وقوله بأن مرور المرأة والكلب الأسود والحمار يقطع الصلاة وقوله بأن الجدة ترث وابنها حي وقوله بصحة المساقاة والمزارعة وما أشبه ذلك وإن كان البذر من العامل على إحدى الروايتين عنه وكذلك طائفة من أصحاب الشافعي وقوله في إحدى الروايتين إن طلاق السكران لا يقع وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة والشافعي وقوله بأن الوقف إذا تعطل نفعه بيع واشتري به ما يقوم مقامه وفي مذهب أبي حنيفة ما هو أقرب إلى قول أحمد من غيره وكذلك في مذهب مالك وكذلك قوله في إبدال الوقف كإبدال مسجد بغيره ويجعل الأول غير مسجد كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي مذهب أبي حنيفة ومالك جواز الإبدال للحاجة في مواضع وقوله بقبول شهادة العبد وقوله بأن صلاة المنفرد خلف الصف يجب عليه فيها الإعادة وقوله إن فسخ الحج إلى العمرة جائز مشروع بل هو أفضل وقوله بأن القارن إذا ساق الهدي فقرانه أفضل من التمتع والإفراد كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومثل قوله إن صلاة الجماعة فرض على الأعيان
5
182(186/123)
وبالجملة فما اختص به كل إمام من المحاسن والفضائل كثير ليس هذا موضع استقصائه فإن المقصود أن الحق دائما مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره الصحيحة وإن كان كل طائفة تضاف إلى غيره إذا انفردت بقول عن سائر الأمة لم يكن القول الذي انفردوا به إلا خطأ بخلاف المضافين إليه أهل السنة والحديث فإن الصواب معهم دائما ومن وافقهم كان الصواب معه دائما لموافقته إياهم ومن خالفهم فإن الصواب معهم دونه في جميع أمور الدين فإن الحق مع الرسول فمن كان أعلم بسنته وأتبع لها كان الصواب معه وهؤلاء هم الذين لا ينتصرون إلا لقوله ولا يضافون إلا إليه وهم أعلم الناس بسنته وأتبع لها وأكثر سلف الأمة كذلك لكن التفرق والاختلاف كثير في المتأخرين والذين رفع الله قدرهم في الأمة هو بما أحيوه من سنته ونصرته وهكذا سائر طوائف الأمة بل سائر طوائف الخلق كل حير معهم فيما جاءت به الرسل عن الله وما كان معهم من خطأ أو ذنب فليس من جهة الرسل ولهذا كان الصحابة إذا تكلموا في مسألة باجتهادهم قال أحدهم أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه كما قال أبو بكر رضي الله عنه في الكلالة وكما قال ابن مسعود في المفوضة إذا مات عنها زوجها وكلاهما أصاب فيما قاله برأيه لكن قال الحق فإن القول إذا كان
5
183(186/124)
صوابا فهو مما جاء به الرسول عن الله فهو من الله وإن كان خطأ فالله لم يبعث الرسول بخطأ فهو من نفسه ومن الشيطان لا من الله ورسوله والمقصود بالإضافة إليه الإضافة إليه من جهة إلاهيته من جهة الأمر والشرع وال وأنه يحبه ويرضاه ويثيب فاعله عليه وأما من جهة الخلق فكل الأشياء منه والناس لم يسألوا الصحابة عما من الله خلقا وتقديرا فقد علموا أن كل ما وقع فمنه والعرب كانت في جاهليتها تقر بالقضاء والقدر قال ابن قتيبة وغيره ما زالت العرب في جاهليتها وإسلامها مقر بالقدر وقد قال عنترة يا عبل أين من المنية مهرب إن كان ربي في السماء قضاها وإنما كان سؤال الناس عما من الله من جهة أمره ودينه وشرعه الذي يرضاه ويحبه ويثيب أهله وقد علم الصحابة أن ما خالف الشرع والدين فإنه يكون من النفس والشيطان وإن كان بقضاء الله وقدره وإن كان يعفى عن صاحبه كما يعفى عن النسيان والخطأ ونسيان الخير يكون من الشيطان كما قال تعالى وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين سورة الأنعام وقال فتى موسى صلى الله عليه وسلم وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره سورة الكهف وقال فأنساه الشيطان ذكر ربه سورة يوسف
5
184
ولما نام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الوادي عن الصلاة قال هذا واد حضرنا فيه الشيطان وقال إن الشيطان أتى بلالا فجعل يهديه كما يهدي الصبي حتى نام فإنه كان وكل بلالا أن يكلأ لهم الصبح مع قوله ليس في النوم تفريط وقال إن الله قبض
5
185(186/125)
أرواحنا وقال له بلال أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك وقال من نام عن صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ومع قوله تعالى عن المؤمنين ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا سورة البقرة قال تعالى قد فعلت وكذلك الخطأ في الإجتهاد من النفس والشيطان وإن كان مغفورا لصاحبه وكذلك الإحتلام في المنام من الشيطان وفي الصحيحين عنه أنه قال الرؤيا ثلاثة رؤيا من الله ورؤيا من الشيطان ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في المنام فالنائم يرى في منامه ما يكون من الشيطان وهو كما قال صلى الله عليه وسلم رفع
5
186
القلم عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يحتلم وأعذرهم النائم ولهذا لم يكن لشىء من أقواله التي تسمع منه في المنام حكم باتفاق العلماء فلو طلق أو أعتق أو تبرع أو غير ذلك في منامه كان لغوا بخلاف الصبي المميز فإن أقواله قد تعتبر إما بإذن الولي وإما بغير إذنه في مواضع بالنص وفي مواضع بالإجماع وكذلك الوسواس في النفس يكون من الشيطان تارة ومن النفس تارة قال تعالى ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه سورة ق وقال فوسوس إليه الشيطان سورة طه وقال فوسوس لهما الشيطان فأخرجهما مما كانا فيه سورة الأعراف والوسوسة من جنس الوشوشة بالشين المعجمة ومنه وسوسة الحلى وهو الكلام الخفي والصوت الخفي
5
187(186/126)
وقد قال تعالى قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس سورة الناس وقد قيل إن المعنى من الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة ومن الناس وأنه جعل الناس أولا تتناول الجنة والناس فسماهم ناسا كما سماهم رجالا قاله الفراء وقيل المعنى من شر الموسوس في صدور الناس من الجن ومن شر الناس مطلقا قاله الزجاج ومن المفسرين كأبي الفرج بن الجوزى من لم يذكر غيرهما وكلاهما ضعيف والصحيح أن المراد القول الثالث وهو أن الإستعاذة من شر الموسوس من الجنة ومن الناس في صدور الناس فأمر بالإستعاذة من شر شياطين الإنس والجن كما قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون سورة الأنعام وفي حديث أبي ذر الطويل الذي رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه
5
188
بطوله قال يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن فقال يا رسول الله أو للإنس شياطين قال نعم شر من شياطين الجن وقد قال تعالى وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون سورة البقرة والمنقول عن عامة المفسرين أن المراد شياطين الإنس وما علمت أحدا قال إنهم شياطين الجن فعن ابن مسعود وابن عباس والحسن والسدي أنهم رؤوسهم في الكفر وعن أبي العالية ومجاهد إخوانهم من المشركين وعن الضحاك وابن السائب كهنتهم والآية تتناول هذا كله وغيره ولفظها يدل على أن المراد شياطين الإنس لأنه قال وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم سورة البقرة ومعلوم أن شيطان الجن معهم لما لقوا الذين آمنوا لا يحتاج أن يخلوا به وشيطان الجن هو
5
189(186/127)
الذي أمرهم بالنفاق ولم يكن ظاهرا حتى يخلوا معهم ويقول إنا معكم لا سيما إذا كانوا يظنون أنهم على حق كما قال تعالى وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون سورة البقرة ولو علموا أن الذي يأمرهم بذلك شيطان لم يرضوه وقد قال الخليل بن أحمد كل متمرد عند العرب شيطان وفي اشتقاقه قولان أصحهما أنه من شطن يشطن إذا بعد عن الخير والنون أصلية قال أمية بن أبي الصلت في صفة سليمان عليه السلام أيما شاطن عصاه عكاه ثم يلقى في السجن والأغلال عكاه أوثقه وقال النابغة نأت بسعاد عنك نوى شطون فبانت والفؤاد بها رهين ولهذا قرنت به اللعنة فإن اللعنة هي البعد من الخير والشيطان بعيد من الخير فيكون وزنه فيعالا وفيعال نظير فعال وهو من صفات المبالغة مثل القيام والقوام فالقيام فيعال والقوام فعال ومثل العياذ والعواذ وفي قراءة عمر الحي القيام
5
190(186/128)
فالشيطان المتصف بصفة ثابتة قوية في كثرة البعد عن الخير بخلاف من بعد عنه مرة وقرب منه أخرى فإنه لا يكون شيطانا ومما يدل على ذلك قولهم تشيطن يتشيطن شيطنة ولو كان من شاط يشيط لقيل تشيط يتشيط والذي قال هو من شاط يشيط إذا احترق والتهب جعل النون زائدة وقال وزنه فعلان كما قال الشاعر وقد يشيط على أرماحنا البطل وهذا يصح في الإشتقاق الأكبر الذي يعتبر فيه الإتفاق في جنس الحروف كما يروى عن أبي جعفر أنه قال العامة مشتق من العمى ما رضى الله أن يشبههم بالأنعام حتى قال بل هم أضل سبيلا وهذا كما يقال السرية مأخوذة من السر وهو النكاح ولو جرت على القياس لقيل سريرة فإنها على وزن فعيلة ولكن العرب تعاقب بين الحرف المضاعف والمعتل كما يقولون تقضي البازي وتقضض قال الشاعر تقضى البازى إذا البازى كسر ومنه قوله تعالى فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه سورة البقرة وهذه الهاء تحتمل أن تكون أصلية فجزمت بلم ويكون من سانهت وتحتمل أن تكون هاء السكت كالهاء من كتابيه
5
191(186/129)
وحسابيه واقتده وماليه وسلطانيه وأكثر القراء يثبتون الهاء وصلا ووقفا وحمزة والكسائي يحذفانها من الوصل هنا ومن اقتده فعلى قراءتهما يجب أن تكون هاء السكت فإن الأصلية لا تحذف فتكون لفظة لم يتسن كما تقول لم يتغن وتكون مأخوذة من قولهم تسنى يتسنى وعلى الإحتمال الآخر تكون من تسنه يتسنه والمعنى واحد قال ابن قتيبة أى لم يتغير بمر السنين عليه قال واللفظ مأخوذ من السنه يقال سانهت النخلة إذا حملت عاما وحالت عاما فذكر ابن قتيبة لغة من جعل الهاء أصلية وفيها لغتان يقال عاملته مسانهة ومساناة ومن الشواهد لما ذكره ابن قتيبه قول الشاعر فليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح يمدح النخلة والمقصود مدح صاحبها بالجود فقال إنه يعريها لمن يأكل ثمرها لا يرجبها لتخلية ثمرها ولا هي بسنهاء والمفسرون من أهل اللغة يقولون في الآية معناه لم يتغير وأما لغة من قال إن أصله سنوة فهي مشهورة ولهذا يقال في جمعها سنوات
5
192(186/130)
ويشابهه في الإشتقاق الأكبر الماء الآسن وهو المتغير المنتن ويشابهه في الإستقاق الأصغر الحمأ المسنون فإنه من سن يقال سننت الحجر على الحجر إذا حككته والذي يسيل بينهما سنن ولا يكون إلا منتنا وهذا أصح من قول من يقول المسنون المصبوب على سنة الوجه أو المصبوب المفرغ أي أبدع صورة الإنسان فإن هذا أنما كان بعد أن خلق من الحمأ المسنون ونفس الحمأ لم يكن على صورة الإنسان ولا صورة وجه ولكن المراد المنتن فقوله لم يتسنه بخلاف قوله ماء غير آسن سورة محمد فإنه من قولهم أسن يأسن فهذا من جنس الاشتقاق الأكبر لاشتراكهما في السين والنون والنون الأخرى والهمزة والهاء متقاربتان فإنهما حرفا حلق وهذا باب واسع والمقصود أن اللفظين إذا اشتركا في أكثر الحروف وتفاوتا في بعضها قيل أحدهما مشتق من الآخر وهو الإشتقاق الأكبر والأوسط أن يشتركا في الحروف لا في ترتيبها كقول الكوفيين الإسم مشتق من السمة والإشتقاق الأصغر الخاص الإشتراك في الحروف وترتيبها وهو المشهور كقولك علم يعلم فهو عالم
5
193
وعلى هذا فالشيطان مشتق من شطن وعلى الإشتقاق الأكبر هو من باب شاط يشيط لأنهما اشتركا في الشين والطاء والنون والياء متقاربتان فهو سبحانه أمر في سورة الناس بالإستعاذة من شر الوسواس من الجنة والناس الذي يوسوس في صدور الناس ويدخل في ذلك وسوسة نفس الإنسان له ووسوسة غيره له والقول في معنى الآية مبسوط في مصنف مفرد والمقصود هنا أنه قد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وابن عباس أن العبد إذا هم بخطيئة لم تكتب عليه فإن تركها لله كتبت له حسنة كاملة فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة وأنه إذا هم بحسنة كتبت له حسنه كاملة فإن عملها كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة
5
194(186/131)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضى التأذين أقبل فإذا ثوب بالصلاة أدبر يعني الإقامة فإذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يضل الرجل إن يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين
5
195
فقد أخبر أن هذا التذكير والوسواس من الشيطان وأنه ينسيه حتى لا يدري كم صلى وأمره بسجدتي السهو ولم يؤثمه بذلك والوسواس الخفيف لا يبطل الصلاة باتفاق العلماء وأما إذا كان هو الأغلب فقيل عليه الإعادة وهو اختيار أبي عبد الله بن حامد والصحيح الذي عليه الجمهور وهو المنصوص عن أحمد وغيره أنه لا إعادة عليه فإن حديث أبي هريرة عام مطلق في كل وسواس ولم يأمر بالإعادة لكن ينقص أجره بقدر ذلك قال ابن عباس ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها وفي السنن عن عمار بن ياسر أنه صلى صلاة فخففها فقيل له في ذلك فقال هل نقصت منها شيئا قالوا لا قال فإني بدرت الوسواس وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الرجل لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا عشرها إلا تسعها إلا ثمنها حتى قال إلا نصفها وهذا الحديث حجة على ابن حامد فإن أدنى ما ذكر نصفها وقد ذكر إنه يكتب له عشرها وأداء الواجب له مقصودان أحدهما براءة الذمة بحيث يندفع عنه الذم والعقاب المستحق بالترك فهذا لا تجب معه الإعادة فإن الإعادة يبقى مقصودها حصول ثواب مجرد وهو شأن
5
196(186/132)
التطوعات لكن حصول الحسنات الماحية للسيئات لا يكون إلا مع القبول الذي عليه الثواب فبقدر ما يكتب له من الثواب يكفر عنه به من السيئات الماضية وما لا ثواب فيه لا يكفر وإن برئت به الذمة كما في الحديث المأثور رب صائم ليس حظه من صيامه إلا الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر يقول إنه تعب ولم يحصل له منفعة لكن برئت ذمته فسلم من العقاب فكان على حاله لم يزدد بذلك خيرا والصوم إنما شرع لتحصيل التقوى كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات سورة البقرة وقال النبي صلى الله عليه وسلم الصيام جنة فإذا كان أحدكم
5
197
صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم وفيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره قيل يقول في نفسه فلا يرد عليه وقيل يقول بلسانه وقيل يفرق بين الفرض فيقول بلسانه والنفل يقول في نسفه فإن صوم الفرض مشترك والنفل يخاف عليه من الرياء والصحيح أنه يقول بلسانه كما دل عليه الحديث فإن القول المطلق لا يكون إلا باللسان وأما ما في النفس فمقيد كقوله عما حدثت به أنفسها ثم قال ما لم تتكلم أو تعمل به فالكلام المطلق إنما هو الكلام المسموع وإذا قال بلسانه إني صائم بين عذره في إمساكه عن الرد وكان أزجر لمن بدأه بالعدوان وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه بين
5
198(186/133)
صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى لم يحرم على الصائم الأكل لحاجته إلى ترك الطعام والشراب كما يحرم السيد على عبيده بعض ماله بل المقصود محبة الله تعالى وهو حصول التقوى فإذا لم يأت به فقد أتى بما ليس فيه محبة ورضا فلا يثاب عليه ولكن لا يعاقب عقوبة التارك والحسنات المقبوله تكفر السيئات ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ولو كفر الجميع بالخمس لم يحتج إلى الجمعة لكن التكفير بالحسنات المقبولة وغالب الناس لا يكتب له من الصلاة إلا بعضها فيكفر ذلك بقدره والباقي يحتاج إلى تكفير ولهذا جاء من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من أعماله الصلاة فإن أكملت وإلا قيل انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة ثم يصنع في سائر الأعمال كذلك
5
199
وتكميل الفرائض بالتطوع مطلق فإنه يكون يوم القيامة يوم الجزاء فإنه إذا ترك بعض الواجبات استحق العقوبة فإذا كان له من جنسه تطوع سد مسده فلا يعاقب وإن كان ثوابه ناقصا وله تطوع سد مسده فكمل ثوابه وهو في الدنيا يؤمر بأن يعيد حيث تمكن إعادة ما فعله ناقصا من الواجبات أو يجبره بما ينجبر به كسجدتي السهو في الصلاة وكالدم الجابر لما تركه من الواجبات الحج ومثل صدقة الفطر التي فرضت طهرة للصائم من اللغو والرفث وذلك لأنه إذا أمكنه أن يأتي بالواجب كان ذلك عليه ولم يكن قد برئ من عهدته بل هو مطلوب به كما لو لم يفعله بخلاف ما إذا تعذر فعله يوم الجزاء فإنه لم يبق هناك إلا الحسنات ولهذا كان جمهور العلماء على أن من ترك واجبا من واجبات الصلاة
5
200(186/134)
عمدا فعليه إعادة الصلاة ما دام يمكن فعلها وهو إعادتها في الوقت هذا مذهب مالك والشافعي وأحمد لكن مالك وأحمد يقولان قد يجب فيها ما يسقط بالسهو ويكون سجود السهو عوضا عنه وسجود السهو واجب عندهما وأما الشافعي فيقول كل ما وجب بطلت الصلاة بتركه عمدا أو سهوا وسجود السهو عنده ليس بواجب فإن ما صحت الصلاة مع السهو عنه لم يكن واجبا ولا مبطلا والأكثرون يوجبون سجود السهو كمالك وأبي حنيفة وأحمد ويقولون قد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم والأمر يقتضي الإيجاب ويقولون الزيادة في الصلاة لو فعلها عمدا بطلت الصلاة بالإتفاق مثل أن يزيد ركعة خامسة عمدا أو يسلم عمدا قبل إكمال الصلاة ثم إذا فعله سهوا سجد للسهو بالسنة والإجماع فهذا سجود لما تصح الصلاة مع سهوة دون عمده وكذلك ما نقصه منها فإن السجود يكون للزيادة تارة وللنقص أخرى كسجود النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك التشهد الأول ولو فعل ذلك أحد عمدا بطلت صلاته عند مالك وأحمد وأما أبو حنيفة فيوجب في الصلاة ما لا تبطل بتركه لا عمدا ولا سهوا ويقول هو مسيء بتركه كالطمأنينة وقراءة الفاتحة
5
201
وهذا مما نازعه فيه الأكثرون وقالوا من ترك الواجب عمدا فعليه الإعادة الممكنة لأنه لم يفعل ما أمر به وهو قادر على فعله فلا يسقط عنه وقد أخرجا في الصحيحين حديث المسيء في صلاته لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم ارجع فصل فإنك لم تصل وأمره بالصلاة التي فيها طمأنينة فدل هذا الحديث الصحيح على أن من ترك الواجب لم يكن ما فعله صلاة بل يؤمر بالصلاة والشارع صلى الله عليه وسلم لا ينفي الإسم إلا لانتفاء بعض واجباته فقوله فإنك لم تصل لأنه ترك بعض واجباتها ولم تكن صلاته تامة مقامة الإقامة المأمور بها في قوله تعالى فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة سورة النساء فقد أمر بإتمامها ولهذا لما أمر بإتمام الحج والعمره بقوله وأتموا الحج والعمرة لله
5
202(186/135)
سورة البقرة ألزم الشارع فيهما فعل جميع الواجبات فإذا ترك بعضها فلا بد من الجبران فعلم أنه إن لم يأت بالمأمور به تاما التمام الواجب وإلا فعليه ما يمكن من إعادة أو جبران وكذلك أمر الذي رآه يصلي خلف الصف وحده أن يعيد وقال لا صلاة لفذ خلف الصف وقد صححه أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن حزم وغيرهم من علماء الحديث فإن قيل ففي حديث المسيء الذي رواه أهل السنن من حديث
5
203
رفاعة بن رافع أنه جعل ما تركه من ذلك يؤاخذ بتركه فقط ويحسب له ما فعل ولا يكون كمن لم يصل قيل وكذلك نقول من فعلها وترك بعض واجباتها لم يكن بمنزلة من لم يأت بسيء منها بل يثاب على ما فعل ويعاقب على ما ترك وإنما يؤمر بالإعادة لدفع عقوبة ما ترك وترك الواجب سبب للعقاب فإذا كان يعاقب على ترك البعض لزمه أن يفعلها فإن كان له جبران أو أمكن فعله وحده وإلا فعله مع غيره فإنه لا يمكن فعله مفردا فإن قيل فإذا لم يكن فعله مفردا طاعة لم يثب عليه أولا قيل هو أولى فعله ولم يكن يعلم أنه لا يجوز أو كان ساهيا كالذي يصلي بلا وضوء أو يسهو عن القراءة والسجود المفروض فيثاب على ما فعل ولا يعاقب بنسيانه وخطئه لكن يؤمر بالإعادة لأنه لم يفعل ما أمر به أولا كالنائم إذا استيقظ في الوقت فإنه يؤمر بالصلاة لأنها واجبة عليه في وقتها إذا أمكن وإلا صلاها أي وقت استيقظ فإنه حينئذ يؤمر بها وأما إذا أمر بالإعادة فقد علم أنه لا يجوز فعل ذلك مفردا فلا يؤمر به مفردا
5
204(186/136)
فإن قيل فلو تعمد أن يفعلها مع ترك الواجبات التي يعلم وجوبها قيل هذا مستحق للعقاب فإنه عاص بهذا الفعل وهذا قد يكون إثمه كإثم التارك وإن قدر أن هذا قد يثاب فإنه لا يثاب عليه ثواب من فعله مع غيره كما أمر به بل أكثر ما يقال إن له عليه ثوابا بحسبه لكن الذي يعرف أنه إذا لم يكن يعرف أن هذا واجب أو منهي عنه فإنه يثاب على ما فعله قال الله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره سورة الزلزلة والقرآن وذكر الله ودعاؤه خير وإلا فالمسلم لا يصلى إلى غير قبلة أو بغير وضوء أو ركوع أو سجود ومن فعل ذلك كان مستحقا للذم والعقاب ومع هذا فقد يمكن إذا فعل ذلك مع اعترافه بأنه مذنب لا على طريق الإستهانة والإستهزاء والإستخفاف بل على طريق الكسل أن يثاب على ما فعله كمن ترك واجبات الحج المجبورة بدم لكن لا يكون ثوابه كما إذا فعل ذلك مع غيره على الوجه المأمور به وبهذا يتبين الجواب عن شبهة أهل البدع من الخوارج والمرجئة وغيرهم ممن يقول إن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل ولا ينقص قالوا لأنه إذا ذهب منه جزء ذهب كله لأن الشيء المركب من أجزاء
5
205
متى ذهب منه جزء ذهب كله كالصلاة إذا ترك منها واجبا بطلت ومن هذا الأصل تشعبت بهم الطرق وأما الصحابة وأهل السنة والحديث فقالوا إنه يزيد وينقص كما قال النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان
5
206(186/137)
وعلى هذا فنقول إذا نقص شيء من واجباته فقد ذهب ذلك الكمال والتمام ويجوز نفي الإسم إذا أريد به نفي ذلك الكمال وعليه أن يأتي بذلك الجزء إن كان ترك واجبا فعله أو كان ذنبا استغفر منه وبذلك يصير من المؤمنين المستحقين لثواب الله المحض الخالص عن العقاب وأما إذا ترك واجبا منه أو فعل محرما فإنه يستحق العقاب على ذلك ويستحق الثواب على ما فعل والمنفي إنما هو المجموع لا كل جزء من أجزائه كما إذا ذهب واحد من العشرة لم تبق العشرة عشرة لكن بقي أكثر أجزائها وكذلك جاءت السنة في سائر الأعمال كالصلاة وغيرها أنه يثاب على ما فعله منها ويعاقب على الباقي حتى إنه إن كان له تطوع جبر ما ترك بالتطوع ولو كان ما فعل باطلا وجوده كعدمه لا يثاب عليه لم يجبر بالنوافل شيء وعلى ذلك دل حديث المسيء الذي في السنن أنه إذا نقص منها شيئا أثيب على ما فعله فإن قلت فالفقهاء يطلقون أنه قد بطلت صلاته وصومه وحجه إذا ترك منه ركنا قيل لأن الباطل في عرفهم ضد الصحيح والصحيح في عرفهم ما
5
207
حصل به مقصوده وترتب عليه حكمه وهو براءة الذمة ولهذا يقولون الصحيح ما أسقط القضاء فصار قولهم بطلت بمعنى وجب القضاء لا بمعنى أنه لا يثاب عليها بشيء في الآخرة وهكذا جاء النفي في كلام الله ورسوله كقوله صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن وقوله لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له وقوله تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم سورة الانفال وقوله إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون سورة الحجرات فإن نفي الإيمان عمن ترك واجبا منه أو فعل محرما
5
208(186/138)
فيه كنفي غيره كقوله لا صلاة إلا بأم القرآن وقوله للمسيء ارجع فصل فإنك لم تصل وقوله للمنفرد خلف الصف لما أمره بالإعادة لا صلاة لفذ خلف الصف وقوله من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له ومن قال من الفقهاء إن هذا لنفي الكمال قيل له إن أردت الكمال المستحب فهذا باطل لوجهين أحدهما أن هذا لا يوجد قط في لفظ الشارع أنه ينفي عملا فعله العبد على الوجه الذي وجب عليه ثم ينفيه لترك بعض المستحبات بل الشارع لا ينفي عملا إلا إذا لم يفعله العبد كما وجب عليه
5
209
الثاني أنه لو نفى بترك مستحب لكان عامة الناس لا صلاة لهم ولا صيام فإن الكمال المستحب متفاوت ولا أحد يصلي كصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكل من لم يكملها كتكميل الرسول يقال لا صلاة له فإن قيل فهؤلاء الذين يتركون فرضا من الصلاة أو غيرها يؤمرون بإعادة الصلاة والإيمان إذا ترك بعض فرائضه لا يؤمر باعادته قيل ليس الأمر بالإعادة مطلقا بل يؤمر بالممكن فإن أمكن الإعادة أعاد وإن لم يمكن أمر أن يفعل حسنات غير ذلك كما لو ترك الجمعة فإنه وإن أمر بالظهر فلا تسد مسد الجمعة بل الإثم الحاصل يترك الجمعة لايزول جميعه بالظهر وكذلك من ترك واجبات الحج عمدا فإنه يؤمر بها ما دام يمكن فعلها في الوقت فإذا فات الوقت أمر بالدم الجابر ولم يكن ذلك مسقطا عنه إثم التفويت مطلقا بل هذا الذي يمكنه من البدل وعليه أن يتوب توبة تغسل إثم التفويت كمن فعل محرما فعليه أن يتوب منه توبة تغسل إثمه ومن ذلك أن يأتي بحسنات تمحوه وكذلم من فوت واجبا لا يمكنه استدراكه وأما إذا أمكنه استدراكه فعله بنفسه وهكذا نقول فيمن ترك بعض واجبات الإيمان بل كل مأمور تركه فقد ترك جزءا من إيمانه فيستدركه بحسب الإمكان فإن فات وقته تاب وفعل حسنات أخر غيره
5
210(186/139)
ولهذا كان الذي اتفق عليه العلماء أنه يمكن إعادة الصلاة في الوقت الخاص والمشترك كما يصلي الظهر بعد دخول العصر ويؤخر العصر إلى الإصفرار فهذا تصح صلاته وعليه إثم التأخير وهو من المذمومين في قوله تعالى فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون سورة الماعون وقوله فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة وأتبعوا الشهوات سورة مريم فإن تأخيرها عن الوقت الذي يجب فعلها فيه هو إضاعة لها وسهو عنها بلا نزاع أعلمه بين العلماء وقد جاءت الآثار بذلك عن الصحابة والتابعين وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة وهم إنما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر والعصر
5
211
إلى وقت الإصفرار وذلك مما هم مذمومون عليه ولكن ليسوا كمن تركها أو فوتها حتى غابت الشمس فإن هؤلاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم ونهى عن قتال أولئك فإنه لما ذكر أنه سيكون أمراء ويفعلون قالوا أفلا نقاتلهم قال لا ما صلوا وقد أخبر عن هذه الصلاة التي يؤخرونها وأمر أن تصلى في الوقت وتعاد معهم نافلة فدل على صحة صلاتهم ولو كانوا لم يصلوا لأمر بقتالهم وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر مع قوله أيضا في الحديث الصحيح تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا
5
212
وثبت عنه في الصحيحين أنه قال من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله وثبت عنه في الصحيحين أنه قال من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله وقال أيضا إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حافظ عليها كان له الأجر مرتين وقد اتفق العلماء على ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من قوله من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها فاتفقوا
5
213(186/140)
على أن النائم يصلي إذا استيقظ والناسي إذا ذكر وعليه قضاء الفائتة على الفور عند جمهورهم كمالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم وأما الشافعي فيجعل قضاء النائم والناسي على التراخي ومن نسي بعض واجباتها فهو كمن نسيها فلو صلى ثم ذكر بعد خروج الوقت أنه كان على غير وضوء أعاد كما أعاد عمر وعثمان وغيرهما لما صلوا بالناس ثم ذكروا بعد الصلاة أنهم كانوا جنبا فأعادوا ولم يأمروا المؤمومين بالإعادة وفي حديث عمر أنه لم يذكر إلا بعد طلوع الشمس وكذلك إذا أخرها تأخيرا يرى أنه جائز كما أخرها النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب وصلاها بعد مغيب الشمس فإن ذلك التأخير إما أن يكون لنسيان منه أو لأنه كان جائزا إذا كانوا مشغولين بقتال العدو أن يخروا الصلاة
5
214
والعلماء لهم في ذلك ثلاثة أقوال قيل يصلي حال القتال ولا يؤخر الصلاة وتأخير الخندق منسوخ وهذا مذهب مالك والشافعي والإمام أحمد في المشهور عنه وقيل يخير بين تقديمها وتأخيرها لأن الصحابة لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة كانت طائفة منهم أخرت الصلاة فصلوا بعد غروب الشمس وكانت منهم طائفة قالوا لم يرد منا إلا المبادرة إلى العدو لا تفويت الصلاة فصلوا في الطريق فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم أحدا من الطائفتين والحديث في الصحيحين من حديث ابن عمر وهذا قول طائفة من الشاميين وغيرهم وهو إحدى الروايتين عن أحمد وقيل بل يؤخرونها كما فعل يوم الخندق وهو مذهب أبي حنيفة ففي الجملة كل من أخرها تأخيرا يعذر به إما لنسيان أو لخطأ في الاجتهاد فإنه يصليها بعد الوقت كمن ظن أن الشمس لم تطلع فآخرها حتى طلعت أو ظن أن وقت العصر باق فأخرها حتى غربت فإن هذا يصلى وعلى قول الأكثرين ما بقى تأخيرها جائزا حتى تغرب الشمس ومن قال إنه يجوز التأخير فإنه يصليها ولو أخرها باجتهاده فإنه يصليها وإن قيل إنه أخطأ في اجتهاده وليس هذا من أهل الوعيد(186/141)
5
215
المذكور في قوله من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله فإن هذا مجتهد متأول مخطىء وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وهو حديث حسن وقد دل عليه القرآن والحديث الصحيح وأما من فوتها عمدا عالما بوجوبها أو فوت بعض واجباتها الذي يعلم وجوبه منها فهذا مما تنازع فيه العلماء فقيل في الجميع يصح أن يصليها بعد التفويت ويجب ذلك عليه ويثاب على ما فعل ويعاقب على التفويت كمن أخر الظهر إلى وقت العصر والمغرب والعشاء إلى آخر الليل من غير عذر وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد يقولون هو في كل صلاة وجب إعادتها في الوقت فيجب إعادتها بعد الوقت وأما مالك وغيره من أهل المدينة فيفرقون بين ما يعاد في الوقت وما يعاد بعد خروج الوقت فما لم يكن فرضا بل واجبا وهو الذي يسمونه سنة أمروا بإعادة الصلاة إذا تركه في الوقت كمن صلى بالنجاسة وأما ما كان فرضا كالركوع والسجود والطهارة فإنه بمنزلة من لم يصل فيعيد بعد الوقت
5
216(186/142)
وقد أنكر عليهم كثير من الناس التفريق بين الإعادة في الوقت وبعده وصنف المزني مصنفا رد فيه على مالك ثلاثين مسألة منها هذه وقد رد على المزني الشيخ أبو بكر الأبهري وصاحبه القاضي عبد الوهاب وعمدتهم أن الصلاة إن فعلت كما أمر بها العبد فلا إعادة عليه في الوقت ولا بعده وإن لم تفعل كما أمر بها العبد فهي في ذمته فيعيدها في الوقت وبعده وأهل المدينة يقولون فعلها في الوقت واجب ليس لأحد قط أن يؤخرها عن الوقت فإن كان الوقت أوكد مما ترك لم يعد بعد الوقت لأنه ما بقي بعد الوقت يمكنه تلافيها فإن الصلاة مع النجاسة أو عريانا خير من الصلاة بلا نجاسة بعد الوقت فلو أمرناه أن يعيدها بعد الوقت لكنا نأمره بأنقص مما صلى وهذا لا يأمر به الشارع وهذا بخلاف من ترك ركنا منها فذاك بمنزلة من لم يصل فيعيد بعد الوقت وهذا الفرق مبني على أن الصلاة من واجباتها ما هو ركن لا تتم إلا به ومنها ما هو واجب تتم بدونه إما مع السهو وإما مطلقا وهذا قول الجمهور وأبو حنيفة يوجب فيها ما لا يجب بتركه الإعادة بحال فإذا
5
217(186/143)
أوجب أهل المدينة فيها ما يجب بتركه الإعادة في الوقت كان أقرب إلى الشرع وأحمد مع مالك يوجبان فيها ما يسقط بالسهو ويجبر بالسجود ثم ذلك الواجب إذا تركه عمدا أمره أحمد في ظاهر مذهبه بالإعادة كما لو ترك فرضا وأما مالك ففي مذهبه قولان فيمن ترك ما يجب السجود لتركه سهوا كترك التشهد الأول وترك تكبيرتين فصاعدا أو قراءة السورة والجهر والمخافتة في موضعهما وقد اتفق الجميع على أن واجبات الحج منها ما يجبر الحج مع تركه ومنها ما يفوت الحج مع تركه فلا يجبر كالوقوف بعرفة فكذلك الصلاة وقالت طائفة ثالثة ما أمر الله به في الوقت إذا ترك لغير عذر حتى فات وقته لم يمكن فعله بعد الوقت كالجمعة والوقوف بعرفة ورمي الجمار فإن الفعل بعد الوقت عبادة لا تشرع إلا إذا شرعها الشارع فلا تكون مشروعة إلا بشرعه ولا واجبة إلا بأمره وقد اتفق المسلمون على أن من فاته الوقوف بعرفة لعذر أو لغيره لا يقف بعرفة بعد طلوع الفجر وكذلك رمي الجمار لا ترمى بعد أيام منى سواء فاتته لعذر أو لغير عذر كذلك الجمعة لا يقضيها الإنسان سواء فاتته بعذر أو بغير
5
218(186/144)
