي في مختصره ووافقه عليه طائفة من أصحاب أحمد ومما يبين ذلك أن آية براءة لفظها يخص النصارى وقد اتفق المسلمون على أن حكمها يتناول اليهود والمجوس والمقصود أنه لم يكن الأمر في أول الإسلام منحصرا بين أن يقاتلهم المسلمون وبين إسلامهم إذا كان هنا قسم ثالث وهو معاهدتهم فلما نزلت آية الجزية لم يكن بد من القتال أو الإسلام والقتال إذا لم يسلموا حتى يعطوا الجزية فصار هؤلاء إما مقاتلين وإما مسلمين ولم يقل تقاتلونهم أو يسلمون ولو كان كذلك لوجب قتالهم إلى أن يسلموا
8
518(189/373)
وليس الأمر كذلك بل إذا أدوا الجزية لم يقاتلوا ولكنهم مقاتلين أو مسلمين فإنهم لا يؤدون الجزية بغير القتال لأنهم أولو بأس شديد ولا يجوز مهادنتهم بغير جزية ومعلوم أن أبا بكر وعمر بل وعثمان في خلافتهم قوتل هؤلاء وضربت الجزية على أهل الشام والعراق والمغرب فأعظم قتال هؤلاء القوم وأشده وكان في خلافة هؤلاء والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتلهم في غزوة تبوك وفي غزوة مؤته استظهروا على المسلمين وقتل زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة وأخذ الراية خالد وغايتهم أن نجوا والله أخبر أننا نقاتلهم أو يسلمون فهذه صفة الخلفاء الراشدين الثلاثة فيمتنع أن تكون الآية مختصة بغزوة مؤتة ولا يدخل فيها قتال المسلمين في فتوح الشام والعراق والمغرب ومصر وخراسان وهي الغزوات التي أظهر الله فيها الإسلام وظهر الهدى ودين الحق في مشارق الأرض ومغاربها لكن قد يقال مذهب أهل السنة أن يغزى مع كل أمير دعا برا كان أو فاجرا فهذه الآية تدل على وجوب الجهاد مع كل أمير دعا الناس إليه لأنه ليس فيها ما يدل على أن الداعي إمام عدل فيقال هذا ينفع أهل السنة فإن الرافضة لا ترى الجهاد إلا مع إمام معصوم ولا معصوم عندهم من الصحابة إلا علي فهذه الآية
8
519(189/374)
حجة عليهم في وجوب غزو الكفار مع جميع الأمراء وإذا ثبت هذا فأبو بكر وعمر وعثمان أفضل من غزا الكفار من هؤلاء الأمراء بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم من المحال أن يكون كل من أمر الله المسلمين أن يجاهدوا معه الكفار بعد النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا ظالما فاجرا معتديا لا تجب طاعته في شيء من الأشياء فإن هذا خلاف القرآن حيث وعد على طاعته بأن يؤتى أجرا حسنا ووعد على التولي عن طاعته بالعذاب الأليم وقد يستدل بالآية على عدل الخلفاء لأنه وعد بالأجر الحسن على مجرد الطاعة إذا دعوا إلى القتال وجعل المتولى عن ذلك كما تولى من قبل معذبا عذابا أليما ومعلوم أن الأمير الغازي إذا كان فاجرا لا تجب طاعته في القتال مطلقا بل فيما أمر الله به ورسوله والمتولى عن طاعته لا يتولى كما تولى عن طاعة الرسول بخلاف المتولى عن طاعة الخلفاء الراشدين فإنه قد يقال إنه تولى كما تولى من قبل إذا كان أمر الخلفاء الراشدين مطابقا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الجملة فهذا الموضع في الاستدلال به نظر ودقة ولا حاجة بنا إليه ففي غيره ما يغني عنه
8
520(189/375)
وأما قول الرافضي إن الداعي جاز أن يكون عليا دون من قبله من الخلفاء لما قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين يعني أهل الجمل وصفين والحرورية والخوارج فيقال له هذا باطل قطعا من وجوه أحدها أن هؤلاء لم يكونوا أشد بأسا من بني جنسهم بل معلوم أن الذين قاتلوه يوم الجمل كانوا أقل من عسكره وجيشه كانوا أكثر منهم وكذلك الخوارج كان جيشه أضعافهم وكذلك أهل صفين كان جيشه أكثر منهم وكانوا من جنسهم فلم يكن في وصفهم بأنهم أولو بأس شديد ما يوجب امتيازهم عن غيرهم ومعلوم أن بني حنيفة وفارس والروم كانوا في القتال أشد بأسا من هؤلاء بكثير ولم يحصل في أصحاب علي من الخوارج من استحرار القتل ما حصل في جيش الصديق الذين قاتلوا أصحاب مسيلمة وأما فارس والروم فلا يشك عاقل أن قتالهم كان أشد من قتال المسلمين العرب بعضهم بعضا وإن كان قتال العرب للكفار في أول الإسلام كان افضل وأعظم فذاك لقلة المؤمنين وضعفهم في أول الأمر لا أن عدوهم
8
521(189/376)
كان أشد الناس بأسا من فارس والروم ولهذا قال تعالى ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة سورة آل عمران فإن هؤلاء تجمعهم دعوة الإسلام والجنس فليس في بعضهم لبعض من البأس ما كان في فارس والروم والنصارى والمجوس للعرب المسلمين الذين لم يكونوا يعدونهم إلا من أضعف جيرانهم ورعاياهم وكانوا يحتقرون أمرهم غاية الاحتقار ولولا أن الله أيد المؤمنين بما أيد به رسوله والمؤمنين على سنته الجميلة معهم لما كانوا ممن يثبت معهم في القتال ويفتح البلاد وهم أكثر منهم عددا وأعظم قوة وسلاحا لكن قلوب المؤمنين أقوى بقوة الإيمان التي خصم الله بها الوجه الثاني أن عليا لم يدع ناسا بعيدين منه إلى قتال أهل الجمل وقتال الخوارج ولما قدم البصرة لم يكن في نيته قتال أحد بل وقع القتال بغير اختيار منه ومن طلحة والزبير وأما الخوارج فكان بعض عسكره يكفيهم لم يدع أحدا إليهم من أعراب الحجاز الثالث أنه لو قدر أن عليا تجب طاعته في قتال هؤلاء فمن الممتنع أن يأمر الله بطاعة من يقاتل أهل الصلاة لردهم إلى طاعة ولى الأمر ولا يأمر بطاعة من يقاتل الكفار ليؤمنوا بالله ورسوله ومعلوم أن من خرج من طاعة علي ليس بأبعد عن الإيمان بالله ورسوله ممن كذب الرسول والقرآن ولم يقر بشيء مما جاء به الرسول بل هؤلاء
8
522(189/377)
أعظم ذنبا ودعاؤهم إلى الإسلام أفضل وقتالهم أفضل إن قدر أن الذين قاتلوا عليا كفار وإن قيل هم مرتدون كما تقوله الرافضة فمعلوم أن من كانت ردته إلى أن يؤمن برسول آخر غير محمد كأتباع مسيلمة الكذاب فهو أعظم ردة ممن لم يقر بطاعة الإمام مع إيمانه بالرسول فبكل حال لا يذكر ذنب لمن قاتله علي إلا وذنب من قاتله الثلاثة أعظم ولا يذكر فضل ولا ثواب لمن قاتل مع علي إلا والفضل والثواب لمن قاتل مع الثلاثة أعظم هذا بتقدير أن يكون من قاتله علي كافرا ومعلوم أن هذا قول باطل لا يقوله إلا حثالة الشيعة وإلا فعقلاؤهم لا يقولون ذلك وقد علم بالتواتر عن علي وأهل بيته أنهم لم يكونوا يكفرون من قاتل عليا وهذا كله إذا سلم أن ذلك القتال كان مأمورا به كيف وقد عرف نزاع الصحابة والعلماء بعدهم في هذا القتال هل كان من باب قتال البغاة الذي وجد في شرط وجوب القتال فيه أم لم يكن من ذلك لانتفاء الشرط الموجب للقتال والذي عليه أكابر الصحابة والتابعين أن قتال الجمل وصفين لم يكن من القتال المأمور به وأن تركه أفضل من الدخول فيه بل عدوه قتال فتنة
8
523(189/378)
وعلى هذا جمهور أهل الحديث وجمهور ائمة الفقهاء فمذهب أبي حنيفة فيما ذكره القدوري أنه لا يجوز قتال البغاة إلا أن يبدأوا بالقتال وأهل صفين لم يبدأوا عليا بقتال وكذلك مذهب أعيان فقهاء المدينة والشام والبصرة وأعيان فقهاء الحديث كمالك وأيوب والأوزاعي وأحمد وغيرهم أنه لم يكن مأمورا به وأن تركه كان خيرا من فعله وهو قول جمهور ائمة السنة كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة في هذا الباب بخلاف قتال الحرورية والخوارج أهل النهروان فإن قتال هؤلاء واجب بالسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم وباتفاق الصحابة وعلماء السنة ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد قال أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة وقال هل ترون ما أرى قالوا لا قال فإني ارى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر
8
524
وفي السنن عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها ستكون فتنة تستنظف العرب قتلاها في النار اللسان فيها أشد من وقع السيف وفي السنن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ستكون فتنة صماء بكماء عمياء من أشرف لها استشرفت له واستشراف اللسان فيها كوقوع السيف وعن أم سلمة قالت استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال سبحان الله ماذا أنزل من الخزائن وماذا أنزل من الفتن وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه
8
525(189/379)
وسلم ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي ومن يستشرف لها تستشرف له ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به ورواه أبو بكرة في الصحيحين وقال فيه فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه قال فقال رجل يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض قال يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاء اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت فقال رجل يا رسول الله أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى الحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني فقال يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار ومثل هذا الحديث معروف عن سعد بن أبي وقاص وغيره من الصحابة والذين رووا هذه الأحاديث من الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وأبي هريرة
8
526
وغيرهم جعلوا قتال الجمل وصفين من ذلك بل جعلوا ذلك أول قتال فتنة كان في الإسلام وقعدوا عن القتال وأمرهم غيرهم بالقعود عن القتال كما استفاضت بذلك الآثار عنهم والذين قاتلوا من الصحابة لم يأت أحد منهم بحجة توجب القتال لا من كتاب ولا من سنة بل أقروا بأن قتالهم كان رأيا رأوه كما أخبر بذلك علي رضي الله عنه عن نفسه ولم يكن في العسكرين أفضل من علي فيكون ممن هو دونه أولى وكان علي أحيانا يظهر فيه الندم والكراهة للقتال مما يبين أنه لو لم يكن عنده فيه شيء من الأدلة الشرعية مما يوجب رضاه وفرحه بخلاف قتاله للخوارج فإنه كان
8
527(189/380)
يظهر فيه من الفرح والرضا والسرور ما يبين أنه كان يعلم أن قتالهم كان طاعة لله ورسوله يتقرب به إلى الله لأن في قتال الخوارج من النصوص النبوية والأدلة الشرعية ما يوجب ذلك ففي الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق وفي لفظ مسلم قال ذكر قوما يخرجون في أمته يقتلهم ادنى الطائفتين إلى الحق سيماهم التحليق هم شر الخلق أو من شر الخلق قال أبو سعيد فأنتم قتلتموهم يا أهل العراق ولفظ البخاري يخرج ناس من قبل المشرق يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا
8
528
يعودون فيه حتى يعود السهم وفي الصحيحين عن علي قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول يخرج قوم من أمتي يقرأون القرآن ليس في قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل آيتهم أن فيهم رجلا له عضد ليس فيها ذراع على رأسه عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض الوجه الرابع أن الآية لا تتناول القتال مع علي قطعا لأنه قال تقاتلونهم أو يسلمون سورة الفتح فوصفهم بأنهم لا بد فيهم من أحد الأمرين المقاتلة أو الإسلام ومعلوم أن الذين دعا إليهم علي
8
529(189/381)
فيهم خلق لم يقاتلوه ألبته بل تركوا قتاله فلم يقاتلوه ولم يقاتلوا معه فكانوا صنفا ثالثا لا قاتلوه ولا قاتلوا معه ولا اطاعوه وكلهم مسلمون وقد دل على إسلامهم القرآن والسنة وإجماع الصحابة علي وغيره قال تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصبحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين سورة الحجرات فوصفهم بالإيمان مع الاقتتال والبغي وأخبر أنهم إخوة وأن الأخوة لا تكون إلا بين المؤمنين لا بين مؤمن وكافر وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحسن إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين فأصلح الله به بين عسكر علي وعسكر معاوية فدل على أن كليهما مسلمون ودل على أن الله يحب الإصلاح بينهما ويثنى على من فعل ذلك ودل على أن ما فعله الحسن كان رضي لله ورسوله ولو كان القتال واجبا أو مستحبا لم يكن تركه رضى لله ولرسوله وأيضا فالنقل المتواتر عن الصحابة أنهم حكموا في الطائفتين
8
530(189/382)
بجكم الإسلام وورثوا بعضهم من بعض ولم يسبوا ذراريهم ولم يغنموا أموالهم التي لم يحضروا بها القتال بل كان يصلي بعضهم على بعض وخلف بعض وهذا أحد ما نقمته الخوارج على علي فإن مناديه نادى يوما لجمل لا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح ولم يغنم أموالهم ولا سبي ذراريهم وأرسل ابن عباس إلى الخوارج وناظرهم في ذلك فروى أبو نعيم بالإسناد الصحيح عن سليمان بن الطبراني عن محمد بن إسحاق بن راهوية وسليمان عن علي بن عبد العزيز عن أبي حذيفة وعبد الرزاق قالا حدثنا عكرمة بن عمار حدثناأبو زميل الحنفي عن ابن عباس قال لما اعتزلت الحرورية قلت لعلي يا أمير المؤمنين أبرد عن الصلاة فلعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم قال إني أتخوفهم عليك قال قلت كلا إن شاء الله فلبست أحسن ما أقدر عليه من هذه اليمانية ثم دخلت عليهم وهم قائلون في نحر
8
531
الظهيرة فدخلت على قوم لم أر قوما أشد اجتهادا منهم أيديهم كأنها ثفن الإبل ووجوههم معلمة من آثار السجود قال فدخلت فقالوا مرحبا بك يا ابن عباس ما جاء بك قال جئت أحدثكم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الوحي وهم أعلم بتأويله فقال بعضهم لا تحدثوه وقال بعضهم لنحدثنه قال قلت أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأول من آمن به وأصحاب رسول الله معه قالوا ننقم عليه ثلاثا قلت ما هن قالوا أولهن أنه حكم الرجال في دين الله وقد قال تعالى إن الحكم إلا لله سورة الأنعام قال قلت وماذا قالوا قاتل ولم يسب ولم يغنم لئن كانوا كفارا لقد حلت له أموالهم وإن كانوا مؤمنين فقد حرمت عليه دماؤهم قال قلت وماذا قالوا ومحا نفسه من أمير المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين قال قلت أرأيتم إن قرأت عليكم كتاب الله المحكم وحدثتكم
8
532(189/383)
عن سنة نبيكم ما لا تنكرون أترجعون قالوا نعم قال قلت أما قولكم إنه حكم الرجال في دين الله فإن الله يقول يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم سورة المائدة وقال في المرأة وزوجها وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها سورة النساء أنشدكم الله أفحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم أحق أم أرنب ثمنها ربع درهم قالوا في حقن دمائهم وصلاح ذات بينهم قال أخرجت من هذه قالوا اللهم نعم قال وأما قولكم قاتل ولم يسب ولم يغنم أتسبون أمكم ثم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها فقد كفرتم وإن زعمتم أنها ليست أمكم فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام إن الله يقول النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم سورة الأحزاب وأنتم مترددون بين ضلالتين فاختاروا أيهما شئتم أخرجت من هذه قالوا اللهم نعم
8
533(189/384)
قال وأما قولكم محا نفسه من أمير المؤمنين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قريش يوم الحديبية على أن يكتب بينهم وبينه كتابا فقال اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقالوا والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال والله إني لرسول وإن كذبتموني اكتب يا علي محمد بن عبد الله ورسول الله كان أفضل من علي أخرجت من هذه قالوا اللهم نعم فرجع منهم عشرون ألفا وبقى منهم أربعة آلاف فقتلوا وأما تكفير هذا الرافضي وأمثاله لهم وجعل رجوعهم إلى طاعة علي إسلاما لقوله صلى الله عليه وسلم فيما زعمه يا علي حربك حربي فيقال من العجائب وأعظم المصائب على هؤلاء المخذولين أن يثبتوا مثل هذا الأصل العظيم بمثل هذا الحديث الذي لا يوجد في شئ من دواوين أهل الحديث التي يعتمدون عليها لا هو في الصحاح ولا السنن ولا المساند ولا الفوائد ولا غير ذلك مما يتناقله أهل العلم بالحديث ويتدواولونه بينهم ولا هو عندهم لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف بل هو أخس من ذلك وهو من أظهر الموضوعات كذبا فإنه خلاف المعلوم المتواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه جعل الطائفتين
8
534(189/385)
مسلمين وأنه جعل ترك القتال في تلك الفتنة خيرا من القتال فيها وأنه أثنى على من أصلح به بين الطائفتين فلو كانت إحدى الطائفتين مرتدين عن الإسلام لكانوا أكفر من اليهود والنصارى الباقين على دينهم وأحق بالقتال منهم كالمرتدين أصحاب مسيلمة الكذاب الذين قاتلهم الصديق وسائر الصحابة واتفقوا على قتالهم بل وسبوا ذراريهم وتسرى على من ذلك السبي بالحنفية أم محمد بن الحنيفية فصل قال الرافضي وأما كونه أنيسه في العريش يوم بدر فلا فضل فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أنسه بالله مغنيا له عن كل أنيس لكن لما عرف النبي صلى الله عليه وسلم أن أمره لأبي بكر بالقتال يؤدي إلى فساد الحال حيث هرب عدة مرار في غزواته وأيما أفضل القاعد عن القتال أو المجاهد بنفسه في سبيل الله الجواب أن يقال لهذا المفتري الكذاب ما ذكرته من أظهر الباطل من وجوه
8
535(189/386)
أحدها أن قوله هرب عدة مرار في غزوات يقال له هذا الكلام يدل على أن قائله من أجهل الناس بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحواله والجهل بذلك غير منكر من الرافضة فإنهم من أجهل الناس بأحوال الرسول وأعظمهم تصديقا بالكذب فيها وتكذيبا بالصدق منها وذلك أن غزوة بدر هي أول مغازي القتال لم يكن قبلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأبي بكر غزاة مع الكفار أصلا وغزوات القتال التي قاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم تسع غزوات بدر وأحد والخندق وبني المصطلق وغزوة ذي قرد وخيبر وفتح مكة وحنين والطائف وأما الغزوات التي لم يقاتل فيها فهي نحو بضعة عشر وأما السرايا فمنها ما كان فيه قتال ومنها ما لم يكن فيه قتال وبكل حال فبدر أولى مغازي القتال باتفاق الناس وهذا من العلم الذي يعلمه كل من له علم بأحوال الرسول من أهل التفسير والحديث والمغازي والسير والفقه والتواريخ والأخبار يعلمون أن بدرا هي أول الغزوات التي قاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم وليس قبلها غزوة ولا سرية كان فيها قتال إلا قصة ابن الحضرمي ولم يكن فيها أبو بكر
8
536(189/387)
فكيف يقال أنه هرب قبل ذلك عدة مرار في مغازيه الثاني أن أبا بكر رضي الله عنه لم يهرب قط حتى يوم أحد لم ينهزم لا هو ولا عمر وإنما كان عثمان تولى وكان ممن عفا الله عنه وأما أبو بكر وعمر فلم يقل أحد قط إنهما انهزما مع من انهزم بل ثبتا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين كما تقدم ذلك عن أهل السيرة لكن بعض الكذابين ذكر أنهما أخذا الراية يوم حنين فرجعا ولم يفتح عليهما ومنهم من يزيد في الكذب ويقول إنهما انهزما مع من انهزم وهذا كذب كله وقبل أن يعرف الإنسان أنه كذب فمن أثبت ذلك عليهما هو المدعى لذلك فلا بد من إثبات ذلك بنقل يصدق ولا سبيل إلى هذا فأين النقل المصدق على أبي بكر أنه هرب في غزوة واحدة فضلا عن أن يكون هرب عدة مرات الثالث أنه لو كان في الجبن بهذه الحال لم يخصه النبي صلى الله عليه وسلم دون أصحابه بأن يكون معه في العريش بل لا يجوز استصحاب مثل هذا في الغزو فإنه لا ينبغي للإمام أن يستصحب منخذلا ولا مرجفا فضلا عن أن يقدم على سائر أصحابه ويجعله معه في عريشه
8
537(189/388)
الرابع أن الذي في الصحيحين من ثباته وقوة يقينه في هذه الحال يكذب هذا المفترى ففي الصحيحين عن ابن عباس عن عمر قال لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلثمائة وسبعة عشر رجلا فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه وجعل يهتف بربه اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه فقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم سورة الأنفال الآية وذكر الحديث الخامس أن يقال قد علم كل من علم السيرة أن أبا بكر كان أقوى قلبا من جميع الصحابة لا يقاربه في ذلك أحد منهم فإنه من حين بعث الله رسوله إلى أن مات أبو بكر لم يزل مجاهدا ثابتا مقداما شجاعا لم يعرف قط أنه جبن عن قتال عدو بل لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعفت قلوب أكثر الصحابة وكان هو الذي يثبتهم حتى قال أنس خطبنا أبو بكر ونحن كالثعالب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود وروى أن عمر قال يا خليفة رسول الله تألف الناس فأخذ بلحيته
8
538(189/389)
وقال يا ابن الخطاب أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام علام أتألفهم على حديث مفترى أم على شعر مفتعل السادس قوله أيما أفضل القاعد عن القتال أو المجاهد نفسه في سبيل الله فيقال بل كونه مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذ الحال هو من أفضل الجهاد فإنه هو الذي كان العدو يقصده فكان ثلث العسكر حوله يحفظونه من العدو وثلثه اتبع المنهزمين وثلثه أخذوا الغنائم ثم إن الله قسمها بينهم كلهم السابع قوله إن أنس النبي صلى الله عليه وسلم بربه كان مغنيا له عن كل أنيس فيقال قول القائل إنه كان أنيسه في العريش ليس هو من ألفاظ القرآن والحديث ومن قاله وهو يدري ما يقول لم يرد به أنه يؤنسه لئلا يستوحش بل المراد أنه كان يعاونه على القتال كما كان من هو دونه يعاونه على القتال وقد قال تعالى هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين سورة الأنفال وهو أفضل المؤمنين الذين أيده الله بهم وقال فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرصضالمؤمنين سورة النساء وكان الحث على أبي بكر أن يعاونه بغاية ما يمكنه وعلى الرسول أن يحرضهم على الجهاد ويقاتل بهم عدوه
8
539(189/390)
بدعائهم ورأيهم وفعلهم وغير ذلك مما يمكن الاستعانة به على الجهاد الثامن أن يقال من المعلوم لعامة العقلاء أن مقدم القتال المطلوب الذي قد قصده أعداؤه يريدون قتله إذا أقام في عريش أو قبة او حركاه أو غير ذلك مما يجنه ولم يستصحب معه من أصحابه إلا واحدا وسائرهم خارج ذلك العريش لم يكن هذا إلا أخص الناس به وأعظمهم موالاة له وانتفاعا به وهذا النفع في الجهاد لا يكون إلا مع قوة القلب وثباته لا مع ضعفه وخوره فهذا يدل على أن الصديق كان أكملهم إيمانا وجهادا وأفضل الخلق هم أهل الإيمان والجهاد فمن كان أفضل في ذلك كان أفضل مطلقا قال تعالى أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله إلى قوله وأولئك هم الفائزون سورة التوبة فهؤلاء أعظم درجة عند الله من أهل الحج والصدقة والصديق أكمل في ذلك وأما قتال علي بيده فقد شاركه في ذلك سائر الصحابة الذين قاتلوا يوم بدر ولم يعرف أن عليا قاتل أ كثر من جميع الصحابة يوم بدر ولا أحد ولا غير ذلك
8
540
ففضيلة الصديق مختصة به لم يشركه فيها غيره وفضيلة علي مشتركه بينه وبين سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين الوجه التاسع أن النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر خرجا بعد ذلك من العريش ورماهم النبي صلى الله عليه وسلم الرمية التي قال الله فيها وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى سورة الانفال والصديق قاتلهم حتى قال له ابنه عبدالرحمن قد رأيتك يوم بدر فصدفت عنك فقال لكني لو رأيتك لقتلتك فصل قال الرافضي وأما إنفاقه على النبي صلى الله عليه وسلم فكذب لأنه لم يكن ذا مال فإن أباه كان فقيرا في الغاية وكان ينادي على مائدة عبد الله بن جدعان كل يوم بمد يقتات به ولو كان أبو بكر غنيا لكفى أباه وكان أبو بكر معلما للصبيان في الجاهلية وفي الإسلام كان خياطا ولما ولي أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة فقال إني محتاج إلى القوت(189/391)
8
541
فجعلوا له كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال والجواب أن يقال أولا من أعظم الظلم والبهتان أن ينكر الرجل ما تواتر به النقل وشاع بين الخاص والعام وامتلأت به الكتب كتب الحديث الصحاح والمساند والتفسير والفقه والكتب المصنفة في أخبارالقوم وفضائلهم ثم يدعى شيئا من المنقولات التي لا تعلم بمجرد قوله ولا ينقله بإسناد معروف ولا إلى كتاب يعرفه يوثق به ولا يذكر ما قاله فلو قدرنا أنه ناظر أجهل الخلق لأمكنه أن يقول له بل الذي ذكرت هو الكذب والذي قاله منازعوك هو الصدق فكيف تخبر عن أمر كان بلا حجة أصلا ولا نقل يعرف به ذلك ومن الذي نقل من الثقات ما ذكره عن أبي بكر ثم يقال أما إنفاق أبي بكر ماله فمتواتر منقول في الحديث الصحيح من وجوه كثيرة حتى قال ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر وقال إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر وثبت عنه أنه اشترى المعذبين من ماله بلالا وعامر بن فهيرة اشترى سبعة أنفس وأما قول القائل إن أباه كان ينادي على مائدة عبد الله بن جدعان فهذا لم يذكر له إسنادا يعرف به صحته ولو ثبت لم يضر فإن هذا
8
542(189/392)
كان في الجاهلية قبل الإسلام فإن ابن جدعان مات قبل الإسلام وأما في الإسلام فكان لأبي قحافة ما يعينه ولم يعرف قط أن أبا قحافة كان يسأل الناس وقد عاش أبو قحافة إلى أن مات أبو بكر وورث السدس فرده على أولاده لغناه عنه ومعلوم أنه لو كان محتاجا لكان الصديق يبره في هذه المدة فقد كان الصديق ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابة بعيدة وكان ممن تكلم في الإفك فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه فأنزل الله تعالى ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين إلى قوله غفور رحيم سورة النور فقال أبو بكر بلى والله أحب أن يغفر الله لي فأعاد عليه النفقة والحديث بذلك ثابت في الصحيحين وقد اشترى بماله سبعة من المعذبين في الله ولما هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم استصحب ماله فجاء أبو قحافة وقال لأهله ذهب أبو بكر بنفسه فهل ترك ماله عندكم أو أخذه قالت أسماء فقلت بل تركه ووضعت في الكوة شيئا وقلت هذا هو المال لتطيب نفسه أنه ترك ذلك لعياله ولم يطلب أبو قحافة منهم شيئا وهذا كله يدل على غناه
8
543(189/393)
وقوله إن أبا بكر كان معلما للصبيان في الجاهلية فهذا من المنقول الذي لو كان صدقا لم يقدح فيه بل يدل على أنه كان عنده علم ومعرفة وكان جماعة من علماء المسلمين يؤدبون منهم أبو صالح صاحب الكلبي كان يعلم الصبيان وأبو عبد الرحمن السلمي وكان من خواص أصحاب علي وقال سفيان بن عينية كان الضحاك بن مزاحم وعبد الله بن الحارث يعلمان الصبيان فلا يأخذان أجرا ومنهم قيس بن سعد وعطاء بن أبي رباح وعبد الكريم أبو أميه وحسين المعلم وهو ابن ذكوان والقاسم بن عمير الهمداني وحبيب المعلم مولى معقل بن يسار ومنهم علقمة بن أبي علقمة وكان يروى عنه مالك بن أنس وكان له مكتب يعلم فيه ومنهم أبو عبيد القاسم بن سلام الإمام المجمع على إمامته وفضله فكيف إذا كان ذلك من الكذب المختلق بل لو كان الصديق قبل الإسلام من الأرذلين لم يقدح ذلك فيه فقد كان سعد وابن مسعود وصهيب وبلال وغيرهم من المستضعفين وطلب المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم طردهم فنهاه الله عن ذلك وأنزل ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون
8
544(189/394)
وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء إلى قوله أليس الله بأعلم بالشاكرين سورة الأنعام وقوله واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا سورة الكهف وقال في المستضعفين من المؤمنين إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون إلى آخر السورة سورة المطففين وقال زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب سورة البقرة وقال ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون سورة الأعراف وقال وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار سورة ص وقال عن قوم نوح قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون سورة الشعراء
8
545(189/395)
وقال تعالى فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي سورة هود وقال عن قوم صالح قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون سورة الأعراف وفي الصحيحين أن هرقل سأل أبا سفيان بن حرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم قال بل ضعفاؤهم قال هم أتباع الرسل فإذا قدر أن الصديق كان من المستضعفين كعمار وصهيب وبلال لم يقدح ذلك في كمال أيمانه وتقواه كما لم يقدح في إيمان هؤلاء وتقواهم وأكمل الخلق عند الله أتقاهم ولكن كلام الرافضة من جنس كلام المشركين الجاهلية يتعصبون للنسب والآباء لا للدين ويعيبون الإنسان بما لا ينقض إيمانه وتقواه وكل هذا من فعل الجاهلية ولهذا كانت الجاهلية ظاهرة عليهم فهم يشبهون الكفار من وجوه خالفوا بها أهل الإيمان والإسلام وقوله إن الصذيق كان خياطا في الإسلام ولما ولى أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطه كذب ظاهر يعرف كل أحد أنه كذب وإن كان لا غضاضة فيه لو
8
546(189/396)
كان حقا فإن أبا بكر لم يكن خياطا وإنما كان تاجرا تارة يسافر في تجارته وتارة لا يسافر وقد سافر إلى الشام في تجارته في الإسلام والتجارة كانت أفضل مكاسب قريش وكان خيار أهل الأموال منهم أهل التجارة وكانت العرب تعرفهم بالتجارة ولما ولى أراد أن يتجر لعياله فمنعه المسلمون وقالوا هذا يشغلك عن مصالح المسلمين وكان عامة ملابسهم الأردية والأرز فكانت الخياطة فيهم قليلة جدا وقد كان بالمدينة خياط دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته وأما المهاجرون المشهورون فما أعلم فيهم خياطا مع أن الخياطة من أحسن الصناعات وأجلها وإنفاق أبي بكر في طاعة الله ورسوله هو من المتواتر الذي تعرفه العامة والخاصة وكان له مال قبل الإسلام وكان معظما في قريش محببا مؤلفا خبيرا بأنساب العرب وأيامهم وكانوا يأتونه لمقاصد التجارة ولعلمه وإحسانه ولهذا لما خرج من مكة قال له ابن الدغنة
8
547(189/397)
مثلك لا يخرج ولا يخرج ولم يعلم أحد من قريش وغيرهم عاب أبا بكر بعيب ولا نقصه ولا استرذله كما كانوا يفعلون بضعفاء المؤمنين ولم يكن له عندهم عيب إلا إيمانه بالله ورسوله كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن قط به عيب عند قريش ولا نقص ولا يذمونه بشئ قط بل كان معظما عندهم بيتا ونسبا معروفا بمكارم الأخلاق والصدق والأمانة وكذلك صديقه الأكبر لم يكن له عيب عندهم من العيوب وابن الدغنة سيد القارة إحدى قبائل العرب كان معظما عند قريش يجرون من أجاره لعظمته عندهم وفي الصحيحين أن أبا بكر لما ابتلى المسلمون خرج مهاجرا إلى أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال أين تريد يا أبا بكر فقال أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي فقال ابن الدغنة فإن مثلك لا يخرج ولا يخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار فارجع واعبد ربك ببلدك فرجع وارتحل معه ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب
8
548(189/398)
المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق فلم يكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذنا بذلك ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ثم بدا له فابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن وأفزع ذلك أشراف قريش فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم إليهم فقالوا إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فجاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان قالت عائشة فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال قد علمت الذي عاقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له فقال أبو بكر فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله وذكر الحديث
8
549(189/399)
فقد وصفه ابن الدغنة بحضرة أشراف قريش بمثل ما وصفت به خديجة النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه الوحي وقال لها لقد خشيت على عقلي فقالت له كلا والله لن يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقرى الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق فهذه صفة النبي صلى الله عليه وسلم أفضل النبيين وصديقه أفضل الصديقين وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر وقال إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عنده فبكى أبو بكر وقال فديناك بآبائنا وأمهاتنا فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تبك يا أبا بكر إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر وفي الصحيحين عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه وذكر الحديث إلى أن قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله بعثني
8
550(189/400)
إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي مرتين وروى البخاري عن ابن عباس قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ما من الناس أحدا من علي في ماله ونفسه من أبي بكر بن أبي قحافة ولو كنت متخذا خليلا فذكر تمامه وروى أحمد عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر فبكى وقال وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله وروى الزهري عن سعيد بن المسيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مال رجل من المسلمين أنفع لي من مال أبي بكر ومنه أعتق بلالا وكان يقضي في مال أبي بكر كما يقضي الرجل في مال نفسه
8
551
فصل وقوله كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة غنيا بمال خديجة ولم يحتج إلى الحرب والجواب أن إنفاق إبي بكر لم يكن نفقة على النبي صلى الله عليه وسلم في طعامه وكسوته فإن الله قد أغنى رسوله عن مال الخلق أجمعين بل كان معونة له على إقامة الإيمان فكان إنفاقه فيما يحبه الله ورسوله لا نفقة على نفس الرسول فاشترى المعذبين مثل بلال وعامر بن فهيرة وزنيرة وجماعة فصل وقوله وبعد الهجرة لم يكن لأبي بكر شيء ألبتة فهذا كذب ظاهر بل كان يعين النبي صلى الله عليه وسلم بماله وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة فجاء بماله كله وأصحاب الصفة كانوا فقراء فحث النبي صلى الله عليه وسلم على
8
552(189/401)
طعمتهم فذهب بثلاثة كما في الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال إن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة من كان طعام اثنين فليذهب بثالث ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس وسادس أو كما قال وإن أبا بكر جاء بثلاثة وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة وذكر الحديث وروى زيد بن أسلم عن أبيه قال قال عمر أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ووافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك فقلت مثله قال وأتى أبو بكر بكل مال عنده فقال يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك فقال أبقيت لهم الله ورسوله فقلت لا أسابقك إلى شيء أبدا رواه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح
8
553
فصل وأما قوله ثم لو أنفق لوجب أن ينزل فيه قرآن كما أنزل في علي هل أتى سورة الإنسان والجواب أما نزول هل أتى في علي فمما اتفق أهل العلم بالحديث على أنه كذب موضوع وإنما يذكره من المفسرين من جرت عادته بذكر أشياء من الموضوعات والدليل الظاهر على أنه كذب أن سورة هل أتى مكية باتفاق الناس نزلت قبل الهجرة وقبل أن يتزوج علي بفاطمة ويولد الحسن والحسين وقد بسط الكلام على هذه القضية في غير موضع ولم ينزل قط قرآن في إنفاق علي بخصوصه لأنه لم يكن له مال بل كان قبل الهجرة في عيال النبي صلى الله عليه وسلم وبعد الهجرة كان أحيانا يؤجر نفسه كل دلو بتمرة ولما تزوج بفاطمة لم يكن له مهر إلا درعه وإنما أنفق على العرس ما حصل له من غزوة بدر
8
554(189/402)
وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه قال كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم شارفا من الخمس فلما أردت أن أبتنى بفاطمة واعدت رجلا صواغا من بني قينقاع يرتحل معي فنأتي بإذخر أردت أن أبيعه من الصواغين فأستعين به في وليمة عرسي فبينا أنا أجمع لشارفي متاعا من الأقتاب والغرائر والحبال وشارفاى مناخان إلى جانب بيت رجل من الأنصار قال وحمزة يشرب في ذلك البيت وقينة تغنيه فقالت ألا يا حمز للشرف النواء
8
555
فثار إليها حمزة فاجتب أسنمتها وبقر خواصرها وذكر الحديث في البخاري وذلك قبل تحريم الخمر وأما الصديق رضي الله عنه فكل آية نزلت في مدح المنفقين في سبيل الله فهو أول المرادين بها من الأمة مثل قوله تعالى لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا سورة الحديد وأبو بكر أفضل هؤلاء وأولهم وكذلك قوله الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم سورة التوبة وقوله وسيجنبها الأتقى الذي يؤتى ماله يتزكى سورة الليل فذكر المفسرون مثل ابن جرير الطبري وعبد الرحمن بن أبي حاتم وغيرهما بالأسانيد عن عروة بن الزبير وعبد الله بن الزبير وسعيد ابن المسيب وغيرهم أنها نزلت في أبي بكر
8
556
فصل قال الرافضي وأما تقديمه في الصلاة فخطأ لأن بلالا لما أذن بالصلاة أمرت عائشة أن يقدم أبا بكر فلما أفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع التكبير فقال من يصلي بالناس فقالوا أبو بكر فقال أخرجوني فخرج بين علي والعباس فنحاه عن القبلة وعزله عن الصلاة وتولى الصلاة والجواب أن هذا من الكذب المعلوم عند جمع أهل العلم بالحديث ويقال له أولا من ذكر ما نقلته بإسناد يوثق به وهل هذا
8
557(189/403)
إلا في كتب من نقله مرسلا من الرافضة الذين هم من أكذب الناس وأجهلهم بأحوال الرسول مثل المفيد بن النعمان والكراجكي وأمثالهما من الذين هم من أبعد الناس عن معرفة حال الرسول وأقواله وأعماله ويقال ثانيا هذا كلام جاهل يظن أن أبا بكر لم يصل بهم إلا صلاة واحدة وأهل العلم يعلمون أنه لم يزل يصلي بهم حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذنه واستخلافه له في الصلاة بعد أن راجعته عائشة وحفصة في ذلك وصلى بهم أياما متعددة وكان قد استخلفه في الصلاة قبل ذلك لما ذهب إلى بني عمرو ابن عوف ليصلح بيهم ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف في غيبته على الصلاة في غير سفر في حال غيبته وفي مرضه إلا أبا بكر ولكن عبد الرحمن بن عوف صلى بالمسلمين مرة صلاة الفجر في السفر عام تبوك لأن النبي بعد أن راجعته صلى الله عليه وسلم كان قد ذهب ليقضي حاجته فتأخر وقدم المسلمون عبد الرحمن ابن عوف فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه المغيرة ابن شعبة وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد توضأ ومسح على خفيه فأدرك معه ركعة وقضى ركعة وأعجبه ما فعلوه من صلاتهم
8
558(189/404)
لما تأخر فهذا إقرار منه على تقديم عبد الرحمن وكان إذا سافر عن المدينة استخلف من يستخلفه يصلي بالمسلمين كما استخلف ابن أم مكتوم تارة وعليا تارة في الصلاة واستخلف غيرهما تارة فأما في حال غيبته ومرضه فلم يستخلف إلا أبا بكر لا عليا ولا غيره واستخلافه للصديق في الصلاة متواتر ثابت في الصحاح والسنن والمساند من غير وجه كما أخرج البخاري ومسلم وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم من أهل الصحيح عن أبي موسى الأشعري قال مرض النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس فقالت عائشة يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق متى يقم مقامك لا يستطيع أن يصلي بالناس فقال مري أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف فصلى بهم أبو بكر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر البخاري فيه مراجعة عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات
8
559(189/405)
وهذا الذي فيه من أن أبا بكر صلى بهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه إلى أن مات مما اتفق عليه العلماء بالنقل فإن النبي صلى الله عليه وسلم مرض أياما متعددة حتى قبضه الله إليه وفي تلك الأيام لم يكن يصلي بهم إلا أبو بكر وحجرته إلى جانب المسجد فيمتنع والحال هذه أن يكون قد أمر غيره بالصلاة فصلى أبو بكر بغير أمره تلك المدة ولا مراجعة أحد في ذلك والعباس وعلي وغيرهما كانوا يدخلون عليه بيته وقد خرج بينهما في بعض تلك الأيام وقد روى أن ابتداء مرضه كان يوم الخميس وتوفي بلا خلاف يوم الإثنين من الأسبوع الثاني فكان مدة مرضه فيما قيل اثنى عشر يوما وفي الصحيح عن عبيد الله بن عبد الله قال دخلت على عائشة فقلت لها ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت بلى ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أصلى الناس قلنا لا وهم ينتظرونك يا رسول الله قال ضعوا لي ماء في المخضب ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمى عليه ثم أفاق فقال أصلى الناس فقلنا لا وهم ينتظرونك يا رسول الله قالت والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة قالت فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر يصلي بالناس فأتاه الرسول فقال إن رسول الله صلى الله
8
560(189/406)
عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس فقال أبو بكر وكان رجلا رقيقا يا عمر صلي بالناس فقال عمر أنت أحق بذلك قالت فصلى بهم أبو بكر رضي الله عنه تلك الأيام ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر وقال لهما أجلساني إلى جنبه فأجلساه إلى جنب أبي بكر فكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد قال عبيد الله فدخلت على ابن عباس فقلت ألا أعرض عليك ما حدثتني به عائشة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هات فعرضت عليه حديثها فما أنكر منه شيئا غير أنه قال أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس قلت لا هو علي بن أبي طالب
8
561(189/407)
فهذا الحديث الذي اتفقت فيه عائشة وابن عباس كلاهما يخبران بمرض النبي صلى الله عليه وسلم واستخلاف أبي بكر في الصلاة وأنه صلى بالناس قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم أياما وأنه لما خرج لصلاة الظهر أمره أن لا يتأخر بل يقيم مكانه وجلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه والناس يصلون بصلاة أبي بكر وأبو بكر يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء كلهم متفقون على تصديق هذا الحديث وتلقيه بالقبول وتفقهوا في مسائل فيه منها صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا وأبو بكر قائم هو والناس هل كان من خصائصه أو كان ذلك ناسخا لما استفاض عنه من قوله وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون أو يجمع بين الأمرين ويحمل ذلك على ما إذا أبتدأ الصلاة قاعدا وهذا على ما إذا حصل القعود في أثنائها على ثلاثة أقوال للعلماء والأول قول مالك ومحمد بن الحسن والثاني قول أبي حنيفة والشافعي والثالث قول أحمد وحماد بن زيد والأوزاعي وغيرهما ممن يأمر المؤتمين بالقعود إذا قعد الإمام لمرض وتكلم العلماء فيما إذا استخلف الإمام الراتب خليفة ثم حضر الإمام هل يتم الصلاة بهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه وفعله مرة أخرى
8
562(189/408)
سنذكرها أم ذلك من خصائصه على قولين هما وجهان في مذهب أحمد وقد صدق ابن عباس عائشة فيما أخبرت به مع أنه كان بينهما بعض الشيء بسبب ما كان بينهما وبين علي ولذلك لم تسمه وابن عباس يميل إلى على ولايتهم عليه ومع هذا فقط صدقها في جميع ما قالت وسمى الرجل الآخر عليا فلم يكذبها ولم يخطئها في شيء مما روته وفي الصحيحين عن عائشة قالت لقد راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا وإلا اني كنت أرى أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر قال البخاري ورواه ابن عمر وأبو موسى وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحين عنها قالت لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت فقلت يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقوم مقامك لا
8
563
يسمع الناس فلو أمرت عمر فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت فقلت لحفصة قولي له إن إبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر فقالت له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت فأمروا أبا بكر أن يصلي بالناس وفي رواية البخاري ففعلت حفصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مه إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس فقالت حفصة لعائشة ما كنت لأصيب منك خيرا ففي هذا أنها راجعته وأمرت حفصة بمراجعته وأن النبي صلى الله عليه وسلم لامهن على هذه المراودة وجعلها من المراودة على الباطل كمراودة صواحب يوسف ليوسف
8
564(189/409)
فدل هذا على أن تقديم غير أبي بكر في الصلاة من الباطل الذي يذم من يراود عليه كما ذم النسوة على مراودة يوسف هذا مع أن أبا بكر قد قال لعمر يصلي فلم يتقدم عمر وقال أنت أحق بذلك فكان في هذا اعتراف عمر له أنه أحق بذلك منه كما اعترف له بأنه أحق بالخلافة منه ومن سائر الصحابة وأنه أفضلهم كما في البخاري عن عائشة لما ذكرت خطبة أبي بكر بالمدينة وقد تقدم ذلك قالت واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا منا أمير ومنكم أمير فذهب إليهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وأبو عبيدة بن الجراح فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر وكان عمر يقول والله ما أردت بذلك إلا إني هيأت كلاما أعجبني خفت أن لا يبلغه أبو بكر ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس فقال في كلامه نحن الأمراء وأنتم الوزراء فقال حباب بن المنذر لا نفعل منا أمير ومنكم أمير فقال أبو بكر ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء هم أوسط العرب دارا وأعرقهم أحسابا فبايعوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح فقال عمر بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة فقال عمر قتله الله
8
565(189/410)
ففي هذا الخبر إخبار عمر بين المهاجرين والأنصار أن أبا بكر سيد المسلمين وخيرهم وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك علة مبايعته فقال بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين بذلك أن المأمور به تولية الأفضل وأنت أفضلنا فنبايعك كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل من أحب الرجال إليك قال أبو بكر ولما قال لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا وهذا مما يقطع أهل العلم بالحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله وإن كان من ليس له مثل علمهم لم يسمعه أو سمعه ولا يعرف أصدق هو أم كذب فلكل علم رجال يقولون به وللحروب رجال يعرفون بها وللدواوين حساب وكتاب
8
566
وهؤلاء الثلاثة هم الذين عنتهم عائشة فيما رواه مسلم عن ابن أبي مليكة قال سمعت عائشة وسئلت من كان رسول الله مستخلفا لو استخلف قالت أبو بكر فقيل لها من بعد أبي بكر قال عمر قيل لها من بعد عمر قالت أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا والمقصود هنا أن استخلافه في الصلاة كان أياما متعددة كما اتفق عليه رواية الصحابة ورواه أهل الصحيح من حديث أبي موسى وابن عباس وعائشة وابن عمر وأنس ورواه البخاري من حديث ابن عمر وفيه قوله مروا أبا بكر فليصل بالناس ومراجعة عائشة له في هذه القصة وذكر المراجعة مرتين وفيه قوله مروه فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف ولم يزل يصلي بهم باتفاق الناس حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رآهم النبي صلى الله عليه وسلم يصلون خلفه آخر صلاة في حياته وهي صلاة الفجر يوم الإثنين وسر بذلك وأعجبه
8
567(189/411)
كما في الصحيحين عن أنس أن أبا بكر كان يصلي بهم في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا قال فبهتنا ونحن في الصلاة من الفرح بخروج النبي صلى الله عليه وسلم ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج للصلاة فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن أتموا صلاتكم قال ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرخى الستر قال فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ذلك وفي بعض طرق البخارى قال فهم الناس أن يفتتنوا في صلاتهم فرحا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أن ذلك كان في صلاة
8
568
الفجر وفي صحيح مسلم عن أنس قال آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف الستارة يوم الإثنين وذكر القصة وفي الصحيحين عن أنس قال لم يخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب فرفعه فلما وضح لنا وجه النبي صلى الله عليه وسلم ما نظرنا منظرا قط أعجب ألينا من وجهه حين وضح لنا قال فأومأ نبي الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم وأرخى نبي الله صلى الله عليه وسلم الحجاب فلم يقدر عليه حتى مات فقد أخبر أنس أن هذه الخرجة الثانية إلى باب الحجرة كانت بعد احتباسه ثلاثا وفي تلك الثلاث كان يصلي بهم أبو بكر كما كان يصلي بهم قبل خرجته الأولى التي خرج فيها بين علي والعباس وتلك كان
8
569(189/412)
يصلي قبلها أياما فكل هذا ثابت في الصحيح كأنك تراه وفي حديث أنس أنه أومأ إلى أبي بكر أن يتقدم فيصلى بهم هذه الصلاة الآخرة التي هي آخر صلاة صلاها المسلمون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهنا باشره بالإشارة اليه إما في الصلاة وإما قبلها وفي أول الأمر أرسل إليه رسلا فأمروه بذلك ولم تكن عائشة هي المبلغة لأمره ولا قالت لأبيها إنه أمره كما زعم هؤلاء الرافضة المفترون فقول هؤلاء الكذابين إن بلالا لما أذن أمرته عائشة أن يقدم أبا بكر كذب واضح لم تأمره عائشة أن يقدم أبا بكر ولا تأمره بشيء ولا أخذ بلال ذلك عنها بل هو الذي آذنه بالصلاة وقال النبي صلى الله عليه وسلم لكل من حضره لبلال وغيره مروا أبا بكر فليصل بالناس فلم يخص عائشة بالخطاب ولا سمع ذلك بلال منها وقوله فلما أفاق سمع التكبير فقال من يصلي بالناس فقالوا أبو فكر فقال أخرجوني فهو كذب ظاهر فإنه قد ثبت بالنصوص المستفيضة التي اتفق أهل العلم بالحديث على صحتها أن أبا بكر صلى بهم أياما قبل خروجه كما صلى بهم أياما بعد خروجه وأنه لم يصل بهم في مرضه غيره ثم يقال من المعلوم المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم مرض
8
570(189/413)
أياما متعددة عجز فيها عن الصلاة بالناس أياما فمن الذي كان يصلي بهم تلك الأيام غير أبي بكر ولم ينقل أحد قط لا صادق ولا كاذب أنه صلى بهم غير أبي بكر لا عمر ولا علي ولا غيرهما وقد صلوا جماعة فعلم أن المصلي بهم كان أبا بكر ومن الممتنع أن يكون الرسول لم يعلم ذلك ولم يستأذنه المسلمون فيه فإن مثل هذا ممتنع عادة وشرعا فعلم أن ذلك كان بإذنه كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة وثبت أنه روجع في ذلك وقيل له لو أمرت غير أبي بكر فلام من من راجعة وجعل ذلك من المنكر الذي أنكره لعلمه بأن المستحق لذلك هو أبو بكر لا غيره كما في الصحيحين عن عائشة قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا لأبي بكر فإني أخاف أن يتمنى متمن أو يقول قائل أنا أولى ويأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر وفي البخاري عن القاسم بن محمد قال قالت عائشة وارأساه فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك فقالت عائشة واثلكتاه والله إني لأظنك تحب موتي فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك فقال النبي صلى الله عليه وسلم وارأساه لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد
8
571(189/414)
أن يقول القائلون أو يتمنى الممتمنون ويدفع الله ويأبى المؤمنون وهذا الحديث الصحيح فيه همه بأن يكتب لأبي بكر كتابا بالخلافة لئلا يقول قائل أنا أولى ثم قال يأبي الله ذلك والمؤمنون فلما علم الرسول أن الله تعالى لا يختار إلا أبا بكر والمؤمنون لا يختارون إلا إياه اكتفى بذلك عن الكتاب فأبعد الله من لا يختار ما اختاره الله ورسوله والمؤمنون وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مرتين في مرضه قال لعائشة ادعي لي أباك وأخاك وقال قبل ذلك لما اشتكت عائشة لقد هممت أن أكتب لأبي بكر كتابا ثم إنه عزم يوم الخميس في مرضه على الكتاب مرة أخرى كما في الصحيحين عن ابن عباس أنه قال يوم الخميس اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم الوجع فقال ائتوني بكتف أكتل لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا ما شأنه هجر استفهموه فذهبوا يردون عليه فقال ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه فأمرهم بثلاث فقال أخرجوا اليهود من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم وسكت عن الثالثة أو قال فنسيتها
8
572(189/415)
وفي رواية في الصحيحين قال وفي البيت رجال فيهم عمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده فقال بعضهم وفي رواية عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبكم كتاب الله فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم ومنهم من يقول ما قال عمر ومنهم من يقول غير ذلك فلما أكثروا اللغط قال قوموا عني قال عبيد الله الراوي عن الزهري قال ابن عباس إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه فحصل لهم شك هل قوله أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده هو مما أوجبه المرض أو هو الحق الذي يجب اتباعه وإذا حصل الشك لهم لم يحصل به المقصود فأمسك عنه وكان لرأفته بالأمة يحب أن يرفع الخلاف بينها ويدعو الله بذلك ولكن قدر الله قد مضى بأنه لا بد من الخلاف كما في الصحيح عنه أنه قال سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم
8
573(189/416)
فيجتاحهم فأعطانيها وسألته أن لا يهلهكم بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ولهذا قال ابن عباس إن الرزية كل الزرية ما حال بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكتاب فإن ذلك رزية في حق من شك في خلافة الصديق وقدح فيها إذ لو كان الكتاب الذي هم به أمضاه لكانت شبهة هذا المرتاب تزول بذلك ويقول خلافته ثبتت بالنص الصريح الجلي فلما لم يوجد هذا كان رزية في حقه من غير تفريط من الله ورسوله بل قد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين وبين الأدلة الكثيرة الدالة على أن الصديق أحق بالخلافة من غيره وأنه المقدم وليست هذه رزية في حق أهل التقوى الذين يهتدون بالقرآن وإنما كانت رزية في حق من في قلبه مرض كما كان نسخ ما نسخه الله وإنزل القرآن وانهزام المسلمين يوم احد وغير ذلك من مصائب الدنيا رزية في حق من في قلبه مرض قال تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله سورة آل عمران وإن كانت هذه الأمور في حق من هداه الله مما يزيدهم الله به علما وإيمانا
8
574(189/417)
وهذا كوجود الشياطين من الجن والإنس يرفع الله به درجات أهل الإيمان بمخالفتهم ومجاهدتهم مع ما في وجودهم من الفتنة لمن أضلوه وأغووه وهذا كقوله تعالى وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا سورة المدثر وقوله وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه سورة البقرة وقول موسى إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء سورة الأعراف وقوله إنا مرسلو الناقة فتنة لهم سورة القمر وقوله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم سورة الحج
8
575(189/418)
فصل وقد تقدم التنبيه على أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة إلى خلافة الصديق ودلهم علها وبين لهم أنه أحق بها من غيره مثل ما أخرجاه في الصحيحين عن جبير بن مطعم أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فأمرها أن ترجع إليه فقالت يا رسول الله أرأيت إن جئت فلم أجدك كأنها تعني الموت قال فإن لم تجديني فأتي أبا بكر والرسول علم أن الله لا يختار غيره والمؤمنون لا يختارون غيره ولذلك قال يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر فكان فيما دلهم به من الدلائل الشرعية وما علم بأن الله سيقدره من الخير الموافق لأمره ورضاه ما يحصل به تمام الحكمة في خلقه وأمره قدرا وشرعا وقد ذكرنا أن ما اختاره الله كان أفضل في حق الأمة من وجوه وأنهم إذا ولوا بعلمهم واختيارهم من علموا أنه الأحق بالولاية عند الله ورسوله كان في ذلك من المصالح الشرعية ما لا يحصل بدون ذلك وبيان الأحكام يحصل تارة بالنص الجلي المؤكده وتارة بالنص
8
576(189/419)
الجلي المجرد وتارة بالنص الذي قد يعرض لبعض الناس فيه شبهة بحسب مشيئة الله وحكمته وذلك كله داخل في البلاغ المبين فإنه من ليس شرط البلاغ المبين أن لا يشكل على أحد فإن هذا لا ينضبط وأذهان الناس وأهواؤهم متفاوتة تفاوتا عظيما وفيهم من يبلغه العلم وفيهم من لا يبلغه إما لتفريطه وإما لعجزه وإنما على الرسول البلاغ المبين البيان الممكن وهذا ولله الحمد قد حصل منه صلى الله عليه وسلم فإنه بلغ البلاغ المبين وترك الأمة على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك وما ترك من شئ يقرب إلى الجنة إلا أمر الخلق به ولا من شئ يقربهم من النار إلا نهاهم عنه فجزاه الله عن أمته أفضل ما جزى نبيا عن أمته وأيضا فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالصلاة بالناس إذا غاب وإقراره إذا حضر قد كان في صحته قبل هذه المرة كما في الصحيحين عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال أتصلي بالناس فأقيم قال نعم فصلى أبو بكر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصلاة فصفق الناس وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة فلما أكثر الناس من التصفيق التفت فرأى رسول الله صلى الله
8
577(189/420)
عليه وسلم فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ثم انصرف فقال يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك فقال أبو بكر ما كان لأبن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مالي أراكم أكثرتم التصفيق من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه وإنما التصفيق للنساء وفي رواية فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرق الصفوف حتى قام عند الصف المقدم وفيها أن أبا بكر رجع القهقرى وفي رواية للبخاري فجاء بلال إلى أبي بكر فقال يا أبا بكر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حبس وقد حانت الصلاة فهل لك أن تؤم الناس فقال نعم إن شئت وفي رواية أيها الناس مالكم حين نابكم شيء في صلاتكم أخذتم في التصفيق إنما التصفيق للنساء من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله فإنه لا يسمعه أحد يقول سبحان الله إلا التفت يا أبا بكر ما منعك أن تصلي بالناس حين أشرت إليك وفي رواية أن تلك الصلاة كانت صلاة العصر وأن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف بعد ما صلى الظهر وفيه فلما أوما إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن أمضه وأومأ بيده هكذا فلبث أبو بكر هنيهة يحمد الله على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مشى القهقري
8
578(189/421)
وفي رواية أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اذهبوا بنا نصلح بينهم وفي رواية فحضرت الصلاة ولم يأت النبي صلى الله عليه وسلم فأذن بالصلاة ولم يأت النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الحديث من أصح حديث على وجه الأرض وهو مما اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول وفيه أن أبا بكر أمهم في مغيب النبي صلى الله عليه وسلم لما حضرت صلاة العصر وهي الوسطى التي أمروا بالمحافظة عليها خصوصا وقد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشغولا ذهب إلى قباء ليصلح بين أهل قباء لما اقتتلوا وقد علموا من سنته أنه يأمرهم في مثل هذه الحال أن يقدموا أحدهم كما قدموا عبد الرحمن بن عوف في غزوة تبوك لصلاة الفجر لما أبطأ النبي صلى الله عليه وسلم حين ذهب هو والمغيرة لقضاء حاجته وكان عليه جبة من صوف وبلال هو المؤذن الذي هو أعلم بذلك من غيره فسأل أبا بكر أن يصلي بهم فصلى بهم لا سيما وقد أمرهم بتقديمه
8
579(189/422)
ففي الصحيحين عن سهل بن سعد قال كان قتال بين بني عمرو بن عوف فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم ليصلح بينه بعد الظهر فقال لبلال إن حضرت الصلاة ولم آتك فمر أبا بكر فليصل بالناس وذكر الحديث ثم لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى إبا بكر أن يتم بهم الصلاة فسلك أبو بكر مسلك الأدب معه وعلم أن أمره أمر إكرام لا أمر إلزام فتأخر تأدبا معه لا معصية لأمره فإذا كان هو صلى الله عليه وسلم يقره في حال صحته وحضوره على إتمام الصلاة بالمسلمين التي شرع فيها ويصلي خلفه صلى الله عليه وسلم كما صلى الفجر خلف عبد الرحمن بن عوف في غزوة تبوك صلى إحدى الركعتين وقضى الأخرى فكيف يظن به أنه في مرضه وإذنه له في الصلاة بالناس حتى يخرج ليمنعه من إمامته بالناس فهذا ونحوه مما يبين أن حال الصديق عند الله وعند رسوله والمؤمنين في غاية المخالفة لما هي عند هؤلاء الرافضة المفترين الكذابين الذين هم ردء المنافقين وإخوان المرتدين والكافرين الذين يوالون أعداء الله ويعادون أولياءه ولا ريب أن أبا بكر وأعوانه وهم أشد الأمة جهادا لللكفار والمنافقين والمرتدين وهم الذين قال الله فيهم فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء سورة المائدة فأعوانه وأولياؤه خير الأمة وأفضلها وهذا أمر معلوم في السلف
8
580(189/423)
والخلف فخيار المهاجرين والأنصار الذين كانوا يقدمونه في المحبة على غيره ويرعون حقه ويدفعون عنه من يؤذيه مثال ذلك أن أمراء الأنصار اثنان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وسعد بن معاذ أفضلهما ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اهتز لموت سعد عرش الرحمن فرحا بقدوم روحه وحمله النبي صلى الله عليه وسلم على كاهله ولما حكم في بني قريظة بحكم لم تأخذه في الله لومة لائم قال له النبي صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات وقد عرف أنه وابن عمه أسيد بن حضير كانا من أعظم أنصار أبي بكر وابنته على أهل الإفك ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح كان أبو بكر رأس المهاجرين عن يمينه وأسيد بن حضير رأس الأنصار عن يساره فإن سعد بن معاذ كان قد توفي عقب الخندق بعد حكمه في بني قريظة وقال أسيد بن حضير لما نزلت آية التيمم ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ما نزل ما تكرهينه إلا جعل الله لك فيه فرجا وجعل المسلمين فيه بركة
8
581(189/424)
وعمر وأبو عبيدة وأمثالهما من خيار المهاجرين وكانا من أعظم أعوان الصديق وهؤلاء أفضل من سعد بن عبادة الذي تخلف عن بيعته وعن القيام على أهل الإفك وعزله عن الإمارة يوم فتح مكة وقد روي أن الجن قتله وإن كان مع ذلك من السابقين الأولين من أهل الجنة وكذلك عمر وعثمان أفضل من علي فإنه لم يكن له في قصة الإفك من نصرة الصديق وفي خلافة أبي بكر من القيام بطاعة الله ورسوله ومعاونته أبو بكر ما كان لغيره والله حكم عدل يجزي الناس بقدر أعمالهم وقد فضل الله النبيين بعضهم على بعض وفضل الرسل على غيرهم وأولو العزم أفضل من سائر الرسل وكذلك فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على غيرهم وكلهم أولياء الله وكلهم في الجنة وقد رفع الله درجات بعضهم على بعض فكل من كان إلى الصديق أقرب من المهاجرين والأنصار كان أفضل فما زال خيار المسلمين مع الصديق قديما وحديثا وذلك لكمال نفسه وإيمانه وكان رضي الله عنه من أعظم المسلمين رعاية لحق قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته فإن كمال محبته للنبي صلى الله عليه وسلم أوجب سراية الحب لأهل بيته إذا كان رعاية
8
582
أهل بيته مما أمر الله ورسوله به وكان الصديق رضي الله عنه يقول ارقبوا محمدا في آل بيته رواه عنه البخاري وقال والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي(189/425)
محمد مال الله
موقف الخميني من أهل السنة
( الجزء الأول )
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً – صلّى الله عليه وسلّم – عبده ورسوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }، { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا }، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}.
وبعد:
نشرت مجلة الأسبوع العربي في عددها 1010 ص26 على لسان الإمام الخميني(1):
"نحن جميعاً أشقاء ولا يجب أن تقوم مشكلة بين الشيعة والسنة، يبقى أن تكون الأقليات الدينية واثقة من أننا لا نريد بها شراً.. وسنتمكن من العيش معاً بحكمة.. وعدل ورضى..".
وعندما قيل أن في إيران خلافاً بين السنة والشيعة وذلك نظراً لاختلاف المذهبين واتساع الهوة بينهما صرح الخميني لمجلة الموقف في عددها 167 ص272 (2):
__________
(1) إيران في المخاض ص147 جعفر حسين نزار – الطبعة الأولى 1980 .
(2) إيران في المخاض ص142 دار التوجيه الإسلامي – ببيروت .(190/1)
"هذه شائعات نكذبها بشدة، إنها صوت يخرج من أبواق الشاه، فليس في إيران ما يسمى بالخلاف السني – الشيعي، هناك مظاهرات تجري داخل المناطق التي تضم أكثرية سنية وهذا دليل وحدة وانسجام بين الشيعة والسنة في إيران، وفي نداء وجهته إلى إخواننا السنة شكرت فيه نضالهم ضد الشاه، السنة إخواننا وسوف يبقون هكذا".
وتمنيت لو أن الخميني في مستوى تصريحاته التي يصرح بها بأن السنة والشيعة أشقاء لا تفرق بينهم مكائد أعداء الإسلام. ولكن التصريحات شيء وكتابات الخميني المسطرة والمطبوعة والمتداولة شيء آخر. وبعد فترة قصيرة من تسلم الخميني زمام الحكم في إيران بعد عودته من منفاه الذي استغرق حوالي 15 سنة أعيد طبع أكثر مؤلفاته القديمة.
ولقد لاقت تصريحات الخميني تأييد أكثر شباب بعض الحركات الإسلامية ذات التاريخ المشرق بل زعمائها. وفور عودة الخميني من فرنسا أرسلت مئات البرقيات المؤيدة للثورة وذهبت وفود تمثل الجماعة. وكالت بعض الصحف الإسلامية المديح للخميني وتؤيده دون تمهل أو روية ولو أنهم كلفوا أنفسهم القراءة أو مجرد الاطلاع على مؤلفات الخميني نفسه لغيروا رأيهم فيه وفي ثورته ولسكبوا حبراً أسوداً على الكلمات التي سطروها عن جهل وأقول عن جهل ولو كان كاتبها من زعماء الحركات الإسلامية فالحق أحق أن يتبع وحبنا لأولئك الأشخاص – والله يعلم مدى حبنا ومودتنا لهم – لا يمنع من الرد عليهم أو مجرد القول لهم: إنكم تسرعتم وأخطأتم في إصدار حكمكم على الثورة وقادتها.
هل يرضى أولئك الزعماء بأن يشبه الخميني الدولة الأموية التي قدمت للإسلام الشيء الكثير ونشرت الإسلام في أرجاء المعمورة بأنها أشد من إسرائيل العنصرية في خطابه الذي ألقاه عام 1383ه ما نصه: وليعلم السادة الخطباء والمبلغون بأن الخطر الذي أحدق اليوم بالإسلام لا يقل عن خطر بني أمية(1).
__________
(1) إيران في المخلصين ص33 .(190/2)
أو أن يصف خلفاء الإسلام ابتداء من أبي بكر إلى هارون الرشيد بالجهل كما قال في كتابه الحكومة الإسلامية ص132: "وها هو التاريخ يحدثنا عن جهال حكموا الناس بغير جدارة ولا لياقة هارون الرشيد، أية ثقافة حازها؟ كذلك من قبله ومن بعده".
ولا أريد الإطالة في سرد المودة التي يكنها الخميني للسنة وخلفائهم وعلمائهم بل غاية ما أتمناه من أولئك الزعماء والشباب الإسلامي أن لا يتسرعوا في تأييد كل من لبس مسوح الإسلام وتشدق به دون النظر إلى عقيدته وخلفيته والإيدلوجية التي يسير عليها ويعمل من أجلها.
وإنني باستعراضي موقف الخميني – هداه الله تعالى – من أهل السنة، لا حباً في النيل منه أو من علماء الشيعة. بل لإيضاح حقيقة الرجل وموقفه منا على ضوء مؤلفاته المنشورة والمرضى عنها والموثوقة لدى أتباعه ومحبيه ومريديه.
فالنقد العلمي الموضوعي المبني على الحقائق لا العواطف الكل ينادي به ولكن قليل من يطبق هذا المنهج.
وأما منهجي في هذه الرسالة البسيطة فإنني اعتمدت على مؤلفات الخميني مع إيراد موقف الفكر الشيعي نفسه من القضية التي أتناولها لنرى هل الخميني يعتقد نفس الاعتقاد أم هو خلاف ذلك ولا أمد الخميني ما لا يعتقده ولا بما لا يقره ولا سوف أكلف نفسي التأويل في كلماته فكلمات الخميني واضحة وذات مدلول واضح لا غبار عليه. وأرجو أن أكون منصفاً في هذه الرسالة. وأنا أرحب بأي نقد سواء كان من إخواننا الشيعة أو من أهل السنة باختصار جميع الفئات المؤيدة للإمام الخميني هداه الله تعالى وأنعم عليه بثوب الصحة.
فمناقشة الأفكار لا تعني الازدراء بها أو تشهير بمعتنقيها فمناقشتي للخميني لا تعني تشهيراً به أو بالفكر الشيعي. ولا أظن أن مناقشة الأفكار محظور يعاقب عليه.(190/3)
ولا نستطيع الحكم على أي فكر أو مذهب بالصحة أو بالبطلان دون القراءة من المصادر المعتمدة والموثوقة لدى أربابها وبمقياس الإسلام نفسه فما وافق الكتاب والسنة فهو حق وأما خلاف ذلك فهو باطل. ولا أظن أن مسلماً يعارضني في هذه القاعدة.
وربما يتهمني البعض بإثارة الطائفية بين السنة والشيعة بنشر هذه الرسالة فأقول لهم: إنني لست من دعاه الطائفية أو من مؤيديها إذا كانت تعني زرع الأحقاد والأضغان بين أهل السنة والشيعة وإذا كانت الطائفية تعني عندكم مناقشة الأفكار المنحرفة وبيان زيفها بموضوعية وخالية من التشهير والقذف فإنني أول الدعاة لها والمؤيدين لها.
فإثارة الطائفية شيء وإظهار الحقائق شيء آخر.. وأرجو أن لا يلتبس هذا الأمر على الدعاة إلى الله. وفقنا الله وإياهم إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكل ما أرجوه من أخي القارئ أن يدعوا لي بحسن الخاتمة وأن يرزقني الله الشهادة في سبيل أنه نعم المولى ونعم النصير.
القاهرة في : 18/1/1982
محمد مال الله
دين السنة ناقص لم يكتمل(190/4)
من اعتقادات الشيعة أن دين أهل السنة ناقص لم يكتمل إلا إذا اعتنقوا مذهب أهل البيت رضوان الله عليهم حيث أنه المكتمل وحده. ولأن الأئمة وحدهم هم الذين استوعبوا جميع أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفهموا كتاب الله تعالى لأن له ظاهراً وباطناً ويستدلون بقول الله تعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } ومن يطلع على تفاسير الشيعة الإثني عشرية يجد تفسير "والراسخون في العلم" هم الأئمة المعصومون أولهم حقيقة وآخرهم خرافة. هذا هو اعتقاد الشيعة الإثني عشرية في دين أهل السنة. فيا ترى هل الخميني يوافقهم على هذا الاعتقاد أم أنه خلاف ذلك فإننا لا نحمل الخميني ما لا يعتقده ولا هو مما ليس مذكور في كتابه؟ نعم الخميني يعتقد هذا الاعتقاد فقد ذكر في رسالته "التعادل والترجيح" ص26 وهي مطبوعة ضمن الجزء الثاني من رسائله طبع المطبعة العلمية بقم ربيع الأول 1385ه مع تذييلات لمجتبى الطهراني:
"والذي يمكن أن يقال: أن علل اختلاف الأحكام بين العامة(1) والخاصة(2) واختفائها عن العامة وتأخير المخصصات كثيرة منها: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإن بلغ جميع الأحكام الكلية على الأمة لكن لما لم يكن دواعي الحفظ في صدر الشريعة وأول بدء الإسلام قوية".
فالخميني دام ظله يرى أن السبب الأول في نقصان دين أهل السنة: أن الصحابة عدا علياً لم يكونوا على استعداد لحفظ الأحكام الإسلامية لأنهم ما صحبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا من أجل الدنيا لا من أجل الدين ونشره وهذا ما تقوله الشيعة(3) ولأن نفوسهم متعلقة بالدنيا فلا يكلفون أنفسهم العناء بحفظ وفهم الشريعة وإلا فما معنى قوله "لم يكن دواعي الحفظ قوية".
__________
(1) أهل السنة .
(2) الشيعة .
(3) انظر فصل "الشيعة والصحابة" من كتابنا "حقيقة الشيعة والتشيع" وكتابنا "عقيدة الشيعة في الصحابة".(190/5)
والسبب الثاني عند الخميني: أن الأحكام جميعها لم تضبط(1) إلا من قبل الإمام علي رضي الله عنه وبطانة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومن هم بطانته؟ غير الصحابة بما فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم هذا في نظر أهل السنة وأما عند الشيعة فهم النفر الذين لم يرتدوا بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما فيهم سلمان والمقداد رضي الله عنهما. فيقول الخميني ص26 من رسالته: لم تضبط جميعها بخصوصياتها إلا من هو بطانته وأهل بيته ولم يكن في الأمة من هو أشد اهتماماً وأقوى ضبطاً من أمير المؤمنين عليه السلام؟ فهو لشدة اهتمامه ضبط جميع الأحكام وتمام خصوصيات الكتاب الإلهي تفسيرها وتأويلها وما كانت دخيلة في فهم آيات الكتاب وضوابط السنن النبوية.
والسبب الثالث عند الخميني وهو أخطرها هو اختلاف القرآن الموجود بين أيدي أهل السنة وهو المصحف المتداول بيننا في العصر الحاضر وبين مصحف علي رضي الله عنه الذي جمعه وأراد تبليغه إلى الناس فيقول ص26:
ولعل القرآن الذي جمعه وأراد تبليغه على الناس بعد رسول الله هو القرآن الكريم مع جميع الخصوصيات الدخيلة في فهمه المضبوطة عنده بتعليم رسول الله.
__________
(1) خالية من التحريف والحذف فإن الشيعة تعتقد أن الصحابة حذفوا من القرآن الكريم فضائحهم انظر كتابنا "الشيعة والقرآن".(190/6)
إن الخميني لا يجرؤ أن يبين لنا ما هو القرآن الذي جمعه علي رضي الله عنه وهل هو المصحف أي الموجود بيننا أم أن هناك قرآناً آخر. ولكن قوله: "ولعل القرآن الذي جمعه وأراد تبليغه على الناس" إشارة واضحة ويقينية عند الخميني إلى ما رواه الطبرسي في كتاب الاحتجاج(1): في جملة احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام مع جماعة من المهاجرين والأنصار: أن طلحة قال له عليه السلام في جملة مسائلة عنه: يا أبا الحسن شيء أريد أن أسألك عنه، رأيتك خرجت بثوب مختوم فقلت: أيها الناس لم أزل مشتغلاً برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بغسله وكفنه ثم اشتغلت بكتاب الله حتى جمعته، فهذا كتاب الله عندي مجموعاً، لم يسقط عني حرف واحد. ولم أرد ذلك الذي كتبت وألفت. وقدر رأيت عمر بعث إليك: أن أبعث به إلى. فأبيت أن تفعل. فدعا عمر الناس فإذا شهد رجلان على آية كتبها وإن لم يشهد عليها غير رجل واحد أرجاها فلم يكتب. فقال عمر: وأنا أسمع: أنه قتل يوم اليمامة قوم كانوا يقرؤون قرآناً لا يقرأه غيرهم فقد ذهب وقد جاءت شاة إلى صحيفة وكتاب يكتبون فأكلتها وذهب ما فيها. والكاتب يومئذ عثمان.. وسمعت عمر وأصحابه الذين ألفوا ما كتبوا على عهد عمر وعلى عهد عثمان يقولون: أن الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة وأن النور نيف ومائة آية. فما هذا؟ وما يمنعك يرحمك الله أن تخرج كتاب الله إلى الناس وقد عمد عثمان حين أخذ ما ألف عمر فجمع له الكتاب وحمل الناس على قراءة واحدة فمزق مصحف أبي بن كعب وابن مسعود(2) وأحرقهما بالنار. فقال له علي: يا طلحة إن كل آية أنزلها الله عز وجل على محمد صلّى الله عليه وسلّم وكل حلال وحرام أو حد أو حكم أو شيء تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة
__________
(1) نقلاً عن تفسير الصافي للفيض الكاشاني 1/15 طبع طهران 1374ه وانظر كتابنا "الشيعة والقرآن".
(2) انظر كتابنا "مفتريات الشعية على عثمان" من سلسلة "مفتريات الشيعة على الصحابة والرد عليها".(190/7)
مكتوب بإملاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وخط يدي حتى أرش الخدش. قال طلحة: كل شيء من صغير أو كبير أو خاص أو عام كان أو يكون إلى يوم القيامة فهو عندك مكتوب؟ قال: نعم وسوى ذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسر إلي في مرضه مفتاح ألف باب من العلم يفتح كل باب ألف باب ولو أن الأمة منذ قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم اتبعوني وأطاعوني لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. وساق الحديث إلى أن قال: فقال طلحة: لا أريك يا أبا الحسن أجبتني عما سألتك عنه من أمر القرآن ألا تظهره للناس؟ قال! يا طلحة عمداً كففت عن جوابك. فخبرني عما كتب عمر وعثمان أقرآن كله أم فيه ليس بقرآن؟ قال طلحة: بل قرآن كله. قال إن أخذتم بما فيه(1) نجوتم من النار ودخلتم الجنة. فإن فيه حجتنا وبيان حقنا وفرض طاعتنا. قال طلحة: حسبي أما إذا كان قرآناً فحسبي. ثم قال طلحة: فأخبرني عما في يديك من القرآن وتأويله وعلم الحلال والحرام إلى من تدفعه ومن صاحبه بعدك؟ قال عليه السلام: إن الذي أمرني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن أدفعه إليه وصيي وأولى الناس من بعدي بالناس ابني الحسن ثم يدفعه إلى ابني الحسين ثم يصير إلى واحد بعد واحد من ولد الحسين حتى يرد آخرهم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حوضه مع القرآن لا يفارقونه والقرآن لا يفارقهم إلا أن معاوية وابنه سيليانها بعد عثمان ثم يليها سبعة من ولد الحكم بن أبي العاص واحداً بعد واحد تكملة اثني عشر إمام ضلالة وهو الذي رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على منبره يردون الأمة على أدبارهم القهقرى منهم من بني أمية ورجلان(2) أسسا ذلك(3) لهم وعليهما مثل جميع أوزار هذه الأمة إلى يوم القيامة.