عذر وكذلك لو فوتها أهل المصر كلهم لم يصلوها يوم السبت وأما الصلوات الخمس فقد ثبت أن المعذور يصليها إذا أمكنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك وكذلك صوم رمضان أمر الله المسافر والمريض والحائض أن يصوموا نظيره في أيام أخر والوقت المشترك بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء وقت لجواز فعلمها جميعا عند العذر وإن فعلتا لغير عذر ففاعلهما آثم لكن هذه قد فعلت في وقت هو وقتها في الجملة وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة ونهى عن قتالهم مع ذمهم وظلمهم وأولئك كانوا يؤخرون الظهر إلى العصر فجاءت طائفة من الشيعة فصاروا يجمعون بين الصلاتين في وقت الأولى دائما من غير عذر فدخل في الوقت المشترك من جواز الجمع للعذر من تأويل الولاة وتصحيح الصلاة مع إثم التفويت ما لم يدخل في التفويت المطلق كمن يفطر شهر رمضان عمدا ويقول أنا أصوم في شوال أو يؤخر الظهر والعصر
5
219(186/145)
عمدا ويقول أصليهما بعد المغرب ويؤخر المغرب والعشاء ويقول أصليهما بعد الفجر أو يؤخر الفجر ويقول أصليها بعد طلوع الشمس فهذا تفويت محض بلا عذر وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله وقال من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله فلو كان يمكنه الإستدراك لم يحبط عمله وقوله وتر أهله وماله أي صار وترا لا أهل له ولا مال ولو كان فعلها ممكنا بالليل لم يكن موتورا وقال من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك فلو كان فعلها بعد المغرب صحيحا مطلقا لكان مدركا سواء أدرك ركعة أو لم يدرك فإنه لم يرد أن من أدرك ركعة صحت صلاته بلا إثم بل يأثم بتعمد ذلك كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة فإنه أمر بأن تصلى الصلاة لوقتها الذي حده وأن لا يؤخر العصر إلى ما بعد الإصفرار ففعلها قبل الاصفرار واجب بأمره وقوله صلوا الصلاة لوقتها فعلم أن هذا الإدراك لا يرفع الإثم عن غير المعذور بل يكون
5
220
قد صلاها مع الإثم فلو كانت أيضا تصلى بعد المغرب مع الإثم لم يكن فرق بين من يصليها عند الاصفرار أو يصليها بعد الغروب إلا أن يقال ذاك أعظم إثما ومعلوم أنه كلما أخرها كان أعظم إثما فحيث جاز القضاء مع وجوب التقديم كلما أخر القضاء كان أعظم لإئمه ومن نام عن صلاة أو نسيها فعليه أن يصليها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها وإذا أخرها من غير عذر أثم كما يأثم من أخر الواجب على الفور ويصح فعلها بعد ذلك فلو كانت العصر بعد المغرب بهذه المنزلة لم يكن لتحديد وقتها بغروب الشمس وقوله من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فائدة بل كانت تكون كالواجب على الفور إذا أخره أو كانت تكون كالمغرب إذا أخرها إلى وقت العشاء ومعلوم أن هذا قد يجوز بل يسن كما في ليلة المزدلفة كما يسن تقديم العصر إلى وقت الظهر يوم عرفة بالسنة المتواترة واتفاق المسلمين
5
221(186/146)
وأما فعل العصر بعد المغرب فلم يؤذن فيه قط لغير المعذور كما لم يؤذن في صلاة المغرب قبل غروب الشمس قال هؤلاء والصلاة في الوقت واجبة على أي حال بترك جميع الواجبات لأجل الوقت فإذا أمكنه أن يصلي في الوقت بالتيمم أو بلا قراءة أو بلا إتمام ركوع وسجود أو إلى غير القبلة أو يصلي عريانا أو كيفما أمكن وجب ذلك عليه ولم يكن له أن يصلي بعد الوقت مع تمام الأفعال وهذا مما ثبت بالكتاب والسنة وعامته مجمع عليه فعلم أن الوقت مقدم على جميع الواجبات وحينئذ فمن صلى في الوقت بلا قراءة أو عريانا متعمدا ونحو ذلك إذا أمر أن يصلي بعد الوقت بقراءة وسترة كان ما أمر به دون ما فعله ولهذا إذا لم يمكن إلا أحدهما وجب أن يصلي في الوقت بلا قراءة ولا سترة ولا يؤخرها ويصلي بعد الوقت بقراءة وسترة فعلم أن ذلك التفويت ما بقي استدراكه ممكنا وأما المعذور فلله تعالى جعل الوقت في حقه متى أمكنه فمن نسي الصلاة أو بعض واجباتها صلاها متى ذكرها وكان ذلك هو الوقت في حقه وإذا قيل صلاته في الوقت كانت أكمل قيل نعم لكن تلك لم تجب عليه لعجزه بالنوم والنسيان وإنما وجب عليه أن يصلى إذا استيقط وذكر كما نقول في الحائض إذا طهرت
5
222(186/147)
في وقت العصر فهي حينئذ مأمورة بالظهر والعصر وتكون مصلية للظهر في وقتها أداء وكذلك إذا طهرت آخر الليل صلت المغرب والعشاء وكانت المغرب في حقها أداء كما أمرها بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهم ولم ينقل عن صحابي خلافه وهذا يدل على أن هذا من السنة التي كان الصحابة يعرفونها فإن مثل هذا يقع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه وقد دل على ذلك الكتاب والسنة حيث جعل الله المواقيت ثلاثة في حق المعذور وهذه معذورة وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وهو يدل على أن الوقت مشترك في حق المعذور فلا يحتاج أن ينوي الجمع كما هو قول الأكثرين أبي حنيفة ومالك والإمام أحمد وقدماء أصحابه لكن الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد كالخرقي ومن وافقه قالوا تجب النية في القصر والجمع وجمهور العلماء على أنه لا تجب النية لا لهذا ولا لهذا وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وقدماء أصحابه وهو الصواب كما بسط في غير هذا الموضع وقضية الحائض مما يبين أن فعل الصلاة في غير وقتها الذي أمر بها
5
223(186/148)
فيه غير ممكن فإن ذلك لو كان ممكنا لكانت الحائض تؤمر بقضاء الصلاة أمر إيجاب أو أمر استحباب فإذا قيل يسقط القضاء عنها تخفيفا قيل فلو أرادت أن تصلي قضاء لتحصل ثواب الصلاة التي فاتتها لم يكن هذا مشروعا باتفاق العلماء وكان لها أن تصلى من النوافل ما شاءت فإن تلك الصلاة لم تكن مأمورة بها في وقتها والصلاة المكتوبة لا يمكن فعلها إلا في الوقت الذي أمر به العبد فلم يجز فعلها بعد ذلك وكل من كان معذورا من نائم وناس ومخطىء فهؤلاء مأمورون بها في الوقت الثاني فلم يصلوا إلا في وقت الأمر كما أمرت الحائض والمسافر والمريض بقضاء رمضان وقيل في المتعمد لفطره لا يجزيه صيام الدهر ولو صامه قالوا والناسي إنما أمر بالصلاة إذا ذكرها لم يؤمر بها قبل ذلك وذلك هو الوقت في حقه فلم يصل إلا في وقتها وكذلك النائم إذا استيقظ إنما صلى في الوقت قالوا ولم يجوز الله لأحد أن يصلي الصلاة لغير وقتها ولا يقبلها منه في غير وقتها ألبتة وكذلك شهر رمضان وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أفطر يوما من رمضان لم يقضه صيام الدهر وإن صامه قالوا وإنما يقبل الله صيامه في غير الشهر من المعذور
5
224
كالمريض والمسافر والحائض ومن اشتبه عليه الشهر فتحرى فصام بعد ذلك فإنه يجزيه الصيام أما المعتمد للفطر فلا قالوا ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي جامع أهله في رمضان بصوم بل أمره بالكفارة فقط وقد جاء ذكر أمره بالقضاء في حديث ضعيف ضعفه العلماء أحمد بن حنبل وغيره وكذلك جاء في الذي يستقيء عمدا أنه يعيد وهذا لم يثبت رفعه وإنما ثبت أنه موقوف على أبي هريرة وبتقدير صحته فيكون المراد به المعذور الذي اعتقد أنه يجوز له الإستقاء أو المريض الذي احتاج إلى أن يستقيء فاستقاء فإن الإستقاءة لا تكون في العادة إلا لعذر وإلا فلا يقصد العاقل أن يستقيء بلا حاجة فيكون المستقيء متداويا بالاستقاءة كما يتداوى
5
225(186/149)
بالأكل وهذا يقبل منه القضاء ويؤمر به وهذا الحديث ثابت عن أبي هريرة وإنما اختلف في رفعه وبكل حال هذا معناه فإن أبا هريرة هو الذي روى حديث الأعرابي وحديث من أفطر يوما من رمضان لم يقضه صيام الدهر فتحمل أحاديثه على الإتفاق لا على الإختلاف وهذا قول طائفة من السلف والخلف وهو قول أبي عبد الرحمن صاحب الشافعي وهو قول داود بن علي وابن حزم وغيرهم قالوا والمنازعون لنا ليس لهم قط حجة يرد اليها عند التنازع وأكثرهم يقولون لا يجب القضاء إلا بأمر ثان وليس معهم هنا أمر ونحن لا ننازع في وجوب القضاء فقط بل ننازع في قبول القضاء منه وصحة الصلاة في غير وقتها فنقول الصلوات الخمس في غير وقتها المختص والمشترك المضيق والموسع كالجمعة في غير وقتها وكالحج في غير وقته وكرمي الجمار في غير وقتها والوقت صفة للفعل وهو من آكد واجباته فكيف تقبل العبادة بدون صفاتها الواجبة فيها
5
226(186/150)
وهو لو صلى إلى غير القبلة بغير عذر لم تكن صلاته إلا باطلة وكذلك إذا صلى قبل الوقت المشترك لغير عذر مثل أن يصلي الظهر قبل الزوال والمغرب قبل المغيب ولو فعل ذلك متأولا مثل الأسير إذا ظن دخول شهر رمضان فصام ومثل المسافر في يوم الغيم وغيرهما إذا اجتهدوا فصلوا الظهر قبل الزوال أو المغرب قبل الغروب فهؤلاء في وجوب الإعادة عليهم قولان معروفان للعل والنزاع في ذلك في مذهب مالك والشافعي والمعروف من مذهب أحمد أنه لا يجزئهم ولو فعلوا ذلك في الوقت المشترك كصلاة العصر في وقت الظهر والعشاء قبل مغيب الشفق فقياس الصحيح من مذهب أحمد أن ذلك يجزىء فإنه جمع لعذر وهو لا يشترط النية وقد نص على أن المسافر إذا صلى العشاء قبل مغيب الشفق أجزأه لجواز الجمع له وإن كان لم يصلها مع المغرب ولهذا يستحب له مع أمثاله تأخير الظهر وتقديم العصر وتأخير المغرب وتقديم العشاء كما نقل عن السلف فدل على أن الثانية إذا فعلت هنا قبل الوقت الخاص أجزأته قالوا فالنزاع في صحة مثل هذه الصلاة كالنزاع في رمي الجمار لا يفعل بعد الوقت قال لهم الأولون ما قستم عليه من الجمعة الحج ورمى الجمار لا يفعل بعد الوقت المحدود في الشرع بحال لا لمعذور ولا لغير معذور فعلم أن هذه الأفعال مختصة بزمان كما هي مختصة بمكان
5
227(186/151)
وأما الصلوات الخمس فيجوز فعلها للمعذور بعد إنقضاء الأوقات فعلم أنه يصح فعلها في غير الوقت وأن الوقت ليس شرطا فيها كما هو شرط في تلك العبادات قال الآخرون الجواب من وجهين أحدهما أن يقال هب أنه يجوز فعل الصلاة بعد وقتها للمعذور توسعة من الله ورحمة وأما النائم والناسي فلا ذنب لهما فوسع الله لهما عند الذكر والانتباه إذا كان لا يمكنهما الصلاة إلا حينئذ فأي شيء في هذا مما يدل على جواز ذلك لمرتكب الكبيرة الذي لا عذر له في تفويتها والحج إذا فاته في عام أمكنه أن يحج في عام قابل ورمي الجمار إذا فاته جعل له بدل عنها وهو النسك والجمعة إذا فايت صلى الظهر فكان المعذور إذا فاتته هذه العبادات المؤقتة شرع له أن يأتي ببدلها ولا إثم عليه رحمة من الله في حقه وأما غير المعذور فجعل له البدل أيضا في الحج لأن الحج يقبل النيابة فإذا مات الإنسان جاز أن يحج عنه وإن كان مفرطا فإذا جاز أن يحج عنه غيره فلأن يجوز أن يأتي هو بالبدل بطريق الأخرى والأولى فإن الدم الذي يخرجه هو أولى من فعل غيره عنه وأما الجمعة إذا فاتته فإنما يصلي الظهر لأنها الفرض المعتاد في كل يوم لا لأنها بدل عن الجمعة بل الواجب على كل أحد إما
5
228(186/152)
الجمعة وإما الظهر فإذا أمكنه الجمعة وجبت عليه وإن لم يمكن صلى الظهر فإذا فاتت الجمعة أمكنه أن يصلي الظهر فوجب عليه صلاة الظهر ولهذا لا يجوز فعلها عند أكثر العلماء إلا إذا فاتت الجمعة وأما الصلاة المكتوبة فلا تدخلها النيابة بحال وكذلك صوم رمضان إن كان قادرا عليه وإلا سقط عنه الصوم وأطعم هو عن كل يوم مسكينا عند الأكثرين وعند مالك لا شيء عليه وأما ما وردت به السنة من صيام الإنسان عن وليه فذاك في النذر كما فسرته الصحابة الذين رووه بهذا كما يدل عليه لفظه فإنه قال من مات وعليه صيام صام عنه وليه والنذر في ذمته وهو عليه وأما صوم رمضان فليس في ذمته ولا هو عليه بل هو ساقط عن العاجز عنه فلما كانت الصلوات الخمس وصيام رمضان لا يفعله أحد عن أحد أصلا لم يكن لهما بدل بخلاف الحج وغيره فلهذا وسع الشارع في قضائهما للمعذور لحاجته به إلى ذلك توسعة منه ورحمة وغيرهما لم يوسع في قضائه لأحد لأنه لا حاجة إلى قضائه لما شرع من البدل
5
229(186/153)
إما عبادة أخرى كالظهر عن الجمعة والدم عن واجبات الحج وإما فعل الغير كالحج عن المغضوب والميت فهذا يبين الفرق بين الصلاة والصوم وغيرهما وبين المعذور وغيره ويبين أن من وسع فيهما لغير المعذور كما يوسع للمعذور فقد أخطأ القياس الجواب الثاني أنا لم نفس قياسا استفدنا به حكم الفرع من الأصل فإن ما ذكرناه ثابت بالأدلة الشرعية التي لا تحتاج إلى القياس معها كما تقدم لكن ذكرنا القياس ليتصور الإنسان ما جاء به الشرع في هذا كما يضرب الله الأمثال للتفهيم والتصوير لا لأن ذلك هو الدليل الشرعي والمراد بهذا القياس أن يعرف أن فعل الصلاة بعد الوقت حيث حرم الله ورسوله تأخيرها بمنزلة فعل هذه العبادات والمقصود تمثيل الحكم بالحكم لا تمثيل الفعل بالفعل فيعرف أن المقصود أن الصلاة ما بقيت تقبل ولا تصح كما لا تقبل هذه ولا تصح فإن من الجهال من يتوهم أن المراد بذلك تهوين أمر الصلاة وأن من فوتها سقط عنه القضاء فيدعو ذلك السفهاء إلى تفويتها وهذا لا يقوله مسلم بل من قال إن من فوتها فلا إثم عليه فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل ولكن تفويت الصلاة عمدا مثل تفويت شهر رمضان عمدا بإجماع المسلمين فأجمع المسلمون كلهم من
5
230(186/154)
جميع الطوائف على أن من قال لا أصلي صلاة النهار إلا بالليل فهو كمن قال لا أصوم رمضان إلا في شوال فإن كان يستجيز تأخيرها ويرى ذلك جائزا له فهو كمن يرى تأخير رمضان جائزا وهذا وهذا يجب استتابتهما باتفاق العلماء فإن تابا واعتقدا وجوب فعل الصلاة والصوم في وقتهما وإلا قتلا وكثير من العامة والجهال يعتقدون جواز تأخيرها إلى الليل بأدنى شغل ويرى أن صلاتها بالليل خير من أن يصليها بالنهار مع الشغل وهذا باطل بإجماع المسلمين بل هذا كفر وكثير منهم لا يرى جوازها في الوقت إلا مع كمال الأفعال وأنه إذا صلاها بعد الوقت مع كمال الأفعال كان أحسن وهذا باطل بل كفر باتفاق العلماء ومن أسباب هذه الإعتقادات الفاسدة تجويز القضاء لغير المعذور وقول القائل إنها تصح وتقبل وإن أثم بالتأخير فجعلوا فعلها بعد الغروب كفعل العصر بعد الإصفرار وذلك جمع بين ما فرق الله ورسوله بينه فلو علمت العامة أن تفويت الصلاة كتفويت شهر رمضان باتفاق المسلمين لاجتهدوا في فعلها في الوقت ومن جملة أسباب ذلك أن رمضان يشترك في صومه جميع الناس والوقت مطابق للعبادة لا يفصل عنها وليس له شروط كالصلاة والصلاة وقتها موسع فيصلي بعض الناس في أول الوقت وبعضهم في
5
231(186/155)
آخره وكلاهما جائز وفيها واجبات يظن الجهال أنه لا يجوز فعلها إلا مع تلك الواجبات مطلقا فيقولون نفعلها بعد الوقت فهو خير من فعلها في الوقت بدون تلك الواجبات فهذا الجهل أوجب تفويت الصلاة التفويت المحرم بالإجماع ولا يجوز أن يقال لمن فوتها لا شيء عليك أو تسقط عنك الصلاة وإن قال هذا فهو كافر ولكن يبين له أنك بمنزلة من زنى وقتل النفس وبمنزلة من أفطر رمضان عمدا إذ أذنبت ذنبا ما بقي له جبران يقوم مقامه فإنه من الكبائر بل قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر فإذا كان هذا في الجمع من غير عذر فكيف بالتفويت من غير عذر وحينئذ فعليك بالتوبة والإجتهاد في أعمال صحالحة أكثر من قضائها فصل صلوات كثيرة لعله أن يكفر بها عنك ما فوته وأنت مع ذلك على خطر وتصدق فإن بعض الصحابة ألهاه بستانه عن صلاة المغرب فتصدق ببستانه وسليمان بن داود لما فاتته صلاة العصر بسبب الخيل طفق مسحا بالسوق والأعناق فعقرها كفارة لما صنع فمن فوت صلاة واحدة عمدا فقد أتى كبيرة عظيمة فليستدرك بما أمكن من توبة وأعمال صالحة ولو قضاها لم يكن مجرد القضاء رافعا إثم ما فعل بإجماع المسلمين والذين يقولون لا يقبل منه القضاء يقولون نأمره بأضعاف القضاء لعل الله أن يعفو عنه وإذا قالوا لا يجب القضاء إلا بأمر جديد فلأن القضاء تخفيف ورحمة كما في حق المريض والمسافر في رمضان والرحمة والتخفيف تكون للمعذور والعاجز لا تكون
5
232(186/156)
لأصحاب الكبائر المتعمدين لها المفرطين في عمود الإسلام والصلاة عمود الإسلام ألا ترى إلى ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه لما سئل عمن وجب عليه الحج فعجز عنه أو نذر صياما أو حجا فمات هل يفعل عنه فقال أرأيت لو كان على أبيك أو أمك دين فقضيته أما كان يجزي عنه قال بلى قال فالله أحق بالقضاء ومراده بذلك أن الله أحق بقبول القضاء عن المعذور من بني آدم فإن الله أرحم وأكرم فإذا كان الآدميون يقبلون القضاء عمن مات فالله أحق بقبوله أيضا لم يرد بذلك أن الله يحب أن تقضى حقوقه التي كانت على الميت وهي أوجب ما يقضى من الدين فإن دين الميت لا يجب على الورثة قضاؤه لكن يقضى من تركته ولا يجب على أحد فعل ما وجب على الميت من نذر والسائل إنما سأل عن الإجزاء والقبول لم يسأل عن الوجوب فلا بد أن يجاب عن سؤاله فعلم أن الأمر بقضاء العبادات وقبول القضاء من باب الإحسان والرحمة وذلك مناسب للمعذور وأما صاحب الكبيرة المفوت عمدا فلا يستحق تخفيفا ولا رحمة لكن إذا تاب فله
5
233(186/157)
أسوة بسائر التائبين من الكبائر فيجتهد في طاعة الله وعباداته بما أمكن والذين أمروه بالقضاء من العلماء لا يقولون إنه بمجرد القضاء يسقط عنه الإثم بل يقولون بالقضاء يخف عنه الإثم وأما إثم التفويت وتأخير الصلاة عن وقتها فهو كسائر الذنوب التي تحتاج إما إلى توبة وإما إلى حسنات ماحية وإما غير ذلك مما يسقط به العقاب وهذه المسائل لبسطها موضع آخر والمقصود هنا أن ما كان من الشيطان مما لا يدخل تحت الطاقة فهو معفو عنه كالنوم والنسيان والخطأ في الإجتهاد ونحو ذلك وأن كل من مدح من الأمة أولهم وآخرهم على شيء أثابه الله عليه ورفع به قدره فهو مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فالثواب على ما جاء به الرسول والنصرة لمن نصره والسعادة لمن اتبعه وصلوات الله وملائكته على المؤمنين به والمعلمين للناس دينه والحق يدور معه حيثما دار وأعلم الخلق بالحق وأتبعهم له أعملهم بسنته وأتبعهم لها وكل قول خالف قوله فهو إما دين منسوخ وإما دين مبدل لم يشرع قط وقد قال علي رضي الله عنه في مفاوضة جرت بينه وبين عثمان رضي الله عنه خيرنا أتبعنا لهذا الدين وعثمان يوافقه على ذلك وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
5
234(186/158)
فصل ولما قال السلف إن الله أمر بالاستغفار لأصحاب محمد فسبهم الرافضة كان هذا كلاما حقا وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لا تسبوا أصحابي يقتضي تحريم سبهم مع أن الأمر بالاستغفار للمؤمنين والنهي عن سبهم عام ففي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سباب المسلم فسوق وقتاله كفر وقد قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الأسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون سورة الحجرات فقد نهى عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب واللمز العيب والطعن ومنه قوله تعالى ومنهم من يلمزك في الصدقات سورة التوبة أي يعيبك ويطعن عليك وقوله الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات سورة التوبة وقوله لا تلمزوا أنفسكم سورة الحجرات أي لا يلمز بعضكم بعضا كقوله لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا سورة
5
235
النور وقوله فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم سورة البقرة وقد قال تعالى ويل لكل همزة لمزة الآية سورة الهمزة والهمز العيب والطعن بشدة وعنف ومنه همز الأرض بعقبة ومنه الهمزة وهي نبرة من الصدر وأما الاستغفار للمؤمنين عموما فقد قال تعالى واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات سورة محمد وقد أمر الله بالصلاة على من يموت وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر للمنافقين حتى نهى عن ذلك فكل مسلم لم يعلم أنه منافق جاز الاستغفار له والصلاة عليه وإن كان فيه بدعة أو فسق لكن لا يجب على كل أحد أن يصلى عليه وإذا كان في ترك الصلاة على الداعي إلى البدعة والمظهر للفجور مصلحة من جهة انزجار الناس فالكف عن الصلاة كان مشروعا لمن كان يؤثر ترك صلاته في الزجر بأن لا يصلى عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيمن قتل نفسه
5
236(186/159)
صلوا على صاحبكم وكذلك قال في الغال صلوا على صاحبكم وقد قيل لسمرة بن جندب إن ابنك لم ينم البارحة فقال أبشما قالوا بشما قال لو مات لم أصل عليه يعني لأنه يكون قد قتل نفسه وللعلماء هنا نزاع هل يترك الصلاة على مثل هذا الإمام فقط لقوله صلى الله عليه وسلم صلوا على صاحبكم أم هذا الترك يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم أم مشروع لمن تطلب صلاته وهل الإمام هو الخليفة أو الإمام الراتب وهل هذا مختص بهذين أم هو ثابت لغيرهما فهذه كلها مسائل تذكر في غير هذا الموضع لكن بكل حال المسلمون المظهرون للإسلام قسمان إما مؤمن
5
237
وإما منافق فمن علم نفاقه لم تجز الصلاة عليه والإستغفار له ومن لم يعلم ذلك منه صلى عليه وإذا علم شخص نفاق شخص لم يصل هو عليه وصلى عليه من لم يعلم نفاقه وكان عمر رضي الله عنه لا يصلي على من لم يصل عليه حذيفة لأنه كان في غزوة تبوك قد عرف المنافقين الذين عزموا على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم واعلم أنه لا منافاة بين عقوبة الإنسان في الدنيا على ذنبه وبين الصلاة عليه والإستغفار له فإن الزاني والسارق والشارب وغيرهم من العصاة تقام عليهم الحدود ومع هذا فيحسن إليهم بالدعاء لهم في دينهم ودنياهم فإن العقوبات الشرعية إنما شرعت رحمة من الله بعباده فهي صادرة عن رحمة الله وإرادة الإحسان إليهم ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على الذنوب أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم كما يقصد الوالد تأديب ولده وكما يقصد الطبيب معالجة المريض فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما أنا لكم بمنزلة الوالد وقد قال تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم
5
238(186/160)
وأزواجه أمهاتهم سورة الأحزاب وفي قراءة أبي وهو أب لهم والقراءة المشهورة تدل على ذلك فإن نساءه إنما كن أمهات المؤمنين تبعا له فلولا أنه كالأب لم يكن نساؤه كالأمهات والأنبياء أطباء الدين والقرآن أنزله الله شفاء لما في الصدور فالذي يعاقب الناس عقوبة شرعية إنما هو نائب عنه وخليفة له فعليه أن يفعل كما يفعل على الوجه الذي فعل ولهذا قال تعالى كنتم خير أمه أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله سورة آل عمران قال أبو هريرة كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل تدخلونهم الجنة أخبر أن هذه الأمة خير الأمم لبني آدم فإنهم يعاقبونهم بالقتل والأسر ومقصودهم بذلك الإحسان إليهم وسوقهم إلى كرامة
5
239
الله ورضوانه وإلى دخول الجنة وهكذا الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم إن لم يقصد فيه بيان الحق وهدى الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم لم يكن عمله صالحا وإذا غلظ في ذم بدعة و معصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد كما في نصوص الوعيد وغيرها وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيزا والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفى والإنتقام كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الثلاثة الذي خلفوا لما جاء المتخلفون عن الغزاة يعتذرون ويحلفون وكانوا يكذبون وهؤلاء الثلاثة صدقوا وعوقبوا بالهجر ثم تاب الله عليهم ببركة الصدق وهذا مبني على مسألتين إحداهما أن الذنب لا يوجب كفر صاحبه كما تقوله الخوارج بل ولا تخليده في النار ومنع الشفاعة فيه كما يقوله المعتزلة الثاني أن المتأول الذي قصده متابعة الرسول لا يكفر بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفر المخطئين فيها وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أحد من أئمة المسلمين وإنما هو في الأصل من أقوال أهل
5
240(186/161)
البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم كالخوارج والمعتزلة والجهمية ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وقد يسلكون في التكفير ذلك فمنهم من يكفر أهل البدع مطلقا ثم يجعل كل من خرج عما هو عليه من أهل البدع وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة الجهمية وهذا القول أيضا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة وليس هو قول الأئمة الأربعة ولا غيرهم وليس فيهم من كفر كل مبتدع بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك ولكن قد ينقل عن أحدهم أنه كفر من قال بعض الأقوال ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليحذر ولا يلزم إذا كان القول كفرا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه وذلك له شروط وموانع كما بسطناه في موضعه وإذا لم يكونوا في نفس الأمر كفارا لم يكونوا منافقين فيكونون من المؤمنين فيستغفر لهم ويترحم عليهم وإذا قال المؤمن ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان سورة الحشر يقصد كل من
5
241(186/162)
سبقه من قرون الأمة بالإيمان وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله فخالف السنة أو أذنب ذنبا فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان فيدخل في العموم وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارا بل مؤمنين فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد كما يستحقه عصاة المؤمنين والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجهم من الإسلام بل جعلهم من أمته ولم يقل إنهم يخلدون في النار فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته فإن كثيرا من المنتسبين إلى السنة فيهم بدعة من جنس بدع الرافضة والخوارج وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم على بن أبي طالب وغيره لم يكفروا الخوارج الذين قاتلوهم بل أول ما خرجوا عليه وتحيزوا بحروراء وخرجوا عن الطاعة والجماعة قال لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ولا حقكم من الفيء ثم أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم فرجع نحو نصفهم ثم قاتل الباقي وغلبهم ومع هذا لم يسب لهم ذرية ولا غنم لهم مالا ولا سار فيهم سيرة الصحابة في المرتدين كمسيلمة الكذاب وأمثاله بلك كانت سيرة علي والصحابة في الخوارج مخالفة لسيرة الصحابة في أهل الردة ولم ينكر أحد على علي ذلك فعلم اتفاق الصحابة على أنهم لم يكونوا مرتدين عن دين الإسلام قال الإمام محمد بن نصر المروزي وقد ولى علي رضي الله عنه
5
242(186/163)
قتال أهل البغي وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ما روى وسماهم مؤمنين وحكم فيهم بأحكام المؤمنين وكذلك عمار بن ياسر وقال محمد بن نصر أيضا حدثنا إسحاق بن راهويه حدثنا يحيى ين آدم عن مفضل بن مهلهل عن الشيباني عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال كنت عند على حين فرغ من قتال أهل النهروان فقيل له أمشركون هم قال من الشرك فروا فقيل فمنافقون قال المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا قيل فما هم قال قوم بغوا علينا فقاتلناهم وقال محمد بن نصر أيضا حدثنا إسحاق حدثنا وكيع عن مسعر عن عامر بن سفيان عن أبي وائل قال قال رجل من دعي إلى البغلة الشهباء يوم قتل المشركون فقال علي من الشرك فروا قال المنافقون قال إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا قال فما هم قال قوم بغوا علينا فقاتلناهم فنصرنا عليهم قال حدثنا إسحاق حدثنا وكيع عن أبي خالدة عن
5
243(186/164)
حكيم بن جابر قال قالوا لعلي حين قتل أهل النهروان أمشركون هم قال من الشرك فروا قيل فمنافقون قال المنافقون لا يذكرون الله إلا قليل قيل فما هم قال قوم حاربونا فحاربناهم وقاتلونا فقاتلناهم قلت الحديث الأول وهذا الحديث صريحان في أن عليا قال هذا القول في الخوارج الحرورية أهل النهروان الذين استفاضت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذمهم والأمر بقتالهم وهم يكفرون عثمان وعليا ومن تولاهما فمن لم يكن معهم كان عندهم كافرا ودارهم دار كفر فإنما دار الإسلام عندهم هي دارهم قال الأشعرى وغيره أجمعت الخوارج على تكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومع هذا علي قاتلهم لما بدؤوه بالقتال فقتلوا عبد الله بن خباب وطلب علي منهم قاتله فقالوا كلنا قتلة وأغاروا على ماشية الناس ولهذا قال فيهم قوم قاتلونا فقاتلناهم وحاربونا فحاربناهم وقال قوم بغوا علينا فقاتلناهم وقد اتفق الصحابة العلماء بعدهم على قتال هؤلاء فإنهم بغاة على جميع المسلمين سوى من وافقهم على مذهبهم وهم يبدؤون المسلمين بالقتال ولا يندفع شرهم إلا بالقتال فكانوا أضر على المسلمين من قطاع الطريق فإن إولئك إنما مقصودهم المال فلو
5
244(186/165)
أعطوه لم يقاتلوا وإنما يتعرضون لبعض الناس وهؤلاء يقاتلون الناس على الدين حتى يرجعوا عما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة إلى ما ابتدعه هؤلاء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن ومع هذا فقد صرح علي رضي الله عنه بأنهم مؤمنون ليسوا كفارا ولا منافقين وهذا بخلاف ما كان يقوله بعض الناس كأبي إسحاق الإسفراييني ومن اتبعه يقولون لا نكفر إلا من يكفر فإن الكفر ليس حقا لهم بل هو حق لله وليس للإنسان أن يكذب على من يكذب عليه ولا يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة بأهله بل ولو استكرهه رجل على اللواطة لم يكن له أن يستكرهه على ذلك ولو قتله بتجريع خمر أو تلوط به لم يجز قتله بمثل ذلك لأن هذا حرام لحق الله تعالى ولو سب النصارى نبينا لم يكن لنا أن نسبح المسيح والرافضة إذا كفروا أبا بكر وعمر فليس لنا أن نكفر عليا وحديث أبي وائل يوافق ذينك الحديثين فالظاهر أنه كان يوم النهروان أيضا وقد روى عنه في أهل الجمل وصفين قول أحسن من هذا قال إسحاق بن راهويه حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه قال سمع علي يوم الجمل أو يوم صفين رجلا يغلو في القول فقال
5
245(186/166)
لا تقولوا إلا خيرا إنما هم قوم زعموا إنا بغينا عليهم وزعمنا أنهم بغوا علينا فقاتلناهم فذكر لأبي جعفر أنه أخذ منهم السلاح فقال ما كان أغناه عن ذلك وقال محمد بن نصر حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أحمد بن خالد حدثنا محمد بن راشد عن مكحول أن أصحاب علي سألوه عمن قتل من أصحاب معاوية ما هم قال هم مؤمنون وبه قال أحمد بن خالد حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الواحد بن أبي عون قال مر علي وهو متكىء على الأشتر على قتلى صفين فإذا حابس اليماني مقتول فقال الأشتر إنا لله وإنا اليه راجعون هذا حابس اليماني معهم يا أمير المؤمنين عليه علامة معاوية أما والله لقد عهدته مؤمنا قال علي والآن هو مؤمن قال وكان حابس رجلا من أهل اليمن من أهل العبادة والإجتهاد قال محمد بن يحيى حدثنا محمد بن عبيد حدثنا مختار بن نافع عن أبي مطر قال قال علي متى ينبعث أشقاها قيل من أشقاها قال الذي يقتلني فضربه ابن ملجم بالسيف فوقع برأس علي رضي الله عنه وهم المسلمون بقتله فقال لا تقتلوا الرجل فإن برئت فالجروح قصاص وإن مت فاقتلوه فقال إنك ميت قال وما يدريك قال كان سيفي مسموما
5
246(186/167)
وبه قال محمد بن عبيد حدثنا الحسن وهو ابن الحكم النخعي عن رباح بن الحارث قال إنا لبواد وإن ركبتي لتكاد تمس ركبة عمار بن ياسر إذ أقبل رجل فقال كفر والله أهل الشام فقال عمار لا تقل ذلك فقبلتنا واحدة ونبينا واحد ولكنهم قوم مفتونون فحق علينا قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق وبه قال ابن يحيى حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن الحسن بن الحكم عن رباح بن الحرث عن عمار بن ياسر قال ديننا واحد وقبلتنا واحدة ودعوتنا واحدة ولكنهم قوم بغوا علينا فقاتلناهم قال ابن يحيى حدثنا يعلى حدثنا مسعر عن عبد الله بن رباح عن رباح بن الحارث قال قال عمار بن ياسر لا تقولوا كفر أهل الشام قولوا فسقوا قولوا ظلموا قال محمد بن نصر وهذا يدل على أن الخبر الذي روي عن عمار ابن ياسر أنه قال لعثمان بن عفان هو كافر خبر باطل لا يصح لأنه إذا أنكر كفر أصحاب معاوية وهم إنما كانوا يظهرون أنهم يقاتلون في دعم عثمان فهو لتكفير عثمان أشد إنكارا قلت والمروي في حديث عمار أنه لما قال ذلك أنكر عليه علي
5
247
رضي الله عنه وقال أتكفر برب آمن به عثمان وحدثه بما يبين بطلان ذلك القول فيكون عمار إن كان قال ذلك متأولا فقد رجع عنه حين بين له علي رضي الله عنه أنه قول باطل ومما يدل على أن الصحابة لم يكفروا الخوارج أنهم كانوا يصلون خلفهم وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة يصلون خلف نجدة الحروري وكانوا أيضا يحدثونهم ويفتونهم ويخاطبونهم كما يخاطب المسلم المسلم كما كان عبد الله بن عباس يجيب نجدة الحروري لما أرسل إليه يسأله عن مسائل وحديثه في البخاري وكما أجاب نافع بن الأزرق عن مسائل مشهورة وكان نافع يناظره في أشياء بالقرآن كما يتناظر المسلمان وما زالت سيرة المسلمين على هذا ما جعلوهم مرتدين كالذين
5
248(186/168)
قاتلهم الصديق رضي الله عنه هذا مع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتالهم في الأحاديث الصحيحة وما روي من أنهم شر قتلى تحت أديم السماء خير قتيل من قتلوه في الحديث الذي رواه أبو أمامة رواه الترمذي وغيره أي أنهم شر على المسلمين من غيرهم فإنهم لم يكن أحد شرا على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم مكفرين لهم وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة ومع هذا فالصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان لم يكفروهم ولا جعلوهم مرتدين ولا اعتدوا عليهم بقول ولا فعل بل اتقوا الله فيهم وساروا فيهم السيرة العادلة وهكذا سائر فرق أهل البدع والأهواء من الشيعة والمعتزلة وغيرهم فمن كفر الثنتين والسبعين فرقة
5
249
كلهم فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع أن حديث الثنتين والسبعين فرقة ليس في الصحيحين وقد ضعفه ابن حزم وغيره لكن حسنه غيره أو صححه كما صححه الحاكم وغيره وقد رواه أهل السنن وروي من طرق وليس قوله ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة بأعظم من قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا سورة النساء وقوله ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوق نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا سورة النساء وأمثال ذلك من النصوص الصريحة بدخول من فعل ذلك النار
5
250(186/169)
ومع هذا فلا نشهد لمعين بالنار لإمكان أنه تاب أو كانت له حسنات محت سيئاته أو كفر الله عنه بمصائب أو غير ذلك كما تقدم بل المؤمن بالله ورسوله باطنا وظاهرا الذي قصد اتباع الحق وما جاء به الرسول إذا أخطأ ولم يعرف الحق كان أولى أن يعذره الله في الآخرة من المتعمد العالم بالذنب فإن هذا عاص مستحق للعذاب بلا ريب وأما ذلك فليس متعمدا للذنب بل هو مخطىء والله قد تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان والعقوبة في الدنيا تكون لدفع ضرره عن المسلمين وإن كان في الآخرة خيرا ممن لم يعاقب كما يعاقب المسلم المتعدي للحدود ولا يعاقب أهل الذمة من اليهود والنصارى والمسلم في الآخرة خير منهم وأيضا فصاحب البدعة يبقى صاحب هوى يعمل لهواه لا ديانة ويصدر عن الحق الذي يخالفه هواه فهذا يعاقبه الله على هواه ومثل هذا يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة ومن فسق من السلف الخوارج ونحوهم كما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال فيهم قوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون سورة البقرة فقد يكون هذا قصده لا سيما إذا تفرق الناس فكان ممن يطلب الرياسة له ولأصحابه وإذا كان المسلم الذي يقاتل الكفار قد يقاتلهم شجاعة وحمية ورياء وذلك ليس في سبيل الله فكيف بأهل البدع الذين يخاصمون ويقاتلون
5
251(186/170)
عليها فإنهم يفعلون ذلك شجاعة وحمية وربما يعاقبون لما اتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله لا لمجرد الخطأ الذي اجتهدوا فيه ولهذا قال الشافعي لأن أتكلم في علم يقال لي فيه أخطأت أحب إلي من أن أتكلم في علم يقال لي فيه كفرت فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون وسبب ذلك أن أحدهم قد يظن ما ليس بكفر كفرا وقد يكون كفرا لأنه تبين له أنه تكذيب للرسول وسب للخالق والآخر لم يتبين له ذلك فلا يلزم إذا كان هذا العالم بحاله يكفر إذا قاله أن يكفر من لم يعلم بحاله والناس لهم فيما يجعلونه كفرا طرق متعددة فمنهم من يقول الكفر تكذيب ما علم بالإضطرار من دين الرسول ثم الناس متفاوتون في العلم الضروري بذلك ومنهم من يقول الكفر هو الجهل بالله تعالى ثم قد يجعل الجهل بالصفة كالجهل بالموصوف وقد لا يجعلها وهم مختلفون في الصفات نفيا وإثباتا ومنهم من لا يحده بحد بل كل ما تبين أنه تكذيب لما جاء به الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر جعله كفرا إلى طرق أخر ولا ريب أن الكفر متعلق بالرسالة فتكذيب الرسول كفر وبغضه
5
252(186/171)
وسبه وعداوته مع العلم بصدقه في الباطن كفر عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة العلم وسائر الطوائف إلا الجهم ومن وافقه كالصالحي والأشعري وغيرهم فإنهم قالوا هذا كفر في الظاهر وأما في الباطن فلا يكون كفرا إلا إذا استلزم الجهل بحيث لا يبقى في القلب شيء من التصديق بالرب وهذا بناء على أن الإيمان في القلب لا يتفاضل ولا يكون في القلب بعض من الإيمان وهو خلاف النصوص الصريحة وخلاف الواقع ولبسط هذا موضع آخر والمقصود هنا أن كل من تاب من أهل البدع تاب الله عليه وإذا كان الذنب متعلقا بالله ورسوله فهو حق محض لله فيجب أن يكون الإنسان في هذا الباب قاصدا لوجه الله متبعا لرسوله ليكون عمله خالصا صوابا قال تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون سورة البقرة وقال تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا سورة النساء قال المفسرون وأهل اللغة معنى الآية أخلص دينه وعمله لله وهو محسن في عمله
5
253(186/172)
وقال الفراء في قوله فقل أسلمت وجهي لله سورة آل عمران أخلصت عملي وقال الزجاج قصدت بعبادتي إلى الله وهو كما قالوا كما قد ذكر توجيهه في موضع آخر وهذا المعنى يدور عليه القرآن فإن الله تعالى أمر أن لا يعبد إلا إياه وعبادته فعل ما أمر وترك ما حظر والأول هو إخلاص الدين والعمل لله والثاني هو الإحسان وهو العمل الصالح ولهذا كان عمر يقول في دعائه اللهم أجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا وهذا هو الخالص الصواب كما قال الفضيل بن عياض في قوله ليبلوكم أيكم أحسن عملا سورة هود قال أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة والأمر بالسنة والنهي عن البدعة هو أمر بمعروف ونهي عن منكر وهو من أفضل الأعمال الصالحة فيجب أن يبتغي به وجه الله وإن يكون مطابقا للأمر وفي الحديث من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فينبغي أن يكون عليما بما يأمر به عليما بما ينهى عنه رفيقا فيما يأمر به رفيقا فيما
5
254(186/173)
ينهى عنه حليما فيما يأمر به حليما فيما ينهى عنه فالعلم قبل الأمر والرفق مع الأمر والحلم بعد الأمر فإن لم يكن عالما لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم وإن كان عالما ولم يكن رفيقا كان كالطبيب الذي لا رفق فيه فيغلظ على المريض فلا يقبل منه وكالمؤدب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد وقد قال تعالى لموسى وهارون فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى سورة طه ثم إذا أمر ونهى فلا بد أن يؤذى في العادة فعليه أن يصبر ويحلم كما قال تعالى وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور سورة لقمان وقد أمر الله نبيه بالصبر على أذى المشركين في غير موضع وهو إمام الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر فإن الإنسان عليه أولا أن يكون أمره لله وقصده طاعة الله فيما أمره به وهو يحب صلاح المأمور أو إقامة الحجة عليه فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته وتنقيص غيره كان ذلك حمية لا يقبله الله وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطا ثم إذا رد عليه ذلك وأوذي أو
5
255(186/174)
نسب إلى أنه مخطىء وغرضه فاسد طلبت نفسه الانتصار لنفسه وأتاه الشيطان فكان مبدأ عمله لله ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه وربما اعتدى على ذلك المؤذي وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه وأنه على السنة فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدا معذورا لا يغضب الله عليه ويرضون عمن يوافقهم وإن كان جاهلا سيىء القصد ليس له علم ولا حسن قصد فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله ويذموا من لم يذمه الله ورسوله وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم ويقولون هذا صديقنا وهذا عدونا وبلغة المغل هذا بال هذا باغي لا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله ومعاداة الله ورسوله ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس قال الله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله سورة الأنفال فإذا لم يكن الدين كله لله وكانت فتنة وأصل الدين أن يكون الحب لله والبغض لله والموالاة لله والمعاداة لله والعبادة لله والإستعانة بالله والخوف من الله والرجاء
5
256(186/175)
لله والإعطاء لله والمنع لله وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله الذي أمره أمر الله ونهيه نهي الله ومعاداته معاداة الله وطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ولا يرضى لرضا الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه ويكون مع ذلك معه شبهة دين أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة وهو الحق وهو الدين فإذا قدر أن الذي معه هوالحق المحض دين الإسلام ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه أو فعل ذلك شجاعة وطبعا أو لغرض من الدنيا لم يكن لله ولم يكن مجاهدا في سبيل الله فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو كنظيره معه حق وباطل وسنة وبدعة ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وكفر بعضهم بعضا وفسق بعضهم بعضا ولهذا قال تعالى فيهم وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة سورة البينة وقال تعالى كان الناس أمة واحدة سورة البقرة يعني
5
257(186/176)
فاختلفوا كما في سورة يونس وكذلك في قراءة بعض الصحابة وهذا على قراءة الجمهور من الصحابة والتابعين أنهم كانوا على دين الإسلام وفي تفسير ابن عطية عن ابن عباس أنهم كانوا على الكفر وهذا ليس بشيء وتفسير ابن عطية عن ابن عباس ليس بثابت عن ابن عباس بل قد ثبت عنه أنه قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام وقد قال في سورة يونس وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا سورة يونس فذمهم على الإختلاف بعد أن كانوا على دين واحد فعلم أنه كان حقا والاختلاف في كتاب الله على وجهين أحدهما أن يكون كله مذموما كقوله وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد سورة البقرة والثاني أن يكون بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل كقوله تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله
5
258(186/177)
ما اقتتل الذين من بعدهم من ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد سورة البقرة لكن إذا أطلق الإختلاف فالجميع مذموم كقوله ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذ لك خلقهم سورة هود وقول النبي صلى الله عليه وسلم إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ولهذا فسروا الإختلاف في هذا الموضع بأنه كله مذموم قال الفراء في اختلافهم وجهان أحدهما كفر بعضهم بكتاب بعض والثاني تبديل ما بدلوا وهو كما قال فإن المختلفين كل منهم يكون معه حق وباطل فيكفر بالحق الذي مع الآخر ويصدق بالباطل الذي معه وهو تبديل ما بدل فالإختلاف لا بد أن يجمع النوعين ولهذا ذكر كل من السلف أنواعا من هذا أحدها الإختلاف في اليوم الذي يكون فيه الإجتماع فاليوم الذي أمروا به يوم الجمعة فعدلت عنه الطائفتان فهذه أخذت السبت وهذه أخذت الأحد وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من
5
259(186/178)
بعدهم فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له الناس لنا فيه تبع اليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى وهذا الحديث يطابق قوله تعالى فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه سورة البقرة وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم والحديث الأول يبين أن الله تعالى هدى المؤمني لغير ما كان فيه المختلفون فلا كانوا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء وهو مما يبين أن الإختلاف كله مذموم والنوع الثاني القبلة فمنهم من يصلي إلى المشرق ومنهم من يصلي إلى المغرب وكلاهما مذموم لم يشرعه الله والثالث إبراهيم قالت اليهود كان يهوديا وقالت النصارى كان
5
260(186/179)
نصرانيا وكلاهما كان من الإختلاف المذموم ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين سورة آل عمران والرابع عيسى جعلته اليهود لغية وجعلته النصارى إلها والخامس الكتب المنزلة آمن هؤلاء ببعض وهؤلاء ببعض والسادس الدين أخذ هؤلاء بدين وهؤلاء بدين ومن هذا الباب قوله تعالى وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء سورة البقرة وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال اختصمت يهود المدينة ونصارى نجران عند النبي صلى الله عليه وسلم فقالت اليهود ليست النصارى على شيء ولا يدخل الجنة إلا من كان يهوديا وكفروا بالإنجيل وعيسى وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وكفروا بالتوراة وموسى فأنزل الله هذه الآية والتي قبلها واختلاف أهل البدع هو من هذا النمط فالخارجي يقول ليس الشيعي على شيء والشيعي يقول ليس الخارجي على شيء والقدري النافي يقول ليس المثبت على شيء والقدري الجبري المثبت يقول ليس النافي على شيء والوعيدية تقول ليست المرجئة على شيء والمرجئة تقول ليست الوعيدية على شيء بل ويوجد شيء من هذا بين أهل المذاهب الأصولية والفروعية
5
261(186/180)
المنتسبين إلى السنة فالكلابي يقول ليس الكرامى على شيء والكرامي يقول ليس الكلابي على شيء والأشعري يقول ليس السالمي على شيء والسلمي يقول ليس الأشعري على شيء ويصنف السالمي كأبي على الأهوازي كتابا في مثالب الأشعري ويصنف الأشعري كابن عساكر كتابا يناقض ذلك من كل وجه وذكر فيه مثالب السالمية وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها لا سيما وكثير منهم قد تلبس ببعض المقالات الأصولية وخلط هذا بهذا فالحنبلي والشافعي والمالكي يخلط بمذهب مالك والشافعي وأحمد شيئا من أصول الأشعرية والسالمية وغير ذلك ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد وكذلك الحنفي يخلط بمذاهب أبي حنيفة شيئا من أصول المعتزلة والكرامية والكلابية ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة وهذا من جنس الرفض والتشيع لكنه تشيع في تفضيل بعض الطوائف والعلماء لا تشيع في تفضيل بعض الصحابة والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
5
262(186/181)
أن يكون أصل قصده توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له وطاعة رسوله يدور على ذلك ويتبعه أين وجده ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة فلا ينتصر لشخص انتصارا مطلقا عاما إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لطائفة انتصارا مطلقا عاما إلا للصحابة رضي الله عنهم أجمعين فإن الهدى يدور مع الرسول حيث دار ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا فإذا أجمعوا لم يجمعوا على خطأ قط بخلاف أصحاب عالم من العلماء قد فإنهم قد يجمعون على خطأ بل كل قول قالوه ولم يقله غيرهم من الأمة لا يكون إلا خطأ فإن الدين الذي بعث الله به رسوله ليس مسلما إلى عالم واحد وأصحابه ولو كان كذلك لكان ذلك الشخص نظيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شبيه بقول الرافضة في الإمام المعصوم ولا بد أن يكون الصحابة والتابعون يعرفون ذلك الحق الذي بعث الله به الرسول قبل وجود المتبوعين الذين تنسب إليهم المذاهب في الأصول والفروع ويمتنع أن يكون هؤلاء جاءوا بحق يخالف ما جاء به الرسول فإن كل ما خالف الرسول فهو باطل ويمتنع أن يكون أحدهم علم من جهة الرسول ما يخالف الصحابة والتابعين لهم بإحسان فإن أولئك لم يجتمعوا على ضلالة فلابد أن يكون قوله إن
5
263(186/182)
كان حقا مأخوذا عما جاء به الرسول موجودا فيمن قبله وكل قول قيل في دين الإسلام مخالف لما مضى عليه الصحابة والتابعون لم يقله أحد منهم بل قالوا خلافه فإنه قول باطل والمقصود هنا أن الله تعالى ذكر أن المختلفين جاءتهم البينة وجاءهم العلم وإنما اختلفوا بغيا ولهذا ذمهم الله وعاقبهم فإنهم لم يكونوا مجتهدين مخطئين بل كانوا قاصدين البغي عالمين بالحق معرضين عن القول وعن العمل به ونظير هذا قوله إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم سورة آل عمران قال الزجاج اختلفوا للبغي لا لقصد البرهان وقال تعالى ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون سورة يونس وقال تعالى ولقد أتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن
5
264(186/183)
الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين هذا بصائر للناس وهدى ورحمة سورة الجاثية فهذه المواضع من القرآن تبين أن المختلفين ما اختلفوا حتى جاءهم العلم والبينات فاختلفوا للبغي والظلم لا لأجل اشتباه الحق بالباطل عليهم وهذ حال أهل الاختلاف المذموم من أهل الأهواء كلهم لا يختلفون إلا من بعد أن يظهر لهم الحق ويجيئهم العلم فيبغى بعضهم على بعض ثم المختلفون المذمومون كل منهم يبغى على الآخر فيكذب بما معه من الحق مع علمه أنه حق ويصدق بما مع نفسه من الباطل مع العلم أنه باطل وهؤلاء كلهم مذمومون ولهذا كان أهل الإختلاف المطلق كلهم مذمومين في الكتاب والسنة فإنه ما منهم إلا من خالف حقا واتبع باطلا ولهذا أمر الله الرسل أن تدعوا إلى دين واحد وهو دين الإسلام ولا يتفرقوا فيه وهو دين الأولين والآخرين من الرسل وأتباعهم قال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه سورة الشورى وقال في الآية الأخرى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم
5
265(186/184)
فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون سورة المؤمنون أي كتبا اتبع كل قوم كتابا مبتدعا غير كتاب الله فصاروا متفرقين مختلفين لأن أهل التفرق والاختلاف ليسوا على الحنيفية المحضة التي هي الإسلام المحض الذي هو إخلاص الدين لله الذي ذكره الله في قوله وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيمو الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة سورة البينة وقال في الآية الأخرى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون سورة الروم فنهاه أن يكون من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وأعاد حرف من ليبين أن الثاني بدل من الأول والبدل هو المقصود بالكلام وما قبله توطئة له وقال تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم سورة هود إلى قوله ولو شاء ربك جعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم سورة هود فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون وقد ذكر في غير موضع أن دين الأنبياء كلهم الإسلام كما قال تعالى عن نوح وأمرت أن أكون من المسلمين سورة النمل وقال عن إبراهيم إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها
5
266(186/185)
إبراهيم بينه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون سورة البقرة وقال يوسف فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما والحقني بالصالحين سورة يوسف وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين سورة يونس وقال عن السحرة ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين سورة الأعراف وقال عن بلقيس رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين سورة النمل وقال يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار سورة المائدة وقال وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد باننا مسلمون سورة المائدة وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد وتنوع الشرائع لا يمنع أن يكون الدين واحدا وهو
5
267(186/186)
الإسلام كالدين الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم فإنه هو دين الإسلام أولا وآخرا وكانت القبلة في أول الأمر بيت المقدس ثم صارت القبلة الكعبة وفي كلا الحالين الدين واحد وهو دين الإسلام فهكذا سائر ما شرع للأنبياء قبلنا ولهذا حيث ذكر الله الحق في القرآن جعله واحدا وجعل الباطل متعددا كقوله وأن هذا صراطي مستقيما فأتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله سورة الأنعام وقوله أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة وقوله اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم سورة النحل وقوله ويهديك صراطا مستقيما سورة الفتح وقوله الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات سورة البقرة وهذا يطابق ما في كتاب الله من أن الإختلاف المطلق كله مذموم بخلاف المقيد الذي قيل فيه ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا سورة البقرة فهذا قد بين أنه اختلاف بين أهل الحق والباطل كما قال هذان خصمان اختصموا في ربهم سورة الحج
5
268(186/187)
وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت المقتتلين يوم بدر في حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ابن عمه وعبيدة بن الحارث ابن عمه والمشركين الذين برزهم عتبة وشيبة والوليد بن عتبة وقد تدبرت كتب الإختلاف التي يذكر فيها مقالات الناس إما نقلا مجردا مثل كتاب المقالات لأبي الحسن الأشعري وكتاب الملل والنحل للشهرستاني ولأبي عيسى الوراق أو مع انتصار لبعض الأقوال كسائر ما صنفه أهل الكلام على اختلاف طبقاتهم فرأيت عامة الإختلاف الذي فيها من الاختلاف المذموم وأما الحق الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه وكأن عليه سلف الأمة فلا يوجد فيها في جميع مسائل الإختلاف بل يذكر أحدهم في المسألة عدة أقوال والقول الذي جاء به الكتاب والسنة لا يذكرونه وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه بل لا يعرفونه ولهذا كان السلف والأئمة يذمون هذا الكلام ولهذا يوجد الحاذق
5
269
منهم المنصف الذي غرضه الحق في آخر عمره يصرح بالحيرة والشك إذ لم يجد في الإختلافات التي نظر فيها وناظر ما هو حق محض وكثير منهم يترك الجميع ويرجع إلي دين العامة الذي عليه العجائز والأعراب كما قال أبو المعالي وقت السياق لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهونى عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي وكذلك أبو حامد في آخر عمره استقر أمره على الوقف والحيرة بعد أن نظر فيما كان عنده من طرق النظار أهل الكلام والفلسفة وسلك ما تبين له من طرق العبادة والرياضة والزهد وفي آخر عمره اشتغل بالحديث بالبخاري ومسلم وكذلك الشهر ستاني مع أنه كان من أخبر هؤلاء المتكلمين بالمقالات والإختلاف وصنف فيها كتابه المعروف بنهاية الإقدام في علم الكلام وقال قد أشار علي من إشارته غنم وطاعته حتم أن أذكر له من مشكلات الأصول ما أشكل على ذوي العقول ولعله
5
270(186/188)
استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاكف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم فأخبر أنه لم يجد إلا حائرا شاكا ومرتابا أو من اعتقد ثم ندم لما تبين له خطؤه فالأول في الجهل البسيط كظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكن يراها وهذا دخل في الجهل المركب ثم تبين له أنه جهل فندم ولهذا تجده في المسائل يذكر أقوال الفرق وحججهم ولا يكاد يرجح شيئا للحيرة وكذلك الأمدي الغالب عليه الوقف والحيرة وأما الرازي فهو في الكتاب الواحد بل في الموضع الواحد منه ينصر قولا وفي موضع آخر منه أو من كتاب آخر ينصر نقيضه ولهذا استقر أمره على الحيرة والشك ولهذا لما ذكر أن أكمل العلوم العلم بالله وبصفاته وأفعاله ذكر أن على كل منها إشكال وقد ذكرت
5
271
كلامه وبينت ما أشكل عليه وعلى هؤلاء في مواضع فإن الله قد أرسل رسله بالحق وخلق عباده على الفطرة فمن كمل فطرته بما أرسل الله به رسله وجد الهدى واليقين الذي لا ريب فيه ولم يتناقض لكن هؤلاء أفسدوا فطرتهم العقلية وشرعتهم السمعية بما حصل لهم من الشبهات والاختلاف الذي لم يهتدوا معه إلى الحق كما قد ذكر تفصيل ذلك في موضع غير هذا والمقصود هنا أنه لما ذكر ذلك قال ومن الذي وصل إلى هذا الباب ومن الذي ذاق هذا الشراب نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قبل وقالوا وقال لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروى غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه
5
272(186/189)
سورة فاطر الرحمن على العرش استوى سورة طه واقرأ في النفي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير سورة الشورى ولا يحيطون به علما سورة طه ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وهو صادق فيما أخبر به أنه لم يستفد من بحوثه في الطرق الكلامية والفلسفية سوى أن جمع قيل وقالوا وأنه لم يجد فيها ما يشفي عليلا ولا يروى غليلا فإن من تدبر كتبه كلها لمي جد فيها مسألة واحدة من مسائل أصول الدين موافقة للحق الذي يدل عليه المنقول والمعقول بل يذكر في المسألة عدة أقوال والقول الحق لا يعرفه فلا يذكره وهكذا غيره من أهل الكلام والفلسفة ليس هذا من خصائصه فإن الحق واحد ولا يخرج عما جاءت به الرسل وهو الموافق لصريح العقل فطرة الله التي فطر الناس عليها وهؤلاء لا يعرفون ذلك بل هم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وهم مختلفون في الكتاب وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد سورة البقرة
5
273
وقال الإمام أحمد في خطبة مصنفة الذي صنفه في محبسه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابهه القرآن وتأولته على غير تأويله قال الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل الضلالة والعمى فكم من قتيل لإبليس قد أحبوه وكم من تائه ضال قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم ينقون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم
5
274(186/190)
وهو كما وصفهم رحمه الله فإن المختلفين أهل المقالات المذكورة في كتب الكلام إما نقلا مجردا للأقوال وإما نقلا وبحثا وذكرا للجدال مختلفون في الكتاب كل منهم يوافق بعضا ويرد بعضا ويجعل ما يوافق رأيه هو المحكم الذي يجب اتباعه وما يخالفه هو المتشابه الذي يجب تأويله أو تفويضه وهذا موجود في كل من صنف في الكلام وذكر النصوص التي يحتج بها ويحتج بها عليه تجده يتأول النصوص التي تخالف قوله تأويلات لو فعلها غيره لأقام القيامة عليه ويتأول الآيات بما يعلم بالاضطرار أن الرسول لم يرده وبما لا يدل عليه اللفظ أصلا وبما هو خلاف التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين وخلاف نصوص أخرى
5
275
ولو ذكرت ما أعرفه من ذلك لذكرت خلقا ولا استثنى أحدا من أهل البدع لا من المشهورين بالبدع الكبار من معتزلي ورافضي ونحو ذلك ولا من المنتسبين إلى السنة والجماعة من كرامي وأشعري وسالمي ونحو ذلك وكذلك من صنف على طريقهم من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم هذا كله رأيته في كتبهم وهذا موجود في بحثهم في مسائل الصفات والقرآن ومسائل القدر ومسائل الأسماء والأحكام والإيمان والإسلام ومسائل الوعد والوعيد وغير ذلك وقد بسطنا الكلام على ذلك في مواضع من كتبنا غير هذا الكتاب درء تعارض العقل والنقل وغيره ومن أجمع الكتب التي رأيتها في مقالات الناس المختلفين في أصول الدين كتاب أبي الحسن الأشعري وقد ذكر فيه من المقالات وتفاصيلها ما لم يذكره غيره وذكر فيه مذهب أهل الحديث والسنة بحسب ما فهمه عنهم وليس في جنسه أقرب إليهم منه ومع هذا نفس القول الذي جاء به الكتاب والسنة وقال به الصحابة والتابعون لهم بإحسان في القرآن والرؤية
5
276(186/191)
والصفات والقدر وغير ذلك من مسائل أصول الدين ليس في كتابه وقد استقصى ما عرفه من كلام المتكلمين وأما معرفة ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وآثار الصحابة فعلم آخر لا يعرفه أحد من هؤلاء المتكلمين المختلفين في أصول الدين ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها متفقين على ذم أهل الكلام فإن كلامهم لا بد أن يشتمل على تصديق بباطل وتكذيب بحق ومخالفة الكتاب والسنة فذموه لما فيه من الكذب والخطأ والضلال ولم يذم السلف من كان كلامه حقا فإن ما كان حقا فإنه هو الذي جاء به الرسول وهذا لا يذمه السلف العارفون بما جاء به الرسول ومع هذا فيستفاد من كلامهم نقض بعضهم على بعض وبيان فساد قوله فإن المختلفين كل كلامهم فيه شيء من الباطل وكل طائفة تقصد بيان بطلان قول الأخرى فيبقى الإنسان عند دلائل كثيرة تدل على فساد قول كل طائفة من الطوائف المختلفين في الكتاب وهذا مما مدح به الأشعري فإنه من بين من فضائح المعتزلة وتناقض
5
277
أقوالهم وفسادها ما لم يبينه غيره لأنه كان منهم وكان قد درس الكلام على أبي على الجبائي أربعين سنة وكان ذكيا ثم إنه رجع عنهم وصنف في الرد عليهم ونصر في الصفات طريقة ابن كلاب لأنها أقرب إلى الحق والسنة من قولهم ولم يعرف غيرها فإنه لم يكن خبيرا بالسنة والحديث وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم وتفسير السلف للقرآن والعلم بالسنة المحضة إنما يستفاد من هذا ولهذا يذكر في المقالات مقالة المعتزلة مفصلة يذكر قول كل واحد منهم وما بينهم من النزاع في الدق والجل كما يحكى ابن أبي زيد مقالات أصحاب مالك وكما يحكي أبو الحسن القدوري اختلاف أصحاب أبي حنيفة ويذكر أيضا مقالات الخوارج والروافض لكن نقلة لها من كتب أرباب المقالات لا عن مباشرة
5
278(186/192)
منه للقائلين ولا عن خبرة بكتبهم ولكن فيها تفصيل عظيم ويذكر مقالة ابن كلاب عن خبرة بها ونظر في كتبه ويذكر اختلاف الناس في القرآن من عدة كتب فإذا جاء إلى مقالة أهل السنة والحديث ذكر أمرا مجملا يلقى أكثره عن زكريا بن يحيى الساجي وبعضه عمن أخذ عنه من حنبلية بغداد ونحوهم وأين العلم المفصل من العلم المجمل وهو يشبه من بعض الوجوه علمنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم تفصيلا وعلمنا بما في التوراة والإنجيل مجملا لما نقله الناس عن التوراة والإنجيل وبمنزلة علم الرجل الحنفي أو الشافعي أو المالكي أو الحنبلي بمذهبه الذي عرف أصوله وفروعه واختلاف أهله وأدلته بالنسبة إلى ما يذكرونه من خلاف المذهب الآخر فإنه إنما يعرفه معرفة مجملة
5
279(186/193)
فهكذا معرفته بمذهب أهل السنة والحديث مع أنه من أعرف المتكلمين المصنفين في الاختلاف بذلك وهو أعرف به من جميع أصحابه من القاضي أبي بكر وابن فورك وأبي إسحاق وهؤلاء أعلم به من أبي المعالي وذويه ومن الشهرستاني ولهذا كان ما يذكره الشهرستاني من مذهب أهل السنة والحديث ناقصا عما يذكره الأشعري فإن الأشعري أعلم من هؤلاء كلهم بذلك نقلا وتوجيها وهذا كالفقيه الذي يكون أعرف من غيره من الفقهاء بالحديث وليس هو من علماء الحديث أو المحدث الذي يكون أفقه من غيره من المحدثين وليس هو من أئمة الفقه والمقرىء الذي يكون أخبر من غيره بالنحو والإعراب وليس هو من أئمة النحاة والنحوي الذي يكون أخبر من غيره بالقرآن وليس هو من أئمة القراء ونظائر هذا متعددة والمقصود هنا بيان ما ذكره الله في كتابه من ذم الإختلاف في الكتاب وهذا الإختلاف القولي وأما الإختلاف العملي وهو الإختلاف باليد والسيف والعصا والسوط فهو داخل في الإختلاف والخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم يدخلون في النوعين والملوك الذين يتقاتلون على محض الدنيا يدخلون في الثاني والذين يتكلمون في العلم ولا يدعون إلى قول ابتدعوه ويحاربون عليه من خالفهم لا بيد ولا بلسان هؤلاء هم أهل العلم وهؤلاء خطؤهم مغفور
5
280(186/194)
لهم وليسوا مذمومين إلا أن يدخلهم هوى وعدوان أو تفريط في بعض الأمور فيكون ذلك من ذنوبهم فإن العبد مأمور بالتزام الصراط المستقيم في كل أموره وقد شرع الله تعالى أن نسأله ذلك في كل صلاة وهو أفضل الدعاء وأفرضه وأجمعه لكل خير وكل أحد محتاج إلى الدعاء به فلهذا أوجبه الله تعالى على العبد في كل صلاة فإنه وإن كان قد هدي هدى مجملا مثل إقراره بأن الإسلام حق والرسول حق فهو محتاج إلى التفصيل في كل ما يقوله ويفعله ويعتقده فيثبته أو ينفيه ويحبه أو يبغضه ويأمر به أو ينهى عنه ويحمده أو يذمه وهو محتاج في جميع ذلك إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فإن كثيرا ممن سمع ذم الكلام مجملا أو سمع ذم الطائفة الفلانية مجملا وهو لا يعرف تفاصيل الأمور من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية والعامة ومن كان متوسطا في الكلام لم يصل إلى الغايات التي منها تفرقوا واختلفوا تجده يذم القول وقائله بعبارة ويقبله بعبارة ويقرأ كتب التفسير والفقه وشروح الحديث وفيها تلك المقالات التي كان يذمها فيقبلها من أشخاص أخر يحسن الظن بهم وقد ذكروها بعبارة أخرى أو في ضمن تفسير آية أو حديث أو غير ذلك