__________
(1) أي القرآن الذي جمعه الإمام علي رضي الله عنه.
(2) يقصد أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
(3) اغتصاب الخلافة والإمامة من الأئمة المعصومين.(190/8)
وأيضاً ما ذكره الكاشاني في تفسري 1/27: وفي رواية أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه لما توفي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جمع علي عليه السلام القرآن وجاء به إلى المهاجرين والأنصار لما قد أوصاه بذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فلما فتحه أبو بكر خرج في أول صفحة فتحها فضائح القوم(1) فوثب عمر قال: يا علي اردده فلا حاجة لنا فيه. فأخذه علي عليه السلام وانصرف. ثم أحضر زيد بن ثابت وكان قارئاً للقرآن فقال له عمر: إن علياً – عليه السلام – جاءنا بالقرآن وفيه فضايح المهاجرين والأنصار وقد أردنا أن تؤلف لنا القرآن وتسقط منه ما كان فيه فضيحة وهتك المهاجرين والأنصار(2). فأجابه زيد إلى ذلك. ثم قال: إذا فرغت من القرآن على ما سألتم وأظهر علي القرآن الذي ألفه أليس قد بطل كل ما زعمتم؟ فقال عمر: فما الحيلة؟ قال زيد: أنتم أعلم بالحيلة. فقال عمر: ما الحيلة دون أن نقتله ونستريح منه. فدبر في قتله على يد خالد بن الوليد فلم يقدر على ذلك. ولما استخلف عمر سأل علياً أن يدفع إليهم القرآن فيحرفوه فيما بينهم. فقالك يا أبا الحسن إن كنت جئت به إلى أبي بكر فأت به إلينا حتى نجتمع عليه. فقال علي عليه السلام هيهات ليس إلى ذلك سبيل إنما جئت به إلى أبي بكر لتقوم الحجة عليكم وتقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا ما جئتنا به. إن القرآن الذي عندي لا يمسه إلا المطهرون والأوصياء من ولدي. فقال عمر: فهل وقت لإظهاره معلوم؟ قال علي عليه السلام: نعم إذا قام القائم من ولدي(3) يظهره ويحمل الناس عليه فتجرى السنة به(4)
__________
(1) أي المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم.
(2) معنى هذا أن عند زيد رضي الله عنه نسخة من قرآن علي الذي جمعه والشيعة تدعي أن علي وحده هو الذي عنده القرآن الصحيح. فما هو تفسير الإمام دام ظله فإن عقلي لا يتسع لمثل هذه التناقضات.
(3) ولا أظنه يقوم لأنه لم يخلق.
(4) سؤال أوجهه إلى فضيلة الإمام وإلى كل الشيعة في العالم: هل القائم الخرافة خير من الأئمة المعصومين الباقين لينال هذا الشرف العظيم.(190/9)
.
فهذا القرآن الذي يقصده الخميني ولكن لا يجرؤ على الإفصاح به لكيلا يتهم أنه من الذين يرون تحريف القرآن.
ويمضي الخميني دام ظله في سرد علل الاختلاف بين العامة والخاصة أو بمعنى أدق بين السنة والشيعة ويكرر أن سبب استئثار علي رضي الله عنه بالعلم كله من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه من أكثر القوم اهتماماً بذلك فيقول ص26-27:
"وبالجملة إن رسول الله وإن بلغ الأحكام حتى أرش الخدش لكن لم يفت منه شيء من الأحكام وضبط جميعها كتاباً وسنة هو أمير المؤمنين عليه السلام في حين فات من القوم الكثير منها لقلة اهتمامهم بذلك ويدل على ما ذكر من الروايات". فالخميني يؤكد للمرة الثانية بأن الصحابة رضوان الله عليهم لم يهتموا بالأحكام وذلك راجع إلى الأساس الذي قام عليه من الصحبة ألا وهو حب الدنيا وعدم الاهتمام بالدين.
والسبب الرابع عند الخميني أن الأئمة يمتازون على سائر البشر في فهم الكتاب والسنة وأنهم كذلك مشرعون إذ كلام المعصوم بمنزلة حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيف لا وأن للأئمة مقاماً لا يقربه ملك مقرب ولا نبي مرسل وأن لهم حالات مع الله لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل(1).
__________
(1) انظر الحكومة الإسلامية للخميني ص52 .(190/10)
فيقول ص27: ومنها أن الأئمة عليهم السلام لامتيازهم الذاتي(1) من ساير الناس في فهم الكتاب والسنة بعد امتيازهم منهم في سائر الكمالات(2) فهموا جميع التفريعات المتفرعة على الأصول الكلية التي شرعها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ونزل بها الكتاب الإلهي ففتح لهم من كل باب فتحة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للأمة ألف باب حين كون غيرهم قاصرين(3) فعلم الكتاب والسنة وما يتفرع عليهما من شعب العلم ونكت التنزيل موروث لهم خلفاً عن سلف وغيرهم محرومون(4) بحسب نقصانهم عن هذا العلم الكثير النافع فيعولون على اجتهادهم الناقص من غير ضبط الكتاب والسنة تأويلاً وتنزيلاً ومن غير الرجوع إلى من رزقه الله تعالى علمهما وخصه به فترى آية واحدة كآية الوضوء كيف اختلافهم مع غيرهم وقس على ذلك، وهذا باب واسع يرد إليه نوع الاختلافات الواقعة في الأمة ولقد أشار إلى ما ذكرنا كثير من الروايات في الأبواب المختلفة. فالصوارف التي في لسانهم عليهم السلام يمكن صدور كثير منها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم منفصلاً عن العمومات والمطلقات ولم يضبطها على ما هي إلا خازن علمه أمير المؤمنين وأودعها إلى الأئمة عليهم السلام وإنما آخر البيان إلى زمنين الصادقين عليهما السلام لابتلاء ساير الأئمة المتقدمين عليهما ببليات كثيرة سد عليهم لأجلها بين الأحكام كما يشهد به التاريخ(5)
__________
(1) وذلك لأن الأئمة مخلوقون من طينة غير طينة البشر وكذلك شيعتهم انظر فصل "شعب الله المختار" من كتابنا "حقيقة الشيعة والتشيع".
(2) راجع كتابنا "عقيدة الشيعة في الأئمة".
(3) يقصد الصحابة وعلماء أهل السنة جميعهم.
(4) أهل السنة وعلمائهم.
(5) يقصد الخميني دام ظله أن المصائب والمحن التي أصابت الأئمة السابقين حالت دون تبليغ الناس كافة الأحكام التي نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى افتراض أن ذلك صحيح فهل هذا مبرر لإخفاء الأحكام عن الخلق وكيف لا يتأسوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد لاقى عليه السلام من المحن والمصائب ما يفوق مصائب ومحن الأئمة فما فتر عن تبليغ الخلق أحكام ربهم عز وجل لا أن يكتموا العلم ويدعوه الجهل يتفشى بين الناس.. والذي أستطيع أن أجزم به أن ما يتشدق به الشيعة بأن الخلفاء المسلمين اضطهدوا الأئمة على حد زعمهم – غير صحيح وكيف يقف الخلفاء في وجه من يريد أن يعلم الرعية أحكام دينهم فما بالك إذا كانوا من أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وسلّم).(190/11)
فلما بلغ زمانهما اتسع لهما المجال في برهة من الزمان فاجتمع العلماء والمحدثون عليهما فانتشرت الأحكام وانبعثت البركات ولو اتسع المجال لغيرهما ما اتسع لهما لصارت الأحكام منتشرة قبلهما. اه.
وإنني أستأذن سماحته دام ظله في أن أقول له: يا صاحب السماحة ويا آية الله العظمى كل ما ذكرته فيه نظر والذي فاتك أن لكم إلهاً غير إلهنا ورسولاً غير رسولنا صلّى الله عليه وسلّم وهذا القول ليس الذي أنا قائله ولكن قائله نعمة الله الجزائري(1) حيث قال: "أنا لم نجتمع معهم على إله ولا على نبي ولا على إمام. وذلك أنهم يقولون: أن ربهم هو الذي كان محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم نبيه وخليفته بعده أبو بكر ونحن لا نقول بهذا الرب ولا بذلك النبي، أن الرب الذي خليفة نبيه أبو بكر ليس ربنا ولا ذلك النبي نبينا" فما قول الإمام دام ظله فيقول الجزائري وقد وثقه كثير من علماء الشيعة منهم الحر العاملي في كتابه "أمل الأمل" ومحمد باقر الخونساري في كتابه "روضات الجنات" والقمي في كتابه "الكنى والألقاب" وكتابيه "الفوائد الرضوية" و "سفينة البحار" والمدرس التبريزي في كتابه "ريحانة الأدب" وغير ذلك من العلماء الذين ويثقوه ولا أظن الخميني يطعن في شهادتهم بتعديلهم الجزائري. فالاختلاف دام ظلكم اختلاف الإله والرسول فقط لا غير.
مخالفة أهل السنة واجبة عند الشيعة
من الأمور المسلم بها عند الشيعة مخالفة أهل السنة من كل شيء حتى في الأخبار حتى أن مقياس صحة الخبر عندهم هو مخالفة خبرهم لخبر أهل السنة وربما يتعجب أخي القارئ مما أذكره ويقول كيف هذا؟ وما العلة في هذه المخالفة؟ فالجواب نجده عند الخميني ص82 من رسالته "التعادل والترجيح" فيقول دام ظله:
__________
(1) في كتابه الأنوار النعمانية 1/278-279 طبع تبريز 1382ه بتحقيق محمد علي القاضي الطباطبائي.(190/12)
ومنها بإسناده عن أبي إسحاق الأرجاني رفعه قال: قال أبو عبد الله: أتدري لم أمرتم بخلاف ما تقول العامة؟ فقلت: لا أدري. فقال: إن علياً لم يكن يدين لله بدين إلا خالف عليه الأمة إلى غيره إرادة لإبطال أمره وكانوا يسألون أمير المؤمنين عن الشيء لا يعلمونه فإذا أفتاهم جعلوا له ضداً من عندهم ليلتبسوا على الناس.
فالسبب في مخالفة أهل السنة عند الخميني وغيره من الشيعة أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسألون الإمام علي رضي الله عنه عن مسائل فإذا عرفوها وضعوا ما يقابلها وينقضها فمن أجل ذلك الشيعة دائماً تخالف أهل السنة في كل شيء وذلك انتقاماً لعلي رضي الله عنه.
والخميني لا يقول بمخالفة أهل السنة سدى بل استند إلى وجوب المخالفة بأدلة من مذهبه فتجده ص80-81 فيقول:
البحث الثاني في حال الأخبار الواردة في مخالفة العامة وهي أيضاً طائفتان:
أحديهما: ما وردت في خصوص الخبرين المتعارضين.
وثانيتهما: ما يظهر منها لزوم مخالفتهم وترك الخبر الموافق لهم مطلقاً.
فمن الأولى:
مصححة عبد الرحمن بن أبي عبد الله وفيها: فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه.
وعن رسالة القطب أيضاً بسند فيه إرسال عن الحسن ابن الري قال: قال أبو عبد الله عليه السلام:
إذا ورد عليكم حديثان مختلفات فخذوا بما خالف القوم.(190/13)
وعنها بإسناده عن الحسن بن الجهم قال: قلت للعبد الصالح(1): هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلا التسليم لكم؟ فقال: لا والله لا يسعكم إلا التسليم لنا. فقلت: فيروى عن أبي عبد الله عليه السلام شيء ويروى عنه خلافه فأيهما نأخذ؟ فقال: خذ بما خالف القوم وما وافق القوم فاجتنبه.
وبسنده عن محمد بن عبد الله قال: قلت الرضا عليه السلام: كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ قال: إذا ورد عليكم خبران مختلفات فانظروا إلى ما يخالف العامة فخذوه وانظروا إلى ما يوافق أخبارهم فدعوه.
ومنها ما عن الطبرسي عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام قلت: يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا عنه. قال: لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله. قلت: لابد أن نعمل بواحد منهما. قال: خذ بما فيه خلاف العامة.
__________
(1) هو أحد الأئمة المعصومين ويعبر عنه بعدة تسميات وذلك من متطلبات التقية وقال الملا محسن بالملقب بالفيض في كتابه "المستطاب الوافي" 1/7 طبع 1313ه: قد يعبر عن المعصوم عليه السلام بالعالم والفقيه والشيخ والعبد الصالح والرجل والماضي وغير ذلك للتقية وشدة الزمان المانعة بالتصريح بالاسم أو الكنية ويعرف ذلك بقرينة الراوي وأكثر ما يكون ذلك في أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام وقد يعبر عن الإمام باسم مشترك كمحمد بن علي أو كنية مشتركة كأبي جعفر وأبي الحسن ويعرف ذلك أيضاً بقرينة الراوي وطبقته وكلما قيل أو الحسن الأول والماضي فالمراد به الكاظم عليه السلام أو الثاني فالرضا عليه السلام أو الثالث أو الأخير فالهادي عليه السلام وإذا قيل أبو جعفر الأول فالباقر عليه السلام أو الثاني فالجواد وأبو عبد الله فالصادق عليهم السلام. انظر كتابنا "الشيعة والحديث".(190/14)
ومنها ذيل المقبولة المتقدمة: إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة فوجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة والآخر مخالفاً. بأي الخبرين يؤخذ؟ قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد.
وعلق الخميني على الروايات السابقة فقال ص82 من رسالته "التعادل والترجيح":
ولا يخفى وضوح دلالة هذه الأخبار على أن مخالفة العامة مرجحة في الخبرين المتعارضين مع اعتبار سند بعضهما بل صحة بعضها على الظاهر واشتهار مضمونها بين الأصحاب بل هذا المرجح هو المتداول العام الشائع في جميع أبواب الفقه وألسنة الفقهاء.
فباختصار مخالفة أهل السنة واجبة في كل شيء. لو أن هذا الكلام صادر من جاهل لعذرناه أما أن يصدر من رجل بارز مثل الخميني دائم التصريح بوجوب لم الشمل بين السنة والشيعة(1).
ولا أحسب أن رجلاً مثل الخميني دام ظله يجهل خطورة هذا الكلام. ولا أظنه يجهل أن هناك معاييراً وشروطاً لقبول الحديث أو رفضه(2).
الذي ذكرناه ما يخص المرويات فأما الفتيا فحدث ولا حرج فهذا الخميني يقول ص82 من رسالته السابقة: ومن الطائفة الثانية ما عن العيون بإسناده عن علي بن أسباط قال: قلت للرضا عليه السلام: يحدث الأمر لا أجد بداً من معرفته وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك قال: ائت فقيه البلد فاستفته من أمرك فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه فإن الحق فيه.
وعلق الخميني على الرواية فقال: موردها صورة الاضطرار وعدم طريق إلى الواقع فأرشده إلى طريق يرجع إليه لدى سد الطرق.
__________
(1) انظر كتابنا "موقف الشيعة من أهل السنة".
(2) انظر كتابنا "الشيعة والحديث".(190/15)
فالخميني دام ظله يرى أن الشيعي إذا عاش في بلد سني وأراد أن يعرف حكم مسألة ما فما عليه إلا أن يسأل عالماً سنياً ويأخذ بخلاف ما قال. وهل هذه الطريقة طريقة سليمة لمعرفة أحكام الدين؟ يا صاحب السماحة لم هذا التحامل والحقد تجاه أهل السنة. واسمح لي أن أقول لك أن هذا الكلام قد تترجم على أيدي سماحتكم فور تسلم الحكم في إيران. وإقليم عربستان خير شاهد على صدق كلامنا بعد أن قام البطل الصنديد الأميرال أحمد مدني بتقتيل أهالي الإقليم مجرد المطالبة بالحكم الذاتي في حين قوميات أخرى نادت بنفس المطلب دون أن ينالها ما نال أهالي إقليم عربستان. وأن الاستفزازات تجاه دول الخليج العربي وضرب صحراء العبدلي بالكويت الشقيق وبضرورة استرجاع دولة البحرين وجعلها تحت النفوذ الإيراني وعدم إعادة الجزر الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى التابعة لدولة الإمارات العربية المتحدة كل ذلك ما هو إلا ترجمة عملية للمودة التي يكنها النظام القائم في إيران لأشقائه أهل السنة في الدول المجاورة وما حرب إيران ضد العراق الشقيق ببعيد عن ذلك المخطط الرهيب الذي من أول وأهم أهدافه تمكين الأخطبوط الشيعي من الاستيلاء على تلك المناطق وتحويل أهلها إلى شيعة. ولقد أوجزت إحدى الصحف العربية تلك الأعمال التي يقوم بها النظام الإيراني بأنها "دغدغة العقد الشخصية عند بعض القادة الإيرانيين"(1)
__________
(1) علقت إحدى الصحف العربية في افتتاحيتها حول أعمال العنف التي قام بها النظام الإيراني في إقليم عربستان فقالت: عندما قامت الثورة الإيرانية كان طبيعياً أن تنهض كل الشعوب الإيرانية التي اضطهدت في عهد الشاه، مطالبة بحريتها وحقوقها. وما طالب به العرب في عربستان لم يزد على أن يكون مجرد حقوق ثقافية وإدارية وكان أقل بكثير مما طالبت به القوميات الأخرى. وكانت أساليبهم في التعبير أساليباً سلمية في حين رفع الآخرون السلام وأعلنوا العصيان. ولكن الغريب أن السلطات الإيرانية جابهت مطالب العرب البسيطة والمشروعة وأساليبهم السلمية بالعنف وحمام الدم والتعصب العرقي والانفعال فقتلت وجرحت المئات وأنكرت عليهم أي حق من الحقوق التي طالبوا بها. بل زورت حتى أنسابهم.
ومن الغريب حقاً أن ترتكب مثل هذه المجازر الوحشية، وأن تسود هذه العرقية في التعامل مع العرب دون أن يرتفع أي صوت من جانب الحاكمين من رجال الدين ضد السلطات المحلية في عربستان. وكأن الأمر طبيعي ومطلوب. وقد تم هذا في ظل "ثورة" تقول صباح مساء بأنها قامت من أجل العدل وإحقاق الحق والمساواة بين المسلمين" اه وماذا ينتظر من سدنة الطغمة الحاكمة في إيران أكثر من هذا. وأن إقليم عربستان حظي بجزاء سنمار. فاللهم إليك المشتكى.(190/16)
.
والخميني يرى أنه إذا صدرت من المعصوم فتوى توافق فتوى أهل السنة ففتياه تقية لأن الخميني يعلم تمام العلم بأن السنة والشيعة يسيران في خطين متوازيين لا يمكن اللقاء بينهما إلا إذا انسلخ الطرف الآخر من عقيدته واعتنق عقيدة الآخر فيقول دام له ص82 من رسالته السابقة ومنها عن الشيخ بإسناده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله قال: ما سمعته مني يشبه قول الناس فيه التقية، وما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه".
وعلق الخميني على الرواية فقال: لا يبعد أن يكون مراده من شباهة قول الناس هي الشباهة في آرائهم وأهوائهم كالقول بالجبر والقياس والفتاوى الباطلة المعروفة منهم كالقول بالعول والتعصيب.
وعند الخميني لا يتم إيمان الشيعي إلا إذا خالف أهل السنة ومن لم يكن كذلك فهو ناقص الإيمان فيقول ص82 من رسالته السابقة:
"وأما قوله في رواية "شيعتنا المسلمون لأمرنا الآخرون بقولنا المخالفون لأعدائنا فمن لم يكن كذلك فليس منا" وقوله في رواية أخرى "ما أنتم والله على شيء مما هم فيه ولا هم على شيء مما أنتم فيه فخالفوهم فما هم من الحنيفية على شيء" فالظاهر منهما المخالفة في عقائدهم وفي أمر الإمامة وما يرتبط بها.
فالخميني يرى أننا على دين غير دين الإسلام وبالتالي كل إنسان ليس على دين الإسلام فهو كافر ولا يستطيع أن يعلن الخميني صراحة بكفر أهل السنة ولكن يأتي بأساليب وكلمات ملتوية تفي بالغرض الذي ينطق به. ولماذا إصرار الخميني على مخالفة أهل السنة في عقائدهم وفي أمر الإمامة بالذات؟ مع أنه يصرح دائماً بأن لا وجود لاختلافات عقائدية بين السنة والشيعة.
والأدهى من ذلك أن يرى الخميني أن إقبال أهل السنة على أي شيء سواء كان عبادة أو غير ذلك إنما إقبالهم على باطل فيقول ص83:(190/17)
"وأما قوله في صحيحة إسماعيل بن بزيع "إذا رأيت الناس يقبلون على شيء فاجتنبه" يدل على أن إقبالهم على شيء وإصرارهم به يدل على بطلانه. وعلى أي حال لا إشكال في أن مخالفة العامة من مرجحات باب التعارض.
أن تمسك أهل السنة بكتاب الله تعالى وتلاوته والعمل بما فيه باطل عند الخميني وأن الإقرار بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم والعمل بسنته باطل عند الخميني فما أبقى الخميني لأهل السنة فما بقي إلا أن يقول لنا صراحة إذا كنتم ترغبون في النجاة يوم القيامة والدخول في جنة الله تعالى فما عليكم إلا أن تنبذوا دينكم الذي أنتم عليه وتعتنقوا مذهب التشيع. وهذا هو الثمن والثمرة من وراء التقريب بين السنة والشيعة. وإني لأسف أن يكون الخميني بهذه العقلية المغلقة المتزمتة. لكن الدارس لعقيدة الخميني لا يتعجب أن يصدر منه هذا الكلام فكل إناء بالذي فيه ينضح.
ثم يأتي الخميني إلى خلاصة جميع ما ذكره فيقول ص83:
فتحصل من جميع ما ذكرنا من أول البحث إلى هنا أن المرجع المنصوص ينحصر في أمرين:
موافقة الكتاب والسنة ومخالفة العامة:
ويقول ص91 من رسالته:
"قد اتضح أن المرجح المنصوص منحصر في موافقة الكتاب ومخالفة العامة فكل واحد منهما يمكن أن يكون ثبوتاً مرجحاً لأجل الصدور أو لجهته ويمكن أن يكون كل لجهته".
لم يبين لنا الإمام ما هو الكتاب – ولا أظنه يجرؤ بأن يقول هو القرآن الذي جمعه علي رضي الله عنه هو المقصود وأما القرآن الموجود بأيدي السنة فليس بقرآن صحيح بل هو ناقص – وما هي السنة. هل هي أقوال الرسول صلّى الله عليه وسلّم الصحيحة أم أكاذيب زرارة وغيره من رواة الشيعة ثم الخميني يرى أن مخالفة أهل السنة بمنزلة القرآن والسنة وهل يريد دعاة التقريب بين المذاهب أكثر من هذا التصريح أم يا ترى القمي مازال لديه الوقت لخداع أهل السنة.
فيا أعضاء جمعية التقريب من أهل السنة احذروا الألاعيب وأفيقوا من غفلتكم.
الخميني ونكاح أهل السنة(190/18)
لا يجوز للشيعي أن يتزوج من سنية أو يزوج سنياً ولست ألقي الكلام على عواهنه وكتب الشيعة طافحة بهذا.
ففي صحيحة عبد الله بن سنان في الكافي والتهذيب قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الناصب وعداوته هل يزوجه المؤمن وهو قادر على رده وهو لا يعلم؟ يرده؟ قال: لا يتزوج المؤمن ولا يتزوج الناصب مؤمنة، ولا يتزوج المستضعف مؤمنة(1).
وخبر الفضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن لامرأتي أختار عارفة على رأينا وليس على رأينا بالبصرة إلا قليل، "أما زوجها بمن لا يرى رأيها؟ قال: لا، ولا نعمة إن الله عز وجل يقول "فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم، ولا هم يحلون لهن" "(2).
وموثقته قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام: النكاح الناصب. فقال: لا والله لا يحل. قال فضيل ثم سألته مرة أخرى وقلت: جعلت فداك ما تقول في نكاحهم؟ قال: والمرأة عارفة؟ قلت عارفة. قال: إن العارفة ألا توضع إلا عند عارف(3).
وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سأله أبي وأنا أسمع عن نكاح اليهودية والنصرانية؟ فقال: نكاحهما أحب إلي من نكاح الناصبية(4).
وخبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أتزوج اليهودية أفضل أو قال: خير من أتزوج الناصبية(5).
__________
(1) المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية للشيخ حسين العصفور ص154-155 الطبعة الأولى 1979 مراجعة الدكتور حبيب عبد الكريم المرتضى منشورات دار المشرق العربي الكبير ببيروت وهو الكتاب الأول من مطبوعات جمعية أهل البيت لتحقيق وطبع ونشر التراث الإسلامي بالبحرين. وعندما انتبه أهل السنة بالبحرين لهذا الكتاب أخفاه الشيعة وأصبح نادراً وشاء الله تعالى أن أحصل على نسخة منه بواسطة أحد الأخوة.
(2) المصدر السابق ص155 .
(3) المصدر السابق ص155 .
(4) المصدر السابق ص155 .
(5) المصدر السابق ص155 .(190/19)
وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام: أنه أتاه قوم من أهل خراسان من وراء النهر فقال لهم: تصافحون أهل بلادكم التناكحونهم؟ أما إنكم إذا صافحتموهم انقطعت عروة من عرى الإسلام وإذا ناكحتموهم انهتك الحجاب بينكم وبين الله عز وجل(1).
وخبر سليمان الحمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا ينبغي للرجل منكم أن يتزوج الناصبية ولا يزوج ابنته ناصبياً ولا يطرحهما عنده(2).
__________
(1) المصدر السابق ص155 .
(2) المصدر السابق ص155-156 .(190/20)
والأدهى من ذلك أن الشيعة تزعم أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) تزوج أم كلثوم بنت علي (رضي الله عنه) بالإكراه وذلك عندما هدد العباس (رضي الله عنه) إن لم يزوجه بأم كلثوم بقتل علي (رضي الله عنه) وأن علياً (رضي الله عنه) زوجه على سبيل التقية فقد ذكر نعمة الله الجزائري في كتابه الأنوار النعمانية 1/80 ذلك فقال: إنما الإشكال في تزويج علي عليه السلام أم كلثوم لعمر بن الخطاب وقت تخلفه لنه قد ظهرت منه المناكير وارتد عن الدين ارتداداً أعظم من كل من ارتد، حتى أنه وردت في روايات الخاصة(1) أن الشيطان يغل بسبعين غلاً من حديد جهنم ويساق إلى المحشر فينظر ويرى رجلاً أمامه تقوده ملائكة العذاب وفي عنقه مائة وعشرون غلاً من أغلال جهنم فيدنو الشيطان إليه ويقول: ما فعل الشقي حتى زاد علي في العذاب وأنا أغويت الخلق وأوردتهم موارد الهلاك؟ فيقول للشيطان: ما فعلت شيئاً سوى أنني غصبت خلافة علي بن أبي طالب. والظاهر أنه قد استقل سبب شقاوته ومزيد عذابه ولم يعلم أن كل ما وقع في الدنيا إلى يوم القيامة من الكفر والنفاق واستيلاء أهل الجور والظلم إنما هو من فعلته هذه(2)
__________
(1) أي في روايات الشيعة فإنهم هم الخاصة وأما أهل السنة فإنهم يعرفون عند الشيعة بـ"العامة".
(2) لم تكتف الشيعة بوضع تلك الرواية بل تعدى ذلك إلى أن يحتفلوا بمقتل الفاروق رضوان الله عليه فقد ذكر الجزائري في كتابه الأنوار النعمانية 1/108 ذلك الاحتفال المهيب فقال لا بارك الله فيه ولا في أمثاله من المجوس: تحت عنوان "نور سماوي يكشف عن ثواب يوم قتل عمر بن الخطاب" رويناه من كتاب الشيخ الإمام العالي أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (هذا الشيخ ليس ابن جرير الطبري من أهل السنة صاحب التفسير والتاريخ وإنما هو محمد بن جرير بن رستم الشيعي وإنما لم يبين المؤلف الفرق بينه وبين ابن جرير السني تدليساً على العوام ليوهمهم بأنه هو. وللروافض خبث في هذا الميدان لم يسبقهم إليه أحد وللمزيد انظر كتابنا "الشيعة والحديث" قال: المقتل الثاني يوم التاسع من شهر ربيع الأول: أخبرنا الأمين السيد أبو المبارك أحمد بن محمد ابن أردشير الدستاني قال: أخبرنا السيد أبو البركات بن محمد الجرجاني قال: أخبرنا هبة الله القمي واسمه يحيى قال: حدثنا أحمد بن إسحاق بن محمد البغدادي. قال: حدثنا الفقيه الحسن ابن الحسن السامري أنه قال: كنت أنا ويحيى بن أحمد بن جريج البغدادي فقصدنا أحمد بن إسحاق القمي وهو صاحب الإمام الحسن العسكري عليه السلام بمدينة قم فقرعنا عليه الباب فخرجت إلينا من داره صبية عراقية فسألناها عنه فقالت: هو مشغول وعياله فإنه يوم عيد. قلنا: سبحان الله الأعياد عندنا أربعة: عيد الفطر وعيد النحر والغدير والجمعة. قالت: روى سيدي أحمد بن إسحاق عن سيده العسكري عن أبيه علي بن محمد عليهم السلام أن هذا يوم عيد وهو من خيار الأعياد عند أهل البيت عليهم السلام وعند مواليهم. قلنا: فاستأذني بالدخول عليه وعرفيه مكانناز قال: فخرج علينا وهو متزر بمئزر له متشح بكسائه يمسح وجهه فأنكرنا عليه ذلك. فقال: لا عليكم إني كنت أغتسل للعيد فإن هذا اليوم وهو يوم التاسع من شهر ربيع الأول يوم عيد. فأدخلناه داره وأجلسنا على سرير له ثم قال لنا: أنى قصدت مولاي أبا الحسن العسكري عليه السلام مع من إخواني في مثل هذا اليوم وهو اليوم التاسع من ربيع الأول فرأينا سيدنا عليه السلام قد أمر جميع خدمه أن يلبس ما يمكنه من الثياب الجدد وكان بين يديه محمرة يحرق فيها العود. قلنا: يا ابن رسول الله هل تجد في هذا اليوم لأهل البيت فرحاً؟ فقال: وأي يوم أعظم حرمة من هذا اليوم عنه أهل البيت وأفرح؟ وقد حدثني ابن عليه السلام أن حذيفة دخل في مثل هذا اليوم وهو اليوم التاسع من شهر ربيع الأول على رسول الله (ص). قال حذيفة: فرأيت أمير المؤمنين (ع) مع ولديه الحسن والحسين (ع) مع رسول الله (ص) يأكلون والرسول (ص) يبتسم في وجوههما ويقول: كلا هنيئاً مريئاً لكما ببركة هذا اليوم وسعادته فإنه اليوم الذي يقبض الله فيه عدوه وعدو جدكما ويستجيب دعاء أمكما، فإنه اليوم الذي يكسر فيه شوكة مبغض جدكما وناصر عدوكما، كلا فإنه اليوم الذي يفقد فيه فرعون أهل بيتي وهامانهم وظالمهم، وغاصب حقهم، كلا فإنه اليوم الذي يفرج الله فيه قلبكما وقلب أمكما. قال حذيفة: قلت: يا رسول الله في أمتك وأصحابك من يهتك هذا الحرم؟ قال رسول الله (ص) جبت من المنافقين يظلم أهل بيتي ويستعمل في أمتي الربا ويدعوهم إلى نفسه ويتطاول على الأمة من بعدي ويستجلب أموال الله من غير حله وينفقها في غير طاعته ويحمل على كتفه درة الخزي ويضل الناس عن سبيل الله ويحرف كتابه ويغير سنتي ويغصب أرث ولدي وينصب نفسه علماً ويكذبني ويكذب أخي ووزيري ووصيي وزوج ابنتي ويتغلب على ابنتي ويمنعها حقها وتدعو فيستجاب لها بالدعاء في مثل هذا اليوم. قال حذيفة: قلت: يا رسول الله ادع الله ليهلكه في حياك قال: يا حذيفة لا أحب أن أجترئ على الله، لما قد سبق في علمه لكني سألت الله عز وجل أن يجعل لليوم الذي يقبضه فيه إليه فضيلة على سائر الأيام ويكون ذلك سنة يستن بها أحبائي وشيعة أهل بيتي ومحبوهم فأوحى الله عز وجل إلى فقال: يا محمد إنه قد سبق في علمي أن يمسك وأهل بيتك محن الدنيا وبلاؤها وظلم المنافقين والمعاندين من عبادي ممن نصحتهم وخانوك ومحضتهم وغشوك وصافيتهم وكاشحوك وأوصلتهم وخالفوك وأوعدتهم فكذبوك فإني بحولي وقوتي وسلطاني لا فتحن على روح من يغصب بعدك علياً وصيك وولي حقك من العذاب الأليم ولا وصلته وأصحابه قعراً يشرف عليه إبليس فيلعنه ولا جعلن ذلك المنافق عبرة في القيامة مع فراعنة الأنبياء وأعداء الدين في المحشر. ولا حشرنهم وأولياهم وجميع الظلمة والمنافقين في جهنم ولأدخلنهم فيها أبدا الآبدين، يا محمد أنا أنتقم من الذي يجترئ علي ويستترك كلامي ويشرك بي ويبعد الناس عن سبيلي وينصب نفسه عجلا لأمتك ويكفر بي. إني قد أمرت سكان سبع سماواتي من شيعتكم ومحبيكم أن يتعيدوا في هذا اليوم الذي أقبضه إلي فيه وأمرتهم أن ينصبوا كراسي كرامتي بإزاء البيت المعمور ويثنوا علي ويستغفروا لشيعتكم من ولد آدم، يا محمد وأمرت الكرام الكاتبين أن يرفعوا القلم عن الخلق ثلاثة أيام من أجل ذلك اليوم ولا أكتب عليهم شيئاً من خطاياهم كرامة لك ولوصيك. يا محمد: إني قد جعلت ذلك عيداً لك ولأهل بيتك وللمؤمنين من شيعتك، وآليت على نفسي بعزتي وجلالي وعلوي في رفيع مكاني أن من وسع في ذلك اليوم على أهله وأقاربه لأزيدن في ماله وعمره ولأعتقنه من النار ولأجعلن سعيه مشكوراً وذنبه مغفوراً وأعماله مقبولة. ثم قام رسول الله (ص) فدخل بيت أم سلمة فرجعت عنه وأنا غير شاك في أمر الشيخ الثاني حتى رايته بعد رسول الله (ص) قد فتح الشر وأعاد الكفر والارتداد عن الدين وحرف القرآن. أه.(190/21)
وسيأتي لهذا مزيد تحقيق إن شاء الله تعالى.
فإذا ارتد على هذا النحو من الارتداد فكيف ساغ في الشريعة مناكحته وقد حرم الله تعالى نكاح الكفر والارتداد واتفق عليه علماء الخاصة. فنقول قد تقصى الأصحاب عن هذا بوجهين: عامي وخاصي. أما الأول: فقد استفاض في أخبارهم عن الصادق (ع) لما سئل عن هذه المناكحة. فقال: أنه أول فرج عصيناه.
هذا أن الخلافة قد كانت أعز على أمير المؤمنين من الأولاد والبنات والأزواج والأموال(1) وذلك لأن بها(2) انتظام الدين وإتمام السنة ورفع الجور وإحياء الحق وموت الباطل وجميع فوائد الدنيا والآخرة، فإذا لم يقدر على الدفع عن مثل هذا الأمر الجليل الذي ما تمكن من الدفع عنه زمان معاوية وقد بذل الأرواح وسفك فيه الدماء المهج حتى أنه قتل لأجله ستين ألفاً في معركة صفين(3) وقتل من عسكره عشرون ألفاً، فإذا قبلنا مثله العذر في ترك هذا الأمر الجليل وقد كان معذوراً كما سيأتي فيه عند ذكر أسباب تقاعده (ع) عن الحرب زمان الثلاثة(4) إن شاء الله تعالى. الوتقية باب فتحه الله سبحانه للعباد وأمرهم بارتكابه وألزمهم به كما أوجب عليهم الصلاة والصيام حتى أنه ورد عن الأئمة الطاهرين (ع): لا دين لمن لا تقية له "فقيل عذره (ع) على مثل هذا الأمر الجزئي وذلك أنه قد روى الكليني (ره) عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) قال: لما خطب إليه(5) قال له أمير المؤمنين (ع): بأنها صبية. قال: فألح عليه العباس. فلما رأى أمير المؤمنين (ع) مشقة كلام فلقي العباس فقال له: ما لي أبي بأس، قال: وما ذاك. قال: خطبت إلى ابن أخيك فردني أما والله لأعودن زمزم ولا أدع لكم مكرمة إلا هدمتها ولأقيمن عليه شاهدين
__________
(1) كفى بهذا ازدراء ومنقصة بحق علي (رض).
(2) أي الخلافة.
(3) انظر كتابنا "مفتريات الشيعة على معاوية والرد عليها".
(4) أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ولعنة الله على من يبغضهم.
(5) أي عمر (رض).(190/22)
بأنه سرق ولأقطعن يمينه، فأتاه العباس وأخبره وسأله أن يجعل الأمر إليه فجعل إليه.
وأما الشبهة الواردة على هذا وهي أنه يلزم أن يكون عمر زانياً في ذلك النكاح وهو مما لا يقبله العقل بالنظر إلى أم كلثوم، فالجواب عنها من وجهين: أحدهما: أن أم كلثوم لا حرج عليها في مثله ظاهراً ولا واقعاً وهو ظاهر، وأما هو فليس بزان في ظاهر الشريعة لأنه دخول ترتب على عقد بإذن الولي الشرعي، وأما في الواقع وفي نفس الأمر فعليه عذاب الزاني بل عذاب كل أهل المساوئ والقبائحز الثاني: أن الحال لما آل إلى ما ذكرنا من التقية فيجوز أن يكون قد رضي (ع) بتلك المناكحة رفعاً لدخوله في سلك غير الوطئ المباح.(190/23)
وأما الثاني: وهو الوجه الخاص: فقد رواه السيد العالم بهاء الدين علي بن عبد الحميد الحسيني النجفي في المجلد الأول من كتابه المسمى بالأنوار المضيئة قال مما جاز لي رؤيته عن الشيخ السعيد محمد بن محمد بن النعمان المفيد (ره) رفعه إلى عمر بن أذينه قال: قلت: لأبي عبد الله (ع): أن الناس يحتجون علينا أن أمير المؤمنين (ع) أنكح فلاناً [عمر (رض)] ابنته أم كلثوم وكان (ع) متكياً فجلس وقال: أتقبلون أن علياً (ع) أنكح فلاناً ابنته، أن قوماً يزعمون ذلك ما يهتدون إلى سواء السبيل ولا الرشاد، ثم صفق بيده وقال: سبحان الله ما كان أمير المؤمنين أن يحول بينه [عمر] وبينها [أم كلثوم] كذبوا لم يكن ما قالوا. أن فلاناً [عمر (رض)] خطب إلى علي (ع) ابنته أم كلثوم فأبى فقال للعباس: والله لئن لم يزوجني لأنزعن منك السقاية وزمزم. فأتى العباس علياً (ع) فكلمه فأبى عليه الرجل [عمر رضي الله عنه وأرضاه] على العباس وأنه سيفعل معه ما قال. أرسل إلي جنية من أهل نجران يهودية يقال لها سحيفة بنت حريرية فأمرها فتمثلت في مثال أم كلثوم وحجبت الأبصار عن أم كلثوم بها. وبعث بها إلى الرجل [عمر رضي الله عنه وأرضاه] فلم تزل عنده حتى أنه استراب بها يوماً وقال: ما في الأرض أهل بيت أسحر عن بني هاشم. ثم أراد أن يظهر للناس فقتل. فأخذت الميراث وانصرفت إلى نجران وأظهر أمر المؤمنين (ع) أم كلثوم. أقول وعلى هذا فحديث:
"أول فرج غصبناه" محمول على التقية والاتقاء من عوام الشيعة كما لا يخفى. اه.(190/24)
تبين مما سبق أن الشيعة لا تجوز نكاح أهل السنة. ولكن ربما يتبادر إلى ذهن أخي القارئ أن الذين لا يجوز نكاحهم عند الشيعة هم الذين يناصبون الإمام علي رضي الله عنه وأهل بيته وليسوا أهل السنة فإنهم يحبون الإمام علي وأهل بيته. فصبرا فإننا لا نقاضي الشيعة إلا إلى كتبهم الموثوقة لديهم فهذا الشيخ حسين آل عصفور يقرأ في كتابه "المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية" ص145:
وأما تحقيق الناصب فقد كثير فيه القيل والقال واتسع فيه المجال والتعرض للأقوال، وما يرد عليها وما يثبتها ليس هذا محله بعدما عرفت كفر مطلق المخالف فما أدراك بالناصب. الذي جاء فيه الآيات والروايات أنه المشرك والكافر. بل ما من آية من كتاب الله فيها ذكر المشرك إلا كان هو المراد منها والمعني بها.
وأما معناه الذي عليه الأخبار فهو ما قدمناه هو تقديم غير عليه السلام على ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر، نقلاً عن كتاب مسائل الرجال بالإسناد إلى محمد بن علي بن موسى قال: كتبت إليه – يعني علي بن محمد عليه السلام – عن الناصب هل يحتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت واعتقاد إمامتهما(1)؟ فرجع الجواب من كان على هذا فهو ناصب.
وما في شرح نهج البلاغة للراوندي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه سئل عن الناصب بعده قال! من يقدم على غيره.
ويقول ص147 :
ولا كلام في أن المراد بالناصبة فيه هم أهل التسنن الذين قالوا: أن الأذان رآه أبي بن كعب في النوم. فظهر لك أن النزاع والخلاف بين القائلين بهذه المذاهب الثلاثة – أعني مجرد التقديم ونصب العداوة لشيعتهم، كما اعتمده محمد أمين في الفوائد المدنية ونصب العداوة لهم عليهم السلام، كما هو اختيار المشهور خلاف لفظي لما عرفت من التلازم بينها.
__________
(1) يقصد أبو بكر وعمر رضي الله عنهما واللعنة على أعدائهما ومبغضيهما.(190/25)
وقد صرح بهذا جماعة من المتأخرين، منهم السيد المحقق السيد نور الدين، أبي الحسين الموسوي في الفوائد المكية، واختاره شيخنا المنصف العلامة الشيخ يوسف في الشهاب الثاقب وهو المنقول عن الخواجه نصير الدين وكفاك شاهداً على قوته التئام الأخبار به وشهادة العادة – كما يظهر من أحوالهم. اه.
ويقول صاحب الأنوار النعمانية لنعمة الله الجزائري 2/306-307 :
وأما الناصبي وأحواله وأحكامه فهو مما يتم ببيان أمرين: الأول في بيان معنى الناصب الذي ورد في الأخبار أنه نجس وأنه شر من اليهودي والنصراني والمجوسي وأنه كافر نجس بإجماع علماء الإمامية رضوان الله عليهم فالذي لآل بيت محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وتظاهر ببغضهم كما هو الموجود في الخوارج وبعض ما وراء النهر ورتبوا الأحكام في باب الطهارة والنجاسة والكفر والإيمان وجواز النكاح وعدمه على الناصبي بهذا المعنى.
وقد تفطن شيخنا الشهيد الثاني قدس الله روحه من الاطلاع على غرائب الأخبار فذهب إلى أن الناصبي: هو الذي نصب العداوة لشيعة أهل البيت عليهم السلام وتظاهر بالوقوع فيهم، كما هو حال أكثر المخالفين لنا في هذه الأعصار في كل الأمصار وعلى فلا يخرج من النصب سوى المستضعفين منهم والمقلدين والبله والنساء ونحو ذلك وهذا المعنى هو الأولى، ويدل عليه ما رواه الصدوق قدس الله روحه في كتاب علل الشرائع بإسناد معتبر عن الصادق عليه السلام قال: ليس الناصب من نصبكم لنا أهل، لأنك لا تجد رجلاً يقول أنا أبغض محمداً وآل محمد، ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وأنكم من شيعتنا. وفي معناه أخبار كثيرة.(190/26)
وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن علامة النواصب تقديم غير علي عليه، وهذه خاصة شاملة لا خاصة ويكن إرجاعها إلى الأول بأن يكون المراد تقديم غيره على وجه الاعتقاد والجزم ليخرج المقلدون والمستضعفون، فإن تقديمهم غيره عليه إنما نشأ من تقليد علمائهم وآبائهم وأسلافهم وإلا فليس فلم إلى الاطلاع والجزم بهذا سبيل.
ويؤيد هذا المعنى أن الأئمة عليهم السلام وخواصهم أطلقوا لفظ الناصبي علي أبي حنيفة وأمثاله مع أن أبا حنيفة لم يكن ممن نصب العداوة لأهل البيت عليهم السلام بل كان له انقطاع إليهم، وكان يظهر لهم التودد، نعم كان يختلف آرائهم ويقول: قال علي وأنا أقول. ومن هذا يقوى قول السيد المرتضى وابن إدريس قدس الله روحيهما وبعض مشائخنا المعاصرين بنجاسة المخالفين كلهم نظراً إلى إطلاق الكفر والشرك عليهم في الكتاب والسنة فيتناولهم هذا اللفظ حيث يطلق ولأنك قد تحققت أن أكثرهم نواصب بهذا المعنى. اه.
وبعد هذا الإيضاح فماذا يقول السائل من تعريف الناصب. لابد بعد هذا أنه قد تبين بأن أهل السنة نواصب في نظر الشيعة. وبالتالي لا يجوز نكاحهم وأنهم شر من اليهود والنصارى.
والخميني يرى عدم الجواز في نكاح أهل السنة إلا إذا كان تقية كما كان عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنه ما تزوج عائشة حفصة رضي الله عنهما إلا تقية من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فهو يذكر ص198 من رسالته "التقية" موثقة سماعة:
سألته عن مناكحتهم والصلاة خلفهم؟ فقال أمر شديد لن تستطيعوا ذلك قد أنكح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وصلى علي عليه السلام ورائهم.
الصلاة خلف أهل السنة(190/27)
الخميني يرى عدم صحة الصلاة خلف السني إن كانت مكتوبة وأما إذا كانت تطوعاً فله خمس وعشرون درجة وأنه كمن صلى خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصف الأول وأفضل الصلوات ما كانت تقية. فيقول ص198 من رسالة "التقية"(1).
قد وردت روايات خاصة تدل على الصلاة مع الناس والترغيب في الحضور في مساجدهم والاقتداء بهم والاعتداد بها كصحيحة حما بن عثمان عن أبي عبد الله قال: من صلى معهم في الصف الأول كمن صلى خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصف الأول. ولا ريب أن الصلاة معه صحيحة ذات فضيلة جمة فكذلك الصلوة معهم حال التقية. وصحيحة حفص بن البختري عنه قال: يحسب لك إذا دخلت معهم وإن كنت لا تقتدي بهم مثل ما يحسب لك إذا كنت تقتدي به، ورواية إسحاق بن عمار في حديث قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إني أدخل المسجد فأجد الإمام قد ركع وقد ركع القوم فلا يمكنني أن أؤذن أو أقيم وأكبر فقال لي: فإذا كان ذلك فادخل معهم في الركعة واعند بها فإنها من أفضل ركعاتك. ورواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: لا بأس بأن تصلي خلف الناصب ولا تقرء خلفه فيما يجهر به فإن قراءته يجزيك. إلى غير ذلك مما هو صريح أو ظاهر في الصحة والاعتداد بالصلوة تقية.
وقال ص199: وأما ما ورد من عدم جواز الصلوة خلفهم وإنهم بمنزلة الجدار وإنه لا تصل إلا خلف من تثق بدينه فهي بحسب الحكم الأولي فلا منافاة بينهما. وكيف كان فلا ينبغي الشبهة في صحة الصلوة وساير العبادات المأتي بها على وجه التقية.
__________
(1) انظر بالتفصيل كتابنا (الخميني والتقية) وفصل "الشيعة والتقية" من كتابنا "حقيقة الشيعة والتشيع".(190/28)
وعند الخميني التقية المداراتية مخصوصة بأهل السنة سواء كانت في عباداتهم أو أعيادهم أو تشيع جنائزهم فيقول ص200 من رسالة "التقية": (وأما التقية المداراتية المرغوب فيها مما تكون العادة معها أحب العبادات وأفضلها فالظاهر بالتقية عن العامة كما هو مصب الروايات. على كثرتها.
ويعلل الخميني التقية المداراتية مع أهل السنة "صلاح حال الشيعة لضعفهم خصوصاً في تلك الأزمنة وقلة عددهم فلو خالفوا التقية لصاروا في معرض الزوال والانقراض.
فالخميني يرى أن على الشيعة أن لا يظهروا حقيقة مشاعرهم تجاه أهل السنة لئلا يخوضوا في معركة غير متساوية أو متكافئة حيث أن أهل السنة الذين يحكمون البلدان فإذا الشيعة أظهروا عداوتهم لأهل السنة فطبيعي أن أهل السنة لا يرضوا بذلك ويقابلوا عدوان من الشيعة بما هو كفيل برده والقضاء عليهم.
أصدر الخميني في العام قبل الماضي 1400ه فتوى بإجازة الوقوف بعرفة للشيعة مع السنة وعدم الاختلاف في مناسك الحج واستبشر بعض الذين ليس لهم اطلاع على مؤلفات الخميني وقالوا إن هذه الفتوى دليل على مرونة فكر الخميني ولكن غاب عن عقل هؤلاء أن تلك الفتوى صدرت تقية مداراتية فقد قال في رسالته "التقية" ص196:
وليعلم أن المستفاد من تلك الروايات صحة العمل الذي يؤتى به تقية سواء كانت التقية لاختلاف بيننا وبينهم في الحكم كما في المسح على الخفين والإفطار لدى السقوط أو ثبوت الموضوع الخارجي كالوقوف بعرفات اليوم الثامن لأجل ثبوت الهلال عندهم، والظاهر عدم التفريق الفرق بين العلم والخلاف والشك.(190/29)
ومما يشهد لترتب أثر التقية في الموضوعات وأن الوقوفين في غير وقتهما مجزيان أنه من بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى زمان خلافة أمير المؤمنين ومن بعده إلى زمن الغيبة الأئمة وشيعتهم متباين بالتقية أكثر من مائتي سنة وكانوا يحجون مع أمراء الحج من قبل خلفاء الجور ومعهم وكان أمر الحج وقوفاً وإفاضة بأيديهم لكونهم لكونه من شؤون السلطنة والإمارة، ولا ريب في كثرة تحقق يوم الشك في تلك السنين التمادية ولم – يرد من الأئمة عليهم السلام ما يدل على جواز التخلف عنهم أو لزوم إعادة الحج في سنة يكون هلال شهر ذي الحجة ثابتاً عند الشيعة مع كثرة ابتلائهم ولا مجال لتوهم عدم الخلاف في أول الشهر في نحو مائتي وأربعين سنة ولا في بنائهم على إدراك الوقوف خفاء كما يصنع جهال الشيعة في هذه الأزمنة ضرورة أنه لو وقع ذلك منهم ولو مرة أو أمروا به ولو دفعه لكان منقولاً إلينا لتوفر الدواعيبه فعدم أمرهم به ومتابعتهم لهم دليل على إجزاء العمل تقية ولو في الخلاف الموضوعي وهذا مما لا إشكال فيه.
إنما الإشكال في أنه تثبت الموضوعات الخارجية بحكم حاكمهم مع الشك في الثبوت فيكون حكمهم كحكم حكام العدل؟ أو يجب ترتب آثارها ولو مع العلم بالخلاف أولاً ترب ولا تثبت مطلقاً؟ الظاهر هو الأخير لأن عمومات التقية وإطلاقاتها لا تفي بذلك لأن مثل قوله "التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم" أو قوله "التقية في كل شيء إلا المسح على الخفين" ظاهر في إجزاء العمل على وجه التقية لا لثبوت الموضوع تعبداً أو لزوم ترتيب آثار الواقع مطلقاً على ما ثبت عندهم وهذا واضح.(190/30)
نعم روى الشيخ بإسناده عن أبي الجارود زياد بن منذر قال: سألت أبا جعفر أنا شككنا سنة في عام من تلك الأعوام في الأضحى فلما دخلت على أبي جعفر وكان أصحابنا يضحي فقال: الفطر يوم يفطر الناس والصوم يوم يصوم الناس(1).
والظاهر منه أن يوم يضحي الناس يكون أضحى ويترتب عليه آثار الموضوع وقعاً وبإلقاء الخصوصية عرفاً يفهم الحكم في ساير الموضوعات التي يرتب عليها الآثار الشرعية. إن قلنا بأن التعبد لا يناسب ولا يكون مع العلم بالخلاف يختص بمورد الشك فيكون حكم حكامهم كحكم الحاكم العدل، وإن قلنا بأنه بملاحظة وروده في باب التقية يترتب الأثر حتى مع العلم بالخلاف. يقيد إطلاقه بالروايات الواردة: في قضية إفطار أبي عبد الله تقية عن أبي العباس في يوم يعلم أنه من شهر رمضان قائلاً: إن إفطاري يوماً وقضائه أيسر علي من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله. لكن إثبات الحكم مثل رؤية أبي الجارود الضعيف غير ممكن فترك الصوم يوم الشك تقية لا يوجب سقوط القضاء على الظاهر وهذا بخلاف إتيان أعمال الحج على وفق التقية. فإن مقتضى إطلاق أدلة التقية أجزأته حتى مع العلم بالخلاف كما يصح الوضوء والصلوة مع العلم بكونهما خلاف الواقع الأولى.
وبعد ....
فأرجو أن أكون قد ساهمت ولو بشيء يسير في إجلاء بعض الغشاوة التي على أعين المنخدعين بالثورة الإيرانية وقادتها.
وربما تكون هذه الرسالة غير مشبعة بالتحليل ولكن هذا قدر جهدي وعلمي فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فهو مني والله يهدي إلى سواء السبيل.
وأرجو من الله تعالى أن يهيء لهذه الأمة شباباص يقوم بأعباء كشف ودراسة الأفكار المنحرفة الأخرى.
__________
(1) وفي رواية أخرى "صم حين يصوم الناس وأفطر حين يفطر الناس" انظر الوسائل – كتاب الصوم الباب 12 والباب 57.(190/31)
وفي الختام أشكرك على العناء الذي بذلته في سبيل قراءة هذه الرسالة وإلى اللقاء في رسائل أخرى إن شاء الله تعالى. دعواتكم لنا بالمغفرة والأجر عند الله تعالى(1).
أخوك
محمد مال الله
تم الكتاب ولله الحمد.
__________
(1) هذه الرسالة كانت موجهة إلى أحد شباب الحركة الإسلامية المعاصرة بالقاهرة حين تناقشنا عن الثورة الإيرانية والخميني. وقد اقترح بعض الأخوة نشرها ليعم النفع العام فاستخرت الله وقدمتها للطبع وأرجو من الله سبحانه وتعالى حسن الثواب وجعله في ميزان حسناتي.(190/32)
محمد مال الله
موقف الخميني من أهل السنة
( الجزء الثاني )
الطبعة الخامسة
1408ه-1988م
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
مقدمة بقلم الدكتور منير البحيري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء الصالحين، والتابعين لهداهم إلى يوم الدين..
وبعد :
فهذا هو الجزء الثاني من "موقف الخميني من أهل السنة" بعد أن ذاع الجزء الأول وانتشر ولقي استحسان أهل العلم والفضل عندنا في مصر وبلاد المغرب وسائر الأقطار الإسلامية. وقد بذل فيه الأستاذ الفاضل جهداً مشكوراً في استخراج فصوله "بالمنقاش" من كتب الخميني، وشرح كلامه وأسراره في إطار الكتب الشيعية العامة ومؤلفات أئمتهم وأعلامهم، وحسناً فعل. فإن المطلع على كتب الخميني وغيره من علماء الشيعة المعاصرين لن يفهم خبايا زواياها إلا بالاطلاع على المراجع الشيعية الأولية المهمة التي تكوّنُ شخصية العالم الشيعي.. فالذي لم يطلع على "الكافي" للكليني و"من لا يحضره الفقيه" لابن بابويه و"التهذيب" و"الاستبصار" لشيخ الطائفة الطوسي (وهو غير نصير الدين الطوسي) و"الوافي" للكاشاني، و"بصائر الدرجات والخصال" و"الإرشاد" و"بحار الأنوار" وغيرها وغيرها كثير... أقول:
إن الذي لم يتعب نفسه في قراءة هذهالكتب لن يستطيع بحال من الأحوال أن يفهم مصطلحات علماء الشيعة المعاصرين.. فهي (أي هذه الكتب الأساسية) كالمفاتيح لما أغلق من أقفال كتبهم وأسرار مصنفاتهم، وهي التي تكوِّنُ البنية الفكرية والعقلية العلمية للعالم الشيعي، فتنصب جميع أفكاره وآرائه في قالب هذه الكتب والمؤلفات.
وقد وُفّق الأستاذ المؤلف – حفظه الله – لتطبيق هذا المنهج على آراء الخميني فأتى بها مشروحة واضحة منسوبةً إلى قالبها الأساسي من كتب ومؤلفات الفكر الشيعي.(191/1)
وللحق أقول: إن للأستاذ أبي عبد الرحمن صبراً على البحث وجلداً في الاطلاع على كتب القوم يندر وجوده في غيره من أبنائنا.. ولقد عرفته باحثاً ومنقباً في مكتبات القاهرة العامة والخاصة، حريصاً على الاطلاع على كنوزها من مخطوطاتٍ ومطبوعات وفقه الله تعالى للمزيد من الإنتاج المثمر والمؤلفات القيمة النافعة الماتعة، وثبته الله وإيانا على الحق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، واللعنة الدائمة على أعدائهم إلى يوم الدين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين ........
وبعد :
منذ أكثر من عام صدر الجزء الأول من هذه الرسالة المتواضعة واستقبلت من قبل القراء استقبالاً شجعني على الاستمرار في الكتابة عن الخميني وكشف الجوانب التي كانت خافية على بعض القراء الكرام. وأعيد طباعة الجزء الأول اكثر من مرة عدا الطبعات المسروقة من قبل إحدى دور النشر ولم أحرك ساكناً لأن الهدف من كتابة هذه السطور هو إيجاد نوع من الوعي بحقيقة الخميني ومن تدثر برداء التشيع المتهافت لا التكسب من الكلمات التي أسطرها ويعلم الله ذلك. ومضت شهور وشهور وبينما أنا أنقب عن كتب الشيعة بإحدى دور نشرهم ببيروت وقع نظري بالصدفة على بعض كتب الخميني لم أكن قرأتها من قبل وهي: المكاسب المحرمة، تحرير الوسيلة وزبدة الأحكام. وقضيت معهم أكثر من شهرين قارئاً ومتفرغاً لهم. وربما قضيت في الصفحة الواحدة أكثر مما تستحقه من أجل الوقوف على المعنى الذي يريده الخميني والحمد لله على أن وفقني في الوقوف على ذلك.
سألني الكثير من الشباب الإسلامي أكثر من مرة عن السبب الذي دعاني إلى الكتابة عن الخميني وعقيدة التشيع خاصة وأني حاصل على دبلوم تجارة وليس شريعة. وأما كان من الأولى الخوض فيما له علاقة بدراستك ؟(191/2)
فأجبتهم: للأسف فإن المكتبة الإسلامية تشكو عجزاً من الكتابات من هذا النوع ولا أدعي أنني بكتاباتي هذه أسد هذا العجز – وأن أكثر الشباب فضلاً عن غيرهم يجهلون الأسس التي قام عليها دين الشيعة. وأن افتتان البعض بثورة الخميني وطغمته من الأسباب التي دعتني إلى الكتابة عن الخميني والشيعة بصفة عامة بأسلوب بعيد عن الافتراء والقذف والتشهير وهذا ما يلمسه القارئ المنصف لهذه الرسالة وغيرها من الرسائل المتواضعة التي صدرت. وأما حصولي على دبلوم تجارة وليس دبلوم شريعة فهذا في ظني لا يمنع من البحث في عقائد الشيعة والكتابة عنهم من واقع مراجعهم ومن أفواههم ندينهم. والبحث في أحوالهم وعقائدهم ليس مصدره الحقد والضغينة لهم بل يعلم الله تعالى أنني ما سطرت الذي سطرت إلا مبتغياً الحقيقة: هل نحن على صواب والشيعة على ضلال أم العكس وإنني ما سطرت حرفاً واحداً تشفياً من الشيعة وإشعال نار الحقد في ثناياه، بل نشدت الحقيقة لا غيرها. وثمرة قراءتي لكتب الخميني أسطرها لإخواني القراء راجياً منهم أن لا يبخلوا عليّ بالنقد الهادف وفوق كل ذي علم عليم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أبو عبد الرحمن
محمد مال الله
القاهرة في 25/5/1983
الخميني وتكفير أهل السنة
سلكت الشيعة في تكفير من يخالفهم في عقائدهم الفاسدة مسلكاً طابعه التعصب وإغفال الدليل جرياً على عادتهم في إثبات مذهبهم الضال باختلاق ووضع الأحاديث المؤيدة لاعتقاداتهم، ونسبوها زوراً وبهتاناً إلى من يدعون أنهم أئمتهم وهم منهم براء براءة الذئب من دم ابن يعقوب. والأحاديث – على حد زعمهم – يبعد صدورهم من أئمة دينهم التقوى لا النفاق والتقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال لا السب والطعن في حملة الإسلام وصحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولنستعرض معاً مجموعة من أحاديثهم الملفقة لنرى إلى أي مدى زين لهم الشيطان سوء اعتقادهم في تكفير من يخالفهم:(191/3)
1 - عن أبي سلمة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: نحن الذين فرض الله طاعتنا. لا يسع الناس إلا معرفتنا ولا يعذر الناس بجهالتنا من عرفنا كان مؤمناً، ومن أنكرنا كان كافراً، ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالاً حتى يرجع إلى الهدى الذي افترض الله عليه من طاعتنا الواجبة فإن يمت على ضلالته يفعل الله به ما يشاء(1).
2 - عن إسماعيل بن جابر قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام:
اعرض عليك ديني الذي أدين الله عز وجل به ؟
قال: فقال: هات.
قال: فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله والإقرار بما جاء به من عند الله وأن علياً كان إماماً فرض الله طاعته، ثم كان بعده الحسن إماماً فرض الله طاعته، ثم كان بعده الحسين إماماً فرض الله طاعته، ثم كان بعده علي بن الحسين إماماً فرض الله طاعته حتى انتهى الأمر إليه. ثم قلت: أنت يرحمك الله؟
قال: فقال: هذا دين الله ودين ملائكته(2).
عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير قال: سمعته يسأل أبا عبد الله عليه السلام فقال له: جعلت فداك أخبرني عن الدين الذي افترض الله عز وجل على العباد ما لا يسعهم جهله ولا يقبل منهم غيره، ما هو؟
فقال: أعد علي. فأعاد عليه.
فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً وصوم رمضان. ثم سكت قليلاً ثم قال: والولاية – مرتين -(3).
4 - عن عمرو بن حريث قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام وهو في منزل أخيه محمد بن عبد الله فقلت له: جعلت فداك ما حولك إلى هذا المنزل؟
قال: طلب النزهة.
فقلت: جعلت فداك ألا أقص عليك ديني؟
فقال: بلى.
__________
(1) "الكافي" 1/187 .
(2) المصدر السابق 1/188 .
(3) المصدر السابق 2/22 باب "دعائم الإسلام".(191/4)
قلت: أدين لله بشهادة ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم شهر رمضان وحج البيت والولاية لأمير المؤمنين بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والولاية للحسن والحسين والولاية لعلي بن الحسين والولاية لمحمد بن علي ولك من بعده صلوات الله عليهم أجمعين وإنكم أئمتي عليه أحيا وعليه أموت وأدين لله به. فقال: يا عمر وهذا والله دين الله ودين آبائي الذي أدين الله به في السر والعلانية(1).
5 - عن أبي بصير قال: كنت عند أبي جعفر عليه السلام فقال سلام: إن خيثمه ابن أبي خثيمه يحدثنا عنك أنه سألك عن الإسلام فقلت له: إن الإسلام من استقبل قبلتنا وشهد شهادتنا ونسك نسكنا ووالى ولينا وعادى عدونا فهو مسلم.
فقال: صدق خثيمة(2).
6 - عن هاشم صاحب البريد قال: كنت أنا ومحمد بن مسلم وأبو الخطاب مجتمعين فقال لنا أبو الخطاب: ما تقولون فيمن لم يعرف هذا الأمر؟ فقلت: من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر.
فقال أبو الخطاب: ليس بكافر حتى تقوم عليه الحجة، فإذا قامت عليه الحجة فلم يعرف فهو كافر.
فقال له محمد بن مسلم: سبحان الله ما له إذا لم يعرف ولم يجحد يكفر؟ ليس بكافر إذا لم يجحد.
قال: فلما حججت دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فأخبرته بذلك.
فقال: إنك حضرت وغابا ولكن موعدكم الليلة الجمرة الوسطى بمنى.
فلما كانت الليلة اجتمعنا عنده وأبو الخاطب ومحمد بن مسلم فتناول وسادة فوضعها في صدره ثم قال لنا: ما تقولون في خدمكم ونسائكم وأهليكم أليس يشهدون أن لا إله إلا الله؟
قلت: بلى.
قال: أليس يشهدون أن محمداً رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟
قلت: بلى.
قال: أليس يصلون ويصومون ويحجون؟
قلت: بلى.
قال: فيعرفون ما أنتم عليه؟ قلت: لا.
__________
(1) المصدر السابق 2/23 .
(2) المصدر السابق 2/83 باب في أن الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلها.(191/5)
قال: فما هم عندكم؟
قلت: من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر.
قال: سبحان الله أما رأيت أهل الطريق وأهل المياه؟
قلت: بلى.
قال: أليس يصلون ويصومون ويحجون؟ أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟
قلت: بلى.
قال: فيعرفون ما أنتم عليه؟
قلت: لا.
قال: فما هم عندكم؟
قلت: من يعرف هذا الأمر فهو كافر.
قال: سبحان الله أما رأيت الكعبة والطواف وأهل اليمن وتعلقهم بأستار الكعبة.
قلت: بلى.
قال: أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويصلون ويصومون ويحجون؟
قلت: بلى.
قال: فيعرفون ما أنتم عليه؟
قلت: لا.
قال: فما تقولون فيهم؟
قلت: من لا يعرف هذا الأمر فهو كافر.
قال: سبحان الله هذا قول الخوارج. ثم قال: إن شئتم أخبرتكم.
قلت: لا.
فقال: أما إنه شر عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منا.
قال: فظننت أنه يديرنا على قول محمد بن مسلم(1).
أي أن الإمام المعصوم قد وافق على مقالة الراوي بكفر من لم يعرف أمرهم ولكن التقية حالت دون التصريح على سبيل المداراة.
7 - عن إسماعيل الجعفي قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الدين الذي لا يسع العباد جهله.
فقال: الدين واسع ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم.
قلت: جعلت فداك فأحدثك بديني الذي أنا عليه؟
فقال: بلى.
فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله والإقرار بما جاء من عند الله وأتولاكم وأبرأ من عدوكم ومن ركب رقابكم وتأمر عليكم وظلمكم حقكم فقال: ما جهلت شيئاً. هو والله الذي نحن عليه(2).
__________
(1) المصدر السابق 2/401 باب الضلال.
(2) المصدر السابق 2/405 باب "المستضعف".(191/6)
فالشيعة تكفر كل من لم يتول ويقر بالأمة ويتبرأ من أعدائهم. وما نوع الموالاة التي يريدونها؟ إنها موالاة باعتقاد النص عليهم والغلو فيهم ورفعهم إلى مرتبة الألوهية ومن هم أعدائهم؟ أهم الذين يطعنون في الإسلام ورسول الإسلام عليه السلام؟ كلا ليس أولئك أعداء الأئمة في نظر الشيعة بل الصحابة الذين اغتصبوا الأمر من الأئمة وركبوا رقابهم على حد زعم الشيعة.
فدين الشيعة مبني على الغلو في الأئمة والطعن في الصحابة رضوان الله عليهم وكل شخص لا يعتقد هذا الاعتقاد ويؤمن به ويدين لله تعالى به فهو كافرز وحيث أن أهل السنة لا يؤمنون بالأساطير التي وضعتها الشيعة في النص على الأئمة والغلو ورفعهم إلى أعلى عليين والطعن في الذين بلغوا إلينا الإسلام ووصل إلينا عن طريقهم فهم كفار ولندع ذلك كله ولنستمع إلى الجزائري وهو يكفر أهل السنة صراحة دون الحاجة التقية والمداراة فيقول عن الناصب وهو السني: إنه نجس(1) وإنه شر من اليهودي والنصراني والمجوسي وإنه كافر نجس بإجماع علماء الإمامية(2).
ويقول حاخام إيران الأكبر: الخميني: لا يجوز للمؤمنة(3) أن تنكح الناصب. وكذا لا يجوز للمؤمن أن ينكح الناصبة(4) لأنهما بحكم الكفار وإن انتحلا دين الإسلام(5).
فهل يوجد أصرح من هذا الكلام الذي تفوه به داعية التقريب بين المذاهب؟
الخميني وعدم صحة الصلاة على أموات أهل السنة:
لم تكتف الشيعة بمحاربة أهل السنة وهم أحياء واستحلال أموالهم ودمائهم بل تعدى ذلك إلى القول بعدم جواز وصحة الصلاة على موتاهم.
__________
(1) انظر "نجاسة أهل السنة" من هذا الكتاب.
(2) "الأنوار النعمانية" 2/306 .
(3) بتعاليم الرافضة المنحرفة والمنتظرة الخرافة الذي يخرج من سردابه.
(4) انظر "الشيعة ونكاح أهل السنة" من الجزء الأول.
(5) تحرير الوسيلة للخميني 2/286 .(191/7)
إن صلاة الشيعي على ميت أهل السنة لا يحط شيئاً من سيئاته ولا يزيد من حسناته لكن انخداع بعض منتسبي أهل السنة بالرافضة جعلنا نتطرق إلى هذه الجزئية ليعلموا إلى أي مدى وصل بالشيعة في كراهيتهم لأهل السنة، وهل يمكن التقارب بين المنهجين المتناقضين أصلاً ومنهجاً؟
قائل ذلك ليس قدماء الشيعة وغلاتهم بل ممن يوصف بالاعتدال وممن ينادون بضرورة الوحدة والتقريب بين المذاهب وتناسي الخلافات هو بما يسمى بآية الله الخميني زعيم الثورة الإيرانية والأب الروحي لها.
نجده يقول في كتابه "تحرير الوسيلة" الجزء الأول ص79: يجب الصلاة على كل مسلم وإن كان مخالفاً للحق على الأصح ولا يجوز على الكافر بأقسامه حتى المرتد ومن حكم بكفره ممن انتحل الإسلام كالنواصب والخوارج ومن وجد ميتاً في بلاد المسلمين يلحق بهم.
انتبه نقص من ص23 إلى ص34
تخدم في هذا القبر وأبو حنيفة الآن في أسفل الجحيم؟ فقال إن في هذا القبر كلباً أسوداً دفنه جدك المرحوم الشاه إسماعيل لما فتح بغداد قبلك فأخرج عظام أبي حنيفة وجعل موضعها كلباً أسوداً فأنا أخدم ذلك الكلب(1).
خميني وعدم شرعية التحاكم إلى أهل السنة وحرمة تولي الوظائف في دولهم
__________
(1) وبعد هذا الهراء فأي الفريقين أحق بالأمن؟ أهو من يحب ويوقر النبي - صلى الله عليه وسلم - أم من يجعل خرافة لا وجود لها أفضل من سيد ولد آدم عليه السلام.(191/8)
تعتبر الشيعة جميع الحكومات التي قامت منذ عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى يومنا الحاضر – عدا حكومة الإمام علي رضي الله عنه – باطلة لأنها اغتصبت الأمر وحالت دون تولي الأئمة المعصومين ونوابهم زمام الحكم وفي ذلك يقول الخميني في كتابه "الحكومة الإسلامية" ص33: في صدر الإسلام سعى الأمويون ومن يسايرهم لمنع استقرار حكومة الإمام علي بن أبي طالب (ع) مع أنها كانت مرضية لله وللرسول. وبمساعيهم البغيضة تغير أسلوب الحكم ونظامه وانحرف عن الإسلام. لأن برامجهم كانت تخالف وجهة الإسلام في تعاليمه تماماً. وجاء من بعدهم العباسيون، ونسجوا على نفس المنوال. وتبدلت الخلافة وتحولت إلى سلطنة وملكية موروثة. وأصبح الحكم يشبه حكم أكاسرة فارس وأباطرة الروم، وفراعنة مصر، واستمر ذلك إلى يومنا هذا.
ومن العجيب أن يعيب الخميني والشيعة قاطبة توارث الحكم في تلك الدول والحكومات القائمة ويطلبونها وراثية في الإمام علي رضي الله عنه وذريته المعصومين(1).
من أجل ذلك لابد للشيعة من مقاومة تلك الحكومات وأن لا تترك وشأنها بل يجب العمل على إزالتها وإقامة دولة شيعية على أنقاضها وقد تحقق لهم مؤخراً ذلك بالإطاحة بشاه إيران الهالك وإقامة دولة شيعية قوامها سفك الدماء واضطهاد من يخالفهم في عقائدهم الفاسدة(2).
__________
(1) لا يعني هذا أننا نرتضي مبدأ الهرقلية كلما مات هرقل جاء بعده هرقل. ولا كافة الحكومات القائمة الآن استمدت شرعية وجودها من الإسلام بل يوجد من يتكلم باسم الإسلام وهو أبعد الناس وأشد عداوة للإسلام من التي تنكر الإسلام. وأما الشيعة فإنها تصف كل حكومة قامت على أساس غير شيعي بأنها منحرفة عن الإسلام مثل ما وصفت حكومة الصديق وعمر وعثمان رضي الله عنهم بأنها غير راشدة وأنها اغتصبت الخلافة من صاحبها الشرعي: علي رضي الله عنه.
(2) انظر "الحكومة الإسلامية" للخميني ص33 .(191/9)
وبما أن تلك الحكومات البائدة والحاضرة غير إسلامية بالمفهوم الشيعي فقد وجبت مقاطعتها على جميع المستويات منها: عدم التحاكم إليها في فض المنازعات ومن تحاكم إليهم في شيء فقد تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً.
روى الكليني في الأصول من الكافي 1/67 باب اختلاف الحديث، عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان(1) وإلى القضاة أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً. وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به قال الله تعالى: { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } [النساء: 60].
قلت: فكيف يصنعان؟
قال: ينظران إلى من كان منكم ممن روى حديثنا ونظر في حلالنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً. فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا ردّ والرّادّ علينا الرّادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله.
قلت: فإن كان كل رجل اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما، واختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟
قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.
قلت: فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر؟
__________
(1) سلطان أهل السنة.(191/10)
فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه، وإنما الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتّبع، وأمر بيّن غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم.
قلت: فإن كان الخبران عنكما(1) مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟
قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة(2) فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة(3).
قلت: جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة والآخر مخالفاً لهم بأي الخبرين يؤخذ؟
قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد.
فقلت: جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً؟
قال: ينظر إلى ما هم أميل، حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر.
قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعاً ؟
قال: إذا كان ذلك فأرجه(4) حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات.
والخميني يقرر حسب الروايات التي استدل بها على تحريم الدخول في أعمال أهل السنة والعون لهم والسعي في حوائجهم بأنه: عديل الكفر(5).
ويستثني من ذلك إذا كان الدخول ووتولي بعض أعمالهم غايته تقويض دولتهم والتشفي منهم حسب ما ذكره: عن أبي الحسن علي بن محمد عليه السلام:
أم كان محمد بن عيسى كتب إليه: يسأله عن العمل لبني العباس وأخذ ما يتمكن من أموالهم هل فيه رخصة؟
__________
(1) يعني الباقر والصادق (رض).
(2) أهل السنة.
(3) انظر "مخالفة أهل السنة واجبة عند الشيعة" ص من الكتاب.
(4) أي قف.
(5) المكاسب المحرمة 2/112 .(191/11)
فقال: "ما كان المدخل فيه بالجبر والقهر فالله قابل للعذر وما خلا ذلك فمكروه" إلى أن قال: وكتبت إليه في جواب:
إن مذهبي في الدخول في أمرهم وجود السبيل في إدخال المكروه على عدوه وانبساط اليد في التشفي منهم بشيء أتقرب به إليهم.
فأجاب: "من فعل ذلك فليس مدخله في العمل حراماً بل أجراً وثواباً"(1).
فإن كانت الغاية من الدخول إعمال معاول الهدم في الدولة الإسلامية ومساعدة أعدائهم في إضعافها فهذا جائز مشروع لدى الشيعة وفي ذلك يقول الخميني أيضاً في أحد كتبه:
"إلا أن يكون في دخوله الشكلي نصر حقيقي للإسلام والمسلمين مثل دخول علي بن يقطين ونصير الدين الطوسي رحمهما الله"(2).
ونصير الدين الطوسي كان من أكبر المساعدين لهولاكو في مذبحة بغداد وكذلك الخائن الشيعي الوزير ابن العلقمي عليهما وعلى من يترحم عليهما اللعنة.
فالنصر الحقيقي عند الخميني ما هو إلا إبادة المسلمين السنة ومساعدة أعدائهم وقد ترجم الخميني عملياً ذلك حينما وضع كافة الإمكانيات الإيرانية تحت تصرف الطاغية النصيري حافظ الأسد حاكم سوريا في إبادة الشعب المسلم السوري وما أحداث حماة وإبادة عشرات الألوف من المسلمين ببعيد.
ويذكر الخميني "أن الروايات الواردة في الجواز على كثرتها ضعيفة سنداً لكن الوثوق والاطمئنان حاصل بصدور بعضها إجمالاً فلابد من الأخذ بأخصها مضموناً(3).
__________
(1) المصدر السابق 2/133 .
(2) الحكومة الإسلامية ص142 .
(3) المكاسب 2/133 .(191/12)
ويشرح لنا ذلك بأن "هذا كله مع احتمال أن يكون التسويغ" للورود في سلطانهم في تلك الأعصار تسويغاً سياسياً لبقاء المذهب. فإن الطائفة المحقة(1) في ذلك العصر كانت سلطة الأعادي(2) وكانت خلفاء الجور وأمرائهم ألد الأعداء لهذه العصابة، فلولا دخول بعض أمراء الشيعة وذوي جلالتهم في الحكومات والتولي للأمور لحفظ مصالحهم والصلة إليهم والدفع منهم لكان الأفراد السواد منهم في معرض الاستهلاك في الدول بل في معرض تزلزل الضعفاء منهم من شدة الضيق عليهم فكانت تلك المصلحة موجبة لترغيبهم في الورود في ديوانهم(3).
الخميني واستحلال أموال ودماء أهل السنة
أموال أهل السنة مباحة عند الشيعة الروافض حسب الروايات التي ذكروها عن أئمتهم في كتبهم المعتمدة. وأن عدم قيامهم بذلك في الوقت الحاضر يرجع إلى أنهم في هدنة مع أهل السنة إلى أن يقوم قائمهم المهدي.
والشيعي إذا استطاع بطريقة ما الاستيلاء على تلك الأموال ولو قبل قيام قائمهم فإن ذلك حلال على شرط أداء الخمس إلى نائب الإمام لأنه يقوم مقامه في غيبته.
عن حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه السلام قال: خذ مال الناصب حيثما وجدته وادفع إلينا بالخمس(4).
وفي رواية أخرى "مال الناصب وكل شيء يملكه حلال"(5).
__________
(1) الشيعة.
(2) أهل السنة.
(3) المصدر السابق 136 .
(4) جامع أحاديث الشيعة 8/532 باب "وجوب الخمس فيما أخذ من مال الناصب وأهل البغي".
(5) المصدر السابق 8/533 .(191/13)
ويقول حسين الدرازي البحراني: إن الأخبار الناهبة عن القتل وأخذ الأموال منهم(1) إنما صدرت تقية أو منا كما فعل علي عليه السلام بأهل البصرة. فاستناد شارح المفاتيح في احترام أموالهم إلى تلك الأخبار غفلة واضحة لإعلانها بالمن كما عرفت. وأين هو عن الأخبار التي جاءت في خصوص تلك الإباحة مثل قولهم عليهم السلام في المستفيض: خذ مال الناصب أينما وقعت وادفع لنا الخمس. وأمثاله. والتحقيق في ذلك كله حل أموالهم ودمائهم في زمن الغيبة دون سبيهم حيث لم تكن ثمة تقية وإن كل ما جاء عنهم عليهم السلام بالأمر بالكف فسبيله التقية أو خوفاً على شيعتهم(2).
والخميني يجوّز الاستيلاء على أموال أهل السنة ولو كانت بطريقة غير شرعية في حين أنه يمنع ذلك من أموال أهل الذمة فيقول:
__________
(1) أهل السنة.
(2) المحاسن النفسانية ص167 .(191/14)
يجب الخمس في سبعة أشياء: الأول ما يغتنم قهراً بل سرقة وغيلة – إذا كانتا في الحرب ومن شؤونه – من أهل الحرب الذين يستحل دماءهم وأموالهم وسبي نسائهم وأطفالهم إذا كان الغزو معهم بإذن الإمام عليه السلام من غير فرق ما حواه العسكر وما لم يحوه كالأرض ونحوها على الأصح. وأما ما اغتنم بالغزو من غير إذنه فإن كان في حال الحضور والتمكن من الاستئذان منه فهو من الأنفال، وأما ما كان في حال الغيبة، وعدم التمكن من الاستئذان فالأقوى وجوب الخمس فيه سيما إذا كان للدعاء إلى الإسلام، وكذا ما اغتنم منهم عند الدفاع إذا هجموا على المسلمين في أماكنهم ولو في زمن الغيبة. وما اغتنم منهم بالسرقة والغيلة غير ما مرّ وكذا بالربا والدعوى الباطلة ونحوها فالأحوط إخراج الخمس منها من حيث كونه غنيمة لا فائدة، فلا يحتاج إلى مراعاة مؤونة السنة، ولكن الأقوى خلافه، ولا يعتبر في وجوب الخمس في الغنيمة بلوغها عشرين ديناراً على الأصح، نعم يعتبر فيه أن لا يكون غصباً من مسلم أو ذمي أو معاهد ونحوهم من محترمي المال، بخلاف ما كان في أيديهم من أهل الحرب وإن لم يكن الحرب معهم في تلك الغزوة، والأقوى إلحاق الناصب بأهل الحرب في إباحة ما اغتنم منهم وتعلق الخمس به، بل الظاهر جواز أخذ ما له أي وجد وبأي نحو كان، ووجوب إخراج خمسه"(1)....
ولم تقتصر الشيعة على استباحة الأموال بل تعدى ذلك إلى إباحة إراقة دماء أهل السنة ولو بدون وجه حق. وأنه واجب عند الشيعة ومرتبط بحضور أئمتهم غير أن ذلك لا يمنع إن استطاعوا إليه سبيلاً على أن يترتب على ذلك ضرر يحدق بالشيعة وإليك بعض ما روي في هذا الشأن:
في آخر رواية إسحاق بن عمار: (لولا أنا نخالف عليكم أن يقتل رجل منكم برجل منهم ورجل منكم خير من ألف رجل منم لأمرناكم بالقتل لهم ولكن ذلك إلى ذلك الإمام عليه السلام)(2).
__________
(1) تحرير الوسيلة للخميني 1/352 .
(2) المحاسن النفسانية ص166 .(191/15)
وعلق الدرازي عليها قائلاً:
وربما يستنبط من هذه الرواية أن جواز قتلهم مخصوص بحضورهم صلوات الله عليهم وإذنهم. وقد عرفت أن الأخبار جاءت بالإذن في حال غيبتهم كحال حضورهم فلعل هذا مخصوص بزمن التقية(1).
وفي صحيحة الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام:
فلا يحل قتل أحد من النصاب والكفار في دار التقية إلا قاتل أو ساع في فساد وذلك إذا لم تخف على نفسك أو على أصحابك(2).
وعن الريان بن الصلت قال: قلت للرضا عليه السلامز
إن العباس يسمعني فيك ويذكرك شيئاً كثيراً وهو كثيراً ما ينام عندي ويقيل، فترى أن آخذ بحلقه وأعصره حتى يموت؟ ثم أقول مات فجأة فقام ونفض يده ثلاثاً وقال: لا يا ريان لا يا ريان.
فقلت: إن الفضل بن سهل هوذا يوجهني إلى العراق في أمواله والعباس خارج من بعدي بأيام إلى العراق فترى أن أقول لمواليك المقيمين أن يخرج منهم عشرون أو ثلاثون كأنهم قاطعوا طريق أو صعاليك فإذا اجتاز بهم قتلوه فيقال قتله الصعاليك.
فسكت ولم يقل لي نعم ولا لا.
وعلق عليها فقال:
ولعل سبب النهي في الأول هو ظهور التقية وأن ذلك الاحتيال مما لا يزيلها وسبب الثاني في السكوت هو التقية فيدل على الإباحة لأنه لا تقية في النهي لو أراده(3).
ويقول الجزائري بعد أن بيّن معنى الناصب:
والثاني في جواز قتلهم واستباحة أموالهم، قد عرفت أن أكثر الأصحاب ذكروا للناصبي ذلك المعنى الخاص في باب الطهارات والنجاسات وحكمه عندهم كالكافر الحربي في أكثر الأحكام، وأما على ما ذكرناه له من التفسير فيكون الحكم شاملاً كما عرفت. روى الصدوق طاب ثراه في العلل مسنداً إلى داود بن فرقد.
قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في الناصب؟
قال: حلال الدم لكني أتقي عليك، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطاً أو تغرقه في لكي لا يشهد به عليك فافعل.
قلت: فما ترى في ماله؟
قال: خذه ما قدرت.
__________
(1) المصدر السابق.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق ص167 .(191/16)
وروى شيخ الطائفة نور الله مرقده في باب الخمس والغنائم من كتاب التهذيب بسند صحيح عن مولانا الصادق عليه السلام:
خذ مال الناصب حيث وجدت وابعث إلينا بالخمس.
وروى بعده بطريق حسن عن المعلى قال:
خذ مال الناصب حيث وجدت وابعث إلينا بالخمس.
قال: ابن إدريس (ره) الناصب المعني في هذين الخبرين أهل الحرب لأنهم ينصبون الحرب للمسلمين، وإلا فلا يجوز أخذ مال مسلم ولا ذميّ على وجه من الوجوه.
وللنظر فيه مجال: أما أو لا فلان الناصبي قد صار في الإطلاقات حقيقة في غري أهل الحرب، ولو كانوا هم المراد لكان الأولى التعبير عنهم بلفظهم من جهة ملاحظة التقية لكن لما أراد عليه السلام بيان الحكم الواقعي عبر بما ترى.
وأما قوله: لا يجوز أخذ مال مسلم ولا ذمي فهو مسلم ولكن أنى لهم والإسلام وقد هجروا أهل بيت نبيهم المأمور بودادهم في محكم الكتاب بقوله تعالى: { قُل لاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }. فهم قد أنكروا ما علم من الدين بالضرورة وأما إطلاق الإسلام عليهم في بعض الروايات فلضرب من التشبيه والمجاز والتفاتاً إلى جانب التقية التي هي مناط هذه الأحكام.
وفي الروايات أن علي بن يقطين وهو وزير الرشيد قد اجتمع في حبسه جماعة من المخالفين. وكان من خواص الشيعة فأمر غلمانه وهدموا سقف المحبس على المحبوسين فماتوا كلهم وكانوا خمسمائة رجل تقريباً. فأراد الخلاص من تبعات دمائهم فارسل الإمام مولانا الكاظم عليه السلام.
فكتب عليه السلام إليه جواب كتابه: بأنك لو كنت تقدمت إلي قبل قتلهم لما كان عليك شيء من دمائهم وحيث أنك لم تتقدم إلي فكفّر عن كل رجل قتلته بتيس والتيس خير منه.(191/17)
فانظر إلى هذه الدية الجزيلة التي لا تعدل دية أخيهم – الأصغر وهو كلب الصيد فإن ديته عشرون درهماً، ولا دية أخيهم الأكبر وهو اليهودي أو المجوسي فإنها ثمانمائة درهم وحالهم في الآخرة أخسّ وأنجس(1).
وبعد هذا لا يمكن أن يقال أن الشيعة الرافضة لا تستبيح دماء وأموال أهل السنة وأنها من القربات التي يتقربون بها إلى الله تعالى.
تم الكتاب ولله الحمد.
__________
(1) الأنوار النعمانية 2/307-308 .(191/18)
عقيدة الشيعة المعاصرين في كتاب الله
ونتحدث عن ذلك في مجالين:
المجال الأول:
ما امتلأت به كتب الشيعة من أساطير تقول بأن في كتاب الله نقصاً وتحريفاً.
وما تفوه به بعض زنادقتهم من القول بهذا مما عرضنا له فيما سبق.. فماذا يقول شيعة العصر الحاضر عن هذه القضية التي تحول بينهم وبين الإسلام.. وهم يسطون في الدعوة للتقارب مع أهل السنة.. ويرفعون شعار الوحدة الإسلامية؟!
المجال الثاني:
ماذا يقول شيعة العصر الحاضر عن ذلك التأويل الباطني لكتب الله والذي هو تحريف لمعناه وإلحاد في آياته.. والذي يجعل من كتاب الله كتاباً آخر غير ما في أيدي المسلمين مما عرضنا صورة له فيما سلف.
المجال الأول:
نستطلع فيما يلي آراء المعاصرين في "فرية التحريف" التي شاع الحديث عنها في كتب لشيعة. فمإذا نجد؟
نجد وجوهاً أربعة مختلفة:
الوجه الأول: إنكار وجودها في كتبهم أصلاً.
الوجه الثاني: الاعتراف بوجودها ومحاولة تبريره.
الوجه الثالث: المجاهرة، والاحتجاج علي هذا الافتراء.
الوجه الرابع: التظاهر بإنكار هذه الفرية، ومحاولة إثباتها بطرق ماكرة خفية.
الوجه الأول: إنكار وجودها في كتبهم أصلاً:
لقد اتجه صنف من شيوخهم إلى إنكار وجودها أصلاً، ومن هؤلاء عبد الحسين الأميني النجفي في كتابه الغدير، وذلك حينما رد على ابن حزم ما نسبه إلى الشيعة من القول بهذه المقالة، فقال هذا النجفي: "ليت هذا المجترئ أشار إلى مصدر فريته من كتاب للشيعة موثقة به، أو حكاية عن عالم من علمائهم تقيم له الجامعة وزناً، بل نتنازل معه إلى قول جاهل من جهالهم، أو قروي من بسطائهم أو ثرثار، كمثل هذا الرجل يرمي القول على عواهنه، وهذه فرق الشيعة في مقدمتهم الإمامية مجمعة على أن ما بين الدفتين هو ذلك الكتاب لا ريب فيه" [الغدير: 3/94–95، وبمثل هذا الإنكار قال شيخهم الآخر: لطف الله الصافي في كتابه "مع الخطيب في خطوطه العريضة": ص71.].(192/1)
ويقول عبد الحسين شرف الدين الموسوي: "نسب إلى الشيعة القول بالتحريف بإسقاط كلمات وآيات فأقول: نعوذ بالله من هذا القول ونبرأ إلى الله من هذا الجهل. وكل من نسب هذا الرأي إلينا جاهل بمذهبنا أو مفتر علينا، فإن القرآن الحكيم متواتر من طرقنا بجميع آياته وكلماته [أجوبة مسائل جار الله: ص28-29.].
كما نفى لطف الله الصافي أن يكون كتاب فصل الخطاب قد ألف لإثبات هذه الفرية، وقال بأن القصد من تأليفه محاربتها [مع الخطيب في خطوطه العريضة: ص64-66.]، كما نهض بعضهم للدفاع عن الكليني الذي هو أحد أعمدة هذا الكفر [يقول صاحب عقيدة الشيعة في دفاعه عن الكليني: "النقص لا يدعيه أحد من علماء الإمامية حتى ثقة الإسلام الإمام الكليني رضي الله عنه (!) فإنه يعتقد بنزاهة القرآن وصيانته عن النقص والزيادة، ومع ذلك فقد تهجم الشيخ أبو زهرة وتحامل علية وأكثر من الطعن فيه. (عقيدة الشيعة ص162)، وقال: "أن الكليني لا يقول بنقص القرآن، فكيف يجوز لمسلم أن ينسب إليه هذا القول، وكيف جاز للشيخ أبو زهرة أن ينسبه إليه دون تورع، وكيف جاز له أن يهاجمه بتلك المهاجمة القاسية؟".
وأقول: إن الأصل في نسبة ذلك إلي الكليني هم شيوخ الشيعة، وكتابه الكافي شاهد علي ذلك وهو عار عليه. وعلى الشيعة أبد الدهر، ولو وقع الكافي في أيدي أئمة الإسلام لكان لهم حكم على الاثني عشرية غير هذا الحكم، وقد اعتمد أبو زهرة – رحمة الله – على ما قاله الكاشاني في تفسير الصافي حينما نسب ذلك إلى الكليني (تفسير الصافي 1/ المقدمة السادسة ص52).
والكاشاني هذا من أعمدة المذهب الاثني عشري، فهو صاحب الوافي الجامع لكتبهم الأربعة، والذي يعدونه من المصادر المعتمدة عندهم، كما نسب ذلك أيضاً إلي الكليني خاتمة شيوخهم ومحدثيهم النوري في كتابه: فصل الخطاب (انظر: فصل الخطاب ص30-31) وغيرهما – كما مر -.(192/2)
فهل يظن هؤلاء أن هذا يخفى على أهل السنة، وكيف يدافعون عن مثل الكليني الذي سطر هذا الكفر، ويقعون في صحابة رسول الله الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه؟!].
النقد:
إن إنكار ما هو واقع لا يجدي شيئاً في الدفاع، وسيؤول من جانب الشيعة ومن جانب المطلعين على كتبهم من أهل السنة بأنه تقية.. فالمسألة اليوم لم تعد تقبل مثل هذا الأسلوب في الرد، فقد فضحتهم مطلبع النجف وطهران، وقد كشف المستور، وأبان المخفي شيخهم الطبرسي فيما جمعه في كتابه "فصل الخطاب" فلا ينفع مثل هذا الموقف.
وهذا المسلك في الإنكار يسلكونه في كل مسألة ينفردون بها عن المسلمين، كما نبه على ذلك شيخهم الطوسي في الاستبصار في أكثر من موضع بأن ما كان موضع إجماع من أهل السنة تجري فيه التقية [انظر: الاستبصار: 4/155.]، وبهذا المبدأ هدموا كل الروايات التي تتفق مع المسلمين وتعبر عن مذهب البيت وعاشوا مع المسلمين بالخداع والتزوير، يوافقونهم في الظاهر ويخالفونهم في الباطن.
ولكن هذه التقية سرعان ما تنكشف في الوقت الحاضر، إذ إن كتبهم أصبحت بمتناول الكثيرين.
فالنجفي الذي طلب - في رده على ابن حزم – أن يثبت دعواه بكلام أي فرد من أفراد الشيعة هل يجهل ما جاء في الكافي والبحار، وما صرح به شيوخهم في هذا الضلال مما مضى ذكره.. وهل يتصور أن هذا القول ينخدع به أحد في حوزته كتاب من كتبهم التي سارت على هذا الكفر؟.
ومن العجيب أنه وهو ينكر وجود تلك المقالة في كتبهم في الجزء الثالث من كتابه نراه في الجزء التاسع من الكتاب نفسه يصرح هو بهذا الكفر، حيث قال وهو - يتحدث عن بيعة المهاجرين والأنصار لصديق هذه الأمة تلك البيعة العظيمة التي جمعت الأمة – وأحبطت مؤامرات أعدائها - قال: ".. بيعة عمت شؤمها الإسلام وزرعت في قلوب أهلها الآثام.. وحرفت القرآن وبدلت الأحكام" [الغدير: 9/388.].(192/3)
بل أورد آية مفتراة في نفس الكتاب [ونص هذه الآية المزعومة: (اليوم أكملت لكم دينكم بإمامته فمن لم يأتم به وممن كان من ولدي(؟!) من صلبه إلى يوم القيامة فأولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إن إبليس أخرج أدم "عليه السلام" من الجنة مع كونه صفوة الله بالحسد فلا تحسدوا فتحبط أعمالكم وتزل أقدامكم). (المصدر السابق: 1/214-216).
وهي واضحة الافتراء في ركاكة لفظها، ومعناها، ومع ذلك يزعم هذا الرافضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنها نزلت في علي، وحاول أن يموه ويخدع القراء فنسب هذا الافتراء لمحمد بن جرير الطبري السني، وهو محمد بن جرير الطبري الرافضي إن صحت النسبة إليه.. فالرجل افترى على الله وكتابه ورسوله وأئمة المسلمين.]... وهكذا يثبت الرجل ما نفاه. وهذا الأسلوب: الإثبات مرة والإنكار مرة أخرى، والظهور أمام الناس بأقوال مختلفة ونصوص متناقضة مسلك لهم مطرد في أحديثهم وفي كلام شيوخهم، وقد ورد في أخبارهم بيان للسبب في هذا "النهج" وهو عدم وقوف العامة (أهل السنة) على حقيقة مذهبم فلا يتعرضون له بشيء [انظر: أصول الكافي: 1/65، وبحار الأنوار: 2/236.].
أما أسلوب عبد الحسين في نفيه لهذا الأسطورة ففيه شيء من المكر والمراوغة قد لا ينتبه له إلا من اعتاد على أساليبهم وحيلهم.. تأمل قوله: "فإن القرآن الحكيم متواتر من طرقنا بجميع آياته وكلماته" ماذا يعني بالقرآن المتواتر من طرقهم؟ هل هو القرآن الذي بين أيدنا أو القرآن الغائب مع المنتظر كما يدعون؟!
إن تخصيصه بأنه متواتر من طريقهم يلمس منه الإشارة للمعنى الأخير؛ ذلك أن القرآن العظيم كان من أسباب حفظه تلك العناية التي بذلها عظيما الإسلام أبو بكر وعمر، وأتمها أخوهما ذو النورين عثمان بن عفان في جمعه وتوحيد رسمه.. تحقيقًا لوعده عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر، آية: 9.].(192/4)
ومعتقد الشيعة في الخلفاء الثلاثة معروفة، فهذا القرآن إذًا غير متواتر من طرقهم.
أما المحاولة الغبية من لطف الله الصافي وأغا بزرك الطهراني في التستر على فضيحة الشيعة الاثني عشرية الكبرى، والعار الذي لا يستر: وهو "كتاب فصل الخطاب" فهي محاولة يائسة، لا سيما وأن هذا الكتاب قد خرج من الدوائر الشيعية ووصل إلى أيدي السنة، بل قد وصل إلى أعداء المسلمين ليستفيدوا منه في الكيد لهذا الأمة ودينها [وقد صرح بهذا بعض الشيعة وهو: محمد مهدي الأصفهاني في كتابه أحسن الوديعة: ص90.].
وقد نص في مقدمته على غرضه، وأقام الحجج المزعومة على مراده - كما سيأتي -.
فهل يمكن التستر عليه وقد جمع كل أساطيرهم، وأقوال شيوخهم بعد أن كانت متفرقة؟.
الوجه الثاني: الاعتراف بوجودها ومحاولة تبريره:
وقد أتخذ هذا الاعتراف صوراً متعددة، فصنف منهم يعترف بأن عندهم بعض الروايات في تحريف القرآن ولكنه يقول: إنها "ضعيفة شاذة وأخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً ، فإما أن تؤول بنحو من الاعتبار أو يضرب بها الجدار" [محمد حسين آل كاشف الغطاء/ أصل الشيعة: ص63-64.].
وصنف يقول بأنها ثابتة، ولكن "المراد في كثير من رويات التحريف من قولهم عليه السلام: كذا نزل هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن والتأويل" [الطبطبائي/ الميزان في تفسير القرآن: 12/ 108.].
وصنف ثالث يقول بأن القرآن الذي بين أيدينا ليس فيه تحريف، ولكنه ناقص قد سقط منه ما يختص بولاية علي "وكان الأولى أن يعنون المبحث تنقيص – كذا – الوحي أو يصرح بنزول وحي آخر وعدمه حتي لا يتمكن الكفار من التمويه على ضعفاء العقول بأن في كتاب الإسلام تحريفاً باعتراف طائفة من المسلمين" [أغابزرك الطهراني/ الذريعة: 3/313-314.]!!!.(192/5)
وصنف رابع يقول: نحن معاشر الشيعة نعتقد بأن هذا القرآن الذي بين أيدينا الجامع بين الدفتين (كذا يعني المجموع) هو الذي أنزله الله تعالى على قلب خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم من غير أن يدخله شيء بالنقص أو بالزيادة، كيف وقد كفل - كذا – الشارع بنفسه تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر 9]. على أننا معاشر الشيعة (الاثني عشرية) نعترف بأن هناك قرآن كتبه الإمام علي رضي الله عنه بيده الشريفة، بعد أن فرغ من كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنفيذ وصاياه، فجاء به إلي المسجد فنبذه الفارق عمر بن الخطاب قائلاً للمسلمين: حسبنا كتاب الله وعندكم القرآن، فرده الإمام إلى بيته ولم يزل كل إمام يحتفظ عليه كوديعة إلهية إلى أن ظل محفوظًا عند الإمام المهدي القائم عجل الله تعالى فرجنا بظهوره [الخراساني/ الإسلام على ضوء التشيع: ص204.].
واتجاه خامس يقول: "وقع بعض علمائنا المتقدمين بالاشتباه فقالوا بالتحريف ولهم عذرهم، كما لهم اجتهادهم، وإن أخطأوا بالرأي، غير أنا حينما فحصنا ذلك ثبت لنا عدم التحريف فقلنا به وأجمعنا علية" [الشيعة والسنة في الميزان، محاكمة بقلم س خ، نشر نادي الخاقاني ص48-49.].
وفريق سادس يقول بأن هذه الفرية، إنما ذهب إليها من لا تمييز عنده بين صحيح الأخبار وسقيمها من الشيعة وهم الإخباريون، أما الأصوليون فهم ينكرون هذا الباطل [انظر: الطبطبائي/ في تعليقه على الأنوار النعمانية: 2/359.].
النقد:
نبدأ في مناقشة الآراء السابقة علي حسب ترتيب عرضها:(192/6)
أولاً: إن القول بأن تلك "الأساطير" هي في مقياس الشيعة روايات ضعيفة شاذة يرد عليه ما ردده طائفة من شيوخهم من القول باستفاضتها وتواترها كالمفيد والكاشاني، ونعمة الله الجزائري وغيرهم، بل إن المجلسي جعل أخبارها كأخبار الإمامة في الكثرة والاستفاضة – كما سلف -، كما أن هذه المقالة قد أصبحت مذهباً لطائفة من كبار شيوخهم.
ومع ذلك فإن هذا الحكم من كبير علماء الشيعة على تلك الروايات بالشذوذ مع كثرتها التي اعترف بها شيوخهم تدل على شيوع الكذب في هذا المذهب بشكل كبير، وهذا الحكم المعلن – إن كان بصدق – ينبغي أن يكون دافعاً للحكم على عقائد الشيعة الأخرى التي شذّت بها عن المسلمين ، كما ينبغي أن يكون منطلقاً لنقد رواياتهم وجرح رجالهم ، فمن روى تلك الروايات وجعلها مذهبه لا ينبغي أن يوثق به كالكليني وإبراهيم القمي الذين كان لهما النصيب الأكبر في تأسيس هذا الكفر في مذهب الشيعة وإشاعته بينهم [ولكن صاحب هذا القول – الذي نناقشه – وهو محمد حسين آل كاشف الغطاء يعظم بعض ملحدي الشيعة، الذين يجاهرون بهذا الكفر فيقول عن النوري الطبرسي صاحب فصل الخطاب: "حجة الله على العالمين، معجب الملائكة بتقواه، من لو تجلى الله لخلقه لقال: هذا نوري، مولانا ثقة الإسلام حسين النوري" (محمد آل كاشف الغطاء/ مقدمة كشف الأستار لحسين النوري الطبرسي، مطبعة مؤيد العلماء الجديدة بقم 1318). وهذا المديح جاء بعد اقتراف النوري الطبرسي لجريمته.].(192/7)
ثانياً: أما القول بأن المقصود بروأيات الشيعة في هذا هو تحريف بعض النصوص التي نزلت لتفسير آيات القرآن فهذا تأكيد للأسطورة وليس دفاعاً عنها؛ ذلك أن من حرّف وردّ وأسقط النصوص النازلة من عند الله والتي تفسر القرآن وتبينة، هو لرد وتحريف الآيات أقرب، ومن لم يكن بأمين على المعنى كيف يؤتمن على اللفظ؟ ثم إذا فقدت المعاني ما قيمة الألفاظ؟ ثم كيف يكون تفسير الصحابة هو تحريف نظر هذه الفئة، و"تحريفات" القمي والكليني والمجلسي لمعاني القرآن هي التفسير، والتي لا يشك من له أدنى صلة بلغة العرب أنها إلحاد في آيات الله وتحريف لها، وإذا فقدت معاني القرآن وغابت مع المنتظر فكيف تهتدي الأمة بآياته أم تبقى الأمة ضائعة تائهة؟!
ثم إنك ترى أن "النموذج" الذي أخرجوه لنا على أنه من معاني القرآن الوارد عن الأمة يكفي مجرد تأمله لمعرفة كذبة فكيف يجعل هو "التفسير الإلهي" الذي رده الصحابة كما يفترون؟!
على أن هذا "التأول لنصوص الأسطورة" لا يتلاءم مع كثير من تلك الروايات؛ إذ إن في رواياتهم "المفتراة" التصريح بأن النص القرآني قد شابه – بزعمهم – تغيير في ألفاظه وكلماته [مثل ما يفترونه أن علياً قال: وأما ما حرف من كتاب فقوله: "كنتم خير (أئمة) أخرجت للناس" فحرفت إلى خير أمة، ومنهم الزناة واللاطة والسراق وقطاع الطريق والظلمة وشراب الخمر والمضيعون لفرائض الله والعدوان عن حدوده أفترى الله تعالى مدح من هذه صفته (يعني واضح هذه الرواية – لعنه الله – صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن القرآن العظيم أثنى عليهم، ودين الشيعة يقوم علي سبهم فطعنوا في كتاب الله لهذا السبب.(192/8)
ومنه قوله تعالى: (أن تكون أمة هي أربى من (أئمة) فجعلوها أمة... وقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم (أئمة) وسطًا (بين الرسول وبين الناس) فحرفوها وجعلوها أمة. ومثله في سورة عم "ويقول الكافر يا ليتني كنت (ترابياً) فحرفوها وقالوا تراباً وذلك أن الرسول كان يكثر من مخاطبتي بأبي تراب، ومثل هذا كثير.
(بحار الأنوار: 93/26-28).
فهل هذا الرواية وأمثالها تتفق مع تأويلهم لها بأنها من قبيل التفسير؟] فهذا التأويل ليس بمخرج سليم من هذا العار والكفر.. والموقف الحق هو ردها ورد مرويات من اعتقدها لأنه ليس من أهل القبلة.
ثالثاً: أما القول بأن القرآن ناقص وليس بمحرف فهذا كسابقه ليس بدفاع ولكنه تأكيد لأساطيرهم وطعن في كتاب الله بما يشبه الدفاع فكيف تهتدي الأمة بقرآن ناقص، ومن قدر واستطاع على إسقاط قسم منه هو قادر على تحريف ما بقي.. ولكن الشيء من معدنه لا يستغرب فصاحب هذا القول هو أغا بزرك الطهراني وهو تلميذ النوري صاحب "فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب".
ولذلك ترى هذا الطهراني يحاول خداع المسلمين بزعمه أن مؤلف فصل الخطاب شافهه أنه أراد الدفاع عن القرآن وإنما أخطأ في العنوان [ذكر ذلك كتابه أعلام الشيعة، الجزء الأول، من القسم الثاني: ص550.] فهو يحاول أن يتستر على معتقده الباطل بأساليب من المكر والمراوغة، وهاهو ينكشف بهذا الدفاع فهو يصرح بأن للقرآن بقية، وأن للوحي الإلهي تكملة، وأن الأولى أن يُعَنون بدل التحريف بعنوان "نقص القرآن أو نزول وحي إلهي آخر"، ويزعم أن في هذا دفاعاً عن القرآن أمام الأعداء؟ وهذا هو مبلغ دفاعه عن القرآن والإسلام – سبحانك هذا بهتان عظيم ـ.(192/9)
رابعاً: أما ما قاله المصنف الرابع بوجود قرآن عند منتظرهم.. فهذا يعني أن الدين لم يكمل، والله يقول {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة 3] ثم ما فائدة العبادة من كتاب غائب مع منتظر مضى على احتجابه – المزعوم – قرون، فإن كان لابد منه فما حكم الشيعة على ما مضى من القرون بما فيهم أسلافهم من الشيعة هل هم على ضلال.. وإن كانت الأمة تهتدي بدونه فما قيمة كل هذه الدعاوى؟!
الحقيقة أن كل هذه "الترهات" لإقناع أتباعهم بما عليه الرافضة من شذوذ لا شاهد لها من كتاب الله، فحالوا التلبيس على الأتباع والتغرير بهم بأن دليلها يوجد في القرآن الآخر، أو الكامل، أو المفسر الغائب مع المنتظر.
ثم إن مسألة وجود قرآن آخر، ومسألة الطعن في كتاب الله سبحانه هما في كتب الشيعة الأساسية مسألة واحدة لا تنفصل إحداهما عن الأخرى، فهم يزعمون أن علياً جمع القرآن بتمامه وجاء به إلى الصحابة فردوه وألفوا قرآناً حذفوا منه ما يتصل بولاية علي.. وبقي القرآن المزعوم يتوارثه الأمة حتى وصل إلى المنتظر؟
فهذا الرافضي ومن على منهجه أراد الخداع والتلبيس، فتراه يتدرج بالقارئ المسلم لإقناعه بهذه الفرية بإطلاعه علي أحد وجوهها.
خامساً: أما الفئة الخامسة الذين يقولون بأن القول بالتحريف رأي خاطئ، وضلال سابق كنا نذهب إليه ثم تبين لنا الحق فعدلنا عنه. فإنه ليسر المسلم أن يرجعوا عن هذا الملف الفاسد.. ولكن هذا القول قد يكون للتقية أثر فيه.. ذلك أن أصحاب هذه المقالة والكتب التي حوت هذا الكفر، هي محل تقدير عند هؤلاء، وصدق الموقف في هذه المسألة يقتضي البراءة من معتقديها وكتبهم كالكليني وكتابة الكافي، والقمي وتفسيره وغيرهما ممن ذهب إلى هذا الكفر، فكيف يكونون إلى اليوم موضع القدوة، ومحل الثقة، تعتمد كتابهم كمصادر في تلقي العقيدة والشريعة، ويوثق بأقوالهم ويقتدى بأفعالهم؟!(192/10)
ثم إن القول بأن الاثني عشرية أجمعهم رجعوا عن هذا منقوض بصنيع عالمهم المعاصر حسين النوري الطبرسي في كتابه "فصل الخطاب"، والذي ألفه لإثبات هذه الفرية - كما سلف -.
وهو منقوض أيضاً بكتاب تحريف القرآن لسيدهم علي تقي بن السيد أبي الحسن النقوي اللكنهوي – المعاصر –المولود سنة (1323ه) وهو بالأردية [الذريعة إلي تصانيف الشيعة: 3/394.] وغيرهما من مؤلفاتهم في هذا الضلال، وهو معارض أيضاً بما قدمناه عن أغا بزرك الطهراني والأميني النجفي وغيرهما. فلا تزال فئة منهم يتيهون في هذا الضلال ويضربون فيه بسهم.. ثم لِمَ يقال في أمر أجمع عليه المسلمون وهو سلامة كتاب الله سبحانه وحفظ الله له لِمَ يقال إن من خالف فيه له عذره واجتهاده، وهل هي مسألة اجتهادية، وهل فيها عذر وتأويل سائغ..؟
سادساً: أما ما ذهبت إليه الطائفة الأخيرة من أن هذه المقالة لم يقال بة كل الاثني عشرية وإنما هي مقالة لفرقة منهم وهم الأخباريون الذين لا يميزون بين صحيح الحديث وسقيمه.. فهذا قول قاله أيضاً بعض شيوخ الشيعة القدامى وهو الشريف المرتضى، حيث قال: "من خالف في ذلك من الإمامية لا يعتد بخلافهم، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث (من الشيعة) نقلوا أخباراً ضعيفة وظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته" [نقل ذلك عنه: الطوسي في التبيان: 1/3، والطبرسي في مجمع البيان: 1/15.].
كما أن القول بأن هذه الفرية خاصة بالأخباريين قالها وأكدها مرجع الشيعة الأكبر في عصره جعفر النجفي المتوفى سنة (1227ه).(192/11)
ولكنه وهو من الأصوليين يذهب في روايات التحريف الواردة في كتب الشيعة مذهباً لا يقل خطورة عن رأي إخوانه الأخباريين، حيث قال بعد أن ذكر أن تلك الفرية هي رأي للأخباريين وهو باطل بدلاله العقل والنقل وما علم من الدين بالضرورة، قال: "فلا بد من تنزيل تلك الأخبار، إما على النقص من الكلمات المخلوقة [لأنهم يعتقدون – كما سلف – أن القرآن مخلوق على نفس منهج أهل الاعتزال.] قبل النزول إلى سماء الدنيا، أو بعد النزول إليها قبل النزول إلى الأرض، أو على أن نقص المعنى في تفسيره، والذي يقوى في نظر القاصر التنزيل على أن النقص بعد النزول إلى الأرض، فيكون القرآن قسمين: قسم قرأه النبي صلى الله عليه وسلم على الناس وكتبوه وظهر بينهم وقام به الإعجاز، وقسم أخفاه ولم يظهر عليه أحد سوى أمير المؤمنين رضي الله عنه، ثم منه إلى باقي الأئمة الطاهرين، وهو الآن محفوظ عند صاحب الزمان جعلت فداه" [كشف الغطاء: ص299.].
لم يجرؤ صاحب كشف الغطاء – كما ترى - أن يكذب تلك الأساطير كما فعل المرتضى، بل تاه في بيداء من التكلفات والتمحلات حتى وقع في شر مما فر منه، أو كاد.
لقد زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم قسماً من القرآن أنزله الله عليه، ولم يبلغ به أحداً من أمته سوى علي، وأن علياً أخفاه عند أبنائه وهو اليوم عند المنتظر فماذا بعد هذا الافتراء ؟!
الوجه الثالث: المجاهرة بهذا الكفر والاستدلال به:
والذي تولى كبر هذا البلاء المدعو حسين النوري الطبرسي المتوفى سنة (1320ه)، الذي ألف كتابه "فصل الخطاب" لإثبات هذه الأسطورة.(192/12)
ولربما الأول مرة في التاريخ يحدث هذا الجمع "لأساطير" الشيعة المتفرقة وأقوال شيوخها، والآيات المفتراة التي يزعمونها في كتاب واحد يطبع وينشر.. ليصبح فضيحة لهم أبد الدهر.. ولو كان للمسلمين قوة وسلطان لعقدت المحاكم لهذا الكتاب وصاحبه وحكم في ضوئه على دخول الاثني عشرية في الإسلام أو خروجها منه، وارتاح المسلمين من شر أولئك المرتزقة الذين ينتشرون في العالم الإسلامي لنشر التشيع.. وأفاق من غرّر به شيوخ الشيعة من أولئك الأتباع الجهلة.. الذين لا يدركون من التشيع إلا أنه حب آل البيت الذي سيدخلهم الجنة بغير حساب!
ولقد قام الأستاذ إحسان إلهي ظهير بنشر قسم كبير من الكتاب في كتابه الشيعة والقرآن.. مع ذكر أدلة هذا المفتري وشبهه، ومع أن ذلك يعد كشافاً لحقيقة الاثني عشرية في هذا العصر، إلا أن الأستاذ إحسان قد اكتفى بنقل النصوص دون تعليق أو نقد.. وهذا من الخطورة بمكان، ولا سيما أن المؤلف قد ذكر اثنتي عشرة شبهة لإثبات فريته، وهي وإن كانت أشبه بخيوط العنكبوت إلا أن فيها ما قد يخفى على بعض من لا علاقة له بالعلم الشرعي، فكان من الواجب أن تكشف ترهاته وأن تدك شبهاته. ويؤتى عليها من القواعد. وفيما يلي عرض موجز لمحتويات هذا الكتاب باعتبار أن مؤلفه من المعاصرين [وقد سبقت الإشارة إلى الكتاب في أثناء الحديث عن كتب الشيعة التي قالت بهذه الأسطورة: ص233، وفي هذا الموضع نناقش شبهات الكتاب ومحتوياته.].. مع نقده وكشف شبهاته وأغاليطه - بحول الله -.
بناء على أن كتاب إحسان قد سار بها في كل مكان في العالم الإسلامي ولم تحظ منه بنقد ولا رد على أساس أن الأمر أوضح من أن يبين، ومجرد عرض هذه الفرية كاف في بيان بطلانها.. وأقول: إن هذا حق باعتبار أصل الفرية ومنطلقها، ولكن الشبه التي أثارها لابد من أبطالها وكشف ضلالها.(192/13)
لقد قام المؤلف بكشف الغطاء عن عقيدة الشيعة الاثني عشرية في تحريف القرآن وجمع ما تفرق من أخبارهم فيها، ونقل تصريحات شيخهم بتواترها، وأنها تزيد على ألفي حديث، واتهم صحابة رسول الله بتحريفه والتواطؤ على ذلك ولم يستثن من ذلك سوى أمير المؤمنين علي، وهذا الاستثناء صوري، إذ إن لازم قوله تواطؤ الجميع، لأن القرآن الذي عند علي والسالم من التحريف بزعمهم لم يظهره علي ولا إبان خلافته..
ثم قدّم – من كتبهم – (1062) رواية معظمها تقول في آيات من كتاب الله أنها خطأ ويذكر تصويبها من كتبهم الأسطورية، فيرد ما أجمعت عليه الأمة ويرتضي ما قاله حثالة من الأفاكين.
كما لم يجبن عن ذكر بعض "سور" بكاملها تتناقلها الدوائر الشيعية وليس لها ذكر في المصحف، وعلامة الكذب والافتراء واضحة بيّنة في نصها ومعناها لا يخفى إلا على أعجمي جاهل ولا يروّجها إلا زنديق مغرّض.
كما رد على من أنكر التحريف من طائفته وبيّن أن إنكار القدامى كان تقية وأن من أنكر أخبار التحريف يلزمه رد أخبار الإمامة لما بينهما من تلازم.
وهذا الكتاب الذي حوى هذا الكفر قد طبع في إيران سنة (1298ه) وما إن خرج حتى انزعج كثير من الشيعة لظهوره، وقد وصف أحد شيوخهم ذلك فقال: "فلا تدخل مجلساً في الحوزة العلمية إلا وتسمع الضجة والعجة ضد ذلك الكتاب ومؤلفه وناشره يسلقونه بألسنة حداد" [المرعشي/ المعارف الجلية: ص21.].
ويرى الأستاذ محب الدين الخطيب أن سبب الضجة أنهم يريدون أن يبقى التشكيك في صحة القرآن محصوراً بين خاصتهم ومتفرقاً في مئات الكتب المعتبرة عندهم، وأن لا يجمع ذلك كله في كتاب واحد تطبع منه ألوف من النسخ ويطلع عليه خصومهم فيكون حجة عليهم ماثلة أمام أنظار الجميع، ويقول: ولما أبدى عقلاؤهم هذه الملاحظات خالفهم فيها مؤلفه، وألّف كتاباً آخر سماه (رد بعض الشبهات عن فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) [الخطوط العريضة: ص11.].(192/14)
وإذا كان غلاة الشيعة يحاولون التستر علي هذه الفضيحة في معظم الأحيان بحكم عقيدة التقية التي أصبحت لهم حصناً وملاذاً، وأن تلك الضجة التي حدثت قد شارك فيها من يذهب إلى هذا الكفر ويرى وجوب التستر عليه صيانة لسمعة قومه، ووقاية لدينهم من فضيحة تزلزل كيانهم، وتمنع انتشار عقيدتهم، فإنني لا أجزم كالأستاذ محب الدين في تعميم هذا الحكم على كل الشيعة، بل إن هناك فئة من الشيعة لا تزال تنكر هذا الكفر وتتبرأ منه، وقد كتبوا ردوداً على كتاب فصل الخطاب من هذا المنطلق – فيما يظهر – مثل ما كتبه شيخهم وآيتهم محمد حسين المرعشي في كتابه الموسوم ب"رسالة حفظ الكتاب الشريف من شبهة القول بالتحريف" وهو رد على كتاب فصل الخطاب [لا يزال هذا الكتاب مخطوطاً (انظر: المعارف الجلية: ص21).].
كما أنني ألاحظ من خلال كتاب فصل الخطاب أنه يرد على المنكرين لهذا الفرية من قومه، ويجادلهم في هذا الأمر، ومن يقرأ الكتاب يرى أنه ألف لإقناع من خالف هذا الكفر من الشيعة [انظر: فصل الخطاب: ص360 وما بعدها.].
ثم أن ما كتبه صاحب فصل الخطاب بعنوان "رد بعض الشبهات عن فصل الخطاب.." كما يقول محب – رحمه الله – ليس – فيما يبدو – للرد على من قال: إن هذه القضية ينبغي أن تكون سرية بينهم؛ ذلك أن ما يشير إليه محب صورته الظاهرة كالآتي:(192/15)
لما ظهر كتاب "فصل الخطاب" قام بالرد عليه شيخهم محمود بن أبي القاسم الشهير بالمعرب الطهراني بكتاب سماه "كشف الارتياب في عدم تحريف الكتاب" وقد نقل لنا صاحب الذريعة أول رد لصاحب كشف الارتياب، وهو يفيد إنكار التحريف لا الدعوة إلى التستر عليها. قال صاحب الذريعة: "وأول شبهات" [لا حظ أنه يسميها شبهات؛ لأن صاحب الذريعة على مذهب صاحب فصل الخطاب في هذا الكفر، فهو يسمي أدلة كشف الارتياب شبهات إمعانًا في الكفر، كيف وصاحب فصل الخطاب هو شيخ لصاحب الذريعة وقد أعظم الثناء عليه وغلا في مديحه في ترجمته التي كتبها عنه.] "كشف الارتياب" هو أنه إذا ثبت تحريف القرآن فلليهود أن يقولوا: إذاً لا فرق بين كتابنا وكتابكم في عدم الاعتبار" [انظر: أغا بزرك الطهراني/ الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 18/9 حرف الكاف، 10/12 حرف الراء.].
فكتب الطبرسي رداً عليه – وهو ما يشير إليه محب فيما يبدو – في كتاب سماه "الرد على كشف الارتياب" [انظر: المصدر السابق: 10/211.] قال صاحب الذريعة: "وكان يوصي كل من عنده فصل الخطاب أن يضم إليه هذه الرسالة التي هي في دفع الشبهات التي أوردها الشيخ محمود عليه وهي فارسية لم تطبع بعد".(192/16)
وكان جواب الطبرسي في رده على دليل صاحب كشف الارتياب محاولة منه للتراجع، وبرهاناً على التناقض، حيث قال: "هذه مغالطة لفظية حيث إن المراد بالتحريف... غير ما حملت عليه ظاهراً للفظ، أعني التغيير والتبديل والزيادة والتنقيص وغيرها المحقق والثابت جميعها في كتب اليهود وغيرهم، بل المراد من التحريف خصوص التنقيص فقط في غير آيات الأحكام جزماً، وأما الزيادة فالإجماع المحقق الثابت من جميع فرق المسلمين والاتفاق العام من كل منتحل للإسلام على عدم زيادة كلام واحد في القرآن المجموع فيما بين هاتين الدفتين ولو بمقدار أقصر آية يصدق عليه كلام فصيح، بل الإجماع والاتفاق من جميع أهل القبلة على عدم زيادة كلمة واحدة في جميع القرآن، بحيث لا نعرف مكانها، فأين التنقيص الإجمالي المراد لنا عما حملت ظاهر اللفظ وهل هذا إلا مغالطة لفظية؟" [الذريعة: 10/221.].
هذا جزء مما دار في الرسالتين، نقله لنا صاحب الذريعة وهو يكشف أن الحوار كان في مسألة وقوع التحريف من عدمه، لا في وجوب التستر على هذه الفرية، وهو لا ينفي أن يوجد اتجاهٌ عند الشيعة يرى ضرورة التستر صيانة لحرمة المذهب..
ولكنه ينفي تعميم الحكم بهذا على الجميع.
هذا وفي كلام صاحب الذريعة الذي لخصه، من الرسالة الفارسية لصاحب فصل الخطاب ونقلناه مع صياغته التي يبدو علها أثر العجمة تخليط وتناقض وتقية وضح دليلها في أثناء كلامه كما هي عادة هؤلاء الروافض في الغالب [لاحظ مثلاً أنه نفى الزيادة مطلقاً ثم عاد بعد ذلك وقال: "بل الإجماع والاتفاق على عدم زيادة كلمة واحدة في جميع القرآن بحيث لا نعرف مكانها" انظر إلى قوله: "لا نعرف مكانها" فهو يشير بهذه الجملة من طرف خفي إلى ما يذهب إليه صاحب هذا الخطاب ويوافقه هو علي هذا المذهب من افترائهم بالقول بالزيادة في كلام الله.(192/17)
قال صاحب فصل الخطاب وهو يذكر صور التغيير في القرآن الذي أوحاه إليه شيطانه ودفعه إليه حقده على الإسلام وأهله: "السابعة زيادة كلمة كزيادة عن في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ}" (فصل الخطاب: ص25)، كما أن قوله بالنقيصة لا يخرجه عن تكذيب قول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.].
وهذا الكتاب رتبه مؤلفه – عليه من الله ما يستحق – على ثلاث مقدمات وبابين.
ففي المقدمة الأولى نقل مجموعة من أخبارهم التي تتحدث عن جمع القرآن – حسب تصور هؤلاء الزنادقة – كرواية ثقة دينهم التي تقول: "ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله، كما أنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما أنزل الله إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده".
وهذا مبني على مذهب الشيعة في القول بعصمة رجل واحد وهو علي، وضلال الأمة بأجمعها، وهو من آثار البيئة الفارسية التي تحيط ملوكها بهالة من التقديس.
وما أسخف عقلاً يرد ما أجمع عليه الصحابة كلهم، ويدعي أن لا ثقة إلا بقل واحد منهم، مع أن هذه الدعوى لا وجود لها غلا في خيالات هؤلاء الزنادقة، فلم يعرف علي والأمة إلا هذا القرآن.
ثم يواصل نقله عن "قرآن علي" الذي لم يُنقص منه حرف كما يزعمون.. فينقل مجموعة من رواياتهم ينتهي القارئ لها إلى أن العقل الشيعي.. من أسرع العقول إلى تصديق الخرافة، فهو يؤمن بكتاب لا وجود له إلا في أساطيرهم ويكفر بقرآن أجمعت علية الأمة.. بما فيهم الأئمة.
تتحدث هذه الأساطير عن جمع عليّ للقرآن وعرضه على الصحابة ورد الصحابة له..(192/18)
فيورد من هذه الروايات خبر الشيعي الذي التقى بمنتظرهم – والذي لم يولد أصلاً – وفيه يقول له المنتظر: "لما انتقل سيد البشر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وآله من دار الفناء وفعلا صنماً [يعنون بهما صديق هذه الأمة وفار وقها، ومن أقاما الإسلام بعد رسول الله.] قريش ما فعلا من نصب الخلافة جمع أمير المؤمنين رضي الله عنه القرآن كله ووضعه في إزار وأتى به إليهم وهم في المسجد، فقال لهم: هذا كتاب الله سبحانه أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعرضه عليكم لقيام الحجة عليكم يوم العرض بين يدي الله تعالى، فقال له فرعون هذه الأمة ونمرودها [يعني الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه، والذي فتح بلاد فارس، ونشر الإسلام فيها، فكان جزاؤه عند هؤلاء الحاقدين السب والتكفير.]: لسنا محتاجين إلى قرآنك، فقال له: أخبرني حبيبي محمد صلى الله عليه وآله بقولك هذا وإنما أردت بذلك إلقاء الحجة عليكم، فرجع أمير المؤمنين إلى منزله.. فنادى ابن أبي قحافة بالمسلمين وقال لهم: كل من عنده قرآن من آية أو سورة فليأت بها، فجاءه أبو عبيدة بن الجراح، وعثمان، وسعيد بن أبي وقاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وأبو سعيد الخدري، وحسان بن ثابت، وجماعات المسلمين وجمعوا هذا القرآن وأسقطوا ما كان فيه من المثالب التي صدرت عنهم بعد وفاة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله، فلذا ترى الآيات غير مرتبطة، والقرآن الذي جمعه أمير المؤمنين بخطه محفوظ عند صاحب الأمر عجل الله فرجه وفيه كل شيء حتى أرش الخدش. وأما هذا القرآن فلا شك ولا شبهة في صحته، وأنه من كلام الله سبحانه، هكذا صدر عن صاحب الأمر" [فصل الخطاب: ص9-10.].
وهذا النص نقلناه رغم طوله، لأن معظم حكاياتهم تدور على ما جاء فيه. فالمسألة أصلاً نابعة من حقد هذه "الفئة" على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبغضها للدين الذي يحملونه.(192/19)
فأنت ترى أن الحديث عن مثالب الصحابة وأن من جمع القرآن – بزعمهم – قد أسقطها فأباح هؤلاء بالسر المكنون وكشفوا المستور، وما تخفي قلوبهم أعظم.
ثم إذا رفض الصحابة القرآن – كما يزعمون – فلم يحجب عن الأجيال والقرون التي بعدهم؟ وإذا قامت الحجة على الصحابة فإنها لم تقم على من بعدهم.. وكيف لم يُقم عليٌّ الحجة وهو في قوة سلطانه إبان خلافته؟
إن أساطيرهم تنقض نفسها بنفسها. وإذا امتنع الصحابة عن قبوله – كما يزعمون – أليس في الأمة من يقبله عبر مراحل القرون كلها، وفيهم من صحب الأئمة، والتقي بالمنتظر.. وقامت للشيعة دول وسلطان؟ فلماذا يحجب عنهم ويظل مع الغائب في سرادبه؟ ألا يؤكد هذا لكل عاقل خرافة هذه الدعوى بغض النظر عن جميع الأدلة الأخرى، بل إن صاحب فصل الخطاب ينقل في هذه المقدمة أخباراً تقول إن علياً امتنع عن تسليم القرآن الذي جمعه للصحابة حينما طلبوا منه ذلك، واحتج بأنه لا يمسه إلا المطهرون، وأن المطهرين هم الأئمة الاثني عشر [فصل الخطاب: ص7.].
وهذه قاصمة الظهر.. فعليٌّ كما يفترون – هو الذي رفض إبلاغ القرآن، وادعى أنه خاص به وبولده.. وهذا لا يقول به أحد من المسلمين فضلاً عن أمير المؤمنين، فهو كلام المقصود به الإساءة إلى أهل البيت والطعن فيهم، ولذلك ذهبت بعض فرق الشيعة كالكاملية إلى تفكير أمير المؤمنين عليّ.
وهذه الآثار التي جمعتها كتب الاثني عشرية تؤدي إلى هذا المذهب، فهؤلاء يشايعون الشيطان ولا يشايعون أمير المؤمنين، ومن ينزه أمير المؤمنين من هذه الأباطيل وأمثالها هم شيعته وأنصاره على الحقيقة.
أما المقدمة الثانية عنده فتتضمن صور التحريف التي يزعم وقوعها في كتاب الله سبحانه أو امتناعها، فعرض مجموعة من الصور التي أوحاها له شيطانه: في السورة، والآية، والكلمة، والحرف.(192/20)
وقرر "أن زيادة السورة وتبديلها بأخرى أمر ممتنع [فصل الخطاب: ص24.]؛ لأن الله يقول: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة 23] فهو يقول بأن القرآن الذي بين أيدي المسلمين لا زيادة فيه أصلاً؛ لأن البشر عاجزون عن الإتيان بسورة من مثله.. ولكنه ينقض هذا حينما يزعم أن "نقصان السورة جائز كسورة الولاية" [فصل الخطاب: ص24.].
فهو بهذا يزعم أن في كتاب الله نقصاً، ويمثل لذلك بسورة الولاية، ولا شك أن هذه الدعوى تتضمن زيادة سورة على كتاب الله، وهو قد قرر امتناعها.. ثم إن هذه السورة المفتراة يشهد نصها على كذبها.. وقد كشف ذلك بعض شيوخ الشيعة أنفسهم [وهو شيخهم: محمد جواد البلاغي في تفسيره آلاء الرحمن ص24-25.]. وهي عبارة عن نص ملفق، وتركيب متهافت، ومعنى ساقط يتضح من خلاله أن واضعه أعجمي جاهل – كما سيأتي -.
ويقول: إن زيادة آية على القرآن، أو تبديل آية بأخرى هو أيضاً منتف بالإجماع، ثم يناقض ذلك بزعمه أن نقصان الآية غير ممتنع [فصل الخطاب: ص24.].
أما زيادة كلمة في القرآن فيرى على ضوء أساطيرهم أنها ممكنة، ويمثل لذلك بقوله: كزيادة "عن" في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ} [الأنفال 1]. فهو يفتري أن القرآن زيادة كلمة "عن"، وغرض الرافضة في هذا الزعم أن الأنفال كانت خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم هي للأئمة الاثني عشر المعصومين من بعده، والصحابة إنما كانوا يسألون الرسول أن يعطيهم منها على سبيل الصدقة ولم يكن سؤالها عن حكمها، وهذا لا يتأتى للرافضة إلا بحذف كلمة "عن".(192/21)
ثم يقول: نقصانها – أي الكلمة – وهو كثير ك "في عليّ" في مواضع، أي أن اسم علي ورد بزعمهم في القرآن، وحذفه الصحابة، وهذه دعوى لإسكات أتباعهم الذين داهمهم الشك في مذهبهم الذي لا شاهد له من كتاب الله، وهذا أحد الأساليب القريبة التي دفعت الرافضة للقول بهذه الفرية.. وأما الأسباب البعيدة وجذور هذه المقالة فهي هدم التشيع أصلاً وإبعاد الشيعة عن الإسلام كلياً.
ثم بعد ذلك يذكر من الصور للتغير المزعوم في كتاب الله تبديل الكلمات ويقرر علي هدي من خرافاتهم وقوعه فيقول : " كتبديل آل محمد بعد قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران 23]. بآل عمران" وواضح غرض الشيعة من ذلك فهي تبحث بأي وسيلة عما يثبت ذكر أئمتهم في كتاب الله؛ إذ كيف يذكر آل عمران ولا يذكر أئمتهم..؟
ثم يتحدث عن الحرف فيرى بمقتضى أساطيرهم أن زيادته ونقصانه أمر ممكن وواقع، فيقول: "نقصان الحرف كنقصان "همزة" من قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران 110]، و"يا" في قوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ 40]".
والهدف من خلال هذا الافتراء مكشوف، فأمة محمد في قاموس هؤلاء القوم الذين أكل الحقد قلوبهم عليها؛ لأنها فتحت ديارهم وأسقطت عروشهم، ونشرت الإسلام بينهم، هذه الأمة في اعتقادهم ملعونة ضالة ظالمة.. ويؤلمهم أن يثني الله سبحانه عليها، فحاولوا أن يجعلوا الثناء خاصاً بالاثني عشر الذين لم يولد آخرهم أصلاً.. فقالوا: إنها ليست الأمة، بل الأئمة.
وكذلك أرادوا من افترائهم بزيادة الياء في قوله "تراباً" أرادوا ترابياً والهدف النسبة إلى علي الذي كان يلقب بأبي تراب، وأن الكافر يقول: يا ليتني كنت ترابياً أي: من شيعة علي، وما أدري لِمَ لا يتمنى أن يكون من شيعة محمد، وهل عليٌّ أفضل من محمد؟!
إلى آخر هذيانه.. الذي عاد على الشيعة بأسوأ العواقب.. وأورثها العار إلى الأبد.(192/22)
المقدمة الثالثة: وعقدها لذكر أقول شيوخ طائفته في تغيير القرآن وعدمه فقال: "اعلم أن لهم في ذلك أقوالاً مشهورها اثنان: الأول: وقوع التغيير والنقصان فيه" ثم ذكر من قال به من شيوخهم كالقمي في تفسيره، والكليني في الكافي وهما كما قال ممن غلا وأكثرا من الرواية في هذا المذهب، ومثل المجلسي في مرآة العقول، والصفار في بصائر الدرجات، والنعماني في الغيبة، والعياشي وفرات الكوفي في تفسيرهما، ومفيدهم في المسائل السروية، ومحدثهم البحراني في الدرر النجفية.
وأخذ على هذا المنوال يعدد من مشاهير علماء مذهبه ممن قال بهذه الأسطورة مع تفخيمهم بالألقاب، أو نعت بعضهم بأنه "ممن لم يعثر له على زلة"، مع أنه يكفيه مقالته هذه إغراقاً في الضلال وزلةً إلى الكفر.. فذكر أسماء شيوخهم وكتبهم في هذا الكفر واستشهد ببعض كلماتهم التي كشفت حقيقة التشيع في عصوره المتأخرة؛ كنقله لقول شيخهم أبي الحسن الشريف صاحب مرآة الأنوار، والذي ذكر فيه أن هذه المقالة من ضروريات مذهب التشيع [انظر: فصل الخطاب: ص32.].
ثم قال: "الثاني: عدم وقع التغيير والنقصان فيه، وأن جميع ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله هو الموجود بأيدي الناس فيما بين الدفتين، وإليه ذهب الصدوق في عقائده، والسيد المرتضى، وشيخ الطائفة في التبيان ولم يعرف من القدماء موافق لهم إلا ما حكاه المفيد عن جماعة من أهل الإمامة والظاهر أنه أراد منها الصدوق وأتباعه" [فصل الخطاب: ص33.].
وأنت تلاحظ – كما أسلفنا – أنه يريد أن يجعل هذه المقالة هي الأصل في التشيع.. وإلا فإن قدماء شيوخ الذهب كانوا بعيدين عن هذا الكفر.. وقد مضى الحديث عن الأصل في الافتراء وبدايته.
ثم ذكر بعض كلمات المنكرين وناقش إنكارهم لبعض ما جاء في كتبهم من القول بهذه الفرية ليصل إلى أن الإنكار ليس على حقيقته، بل هو من باب الخداع لأهل السنة [فصل الخطاب: ص33 وما بعدها.].(192/23)
وفي الباب الأول: عرض ما يسميه ب"الأدلة التي استدلوا بها، ويمكن الاستدلال بها على وقوع التغيير والنقصان في القرآن".
فذكر اثنتي عشرة شبهة بعدد أئمته..
الشبهة الأولى:
قال الملحد: "الدليل الأول: أن اليهود والنصارى غيروا وحرفوا كتاب نبيهم بعده، فهذه الأمة أيضاً لابد وأن يغيروا القرآن بعد نبينا صلى الله عليه وآله؛ لأن كل ما وقع في بني إسرائيل لابد وأن يقع في هذه الأمة على ما أخبر به الصادق المصدوق صلوات الله عليه" [فصل الخطاب: ص36.].
والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول:
سلمنا أن كل ما وقع في بني إسرائيل سيقع في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لكننا نقول: يخرج من هذا العموم ما دل الليل على خروجه، وتحريف القرآن مستثنى من هذا العموم بنص القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر 9]. وهل هناك أقوى من أن يخص عموم حديث بنص من القرآن.. فأين عقول هؤلاء القوم؟ ولهذا قال الباقلاني: "أول جهلكم أنكم قطعتم بخبر واحد على أن القرآن غُيّر وبُدّل مع ردكم لما هو أقوى منه" [نكت الانتصار: ص104.].
ثم إن الله سبحانه قد استحفظ أهل الكتاب التوراة واستودعهم إياها فخانوا الأمانة، ولم يحفظوها، بل ضيعوها عمداً.
والقرآن الكريم لم يكل الله حفظه إلى أحد حتى يمكنه تضييعه، بل تولى حفظه جل وعلا بنفسه الكريمة المقدسة كما أوضحة بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وقوله: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت 42] إلى غير ذلك من الآيات [انظر: الشنقيطي/ أضواء البيان: 2/100-101.].
وذلك لأن القرآن العظيم هو آخر الكتب، فلا كتاب بعده، والرسول صلى الله عليه وسلم هو آخر الرسل فلا نبي بعده، وبموته انقطع الوحي.. فمن رحمة الله بعباده أن حفظ كتابه ليبقي هداية للأمة ونوراً إلى يوم القيامة.
الوجه الثاني:(192/24)
أن زعمه أن كل ما وقع في بني إسرائيل لابد أن يقع في هذه الأمة، هذه المقدمة غير مسلّمة له على الإطلاق، فالنتيجة التي اعتمدها بناءً على هذه المقدمة، نتيجة كاذبة؛ لأنها مبنية على مقدمة ليست مسلمة له على إطلاقها بدليل أن بني إسرائيل قتلوا أنبياءهم ولم يتحقق ذلك في هذه الأمة، وإن حاول فئة من المنافقين ذلك، وبنو إسرائيل عبدوا العجل ولم يحصل من الأمة نظيره، فتلك المقدمة ليست على إطلاقها، وتحريف القرآن أولى مما ذكرنا لاستثنائه من هذا العموم بالنص كما بينا، وإن حاول فئات من المنافقين الذين تستروا بالتشيع ذلك.
كذلك أمتنا تختلف عن بني إسرائيل؛ حيث لا تزال طائفة ظاهرة علي الحق لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة، ولهذا لا يسلط الله عليهم عدواً من غيرهم فيجتاحهم، كما ثبت هذا وهذا في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة، وأخبر أنه سأل ربه أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطاه ذلك وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم شديداً فمنعه ذلك [رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض: 3/2216 (ح2890)، والترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا في أمته: 4/471–472، (ح 2175، 2176)، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب ما يكون من الفتن: 2/303 (ح3951)، وأحمد: 1/175، 181، 3/146، 156، 5/108، 240، 243، 6/396.].
ومن قبلنا كان الخُلْف فيهم حتى لا تقوم بالحق منهم طائفة ظاهرة منصورة ولهذا كان العدو يسلط عليهم فيجتاحهم كما سلط على بني إسرائيل وخرب بيت المقدس مرتين ولم يبق لهم ملك [مناهج السنة: 3/242.].
* الوجه الثالث:(192/25)
لو سلمنا جدلاً أن القرآن لم يخرج من ذلك العموم بالنص المذكور، فإن التحريف هو ما تقوم به الشيعة من تحريف للمعنى، ومحاولة لتحريف اللفظ، وما قدمناه عنهم هو الدليل، لكنهم لم يحققوا أهدافهم؛ لأن الله هو الذي تكفل بحفظه بنص الآية السابقة [في هذا الموضوع أملى علي د. محمد رشاد سالم – رحمه الله – فقال: "وجه الشبه بين فعل الأمتين أن من أمة محمد من حاول تحريف القرآن بالفعل مثل الشيعة الرافضة، أو تأويله تأويلاً باطلاً متعسفاً كالجهمية.. لكن النتيجة مختلفة؛ فقد تم التحريف بالفعل في أمة بني إسرائيل الذين كتموا التوراة وأخفوها، وأظهروا التوراة المحرفة، وكذلك فعل النصارى في إنجيلهم، أما أمة محمد فقد تكفل الله سبحانه بحفظ كتابهم القرآن".].
الشبهة الثانية:
قال الملحد: "الدليل الثاني أن كيفية جمع القرآن وتأليفه مستلزمة عادة لوقوع التغيير والتحريف فيه، وقد أشار إلى ذلك العلامة المجلسي في مرآة العقول، حيث قال: والعقل يحكم بأنه إذا كان القرآن متفرقاً منتشراً عند الناس وتصدى غير المعصوم لجمعه يمتنع أن يكون جمعه كاملاً موافقاً للواقع" [فصل الخطاب: ص97.].
والجواب: إن هذه الشبهة مبنية على العقلية الإمامية التي تحتم على جميع الأمة إذا أجمعت الخطأ، وتجعل رأي واحد منها (ليس بنبي) هو الصواب، كما يلحظ ذلك في قوله: "وتصدى غير المعصوم لجمعه". وهو رأي منقوض وباطل كما أسلفنا في الحديث عن العصمة، وما بني على باطل فهو باطل.(192/26)
وصياغته لهذه الشبهة تدل على أن كثيراً من شيوخ الإمامية قوم بُهْتٌ يكذبون بالحقائق الواضحات ويصدقون بالأكاذيب والخرافات. فجمع القرآن جاء على أدق الطرق وأوثقها ضبطًا وإتقاناً، فكتبة الوحي يكتبون، والحفظة يحفظون، والأمة بأكملها تردد آيات القرآن في صلواتها وحلقاتها، كلما نزل شيء من القرآن هبوا لحفظه وكتابته وتعلمه والعمل به، فالممتنع هو أن يزاد في القرآن حرف أو ينقص منه حرف آخر، ولذا أجمعت الأمة على ذلك والإجماع معصوم.
فلنحكّم عقولنا؛ ما جاءت هذه الدعوى إلا من طائفة الاثني عشرية من بين فرق الشيعة كلها، وهي تتحدث عن قرآن جمعه عليّ هو الكامل في نظرها وترفض ما أجمع عليه المسلمون.. فأيهما نصدق أبالقرآن أم بكتاب غائب لم ير ولم يعرف، معلق خروجه على منتظر موهوم.. تولى جمعه – باعترافهم – فرد واحد..؟
أخرج لنا الشيعة منه آيات يستحيل أن تكون من كلام رب العزة جل علاه لسقوطها عن أداء الإنسان العادي، فكيف بكلام رب العالمين المعجز؟ ورأينا من تنسب الشيعة إليه هذا الكتاب المزعوم يتعبد ويقرأ بالقرآن الذي بأيدي المسلمين، والشيعة تفتري عليه بأن ذلك منه تقية. فهل تجوز التقية في مثل هذا الذي يترتب عليه ضياع الدين وضلال الأجيال؟! إنها مقالة تنطق الشواهد بكذبها، وهي من تقدير الله سبحانه لينكشف أمر هذه الطائفة للمسلمين جميعاً، بعدما عاشت بينهم بالتقية قروناً متطاولة.(192/27)
ثم إن من العلوم أن جمع الأمة للقرآن في زمن الصديق وأمير المؤمنين عثمان قد تم بإجماع الصحابة، وكان أمير المؤمنين عليٌّ على رأس الكتبة وأغلب القراءات المتداولة ترجع بالسند المتواتر إليه باعتراف الشيعة نفسها كما سلف نقل ذلك عنهم [انظر: ص 266 – 267 من هذه الرسالة.]، وليس في الطرق إلى علي ّما يخالف قرآن الأمة، وقد أثنى أمير المؤمنين على الصديق، وعلى ذي النورين فيما قاما به من أمر المصحف [انظر: ص 236 – 265 من هذه الرسالة.] فهل تنكر ضوء الشمس ليس دونها سحاب وتصدق أساطير نقلها شرذمة من أعداء الأمة والدين؟! ومن أضل ممن يدعو أتباعه للإعراض عن كتاب الله وانتظار كتاب موهوم مفترى عند إمام مخترع أو هارب في سردابه منذ أكثر من ألف عام.. وكيف تقوم الحجة على العباد بمثل هذا الكتاب الموهوم.. والشيعة لا علم لها بهذا المصحف ولا صلة لها به، إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون.
الشبهة الثالثة:(192/28)
قال الملحد: "إن أكثر العامة وجماعة من الخاصة ذكروا في أقسام الآيات المنسوخة ما نسخت تلاوتها دون حكمها، وما نسخت تلاوتها وحكمها معاً وذكروا للقسمين أمثلة ورووا أخبارًا ظاهرة بل صريحة في وجود بعض الآيات والكلمات التي ليس لها في القرآن المتداول أثر ولا عين وأنه كان منه في عصر النبي صلى الله عليه وآله يتلونه الأصحاب وحملوها على أحد القسمين من غير أن تكون فيها دلالة وإشارة على ذلك، وحيث إن نسخ التلاوة غير واقع عندنا، فهذه الآيات والكلمات لابد وأن تكون مما سقط أو سقطوها من الكتاب جهلاً أو عمداً، لا بإذن من الله ورسوله وهو المطلوب" [فصل الخطاب: ص106.]. هذه الشبهة تتكرر على ألسنة المعاصرين من الشيعة كثيًرا، ويحاولون أن ينفذوا من خلالها إلى فكر القارئ للتأثير عليه بإيهامه أن الآيات المنسوخة تلاوة الواردة من طرق السنة هي كأخبار التحريف عند الشيعة، فلا تكاد تقرأ كتاباً من كتب هذه الطائفة، ويأتي الحديث عن هذه الفرية إلا وتجدهم يبررون ما شاع من أساطير في كتبهم بالأخبار المنسوخة عند أهل السنة [مثل عبد الحسين الموسوي في أجوبة مسائل جار الله، ومحسن الأمين في كتابه الشيعة بين الحقائق والأوهام، وعبد الحسين الرشتي في "كشف الاشتباه" والخنيزي في "الدعوة إلى وحدة أهل السنة والإمامية" وغيرهم.].
ولا شك أن حجتهم داحضة؛ ذلك أن النسخ من الله سبحانه، قال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة 106]. أما التحريف فمن فعل البشر، وشتان بين هذا وذاك، ولذلك وجد من شيوخ الشيعة الكثير ممن يذهب إلى هذا المذهب الباطل بمقتضى دلالة أساطيرهم، ولم يوجد أحد من علماء السنة يقول بهذه الفرية، فالنسخ شيء آخر غيرها.(192/29)
بل إن هذه الأسطورة لا مكان لها أصلاً عند المسلمين، ولذلك نجد الحديث عن الانحراف فيما يتصل بالقرآن عند أهل السنة في مسألة خلق القرآن وما شابه ذلك من الأقوال الباطلة التي وجدت في محيط السنة العام، أما تلك القضية فغير واردة أصلاً عندهم، فكيف يجعل النسخ كالقول بالتحريف؟ إن ذلك إلا ضلال مبين وكيد متعمد.. لأن غاية ما تدل عليه تلك الآثار أن ذلك كان قرآناً ثم رفع في حياة الرسول والوحي ينزل، ولهذا وضعت في باب النسخ من مباحث علوم القرآن عند أهل السنة، ولم يكن يخطر ببال أحد منهم أن ذلك يدل على تحريف المنزّل، بخلاف أخبار هذه الأسطورة عند الاثني عشرية التي تنسب التحريف إلى صحابة رسول الله الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه لأنها تصدق خبر شرذمة من الأفاكين وتكذب بالضرورات والأخبار المتواترات وشهادة الله ورسوله لهم.
والصحابة عند أهل السنة هم أتقى وأخشى لله من يفعلوا شيئًا من ذلك، ولو فرضنا جدلاً أنهم حاولوا فعل هذا لم يمكنهم الله سبحانه وتعالى وإلا لزم الخلف في قوله وهو محال. بل يستحيل أن يقع منه شيء من ذلك ولو على سبيل السهو؛ لأن الله هو الذي وعد بحفظه.
ونسخ التلاوة يقر به الروافض أنفسهم، وإن أنكره هذا النوري الطبرسي لتأييد مذهبه الباطل ونسب الإنكار للشيعة كلها، فإن صدق في هذه النسبة فهو ينصرف إلى بعض المعاصرين من طائفته، وهذا يعني أنهم أكثر غلواً من السابقين في ذلك، فقد قرر شيخهم الطبرسي (ت 548ه) في هذه المسألة ثبوت نسخ التلاوة، حيث قال في مجمع البيان: "ومنها ما يرتفع اللفظ ويثبت الحكم كآية الرجم" [مجمع البيان: 1/180.]. والطبرسي قد أنكر التحريف، ويستشهد شيوخ الشيعة بإنكاره على براءة مذهبهم من هذا العار، ولم يقل أحد بأن إثباته لنسخ التلاوة قول بالتحريف.
ومن قبله شيخهم الطوسي (ت460ه) في تفسيره التبيان، حيث قال: "لا يخلو النسخ في القرآن الكريم من أقسام ثلاثة: أحدهم نسخ حكمه دون لفظه...(192/30)
والثاني ما نسخ لفظه دون حكمه كآية الرجم، فإن وجوب الرجم على المحصنة لا خلاف فيه، والآية التي كانت متضمنة له منسوخة بلا خلاف وهي قوله: "والشيخ والشيخة إذا زنيا" [التبيان: 1/13.].
وقال في موضع آخر: "وقد أنكر قوم جواز نسخ القرآن، وفيما ذكرناه دليل على بطلان قولهم، وجاءت أخبار متضافرة بأنه كانت أشياء في القرآن نسخت تلاوتها" [التبيان: 1/394.].
ومن قبلهما شيخ الشيعة "المرتضى" (ت436ه) وهو ممن ينكرون هذه الفرية وهو الذي استثناه ابن حزم من جمهور الإمامية القائلين بهذه الأسطورة.
والشيعة المعاصرون يستدلون بإنكاره على براءة مذهب الشيعة من هذا الكفر، وهو يقر بنسخ التلاوة، ففي كتابه الذريعة قال: "فصل في جواز نسخ الحكم دون التلاوة، ونسخ التلاوة دونه" ثم تكلم عن ذلك [الذريعة إلى أصول الشيعة: ص428 –429.].
إذن الإقرار بنسخ التلاوة أمر مشترك بين الفريقين وهو شيء أخر غير التحريف.
ومن المكر والكيد الذي لا يكاد يخلو منه كتاب شيعي معاصر ناقش هذه القضية التظاهر بإنكار الشيعة لهذه الفرية والاستدلال بإنكار المرتضى والطبرسي وغيرهما، ثم يحاولون نسبة هذه الفرية إلى أهل السنة، لأنهم قالوا بنسخ التلاوة.. مع أن الطبرسي والمرتضى يقولان بذلك، ولكن ذلك مكر مقصود لتحقيق هدف لا يجرؤون على إظهاره وهو اعتقادهم هذا الكفر.