5
281(186/195)
وهذا مما يوجد كثيرا والسالم من سلمه الله حتى أن كثيرا من هؤلاء يعظم أئمة ويذم أقوالا قد يلعن قائلها أو يكفره وقد قالها أولئك الأئمة الذين يعظمهم ولو علم أنهم قالوها لما لعن القائل وكثير منها يكون قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرف ذلك فإن كان ممن قبلها من المتكلمين تقليديا فإنه يتبع من يكون في نفسه أعظم فإن ظن أن المتكلمين حققوا ما لم يحققه أتمتهم قلدهم وإن ظن أن الائمة أجل قدرا وأعرف بالحق وأتبع للرسول قلدهم وإن كان قد عرف الحجة الكلامية على ذلك القول وبلغه أن أئمة يعظمهم قالوا بخلافه أو جاء الحديث بخلافه بقي في الحيرة وإن رجح أحد الجانبين رجح على مضض وليس عنده ما يبني عليه وإنما يستقر قلبه بما يعرف صحة أحد القولين جزما فإن التقليد لا يورث الجزم فإذا جزم بأن الرسول قاله وهو عالم بأنه لا يقول إلا الحق جزم بذلك وإن خالفه بعض أهل الكلام وعلم الإنسان باختلاف هؤلاء ورد بعضهم على بعض وإن لم يعرف بعضهم فساد مقالة بعض هو من أنفع الأمور فإنه ما منهم إلا من قد فضل مقالته طوائف فإذا عرف رد الطائفة الأخرى على هذه
5
282(186/196)
المقالة عرف فسادها فكان في ذلك نهى عما فيها من المنكر والباطل وكذلك إذا عرف رد هؤلاء على أولئك فإنه أيضا يعرف ما عند أولئك من الباطل فيتقي الباطل الذي معهم ثم من بين الله له الذي جاء به الرسول إما بأن يكون قولا ثالثا خارجا عن القولين وإما بأن يكون بعض قول هؤلاء وبعض قول هؤلاء وعرف أن هذا هو الذي كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وعليه دل الكتاب والسنة كان الله قد أتم عليه النعمة إذ هداه الصراط المستقيم وجنبه صراط أهل البغي والضلال وإن لم يتبين له كان امتناعه من موافقه هؤلاء على ضلالهم وهؤلاء على ضلالهم نعمة في حقه واعتصم بما عرفه من الكتاب والسنة مجملا وأمسك عن الكلام في تلك المسألة وكانت من جملة ما لم يعرفه فإن الإنسان لا يعرف الحق في كل ما تكلم الناس به وأنت تجدهم يحكون أقوالا متعددة في التفسير وشرح الحديث في مسائل الأحكام بل والعربية والطب وغير ذلك ثم كثير من الناس يحكي الخلاف ولا يعرف الحق وأما الخلاف الذي بين الفلاسفة فلا يحصيه أحد لكثرته ولتفرقهم فإن الفلسفة التي عند المتأخرين كالفارابي وابن سينا ومن نسج على منوالهما هي فلسفة أرسطو وأتباعه وهو صاحب التعاليم المنطق والطبيعي وما بعد الطبيعة والذي يحكيه الغزالي
5
283(186/197)
والشهرستاني والرازي وغيرهم من مقالات الفلاسفة هو من كلام ابن سينا والفلاسفة أصناف مصنفة غير هؤلاء ولهذا يذكر القاضي أبو بكر في دقائق الكلام وقبله أبو الحسن الأشعري في كتاب مقالات غير الإسلاميين وهو كتاب كبير أكبر من مقالات الإسلاميين أقوالا كثيرة للفلاسفة لا يذكرها هؤلاء الذين يأخذون عن ابن سينا وكذلك غير الأشعري مثل أبي عيسى الوراق والنوبختي وأبي علي وأبي هاشم وخلق كثير من أهل الكلام والفلسفة والمقصود أن كتب أهل الكلام يستفاد منها رد بعضهم على بعض وهذا لا يحتاج إليه من لا يحتاج إلى رد المقالة الباطلة لكونها لم تخطر بقلبه ولا هناك من يخاطبه بها ولا يطالع كتابا هي فيه ولا ينتفع به من لم يفهم الرد بل قد يستضر به من عرف الشبهة ولم يعرف فسادها ولكن المقصود هنا أن هذا هو العلم الذي في كتبهم فإنهم يردون باطلا بباطل وكلا القولين باطل ولهذا كان مذموما ممنوعا منه عند السلف والأئمة وكثير منهم أو أكثرهم لا يعرف أن الذي يقوله باطل
5
284(186/198)
وبكل حال فهم يذكرون من عيوب باطل غيرهم وذمة ما قد ينتفع به مثال ذلك تنازعهم في مسائل الأسماء والأحكام والوعد والوعيد فالخوارج والمعتزلة يقولون صاحب الكبائر الذي لم يتب منها مخلد في النار ليس معه شيء من الإيمان ثم الخوارج تقول هو كافر والمعتزلة توافقهم على الحكم لا على الاسم والمرجئة تقول هو مؤمن تام الإيمان لا نقص في إيمانه بل إيمانه كإيمان الأنبياء والأولياء وهذا نزاع في الاسم ثم تقول فقهاؤهم ما تقوله الجماعة في أهل الكبائر فيهم من يدخل النار وفيهم من لا يدخل كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة واتفق عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان فهؤلاء لا ينازعون أهل السنة والحديث في حكمه في الآخرة وإنما ينازعونهم في الإسم وينازعون أيضا فيمن قال ولم يفعل وكثير من متكلمة المرجئة تقول لا نعلم أن أحدا من أهل القبلة من أهل الكبائر يدخل النار ولا أن أحدا منهم لا يدخلها بل يجوز أن يدخلها جميع الفساق ويجوز أن لا يدخلها أحد منهم ويجوز دخول بعضهم ويقولون من أذنب وتاب لا يقطع بقبول توبته بل يجوز دخول أن يدخل النار أيضا فهم يقفون في هذا كله ولهذا سمو الواقفة وهذا قول القاضي أبي بكر وغيره من الأشعرية وغيرهم فيحتج أولئك بنصوص الوعيد وعمومها ويعارضهم هؤلاء بنصوص الوعد وعمومها فقال أولئك الفساق لا يدخلون في الوعد لأنهم لا
5
285(186/199)
حسنات لهم لأنهم لم يكونوا من المتقين وقد قال الله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين سورة المائدة وقال تعالى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى سورة البقرة وقال لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون سورة الحجرات وقال ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم سورة محمد فهذه النصوص وغيرها تدل على أن الماضي من العمل قد يحبط بالسيئات وأن العمل لا يقبل إلا مع التقوى والوعد إنما هو للمؤمن وهؤلاء ليسوا مؤمنين بدليل قوله إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم سورة الأنفال وقوله إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون سورة الحجرات وبقوله أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون سورة السجدة والفاسق ليس بمؤمن فلا يتناوله الوعد وبما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن وقوله من غشنا فليس منا ومن حمل علينا السلاح فليس منا ونحو ذلك
5
286
وتقول المرجئة قوله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين سورة المائدة المراد به من اتقى الشرك ويقولون الأعمال لا تحبط إلا بالكفر قال تعالى لئن أشركت ليحبطن عملك سوة الزمر وقال ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله سورة المائدة ويقولون قد قال تعالى ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها سوة فاطر فقد أخبر أن الثلاثة يدخلون الجنة وقد حكي عن بعض غلاة المرجئة أن أحدا من أهل التوحيد لا يدخل النار ولكن هذا لا أعرف به قائلا معينا فأحكيه عنه ومن الناس من يحكيه عن مقاتل بن سليمان والظاهر أنه غلط عليه
5
287(186/200)
وهؤلاء قد يحتجون بهذه الآية ويحتجون بقوله فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى سورة الليل وقد يحتج بعض الجهال بقوله ذلك يخوف الله به عباده سورة الزمر قال فالوعيد شيء يخوفكم به ويقولون أما قوله ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم سورة محمد فهذه في الكفار فإنه قال والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم سورة محمد وكذلك قوله إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم أتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم سورة محمد فقد أخبر سبحانه أن هؤلاء ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى وأن الشيطان سول لهم وأملى لهم أي وسع لهم في العمر وكان هذا بسبب وعدهم للكفار بالموافقة فقال ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر ولهذا فسر السلف هؤلاء الذين كرهوا ما أنزل الله الذين كانوا سبب نزول هذه الآية بالمنافقين واليهود قالت الوعيدية الله تعالى إنما
5
288(186/201)
وصفهم بمجرد كراهة ما نزل الله والكراهة عمل القلب وعند الجهمية الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه هذا قول جهم والصالحي والأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه وعند فقهاء المرجئة هو قول اللسان مع تصديق القلب وعلى القولين أعمال القلوب ليست من الإيمان عندهم كأعمال الجوارح فيمكن أن يكون الرجل مصدقا بلسانه وقلبه مع كراهة ما نزل الله وحينئذ فلا يكون هذا كافر عندهم والآية تتناوله وإذا دلت على كفره دلت على فساد قولهم قالوا وأما قولكم المتقون الذين اتقوا الشرك فهذا خلاف القرآن فإن الله تعالى قال إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون سورة المرسلات إن المتقين في جنات ونهر سورة القمر وقال ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون سورة البقرة وقالت مريم إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا سورة مريم
5
289
ولم ترد به الشرك بل أرادت التقي الذي يتقي فلا يقدم على الفجور وقال تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب سورة الطلاق وقال تعالى إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم سورة الأنفال وقال تعالى إنه من يتق ويصبر فإن الله أجر المحسنين وقال تعالى لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور سورة آل عمران وقال تعالى ثم جعلناكم على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إلى قوله والله ولي المتقين سورة الجاثية وقال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم سورة الأحزاب فهم قد آمنوا واتقوا الشرك فلم يكن الذي أمرهم به بعد ذلك مجرد ترك الشرك وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته سورة آل
5
290(186/202)
عمران أفيقول مسلم إن قطاع الطريق الذين يسفكون دماء الناس ويأخذون أموالهم اتقوا الله حق تقاته لكونهم لم يشركوا وإن أهل الفواحش وشرب الخمر وظلم الناس اتقوا الله حق تقاته وقد قال السلف ابن مسعود وغيره كالحسن وعكرمة وقتادة ومقاتل حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يشكر فلا يكفر وأن يذكر فلا ينسى وبعضهم يرويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي تفسير الوالبي عن ابن عباس قال هو أن يجاهد العبد في الله حق جهاده وأن لا تأخذه في الله لومة لائم وأن يقوموا له بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم و في الآية أخرى فأتقوا الله ما استطعتم سورة التغابن وهذه مفسرة لتلك ومن قال من السلف هي ناسخة لها فمعناه أنها رافعة لما يظن من أن المراد من حق تقاته ما يعجز البشر عنه فإن الله لم يأمر بهذا قط ومن قال إن الله أمر به فقد غلط ولفظ النسخ في عرف السلف يدخل فيه كل ما فيه نوع رفع لحكم أو ظاهر أو ظن دلالة حتى يسموا تخصيص العام نسخا ومنهم من يسمى الإستثناء نسخا إذا تأخر نزوله
5
291(186/203)
وقد قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم سورة الحج فهذ رفع لشيء ألقاه الشيطان ولم ينزله الله لكن غايته أن يظن أن الله أنزله وقد أخبر أنه نسخة وقد قال تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون سورة الأعراف فمن كان الشيطان لا يزال يمده في الغي وهو لا يتذكر ولا يبصر كيف يكون من المتقين وقد قال تعالى في آية الطلاق ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب سورة الطلاق وفي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يا أبا ذر لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم وكان ابن عباس وغيره من الصحابة إذا تعدى الرجل حد الله في الطلاق يقولون له لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا وفرجا ومعلوم أنه ليس المراد بالتقوى هنا مجرد تقوى الشرك ومن أواخر
5
292(186/204)
ما نزل من القرآن وقيل إنها آخر آية نزلت قوله تعالى واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون سورة البقرة فهل اتقاء ذلك هو مجرد ترك الشرك وإن فعل كل ما حرم الله عليه وترك كل ما أمر الله به وقد قال طلق بن حبيب ومع هذا كان سعيد بن جبير ينسبه إلى الإرجاء قال التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو رحمة الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله وبالجملة فكون المتقين هم الأبرار الفاعلون للفرائض المجتنبون للمحارم هو من العلم العام الذي يعرفه المسلمون خلفا عن سلف والقرآن والأحاديث تقتضي ذلك قالت المرجئة أما احتجاجكم بقوله تعالى أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون سورة السجدة فلا يصح لأن تمام الآية يدل على أن المراد بالفاسق المكذب فإنه قال وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون سورة السجدة فقد وصفهم بالتكذيب بعذاب الآخرة وهذا وصف المكذب لا العاصي وقالوا مع الجمهور للخوارج لو كان صاحب الكبيرة كافرا لكان مرتدا ووجب قتله والله تعالى قد أمر بجلد الزاني وأمر بجلد القاذف وأمر
5
293(186/205)
بقطع السارق ومضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بجلد الشارب فهذه النصوص صريحة بأن الزاني والشارب والسارق والقاذف ليسوا كفارا مرتدين يستحقون القتل فمن جعلهم كفارا فقد خالف نص القرآن والسنة المتواترة وقالوا لهم وللمعتزلة قد قال الله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون سورة الحجرات قالوا فقد سماهم مؤمنين مع الإقتتال والبغي وقد أمر الله تعالى بالإصلاح بينهم وجعلهم إخوة المصلح بينهم الذي لم يقاتل فعلم أن البغي لا يخرج عن الإيمان ولا عن أخوة الإيمان قالت المرجئة وقوله ليس منا أي ليس مثلنا أو ليس من خيارنا فقيل لهم فلو لم يغش ولم يحمل السلاح أكان يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم أو كان يكون من خيارهم بمجرد هذا الكلام وقالت المرجئة نصوص الوعيد عامة ومنا من ينكر صيغ العموم
5
294
ومن أثبتها قال لا يعلم تناولها لكل فرد من أفراد العام فمن لم يعذب لم يكن اللفظ قد شمله فقيل للواقفة منهم عندكم يجوز أن لا يحصل الوعيد بأحد من أهل القبلة فيلزم تعطيل نصوص الوعيد ولا تبقى لا خاصة ولا عامة وليس مقصودنا هنا استيفاء الكلام في المسألة وإنما الغرض التمثيل بالمناظرات من الطرفين وأهل السنة والحديث وأئمة الإسلام المتبعون للصحابة متوسطون بين هؤلاء وهؤلاء لا يقولون بتخليد أحد من أهل القبلة في النار كما تقول الخوارج والمعتزلة لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة لأنه يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان وإخراجه من النار من يخرج بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم فيمن يشفع له من أهل الكبائر من أمته
5
295(186/206)
وهذه أحاديث كثيرة مستفيضة متواترة عند أهل العلم بالحديث ولا يقولون إنا نقف في الأحكام المطلقة بل نعلم أن الله يدخل النار من يدخله من أهل الكبائر وناس آخرون لا يدخلونها لأسباب لكن تنازعوا هل يكون الداخلون بسبب اقتضى ذلك كعظم الذنوب وكثرتها والذين لم يدخلوها بسبب منع ذلك كالحسنات المعارضة ونحوها وأنه سبحانه وتعالى يفعل ما يفعله بحكمة وأسباب أم قد يفرق بين المتماثلين بمحض المشيئة فيعذب الشخص ويعفو عمن هو مثله من كل وجه بمحض المشيئة هذا لهم فيه قولان والنصوص وأقوال السلف توافق الأول وإنما قد نقف في الشخص المعين فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم لأن حقيقة باطنه وما مات عليه لا نحيط به لكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيئ ولهم في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال منهم من لا يشهد بالجنة لأحد إلا للأنبياء وهذا قول محمد بن الحنفية والأوزاعي والثاني أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه نص وهذا قول كثير من أهل الحديث والثالث يشهد بالجنة لهؤلاء ولمن شهد له المؤمنون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أنتم شهداء الله في الأرض وقال يوشك أن
5
296(186/207)
تعلموا أهل الجنة من أهل النار قالوا بم يا رسول الله قال بالثناء الحسن والثناء السيئ فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار وكان أبو ثور يقول أشهد أن أحمد بن حنبل في الجنة ويحتج بهذا وبسط هذه المسألة له موضع آخر والإيمان عندهم يتفاضل فيكون إيمان أكمل من إيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا فيقولون قوله إنما يتقبل الله من المتقين سورة المائدة أي ممن اتقاه في ذلك العمل ليس المراد به الخلو من الذنوب ولا مجرد الخلو من الشرك بل من اتقاه في عمل قبله منه وإن كانت له ذنوب أخرى بدليل قوله وأقم الصلاة طرفى النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات سورة هود فلو كانت الحسنة لا تقبل من صاحب السيئة لم تمحها وقد ثبت بالكتاب والسنة المتواترة الموازنة بين الحسنات والسيئات فلو كانت الكبيرة تحبط الحسنات لم تبق حسنة توزن معها
5
297(186/208)
وقد ثبت في الصحيحين أن بغيا سقت كلبا فغفر الله لها بسقيه قالوا وابنا آدم لم يكن أحدهما مشركا ولكن لم يقصد التقرب إلى الله بالطيب من ماله كما جاء في الأثر فلهذا لم يتقبل الله قربانه وقد قال تعالى في حق المنافقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون سورة التوبة فجعل هذه موانع قبول النفقة دون مطلق الذنوب قال أهل الحديث والسنة ومن نفى عنه الإيمان فلأنه ترك بعض واجباته والعبادة ينفى اسمها بنفي بعض واجباتها لأنها لم تبق كاملة ولا يلزم من ذلك أن لا يبقى منه شيئ بل قد دلت النصوص على أنه يبقى بعضه ويخرج من النار من بقي معه بعضه ومعلوم أن العبادات فيها واجب كالحج فيه واجب إذا تركه كان حجة ناقصا يأثم بما ترك ولا إعادة عليه بل يجبره بدم كرمي الجمار وإن لم يجبره بقي في ذمته فكذلك الإيمان ينقص بالذنوب فإن تاب عاد وإلا بقي ناقصا نقصا يأثم به وقد يحرم في الحج أفعال إذا فعلها
5
298(186/209)
نقص حجة ولم يبطل كالتطيب ولبس الثياب بل يجبر ذلك ولا يفسده من المحرمات إلا الجماع فكذلك لا يزيل الإيمان كله إلا الكفر المحض الذي لا يبقى مع صاحبه شيء من الإيمان قالوا وهذا هو الذي يحبط جميع الأعمال وأما ما دون ذلك فقد يحبط بعض العمل كما في آية المن والأذى فإن ذلك يبطل تلك الصدقة لا يبطل سائر أعماله والذين كرهوا ما أنزل الله كفار وأعمال القلوب مثل حب الله ورسوله وخشية الله ونحو ذلك كلها من الإيمان وكراهة ما أنزل الله كفر وأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وقد قال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله سورة المجادلة وقوله في السابق والمقتصد والظالم لنفسه جنات عدن يدخلونها سورة الرعد لا يمنع أن يكون الظالم لنفسه قد عذب قبل هذا ثم يدخلها وقوله لا يصلاها إلا الأشقى سورة الليل لا يخلو إما أن يكون المراد بالصلي نوعا من التعذيب كما قيل إن الذي تصليه النار هو الذي تحيط به وأهل القبلة لا تحرق النار منهم مواضع السجود أو تكون نارا مخصوصة وقوله يخوف الله به عباده سورة الزمر كقول النبي صلى الله
5
299(186/210)
عليه وسلم في الشمس والقمر إنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده وقد قال تعالى وما نرسل بالآيات إلا تخويفا سورة الإسراء والآيات التي خوف الله بها عباده تكون سببا في شر ينزل بالناس فمن اتقى الله بفعل ما أمر به وفي ذلك الشر ولو كان مما لا حقيقة له أصلا لم يخف أحد إذا علم أنه لا شر في الباطن وإنما يبقى التخويف للجاهل الفدم كما يفزغ الصبيان بالخيال وقد قال تعالى ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون سورة الزمر فخوف العباد مطلقا وأمرهم بتقواه لئلا ينزل المخوف وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين والإنذار هو الإعلام بما يخاف منه وقد وجدت المخوفات في الدنيا وعاقب الله على الذنوب أمما كثيرة كما قصه في كتابه وكما شوهد من من الآيات وأخبر عن دخول أهل النار النار في غير موضع من القرآن وقال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء سورة فاطر ولو كان الأمر كما يتوهمه الجاهل لكان إنما يخشاه من عباده الجهال الذين
5
300(186/211)
يتخيلون ما لا حقيقة له وهذا كله مبسوط في موضعه وإنما الغرض هنا التمثيل بأقوال المختلفين التي كلها باطلة ومثال ذلك إذا تنازع في القدر القدرية من المعتزلة وغيرهم والقدرية المجبرة من الجهمية وغيرهم فقالوا جميعا إرادة الله هي محبته وهي رضاه ثم قالت المعتزلة وهو سبحانه يحب الإيمان والعمل الصالح ويكره الكفر والفسوق والعصيان فلا يكون مريدا له قالوا والدليل على ذلك قوله ولا يرضى لعباده الكفر سورة الزمر وقوله إذ يبيتون ما لا يرضى من القول سورة النساء وقوله والله لا يحب الفساد سورة البقرة والفقهاء متفقون على أن أفعال البر تنقسم إلى واجب ومستحب والمستحب هو ما أحبه الله ورسوله وأن المنهي عنه كله مكروه كرهه الله ورسوله والكراهة نوعان كراهة تحريم وكراهة تنزيه وقد قال تعالى لما ذكر المحرمات كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها سورة الإسراء وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله يكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة
5
301
المال وفي الصحيح أيضا عنه أنه قال إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب قالوا فهل دليل على أنه يكون في العالم ما هو مكروه لله فلا يكون مرادا لله فيكون في العالم ما لا يريده الله وهو ما لم يأمر الله به أو ينه عنه قالوا والأمر لا يعقل أمرا إلا بإرادة الأمر لما أمر به المأمور ومن قدر أن الأمر يطلب المأمور به طلبا لا يكون إرادة ولا مستلزما للإرادة فهذا قد أدعى ما يعلم فساده بالضرورة وما يحتج به من التمثيل بأمر الممتحن فذاك لم يكن طالبا للمأمور به ولا مريدا له في الباطن بل أظهر أنه مريد طالب وقالوا قد قال الله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر سورة البقرة
5
302(186/212)
وقال تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون سورة المائدة وقال تعالى يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حليم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا سورة النساء وقال الله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا سورة الأحزاب فهذه المرادات كلها قد أمر بها عباده فمنهم من أطاع ومنهم من عصى فعلم أنه قد يريد من العباد ما لا يفعلونه كما يأمرهم بما لا يفعلونه قالت القدرية الجبرية من الجهمية ومن اتبعهم بل إرادته تعالى تتناول ما وجد دون ما لم يوجد فإن المسلمين متفقون على قولهم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولأن إرادة ما علم أنه لا يكون تمن وقد قال سبحانه ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء سورة إبراهيم فكل ما يشاؤه فقد فعله وقال تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها فعلم أنه لم يشأ ذلك فلم يرد هدى كل أحد وإن كان قد أمر به
5
303(186/213)
وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء سورة الأنعام فعلم أنه يريد الإضلال كما يريد شرح الصدر للإسلام وقال نوح ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم سورة هود فدل على أنه يريد إغواء من غوى وقد قال تعالى الله خالق كل شيء سورة الرعد فكل ما وجد من أفعال العباد وغيرها فإن الله خالقه قالوا وما أراده فقد أحبه ورضيه وقوله لا يحب الفساد سورة البقرة أي ممن لم يفسد أولا يحبه دينا وكذلك قوله ولا يرضى لعباده الكفر سورة الزمر أي ممن لم يكفر أو لا يرضاه دينا كما وأنه لا يحب الإيمان ممن لم يؤمن أو لا يحبه غير دين قال المنازعون لهم من المعتزلة وغيرهم فقد قال إذ يبيتون ما لا يرضى من القول سورة النساء وأولئك منافقون وذاك القول محرم عليهم وهو واقع منهم وقد أخبر أنه لا يرضاه فعلم أنه ما وقع من المعاصي لا يرضاه وكذلك قوله إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده
5
304(186/214)
الكفر سورة الزمر أخبر أنه لا يرضاه بتقدير وقوعه ولا يقال أنه يرضى كل موجود وقولكم لا يرضاه دينا فالرضا في كتاب الله متعلق بنفس الفعل لا بشيء محذوف وكونه لا يرضاه دينا عندكم معناه لا يريد أن يثيب صاحبه عليه ومعلوم أن إبليس والشياطين لا يرضونه دينا بهذا الإعتبار مع أن إبليس يرضى الكفر ويختاره فإنه قد يحب ما يبغضه الله ويبغض ما يحبه الله ليغوي الناس بذلك قال الله تعالى عنه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا سورة الكهف وقال تعالى ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن أعبدوني هذا صراط مستقيم سورة يس قالوا والأمة متفقة على أن الله سبحانه يحب الإيمان والعمل الصالح ويحب المتقين والمحسنين ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب المقسطين ولا يحب المعاصي ولا يرضاها واحتجاجنا بهذا الإجماع أقوى من احتجاجكم بقولهم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فإنهم كلهم يقولون إن الصلاة والصدقة والأعمال الصالحة يرضاها الله ورسوله ويحبها الله ورسوله ويقولون عن الفواحش والظلم هذا لا يرضاه الله ورسوله ولا يحبه الله ورسوله
5
305(186/215)
فأنتم خالفتم الكتاب والسنة والإجماع في قولكم إن كل ما وقع من الكفر والفسوق والعصيان فإن الله يحبه ويرضاه قالت القدرية المجبرة من الجهمية وغيرهم أنتم تقولون إن الله لم يختص المؤمنون بنعمة اهتدوا بها بل نعمته على الكفار والمؤمنين في الإيمان سواء وهذا خلاف الشرع والعقل فإن الله تعالى يقول ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون سورة الحجرات قال تعالى يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين وقال تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا سورة الأنعام وقال ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا سورة النور وقال تعالى وأعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه سورة الأنفال وقال الخليل عليه السلام ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك سورة البقرة وقال واجنبنى وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس سورة إبراهيم وقال تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين سورة التكوير
5
306(186/216)
وقال فمن شاء أتخذ إلى ربه سبيلا سورة المزمل وقال وما تشآءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما سورة الإنسان وقال فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة سورة المدثر وقد أمرنا أن نقول في الصلاة اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في قوله تعالى فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا سورة النساء والإنعام المطلق إنما يدخل فيه المؤمنون فدل ذلك على أن الطاعة الحاصلة من المؤمنين هو الذي أنعم بها ولو كانت نعمته عليهم كنعمته على الكفار لكان الجميع من المنعم عليهم أهل الصراط المستقيم وقوله تعالى غير المغضوب عليهم سورة الفاتحة صفة لا استثناء لأنه خفض غير كما تقول العرب إني لأمر بالصادق غير
5
307(186/217)
الكاذب فالمغضوب عليهم والضالون لم يدخلوا في المنعم عليهم حتى يخرجوا بل بين أن هؤلاء مغايرون لأولئك كمغايرة الصادق للكاذب وقد قال تعالى من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا سورة الكهف فدل على أن كل من هداه الله اهتدى ولو هدى الكافر كما هدى المؤمن لاهتدى وقال الخليل رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا أغفر لي ولوالدي سورة ابراهيم فتبين أنه سبحانه هو الذي يجعله مقيم الصلاة وقال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا سورة الأنبياء وقال تعالى وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار سورة القصص فهو الذي جعل هؤلاء أئمة هدى وهؤلاء أئمة ضلال وقال تعالى فبما رحمة من الله لنت لهم سورة آل عمران فبين أن لينه برحمة من الله وقال أهل الجنة الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق سورة الأعراف وقال تعالى لما ذكر الأنبياء ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون إلى قوله
5
308(186/218)
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده سورة الأنعام فأخبر أنه يخص بهذا الهدى من يشاء من عباده وأخبر أن هؤلاء هم الذين هداهم الله فعلم أنه خص بهذا الهدى من اهتدى به دون من لم يهتد به ودل على تخصيص المهتدين بأنه هداهم ولم يهد من لم يهتد والهدى يكون بمعنى البيان والدعوة وهذا يشترك فيه المؤمن والكافر كقوله تعالى وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى سورة فصلت ويكون بمعنى جعله مهتديا وهذا يختص بالمؤمنين وهو المطلوب بقوله اهدنا الصراط المستقيم سورة الفاتحة وبقوله هدى للمتقين سورة البقرة وذلك أن هدى بمعنى دل وأرشد قد يكون بالقوة فهذا مشترك وقد يكون بالفعل فهذا مختص كما تقول علمته فتعلم وعلمته فما تعلم وكذلك هديته فاهتدى وهديته فما اهتدى فالأول مختص بالمؤمنين والثاني مشترك وليس تعليمه وهداه كتعليم البشر بعضا فإن المعلم يقول والمتعلم يتعلم بأسباب لا يقدر عليها المعلم والله تعالى هو الذي يجعل العلم في قلوب من علمه ولهذا يطلب منه ذلك فيقال اهدنا الصراط المستقيم ولا يقال ذلك للبشر فإنهم لا يقدرون عليه
5
309
ويطلب العبد من الله أن يفهمه ويعلمه ويشرح صدره وأن يحبب إليه الإيمان والعمل الصالح ولا يطلب هذا من غير الله قال تعالى أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه سورة الزمر وقال فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا سورة الأنعام وقال ففهمناها سليمان سورة الأنبياء فخص سليمان بالتفهيم مع أنهما كانا حاكمين لم يخص أحدهما بعلم ظاهر وقال تعالى ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها سورة الشمس وكانت أكثر يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ومقلب القلوب وقال ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع
5
310(186/219)
الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه وقد قال تعالى في دعاء المؤمنين ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب سورة آل عمران و قال تعالى ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله سورة الكهف وقال ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا سورة يس وقال ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة سورة هود وقال ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات سورة البقرة وقال ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها سورة السجدة وقال ولو شاء ربك ما فعلوه سورة الأنعام وقال ولو شاء ربك ما أشركوا سورة الأنعام وقال إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا
5
311
يبصرون سورة يس والآيات والنصوص المثبتة للقدر كثيرة جدا وهذا كله حجة على بطلان قول المعتزلة وغيرهم من القدرية النافية فصار مع هؤلاء نصوص يقولون بها ومع هؤلاء نصوص وكل من الطائفتين يتأول نصوص الأخرى بتأويلات فاسدة ويضم إلى النصوص التي يحتج بها أمور لا تدل عليها النصوص وأما أهل السنة والحديث من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وعلماء أهل السنة والحديث رضي الله عنهم فآمنوا بالكتاب كله ولم يحرقوا شيئا من النصوص وقالوا نحن نقول ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ونقول إن الله خالق كل شيء وربه ومليكه فكل ما سوى الله مخلوق له حادث بمشيئته وقدرته ولا يكون في ملكه ما لا يشاؤه ويخلقه فلا يقدر أحد أن يمنع الله عما أراد أن يخلقه ويكونه فإن الواحد القهار ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم سورة فاطر وقالوا إن الله يأمر بالإيمان والعمل الصالح وينهى عن الكفر والفسوق والعصيان ويحب كل ما أمر به ويرضاه ويكره ما نهى عنه
5
312(186/220)
ويسخطه وهو سبحانه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر قالوا وليس كل ما أمر العباد به وأراد منهم أن يفعلوه أراد هو أن يخلقه لهم ويعينهم عليه بل إعانته على الطاعة لمن أمره بها فضل منه كسائر النعم وهو يختص برحمته من يشاء والطائفتان غلطوا من حيث أنهم لم يميزوا بين إرادته لما يخلقه في عباده وإرادته لما يأمر به عباده وقد قال سبحانه ألا له الخلق والأمر سورة الأعراف فالرب خالق كل شيء وكل ما خلقه فبإرادته خلقه فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما لم يكن لم يرد أن يخلقه وما كان فقد أراد أن يخلقه وهو لا يريد أن يخلق إلا ما سبق علمه بأنه سيخلقه فإن العلم يطابق المعلوم وقد أمر العباد بالحسنات التي تنفعهم ونهاهم عن السيئات التي تضرهم والحسنات محبوبة لله مرضية والسيئات مكروهه له يسخطها ويسخط على أهلها وإن كان الجميع مخلوقا له فإنه خلق جبريل وإبليس وهو يحب جبريل ويبغض إبليس وخلق الجنة والنار وجعل الظلمات والنور وخلق الظل والحرور وخلق الموت والحياة وخلق الذكر والأنثى وخلق الأعمى والبصير