الشبهة الرابعة:
قال الملحد: "الدليل الرابع أنه كان لأمير المؤمنين قرآناً مخصوصاً – كذا – مخالف الموجود في الترتيب، وفيه زيادة ليست من الأحاديث القدسية، ولا من التفسير والتأويل".(192/31)
وأقول: لو كان لأمير المؤمنين مصحف لأخرجه للمسلمين، ولم يسعه كتمانه، وإذا لم يستطع ذلك في خلافة من سبقه – على حد تفكيركم – فإنه يستطيع إخراجه إبان خلافته.. وكتمان ذلك كفر وضلال.. فمن ألصق ذلك بأمير المؤمنين فهو ليس من شيعته، بل من عدوه؛ لأنه يدعي أنه كتم إظهار الحق وبيانه خوفاً وجبناً، وهو أسد الله وأسد رسوله.. وكتمان أصل الدين وأساسه خروج عن الإسلام.
ولو لم يستطيع عليّ إخراجه لأخرجه الحسن إبان خلافته، ولكن الذي يشهد به الجميع حتى الروافض أن علياً لم يقرأ في صلاته، ويحكم في خلافته إلا بهذا القرآن، وكذلك سائر علماء أهل البيت – كما مر [ص 265 وما بعدها.]– وهذا يبطل كل دعاوى الروافض الذين أقض مضاجعهم وأرق عيونهم وفض جمعهم وشتت أمرهم خلو كتاب الإسلام العظيم مما يثبت شذوذهم فادعوا قرآناً غائباً لما لم يجدوا في كتاب المسلمين ضالتهم، كما ادعوا إماماً غائباً لما مات إمامهم من غير عقب.
وإذا كان لأمير المؤمنين مصحف فهو أمر طبيعي لا يدل على ما يذهب إليه هذا المجوسي، فهو كبعض الصحابة الذين اتخذوا لأنفسهم مصاحف خاصة كتبوها لهم ولكنها لا تصل إلى مستوى المصحف الإمام الذي يكتبه كتبة الوحي بإشراف رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان لعليًّ كما يدعون مصحف يخالف المصحف الإمام، فما يخالف المصحف الذي أجمع عليه المسلمين لا اعتداد به، لأن الإجماع معصوم والعبرة بما أجمع عليه أهل الإسلام، مع أن أمير المؤمنين كان على رأس المجمعين والجامعين وثناؤه على أبي بكر وعثمان في ذلك مشهور – كما قدمنا -.
قال الباقلاني: "فإن قالوا: فإنما لم يغير ذلك ولم ينكره لأجل التقية قيل لهم: ومن كان أقوى منه جانباً وهو في بني هاشم مع عظم قدره وشجاعته وامتناع جانبه. هذا غاية الامتناع والباطل" [نكت الانتصار: ص108.].(192/32)
ثم أشار إلى تناقض الروافض، حيث إن مقالتهم هذه في عليّ تنقض ما يزعمونه من شجاعته وصدعه بالحق، وعدم سكوته عن باطل.
وذكر بأن واقع أمير المؤمنين في خلافته ينفي مجرد تصور التقية في هذا الباب "فأي تقية بعد أن شهر سيفه وقاتل بصفين ونصب الحرب بينة وبين مخالفيه فيما هو دون تغيير القرآن وتحريفه، هذا مما يعلم بطلانه ويقطع على استحالته" [نكت الانتصار: ص108.].
الشبهة الخامسة:
قال الملحد: الخامس أنه كان لعبد الله بن مسعود مصحف معتبر فيه ما ليس في القرآن الموجود". ثم ذكر نماذج مما جاء في مصحف ابن مسعود – كما تزعم رواياتهم – ومما ذكره "وكفى الله المؤمنين القتال بعلي بن أبي طالب ورفعنا لك ذكرك بعلي صهرك" [فصل الخطاب: ص136.].
أقول: لا خلاف أن بعض الصحابة كانت لهم مصاحف خاصة بهم يكتبون فيها ما يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن.. وهذا لا يطعن في المصحف الإمام، ولا يدل على ما يذهب إلية هؤلاء الطغام؛ لأن العمدة والأصل هو ما أجمع عليه المسلمون ولا عبرة بما انفرد به أحدهم.
وأنت تلاحظ أنه جعل مصحف ابن مسعود هو المعتبر والهدف واضح؛ لأنه ورد فيه – كما يزعم – ذكر علي.. ولكن ما استشهد به من نماذج يدل على أن ما ينسبونه لابن مسعود أو لمصحفه هو من افتراءاتهم، فقوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} هذه الآية من سورة "الانشراح" وهي مكية بكل آياتها كما هو معلوم، والزيادة التي زادوها وهي قولهم: (وجعلنا علياً صهرك) كشفت كذبهم؛ ذلك أن صهره الوحيد في مكة هو العاص بن الربيع الأموي، فهم وضعوا ولم يحسنوا الوضع لجهلهم بالتاريخ.. فهل يكتب ابن مسعود ما يخالف الواقع وما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟!.(192/33)
وكذلك الشاهد الآخر "وكفى الله المؤمنين القتال بعلي" فهو مخالف لنص القرآن وللواقع، فالله سبحانه أخبر بمن كفى عباده المؤمنين، وذلك في قوله سبحانه: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب 9].
ولذلك قال السلف في تأويل قوله سبحانه: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب 25] أي: بجنود من الملائكة، والرياح التي بعثها عليها [تفسير الطبري: 21/148، فتح القدير: 4/272.].
أما مخالفة الواقع فإن علياً لم يكن كافياً من دون المؤمنين، ولو لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علي لما أقام دينه، وهذا علي لم يغن عن نفسه ومعه أكثر جيوش الأرض.. في حربه مع معاوية [انظر: منهاج السنة: 4/56.].
ولذا قال الباقلاني: "فأما ادعاؤهم أن ابن مسعود قرأ: "وكفى الله المؤمنين القتال بعلي" وما أشبه ذلك من الأحاديث فإنه إفك وزور ولا يصح.." [نكت الانتصار: ص 107، وانظر: روح المعاني: 21/175.].
وقال ابن حزم: "وأما قولهم [يعني النصارى؛ لأنهم يعترضون علي أمة الإسلام بشبه هؤلاء الروافض.]: إن مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه خلاف مصحفنا فباطل وكذب وإفك، مصحف عبد الله بن مسعود إنما فيه قراءته بلا شك، وقراءته هي قراءة عاصم المشهورة عند جميع أهل الإسلام، في شرق الأرض وغربها" [الفصل: 2/212.].
الشبهة السادسة:
قال الملحد: "الدليل السادس أن الموجود غير مشتمل لتمام ما في مصحف أبيّ المعتبر عندنا".
انظر مبلغ تعنت وتعصب هذا الملحد، فمصحف أبيّ معتبر عندهم دون مصحف الأمة!!
وما الدليل على اعتبار وصحة ما في مصحف أبيّ دون مصحف الأمة؟! لا دليل لديهم إلا رغبة هؤلاء المجوس في الطعن في كتاب الله وأنّى لهم ذلك.. فلا مصحف إلا هذا القرآن وكلماتهم عادت عليهم بأسوأ العواقب..(192/34)
وإذا كان لابن مسعود وأبيّ بن كعب وعائشة وسالم مولى حذيفة مصاحف كما جاءت به الأخبار في كتب السنة والشيعة.. فهذه المصاحف الخاصة هي عمل فردي من بعض الصحابة ولم يكن هدفهم كتابة مصحف تلتزم به الأمة، لهذا كانت هذه المصاحف الخاصة غير حجة على الأمة، فما عدا مصحف عثمان لا يقطع عليه، وإنما يجري مجرى الآحاد [البرهان: 1/222.].
وإذا نقل منه ما يخالف المصحف الإمام فهذا طبيعي، لأن الواحد منهم كان يكتب لنفسه، ولذلك قد يكتبون تفسيراً لبعض الآيات في نفس المصحف وهم آمنون من اللبس، لأنهم إنما يكتبون لأنفسهم.
قال ابن الجزري: "ربما كانوا يدخلون التفسير في القراءات إيضاحاً وبياناً، لأنهم محققون لما تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قرآنا فهم آمنوا من الالتباس، وربما كان بعضهم يكتبه معه" [ابن الجزري/ النشر: 1/32، السيوطي/ الإتقان: 1/77.].
وربما كتبوا ما نسخت تلاوته "ولذلك نص كثير من العلماء على أن الحروف التي وردت عن أبيّ وابن مسعود وغيرهما مما يخالف هذه المصاحف منسوخة... ولا شك أن القرآن نسخ منه وغُيّر فيه في العرضة الأخيرة" [ابن الجزري/ النشر: 1/32.].
ذلك أنهم يكتبون لأنفسهم لا للأمة، كما لا ننسى ما يضعه الروافض في هذا الباب، وينسبونه لهذا المصاحف [ولهذا ذكر أهل العلم أن من أنواع القراءات ما هو موضوع. (انظر: الإتقان: 1/77).]. أما القرآن فقد قام به الحفظة من الصحابة، وجمعوا ما في الصحف التي كتبها كتاب الوحي بإشراف النبي صلى الله عليه وسلم على حسب ما استقر في العرضة الأخيرة من جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه الآن من غير زيادة ولا نقصان "ولذلك لم يختلف عليهم اثنان حتى إن علي بن أبي طالب لم ينكر حرفاً ولا غيره" [النشر: 1/33.].
الشبهة السابعة:
قال الملحد: "السابع أن عثمان لما جمع القرآن ثانياً أسقط بعض الكلمات والآيات.." [فصل الخطاب: ص150.].(192/35)
ثم يحاول أن يقيم الدليل على هذه الدعوى بأن "العلم بمطابقة ما جمعه لتمام المنزل.. متوقف على.. عدالة الناسخين أو الكاتبين أو صدقهم أو العرض علي الصحيح التمام.." [فصل الخطاب: ص154.] وهذا في نظره لا يثبت.
فأنت تلاحظ أنه بنى دعواه على عقيدة الرافضة في الصحابة المخالفة للكتاب والسنة وإجماع الأمة وما تواترت به الأحداث والوقائع [انظر: نقض عقيدتهم في الصحابة: ص(752) وما بعدها.].
كما اعتبر الوهم الذي تدعيه الشيعة من وجود مصحف جمعه علي وتوارثه الأئمة هو الأصل في تصديق المصحف الإمام.. وكل ذلك غير مسلّم له، كما لا يسلّم له احتجاجه بذلك "الغثيان" من الأقوال والروايات التي نقلها من كتبهم لإثبات هذه المقالة.
ومن المعلوم أن "القرآن كله كتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يأمر أبو بكر إلا بكتابة ما كان مكتوباً، ولذلك توقف عن كتابة الآية من آخر سورة براءة حتى وجدها مكتوبة، مع أنه كان يستحضرها هو ومن ذكر معه" [فتح الباري: 9/12-13.]؛ لأنهم كانوا يعتمدون في جمع القرآن على الحفظ والكتابة معاً؛ ولم يعتمدوا على الحفظ وحده؛ حيث إن "قصدهم أن ينقلوا من عين المكتوب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.. لا من مجرد حفظهم" [أبو شامة/ المرشد الوجيز: ص57، وانظر الإتقان للسيوطي: ص58.].
وقد أعلم الله تعالى في القرآن بأنه مجموع في الصحف في قوله: {يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً} [البينة، 2]... الآية، فكان القرآن مكتوباً في الصحف لكن كانت مفرقة فجمعها أبو بكر في مكان واحد، ثم كانت بعده محفوظة إلى أن أمر عثمان بالنسخ منها عدة مصاحف وأرسل بها إلى الأمصار [فتح الباري : 9/13.].(192/36)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية يلخص عملية جمع القرآن: "لما كان العام الذي قبض فيه النبي صلى الله عليه وسلم عارضه جبريل بالقرآن مرتين، والعرضة الأخيرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بكتابتها في المصاحف، وكتبها أبو بكر وعمر في خلافة أبي بكر في صحف أمر زيد بن ثابت بكتابتها، ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف، وإرسالها إلى الأمصار، وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة عليّ وغيره" [مجموعة فتاوى شيخ الإسلام: 13/395.].
فالذي يُخَطّئ أبا بكر وعثمان قد خطأ علًيا، وجميع الصحابة؛ لأن الحقيقة التي يتفق عليها المسلمون أن أمير المؤمنين عثمان جمع القرآن بموافقة الصحابة جميعاً [انظر: المرشد الوجيز لأبي شامة: ص53.].
ولو حدث هذا الذي تقوله الشيعة لما جاز لأحد السكوت على تغيير أصل الإسلام وأساسه، ولضل الجميع بسبب ذلك بما فيهم علي رضي الله عنه، والبراهين المتفق عليها والتي لا يختلف فيها اثنان أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يسكتوا على ما هو أقل من ذلك.
لقد قاتلوا من منع الزكاة، وقاتل علي – رضي الله عنه – معاوية على أقل من هذا الأمر العظيم والشأن الخطير، ولو حصل الذي تقوله الرافضة لتناقله أعداد الإسلام الذين يتربصون بأمة الإسلام الدوائر، ولم تنفرد بنقله طائفة الروافض.
وهذه الطائفة التي نقلت هذا الكفر قد نقلت ما يثبت خلافه، روى ابن طاوس وهو من كبار شيوخ الشيعة أن "عثمان جمع المصحف برأي مولانا علي ابن أبي طالب" [تاريخ القرآن للزنجاني ص67.] وهذا ينقض ما افتراه الشيعة عبر القرون؛ لأنه يتفق مع إجماع الأمة، وهو اعتراف منهم وإقرار.. واعتراف المخالف أشد وقعاً في النفس من اعتراف الموافق.(192/37)
ولم يملك صاحب فصل الخطاب – وهو الحريص على إثبات هذه الفرية – حيال هذا النص إلا أن يقول: "إنه من الغرابة بمكان" [فصل الخطاب: ص 153.]. وليس بغريب إلا عند هذا الملحد ومن يشايعه.
وقد أخرجه ابن أبي داود بسند صحيح – كما قال ابن حجر – عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال: "لا تقولوا في عثمان إلا خيراً فوا لله ما فعل ما فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا" [فتح الباري: 9/18، وانظر: ابن أبي داود/ كتاب المصاحف: ص19، أبو شامة/ المرشد الوجيز: ص53.].
وبعد هذا كله فإن "النموذج" الذي يخرجه لنا هؤلاء "الكذبة" ويزعمون أن عثمان أسقطه، هو أكبر شاهد على حقيقة قولهم..
فقد جاء صاحب فصل الخطاب بأربع روايات عن أربعة من كتبهم تقول إن علي بن موسى الرضا قال: "لا والله لا يرى في النار منكم اثنان أبداً، لا والله ولا واحداً. قال: قلت: أصلحك الله، أين هذا من كتاب الله تعالى؟ قال: هو في الرحمن وهو في قوله تبارك وتعالى: لا يسئل عن ذنبه منكم إنس ولا جان، قال: قلت: ليس فيها منكم؟ قال: بلى، والله إنه لمثبت فيها وإن أول من غيّر ذلك لابن أروى" [فصل الخطاب: ص157.].
والروايات الثلاث الأخر لا تخرج عن هذا المعنى، ويعنون بابن أروى عثمان.
فهذا "المثال" الذي تقدمه كتب الروافض كشاهد لما أسقطه عثمان يكشف الحقيقة المخبأة.. فوقت تنزل القرآن لا يوجد شيعة، ولا مرجئة ولا غيرهما من الفرق.
والآية كما لا يدعون تثبيت أن الشيعي لا يسأل عن ذنبه.. وهذه دعوى خطيرة لا يسندها دليل، بل هي مناقضة لنصوص التنزيل، وما علم من الإسلام بالضرورة.. ولها آثارها الخطيرة من التحلل من التكاليف الشرعية.. والجرأة على اقتراف المعاصي والموبقات.
وإمامهم يقسم على شيعته أنه لن يدخل النار منهم واحد.. أطلع الغيب، أم اتخذ عند الله عهداً؟!(192/38)
وهم بهذه الدعوى أكثر غلواً من يهود، الذين قالوا: {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً}، ورد الله عليهم بقوله سبحانه: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة، 80، 81].
وهي تكشف كذب هذه الدعاوى كلها.. وأن الغرض من دعوى التحريف تحقيق شذوذ لا سند له من كتاب أو سنة صحيحة. ثم هي تكشف أن واضع هذه الرواية زنديق جاهل بمعاني كتاب الله، فالآية في المجرمين وهو ظنّ أنها في الصالحين فأولها في شيعته.. وحاول أن يؤكد ذلك بزيادة قوله: "منكم" وعلل ذلك بأنة لو لم يضع هذه الزيادة لسقط العقاب عن الخلق، وهو لا يسقط إلا عن شيعته – كما يفتري – مع أن الآية هي كقوله سبحانه: {وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص، 78].
فهي في أهل الجرائم والذنوب.
ولهذا قال ابن عباس في تفسيرها: لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا؟؛ لأنه أعلم بذلك منهم. وقال مجاهد: لا يسأل الملائكة عن المجرم، يعرفون بسيماهم [تفسير الطبري: 27/142 – 143، تفسير ابن كثير 4/294.].
ونختم القول بما قاله الجاحظ في دحض شبهتهم حول جمع أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه. قال الجاحظ:
"والذي يخطئ عثمان في ذلك فقد خطأ علياً وعبد الرحمن وسعداً، والزبير وطلحة وعلية الصحابة.(192/39)
ولو لم يكن ذلك رأي علي لغيّره، ولو لم يمكنه التغيير لقال فيه، ولو لم يمكنه في زمن عثمان لأمكنه في زمن نفسه، وكان لا أقل من إظهار الحجة إن لم يملك تحويل الأمة، وكان لا أقل من التجربة إن لم يكن من النّجاح على ثقة، بل لم يكن لعثمان في ذلك ما لم يكن لجميع الصحابة، وأهل القدم والقدوة، ومع أن الوجه فيما صنعوا واضح، بل لا نجد لما صنعوا وجهاً غير الإصابة والاحتياط، والإشفاق والنظر للعواقب، وحسم طعن الطاعن.
ولو لم يكن ما صنعوا لله تعالى فيه رضاً لما اجتمع عليه أول الأمة وآخرها، وإن أمراً اجتمعت عليه المعتزلة والشيعة، والخوارج والمرجئة، لظاهر الصواب، واضح البرهان، على اختلاف أهوائهم.
فإن قال قائل: هذه الروافض بأسرها تأبى ذلك وتنكره، وطعن فيه، وترى تغييره.
قلنا: إن الروافض ليست منا بسبيل، لأن من كان أذانه غير أذاننا، وصلاته غير صلاتنا، وطلاقه غير طلاقنا، وعتقه غير عتقنا، وحجته غير حجتنا، وفقهاؤه غير فقهائنا، وإمامه غير إمامنا، وقراءته غير قراءتنا، وحلاله غير حلالنا، وحرامه غير حرامنا، فلا نحن منه ولا هو منا [رسائل الجاحظ، رسالة حجج النبوة: 3/233–234.].
الشبهة الثامنة:
قال الملحد: "الثامن في أخبار كثيرة دالة صريحاً على وقوع النقصان زيادة على ما مر رواها المخالفون" [فصل الخطاب: ص162.].
ثم ذكر ما جاء عن طريق أهل السنة من أخبار نسخ التلاوة.
ولا مستمسك له في ذلك كما أسلفنا؛ لأن النسخ من الله سبحانه والتحريف من البشر.. ولذلك جاء الحديث عنها في كتب أهل السنة في باب النسخ.. ولا نعيد هنا ما قلناه سابقاً.. وهو يعيد الأدلة ويكررها بصور مختلفة ليصل بالأدلة إلى عدد أئمته الاثني عشر.(192/40)
وقد أورد في هذا الموضع سورة مفتراة قال بأنه وجدها في كتاب دبستان مذاهب [بالغة الإيرانية لمؤلفه محسن فاني الكشميري، وهو مطبوع في إيران طبعات متعددة، ونقل عنه هذه السورة المكذوبة على الله المستشرق نولدكه في كتابه "تاريخ المصاحف": 2/102، ونشرتها الجريدة الآسيوية الفرنسية سنة 1842م (ص431–439) (انظر: الخطوط العريضة ص13).] ولم يجدها في غيره من كتب الشيعة، وقال: لعلها سورة "الولاية" التي أشار إليها بعض شيوخ الشيعة، ثم أورد نصها بتمامه [فصل الخطاب: ص180.] وهي عبارات ركيكة، وألفاظ ساقطة، ومعان متهافتة، وسياق مفكك، وجمل ينبو بعضها عن بعض.
فهي عبارة عن كلمات ملفقة تلفيقاً رديئاً من بعض ألفاظ القرآن، وموضوعها هو الأمر الذي أقلق الشيعة وهو خلو كتاب الله من شذوذهم، ولذلك فهي تذكر مسألة الوصية لعلي بالإمامة، وتكفير الصحابة لعصيانهم الوصي. تقول كلماتها"
"يا أيها الذين آمنوا بالنورين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي. إن الذين يوفون ورسوله في آيات لهم جنات نعيم. والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم ميثاقهم وما عاهدهم الرسول عليه يقذفون في الجحيم. ظلموا أنفسهم وعصوا الوصي الرسول يسقون من حميم. إن الله الذي نور السموات والأرض بما شاء واصطفى من الملائكة وجعل من المؤمنين أولئك في خلقه يفعل الله ما يشاء... إن علياً من المتقين وإنا لنوفيه حقه يوم الدين.. فإنه وذريته الصابرون، وإن عدوهم إمام المجرمين... يا أيها الرسول قد جعلنا لك في أعناق الذين آمنوا عهداً فخذه وكن من الشاكرين بأن علياً قانتاً بالليل . يحذر الآخرة ويرجو ثواب ربه قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون. سيجعل الأغلال في أعناقهم وهم على أعمالهم يندمون" [فصل الخطاب: ص180–181.] إلخ.
هذه بعض كلماتها وهي لا تحتاج إلى نقد.(192/41)
فهي من هذر الكلام وسقط المتاع، تلفيق مهلهل مضطرب المعاني والألفاظ، وإن أقل الأدباء ليأبى نسبتها إليه فضلاً عن أن تكون من كتاب الله الذي أعجز أرباب البيان وفرسان الفصاحة.
وقد نقد هذه "السورة المخترعة" الشيخ يوسف الدجوي في كتابه: "الجواب المنيف في الرد على مدعي التحريف في القرآن الشريف" [انظر: الجواب المنيف: ص174 وما بعدها.].
وقد ردها – أيضاً – وبيّن زيفها أحد شيوخ الشيعة وهو البلاغي في تفسيره آلاء الرحمن [انظر: آلاء الرحمن: ص24-25.].
وبطلانها أوضح من أن يبيّن، فلا حاجة إلى نقل ما قالاه، فأنت تلحظ أن الأمر ظاهر من مجرد النظر في ألفاظها، انظر إلى قوله – مثلاً -: "واصطفى من الملائكة، وجعل من المؤمنين أولئك في خلقه" تجد أنها من وضع أعجمي لا يستطيع أن ينبئ عما يريد.
فماذا اصطفى من الملائكة؟ لم يكمل المعنى.
ولعله يريد اصطفي من الملائكة رسلاً إلى الأوصياء، فلم يستطيع إكمال الجملة.
وماذا جعل من المؤمنين؟
وما معنى أولئك في خلقه؟
وأنت ترى أنه ما رام أحد محاكاة القرآن إلا وابتلاه الله بالعي، وفضحه على رؤوس الأشهاد.
الشبهة التاسعة:
قال الملحد: "إنه تعالى ذكر أسامي أوصيائه وشمائلهم في كتبه المباركة السالفة، فلا بد أن يذكرها في كتاب المهيمن عليها" [فصل الخطاب: ص184.].
وكونها لم توجد فهذا دليل تحريفه بزعمه، ثم ساق مجموعة من رواياتهم تذكر بأن أئمتهم الاثني عشر قد جاء ذكرهم في الكتب السماوية السابقة [فصل الخطاب: ص184–204.].(192/42)
وأقول: إن هذه الدعوى مبنية على أن أسماء الأئمة الاثني عشر قد ذكرت في كتب الأنبياء السابقة.. فهي دعوى باطلة بنيت على باطل، وخرافة عُلِّق ثبوتها على خرافة أخرى، فمن يسلّم بذكرهم في الكتب السماوية حتى يسلم بذكرهم في القرآن! "وهذه كتب الأنبياء التي أخرج الناس ما فيها من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ليس في شيء منها ذكر عليٍّ – فضلاً عن سائر أئمتهم – وهؤلاء الذين أسلموا من أهل الكتاب لم يذكر أحد منهم أنه ذكر عليٌّ عندهم" [منهاج السنة: 4/46.].
لقد جاءت البشارة في الكتب السابقة بخاتم المرسلين. قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف، 157].
وجاء ذكر الصحابة والثناء عليهم في التوراة والإنجيل، قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح، 29].
وقد عز على هذه الزمرة أن يذكر رسول الهدى صلى الله عليه وسلم وصحابته ولا يذكر أئمتهم، والصحابة عندهم أهل ردة، وأئمتهم أفضل من الأنبياء والرسل.. فكيف يقولون لأتباعهم؟ لقد اخترعوا روايات تقول بأن الأئمة قد ذكروا في الكتب السماوية ولكن لِمَ لم يذكروا في كتاب الله؟ هذا ما لم يجدوا له جوابًا إلا القول بالتحريف الذي ارتد عليهم بأسوأ العواقب.
الدليل العاشر:(192/43)
قال فيه: "لا إشكال ولا اختلاف بين أهل الإسلام في تطرق اختلافات كثيرة وتغيرات غير محصورة في كلمات القرآن وحروفه بالزيادة والنقصان واستقرار آراء المخالفين على اختيار سبعة من القراء منهم أو عشرة على ما بينهم من الاختلاف.. واعتنائهم بتوجيه قراءاتهم وإرجاعها إلى الرسول، كما زعموا فيكون القرآن في نفسه وعند نزوله مبنياً على الاختلاف وموضوعاً على المغايرة، وحيث إن القرآن لا تغير فيه ولا اختلاف فتكون هذه القراءات هي قراءة بغير ما أنزل الله".
وأورد جملة من أخبارهم تقول: بأن "القرآن واحد نزل من عند واحد وإنما الاختلاف من الرواة".
وطعن على الرواة السبعة وقال بعدم الاحتجاج بقراءتهم.. لأن "أول طبقات القراء هم الذين استبدوا الآراء ولم يبايعوا إمام زمانهم أمير المؤمنين" [فصل الخطاب: ص210.].
يحاول هذا الملحد أن يتمسك بما ورد من القراءات لإثبات فرية طائفته وأسطورتهم، ولا مستمسك له به، ذلك أن اختلاف القراءات لا يؤدي إلى شيء من ذلك كما افترى، لأن ذلك كان يمكن لو أن كل واحد من القراء المختلفين في قراءة بعض الآيات كان يقرأ من عند نفسه ما يراه، لكن الأحاديث صريحة الدلالة في أن كل واحد منهم قد أخذ قراءته من الرسول صلى الله عليه وسلم وهي مخالفة لقراءة صاحبه، وأن النبي أقر كلاً منهم وأخبر بأنها هكذا أنزلت [انظر: صحيح البخاري – مع الفتح -: 9/22.] فبان أن الجميع نازل من عند الله، والفرق بين ذلك وأسطورة الشيعة فرق واضح جلي.
وقد اختلط على هذا الأفاك الأمر في مسألة القراءات والقرآن فظن التلازم بينهما، وهو جهل واضح؛ فالقرآن متواتر بإجماع المسلمين يتناقله الأجيال عن الأجيال حتى يبلغوا به النبي صلى الله عليه وسلم بينما القراءات فيها المتواتر والآحاد والشاذ، ومنها المدرج [هو ما زيد في القراءات علي وجه التفسير (الإتقان: ص77).] والموضوع.(192/44)
ولم يقل أحد أن القرآن أخذ عن السبعة أو العشرة؛ إذ إن القراءات "مذهب من مذاهب النطق في القرآن يذهب به إمام من الأمة القراء مذهباً يخالف غيره".
قال الزركشي: "واعلم أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز، والقراءات اختلاف الوحي المذكور في كتابه الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما" [البرهان: 1/318.].
والقراءات غير الأحرف السبعة [وهذا لا نزاع فيه بين أهل العلم، وإنما يظن أنهما شيء واحد بعض الجهلة، لأن أول من جمع القراءات السبع أبو بكر بن مجاهد في أثناء المائة الرابعة.
(انظر: المرشد الوجيز لأبي شامة ص146، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 13/390، النشر لابن الجزري: 1/24).] التي أنكرها هذا الرافضي – وخلط بينها وبين القراءات السبع – مع أن الحديث في الأحرف السبعة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم [والحديث بهذا المعنى أخرجه البخاري، في كتاب فضائل القرآن، باب أنزل على سبعة أحرف: ج9 (من البخاري مع شرحه فتح الباري) ص23 ح4992، ومسلم كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه (ح818)، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف: 2/158 (ح1475).].
وقد جاءت الرواية بنزول القرآن على سبعة أحرف في كتب الشيعة نفسها في جملة أحاديث حتى بوّب القمي لها في كتابه الخصال [الخصال "نزل القرآن على سبعة أحرف": ص358.].
والمتأمل لأسانيد تلك القراءات يرى أن جملة منها متصلة بمن ترى الشيعة إمامتهم كأمير المؤمنين عليّ، وجعفر وغيرهما. وقد مر بنا نقل اعتراف الشيعة بذلك [ص266 – 267.].
الشبهة الحادية عشرة:(192/45)
قال الملحد: "الدليل الحادي عشر: في ذكر الأخبار المعتبرة الصريحة في وقوع السقط ودخول النقصان في الموجود من القرآن، وأنه أقل مما نزل إعجازاً على قلب سيد الإنس والجان، وهي متفرقة في الكتب المعتبرة التي عليها المعول عند الأصحاب"، وذكر أخباراً كثيرة من كتب طائفته في ذلك.
وهذه الروايات الكثيرة التي استشهد بها لا تدل على تحريف القرآن الذي أجمعت عليه الأمة، وتكفل الله بحفظه وقامت القرائن والبراهين القطعية على سلامته؛ إنما تشهد على كذب هذه الروايات وسقوط تلك الأحاديث، التي ينسبونها للأئمة وأنه لا ثقة برواياتها بعد هذا، وأن كتبهم هي المحرفة المفتراة.. وقد انكشف أمرها بهذه الفرية.. وبانت حقيقتها بهذه الأسطورة.
ودلالة أخباره على مطلوبه إنما يلزم بها أهل ملته، أما أمة الإسلام فلا.
وقد شهد شاهد من أهلها بأن أخبارهم في هذا الباب إنما رواها الغلاة والكذابون والمطعون في دينهم ممن لا تحل الرواية عنهم، والذي شهد بذلك شيخهم البلاغي في آلاء الرحمن، حيث قال: "هذا وإن المحدث المعاصر جهد في كتاب فصل الخطاب في جميع [كذا في الأصل، ولعلها "جمع".] الروايات التي استدل بها على النقيصة".
وفي جملة ما أورده من الروايات ما لا يتيسر احتمال صدقها، ومنها ما هو مختلف باختلاف يؤول به إلى التنافي والتعارض.. هذا مع أن القسم الوافر من الروايات ترجع أسانيده إلى بضعة أنفار، وقد وصف علماء الرجال كلاً منهم إما بأنه ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفو الرواية، وإما بأنه مضطرب الحديث والمذهب يعرف حديثه وينكر ويروي عن الضعفاء، وإما بأنه كذب متهم لا أستحل أن أروي من تفسيره حديثاً واحداً، وأنه معروف بالوقف وأشد الناس عداوة للرضا عليه السلام، وإما بأنه كان غالباً كذاباً، وإما بأنه ضعيف لا يلتفت إليه ولا يعول عليه ومن الكذابين، وإما بأنه فاسد الرواية يرمى بالغلو.(192/46)
ومن الواضح أن أمثال هؤلاء لا تجدي كثرتهم شيئاً [البلاغي/ آلاء الرحمن: ص26.].
كذلك يذكر مرجع الشيعة في زمنه ميرزا مهدي الشيرازي بأن أخبارهم في ذلك شاذة ضعيفة في إسنادها، متناقضة في متونها؛ حيث قال: "وأما ما ورد في الأخبار التي ظاهرها وقوع التحريف في بعض الآي فلا يثبت بها ذلك (حيث) إنها شاذة ضعيفة الأسانيد، فإن كثيراً منها عن السياري [جاء في ترجمته عندهم: أحمد بن محمد بن سيار، أبو عبد الله الكاتب البصري، يعرف بالسياري، ضعيف الحديث، مجفو الرواية، كثير المراسيل.
(الفهرست للطوسي: ص51، رجال النجاشي: ص62، رجال الحلي: ص203)، قال ابن حجر: "كان في أواخر المائة الثالثة". (لسان الميزان: 1/252).] الذي ضعفه علماء الرجل كما في الفهرست لشيخ الطائفة، والخلاصة للعلامة، والرجل للنجاشي أنه "ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفو الرواية" [المعارف الجليلة: ص18.].
ثم بيّن تناقض متنها بقوله: "معارضة بعضها مع البعض من وجهين أحدهما: تعارضها في تعيين الساقط.. وثانيهما: ما ورد في روايات من سقوط اسم علي في مواضع كثيرة، مع أن بعض الروايات تدل على أن الله تعالى لم يسم علياً في القرآن" [المعارف الجليلة: ص18.].
هذا قول البلاغي والشيرازي في رجالهم وأسانيدهم.
ولسنا بحاجة إلى حكم الروافض، ولكن نذكرها لبيان تناقض أقوالهم، وشعورهم بتفاهة قولهم وسقوطه، ومحاولتهم التستر على مذهبهم، أو نفي هذا الكفر والعار الذي ألحقه بالطائفة شيوخهم الأوائل، بوضعهم هذا الإلحاد والكفر في أصولهم أمثال الكليني وإبراهيم القمي، والمجلسي وأضربهم.
ونأخذ أقوالهم في الحكم على أسانيدهم لهذا السبب.
الشبهة الثانية عشر:(192/47)
قال الملحد: "الدليل الثاني عشر الأخبار الواردة في الموارد المخصوصة من القرآن الدالة على تغيير بعض الكلمات والآيات والسور بإحدى الصور المتقدمة وهي كثيرة جداً (يعني حسب أساطيرهم)، حتى قال السيد نعمة الله الجزائري في بعض مؤلفاته كما حكي عنه: أن الأخبار الدالة علي ذلك تزيد على ألفي حديث وادعى استفاضتها جماعة كالمفيد والمحقق الداماد والعلامة المجلسي وغيرهم، بل الشيخ أيضاً صرح في التبيان بكثرتها، بل ادعى تواترها جماعة ونحن نذكر ما يصدق دعواهم" [فصل الخطاب: ص 251-252.].
ثم أخذ في ذكر ما جاء في أخبارهم مما يزعمون أنه هو القرآن السالم من التحريف، فذكر (1062) مثالاً على ترتيب سور القرآن، وعلى مدى مائة صفحة، وسأذكر شيئًا منها لتتبين حقيقة الأهداف المتوخاة من هذه الافتراءات. وقبل ذلك أقول: إن كثيرة أخبارهم في هذا الباب إنما يلزم بها أهل دينه، أما أمة الإسلام فلا.. وهذه الكثرة التي يحكيها تدل على أن دين الشيعة سداه ولحمته الكذب، والكيد للإسلام بمحاربة ركنه العظيم، وأصله الذي يقوم عليه هو القرآن.
وهذا الملحد يحكي كثرة هذا الباطل عندهم واستفاضته، وآخرون يدعون ندرته وشذوذه، والكل من شيوخهم المعتبرين عندهم.. أليس هذا عنوان تاقض هذا المذهب وأصحابه؟!
وهذه الدعوى يعدها دليلاً على إثبات مراده، وهي عنوان كفره، ووصمة عار يلطخ بها قومه إلى الأبد، وإذا لم تستح فاصنع ما شئت، وليس بعد الكفر ذنب.
وهو بهذه الدعوى يريد أن يصرف قومه عن كتاب الله، لأن كتابهم المزعوم لا زال مع غائبهم الموهوم رهين العزلة الدائمة، والغيبة الأبدية، لأنه لم يولد أصلاً.
أما الأمثلة التي ساقها فهي محاولة يائسة لوضع سند لعقائدهم في كتاب الله، وإقناع أتباعهم والحائرين من بني قومهم الذين حيرهم وزلزل بنيانهم خلو أصل الإسلام العظيم من أمر ولاية الاثني عشر، وهي عندهم الدين كله، فمما قال هذا الملحد:(192/48)
1ـ سورة البقرة: "... عن جابر الجعفي عن أبي عبد الله في قول الله عز وجل: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله (في علي) قالوا نؤمن بما أنزل علينا) [فصل الخطاب: ص254.].
فأنت ترى أنهم أقحموا "في علي" على الآية الكريمة، ولم يفطن هؤلاء الزنادقة أن الآية في بني إسرائيل، وأن ما زادوه يكاد يلفظه السياق، وأن لفظ الآية يكذبهم؛ فقولهم: "بما أنزل علينا" نص صريح في أنها ليست في هذه الأمة. ولكن هؤلاء إما أنهم زنادقة أعاجم لا يفقهون معنى الآيات، وإما أن هذا أمر مقصود لإضلال الشيعة والخروج بهم إلى طريق الكفر والإلحاد..
2 ـ سورة الأنعام: روى الكليني عن أبي عبد الله: "إن الذين فارقوا أمير المؤمنين وصاروا أحزاباً" [فصل الخطاب: ص262.].. يحاولون بذلك تغيير قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام، 159].
ولم يعرف هؤلاء الملحدون كيف يضعون؛ إذ إن الآية مكية، ولم يكن ثمة أمير للمؤمنين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والجميع أتباع لرسول الله لا أتباع لعلي حتى يفارقوه.
3 ـ سورة براءة: قال الملحد: "روى الكليني والعياشي عن أبي الحسن الرضا أن الحسين بن الجهم قال له: إنهم يحتجون علينا بقول الله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} قال: وما لهم في ذلك، لقد قال الله: (فأنزل الله سكينته على رسوله).. وما ذكر فيها بخير قال: قلت له: وهكذا قراءتها؟ قال: هكذا قراءتها، وعن أبي جعفر مثله، ألا ترى أن السكينة إنما نزلت على رسوله وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وهو الكلام الذي تكلم به عتيق (يعني أبا بكر)". قال الملحد: "والآية تدل على عدم إيمان الصاحب" [فصل الخطاب: ص 266.].
فترى هؤلاء الزنادقة حاولوا تحريف قوله سبحانه: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة، 40].(192/49)
بحذفهم "عليه" وزيادتهم (على رسوله)، وهدف الرافضة تكفير أبي بكر بتحريف النص الذي هو أعظم مناقب الصديق رضي الله عنه، وغاب عن هؤلاء الأعاجم أن هذا التغيير لا يؤدي الغرض الذي يذهبون إليه [قال ابن كثير في قوله: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} أي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أشهر القولين (تفسير ابن كثير: 2/384)، وقيل: على أبي بكر وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس، وحبيب بن ثابت (زاد المسير: 3/41).].
فأنت ترى أن "تحريفاتهم" وأساطيرهم، تسير في فلك الولاية وتكفير الصحابة.
وعلى هذا المنوال تجري غالب أساطير هذا الملحد التي ذكرها.
وبعد أن عرض هذا الملحد شبهاته الاثني عشر [بإمكان القارئ الرجوع للتوسع في الرد على أباطيل الروافض في هذا الباب إلى "الانتصار" للباقلاني (يوجد الجزء الأول منه في 304 ورقة بمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة) أو إلى "نكت الانتصار لنقل القرآن" تحقيق د. محمد زغلول. فشبهات هذا الرافضي ليست جديدة؛ إذ قال بها أسلافه من الزندقة، ورد عليها علماء المسلمين، ويبدو لي أن هذا الرافضي أخذ هذه الشبهات مما كتبه بعض علماء المسلمين بدون ردودهم ليضل قومة سواء السبيل. (قارن شبهاته بما جاء في نكت الانتصار للباقلاني).]، حاول أن يرد على الجناح الآخر من الشيعة الذي أبى أن يوافق على هذه الأسطورة، لوضوح فسادها، وعقد الباب الآخر لكتابه في هذا الشأن، حيث عرض أدلتهم وحاول الإجابة عليها.
وسأذكر فيما يلي حجج المنكرين لهذه الفرية من الشيعة، وأشير إلى إجابات هذا الملحد عليها، وأناقشه فيما يقول.
والحقيقة أن هذا الباب الذي عقده أبطل به افتراءاته؛ لأنه لم يستطيع أن يجيب على أدلة قومه المنكرين لكفره – كما سترى –:
قال الملحد: "الباب الثاني في ذكر أدلة القائلين بعدم تطرق التغيير مطلقاً في كتاب الله تعالى، وأن الموجود هو تمام ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهي أمور عديدة:(192/50)
الأول: قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر، 9]:
قال الملحد: "واعترض بأن المراد الحفظ من تطرق شبه المعاندين؛ حيث لا يوجد فيه بحمد الله مدخل إلى القدح فيه" [فصل الخطاب: ص360.].
فانظر إلى هذا الاعتراض الأبله من هذا الملحد؛ حيث عدّ قولهم "بالتحريف" ليس من شبه المعاندين فلا يدخل في عموم الحفظ!.
إن الحفظ أقرب معانيه: الحفظ من التغيير والتبديل، والآية ظاهرة في العموم وإن كره الكافرون.
وقال: "واعترض أيضاً: بأن الضمير في قوله: "له" راجع النبي صلى الله عليه وسلم لا إلى القرآن فلا شاهد عليه" [فصل الخطاب: ص 360.].
ومن الواضح الجلي أن الضمير يعود إلى الذكر، والضمير في لغة العرب يعود إلى أقرب مذكور، "فهو واضح من السياق" [تفسير ابن كثير: 2/592.] ثم هل يحفظ الله رسوله ويضيع كتابه؟!، فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً.
وقال الملحد: "لو سلم شموله للحفظ من التغيير [أي: ولم يقتصر على مجرد الحفظ من تطرق شبه المعاندين كما يفهم الأمر هؤلاء الملاحدة.] أيضاً فإنما هو القرآن في الجملة، لا لكل فرد، فإن ذلك واقع، ربما مزق كما صنع الوليد وغيره" [فصل الخطاب: ص360.].
وهذا اعتراض جاهل زعم أن احتراق نسخة من القرآن هو تغيير له، ولهذا رد على هذا بعض شيوخهم المنكرين لهذا الكفر، فقال: "هذا كلام لم يصدر عن روية، فإن المراد من حيث هو؛ أعني ما أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم، لا ما رسم فيه من النسخ، فإن جميعها يؤول إلى التلف وهو في الصدور، والصحف محفوظة، حتى لو فرض – ونعوذ بالله – تلف كل نسخة على وجه الأرض.. لكان أيضاً محفوظاً" [وهذا قاله محسن الكاظمي في شرح الوافية، ونقلة عند صاحب فصل الخطاب ص 360.].
الثاني: قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت، 42].(192/51)
وقد تلجلج الملحد واضطرب في الإجابة عن الآية، فهو تارة يقول: "إن الحذف والتغيير وإن كان باطلاً لكن ليس المراد من الآية" [فصل الخطاب: ص362.].
أما لماذا لا يكون مراداً مع أن التغيير فيه هو من أبطل الباطل، فإن شهوة التعصب عند هذا الملحد تقول: "ظاهرها (يعني الآية) أن لا يجوز أن يحصل فيه ما يستلزم بطلانه من تناقض أحكامه أو كذب في إخباراته وقصصه" [فصل الخطاب: ص362.].
فانظر إلى هذا التأويل الذي يدل على عقلية سقيمة، أو زندقة مقنعة، أو كلاهم معاً، فإن القرآن لو وقع فيه – معاذ الله – ما يراه الملحد من التغيير لوقع فيه التناقض في أحكامه والكذب في أخباره.
ثم قال: "وأما ثانياً [ما مضى هو الوجه الأول عنده.] فلأنه منقوض بمنسوج التلاوة والحكم أو التلاوة فقط" [فصل الخطاب: ص362.].
وهذه عودة على حجته التي نقضناها.. وكأنه بهذا يكذب رب العالمين لأنه يزعم أن النسخ من الباطل وقد وقع في كتاب الله، فانظر ما أعظم جرمه؟!
والنسخ حق لأنه جاء من عند الحق، وقد أقر به حتى شيوخ هذا الملحد المتقدمين كالمرتضى والطبرسي [انظر: ص(1020) من هذه الرسالة.]، فكأن هذا ومن يشايعه من المعاصرين قد ركبوا طورًا من الغلو لم يخطر ببال أسلافهم.
ثم قال الملحد: "فيكفي في انتفاء الباطل عنه انتفائه من ذلك الفرد المحفوظ عند أهل البيت" [فصل الخطاب: ص363.].
فتعجب من نظرة هؤلاء الروافض، كيف يؤولون آيات حفظ الله لكتابه، بكتابهم الموهوم، مع غائبهم المزعوم، والذي لم تعرف الأمة عنهما شيئاً، ولم تر لهما أثرًا.
ثم ماذا يجدي حفظه عند منتظرهم، وهل يغني ذلك شيئاً للناس؟ وإلا لأغنى عدم تغيره عند الله.. ولا شك أن الله سبحانه حفظ القرآن بعد نزوله ليبقى للأمة دستوراً ومنهج حياة إلى أن تقوم الساعة، ولا معنى ولا حكمة من الحفظ إلا هذا.
الثالث: الأخبار الكثيرة الواردة – عندهم – في بيان ثواب سور القرآن [فصل الخطاب: ص363.].(192/52)
قال الصدوق: "وما روي من ثواب قراءة كل سورة من القرآن، وثواب من ختم القرآن كله، وجواز قراءة سورتين في ركعة نافلة، والنهي عن قراءة سورتين في ركعة فريضة (هذا حسب رواياتهم) تصديق لما قلناه في أمر القرآن، وأن مبلغه ما في أيدي الناس، وكل ما روي من النهي عن قراءة القرآن كله في ليلة واحدة، وأنه لا يجوز أن يختم القرآن في أقل من ثلاثة أيام تصديق لما قلناه" [الاعتقادات: ص102، فصل الخطاب: 363.
وقد حاول الإجابة عن ذلك فقال بأن الأمر بقراءة القرآن وختمه... إلخ لا يعني عدم تحريفه، واحتج على هذه الدعوى بمقتضى أصولهم المنكرة. وهو باطل بني على باطل، فقال بأنه كالحث على التمسك باتباع الإمام.. وعدم القدرة على ذلك لعدم تمكنه لإظهار ما أودع عنده لخوف أو تقية. (فصل الخطاب: ص363).
وهذا مبني على مذهب الروافض في الغيبة والتقية وولاية الإمام، وقد تقدم بطلان ذلك ومخالفته للنقل والعقل وما علم بالضرورة والتواتر، وإثارة هذا الموضوع أصلاً مبني على شذوذهم الذي لم يجدوا له شاهداً في كتاب الله.].
الرابع: الأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة بعرض أخبارهم عليه والعرض على المحرف لا وجه له، وعلى المنزل المحفوظ لا يستطاع [فصل الخطاب: ص364.
وهذا الوجه كشف تناقض الشيعة بشكل كبير، وقد استغلق الأمر على صاحب فصل الخطاب فاضطر إلى الإجابة على هذا الوجه بالاعتراف ببعض الحق، حيث قال: "هو قرينة على أن الساقط لم يضر بالموجود وتمامه من المنزل للإعجاز، فلا مانع من العرض عليه مضافاً إلى اختصاص ذلك بآيات الأحكام لعدم دخول نقص على الخلفاء من جهتها". (فصل الخطاب: ص364).
وهذه الإجابة لا تكفي في إزالة التناقض بين نصوصهم التي تأمر بالعرض على القرآن، ونصوصهم التي تقول بالتحريف ودعوى تخصيص ذلك بآيات الأحكام لا دليل عليه، لأن أخبارهم في وجوب عرض جميع رواياتهم على القرآن عامة شاملة لم تخصص ذلك في آيات الأحكام.].(192/53)
الخامس: من الأدلة التي استدل بها الجناح المناهض لخرافة التحريف عند أصحابهم – بأنه قد ورد عندهم.. متواتراً – الأمر بالتمسك بالكتاب والعترة، وهذا يدل على أنه موجود في كل عصر، لأنه لا يجوز أن تؤمر الأمة بالتمسك بما لا تقدر على التمسك به [انظر: الطوسي/ التبيان: 1/3، فصل الخطاب: ص364.
وقد رد الملحد هذا الدليل بمقتضى خرافات الشيعة، حيث جاء الأمر عندهم بالتمسك بالعترة، ومع ذلك غاب الإمام منذ قرون، فالكتاب كذلك، وقد رد على ذلك أحد شيوخهم (وهو محسن كاظمي في شرح الوافية) فقال: "إن التمسك بهم.. ممكن مع الغيبة (يعني غيبة منتظرهم) للعلم بهم وبطريقتهم، وهذا بخلاف التمسك بالكتاب فإنه إنما يتحقق بالأخذ به، ولا يمكن إلا بالاطلاع عليه" (انظر: فصل الخطاب ص365).
ولم يرتض الملحد هذا الجواب فقال: "إن العلم بجميع طريقة الإمام في الغيب لم يدعه أحد من الأعلام" ثم ذكر كلاماً مفاده أنه يكفي العلم ببعض طريقة الإمام، وكذلك يكفي العلم ببعض القرآن السالم من التحريف. (فصل الخطاب: ص365).
وهكذا فإن المذهب يهدم بعضه بعضاً.].
السادس: أنه لو سقط منه شيء لم تبق ثقة في الرجوع إليه [وهنا انكشف – أيضاً – هذا الملحد في جوابه عن هذا الدليل فقال: إن هذا لا يقدح "لاحتمال كون الظاهر المصروف عن ظاهر من الظواهر الغير المتعلقة – كذلك – بالأحكام الشرعية العملية التي أمرنا بالرجوع فيما إلى ظاهر الكتاب" (فصل الخطاب: ص365).
كأنه يشير إلى أن رجوعهم إلى القرآن إنما هو فقط في آيات الأحكام أو أنهم يرجعون إلى تأويلاتهم الباطنية لآيات القرآن إلا في آيات الأحكام فيرجعون إلي الظواهر.. ثم قال: "إن إرشاد الأئمة إلى التمسك بها (يعني آيات الأحكام) وتقريرهم الأصحاب عليه وتمسكهم بها في غير واحد من الموارد كاشف عن عدم سقوط ما يوجب الإجمال – كذا – في الموجود من آيات الأحكام وغير مناف للسقوط في غيرها" (السابق ص365).(192/54)
فهو هنا يجعل أخباره وأساطيره هي الحاكمة على القرآن، فيقبل حكمها بالرجوع إلى آيات الأحكام، ويفسر الأمر برواياتها بالتمسك بالكتاب بذلك.
والحقيقة أن صورة التناقض عندهم واضحة، فالأمر بالتمسك بالكتاب عام يشمل آيات الأحكام وغيرها، وأساطير التحريف عامة كذلك.. والتناقض دليل سقوط أخبارهم وأنهم ليسوا على شيء.].
السابع: أن سقوط شيء منه مع شدة هذا الضبط والاهتمام خارج عن مجاري العادات. قال السيد شارح الوافية [محسن بن السيد الأعرجي الحسيني الكاظمي المتوفى سنة 1227ه، له كتاب "شرح الوافية" أو "المحصول" أشار صاحب الذريعة إلى أنه رأى عدة نسخ منه عند بعض شيوخهم. (الذريعة: 20/151).] فيه: أن طول المدة أدعى لضبط ما تمد إليه الأعناق، ولا يرو إلا لداع، وأنى يخفى مثله وهو صلى عليه وآله إذا تغشاه الوحي ثقل حتى إذا كان راكباً ارتدت قوائم الدابة، فإذا تسرى عنه تلا عليهم ما نزل عليه فليكن كخطيب مصقع أو كشاعر مغلق ينشد البيت بعد البيت، ويلقي الكلام بعد الكلام في مظان الحكمة، ومحل الحاجة خصوصاً إذا كان لوروده شاهد معلوم وعلامة بينة وهو صلى الله عليه وآله إنما يأتيهم بالوعد والوعيد، والترغيب والتهديد، والتكاليف الحادثة، وأقاصيص الأمم السافلة، والأقاويل الغريبة، وهناك أمم من الناس يتطلعون لما برز منه رغبة أو رهبة، وقد كلفهم بتلقيه وتلاوته، وحفظه والنظر في معانيه، ووعدهم على ذلك الجنات.. وجعل تلاوته من أعظم أنواع العبادات.. ولهذا كان منهم من يقطع الليل بتلاوته. على أنه لم يقنع بهذا كله حتى وكل لكتابته وحفظه وحراسته أربعة عشر [كتاب النبي صلى الله عليه وسلم عديدون أحصى أسماءهم عدد من العلماء، وقد ذكر منهم أبو شامة نحواً من خمسة وعشرون اسماً. (انظر: المرشد الوجيز ص46). وذكر منهم ابن القيم سبعة عشر صاحبياً. (زاد المعاد 1/117).(192/55)
ولعل من أكثرهم استيعاباً الحافظ العراقي، إذ ذكر اثنين وأربعين كاتباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (انظر: التراتيب الإدارية للكتاني: 1/116)، وعدهم البرهان الحلبي في حواشي الشفا فأوصلهم إلى ثلاثة وأربعين (المصدر السابق: 1/117، وانظر: الصباغ/ لمحات في علوم القرآن: ص67).] يعرضون عليه، ويدرسونه لديه، لأنه معجز النبوة ومأخذ الأحكام ومأخذ الأحكام الشرعية، ومرجع الأمة، وشاهد الأئمة، حتى إن جماعة منهم كعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب ختموه عليه عدة ختمات.
وما زال يفشو أمره وينتشر ضياؤه، ويعلو سناؤه يوماً فيوماً وعاماً فعاماً وقرناً فقرناً حتى صار من أعظم المتواترات ظهوراً، ومن هنا تعرف سرّ ما قال سيدنا المرتضى فيما حكى عنه شيخنا أبو علي في المجمع أن: العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان، والحوادث الكبار، والوقايع العظام... (ثم نقل ما سبق أن نقلنا عن الشريف المرتضى) [ص:(292–293).].
وقال: إن القرآن المجيد ليس بذلك الكثير الذي لا يمكن جمعه ولا بالمبثوث الذي لا يضم نشره؛ وإنما هو بمنزلة ديوان شعر لعظيم من الشعراء قد اشتمل على نفائس الشعر وطرف الحكمة وشوارد الأمثال، وله حملة وحفاظ، وناس يتناشدونه في مجامعهم، ويكتبونه في دفاترهم بحيث إذا ذهب عليهم بيت منه فضلاً عن قصيدة أو مقطوعة افتقدوه... ونادى منادي السلطان في حملته وحفاظه والذين يتناشدونه ويكتبونه أن ائتونا بما عندكم.. أتراه يشذ عليه بعد هذا شيء؟(192/56)
والكتاب العزيز أجلّ مما ضربنا، وحملته وكتابه وحفظته أكثر مما قلناه، وتوجه الرغبات إليه أشد، وله قراء كثيرون وحفاظ. وجمعيه في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وآله – فضلاً عما بعده – جماعة حتى قال القرطبي: قد قتل يوم اليمامة سبعون من القراء، وقتل في عهد النبي صلى الله عليه وآله في بئر معونة مثل ذلك، وروى البخاري عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقال: أربعة من الأنصار: أبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، قلت: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي.
هذا كله مضافاً إلى شدة اعتناء الله جل ذكره بشأنه وصدق وعد الله بحفظه وإظهار هذا الدين الذي هو من أعظم أركانه، حتى جعل أشد الناس إباء لظهوره، وأقلهم احتفالاً بمكانه من السعادة في حفظه وصيانته كما حفظ بيضة الإسلام مع تهالكهم في استئصال ذريته [انظر: فصل الخطاب: ص365–367.].
وتوفر الدواعي على نشره للمسلمين والكفار والمنافقين للتحدي والإعجاز واشتماله على أمهات الأحكام، والقراءة في المصحف والعلم بما فيه والتعلم والتعليم لأنفسهم ولأولادهم، وللختم في شهر رمضان، وفي كل شهر مرة، وفي كل سبعة أيام أو ثلاث أو ليلة كله، أو قراءة شيء منه في كل ليلة، والحفظ وشرف الحمل والنظر فيه والتفكر في معانيه، وأمثاله، ووعده ووعيده.. إلى غير ذلك مما لا تحصى (يعني من دواعي حفظه) مع كثرة المسلمين وغلبتهم حتى في غزوة تبوك كان عسكر الإسلام ثلاثين ألفاً، وفي حجة الوداع اجتمع سبعون ألفاً [انظر: فصل الخطاب: ص367.].
وقد ضاق ذرعاً صاحب فصل الخطاب وهو ينقل هذه الكلمات عن شيوخه المنكرين لهذه الفرية وعقب عليها بقوله: "انتهى ما أوردنا نقله من الكلمات التي تشبه بكلام من لا عهد له بمباحث الإمامة، وحال أصحاب النبي صلى الله عليه وآله في الضلالة والغواية في حياته وبعد وفاته" [فصل الخطاب: ص367.].(192/57)
ولجملة من شيوخهم كلمات من هذا القبيل في دحض هذه الفرية لظهور فسادها، ولذلك قال الألوسي بعدما ذكر إنكار الطبرسي لهذا الكفر: "وهو كلام دعاه إليه ظهور فساد مذهب أصحابه حتى للأطفال، والحمد لله على أن ظهر الحق وكفى الله المؤمنين القتال" [روح المعاني: 1/24.].
وبعد، فهذا الكتاب الذي كتبه صاحبه وصوبه سهماً إلى كتاب الله سبحانه، لم يضر كتاب الله شيئاً، بل ارتد إلى طائفته وعاد عليها بأسوأ العواقب، فقد أصبح فضيحة الشيعة الكبرى، وكان من أعظم الأدلة والبراهين على سقوط أخبارهم وتهافت رواياتها، وأنه لا عبرة بتواترها واستفاضتها، ولهذا قال أحد شيوخ الشيعة المعاصرين:
"ما أجاد في تأليفه، ولا وافق الصواب في جمعه، وليته لم يؤلفه، وإن ألفه لم ينشره، وقد صار ضرره أكثر من نفعه، بل لا نفع يتصور من نشره، فإنه جهز السلاح للعدو وهيأه..".
ثم قال: "ويقال: إن بعض أعداد الدين وخصماء المذهب حرضه على تأليف ذلك الكتاب وهو – رحمه الله – لم يشعر بذلك الغرض الفاسد، وليس هذا الحدس أو النقل ببعيد" [الطبطبائي/ الأنوار النعمانية: 2/364 (الهامش).].
هكذا يتمنون أن تكون هذه المسألة مستورة لا مفضوحة، وأن تبقى رواياتها متفرقة لا مجموعة، لأنه قد صار ضرره عليهم أكثر من نفعه، بل لا نفع من نشره، وليبق سري التداول بينهم. فهل هذا يدلنا على أن لديهم كتباً لا تحظى بالنشر، لأن معلوماتها مثيرة للعالم الإسلامي، وآثارها خطيرة فبقيت رهينة التداول بينهم؟ إن هذا ليس ببعيد [بل قد يكون واقعاً، حتى أنك ترى أن بعض أجزاء البحار قد منع طبعها، بأمر من "حوزاتهم".].
الوجه الرابع: التظاهر بإنكار هذه الفرية مع محاولة إثباتها بطرق ماكرة خفية:(192/58)
درج بعض شيوخهم المعاصرين على التظاهر بإنكار هذه الفرية، والدفاع عن كتاب الله سبحانه.. لكنك تلاحظ المنكر في فلتات لسانه، وترى الباطل يحاول دسه في الخفاء هنا وهناك.. ومن أخبث من سلك هذا الطريق شيخهم الخوئي [أبو القاسم الموسمي الخوئي، مرجع الشيعة الحالي في العراق وبعض الأقطار الأخرى.] في تفسيره "البيان"؛ فهو يقرر: "أن المشهور بين علماء الشيعة ومحققيهم، بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف" [البيان: ص226.].
ولكنه يقطع بصحة جملة من روايات التحريف فيقول: "إن كثرة الروايات تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين، ولا أقل من الاطمئنان بذلك، وفيها ما روي بطريق معتبر" [البيان: ص222.].
وبتتبع رواياتهم وأساطيرهم بهذا الخصوص ويعتبر رواياتهم التي تتحدث عن مصحف لعلي فيه زيادات ليست في كتاب الله القرآن وقد ذكرت فيها أسماء الأئمة، وأساطيرهم التي تقول بنقص القرآن، كل ذلك يعتبره ثابتاً عندهم، ولكنه يرى أنه من قبيل التفسير الذي نزل من عند الله وأن تلك الزيادات كانت تفسيراً بعنوان التأويل وما يؤول إليه الكلام، أو بعنوان التنزيل من الله شرحاً للمراد [البيان: ص223 وما بعدها.].
أما أساطيرهم التي دلت على التحريف بعنوانه (على حسب تعبيره) وبلغت عندهم باعترافه عشرين رواية وهو يعني بذلك أساطيرهم التي تقول بأن الصحابة حرفوا القرآن وبدلوه، حيث استشهد لذلك بقوله: ما عن الكافي والصدوق بإسنادهما عن علي بن سويد قال: كتبت إلى أبي الحسن كتاباً – إلى أن ذكر جوابه بتمامه وفيه قوله عليه السلام -: اؤتمنوا على كتاب الله فحرفوه وبدلوه.(192/59)
وكان موقفه من هذه الأساطير هو قبولها، ولكنه يقول بأنها لا تدل على تحريف ألفاظ القرآن "فهي ظاهرة الدلالة على أن المراد بالتحريف حمل الآيات على غير معانيها.. ولولا هذا التحريف لم تزل حقوق العترة محفوظة وحرمة النبي منهم مرعية، ولما انتهى الأمر إلى ما انتهى إليه من اهتضام حقوقهم وإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم فيهم [البيان: ص229.].
فهو يزعم بأن الأمة وفي طليعتهم الصحابة حملوا آيات القرآن على غير معانيها الحقيقية، أما تحريفات الكليني والقمي والعياشي لآيات القرآن فهي التفسير الحقيقي عنده لكتاب الله، فإذا كان هذا مبلغ علم أكبر مراجع الشيعة اليوم، وغاية دفاعه عن كتاب الله، فإن أمر الشيعة اليوم في غاية الخطورة.
وهو لا ينسى وهو يضع هذه "السموم" هنا وهناك أن يحاول إطفاء غضب القارئ ولاسيما حينما يجد أن تأويله عند من عرف نصوصهم وخبر أخبارهم بعيد التصديق فيقول: "وإذا لم يتم هذا الحمل فلا بد من طرح هذه الروايات" [البيان: ص230–231.].
ويقول عن أساطير نقص القرآن عندهم: أكثر هذه الروايات بل كثيرها ضعيفة السند.. ثم نقل عن بعض علمائهم قوله: "إن نقصان الكتاب مما لا أصل له وإلا لاشتهر وتواتر نظرًا إلى العادة في الحوادث العظيمة وهذا منها بل أعظمها" [البيان: ص233.].
ثم يقول عن أساطيرهم التي دلت – كما يقول – علي وقوع التحريف في القرآن بالزيادة النقصان: وإن الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم غيرت بعض الكلمات وجعلت مكانها كلمات أخرى، وذكر لذلك أمثلة، ومما أورده "ما عن العياشي عن هشام بن سالم قال: سألت أبا عبد الله رضي الله عنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} قال: هو آل إبراهيم وآل محمد على العالمين فوضعوا اسمًا مكان اسم، أي أنهم غيروا فجعلوا مكان آل محمد آل عمران".(192/60)
وكان جوابه عن ذلك أنها مخالفة للكتاب والسنة وإجماع المسلمين على عدم الزيادة في القرآن ولا حرفاً واحداً حتى من القائلين بالتحريف [البيان: ص232–233.].
لاحظ مبلغ الخداع؛ فهو بهذا التعقيب على الزمرة الأخيرة من أساطيرهم يوهم القارئ أن ما سبق عرضه من أنواع أساطيرهم ليس بطلانها موضوع اتفاق بين المسلمين.. وهو يجعل من يرمي كتاب الله سبحانه بهذه الفرية ممن يعد قوله ضمن إجماع المسلمين.
إن هذه المحاولة من شيخ الشيعة هي مجرد غطاء جميل خادع لتحقيق هدف خبيث، فهي مؤامرة الهدف منها المساس بكتاب الله بطرق خفية ماكرة، ولذلك لم يثر كتابه فصل الخطاب، بل اعتبر البعض منهم ذلك من قبيل الدفاع عن القرآن، ولقد لاحظت أنه يحاول أن يثبت "أسطورته" من طرق أهل السنة بأسلوب غريب ماكر، حيث قال – وهو يتظاهر بالدفاع عن كتاب الله -: إن القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف، وعليه فاشتهار القول بوقوع النسخ في التلاوة عند علماء أهل السنة يستلزم – في زعمه – اشتهار القول بالتحريف [البيان: ص201.].
وقال: "إن الالتزام بصحة هذه الروايات (يعني: روايات نسخ التلاوة) التزام بوقوع التحريف في القرآن" [البيان: ص201.]. وقال: "فيمكن أن يدعي أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء أهل السنة لأنهم يقولون بجواز نسخ التلاوة" [البيان: ص206.].
وهذا الكيد الذي سطره شيخ الشيعة في العصر الحاضر ليس جديداً، فقد ردده بعض الملاحدة من قبل، ورد عليهم أهل السنة [انظر: الباقلاني/ نكت الانتصار: ص103، حيث دحض هذه الشبهة.].
والأمر واضح بيِّن، والفرق جليّ بين النسخ والتحريف لا يخفى إلا على مغرض صاحب هوى – كما أسلفنا – ذلك أن التحريف من صنع البشر، وقد ذم الله فاعله، قال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ..} [النساء 46، المائدة 13].(192/61)
والنسخ من الله سبحانه. قال عز وجل: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة 106]. وهو لا يستلزم مس كتاب الله سبحانه بأي حال، وعلماء الشيعة القدامى الذين ينكرون هذه الفرية يقرون به كالطبرسي في مجمع البيان والمرتضى في الذريعة وغيرهما – كما سلف -.
وترى أنه يخادع في القول حينما يقرر: "أن القول بعدم التحريف هو المشهور بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة ومحققيهم" [البيان: ص200.]. ويستدل على ذلك بما قاله الطبرسي في مجمع البيان في إنكار هذه الفرية [انظر: ص(1020) من هذا الكتاب.]، مع أن الطبرسي قرر بعد هذا بصفحات نسخ التلاوة واستدل له، في حين أن الخوئي يرى أن نسخ التلاوة قول بالتحريف، أليس هذا تناقضاً؟!
بل تراه يقول بأن القول بعدم التحريف هو قول علماء الشيعة ومحققيهم، في حين أن مذهب جملة من أساطين شيوخهم المجاهرة بهذا الكفر كالكليني، والقمي، والطبرسي صاحب الاحتجاج وغيرهم من رؤوس هذا الكفر [انظر: ص(247) وما بعدها.] وهم يعدون عندهم من كبار شيوخهم ومحققيهم، أليس هذا خداعاً؟!
بل الأمر أشد من هذا، ذلك أن شيخهم إبراهيم القمي قد أكثر من أخبار هذه الأسطورة في تفسيره، وكان هذا معتقده مع آخرين من شيوخهم. قال الكاشاني: "وأما اعتقاد مشايخنا في ذلك فالظاهر من ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن.. وكذلك أستاذه علي بن إبراهيم القمي، فإن تفسيره مملو منه وله غلو فيه". ثم ذكر بقية من سار في الإلحاد من شيوخهم [تفسير الصافي، المقدمة السادسة: 1/52.].(192/62)
فأنت ترى أنه يعترف بأن تفسير القمي مملو من هذا الكفر. ومع ذلك فإن هذا الخوئي الذي يتظاهر بالإنكار يذهب إلى صحة تفسير هذا القمي، ويقرر أن روايات تفسيره كلها ثابتة وصادرة من المعصومين، لأنها انتهت إليه بواسطة المشايخ الثقات – كما يزعم – من الشيعة [معجم رجال الحديث: 1/63، ط: الأولى بالنجف 1398هـ، أو ص49 ط: الثالثة: بيروت 1403هـ، وقد نقل ذلك بنصه في المقدمة.].
فتبين من خلال ذلك أن الخوئي صاحب البيان هو في غايته كصاحب فصل الخطاب، إلا أن الأخير استخدم الطريقة المكشوفة، والأول سلك مسلك المكر والاحتيال.
المجال الثاني: (اتجاه المعاصرين في تأويل كتاب الله): هل تخلص شيعة العصر الحاضر من لوثة ذلك الاتجاه المغرق في التأويل الباطني الذي درج عليه شيوخهم القدامى في تأويل كتاب الله كالقمي والكليني والعياشي والكاشاني والبحراني وأضرابهم.. أو هم على آثارهم يهرعون؟
إن المتتبع لما يكتبه شيعة العصر الحاضر في تفسير كتاب الله يجد أن العقلية الشيعية المعاصرة لا تزال في الغالب تعيش أسيرة لتلك التأويلات التي وضعها علماؤهم السابقون والتي عرضنا لها فيما مضى.. وآية ذلك أن تلك التفاسير الباطنية تأخذ المكانة الأولى عندهم في الوثاقة والاعتماد، ولا أدل على هذا من توثيق أكبر مراجع الشيعة في العصر الحاضر وهو الخوئي لأسانيد وروايات القمي في تفسيره [انظر: ص18.].. وتفسير القمي قد بلغ الغاية في التأويل الباطني وأربى على النهاية.
وكذلك الطبطبائي وهو من كبار شيوخهم المعاصرين يقرر أن تفسير العياشي محل ثقة الشيعة واعتمادهم.. إلى عصرنا هذا [انظر: ما سبق نقله عن الطبطبائي في المقدمة.]، وتفسير العياشي على خطى القمي في المنهج الباطني الغالي الذي يكفر الصحابة، ويفسر كل آيات القرآن بالأئمة وأعدائهم، ويدس أساطير التحريف في تفسيره.(192/63)
وهكذا سائر التفاسير ذات الاتجاه الغالي تحظى بتوثيق الشيعة واعتمادهم.. كتفسير البرهان، وتفسير الصافي، ومرآة الأنوار وغيرها [انظر: مقدمات هذا التفاسير.].
فماذا بقي بعد هذا؟
أما اتجاه المعاصرين في تأويل كتاب الله، فقد أخذ وجهين مختلفين: وجه غال متطرف، ووجه معتدل متوسط، إذا ما قسناه بالاتجاه الغالي: فقد ظهرت ملامح التطرف والغلو في تأويل كثير من آيات القرآن بعقائدهم التي شذوا بها عن أمة الإسلام، فهذا أحد علمائهم المعاصرين ويدعا "علي محمد دخيل" يتحدث عن غيبة مهديهم المنتظر – وهو كما يقول بعض كتاب الشيعة من أشهر الكتاب الإمامية الذين عالجوا الغيبة [عبد الله الفياض/ تاريخ الإمامية: ص162.]– فيعقد فصلاً بعنوان: "المهدي في القرآن الكريم" ويورد في هذا الفصل خمسين آية من القرآن كلها يزعم تأويلها بالمهدي ويتوصل بذلك إلى أن موضوع المهدي لا يختلف عن ضروريات الإسلام الأخرى، وإنكاره إنكار لضرورة من ضروريات الدين [علي دخيل/ الإمام المهدي (عبد الله الفياض/ تاريخ الإمامية: ص162).].
بل بلغت تأويلات شيوخهم المتأخرين لآيات القرآن بالمهدي إلى (120) آية [انظر: هاشم البحراني/ المحجة فيما نزل في القائم بالحجة.] ولم يقنع بعض المعاصرين بذلك فوضع مستدركًا لهم ليبلغ بها إلى ( 132 ) آية [انظر: محمد منير الميلاني/ مستدرك الحجة.].
ونجد شيخهم المعاصر – محمد رضا الطبيسي النجفي (ت1365ه) – يفسر (76) آية من كتاب الله بعقيدة الرجعة عندهم [انظر ذلك في كتابه "الشيعة والراجعة" مطبعة الآداب/ النجف 1385ه.]، وهذا شطط لم يبلغ مداه شيوخهم القدامى. حيث بدأ التأويل بمسألة الرجعة في آية واحدة عند ابن سبأ [انظر: تاريخ الطبري: 4/340.]. ثم لم يزل الأمر يزيد، ففسر شيوخهم القدامى بالرجعة عشرين آية ونيفاً [انظر: جواد تارا/ دائرة المعارف العلوية: ص256.].(192/64)
وفي القرن الثاني عشر تطور الأمر إلى تأويل (64) آية بتلك العقيدة الباطلة على يد شيخهم الحر العالمي [انظر: الحر العاملي/ الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة: ص72–98.]، ثم كانت نهاية الشطط على يد هذا الطبيسي وغيره من شيوخهم المعاصرين.
وقد يستمر طريق التأويل إلي أرقام أخرى. وفي تفسير الميزان للإمام الأعظم عندهم محمد حسين الطبطبائي كثير من التفسيرات الباطنية التي يختارها من كتب التفسير القديمة عندهم. يذكرها تحت عنوان "بحث روائي".. ومن الأمثلة التي نقلها مقرًا لها ما ذكره عن تفسيرهم البرهان في قوله سبحانه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ} [التحريم 10]. قال: "الآية مثل ضربه الله لعائشة وحفصة أن تظاهرتا على رسول الله وأفشتا سره" [الطبطبائي/ الميزان: 19/346.].
فانظر كيف يحرف معاني القرآن، ويكفر أمهات المؤمنين بذلك.
وعند قوله سبحانه: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن 27] نقل ما يروونه عن (الصادق) أنه قال: "نحن وجه الله" [الميزان: 19/103.]. وهكذا يلتقي التأويل الباطني الغابر بالحاضر.. صورة واحدة ووجه واحد.
والأمثلة كثيرة.
ولكن هناك وجه معاصر معتدل، ومظاهر اعتداله تكمن في ثلاث ظواهر، الأولى: اختفاء ذلك الغلو بتفسير كثير من آيات القرآن بالإمامة وما يدور في فلكها.. والثانية: تطهره من ملامح أسطورة التحريف وأخبارها وآثارها في تفسيره، والثالثة: التنزه عن ذلك التكفير الصريح الواضح لخير جيل عرفته البشرية.. جيل الصحابة رضوان الله عليهم.
ومن أمثلة هذا الاتجاه تفسير الكاشف لمحمد جواد مغنية، والتفسير المبين له أيضًا.
فأنت تلحظ ثناءه على الصحابة في تفسير قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر 8] الآية.(192/65)
حيث قال: "لا لشيء إلا لوقوفهم مع الحق، وإعلاء كلمة الإسلام وتضحيتهم في سبيله {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} إيمانًا وقولاً وعملاً، وبهؤلاء المهاجرين وأمثالهم من الأنصار استقام الإسلام وانتشر في شرق الأرض وغربها، ولا بدع فإن قائدهم محمد صلى الله عليه وسلم، ولن تكون الأمة فاسدة وقائدها صالحاً {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ}، المراد بالذين: الأنصار، وتبوءوا: سكنوا، والدار: دار الهجرة وهي المدينة، والإيمان مفعول لفعل محذوف أي: وأخلصوا الإيمان، وقد أثنى الله على الأنصار بأنهم: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
{وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ} جاء في التفاسير: أن المراد بالذين جاءوا من بعد الصحابة التابعون لهم بإحسان أخذا بقرينة السياق، ومع هذا فإن الثناء يعم ويشمل كل من سار بسيرة الصحابة إلى يوم القيامة" [التفسير المبين: ص631، وقارن هذا التفسير المتناسب مع سياق الآيات ومفهوماتها بما سجله البحراني من روايات عن أئمته في تفسير هذه الآية. (انظر: البرهان: 4/316–319).].
فإذا قرأت هذا الكلام لا تعرف أن قائله من الروافض الذي يكفرون صحابة رسول الله ويشتمونهم... وقد مر بنا أن له كلاماً في الطعن في بعض صحابة رسول الله.. ولكنه لم يصرح بالتكفير كغيره من شيعته.(192/66)
وعند قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. قال: "المراد بالذكر هنا القرآن الكريم، وضمير "له" يعود إليه، والمعنى أن القرآن موجود فعلاً بين الدفتين، المألوف لدى كل الناس، وهو بالذات الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بلا تقليم وتطعيم، على العكس من الكتاب المعروف بالتوراة، فإنه غير الذي جاء به موسى عليه السلام، وكذلك الكتاب المعروف بالإنجيل فهو غير الذي جاء به عيسى عليه السلام" [التفسير المبين: ص286.].
في حين أن الرجل لم يدع التأويل لبعض الآيات بمقتضى أصول عقيدته، لكنه لم يجاهر بالغلو في التأويل كالآخرين من طائفته، فنجده مثلاً في تفسيره الكاشف يوؤل قوله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة 3] بقوله: "معنى الآية أن الله سبحانه أكمل الدين مع هذا اليوم بالنص على علي بالخلافة".
هذا الاتجاه المعتدل إنما هو ثمرة اعتماده على جمع الجوامع لشيخهم الطبرسي، كما ألملح إلى ذلك في المقدمة.. والطبرسي قد اعتمد في الغالب على مرويات أهل السنة وتفاسيرهم، كما أشار شيخ الإسلام ابن تيمية [انظر: منهاج السنة: 3/246.].
فإذن هناك وجهان للاتجاه الشيعي في تأويل القرآن: اتجاه غال، واتجاه معتدل. كما كان لهم في القرون الماضية كتب تفسير باطنية غالبة كتفسير القمي والعياشي والكاشاني والبحراني وغيرهم، وكتب تفسير معتدلة مثل تفسير التبيان للطوسي، ومجمع البيان، وجمع الجوامع للطبرسي..