5
313(186/221)
وقد قال لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون سورة الحشر وقال وما يستوى الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات سورة فاطر وقال أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون سورة القلم وقال أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار سورة ص وقال أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون سورة الجاثية وقد خلق الطيبات والخبائث وليس الطيبات كالخبائث ولا الفواكة والحبوب كالبول والعذرة وهو سبحانه إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وهو طيب لا يقبل إلا طيبا وهو نظيف يحب النظافة وجميل يحب الجمال وليس كل ما خلقه يصعد إليه ويكون طيبا محبوبا له له مرضيا عنده بل إنما يسكن في جنته من يناسبها ويصلح لها وكذلك النار قال تعالى طبتم فأدخلوها خالدين سورة الزمر
5
314
وفي الصحيح أنه إذا عبر أهل الجنة الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فلا يدخلون الجنة إلا بعد التهذيب والتنقية كما قال تعالى طبتم فادخلوها خالدين سورة الزمر ولما قال إبليس أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فأخرج إنك من الصاغرين سورة الأعراف فبين سبحانه أنه ليس لمن في الجنة أن يتكبر وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان قال رجل يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا أفمن الكبر ذاك قال لا إن الله جميل يحب
5
315(186/222)
الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس وقوله جميل يحب الجمال أي يحب أن يتجمل العبد له ويتزين كما قال تعالى خذوا زينتكم عند كل مسجد سورة الأعراف وهو يكره أن يصلي العبد له عريانا بل يكره سبحانه أن تصلي المرأة له مكشوفة الرأس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ولهذا لما كان المشركون يطوفون بالبيت عراة ويقولون إن الله أمرنا بهذا قال تعالى إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون سورة الأعراف فتحسين النعل والثوب لعبادة الله هو من التجمل الذي يحبه الله ولو تزين به لمعصية لم يحب ذلك والمؤمن الذي نور الله قلبه بالإيمان يظهر نور الإيمان على وجهه ويكسى محبة ومهابة والمنافق
5
316
بالعكس وأما الصورة المجردة سواء كانت حسنة مشتهاة كشهوة الرجال للنساء والنساء للرجال أو لم تكن مشتهاة فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ويقال ولا إلى لباسكم وقد قال تعالى وإذا تتلى عليهم أياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا وكم أهلكنا قبلكم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا سورة مريم والأثاث اللباس والمال والرئى المنظر والصورة وقال تعالى عن المنافقين وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون سورة المنافقون فبين أن لهم أجساما ومناظر قال ابن عباس كان ابن أبي جسيما فصيحا طلق اللسان قال المفسرون وصفهم الله بحسن الصورة وإبانة المنطق ثم أبان أنهم في عدم الفهم والإستغفار بمنزلة الخشب المسندة الممالة إلى الجدار والمراد أنها ليست بأشجار تثمر بل هي خشب مسندة إلى
5
317(186/223)
حائط ثم عابهم بالجبن فقال يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون أي لايسمعون صوتا إلا ظنوا أنهم قد أتوا لما في قلوبهم من الرعب أن يكشف الله أسرارهم فصاحب الصورة الجميلة إذا كان من أهل هذه الأعمال التي يبغضها الله كان الله يبغضه ولا يحبه لجماله فإن الله لا ينظر إلى صورته وإنما ينظر إلى قلبه وعمله ويوسف الصديق وإن كان أجمل من غيره من الأنبياء وفي الصحيح أنه أعطى شطر الحسن فلم يكن بذلك أفضل من غيره بل غيره أفضل منه كإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين ويوسف وإن كانت صورته أجمل فإن إيمان هؤلاء وأعمالهم كانت أفضل من إيمانه وعمله وهؤلاء أوذوا على نفس الإيمان والدعوة إلى الله فكان الذين عادوهم معادين لله ورسوله وكان صبرهم صبرا على توحيد الله وعبادته
5
318(186/224)
وطاعته وهكذا سائر قصص الأنبياء التي في القرآن ويوسف عليه السلام إنما آذاه إخوته لتقريب أبيه له حسدا على حظ من حظوظ الأنفس لا على دين ولهذا كان صبره على التي راودته وحبس الذين حبسوه على ذلك أفضل له من صبره على أذى إخوته فإن هذا صبر على تقوى الله باختياره حتى لا يفعل المحرم وذلك صبر على أذى الغير الحاصل بغير اختياره فهذا من جنس صبر المصاب على مصيبته وذاك من جنس صبر المؤمن على الذين يأمرونه بالمعاصي ويدعونه إليها فيصبر على طاعة الله وعن معصيته ويغلب هواه وشهوته وهذا أفضل فأما صبر إبراهيم وموسى وعيسى ونبينا صلوات الله وسلامه عليهم على أذى الكفار وعدواتهم على الإيمان بالله ورسوله فذاك أفضل من هذا كله كما أن التوحيد والإيمان أفضل من مجرد ترك الزنا وكما أن تلك الطاعات أعظم فالصبر عليها وعلى معاداة أهلها أعظم وأيضا فهؤلاء كانوا يطلبون قتل من يؤمن وإهلاكه بكل طريق لا يحبون المؤمنين أصلا بخلاف يوسف فإنه إنما ابتلى بالحبس وكانت المرأة تحبه فلم تعاقبه بأكثر من ذلك وقوله تعالى نحن نقص عليك أحسن القصص سورة يوسف سواء كان القصص مصدر قص يقص قصصا أو كان مفعولا أي أحسن
5
319(186/225)
المقصوص فذاك لا يختص بقصة يوسف بل قصة موسى أعظم منها قدرا وأحسن ولهذا كرر ذكرها في القرآن وبسطها قال تعالى فلما جاءه وقص عليه القصص سورة القصص ولهذا قال بما أوحينا إليك هذا القرآن سورة يوسف وقد قرىء أحسن القصص بالكسرة ولا تختص بقصة يوسف بل كل ما قصه الله فهو أحسن القصص فهو أحسن مقصوص وقد قصه الله أحسن قصص وقوله صلى الله عليه وسلم إن الله جميل يحب الجمال قاله جوابا للسائل في بيان ما يحبه الله من الأفعال وما يكرهه فإنه صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ومعلوم أن هذا الكبر من كسب العبد الداخل تحت قدرته ومشيئته وهو منهي عنه ومأمور بضده فخاف السائل أن يكون ما يتجمل به الإنسان فيكون أجمل به ممن لم يعمل مثله من الكبر المذموم فقال إني أحب أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنا أفمن الكبر ذاك وحسن ثوبه ونعله هو مما حصل بفعله وقصده ليس هو شيئا مخلوقا فيه بغير كسبه كصورته فقال له لنبي صلى الله عليه وسلم إن الله جميل يحب الجمال ففرق بين الكبر الذي يمقته الله وبين الجمال
5
320(186/226)
الذي يحبه الله ومعلوم أن الله إذا خلق شخصا أعظم من شخص وأكبر منه في بعض الصفات إما في جسمه وإما في قوته وإما في عقله وذكائه ونحو ذلك لم يكن هذا مبغضا فإن هذا ليس باختيار العبد بل هذا خلق فيه بغير اختياره بخلاف ما إذا كان هو متكبرا على غيره بذلك أو بغيره فيكون هذا من عمله الذي يمقته الله عليه كما قال لإبليس فما يكون لك أن تتكبر فيها سورة الأعراف كذلك من خلقه الله حسن اللون معتدل القامة جميل الصورة فهذا ليس من عمله الذي يحمد عليه أو يذم أو يثاب أو يعاقب ويحبه الله ورسوله عليه أو يبغضه عليه كما أنه إذا كان أسود أو قصيرا أو طويلا ونحو ذلك لم يكن هذا من عمله الذي يحمد عليه أو يذم ويثاب أو يعاقب ويحبه الله ورسوله عليه أو يبغضه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى ولهذا لما كان المنافقون لهم جمال في الصورة وليس في
5
321(186/227)
قلوبهم إيمان شبهم الله سبحانه بالخشب المسندة اليابسة التي لا تثمر فالخشبة اليابسة إذا كانت لا ثمر فيها لا تمدح ولو كانت عظيمة وهكذا الصورة مع القلب نعم قد تكون الصورة عونا على الإيمان والعمل الصالح كما تكون القوة والمال وغير ذلك فيحمد صاحبها إذا استعان بها في طاعة الله وعف عن معاصيه ويكون حينئذ في الجمال الذي يحبه الله ولو كان أسود وفعل ما يحبه الله من الجمال كان أيضا فيه الجمال الذي يحبه الله والمقصود هنا ذكر ما يحبه الله ويرضاه وهو الذي يثاب أصحابه عليه ويدخلون الجنة ومن المعلوم أن الفرق بين مطلق الإدارة وبين المحبة موجود في الناس وغيرهم فالإنسان يريد كل ما يفعله باختياره وإن كان في ذلك ما هو بغيض إليه مكروه له يريده لأنه وسيلة إلى ما هو محبوب له كما يريد المريض تناول الدواء الذى يكرهه ويتألم منه لأنه وسيلة إلى من يحبه ما العافية وإلى زوال ما هو أبغض إليه من الآلام والجهمية والقدرية إنما لم تفرق بين ما يشاؤه وما يحبه لأنهم لا يثبتون لله محبة لبعض الأمور المخلوقة دون بعض وفرحا بتوبة التائب وكان أول من أنكر هذا الجعد بن درهم فضحى به خالد بن
5
322(186/228)
عبد الله القسرى وقال ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله يكلم موسى تكليما ولا اتخذ إبراهيم خليلا تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علوا كبيرا ثم نزل عن المنبر فذبحه فإنه الخلة من توابع المحبة فمن كان من أصله أن الله لا يحب ولا يحب لم يكن للخلة عنده معنى والرسل صلوات الله عليهم أجمعين إنما جاءوا بإثبات هذا الأصل وهو أن الله يحب بعض الأمور المخلوقة ويرضاها ويسخط بعض الأمور ويمقتها وأن أعمال العباد ترضية تارة وتسخطه أخرى قال تعالى ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم سورة محمد وقال تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم سورة الفتح وقال فلما أسفونا انتقمنا منهم سورة الزخرف عن أبن عباس أغضبونا قال ابن قتيبة الأسف الغضب يقال أسفت
5
323(186/229)
أسفا أي غضبت وقال الله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما سورة النساء و قد ثبت في الصحيح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بارض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فطلبها فلم يجدها فقال تحت شجرة ينتظر الموت فاستيقظ فإذا هو بدابته عليها طعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته والفرح إنما يكون بحصول المحبوب والمذنب كالعبد الآبق من مولاه الفار منه فإذا تاب فهو كالعائد إلى مولاه وإلى طاعته وهذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم يبين من محبة الله وفرحه بتوبة العبد ومن كراهته لمعاصيه ما يبين أن ذلك أعظم من التمثيل بالعبد الآبق فإن الإ نسان إذا فقد الدابة التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة فإنه يحصل عنده ما الله به عليم من التأذي من جهة فقد الطعام والشراب والمركب وكون الأرض مفازة لا يمكن الخلاص منها وإذا طلبها فلم يجدها يئس واطمأن إلى الموت وإذا استيقظ فوجدها كان عنده من الفرح ما لا يمكن التعبير عنه بوجود ما يحبه
5
324(186/230)
ويرضاه بعد الفقد المنافي لذلك وهذا يبين من محبة الله للتوبة المتضمنة للإيمان والعمل الصالح ومن كراهته لخلاف ذلك ما يرد على منكر الفرق من الجهمية والقدرية فإن الطائفتين تجعل جميع الأشياء بالنسبة إليه سواء ثم القدرية يقولون هو يقصد نفع العبد لكون ذلك حسنا ولا يقصد الظلم لكونه قبيحا والجهمية يقولون إذا كان لا فرق بالنسبة إليه بين هذا وهذا امتنع أن يكون عنده شيء حسن وشيء قبيح وإنما يرجع ذلك إلى أمور إضافية للعباد فالحسن بالنسبة إلى العبد ما يلائمه وما ترتب عليه ثواب يلائمه والقبيح بالعكس ومن هنا جعلوا المحبة والإرادة سواء فلو أثبتوا أنه سبحانه يحب ويفرح بحصول محبوبه كما أخبر به الرسول تبين لهم حكمته وتبين أيضا أنه يفعل الأفعال لحكمة فإن الجهمية قالوا إذا كانت الأشياء بالنسبة إليه سواء امتنع أن يفعل لحكمة والمعتزلة قالوا يفعل لحكمة تعود إلى العباد فقالت لهم الجهمية تلك الحكمة يعود إليه منها حكم أو لا يعود فالأول خلاف الأصل الذي أصلتموه والثاني ممتنع فيمتنع أن أحدا يختار الحسن على
5
325(186/231)
القبيح إن لم يكن له من فعل الحسن معنى يعود إليه فيكون فعل الحسن يناسبه بخلاف القبيح فإذا قدر نفي ذلك امتنع أن يفعل لحكمة ثم إن هده الصفة من أعظم صفات الكمال وكذلك كونه محبوبا لذاته هو أصل دين الرسل فإنهم كلهم دعوا إلى عبادة الله وحده وأن لا إله إلا هو والإله هو المستحق أن يعبد والعبادة لا تكون إلا بتعظيم ومحبة وإلا فمن عمل لغيره لعوض يعطيه إياه ولم يكن يحبه لم يكن عابدا له وقد قال تعالى يحبهم ويحبونه سورة المائدة وقال تعالى والذين آمنوا أشد حبا لله سورة البقرة وهؤلاء الذين ينفون أن الله يحب ويحب آخر أمرهم أنه لا يبقى عندهم فرق بالنسبة الى الله بين أوليائه وبين أعدائه ولا بين الإيمان والكفر ولا بين ما أمر به وما نهى عنه ولا بين بيوته التي هي المساجد وبين الحانات ومواضع الشرك وغاية ما يثبتونه من الفرق أن هذا علم على لذة تحصل للإنسان وهذا علم على ألم يحصل للإنسان فان كانوا من الصوفية الذين
5
326
يجعلون الكمال في فناء العبد عن حظوظه دخلوا في مقام الفناء في توحيد الربوبية الذي يقولون فيه العارف لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة ويجعلون هذا غاية العرفان فيبقى عندهم لا فرق بين أولياء الله وأعدائه ولا بين الإيمان والكفر به ولا بين حمده والثناء عليه وعبادته وبين سبه وشتمه وجعله ثالث ثلاثة ولا بين رسول الله وبين أبي جهل ولا بين موسى وفرعون وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع وإن كان من المتكلمين الذين يقولون ما ثم إلا ما هو حظ للعبد من المخلوقات صاروا مسخرين في العبادات مستثقلين لها وفي قلوبهم مرتع للشيطان فإنه يقع لهم لم لا ينعم بالثواب بدون هذا التكليف فإذا أجابوا أنفسهم بأن هذا ألذ كان هذا من أبرد الأجوبة وأسمجها
5
327(186/232)
فإن هذا إنما يقال في المناظرين وأما رب العالمين فلا أحد إلا وهو مقر بفضله وإحسانه ثم يقال قد حصل بطلب الألذ من شقاوة الأكثرين ما كان خلقهم في الجنة ابتداء بلا هذا الألذ أجود لهم وهو قادر على خلق لذات عظيمة إلى أمثال هذه الأجوبة وإن كان من المرجئة الذين إيمانهم بالوعيد ضعيف استرسلت نفسه في المحرمات وترك الواجبات حتى يكون من شر الخلق بخلاف من وجد حلاوة الإيمان بمحبة الله وعلمه بأنه يحب العبادات وأنه يحب أفعالا وأشخاصا ويبغض أفعالا وأشخاصا ويرضى عن هؤلاء ويغضب على هؤلاء ويفرح بتوبة التائبين إلى غير ذلك مما أخبر به الرسول فإن هذا هو الإسلام الذي به يشهد العبد أن لا إله إلا الله ومن لم يقل بالفرق فلم يجعل الله معبودا محبوبا فإنما يشهد أن لا رب إلا هو والمشركون كانوا يقرون بهذه الشهادة لم يشهدوا أن لا إله إلا الله والرسل عليهم الصلاة والسلام بعثوا بتوحيد الألوهية المتضمن توحيد الربوبية وأما توحيد الربوبية مجردا فقد كان المشركون يقرون بأن الله وحده خالق السموات والأرض كما أخبر الله بذلك عنهم في
5
328(186/233)
غير موضع من القرآن قال تعالى ولئن سألتم من خلق السموات والأرض ليقولن الله سورة الزمر وقال تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون سورة يوسف وهذا قد بسطناه في موضع آخر وهؤلاء يدعون محبة الله في الإبتداء ويعظمون أمر محبته ويستحبون السماع بالغناء والدفوف والشبابات ويرونه قربة لأن ذلك بزعمهم يحرك محبه الله في قلوبهم وإذا حقق أمرهم وجدت محبتهم تشبه محبة المشركين لا محبة الموحدين فإن محبة الموحدين بمتابعة الرسول والمجاهدة في سبيل الله قال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم سورة آل عمران وقال تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره سورة التوبة وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم سورة المائدة وهؤلاء لا يحققون متابعة الرسول ولا الجهاد في سبيل الله بل كثير
5
329(186/234)
منهم أو أكثرهم يكرهون متابعة الرسول وهم من أبعد الناس عن الجهاد في سبيل الله بل يعاونون أعداءه ويدعون محبته لأن محبتهم من جنس محبة المشركين الذين قال الله فيهم وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية سورة الأنفال ولهذا يحبون سماع القصائد أعظم مما يحبون سماع القرآن ويجتهدون في دعاء مشايخهم والإستعانة بهم عند قبورهم وفي حياتهم في مغيبهم أعظم مما يجتهدون في دعاء الله والإستعانة به في المساجد والبيوت وهذا كله من فعل أهل الشرك ليس من فعل المخلصين لله دينهم كالصحابة والتابعين لهم بإحسان فأولئك أنكروا محبته وهؤلاء دخلوا في محبة المشركين والطائفتان خارجتان عن الكتاب والسنة فنفس محبته أصل لعبادته والشرك في محبته أصل الإشراك في عبادته وأولئك فيهم شبه من اليهود وعندهم كبر من جنس كبر اليهود وهؤلاء فيهم شبه من النصارى وفيهم شرك من جنس شرك النصارى والنصارى ضالون لهم عبادة ورحمة ورهبانية لكن بلا علم ولهذا يتبعون أهواءهم بلا علم قال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في
5
330(186/235)
دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق سورة النساء وقال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل سورة المائدة أي وسط الطريق وهي السبيل القصد الذي قال الله فيها وعلى الله قصد السبيل سورة النحل وهي الصراط المستقيم فأخبر بتقدم ضلالهم ثم ذكر صفة ضلالهم والأهواء هي إرادات النفس بغير علم فكل من فعل ما تريده نفسه بغير علم يبين أنه مصلحة فهو متبع هواه والعلم بالذي هو مصلحة العبد عند الله في الآخرة هو العلم الذي جاءت به الرسل قال تعالى فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله سورة القصص وقال تعالى ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير سورة البقرة وقال تعالى فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق سورة المائدة وقال تعالى ثم جعلناكم على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون سورة الجاثية
5
331
ولهذا كان مشايخ الصوفية العارفون أهل الإستقامة يوصون كثيرا بمتابعة العلم ومتابعة الشرع لأن كثيرا منهم سلكوا في العبادة لله مجرد محبة النفس وإراداتها وهواها من غير اعتصام بالعلم الذي جاء به الكتاب والسنة فضلوا بسبب ذلك ضلالا يشبه ضلال النصارى ولهذا قال بعض الشيوخ وهو أبو عمرو بن نجيد كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل وقال سهل كل عمل بلا اقتداء فهو عيش النفس وكل عمل باقتداء فهو عذاب على النفس وقال أبو عثمان النيسابوري من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق
5
332(186/236)
بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة لأن الله تعالى يقول وإن تطيعوه تهتدوا سورة النور وقال بعضهم ما ترك أحد شيئا من السنة إلا لكبر في نفسه وهو كما قالوا فإنه إذا لم يكن متبعا للأمر الذي جاء به الرسول كان يعمل بإرادة نفسه فيكون متبعا لهواه بغير هدى من الله وهذا عيش النفس وهو من الكبر فإنه شعبة من قول الذين قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله سورة الأنعام وكثير من هؤلاء يظن أنه يصل برياضته واجتهاده في العبادة وتصفية نفسه إلى ما وصلت إليه الأنبياء من غير اتباع لطريقهم وفيهم طوائف يظنون أنهم صاروا أفضل من الأنبياء وأن الولي الذي يظنون هم أنه الولي أفضل من الأنبياء وفيهم من يقول إن الأنبياء والرسل إنما يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء ويدعي في نفسه أنه خاتم الأولياء ويكون ذلك العلم هو حقيقة قول فرعون إن هذا
5
333
الوجود المشهود واجب بنفسه ليس له صانع مباين له لكن هذا يقول هو الله وفرعون أظهر الإنكار بالكلية لكن كان فرعون في الباطن أعرف منهم فإن كان مثبتا للصانع وهؤلاء ظنوا أن الوجود المخلوق هو الوجود الخالق كما يقول ذلك ابن عربي وأمثاله من الإتحادية والمقصود ذكر من عدل عن العبادات التي شرعها الرسول إلى عبادات بإرادته وذوقه ووجده ومحبته وهواه وأنهم صاروا في أنواع من الضلال من جنس ضلال النصارى ففيهم من يدعي إسقاط وساطة الأنبياء والوصول إلى الله بغير طريقهم ويدعي ما هو أفضل من النبوة ومنهم من يدعي الإتحاد والحلول الخاص إما لنفسه وإما لشيخه وإما لطائفته الواصلين إلى حقيقة التوحيد بزعمه وهذا قول النصارى والنصارى موصوفون بالغلو وكذلك هؤلاء
5
334(186/237)
مبتدعة العباد الغلو فيهم وفي الرافضة ولهذا يوجد في هذين الصنفين كثير ممن يدعي إما لنفسه وإما لشيخه الإلهية كما يدعيه كثير من الإسماعيلية لائمتهم بني عبيد وكما يدعيه كثير من الغالية إما للاثنى عشر وإما لغيرهم من أهل البيت ومن غير أهل البيت كما تدعيه النصيرية وغيرهم وكذلك في جنس المبتدعة الخارجين عن الكتاب والسنة من أهل التعبد والتأله والتصوف منهم طوائف من الغلاة يدعون الإلهية ودعوى ما هو فرق النبوة وإن كان متفلسفا يجوز وجود نبي بعد محمد كالسهروردي المقتول في الزندقة وابن سبعين وغيرهما صاروا
5
335
يطلبون النبوة بخلاف ما أقر بما جاء به الشرع ورأى أن الشرع الظاهر لا سبيل إلى تغييره فإنه يقول النبوة ختمت لكن الولاية لم تختم ويدعي من الولاية ما هو أعظم من النبوة وما يكون للأنبياء والمرسلين وأن الأنبياء يستفيدون منها ومن هؤلاء من يقول بالحلول والإتحاد وهم في الحلول والإتحاد نوعان نوع يقول بالحلول والإتحاد العام المطلق كابن عربي وأمثاله ويقولون في النبوة إن الولاية أعظم منها كما قال ابن عربي
5
336
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولى وقال ابن عربي في القصوص وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأنبياء وما يراه أحد من الأنبياء إلا من مشكاة خاتم الأنبياء وما يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة خاتم الأولياء حتى أن الرسل إذا رأوه لا يرونه إذا رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فإن الرسالة والنبوة أعنى رسالة التشريع ونبوته تنقطعان وأما الولاية فلا تنقطع أبدا فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فكيف بمن دونهم من الأولياء وإن كان
5
337(186/238)
خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه فإنه من وجه يكون أنزل ومن وجه يكون أعلى قال ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم البوة بالحائط من اللبن فرآها قد كملت إلا موضع لبنة فكان هو صلى الله عليه وسلم موضع اللبتة وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا فيرى ما مثله النبي صلى الله عليه وسلم ويرى نفسه في الحائط موضع لبنتين ويرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين فيكمل الحائط والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أن الحائط لبنة من ذهب
5
338
ولبنة من فضة واللبنة الفضة هي ظاهرة وما يتبعه فيه من الأحكام كما هو آخذ عن الله في السر ما هو في الصورة الظاهرة متبع فيه لأنه يرى الأمر على ما هو عليه فلا بد أن يراه هكذا وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول قال فإن فهمت ما أشرنا إليه فقد حصل لك العلم النافع قلت وقد بسطنا الرد على هؤلاء في مواضع وبينا كشف ما هم عليه من الضلال والخيال والنفاق والزندقة وأما الذين يقولون بالإتحاد الخاص فهؤلاء منهم من يصرح بذلك وأما من كان عنده علم بالنصوص الظاهرة ورأى أن هذا يناقض ما عليه المسلمون في الظاهر فإنه يجعل هذا مما يشار إليه ويرمز به ولا يباح به ثم إن كان معظما للرسول والقرآن ظن أن الرسول كان يقول بذلك لكنه لم يبح به لأنه مما لا يمكن البشر أن يبوحوا به وإن كان
5
339(186/239)
غير معظم للرسول زعم أنه تعدى حد الرسول وهذا الضلال حدث قديما من جهال العباد ولهذا كان العارفون كالجنيد بن محمد سيد الطائفة قدس الله روحه لما سئل عن التوحيد قال التوحيد إفراد الحدوث عن القدم فإنه كان عارفا ورأى أقواما ينتهي بهم الأمر إلى الإتحاد فلا يميزون بين القديم والمحدث وكان أيضا طائفة من أصحابه وقعوا في الفناء في توحيد الربوبية الذي لا يميز فيه بين المأمور والمحظور فدعاهم الجنيد إلى الفرق الثاني وهو توحيد الإلهية الذي يميز فيه بين المأمور والمحظور فمنهم من وافقه ومنهم من خالفه ومنهم لم يفهم كلامه وقد ذكر بعض ما جرى من ذلك أبو سعيد بن الأعرابي في طبقات
5
340
النساك وكان من أصحاب الجنيد ومن شيوخ أبي طالب المكي كان من أهل العلم بالحديث وغيره ومن أهل المعرفة بأخبار الزهاد وأهل الحقائق وهذا الذي ذكره الجنيد من الفرق بين القديم والمحدث والفرق بين المأمور والمحظور بهما يزول ما وقع فيه كثير من الصوفية من هذا الضلال ولهذا كان الضلال منهم يذمون الجنيد على ذلك كابن عربي وأمثاله فإن له كتابا سماه الإسرا إلى المقام الأسرى مضمونه حديث نفس ووساوس شيطان حصلت في نفسه جعل ذلك معراجا كمعراج الأنبياء وأخذ يعيب على الجنيد وعلى غيره من الشيوخ ما ذكروه وعاب على الجنيد قوله التوحيد إفراد الحدوث عن القدم وقال قلت له يا جنيد ما يميز بين الشيئين إلا من كان خارجا عنهما وأنت إما
5
341(186/240)
قديم أو محدث فكيف تميز وهذا جهل منه فإن المميز بين الشيئين هو الذي يعرف أن هذا غير هذا ليس من شرطه أن يكون ثالثا بل كل إنسان يميز بين نفسه وبين غيره وليس هو ثالثا والرب سبحانه يميز نفسه وبين غيره وليس هناك ثالث وهذا الذي ذمه الجنيد رحمه الله وأمثاله من الشيوخ العارفين وقع فيه خلق كثير حتى من أهل العلم بالقرآن وتفسيره والحديث والآثار ومن المعظمين لله ورسوله باطنا وظاهرا المحبين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذابين عنها وقعوا في هذا غلطا لا تعمدا وهم يحسبون أن هذا نهاية التوحيد كما ذكر ذلك صاحب منازل السائرين
5
342
مع علمه وسنته ومعرفته ودينه وقد ذكر في كتابه منازل السائرين أشياء حسنة نافعة وأشياء باطلة ولكن هو فيه ينتهي إلى الفناء في توحيد الربوبية ثم إلى التوحيد الذي هو حقيقة الإتحاد ولهذا قال باب التوحيد قال الله تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو سورة آل عمران التوحيد تنزيه الله عن الحدث قال وإنما نطق العلماء بما نطقوا به وأشار المحققون إلى ما أشاروا إليه في هذا الطريق لقصد تصحيح التوحيد وما سواه من حال أو مقام فكله مصحوب العلل
5
343(186/241)
قال والتوحيد على ثلاثة أوجه الأول توحيد العامة الذي يصح بالشواهد والثاني توحيدالخاصة وهو الذي يثبت بالحقائق والوجه الثالث توحيد قائم بالقدم وهو توحيد خاصة الخاصة فأما التوحيد الأول فهو شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد هذا هو التوحيد الظاهر الجلي الذي نفى الشرك الأعظم وعليه نصبت القبلة وبه وجبت الذمة وبه حقنت الدماء والأموال وانفصلت دار الإسلام من دار الكفر وصحت به الملة للعامة وإن لم يقوموا بحسن الإستدلال بعد أن سلموا من الشبهة والحيرة والريبة بصدق شهادة صححها قبول القلب هذا توحيد العامة الذي يصح بالشواهد والشواهد هي الرسالة والصنائع تجب بالسمع وتوجد بتبصير الحق وتنمو على مشاهدة الشواهد
5
344
قال وأما التوحيد الثاني الذي يثبت بالحقائق فهو توحيد الخاصة وهو إسقاط الأسباب الظاهرة والصعود عن منازعات العقول وعن التعلق بالشواهد وهو أن لا يشهد في التوحيد دليلا ولا في التوكل سببا ولا في النجاة وسيلة فيكون مشاهدا سبق الحق بحكمه وعلمه ووضعه الأشياء مواضعها وتعليقه إياها بأحايينها وإخفائه إياها في رسومها ويحقق معرفة العلل ويسلك سبيل إسقاط الحدث هذا توحيد الخاصة الذي يصح بعلم الفناء ويصفو في علم الجمع ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع قال وأما التوحيد الثالث فهو توحيد اختصه الحق لنفسه
5
345(186/242)
واستحقه بقدره وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته وأخرسهم عن نعته وأعجزهم عن بثه والذي يشار به إليه على ألسن المشيرين أنه إسقاط الحدث وإثبات القدم على أن هذا الرمز في ذلك التوحيد علة لا يصح ذلك التوحيد إلا بإسقطها هذا قطب الإشارة إليه على ألسن علماء أهل هذا الطريق وإن زخرفوا له نعوتا وفصلوه فصولا فإن ذلك التوحيد تزيده العبارة خفاء والصفة نفورا والبسط صعوبة وإلى هذا التوحيد شخص أهل الرياضة وأرباب الأحوال وإليه قصد أهل التعظيم وإياه عنى المتكلمون في عين الجمع وعليه تصطلم الإشارات ثم لم ينطق عنه لسان ولم تشر إليه عبارة فإن التوحيد وراء ما يشير إليه مكون أو يتعاطاه خبر أو يقله سبب قال وقد أجبت في سالف الدهر سائلا سألني عن توحيد الصوفية
5
346
بهذه القوافي الثلاث ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لأحد قلت وقد بسطت الكلام على هذا وأمثاله في غير هذا الموضع لكن ننبه هنا على ما يليق بهذا الموضع فنقول أما التوحيد الأول الذي ذكره فهو التوحيد الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وبه بعث الله الأولين والآخرين من الرسل قال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون سورة الزخرف وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة سورة النحل وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون سورة الأنبياء وقد أخبر الله تعالى عن كل من الرسل مثل نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم أنهم قالوا لقومهم آعبدوا الله مالكم من إله غيره وهذا أول دعوة الرسل وآخرها
5
347(186/243)
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها فقد عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أيضا من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة وقال من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الحنة والقرآن كله مملوء من تحقيق هذا التوحيد والدعوة إليه وتعليق النجاة والفلاح واقتضاء السعادة في الآخرة به ومعلوم أن الناس متفاضلون في تحقيقه وحقيقته إخلاص الدين كله لله والفناء في هذا التوحيد مقرون بالبقاء وهو أن تثبت إلاهية الحق في قلبك وتنفي إلاهية ما سواه فتجمع بين النفي والإثبات فتقول لا إله إلا الله فالنفي هو الفناء والإثبات هو البقاء وحقيقته أن تفنى بعبادته عما سواه ومحبته عن محبة ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه وبموالاته عن موالاة ما سواه وبسؤاله عن سؤال ما سواه وبالإستعاذه به عن الإستعاذة بما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على
5
348
ما سواه وبالتفويض إليه عن التفويض إلى ما سواه وبالإنابة إليه عن الإنابة إلى ما سواه وبالتحاكم إليه عن التحاكم إلى ما سواه وبالتخاصم إليه عن التخاصم إلى ما سواه وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قام يصلي من الليل وقد روي أنه كان يقوله بعد التكبير اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق وقولك الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وقال تعالى قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم سورة الآنعام
5
349(186/244)
وقال أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا سورة الآنعام وقال أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين سورة الزمر وقال تعالى قل إنني هداني ربي إلي صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها سورة الأنعام وهذا التوحيد كثير في القرآن وهو أول الدين وآخره وباطن الدين وظاهره وذروة سنام هذا التوحيد لأولى العزم من الرسل ثم للخليلين محمد وإبراهيم صلى الله عليهما وسلم تسليما فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا
5
350
وأفضل الرسل بعد محمد صلى الله عليه وسلم إبراهيم فإنه قد ثبت في الصحيح عنه أنه قال عن خير البرية إنه إبراهيم وهو الإمام الذي جعله الله إماما وجعله أمة والأمة القدوة الذي يقتدى به فإنه حقق هذا التوحيد وهو الحنيفية ملته قال تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شئ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر سورة الممتحنة وقال تعالى وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا
5
351(186/245)
الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون سورة الزخرف وقال عن إبراهيم أنه قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شئ علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم سورة الأنعام وقال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين سورة الشعراء والخليل هو الذي تخللت محبة خليله قلبه فلم يكن فيه مسلك لغيره كما قيل قد تخللت مسلك الروحى منى وبذا سمى الخليل خليلا وقد قيل إنه مأخوذ من الخليل وهو الفقير مشتق من الخلة بالفتح كما قيل
5
352
وإن أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم والصواب أنه من الأول وهو مستلزم للثاني فإن كمال حبه لله هو محبة عبودية وافتقار ليست كمحبة الرب لعبده فإنها محبة استغناء وإحسان ولهذا قال تعالى وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا سورة الاسراء فالرب لا يوالي عبده من ذل كما يوالي المخلوق لغيره بل يواليه إحسانا إليه والولي من الولاية والولاية ضد العداوة وأصل الولاية الحب وأصل العداوة البغض وإذا قيل هو مأخوذ من الولي وهو القرب فهذا جزء معناه فإن الولي يقرب إلى وليه والعدو يبعد عن عدوه ولما كانت الخلة تستلزم كمال المحبة واستيعاب القلب لم يصلح للنبي صلى الله عليه وسلم أن يخالل مخلوقا بل قال لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله
5
353(186/246)
ولهذا امتحن الله إبراهيم بذبح ابنه والذبيح على القول الصحيح ابنه الكبير إسماعيل كما دلت على ذلك سورة الصافات وغير ذلك فإنه قد كان سأل ربه أن يهب له من الصالحين فبشره بالغلام الحليم إسماعيل فلما بلغ معه السعي أمره أن يذبحه لئلا يبقى في قلبه محبة مخلوق تزاحم محبة الخالق إذ كان قد طلبه وهو بكره وكذلك في التوراة يقول اذبح ابنك وحيدك وفي ترجمة أخرى بكرك ولكن ألحق المبدلون لفظ إسحاق وهو باطل فإن إسحاق هو الثاني من أولاده باتفاق المسلمين وأهل الكتاب فليس هو وحيده ولا بكره وإنما وحيده وبكره إسماعيل ولهذا لما ذكر الله قصة الذبيح في القرآن قال بعد هذا وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين سورة الصافات وقال في الآية الأخرى فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب سورة هود فكيف يبشره بولد ثم يأمره بذبحه والبشارة بإسحاق وقعت لسارة وكانت قد غادرت من هاجر لما ولدت إسماعيل وأمر الله إبراهيم أن يذهب بإسماعيل وأمه إلى مكة ثم لما جاء الضيف وهم الملائكة لإبراهيم بشروها بإسحاق فكيف يأمره بذبح إسحاق مع بقاء إسماعيل وهي لم تصبر على وجود إسماعيل وحده بل غارت أن يكون له ابن
5
354
من غيرهما فكيف تصبر على ذبح ابنها وبقاء ابن ضرتها وكيف يأمر الله إبراهيم بذبح ابنه وأمه مبشرة به وبابن ابنه يعقوب وأيضا فالذبح إنما كان بمكة وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قرني الكبش في البيت فقال للحاجب إني رأيت قرني الكبش في الكعبة فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في الكعبة شيء يلهي المصلي وإبراهيم وإسماعيل هما اللذان بنيا الكعبة بنص القرآن وإسحاق كان في الشام والمقصود بالأمر بالذبح أن لا يبقى في قلبه محبة لغير الله تعالى وهذا إذا كان له ابن واحد فإذا صار له ابنان فالمقصود لا
5
355(186/247)
يحصل إلا بذبحهما جميعا وكل من قال إنه إسحاق فإنما أخذه عن اليهود أهل التحريف والتبديل كما أخبر الله تعالى عنهم وقد بسطنا هذه المسألة في مصنف مفرد والمقصود هنا أن الخليلين هما أكمل خاصة الخاصة توحيدا فلا يجوز أن يكون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من هو أكمل توحيدا من نبي من الأنبياء فضلا عن الرسل فضلا عن أولي العزم فضلا عن الخليلين وكمال توحيدهما بتحقيق إفراد الألوهية وهو أن لا يبقى في القلب شيء لغير الله أصلا بل يبقى العبد مواليا لربه في كل شيء يحب ما أحب ويبغض ما أبغض ويرضى بما رضي ويسخط بما سخط ويأمر بما أمر وينهى عما نهى وأما التوحيد الثاني الذي ذكره وسماه توحيد الخاصة فهو الفناء في توحيد الربوبية وهو أن يشهد ربوبية الرب لكل ما سواه وأنه وحده رب كل شيء ومليكه والفناء إذا كان في توحيد الألوهية وهو أن
5
356
يستولي على القلب شهود معبوده وذكره ومحبته حتى لا يحس بشيء آخر مع العلم بثبوت ما أثبته الحق من الأسباب والحكم وعبادته وحده لا شريك له بالأمر والنهي ولكن غلب على القلب شهود الواحد كما يقال غاب بموجوده عن وجوده وبمعبوده عن عبادته وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته كما يذكر أن رجلا كان يحب آخر فوقع المحبوب في اليم فألقى المحب نفسه خلفه فقال له أنا وقعت فلماذا وقعت أنت فقال غبت بك عني فظننت أن أني فصاحب هذا الفناء إذا غلب في ذلك فهو معذور لعجزه عند غلبة ذكر الرب على قلبه عن شعوره بشئ آخر كما يعذر من سمع الحق فمات أو غشي عليه وكما عذر موسى صلى الله عليه وسلم لما صعق حين تجلى ربه للجبل وليس هذا الحال غاية السالكين ولا لازما لكل سالك ومن الناس من يظن أنه لا بد لكل سالك منه وليس كذلك فنبينا صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون هم أفضل وما أصاب أحدا منهم هذا الفناء ولا صعق ولا موت عند سماع القرآن وإنما تجد هذا الصعق في التابعين لا سيما في عباد البصريين
5
357(186/248)
ومن الناس من يجعل هذا الفناء هو الغاية التي ينتهي إليها سير العارفين وهذا أضعف من الذي قبله وما يذكر عن أبي يزيد البسطامي من قوله ما في الجبة إلا الله وقوله أين أبو يزيد أنا أطلب أبا يزيد منذ كذا وكذا سنة ونحو ذلك فقد حملوه على أنه كان من هذا الباب ولهذا يقال عنه إنه كان إذا أفاق أنكر هذا فهذا ونحوه كفر لكن إذا زال العقل بسبب يعذر فيه الإنسان كالنوم
5
358
والإغماء لم يكن مؤاخذا بما يصدر عنه في حال عدم التكليف ولا ريب أن هذا من ضعف العقل والتمييز وأما الفناء الذي يذكره صاحب المنازل فهو الفناء في توحيد الربوبية لا في توحيد الإلهية وهو يثبت توحيد الربوبية مع نفي الأسباب والحكم كما قول القدرية المجبرة كالجهم بن صفوان ومن اتبعه والأشعري وغيره وشيخ الإسلام وإن كان رحمه الله من أشد الناس مباينة للجهمية في الصفات وقد صنف كتابه الفاروق في الفرق بين المثبتة والمعطلة وصنف كتاب تكفير الجهمية وصنف كتاب ذم الكلام وأهله وزاد في هذا الباب حتى صار يوصف بالغلو في الإثبات للصفات لكنه في القدر على رأي الجهمية نفاة الحكم والأسباب
5
359(186/249)
والكلام في الصفات نوع والكلام في القدر نوع وهذا الفناء عنده لا يجامع البقاء فإنه نفي لكل ما سوى حكم الرب بإرادته الشاملة التى تخصص أحد المتماثلين بلا مخصص ولهذا قال في باب التوبة في لطائف أسرار التوبة اللطيفة الثالثة أن مشاهدة العبد الحكم لم تدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم أي الحكم القدري وهو خلقه لكل شئ بقدرته وإرادته فإن من لم يثبت في الوجود فرقا بالنسبة إلى الرب بل يقول كل ما سواه محبوب له مرضي له مراد له سواء بالنسبة إليه ليس يحب شيئا ويبغض شيئا فإن مشاهدة هذا لا يكون معها استحسان حسنة ولا استقباح سيئة بالنسبة إلى الرب إذ الإستحسان والإستقباح على هذا المذهب لا يكون إلا بالنسبة إلى العبد يستحسن ما يلائمه ويستقبح ما ينافيه وفي عين الفناء لا يشهد نفسه ولا غيره بل لا يشهد إلا فعل ربه فعند هده المشاهدة لا يستحسن شيئا ويستقبح آخر على قول هؤلاء القدرية الجبرية المتبعين لجهم بن صفوان وأمثاله وهؤلاء وافقوا القدرية في أن مشيئة الرب وإرادته ومحبته ورضاه سواء ثم قالت القدرية النفاة وهو لا يحب الكفر والفسوق والعصيان فهو لا يريده ولا يشاؤه فيكون في ملكه ما لا يشاء
5
360(186/250)
وقالت الجهمية المجبرة بل هو يشاء كل شيء فهو يريده ويحبه ويرضاه وأما السلف وأتباعهم فيفرقون بين المشيئة والمحبة وأما الإرادة فتكون تارة بمعنى المشيئة وتارة بمعنى المحبة وقد ذكر الأشعري القولين عن أهل السنة المثبتين للقدر قول من فرق بين المحبة والرضا وقول من سوى بينهما واختار هو التسوية وأبو المعالي يقول إن أبا الحسن أول من سوى بينهما لكني رأيته في الموجز قد حكى قوله عن سليمان بن حرب وعن ابن كلاب وعن الكرابيسي وعن داود بن علي وكذلك ابن عقيل يقول أجمع المسلمون على أن الله لا يحب الكفر والفسوق والعصيان ولم يقل إنه يحبه غير الأشعري وأما القاضي أبو يعلى فهو في المعتمد يوافق الأشعري وفي مختصره ذكر القولين وذكر في المعتمد قول أبي بكر عبد العزيز أنه يقول بالفرق وتأول كلام أبي بكر بتأويل باطل لكن أهل الملل كلهم متفقون على أن الله يثيب على الطاعات ويعاقب على المعاصي وإن كانت المشيئة شامله للنوعين فهم يسلمون الفرق بالنسبة إلى العباد والمدعون للمعروفة والحقيقة والفناء فيهما يطلبون أن لا يكون لهم مراد بل يريدون ما يريد الحق تعالى فيقولون الكمال أن تفنى عن إرادتك وتبقى مع إرادة ربك وعندهم أن جميع الكائنات بالنسبة إلى
5
361(186/251)
الرب سواء فلا يستحسنون حسنة ولا يستقبحون سيئة وهذا الذي قالوه ممتنع عقلا محرم شرعا ولكن المقصود هنا بيان قولهم ولهذا قال شيخ الإسلام في توحيدهم وهو التوحيد الثاني إنه إسقاط الأسباب الظاهرة فإن عندهم لم يخلق الله شيئا بسبب بل يفعل عنده لا به قال والصعود عن منازعات العقول وعن التعلق بالشواهد وهو أن لا يشهد في التوحيد دليلا ولا في التوكل سببا ولا في النجاة وسيلة وذلك لأن عندهم ليس في الوجود شيء يكون سببا لشيء أصلا ولا شيء جعل لأجل شيء ولا يكون شيء بشيئ فالشبع عندهم لا يكون بالأكل ولا العلم الحاصل في القلب بالدليل ولا ما يحصل للمتوكل من الرزق والنصر له سبب أصلا لا في نفسه ولا في نفس الأمر ولا الطاعات عندهم سبب للثواب ولا المعاصي سبب للعقاب فليس للنجاة وسيلة بل محض الإرادة الواحدة يصدر عنها كل حادث ويصدر مع الآخر مقترنا به اقترانا عاديا لا أن أحدهما معلق بالآخر أو سبب له أو حكمة له ولكن لأجل ما جرت به العادة من اقتران أحدهما بالآخر يجعل أحدهما أمارة وعلما ودليلا على الآخر بمعنى أنه إذا وجد أحد المقترنين عادة كان الآخر موجودا معه وليس العلم الحاصل في القلب حاصلا بهذا الدليل بل هذا أيضا من جملة الإقترانات العادية
5
362(186/252)
ولهذا قال فيكون مشاهدا سبق الحق بحكمه وعلمه أى يشهد أنه علم ما سيكون وحكم به أي أراده وقضاه وكتبه وليس عندهم شيء إلا هذا وكثير من أهل هذا المذهب يتركون الأسباب الدنيوية ويجعلون وجود السبب كعدمه ومنهم قوم يتركون الأسباب الأخروية فيقولون إن سبق العلم والحكم أنا سعداء فنحن سعداء وإن سبق أنا أشقياء فنحن أشقياء فلا فائدة في العمل ومنهم من يترك الدعاء بناء على هذا الأصل الفاسد ولا ريب أن هذا الأصل الفاسد مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف وأئمة الدين ومخالف لصريح المعقول ومخالف للحس والمشاهدة وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن إسقاط الأسباب نظرا إلى القدر فرد ذلك كما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة ومقعده من النار قالوا يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب فقال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له
5
363
وفي الصحيح أيضا أنه قيل له يا رسول الله أرأيت ما يكدح الناس فيه اليوم ويعملون أشيء قضى عليهم ومضى أم فيما يستقبلون مما أتاهم فيه الحجة فقال بل شيء قضى عليهم ومضى فيهم قالوا يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على كتابنا فقال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا فقال هي من قدر الله وقد قال تعالى في كتابه وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات سورة الآعراف
5
364(186/253)
وقال وما أنزل الله من المساء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها سورة الجاثية وقال قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم سورة التوبة وقال ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا سورة التوبة وقال يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين سورة البقرة وقال يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام سورة المائدة وقال وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم سورة الشورى وقال ولكل قوم هاد سورة الرعد فكيف لا يشهد الدليل قال وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم سورة الزمر وقال إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم سورة يونس وقال والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ سورة الطور وقال كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم سورة إبراهيم وقال كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية سورة الحاقة
5
365(186/254)
وقال ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون سورة النحل وقال إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا سورة الأنفال وقال ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب سورة الطلاق وقال فبما رحمة من الله لنت لهم سورة آلعمران وقال فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل سورة النساء وقال فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين سورة الأنعام وقال فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار سورة المائدة وقال وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا سورة الإنسان وقال إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب سورة آل عمران وقال إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون سورة البقرة وأمثال ذلك في القرآن كثير
5
366
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد عسى أن تخلف فينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون فكيف يمكن أن يشهد أن الله لم ينصب على توحيده دليلا ولا جعل للنجاة من عذابه وسيلة ولا جعل لما يفعله المتوكل من عباده سببا وهو مسبب الأسباب وخالق كل شيء بسبب منه لكن الأسباب كما قال فيها أبو حامد وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهما الإلتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابا تغيير في وجه العقل والأعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع والتوكل معنى يلتئم من معنى التوحيد والعقل والشرع فالموحد المتوكل لا يلتفت إلى الأسباب بمعنى أنه لا يطمئن إليها
5
367(186/255)
ولا يثق بها ولا يرجوها ولا يخافها فإنه ليس في الوجود سبب يستقل بحكم بل كل سبب فهو مفتقر إلى أمور أخرى تضم إليه وله موانع وعوائق تمنع موجبه وما ثم سبب مستقل بالإحداث إلا مشيئة الله وحده فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وما شاء خلقه بالأسباب التي يحدثها ويصرف عنه الموانع فلا يجوز التوكل إلا عليه كما قال تعالى إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون سورة آل عمران وما سبق من علمه وحكمه فهو حق وقد علم وحكم بأن الششيء الفلاني يحدثه هو سبحانه بالسبب الفلاني فمن نظر إلى علمه وحكمه فليشهد الحدوث بما أحدثه وإذا نظر إلى الحدوث بلا سبب منه لم يكن شهوده مطابقا لعلمه وحكمه فمن شهد أن الله تعالى خلق الولد لا من أبوين لسبق علمه وحكمه فهذا شهوده عمى بل يشهد أن الله تبارك وتعالى سبق علمه وحكمه بأن يخلق الولد من الأبوين والأبوان سبب في وجوده فكيف يجوز أن يقال إنه سبق علمه وحكمه بحدوثه بلا سبب وإذا كان علمه وحكمه قد أثبت السبب فكيف أشهد الأمور بخلاف ما هي عليه في علمه وحكمه والعلل التي تنفي نوعان أحدهما أن تعتمد على الأسباب وتتوكل عليها وهذا شرك محرم والثاني أن تترك ما أمرت به من الأسباب
5
368(186/256)
وهذا أيضا محرم بل عليك أن تعبده بفعل ما أمرك به من الأسباب وعليك أن تتوكل عليه في أن يعينك على ما أمرك به وأن يفعل هو ما لا تقدر أنت عليه بدون سبب منك فليست العلة إلا ترك ما أمرك به الرب أمر إيجاب أو استحباب ومن فعل ما أمر به كما أمر به فليس عنده علة ولكن قد يجهل حقيقة ما أمر به كما أمر به فيكون منه علة وقول القائل يسلك سبيل إسقاط الحدث إن أراد أنى أعتقد نفي حدوث شئ فهذا مكابرة وتكذيب بخلق الرب وجحد للصانع وإن أراد أنى أسقط الحدث من قلبي فلا أشهد محدثا وهو مرادهم فهذا خلاف ما أمرت به وخلاف الحق بل قد أمرت أن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأشهد حدوث المحدثات بمشيئته بما خلقه من الأسباب ولما خلقه من الحكم وما أمرت أن لا أشهد بقلبي حدوث شئ قط وقول القائل يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل إن أراده أنه
5
369
يبقى على الوجه المأمور به بحيث يشهد أن الحق هو المحدث لكل ما سواه بما أحدثه من الأسباب ولما أراده من الحكمة فهذا حق وإن أراد أنى لا أشهد قط مخلوقا بل لا أشهد إلا القديم فقط فهذا نقص في الإيمان والتوحيد والتحقيق وهذا من باب الجهل والضلال وهذا إذا غلب على قلب العبد كان معذورا أما أن يكون هذا مما أمر الله به ورسوله فهذا خلاف الكتاب والسنة والإجماع ولما كان هذا مرادهم قال هذا توحيد الخاصة الذي يصح بعلم الفناء ويصفو في علم الجمع ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع فإن المراد بالجمع أن يشهد الأشياء كلها مجتمعة في خلق الرب ومشيئته وأنها صادرة بإرادته لا يرجح مثلا عن مثل فلا يفرق بين مأمور ومحظور وحسن وقبيح وأولياء الله وأعدائه والوقوف عند هذا الجمع هو الذي أنكره الجنيد وغيره من أئمة طريق أهل الله أهل الحق فإنهم أمروا بالفرق الثاني وهو أن يشهد مع هذا الجمع أن الرب فرق بين ما أمر به وبين ما نهى عنه فأحب هذا
5
370(186/257)
وأبغض هذا وأثاب على هذا وعاقب على هذا فيحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله ويشهد الفرق في الجمع والجمع في الفرق لا يشهد جمعا محضا ولا فرقا محضا وأما قوله ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع فسيأتي وهؤلاء شربوا من العين التي شرب منها نفاة القدر فإن أولئك الذين قالوا الأمر أنف قالوا إذا سبق علمه وحكمه بشيء امتنع أن يأمر بخلافه ووجب وجوده وفي ذلك إبطال الأمر والنهي لكن أولئك كانوا معظمين للأمر والنهي فظنوا أن إثبات ما سبق من العلم والحكم ينافيه فأثبتوا الشرع ونفوا القدر وهؤلاء اعتقدوا ذلك أيضا لكن أثبتوا القدر ونفوا عمن شاهده أن يستحسن حسنة يأمر بها أو يستقبح سيئة ينهى عنها فأثبتوا القدر وأبطلوا الشرع عمن شاهد القدر وهذا القول أشد منافاة لدين الإسلام من قول نفاة القدر قال وأما التوحيد الثالث فهو توحيد اختصه الحق لنفسه واستحقه بقدره إلى آخر كلامه وقد تقدم حكايته فهؤلاء هم الذين أنكر عليهم أئمة الطريق كالجنيد وغيره حيث لم يفرقوا بين القديم والمحدث وحقيقة قول هؤلاء الإتحاد والحلول الخاص من جنس قول النصارى في المسيح وهو أن يكون الموحد هو الموحد ولا يوحد
5
371(186/258)
الله إلا الله وكل من جعل غير الله يوحد الله فهو جاحد عندهم كما قال ما وحد الواحد من واحد أي من واحد غيره إذ كل من وحده جاحد فإنه على قولهم هو الموحد والموحد ولهذا قال توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد يعني إذا تكلم العبد بالتوحيد وهو يرى أنه المتكلم فإنما ينطق عن نعت نفسه فيستعير ما ليس له فيتكلم به وهذه عارية أبطلها الواحد ولكن إذا فنى عن شهود نفسه وكان الحق هو المتكلم على لسانه حيث فنى من لم يكن وبقي من لم يزل فيكون الحق هو الناطق بنعت نفسه لا بنعت العبد ويكون هو الموحد وهو الموحد ولهذا قال توحيده إياه توحيده أي توحيد الحق إياه أي نفسه هو توحيده هو لا توحيد المخلوقين له فإن لا يوحده عندهم مخلوق بمعنى أنه هو الناطق بالتوحيد على لسان خاصته ليس الناطق هو المخلوق كما يقوله النصارى في المسيح إن اللاهوت تكلم بلسان الناسوت وحقيقة الأمر أن كل من تكلم بالتوحيد أو تصوره وهو يشهد غير الله فليس بموحد عندهم وإذا غاب وفنى عن نفسه بالكلية فتم له مقام توحيد الفناء الذي يجذبه إلى توحيد أرباب الجمع صار الحق هو
5
372(186/259)
الناطق المتكلم بالتوحيد وكان هو الموحد وهو الموحد لا موحد غيره وحقيقة هذا القول لا يكون إلا بأن يصير الرب والعبد شيئا واحدا وهو الإتحاد فيتحد اللاهوت والناسوت كما يقول النصارى إن المتكلم بما كان يسمع من المسيح هو الله وعندهم أن الذين سمعوا منه هم رسل الله وهم عندهم أفضل من إبراهيم وموسى ولهذا تكلم بلفظ اللاهوت والناسوت طائفة من الشيوخ الذين وقعوا في الإتحاد والحلول مطلقا ومعينا فكانوا ينشدون قصيدة ابن الفارض ويتحلون بما فيها من تحقيق الإتحاد العام ويرون كل ما في الوجود هو مجلي ومظهر ظهر فيه عين الحق وإذا رأى أحدهم منظرا حسنا أنشد يتجلى في كل طرفة عين بلباس من الجمال جديد وينشد الآخر هيهات يشهد ناظري معكم سوى إذا أنتم عين الجوارح والقوى وينشد الثالث أعاين في كل الوجود جمالكم وأسمع من كل الجهات نداكم
5
373
وتلتذ إن مرت على جسدي يدى لأني في التحقيق لست سواكم ولما كان ظهور قول النصارى بين المسلمين مما يظهر أنه باطل لم يمكن أصحاب هذا الإتحاد أن يتكلموا به كما تكلمت به النصارى بل صار عندهم مما يشهد ولا ينطق به وهو عندهم من الأسرار التي لا يباح بها ومن باح بالسر قتل وقد يقول بعضهم إن الحلاج لما باح بهذا السر وجب قتله ولهذا قال هو توحيد اختصه الحق لنفسه واستحقه بقدره وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته وأخرسهم عن نعته وأعجزهم عن بثه فيقال أما توحيد الحق نفسه بنفسه وهو علمه بنفسه وكلامه الذي يخبر به عن نفسه كقوله شهد الله أنه لا إله إلا هو سورة آل عمران وقوله إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني سورة طه فذاك صفته القائمة به كما تقوم به سائر صفاته من حياته وقدرته وغير ذلك وذلك لا يفارق ذات الرب وينتقل إلى غيره أصلا كسائر صفاته بل صفات المخلوق لا تفارق ذاته وتنتقل إلى غيره فكيف بصفات الخالق
5
374(186/260)
ولكن هو سبحانه ينزل على أنبيائه من علمه وكلامه ما أنزله كما أنزل القرآن وهو كلامه على خاتم الرسل وقد قال سبحانه شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم سورة آل عمران فهو سبحانه يشهد لنفسه بالوحدانية والملائكة يشهدون وأولوا العلم من عباده يشهدون والشهادات متطابقة متوافقة وقد يقال هذه الشهادة هي هذه بمعنى أنها نوعها وليس نفس صفة المخلوق هي نفس صفة الخالق ولكن كلام الله الذي أنزله على رسوله هو القرآن الذي يقرؤه المسلمون وهو كلامه سبحانه مسموعا من المبلغين له ليس تلاوة العباد له وسماع بعضهم من بعض بمنزلة سمع موسى له من الله بلا واسطة فإن موسى سمع نفس كلام الرب كما يسمع كلام المتكلم منه كما يسمع الصحابة كلام الرسول منه وأما سائر الناس فسمعوه مبلغا عن الله كما يسمع التابعون ومن بعدهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم مبلغا عنه ولهذا قال لرسوله بلغ ما أنزل إليك من ربك سورة المائدة وقال ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم سورة الجن وقال النبي صلى الله عليه وسلم بلغوا عني ولو آية وقال
5
375
نضر الله أمرا سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وقال ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي وقول القائل وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته وأخرسهم عن نعته وأعجزهم عن بثه فيقال أفضل صفوته هم الأنبياء وأفضلهم الرسل وأفضل الرسل أولو العزم وأفضل أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم وما ألاحه الله على أسرار هؤلاء فهو أكمل توحيد عرفه العباد وهم قد تكلموا بالتوحيد ونعتوه وبثوه وما يقدر أحد قط أن ينقل عن نبي من الأنبياء ولا
5
376(186/261)
وارث نبي أنه يدعي أنه يعلم توحيدا لا يمكنه النطق به بل كل ما علمه القلب أمكن التعبير عنه لكن قد لا يفهمه إلا بعض الناس فأما أن يقال إن محمدا صلى الله عليه وسلم عاجز عن أن يبين ما عرفه الله من توحيده فهذا ليس كذلك ثم يقال إن أريد بهذا اللائح أن يكون الرب نفسه هو الموحد لنفسه في قلوب صفوته لاتحاده بهم أو حلوله فيهم فهذا قول النصارى وهو باطل شرعا وعقلا وإن أريد أنه يعرف صفوته من توحيده ومعرفته والإيمان به ما لا يعرفه غيرهم فهذا حق لكن ما قام بقلوبهم ليس هو نفس الرب الخالق تعالى بل هو العلم به ومحبته ومعرفته وتوحيده وقد يسمى المثل الأعلى ويفسر به قوله تعالى وله المثل الأعلى في السموات والأرض سورة الروم أي في قلوب أهل السموات والأرض ويقال له المثال الحبي والمثال العلمي وقد يخيل لناقص العقل إذا أحب شخصا محبة تامة بحيث فني في حبه حتى لا يشهد في قلبه غيره أن نفس المحبوب صار في قلبه وهو غالط في ذلك بل المحبوب في موضع آخر إما في بيته وإما في المسجد وإما في
5
377
موضع آخر ولكن الذي في قلبه هو مثاله وكثيرا ما يقول القائل أنت في قلبي وأنت في فؤادي والمراد هذا المثال لأنه قد علم أنه لم يعن ذاته فإن ذاته منفصلة عنه كما يقال أنت بين عيني وأنت دائما على لساني كما قال الشاعر مثالك في عبني وذكرك في فمي ومثواك في قلبي فكيف تغيب وقال آخر ساكن في القلب يعمره لست أنساه فأذكره فجعله ساكنا عامرا للقلب لا ينسى ولم يرد أن ذاته حصلت في قلبه كما يحصل الإنسان الساكن في بيته بل هذا الحاصل هو المثال العلمي وقال آخر ومن عجب أني احن إليهم وأسأل عنهم من لقيت وهم معي وتطلبهم عيني وهم في سوادها ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي ومن هذا الباب قول القائل القلب بيت الرب وما يذكرونه في الإسرائيليات من قوله ما وسعتني أرضى ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي الورع اللين فليس المراد أن الله
5
378(186/262)
نفسه يكون في قلب كل عبد بل في القلب معرفته ومحبته وعبادته والنائم يرى في المنام إنسانا يخاطبه ويشاهده ويجري معه فصولا وذلك المرئي قاعد في بيته أو ميت في قبره وإنما رأى مثاله وكذلك يرى في المرآة الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من المرئيات ويراها تكبر بكبر المرأة وتصغر بصغرها وتستدير باستدارتها وتصفوا بصفائها وتلك مثال المرئيات القائمة بالمرآة وأما نفس الشمس التي في السماء فلم تصر ذاتها في المرآة وقد خاطبني مرة شيخ من هؤلاء في مثل هذا وكان ممن يظن أن الحلاج قال أنا الحق لكونه كان في هذا التوحيد فقال الفرق بين فرعون والحلاج أن فرعون قال أنا ربكم الأعلى سورة النازعات وهو يشير إلى نفسه وأما الحلاج فكان فانيا عن نفسه والحق نطق على لسانه فقلت لت أفصار الحق في قلب الحلاج ينطق على لسانه كما ينطق الجني على لسان المصروع
5
379
وهو سبحانه بائن عن قلب الحلاج وغيره من المخلوقات فقلب الحلاج أو غيره كيف يسع ذات الحق ثم الجني يدخل في جسد الإنسان ويشغل جميع أعضائه والإنسان المصروع لا يحس بما يقوله الجني ويفعله بأعضائه لا يكون الجني في قلبه فقط فإن القلب كل ما قام به فإنما هو عرض من الأعراض ليس شيئا موجودا قائما بنفسه ولهذا لا يكون الجني بقلبه الذي هو روحه وهولاء قد يدعون أن ذات الحق قامت بقلبه فقط فهذا يستحيل في حق المخلوق فكيف بالخالق جل جلاله وقد يحتج بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد فإن الله قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم سمع الله لمن حمده فيقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد ما أردتم من الحلول
5
380(186/263)
والاتحاد ولكن أراد أن الله بلغكم هذا الكلام على لسان رسوله وأخبركم أنه يسمع دعاء من حمده فاحمدوه أنتم وقولوا ربنا ولك الحمد حتى يسمع الله لكم دعاءكم فإن الحمد قبل الدعاء سبب لاستجابة الدعاء وهذا أمر معروف يقول المرسل لرسوله قل على لساني كذا وكذا ويقول الرسول لمرسله قلت على لسانك كذا وكذا ويقول المرسل أيضا قلت لكم على لسان رسولي كذا وكذا وقد قال تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء سورة الشورى فالله تعالى إذا أرسل رسولا من الملائكة أو من البشر برسالة كان مكلما لعباده بواسطة رسوله بما أرسل به رسوله وكان مبينا لهم بذلك كما قال تعالى قد نبأنا الله من أخباركم سورة التوبة أي بواسطة رسوله وقال فإذا قرأناه فاتبع قرآنه سورة القيامة وقال نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق سورة القصص وقال نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين سورة يوسف فكانت تلك التلاوة والقراءة والقصص بواسطة جبريل فإنه سبحانه يكلم عباده بواسطة رسول يرسله فيوحي بإذنه ما يشاء ولهذا جاء بلفظ
5
381
الجمع فإن ما فعله المطاع بجنده يقال فيه نحن نفعل كذا والملائكة رسل الله فيما يخلقه ويأمر به فما خلقه وأمر به بواسطة رسله من الملائكة قال فيه نحن فعلنا كما قال تعالى فإذا قرأناه فاتبع قرآنه سورة القيامة وفي الصحيحين عن ابن عباس قال إن علينا أن نجمعه في قلبك ثم أن نقرأه بلسانك فإذا قرأه جبريل فاستمع له حتى يفرغ كما قال في الآية الأخرى ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه سورة طه أي لا تعجل بتلاوة ما يقرؤه جبريل عليك من قبل أن يقضي جبريل تلاوته بل استمع له حتى يقضي تلاوته ثم
5
382(186/264)
بعد هذا اقرأ ما أنزله إليك وعلينا أن نجمع ذلك في قلبك وأن تقرأه بلسانك ثم أن تبينه للناس بعد ذهاب جبريل عنك وقوله والذي يشار إليه على ألسن المشيرين أنه إسقاط الحدث وإثبا القدم فيقال مرادهم بهذا نفي المحدث أي ليس هنا إلا القديم وهذا على وجهين فإن أريد به نفي المحدث بالكلية وأن العبد هو القديم فهذا شر من قول النصارى إلا أنه قريب إلى قول اليعقوبية من النصارى فإن اليعقوبية يقولون إن اللاهوت والناسوت امتزجا واختلطا فصارا جوهرا واحدا وأقنوما واحدا وطبيعة واحدة ويقول بعضهم إن اليدين اللتين سمرتا هما اليدان اللتان خلق بهما آدم وأما النسطورية فيقولون بحلول اللاهوت في الناسوت والملكانية يقولون شخص واحد له أقنوم واحد بطبيعتين ومشيئتين ويشبهونه بالحديدة والنار والنسطورية يشبهونه بالماء في الظروف واليعقوبية يشبهونه باختلاط الماء واللبن والماء والخمر
5
383(186/265)
فقول القائل إسقاط الحدوث إن أراد به أن المحدث عدم فهذا مكابرة وإن أراد به إسقاط المحدث من قلب العبد وأنه لم يبق في قلبه إلا القديم فهذا إن أريد به ذات القديم فهو قول النسطورية من النصارى وإن أريد به معرفته والإيمان به وتوحيده أو قيل مثله أو المثل العلمي أو نوره أو نحو ذلك فهذا المعنى صحيح فإن قلوب أهل التوحيد مملوءة بهذا لكن ليس في قلوبهم ذات الرب القديم وصفاته القائمة به وأما أهل الاتحاد العام فيقولون ما في الوجود إلا الوجود القديم وهذا قول الجهمية وأبو أسماعيل لم يرد هذا فإنه قد صرح في غير موضع من كتبه بتكفير هؤلاء الجهمية الحلولية الذين يقولون إن الله بذاته في كل مكان وإنما يشير إلى ما يختص به بعض الناس ولهذا قال ألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته والإتحاد والحلول الخاص وقع فيه كثير من العباد والصوفية وأهل الأحوال فإنه يفجؤهم ما يعجزون عن معرفته وتضعف عقولهم عن تمييزه فيظنونه ذات الحق وكثير منهم يظن أنه رأى الله بعينه وفيهم من يحكي مخاطباته له ومعاتباته وذاك كله إنما هو في قلوبهم من
5
384
المثال العلمي الذي في قلوبهم بحسب إيمانهم به ومما يشبه المثال العلمي رؤية الرب تعالى في المنام فإنه يرى في صور مختلفة يراه كل عبد على حسب إيمانه ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم إيمانا من غيره رآه في أحسن صورة وهي رؤية منام بالمدينة كما نطقت بذلك الأحاديث المأثورة عنه وأما ليلة المعراج فليس في شيء من الأحاديث المعروفة أنه رآه ليلة المعراج لكن روي في ذلك حديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث رواه الخلال من طريق أبي عبيد وذكره القاضي أبو يعلى في إبطال التأويل والذي نص عليه الإمام أحمد في الرؤية هو ما جاء عن النبي صلى الله عليه
5
385(186/266)
وسلم وما قاله أصحابه فتارة يقول رآه بفؤاده متبعا لأبي ذر فإنه روى بإسناده عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده وقد ثبت في صحيح مسلم أن ابا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك فقال نور أني أراه ولم ينقل هذا السؤال عن غير أبي ذر وأما ما يذكره بعض العامة من أن أبا بكر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال نعم رأيته وأن عائشة سألته فقال لم أره فهو كذب لم يروه أحد من أهل العلم ولا يجيب النبي صلى الله عليه وسلم عن مسألة واحدة بالنفي والإثبات مطلقا فهو منزه عن ذلك
5
386
فلما كان أبو ذر أعلم من غيره أتبعه أحمد مع ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال رآه بفؤاده مرتين وتارة يقول أحمد رآه فيطلق اللفظ ولا يقيده بعين ولا قلب اتباعا للحديث وتارة يستحسن قول من يقول رآه ولا يقول بعين ولا قلب ولم ينقل أحد من أصحاب أحمد الذين باشروه عنه أنه قال رآه بعينه وقد ذكر ما نقلوه عن أحمد الخلال في كتاب السنة وغيره وكذلك لم ينقل أحد بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه قال رآه بعينه بل الثابت عنه إما الأطلاق وإما التقييد بالفؤاد وقد ذكر طائفة من أصحاب أحمد كالقاضي إبي يعلى ومن اتبعه عن أحمد ثلاث روايات في رؤيته تعالى إحداها أنه رآه بعينه واختاروا ذلك وكذلك اختاره الأشعري وطائفة ولم ينقل هؤلاء عن