وقد جاء في أخبارهم بالأمر لهم بظهورهم بوجهين مختلفين حتى لا يعرف الناس حقيقة مذهبهم. وقال إمامهم: "إن هذا خير لنا ولكم، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا (أي لعرف الناس المذهب) ولكان أقل لبقائنا وبقائكم" [أصول الكافي: 1/65.].(192/67)
وأنت إذا قارنت بين المنهجين وجدت الاتجاه الغالي المتطرف يستقي مادته من روايات الشيعة وأخبارهم، أما الاتجاه المعتدل فتلاحظ أنه قد فتح قلبه وعقله لروايات أهل السنة وآثارهم في التفسير، فتخلص من لوثة الغلو والتطرف، إما تقية أو اقتناعاً، لكنك لا تجد تفسيراً شيعياً اعتمد على رواياتهم فقط يخلو من الطريقة الباطنية في التفسير.
فأي الطريقين هو الذي يمثل مذهب الشيعة؟!
لقد ذكرت فيما سلف محاولة بعض شيوخ الشيعة قطع الطريق على هذا الاتجاه المعتدل بحمله على التقية [انظر: ص(198) من هذه الرسالة.].
وقد صرح شيخهم المجلسي بأن اعتمادهم على مرويات أهل السنة إنما هو للاحتجاج عليهم، وعقد لذلك باباً بعنوان " الباب الثامن والعشرون ما ترويه العامة (يعني أهل السنة) من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الصحيح من ذلك عندهم (يعني شيعته) والنهي عن الرجوع إلى أخبار المخالفين" [بحار الأنوار: 2/214.] ثم استثنى من ذلك مقام الاحتجاج عليهم لنشر التشيع.
بل إن مرجع الشيعة في العراق "الخوئي" يعتبر ما جاء عن الصحابة في تفسير القرآن هو معنى التحريف الذي جاء به رواياتهم [انظر: حملة لأساطيرهم التي تقول بتحريف الصحابة لكتاب الله "على أن المراد حمل الآيات على غير معانيها" (البيان ص229).].
وحين أشار محب الدين الخطيب إلى أن القرآن الذي ينبغي أن يكون الجامع لنا ولهم على التقارب نحو الوحدة، قد قامت أصول الدين عندهم على تأويل آياته وصرف معانيها إلى غير ما فهمه منها الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإلى غير ما فهمه منها أئمة الإسلام عن الجيل الذي نزل عليه القرآن [الخطوط العريضة: ص10.].(192/68)
ردّ عليه أحد شيوخ الشيعة بقوله: "إن الشيعة ترى من الكيد للإسلام أن يأخذوا.. تفسيرهم للقرآن عمن تقصدهم وتعنيهم بالذات أمثال أبي هريرة وسمرة بن جندب.. وأنس بن مالك ممن أتقنوا صناعة التلفيق والدس والكذب والافتراء" [عبد الواحد الأنصاري/ أضواء على خطوط محب الدين: ص65.].
فهذا الجواب ينسبه المؤلف للشيعة.. فإذا كانت الشيعة تعتقد أن تلقي الدين عن طريق الصحابة هو من الكيد للإسلام فلهم دينهم ولنا ديننا.. إذ إن قولهم هذا يؤدي إلى رفض الإسلام كلية.
أليس هذا يعني أن ذلك الطريق المعتدل والوجه الآخر هو من باب التقية..؟!
إن بعض أصحاب ذلك الاتجاه المعتدل وهو شيخهم محمد جواد مغنية لا يقر بوجود اتجاه باطني في التفسير عندهم. ويقول بأن الاثني عشرية أبعد الناس من هذه البدع والضلالات، وأن كتبهم تشهد بذلك وهي في متناول كل يد [تفسير الكاشف: 7/104.]، وكذلك شيخهم الآخر محسن الأمين يقر بوجودها، ولكنه يقول بأنها روايات شاذة [انظر: الشيعة بين الحقائق والأوهام: ص419–420.]. ومثل ذلك يقول الخنيزي، مع إنكاره لبعض ما هو واقع في كتبهم من روايات [انظر: الدعوة الإسلامية إلى وحدة أهل السنة والإمامية: 1/178–202.].
وهذا الإنكار لما هو واقع وموجود أمارة التقية، والأمر ليس مجرد روايات شاذة – كما يزعمون – بل تفاسير كاملة تخصصت في التأويل الباطني يأتي في طليعتها تفسير القمي الموثق من كبار شيوخهم، وأبواب كاملة في الكافي أصح كتاب عندهم في الحديث، وفي البحار وغيرهما، أبواب تضم عشرات الأحاديث كلها تفسير الآيات تفسيراً باطنياً، فلم هذه "الجرأة" في إنكار الحقائق الواضحات، وهل يظنون أنهم يخدمون دينهم بهذه الوسيلة؟!
كما أن هذا الإنكار منقوض بصنيع من شيوخهم المعاصرين الذين لا يزالون يهذون في هذا الضلال.(192/69)
بل إن شيوخهم وآيتهم عبد الحسين شرف الدين الموسوي يرى أن تلك التأويلات الباطنية للآيات والواردة في حق الأئمة هي مسلمة عندهم بحكم الضرورة [وذلك حينما قال الشيخ موسى جار الله بأن "في كتب الشيعة أبواب في آيات وسور نزلت في الأئمة والشيعة، وفي آيات وسور نزلت في كفر أبي بكر وعمر، وكفر من اتبعهما، والآيات تزيد على المئة، بل فيها سور مستقلة.. يذكر ذلك أكبر إمام للشيعة في أقداس كتبها في أصول الكافي". (الوشيعة: ص27، وانظر: ص65).
فأجاب شيخهم عبد الحسين على ذلك بقوله: أما ما نزل في فضل الأئمة من أهل البيت وشيعتهم فمسلّم بحكم الضرورة من علم التفسير المأثور من السنن، وبحكم ما ثبت في السنة المقدسة من أسباب النزول.
وأما نزول شيء من القرآن في كفر فلان وفلان، فإنه مما نبرأ إلى الله منه، والبلاء فيه إنما جاء من بعض غلاة المفوضة وربما كان في كتبهم فرآه هذا الرجل فرمى البريء بحجر المسيء شأن الجهال بحقائق الأحوال. (أجوبة مسائل جار الله: ص67).
فأنت تلاحظ أن هذه "الآية" عندهم قد اعتبر ما جاء في الكافي من تأويلات للقرآن بالإمام والإمامة مسلم بحكم الضرورة، لكنه استعمل التقية، حينما نفى تأويلهم لآيات الكفر والكافرين بأبي بكر وعمر، وزعم أن ذلك لا يوجد في الكافي.
وهذه "تقية" بلا ريب، لأنه أنكر وجود ذلك في الكافي وهو موجود ويتمثل في عشرات الرويات تفسير آيات الكفر والكفار بالشيخين رضي الله عنهما. (انظر: أصول الكافي، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية: 1/412).
لكن هذا الرجل يريد أن يخدع الناس وينكر ما هو واقع ويلصق ذلك بالفوضة والتي لم يقل الكاتبون عنها أن هذا مسلكها واعتقادها (انظر في بيان عقيدة الفوضة شرح عقائد الصدوق للمفيد: ص258) ثم إن هذه الفرقة اندرست ولا توجد هي ولا كتبها كما يقوله مرجع الشيعة محمد حسين آل كاشف الغطا (انظر: أصل الشيعة: ص38).].(192/70)
إذن الصورة في مجال التأويل متشابهة بين الأوائل والأواخر، والجديد عند المعاصرين أنهم ارتضوا ما كتبه أسلافهم، حتى المتأخرون منهم فقد اعتبروا ما كتبه المجلسي وغيره من المتأخرين مراجع معتمدة في الرواية فاتسع بذلك نطاق التأويل عندهم وازداد بفضل جهود شيوخ الدولة الصفوية الذي أربوا على النهاية في هذا.
لكن بعض المعاصرين كتب بعض التفاسير المعتدلة كما فعل بعض شيوخهم الأقدمين.. وأنكر وجود التأويلات المتطرفة عندهم.. وإذا كان الإنكار في القديم قد يصدق، فإنه اليوم بعد ظهور حركة الطبع لا يجدي ولا يفيد، ويحمل على التقية لا محالة.
أما ظهورهم بوجهين مختلفين فهذا أمر قد قرر في مذهبهم حتى لا يقف الناس على حقيقتهم [انظر: أصول الكافي: 1/65. ومضى نصه ص: (1060).].
موقع فيصل نور(192/71)
موقف الشيعة
من أهل السنة
تأليف
محمد مال الله
الطبعة الثالثة
مزيدة ومنقحة
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ }.
الإهداء
إلى أبنائي: عبد الرحمن، معاذ وسفيان ومروان.
راجياً من الله تعالى أن ينبتهم نباتاً طيباً.
ويرزقهم حب الصحابة رضوان الله عليهم وشرف الدفاع عنهم وإبراز صفحاتهم البيضاء.
ورد مفتريات قوم تقربوا إلى الله تعالى بسبهم ولعنهم.
إنه سميع مجيب....
المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوثِ رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداهُ إلى يوم الدين.
للأسف الشديد أن يجهل أكثر أهل السنة حقيقة من تدثَّروا برداء المحبة والموالاة لأهل البيت رضوان الله عليهم.
ونتيجة لذلك الجهل انخدع كثير منم بالشيعة الإثني عشرية الرافضة وتظاهر الشيعة لأهل السنة بالمحبة والمودة تحت ستار النفاق الذي يسمونه التقيّة.
ولقد صدرت في الآونة الأخيرة كثير من الكتب التي تدعوا إلى الوحدة والتقريب بين أهل السنة والشيعة والرافضة بقلم الروافض ومن انخدع بهم من أهل السنة.
والمعالم الرئيسية للوحدة أو الغاية بمعنى أصح تناسي الخلافات في الجزئيات مادامت الأصول متفق عليها، وخاصة وأن المسلمين بحاجةٍ إلى الوحدة حيث أن العالم الإسلامي ممزق الأطراف وفريسة سهلة للغرب والشرق على حدٍّ سواء.
الدعوة في شكلها الظاهر جميلة وبراقة... نعم ما أحوج المسلمين إلى الوحدة وتناسي الخلافات مادامت تلك الخلافات لم ترتقِ إلى الأصول.
لكن نتساءل ويتساءل معنا المخلصون: على أي أساس تقوم تلك الوحدة؟ وهل الشيعة حقيقة يودون الوحدة أم كل ذلك مجرد شعارات للاستهلاك العام؟(193/1)
الوحدة بين أهل السنة والرافضة على أي أساس تقوم؟ أبِوَصْفِ الله تعالى بالجهل والنسيان؟ وأن القرآن الكريم محرف منقوص؟ وبسبِّ ولعن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وسلف هذه الأمة من قادةٍ وعلماءَ ومفكرين، ونحن نسمع ذلك كل صباح ومساء، وفي مقدمات كثير من الكتب التي تصدر عن الرافضة؟ وهدم التاريخ الإسلامي الذي بناه الأجداد بمداد من دمائهم؟
أم بالطعن في شرف نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ وتأليه بشراً لا يملك من أمره شيئاً وتفضيله على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام؟
أم باعتبار الرافضة أهل السنة والجماعة شراً من اليهودِ والنصارى والمجوس وبأنهم أنجاس؟
أم باستباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم؟
أم بالتحالف مع اليهود والنصارى والذين أشركوا ضد أهل السنة؟
لقد احترتُ فعلاً في تصور الأساس الذي سوف تقوم عليه الوحدة المزعومة، لأن أهل السنة والرافضة أضداد لا يمكن اللقاء بينهما إلا إذا استطعنا أن نجمع بين الليل والنهار، والهدى والضلال، والظلمات والنور.
الخلاف بين أهل السنة والرافضة خلافٌ في الأصول لا الفروع، خلافٌ في العقائد وليس في المساءل الفقهية.
عندما قامت الثورة الإيرانية استبشر بعض الذين لا خليفة عندهم بالدين الشيعي خيراً عندما سمعوا وقرءوا الشعارات الجوفاء التي أطلقها قادة الثورة، ولم يكتفوا بالرضا والحبور بل قام بعضُ المشايخ المخدوعين بالدعوة إلى مبايعة الخميني كإمام للمسلمين، معذور هذا الشيخ لأن دأبه مهاجمة الشباب الملتزم بالكتاب والسنة بمبرر وبدن مبرر، وأما حقيقة الرافضة وقائدهم الجديد فلا يعرف عنه إلا القائد الملهم الذي يجب أن يلتف حوله المسلمون ويبايعونه ويهاجرون إلى أرضه.
لا يمكن للرافضي أن يتحد مع المسلم لأن الأول لا يكون مؤمناً – حسب تعاليم دينه – كامل الإيمان إلا أن يصبح ويمسي وهو يلعن خير القرون وأتباعهم، وأشدهم عداوة وحقداً لأهل السنة يكون أكثرهم إيماناً بالدين الشيعي.(193/2)
وإيماناً منا بتوضيح موقف الرافضة من أهل السنة قمنا بكتابة هذه ا لورقات التي تبين حقيقتهم، وتفضح معتقدهم الزائف، لكي لا ينخدع المسلمون بالشعارات البراقة التي يرفع لواءها الرافضة.
وأما منهجي في هذه الدراسة المتواضعة: اعتمدتُ على كتب الرافضة في كل جزئية تناولتها في هذا البحث حول موقفهم من أهل السنة. ولم أكلف نفسي تأويل النصوص حيث أنها لوحدها تدل صراحة على الموضوع المطروح للمناقشة.
لم أكتف بالرجوع إلى المصادر القديمة الشيعية، وذلك لئلا يقال أن ذلك الاعتقاد أو الموقف يمثل الحقبة القديمة للتشيع، بل رجعت إلى مطبوعاتهم الحديثة وعلى رأسها مؤلفات قائد الثورة الإيرانية المسمى بالخميني، وذلك لتكون الرؤية واضحة لدى المسلمين حول حقيقة موقف الرافضة، والحقيقة أن وجه التشيع قبيح مهما أجريت له عمليات التجميل والترقيع. والرافضة منذ تأسيس دينهم إلى يومنا الحاضر لم تتبدل نظرتهم العدائية تجاه من يخالفهم في الاعتقاد، وخير دليل على هذا كتب الخميني نفسه.
ونظراً لما تحتوي كتب على مصطلحات لا يعرفها من قرأ كتبهم رفهم ما يقصدون إليه قمنا ببيان بعض تلك المصطلحات وأهمها مصطلح النواصب وأيضاً الناصبة، وهي تعندي عندهم أهل السنة، ولكنهم من منطلق التقيّة والعمل على عدم افتضاح أمرهم لجئوا إلى تداول هذا المصطلح، ولكن الله تعالى فضحهم، حيث قام بعض حاخاماتهم ببيان الناصب عند الرافضة، ولقد ذكرت في الفصل الأول مفهوم الناصب عند الرافضة ليمكننا بعد ذلك أن نفهم ما يرد في هذه الرسالة من أمور متعلقة بأهل السنة.
وفي هذا البحث المتواضع أحْلَلْتُ العقلَ والدليل محلّ العاطفة، والعدل محل التعصب، والواقع بدل الخيال، ومن أفواههم ندينهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أبو عبد الرحمن
محمد مال الله
29 رمضان 1409ه
الفصل الأول
مفهوم الناصب عند الشيعة
مفهوم الناصب عند الشيعة(193/3)
حفلت أكثر كتب الشيعة على رموز ومصطلحات وكنى وألقاب لا يستطيع أحد معرفتها دون التموسِ في قراءة كتب الشيعة، وإنَّ أكثر أهل السنة من المعاصرين يجهلون معانيها.
نجد أن كثيراً من ذلك وردت في كتبهم، والقارئ الذي لا خلفيةَ له فيها لا يدركُ ذلك، ولتقريب ذلك إلى فهْم القارئ الكريم نورد أمثلة ليكون على بصيرة من أمرها؛ فمثلاً وَرَدَ في كتبهم الأول، والثاني، والثالث، وحبتر، وزريق، وغير ذلك من الكنايات. فإذا وردت بصيغة الذم فالمقصود بالأول: الصديق رضوان الله عليه، والثاني والثالث: عمر وعثمان – رضي الله عنهما -، وحبتر: أبا بكر – رضي الله عنه – وزريق: عمر – رضي الله عنه -، والأمثلة كثيرة ولكن نخشى الاستطراد.
وكلمة "ناصب"، أو "النواصب" ترددت كثيراً في كتبهم ولكن قليل منهم يعرف المقصود منها؛ ولأهمية هذه الكلمة في رسالتنا هذه حيث لا يمكن أن نفهم موقف الشيعة منا دون الوقوف على معنى "النواصب".
النواصب متعارف عند أهل السنة بأنها تعني: الذين يبغضون علياً رضوان الله عليه وأهل بيته ويلعنونهم، لكن هذه الكلمة تعني عند الشيعة: أهل السنة الذين يتولون أبا بكر وعمر وبقية الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
إننا لا نتقول على الشيعة ولا نتهمهم بما هم منه براء، وخير سبيل لفهمِ ذلك التعرف على ذلك المصطلح من كتب الشيعة لا من خلال كتب خصومهم.
وتأكيداً لما سبق نوردُ بعض أقوال علمائهم المعتمدين في بيان معنى "الناصب" لئلا نتهم بعدم الموضوعية، وبعدها نعلق عليها بما يناسب المقام.
يوسف البحراني(1) وتحقيق الناصب
يقول في كتابه "الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة" ج10 ص360 وما بعدها:
__________
(1) من أشهر فقهاء الرافضة في القرن الثاني عشر الهجري، انظر ترجمته في مقدمة المجلد الأول من كتابه "الحدائق الناضرة" بقلم الطباطبائي حيث فصّل القول في ترجمة حياته، والبحراني من المعتقدين بتحريف القرآن كما يبدو من كتابه "الحدائق".(193/4)
وقال الشيخ المفيد: ولا يجوزُ لأحد من أهل الإيمان أن يغسل مخالفاً للحق في الولاية ولا يصلى عليه إلا أن تدعوا الضرورة إلى ذلك من جهة التقيّة.
وظاهر الشيخ(1) في التهذيب موافقته في ذلك حيثُ أنه احتجَّ له بأن المخالف لأهل البيت كافر فيجب أن يكون حكمه حكم الكفار إلا ما خرج بالدليل.
وإذا كان غسل الكافر لا يجوز فيجب أن يكون غسل المخالف أيضاً غير جائز، وأما الصلاة عليه فتكون على حد ما كان يصلي النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة عليه السلام على المنافقين.
وإلى هذا ا لقول ذهب أبو الصلاح، وابن إدريس, وسلار، وهو الحق الظاهر بل الصريح من الأخبار، لاستفاضتها وتكاثرها بكفر المخالف ونصبه وشركه وحل ماله ودمه، كما بسطنا عليه الكلام بما لا يحوم حوله من شبهة النقض والإبرام في كتاب "الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب وما يترتب عليه من المطالب".
والقول بالكفر هو المشهورُ بين الأصحاب من علمائنا المتقدمين، كما نقله الشيخ ابن نوبخت من متقدمي أصحابنا في كتابه "فص الياقوت" حيث قال: دافعوا النص كفرة عند جمهور أصحابنا، ومن أصحابنا من يحكم بفسقهم... إلى آخره.
وقال العلامة في شرحه على الكتاب المذكور المسمى بأنوار الملكوت: أما دافعوا النص على أمير المؤمنين – عليه السلام – بالإمامة فقد ذهب أكثر أصحابنا إلى كفرهم, لأن النص معلومٌ بالتواتر من دين محمد صلّى الله عليه وسلّم فيكون ضرورياً أي معلوماً من دينه صلى الله عليه وآله بالضرورة، فجاحده يكون كافراً كمن يجحد وجوب الصلاة وصوم رمضان، ثم نقل الأقوال الأخر.
وبذلك صرح في باب الزكاة من كتاب "المنتهى"، وهو ظاهر الكليني في الكافي، والمرتضى، واختاره جملة من أفاضل متأخري المتأخرين.
__________
(1) يقصد الطوسي مؤلف التهذيب والاستبصار.(193/5)
ولا بأس بذكر جملة من الأخبار الدالة على ما ادعيناه من الكفر، والنصب، والشرك، وحل المال، والدم، ليعلم أن ما ذهب إليه المتأخرون – من الحكم بإسلامهم حتى فرعوا عليه هنا وجوب الصلاة عليهم ونحوه من أحكام الإسلام – نفخٌ في غير ضرام وغفلة عن النظر بعين التحقيق في أخبارهم عليهم السلام.
فمن ذلك ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر في ما استطرفه من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم لمولانا أبي الحسن الهادي – عليه السلام – في جملة مسائل محمد بن علي بن عيسى قال: كتبتُ إليه أسأله عن الناصب هل أحتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت(1) واعتقاده بإمامتهما؟ فرجع الجواب: من كان على هذا فهو ناصب.
ومعنى الخبر هو أنه لما استفاضت الأخبار عنهم عليهم السلام بكفر الناصب وشركه ونجاسته وحل ماله ودمه كتب إليه يسأله عن معنى الناصب ومظهر النصب بما يعرف، حتى تترتب عليه الأحكام المذكورة، وأنه هل يحتاج إلى شيء زائد على مجرد تقديم الجبت والطاغوت واعتقاده إمامتهما؟
فرجع الجواب أن مظهر النصب والعداوة لأهل البيت عليهم السلام، هو مجرد التقديم والقول بإمامة الأولين.
وهو ظاهر الدلالة في الرد على ما اشتهر بين متأخري أصحابنا من جعلهم الناصب أخص من المخالف. نعم يجب أن يستثنى من عموم هذا الخبر المستضعف الذي دلت على إسلامه ووجوب إجراء أحكام الإسلام عليه في دار الدنيا وأنه في الآخرة من المرجأين لأمر الله تعالى.
__________
(1) أبو بكر وعمر – رضي الله عنهما – حيث من اعتقد إمامتهما وتقديمهما على عليِّ – رضي الله عنه – فهو كافر حلال الدم والمال، وانظر بالتفصيل فصل "الشيعة واستحلال دماء وأموال أهل السنة" من هذا الكتاب حيث تراه مفصلاً هناك.(193/6)
ومنها – ما رواه الصدوق في كتاب العلل بسنده عن عبد الله بن سنان، عن الصادق عليه السلام، قال: ليس الناصبُ من نصب لنا أهل البيت – عليهم السلام – لأنك لا تجد رجلاً يقول أنا أبغض محمداً وآل محمد صلّى الله عليه وآله، ولكن الناصب من نصبَ لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وأنكم من شيعتنا.
ومنها – ما رواه في كتاب معاني الأخبار بسند معتبر(1) عن المعلى بن خنيس قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت – عليهم السلام – لأنك لا تجد أحداً يقول أنا أبغض محمداً وآل محمد صلّى الله عليه وآله، ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنكم تتولنا وتتبرءون من أعدائنا.
وحاصل معنى الخبرين أنه لا ينحصر الناصب في من أظهر بغضنا بلسانه، وجاهر بعداوتنا، لأنه لو كان كذلك لم يوجد ناصب بالكلية لأنك لا تجد أحداً يتظاهر بعداوتنا ويعلن ببغضنا وإنما الناصب لنا والعدو هو من أبغضكم وهو يعلم من شيعتنا تتولونا وتتبرءون من أعدائنا(2)، وعلى هذا فالنصب والعداوة للشيعة من حيث التشيع مظهر النصب لهم – عليهم السلام -.
__________
(1) دون ذلك الخرط القتاد.
(2) لو أننا نعلم أن الرافضة هم الشيعة أهل البيت حقاً لما تطرقنا إلى بينان عوار مذهبهم ودينهم الذي بنوه على الخرافات والأوهام والطعن في رجالات الإسلام، ومتى كان الطعن في الصحابة رضوان الله عليهم والاعتقاد بتحريف القرآن، واستحلال الزنا باسم المتعة، والكذب والنفاق باسم التقيّة من علامات حبّ آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولكن التشيع هو مأوى كل من يريد الكيد للإسلام وأهله، وإذا كانت تلك الاعتقادات الفاسدة التي يعتنقها الرافضة هي الإسلام، فعلى الإسلام السلام.(193/7)
ويدل على ذلك بأوضح دلالة ما رواه الصدوق في كتاب الأمالي، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: من سرّه أن يعلم أمحب لنا أم مبغض، فليمتحن قلبه فإنْ كان يحبُّ ولياً لنا فليس بمبغض لنا، وإن كان يبغض ولياً لنا فليس بمحب لنا... الحديث، ونحوه أخبار عديدة.
ومن هذه الأخبار يعلم أن مظهر النصب والعداوة لهم – عليهم السلام – منحصر في أمرين: تقديم الجبت والطاغوت، وإظهار العداوة للشيعة.
حسين العصفور وتعريف الناصب
يقول في كتابه "المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية" ص145 وما بعدها:
وأما تحقيق الناصب فقد كثر فيه القيل والقال، واتسعَ فيه المجال والتعرض للأقوال، وما يرد عليها وما يثبتها ليس هذا محله بعدما عرفت كفر مطلق المخالف فما أدراك بالناصب، والذي جاء فيه الآيات والروايات أنه المشرك والكافر، بل ما من آية من كتاب الله فيها ذكر الشرك إلا كان هو المراد منها والمعنيِّ بها.
وأما معناه الذي دلت عليه الأخبار فهو ما قدمناه هو تقديم غير عليّ – عليه السلام -، على ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر، نقلاً عن كتاب مسائل الرجال بالإسناد إلى محمد بن موسى قال: كتبت إليه – يعني علي بن محمد – عليه السلام – عن الناصب هل يحتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديم الجبت والطاغوت واعتقاد إمامتهما؟ فرجع الجواب من كان على هذا فهو ناصب.
وما في شرح نهج البلاغة للراوندي عن النبي صلّى الله عليه وآله أنه سئل عن الناصب بعده، قال: من يقدم على غيره.(193/8)
وأما تفسيره بمن أظهر العدواة لأهل البيت – كما عليه أكثر علمائنا المتأخرين – فمما لم يقم عليه دليل، بل في الأخبار ما ينفيه، ففي عقاب الأعمال والعلل وصفات الشيعة بأسانيد إلى عبد الله بن سنان، والمعلى بن خنيس، عن أبي عبد الله – عليه السلام -، قال: ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت لأنك لا تجد أحداً يقول: أنا أبغض محمداً وآل محمد، ولكن الناصب من نصب لكم، وهو يعلم أنكم تقولوننا(1) وأنكم من شيعتنا. وظهوره في نفي ما اعتمدوه واضح.
نعم ربما يتراءى المخالفة بين هذه الأخبار، وبين خبري السرائر، وشرح النهج، لأن هذا باشتراط العداوة إلى شيعتهم، والاكتفاء في تينك الروايتين مجرد تقديم الغير – عليه السلام -، والذي ظهر لنا أنه لا منافاة بينهما لقيام الأدلة من العامة والخاصة على التلازم بين ذلك للتقديم، ونصب العداوة لشيعتهم.
وبالجملة أن من تأول(2) أحوالهم واطلع على بعض صفاتهم وطريقته في المعاشرة ظهر له ما قلناه. فإنكاره مكابرة لما اقتضت العادة به، بل أخبارهم – عليهم السلام – تنادي بأن الناصب هو ما يقال له عندهم سنيا.
ففي حسنة بين أذينه المروية في الكافي، والعلل عن أبي عبد الله – عليه السلام – قال: قال: ما تروي هذه الناصبة؟ فقلت: جعلت فداك فيماذا؟ فقال :في أذانهم وركوعهم وسجودهم... الحديث.
ولا كلام في أن المراد بالناصبة فيه هم أهل التسنن الذين قالوا: إن الأذان رآه أبيّ بن كعب في النوم. فظهر لك أن النزاع والخلاف بين القائلين بهذه المذاهب الثلاثة – أعني مجرد التقديم ونصب العداوة لهم – عليهم السلام – كما اعتمده محمد أمين في الفوائد المدنية، ونصب العداوة لهم – عليهم السلام -، كما هو اختيار المشهور خلاف لفظي لما عرفت من التلازم بينها.
__________
(1) كذا بالنص والصواب تتولونا. والله أعلم.
(2) كذا بالنص والصواب من تأمل. والله أعلم.(193/9)
وقد صرح بهذا جماعة من المتأخرين، ومنهم السيد المحقق السيد نور الدين، أبي الحسين الموسوي في الفوائد المكية، واختاره شيخنا المنصف العلامة الشيخ يوسف في الشهاب الثاقب... الخ.
نعمة الله الجزائري وتعريف الناصب
يقول في كتابه الأنوار النعمانية ج2 ص206-207 ما نصه:
وأما الناصبي وأحواله وأحكامه فهو مما يتم ببيان أمرين:
(الأول) في بيان معنى الناصب الذي ورد في الأخبار أنه شر من اليهودي والنصراني والمجوسي.
وأنه كافر نجس بإجماع علماء الإمامية.
فالذي ذهب إليه أكثر الأصحاب هو أن المراد به: من نصب العداوة لآل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتظاهر ببغضهم كما هو الموجود في الخوارج وبعض ما وراء النهر، ورتبوا الأحكام في باب الطهارة والنجاسة والكفر والإيمان وجواز النكاح وعدمه على الناصبي بهذا المعنى.
وقد تفطن شيخنا الشهيد الثاني... من الاطلاع على غرائب الأخبار، فذهب إلى أن الناصبي: هو الذي نصب العداوة لشيعة أهل البيت – عليهم السلام – وتظاهر بالوقوع فيهم.
كما هو حال أكثر مخالفينا في هذه الأعصار في كل الأمصار. على هذا فلا يخرج من النصب سوى المستضعفين منهم والمقلدين والبله والنساء ونحو ذلك وهذا المعنى هو الأولى.
ويدل عليه ما رواه الصدوق في كتاب العلل الشرايع بإسناد معتبر عن الصادق – عليه السلام – قال: ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت، لأنك رجلاً يقول: أنا أبغض محمداً وآل محمد، ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وأنكم من شيعتنا، وفي معناه أخبار كثيرة.
وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أن من علامة النواصب تقديم غير عليّ عليه.
وهذه خاصة شاملة لا خاصة، ويمكن إرجاعها أيضاً إلى الأول، بأن يكون المراد تقديم غيره عليه إنما نشأ من تقليد علمائهم وآبائهم وأسلافهم، وإلا فليس لهم الاطلاع والجزم بهذا سبيل.(193/10)
ويؤيد هذا المعنى أن الأئمة – عليهم السلام - وخواصهم أطلقوا لفظ الناصبي على أبي حنيفة وأمثاله، مع أن أبا حنيفة لم يكن ممن نصب العداوة لأهل البيت – عليهم السلام -، بل كان له انقطاع إليهم، وكان يظهر لهم التودد. نعم كان يخالف آراءهم ويقول: قال عليّ وأنا أقول.
ومن هذا يقوي قول السيد المرتضى، وابن إدريس، وبعض مشايخنا المعاصرين بنجاسة المخالفين كلهم نظراً لإطلاق الكفر والشرك عليهم في الكتاب والسنة فيتناولهم هذا اللفظ حيث يطلق.......
أبو الحسن العاملي وتحقيق معنى الناصب
قال في مقدمة تفسيره "مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار" ص308 باب "النون من البطون والتأويلات"(1)
__________
(1) أكثر الباحثين من العلماء نسبوا تلك المقدمة للمولى عبد اللطيف الكازراني ومن أولئك العلماء الشيخ محمد حسين الذهبي رحمه الله تعالى في كتابه "التفسير والمفسرون 2/46 والحقيقة هي من مؤلفات أبي الحسن العاملي فقد ذكر ذلك النوري صاحب كتاب "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب في كتابه "المستدرك" في الخاتمة في الفائدة الثالثة من ص385 في الحاشية:
من الحوادث الطريفة والسرقات اللطيفة أن مجلد مقدمات تفسير هذا المولى الجليل المسمى بمرآة الأنوار موجود الآن بخط مؤلفه في خزانة كتب حفيده شيخ الفقهاء صاحب جواهر الكلام طاب ثراه. واستنسخناه بتعب ومشقة.
وكانت النسخة معي في بعض أسفاري إلى طهران فأخذها مني بعض أركان الدولة وكان عازماً على طبع تفسير البرهان للعالم السيد هاشم البحراني.
وقال لي: أن تفسيره خال عن البيان فيناسب أن نلحق به هذه النسخة ليتم المقصود بها. فأستنسخها. ورجعت إلى العراق، وتوفى هذا الباني قبل إتمام الطبع فاشترى ما طبع من التفسير ونسخه المرآة من ورثته بعض أرباب الطبع فأكمل الناقص وطبع المرآة في مجلد ولما عثرت عليه في المشهد الغروي رأيت مكتوباً على الورقة الأولى منه: كتاب مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار وهو مصباح الأنظار الأبرار ومقدمة التفسير الذي صنفه الشيخ الأجل والتحرير الأنبل العالم العلامة والفاضل الفهامة الشيخ عبد اللطيف الكازراني مولداً والنجفي مسكناً إلخ... فتحيرت وتعجبت من هذه السرقة فكتبت إلى بأني الطبع ما معناه: أن هذا التفسر للمولى الجليل أبي الحسن الشريف وأما عبد اللطيف فلا أسمع بذكره ولم نره في كتاب ولعل الكاتب السارق المطفئ لنور الله اشتبه عليه ما في الصدر الكتاب بعد الخطبة من قوله: يقول عبد الضعيف الراجي لطف ربه اللطيف خادم كلام الله الشريف ... إلخ.
فظن أنه أشار إلى اسمه في ضمن هذه العبارة ولكن النسبة إلى كازران لا أدري ما منشأها فوعدني في الجواب أن يتدارك ويغير ويبدل الصفحة الأولى ويكتب ظهرها اسم مؤلفه وشرح. حاله الذي كتبته سلفاً على ظهر نسختي من التفسير وإلى الآن ما وفى بعهده وأعد نفسه لمؤاخذة المولي الشريف في غده فليبغ الناظر الغايب أن هذا التفسير المطبوع في سنة 1295 في طهران المكتوب في ظهره ما تقدم للمولي أبي الحسن الشريف الذي يعبر عنه في الجواهر بجدي العلامة لا لعبد اللطيف الكازراني الذي لم يتولد بعد إلى الله المشتكى وهي المستعان. انتهى.
وأعترف أنني في الطبعة الأولى من كتابي "الشيعة وتحريف القرآن" نسبت هذه المقدمة إلى الكازراني بدلاً من العاملي اعتماداً على كتاب الشيخ الذهبي رحمه الله تعالى "التفسير والمفسرون" ضمن الفصل الثاني من الكتاب "علماء الشيعة وتحريف القرآن" ولكن في الطبعات الثانية والثالثة والرابعة من الكتاب أثبت بأنها من تأليف العاملي لا الكازراني لذا وجب التنبيه والله يهدي إلى سواء السبيل.(193/11)
.
الناصبه: في الصحيح نصبت الشيء أي أقمته، ونص لفلان أي عاداه، وقد ورد في سورة الغاشية قوله تعالى: { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ }، وسنذكر – إن شاء الله – هناك ما يدل على تأويل الناصبه بأعداء علي – عليه السلام – وكذلك من عاداه وبمن نصب غيره من ولات الأمر فعلى هذا كله أعداء الأئمة ناصبة بالمعنيين وهو ظاهر.
وكذلك الحق أن كل من نصب غير الأئمة فهو في الحقيقة ممن نصب العداوة للأئمة وناصبة بالمعنيين أيضاً وإن ادعى المحبة لهم ادعاء.
إذ كل من أنصف من نفسه عرف أن حب الأئمة عليهم السلام لا يجتمع مع حب أعدائهم الغاصبين لحقهم في قلب واحد كيف لا ومهما تفكر أحد فيما أصاب الأئمة منهم ومن أتباعهم أو بسببهم ولو محض سلب الخلافة عنهم يوماً واحداً أوجد من ذلك بغضهم في قلبه إن كان صادقاً في حب الأئمة ضرورة عدم اجتماع المحبة مع الرضا بالأذى ولهذا وجب التولي والتبري كما هو صريح الأخبار ونعم ما قال من قال:
إذا لم تبر من أعداء علي
فما لك من محبته نصيب
وقد روى الشيخ في أماليه بسند صحيح عن صالح بن ميثم التمار، عن أبيه – رضي الله عنه -: أن أمير المؤمنين – عليه السلام – قال في آخر حديث له طويل: لم يحبنا من يحب مبغضنا إن ذلك لا يجتمع في قلب واحد ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه يحب بهذا قوماً ويحب بالآخر عدوهم. إلى أن قال – عليه السلام -: فليمتحن قلبه فإن وجد فيه حب من ألّب علينا فليعلم أن الله عدوه وجبريل وميكال والله عدو الكافرين.
وفي الفقيه بسند لا يقصر عن الصحيح أن إسماعيل بن جابر قال لأبي جعفر – عليه السلام – رجل يحب أمير المؤمنين ولا يتبرّأ من عدوه ويقول هو أحبّ إليّ ممن خالفه قال: هذا مخلط وهو عدو.
وفي العلل ومعاني الأخبار عن معلى بن خنيس عن الصادق – عليه السلام – قال:(193/12)
ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت لأنك لا تجد رجلاً يقول: أنا أبغض محمداً وآل محمد ولكن الناصب لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وأنكم من شيعتنا.
ويؤيد قول الباقر – عليه السلام -: من نصب لك أنت أنت لا ينصب لك إلا على هذا الدين كما كان نصب للنبي .... الحديث.
وقد نقل في مستطرفات السرائر من مكاتبات محمد بن علي بن عيسى أبا الحسن الثالث – عليه السلام – قال: كتبت إليه أسأله عن الناصب هل أحتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديم الجبت والطاغوت واعتقاد إمامتهما؟ فرجع الجواب: من كان على هذا فهو ناصب. اه.
الفصل الثاني
إله السنة غير إله الشيعة
قد يعجب القارئ الكريم من هذا وربما يتصور أنني القائل بهذا والحقيقة أن أحد علماء الشيعة هو المتفوه بهذه العبارة وإنني ذكرتها هنا لبيان حقيقة تاهت عن عقولِ كثير من أهل السنة.
يقول نعمة الله الجزائري:
إنا لم نجتمع معهم(1) على الله ولا على نبي ولا على إمام. وذلك أنهم يقولون: إن ربهم هو الذي كان محمداً صلّى الله عليه وسلّم نبيه وخليفته بعده أبو بكر. ونحن لا نقول بهذا الرب ولا بذلك النبي؛ إن الرب الذي خليفة نبيه أبو بكر ليس ربنا ولا ذلك النبي نبينا(2).
والجزائري قائل هذا ليس من عامة الشيعة أو من أنصاف العلماء بل هو من أكابر علماء الشيعة المعتمد عليهم في بيان مذهب الشيعة. وصدوره عن شخص بهذه الأهمية له أهمية(3).
وقبل أن نناقش هذا الهراء والذي يعبر بصدق عن حقيقة الشيعة في هذا المقام نستعرض معاً عقيدة اليهود والشيعة في الله تعالى، ثم نقارن اعتقادهما بمعتقد أهل السنة لنصل معاً إلى النتيجة التي وصل إليها الجزائري بأن إله السنة غير إله الشيعة.
__________
(1) أي أهل السنة والجماعة.
(2) الأنوار النعمانية للجزائري 1/278-279 .
(3) انظر ترجمة الجزائري من كتابنا "الشيعة وتحريف القرآن" الفصل الثاني علماء الشيعة وتحريف القرآن ص88 الطبعة الأولى.(193/13)
الله في عقيدة اليهود جاهل لا يعلم بالشيء إلا بعد حدوثه ويعتريه – تعالى عن ذلك علواً كبيراً – ما يعتري الإنسان من جهل ونسيان وتعب وضعف وإلى غير ذلك من حالات النقص والضعف.
والتوراة ذكرت من تلك الحالات الشيء الكثير ونذكر على سبيل المثال لا الحصر النصوص التالية من التوراة:
جاء في التوراة سفر التكوين الإصحاح الأول: = 24 – 25 – 26 – 31: وقال الله تخرج الأرض نفسا حيه لجنسها. بهيمة ودبيبا ووحشية الأرض لجنسها. وكان كذلك.
وصنع الله وحشية الأرض لجنسها، والبهائم لجنسها، وكل دبيب الأرض لأجناسه. ونظر الله ذلك حسنا.
ونظر الله كلّ ما صنع وهو ذا حسنا جدا. وكان ليل وكان نهار يوماً سادساً.
وجاء في الإصحاح الثاني من نفس السفر: 1 – 2 – 3 : وكملت السماوات والأرض وكل وحوشها.
وكمّل الله في اليوم السادس صناعته التي صنع. وبارك اليوم السابع واستراح من كل صناعته التي صنع.
وبارك الله اليوم السابع وقدَّسه. لأن فيه بطل من جميع صناعته التي صنع الله للفعل.
وفي الإصحاح السادس من نفس السفر: = 5 – 6 – 7 – 8 – 11 – 12 : ونظر الله أن كثرت سيئات الإنسان في الأرض وكل ضمير حسبانات قلبه سوءا كل الأيام.
وتواجد الله لما صنع الناس في الأرض. واشتد على خصيصه.
وقال الله: أمحي الناس الذين خلقت من على وجه الأرض. من إنسان إلى بهيمة إلى دبيب إلى طير السماء. إذا تواجدت لما صنعتهم.
وانفسدت الأرض في حضرة الله وامتلأت الأرض ظلماً.
ونظر الله وهو ذا انفسدت. إذ فسد كل بشر بطريقه على الأرض.
وفي الإصحاح التاسع من نفس السفر: 12 – 13 – 14 – 15 – 16 – 17 : وقال الله هذه الآية العهد التي أنا جاعل بيني وبينكم وبين كل النفس الحيوانية التي معكم لأجيال الدهر.
موسي أجعل في الغمام لتكون آية عهد بيني وبين الأرض.
ويكون عند تغميمي غماماً على الأرض وينظر القوس في الغمام.(193/14)
أراعي عهدي الذي بيني وبينكم وبين كل النفس الحيوانية التي معكم من كل البشر. ولا يكون أيضاً ماء الطوفات لإهلاك كل بشر.
ويكون القوس في الغمام وينظر تذكار عهد الدهر بين الله وبين كل النفس الحيوانية من كل البشر الذي على الأرض.
وقال الله لنوح هذه آية العهد التي تبث بيني وبين كل البشر على الأرض.
وفي سفر الخروج الإصحاح الثاني عشر: 8 – 12 – 13 : كلم الرب موسى قائلاً .... ثم يذبحه كل جمهور جماعة بني إسرائيل في العشية ويأخذون من الدم ويجعلون على القائمتين(1) العتبة العليا في البيوت التي يأكلون فيها.
إني أجتاز في أرض مصر هذه الليلة وأضرب كل بكر في أرض مصر من الناس والبهائم وأصنع أحكاماً بكل آلهة المصريين. أنا الله.
ويكون لكم الدم علامة على البيوت التي أنتم فيها فأرى الدم وأعبر عنكم فلا يكون عليكم ضربة للهلاك حين أضرب أرض مصر.
والأسخف من ذلك كله ما ورد في سفر التكوين الإصحاح الثالث: 9 – 10 – 11 : وسمعا(2) صوت الرب ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار ... فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة.
فنادى الرب الإله آدم وقال له أين أنت.
فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأنني عريان فاختبأت.
فقال له: من أعلمك أنك عريان.
مما سبق ذكره يتبين لنا أن الله – جل ذكره وتنزه عن مفتريات اليهود – في عقيدة اليهود جاهل ويحتاج إلى علامات وإشارات تهديه إلى بعض الأمور وإنه يخلق الخلق ولا يعلم إن كان خلقه حسناً أم لا إلا بعد أن ينظر إليه وبدت له أمور لم يكن يعلمها فحزن وأسف على خلقه فمحا الله كل قائم على وجه الأرض. وإنه أمر بني إسرائيل بأن يجعلوا على بيوتهم علامات لئلا يهلكهم بطريق الخطأ. وإنه لا يدري من الذي أعلم وأخبر آدم بأنه عريان إلى آخر الافتراءات التي افتروها على الله.
__________
(1) قائمتا الباب.
(2) آدم وحواء.(193/15)
ولقد تسربت تلك العقيدة الفاسدة إلى الفكر الشيعي أو بمعنى أصح استعارتها منهم وتسمى تلك العقيدة عند الشيعة بالبداء الذي هو عبارة عن "استصواب شيء علم بعد أن لم يُعلم"(1).
ولقد وردت كلمة "البداء" في القرآن الكريم وفي آيات عديدة فمن ذلك قول الحق تبارك وتعالى: { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا } ليظهر لهما ما كان مستوراً { يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا } كانت مستورة باللباس وظهرت بعد النزاع. {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا } { ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ } كل هذه ظهور شيء لم يكن معلوماً لهم من قبل. { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ } { إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } فالإبداء في هذه الآيات الكريمة مقابل للإخفاء. ولا يكون بداء إلا بعد خفاء.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ }. يظهر بالبيان ما كان يجهله الإنسان.
فالبداء هو ظهر شيء كان مجهولاً. وأما الضلال فزوال شيء كان معلوماً: { أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا }. { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } وأما الغفلة فهي أن يعلم ما هو كائن وحادث وحاضر.
والإنسان له كل هذه الثلاثة لأن الجهل يحيطه من بين يديه ومن خلفه.
__________
(1) لسان العرب لابن منظور 1/187 .(193/16)
وحيث أن الله جل جلاله يعلم علماً إجمالياً وعلماً تفضيلياً كل شيء كليات الأشياء وجزئياتها علماً مطلقاً كلياً من الأزل إلى الأبد في كل آن قبل خلقها وبعده على حد سواء في الظهور فالبداء والضلال والغفلة في علم الله محال مستحيل ممتنع(1).
والبداء عند الشيعة: "أن يظهر ويبدوا لله عز شأنه أمراً لم يكن عالماً به(2) ومن جهل البداء أو لم يعترف به فليس له حظ ولا نصيب كامل المعرفة(3) فالمرء لا يكون عالماً إلا إذا افترى على الله تعالى ووصفه بالجهل.
ربما يكابر بعض الشيعة في إنكار هذا الاعتقاد ومن منطلق الأمانة العلمية ومنهجية البحث ننقل من المصادر المعتمدة والموثوقة لديهم فهذا الكليني يروي في كتابه "الأصول من الكافي عن زرارة" "ما عُبد الله بشيء مثل البداء"(4) فعبادة الشيعة عبادة لرب جاهل. وكيف يعبد من هو جاهل ولا يعرف مصلحة عباده وإن كافة أحكامه صادرة من جاهل وبجهل؟ ولا يتعبد بالجهل إلا جاهل.
وفي رواية ابن عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله – عليه السلام – "ما عظّم الله بمثل البداء"(5) وعلق المحقق بقوله "البداء ظهور ما كان خفياً من الفعل بظهور ما كان خفياً من العلم بالمصلحة ثم توسع في الاستعمال فأطلقنا البداء على ظهور كل فعل كان الظاهر خلافه فيقال بدا له أن يفعل كذا أي ظهر من فعله ما كان الظاهر منه خلافه". اه.
فالله جل جلاله عند الشيعة يفاجأ بالأشياء لم يكن علمها أو خلاف ما كان يعلمها تعالى عن ذلك علواً كبيراً و"كبرت كلمة تخرج من أفواههم".
__________
(1) الوشيعة في نقد عقائد الشيعة لموسى جار الله ص110 .
(2) أصل الشيعة.
(3) شبهات حول التشيع لعلي العصفور ص52 .
(4) المجلد الأول ص146 كتاب الحجة باب البداء.
(5) الكافي: 1/146 .(193/17)
وذكر في الكافي(1) عن الريان بن الصلت قال: سمعت الرضا – عليه السلام – يقول: "ما بعث الله نبياً قط إلا بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء" فإرسال الله تعالى واختيارهم للنبوة مشترط بالاعتراف بأن الله – جل ذكره – جاهل.
وأيضاً(2) عن مرزام بن حكيم قال: سمعت أبا عبد الله – عليه السلام – يقول:
"ما تنبّأ نبي قط حتى يقر لله بخمس خصال: بالبداء والمشيئة والسجود والعبودية والطاعة".
وأيضاً في باب كراهية التوقيت: عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر – عليه السلام – يقول: يا ثابت إن الله تبارك وتعالى وقد كان وقت هذا الأمر في السبعين، فلما أن قتل الحسين صلوات الله عليه اشتد غضب الله على أهل الأرض، فأخره إلى أربعين ومائة. فحدثناكم فأذعتم الحديث فكشفتم قناع الستر ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتاً عندنا ويمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب(3). فهل يوجد حديث أصرح من هذا؟ وبم يفسر الشيعة هذا الإفك والبهتان والافتراء؟.
وعند الشيعة مَن يرمِ الله تعالى بالجهل فله أجر عظيم إن داوم على هذا الاعتقاد ونشره بين الناس فقد ذكر في الكافي(4) عن مالك الجهني قال: سمعت أبا عبد الله – عليه السلام – يقول: لو علم الناس ما في قول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه.
قال السيد طيب الموسوي(5): قال شيخنا الطوسي في العدة:
وأما البداء فحقيقته في اللغة الظهور كما يقال بدا لنا سور المدينة. وقد يستعمل في العلم بالشيء بعد أن لم يكن حاصلاً. وذكر سيدنا المرتضى: يمكن حمل ذلك على حقيقته بأن يقال بدا لله بمعنى ظهر له من الأمر ما لم يكن ظاهراً له وبدا له من النهي ما لم يكن ظاهراً له. اه.
__________
(1) الكافي 1/148 .
(2) الكافي 1/148 .
(3) الكافي: 1/368 .
(4) 1/146 .
(5) في تعليقه على تفسير القمي 1/39 .(193/18)
تقول كتب الشيعة: أن القول بالبداء هو رد لليهود إذ يقولون: أن الله قد فرغ من الأمر. وهذا القول من الشيعة خدعة وحيلة في إغفال الجاهل وتقول على اليهود باطل. وما استعارت الشيعة عقيدة البداء إلا من أسفار التوراة. فدعوى الرد بالبداء كفران للنعمة المستعارة.
تقول كتب الشيعة تزخرف قولها: إن البداء منزلته في التكوين منزلة النسخ في التشريع. فالبداء نسخ تكويني كما أن النسخ بداء تشريعي.
وهذا القول زخرفه إذا لا بداء في النسخ. والحكم كان مؤقتاً في علم الله. وأجل الحكم وانتهاء الحكم عند حلول الأجل معلوم لله قبل الحكم فأين البداء؟ نعم بدا لنا ذلك من الله بعد نزول الناسخ وبعد وقوع المحو. فالبداء لنا في علمنا لا لله(1).
وبعد أرجو أن تكون الرؤية قد وضحت وإن الجزائري على حق عندما نتفوه بالكلام السابق حيث إن الله سبحانه وتعالى في عقيدة أهل السنة والجماعة متصف بالكمال المطلق وإنه ليس كمثله شيء. وأما في عقيدة الشيعة فهو جاهل لا يعلم بالشيء إلا بعد حدوثه { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاّ كَذِبًا }.
الفصل الثالث
استباحة الشيعة لأموال ودماء أهل السنة
الشيعة واستحلال أموال ودماء أهل السنة
أموال أهل السنة مباحة عند الشيعة الروافض حسب الروايات التي ذكروها عن أئمتهم في كتبهم المعتمدة. وأن عدم قيامهم بذلك في الوقت الحاضر يرجع إلى أنهم في هدنة مع أهل السنة إلى أن يقوم قائمهم المهدي.
والشيعي إذا استطاع بطريقة ما الاستيلاء على تلك الأموال ولو قبل قيام قائمهم فإن ذلك حلال على شرط أداء الخمس إلى نائب الإمام لأنه يقوم مقامه في غيبته.
عن حفص بن البختري، عن أبي عبد الله – عليه السلام – قال: خذ مال الناصب حيثما وجدته وادفع إلينا بالخمس(2).
__________
(1) انظر الوشيعة في نقد عقائد الشيعة ص110 وما بعدها.
(2) جامع أحاديث الشيعة 8/532 باب "وجوب الخمس فيما أخذ من مال الناصب وأهل البغي".(193/19)
وفي رواية أخرى "مال الناصب وكل شيء يملكه حلال"(1).
ويقول حسين الدرازي البحراني:
أن الأخبار الناهية عن القتل وأخذ الأموال منهم(2) إنما صدرت تقية أو منا كما فعل عليّ عليه السلام بأهل البصرة. فاستناد شارح المفاتيح في احترام أموالهم إلى تلك الأخبار غفلة واضحة لإعلانها بالمن كما عرفت. وأين هو عن الأخبار التي جاءت في خصوص تلك الإباحة مثل قولهم – عليهم السلام – في المستفيض خذ مال الناصب أينما وقعت وادفع لنا الخمس. وأمثاله. والتحقيق في ذلك كله حل أموالهم ودمائهم في زمن الغيبة دون سبيهم حيث لم تكن ثمة تقية وأن كل ما جاء عنهم عليهم السلام بالأمر بالكف فسبيله التقية منهم أو خوفاً على شيعتهم(3).
والخميني يُجَوِّزُ الاستيلاء على أموال أهل السنة ولو كانت بطريقة غير شرعية، في حين أنه يمنع ذلك من أموال أهل الذمة فيقول:
__________
(1) المصدر السابق 8/533 .
(2) أهل السنة.
(3) المحاسن النفسانية ص167.(193/20)
يجب الخمس في سبعة أشياء: الأول: ما يغنم قهراً لا سرقه وغيلةً – إذا كانتا في الحرب ومن شؤونه – من أهل الحرب الذي تستحل دماؤهم وأموالهم وتسبى نساؤهم وأطفالهم إذا كان الغزو معهم بإذن الإمام عليه السلام من غير فرق ما حواه العسكر وما لم يحوه كالأرض ونحوها على الأصح. وأما ما اغتنم بالغزو من غير إذنه فإن كان في حال الحصور والتمكن من الاستئذان منه فهو من الأنفال، وأما ما كان في حال الغيبة وعدم التمكن من الاستئذان فالأقوى وجوب الخمس فيه إذا كان للدعاء إلى الإسلام، وكذا ما اغنمتم منهم عند الدفاع إذا هجموا على المسلمين في أماكنهم ولو في زمن الغيبة. وما اغنمتم منهم بالسرقة والغيلة غير ما مرّ وكذا بالربا والدعوى الباطلة ونحوها فالأحوط إخراج الخمس منها من حيث كونه غنيمة لا فائدة. فلا يحتاج إلى مراعاة مئونة السنة. ولكن الأقوى خلافه، ولا يعتبر في وجوب الخمس في الغنيمة بلوغها عشرين ديناراً على الأصح، نعم يعتبر فيه أن لا يكون غصباً من مسلم أو ذمي أو معاهد ونحوهم من محترمي المال، بخلاف ما كان في أيديهم من أهل الحرب وإن لم يكن الحرب معهم في تلك الغزوة، والأقوى إلحاق الناصب بأهل الحرب في إباحة ما اغتنم منهم وتعلق بخمسه، بل الظاهر جواز أخذ ما له أين وجد وبأي نحو كان، ووجوب إخراج خمسه(1)....
ولم تقتصر الشيعة على استباحة الأموال بل تعدي ذلك إلى إباحة إراقة دماء أهل السنة ولو بدون وجه حق. وأنه واجب عند الشيعة ومرتبط بحضور أئمتهم غير أن ذلك لا يمنع إن استطاعوا إليه سبيلاً على أن لا يترتب على ذلك ضرر يحدق بالشيعة وإليك بعض ما روي في هذا الشأن:
في آخر رواية إسحاق بن عمار: لولا أنا نخاف عليكم أن يقتل رجل برجل منهم ورجل منكم خير من ألف رجل منهم لأمرناكم بالقتل لهم، ولكن ذلك إلى ذلك الإمام عليه السلام(2).
وعلق الدرازي عليها قائلاً:
__________
(1) تحرير الوسيلة للخميني 1/352.
(2) المحاسن النفسانية ص166 .(193/21)
وربما يثبت من هذه الرواية أن جواز قتلهم مخصوص بحضورهم صلوات الله عليهم وإذنهم. وقد عرفت أن الأخبار جاءت بالإذن في حال غيبتهم كحال حضورهم فلعل هذا مخصوص بزمن التقية(1).
وفي صحيح الفضل بن شاذان، عن الرضا – عليه السلام -:
فلا يحل قتل أحد من النصاب والكفار في دار التقية إلا قاتل أوساع في فساد وذلك إذا لم تخف على نفسك أو على أصحابك(2).
وعن الريان بن الصلت قال: قلت للرضا عليه السلام:
أن العباس يسمعني فيك ويذكرك كثيراً وهو كثيراً ما ينام عندي ويقبل، فترى أن آخذ بحلق وأعصره حتى يموت؟ ثم أقول مات فجأة؟! فقام ونفض يده ثلاثاً، وقال:
لا يا ريان، لا يا ريان.
فقلت: إن الفضل بن سهل هوذا يوجهني إلى العراق في أمواله والعباس خارج من بعدي بأيام إلى العراق فترى أن أقول لمواليك المقيمين أن يخرج منهم عشرون ثلاثون كأنهم قاطعوا طريق أو صعاليك فإذا اجتاز بهم قتلوه فيقال قتله الصعاليك؟!
فسكت ولم يقل لي: نعم ولا، لا.
وعلق عليها فقال:
ولعل سبب النهي في الأول هو ظهور التقية وأن ذلك الاحتيال مما لا يزيلها، وسبب الثاني في السكوت هو التقية على الإباحة لأنه لا تقية في النهي لو أراده(3).
ويقول الجزائري بعد أن بيّن معنى الناصب:
والثاني في جواز قتلهم واستباحة أموالهم، قد عرفت أن أكثر الأصحاب ذكروا للناصب ذلك المعنى الخاص في باب الطهارات والنجاسات وحكمه عندهم كالكافر الحربيّ في أكثر الأحكام، وأما على ما ذكرناه له من التفسير فيكون الحكم شاملاً كما عرفت. روى الصدوق طاب ثراه في العلل مسنداً إلى داود بن فرقد، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في الناصب؟
قال: حلال الدم لكني أتقي عليك، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطاً أو تغرقه في بحر لكي لا يشهد به عليك فافعل.
قلت: فما ترى في ماله؟
قال: خذه ما قدرت.
__________
(1) المحاسن النفسانية ص166 .
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق ص167 .(193/22)
وروى شيخ الطائفة نور الله في باب الخمس والغنائم من كتاب التهذيب بسند صحيح عن مولانا الصادق عليه السلام، قال:
خذ مال الناصب حيث وجدت، وابعث إلينا بالخمس.
قال ابن إدريس الناصب، المَعْنِيُّ في هذين الخبرين أهل الحرب لأنهم ينصبون الحرب للمسلمين، وإلا فلا يجوز أخذ مال مسلم ولا ذمي على وجه من الوجوه وللنظر فيه مجال: أما أولاً فلأن الناصبي قد صار في الاطلاقات حقيقة في غير أهل الحرب، ولو كانوا هم المراد لكان الأولى التعبير عنهم بلفظهم من جهة ملاحظة التقية لكن لما أراد عليه السلام بيان الحكم الواقعي عبر بما ترى.
وأما قوله: لا يجوز أخذ مال مسلم ولا ذمي فهو مسلم ولكن أنى لهم والإسلام وقد هجروا أهل بيت المأمور بودادهم في محكم الكتاب بقوله تعالى: { قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }. فهم قد أنكروا ما علم من الدين بالضرورة وأما إطلاق الإسلام عليهم في بعض الروايات فضرب من التشبيه والمجاز والتفاتاً إلى جانب التقية التي هي مناط هذه الأحكام.
وفي الروايات أن علياً بن يقطين وهو وزير الرشيد قد اجتمع في حبسه جماعة من المخالفين. وكان من خواص الشيعة، فأمر غلمانه فهدموا سقف المحبس على المحبوسين فماتوا كلهم. وكانوا خمسمائة رجل تقريباً. فأراد الخلاص من تبعات دمائهم فأرسل إلى الإمام مولانا الكاظم عليه السلام.
فكتب عليه السلام إليه جواب كتابه: بأنك لو كنت تقدمت إليَّ قبل قتلهم لما كان عليك شيء من دمائهم، وحيث أنك لم تتقدم إلي فكفر عن كل رجل قتلته بتيس والتيس خير منه.
فانظر إلى الدية الجزيلة التي لا تعادل دية أخيهم الأصغر وهو كلب الصيد فإنَّ ديته عشرون درهماً، ولا دية أخيهم الأكبر وهو اليهودي فإنها ثمانمائة درهم، وحالهم في الآخرة أخس وأنجس(1).
__________
(1) الأنوار النعمانية 2/307-308 .(193/23)
وبعد هذا لا يمكن أن يقال أن الشيعة الرافضة لا تستبيح دماء وأموال أهل السنة وإنها من القرابات التي يتقربون بها إلى الله تعالى.
ونختم هذا الفصل بإيراد رسالتين للشيخ أحمد مفتي زاده وهو من أكابر العلماء المعاصرين السّنّة في إيران، يوضح في الرسالتين مدى الحقد الرافضي في إيران ضد أهل السنة والجماعة، وبيان بالإرهاب والقتل والتشريد الذي لاقاه أهل السنة في إيران وإن هذا العمل الذي يقوم به حاخامات إيران إنما هو ترجمة عملية للاعتقاد الفاسد الذي يعتقدونه.
الرسالة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ }.
أيها السادة العلماء، يا مسؤولي السلطة الإيرانية:
لقد قلت وكثير كتبت الكثير، لكنني قلق سائل نفسي: ألم أؤدي واجبي في مجال "الدعوة إلى سبيل ربي بالحكمة والموعظة الحسنة" حيث لم آلو جهداً؟؟ ومعاذ الله من أن أكون قد ألوت جهداً في أداء الواجب العظيم الرفيع.
أياً كان، فالقلق من مستقبل الأمة الإسلامية المُصابة بالتفرق – لا في إيران فحسب بل في كل العالم – بعيد المدى جداً. إن ما يجري اليوم، باعث لظهور وتصاعد العداوة بين المسلمين، ورغبة وإعراض غير العارفين الحق من الباطل عن الإسلام، خاصة إذا لاحظنا أن الأعداء الشرقيين والغربيين بالمرصاد، وأن عداوتهم السرية والعلنية في غليان دائم.(193/24)
إن القلق أيام حكم النظام الشاهنشاهي من أن يتيح سقوطه الفجائي ولعملاء آخرين أكثر جناية وأشد عداوة للإسلام والمسلمين، فرصته الوصول إلى السلطان إزالة تحمس شعب إيران المؤمن الذي لم يدع الفرصة لأولئك الانتهازيين. لكم اليوم وصانعي الثورة أنفسهم يتناثرون على الأرض كأوراق الشجر الهائجة، في اصطدامهم ببعضهم البعض، وفي المعركة مع الآخرين، وآثار أقدام أولئك الانتهازيين الذين تدخلوا في كل مجالات السلطة متوسلين بالنفاق.
في الماضي كان هؤلاء الانتهازيون المنافقون، يسببون بتدخلهم في أجهزة الحكم وارتكاب الفواحش نفرة الناس من نظام واحد فقط (ليصلوا هم أنفسهم عن طريق توهينه ثم إسقاطه إلى الحكم)، ولكن اليوم وقد ظهروا بمظهر قوي وتدخلوا في الأمر كبعض من تلك القوى لا يسببون النفرة من نظام واحد فحسب بل من الدين رأساً، بل من أسسه أيضاً لأحلوا صفارة الإنذار المفزعة في أن يهين القرآن علينا ويعد الاستمساك به لغلواً وبلا فائدة، أشخاص يظهرون بذلك المظهر بل ويحملون ألقاب العلماء الدينية.
ويصل بهم في مدينة "كامياران" إلى أن يدعوهم جماعة زاوية تدريس القرآن داخل المسجد، ويرفسوا القرآن ويقذفوه، ويطرحوا مصلياً على الأرض بحيث لا يفيق من الإغماء إلا بعد ساعات ويجلدوا ويجرحوا معلمي القرآن وتلاميذهم.
أيها السادة إنني لا أخاطبكم في هذه الرسالة باعتباركم "أصحاب المناصب والسلطات" بل باعتباركم علماء الدين، تسميكم بهذا الاسم يجعلك مسؤولين – حسب الاستطاعة – أمام خير وشر نظام الحكم وأمام الإسلام وشعب إيران بل والآخرين.(193/25)
أيها السادة يعلم الله العليم الخبير بما في الصدور أنه لم ينقص ذلك الحب الجم الذي كان لكم في قلبي في الأيام السابقة على انتصار الثورة إلا حب الله والنصح لدينه والفقه بمبادئه. ليس به حاجة دنيوية، ولا منافسة وعداوة، ولا أي انتظار إلا أن تكونوا ملتزمين بدين الله، ومقيمين إياه بلا خطأ ولا نقص – حسب استطاعتنا – { اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }.
أليس من المؤسف أن يبغضكم – وأنتم علماء الدين – مسلم يرجو أن يكون حبه وبغضه إلا ابتغاء وجه الله (وطبيعي أن لا يكون حبكم وبغضكم أنتم – أيضاً – إلا لذلكم) ..... (أوليس مؤسفاً أن أقترح أنا مرات ومرات لإزالة الخلاف ورفع الإبهام كل الطرق المختلفة – من المناظرة العلنية بمرأى من الناس ومسمع إلى الابتهال – ولا يفعل من جانبكم أنتم إلا إدانة الاتهامات غير الموجهة؟).
أيها السادة ... إن كلامي الموجه إليكم المعرب عن بغضي لكم إما حق وإما باطل فإن كان حقاً، أفليس شائناً جداً أن توجهوا التهم وتسخطوا الله أكثر من ذي قبل بدل أن تصلحوا عيوبكم حرصاً على السلطة الدنيوية الزائلة بعد أيام معدودات؟ وإن كان باطلاً أفلسنا جميعاً مؤمنين بالدين، فنصحح أخطاءنا وانحرافاتنا وفق موازينه المسلم بها؟ أفلا يسألنا عن تهاوننا بالوسائل الدينية والهدايات الربانية لإزالة الخلافات ومن { عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الإِنسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } وهدانا للطريقة القويمة بقوله { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ }؟.(193/26)
أيها السادة!: كنت قد سجلت في الرسالة التي كنت قد كتبتها لصديقي القديم قبل الثورة المرحوم الدكتور "باهنر" (ثم أرسلتها مع توضيحات إلى السيد مهدوي كنى) أن التنقص السريع بصانعي الثورة، يهيئ المجال لنظام حكم أمريكي أو – قد يكون – روسي. واليوم أيضاً أعتقد – نظراً إلى الظروف التي قد سادت الموقف حتى اليوم – أنه بعيد أن يكون لمجموع القوى غير العملية بعد سقوط دولتهكم قوة تبلغ خمساً بالمائة مما هو لازم لسد مسدكم.
فعلى هذا أظن أن قلقي أنا من الظروف التي قد يكون معظمها حصيلة دسائس أعداء لكم ماكريم يريدون بإيجادها إسقاط الدولة والقيام مقامكم، قد يكون أكثر من قلقكم أنتم أنفسكم وإن لم يكن أكثر فلا أشك أنه أبعد مدى وأشد إخلاصاً. إذ لا يعلم غالباً ذوو السلطان بالظروف المبدلة الذاهبة بهم إلى الزوال إلا مؤخراً (كان هكذا أبداً وسيكون هكذا أبداً) ولكن الذين ليسوا مبتلين بمشقة القيادة والحكم، وليس بهم هوى إليه وميل وإنما الشعور بالمسؤولية أمام عباد الله ودينه وهو الذي يعينهم بالأمر، يكون إدراك حقائق الأمر عليهم يسيراً.
أيها السادة!: يشهد الله إني أذكركم بكل ما أراه سبباً لسير هذا النظام إلى الزوال، والله عليم خبير بأني { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ } وهذه الأسباب تنحصر في شيئين: الأول: السعي لإدامة السلطة وإكراه أهل السنة على التشيع.
والثاني: إجرات وبرامج تتنافى مع "الفقه الجعفري" أيضاً.
فأما بشأن المسألة الثانية فرفع الإيهام يسير. لأن الفقه الجعفري مدون، ومباحثه مشروحه مبسوطه، ولا حاجة إلى بذل الجهد والتأمل الكثير.(193/27)
وأما بشأن المسألة الأولى التي هي أساس البلاء وأصل المشكلة الثانية أيضاً، فإن كانت روايات وآراء كل منا محل نظر للآخر، فنستطيع أن نطيع الأمر الرباني ونرد أمرنا إلى كتاب الله الذي هو الميزان الوحيد في الآخرة في المحاسبة وتبيين درجات الطاعة والعصيان، والمرجع الموثوق به الأخير في الدنيا أيضاً لإزالة الخلاف – (إذ بين في كثير من الآيات أن الكتب الإلهية كانت في كل عهد للحكم فيما اختلف فيه المنتسبون إلى الدين) : {وَلَلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ، وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ}، { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } وإن كنتم متأثرين ببعض روايات كتب "كالكافي في الأصول" "والبحار" ولم توافقوا أهل السنة في الاعتقاد بأن هذا القرآن هو الذي أنزله الله بعينه، فنستطيع – بصرف النظر عن الأدلة القاطعة من الكتاب ومن السنة أن نحتكم إلى المجموعة المسماة بـ"نهج البلاغة" التي فيها عشرات بل مئات من الجملات المعارضة للأقوال المريبة، ليندفع أي ريب يختلج، وأية وسوسة تحيك في الصدر بشأن القرآن.(193/28)
فتفكروا مثلاً في هذه الجملات من قول سيدنا علي – رضي الله عنه -: المبين، والشفاء النافع، والرأى الناقع، والعصمة للمتمسك، والنجاة للمتعلق، لا يعوج، فيقام ولا يزيغ فيستعتب، ولا تخلقه كثرة الرد، وولوج السمع، من قال به صدق ومن عمل به سبق" و "استنصحوه على أنفسكم واتهموا عليه آراءكم واستغثوا فيه أهوائكم" و "فإنه حبل الله المتين وسببه الأمين" و "ونوراً لا تطفأ مصابيحه وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه، وشعاعاً لا يظلم ضوءه، وفرقاناً لا يخمد برهانه، وتبياناً لا يهدم أركانه، و...".
وأما بشأن الاتهامات التي توجهونها إليّ فأقول لكم في كمال الإخلاص والتواضع وبدون أن يكون بي قصد الجدال ونية الأغراض: إن كنت ترون أن اتهاماتكم صادقة وإنكم تجدون – حقاً – في أعمالي وأقوالي زيغاً عن طريق الدين أو خصلة من النفاق أو أمارة على المؤامرة واتباع أعداء الدين، أو أثراً من آثار الشقاق والخلافات بين المسلمين و فأقيموا دليلكم مرة واحدة في حوار مباشر مواجه متزن مكشوف بدل تلك الأقوال والكتابات الكثيرة المبهمة الصادرة عن جهة واحدة تلك الاتهامات الكليلة الفاقدة للدليل (وإن كنتم راغبين عن أن يعلم أهل السنة بهذا الأمر فليكن بحضرة أهل إحدى المدن الشيعية، وإن كنتم راغبين – أيضاً – عن أن يطلع على أمركم العامة من الشيعة كذلك فيحضره أشخاص تثقون بهم) وإن كنتم تميلون إلى الاحتياط فاكتبوا، فورب الآخرة والأولى إن ثبت أن اتهاماتكم معيبة، لأعلن بكل صراحة رجوعي عن الخطأ، وأما إن كنتم أنفسكم ترون أن اتهاماتكم باطلة، فمؤسف أن تغفلوا عن عقاب الله وأنتم تسمون علماء الدين.(193/29)
وأما بشأن عزمكم على ترويج التشيع فأضيف كلمة قلتها مراراً: احضروا فلنقاضي القضية عن طريق الأساليب الإسلامية لتبليغ الدين التي يجب أن تكون مكشوفة مبينة للحق مبنية على أسس تطابق الظاهر والباطن، ورب الدين إن ثبت أن المذهب الشيعي أحكم من مذهب السنة، لأسعين في تبليغه وترويجه بكل إمكانياتي، فإنكم إن كنتم واثقين بحقانية المذهب الشيعي فغير لائق بكم أن تتوسلوا بوسائل لا دينية كالإكراه، والاتهام الباطل، واعتقال ونفي وتسريح الموظفين ونهب ما في مدارس القرآن وإغلاق أبوابها .... و .... ومستفيدين من الأسلوب الفاسد الذي يتخذه أولئك الذين يعتقدون بأن "الغاية تبرر الوسيلة" والحال أن الله عز وجل يقول للمؤمنين الذين أخرجهم الكفار المجرمين من ديارهم وأموالهم، وصدوهم عن المسجد الحرام { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ } وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ويقول عن الذين اتخذوا طريق الكفر وسبيل الكفار ولكنهم لم يقاتلوا المؤمنين ولم يفعلوا ما فعل الآخرون { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }.(193/30)
أيها السادة: لقد اقترحت بالصراحة أي طريق مشروع ومنطقي قد علمت أنه يصلح لتمييز الحق من الباطل وإزالة الخلاف. فإن كنتم واجدين طريقاً معروفاً مقبولاً غير ما اقترحت فأرونيه أقبله بكل رحابة صدر. ولكنني أذكركم بالله، وبدين الله، وبنفس التشيع الذي تحبونه وتريدون أن تروجوه، أن احذروا من التوسل بالوسائل غير المشروع للوصول إلى الغاية. ولا يكن غائباً عن أنظاركم أن أسلوبكم الحالي إن تكن حصيلته العاجلة خسارة للمسلمين جميعاً ففي الأجل ينتهي بخسران التشيع نفسه. لأن أهل التشيع أنفسهم سوف يتساءلون يوماً ما: لماذا يكون مسلم متبع للسنة مستعد أن يناظر علماء المفتية بأي طريق مشروعة، ويقبل أن يكون الحكم من الشيعة أنفسهم ولكن مئات العلماء يمتنعون عن المناظرة المباشرة المكشوفة مع مسلم واحد متبع للسنة.
أرجو أن أكون قد قلت ما كنت أريد أن أقوله بصراحة وصفاء وإخلاص نصحاً لدين الله وللمسلمين، فأطمئن أنا إن أديت واجبي، وتتخذون أنتم ينفس ذلك الإخلاص والصفاء القرارات التي يكون فيها خير المسلمين وصلحهم وسير الدين إلى الأمام.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا }.
"وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
كرمافتان – أحمد مفتي زاده
13/10/1403ه
الرسالة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
قائد الثورة الإمام الخميني:(193/31)
تتمة وتابع للرسالات التي بعثها إليكم في الثالث والعشرين والخامس والعشرين والثامن والعشرين من شهر شوال الماضي، وإظهاراً للفرح بما تضمنه بيانكم الأخير من الإيجابية في مسائل كردستان – على أن كونه مفيداً أو غير مفيد متفرع عن نوعية النية التنفيذية – ورجاء كذلك: أن يكون تنفيذ مضمون بيانكم في اتجاهه إيجابي، سبباً لشفاء الشعب الكردي المنكوب في بعض الأمة، وإحياء الأخوة بين المسلمين أرى من واجبي الديني التذكير بما يلي:
1 – إن مجموعة المسؤولين الحكوميين الحاليين في كردستان لا تملك – نظراً للغاية التي بعثها على حمل المسؤولية – استطاعة تنفيذ البيان في اتجاهه الإيجابي (يشهد على هذا ما صار إليه البيان الصادر في الخريف قبل الماضي) فإن الاضطرابات التي تمثل جانباً منها الأحداث الأخيرة، إنما نشأت من الطريقة التي تسير عليها هذه المجموعة، أو من النيات التي تلتزم المجموعة بالسير عليها هذه المجموعة، أو من النيات التي تلتزم المجموعة بالسير خلفها، وهذه النيات آخذة في اتجاه مضاد لخير الشعب ومصلحته تماماً. فإن يكن مقرراً أن يتخذ بشأن البيان إجراء إسلامي جاد، يجب – للوصول إلى ذلك – وضع حد لهذه المشكلة. ولعل بعث مجموعة من الأشخاص المؤمنين الناصحين للشعب والثورة يكون نافعاً في هذا المجال.(193/32)
2 - إن الظلم والتمييز الخاطئ اللذين يحملان على أهل السنة لا يختصان بكردستان. بل يعمان المناطق السنية بأسرها. يدل على هذا الواقع المرير إقرار المجلة الرسمية الناطقة باسم "جهاد سازندكي" المؤسسة السياسية الاجتماعية الوحيدة للسلطة بالمهمة المنوطة بهذه المؤسسة بشأن مشروع صرف متبعي سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم – عن مذهبهم (حيث نشرت خبراً عن نجاحها في صرف تسعة أشخاص عن مذهبهم إلى التشيع – المترجم). وكذلك اعتقال عدد من المسلمين الملتزمين في بلوجستان وغيرها، لأنهم لا يستسلمون لإدارة السلطات المحاربة للسنة. وحدث هذا في نفس الحين الذي اعتقل فيه عشرات من منتسبي "مكتب قرآن" في كثير من مدن وقصبات كردستان بنفس السبب.(193/33)
3 - لما علمت بعد انتصار الثورة بشهور، أن السلطة ليس لديها استعداد لتأسيس "مجلس الشورى الإسلامية الأعلى" مؤلفاً من جميع العلماء المسلمين في العالم، وجعل إيران نقطة ارتكاز العالم الإسلامي. ودفع الثورة إلى الأمام لتعم جميع البلاد، حصرت كل مساعي زماناً طويلاً، في أن يكون الدستور في بعض المسائل الأساسية على الأقل مطابقاً للشريعة الإسلامية وغير موقع الشقاق بين الأخوين السني والشيعي. ولما لم يقبلوا هذا الاقتراح الصغير أيضاً، وفوق ذلك ظهر سوء نيات بعض السادة في حق أهل السنة، من بيانات بعض الممثلين في مجلس الخبراء (منها تصريح السيد خامنة أي بأنه لا يمكن أن يصادق على قانون يتضمن الاعتراف بتساوي الحقوق بين السني والشيعي أعلنت – امتثالاً لأمر الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ...}، لشعب إيران: أن الدستور لا يطابق الشريعة الإسلامية، وذكرت السادة في أطروحة إصلاحية أعددتها – بأنه يجب أن يكونوا معنيين في أصول وفصول القانون المختلفة بالمطابقة إيجاباً وسلباً مع الموازين الشرعية لا الدستور، وكتبت فيها أدلة الاقتراح أيضاً. وأن معظم الاتهامات والافتراءات والعداوة والحقد من أكثر رؤساء النظام، إما لأني قلت قول الحق عن الدستور في حين أنكم أكدتم على هذا الأمر بأسلوب أشد في هذه الأيام الأخيرة، حتى أنكم رأيتم الذين يستندون إلى الدستور، بدل الاستمساك بالشريعة، مستحقين للازدراء والمعاقبة الشديدة. وإنه لمثير للعجب أن يكون إعلان الحق في قضية مبرراً لنسبة الكفر والنفاق وتوجيه أنواع الافتراء إليّ وإلى آلاف المسلمين من متبعي السنة، ولكن ذلك الحق نفسه يعلن بتعبير أشد من جانبكم، دون أن يعترض السادة المدافعون عن الدستور بكلمة واحدة!(193/34)
وكان السعي لتأسيس مجلس "الشورى المركزي للسنة" أيضاً، مسبباً عن الوقوف على تلك النية، التي نشأ عنها ذلك الدستور المثير للشقاق. كما كانت بعد ذلك منشأ لأحداث ظهرت في مجالات مختلفة. ويعلم الله العليم الخبير الذي { يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } أنه لم يكن لي من غاية من تأسيس "الشورى المركزية للسنة" إلا ما قد أعلنته مراراً كتابة ومقالاً، وهو على الأقل أن يرفع الظلم والتمييز الخاطئ والأذى عن أهل السنة، وعلى الأكثر أن يقع ما كنت أرجوه من الثورة أيامها الأولى. أعني تأسيس مجلس الإسلامية الأعلى، الذي يستطيع أن يكون سبباً لحل معضلة الخلافات المذهبية وإزالتها وإحياء وحدة الأمة. ويعلم أيضاً. ما افتروه من التهم وما لاقوه من قلوب الآخرين كذلك من الوساوس و { وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }، وأحكم الحاكمين، وكفى بالله شهيداً وأرجو أن يأتي الله بيوم، تصرحون فيه أنتم أيضاً بالحق في هذه القضية كذلك – التي هي السبب الثاني لعداوة وافتراءات السادة بوضوح تام، كما صرحتم بالحق في القضية الأولى بأشد أسلوب.(193/35)
4 - أن لا يكون إصلاح الدستور، وجعله مطابقاً للشريعة الإسلامية اليوم في النية، فمروا على الأقل المجموعة المقترح بعثها في البند الأول من تحقق حول الإجرامات والجنايات التي ارتكبها رجال السلطة في حق أهل السنة (وقد أشرنا في الرسالات المتعددة قبل اليوم إلى نماذج منها) تحقيقاً عاما لكل المناطق علينا صريحاً – كما هو الشأن في نظام الحكم الإسلامي ولا ريب أن توقع إقامة النظام الإسلامي بكل جوانبها المختلفة من هذه السلطة عن قريب، مع ما هي مبتلاة، به من المعاجز والمعضلات والاضطرابات المختلفة، وغفلة عن الواقع. ولكن لا مانع من التوقع، أولاً: أن يكون دستور سائر القوانين في البلاد مطابق للشريعة الإسلامية في احترام أصل "إلزام بما هو التزام" وغير مفرقة بين الأخوة، وثانياً: أن لا يرتكب الظلم والجناية في حق أهل السنة في العمل أو يحقق حول القضية، أن ارتكب وبلغ صوت الاعتراض سمع أصحاب السلطان، لا أن يريدوا أن يكرهوا المعترض على الصمت، عن طريق الافتراء والبهتان والاعتقال والنفي والتسريح من الدوائر والنهب وسائر الأساليب الجائرة.
وفي الختام، أعلن القضية التي أعلنتها مراراً بعبارات مختلفة، أعلنها هذه المرة أيضاً بهذه العبارة:
إنني مستعد أن أعمل لإيضاح الحق في القضايا، بأية كيفية يريدها رؤساء السلطة، من المناظرة العلنية بمرأى من الناس ومسمع، إلى المحاورة بحضرة أشخاص موثوق بهم من أولئك الرؤساء، وإلى كتابة المسائل، وإلى الابتهال. وأعلن مرة أخرى: أنني لا أجد ذنباً يكون سبباً لعداوة السادة معي ومع سائر المسلمين غير المستسلمين لهم من أهل السنة، إلا القضيتين اللتين أشير إليهما قبل ( 1 – الاعتقاد بعدم مطابقة الدستور للموازين الإسلامية – الذي صرحتم به أنتم أيضاً بآخره.(193/36)
2 - الاعتراض على إجراءات رجال السلطة الجائرة في حق متبعي السنة). وإن كان لنا ذنب آخر غير هذين فإننا نشكر السادة كثيراً أن يعلنوه بوضوح ومع الدليل. لنشاركهم نحن أيضاً إعلان الحق للجميع. وإلا فليخافوا من المصير الذي صار إليه سائر الظالمين في هذه الحياة الدنيا، { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ } { وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ }.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
طهران – أحمد مفتي زاده
5/11/1430ه
الفصل الرابع
الصلاة خلف أهل السنة
الشيعة لا تجوّز الصلاة خلف أهل السنة إلا ما كان عن تقية يتقي بها الشيعي أهل السنة حيث أن السني عندهم كافر كفر ردة لا كفر أصلي، وذلك راجع إلى عدم إيمانهم بأساطير الشيعة بدءاً من عصمة الأئمة الاثني عشر وانتهاء برجعة المهدي الخرافة.
ولقد وردت أحاديث كثيرة في كتب الشيعة تنهى إلا ما كان عن تقية كما قلنا. وفي كتب معتمدة مثل الكتب الأربعة: الكافي، من لا يحضره الفقيه، التهذيب، والاستبصار.
ونظراً لأهمية هذه النقطة حيث أن بعض الشباب المسلم انخدع ببعض رجالات الشيعة وشبابهم أثناء تأديتهم الصلاة معهم في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا. والحقيقة التي ذكرها لي بعض الأخوة الذين يدرسون هناك أن الشيعة لا يحضرون صلاة الجماعة في مساجد أهل السنة إلا من أجل توزيع منشورات الخميني وجمع التبرعات له ولطغمته، وذلك قبل وصول الخميني من فرنسا إلى إيران وبعد ذلك لم يشاهدوا في صلاة الجماعة.
وسنحاول في هذه الصفحات القليلة – إن شاء الله تعالى – إلقاء الضوء حول صحة الصلاة أو عدم صحتها بالنسبة للشيعي إذا صلى خلف أهل السنة وذلك من كتبهم المعتمدة والموثوقة وإليك بعضها:
1 - عن زرارة قال: سألت أبا جعفر – عليه السلام – عن الصلاة خلف المخالفين.(193/37)
فقال: ما هم عندي إلا بمنزلة الجدار(1).
2 - عن الفضل بن يسار قال:
سألت أبا جعفر – عليه السلام – عن مناكحة الناصب والصلاة خلفه.
فقال: لا تناكحه ولا تصل خلفه(2).
وعلّق الحر العاملي في الوسائل ج3 ص383 على هذه الرواية: هذا مخصوص بغير وقت التقيّة.
3 - عن علي بن سعد البصري قال:
قلت لأبي عبد الله – عليه السلام -: إني نازل في بني عدي، ومؤذنهم وإمامهم وجميع أهل المسجد عثمانية(3) يبرؤون منكم ومن شيعتكم، وإني نازل فيهم، فما ترى الصلاة خلف الإمام؟
قال صلّ خلفه.
قال: قال: واحتسب بما تسمع. ولو قدمت البصرة وسألت الفضيل بن يسار، وأخبرته بما أفتيك، فخذ بقول الفضيل ودع قولي. فقال: هو أعلم، لكني قد سمعته وسمعت أباه يقولان:
لا تعتد بالصلاة خلف الناصب، واقرأ لنفسك كأنك وحدك.
قال: فأخذت بقول الفضيل وتركت قول أبي عبد الله – عليه السلام -(4).
4 - عن إسماعيل الجعفي قال:
قلت لأبي جعفر – عليه السلام -: رجل يحب أمير المؤمنين ولا يبرأ من عدوه(5)، ويقول هو أحَبّ إليّ ممن خالفه.
__________
(1) وسائل الشيعة للحر العاملي ج3 ص429، باب وجوب القراءة خلف من لا يُقتدى به واستحباب الأذان والإقامة وسقوط الجهر وما يتعذر من القراءة مع التقيّة وأنّه يجزئ منها مثل حديث النفس. الفروع من الكافي للكليني ج1 ص373، باب الصلاة خلف من لا يقتدي به. الحدائق الناضرة للبحراني ج11 ص77، الوافي للفيض الكاشاني في ج5 ص164.
(2) وسائل الشيعة ج3 ص383 .
(3) أي سنة.
(4) الحدائق الناضرة ج7 ص73، وسائل الشيعة ج3 ص429 .
(5) يقصد الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً، حيث إن الرافضة يزعمون أن المحبة لآل البيت لا تصح إلا بالبراءة من الصحابة، لأنهم – على حد زعمهم – اغتصبوا الخلافة.(193/38)
قال: هذا مخلّط وهو عدو لا تصلِّ خلفه ولا كرامة إلا أن تتقيه(1).
5 - عن زرارة قال: قلت أبي عبد الله. عليه السلام -:
أكون مع الإمام فأفرغ من القراءة قبل أن يفرغ؟
قل: ابق آية ومجد الله واثن عليه، فإذا فرغ فاقرأ الآية واركع(2).
6 - عن إسحاق بن عمار عمّن سأل أبا عبد الله – عليه السلام -.
قال: أصلي خلف من لا أقتدي به فإذا فرغت من قراءتي ولم يفرغ هو؟ قال: فسبّح حتى يفرغ(3).
7 - عن الحلبي عن أبي عبد الله – عليه السلام – قال:
إذا صليت خلف إمام لا تقتدي به فاقرأ خلفه سمعت قراءته أو لم تسمع(4).
8 - عن حمران بن أعين قال: قلت لأبي جعفر – عليه السلام -:
جعلت فداك إنّا نصلّي مع هؤلاء يوم الجمعة وهم يصلّون في الوقت فكيف نصنع؟
فقال: صلّوا معهم.
فخرج حمران إلى زرارة فقال له: قد أمرنا أن نصلّي معهم بصلاتهم.
فقال زرارة: ما يكون هذا إلا بتأويل.
فقال له حران: قم حتى تسمع منه.
قال: فدخلنا عليه.
فقال له زرارة: جعلت فداك إنّ حمران زعم أنّك أمرتنا أن نصلي معهم فأنكرت ذلك.
__________
(1) تهذيب الأحكام للطوسي ج3 ص28، وسائل الشيعة ج3 ص389 "باب اشتراط كون إمام الجماعة مؤمناً موالياً للأئمة، وعدم جواز الاقتداء بالمخالف في الاعتقادات الصحيحة الأصولية إلا لتقيّة"، من لا يحضره الفقيه ج1 ص249 وانظر تعليق ابن بابويه مؤلف الكتاب على هذه الرواية.
(2) الفروع من الكافي 1/373، وسائل الشيعة ج3 ص432، التهذيب ج3 ص39، الوافي ج5 ص163 .
(3) الفروع الكافي 1/373، وسائل الشيعة ج3 ص432، الوافي ج5 ص163 .
(4) الفروع من الكافي 3/373، تهذيب الأحكام للطوسي ج3 ص35، الحدائق الناضرة ج11 ص74، وسائل الشيعة ج3 ص429، الاستبصار للطوسي ج1 ص429، الوافي للفيض الكاشاني ج5 ص163 .(193/39)
فقال لنا: كان علي بن الحسين صلوات الله عليهما يصلّي معهم الركعتين فإذا فرغوا قام فأضاف إليهما ركعتين(1).
9 - عن يعقوب بن يقطين قلت لأبي الحسن – عليه السلام -:
جعلت فداك تحضر صلاة الظهر، فلا نقدر أن ننزل في الوقت حتى ينزلوا وننزل معهم، فنصلّي ثم يقومون فيسرعون، فنقوم فنصلّي العصر ونريهم كأنّا نركع ثمّ ينزلون للعصر فيقدموننا فنصلّي بهم؟
فقال: صلِّ بهم، لا صلّى الله عليهم(2).
10 - عن الحلبي عن أبي عبد الله – عليهم السلام – قال:
من صلّى معهم في الصف الأول كان كمن صلّى خلف رسول الله صلّى الله عليه وآله(3).
11 - عن الحسين بن عبد الله الأرجانيّ عن أبي عبد الله – عليه السلام – قال:
من صلّى في منزله ثمّ أتى مسجداً من مساجدهم فصلّى معهم خرج بحسناتهم(4).
12 - عن إسحاق بن عمار(5) قال: قلت لأبي عبد الله – عليه السلام -:
إني أدخل المسجد فأجد الإمام قد ركع وقد ركع القوم فلا يمكنني أن أؤذن وأقيم وأكبر؟
فقال لي: فإذا كان ذلك فأدخل معهم في الركعة واعتدّ بها فإنها من أفضل ركعاتك.
__________
(1) الفروع من الكافي 3/375، الحدائق الناضرة ج11 ص77، الوافي ج5 ص164 .
(2) الفروع من الكافي 3/279-280، الحدائق الناضرة ج11 ص74، الوافي ج5 ص3 ص164 .
(3) الفروع الكافي 3/380، الحدائق الناضرة ج11 ص71 .
(4) الفروع من الكافي 3/381، الحدائق الناضرة ج11 ص72، من لا يحضره الفقيه لابن بابويه القمي ج1 ص265، بحار الأنوار ج5 ص164 .
(5) تهذيب الأحكام ج3 ص38، الحدائق الناضرة ج7 ص73، الاستبصار للطوسي ج1 ص431-432، الوافي ج5 ص164 .(193/40)
قال إسحاق: فلما سمعت أذان المغرب وأنا على باب قاعد قلت للغلام: انظر أقيمت الصلاة؟ فجاءني فقال: نعم فقمت مبادراً فدخلت المسجد فوجدت الناس قد ركعوا، فركعت مع أول صف أدركته واعتددت بها، ثم صليت بعد الانصراف أربع ركعات ثم انصرفت، فإذا خمسة أو ستة من جيراني قد قاموا إليّ من المخزوميين والأمويين فأقعدوني.
ثم قالوا: يا أبا هاشم جزاك الله عن نفسك خيراً، فقد والله رأينا خلاف ما ظننا بك وما قيل فيك.
فقلت: وأي شيء ذلك؟
قالوا: اتبعناك حين قمت إلا الصلاة ونحن نرى أنك لا تقتدي بالصلاة معنا، فقد وجدناك قد اعتددت بالصلاة معنا، وصليت بصلاتنا، فرضي الله عنك وجزاك خيراً.
قال: فقلت لهم: سبحان الله المثلي يقال هذا؟!
قال: فعلمت أن أبا عبد الله – عليه السلام – لم يأمرني إلا وهو يخاف على هذا وشبهه.
13 - عن إسحاق بن عمار قال:
قال لي أبو عبد الله – عليه السلام -: اتصلي معهم في المسجد؟
قلت: نعم.
قال: صلّ معهم فإن المصلّي معهم في الصف الأول كالشاهر سيفه في سبيل الله(1).
وقال البحراني في الحدائق الناضرة ج11 ص71: قال في الوافي: إنما قيد بالصف الأول لأنه أدخل في معرفتهم بإتيانه المسجد وأدل على كونه منهم، وإنما شبهه بشاهر سيفه في سبيل الله لدفعه شر العدو.
14 - عن الصادق – عليه السلام -:
إذا صليت معهم غفر لك بعدد من خالفك(2).
15 - عن حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله – عليه السلام – أنه قال:
من صلّى معهم في الصف الأول كان كمن صلّى خلف رسول الله صلّى الله عليه وآله في الصف الأول(3).
16 - عن عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله – عليه السلام – أنه قال:
__________
(1) الحدائق الناضرة ج11 ص71، وسائل الشيعة ج3 ص382 .
(2) الحدائق الناضرة ج11 ص71-72، من لا يحضره الفقيه ج1 ص265 .
(3) وسائل الشيعة ج3 ص381، مستدرك الوسائل ج1 ص490 .(193/41)
ما منكم أحد يصلي صلاة الفريضة في وقتها، ثم يصلي معهم صلاة تقيّة وهو متوضئ إلا كتب الله له بها خمساً وعشرين درجة فارغبوا في ذلك(1).
17 - عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله – عليه السلام – أنه قال:
ما من عبد يصلّي في الوقت ويفرغ ثم يأتيهم ويصلّي معهم وهو على وضوء إلا كتب الله له خمساً وعشرين درجة(2).
18 - عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله – عليه السلام – أنه قال:
إن على بابي مسجداً يكون فيه قوم مخالفون معاندون وهم يمسون في الصلاة، فأنا أصلّي العصر ثم أخرج فأصلّي معهم؟
فقال: أما تحب (ترضى) أن تحسب لك بأربع وعشرين صلاة(3).
19 - عن عمّار الساباطيّ(4) عن أبي عبد الله – عليه السلام – (في حديث) قال:
أن من صلّى منكم اليوم صلاة فريضة في جماعة مستتراً بها من عدوّه في وقتها فأتمّها كتب الله تعالى له خمسين صلاة فريضة في جماعة، ومن صلّى منكم صلاة فريضة وحده مستتراً من عدوه في وقتها فأتمّها كتب الله تعالى له بها خمساً وعشرين صلاة فريضة وحدانية، ومن صلّى منكم صلاة نافلة لوقتها فأتمها كتب الله تعالى له بها عشر صلوات نوافل، ومن عمل منكم حسنة كتب الله تعالى له بها عشرين حسنة، ويضاعف الله عز وجل حسنات المؤمن منكم إذا أحسن أعماله ودان بالتقيّة على دينه وإمامه ونفسه وأمسك من لسانه أضعافاً مضاعفة، إن الله عز وجل كريم.
__________
(1) وسائل الشيعة ج3 ص383، الحدائق الناضرة ج11 ص72 .
(2) وسائل الشيعة ج3 ص383، الحدائق الناضرة ج11 ص72، من لا يحضره الفقيه ج1 ص265 .
(3) وسائل الشيعة ج3 ص383-384، الحدائق الناضرة ج11 ص72 من لا يحضره الفقيه ج1 ص265 .
(4) وسائل الشيعة ج3 ص384 .(193/42)
أقول: ربما يتراءى للقراء الكرام أن هذه الرواية لا علاقة بها بالصلاة خلف المخالف للرافضة. فأقول: إن الحر العاملي ذكر هذه الرواية في وسائل الشيعة ج3 ص384 ضمن باب: "استحباب إيقاع الفريضة قبل المخالف أو بعده وحضورها معه" وهو يعلم أن هذه الرواية ضمن الروايات الدالة على حضور صلاة الجماعة مع المخالفين على سبيل المداراة والتقيّة. وكما يقولون: أهل مكة أدرى بشعابها.
20 - عن نشيط بن صالح، عن أبي عبد الله – عليه السلام – قال:
قلت له: الرجل منا يصلي صلاته في جوف بيته مغلقاً عليه بابه ثم يخرج فيصلّي مع جيرته، تكون صلاته تلك وحده في بيته جماعة؟
فقال: الذي يصلّي في بيته يضاعف الله له ضعفي أجر الجماعة تكون له خمسون درجة، والذي يصلّي مع جيرته يكتب الله له أجر من صلّى خلف رسول الله صلّى الله عليه وآله، ويدخل معهم في صلاتهم فيخلف عليهم ذنوبه ويخرج بحسناتهم(1).
21 - عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله – عليه السلام – قال:
قلت إني أدخل المسجد وقد صليت فأصلّي معهم فلا أحتسب بتلم الصلاة؟
قال: لا بأس. وأما أنا فأصلّي معهم وأريهم أني أسجد وما أسجد(2).
22 - عن ناصح المؤذن قال:
قلت لأبي عبد الله – عليه السلام -: إني أصلّي في البيت وأخرج إليهم؟
قال: اجعلها نافلة ولا تكبر معهم فتدخل معهم في الصلاة فإن مفتاح الصلاة التكبير(3).
23 - عن أبي الربيع، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السلام في حديث: أنه سئل عن الإمام إن لم أكن أثق به أصلي خلفه وأقرأ؟
قال: لا، صلّ قبله أو بعده.
قيل له: أفأصلّي خلفه وأجعله تطوعاً؟
قال: فقال: لو قبل التطوع لقبلت الفريضة ولكن اجعلها سبحة(4).
__________
(1) الحدائق الناضرة ج11 ص72، وسائل الشيعة ج3 ص384-385 .
(2) الحدائق الناضرة ج11 ص74، وسائل الشيعة ج3 ص385 .
(3) الحدائق الناضرة ج11 ص74، وسائل الشيعة ج3 ص385 .
(4) الحدائق الناضرة ج11 ص74، وسائل الشيعة ج3 ص384 .(193/43)
24 - عن عليّ بن يقطين قال:
سألت أبا الحسن – عليه السلام – عن الرجل يصلّي خلف من لا يقتدي بصلاته والإمام يجهر بالقراءة؟
قال: اقرأ لنفسك وإن لم تسمع نفسك فلا بأس(1).
25 - عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله – عليه السلام – قال: سألته عن الرجل يؤم القوم وأنت لا ترضى به في صلاة يجهر فيها بالقراءة؟
فقال إذا سمعت كتاب الله يتلى فأنصت له.
قلت: فإنه يشهد عليّ بالشرك؟
قال: إن عصى الله فأطع الله.
فرددت عليه، فأبى أن يرخص لي.
قال: قلت له: أصلّي إذن في بيتي ثم أخرج إليه؟
فقال: أنت وذاك(2).
26 - عن أبي بصير قال: قلت لأبي جعفر – عليه السلام -:
من لا أقتدي الصلاة؟
قال: افرغ قبل أن يفرغ، فإنك في حصار فإن فرغ قبلك فاقطع القراءة، واركع معه(3).
27 - عن بكير بن أعين قال:
سألت أبا عبد الله – عليه السلام – عن الناصب يؤمّنا ما تقول في الصلاة معه؟
قال: أما إذا جهر فأنصت للقراءة واسمع ثم اركع واسجد أنت لنفسك(4).
28 - عن زرارة، عن أبي جعفر – عليه السلام – قال:
لا بأس بأن تصلي الناصب ولا تقرأ خلفه فيما يجهر فيه، فإن قراءته يجزيك إذا سمعتها(5).
وعلّق العاملي على الرواية فقال: ذكر الشيخ أنه محمول على التقيّة، أو على ترك الجهر دون القراءة.
وقال الكاشاني في الوافي: هذه الأخبار حملها في التهذيب على شدّة التقيّة والخوف.
29 - عن صفوان الجمّال قال:
__________
(1) الحدائق الناضرة ج11 ص74، وسائل الشيعة ج3 ص427، التهذيب ج3 ص36، الوافي ج5 ص163 .
(2) الحدائق الناضرة ج11 ص75، وسائل الشيعة ج3 ص430، التهذيب للطوسي ج3 ص35، الاستبصار للطوسي ج1 ص430 .
(3) وسائل الشيعة ج3 ص430 "باب سقوط القراءة خلف من لا يقتدي به مع تعذّرها والاجتزاء بإدراك الركوع مع شدّة التقيّة.
(4) وسائل الشيعة ج3 ص431، الاستبصار للطوسي ج1 ص430، الوافي ج5 ص163 .
(5) وسائل الشيعة ج3 ص431، التهذيب ج3 ص35، الوافي ج5 ص164 .(193/44)
قلت لأبي عبد الله – عليه السلام -: إن عندنا مصلّي لا نصلّي فيه وأهل نصّاب وإمامهم مخالف فأتمّ به؟
قال: لا.
قلت: إن قرأ أقرأ خلفه؟
قال: نعم.
قلت: فإن نفدت السورة قبل أن يفرغ.
قال: سبّح وكبّر إما هو بمنزلة الفنوت وكبّر وهلّل(1).
30 - عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا – عليه السلام – قال: قلت له: إني أدخل مع هؤلاء في صلاة المغرب فيعجلوني إلى ما أن أؤذن وأقيم ولا أقرأ إلا الحمد حتى يركع أيجرئني ذلك؟
فقال: نعم يجزيك الحمد وحدها(2).
وعلّق الطوسي في التهذيب على هذه الرواية بقوله:
ويحتمل أيضاً أن يكون الخبر متناولاً لحال التقيّة لأنه إذا كان الحال تقيّة وخوف لم يلحق الإنسان القراءة معهم جاز له ترك القراءة والاعتداد بتلك الصلاة بعد أن يكون قد أدرك الركوع.
وأيضاً يقول في الاسبتصار: ويحتمل أن يكون الخبر مخصوصاً بحال التقيّة فإن ذلك يجوز إذا أتى بالركوع والسجود.
31 - عن محمد بن إسحاق، ومحمد بن أبي حمزة ذكره عن أبي عبد الله – عليه السلام – قال:
يجزيك إذا كنت معهم، القراءة مثل حديث النفسي(3).
32 - عن عبد الله بن بكير، عن الصادق – عليه السلام – قال:
من صلى معهم في الصف الأول فكأنما صلّى مع رسول الله صلّى الله عليه وآله في الصف الأول(4).
33 - تفسير الإمام قال – عليه السلام -: نظر الباقر – عليه السلام – إلى بعض شيعته وقد دخل خلف بعض المخالفين إلى الصلاة، وأحسّ الشيعي بأنَّ الباقر – عليه السلام – قد عرف ذلك منه فقصده.
وقال: أعتذر يا ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله من صلاتي خلف فلان فإني أتقيّة، لولا ذلك لصلّيت وحدي.
__________
(1) وسائل الشيعة ج3 ص433 .
(2) تهذيب الأحكام ج3 ص37، الاستبصار للطوسي ج1 ص432، الوافي ج5 ص163 .
(3) الاستبصار للطوسي ج1 ص430، الوافي ج5 ص163 .
(4) بحار الأنوار للمجلسي ج85 ص87، أمالي الصدوق.(193/45)
قال الباقر – عليه السلام -: يا أخي إنما كنت تحتاج أن تعتذر لو تركت، يا عبد الله المؤمن!! ما زالت ملائكة السماوات والسبع والأرضين السبع تصلّي عليك وتلعن إمامك ذاك، وإن الله أمر أن يحسب لك صلاتك خلفه للتقيّة بسبع مائة صلاة لو صلّيتها وحدك فعليك بالتقيّة(1).
34 - فقه الرضا: قال – عليه السلام -:
ولا تصلّي إلا خلف رجلين: أحدهما من تثق به وتدينه وورعه وآخر من تتقي سيفه وسوطه وشرّه وبوائقه وشنعته، فصلِّ خلفه على سبيل التقية والمداراة وأذّن لنفسك وأقم واقرأ منها لأنه غير مؤتمن به، فإذا فرغت قبله من القراءة أبق آية حتى تقرأ وقت ركوعه، وإلا فسبّح إلى أن تركع(2).
35 - عن يونس بن يعقوب قال:
قال لي أبو الله – عليه السلام -: يا يونس قل لهم يا مؤلفة! قد رأيت ما تصنعون إذا سمعتم الأذان أخذتم نعالكم وخرجتم من المسجد(3) وعلّق المجلسي عليها بقوله:
بيان: "قل لهم" أي للشيعة، وخطابهم بالمؤلفة تأديب لهم، وتنبيه على أنهم ليسوا من شيعتهم واقعاً، بل هم من المؤلفة قلوبهم، وذلك لأنهم كانوا يسمعون قوله ولا يتّبعونه في التقيّة، لأنهم بعد الأذان كانوا يخرجون من المسجد لئلا يصلوا مع المخالفين، فيدلُّ على لزوم الصلاة خلفهم عند التقيّة.
36 - سأل أبو عبد الله الشاذاني أبا محمد الفضل بن شاذان: أنّا ربما صلينا مع هؤلاء صلاة المغرب فلا نحبّ أن ندخل البيت عند خروجنا من المسجد فيتوهموا علينا أن دخولنا المنزل ليس إلا لإعادة الصلاة التي صلينا معهم، فنتدافع بصلاة المغرب إلى صلاة العتمة؟
__________
(1) بحار الأنوار ج85 ص89، مستدرك الوسائل ج1 ص489-490 .
(2) فقه الرضا ص14، نقلاً عن بحار الأنوار ج85 ص106. مستدرك الوسائل للنوري ج1 ص490 .
(3) بحار الأنوار ج85 ص94 .(193/46)
فقال: لا تفعلوا هذا من ضيق صدوركم، ما عليكم لو صلّيتم معهم فتكبّروا في مرّة واحدة ثلاثاً أو خمس تكبيرات وتقرأوا في كل ركعة الحمد وسورة، أي سورة شئتم، بعد أن تتمّوها عندما يتمّ إمامهم وتقولون في الركوع "سبحان ربّي العظيم وبحمده" بقدر ما يتأتى لكم وقد تمت صلاتكم لأنفسكم، وليكن الإمام عندكم والحائط بمنزلة واحدة، فإذا فرغ من الفريضة فقوموا معهم فصلّوا السّنّة بعدها أربع ركعات.
فقال: يا أبا محمد أفليس يجوز إذا فعلت ما ذكرت؟
قال: نعم.
قال: فهل سمعت أحداً من أصحابنا يفعل هذه الفعلة؟
قال: نعم، كنت بالعراق وكان صدري يضيق عن الصلاة معهم كضيق صدوركم، فشكوت إلى فقيه يقال له نوح بن شعيب فأمرني بمثل الذي أمرتكم به. فقلت: هل يقول هذا غيرك؟ قال: نعم. فاجتمعت معه في مجلس فيه نحو من عشرين رجلاً من مشايخ أصحابنا فسألته – يعني نوح بن شعيب – أن يجري بحضرتهم ذكراً مما سألته من هذا، فقال نوح بن شعيب: يا معشر من حضر ألا تعجبون من هذا الخراساني الغمر يظن في نفسه أنه أكبر من هشام بن الحكم، ويسألني هل يجوز الصلاة مع المرجئة في جماعتهم؟
فقال: جميع من كان حاضراً من المشايخ كقول نوح بن شعيب فعندها طابت نفسي(1).
37 - عن عبد الله بن حبيب بن جندب قال:
قلت لأبي بعد الله – عليه السلام -: إني أصلّي المغرب مع هؤلاء وأعيدها فأخاف أن يفتقدوني؟
قال: إذا صليت الثالثة فمكّن في الأرض أليتك، ثم انهض وتشهّد وأنت قائم، ثم اركع واسجد فإنهم يحسبون أنها نافلة(2).
38 - جامع الأخبار: عن النبي صلّى الله عليه وآله أنه قال:
من صلى خلف المنافقين بتقيّة كان كمن صلى خلف الأئمة(3).
39 - عن أبي جعفر محمد بن علي – عليهما السلام – أنه قال:
لا تصلوا خلف ناصب ولا كرامة(4).
__________
(1) بحار الأنوار ج85 ص95 .
(2) بحار الأنوار ج85 ص101 .
(3) مستدرك الوسائل للنوري ج1 ص490 .
(4) مستدرك الوسائل ج1 ص490 .(193/47)
وبعد هذا كلّه لا أظن القارئ الكريم بحاجة إلى بيان حول صحة الصلاة أو عدمها خلف أهل السنة.
الفصل الخامس
الشيعة ونكاح أهل السنة
على أثر إصدار الرافضة حكم التكفير والتفسيق والضلالة على أهل السنة، رتّبوا كافة الأحكام الفقهية الناتجة على ذلك الحكم وطبّقوها على أهل السنة.
لذا فإننا نراهم لا يجيزون نكاح أهل السنة، بل إنهم يفضّلون نكاح اليهودية والنصرانية والمجوسية على نكاح السّنّيّة، لأن الأخيرة عند الرافضة كافرة وإن انتحلت الإسلام على حد زعمهم. ذكرت هذا لأنَّ بعض المخدوعين بهم يقولون هذا ليس من اعتقاد الرافضة، ولما كان ذلك يحتاج إلى أدل من كتب الرافضة، فإنني بحثت هذه المسألة من كتب الرافضة التي تحظى بالاعتماد والثقة، وذلك لئلا يتبجح بعض المغفلين من أبناء أهل السنة بأن هذا إفكٌ مبين.
يقول الرافضي حسين آل عصفور في كتابه "المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية" ص154 :
وأما الجواب عن الثانية وهي أنه على القول بكفرهم وتنجيسهم هل التمتع ببناتهم ونسائهم جائز أم لا؟ فالظاهر أن كل من قال بكفرهم ونجاستهم لا ارتياب عنده في المنع من التمتع ببناتهم ونسائهم. والظاهر أنَّ عطف نسائهم على بناتهم في كلامه من باب عطف العام على الخاص.
وقد ذكر الأصحاب في هذا المقام بالنسبة إلى جواز التمتع من الناصبة المنع إلا أنهم بين قولين: وقائل بالمنع فيها مطلقاً، وقائل بتقييدها بالمعلنة. والظاهر أنهم أرادوا بها من تحقق نصبها بالمعنى الذي ذكرناه عنهم، وهو نصب العداوة لأهل البيت – عليهم السلام -، دون مطلق المخالفة كما اخترناه. والحق هنا هو التعميم لدلالة الأخبار على ذلك. ومِمّن صرّح بالتعميم المفيد في رسالة المتعة والأخبار في ذلك مستفيضة.
ويقول ص157 بعد أن استعرض الروايات الدالة على نكاح أهل السنة:(193/48)
وأنت إذا تأملت هذه الأحاديث من أولها إلى آخرها ظهر لك منها الجزم بالتحريم في التمتع بالصبية على وجه لا يحوم حوله شك على أنك قد عرفت سابقاً أنه ليس الناصب إلا عبارة عن التقديم على عليّ – عليه السلام – غيره سواء أعلنت بالعداوة لهم أو لشيعتهم أم لا، فتعليق التحريم على الإعلان كما ادعاه أكثر فقهائنا أو على تحقق العداوة كما عليه آخرون تقييد لهذه النصوص من غير حاجة.
ويقول أيضاً ص161: فالقول بالتحليل والكراهية إلم(1) يكونوا معلنين بالنصب أو التفصيل بين النساء والرجال، فيجوز نكاح نسائهم ولا يجوز لنسائنا مناكحتهم ضعيف جداً بين ما حققناه، فالتزام التحريم في النكاح مطلقاً ودواماً وملك يمين من الجانبين هو المعتمد إلا أن توجيه التقيّة ....
ومن منطلق تحريم الرافضة نكاح أهل السنة، فإن بعض علماء الرافضة ينكرون أن تكون رقيّة وأم كلثوم – رضي الله عنهما – من بنات المصطفى – عليه الصلاة والسلام -، وأنّه – عليه الصلاة والسلام – زوجهما عثمان بن عفان – رضي الله عنه – وأرضاه وجعل الجنة مثواه.
يقول نعمة الله الجزائري في كتابه "الأنوار النعمانية" ج1 ص80-81 :
وأما قوله: وأما عثمان فهو وإن شاركه في كونه ختنا له. أقول: الأختان اللتان أخذهما عثمان هما: رقيّة تزوجها عتبة بن أبي لهب فطلّقها قبل أن يدخل بها ولحقها منه أذى، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم اللهم سلّط على عتبة كلباً من كلابك، فتناوله الأسد من بين أصحابه، تزوجها بعده عثمان بن عفان فولدت له عبد الله ومات صغيراً، نقره ديك في عينيه فمرض ومات، وتوفيت بالمدينة زمن بدر فتخلّف عثمان على دفنها، ومنعه أن يشهد بدراً، وقد كان عثمان هاجر إلى الحبشة ومعه رقيّة، والأخرى أم كلثوم تزوجها أيضاً عثمان بعد أختها رقيّة وتوفيت عنده.
__________
(1) كذا بالنص، والصواب "إن لم"، والله أعلم.(193/49)
وقد اختلف العلماء لاختلاف الروايات في أنهما هل هما من بنات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من خديجة أو أنهما ربيبتاه من أحد زوجيها الأولين؟
فإنه أولاً قد تزوجها عتيق بن عائد المخزومي فولدت له جارية، ثم تزوجها أبو هالة الأسدي فولدت له هنداً بنت هالة، ثم تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وهذا الاختلاف لا أثر له لأن عثمان في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد كان ممن أظهر الإسلام وأبطن النفاق، وهو صلّى الله عليه وآله وسلّم قد كان مكلفاً بظواهر الأوامر كحالنا نحن أيضاً، وكان يميل إلى مواصلة المنافقين رجاء الإيمان الباطني منهم، مع أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لو أراد الإيمان الواقعي لكان أقل قليل، فإن أغلب الصحابة كانوا على النفاق لكن كانت نار نفاقهم كامنة في زمنه، ولذا قال – عليه السلام -: ارتدَّ الناس كلهم بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلا أربعة: سلمان، وأبو ذر، والمقداد، وعمّار، وهذا مما لا إشكال فيه. اه.
ويقول أبو القاسم الكوفي في كتابه "الاستغاثة في بدع الثلاثة"(1) ج1 ص75 وما بعدها:
__________
(1) أبو بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم جميعاً – ولعنة الله تعالى على كل من يبغضهم أو ينتقصهم.(193/50)
أما ما روت العامة(1) من تزويج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عثمان بن عفان رقيّة وزينب(2) فإن التزويج صحيح غير متنازع فيه، إنما التنازع بيننا وقع في رقيّة وزينب هل هما ابنتا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أم ليستا ابنتيه؟ وليس لأحد من أهل النظر إذا وجد تنازعا من خصمين، كل منهما يدّعي أنَّ الحق معه، وفي يده الميل إلى أحد الخصمين دون الآخر بغير بيان وإيضاح، ويجب البحث عن صحة كل واحد منهما بالنظر والاختبار والتفحص والاعتبار. فإذا اتضح له الحق منهما وبان له الصدق من أحدهما اعتقد عند ذلك قول المحق من الخصمين، وأطرح الفاسد من المذهبين، ولم يدحضه كثرة مخالفيه وقلّة عدد مؤلفيه، فإن الحق لا يتضح عند أهل النظر والفهم والعلم والتميز والطلب لكثرة متّبعيه، ولا يبطل لقلة قائليه، وإنما يتحقق ويتضح الصدق بتصحيح النظر والتميز والطلب للشواهد والأعلام التي تجاب .... إن رقية وزينب زوجتي عثمان لم يكونا ابنتي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا ولد خديجة زوجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإنما دخلت الشبهة على العوام(3) فيهما لقلة معرفتهم بالأنساب وفهمهم بالأسباب.
__________
(1) يقصد أهل السنة.
(2) عثمان – رضي الله عنه – وأرضاه إنما تزوج رقيّة وأم كلثوم – رضي الله عنهما، ويبدوا أن معلومات هذا الرافضي في الأنساب والتاريخ ضعيفة للغاية والعجب أنه يعيب على أهل السنة قلة معرفتهم بالأنساب كما قال.
(3) يقصد أهل السنة والجماعة، فإن مصطلح "العوام" أو "العامة" كثيراً ما يرد في كتب الرافضة ويقصد به أهل السنة.(193/51)
ويقول أيضاً ص80: وصح لنا فيهما ما رواه مشايخنا من أهل العلم عن الأئمة من أهل البيت، وذلك أن الرواية صحت عندنا عنهم أنه كانت لخديجة بنت خويلد من أمها أخت يقال لها هالة قد تزوجها رجل من بني مخزوم، فولدت بنتاً اسمها هالة ثم خلف عليها بعد أبي هالة رجل من تميم يقال له أبو هند، فأولدها ابناً كان يسمى هنداً بن أبي هند وابنين، فكانتا هاتان منسوبتين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ......
وقد كفانا مؤنة الرد على هذا الهذيان المعلّق على الكتاب والمستتر تحت اسم "الكاتب"، ولا أدر وجه تستره وعدم الإفصاح عن اسمه، حيث أن كتاب الكوفي كله طعن وتجريح ولعن للصحابة رضوان الله تعالى عليهم جميعاً. فيقول في تعليقه على الكتاب ج1 ص89-91:
قد رأيت رأى صاحب الكتاب في زينب ورقيّة وأنهما ليستا ابنتي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا خديجة، وأن تزويج النبي صلّى الله عليه وسلّم إياهما عثمان بن عفان بعد عتبة بن أبي لهب، وأبي العاص بن الربيع صحيح غير متنازع فيه، ولكن خالف صاحب الكتاب في هذا الرأي جماعة من أساطين العلماء من الفقهاء والنسابين ممن لا يستهان بهم، منهم العلامة الشيخ المفيد فإنه في "أجوبة المسائل الحاجبية" في جواب المسألة المتممة للخمسين لما سئل عن ذلك، قال: إن زينب ورقية كانتا ابنتي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والمخالف لذلك شاذ بخلافه، فأما تزويجه صلّى الله عليه وسلّم بكافرين فإن ذلك قبل تحريم مناكحة الكفار، وكان له صلّى الله عليه وسلّم أن يزوجهما ممن يراه، وقد كات لأبي العاص وعتبة نسب برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان لهما محل عظيم إذ ذاك، ولم يمنع شرع من العقد لهما، فيمتنع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أجله.(193/52)
وقال في "أجوبة المسائل السروية" ما نصه: قد زوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنتيه قبل البعثة كافرين كانا يعبدان الأصنام أحدهما: عتبة بن أبي لهب، والآخر أبو العاص بن الربيع، فلما بعث صلّى الله عليه وسلّم فرق بينهما وبين ابنتيه، فمات عتبة على الكفر، وأسلم أبو العاص بعد إبائه الإسلام فردها عليه بالنكاح الأول، ولم يكن صلّى الله عليه وآله وسلّم في حال من الأحوال كافراً ولا موالياً لأهل الكفر، وقد زوج من تبرأ من دينه وهو معاد له في الله عز وجل. وهاتان البنتان هما اللتان تزوجهما عثمان بن عفان بعد هلاك عتبة وموت أبي العاص، وإنما زوجه النبي صلّى الله عليه وسلّم على ظاهر الإسلام ثم إنه تغيّر بعد ذلك، ولم يكن على النبي صلّى الله عليه وسلّم تبعاً فيهما يحدث في العاقبة، هذا على قول أصحابنا، وعلى قول فريق آخر أنه زوجه على الظاهر، وكان باطنه مستوراً عنه ويمكن أن يستر الله عن نبيه – عليه السلام – نفاق كثير من المنافقين، وقد قال الله سبحانه: { وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } فليكن في أهل مكة كذلك، والنكاح على الظاهر دون الباطن على ما بيّناه (ثم قال) ويمكن أن يكون الله تعالى قد أباحه مناكحة من تظاهر بالإسلام وإن علم من باطنه النفاق وخصه بذلك ورخص له فيه كما خصه في أن يجمع بين أكثر من أربع حرائر في النكاح، وأباحه أن ينكح بغير مهر، ولم يحظر عليه المواصلة في الصيام ولا الصلاة بعد قيامه من النوم بغير وضوء وأشباه ذلك مما خص به وحظر على غيره من عامة الناس.
فهذه الأجوبة الثلاثة عن تزويج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عثمان كل واحد منها كاف بنفسه مستغنى به عما ورد.(193/53)
والأعجب من ذلك فإن الرافضة يزعمون بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يتزوج أم كلثوم بنت علي – رضي الله عنهما إلا بإكراه من عليّ رضي الله عنه، وأن علياً – رضي الله عنه – لم يستطع الرفض، وأن العباس بن عبد المطلب – رضي الله عنه – حاول مع علي – رضي الله عنه مراراً من أجل الموافقة على ذلك في الزواج وإلا انتزع عمر من العباس – رضي الله عنه – السقاية وزمزم. ولا أريد التوسع في ذلك ولندع كتب الرافضة تحدثنا عن هذا الزواج، الذي تزوج عمر – رضي الله عنه – جنية متمثلة في شكل أم كلثوم بنت علي – رضي الله عنهما – وإن اسم تلك الجنية هي سحيفة بنت جريرية من أهل نجران وهي يهودية.(193/54)
عن عمر بن أذينه قال: قيل لأبي عبد الله عليه السلام: أن الناس يحتجون علينا ويقولون: إن أمير المؤمنين – عليه السلام – زوج فلاناً(1) ابنته أم كلثوم. وكان متكئاً فجلس وقال: أيقولون ذلك؟ إن قوماً يزعمون ذلك لا يهتدون إلى سواء السبيل، سبحان الله ما كان يقدر أمير المؤمنين – عليه السلام – أن يحول بينه وبينها فينقذها كذبوا ولم يكن ما قالوا، إن فلاناً(2) خطب إلى علي – عليه السلام – بنته أم كلثوم فأبى عليه – عليه السلام -، فقال للعباس: والله لئن لم تزوجني لأنتزعن منك السقاية وزمزم، فأتى العباس علياً فكلمه، فأبى عليه فألح العباس، فلما رأى أمير المؤمنين – عليه السلام – مشقة الرجل على العباس وأنه سيفعل بالسقاية ما قال، أرسل أمير المؤمنين – عليه السلام – إلى جنية من أهل نجران يهودية يقال لها سحيفة بنت جريرية، فأمرها فتمثلت في مثال أم كلثوم وحجبت الأبصار عن أم كلثوم وبعث بها إلى الرجل، فلم تزل عنده حتى إنه استراب بها يوماً، فقال: ما في الأرض أهل بيت أسحر من بني هاشم، ثم أراد أن يُظهر ذلك للناس فقُتل وأخذت الميراث وانصرفت إلى نجران، وأظهر أمير المؤمنين – عليه السلام – أم كلثوم(3).
وعن زرارة عن أبي عبد الله – عليه السلام – في تزويج أم كلثوم: فقال: إن ذلك فرج غصبناه(4).
__________
(1) عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
(2) عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
(3) بحار الأنوار ج42 ص88 .
(4) بحار الأنوار ج42 ص106، الفروع من الكافي للكليني.(193/55)
وعلّق المجلسي على هذه الرواية فقال: هذه الأخبار لا ينافي ما مر من قصة الجنية، لأنها قصة مخيفة أطلعوا عليها خواصمهم، ولم يكن يتم به الاحتجاج على المخالفين، بل ربما كانوا يحترزون عن إظهار أمثال تلك الأمور لأكثر الشيعة أيضاً، لئلا تقبله عقولهم(1) ولئلا يغلو فيهم، فالمعنى: غصبناه ظاهراً وبزعم الناس إن صحت تلك القصة.
ويقول كبيرهم الملقب عند الرافضة بالمفيد في جواب المسائل السروية ما نصه(2):
إن الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين – عليه السلام – ابنته من عمر لم يثبت ..... ثم أنه لو صح لكان له وجهان لا ينافيان مذهب الشيعة في ضلال المتقدمين على أمير المؤمنين – عليه السلام – أحدهما أن النكاح إنما هو على ظاهر الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة إلى الكعبة والإقرار بجملة الشريعة، وإن كان الأفضل مناكحة الضال مع إن كان الأفضل مناكحة من يعتقد الإيمان، ويكره مناكحة من ضم إلى ظهر الإسلام ضلالاً يُخرجه عن الإيمان، إلا أن الضرورة متى قادت إلى مناكحة الضّالّ مع إظهاره كلمة الإسلام زالت الكراهة من ذلك، وأمير المؤمنين كان مضطراً إلى مناكحة الرجل، لأنه تهدده وتوعده، فلم يأمنه على نفسه وشيعته، فأجابه إلى ذلك ضرورة كما إن الضرورة يشرع إظهار كلمة الكفر ..... إلخ.
وقال المرتضى(3) الذي هو ثاني اثنين زوراً على لسان أمير المؤمنين – رضي الله عنه – خطباً وجمعها في كتاب أسمياه "نهج البلاغة" المنسوب زوراً وبهتاناً إلى علي – رضي الله عنه -:
__________
(1) ومتى كان للشيعة عقولاً، ولو كان لهم ذلك ما اعتنقوا الخرافات والأوهام وجعلوها ديناً، فالحمد لله الذي أنعم على أهل السنة نعمة فقدها قوم آخرون، ولله في خلقه شؤون والحمد لله أولاً وأخيراً.
(2) نقلاً عن بحار الأنوار ج42 ص107-108، الاستغاثة في بدع الثلاثة ج1 ص92-94 .
(3) بحار الأنوار للمجلسي ج42 ص108 .(193/56)
على أنه لو لم يجر ما ذكرناه لم يمتنع أن يجوّزه أمير المؤمنين – عليه السلام – لأنه كان على ظاهر الإسلام والتمسك بشرائعه وإظهار الإسلام، وهذا حكم يرجع إلى الشرع فيه، وليس مما يخاطره العقل، وقد كان يجوز في العقول أن يبيحنا الله تعالى مناكحة المرتدين على اختلاف ردتهم، وكان يجوز أيضاً أن يبيحنا أن ننكح اليهود والنصارى كما أباحنا عند أكثر المسلمين أن ننكح فيهم، وهذا إذا كان في العقول سائغاً فالمرجع في تحليله وتحريمه إلى الشريعة، وفعل أمير المؤمنين عليه السلام حجة عندنا في الشرع، فلنا أن نجعل ما فعله أصلاً في جواز مناكحة من ذكروه وليس لهم أن يلزموا على ذلك مناكحة اليهود والنصارى وعبّاد الأوثان، لأنهم إن سألوا عن جوازه في العقل فهو جائز، وإن سألوا عنه في الشرع فالإجماع يحذره ويمنع منه.
وعلّق المجلسي على كلام الرافضيين: المفيد والمرتضى بقوله:
أقول: بعد إنكار عمر النص الجلي وظهور نصبه وعداوته لأهل البيت – عليهم السلام -، يشكل القول بجواز مناكحته من غير ضرورة لا تقيّة، إلا أن يقال بجواز مناكحة كل مرتد عن الإسلام، ولم يقل به أحد من أصحابنا. ولعل الفاضلين إنما ذكروا ذلك استظهاراً على الخصم، وكذا إنكار المفيد أصل الواقعة إنما هو لبيان أنه لم يثبت ذلك من طرقهم، وإلا فبعد ورود ما مر من الأخبار إنكار ذلك عجيب(1).
ونحن نقول للمجلسي ومن يشايعه ويعتقد بعقائده الفاسدة: لا تعجب من هذا، والأولى أن تعجب من أصول عقائدكم وتخبطكم في الضلال والجهل، وانتظار الغائب التائه الذي لم يستدل على طريق له، وهل دين الرافضة إلا مجموعة تناقضات وتسولات من الديانات والمذاهب، باختصار أنكم تلبسون ثوباً مرقعاً فيه كل لون.
__________
(1) بحار الأنوار ج42 ص109 .(193/57)
يقول الرافض الشقي نعمة الله الجزائري في كتابه "الأنوار النعمانية" ج1 ص81-84: وإنما الإشكال في تزويج علي عليه السلام أم كلثوم لعمر بن الخطاب وقت تخلفه لأنه قد ظهرت منه المناكير وارتد عن الدين ارتداداً أعظم من كل من ارتد، حتى أنه قد ورد في روايات الخاصة(1) أن الشيطان يغل بسبعين غلاً من حديد جهنم ويساق إلى المحشر فينظر ويرى رجلاً أمامه تقوده ملائكة العذاب وفي عنقه مائة وعشرون غلاً من أغلال جهنم، فيدنو الشيطان إليه ويقول: ما فعل الشقي حتى زاد عليّ في العذاب وأنا أغويت الخلق وأوردتهم موارد الهلاك. فيقول عمر للشيطان: ما فعلت من شيء سوى أني غصبت خلافة علي بن أبي طالب(2)، والظاهر أنه قد استقل سبب شقواته ومزيد عذابه، ولم يعلم أن كل ما وقع في الدنيا إلى يوم القيامة من الكفر والنفاق واستيلاء أهل الجور والظلم إنما هو من فعلته هذه .... فإذا ارتد على هذا النحو من الارتداد فكيف ساغ في الشريعة(3) مناكحته وقد حرم الله تعالى نكاح أهل الكفر والارتداد واتفق عليه علماء الخاصة.
فنقول: قد تفصّى(4) الأصحاب عن هذا بوجهين عاميّ وخاصيّ:
__________
(1) يقصد الرافضة.
(2) إذا كان الله تعالى حسب زعم الرافضة قد نص على الخلافة والولاية لعلي – رضي الله عنه -، وأخذ المواثيق والعهود على الأنبياء بالولاية له، أيستطيع ابن الخطاب – رضي الله عنه – وهو خلق من خلقه أن يصرف هذا لأمر عنه ويقف سداً منيعاً في وجه تحقيق هذا الأمر، فإذا كان إله الشيعة بهذا العجز وإنه لا يستطيع أن ينفذ ما يريد أن يستحق العبادة، أم أنه بدا له أن يعتقد هدنة سلام مع عمر – رضي الله عنه – ويعذبه في الآخرة، يا قوم قليل من الحياء والعقل – إن كانت لديكم ذرة عقل – وللمزيد انظر فصل "إله السنة غير إله الشيعة" من هذا الكتاب فإن فيه توضيح وبيان بحقيقة الرب الذي تؤمن به الرافضة.
(3) شريعة ابن سبأ.
(4) كذا بالنص والصواب: تقصّى.(193/58)
أما الأول: فقد استفاض في أخبارهم عن الصادق – عليه السلام – عن هذه المناكحة فقال: إنه أول فرج غصبناه.
وتفصيل هذا أن الخلافة قد كانت أعز على أمير المؤمنين من الأولاد والأزواج والأموال(1)، وذلك لأن بها انتظام الدين وإتمام السنة ورفع الجور وإحياء الحق وموت الباطل، وجميع فوائد الدنيا والآخرة، فإذا لم يقدر على الدفع عن مثل هذا الأمر الجليل الذي ما تمكن من الدفع عنه زمان معاوية وقد بذل عليه الأرواح وسفك فيه المهج، حتى إنه قتل لأجله ستين ألفاً في معركة صفين وقتل من عسكره عشرون ألفاً، وواقعة الطفوف أشهر من أن تذكر، فإذا قبلنا منه العذر في ترك هذا الأمر الجليل فقد كان معذوراً كما سيأتي الكلام فيه عند ذكر أسباب تقاعده عليه السلام عن الحرب زمان الثلاثة ... والتقية باب فتحه الله سبحانه للعباد وأمرهم بارتكابه وألزمهم به(2) كما أوجب عليه الصلاة والصيام حتى أن ورد عن الأئمة الطاهرين – عليهم السلام -: لا دين لمن لا تقيّة له، فقبل عذره – عليه السلام – في مثل هذا الأمر الجزئي، وذلك أنه قد روى الكليني عن ابن أبي عمير عن شام بن سالم عن أبي بعد الله عليه السلام قال: لما خطب إليه، قال له أمير المؤمنين – عليه السلام -: إنها صبية، قال: فلقي العباس فقال له: ما لي أبي بأس، قال: وما ذاك، قال: خطب إلى ابن أخيك فردني أما والله لأعودنا زمزم ولا أدع لكم مكرمةً إلا هدمتها ولأقيمن عليها شاهدين بأنه سرق ولأقطعن يمينه، فأتاه العباس وأخبره وسأله أن يجعل الأمر إليه فجعل إليه.
__________
(1) كفى بهذا الأمر منقصة وازدراء بعلي – رضي الله عنه -، فالرجل العادي لا يرضى بأن يدنس عرضه.
(2) { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاّ كَذِبًا }.(193/59)
وأما الشبهة الواردة على هذا وهي: أنه يلزم أن يكون عمر زانياً في ذلك النكاح وهو مما لا يقبله العقل بالنظر إلى أم كلثوم، فالجواب عنها من وجهين: أحدهما أن أم كلثوم لا حرج عليها في مثله لا ظاهراً ولا واقعاً وهو ظاهر، وأما هو فليس بزان في ظاهر الشريعة لأنه دخولٌ ترتب على عقد بإذن الولي الشرعي، وأما في الواقع وفي نفس الأمر فعليه عذاب الزاني، بل عذاب كل أهل المساوئ والقبائح الثاني. إن الحالة لما آل إلى ما ذكرنا من التقيّة فيجوز أن يكون رضي – عليه السلام – بتلك المناكحة رفعاً لدخوله في سلك غير الوطئ المباح.(193/60)
وأما الثاني: وهو الوجه الخاصي: فقد رواه بهاء الدين علي بن عبد الحميد الحسيني النجفي في المجلد الأول من كتابه المسمى بالأنوار المضيئة، قال: مما جاز لي روايته عن محمد بن محمد بن النعمان المفيد رفعه إلى عمر بن أذينه قال: قلت لأبي عبد الله – عليه السلام – إن الناس يحتجون أن أمير المؤمنين – عليه السلام – زوج فلاناً ابنته أم كلثوم، وكان – عليه السلام – متكئاً فجلس وقال: أتقبلون أن علياً عليه السلام أنكح فلاناً ابنته، إن قوماً يزعمون ذلك ما يهتدون إلى سواء السبيل ولا الرشاد، ثم صفق بيده وقال: سبحان الله ما كان أمير المؤمنين – عليه السلام – يقدر أن يحول بينه وبينها، كذبوا لم يكن ما قالوا إن فلاناً خطب إلى علي – عليه السلام – بنته أم كلثوم فأبى فقال للعباس: والله لئن لم يزوجني لأنزعن منك السقايا وزمزم فأتى العباس علياً عليه السلام فكلمه، فأبى عليه فألح عليه العباس، فلما رأى أمير المؤمنين مشقة رجل على العباس وأنه سيفعل معه ما قال، أرسل إلى جنية من أهل نجران يهودية يقال لها سحيفة بنت جريرية، فأمرها فتمثلت في مثال أم كلثوم وحجبت الأبصار عن أم كلثوم بها، وبعث بها إلى الرجل فلم تزل عنده حتى أنه استراب بها يوماً وقال: ما في الأرض أهل بيت أسحر من بني هاشم، ثم أراد أن يظهر للناس فقتل فأخذت الميراث وانصرفت إلى نجران وأظهر أمير المؤمنين – عليه السلام -.
وأقول وعلى هذا فحديث أول فرج غصبناه محمول على التقيّة والإتقاء مع عوام الشيعة كما لا يخفى ... اه.
وذكر أبو القاسم الكوفي في كتابه "الاستغاثة في بدع الثلاثة" ج1 ص90-96 قريباً من هذا الكلام وزاد في بعض المواضع ولولا خشية الإطالة على القراء الكرام لنقلنا كلامه بحرفه، ولكن أظن أن ما أوردناه سابقاً يكفي المسلم بصيرة حول موقف الرافضة من زواج عمر بأم كلثوم.(193/61)
وبعد هذا الاستطراد حول زواج عمر من أم كلثوم وعثمان من رقية وأم كلثوم – رضي الله عنهم جميعاً – نذكر الروايات التي تدل على عدم جواز مناكحة أهل السنة من واقع المراجع الرافضية.
1 - عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر – عليه السلام – عن المرأة العارفة(1) هل أزوجها الناصب؟
قال: لا، لأن الناصب كافر.
قلت: فأزوجها لرجل غير الناصب ولا العارف ؟
فقال: غيره أحبّ إليَّ منه(2).
2 - عن فضيل بن يسار عن أبي عبد الله – عليه السلام – قال: لا يتزوج المؤمن الناصبة المعروفة بذلك(3).
3 - عن ربعي، عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله – عليه السلام – قال: قال له الفضيل: أزوج الناصبة؟
قال: لا ولا كرامة.
قلت: جعلت فداك والله إني لأقول لك هذا ولو جاءني بيت ملآن دراهم ما فعلت(4).
5 - عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله – عليه السلام – عن الناصب الذي قد عرف نصبه وعداوته هل يزوجه المؤمن(5) وهو قادر على ردّه وهو لا يعلم بردّه؟
قال: لا يتزوج المؤمن الناصبة ولا يتزوج الناصب المؤمنة، ولا يتزوج المستضعف مؤمنة(6).
6 - عن الفضيل بن يسار، قال: قلت لأبي عبد الله – عليه السلام – إن لامرأتي أختاً عارفة على رأينا، وليس على رأينا بالبصرة إلا قليل فأزوجها ممن لا يرى رأيها؟
قال: لا ولا نعمة إن الله عز وجل بقول: { فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ }(7).
7 - عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله – عليه السلام – عن نكاح الناصب؟
__________
(1) أي المرأة الشيعية.
(2) وسائل الشيعة للحر العاملي ج7 ص431، التهذيب ج7 ص303 .
(3) وسائل الشيعة ج7 ص423، التهذيب للطوسي ج7 ص302 الاستبصار للطوسي ج3 ص183 .
(4) وسائل الشيعة ج7 ص423 .
(5) يقصد الشيعي.
(6) وسائل الشيعة ج7 ص424، بحار الأنوار ج100 ص378، التهذيب ج7 ص303، الاستبصار ج3 ص183 .
(7) وسائل الشيعة ج7 ص424 .(193/62)
فقال: لا والله ما يحل.
قال فضيل: ثم سألته مرة أخرى، فقلت: جعلت فداك ما تقول في نكاحهم؟
قال: والمرأة عارفة؟
قلت: عارفة.
قال: إن العارفة لا توضع إلا عند عارف(1).
8 - عن عبد الله بن سنان: عن أبي عبد الله – عليه السلام – قال: سأله أبي وأنا أسمع عن نكاح اليهودية والنصرانية.
فقال: نكاحهما أحبُّ إليّ من نكاح الناصبية(2).
9 - عن أبي بصير عن أبي عبد الله – عليه السلام – أنه قال: تزوج اليهودية أفضل، أو قال: خير من أن تزوّج الناصبي والناصبية(3).
10 - عن الحلبي، عن أبي عبد الله – عليه السلام – أنه أتاه قوم من أهل خراسان من وراء النهر، فقال لهم: تصافحون أهل بلادكم(4) وتناكحون؟ أما إنكم إذا صافحتموهم انقطعت عروة من عرى الإسلام، وإذا ناكحتموهم انهتك الحجاب بينكم وبين الله عز وجل(5).
11 - عن سليمان الحمار، عن أبي عبد الله – عليه السلام – قال:
لا ينبغي للرجل المسلم منكم أن يتزوج الناصبي، ولا يزوّج ابنته ناصبياً ولا يطرحها عنده(6).
12 - عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر – عليه السلام – عن المرأة العارفة هل أزوجها الناصب؟
قال: لا، لأن الناصب كافر(7).
13 - عن فضيل بن يسار عن أبي عبد الله – عليه السلام – قال: ذُكر النصّاب.
فقال: لا تناكحهم ولا تأكل ذبيحتهم ولا تسكن معهم(8).
14 - عن يونس عن أبي عبد الله – عليه السلام – قال:
لا تزوج المنافقة على المؤمنة، وتزوج المؤمنة على المنافقة(9).
__________
(1) وسائل الشيعة ج7 ص424، الفروع من الكافي 3/350 .
(2) وسائل الشيعة ج7 ص426، الفروع من الكافي 3/351 .
(3) وسائل الشيعة ج7 ص426، الفروع من الكافي 3/351 .
(4) من أهل السنة.
(5) وسائل الشيعة ج7 ص426، الفروع من الكافي 3/352 .
(6) وسائل الشيعة ج7 ص426 .
(7) وسائل الشيعة ج7 ص427، الاستبصار ج3 ص184 .
(8) وسائل الشيعة ج7 ص427، التهذيب ج7 ص303، الاستبصار ج3 ص184 .
(9) وسائل الشيعة ج7 ص434 .(193/63)
15 - عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر – عليه السلام – عن مناكحة الناصب والصلاة خلفه.
فقال: لا تناكحه ولا تصل خلفه(1).
16 - عن عبد الله بن بكير عن الفضيل بن يسار قال: قلت لأبي جعفر – عليه السلام -: إن لامرأتي أختاً مسلمة لا بأس برأيها وليس بالبصرة أحد، فما ترى في تزويجها من الناس؟
فقال: لا تزوّجها إلا مِمَّن هو على رأيها وتزويج المرأة التي ليس بناصبة لا بأس به(2).
الفصل السادس
وجوب مخالفة أهل السنة
مخالفة أهل السنة واجبة عند الشيعة
من الأمور المسلم بها عند الشيعة قاطبة وجوب مخالفة أهل السنة في الأخبار فضلاً عن العقائد حتى أن مقياس صحة أي خبر عند الشيعة لابد أن يكون خلاف ما عليه أهل السنة.
ونحن لا نسوق هذا جزافاً ولا نذكره من كتب الأقدمين بل نذكر هذا من كتاب لأحد علماء الشيعة الرافضة وما يسمى عندهم بنائب المهدي المنتظر وأعلى شخصية في إيران الآيات: آية الله الخميني فيقول موضحاً سبب ضرورة المخالفة:
عن أبي إسحاق الأرجاني رفعه قال: قال أبو عبد الله – عليه السلام -:
أتدري: لم أمرتم بخلاف ما تقول العامة؟
قلت: لا أدري.
قال: أنّ عليّاً لم يكن يدين لله بدين إلا خالف عليه الأمة إلى غيره إرادة لإبطال أمره وكانوا يسألون أمير المؤمنين عن الشيء لا يعلمون عنه. فإذا أفتاهم جعلوا له ضداً من عندهم ليلتبسوا على الناس(3).
فالسبب عند الخميني في المخالفة ومن هو على شاكلته ودينه المنحرف أن الصحابة رضوان الله عليهم يستفتون الإمام علياً – رضي الله عنه – فيما أشكل عليهم ثم يضعون نقيضه فلهذا خبر الشيعة لا يوافق خبر أهل السنة إلا عن تقية وسيأتي تفصيله.
__________
(1) بحار الأنوار ج100 ص378 .
(2) بحار الأنوار ج100 ص378 .
(3) التعادل والترجيح للخميني ص82 .(193/64)
الصحابة – رضي الله عنهم – لم يكونوا بالصورة القائمة من الحق والكراهية التي صورها الخميني وجميع الشيعة في تعاملهم مع ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصهره بل يفضلونه على أنفسهم في بعض الأحيان. والشيعة قلبوا حقائق التاريخ وكتبوه بمداد الحقد والكراهية لأولئك العظام التي عقمت أرحام المجوس وغيرهم أن ينجبن مثلهم. ولا أعلم أي جريرة أرتكبها رضوان الله عليهم عند الشيعة أعظم من نصرة المصطفى عليه الصلاة والسلام ونشر الإسلام وفدائه بالمال والروح والقضاء على ملة الكفر والأسر المجوسية الذي يعد الخميني أحد أحفادها فأراد أن ينتقم لسلفه بتشويه سيرة أولئك العظام ولكن مهما يكن فلن يضر القافلة نبح الكلاب وهي تسير.
التاريخ رغم أنف المجوسي ومن يلهج بذكرهم والعمل على إعادة سيرتهم حفظ لنا المواقف المشرفة التي وقفها صحابه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الدفاع عن الإسلام ورسول الإسلام – عليه السلام – وسجل لنا المواقف المخزية لمن اتخذوا التشيع ستاراً للنيل من الإسلام ورسوله ورجاله.
ويقول أيضاً: البحث الثاني في حال الأخبار الواردة في مخالفة العامة وهي أيضاً طائفتان:
أحديهما: ما وردت في خصوص الخبرتين المتعارضتين.
وثانيتهما: ما يظهر منها لزوم مخالفهم وترك الخبر الموافق لهم مطلقاً.
فمن الأولى:
مصححة عبد الرحمن بن أبي عبد الله وفيها:
فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه.
وعن رسالة القطب أيضاً بسند فيه إرسال عن الحسن بن الري قال: قال أبو عبد الله – عليه السلام -:
إذا ورد عليكم حديثان فخذوا بما خالف القوم.
وعنها بإسناده عن الحسن بن الجهم قال: قلت للعبد الصالح(1):
هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلا التسليم لكم.
فقال: لا والله لا يسعكم إلا التسليم لنا.
__________
(1) انظر ص27 من كتابنا "موقف الخميني من أهل السنة" لتعرف من هو.(193/65)
فقلت: فيروي عن أبي عبد الله – عليه السلام – شيء ويروي خلافه فأيهما نأخذ؟
فقال: خذ بما خالف القوم وما وافق القوم فاجتنبه.
وعلّق الخميني على ما سبق بقوله:
ولا يخفى وضوح دلالة هذه الأخبار على أن مخالفة العامة مرجحة في الخبرين المتعارضين مع اعتبار سند بعضها بل صحة بعضها على الظاهر واشتهار مضمونها بين الأصحاب بل هو المرجح هو المتداول العام الشائع في جميع أبواب الفقه والسنة الفقهاء(1).
وترجيح المتعارض عند الشيعة بما يخالف أهل السنة إنما هو نتيجة تنافر أدلة أحكامهم وعقائدهم وعدم تآلفهم بينها خلاف في مدلولات روايتهم فأبسط شيء عندهم هو الأخذ بما يخالف أهل السنة.
ويقول أيضاً:
ومن الطائفة الثانية:
عن العيون بإسناده، عن علي بن أسباط قال:
قلت للرضا عليه السلام: يحدث الأمر أجد من معرفته وليس في البلد الذي أنا فيه أحدٌ أستفتيه من مواليك؟
قال: ائت فقيه البلد فاستفته من أمرك فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه فإن الحق فيه.
وعلّق عليها قائلاً:
موردها صورة الاضطرار وعدم طريق إلى الواقع فأرشده إلى طريق يرجع إليه لدى سد الطرق.
معرفة ما يخفر من الأحكام الشرعية لدى الشيعي وهو ببلدٍ على خلاف ما هو عليه هو استفتائه علمائه والأخذ بخلاف ما يقول. فإن الحق فيه.
والخميني والشيعة قاطبة يرون أنه إذا صدرت عن المعصوم فتوى توافق ما عليه أهل السنة ففتياه تقيّة لأنهما أضداد يستحيل اللقاء بينهما إلا إذا جمعنا الليل والنهار والضلال والهدى.
وفي ذلك يقول الخميني:
عن عبيد بن زراره عن أبي عبد الله – عليه السلام – قال:
ما سمعت مني يشبه قول الناس ففيه التقيّة. وما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه.
فعلّق عليها: لا يبعد أن يكون مراده شباهة قول الناس في آرائهم وأهوائهم كالقول بالجبر والقياس والفتاوى الباطلة المعروفة منهم كالقول بالعول والتعصيب(2).
__________
(1) التعادل والترجيح ص80-81 .
(2) المصدر السابق ص82 .(193/66)
وعندهم لا يتم إيمان الشيعي إلا إذا خالف أهل السنة ولم يكن كذلك فهو آثم ودينه ليس كاملاً فيقول الخميني:
وأما قوله في رواية شيعتنا المسلمون لأمرنا الآخذون بقولنا المخالفون لأعدائنا فمن لم يكن كذلك فليس منا.
وقوله في رواية أخرى:
ما أنتم على شيء مما هم عليه ولا هم على شيء إنما هو إقبال على باطل سواء كان ذلك عبادة أو غير ذلك فيقول:
وأما قوله في صحيحه إسماعيل بن بزيع:
إذا رأيت الناس يقبلون على شيء فاجتنبه.
يدل على أن إقبالهم على شيء وإصرارهم به يدل على بطلانه. وعلى أي حال لا إشكالاً في أن مخالفة العامة من مرجحات باب التعارض(1).
إن تمسك أهل السنة بكتاب الحق تبارك وتعالى والعمل بسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم باطل عند من التحفوا برداء موالاة أهل البيت وهم يطعنون في الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
ثم يأتي إلى ذكر الخلاصة مما سبق ذكره فيقول:
فتحصل من جميع ما ذكرنا من أول البحث إلى هنا أن المرجح المنصوص ينحصر في أمرين:
موافقة الكتاب والسنة ومخالفة العامة(2).
ويقول أيضاً:
قد اتضح أن المرجح المنصوص منحصر في موافقة الكتاب ومخالفة العامة فكل واحد منهما يمكن أن يدون ثبوتاً مرجحاً لأجل الصدور أو لجهته ويمكن أن يكون كل لجهته(3).
لم يبين لنا حفيد ابن سبأ ما هو الكتاب وما هي السنة.
هل هي أقوال الرسول صلّى الله عليه وسلّم وفعله وتقريره الناسفة لعقائد الشيعة أم أكاذيب زرارة والجعفي وغيرهما من مرتزقة التشيع وزنادقة الشعوبية.
__________
(1) المصدر السابق ص83 .
(2) المصدر السابق ص83 .
(3) المصدر السابق ص83-91 .(193/67)
وأرجو أخي القارئ ألا أكون قد أطلت عليك في بيان وجوب المخالفة بين أهل السنة والشيعة ولنختم كلاما بكلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى حيث يقول: أنهم(1) جعلوا مخالفة أهل السنة والجماعة الذين هم على ما عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أصلاً للنجاة فصاروا كلما فعلوا أهل السنة تركوه وإن تركوا شيئاً فعلوه. فخرجوا بذلك عن الدين رأساً. فإن الشيطان سول لهم وأملى لهم وأدعو بأن هذه مخالفة علامة الفرقة الناجية وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: الفرقة الناجية هي السواد الأعظم وما أنا عليه وأصحابي. فلينظر إلى الفرق ومعتقداتهم وأعمالهم فما وافقت النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه هي الفرقة الناجية. وأهل السنة هم المتبعون لآثاره صلّى الله عليه وسلّم وآثار أصحابه كما لا يخفى على منصف ينظر بعين الحق. فهم أحق أن يكونوا الفرقة الناجية وآثار النجاة الظاهرة فيهم باستقامتهم على الدين من غير تحريف وظهور مذهبهم وشوكتهم في غالب البلاد ووجود العلماء المحققين والمحدثين والأولياء والصالحين فيهم وقد نزع الولاية عن الرافضة فما سمع فيهم ولي قط(2).
الفصل السابع
التحالف الشيعي
التتري – النصراني – اليهودي
ذكر المفيد في الاختصاص ص255 :
عن مسلم أبي الحسن – عليه السلام – قال:
سأله رجل فقال له: الترك خير أم هؤلاء(3)؟
قال: فقال: إذا صرتم إلى الترك يخلون بينكم وبين دينكم؟
قال: قلت: لا بل يجهدون على قتلنا.
قال: فإن غزوهم أولئك فاغزوهم معهم أو أعينوهم عليهم – الشك من أبي الحسن – عليه السلام – فإعانة الكفار على أهل السنة عند الشيعة من الموجبات حيث أن أمر المعصوم عندهم العمل به واجب.
__________
(1) أي الشيعة.
(2) رسالة في الرد على الرافضة للشيخ محمد عبد الوهاب رحمه الله ص30-31 .
(3) أي أهل السنة.(193/68)
والتاريخ سجل لنا بعض تلك الإعانات وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: "والرافضة أعظم ذوي الأهواء جهلاً وظلماً يعادون خيار أولياء الله تعالى من بعد النبيين من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، ويوالون الكفار والمنافقين من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين كالنصيرية والإسماعيلية وغيرهم من الضالين، فتجدهم أو أكثر منهم إذا اختصم خصمان في ربهم من المؤمنين والكفار واختلف الناس فيما جاءت به الأنبياء فمنهم من آمن ومنهم من كفر سواء كان الاختلاف بقول أو عمل كالحروب بين المسلمين وأهل الكتاب والمشركين، تجدهم يعاونون المشركين وأهل الكتاب على المسلمين أهل القرآن كما قد جربه الناس منهم غير مرة في مثل إعانتهم للمشركين من الترك وغيرهم على أهل الإسلام بخراسان والعراق والجزيرة وغير ذلك. وإعانتهم للنصارى على المسلمين بالشام ومصر وغير ذلك في وقائع متعددة من أعظم الحوادث التي كانت في الإسلام في المائة الرابعة والسابعة. فإنه لما قدم كفار الترك إلى بلاد الإسلام وقتل من المسلمين ما لا يحصى عدده إلا رب الأنام. كانوا من أعظم الناس عداوة للمسلمين ومعاونة الكافرين وكذا معونتهم لليهود أمر شهير حتى يجعلهم الناس لهم كالحمير(1).
ويقول أيضاً:
__________
(1) منهاج السنة 1/5 .(193/69)
الشيعة ترى أن كفر أهل السنة أغلظ من كفر اليهود والنصارى لأن أولئك عندهم كفار أصليون وهؤلاء كفار مرتدون وكفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي ولهذا السبب يعاونون الكفار على الجمهور من المسلمين فيعاونون التتار على الجمهور وهم كانوا من أعظم الأسباب في خروج جنكيز خان ملك الكفار إلى بلاد الإسلام وفي قدوم هولاكو إلى العراق وفي أخذ حلب ونهب الصالحية وغير ذلك بخبثهم ومكرهم ولهذا السبب نهبوا عساكر المسلمين لما مر عليهم وقت انصرافه إلى مصر في النوبة الأولى. ولهذا السبب يقطعون الطرقات على المسلمين وظهر فيهم من معاونة التتار والإفرنج على المسلمين والكآبة الشديدة بانتصار الإسلام ما ظهر وكذلك فتح المسلمين لعكا وغيرها. وظهر فيهم من الانتصار للإفرنج والنصارى وتقديمهم على المسلمين ما قد سمعه الناس منهم وكل هذا الذي وصفت بعض أمورهم وإلا فالأمر أعظم من ذلك. وقد اتفق أهل العلم بالأحوال أن أعظم السيوف التي سلت على أهل القبلة ممن ينتسب إلى أهل القبلة إنما هو من الطوائف المنتسبة إليهم منهم أشد ضرراً على الدين وأهله وأبعد من شرائع الإسلام من الخوارج الحرورية(1).... اه.
ولا يخفى على من له أدنى وعي تاريخي بالشيعة دور الوزير ابن العلقمي الخياني في سقوط بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية آنذاك وما جره على المسلمين من القتل والخراب والذل والهوان بالاتصال بهولاكو وإغرائه بغزو العراق وهيأ له من الأمور ما يمكنه من السيطرة.
وقد سلك ابن العلقمي في التخطيط لذلك الأمر بأن أشار على الخليفة المستعصم بتسريح أكبر عدد ممكن لتخفيف الأعباء المالية على الميزانية العامة فوافقه الخليفة على ذلك ولم يكن يعلم الخليفة بأن اقتراح الوزير ما هو إلا إضعاف جيش الخلافة في مواجهة الغزاة التتار حتى أن الجنود تدهورت حالتهم الاجتماعية والمالية مما اضطرهم إلى الاستخدام في حمل القاذورات.
__________
(1) الفتاوى مجلد 28 ص478-479 بتصرف يسير.(193/70)
ولكي نلم ببعض جوانب تلك الخيانة العلقمية نورد بعض أقوال المؤرخين في بيان حقيقة ابن العلقمي وما قام به من المساهمة في سقوط الخلافة الإسلامية:
1 - جلال الدين السيوطي:
إن ابن العلقمي كاتَبَ التتر وأطمعهم في ملك بغداد(1).
2 - أبو شامة شهاب الدين بن عبد الرحمن بن إسماعيل(2):
إن التتار استولوا على بغداد بمكيدة دبرت مع وزير الخليفة(3).
3 - قطب الدين اليونيني البعلبكي:
وكاتب الوزير ابن العلقمي التتر وأطمعهم في البلاد وأرسل إليهم غلامه وسهل عليهم ملك العراق وطلب منهم أن يكون نائبهم في البلاد فوعده بذلك وأخذوا في التجهيز لقصد العراق وكاتبوا بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل في أن يسيّر إليهم ما يطلبونه من آلات الحب فسيّر إليهم ذلك ولما تحقق قصدهم علم أنهم إن ملكوا العراق لا يبقون عليه فكاتب الخليفة سراً في التحذير منهم وأنه يعد لحربهم فكان الوزير لا يوصل رسله إلى الخليفة ومن وصل إلى الخليفة منهم بغير علم الوزير أطلع الخليفة وزيره على أمره.. ويتابع البعلبكي في وصف جيوش التتار الزاحفة على بغداد وبعد أن تمكنوا من هزيمة الحامية الهزيلة في صد الغزو فيقول:
__________
(1) الفتاوى مجلد 28 ص478-479 بتصرف يسير.
(2) تراجم رجال القرنين السادس والسابع ص198 .
(3) يقصد ابن العلقمي.(193/71)
فحينئذ أشار ابن العلقمي الوزير على الخليفة بمصانعة ملك التتر ومصالحته وسأله أن يخرج إليه في تقرير ابنته من ابنك الأمير أبي بكر ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى سلطان الروم في سلطنة الروم لا يؤثر إلا أن تكون الطاعة له كما كان أجدادك من السلاطين السلجوقية وينصرف بعساكره عنك فتجيبه إلى هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين ويمكن بعد ذلك أن يفعل ما تريد فحسن له الخروج إليه فخرج في جمع من أكابر الصحابة فأنزل في خيمة ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا عقد النكاح فيما أظهره فخرجوا فقتلوا وكذلك صار يخرج طائفة بعد طائفة(1).
4 - شمس الدين الذهبي:
وأما بغداد فضعف دست الخلافة وقطعوا أخبار الجند استنجدهم المستنصر وانقطع ركب العراق... كل ذلك من عمل الوزير ابن العلقمي الرافضي جهد في أن يزيل دولة بني العباس ويقيم علوياً(2) وأخذ يكاتب التتار ويراسلونه والخليفة غافل لا يطلع على الأمور ولا له حرص على المصلحة(3).
5 - ابن شاكر الكتبي:
"وأخذ يكاتب التتار إلى أن جرأ هولاكو وجره على أخذ بغداد"(4).
6 - عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي:
__________
(1) ذيل مرآة الزمان 1/85-89 .
(2) ليكون ألعوبة في يده وينفذ ما يريد دون ضابط أو رابط.
(3) دول الإسلام 2/118 .
(4) فوات الوفيات 2/313 .(193/72)
وكان شيعياً رافضياً في قلبه غل للإسلام وأهله وحبب إلى الخليفة جمع المال والتقليل من العساكر فصار الجند يطلبون من يستخدمهم في حمل القاذورات ومنهم من يكاري على فرسه ليصلوا إلى ما يتقوتون به....(1) ثم يصف لنا السبكي مؤامرة ابن العلقمي في قتل الخليفة والعلماء والفقهاء واستباحة بغداد وإراقة الخمور في بيوت الله تعالى فيقول: وقصد هولاكو بغداد من جهة البر الشرقي ثم أنه ضرب سوراً على عسكره وأحاط ببغداد فأشار الوزير على الخليفة بمصانعتهم وقال: أخرج أنا إليهم في تقرير الصلح. فخرج وتوثق لنفسه من التتار ورجع إلى المستعصم وقال: إن السلطان يا مولانا أمير المؤمنين قد رغب في أن يزوج بنته بابنك الأمير أبي بكر ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم في سلطنته ولا يؤثر إلا أن تكون الطاعة له كما كان أجدادك مع السلاطين السلجوقية وينصرف عنك بجيوشه فمولانا أمير المؤمنين يفعل هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين وبعد ذلك يمكننا أن نفعل ما نريد والرأي أن تخرج إليه. فخرج أمير المؤمنين بنفسه في طوائف من الأعيان إلى باب الطاغية هولاكو ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ..... فأنزل الخليفة في خيمة ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا العقد فخرجوا من بغداد فضربت أعناقهم وصار كذلك يخرج طائفة بعد طائفة فتضرب أعناقهم ثم طلب حاشية الخليفة فضرب أعناق الجميع ثم طلب أولاده فضرب أعناقهم .... وأما الخليفة فقيل أنه طلبه ليلاً وسأله عن أشياء ثم أمر به ليقتل. فقيل لهولاكو: أن هذا إن أريق دمه تظلم الدنيا ويكون سبب خراب ديارك فإنه ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخليفة الله في أرضه فقام الشيطان المبين الحكم نصير الدين الطوسي(2)
__________
(1) طبقات الشافعية 5/110 .
(2) الذي يترحم عليه الخميني ويكيل الثناء والمدح ويشعر بالخسارة لفقدانه ولا عجب فإن الطيور على أشكالها تقع فإن كان مخرب الدين الطوسي قد ساعد التتار فالخميني وضع يده في يد اليهود الصهاينة وتحالف معهم في سبيل إبادة الشعب العراقي الشقيق.(193/73)
وقال: يقتل ولا يراق دمه وكان النصير من أشد الناس على المسلمين ... فقيل أن الخليفة غم في بساط وقيل رفسوه حتى مات. ولما جاءوا ليقتلوه صاح صيحة عظيمة. وقتلوا أمراءه عن آخرهم. ثم مدوا الجسر وبذلوا السيف ببغداد واستمر القتل ببغداد بضعاً وثلاثين يوماً ولم ينج إلا من اختفى وقيل أن هولاكو أمر بِعَدّ ذلك القتلى فكانوا ألف ألف وثمانمائة ألف النصف من ذلك تسعمائة ألف غير من لم يعد ومن غرق ثم نودي بعد ذلك بالأمان فخرج من كان مختبئاً وقد مات الكثير منهم تحت الأرض بأنواع من البلايا والذين خرجوا ذاقوا أنواع الهوان والذل ثم حفرت الدور وأخذت الدفائن والأموال التي لا تعد ولا تحصى وكانوا يدخلون الدار فيجدون الخبيئة فيها وصاحب الدار يحلف أن له السنين العديدة فيها ما علم أن بها خبيئة. ثم طلبت النصارى أن يقع الجهر بشرب الخمر وأكل لحم الخنزير وأن يفعل معهم المسلمون ذلك في شهر رمضان. فألزم المسلمون بالفطر في رمضان وأكل الخنزير وشرب الخمر ... ودخل هولاكو إلى دار الخليفة راكباً لعنه الله واستمر على فرسه إلى أن جاء إلى سدة الخليفة وهي تتضاءل عندها الأسود ويتناوله سعد السعود كالمستهزئ بها وانتهك الحرم من بيت وغيره .... وأعطى دار الخليفة لشخص من النصارى وأريقت الخمور في المساجد والجوامع ومنع المسلمون من الإعلان بالأذان فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ... هذه بغداد لم تكن دار كفر قط وجرى عليها هذا الذي لم يقع قط منذ قامت الدنيا مثله ...... وقتل الخليفة وإن كان وقع في الدنيا أعظم منه إلا أنه أضيف له هوان الدين والبلاء الذي لم يختص بل عم سائر المسلمين ....(1).
7 - حسن الديار بكري:
__________
(1) طبقات الشافعية 5/114-115 .(193/74)
ابن العلقمي الرافضي كان قد كتب إلى هولاكو ملك التتار في الدست أنك تحضر إلى بغداد وأنا أسلمها لك. وكان قد دخل قلب اللعين الكفر ... فكتب هولاكو: أن عساكر بغداد كثيرة فإن كنت صادقاً فيما قلته وداخلاً في طاعتنا فرق عساكر بغداد ونحن نحضر ... فلما وصل كتابه إلى الوزير. ودخل إلى المستعصم وقال: إنك تعطي دستوراً لخمسة عشر ألفاً من عساكرك وتوفر معلومهم(1). فأجاب المستعصم لذلك.. فخرج الوزير لوقته ومحا اسم من ذكر في الديوان ثم نفاهم من بغداد ومنعهم من الإقامة بها ثم بعد شهر فعل مثل فعلته الأولى ومحا اسم عشرين ألفاً من الديوان.. ثم كتب إلى هولاكو بما فعل وكان قصد الوزير بمجيء هولاكو أشياء منها: أنه كان رافضياً خبيثاً وأراد أن ينقل الخلافة من بني العباس إلى العلويين فلم يتم له ذلك من عظم شوكة بني عباس وعساكرهم ففكر أن هولاكو قد يقتل المستعصم وأتباعه ثم يعود لحال سبيله وقد زالت شوكة بني عباس وقد بقي هو على ما كان عليه من العظمة والعساكر وتدبير المملكة فيقوم عند ذلك بدعوة العلويين الرافضة من غير ممانعة لضعف العساكر. ولقوته ثم يضع السيف في أهل السنة فهذا كان قصده لعنه الله. ولما بلغ هولاكو ما فعل الوزير ببغداد ركب وقصدها إلى أن نزل عليها وصار المستعصم يستدعي العساكر ويتجهز لحرب هولاكو وقد اجتمع أهل بغداد وتحالفوا على قتال هولاكو وخرجوا إلى ظاهر بغداد ومضى عليهم بعساكره فقاتلوا قتالاً شديداً وصبر كل من الطائفتين صبراً عظيماً وكثرت الجراحات والقتلى في الفريقين إلى أن نصر الله تعالى عساكر بغداد وانكسر هولاكو أقبح كسر، وساق المسلمون خلقهم وأسروا منهم جماعة وعادوا بالأسرى ورؤوس القتلى إلى ظاهر بغداد ونزلوا بخيمهم مطمئنين بهروب العدو .. فأرسل الوزير ابن العلقمي في تلك الليلة جماعة من أصحابه فقطعوا شط دجلة
__________
(1) أي أن الوزير اقترح على الخليفة بتسريح 15 ألف جندي لضغط المصروفات في الميزانية العامة.(193/75)
فخرج ماؤها على عساكر بغداد وهم نائمون فغرقت مواشيهم وخيامهم وأموالهم وصار السعيد منهم من لقي فرساً يركبها. وكان الوزير قد أرسل إلى هولاكو يعرفه بما فعل ويأمره بالجروع إلى بغداد فرجعت عساكره على بغداد وبذلوا فيها السيف(1)..... اه.
ويقول الأستاذ حسن السوداني – معاصر:
لقد اتفق ابن العلقمي والطوسي مع ملة الكفر ضد الخلافة الإسلامية بحجة الدفاع عن أنصار الإمام علي – رضي الله عنه – وشيعته. ومعروف أن الطوسي يسمى أستاذ البشر والعقل الحادي عشر .... وسلطان المحققين وأستاذ الحكماء والمتكلمين .... وأصله من طوس وهي توابع مدينة قم ... ويعتبر الطوسي فخر الحكماء ومؤيد الفضلاء ونصير الملة ... ولا ندري هل كان هولاكو من هؤلاء الفضلاء الذين أيدهم الطوسي؟ وهل كان المغول هي الملة التي نصرها الطوسي على المسلمين فهتكت الأعراض وخربت مركز الحضارة الإسلامية؟ لقد كان الطوسي وابن العلقمي من حاشية هولاكو وهو يخرب ضريح الإمام موسى الكاظم فلم يبد منهما ما ينم عن اعتراض .... تجمع المصادر التي وصفت الساعات الأخير من حياة الخلافة العباسية الإسلامية على أن هولاكو قد استشار أحد المنجمين قبل أن يبدأ غزوته وكان المنجم الفلكي حسام الدين مسلماً غيوراً على المسلمين وحياتهم فقرأ له ما يلي:
__________
(1) تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس (2 : 420 –421).(193/76)
أن كل من تجاسر على التصدي للخلافة والزحف بالجيش إلى بغداد. لم يبق له العرش ولا الحياة. وإذا أبى الملك أن يستمع إلى نصحي وتمسك برأيه فسينتج عنه ست مهالك: تموت الخيل، ويمرض الجند، لن تطلع الشمس ولن ينزل المطر ثم يموت الخان الأعظم ... لكن مستشاري هولاكو قالوا بغزو بغداد وعدم الاستماع لرأي المنجم ... فاستدعى هولاكو العلامة نصير الدين الطوسي الذي نفى ما قاله حسام الدين وطمأن هولاكو بأنه لا توجد موانع شرعية تحول دون إقدامه على الغزو ... ولم يقف الطوسي عند هذا الحد بل أصدر فتوى يؤيد فيها وجهة نظره بالأدلة العقلية والنقلية وأعطى أمثلة على أن كثير من أصحاب الرسول قتلوا ولم تقع الكارثة .... وغزا هولاكو بغداد بفتوى الطوسي وبمعلومات ابن العلقمي وهما وزيراه الفارسيان ... ولم يستسلم المستعصم فقد أشار عليه البعض بأن ينزل بالسفينة إلى البصرة ويقيم في أحد الجزر حتى تسنح الفرصة ويأتيه نصر الله لكن وزيره ابن العلقمي خدعه بأن الأمور ستسير على ما يرام لو التقى بهولاكو.
فخرج المستعصم ومعه 1200 شخصية من قضاة ووجهاء وعلماء فقتلهم هولاكو مرة واحدة ... ووضع المستعصم في صرة من القماش وداسته سنابك الخيل وكان قتلى بغدد كما تقول المصادر المعتدلة 800 ألف مسلم ومسلمة كانوا هم ضحايا ابن العلقمي والطوسي والأخير كان قد أصدر فتوى بجواز قتل المستعصم حين تردد هولاكو عن قتله ... فأفهمه الطوسي أن من هو خير منه قتل ولم تمطر الدنيا دماً ... وقد استبيحت بغداد في اليوم العاشر من شباط عام 1258م ولم يكن ذلك اليوم آخر نكبة حلت بالأمة على يد الوزراء ولابسي العمامة الفارسية(1).
__________
(1) دماء على نهر الكرخاء ص124 وما بعدها.(193/77)
فالمصادر التي مرت عليك أخي القارئ أجمعت على أن ابن العلقمي كان الساعد الأيمن لهولاكو في غزو بغداد واستباحة الأموال والأنفس وقد ساعد هولاكو في قتل الخليفة عندما أحجم عن قتله نصير الدين الطوسي بإصدار فتوى بجواز ذلك ومع ذلك يقول حاخام إيران الأكبر الخميني:
"ويشعر الناس بخسارة أيضاً بفقدان الخواجه نصير الدين الطوسي وأضرابه ممن قدوا خدمات جليلة للإسلام"(1) ونحن نسأل نائب الخرافة المنتظر ما هي الخدمات التي قدمها للإسلام والمسلمين غير القتل والإرهاب؟ وأما إذا كان يقصد خدماته التي قدمها للطاغية التتري هولاكو وأنه يمثل الإسلام. فهذا له وجه آخر عند من يكون هممهم معاونة الكفار على أهل السنة.
وفي الدولة الصفوية تحالف الشاه طهماسب ابن الشاه إسماعيل الصفوي مع ملك هنكاريا ضد الدولة العثمانية المسلمة خلافاً للاجتماع الفقهي في منع التحالف مع الكفار وقد تم ذلك التحالف بفتوى أصدرها الشيخ علي الكركي المجتهد الديني الكبير.
وفي القرن الثامن الهجري تحالف خدابنده محمد المغولي (الذي تشيع) مع اليهود والصليبيين وأعمل القتل والإرهاب في أهل السنة.
ولنن ننسَ جريمة التاريخ المعاصر الكبرى التي سلم فيها يحيى خان الشيعي أرض المسلمين في شرق باكستان للهندوس يفعلون بها ما يشاءون حتى أقموا عليها الدولة المسخ "بنغلادش".
وفي لبنان كلنا يذكر جيداً خذلان الشيعة للمسلمين وتحالفهم مع المارونيين والذين يعتبرونهم الأصدقاء الحقيقيين لهم.
وفي أفغانستان ماذا يقدم الشيعة لمجاهديها غير الطعن في جهودهم وتصديهم للغزاة الملحدين.
وفي جامعة الكويت لماذا وقف الشيعة جنباً إلى جنب مع الشيوعيين واليسار بين الطلبة المسلمين من أهل السنة في انتخابات الطلبة لعام 1981؟.
__________
(1) الحكومة الإسلامية ص128 .(193/78)
وأخيراً ما هذا التحالف غير المقدس بين الثورة ونصيريي سوريا؟ وبين إيران وكل من ليبيا والجزائر واليمن الجنوبية؟ هل لأن هؤلاء جميعاً يشتركون مع الشيعة في إنكار السنة جزءاً أو كلاً؟... ألم يكن المتوقع من ثورة المستضعفين أن تقف معهم في سوريا؟ وهذا جزاء الإحسان؟ نعم لقد كان جزاء تأييد مجاهدي سوريا لثورة إيران التنكر لهم أولاً والطعن في جهادهم ثانياً وإلا بماذا نفسر تصريح خلخالي ضد المجاهدين ثم تكفير الخميني لهم في لندن عام 1980.
وأخيراً لماذا قام أعضاء مجلس الأمة الكويتي من الشيعة بالتصويت لجانب ضد المجاهدين عندما صوتوا من أجل إرسال 48 مليوناً من الدنانير لقوات الردع السورية(1).
وختاماً أرجوا أن تكون الرؤية قد وضحت للقراء الكرام حول إعانة الشيعة للكفار في القضاء على أهل السنة لأن دينهم يحتم عليهم تلك الإعانة.
ونضع بين أيدي القراء تقريراً كاملاً للتعاون الإسرائيلي الإيراني في مجال تزويد إسرائيل إيران بالسلاح، وإن كنت قد ذكرت هذا التقرير في كتابي "نقد ولاية الفقيه" إلا أنني رأيت أهمية ذكره في هذا الموضع، ليرى المسلمون حقيقة إيران الثورة، ومدى تعاون الرافضة مع اليهود.
الشحنات الإسرائيلية من السلاح لإيران
__________
(1) سراب في إيران 28-29 للدكتور أحمد الأفغاني.(193/79)
أحدث ما قامت به إسرائيل لتوفير الأسلحة لإيران، رغم أجواء توقف الحرب، هو صفقة سلاح من رومانيا تبلغ قيمتها (500) خمسمائة مليون دولار. وتأتي هذه الصفقة لتكشف تاريخاً طويلاً من العمل الإسرائيلي المتواصل منه 1980 لتوفير الأسلحة لإيران لكي تواصل حربها ضد العراق والعرب، وإذا كانت صفقات الأسلحة الإسرائيلية لإيران، هي الخبر الأهم، لأنَّ الخبر الأهم هو أن يقوم سماسرة ووسطاء إسرائيليون بالتجول في العالم وفي عواصم أوربا بالذات بحثاً عن أسلحة لإيران(1). لقد تجاوزت إسرائيل مرحلة بيع سلاحها وتقديمه للخميني، إلى قيامها بتوفير أية قطعة سلاح، ولو من السوق السوداء العالمية، لهذا النظام لكي يواصل رحبه ضد العراق.
وإذا كان هذا الأمر طبيعياً بالنسبة لإسرائيل، لأنها بذلك تحاول أن تدعم إيران في حرب ضد بلد عربي، ولكن الأمر الذي يفترض الكثيرون أنه غير مقبول هو قيام الخميني تحديداً بالاعتماد على إسرائيل في تسليح قواته وفي حربه، وصموده كنظام، رغم ما للخميني – صاحب هذا النظام – من أدبيات معادية لإسرائيل وهو الداعية لتحرير القدس وحتى فلسطين كلها. لكن يبدو أن الغاية تبرر الوسيلة لدى حكام إيران الحاليين. ومع هذا التحرك الإسرائيلي الجديد لتوفير الأسلحة لإيران من أي مصدر كان، فتحت أوساط سياسية وعسكرية واستراتيجية ملف صفقات الأسلحة بين إسرائيل وإيران، واعتبرت أنها زادت عما كانت عليه أيام الشاه وفاقتها أضعافاً.
إسرائيل في المقدمة
__________
(1) حدث يوم الخميس 16 يونيو الجاري 1409ه.(193/80)
أحدث الأرقام عن صفقات الأسلحة أن الإنتاج الحربي الإسرائيلي حقق تطوراً، كمياً ونوعياً، في النصف الأول من الثمانينات، فشهدت صادراته زيادة ضخمة على النحو الآتي: كانت عام 1983 ما قيمته 850 مليون دولار، ارتفعت عام 1986 إلى مليار و300 مليون دولار(1). وقدرت مصادر أوربية متخصصة بالشؤون العسكرية أن الزيادة في مجملها، وبنسبة 80% منها، كانت كلها صادرات أسلحة وقطع غيار إسرائيلية إلى إيران(2).
وترى هذه المصادر أن مقابل هذا الدعم العسكري بالأسلحة من إسرائيل لإيران، تحظى الحكومة الإسرائيلية بسيطرة اقتصادية ظاهرة في إيران، أي عن طريق اليهود الإيرانيين الممسكين بالاقتصاد الإيراني، أو عن طريق شركات كانت تعمل في عهد الشاه، ثم أوقفت أعمالها مؤقتاً مع بداية حكم الخميني، وحالياً عادت لتعمل بحيوية ونشاط.
وفي هذا المجال نعود إلى ما سبق للخميني وقاله عن الاقتصاد الإيراني نفسه وتسلط إسرائيل عليه: "إن اقتصاد إيران هو في قبضة الأمريكان والإسرائيليين وقد خرجت التجارة من أيدي المسلمين(3).
أو عندما قال: "إن المحزن أكثر هو هيمنة إسرائيل وعملائها على كثير من الشؤون الحساسة للبلاد وإمساكها بالاقتصاد"(4).
__________
(1) معلومات في أحد تقارير "المركز الدولي للأبحاث السلمية في ستوكهولم" وردت ف مجلات عسكرية متخصصة مطلع العام 1987.
(2) مجلة "لوبوان" الفرنسية ومجلة "استراتيجيا" الشهرية اللبنانية. مطلع العام 1987.
(3) خطاب الخميني في "قم" في 15 أبريل 1964 .
(4) بيان للخميني حول إقرار قانون الحصانة القضائية للرعايا الأمريكيين.(193/81)
لكن هذا الكلام ذهب أدراج الرياح، وها هي إسرائيل تتسلط على نسبة كبيرة من اقتصاد إيران، وفي ظل حكم الخميني نفسه، ولقد عادت شركة "أرج" الاحتكارية الكبرى للظهور، بعد أن كانت قد أوقفت أعمالها مؤقتاً، وهي شركة إسرائيلية كبرى سبق للخميني أن هاجمها، كما هاجم "الكوكاكولا" في إيران التي هي أيضاً إسرائيلية، والطريف والمثير هو أن إسرائيل عادت لتغرق السوق الإيرانية بإنتاجها من البيض، وهذا كله سبق للخميني واتخذ منه حجة ضد حكم الشاه المخلوع(1).
ولقد كشفت مصادر مطلعة في باريس أن السماسرة الذين يعملون لتجميع السلاح إلى إيران، وبينهم إسرائيليون، يتخذون من "فيللا شاليه باساغي"(2)، الواقعة على الطريق الثاني من بحيرة جنيف، أي من الجهة الفرنسية بالقرب من قرية "سانت بول أن شاليه" والأرض المحيطة بها، ومساحتها 28 ألف متر مربع، يتخذون منها مركزاً لتجميع الأسلحة التي يشتريها الإسرائيليون، تمهيداً لشحنها عن طريق الموانئ الأوروبية إلى إيران. كما يتخذ السماسرة، وبالذات الإسرائيليون، من مزارع مجاورة لتلك الفيللا وهي "مارالي" و "لي هوز" و "لي مويت" مراكز لتدريب الإيرانيين على بعض الأسلحة وبعض الخطط العسكرية. ويتولى "أوتيون دي بنك سويس" عمليات دفع ثمن الصفات التي تحولها إسرائيل إلى إيران(3).
__________
(1) تصريحات الخميني على أثر اعتقال الطالقاني وبازركان خلال حكم الشاه.
(2) وهي فيللا كانت لشاه إيران وعادت للحكومة الإيرانية الحالية.
(3) نشرة "ستار" الصادرة بالفرنسية والمتخصصة ببعض الأخبار الخاصة بالأسلحة.(193/82)
ورأت تلك المصادر أن إسرائيل في حماسها هذا لتوفير السلاح لإيران أن تحقق أرباحاً باهظة، وكذلك تساعد في إطالة أمد الصراع ضد العراق والعرب، لتعطيل قدرات العرب ككل، ولتحقيق مكاسب داخل إيران نفسها ومنها: تخفيف الضغط عن اليهود الإيرانيين وخاصة التجار منهم، والسماح بتحويل أموالهم لإسرائيل، وخاصة أموال التاجر اليهودي الكبير حبيب الفانيان، وهو أحد المحتكرين الكبار أيام الشاه والذي تم إعدامه في إيران في مايو 1979 في مطلع زحف الجماهير الإيرانية ضد حكم الشاه(1).
صفقات قديمة ..
أما صفقات الأسلحة الإسرائيلية لإيران، فرغم أن أمرها قد اتضح مع فضيحة "إيران جيت) في العام 1987، إلا أنها قديمة وتعود إلى مطلع الثمانينات، أي مطلع حكم الخميني نفسه، ويلخص أبا ايبان وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق وضع إسرائيل مع حكم الخميني بقوله: "عندما يكون النظام الإيراني صديقاً فإننا نمكنه من الحصول على الأسلحة، للاحتفاظ بصداقته، أما عندما لا نعرف ما هو موقفه من إسرائيل فإننا نمكنه من الحصول على الأسلحة لمعرفة ذلك(2).
إذن العودة إلى مطلع الثمانينات تكشف صفقات الأسلحة الإسرائيلية لإيران الخميني بالأرقام حسب ما ورد في صحف ومجلات وكتب في هذا المجال.
ـ ولقد قالت الصحف الكويتية في 30 سبتمبر 1980 وكذلك في أكتوبر من العام نفسه أن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية على علم مسبق وتوافق على استخدام إسرائيل طائرات أجنبية وطرقاً جوية أوروبية غير مباشرة لشحن قطع الغيار إلى إيران. بعد الصحف الكويتية قالت صحيفة "الأوبزرفر" اللندنية في نوفمبر 1980 أن إسرائيل ترسل قطع غيار الطائرات (ف-14) وأجزاء مروحيات وصواريخ على متن سفن متوجهة إلى موانئ إيرانية ومن بينها مرفأ بندر عباس، بعض تلك الشحنات من الولايات المتحدة إلى إسرائيل ثم تحويلها مباشرة إلى إيران دون أن تمر بإسرائيل.
__________
(1) صحف 10 مايو 1979 .
(2) الواشنطن بوست 12 ديسمبر 1986 .(193/83)
وفي العام 1981، وفي شهر يناير بالذات، جاء في تقرير أمريكي أعدته مصلحة الأبحاث التابعة للكونجرس ونشرته الصحف(1). إن إسرائيل تهرب الأسلحة وقطع الغيار إلى إيران. وعندما سئل متحدث باسم الخارجية الأمريكية عن ذلك أجاب أنه اطلع على تقارير بهذا المعنى، وكانت يومها إدارة الرئيس الأمريكي كارتر في الحكم.
وبعد خروج كارتر وموظفيه من الحكم، اعترف كثير منهم بأنَّ إسرائيل طلبت ترخيصاً أمريكياً في سبتمبر 1980 ببيع السلاح، وتحديداً معدات عسكرية لإيران. وفي الشهر التالي بدأت إسرائيل تبيع إطارات عجلات طائرات فانتوم (ف-4) لإيران. وقد استخدم مطار مدني في مدينة "تيمز" الفرنسية بالقرب من قاعدة عسكرية محطة ترانزيت لشحن الإطارات، وقد ساعد في ذلك تاجر سلاح فرنسي كان مشاركاً في الصفقة، وقد كشف ذلك في برنامج "بانوراما" التليفزيوني في هيئة الإذاعة البريطانية(2). وأشارت الصحف يومها إلى أن إدارة ريجان تورطت منذ البداية بصفقات الأسلحة الإسرائيلية إلى إيران عن طريق "موريس اميتاي" من اللجنة الأمريكية – الإسرائيلية للشؤون العامة وبإيعاذ من روبرت س. مكفرلين الابن وهو عضو مغمور في لجنة مجلس الشيوخ للخدمات المسلحة(3).
__________
(1) صحف مارس 1981 .
(2) أذيع البرنامج في أول فبراير 1981 مساء.
(3) "واشنطون بوست" 29 نوفمبر 1986 .(193/84)
ـ الشحنة الأولى من إطارات عجلات طائرات "الفانتو" (ف-4) تلتها شحنة ثانية من قطع الغيار بلغت قيمتها 600 ألف دولار. لكن خط الإمداد الفرنسي انهار، فجري استبداله بتاجر بريطاني للسلاح نظم خطاً للطيران الإسرائيلي إلى إيران عن طريق قبرص مستحدثاً طائرات شحن من طراز (C.L.44) تابعة للشركة الأرجنتينية "ترانسبورت ابرو ريو بلاتينس". وكانت هذه الصفقة الإسرائيلية لإيران عن طريق قبرص شحنات قطع غيار للدبابات و360 طناً من الذخيرة التابعة للدبابات من طراز (م-48) و(م-60) ومحركات نفاثة مجددة وإطارات إضافية للطائرات(1).
ـ ثم بعد ذلك صفقة أسلحة إسرائيلية بقيمة 136 مليون دولار، تم شحنها أواسط 1981، عقدها التاجر الإسرائيلي "يعقوب نمرودي" وهو ضابط إسرائيلي متقاعد اتخذ من لندن مقراً لتجارته. والذي كشف أمر إسرائيل في هذه الصفقات كلها هو قيام طائرات سوفيتية في يوليو 1981 بإسقاط طائرة تبين فيما بعد أنها كانت تتولى شحن الأسلحة الإسرائيلية إلى إيران عبر قبرص، تم إسقاطها عند الحدود التركية – السوفيتية(2).
إسرائيل تستمر وتحسن النوعية
ومع مطلع العام 1982، كانت إسرائيل مستمرة في تصدير الأسلحة إلى إيران، وكانت عبارة عن شحنات من ذخائر دبابات عيار 105 ملم، وذخائر هاونزر عيار 155 ملم، وقطع غيار طائرات فانتوم (ف-4) الأمريكية الصنع، ودبابات (ام-48 وام-60) وأجهزة اتصال كاملة مع قطع غيارها.
وحتى يوليو 1983، لم يستمر تدفق الأسلحة الإسرائيلية لإيران فحسب، بل تحسنت نوعية الأسلحة:
__________
(1) "إسرائيل والحرب الإيرانية – العراقية" بحث بقلم شاهرام تشويين في مجلة الدفاع الدولية في عددها (3) مارس 1985 مجلد (18).
(2) نشرت ذلك صحيفة "الصنداي تايمز" اللندنية في 26 يوليو 1981م.(193/85)
ـ ففي 6 يناير 1983 كانت هناك شحنات ضخمة مميزة ضمت ما يلي: صواريخ سابدوندر جو – جو، 400 ألف طلقة مدفع هاون، 400 ألف طلقة مدفع رشاش، ألف هاتف ميداني، 200 جهاز تشويش للاتصالات الهاتفية(1).
ـ وفي شهر يوليو 1983 نشرت معلومات عن صفقة "غرودي" التي بلغت 136 مليون دولار. أفاد تلك المعلومات أن الأسلحة التي تم شحنها كانت متطورة وحديثة وكلها أمريكية الصنع، ويحظر شحنها إلى دولة غير إسرائيل. لكن إسرائيل شحنتها إلى إيران. وضمت صواريخ "لانس" الذاتية الاندفاع، صواريخ "هوك" الضادة للطائرات، قذائف مدفعية عيار 155 ملم من نوع "تامبيلا" و "كوبرهيد" الموجهة بأشعة الليزر(2). وأكدت هذه المعلومات صحيفتان إسرائيليتان هما "يديعوت احرونوت" و "ها أرتس" ونشرت تفاصيل كثيرة حول صفقة "غرودي".
كما نشرت المعلومات نفسها مع إضافات عليها مجلة سويسرية هي مجلة "ولتوتش" وهي مجلة معتدلة.
ـ وفي يناير 1983 بدأت الصحف الأمريكية تتحدث عن صفقات الأسلحة الإسرائيلية المتطورة – ذات الصنع الأمريكي – إلى إيران. رغم أنها أسلحة يحظر بيعها وتصديرها إلى دولة ثالثة غير أمريكا وإسرائيل. فقد نشرت مجلة دورية هي يومية الدفاع والشؤون الخارجية "معلومات تشير أن إسرائيل كانت تشحن قذائف عنقودية محرمة إلى إيران، كما أن قطع غيار الطائرات (ف-14) تومكات" القليلة في سلاح الجو الإيراني ترسل مباشرة وبانتظام من إسرائيل إلى إيران على متن طائرات شحن(3).
__________
(1) صحيفة "بوسطن جلوب" 27 يوليو 1983 .
(2) صحيفة "ليبرسون" الفرنسية اليسارية، يوليو 1983 .
(3) دورية "الدفاع والشؤون الخارجية اليومية" في 24 يناير 1984 .(193/86)
ـ ثم نشرت الصحف الألمانية في مارس 1984 تفاصيل عن صفقة "غرودي" نفسها جاء فيها أن الصفقة الإسرائيلية من الأسلحة تشحن على متن طائرات "العال" للشحن في رحلات ليلية تمر فوق الأراضي السورية في طريقها إلى إيران(1). ولم تنف تلك الصحف، وتحديداً مجلة شتيرن علم سوريا بتحليق تلك الطائرات.
ـ كذلك نشرت صحيفة ألمانية غربية أخرى هي "فرانكفورت" وهي يومية محافظة، أن شحنات إسرائيل إلى إيران من أسلحة بلغت ما قيمته 500 مليون دولار والأسلحة كلها من صنع أمريكي وإسرائيلي، وهناك قسم منها صدر من لبنان(2).
دليل إسرائيلي رسمي:
لم يبق أمر الصفقات الإسرائيلية من الأسلحة إلى إيران مجرد تقارير خجولة من هنا وهناك، وأنباء صحفية في صحف غربية موثوقة، بل تعدى الأمر ذلك إلى تقديم دليل رسمي على لسان ارييل شارون وزير الدفاع الإسرائيلي مطلع الثمانينات. أي أنه عاصر معظم شحنات الأسلحة الإسرائيلية إلى إيران وأشرف عليها.
وفي مايو 1984 أي بعد أن استقال أرييل من وزارة الدفاع، والذي جاءت استقالته مجرد لعبة خبيثة لتغطية الدور الإسرائيلي في مجازر مخيمي صبرا وشاتيلا ضد الفلسطينيين المدنيين، إذ بعد أن استقال زار الولايات المتحدة الأمريكية في التاريخ نفسه. وفي واشنطون أعلن بصراحة أن إسرائيل كانت تبيع وتسوق وتشحن الأسلحة إلى إيران، وبمعرفة الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
وكان شارون، رغم استقالته من وزارة الدفاع، قد بقي وزيراً دون حقيبة في حكومة الليكود الائتلافية حتى العام 1987، إذن كان مازال وزيراً عندما أدلى تصريح ذاك.
__________
(1) مجلة "شتيرن" الألمانية الغربية، مارس 1984 .
(2) صحيفة "فرنكفورتر" الألمانية الغربية الصادرة في 17 مارس 1984 .(193/87)
كذلك، ورغم نفي إدارة ريجان علمها بالصفقات الإسرائيلية من الأسلحة الإسرائيلية والأمريكية وغيرها إلى إيران، فإن موقفاً أمريكياً كان قد صدر في مارس 1984 يدعو إسرائيل والدول الأوروبية لتنسيق الجهود مع واشنطون لقطع شحنات السلاح إلى إيران. واعتبر هذا الموقف تغييراً رسمياً عن علم واشنطون بدور إسرائيل وغيرها في شحن الأسلحة إلى إيران. وقد تولى السفير الأمريكي فوق العادة ريتشارد فيربانكس هذه المهمة.
وتتحدث الصحف في هذه الفترة، في العام 1984 وما بعدها عن مواقف وإجراءات اتخذها موظفون أمريكيون كبار أمثال جفري كمب المدير الأول لشؤون الموظفين لقضايا الشرق الأدنى في مجلس الأمن القومي، وفيري نكس نفسه، وماكفرلين، كلها صبت في تأكيد الشحنات الإسرائيلية من السلاح لإيران، وبمعرفة أمريكا نفسها(1). وتطورت تلك المواقف والجهود الأمريكية ووصلت مع "كمب" إلى وضع مذكرة عرفت "بمذكرة كمب" لتطوير العلاقات مع إيران والتي تم تديمها إلى مجلس الأمن القومي الأمريكي في أكتوبر 1984.
" إيران جيت " الشهيرة :
__________
(1) تقرير لجنة "تاور" واسمها الرسمي " المجلس الرئاسي للمراجعة الخاصة". صدر في 26 فبراير 1987.(193/88)
في هذه الأثناء، وبعد مذكرة "كمب" جرى تحضير صفقة صواريخ "تاو" الأمريكية إلى إيران. وجرى التحضير بين مسؤول في الاستخبارات المركزية الأمريكية وبين رجل أعمال إيراني يعمل لصالح إسرائيل وإيران معاً هو منوجهر جوربانيفار. وعندما تأكدت إسرائيل من هذا التحول الأمريكي في سياسة "لا أسلحة لإيران" إلى "الأسلحة لإيران" تحرك تاجرا السلاح الإسرائيليان "غرودي" و"أولف شويمر" بالتعاون مع اميرام نير – مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون بيريز يومذاك – فعقدوا اجتماعات مع جوربانيفار، بحضور رجل أعمال أمريكي كان ذلك في يناير 1985، وكانت النتيجة درس تقديم شحنات أسلحة أمريكية إلى إيران، وهو ما كشفت عنه لجنة "تاور" في تقريرها فيما بعد. ونتج عن ذلك تشجيع إسرائيلي لتلك الشحنات، لذا قامت حكومة إسرائيل عبر روبرت ماكفرلين، ومساعده الكولونيل أوليفرنورث، ومايكل لدين المستشار في مجلس الأمن القومي بالتحضير لأمر ما في هذا المجال.
وفي مايو 1985 قام "لدين" بزيارة رسمية لإسرائيل حيث طلب منه شمعون بيريز مصادقة ماكفرلين على شحة ذخائر ضخمة إلى إسرائيل، وعلى أثر ذلك قام ديفيد كمحي المدير العام للخارجية الإسرائيلية، بتكليف من بيريز، بالاتصال بماكفرلين لتنسيق شحن الأسلحة لإيران.(193/89)
ثم في يوليو 1985 جرى رفع الاتصال إلى مستوى وزير الخارجية الأمريكية لشولتز نفسه. ونتج عن ذلك اجتماع ضم "لدين" وجوربانيفار وكمحي، وشويمر وغرودي تم فيه تحديد المطلوب من صواريخ "تاو" لكن الأمر مهم وخطير ويحتاج إلى ضوء أخضر من الرئيس الأمريكي نفسه. فتولى ذلك بيريز عن طريق ماكفرلين ونائبه الأميرال جن بونيدكستر، وكان اقتراح كمحي "بيع" صواريخ "تاو" الأمريكية لإيران لكن عبر إسرائيل. وفي اجتماع ضم ريجن ونائبه بوش ووزير خارجيته شولتز، وواينبرجر وزير الدفاع، ومدير شؤون الموظفين الرئاسي دونالد ريجان ومدير وكالة الاستخبارات المركزية وليم كيسي تقرر إعطاء الضوء الأخضر الأمريكي، وهكذا كان فقامت إسرائيل في 30 أغسطس وفي 13 سبتمبر 1985 بإرسال مائة صاروخ "تاو" في شحنة أولى ثم 408 صواريخ في شحنة ثانية.
بعد صواريخ "تاو" أتت صفقة صواريخ "هوك" وكلها صفقات إسرائيلية لإيران، لكن بعد موافقة واشنطون. لكن إسرائيل وجدت نفسها دائماً تسعى وبإلحاح لإتمام الصفقات، وتحديدها، ثم شحنها.
ففي نوفمبر عام 1985، قام وزير الدفاع الإسرائيلي إسحاق رابين بنفسه بتحضير صفقة صواريخ "هوك" مع ماكفرليني. وتمت الصفقة وشحنت الصواريخ، وهذه المرة عن طريق شركة طيران تابعة للاستخبارات الأمريكية المركزية (سي آي) شحنت تحت اسم "قطع وأدوات لحفر آبار نفط" ورحلت إلى إيران في 25 نوفمبر المذكور.
وهذه الصفقات من الصواريخ هي التي عرفت بـ"إيران جيت" والتي قضت بإرسال صواريخ لإيران مقابل قيامها بإطلاق الرهائن الأمريكيين المخطوفين، لكن الأسلحة وصلت والرهائن لم يصلوا، لأن إيران تعتبر هذه الأسلحة من إسرائيل، وليست ملزمة تجاه واشنطون بشيء. وكما نشر في سياق "إيران جيت" أن إيران لم تعجبها الصواريخ لأنها من النوع الإسرائيلي "غير المحسن" لذا كانت تحمل نجمة داود الإسرائيلية.
وبقية تفاصيل "إيران جيت" أصبحت معروفة.(193/90)
لكن ما ذكر في هذا المجال، وبعد فضح "إيران جيت" الدور الإسرائيلي في توريد الأسلحة لإيران، قال شولتز مبلغاً موظفيه في الخارجية الأمريكية: إن مخططات إسرائيل نحو إيران هي لدعمها، وهي ليست مخططاتنا؟! وعلينا أن نتعامل مع إسرائيل على أنها لها أغراضها الخاصة في إيران وفي دعمها ومدها بالأسلحة.
وهكذا فضحت لجنة "تاور" فيما بعد في تقرير الدور الإسرائيلي في شحن الأسلحة إلى إيران عندما قالت: إن السياسة التي اتبعتها إسرائيل في تسليح إيران الخمينية صارت سياسة أمريكية.
ومع افتضاح أمر الجميع في "إيران جيت"، تعطل ضخ الأسلحة لإيران بعض الوقت، لكن إسرائيل عادت واتبعت خطة تقضي بشراء الأسلحة من السوق السوداء وأينما توفرت، ثم تأهيلها لتصبح صالحة في أمكنة مخصصة لذلك في أوروبا، ثم شحنها إلى إيران. هذا ما يقوم به السماسرة حالياً بحسب ما ورد في مطلع هذا التحقيق.. أنهم يدورون العالم كله بحثاً عن سلاح لإيران!
مصلحة إسرائيل في ذلك واضحة. إنها تريد أن تدفع إيران للنصر على العراق الجبهة التي صمدت ببسالة في وجه إيران، بل واجتازت الصمود إلى التحرير، فحررت "الفاو" ثم "الشلامجة" وأراضي شرق البصرة. فالعراق عدو إسرائيل، وكم مرة هددت طائراته عمق الأرض التي يحتلها العدو الإسرائيلي. ومن هنا يظهر الدور الإسرائيلي لشغل العراق بالحرب مع إيران لإراحة إسرائيل وإضعاف الجبهة المواجهة لها.(193/91)
وفي هذا المجال، ومجال صفقات الأسلحة لإيران تحديداً، نشرت "مؤسسة ستوكهولم الدولية لأبحاث السلام السنوي عام 1984" معلومات مثيرة تشير إلى أن ثلاث دول وفرت السلاح اللازم لإيران في حربها مع العراق هي كوريا الشمالية، وسوريا، وليبيا، فالغرابة هي في موقف كوريا الشمالية التي حالفها العرب ويحالفونها، لأنها تولت تزويد إيران بالأسلحة إلى درجة أنها وفرت نسبة 40% من تسليح إيران عام 1984، لكن الأغرب هو موقف دولتين عربيتين تلاقتا بشكل مباشر أو غير مباشر مع إسرائيل في تسليح إيران(1).
وأسلحة الشاه إسرائيلية
هذا كله شحنات إسرائيلية من الأسلحة – من إسرائيل من أمريكا من السوق السوداء في العالم إلى أية دولة – لدعم "حكم الثورة في طهران" "ثورة خميني" والذي أعلن وما زال هو وآيات الله والآخرون إنهم ضد إسرائيل، وضد تسلطها على الاقتصاد الإيراني، والجيش الإيراني وأنهم في الخندق الفلسطيني، وأنهم سيحررون القدس!؟ فكيف ذلك، وإسرائيل تزودهم بالسلاح منذ نجاح "ثورتهم"؟! منذ الثمانين وإسرائيل تزود نظام الخميني بالسلاح.
وحتى الأسلحة التي كانت موجودة في ترسانات الجيش الإيراني، عندما جاء نظام الخميني، كانت إسرائيلية أيضاً، وهذا ما كشفته المعلومات أيضاً:
__________
(1) كتاب مؤسسة ستوكهلم الدولية لأبحاث السلام السنوي 1984، صفحة 199 .(193/92)
ـ فلقد أعلنت صحيفة "نيويورك تايمز" في عددها الصادر في 30 ديسمبر 1986، وفي صفحتها الأولى أنه خلال الأعوام الأربعة الأخيرة من عهد الشاه أي (1975-1979) صارت إيران المستورد الأول للسلاح في العالم(1). وعند سقوط الشاه وتسلم الخميني الحكم كان هناك ما قيمته 22 مليار دولار من المعدات العسكرية الثقيلة في المخازن والعنابر(2)، كانت أمريكا هي المصدر الرئيسي للأسلحة لإيران.
وكانت مع الولايات المتحدة الأمريكية جهة أخرى تزود إيران الشاه بالسلاح هي إسرائيل. كان الإسرائيليون كالأمريكيين في وزارة الدفاع الإيرانية. وقام الإسرائيليون بتدريب الشرطة الإيرانية. وتأسيس جهاز قمع التحرر، وقاموا بعمليات داخل العراق لدعم الأكراد ضد نظام الحكم في العراق. ولقد تلاقت مصالح واشنطون وتل أبيب في دعم حكم الشاه(3).
خلال فترة حكم الشاه ارتفعت قيمة الصادرات الإسرائيلية لإيران من 33 مليون دولار في عام 1973-1974. إلى مائة مليون دولار عام 1975-1976، إلى 200 مليون دولار في 1976-1977. وكانت أغلبية هذه الأموال ثمن معدات وأسلحة إسرائيلية لإيران. ولقد كانت إيران هي الميدان الأول من ميادين "ديلوي سيد عوزي" الإسرائيلي وهي نسبة إلى "رشاش عوزي" الإسرائيلي المعروف(4).
__________
(1) اعتمدت الصحيفة في ذلك على مقابلة أجراها مراسلها مع دييد كمحي مدير الخارجية الإسرائيلية.
(2) مؤسسة ستوكهولم "المصدر السابق نفسه".
(3) "تغلغل إسرائيل في العالم" دبلوماسية مبيع الأسلحة، بقلم أرون كلمان. برجمان براسي، واشنطون عام 1985. وآرون كلمان أستاذ في جامعة تل أبيب وخبير مبيعات الأسلحة الإسرائيلية في فترة حكم الشاه.
(4) "تغلغل إسرائيل" المصدر السابق نفسه.(193/93)
لقد كانت إسرائيل حتى قبل سقوط الشاه قد تمكنت من توقيع عقود مع القوات الإيرانية المسلحة للتدريب والصيانة. كما كانت طائرات (ف-4) الإيرانية تشارك في عمليات تدريبية في قواعد جوية إسرائيلية. كذلك كشفت الوثائق – بعد سقوط الشاه – أن جيش الدفاع الإسرائيلي والجيش الإيراني كانا يتعاونان بشكل سري لتطوير صاروخ – أرض التكتيكي الذاتي الحركة والدفع، والمصمم لحمل رأس نووي ويصل إلى مدى 200كلم. وفي صيف 1977 شاهد وزير الدفاع الإيراني حسن طوفانيان في تجربة إطلاق صاروخ "جريكو" الذي هو نموذج أول للصاروخ الإسرائيلي – الإيراني – المشترك. كان هذا المشروع صفقة جيدة وقعها الشاه مع وزير الدفاع الإسرائيلي يومذاك شمعون بيريز عام 1977(1). ووسط الحديث عن صفقات "إيران جيت" من الأسلحة لإيران، كشفت معلومات تشير إلى يعقوب غرودي أحد التجار المتورطين في "إيران جيت" كان رئيس البعثة العسكرية الإسرائيلية في طهران خلال 13 عاماً عرف خلالها "بالسيد إسرائيل"، ويقول غرودي أمام مراسل صحفي "إذا سمح لنا يوماً ما بالحديث عن كل ما قمنا به في إيران فإنك سوف تفزع لأن الأمر يفوق تصورك"(2).
__________
(1) "لندن أوبزرفر" 2 فبراير 1986. وثائق بعثة التجارة الإسرائيلية بعد سقوط حكم الشاه.
(2) صحيفة "دافار" الإسرائيلية 29 نوفمبر 1985.(193/94)
إضافة إلى ذلك فإن أوبري لوبراني الذي عمل ومازال المنسق الإسرائيلي للشؤون اللبنانية، كان المسئول الإسرائيلي المقيم في طهران في عهد الشاه ثم مع مطلع عهد الخميني، وتقول صحيفة "وول ستريت جورنال" في 9 فبراير 1979، أنه أثناء ثورة الخميني أمنت إيران أكثر من نصف حاجة إسرائيل من الطاقة، ولقد اتضح كم استند نظام الخميني في البداية مع الثمانينات على الأسلحة الإسرائيلية والأمريكية على السواء لكي يوطد أقدامه إضافة إلى الاعتماد على مستشارين إسرائيليين كانوا مازالوا في طهران بفعل وجود جالية يهودية كبيرة في إيران، الأمر الذي أتاح لهم البقاء كيهود. لكنهم لم ينسوا ممارسة دورهم في الوجود قرب النظام الجديد.
هكذا تكون إسرائيل قد تابعت وجودها ومهامها ودعمها، تابعت ذلك كله خلال عهد الشاه، ثم بعد سقوطه خلال عهد الخميني. ويبدو أن الصفقات الإسرائيلية من الأسلحة لإيران زادت كثيراً خلال حكم الخميني وفاقت الصفقات الأمريكية، وتكون إسرائيل بذلك تحارب العراق عبر إيران، وتحارب مع إيران العراق في نوع من العدوانية التي تتساوى فارسيتها بإسرائيليتها.
المحتوى
الموضوع ... ... ... ... ... ... ... ... ... الصفحة
الإهداء ...
مقدمة الكتاب ...
- بيان أن كثيراً من المسلمين انخدعوا بالشيعة الاثني عشرية بسبب تدثرهم
بحب آل البيت ...
- صدور كتب شيعية كثيرة تدعو لوحدة المسلمين ...
- الخلاف بين أهل السنة والشيعة خلاف جوهري في الأصول، وفي العقائد ...
- حقيقة موقف الشيعة من أهل السنة ...
- بيان المنهج المعتمد في هذه الدراسة ...
الفصل الأول:
مفهوم الناصب عند الشيعة ...
- تمهيد ...
- خير سبيل لفهم مصطلحاتهم هي كتبهم ...
- يوسف البحراني وتحقيق الناصب ...
- حسين العصفور وتحقيق الناصب ...
- نعمة الله الجزائري وتعريف الناصب ...
الفصل الثاني:
إله السنة غير إله الشيعة ...(193/95)
- أحد أكبر علماء الشيعة هو الذي تفوه بهذا ...
- مقارنة بين عقيدة اليهود والشيعة في الله تعالى من جهة، وبين معتقد أهل
- السنة من جهة أخرى ...
- استعراض عقيدة اليهود في الله تعالى ...
- كيف تسربت عقيدة اليهود – هذه – إلى الفكر الشيعي؟ وبيان ذلك ...
- عقيدة البداء عند الشيعة ...
- معنى البداء ...
- نقول من مصادر الشيعة المعتمدة في عقيدة البداء ...
- منزلة البداء في التشريع عند الشيعة ...
- الله جل جلاله متصف بالكمال المطلق في عقيدة أهل السنة والجماعة ...
الفصل الثالث:
استباحة الشيعة لأموال ودماء أهل السُّنَّة ...
مدخل لهذا الفصل ...
الأخبار الناهية عن القتل إنما صدرت عن التقية ...
الخميني يُجوّز الاستيلاء عن أموال أهل السنة ...
الشيعة تبيح إراقة دماء أهل السنة ...
جواز قتل أهل السُّنة في رأي الجزائري ...
رأي شيخ طائفتهم نور الله ...
روايات أخرى في هذا الشأن ...
رسالتين للشيخ أحمد مفتي زادة وهو من أكابر علماء السنة المعاصرين
توضحان مدى الحقد الرافضي في إيران ضد أهل السنة ...
الرسالة الأولى ...
* توجيهات للسادة العلماء مستوولي الثورة الإيرانية ...
* القلق من مستقبل الأمة الإسلامية المصابة بالتفرق ...
* القلق من اصطدام صناع الثورة ببعضهم ...
* مخاطبة مسئولي الثورة باعتبارهم علماء الدين ...
* كلامي لكم ليس لمنفعة دينية ولا انتظار أن تكونوا ملتزمين ...
- من المؤسف أن يبغضكم المسلمون وأنتم علماء دين!! ...
- ضرورة إصلاح عيوبكم ...
أسباب زوال نظامكم تكمن في: ...
(1) السعي لإدامة السلطة وإكراه أهل السنة على التشيع ...
(2) إجراءات وبرامج تتنافى مع "الفقه الجعفري" ...
- أما بشأن المسألة الثانية فإن الفقه الجعفري مدون ...
- أما أصل المشكلة فهي المسألة الأولى ...
- عدم موافقتكم أهل السنة في الاعتقاد ...(193/96)
- الاحتكام إلى الله ورسوله ...
نص الرسالة الثانية
- هذه الرسالة تتمة للرسالات التي بعثها الخميني ...
- ضرورة وضع حد لمشكلة الاضطرابات ...
- ظلم أن يكون الدستور مطابقاً للشريعة الإسلامية ...
- السعي لتأسيس مجلس "الشورى المركزي للسنة" ...
- طلب السعي للتحقيق في الجنايات التي ارتكبها رجال السلطة في حق أهل السنة ...
- ختام الرسالة الثانية ...
الفصل الرابع:
الصلاة خلف أهل السنة
- مدخل إلى هذا الفصل ...
- نصوص من كتبهم المعتمدة حول صحة الصلاة أو عدم صحتها بالنسبة للشيعي
إذا صلى خلف أهل السنة ...
- خاتمة بعد استعراض (39) نصاً ...
الفصل الخامس:
الشيعة ونكاح أهل السنة ...
مدخل أن الشيعة لا يجيزون نكاح أهل السنة ...
من كلام الرافضي حسين العصفور ...
بعض علماء الرافضة ينكرون أن تكون رقية وأم كلثوم من بنات المصطفى
صلّى الله عليه وسلّم ...
قول لنعمة الله الجزائري من علمائهم ...
قول لأبي القاسم الكوفي ...
تعقيب عليهما ...
قول الشيخ المفيد ...
وتعقيب عليه ...
رواية شيعية عجيبة من نكاح عمر بن الخطاب لبنت الإمام علي بن أبي طالب
تعليق المجلسي على هذه الرواية ...
تعليق كبيرهم "المفيد" ...
قول المرتضى المزور على لسان الإمام علي – رضي الله عنه – ...
تعليق المجلسي عن كلام "المفيد" و"المرتضى" ...
تعقيب الأستاذ محمد مال الله على تعليق المجلسي ومن يشايعه ممن يتخبط في
الضلال ...
قول للرافضي الشقي "نعمة الله الجزائري" في كتابه "الأنوار النعمانية" ...
تعقيب المؤلف على رواية الجزائري ...
ذكر الروايات التي تدل على عدم جواز مناكحة أهل السنة من واقع المراجع
الرافضة ...
الفصل السادس:
وجوب مخالفة أهل السنة ...
مدخل في أن وجوب مخالفة أهل السنة هي مقياس صحة أي خبر عند الشيعة
السبب عند الخميني في المخالفة ...
الشيعة قلبوا حقائق التاريخ ...(193/97)
التاريخ – رغم أنف المجوس ومن معهم – حفظ لنا المواقف المشرفة التي
وقفها صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ...
الخميني ومخالفة العامة ...
إذا ورد عليكم حديثان فخذوا بما خالف القوم! ...
ترجيح المتعارض لدى الشيعة بما يخالف أهل السنة إنما هو نتيجة تنافر أدلة
أحكامهم ...
سرد روايات لهم عن مخالفة أهل السنة دائماً ...
التمسك بالكتاب والسنة باطل عند من التحفوا برداء موالاة أهل البيت ...
ختام هذا الفصل بكلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الرد على الرافضة ...
الفصل السابع:
التحالف الشيعي التتري النصراني اليهودي ...
موقف الشيعة خلال التاريخ مع التتر ضد أهل السنة ...
التاريخ سجل لنا مواقفهم ...
الإمام ابن تيمية يذكر ذلك عن الرافضة ...
الشيعة ترى أن كفر أهل السنة أغلظ من كفر اليهود والنصارى ...
دور الوزير ابن العلقمي الخياني في سقوط بغداد ...
بعض أقوال المؤرخين في خيانة ابن العلقمي ...
جلال الدين السيوطي وقوله في ابن العلقمي ...
قول أبي شامة ...
قول اليونيني ...
شمس الدين الذهبي ...
قول ابن شاكر الكتبي ...
قول السبكي في طبقاته ...
الديار بكري يذكر مكاتبة ابن العلقمي الرافضي لهولاكو ...
قول الأستاذ حسن السوداني ...
كل هذه المصادر أجمعت على أن ابن العلقمي كان ساعد هولاكو في غزو
بغداد ...
نصير الدين الطوسي الذي يترحم عليه الخميني أصدر فتوى بقتل المسلمين ...
تحالف الشيعة ضد أهل السنة على مدى التاريخ، ونماذج من ذلك ...
ملحق ملف الشحنات الإسرائيلية من السلاح لإيران ...
العمل الإسرائيلي المتواصل لتوفير الأسلحة لإيران ...
إسرائيل تقوم بتوفير أي قطعة سلاح ولو من السوق السوداء ليواصل
نظام الخميني حربه ضد العراق ...
والأمر الغير مقبول هو اعتماد الخميني – الداعية لتحرير القدس – عن
إسرائيل في تسليح قواته ...(193/98)
إسرائيل في مقدمة موردي الأسلحة لإيران ...
اليهود الإيرانيون ودورهم في اقتصاد إيران ...
إسرائيل تتسلط على نسبة كبيرة من اقتصاد إيران في ظل حكم الخميني ...
سماسرة السلاح إلى إيران ...
إسرائيل تجني أرباحاً باهظة بتوفيرها السلاح لإيران، وتطيل أمد الصراع ضد
العراق ...
الصفقات القديمة ...
صفقات السلاح لإيران تعود إلى مطلع الثمانيات ...
كشف عام 1980 ...
كشف عام 1981 ...
الحقيقة تتكشف بعد خروج "كارتر" ...
تورط إدارة "ريجان" بصفقات الأسلحة الإسرائيلية لإيران ...
الشحنة الأولى من إطارات عجلات "الفانتوم" ...
صفقة أسلحة في أواسط سنة 1981 ...
إسرائيل تستمر وتحسن النوعية ...
صفقات الأسلحة الإسرائيلية لإيران عام 1982 ...
صفقات الأسلحة الإسرائيلية لإيران عام 1983 ...
صفقة أخرى في "مارس" 1984 ...
دليل إسرائيلي رسمي ...
إرييل شارون يكشف أمر الصفقات ...
الصحف الإسرائيلية تطلب تطوير العلاقات مع إيران ...
"إيران جيت" الشهيرة ...
وأسلحة الشاه إسرائيلية ...
المحتوى ...(193/99)
نسخ عقيدة الإمام المعصوم و عودته
عند الشيعة الجعفرية الرافضة
الكتاب للدكتور مسلم اليوسف
وهو نسخ عقيدة عصمة الإمام و عودته
يتحدث الكتاب عن عقيدة الشيعة الروافض في الإمام و كيف إن بدعة ولاية الفقيه قد نسخت عقيدة عودة الإمام
عند الشيعة و أن الشعة المعاصرين قد أصبحوا مثل البهائية في اعتقاداتهم
بقلم
الشيخ المحامي الدكتور مسلم محمد جودت اليوسف
مدير معهد المعارف لتخريج الدعاة في الفلبين سابقاً
و الباحث في الدراسات الفقهية و القانونية
بسم الله الرحمن الرحيم
... إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله(1)… .
* ... يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون [ سورة آل عمران : 102 ] .
* يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [ سورة النساء : 1 ]
* ... يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [ سورة الأحزاب : الآية 70 – 71 ] .
و بعد :
__________
(1) - هذه الخطبة تسمى عند أهل العلم بخطبة الحاجة ، و هي تشرع بين يدي كل خطبة ، سواء كانت خطبة جمعة أو عيد أو مقدمة كتاب …إلخ .(194/1)
... إن بدعة ولاية الفقيه التي ظهرت داخل المسرح السياسي الشيعي المعاصر في إيران تبرهن على أن عقيدة الإمام المعصوم عودته باطلة شرعاً و عقلاً ؛ ذلك أن تلك الفكرة تبين يأس الشيعة من رجوع إمامهم المزعوم و بالتالي نسخ تلك العقيدة - الباطلة – عندهم بشكل عملي من خلال ما يسمى بولاية الفقيه .
فالإمامة عند الشيعة الإمامية تعتبر أس العقيدة و الشمس التي تدور حولها كواكب عقائدهم الباطلة فهم يجعلون من الإمامة ركناً من أركان الإسلام و جزءاً هاماً من عقيدته .
جاء في أصول الكافي عن أبي جعفر أنه قال : بني الإسلام على خمس ، على الصلاة ، و الزكاة ، و الصوم ، و الحج و الولاية ، و لم يناد بشيء كما نودي بالولاية فأخذ الناس بأربع و تركوا هذه – يعني الولاية ) .(1)
فالشيعة الإمامية جعلت الولاية أصلاً من أصول الإسلام و جزءاً هاماً من عقيدته محتجين بأنه ليس في الإسلام أمراً أهم من تعيين الإمام و لم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - - حسب زعمهم – أن يفارق الدنيا قبل أن يحسم هذا الأمر ، ذلك أن الإمامة نص من الله تعالى و هي ليست بالاختيار و الشورى بين أهل الحل و العقد كما هي عند أهل السنة و الجماعة .
و لما كان لابد لهذه الدعوة من أدلة فقد أكثر الشيعة منها لإثبات بدعتهم بالنص المؤول تأويلاً فاسداً أو الهوى المسمى عندهم عقلاً .
و سوف نبحث في هذا السفر في عصمة أئمة الشيعة الرافضة و أدلتها و الرد عليها كمبحث أول .
__________
(1) - أصول الكافي ، ج 2/18 و في الشافي شرح الكافي تصحيح لهذا الحديث عند عند الرافضة ، ج5/28. و الملاحظ أن أحاديث الشهادتين متواترة عند أهل السنة و الجماعة و أنها أحد مباني الإسلام الخمسة و قد أسقطتها الشيعة الإمامية و أحلت بدلاً منها الإيمان بالولاية .(194/2)
كما سنبحث في ولاية الفقيه و أدلته كمبحث ثان . ثم أختم بخاتمة بينت فيها نتائج بدعة ولاية الفقيه على الشيعة الرافضة و عقيدتهم في الإمام المعصوم و عودته .
و الله المستعان
المبحث الأول
في عصمة أئمة الشيعة الرافضة
و أدلتها و الرد عليها
قبل إيراد أدلة الشيعة لإثبات عقيدتهم لابد من تعريف العصمة حتى يفهم القارئ هذا البحث فهماً تاماً - إن شاء الله تعالى .
تعريف العصمة :
العصمة في اللغة تعني المنع ، قيل عصمه يعصمه عصماً أي منعه و وقاه ، و اعتصم فلان بالله أي امتنع بلطفه من المعصية .(1)
قال ابن قتيبة : عصم بمعنى منع و منه العصمة في الدين إنما هو المنع من المعاصي ) .(2)
أما العصمة في الاصطلاح عند أهل السنة و الجماعة فهي : للأنبياء و ذلك للزوم أداء الرسالة و تبليغها .
و قد بينت هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ذلك بقولها : ( الأنبياء و الرسل قد يخطئون ، و لكن الله تعالى لا يقرهم على خطئهم ، بل يبين لهم خطأهم ؛ رحمة بهم و بأممهم ، و يعفو عن زلتهم ، و يقبل توبتهم ؛ فضلاً منه و رحمة ، و الله غفور رحيم … ). (3)
أما الشيعة الإمامة فقد عرفوا العصمة بأنها : قوة في العقل تمنع صاحبها من مخالفة التكليف مع قدرته على مخالفته ) (4).
و لا شك بأن هذا التعريف باطل لمخالفته لأصول اللغة و الشرع و العقل السليم .
نشأة فكرة العصمة :
إن فكرة عصمة الإمام عند الشيعة الرافضة ما هي إلا ردة فعل شيطانية تجاه مخالفيهم في قضية إمامة علي رضي الله عنه ، لذلك كانت صفة ملازمة للإمام عنهم .
__________
(1) - مختار الصحاح ، ج1/183.
(2) - التقريب لابن قتيبة ، ج1/324.
(3) - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء ، ج3/264.
(4) - الشيعة في عقائدهم و أحكامهم ، للكاظمي القزويني ، ص 322.(194/3)
قال الخلال عليه رحمة الله : إن محنة الرافضة محنة اليهود ، قالت اليهود لا تصلح الإمامة إلا لرجل من آل داود و قالت الرافضة لا تصلح الإمامة إلا لرجل من ولد علي بن أبي طالب … ) (1).
و لذلك نرى التستري الرافضي يقول : ( الإمام قائم مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - و له الولاية العامة في الدين و الدنيا و ساد مسده ، فكما أنه شرط في النبي اتفاقاً فكذا في الإمام إلزاماً ) (2).
... و مع أن عقيدة العصمة الإمام و عودته تبدو في ظاهرها أمراً يتعلق بمباحث العقائد و الشرائع ، بيد أن حقيقتها ذات صلة متينة بالخلافة و أحقية أئمتهم بها ، و يعتبر الكليني في كتابه ( الأصول الكافي ) من أوائل الروافض الذين أسهبوا في بحث موضوع عصمة الأئمة و أسبغوا عليهم صفات لم يصلها حتى الأنبياء .
و قد برر الخميني هذه البدعة الكفرية بقوله : ( لأن عصمة المعصوم إنما كانت بسبب المنزلة العالية و المقام المحمود الذي لا يبلغه ملك مقرب و لا نبي مرسل ، و أيضاً بسبب خلافته التكوينية التي تخضع لولاياتها و سيطرتها جميع ذرات هذا الكون ) (3).
و يؤكد حقيقة صلة العصمة بثبوت الإمامة ما ذكره الدكتور موسى الموسوي وهو أحد علماء الشيعة المعاصرين من أن العصمة التي تتنافى مع العقل و المنطق ، و التي نسبت إلى الإمام كي يسد بها النقاش في محتواها على العقلاء و الأذكياء ، و يرغم الناس على قبولها ، لأنها من معصوم لا يخطئ . فهناك أمور نسبتها كتب الشيعة إلى الأئمة و امتلأت بها كتب الروايات الموقوفة عندهم مثل الكافي في الأصول و الوافي و الاستبصار و من لا يحضره الفقيه و غيرها و فيها الكثير من الغلو من أجل إثبات عقيدة العصمة (4).
__________
(1) - السنة للخلال ، ج3/497-498.
(2) - الصوارم المهرقة في جواب الصواعق المحرقة ، ص 50.
(3) - الحكومة الإسلامية ،ن ص47.
(4) - الشيعة و التصحيح ، د. موسى الموسوي ، ص 82-83.(194/4)
و الجدير بالذكر أن الروافض اختلفوا في عصمة الأئمة هل هي من الله أو هي استعداد الإمام على الرغم من أن كثيراً من علماء الشيعة حرصوا على القول بأن الأئمة لا يوحى إليهم مثل الرسل ، بيد أن الشيخ المفيد في الاختصاص يثبت الوحي لأئمة الشيعة ، و العياذ بالله .
قال في الاختصاص : عن أبي بصير قال : قال : سمعت أبا عبد الله يقول : لولا أنا نزداد لأنفدنا – أي نفد ما عندهم من علوم و معارف – فقد تزدادون فأخبره شيئاً ليس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : إذا كان ذلك أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره . ثم أتى علياً فأخبره ، ثم إلى واحد بعد واحد حتى ينتهي إلى صاحب الأمر ؟ ) و في رواية أخرى تصرح بأن الأئمة يأتيهم الوحي كما يأتي للرسل تماماً و العياذ بالله .
... ( يأتي الملك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول : يا محمد ربك يأمرك كذا و كذا ، فيقول انطلق به إلى علي ، فيأتي به علياً ، فيقول : انطلق به إلى الحسن ، فلا يزال هكذا ينطلق به إلى واحد بعد واحد حتى يخرج إلينا ) (1).
...
... أدلة الشيعة الرافضة على عقيدة عصمة أئمتهم و الرد عليها :
... يأتي الشيعة الروافض بأدلة نقلية و عقلية لإثبات عقيدتهم في عصمة الأئمة ، و لعل أهم تلك الأدلة تتلخص بالتالي :
... أولاً – الأدلة النقلية :
... اعتمد الشيعة على كثير من الأدلة النقلية لتدعيم بدعتهم نوردها وفقاً لما يلي :
... أ – القرآن الكريم :
... 1- قوله تعالى : ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (سورة البقرة : الآية 124) .
__________
(1) - الاختصاص للشيخ المفيد ، ص 307.(194/5)
حاول الشيعة الرافضة الاستدلال بهذه الآية على أن إمامهم لا يكون إلا معصوماً ، لأن الله تعالى – بحسب زعمهم – لا يعطي عهده لظالم و الذي هو بحسب زعمهم الإمامة أي الإمامة العظمى .
و غير المعصوم لابد و أنه ظالم لنفسه و لغيره و الله سبحانه عصم اثنين أن يسجدا لصنم و هما محمد - صلى الله عليه وسلم - و علي رضي الله عنه ، فنال محمداً - صلى الله عليه وسلم - الرسالة و علي - رضي الله عنهم - الإمامة(1) .
... و قد رد أهل السنة و الجماعة على هذا الاستدلال المنحرف بقولهم :
... أن معنى إني جاعلك للناس إماماً أي أن الله تعالى قد جعل إبراهيم عليه الصلاة و السلام إماماً للناس في الإسلام و خصاله الحميدة و التي هي خصال الفطرة : ( الختان و الاستحداد و تقليم الأظافر و قص الشارب و نتف الإبط ) و الإمام هو الذي يقتدي به الناس في الخصال الحسنة و الله سبحانه و تعالى جعل إبراهيم إماماً في هذه الخصال يقتدي به من يريد رضى الله سبحانه و تعالى .
... أما قول إبراهيم عليه السلام : ( و من ذريتي ) فهو رجاء من إبراهيم إلى الله تعالى أن تكون كل ذريته أئمة هدى يدعون الناس إلى الله سبحانه وتعالى فأجابه الله سبحانه و تعالى أنه سيكون من ذريته الصالح و الطالح و لا يمكن أن ينال منصب القدوة الحسنة إلا من كان صالحاً من ذريته عليه الصلاة و السلام (2).
... لذلك قال تعالى في كتابه العزيز : ( وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ و َيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا و َأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) ( سورة البقرة : الآية 132 ) .
__________
(1) - انظر تلخيص الشافي ، ج 1/ قسم 2/253 – مجمع البيان للطبرسي ، ج1/457.
(2) - انظر فتح القدير للشوكاني ، ج1/137-138- تفسير القرطبي ، ج2/108.(194/6)
... هذا هو العهد و هو الإسلام الذي طلبه إبراهيم من ربه فلم يعطه الله سبحانه إلا للصالحين من ذريته و هذا هو قول الضحاك رضي الله عنه (1).
... 2- قال تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) ( سورة المائدة: الآية 55) .
... استدل الشيعة الرافضة بهذه الآية الكريمة على أحقية علي بالإمامة بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث اعتبروا أن هذه الآية تدل على شرعية إمامة علي رضي الله عنه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) بل تمادى الشيعة بأن ادعوا الإجماع على ذلك ، حيث قال ابن المطهر الحلي الرافضي : ( اتفق المفسرون و المحدثون من العامة و الخاصة أنها نزلت في علي لما تصدق على المسكين بمحضر من الصحابة … ) (3).
... و للرد على هذه الشبهة نقول : إن هذه الآية لا تثبت شيئاً مما يدعيه الشيعة الرافضة ، لأن هذه الآية تخاطب مجموع المؤمنين ، و ليس علياً رضي الله عنه فقط .
... وقد سئل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب رضي الله عنهم عن معنى ( إنما و ليكم الله و رسوله ) هل هو علي بن أبي طالب ؟ فقال : علي من المؤمنين ؛ يذهب إلى أن هذا لجميع المؤمنين . قال النحاس : و هذا قول بين ؛ لأن " الذي " لجماعة )(4) . و بهذا يبطل قول الرافضة و حجتهم بالاعتماد على تفسيرهم الخاص لهذه الآية في أحقية علي رضي الله عنه بالخلافة .
__________
(1) - تفسير القرطبي ، ج2/108.
(2) - مجمع البيان ، ج2/182.
(3) - منهاج الكرامة لابن المطهر الحلي ، ص147.
(4) - تفسير القرطبي ، ج6/221.(194/7)
... 3- قوله تعالى : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ( سورة الأحزاب : الآية 33) .
... بعد أن فشل الشيعة في إثبات بدعتهم من خلال الآيات السابقة لجؤوا إلى الآية 33 من سورة الأحزاب فقالوا : ( أن أهل البيت في الآية مقصورة على النبي - صلى الله عليه وسلم - و على علي بن أبي طالب و فاطمة و الحسن و الحسين ليصلوا بعد ذلك إلى أن الأئمة معصومين من جميع القبائح بحسب منطوق واستدلال الآية السالفة ، فالآية تقتضي المدح و التعظيم في ثبوت عصمة آل البيت و منهم الأئمة من جميع القبائح و الذنوب و الخطايا (1) .
و للرد على هذا الادعاء نقول أإن هذا التفسير الذي أخذ به الشيعة الرافضة يخالف ما ذهب إليه أهل اللغة في تفسير معنى الرجس و التطهير .
... أما الرجس فقد فسرها أهل اللغة بأنها تدور على إحدى المعاني التالية(2) :
القذر : و منه قول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - : اللهم إني أعوذ بك من الرجس ...) .
العقاب و الغضب : ومنه قوله تعالى : ( و يجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) .
الأوثان : و منه قوله تعالى : ( فاجتنبوا الرجس ) .
الشك : ومنه قوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم ) .
بعد أن مررنا على معاني الرجس عند أهل اللغة يتبين لنا أن معناها هو القذارة المادية و المعنوية . فالرجس المادي مثل الغائط و البول و غيرهما أما الرجس المعنوي مثل الشك في الله و عبادة غيره .
__________
(1) - مجمع البيان للطبرسي ، ج1/50 .
(2) - لسلن العرب ، ج 6/94- مختار الصحاح ، ج1/99. الغريب لابن قتيبة ، ج2/105.(194/8)
و عليه فلا يوجد أي رابط ما بين ما يدعيه الرافضة بعصمة أئمتهم و هذه الآية . لأن طهر أهل البيت يكون بعدم التبرج تبرج الجاهلية و بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و طاعة الله و رسوله وعند فعل كل هذه الأوامر يكون الطهر لكل أهل البيت بل لكل من يفعل هذه الطاعات ابتغاء لمرضاة الله سبحانه و تعالى .