5
387(186/267)
أحمد لفظا صريحا بذلك ولا عن ابن عباس ولكن المنقول الثابت عن أحمد من جنس النقول الثابتة عن ابن عباس إما تقييد الرؤية بالقلب وإما إطلاقها وأما تقييدها بالعين فلم يثبت لا عن أحمد ولا عن ابن عباس وأما من سوى النبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكر الإمام أحمد اتفاق السلف على أنه لم يره أحد بعينه وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وهذا لبسطه موضع آخر وإنما المقصود هنا أن كثيرا من السالكين يرد عليه من الأحوال ما يصطلمه حتى يظن أنه هو الحق وأن الحق فيه أو أن الحق يتكلم على لسانه أو أنه يرى الحق أو نحو ذلك وإنما يكون الذي يشاهدونه ويخاطبونه هو الشيطان وفيهم من يرى عرشا عليه نور ويرى الملائكة
5
388
حول العرش ويكون ذلك الشيطان وتلك الشياطين حوله وقد جرى هذا لغير واحد فصل وقد اعترف طوائف بأنه يستحق أن يحب وأنكروا أنه يحب غيره إلا بمعنى الإرادة العامة فإن محبة المؤمنين لربهم أمر موجود في القلوب والفطر شهد به الكتاب والسنة واستفاض عن سلف الأمة وأهل الصفوة واتفق عليه أهل المعرفة بالله وقد ثبت أن التذاذ المؤمنين يوم القيامة بالنظر إلى الله أعظم لذة في الجنة ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة وفي حديث آخر رواه النسائي وغيره أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة
5
389(186/268)
فقوله في الحديث الصحيح فما أعطاهم شيئا أحب اليهم من النظر إليه يبين أن اللذة الحاصلة بالنظر إليه أعظم من كل لذة في الجنة والإنسان في الدنيا يجد في قلبه بذكر الله وذكر محامده وآلائه وعبادته من اللذة ما لا يجده بشيء آخر وقال النبي صلى الله عليه وسلم جعلت قرة عيني في الصلاة وكان يقول أرحنا بالصلاة يا بلال وفي الحديث إذا مررتم
5
390
برياض الجنة فارتعوا قالوا وما رياض الجنة قال مجالس الذكر ومن هذا الباب قوله ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة فإن هذا كان أعظم مجالس الذكر والمنكرون لرؤيته من الجهمية والمعتزلة تنكر هذه اللذة وقد يفسرها من يتأول الرؤية بمزيد العلم على لذة العلم به كاللذة التي في الدنيا بذكره لكن تلك أكمل وهذا قول متصوفة الفلاسفة والنفاة كالفارابي وكأبي حامد وأمثاله فإن ما في كتبه من الإحياء وغيره من لذة النظر إلى وجهه هو بهذا المعنى والفلاسفة تثبت اللذة العقلية وأبو نصر الفارابي
5
391
وأمثاله من المتفلسفة يثبت الرؤية لله ويفسرها بهذا المعنى وهذه اللذة أيضا ثابتة بعد الموت لكنهم مقصرون في تحقيقها وإثبات غيرها من لذات الآخرة كما هو مبسوط في موضعه وأما أبو المعالي وابن عقيل ونحوهما فينكرون أن يلتذ أحد بالنظر إليه وقال أبو المعالي يمكن أن يحصل مع النظر إليه لذة ببعض
5
392(186/269)
المخلوقات من الجنة فتكون اللذة مع النظر بذلك المخلوق وسمع ابن عقيل رجلا يقول أسألك لذة النظر إلى وجهك فقال هب أن له وجها أفتلتذ بالنظر إليه وهذا ونحوه مما أنكر على ابن عقيل فإنه كان فاضلا ذكيا وكان تتلون آراؤه في هذه المواضع ولهذا يوجد في كلامه كثير مما يوافق فيه قول المعتزلة والجهمية وهذا من ذاك وكذلك أبو المعالي بني هذا على أصل الجهمية الذي وافقهم فيه الأشعري ومن وافقه كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما أن الله لا يحب ذاته ويزعمون أن الخلاف في ذلك مع الصوفية وهذا القول من بقايا أقوال جهم بن صفوان وأول من عرف في الإسلام أنه أنكر أن الله يحب او يحب الجهم بن صفوان وشيخه الجعد ابن درهم وكذلك هو أول من عرف أنه أنكر حقيقة تكليم الله لموسى وغيره وكان جهم ينفي الصفات والأسماء ثم انتقل بعض ذلك إلى المعتزلة وغيرهم فنفوا الصفات دون الأسماء وليس هذا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها بل كلهم متفقون على أن الله يستحق أن يحب وليس شيء أحق بأن يحب من الله سبحانه بل لا يصلح أن يحب غيره إلا لأجله وكل ما يحبه المؤمن من طعام وشراب ولباس وغير ذلك لا ينبغي أن يفعله إلا ليستعين به على عبادته
5
393(186/270)
سبحانه المتضمنة لمحبته فإن الله إنما خلق الخلق لعبادته وخلق فيهم الشهوات ليتناولوا بها ما يستعينون به على عبادته ومن لم يعبد الله فإنه فاسد هالك والله لا يغفر أن يشرك به فيعبد معه غيره فكيف بمن عطل عبادته فلم يعبده ألبته كفرعون وأمثاله وقد قال تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء سورة النساء والتعطيل ليس دون الشرك بل أعظم منه فالمستكبرون عن عبادته أعظم جرما من الذين يعبدونه ويعبدون معه غيره وهو لا يغفر لهم فأولئك أولى وما من مؤمن إلا وفي قلبه حب الله ولو أنكر ذلك بلسانه وهؤلاء الذين أنكروا محبته من أهل الكلام وهم مؤمنون لو رجعوا إلى فطرتهم التي فطروا عليها واعتبروا أحوال قلوبهم عند عبادته لوجدوا في قلوبهم من محبته ما لا يعبر عن قدره وهم من أكثر الناس نظرا في العلم به وبصفاته وذكره وذلك كله من محبته وإلا فما لا يحب لا تحرص النفوس على ذكره إلا لتعلق حاجتها به ولهذا يقال من أحب شيئا أكثر من ذكره والمؤمن يجد نفسه محتاجة إلى الله في تحصيل مطالبه ويجد في قلبه محبة الله غير هذا فهو محتاج إلى الله من جهة أنه ربه ومن جهة
5
394(186/271)
أن إلهه قال تعالى إياك نعبد وإياك نستعين فلا بد أن يكون العبد عابدا لله ولا بد أن يكون مستعينا به ولهذا كان هذا فرضا على كل مسلم أن يقوله في صلاته وهذه الكلمة بين العبد وبين الرب وقد روي عن الحسن البصري رحمه الله أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جمع سرها في الأربعة وجمع سر الأربعة في القرآن وجمع سرالقرآن في الفاتحة وجمع سر الفاتحة في هاتين الكلمتين إياك نعبد وإياك نستعين ولهذا ثناها الله في كتابه في غير موضع من القرآن كقوله فاعبده وتوكل عليه سورة هود وقوله عليه توكلت وإليه أنيب سورة هود وقوله عليه توكلت وإليه متاب سورة الرعد وقوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه سورة الطلاق وأمثال ذلك وهم يتأولون محبته على محبة عبادته وطاعته فيقال لهم فيمتنع في الفطرة أن يحب الإنسان طاعة مطاع وعبادته إلا أن يكون محبا لله وإلا فمالا يحب في نفسه لا يحب الإنسان لا
5
395(186/272)
طاعته ولا عبادته ومن كان إنما يحب الطاعة والعبادة للعوض المخلوق فهو لا يحب إلا ذلك العوض ولا يقال أن هذا يحب الله ألا ترى أن الكافر والظالم ومن يبغضه المؤمن قد يستأجر المؤمن على عمل يعمله فيعمل المؤمن لأجل ذلك العوض ولا يكون المؤمن محبا للكافر ولا للظالم إذا عمل له بعوض لأنه ليس مقصوده إلا العوض فمن كان لا يريد من الله إلا العوض على عمله فإنه لا يحبه قط إلا كما يحبر الفاعل لمن يستأجره ويعطيه العوض على عمله فإن كل محبوب إما أن يحبر لنفسه وإما أن يحب لغيره فما أحب لغيره فالمحبوب في نفس الأمر هو ذلك الغير وأما هذا فإنما أحب لكونه وسيلة إلى المحبوب والوسيلة قد تكون مكروهة غاية الكراهة لكن يتحملها الإنسان لأجل المقصود كما يتجرع المريض الدواء الكريه لأجل محبته للعافية ولا يقال إنه يحب ذلك الدواء الكريه فإن كان الرب سبحانه لا يحب إلا لما يخلقه من النعم فإنه لا يحب وقد قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله سورة البقرة فأخبر أن المؤمنين أشد حبا لله من المشركين وأن المشركين يحبون الأنداد كحب الله
5
396(186/273)
ومن المعلوم أن المشركين يحبون آلهتهم محبة قوية كما قال تعالى وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم سورة البقرة وهذا وإن كان يقال إنه لما يظنونه فيهم من أنها تنفعهم فلا ريب أن الشيء يحب لهذا ولهذا ولكن إذا ظن فيه أنه متصف بصفات الكمال كانت محبته أشد مع قطع النظر عن نفعه والحديث الذي يروى أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة وأحبوني بحب الله وأحب أهل بيتي بحبي إسناده ضعيف فإن الله يحب أن يحب لذاته وإن كانت محبته واجبة لإحسانه وقول القائل المحبة للإحسان محبة العامة وتلك محبة الخاصة ليس بشيء بل كل مؤمن فأنه يحب الله لذاته ولو أنكر ذلك بلسانه ومن لم يكن الله ورسوله أحب إليه مما سواهما لم يكن مؤمنا ومن قال إني لا أجد هذه المحبة في قلبي لله ورسوله فأحد الأمرين لازم إما أن يكون صادقا في هذالخبر فلا يكون مؤمنا فإن أبا جهل وأبا لهب
5
397(186/274)
وأمثالهما إذا قالوا ذلك كانوا صادقين في هذا الخبر وهم كفار أخبروا عما في نفوسهم من الكفر مع أن هؤلاء في قلوبهم محبة الله لكن مع الشرك به فإنهم اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ولهذا أبغضوا الرسول وعادوه لأنه دعاهم إلى عبادة الله وحده ورفض ما يحبونه معه فنهاهم أن يحبوا شيئا كحبة فأبغضوه على هذا فقد يكون بعض هؤلاء المشركين الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله يفضل ذلك الند على الله في أشياء وهؤلاء قد يعلمون أن الله أجل وأعظم لكن تهوى نفوسهم ذلك الند أكثر والرب تعالى إذا جعل من يحب الأنداد كحبه مشركين فمن أحب الند أكثر كان أعظم شركا وكفرا كما قال تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم سورة الأنعام فلولا تعظيمهم لآلهتهم على الله لما سبوا الله إذا سبت آلهتهم وقال تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون سورة الأنعام وقال أبو سفيان يوم أحد أعل هبل أعل هبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوه فقالوا وما نقول قال قولوا الله أعلى وأجل وقال أبو سفيان إن لنا العزى ولا عزى لكم قال ألا تجيبوه قالوا
5
398(186/275)
وما نقول قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ويوجد كثير من الناس يحلف بند جعله لله وينذر له ويوالي في محبته ويعادي من يبغضه ويحلف به فلا يكذب ويوفي بما نذره له وهو يكذب إذا حلف بالله ولا يوفي بما نذره لله ولا يوالي في محبة الله ولا يعادي في الله كما يوالي ويعادي لذلك الند فمن قال إني لا أجد في قلبي أن الله أحد الي مما سواه فأحد الأمرين لازم إما أن يكون صادقا فيكون كافرا مخلدا في النار من الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وإما أن يكون غالطا في قوله لا أجد في قلبي هذا والإنسان قد يكون في قلبه معارف وإرادات ولا يدري أنها في قلبه فوجود الشيء في القلب شيء والدراية به شيء آخر ولهذا يوجد الواحد من هؤلاء يطلب تحصيل ذلك في قلبه وهو حاصل في قلبه فتراه يتعب تعبا كثيرا لجهله وهذا كالموسوس في الصلاة فإن كل من فعل فعلا باختياره وهو يعلم ما يفعله فلا بد أن ينويه ووجود ذلك بدون النية التي هي الإرادة ممتنع فمن كان يعلم أنه يقوم إلى الصلاة فهو يريد الصلاة ولا يتصور أن يصلي إلا وهو يريد الصلاة
5
399(186/276)
فطلب مثل هذا لتحصيل النية من جهله بحقيقة النية ووجودها في نفسه وكذلك من كان يعلم أن غدا من رمضان وهو مسلم يعتقد وجوب الصوم وهو مريد للصوم فهذا نية الصوم وهو حين يتعشى يتعشى عشاء من يريد الصوم ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد وعشاء ليالي شهر رمضان فليلة العيد يعلم أنه لا يصوم فلا يريد الصوم ولا ينويه ولا يتعشى عشاء من يريد الصوم وهذا مثل الذي يأكل ويشرب ويمشي ويركب ويلبس إذا كان يعلم أنه يفعل هذه الأفعال فلا بد أن يريدها وهذه نيتها فلو قال بلسانه أريد أن أضع يدي في هذا الإناء لآخذ لقمة آكلها كان احمق عند الناس فهكذا من يتكلم بمثل هذه الألفاظ في نية الصلاة والطهارة والصيام ومع هذا فتجد خلقا كثيرا من الموسوسين بعلم وعبادة يجتهد في تحصيل هذه النية أعظم مما يجتهد من يستخرج ما في قعر معدته من القيء أو من يبتلع الأدوية الكريهة وكذلك كثير من المعارف قد يكون في نفس الإنسان ضروريا وفطريا وهو يطلب الدليل عليه لإعراضه عما في نفسه وعدم شعوره بشعوره فهكذا كثير من المؤمنين يكون في قلبه محبة لله ورسوله وقد نظر في كلام الجهمية والمعتزلة نفاة المحبة واعتقد ذلك قولا صحيحا لما ظنه من صحة شبهاتهم أو تقليدا لهم فصار يقول بموجب ذلك الاعتقاد
5
400(186/277)
وينكر ما في نفسه فإن نافي محبة الله يقول المحبة لا تكون إلا لما يناسب المحبوب ولا مناسبة بين القديم والحديث وبين الواجب والممكن وبين الخالق والمخلوق فيقال لفظ المناسبة لفظ مجمل فإنه يقال لا مناسبة بين كذا وكذا أي أحدهما أعظم من الأخر فلا ينسب هذا إلى هذا كما يقال لا نسبة لمال فلان إلى مال فلان ولا نسبة لعلمه أو جوده أو ملكه إلى علم فلا وجود فلان وملك فلان يراد به أن هذه النسبة حقيرة صغيرة كلا نسبة كما يقال لا نسبة للخردلة إلى الجبل ولا نسبة للتراب إلى رب الأرباب فإذا أريد بأنه لا نسبة للمحدث إلى القديم هذا المعنى ونحوه فهو صحيح وليست المحبة مستلزمة لهذه النسبة وإن أريد أن ليس في القديم معنى يحبه لأجله المحدث فهذا رأس المسألة فلم قلت إنه ليس بين المحدث والقديم ما يحب المحدث القديم لأجله ولم قلت إن القديم ليس متصفا بمحبة ما يحبه من مخلوقاته والمحبة لا تستلزم نقصا بل هي صفة كمال بل هي أصل الإرادة فكل إرادة فلا بد أن تستلزم محبة فإن الشيء إنما يراد لأنه محبوب أو لأنه وسيلة إلى المحبوب ولو قدر عدم المحبة لامتنعت الإرادة فإن المحبة لازمة للإرادة فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وكذلك المحبة
5
401(186/278)
مستلزمة للإرادة فمن أحب شيئا فلا بد أن يتضمن حبه إياه إرادة لبعض متعلقاته ولهذا كان خلقه تعالى لمخلوقاته لحكمة والحكمة مرادة محبوبة فهو خلق ما خلق لمراد محبوب كما تقدم وهو سبحانه يحب عباده المؤمنين فيريد الإحسان إليهم وهم يحبونه فيريدون عبادته وطاعته وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين وما من مؤمن إلا وهو يجد في قلبه للرسول من المحبة مالا يجد لغيره حتى أنه إذا سمع محبوبا له من أقاربه وأصدقائه يسب الرسول هان عليه عداوته ومهاجرته بل وقتله لحب الرسول وإن لم يفعل ذلك لم يكن مؤمنا قال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبه الإيمان وأيدهم بروح منه سورة المجادلة بل قد
5
402
قال تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره سورة التوبة فتوعد من كان الأهل والمال أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاث من كن فبه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار فوجود حلاوة الإيمان في القلب لا تكون من محبة العوض الذي لم يحصل بعد بل الفاعل الذي لا يعمل إلا للكراء لا يجد حال العمل إلا التعب والمشقة وما يؤلمه فلو كان لا معنى لمحبة الله ورسوله إلا محبة
5
403(186/279)
ما سيصير إليه العبد من الأجر لم يكن هنا حلاوة إيمان يجدها العبد في قلبه وهو في دار التكليف والإمتحان وهذا خلاف الشرع وخلاف الفطرة التي فطر الله عليها قلوب عباده فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل مولود يولد على الفطرة وفي صحيح مسلم عنه أنه قال يقول الله تعالى خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا فالله فطر عباده على الحنيفية مله إبراهيم وأصلها محبة الله وحده فما من فطرة لم تفسد إلا وهي تجد فيها محبة الله تعالى لكن قد تفسد الفطرة إما لكبر وغرض فاسد كما في فرعون وإما بأن يشرك معه غيره في المحبة كما قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله سورة البقرة وأما أهل التوحيد الذين يعبدون الله مخلصين له الدين فإن في
5
404
قلوبهم محبة الله لا يماثله فيها غيره ولهذا كان الرب محمودا حمدا مطلقا على كل ما فعله وحمدا خاصا على إحسانه إلى الحامد فهذا حمد الشكر والأول حمده على كل ما فعله كما قال الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور سورة الأنعام الحمد لله فاطر السموات والأرض الآية سورة فاطر والحمد ضد الذم والحمد خبر بمحاسن المحمود مقرون بمحبته والذم خبر بمساوىء المذموم مقرون ببغضه فلا يكون حمد لمحمود إلا مع محبته ولا يكون ذم لمذموم إلا مع بغضه وهو سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة وأول ما نطق به آدم الحمد لله رب العالمين وأول ما سمع من ربه يرحمك ربك وآخر دعوى أهل الجنة أن الحمد لله رب العالمين وأول من يدعى إلى الجنة الحمادون ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب لواء الحمد آدم فمن دونه تحت لوائه وهو صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون فلا تكون عبادة إلا بحب المعبود ولا يكون حمد إلا بحب المحمود وهو سبحانه المعبود المحمود
5
405(186/280)
وأول نصف الفاتحة الذي للرب حمده وآخره عبادته أوله الحمد لله رب العالمين وآخره إياك نعبد كما ثبت في حديث القسمة يقول الله تبارك وتعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد الحمد لله رب العالمين فيقول الله حمدني عبدي يقول العبد الرحمن الرحيم فيقول الله تعالى أثنى علي عبدي يقول العبد مالك يوم الدين فيقول الله تبارك وتعالى مجدني عبدي يقول العبد إياك نعبد وإياك نستعين فيقول الله تعالى هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد أهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة يقول الله تعالى هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل رواه مسلم في صحيحه وقال النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير فجمع بين التوحيد
5
406
والتحميد كما قال تعالى فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين سورة غافر وكان ابن عباس يقول إذا قلت لا إله إلا الله فقل الحمد لله رب العالمين يتأول هذه الآية وفي سنن ابن ماجة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله
5
407
وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم وقال أيضا كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء
5
408(186/281)
فلا بد في الخطب من الحمد لله ومن توحيده ولهذا كانت الخطب في الجمع والأعياد وغير ذلك مشتملة على هذين الأصلين وكذلك التشهد في آخر الصلاة أوله ثناء على الله وآخره الشهادتان ولا يكون الثناء إلا على محبوب ولا التأله إلا لمحبوب وقد بسطنا الكلام في حقائق هذه الكلمات في مواضع متعددة وإذا كان العباد يحمدونه ويثنون عليه ويحبونه فهو سبحانه أحق بحمد نفسه والثناء على نفسه والمحبة لنفسه كما قال أفضل الخلق لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فلا ثناء من مثن أعظم من ثناء الرب على نفسه ولا ثناء إلا بحب ولا حب من محبوب لمحبوب أعظم من محبة الرب لنفسه وكل ما يحبه من عباده فهو تابع لحبه لنفسه فهو يحب المقسطين والمحسنين والصابرين والمؤمنين ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويفرح بتوبة التائبين كل ذلك تبعا لمحبته لنفسه فإن المؤمن إذا كان يحب ما يحبه من المخلوقات لله فيكون حبه للرسول والصالحين تبعا لحبه لله فكيف الرب تعالى فيما يحبه من مخلوقاته إنما يحبه تبعا لحبه لنفسه وخلق المخلوقات لحكمته التي يحبها
5
409
فما خلق شيئا إلا لحكمة وهو سبحانه قد قال أحسن كل شيء خلقه سورة السجدة وقال صنع الله الذي أتقن كل شيء سورة النمل وليس في أسمائه الحسنى إلا اسم يمدح به ولهذا كانت كلها حسنى والحسنى بخلاف السوأى فكلها حسنة والحسن محبوب ممدوح فالمقصود بالخلق ما يحبه ويرضاه وذلك أمر ممدوح ولكن قد يكون من لوازم ذلك ما يريده لأنه من لوازم ما يحبه ووسائله فإن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع كما يمتنع وجود العلم والإرادة بلا حياة ويمتنع وجود المولود مع كونه مولودا بلا ولادة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حديث الإستفتاح والخير كله بيديك والشر ليس إليك وقد قيل في تفسيره لا يتقرب به إليك بناء على أنه الأعمال المنهي عنها وقد قيل
5
410(186/282)
لا يضاف إليك بناء على أنه المخلوق والشر المخلوق لا يضاف إلى الله مجردا عن الخير قط وإنما يذكر على أحد وجوه ثلاثة إما مع إضافته إلى المخلوق كقوله من شر ما خلق سورة الفلق وإما مع حذف الفاعل كقوله تعالى وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا سورة الجن ومنه في الفاتحة صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة فذكر الإنعام مضافا إليه وذكر الغضب محذوفا فاعله وذكر الضلال مضافا إلى العبد وكذلك قوله وإذا مرضت فهو يشفين سورة الشعراء وإما أن يدخل في العموم كقوله خالق كل شيء سورة الأنعام ولهذا إذا ذكر باسمه الخاص قرن بالخير كقوله في أسمائه الحسنى الضار النافع المعطي المانع الخافض الرافع المعز المذل فجمع بين الأسمين لما فيه من العموم والشمول الدال على وحدانيته وأنه وحده يفعل جميع هذه الأشياء ولهذا لا يدعى بأحد الإسمين كالضار والنافع والخافض والرافع بل يذكران جميعا ولهذا كان كل نعمة منه فضلا وكل نقمة منه عدلا
5
411
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يمين الله ملأى لا يغضيها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه والقسط بيده الأخرى يخفض ويرفع فالإحسان بيده اليمنى والعدل بيده الأخرى وكلتا يديه يمين مباركة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المقسطون عند الله يوم القيامة عن منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذي يعدلون في أهليهم وما ولوا ولبسط هذا موضع آخر والمقصود هنا أنه سبحانه إذا خلق ما يبغضه ويكرهه لحكمة يحبها ويرضاها فهو مريد لكل ما خلقه وإن كان بعض مخلوقاته إنما خلقه لغيره وهو يبغضه ولا يحبه وهذا الفرق بين المحبة والمشيئة هو مذهب السلف وأهل الحديث والفقهاء وأكثر متكلمي أهل السنة كالحنفية والكرامية
5
412(186/283)
والمتقدمين من الحنبلية والمالكية والشافعية كما ذكر ذلك أبو بكر عبد العزيز في كتاب المقنع وهو أحد قولي الأشعري وعليه اعتمد أبو الفرج بن الجوزي ورجحه على قول من قال لا يحب الفساد للمؤمن أو لا يحبه دينا وذكر أبو المعالي أن هذا قول السلف وأن أول من جعلهما سواء من أهل الإثبات هو أبو الحسن والذين قالوا هذا من متأخري المالكية والشافعية والحنبلية كأبي المعالي والقاضي أبي يعلى وغيرهما هم في ذلك تبع للأشعري وبهذا الفرق يظهر أن الإرادة نوعان إرادة أن يخلق وإرادة لما أمر به فأما المأمور به فهو مراد إرادة شرعية دينية متضمنة أنه يحب ما أمر به ويرضاه وهذا معنى قولنا يريد من عبده فهو يريده له كما يريد الأمر الناصح للمأمور المنصوح يقول هذا خير لك وأنفع لك وهو إذا فعله أحبه الله ورضيه والمخلوقات مرادة إرادة خلقية كونية وهذه الإرادة متضمنة لما وقع دون ما لم يقع وقد يكون الشيء مرادا له غير محبوب بل أراده لإفضائه إلى وجود ما هو محبوب له أو لكونه شرطا في وجود ما هو محبوب له
5
413(186/284)
فهذه الإرادة الخلقية هي المذكورة في قوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا سورة الأنعام وفي قوله ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم سورة هود وفي قول المسلمين ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وفي قوله ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها سورة السجدة وأمثال ذلك والإرادة الأمرية هي المذكورة في قوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر سورة البقرة وفي قوله والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا سورة النساء وفي قوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم سورة المائدة وأمثال ذلك وإذا قيل الأمر هل يستلزم الإرادة أم يأمر بما لا يريد قيل هو لا يستلزم الإرادة الأولى وهي إرادة الخلق فليس كل ما أمر الله به أراد أن يخلقه وأن يجعل العبد المأمور فاعلا له والقدرية تنفى أن يريد ذلك لأنه عندهم لا يجعل أحدا فاعلا ولا
5
414(186/285)
يخلق فعل أحد وأما أهل السنة فعندهم هو الذي جعل الأبرار أبرارا والمسلمين مسلمين وعندهم من أمره وجعله فاعلا للمأمور صار فاعلا له وإن لم يجعله فاعلا له لم يصر فاعلا له فأهل الإيمان والطاعة أراد منهم إيمانهم وطاعتهم أمرا وخلقا فأمرهم بذلك وأعانهم عليه وجعلهم فاعلين لذلك ولولا إعانته لهم على طاعته لما أطاعوه وأهل الكفر والمعصية أمرهم ولم يجعلهم مطيعين فلم يرد أن يخلق طاعتهم لكنه أمرهم بها وأرادها منهم إرادة شرعية دينية لكونها منفعة لهم ومصلحة إذا فعلوها ولم يرد هو أن يخلقها لما في ذلك من الحكمة وإذا كان يحبها بتقدير وجودها فقد يكون ذلك مستلزما لأمر يكرهه أو لفوات ما هو أحب إليه منه ودفعه أحب إليه من حصول ذلك المحبوب فيكون ترك هذا المحبوب لدفع المكروه أحب إليه من وجوده كما أن وجود المكروه المستلزم لوجود المحبوب يجعله مرادا لأجله إذا كان محبته له أعظم من محبته لعدم المكروه الذي هو الوسيلة وليس كل من نصحته بقولك عليك أن تعينه على الفعل الذي أمرته به فالأنبياء والصالحون دائما ينصحون الناس ويأمرونهم ويدلونهم على ما إذا فعلوه كان صلاحا لهم ولم يعاونونهم على أفعالهم وقد يكونون قادرين لكن مقتضى حكمتهم أن لا يفعلوا ذلك لأسباب متعددة
5
415(186/286)
والرب تعالى على كل شيء قدير لكن ما من شيء إلا وله ضد ينافيه وله لازم لا بد منه فيمتنع وجود الضدين معا أو وجود الملزوم بدون اللازم كل من الضدين مقدور لله والله قادر على أن يخلقه لكن بشرط عدم الآخر فأما وجود الضدين معا فممتنع لذاته فلا يلزم من كونه قادرا على كل منهما وجود أحدهما مع الآخر والعباد قد لا يعلمون التنافي أو التلازم فلا يكونون عالمين بالامتناع فيظنونه ممكن الوجود مع حصول المحبوب المطلوب للرب وفرق بين العلم بالإمكان وعدم العلم بالإمتناع وإنما عندهم عدم العلم بالامتناع لا العلم بالإمكان والعدم لا فاعل له فأتوا من عدم علمهم وهو الجهل الذي هو أصل الكفر وهو سبحانه إذا اقتضت حكمته خلق شيء فلا بد من خلق لوازمه ونفي أضداده فإذا قال القائل لم لم يجعل معه الضد المنافي أو لم وجد اللازم كان لعدم علمه بالحقائق وهذا مثل أن يقول القائل هلا خلق زيدا قبل أبيه فيقال له يمتنع أن يكون ابنه ويخلق قبله أو يخلق حتى يخلق أبوه والناس تظهر لهم الحكمة في كثير من تفاصيل الأمور التي يتدبرونها كما تظهر لهم الحكمة في ملوحة ماء العين وعذوبة ماء الفم ومرارة
5
416(186/287)
ماء الأذن وملوحة ماء البحر وذلك يدلهم على الحكمة فيما لم يعلموا حكمته فإن من رأى إنسانا بارعا في النحو أو الطب أو الحساب أو الفقه وعلم أنه أعلم منه بذلك إذا أشكل عليه بعض كلامه فلم يفهمه سلم ذلك إليه فرب العالمين الذي بهرت العول حكمته ورحمته الذي أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا وهو أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأرحم بعباده من الوالدة بولدها كيف لا يجب على العبد أن يسلم ما جهله من حكمته إلى ما علمه منها وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه على المختلفين في الكتاب الذين يرد كل منهم قول الآخر وفي كلام كل منهم حق وباطل وقد ذكرنا مثالين مثالا في الأسماء والأحكام والوعد والوعيد ومثالا في الشرع والقدر ونذكر مثالا ثالثا في القرآن فإن الأئمة والسلف اتفقوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق بل هو الذي تكلم به بقدرته ومشيئته لم يقل أحد منهم إنه مخلوق ولا إنه قديم وصار المختلفون بعدهم على يقولون قوم يقول هو مخلوق خلقه الله في غيره والله لا يقوم به كلام ويقولون الكلام صفة فعل لا صفة ذات ومرادهم بالفعل ما كان منفصلا عن الفاعل غير قائم به وهذا لا يعقل أصلا ولا يعرف متكلم لا يقوم به كلامه
5
417(186/288)
وقوم يقولون بل هو قديم لم يزل قائما بالذات أزلا وأبدا لا يتكلم لا بقدرته ولا مشيئته ولم يزل نداؤه لموسى أزليا وكذلك قوله يا إبراهيم يا موسى يا عيسى ثم صار هؤلاء حزبين حزبا عرفوا أن ما كان قديما لم يزل يمتنع أن يكون حروفا أو حروفا وأصواتا فإن الحروف متعاقبة الباء قبل السين والصوت لا يبقى بل يكون شيئا بعد شيء كالحركة فيمتنع أن يكون الصوت الذي سمعه موسى قديما لم يزل ولا يزال فقالوا كلامه معنى واحد قائم بذاته هو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهي عنه والخبر بكل ما أخبر به إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وأن ذلك المعنى هو أمر بكل ما أمر به وهو نهي عن كل ما نهى عنه وهو خبر بكل ما أخبر به وكونه أمرا ونهيا وخبرا صفات له إضافية مثل قولنا زيد أب وعم وخال ليست أنواعا له ولا ينقسم الكلام إلى هذا وهذا قالوا والله لم يتكلم بالقرآن العربي ولا بالتوراة العبرانية ولا بالإنجيل السريانية ولا سمع موسى ولا غيره منه بأذنه صوتا ولكن القرآن العربي خلقه الله في غيره أو أحدثه جبريل أو محمد ليعبر به عما يراد إفهامه من ذلك المعنى الواحد
5
418(186/289)
فقال لهم جمهور الناس هذا القول مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول فإنا نعلم بالإضطرار أن معنى آية الكرسي ليس هو معنى آية الدين ولا معنى قل هو الله أحد هو معنى تبت يدا أبي لهب وقد عرب الناس التوراة فوجودا فيها معاني ليست هي المعاني التي في القرآن ونحن نعلم قطعا أن المعاني التي أخبر الله بها في القرآن في قصة بدر وأحد والخندق ونحو ذلك لم ينزلها الله على موسى ابن عمران كما لم ينزل على محمد تحريم السبت ولا الأمر بقتال عباد العجل فكيف يكون كل كلام الله معنى واحدا ونحن نعلم بالاضطرار أن الكلام معانيه وحروفه تنقسم إلى خبر وإنشاء والإنشاء منه الطلب والطلب ينقسم إلى أمر ونهي وحقيقة الطلب غير حقيقة الخبر فكيف لا تكون هذه أقسام الكلام وأنواعه بل هو موصوف بها كلها وأيضا فالله تعالى يخبر أنه لما أتى موسى الشجرة ناداه فناداه في ذلك الوقت لم يناده في الأزل وكذلك قال ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم سورة الأعراف وقال إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون سورة آل عمران وقال وإذ قال ربك للملائكة سورة البقرة إلى مواضع كثيرة من
5
419(186/290)
القرآن تبين أنه تكلم بالكلام المذكور في ذلك الوقت فكيف يكون أزليا أبديا ما زال ولا يزال وكيف يكون لم يزل ولا يزال قائلا يا نوح اهبط بسلام منا سورة هود يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي سورة آل عمران يا موسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا سورة طه يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا سورة المزمل آية وقال هؤلاء هذا القرآن العربي ليس هو كلام الله وقال هؤلاء كلام الله لا يتعدد ولا يتبعض فقال لهم الناس موسى لما كلمه الله أفهمه كلامه كله أو بعضه إن قلتم كله فقد صار موسى يعلم علم الله وإن قلتم بعضه فقد تبعض وهو عندكم واحد لا يتبعض وكذلك هذا القرآن العربي هو عندكم ليس كلام الله ولكنه عبارة عنه أفهو عبارة عن كله فهذا ممتنع أم عن بعضه فهذا ممتنع أيضا إلى كلام آخر يطول ذكره هنا وقال الحزب الثاني لما رأوا فساد هذا القول بل نقول إن القرآن قديم وإنه حروف أو حروف وأصوات وإن هذا القرآن العربي كلام الله كما دل على ذلك القرآن والسنة وإجماع المسلمين وفي القرآن مواضع كثيرة تبين أن هذا المنزل هو القرآن وهو كلام الله وأنه عربي وأخذوا يشنعون على أولئك إنكارهم أن يكون هذا كلام الله فإن
5
420(186/291)
أولئك أثبتوا قرآنين قرآنا قديما وقرآنا مخلوقا فأخذ هؤلاء يشنعون على أولئك بإثبات قرآنين فقال لهم أولئك فأنتم إذا جعلتم القرآن العربي وهو قديم كلام الله لزم أن يكون مخلوقا وكنتم موافقين للمعتزلة فإن قولكم إن القرآن العربي قديم ممتنع في صرائح العقول ولم يقل ذلك أحد من السلف ونحن وجميع الطوائف ننكر عليكم هذا القول ونقول إنكم ابتدعتموه وخالفتم به المعقول والمنقول وإلا فكيف تكون السين المعينة المسبوقة بالباء المعينة قديمة أزلية وتكون الحروف المتعاقبة قديمة والصوت الذي كان في هذا الوقت قديما ولم يقل هذا أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم وإن كان بعض المتأخرين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يقولونه ويقوله ابن سالم وأصحابه وطائفة من أهل الكلام والحديث فليس في هؤلاء أحد من السلف وإن كان الشهرستاني ذكر في نهاية الإقدام أن هذا قول السلف والحنابلة فليس هو قول السلف ولا قول أحمد بن حنبل ولا أصحابه القدماء ولا جمهورهم فصار كثير من هؤلاء الموافقين للسالمية وأولئك الموافقين للكلابية بينهم منازعات ومخاصمات بل وفتن وأصل ذلك قولهم جميعا إن
5
421(186/292)