و التطهير و إذهاب الرجس لا يعني العصمة – بحسب مفهوم الروافض – من الذنب على الإطلاق و الدليل على ذلك هو ورود التطهير في غير أهل البيت كما في قوله تعالى : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ( سورة التوبة: الآية 102-103) .
فهؤلاء القوم ارتكبوا بعض المعاصي فلو كان التطهير يعني العصمة من الذنوب لما أطلق على هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم أن يأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم .
و انظر إلى قوله تعالى في سورة النمل : (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (النمل:56) .
و لم تكن ابنتا لوط معصومتين مع أنهما من آل لوط الذين و صفوا بالتطهير و أرادوا إخراجهم ، فتطهير آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - كتطهير آل بيت لوط عليه السلام .
... و انظر إلى قوله تعالى في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال فيهم : ( رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) ( التوبة : 108 ) .(194/9)
و لم يقل أحد من أمة الإسلام أن هؤلاء أو أحدهم كان معصوماً من الذنوب و الأرجاس المادية و المعنوية على الرغم من وصف الله سبحانه و تعالى لهم بأنهم يحبون أن يتطهروا و الله يجب المتطهرين .
... ب – السنة النبوية الشريفة :
... استدل الرافضة بالسنة النبوية الشريفة و كان استدلالهم ليس من باب التصديق و الإيمان بالسنة ، بل لأنهم و جدوا في بعض هذه الأحاديث شبه اعتقدوا أنها تساند بدعتهم فاحتجوا و استدلوا بها تدعيماً لبدعتهم في عصمة الأئمة و عودة الإمام الغائب عنهم .
كما أوردوا أحاديث من طرقهم تظهر بدعتهم و سفاهتهم .
... و عليه سنورد أولاً أحاديث أهل السنة ثم أحاديث الرافضة :
1ً- أحاديث أهل السنة :
احتج الشيعة الرافضة(1) بما رواه جابر عن سمرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يكون اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي أنه قال : كلهم من قريش ) (2).
و برواية عند الإمام مسلم عن جابر ، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ) ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لأبي : ما قال : فقال : كلهم من قريش ) (3) .
فالشيعة يحتجون بهذه الأحاديث لا لأنهم يؤمنون بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل ، لأن فيها شبهاً توافق هواهم و بدعتهم .
لكن هذه الأحاديث الصحاح لا يمكن أن تكون حجة لهم أبداً للأسباب التالية :
إن هذه الأحاديث تنص على أن هناك اثني عشر أميراً و في رواية البخاري خليفة أي أن هؤلاء سيحكمون المسلمين حكماً فعلياً ومن يتتبع سيرة أئمة الشيعة يلاحظ أن معظمهم لم يحكموا حتى أنفسهم بل عاشوا محكومين و مطاردين في كثير من الأزمان و العصور .
__________
(1) - انظر مسائل خلافية حار فيها أهل السنة ، علي آل حسن ، ص 12و ما بعدها .
(2) - رواه البخاري في صحيحه ، ج8/127.
(3) - صحيح مسلم ، ج 2/1453.(194/10)
إن هذه الأحاديث تقول : إن الإسلام سيكون عزيزاً و منيعاً ، و من ينظر في إلى حال أئمة الشيعة الاثني عشر و حال الإسلام تتفاوت عزته من عصر إلى آخر بل أن مهديهم مختبئ منذ قرون لا يستطيع أن يحمي نفسه ، فكيف له أن يحمي الإسلام و بيضته .
إن عزة الإسلام كانت في أعلى قمتها في عصر خلفاء بني أمية و بني العباس و بني عثمان أيضاً و ليس في عهد أئمة الشيعة الاثني عشر.
2ً – أحاديث الشيعة :
جاءت الشيعة الرافضة بأحاديث كثيرة تدعم بدعتهم ، بيد أن الطابع العام على هذه الأحاديث أنها منقطعة الإسناد و رواتها مجهولون أو فيهم من اشتهر بالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مطعون في ديانته .
قال الإمام الشافعي عليه رحمة الله : ما رأيت قوماً أشهد بالزور من الرافضة ) (1).
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله : ( اتفق أهل العلم بالنقل و الراوية و الإسناد ، على أن الرافضة أكذب الطوائف ، والكذب فيهم قديم ، و لهذا كان أئمة الإسلام يعلمون امتيازهم بكثرة الكذب ) (2).
__________
(1) - منهاج السنة ، ج 3/502. سنن البيهقي ، ج10/208.
(2) - منهاج السنة ، ج1/59.(194/11)
ومن هذه الأحاديث ما روى الشيخ مفيد الرافضي في كتابه روضة الواعظين : ( إن الله أنزل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد توجهه إلى المدينة في الطريق في حجة الوداع ، فقال يا محمد إن الله يقرئك السلام و يقول لك : انصب علياً للإمامة ، ونبه أمتك على خلافته . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا أخي جبريل إن الله بغض أصحابي بعلي ، إني أخاف منهم أن يجتمعوا على إضراري فاستعف لي ربي . فصعد جبريل و عرض جوابه على الله تعالى . فأنزله الله تعالى مرة أخرى . و قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلما قال أولاً ، فاستعفى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في المرة الأولى . ثم صعد جبريل فكرر جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأمره الله بتكرير نزوله معاتباً له مشدداً عليه بقوله : ( يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته ) فجمع أصحابه و قال : يا أيها الناس إن علياُ أمير المؤمنين و خليفة رب العالمين ، ليس لأحد أن يكون خليفة بعدي سواه . من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه ) .(194/12)
... و قد رد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب عليه رحمة الله على هذا الحديث فقال : ( فانظر أيها المؤمن إلى حديث هؤلاء الكذبة الذي يدل على اختلاقه ركاكة ألفاظه و بطلان أغراضه و لا يصح منه إلا من كنت مولاه ، ومن اعتقد منهم صحة هذا فقد هلك ، إذ فيه اتهام المعصوم قطعاً من المخالفة بعدم امتثال أمر ربه ابتداء وهو نقص ، و نقص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كفر ، و أن الله تعالى اختار لصحبته من يبغض أجلّ أهل بيته ، وفي ذلك ازدراء بالنبي صلى الله عليه وسلم و مخالفة لما مدح الله به رسوله و أصحابه من أجل المدح، قال الله تعالى : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيما ) واعتقاد ما يخالف كتاب الله و الحديث المتواتر كفر ، و أنه صلى الله عليه وسلم خاف إضرار الناس و قد قال الله تعالى : ( و الله يعصمك من الناس ) قبل ذلك كما هو معلوم بديهة و اعتقد عدم توكله على ربه فيما وعده نقص ، و نقصه كفر و إن فيه كذباً على الله تعالى ) و من أظلم ممن افترى على الله كذباً و كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن استحل ذلك فقد كفر ، و من يستحل ذلك فقد فسق، و ليس في قوله : من كنت مولاه ، أن النص على خلافته متصلة ، و لو كان نصاً لادّعاها علي رضي الله عنه ، لأنه أعلم بالمراد ، و دعوى ادعائها باطل ضرورة ، و دعوى علمه يكون نصاً على خلافته و ترك ادعائها تقية أبطل من أن يبطل ) (1) 0
__________
(1) - رسالة في الرد على الرافضة لمحمد بن عبد الوهاب ، ص 6-7.(194/13)
و أختم هذه الفقرة بقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الرافضة : ( لا ريب أنهم متفقون على مخالفة العترة النبوية ، مع مخالفة إجماع الصحابة ، فإنه لم يكن في العترة النبوية – بنوا هاشم – على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - و أبي بكر و عمر و عثمان و علي من يقول بإمامة اثني عشر ، و لا بعصمة أحد بعد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - و لا بكفر الخلفاء الثلاثة ، بل و لا من يطعن في إمامتهم … ) (1).
و بعد أن بينت أدلة الشيعة النقلية و أظهرت ضعف حجتهم و استدلالاتهم لجؤوا إلى ما أسموه الحجج العقلية ، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من عقيدتهم الفاسدة :
ثانياً – الأدلة العقلية ( الشهوة و الهوى ) :
أتى الشيعة بأدلة أسموها عقلية(2) و هي في حقيقتها خليط مركب من الشهوة و الهوى يسير مع انحرافاتهم العقدية ، و شهواتهم الشيطانية ، ولعل أهم تلك الأدلة تتلخص بما يلي :
الإمام قائم مقام النبي ( و له الولاية العامة في الدين و الدنيا و ساد مسده ، فكما أن شرط العصمة في النبي اتفاقاً ، فكذا في الإمام إلزاماً و بالجملة أن الأدلة على عصمة النبي ( دالة على عصمة الإمام ، وهي انتفاء فائدة نصب الإمام أيضاً على تقدير عدم عصمته و للزوم التسلسل لو لم يكن الإمام معصوماً ...
إن الأمر باتباعه أمر مطلق . فلو وقع معصية لزم أن يكون الله آمراً لنا بفعل المعصية ، وهو قبيح عقلاً لا يفعله الحكيم تعالى ، لأن الإمام حافظ للشرع و كل من كان حافظاً للشرع لابد من عصمته .
إن الخطأ من البشر ممكن ، فإذا أردنا رفع الخطأ الممكن يجب أن نرجع إلى المجرد من الخطأ و هو المعصوم .
لو ثبتت عصمة الأمة ، لما كانوا بحاجة إلى إمام ، لأن الفكرة في وجوب وجود الإمام ترجع إلى صدور الخطأ عن المكلفين .
__________
(1) - منهاج السنة ، ج 3/406- 407.
(2) - الصوارم المهرقة ، في جواب الصواعق المحرقة ، نور الله التستري ، ص 50.نظرية الإمام ، د. أحمد صبحي ، ص 116-119.(194/14)
لو أن الأمة توجهت منزهة عن كل غرض و هوى للنفس لاختيار الإمام ، فإن الخطأ إذا كان جائزاً على كل مرد ، فقد جاز الخطأ على المجموع و بذلك تخطئ الأمة فلا تعطي المستحق و تختار غيره .
و لا شك أن هذه الأدلة التي سماها الشيعة بالأدلة العقلية من السهل جداً الرد عليها بما يلي :
الحقيقة أن هذه الأدلة الواهية قد أثارت على الشيعة موجة من النقد الممزوج بالاستخفاف و الاستهجان ، فأدلتهم واهية و لا تستند لا إلى عقل و لا نقل حتى قال ابن سلام عليه رحمة الله : ( عاشرت الناس و كلمت أهل الكلام و كذا فما رأيت أوسخ وسخاً و لا أقذر قذراً و لا أضعف حجة و لا أحمق من الرافضة ) (1).
ذلك أن قولهم أن الإمام قائم مقام النبي و أن الإمام معصوم إلزاماً ، فهذا القول لا يسانده دليل لا شرعي و لا عقلي ذلك أن النبي مؤيد بالوحي إذا أخطأ لا يقره على خطأه بل يصوبه أما غير النبي فإن وقوع الخطأ وارد في حقه دون تصويب إلا من بطانته الصالحة إذا كان له تلك البطانة . و من يعتقد أن الإمام مؤيد بالوحي فإنه يجعله نبياً وهذا كفر مخرج من الملة و العياذ بالله تعالى .
أما قولهم أن الإمام المعصوم يحمي الأمة من الوقوع بالخطأ فهذا القول أثبت التاريخ عدم صوابه ، فمن يقرأ التاريخ يرى أن الشيعة أكثر الفرق الإسلامية تفرقة و تشرذماً و خرقاً لأصول الإسلام ، دون أن تحميهم حجة عصمة أئمتهم بل تفرقوا إلى فرق كل واحدة تلعن أختها .
__________
(1) - السنة للخلال ، ج3/499.(194/15)
أما اعتقاد أهل السنة و الجماعة فقد حمى الإسلام و بيضته - بفضل الله أولاً و بفضل تمسكهم بحبل الله و سنة رسوله و إجماع أمته ، لاستحالة اجتماع الأمة الإسلامية على الخطأ و إن جاز خطأ بعض الأمة دون بعضها الآخر ، فإن هذا لا يفيد تعميمه على المجموع ، لقول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة أبداً ، و يد الله على الجماعة ، فمن شذ شذ في النار ) (1).
و في رواية الطبراني : ( لن تجتمع أمتي على الضلالة أبداً ، فعليكم بالجماعة ، فإن يد الله على الجماعة ) (2).
و عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أمتي لا تجتمع على الضلالة ، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم ) (3).
و قد ناقش الإمام البغدادي الرافضة في بيعة الحسن لمعاوية رضي الله عنهما ، فقال : ( فإذا سئلوا عن بيعة الحسن لمعاوية لم يمكنهم أن يقولوا أنها كانت صواباً ، لأن هذا القول يوجب تصحيح ولاية معاوية و هو عندهم ظالم كافر ، و لم يمكنهم أن يقولوا أنها خطأ فيبطلوا عصمة الحسن ) (4).
و هكذا نرى أن البغدادي قد أبان أن ادعاء العصمة لأئمة الشيعة تفتقر إلى أي دليل شرعي صحيح أو عقلي قويم ، بل أن أفعال و أقوال آل البيت تدل على خطئهم و اعترافهم بذلك ، وهذا بلا شك موافق لعقيدة أهل السنة و الجماعة و مخالف لمذهب الرافضة في عصمة الأئمة .
المبحث الثاني
في ولاية الفقيه و أدلتها :
بعد أن بسطنا القول بعصمة أئمة الشيعة و بينت بدعتها و ضلالها ، نبحث في بدعة معاصرة سماها أصحابها بولاية الفقيه .
__________
(1) - المستدرك على الصحيحين ، ج2/200.حلية الأولياء ، 3/37.
(2) - المعجم الكبير ، ج12/447.
(3) - اعتقاد أهل السنة ، ج1/105.
(4) - أصول الدين للبغدادي ، ص78.(194/16)
فالرافضة تعتقد أن الإمام لابد أن يكون معصوماً ، لأن إمامته راجعة إلى الله تعالى لا إلى اختيار الأمة ، لأن الأمة ليست معصومة عن الخطأ ، فكيف لها أن تختار معصوماً !
... و حيث أن الرافضة يرون هذا الرأي نلاحظ أن بدعتهم في ولاية الفقيه قد قلبت مفهومهم في الإمام المعصوم و عودته رأساً على عقب و خصوصاً بما يتعلق باختيار الأمة لإمامها أو نائبه و صلاحيات هذا النائب الذي ينسخ عقيدة الرافضة في انتظار الفرج عن إمامهم المزعوم الذي طالت غيبته مما جعل اليأس ، و الإحباط يملأ قلوب الرافضة و نقرأ هذا جليأ في قول الخميني : ( قد مر على الغيبة الكبرى(1) لإمامنا المهدي أكثر من ألف ، و قد تمر ألوف السنين قبل أن تقتضي المصلحة قدوم الإمام المنتظر ، في طول هذه المدة المديدة هل تبقى أحكام الإسلام معطلة يعمل الناس من خلالها ما يشاؤون ، القوانين التي صدع بها في الإسلام - صلى الله عليه وسلم - و جهد في نشرها و بيانها و تنفيذها طيلة ثلاثة و عشرين عاماً ، هل كان ذلك لمدة محدودة ؟ هل حدد الله عمر الشريعة بمائتي عام مثلاً ؟ و هل ينبغي أن يخسر الإسلام بعد عصر الغيبة الصغرى كل شئ ؟ الذهاب إلى هذا الرأي أسوأ في نظري من الاعتقاد بأن الإسلام منسوخ ... ) (2).
...
... و من خلال مقالة الخميني الرافضي نستطيع أن نستنتج ما يلي :
__________
(1) - يدعي الشيعة أن لإمامهم غيببة صغرى و غيبة كبرى أما الغيبة الصغرى : فالإمام احتجب عن عامة الشيعة دون نفر قليل سموا رواة الحديث إذ كانوا هؤلاء – حسب دعواهم – ينقلون إلى الإمام المزعوم مسائل الناس و مشاكلهم ، و يعودون بالأجوبة عنها . أما الغيبة الكبرى : فإن الإمام المزعوم احتجب عن جميع الشيعة العامة و الخاصة منهم .
(2) - الحكومة الإسلامية ، للخميني ، ج23-24.(194/17)
أن غيبة إمام الرافضة المزعومة قد طالت و ربما تطول قروناً و لا بد من مخرج من هذا المأزق الذي وضعوا فيه أنفسهم جراء بدعتهم و مخالفتهم للإسلام و أصوله .
أن الرافضة قد أصابهم اليأس من طول الغيبة المزعومة و خصوصاً أنهم لا يملك شيئاً أمام هذه العقيدة الفاسدة التي صاغها الشيعة الرافضة لأنفسهم .
أن عقيدة الشيعة قائمة على عدم تطبيق الأحكام الشرعية إلا بوجود الإمام المعصوم حتى أنهم قالوا : ( كل راية قبل راية القائم رضي الله عنه صاحبها طاغوت ) (1).
أن عقيدة انتظار خروج الإمام أدت إلى فساد المجتمع الشيعي لعدم وجود من يردعهم دينياً .
أن عقيدة انتظار خروج الإمام المعصوم أدت إلى نسخ الشريعة عند الشيعة ، لأن أحكام الشريعة عندهم لا تطبق إلا بوجود إمامهم المعصوم و هذا المزعوم غائب و لا يمكن معرفة تاريخ عودته إن كان سيعود أصلاً .
و أمام هذه الحقائق الواقعية حاول الخميني و من أخذ برأيه الخروج من هذا المأزق ببدعة جديدة أطلقوا عليها اسم " ولاية الفقيه "
أدلة ولاية الفقيه :
رحم الله تعالى الإمام الشاطبي الذي قال : ( لا تجد مبتدعاً ممن ينتسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي فينزله على ما وافق عقله و شهوته )) .
و على هذا كان لابد لهؤلاء النفر أصحاب بدعة ولاية الفقيه من أدلة نقلية وعقلية لتسويغ بدعتهم و تمريرها على أتباع المذهب الشيعي الرافضي و من هذه الأدلة ما يلي :
أولاً - القرآن الكريم :
قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء:58)
__________
(1) - أصول مذهب الشيعة الإمامية ، ج2/738.(194/18)
... قال الخميني مستدلاً بهذه الآية لتبرير بدعته : ( إن الخطاب موجه إلى من يمسكون الأمور بأيديهم ، وليس خطاباً للقضاة ، لأن القضاة جزء من الحكومة … ) (1).
... ثانياً – السنة المنسوبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - :
و جاء القوم بحديث منسوب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فيه : ( اللهم ارحم خلفائي – ثلاث مرات – قيل : يا رسول الله و من خلفاؤك ؟ قال الذين يأتون بعدي ، يرون حديثي و سنتي فيعلمونها الناس من بعدي ) .
و قد قال الخميني : ( أن المقصود بخلفاء الرسول أولئك الذين يسعون إلى نشر علوم الإسلام و أحكامه و لا علاقة لها بنقلة الحديث و رواته المجردين عن الفقه ، فالمقصود هم فقهاء الإسلام الذين يجمعون إلى فقههم و علمهم العدالة و الاستقامة في الدين … ليصل في نهاية المطاف إلى تبرير نظرية ولاية الفقيه و صلاحية الفقيه لتعمم جميع شؤون الحياة ) (2).
ثالثاً – أقوال منسوبة للإمام الغائب :
كما استدل أصحاب هذه البدعة بتوقيع منسوب عن إمام الرافضة المغيب و الذي زعموا فيه أنه قال : ( و أما الحوادث الواقعة فارجعوا إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة الله ) (3).
قال الهمداني الرافضي في شرح هذا القول : ( يتضح من التأمل و التدقيق في الرواية المذكورة ، التي هي الدليل لأساس على نصب الفقهاء في عصر الغيبة أن الفقيه الذي يأخذ روايات الأئمة و يتمكن منها ، يكون في موقعهم ، ليرجع الشيعة إليه في الأمور التي يجب أن يرجعوا فيها إلى الإمام ) (4).
صلاحيات الفقيه في ولايته :
__________
(1) - الحكومة الإسلامية ، ج 2/738 .
(2) - الحكومة الإسلامية ، ص 60- 63- 69 .
(3) - آراء في المرجعية الشيعية ، ص 65.
(4) - آراء في المرجعية الشعية ، ص 65.(194/19)
بعد أن أورد فقهاء الشيعة أدلتهم من أجل تبرير و تشريع بدعة ولاية الفقيه ، اختلفوا في حدود و سلطات الفقيه الولي إلى اتجاهات ثلاثة (1) :
الاتجاه الأول : يرى أن للفقيه ولاية عامة ، فالفقيه هو نائب الإمام الغائب و له أن يملكه الإمام الغائب .
الاتجاه الثاني : يرى أن للفقيه ولاية خاصة فقط ، أي يملك سلطة الفتيا و القضاء ، و يملك إصدار الأحكام في الموضوعات العامة أو الخاصة فينفذ حكمه فيها ، كما ينفذ حكمه في القضايا الشرعية … و لكنه لا يملك الولاية العامة .
الاتجاه الثالث : هذا الاتجاه يسلب من الفقيه سلطة إصدار الأحكام في الموضوعات ، فليس له الحق في ذلك ، و لا يجب على الناس إطاعته فيها ، فلو أصدر حكماً في ثبوت هلال شهر رمضان ، فلا يجب على الناس الصيام ، لأن حكمه ليس حجة عليهم إلا إذا أوجب لهم الاطمئنان الذاتي .
و أمام هذه الآراء لمتكلمي الشيعة الروافض اختيار الخميني المبتدع هذه البدعة القائلة بالولاية العامة للفقيه .
إذ يرى الخميني أن سلطة الفقيه أثناء ولايته سلطة مطلقة ، لا تختلف أبداً عن سلطة الإمام المعصوم ، ولا حتى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - و يستند في ذلك إلى التوقيع المزعوم للإمام المزعوم ، الذي يقول فيه : ( أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة الله ) .
فالخميني يرى أن الفقيه حجة على أهل زمانه و لا فرق بينه و بين الإمام الغائب مما يعني حقيقة أن عقيدة ظهور الإمام أو عدم ظهوره أصبحت تحصيل حاصل للشيعة الرافضة ما دام هناك من يطبق شريعة الشيعة .
__________
(1) - آراء في المرجعية الشيعة ، ص 137-138.(194/20)
و قد توقف الخميني طويلاً عند رواية سماها ( صحيحة قداح ) وهي قول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - : ( العلماء ورثة الأنبياء )(1) ليثبت من خلالها ما يريد من أن المقصود بالعلماء في البيان النبوي هم الفقهاء ، و ليسوا الأئمة و أن منزلة العلماء مثل منزلة الأنبياء من حيث الطاعة و الامتثال لأوامرهم .
و مما قاله لتبرير بدعته : ( إن المقياس في فهم الروايات آخذ بظواهر ألفاظها ، هو العرف و الفهم المتعارف … و إذا رجعنا إلى العرف في فهم عبارة ( العلماء ورثة الأنبياء ) و سألنا العرف : هل أن هذه العبارة تعني الفقيه بمنزلة موسى و عيسى عليهما السلام ؟
لأجاب : نعم ! ؟ لأن هذه الرواية تجعل العلماء بمنزلة الأنبياء ، و بما أن موسى و عيسى عليهما السلام من الأنبياء ، فالعلماء بمنزلة موسى و عيسى عليهما السلام ، و إذا سألنا العرف : هل أن الفقيه وارث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ لأجاب : نعم ... فورود كلمة الأنبياء بصيغة الجميع ، إنما يقصد به كل الأنبياء ... حتى لو نزلنا العلماء منزلة الأنبياء بوصفهم أنبياء ، فإنه ينبغي إعطاء جميع أحكام المشبه بهم للمشبه ) (2).
ثم يؤكد الخميني بدعته بقوله : ( أن جميع شؤون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قابلة للانتقال و الوراثة ، و من جملتها الإمارة على الناس ، و تولي أمورهم ، من كل ما ثبت للأئمة من بعده و للفقهاء من الأئمة … ) (3) .
... ثم ينتهي الخميني إلى البدعة التي تمناها ، فيقول : تبين لنا أن ما ثبت للرسول - صلى الله عليه وسلم - و الأئمة فهو ثابت للفقيه ) (4).
__________
(1) - ففي مجمع الزوائد : عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العلماء خلفاء الأنبياء قلت له في السنن العلماء ورثة الأنبياء ، رواه البزار و رجاله موثقون ، ج 1/126.
(2) - الحكومة الإسلامية للخميني ، ص 84-85.
(3) - المصدر السابق ، ص 86.
(4) - المصدر السابق ، ص 88.(194/21)
و تبعاً لهذه المقدمات فإن الجاحد لولاية الفقيه يعتبر جاحداً للإمام المعصوم و الجاحد للإمام المعصوم يعتبر جاحداً لحقوق الله و الجاحد للحقوق الله يقع في حد الشرك الأكبر عند الشيعة الروافض .
و هذا ما عبر عنه الخميني عندما قال : ( إن الراد على الفقيه الحاكم يعد راداً على الإمام ، و الرد على الإمام رد على الله ، و الرد على الله يقع في حد الشرك بالله ) (1).
و قد بين النراقي الرافضي في كتابه عوائد الأيام صلاحيات الولي الفقيه ، فقال : ( إن كلية ما للفقيه العادل تولية و له الولاية فيه أمران :
أحدهما : كلما كان للنبي و الأئمة الذين هم سلاطين الأنام و حصون الإسلام و فيه الولاية و كان لهم ، فللفقيه أيضاً ذلك إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما .
و ثانيهما : إن كل فعل يتعلق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم و لابد من الإتيان به و لا مفر منه عقلاً أو عادة ، أو من حجة توقف أمور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة عليه و إناطة انتظام أمور الدين أو الدنيا ، أو شرعاً من حجة ورود أمر به … ) (2).
و مما سلف يتبين لنا مما نقلناه حول حدود بدعة ولاية الفقيه أن للفقيه ما للإمام المعصوم من صلاحيات و حدود و هذا الأخير كل ما كان للنبي من حدود و صلاحيات .
و السؤال الذي يطرح نفسه عند هذه النتيجة التي أرادها الخميني و من دار بفلك بدعته .
ما هي الضمانات التي و ضعت لعدم انحراف و استبداد الفقيه أثناء ولايته و خصوصاً أن له صلاحيات و سلطات الإمام المعصوم بحسب ما يعتقد هؤلاء ؟ .
__________
(1) - كشف الأسرار للخميني ، ص 207.
(2) - آراء في المرجعة الشيعية ، ص 60.(194/22)
لا شك أن الروافض بهذه البدعة الجديدة قد خرجوا حتى عن أس دينهم و معتقدات شيعتهم الأوائل . لا بل ضربوا بعرض الحائط أصول دينهم الذي يدور على بدعة الإمام المعصوم و عودته . و في معنى أوضح أن الشيعة الجدد قد نسخوا عقيدة الإمام المعصوم و عودته ، ليتلاقوا مع إخوانهم في النظرية و التطبيق الفرقة البهائية المعروفة بالكفر والفساد و الضلال .
ذلك أنهم قد قرروا أن حكم الفقيه هو بمثابة حكم الرسول و حكم أئمتهم مع الفارق الذي ذكره الخميني إذ قال : ( أن عصمة المعصوم إنما كانت بسبب المنزلة العالمية و المقام المحمود الذي لا يبلغه ملك مقرب و لا نبي مرسل ، و أيضاً بسبب خلافته التكوينية التي تخضع لولايتها و سيطرتها جميع ذرات هذا الكون ) (1).
فالخميني و غيره من شيوخ الرافضة يضع أئمة الشيعة فوق الأنبياء و هذا كفر بواح ، لا تأويل و لا تفسير حسن له ، عصمنا الله من هذا الاعتقاد و أمثاله .
و الحقيقة أن الخميني و من قال بقوله يتلاقى مع البابية في بدعة ولاية الفقيه ذلك أن هذا الاعتقاد قد أدى إلى نسخ عقيدة الإمام المعصوم و عودته فما الحاجة إلى ظهور الإمام الغائب و هناك من يتولى جميع صلاحياته فعلاً و لم يعد هناك أي ضرورة أو حاجة لعودته .
لذلك نرى أحد مراجع الشيعة ( الخوئي ) الذي عارض عقيدة ولاية الفقيه فأسس جمعية في إيران سماها ( جماعة الحجتية ) أي جماعة الإمام الحجة ، والتي ترفض الولاية من حيث المبدأ و تدعوا إلى الالتزام بمبدأ الانتظار حتى يظهر إمامهم الغائب (2).
__________
(1) - الحكومة الإسلامية ، للخميني ، ص 47.
(2) - إيران من الداخل ، فهمي الهويدي ، ص 105.(194/23)
كما نجد الشيخ محمد جواد مغنية الرافضي ينتقد ولاية الفقيه في كتاب أسماه ( الخميني و الدولة الإسلامية ) الذي قال فيه : ( إن التفاوت في المنزلة يستدعي التفاوت في الآثار لا محالة و من هنا كان للمعصوم الولاية على الكبير والصغير حتى على المجتهد العادل ، و لا ولاية للمجتهد على البالغ الراشد ، و ما ذاك إلا لأن نسبة المجتهد إلى المعصوم تماماً كنسبة القاصر إلى المجتهد العادل ) (1).
لذلك يصل جواد مغنية الرافضي ومن أخذ برأيه إلى نتيجة مفادها أنه : ( لا دليل على وجوب طاعة الفقيه كالإمام المعصوم ، رغم ورود أخبار تبين أن العلماء كالأئمة فالإنصاف يقتضي الجزم بأن مقام العلماء لنشر الأحكام الشرعية ، لا كون العلماء كالأنبياء و الأئمة المعصومين ) (2).
الخاتمة :
و مما سلف يتبين لنا النتائج التالية :
إن أصحاب عقيدة ولاية الفقيه يرون أن تولي الفقيه لمصالح الناس إنما هو تنفيذ لأوامر الله و رسوله و إمامهم الغائب المزعوم ، لأن الإمام عند الرافضة معين من قبل الله تعالى و حيث إن هذا الإمام غائب و أن رجعته غير معلومة ، فإن الفقيه نائب عن ذلك الإمام الغائب في كل صلاحياته و مميزاته .
إن بدعة ولاية الفقيه ما هي من حيث النظرية و التطبيق إلا الابن التوءم لعقيدة البهائية الذين يعتقدون أن إمامهم ناطق بعلم الإمام المستور و أنه الباب إليه .(3)
من خلال استقراء آراء مخالفي عقيدة ولاية الفقيه ( من الشيعة الروافض أنفسهم ) يتبين لنا أنه لا يوجد عند الشيعة ما يدل على وجوب طاعة الفقيه طاعة عامة مطلقة كطاعة إمامهم الغائب ومما يعني عدم شرعية ولاية الفقيه و بالتالي بطلان تأسيس ما يسمى بجمهورية إيران الإسلامية بحسب قواعد الشيعة أنفسهم .
__________
(1) - الخميني والدولة الإسلامية ، ص 61- 62.
(2) - المصدر السابق ص 63.
(3) - انظر تاريخ المذاهب الإسلامية ، محمد أبو زهرة ، ص 212.(194/24)
إن إثبات عقيدة ولاية الفقيه تنتهي عند الشيعة إلى مساواة الفقيه بإمامهم المعصوم صاحب المقامات العليا التي تتغلب حتى على الأنبياء و هذا مخالف لكل منقول و معقول .
إن الفكر الشيعي المعاصر يعيش في مأزق خطير يتمثل في استحالة التوفيق بين بدعة الإمام المعصوم و عودته و بدعة ولاية الفقيه بصلاحياته المطلقة (1).
إن عقيدة الشيعة قائمة على أن الدولة الشيعية لا تقوم بشكل شرعي إلا بظهور الإمام الغائب مما يعني أن تلك العقيدة أصبحت من الأوهام الخيالية عند أصحاب بدعة ولاية الفقيه الذين ضربوا بعرض الحائط كل آمال الشيعة و تاريخهم في الإمام الغائب و عودته . ذلك أن إعطاء الحق للأمة في اختيار الفقيه النائب عن الإمام الغائب يعتبر مناقضاً لأصول الشيعة في إنكارهم حق الأمة في اختيار إمامها باعتبار أن الإمامة لطف إلهي أوجبه الله على ذاته – و العياذ بالله تعالى – فلا يجوز بأي حال من الأحوال فعله و هم الذين أنكروا على الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم – اختيارهم للخلفاء الراشدين بالشورى بين أهل الحل و العقد . و هاهم اليوم بعد كل هذه الفتن التي حاكوها ضد أهل السنة و الجماعة يعطون الحق للأمة في اختيار إمامها .
و أخيراً أختم هذا البحث بقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى عندما قال في الرافضة : ( هم أعظم ذوي الأهواء جهلاً و ظلماً يعادون خيار أولياء الله تعالى ، من النبيين ، من السابقين الأوليين من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان – رضي الله عنهم و رضوا عنه – يوالون الكفار و المنافقين من اليهود و النصارى و المشركين و أصناف الملحدين ، …. ) (2).
__________
(1) - عقيدة العصمة بين الإمام المعصوم و الفقيه عند الشيعة ، د. محمد الخطيب ، ص 225.
(2) -منهاج السنة النبوية ، ج1/20.(194/25)
( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ* لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) ( سورة البقرة : 286-285 ) .
كتبه
العبد الفقير إلى ربه
مسلم محمد جودت اليوسف
الأحد 13 ذي الحجة 1425هـ الموافق لـ 23/1/2005م
abokotaiba@hotmail.com(194/26)
نسخ عقيدة الإمام المعصوم و عودته
عند الشيعة الجعفرية الرافضة
بقلم
الشيخ المحامي الدكتور مسلم محمد جودت اليوسف
مدير معهد المعارف لتخريج الدعاة في الفلبين سابقاً
و الباحث في الدراسات الفقهية و القانونية
بسم الله الرحمن الرحيم
... إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله(1)… .
* ... يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون [ سورة آل عمران : 102 ] .
* يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [ سورة النساء : 1 ]
* ... يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [ سورة الأحزاب : الآية 70 – 71 ] .
و بعد :
... إن بدعة ولاية الفقيه التي ظهرت داخل المسرح السياسي الشيعي المعاصر في إيران تبرهن على أن عقيدة الإمام المعصوم و عودته باطلة شرعاً وعقلاً ؛ ذلك أن تلك البدعة تبين يأس الشيعة من رجوع إمامهم المزعوم و بالتالي نسخ تلك العقيدة - الباطلة – عندهم بشكل عملي من خلال ما يسمى بولاية الفقيه .
__________
(1) - هذه الخطبة تسمى عند أهل العلم بخطبة الحاجة ، و هي تشرع بين يدي كل خطبة ، سواء كانت خطبة جمعة أو عيد أو مقدمة كتاب …إلخ .(195/1)
فالإمامة عند الشيعة الإمامية تعتبر أس العقيدة و الشمس التي تدور حولها كواكب عقائدهم الباطلة فهم يجعلون من الإمامة ركناً من أركان الإسلام و جزءاً هاماً من عقيدته .
جاء في أصول الكافي عن أبي جعفر أنه قال : بني الإسلام على خمس ، على الصلاة ، و الزكاة ، و الصوم ، و الحج و الولاية ، و لم يناد بشيء كما نودي بالولاية فأخذ الناس بأربع و تركوا هذه – يعني الولاية ) .(1)
فالشيعة الإمامية جعلت الولاية أصلاً من أصول الإسلام و جزءاً هاماً من عقيدته محتجين بأنه ليس في الإسلام أمراً أهم من تعيين الإمام و لم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - - حسب زعمهم – أن يفارق الدنيا قبل أن يحسم هذا الأمر ، ذلك أن الإمامة نص من الله تعالى و هي ليست بالاختيار و الشورى بين أهل الحل و العقد كما هي عند أهل السنة و الجماعة .
و لما كان لابد لهذه الدعوة من أدلة فقد أكثر الشيعة منها لإثبات بدعتهم بالنص المؤول تأويلاً فاسداً تارة أو بالهوى المسمى عندهم عقلاً تارة أخرى .
و سوف نبحث في هذا السفر في عصمة أئمة الشيعة الرافضة و أدلتها و الرد عليها كمبحث أول .
كما سأبحث في ولاية الفقيه و أدلته كمبحث ثان . ثم أختم بخاتمة أبين فيها نتائج بدعة ولاية الفقيه على الشيعة الرافضة و عقيدتهم في الإمام المعصوم و عودته .
و الله المستعان
المبحث الأول
في عصمة أئمة الشيعة الرافضة
و أدلتها و الرد عليها
__________
(1) - أصول الكافي ، ج 2/18 و في الشافي شرح الكافي تصحيح لهذا الحديث عند عند الرافضة ، ج5/28. و الملاحظ أن أحاديث الشهادتين متواترة عند أهل السنة و الجماعة و أنها أحد مباني الإسلام الخمسة و قد أسقطتها الشيعة الإمامية و أحلت بدلاً منها الإيمان بالولاية .(195/2)
قبل إيراد أدلة الشيعة لإثبات عقيدتهم لابد من تعريف العصمة لغة واصطلاحاً عند أهل السنة و الجماعة و عند الشيعة الرافضة ، حتى يفهم القارئ هذا البحث فهماً تاماً - إن شاء الله تعالى .
تعريف العصمة :
العصمة في اللغة تعني المنع ، قيل عصمه يعصمه عصماً أي منعه و وقاه ، و اعتصم فلان بالله أي امتنع بلطفه من المعصية .(1)
قال ابن قتيبة : عصم بمعنى منع و منه العصمة في الدين إنما هو المنع من المعاصي ) .(2)
أما العصمة في الاصطلاح عند أهل السنة و الجماعة ، فهي : للأنبياء و ذلك للزوم أداء الرسالة و تبليغها .
و قد بينت هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ذلك بقولها : ( الأنبياء و الرسل قد يخطئون ، و لكن الله تعالى لا يقرهم على خطئهم ، بل يبين لهم خطأهم ؛ رحمة بهم و بأممهم ، و يعفو عن زلتهم ، و يقبل توبتهم ؛ فضلاً منه و رحمة ، و الله غفور رحيم … ). (3)
أما الشيعة الإمامة فقد عرفوا العصمة بأنها : قوة في العقل تمنع صاحبها من مخالفة التكليف مع قدرته على مخالفته ) (4).
و لا شك بأن هذا التعريف باطل لمخالفته لأصول اللغة و الشرع و العقل السليم .
نشأة فكرة العصمة :
إن فكرة عصمة الإمام عند الشيعة الرافضة ما هي إلا ردة فعل شيطانية تجاه مخالفيهم في قضية خلافة علي رضي الله عنه لرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، لذلك كانت صفة ملازمة للإمام عندهم .
قال الخلال عليه رحمة الله : إن محنة الرافضة محنة اليهود ، قالت اليهود لا تصلح الإمامة إلا لرجل من آل داود و قالت الرافضة لا تصلح الإمامة إلا لرجل من ولد علي بن أبي طالب … ) (5).
__________
(1) - مختار الصحاح ، ج1/183.
(2) - التقريب لابن قتيبة ، ج1/324.
(3) - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء ، ج3/264.
(4) - الشيعة في عقائدهم و أحكامهم ، للكاظمي القزويني ، ص 322.
(5) - السنة للخلال ، ج3/497-498.(195/3)
و لذلك نرى التستري الرافضي يقول : ( الإمام قائم مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - و له الولاية العامة في الدين و الدنيا و ساد مسده ، فكما أنه شرط في النبي اتفاقاً فكذا في الإمام إلزاماً ) (1).
... و مع أن عقيدة العصمة الإمام و عودته تبدو في ظاهرها أمراً يتعلق بمباحث العقائد و الشرائع ، بيد أن حقيقتها ذات صلة متينة بالخلافة و أحقية أئمتهم بها ، و يعتبر الكليني في كتابه ( الأصول الكافي ) من أوائل الروافض الذين أسهبوا في بحث موضوع عصمة الأئمة و أسبغوا عليهم صفات لم يصلها حتى الأنبياء .
و قد برر الخميني هذه البدعة الكفرية بقوله : ( لأن عصمة المعصوم إنما كانت بسبب المنزلة العالية و المقام المحمود الذي لا يبلغه ملك مقرب و لا نبي مرسل ، و أيضاً بسبب خلافته التكوينية التي تخضع لولاياتها و سيطرتها جميع ذرات هذا الكون ) (2).
و يؤكد حقيقة صلة العصمة بثبوت الإمامة ما ذكره الدكتور موسى الموسوي وهو أحد علماء الشيعة المعاصرين من أن العصمة التي تتنافى مع العقل و المنطق ، و التي نسبت إلى الإمام كي يسد بها النقاش في محتواها على العقلاء و الأذكياء ، و يرغم الناس على قبولها ، لأنها من معصوم لا يخطئ . فهناك أمور نسبتها كتب الشيعة إلى الأئمة و امتلأت بها كتب الروايات الموقوفة عندهم مثل الكافي في الأصول و الوافي و الاستبصار و من لا يحضره الفقيه و غيرها و فيها الكثير من الغلو من أجل إثبات عقيدة العصمة (3).
و الجدير بالذكر أن الروافض اختلفوا في عصمة الأئمة هل هي من الله أو هي استعداد الإمام على الرغم من أن كثيراً من علماء الشيعة حرصوا على القول بأن الأئمة لا يوحى إليهم مثل الرسل ، بيد أن الشيخ المفيد في الاختصاص يثبت حتى الوحي لأئمة الشيعة ، و العياذ بالله .
__________
(1) - الصوارم المهرقة في جواب الصواعق المحرقة ، ص 50.
(2) - الحكومة الإسلامية ،ن ص47.
(3) - الشيعة و التصحيح ، د. موسى الموسوي ، ص 82-83.(195/4)
قال في الاختصاص : عن أبي بصير قال : قال : سمعت أبا عبد الله يقول : لولا أنا نزداد لأنفدنا – أي نفد ما عندهم من علوم و معارف – فقد تزدادون فأخبره شيئاً ليس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : إذا كان ذلك أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره . ثم أتى علياً فأخبره ، ثم إلى واحد بعد واحد حتى ينتهي إلى صاحب الأمر ؟ ) و في رواية أخرى تصرح بأن الأئمة يأتيهم الوحي كما يأتي للرسل تماماً و العياذ بالله .
... ( يأتي الملك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول : يا محمد ربك يأمرك كذا و كذا ، فيقول انطلق به إلى علي ، فيأتي به علياً ، فيقول : انطلق به إلى الحسن ، فلا يزال هكذا ينطلق به إلى واحد بعد واحد حتى يخرج إلينا ) (1).
...
... أدلة الشيعة الرافضة على عقيدة عصمة أئمتهم و الرد عليها :
... أتى الشيعة الروافض بأدلة نقلية و عقلية لإثبات عقيدتهم في عصمة الأئمة ، و لعل أهم تلك الأدلة تتلخص بالتالي :
... أولاً – الأدلة النقلية :
رحم الله تعالى الإمام الشاطبي الذي قال : ( لا تجد مبتدعاً ممن ينتسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي فينزله على ما وافق عقله و شهوته )) .
... وقد اعتمد الشيعة على كثير من الأدلة النقلية لتدعيم بدعتهم نوردها وفقاً لما يلي :
... أ – القرآن الكريم :
... 1- قوله تعالى : ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (سورة البقرة : الآية 124) .
حاول الشيعة الرافضة الاستدلال بهذه الآية على أن إمامهم لا يكون إلا معصوماً ، لأن الله تعالى – بحسب زعمهم – لا يعطي عهده لظالم و الذي الإمامة أي الإمامة العظمى .
__________
(1) - الاختصاص للشيخ المفيد ، ص 307.(195/5)
و غير المعصوم لابد و أنه ظالم لنفسه و لغيره و الله سبحانه عصم اثنين أن يسجدا لصنم و هما محمد - صلى الله عليه وسلم - و علي رضي الله عنه ، فنال محمداً - صلى الله عليه وسلم - الرسالة و علي رضي الله عنه الإمامة(1) .
... و قد رد أهل السنة و الجماعة على هذا الاستدلال المنحرف بقولهم :
... أن معنى إني جاعلك للناس إماماً أي أن الله تعالى قد جعل إبراهيم عليه الصلاة و السلام إماماً للناس في الإسلام و خصاله الحميدة و التي هي خصال الفطرة : ( الختان و الاستحداد و تقليم الأظافر و قص الشارب و نتف الإبط ) و الإمام هو الذي يقتدي به الناس في الخصال الحسنة و الله سبحانه و تعالى جعل إبراهيم إماماً في هذه الخصال يقتدي به من يريد رضى الله سبحانه و تعالى .
... أما قول إبراهيم عليه السلام : ( و من ذريتي ) فهو رجاء من إبراهيم إلى الله تعالى أن تكون كل ذريته أئمة هدى يدعون الناس إلى الله سبحانه وتعالى فأجابه الله سبحانه و تعالى أنه سيكون من ذريته الصالح و الطالح و لا يمكن أن ينال منصب القدوة الحسنة إلا من كان صالحاً من ذريته عليه الصلاة و السلام (2).
... لذلك قال تعالى في كتابه العزيز : ( وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ و َيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا و َأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) ( سورة البقرة : الآية 132 ) .
... هذا هو العهد و هو الإسلام الذي طلبه إبراهيم من ربه فلم يعطه الله سبحانه إلا للصالحين من ذريته و هذا هو قول الضحاك رضي الله عنه (3).
__________
(1) - انظر تلخيص الشافي ، ج 1/ قسم 2/253 – مجمع البيان للطبرسي ، ج1/457.
(2) - انظر فتح القدير للشوكاني ، ج1/137-138- تفسير القرطبي ، ج2/108.
(3) - تفسير القرطبي ، ج2/108.(195/6)
... 2- قال تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) ( سورة المائدة: الآية 55) .
... استدل الشيعة الرافضة بهذه الآية الكريمة على أحقية علي بالإمامة بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث اعتبروا أن هذه الآية تدل على شرعية إمامة علي رضي الله عنه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) بل تمادى الشيعة بأن ادعوا الإجماع على ذلك ، حيث قال ابن المطهر الحلي الرافضي : ( اتفق المفسرون و المحدثون من العامة و الخاصة أنها نزلت في علي لما تصدق على المسكين بمحضر من الصحابة … ) (2).
... و للرد على هذه الشبهة نقول : إن هذه الآية لا تثبت شيئاً مما يدعيه الشيعة الرافضة ، لأن هذه الآية تخاطب مجموع المؤمنين ، و ليس علياً رضي الله عنه فقط .
... وقد سئل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب رضي الله عنهم عن معنى ( إنما و ليكم الله و رسوله ) هل هو علي بن أبي طالب ؟ فقال : علي من المؤمنين ؛ يذهب إلى أن هذا لجميع المؤمنين . قال النحاس : و هذا قول بين ؛ لأن " الذي " لجماعة )(3) . و بهذا يبطل قول الرافضة و حجتهم بالاعتماد على تفسيرهم الخاص لهذه الآية في أحقية علي رضي الله عنه بالخلافة .
... 3- قوله تعالى : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ( سورة الأحزاب : الآية 33) .
__________
(1) - مجمع البيان ، ج2/182.
(2) - منهاج الكرامة لابن المطهر الحلي ، ص147.
(3) - تفسير القرطبي ، ج6/221.(195/7)
... بعد أن فشل الشيعة في إثبات بدعتهم من خلال الآيات السابقة لجؤوا إلى الآية 33 من سورة الأحزاب فقالوا : ( أن أهل البيت في الآية مقصورة على النبي - صلى الله عليه وسلم - و على علي بن أبي طالب و فاطمة و الحسن و الحسين ليصلوا بعد ذلك إلى أن الأئمة معصومين من جميع القبائح بحسب منطوق واستدلال الآية السالفة ، فالآية تقتضي المدح و التعظيم في ثبوت عصمة آل البيت و منهم الأئمة من جميع القبائح و الذنوب و الخطايا (1) .
و للرد على هذا الادعاء نقول إن هذا التفسير الذي أخذ به الشيعة الرافضة يخالف ما ذهب إليه أهل اللغة في تفسير معنى الرجس و التطهير .
... أما الرجس فقد فسرها أهل اللغة بأنها تدور على إحدى المعاني التالية(2) :
القذر : و منه قول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - : اللهم إني أعوذ بك من الرجس ...) .
العقاب و الغضب : ومنه قوله تعالى : ( و يجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) .
الأوثان : و منه قوله تعالى : ( فاجتنبوا الرجس ) .
الشك : ومنه قوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم ) .
بعد أن مررنا على معاني الرجس عند أهل اللغة يتبين لنا أن معناها يدور حول القذارة المادية و المعنوية . فالرجس المادي مثل الغائط و البول و غيرهما أما الرجس المعنوي مثل الشك في الله و عبادة غيره .
و عليه فلا يوجد أي رابط ما بين ما يدعيه الرافضة بعصمة أئمتهم و هذه الآية . لأن طهر أهل البيت يكون بعدم التبرج تبرج الجاهلية و بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و طاعة الله و رسوله وعند فعل كل هذه الأوامر يكون الطهر لكل أهل البيت بل لكل من يفعل هذه الطاعات ابتغاء لمرضاة الله سبحانه و تعالى .
__________
(1) - مجمع البيان للطبرسي ، ج1/50 .
(2) - لسلن العرب ، ج 6/94- مختار الصحاح ، ج1/99. الغريب لابن قتيبة ، ج2/105.(195/8)
و التطهير و إذهاب الرجس لا يعني العصمة – بحسب مفهوم الروافض – من الذنب على الإطلاق و الدليل على ذلك هو ورود التطهير في غير أهل البيت كما في قوله تعالى : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ( سورة التوبة: الآية 102-103) .
فهؤلاء القوم ارتكبوا بعض المعاصي فلو كان التطهير يعني العصمة من الذنوب لما أطلق على هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم أن يأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم .
و انظر إلى قوله تعالى في سورة النمل : (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (النمل:56) .
و لم تكن ابنتا لوط معصومتين مع أنهما من آل لوط الذين و صفوا بالتطهير و أرادوا إخراجهم ، فتطهير آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - كتطهير آل بيت لوط عليه السلام .
... و انظر إلى قوله تعالى في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال فيهم : ( رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) ( التوبة : 108 ) .
و لم يقل أحد من أمة الإسلام أن هؤلاء أو أحدهم كان معصوماً من الذنوب و الأرجاس المادية و المعنوية على الرغم من وصف الله سبحانه و تعالى لهم بأنهم يحبون أن يتطهروا و الله يجب المتطهرين .
... ب – السنة النبوية الشريفة :(195/9)
... استدل الرافضة بالسنة النبوية الشريفة و كان استدلالهم ليس من باب التصديق و الإيمان بالسنة ، بل لأنهم و جدوا في بعض هذه الأحاديث شبه اعتقدوا أنها تساند بدعتهم فاحتجوا و استدلوا بها تدعيماً لبدعتهم في عصمة الأئمة و عودة الإمام الغائب عنهم .
كما أوردوا أحاديث من طرقهم تظهر بدعتهم و سفاهتهم .
... و عليه سنورد أولاً أحاديث أهل السنة ثم أحاديث الرافضة :
1ً- أحاديث أهل السنة :
احتج الشيعة الرافضة(1) بما رواه جابر عن سمرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يكون اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي أنه قال : كلهم من قريش ) (2).
و برواية عند الإمام مسلم عن جابر ، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول : لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ) ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لأبي : ما قال : فقال : كلهم من قريش ) (3) .
فالشيعة يحتجون بهذه الأحاديث لا لأنهم يؤمنون بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل ، لأن فيها شبهاً توافق هواهم و بدعتهم .
بيد أن هذه الأحاديث الصحاح لا يمكن أن تكون حجة لهم أبداً للأسباب التالية :
إن هذه الأحاديث تنص على أن هناك اثني عشر أميراً و في رواية البخاري خليفة أي أن هؤلاء سيحكمون المسلمين حكماً فعلياً ومن يتتبع سيرة أئمة الشيعة يلاحظ أن معظمهم لم يحكموا حتى أنفسهم بل عاشوا محكومين و مطاردين في كثير من الأزمان و العصور .
إن هذه الأحاديث تقول : إن الإسلام سيكون عزيزاً و منيعاً ، و من ينظر في إلى حال أئمة الشيعة الاثني عشر و حال الإسلام تتفاوت عزته من عصر إلى آخر بل أن مهديهم مختبئ – حسب اعتقادهم - منذ قرون لا يستطيع أن يحمي نفسه ، فكيف له أن يحمي الإسلام و بيضته .
__________
(1) - انظر مسائل خلافية حار فيها أهل السنة ، علي آل حسن ، ص 12و ما بعدها .
(2) - رواه البخاري في صحيحه ، ج8/127.
(3) - صحيح مسلم ، ج 2/1453.(195/10)
إن عزة الإسلام كانت في أعلى قمتها في عصر خلفاء بني أمية و بني العباس و بني عثمان أيضاً و ليس في عهد أئمة الشيعة الاثني عشر.
2ً – أحاديث الشيعة :
جاءت الشيعة الرافضة بأحاديث كثيرة تدعم بدعتهم ، بيد أن الطابع العام على هذه الأحاديث أنها منقطعة الإسناد و رواتها مجهولون أو فيهم من اشتهر بالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مطعون في ديانته .
قال الإمام الشافعي عليه رحمة الله : ما رأيت قوماً أشهد بالزور من الرافضة ) (1).
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله : ( اتفق أهل العلم بالنقل و الراوية و الإسناد ، على أن الرافضة أكذب الطوائف ، والكذب فيهم قديم ، و لهذا كان أئمة الإسلام يعلمون امتيازهم بكثرة الكذب ) (2).
__________
(1) - منهاج السنة ، ج 3/502. سنن البيهقي ، ج10/208.
(2) - منهاج السنة ، ج1/59.(195/11)
ومن هذه الأحاديث ما روى الشيخ مفيد الرافضي في كتابه روضة الواعظين : ( إن الله أنزل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد توجهه إلى المدينة في الطريق في حجة الوداع ، فقال يا محمد إن الله يقرئك السلام و يقول لك : انصب علياً للإمامة ، ونبه أمتك على خلافته . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا أخي جبريل إن الله بغض أصحابي بعلي ، إني أخاف منهم أن يجتمعوا على إضراري فاستعف لي ربي . فصعد جبريل و عرض جوابه على الله تعالى . فأنزله الله تعالى مرة أخرى . و قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلما قال أولاً ، فاستعفى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في المرة الأولى . ثم صعد جبريل فكرر جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأمره الله بتكرير نزوله معاتباً له مشدداً عليه بقوله : ( يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته ) فجمع أصحابه و قال : يا أيها الناس إن علياُ أمير المؤمنين و خليفة رب العالمين ، ليس لأحد أن يكون خليفة بعدي سواه . من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه ) .(195/12)
... و قد رد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب عليه رحمة الله على هذا الحديث فقال : ( فانظر أيها المؤمن إلى حديث هؤلاء الكذبة الذي يدل على اختلاقه ركاكة ألفاظه و بطلان أغراضه و لا يصح منه إلا من كنت مولاه ، ومن اعتقد منهم صحة هذا فقد هلك ، إذ فيه اتهام المعصوم قطعاً من المخالفة بعدم امتثال أمر ربه ابتداء وهو نقص ، و نقص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كفر ، و أن الله تعالى اختار لصحبته من يبغض أجلّ أهل بيته ، وفي ذلك ازدراء بالنبي صلى الله عليه وسلم و مخالفة لما مدح الله به رسوله و أصحابه من أجل المدح، قال الله تعالى : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيما ) واعتقاد ما يخالف كتاب الله و الحديث المتواتر كفر ، و أنه صلى الله عليه وسلم خاف إضرار الناس و قد قال الله تعالى : ( و الله يعصمك من الناس ) قبل ذلك كما هو معلوم بديهة و اعتقد عدم توكله على ربه فيما وعده نقص ، و نقصه كفر و إن فيه كذباً على الله تعالى ) و من أظلم ممن افترى على الله كذباً و كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن استحل ذلك فقد كفر ، و من يستحل ذلك فقد فسق، و ليس في قوله : من كنت مولاه ، أن النص على خلافته متصلة ، و لو كان نصاً لادعاها علي رضي الله عنه ، لأنه أعلم بالمراد ، و دعوى ادعائها باطل ضرورة ، و دعوى علمه يكون نصاً على خلافته و ترك ادعائها تقية أبطل من أن يبطل ) (1) 0
__________
(1) - رسالة في الرد على الرافضة لمحمد بن عبد الوهاب ، ص 6-7.(195/13)
و أختم هذه الفقرة بقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الرافضة : ( لا ريب أنهم متفقون على مخالفة العترة النبوية ، مع مخالفة إجماع الصحابة ، فإنه لم يكن في العترة النبوية – بنوا هاشم – على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - و أبي بكر و عمر و عثمان و علي من يقول بإمامة اثني عشر ، و لا بعصمة أحد بعد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - و لا بكفر الخلفاء الثلاثة ، بل و لا من يطعن في إمامتهم … ) (1).
و بعد أن بينت أدلة الشيعة النقلية و أظهرت ضعف حجتهم و استدلالاتهم لجؤوا إلى ما أسموه الحجج العقلية ، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من عقيدتهم الفاسدة :
ثانياً – الأدلة العقلية ( الشهوة و الهوى ) :
أتى الشيعة بأدلة أسموها عقلية(2) و هي في حقيقتها خليط مركب من الشهوة و الهوى يسير مع انحرافاتهم العقدية ، و شهواتهم الشيطانية ، ولعل أهم تلك الأدلة تتلخص بما يلي :
الإمام قائم مقام النبي - ( - و له الولاية العامة في الدين و الدنيا و ساد مسده ، فكما أن شرط العصمة في النبي اتفاقاً ، فكذا في الإمام إلزاماً و بالجملة أن الأدلة على عصمة النبي ( دالة على عصمة الإمام ، وهي انتفاء فائدة نصب الإمام أيضاً على تقدير عدم عصمته و للزوم التسلسل لو لم يكن الإمام معصوماً ...
إن الأمر باتباعه أمر مطلق . فلو وقع معصية لزم أن يكون الله آمراً لنا بفعل المعصية ، وهو قبيح عقلاً لا يفعله الحكيم تعالى ، لأن الإمام حافظ للشرع و كل من كان حافظاً للشرع لابد من عصمته .
أن الخطأ من البشر ممكن ، فإذا أردنا رفع الخطأ الممكن يجب أن نرجع إلى المجرد من الخطأ و هو المعصوم .
لو ثبتت عصمة الأمة ، لما كانوا بحاجة إلى إمام ، لأن الفكرة في وجوب وجود الإمام ترجع إلى صدور الخطأ عن المكلفين .
__________
(1) - منهاج السنة ، ج 3/406- 407.
(2) - الصوارم المهرقة ، في جواب الصواعق المحرقة ، نور الله التستري ، ص 50.نظرية الإمام ، د. أحمد صبحي ، ص 116-119.(195/14)
لو أن الأمة توجهت منزهة عن كل غرض و هوى للنفس لاختيار الإمام ، فإن الخطأ إذا كان جائزاً على كل مرد ، فقد جاز الخطأ على المجموع و بذلك تخطئ الأمة فلا تعطي المستحق و تختار غيره .
و لا شك أن هذه الأدلة التي سماها الشيعة بالأدلة العقلية من السهل جداً الرد عليها بما يلي :
الحقيقة أن هذه الأدلة الواهية قد أثارت على الشيعة موجة من النقد الممزوج بالاستخفاف و الاستهجان ، فأدلتهم واهية و لا تستند إلى عقل و لا نقل حتى قال ابن سلام عليه رحمة الله : ( عاشرت الناس و كلمت أهل الكلام و كذا فما رأيت أوسخ وسخاً و لا أقذر قذراً و لا أضعف حجة و لا أحمق من الرافضة ) (1).
ذلك أن قولهم أن الإمام قائم مقام النبي و أن الإمام معصوم إلزاماً ، فهذا القول لا يسانده دليل لا شرعي و لا عقلي ذلك أن النبي مؤيد بالوحي إذا أخطأ لا يقره على خطأه بل يصوبه ، أما غير النبي فإن وقوع الخطأ وارد في حقه دون تصويب إلا من بطانته الصالحة إذا كان له تلك البطانة . و من يعتقد أن الإمام مؤيد بالوحي فإنه يجعله نبياً وهذا كفر مخرج من الملة و العياذ بالله تعالى .
أما قولهم أن الإمام المعصوم يحمي الأمة من الوقوع بالخطأ فهذا القول أثبت التاريخ عدم صوابه ، فمن يقرأ التاريخ يرى أن الشيعة أكثر الفرق الإسلامية تفرقاً و تشرذماً و خرقاً للإسلام و أصوله ، دون أن تحميهم حجة عصمة أئمتهم بل تفرقوا إلى فرق كل واحدة تلعن أختها .
__________
(1) - السنة للخلال ، ج3/499.(195/15)
أما اعتقاد أهل السنة و الجماعة القائم على كتاب الله و سنة رسول الله ، فقد حمى الإسلام و بيضته - بفضل الله أولاً و بفضل تمسكهم بحبل الله و سنة رسوله و إجماع أمته ، لاستحالة اجتماع الأمة الإسلامية على الخطأ و إن جاز خطأ بعض الأمة دون بعضها الآخر ، فإن هذا لا يفيد تعميمه على المجموع ، لقول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة أبداً ، و يد الله على الجماعة ، فمن شذ شذ في النار ) (1).
و في رواية الطبراني : ( لن تجتمع أمتي على الضلالة أبداً ، فعليكم بالجماعة ، فإن يد الله على الجماعة ) (2).
و عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أمتي لا تجتمع على الضلالة ، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم ) (3).
و قد ناقش الإمام البغدادي الرافضة في بيعة الحسن لمعاوية رضي الله عنهما ، فقال : ( فإذا سئلوا عن بيعة الحسن لمعاوية لم يمكنهم أن يقولوا أنها كانت صواباً ، لأن هذا القول يوجب تصحيح ولاية معاوية و هو عندهم ظالم كافر ، و لم يمكنهم أن يقولوا أنها خطأ فيبطلوا عصمة الحسن ) (4).
و هكذا نرى أن البغدادي قد أبان أن ادعاء العصمة لأئمة الشيعة تفتقر إلى أي دليل شرعي صحيح أو عقلي قويم ، بل أن أفعال و أقوال آل البيت تدل على خطئهم و اعترافهم بذلك ، وهذا بلا شك موافق لعقيدة أهل السنة و الجماعة و مخالف لمذهب الرافضة في عصمة الأئمة .
المبحث الثاني
في ولاية الفقيه و أدلتها :
بعد أن بسطنا القول بعصمة أئمة الشيعة و بينت بدعتها و ضلالها ، نبحث في بدعة معاصرة سماها أصحابها بولاية الفقيه .
__________
(1) - المستدرك على الصحيحين ، ج2/200.حلية الأولياء ، 3/37.
(2) - المعجم الكبير ، ج12/447.
(3) - اعتقاد أهل السنة ، ج1/105.
(4) - أصول الدين للبغدادي ، ص78.(195/16)
فالرافضة تعتقد أن الإمام لابد أن يكون معصوماً ، لأن إمامته راجعة إلى الله تعالى لا إلى اختيار الأمة ، لأن الأمة ليست معصومة عن الخطأ ، فكيف لها أن تختار معصوماً !
... و حيث أن الرافضة يرون هذا الرأي نلاحظ أن بدعتهم في ولاية الفقيه قد قلبت مفهومهم في الإمام المعصوم و عودته رأساً على عقب و خصوصاً بما يتعلق باختيار الأمة لإمامها أو نائبه و صلاحيات هذا النائب الذي ينسخ عقيدة الرافضة في انتظار الفرج عن إمامهم المزعوم الذي طالت غيبته مما جعل اليأس ، و الإحباط يملأ قلوب الرافضة و نقرأ هذا جليأ في قول الخميني : ( قد مر على الغيبة الكبرى(1) لإمامنا المهدي أكثر من ألف ، و قد تمر ألوف السنين قبل أن تقتضي المصلحة قدوم الإمام المنتظر ، في طول هذه المدة المديدة هل تبقى أحكام الإسلام معطلة يعمل الناس من خلالها ما يشاؤون ، القوانين التي صدع بها في الإسلام - صلى الله عليه وسلم - و جهد في نشرها و بيانها و تنفيذها طيلة ثلاثة و عشرين عاماً ، هل كان ذلك لمدة محدودة ؟ هل حدد الله عمر الشريعة بمائتي عام مثلاً ؟ و هل ينبغي أن يخسر الإسلام بعد عصر الغيبة الصغرى كل شئ ؟ الذهاب إلى هذا الرأي أسوأ في نظري من الاعتقاد بأن الإسلام منسوخ ... ) (2).
...
... و من خلال مقالة الخميني الرافضي نستطيع أن نستنتج ما يلي :
__________
(1) - يدعي الشيعة أن لإمامهم غيببة صغرى و غيبة كبرى أما الغيبة الصغرى : فالإمام احتجب عن عامة الشيعة دون نفر قليل سموا رواة الحديث إذ كانوا هؤلاء – حسب دعواهم – ينقلون إلى الإمام المزعوم مسائل الناس و مشاكلهم ، و يعودون بالأجوبة عنها . أما الغيبة الكبرى : فإن الإمام المزعوم احتجب عن جميع الشيعة العامة و الخاصة منهم .
(2) - الحكومة الإسلامية ، للخميني ، ج23-24.(195/17)
أن غيبة إمام الرافضة المزعومة قد طالت و ربما تطول قروناً و لا بد من مخرج من هذا المأزق الذي وضعوا فيه أنفسهم جراء بدعتهم و مخالفتهم للإسلام و أصوله .
أن الرافضة قد أصابهم اليأس من طول الغيبة المزعومة و خصوصاً أنهم لا يملكون شيئاً أمام هذه العقيدة الفاسدة التي صاغها الشيعة الرافضة لأنفسهم .
أن عقيدة الشيعة قائمة على عدم تطبيق الأحكام الشرعية إلا بوجود الإمام المعصوم حتى أنهم قالوا : ( كل راية قبل راية القائم رضي الله عنه صاحبها طاغوت ) (1).
أن عقيدة انتظار خروج الإمام أدت إلى فساد المجتمع الشيعي لعدم وجود من يردعهم دينياً .
أن عقيدة انتظار خروج الإمام المعصوم أدت إلى نسخ الشريعة عند الشيعة ، لأن أحكام الشريعة عندهم لا تطبق إلا بوجود إمامهم المعصوم و هذا المزعوم غائب و لا يمكن معرفة تاريخ عودته إن كان سيعود أصلاً .
و أمام هذه الحقائق الواقعية حاول الخميني و من أخذ برأيه الخروج من هذا المأزق ببدعة جديدة أطلقوا عليها اسم " ولاية الفقيه "
أدلة ولاية الفقيه :
رحم الله تعالى الإمام الشاطبي الذي قال : ( لا تجد مبتدعاً ممن ينتسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي فينزله على ما وافق عقله و شهوته )) .
و على هذا كان لابد لهؤلاء النفر أصحاب بدعة ولاية الفقيه من أدلة نقلية وعقلية لتسويغ بدعتهم و تمريرها على أتباع المذهب الشيعي الرافضي و من هذه الأدلة ما يلي :
أولاً - القرآن الكريم :
قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء:58)
__________
(1) - أصول مذهب الشيعة الإمامية ، ج2/738.(195/18)
... قال الخميني مستدلاً بهذه الآية لتبرير بدعته : ( إن الخطاب موجه إلى من يمسكون الأمور بأيديهم ، وليس خطاباً للقضاة ، لأن القضاة جزء من الحكومة … ) (1).
... ثانياً – السنة المنسوبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - :
و جاء القوم بحديث منسوب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فيه : ( اللهم ارحم خلفائي – ثلاث مرات – قيل : يا رسول الله و من خلفاؤك ؟ قال الذين يأتون بعدي ، يرون حديثي و سنتي فيعلمونها الناس من بعدي ) .
و قد قال الخميني : ( أن المقصود بخلفاء الرسول أولئك الذين يسعون إلى نشر علوم الإسلام و أحكامه و لا علاقة لها بنقلة الحديث و رواته المجردين عن الفقه ، فالمقصود هم فقهاء الإسلام الذين يجمعون إلى فقههم و علمهم العدالة و الاستقامة في الدين … ليصل في نهاية المطاف إلى تبرير نظرية ولاية الفقيه و صلاحية الفقيه لتعمم جميع شؤون الحياة ) (2).
ثالثاً – أقوال منسوبة للإمام الغائب :
كما استدل أصحاب هذه البدعة بتوقيع منسوب عن إمام الرافضة المغيب و الذي زعموا فيه أنه قال : ( و أما الحوادث الواقعة فارجعوا إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة الله ) (3).
قال الهمداني الرافضي في شرح هذا القول : ( يتضح من التأمل و التدقيق في الرواية المذكورة ، التي هي الدليل لأساس على نصب الفقهاء في عصر الغيبة أن الفقيه الذي يأخذ روايات الأئمة و يتمكن منها ، يكون في موقعهم ، ليرجع الشيعة إليه في الأمور التي يجب أن يرجعوا فيها إلى الإمام ) (4).
صلاحيات الفقيه في ولايته :
__________
(1) - الحكومة الإسلامية ، ج 2/738 .
(2) - الحكومة الإسلامية ، ص 60- 63- 69 .
(3) - آراء في المرجعية الشيعية ، ص 65.
(4) - آراء في المرجعية الشعية ، ص 65.(195/19)
بعد أن أورد فقهاء الشيعة أدلتهم من أجل تبرير و تشريع بدعة ولاية الفقيه ، اختلفوا في حدود و سلطات الفقيه الولي إلى اتجاهات ثلاثة (1) :
الاتجاه الأول : يرى أن للفقيه ولاية عامة ، فالفقيه هو نائب الإمام الغائب و له أن يملكه الإمام الغائب .
الاتجاه الثاني : يرى أن للفقيه ولاية خاصة فقط ، أي يملك سلطة الفتيا و القضاء ، و يملك إصدار الأحكام في الموضوعات العامة أو الخاصة فينفذ حكمه فيها ، كما ينفذ حكمه في القضايا الشرعية … و لكنه لا يملك الولاية العامة .
الاتجاه الثالث : هذا الاتجاه يسلب من الفقيه سلطة إصدار الأحكام في الموضوعات ، فليس له الحق في ذلك ، و لا يجب على الناس إطاعته فيها ، فلو أصدر حكماً في ثبوت هلال شهر رمضان ، فلا يجب على الناس الصيام ، لأن حكمه ليس حجة عليهم إلا إذا أوجب لهم الاطمئنان الذاتي .
و أمام هذه الآراء لمتكلمي الشيعة الروافض اختيار الخميني المبتدع هذه البدعة القائلة بالولاية العامة للفقيه .
إذ يرى الخميني أن سلطة الفقيه أثناء ولايته سلطة مطلقة ، لا تختلف أبداً عن سلطة الإمام المعصوم ، ولا حتى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - و يستند في ذلك إلى التوقيع المزعوم للإمام المزعوم ، الذي يقول فيه : ( أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة الله ) .
فالخميني يرى أن الفقيه حجة على أهل زمانه و لا فرق بينه و بين الإمام الغائب مما يعني حقيقة أن عقيدة ظهور الإمام أو عدم ظهوره أصبحت تحصيل حاصل للشيعة الرافضة ما دام هناك من يطبق شريعة الشيعة .
__________
(1) - آراء في المرجعية الشيعة ، ص 137-138.(195/20)
و قد توقف الخميني طويلاً عند رواية سماها ( صحيحة قداح ) وهي قول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - : ( العلماء ورثة الأنبياء )(1) ليثبت من خلالها ما يريد من أن المقصود بالعلماء في البيان النبوي هم الفقهاء ، و ليسوا الأئمة و أن منزلة العلماء مثل منزلة الأنبياء من حيث الطاعة و الامتثال لأوامرهم .
و مما قاله لتبرير بدعته : ( إن المقياس في فهم الروايات آخذ بظواهر ألفاظها ، هو العرف و الفهم المتعارف … و إذا رجعنا إلى العرف في فهم عبارة ( العلماء ورثة الأنبياء ) و سألنا العرف : هل أن هذه العبارة تعني الفقيه بمنزلة موسى و عيسى عليهما السلام ؟
لأجاب : نعم ! ؟ لأن هذه الرواية تجعل العلماء بمنزلة الأنبياء ، و بما أن موسى و عيسى عليهما السلام من الأنبياء ، فالعلماء بمنزلة موسى و عيسى عليهما السلام ، و إذا سألنا العرف : هل أن الفقيه وارث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ لأجاب : نعم ... فورود كلمة الأنبياء بصيغة الجميع ، إنما يقصد به كل الأنبياء ... حتى لو نزلنا العلماء منزلة الأنبياء بوصفهم أنبياء ، فإنه ينبغي إعطاء جميع أحكام المشبه بهم للمشبه ) (2).
ثم يؤكد الخميني بدعته بقوله : ( أن جميع شؤون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قابلة للانتقال و الوراثة ، و من جملتها الإمارة على الناس ، و تولي أمورهم ، من كل ما ثبت للأئمة من بعده و للفقهاء من الأئمة … ) (3) .
... ثم ينتهي إلى البدعة التي تمناها ، فيقول : تبين لنا أن ما ثبت للرسول - صلى الله عليه وسلم - و الأئمة فهو ثابت للفقيه ) (4).
__________
(1) - ففي مجمع الزوائد : عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العلماء خلفاء الأنبياء قلت له في السنن العلماء ورثة الأنبياء ، رواه البزار و رجاله موثقون ، ج 1/126.
(2) - الحكومة الإسلامية للخميني ، ص 84-85.
(3) - المصدر السابق ، ص 86.
(4) - المصدر السابق ، ص 88.(195/21)
و تبعاً لهذه المقدمات فإن الجاحد لولاية الفقيه يعتبر جاحداً للإمام المعصوم و الجاحد للإمام المعصوم يعتبر جاحداً لحقوق الله و الجاحد للحقوق الله يقع في حد الشرك الأكبر عند الشيعة الروافض .
و هذا ما عبر عنه الخميني عندما قال : ( إن الراد على الفقيه الحاكم يعد راداً على الإمام ، و الرد على الإمام رد على الله ، و الرد على الله يقع في حد الشرك بالله ) (1).
و قد بين النراقي الرافضي في كتابه عوائد الأيام صلاحيات الولي الفقيه ، فقال : ( إن كلية ما للفقيه العادل تولية و له الولاية فيه أمران :
أحدهما : كلما كان للنبي و الأئمة الذين هم سلاطين الأنام و حصون الإسلام و فيه الولاية و كان لهم ، فللفقيه أيضاً ذلك إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما .
و ثانيهما : إن كل فعل يتعلق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم و لابد من الإتيان به و لا مفر منه عقلاً أو عادة ، أو من حجة توقف أمور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة عليه و إناطة انتظام أمور الدين أو الدنيا ، أو شرعاً من حجة ورود أمر به … ) (2).
و مما سلف يتبين لنا مما نقلناه حول حدود بدعة ولاية الفقيه أن للفقيه ما للإمام المعصوم من صلاحيات و حدود و هذا الأخير كل ما كان للنبي من حدود و صلاحيات .
و السؤال الذي يطرح نفسه عند هذه النتيجة التي أرادها الخميني و من دار بفلك بدعته .
ما هي الضمانات التي و ضعت لعدم انحراف و استبداد الفقيه أثناء ولايته و خصوصاً أن له صلاحيات و سلطات الإمام المعصوم بحسب ما يعتقد هؤلاء ؟ .
__________
(1) - كشف الأسرار للخميني ، ص 207.
(2) - آراء في المرجعة الشيعية ، ص 60.(195/22)
لا شك أن الروافض بهذه البدعة الجديدة قد خرجوا حتى عن أس دينهم و معتقدات شيعتهم الأوائل . لا بل ضربوا بعرض الحائط أصول دينهم الذي يدور على بدعة الإمام المعصوم و عودته . و في معنى أوضح أن الشيعة الجدد قد نسخوا عقيدة الإمام المعصوم و عودته ، ليتلاقوا مع إخوانهم في النظرية و التطبيق الفرقة البهائية المعروفة بالكفر والفساد و الضلال .
ذلك أنهم قد قرروا أن حكم الفقيه هو بمثابة حكم الرسول و حكم أئمتهم مع الفارق الذي ذكره الخميني إذ قال : ( أن عصمة المعصوم إنما كانت بسبب المنزلة العالمية و المقام المحمود الذي لا يبلغه ملك مقرب و لا نبي مرسل ، و أيضاً بسبب خلافته التكوينية التي تخضع لولايتها و سيطرتها جميع ذرات هذا الكون ) (1).
فالخميني و غيره من شيوخ الرافضة يضع أئمة الشيعة فوق الأنبياء و هذا كفر بواح ، لا تأويل و لا تفسير حسن له ، عصمنا الله من هذا الاعتقاد و أمثاله .
و الحقيقة أن الخميني و من قال بقوله يتلاقى مع البهائية في بدعة ولاية الفقيه ذلك أن هذا الاعتقاد قد أدى إلى نسخ عقيدة الإمام المعصوم و عودته فما الحاجة إلى ظهور الإمام الغائب و هناك من يتولى جميع صلاحياته فعلاً و لم يعد هناك أي ضرورة أو حاجة لعودته .
لذلك نرى أحد مراجع الشيعة ( الخوئي ) الذي عارض عقيدة ولاية الفقيه فأسس جمعية في إيران سماها ( جماعة الحجتية ) أي جماعة الإمام الحجة ، والتي ترفض الولاية من حيث المبدأ و تدعوا إلى الالتزام بمبدأ الانتظار حتى يظهر إمامهم الغائب (2).
__________
(1) - الحكومة الإسلامية ، للخميني ، ص 47.
(2) - إيران من الداخل ، فهمي الهويدي ، ص 105.(195/23)