القرآن قديم وهي أيضا بدعة لم يقلها أحد من السلف وإنما السلف كانوا يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وكان قولهم أولا إنه كلام الله كافيا عندهم فإما ما كان كلاما لمتكلم لا يجوز أن يكون منفصلا عنه فإن هذا مخالف للمعقول والمنقول في الكلام وفي جميع الصفات يمتنع أن يوصف الموصوف بصفة لا تكون قط قائمة به بل لا تكون إلا بائنة عنه وما يزعمه الجهمية والمعتزلة من أن كلامه وإرادته ومحبته وكراهته ورضاه وغضبه وغير ذلك كل ذلك مخلوقات له منفصلة عنه هو مما أنكره السلف عليهم وجمهور الخلف بل قالوا إن هذا من الكفر الذي يتضمن تكذيب الرسول وجحود ما يستحقه الله من صفاته وكلام السلف في رد هذا القول بل وإطلاق الكفر عليه كثير منتشر وكذلك لم يقل السلف إن غضبه على فرعون وقومه قديم ولا أن فرحه بتوبة التائب قديم وكذلك سائر ما وصف به نفسه من الجزاء لعباده على الطاعة والمعصية من رضاه وغضبه لم يقل أحد منهم إنه قديم فإن الخزاء لا يكون قبل العمل
5
422
والقرآن صريح بأن أعمالهم كانت سببا لذلك كقوله فلما آسفونا انتقمنا منهم سورة الزخرف وقوله ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم سورة محمد وقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله سورة آل عمران وأمثال ذلك بل قد ثبت في الصحيحين من حديث الشفاعة أن كلا من الرسل يقول إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وفي الصحيحين عن زيد بن خالد قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في إثر سماء كانت من الليل فلما انفتل من صلاته قال أتدرون ماذا قال ربكم الليلة قلنا الله ورسوله أعلم قال فإنه قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي فمن قال مطرنا بفضل الله ورحمته فهو مؤمن بي كافر بالكوكب ومن قال مطرنا بنوء كذا وكذا فهو كافر بي مؤمن بالكوكب
5
423(186/293)
وفي الصحيح الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه وفي القرآن والحديث من هذا ما يطول ذكره وقد بسطنا هذا في كتاب درء تعارض العقل والنقل وغيره وقد أخبر الله تعالى في القرآن بندائه لعباده في أكثر من عشرة مواضع والنداء لا يكون إلا صوتا باتفاق أهل اللغة وسائر الناس والله أخبر أنه نادى موسى حين جاء الشجرة فقال فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين سورة النمل فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك سورة طه فلما أتاها نودي من شاطىء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة سورة القصص وإذ نادى ربك موسى أن أئت القوم الظالمين سورة الشعراء وناديناه من جانب الطور الأيمن سورة مريم هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى سورة النازعات وما كنت بجانب الطور إذ نادينا سورة القصص ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون سورة القصص
5
424
في موضعين ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين سورة القصص وناداهما ربهما سورة الأعراف فمن قال إنه لم يزل مناديا من الأزل إلى الأبد فقد خالف القرآن والعقل ومن قال إنه بنفسه لم يناد ولكن خلق نداء في شجرة أو غيرها لزم أن تكون الشجرة هي القائلة إني أنا الله وليس هذا كقول الناس نادى الأمير إذ أمر مناديا فإن المنادي عن الأمير يقول أمر الأمير بكذا ورسم السلطان بكذا لا يقول أنا أمرتكم ولو قال ذلك لأهانه الناس والمنادي قال لموسى إنني أنا الله لا إله إلا انا فاعبدني سورة طه إني أنا الله رب العالمين سورة القصص وهذا لا يجوز أن يقوله ملك إلا إذا بلغه عن الله كما نقرأ نحن القرآن والملك إذا أمره الله بالنداء قال كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني أحب فلانا فأحبه ثم ينادي جبريل في السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فجبريل إذا(186/294)
5
425
نادى في السماء قال إن الله يحب فلانا فأحبوه والله إذا نادى جبريل يقول يا جبريل إني أحب فلانا ولهذا لما نادت الملائكة زكريا قال تعالى فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى سورة آل عمران وقال وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين سورة آل عمران ولا يجوز قط لمخلوق أن يقول إني أنا الله رب العالمين ولا يقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له والله تعالى إذا خلق صفة في محل كان المحل متصفا بها فإذا خلق في محل علما أو قدرة أو حياة أو حركة أو لونا أو سمعا أو بصرا كان ذلك المحل هو العالم به القادر المتحرك الحي المتلون السميع البصير فإن الرب لا يتصف بما يخلقه في مخلوقاته وإنما يتصف بصفاته القائمة به بل كل موصوف لا يوصف إلا بما يقوم به لا بما يقوم بغيره ولم يقم به فلو كان النداء مخلوقا في الشجرة لكانت هي القائلة إني أنا الله وإذا كان ما خلقه الرب في غيره كلاما له وليس له كلام إلا ما خلقه لزم أن يكون إنطاقه لأعضاء الإنسان يوم القيامة كلاما له وتسبيح الحصى كلاما له وتسليم الحجر على الرسول كلاما له بل يلزم أن يكون كل كلام في الوجود كلامه لأنه قد ثبت أنه خالق كل شيء
5
426(186/295)
وهكذا طرد قول الحلولية الإتحادية كابن عربي فإنه قال وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه ولهذا قال سليمان بن داود الهاشمي من قال إن قوله إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني سورة طه مخلوق فقوله من جنس قول فرعون الذي قال أنا ربكم الأعلى سورة النازعات فإن هذا مخلوق وهذا مخلوق يقول إن هذا يوجد أن يكون ما خلق فيه هذا القول هو القائل له كما كان فرعون هو القائل لما قام به قالوا وقولهم إن الكلام صفة فعل فيه تلبيس فيقال لهم أتريدون به أنه مفعول منفصل عن المتكلم أم تريدون به أنه قائم به فإن قلتم بالأول فهو باطل فلا يعرف قط متكلم بكلام وكلامه مستلزم كونه منفصلا عنه والفعل أيضا لابد أن لا يكون قائما بالفاعل كما قال السلف والأكثرون وإنما المفعول هو الذي يكون بائنا عنه
5
427(186/296)
والمخلوق المنفصل عن الرب ليس هو خلقه إياه بل خلقه للسموات والأرض ليس هو نفس السموات والأرض والذين قالوا الخلق هو المخلوق فروا من أمور ظنوها محذورة وكان ما فروا إليه شرا مما فروا منه فإنهم قالوا لو كان الخلق غير المخلوق لكان إما قديما وإما حادثا فإن كان قديما لزم قدم المخلوق وإن كان حادثا فلا بد له من خلق آخر فيلزم التسلسل فقال لهم الناس بل هذا منقوض على أصلكم فإنكم تقولون إنه يريد بإرادة قديمة والمرادات كلها حادثة فإن كان هذا جائزا فلماذا لا يجوز أن يكون الخلق قديما والمخلوق حادثا وإن كان هذا غير جائز بل الإرادة تقارن المراد لزم جواز قيام الحوادث به وحينئذ فيجوز أن يقوم به خلق مقارن للمخلوق فلزم فساد قولكم على التقديرين وكذلك إذا قيل إن الخلق حادث فلم قلتم إنه محتاج إلى خلق آخر فإنكم تقولون المخلوقات كلها حادثة ولا تحتاج إلى خلق حادث فلم لا يجوز أن تكون مخلوقة بخلق حادث وهو لا يحتاج إلى خلق آخر ومعلوم أن حدوثها بخلق حادث أقرب إلى العقول من حدوثها كلها بلا خلق أصلا فإن كان كل حادث يفتقر إلى خلق بطل قولكم وإن
5
428(186/297)
كان فيها مالا يفتقر إلى خلق جاز أن يكون الخلق نفسه لا يفتقر إلى خلق آخر وهذه المواضع مبسوطة في غير هذا الموضع والمقصود التمثيل بكلام المختلفين في الكتاب الذين في قول كل واحد منهم حق وباطل وأن الصواب ما دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان والناس لهم في طلب العلم والدين طريقان مبتدعان وطريق شرعي فالطريق الشرعي هو النظر فيما جاء به الرسول والإستدلال بأدلته والعمل بموجبها فلا بد من علم بما جاء به وعمل به لا يكفي أحدهما وهذا الطريق متضمن للأدلة العقلية والبراهين اليقينية فإن الرسول بين بالبراهين العقلية ما يتوقف السمع عليه والرسل بينوا للناس العقليات التي يحتاجون إليها كما ضرب الله في القرآن من كل مثل وهذا هو الصراط المستقيم الذي أمر الله عباده أن يسألوه هدايته وأما الطريقان المبتدعان فأحدهما طريق أهل الكلام البدعي والرأي البدعي فإن هذا فيه باطل كثير وكثير من أهله يفرطون فيما أمر الله به ورسوله من الأعمال فيبقى هؤلاء في فساد علم وفساد عمل وهؤلاء منحرفون إلى اليهودية الباطلة والثاني طريق أهل الرياضة والتصوف والعبادة البدعية وهؤلاء
5
429(186/298)
منحرفون إلى النصرانية الباطلة فإن هؤلاء يقولون إذا صفى الإنسان نفسه على الوجه الذي يذكرونه فاضت عليه العلوم بلا تعلم وكثير من هؤلاء تكون عبادته مبتدعة بل مخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فيبقون في فساد من جهة العمل وفساد من نقص العلم حيث لم يعرفوا ما جاء به الرسول وكثير ما يقع من هؤلاء وهؤلاء وتقدح كل طائفة في الأخرى وينتحل كل منهم اتباع الرسول والرسول ليس ما جاء به موافقا لما قال هؤلاء ولا هؤلاء ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين سورة آل عمران وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه على طريقة أهل البدع من أهل الكلام والرأي ولا على طريقة أهل البدع من أهل العبادة والتصوف بل كان على ما بعثه الله من الكتاب والحكمة وكثير من أهل النظر يزعمون أنه بمجرد النظر يحصل العلم بلا عبادة ولا دين ولا تزكية للنفس وكثير من أهل الإرادة يزعمون أن طريق الرياضة بمجرده تحصل المعارف بلا تعلم ولا نظر ولا تدبر للقرآن والحديث
5
430(186/299)
وكلا الفريقين غالط بل لتزكية النفس والعمل بالعلم وتقوى الله تأثير عظيم في حصول العلم لكن مجرد العمل لا يفيد ذلك إلا بنظر وتدبر وفهم لما بعث الله به الرسول ولو تعبد الإنسان ما عسى أن يتعبد لم يعرف ما خص الله به محمدا صلى الله عليه وسلم إن لم يعرف ذلك من جهته وكذلك لو نظر واستدل ماذا عسى أن ينظر لم يحصل له المطلوب إلا بالتعلم من جهته ولا يحصل التعلم المطابق النافع إلا مع العمل به وإلا فقد قال الله تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم سورة الصف وقال وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة سورة الآنعام وقال تعالى وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم سورة النساء وقال تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون سورة المطففين وقال أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون سورة الأعراف وقال ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لأتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما سورة النساء
5
431(186/300)
وقال قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم سورة المائدة وقال هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين سورة آل عمران وقال ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين سورة البقرة وكذلك لو جاع وسهر وخلا وصمت وفعل ماذا عسى أن يفعل لا يكون مهتديا إن لم يتعبد بالعبادات الشرعية وإن لم يتلق علم الغيب من جهة الرسول قال تعالى لأفضل الخلق الذي كان أزكى الناس نفسا وأكملهم عقلا قبل الوحي وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا سورة الشورى وقال قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحى إلي ربي إنه سميع قريب سورة سبأ وقال فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى سورة طه وقال تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيظ له شيطانا فهو له
5
432(186/301)
قرين سورة الزخرف أي عن الذكر الذي أنزلته قال المفسرون يعش عنه فلا يلتفت إلى كلامه ولا يخاف عقابه ومنه قوله وهذا ذكر مبارك أنزلناه سورة الأنبياء وقوله ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث سورة الأنبياء وشاهده في الآية الأخرى ومن أعرض عن ذكري سورة طه ثم قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى سورة طه فكل من عشا عن القرآن فإنه يقيض له شيطان يضله ولو تعبد بما تعبد ويعش روى عن ابن عباس يعمى وكذلك قال عطاء وابن زيد ابن أسلم وكذلك أبو عبيدة قال تظلم عينه واختاره ابن قتيبة ورجحه على قول من قال يعرض والعشا ضعف في البصر ولهذا قيل فيه يعش وقالت طائفة يعرض وهو رواية الضحاك عن ابن عباس وقاله قتادة واختاره الفراء والزجاج وهذا صحيح من جهة المعنى فإن قوله يعش ضمن معنى يعرض ولهذا عدى بحرف الجار عن كما يقال أنت أعمى عن محاسن فلان إذا أعرضت فلم تنظر إليها فقوله يعش أي يكن أعشى عنها وهو دون العمى فلم ينظر إليها إلا نظرا ضعيفا
5
433(186/302)
وهذا حال أهل الضلال الذين لم ينتفعوا بالقرآن فإنهم لا ينظرون فيه كما ينظرون في كلام سلفهم لأنهم يحسبون أنه لا يحصل المقصود وهم الذين عشوا عنه فقيضت لهم الشياطين تقترن بهم وتصدهم عن السبيل وهم يحسبون أنهم مهتدون ولهذا لا تجد في كلام من لم يتبع الكتاب والسنة بيان الحق علما وعملا أبدا لكثرة ما في كلامه من وساوس الشياطين وحدثني غير مرة رجل وكان من أهل الفضل والذكاء والمعرفة والدين أنه كان قد قرأ على شخص سماه لي وهو من أكابر أهل الكلام والنظر دروسا من المحصل لابن الخطيب وأشياء من إشارات ابن سينا قال فرأيت حالي قد تغير وكان له نور وهدى ورؤيت له منامات سيئة فرآه صاحب النسخة بحال سيئة فقص عليه الرؤيا فقال هي من كتابك وإشارات ابن سينا يعرف جمهور المسلمين الذين يعرفون دين الإسلام أن فيها إلحادا كثيرا بخلاف المحصل يظن كثير من الناس أن فيه بحوثا تحصل المقصود قال فبكيت عليه محصل في أصول الدين حاصله من بعد تحصيله أصل بلا دين أصل الضلالات والشك المبين فما فيه فأكثره وحي الشياطين قلت وقد سئلت أن أكتب على المحصل ما يعرف به الحق فيما
5
434(186/303)
ذكره فكتبت من ذلك ما ليس هذا موضعه وكذلك تكلمت على ما في الإشارات في مواضع أخر والمقصود هنا التنبيه على الجمل فما في المحصل وسائر كتب الكلام المختلف أهله كتب الرازي وأمثاله من الكلابية ومن حذا حذوهم وكتب المعتزلة والشيعة والفلاسفة ونحو هؤلاء لا يوجد فيها ما بعث الله به رسله في أصول الدين بل يوجد فيها حق ملبوس بباطل ويكفيك نفس مسألة خلق الرب مخلوقاته لا تجد فيها إلا قول القدرية والجهمية والدهرية إما العلة التي تثبتها الفلاسفة الدهرية أو القادر الذي تثبته المعتزلة والجهمية ثم إن كان من الكلابية أثبت تلك الإرادة الكلابية ومن عرف حقائق هذه الأقوال تبين له أنها مع مخالفتها للكتاب والسنة وإجماع السلف مخالفة لصرائح العقول وكذلك قولهم في النبوات فالمتفلسفة تثبت النبوة على أصلهم
5
435
الفاسد أنها قوة قدسية تختص بها بعض النفوس لكونها أقوى نيلا للعلم وأقوى تأثيرا في العالم وأقوى تخيلا لما تعقله في صور متخيلة وأصواب متخيلة وهذه الثلاثة هي عندهم خاصة النبي ومن اتصف بها فهو نبي القوة القدسية العلمية والتأثير في الهيولي وما يتخيله في نفسه من أصوات هي كلام الله ومن صور هي عندهم ملائكة الله ومعلوم عند من اعتبر العالم أن هذا القدر يوجد بكثير من آحاد الناس وأكثر الناس لهم نصيب من هذه الثلاثة ولهذا طمع كثير من هؤلاء في أن يصير نبيا ولهذا قال هؤلاء إن النبوة مكتسبة وإنما قالوا هنا لأنهم لم يثبتوا الله علما بالجزئيات ولا قدرة ولا كلاما يتكلم به تنزل به ملائكته ثم إن الجهمية والمعتزلة يردون عليهم تارة ردا مقاربا وتارة ردا ضعيفا لكونهم جعلوا صانع العالم يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح وجعلوا القادر المختار يرجح بل مرجح وزعم أكثرهم أنه مع وجود القدرة والداعي التام لا يجب وجود الفعل ففزعوا من الموجب بالذات ولفظ الموجب بالذات مجمل فالذي ادعته المتفلسفة باطل
5
436(186/304)
فإنهم أثبتوا موجبا بذات مجردة عن الصفات يستلزم مفعولاته حتى لا يتأخر عنه شيء وأثبتوا له من الوحدة ما يضمنونه نفي صفاته وأفعاله القائمة به وقالوا الواحد لا يصدر عنه إلا واحد والواحد الذي ادعوه لا حقيقة له إلا في الأذهان لا في الأعيان والكلام على مذاهبهم وابطالها مبسوط في موضع آخر وقد بينا أنهم أكثر الناس تناقضا واضطرابا وأن دعواهم أنه علة موجبة للمعلول أزلا وأبدا فاسدة من وجوه كثيرة وأما إذا قيل هو موجب بالذات بمعنى أنه يوجب بمشيئته وقدرته ما يريد أن يفعله فهذا هو الفاعل بقدرته ومشيئته فتسمية المسمى له موجبا بذاته نزاع لفظي وأكثر الجهمية والقدرية لا يقولون إنه بقدرته ومشيئته يلزم وجود مقدوروه بل قد يحصل وقد لا يحصل فيرجح إن حصل بلا مرجح وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر والمقصود هنا أن الجهمية تثبت نبوة لا تستلزم فصل صاحبها ولا كماله ولا اختصاصه قط بشيء من صفات الكمال بل يجوز أن يجعل من هو من أجهل الناس نبيا ثم الجهمية المحضة عندهم يخلق الله كلاما في غيره فينزل به الملك وأما الكلابية فعندهم النبوة تعلق المعنى القائم بالذات بالنبي بمعنى أنت عبدي ورسولي فيقولون في النبوة من جنس ما قالوه في
5
437(186/305)
أحكام أفعال العباد إنه ليس للحكم معنى إلا تعلق المعنى القائم بالذات به والمعنى القائم بالذات المتعلق به لا يثبتون في الإيمان والتقوى والأعمال الصالحة خاصة تميزت به عن السيئات حتى أمر بها لأجلها وكذلك في النبوة والمعتزلة ومن وافقهم يثبتون لله شريعة بالقياس على عبادة فيوجبون عليه من جنس ما يجب عليهم ويحرمون عليه من جنس ما يحرم عليهم ولا يجعلون أمره ونهيه وحبه وبغضه ورضاه وسخطه له ثأثير في الأعمال بل صفاتها ثابتة بدون الخطاب والخطاب مجرد كاشف بمنزلة الذي يخبر عن الشمس والقمر والكواكب بما هي متصفة به والله سبحانه قد أخبر أنه يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس والإصطفاء افتعال من التصفية كما أن الإختيار افتعال من الخيرة فيختار من يكون مصطفى وقد قال الله أعلم حيث يجعل رسالته سورة الأنعام فهو أعلم بمن يجعله رسولا ممن لم يجعله رسولا ولو كان كل الناس يصلح للرسالة لامتنع هذا وهو عالم بتعيين الرسول وأنه أحق من غيره بالرسالة كما دل القرآن على ذلك وقد قالت خديجة رضي الله عنها لما فجأ الوحي النبي
5
438
صلى الله عليه وسلم وخاف من ذلك فقالت له كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق وكانت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها أعقل وأعلم من الجهمية حيث رأت أن من جعله الله على هذه الأخلاق الشريفة المتضمنة لعدله وإحسانه لا يخزيه الله فإن حكمة الرب تأبى ذلك وهؤلاء عندهم هذا لا يعلم بل قد يخزي من يكون كذلك وقد ينبأ شر الناس كأبي جهل وغيره ولهذا أنكر المازري وغيره على خديجة كما أنكروا على هرقل استدلاله بما استدل به في حديث أبي سفيان المشهور لما سأل عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم
5
439(186/306)
والله سبحانه إذا اتخذ رسولا فضله بصفات أخرى لم تكون موجودة فيه قبل إرساله كما كان يظهر لكل من رأى موسى وعيسى ومحمد من أحوالهم وصفاتهم بعد النبوة وتلك الصفات غير الوحي الذي ينزل عليهم فلا يقال إن النبوة مجرد صفة إضافية كأحكام الأفعال كما تقوله الجهمية ولهذا لما صار كثير من أهل النظر كالرازي وأمثاله ليس عندهم إلا قول الجهمية والقدرية والفلاسفة تجدهم في تفسير القرآن وفي سائر كتبهم يذكرون أقوالا كثيرة متعددة كلها باطلة لا يذكرون الحق مثل تفسيره للهلال وقد قال تعالى يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج سورة البقرة فذكر قول أهل الحساب فيه وجعله من أقوال الفلاسفة وذكر قول الجهمية الذين يقولون إن القادر المختار يحدث فيه الضوء بلا سبب أصلا ولا لحكمة وكذلك إذا تكلم في المطر يذكر قول أولئك الذين يجعلونه حاصلا عن مجرد البخار المتصاعد والمنعقد في الجو وقول من يقول إنه أحدثه الفاعل المختار بلا سبب ويذكر قول من يقول إنه نزل من
5
440
الأفلاك وقد يرجح هذا القول في تفسيره ويجزم بفساده في موضع آخر وهذا القول لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا أئمة المسلمين بل سائر أهل العلم من المسلمين من السلف والخلف يقولون إن المطر نزل من السحاب ولفظ السماء في اللغة والقرآن اسم لكل ما علا فهو اسم جنس للعالي لا يتعين في شيء إلا بما يضاف إلى ذلك وقد قال فليمدد بسبب إلى السماء سورة الحج وقال أنزل الله من السماء ماء سورة الأنعام وقال أمتم من في السماء سورة تبارك والمراد بالجميع العلو ثم يتعين هنا بالسقف ونحوه وهنا بالسحاب وهناك بما فوق العالم كله فقوله أنزل من السماء ماء سورة الأنعام أي من العلو مع قطع النظر عن جسم معين لكن قد صرح في موضع آخر بنزوله من السحاب كما قي قوله أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون سورة الواقعة والمزن السحاب
5
441(186/307)
وقوله ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله سورة النور والودق المطر وقال تعالى الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله سورة الروم فأخبر سبحانه أنه يبسط السحاب في السماء وهذا مما يبين أنه لم يرد بالسماء هنا الأفلاك فإن السحاب لا يبسط في الأفلاك بل الناس يشاهدون السحاب يبسط في الجو وقد يكون الرجل في موضع عال إما على جبل أو على غيره والسحاب يبسط أسفل منه وينزل منه المطر والشمس فوقه والرازي لا يثبت على قول واحد بل هو دائما ينصر هنا قولا وهناك ما يناقضه لأسباب تقتضي ذلك وكثير من الناس يفهمون من القرآن ما لا يدل عليه وهو معنى فاسد ويجعلون ذلك يعارض العقل وقد بينا في مصنف مفرد درء تعارض العقل والنقل وذكرنا فيه عامة ما يذكرون من العقليات في معارضة الكتاب والسنة وبينا أن التعارض لا يقع إلا إذا كان ما سمى معقولا فاسدا وهذا هو الغالب على كلام أهل البدع أو أن يكون ما أضيف
5
442(186/308)
إلى الشرع ليس منه إما حديث موضوع وإما فهم فاسد من نص لا يدل عليه وإما نقل إجماع باطل ومن هذا كثير من الناس ذم الأحكام النجومية ولا ريب أنها مذمومة بالشرع مع العقل وأن الخطأ فيها أضعاف الصواب وأن من اعتمد عليها في تصرفاته وأعرض عما أمر الله به ورسوله خسر الدنيا والآخرة لكن قد يردونها على طريقة الجهمية ونحوهم بأن يدعوا أنه لا أثر لشيء من العلويات في السفليات أصلا إما على طريقة الجهمية لكن تلك لا تنفي العادات الإقترانية وإن لم تثبت سببا ومسببا وحكمة وإما بناء على نفي العادة في ذلك ثم قد ينازعون في استدارة الأفلاك ويدعون شكلا آخر وقد بينا في جواب المسائل التي سئلت عنها في ذلك أن الأفلاك مستديرة عند علماء المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان كما ثبت ذلك عنهم بالأسانيد المذكورة في موضعها بل قد نقل إجماع المسلمين على ذلك غير واحد من علماء المسلمين الذين هم من أخبر الناس بالمنقولات كأبي الحسين بن المنادى أحد أكابر الطبقة الثانية من
5
443
أصحاب الإمام أحمد وله نحو أربعمائة مصنف وأبي محمد بن حزم الأندلسي وأبي الفرج بن الجوزي وقد دل ذلك على الكتاب والسنة كما قد بسط في الإحاطة وغيرها وكذلك المطر معروف عند السلف والخلف بأن الله تعالى يخلقه من الهواء ومن البخار المتصاعد لكن خلقه للمطر من هذا كخلق الإنسان من نطفة وخلقه للشجر والزرع من الحب والنوى فهذا معرفة بالمادة التي خلق منها ونفس المادة لا توجب ما خلق منها باتفاق العقلاء بل لا بد مما به يخلق تلك الصورة على ذلك الوجه وهذا هو الدليل على القادر المختار الحكيم الذي يخلق المطر على قدر معلوم وقت الحاجة إليه والبلد الجرز يسوق إليه الماء من حيث أمطر كما قال أو
5
444(186/309)
لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجزر فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون سورة السجدة فالأرض الجرز لا تمطر ما يكفيها كأرض مصر لو أمطرت المطر المعتاد لم يكفها فإنها أرض إبليز وإن أمطرت كثيرا مثل مطر شهر خربت المساكن فكان من حكمة الباري ورحمته أن أمطر مطرا أرضا بعيدة ثم ساق ذلك الماء إلى أرض مصر فهذه الآيات يستدل بها على علم الخالق وقدرته ومشيئته وحكمته وإثبات المادة التي خلق منها المطر والشجر والإنسان والحيوان مما يدل على حكمته ونحن لا نعرف شيئا قط خلق إلا من مادة ولا أخبر الله في كتابه بمخلوق إلا من مادة وكذلك كون كسوف الشمس وغيره سببا لبعض الحوادث هو مما دلت عليه النصوص الصحيحة ففي الصحاح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا
5
445
لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله عز وجل يخوف الله بهما عباده فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وقد ثبت عنه في الصحاح أنه صلى صلاة الكسوف بركوع زائد في كل ركعة وأنه طولها تطويلا لم يطوله في شيء من صلوات الجماعات وأمر عند الكسوف بالصلاة والذكر والدعاء والعتاقة والصدقة والإستغفار وقوله يخوف الله بهما عباده كقوله تعالى وما نرسل بالآيات إلا تخويفا سورة الإسراء ولهذا كانت الصلوات مشروعة عند الآيات عموما مثل تناثر الكواكب والزلزلة وغير ذلك والتخويف إنما يكون بما هو سبب للشر المخوف كالزلزلة والريح العاصف وإلا فما وجوده كعدمه لا يحصل به تخويف فعلم أن الكسوف سبب للشر ثم قد يكون عنه شر ثم القول فيه كالقول في سائر الأسباب هل هو سبب كما عليه جمهور الأمة أو هو مجرد اقتران عادة كما يقوله الجهمية وهو صلى الله عليه وسلم أخبر عند أسباب الشر بما يدفعها من
5
446(186/310)
العبادات التي تقوي ما انعقد سببه من الخير وتدفع أو تضعف ما انعقد سببه من الشر كما قال إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض والفلاسفة تعترف بهذا لكن هل ذلك بناء على أن الله يدفع ذلك بقدرته وحكمته أو بناء على أن القوى النفسانية تؤثر هذا مبني على أصولهم في هذا الباب ويحكى عن بطليموس أنه قال ضجيج الأصوات في هياكل العبادات بفنون اللغات تحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات وعن
5
447
أبقراط أنه قال واعلم أن طبنا بالنسبة إلى طب أرباب الهياكل كطب العجائز بالنسبة إلى طبنا فالقوم كانوا معترفين بما وراء القوى الطبيعية والفلكية وليس ذلك مجرد القوى النفسانية كما يقوله ابن سينا وطائفة بل ملائكة ملء العالم العلوي والسفلي والجن أيضا لا يحصى عددهم إلا الله والله قد وكل الملائكة بتدبير هذا العالم بمشيئته وقدرته كما دلت على ذلك الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة وكما يستدل على ذلك أيضا بأدلة عقلية والملائكة أحياء ناطقون ليسوا أعراضا قائمة بغيرها كما يزعمه كثير من المتفلسفة ولا هي مجرد العقول العشرة والنفوس التسعة بل هذه باطلة بأدلة كثيرة
5
448(186/311)
وما يثبتونه من المجردات المفارقات لا يحصل معهم منه غير النفس الناطقة فإنها تفارق بدنها وما سوى ذلك فلا يثبت معهم على طريقهم إلا المجردات المعقولة في الأذهان وهي الكليات المعقولة ولكنهم يظنون ثبوت ذلك في الخارج كما يظن شيعة أفلاطون ثبوت المثل الأفلاطونية في الخارج فتثبت كليات قديمة أزلية أبدية مفارقة كإنسان كلي وهذا هو غلطهم حيث ظنوا ما هو في الأذهان موجودا في الأعيان وكذلك ما يثبتونه من الجواهر العقلية وهي أربعة العقل والنفس والمادة والصورة وطائفة منهم كشيعة أفلاطون تثبت جوهرا عقليا هو الدهر وجوهرا عقليا هو الخير وتثبت جوهرا عقليا هو المادة الأولى المعارضة للصورة وكل هذه العقليات التي يثبتونها إذا حققت غاية التحقيق تبين أنها أمور معقولة في النفس فيتصورها في نفسه فهي معقولات في قلبه وهي مجردة عن جزئياتها الموجودة في الخارج فإن العقل دائما ينتزع من الأعيان المعينة المشهودة كليات مشتركة عقلية كما يتصور زيدا وعمرا وبكرا ثم يتصور إنسانا مشتركا كليا ينطبق على زيد وعمر وبكر
5
449(186/312)
ولكن هذا المشترك إنما هو في قلبه وذهنه يعقله بقلبه ليس في الخارج إنسان مشترك كلي يشترك فيه هذا وهذا بل كل إنسان يختص بذاته وصفاته لا يشاركه غيره في شيء مما قام به قط وإذا قيل الإنسانية مشتركة أو الحيوانية فالمراد أن في هذا حيوانية وإنسانية تشابه ما في هذا من الحيوانية والإنسانية ويشتركان في مسمى الإنسانية والحيوانية وذلك المسمى إذا أخذ مشتركا كليا لم يكن إلا في الذهن وهو تارة يوجد مطلقا بشرط الإطلاق فلا يكون إلا في الذهن عند عامة العقلاء إلا من أثبت المثل الأفلاطونية في الخارج وتارة يوجد مطلقا لا بشرط الإطلاق بحيث يتناول المعينات وهذا قد يقال إنه موجود في الخارج وهو موجود في الخارج معينا مقيدا مخصوصا فيقال هذا الإنسان وهذا الحيوان وهذا الفرس وأما وجوده في الخارج مع كونه مشتركا في الخارج فهذا باطل ولهذا كان من المعروف عندهم أن الكليات ثابتة في الأذهان لا في الأعيان ومن قال إن الكلي الطبيعي موجود في الخارج فمعناه الصحيح أن ما هو كلي إذا كان في الذهن يوجد في الخارج لكن لا يوجد في الخارج كليا وهذا كما يقال ما يتصوره الذهن قد يوجد في
5
450(186/313)
الخارج وقد لا يوجد ولا يراد بذلك أن نفس الصورة الذهنية تكون بعينها في الخارج ولكن يراد به أن ما يتصور في الذهن قد يوجد في الخارج كما يوجد أمثاله في الخارج كما يتصور الإنسان دارا يبنيها وعملا يعمله ويقول الرجل لغيره جئت بما كان في نفسي وفعلت هذا كما كان في نفسي وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه زورت في نفسي مقالة فجاء أبو بكر في بديهته بأحسن منها وهذا كله معروف عند الناس فإن الشيء له وجود في نفسه وله مثال مطابق له في العلم ولفظ يدل على ذلك المثال العلمي وخط يطابق ذلك اللفظ ويقال له وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البنان ووجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي كالشمس الموجودة والكعبة الموجودة ثم إذا رأى الإنسان الشمس يمثلها في نفسه ثم يقول بلسانه شمس وكعبة ثم يكتب بخطه شمس وكعبة فإذا كتب وقيل هذه الشمس التي في السماء وهذه الكعبة التي يصلي إليها المسلمون لم يرد بذلك أن الخط هو الشمس والكعبة ولكن المعنى معروف كما إذا قال يا زيد فالمنادي لا ينادي الصوت وإذا قال ضربت
5
451(186/314)
زيدا لم يرد أنه ضرب الحروف لكن قد عرف أنه إذا أطلق الأسماء المراد مسمياتها التي جعلت الأسماء دالة عليها وإذا كتبت الأسماء فالمراد بالخط ما يراد باللفظ فإذا قيل لما في الورقة هذه الكعبة من الحجاز فالمراد المسمى بالإسم اللفظي الذي طابقه الخط ومثل هذا كثير يعرفه كل أحد فإذا قيل لما في النفس ليس بعينه هو الموجود في الخارج فهو بهذا الإعتبار أي ما تصورته في النفس موجود في الخارج لكن يطابقه مطابقة المعلوم للعلم فإذا قيل الكلي الطبيعي في الخارج فهو بهذا الإعتبار أي يوجد في الخارج ما يطابقه الكلي الطبيعي فإنه المطلق لا بشرط فيطابق المعينات بخلاف المطلق بشرط الإطلاق فإن هذا لا يطابق المعينات وأما أن يقال إن في الخارج أمرا كليا مشتركا فيه بعينه هو في هذا المعين وهذا المعين فهذا باطل قطعا وإن كان قد قاله طائفة وأثبتوا ماهيات مجردة في الخارج عن المعينات وقالوا إن تلك الماهية غشيتها غواش غريبة وإن أسباب الماهية غير أسباب الوجود وهذا قد بسط الكلام عليه في الكلام على المنطق وعلى الإشارات وغير ذلك وبين أن الذي لا ريب فيه أن ما يتصور في الأذهان ليس هو الموجود في
5
452(186/315)
الأعيان فمن عني بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج فهو مصيب في قوله الوجود مغاير للماهية وأما إذا عني بالماهية ما في الخارج وبالوجود ما في الخارج وبالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الذهن وإدعى أن في الذهن شيئين وأن في الخارج شيئين وجود وماهية فهذا يتخيل خيالا لا حقيقه له وبهذا التفصيل يزول الإشتباه الحاصل في هذا الموضع ولفظ الماهية مأخود من قول السائل ما هو وما هو سؤال عما يتصوره المسؤل ليجيب عنه وتلك هي الماهية للشيء في نفسه والمعنى المدلول عليه باللفظ لا بد أن يكون مطابقا للفظ فتكون دلالة اللفظ عليه بالمطابقة ودلالة اللفظ على بعض ذلك المعنى بالتضمن ودلالته على لازم ذلك المعنى بالإلتزام وليست دلالة المطابقة دلالة اللفظ على ما وضع له كما يظنه بعض الناس ولا دلالة التضمن استعمال اللفظ في جزء معناه ولا دلالة الإلتزام استعمال اللفظ في لازم معناه بل يجب الفرق بين ما وضع له اللفظ وبين ما عناه المتكلم باللفظ وبين ما يحمل المستمع عليه اللفظ فالمتكلم إذا استعمل اللفظ في
5
453(186/316)
معنى فذلك المعنى هو الذي عناه باللفظ وسمي معنى لأنه عني به أي قصد وأريد بذلك فهو مراد المتكلم ومقصوده بلفظه ثم قد يكون اللفظ مستعملا فيما وضع له وهو الحقيقة وقد يكون مستعملا في غير ما وضع له وهو المجاز وقد يكون المجاز من باب استعمال لفظ الجميع في البعض ومن باب استعمال الملزوم في اللازم وقد يكون في غير ذلك وذلك كله دلالة اللفظ على مجموع المعنى وهي دلالة المطابقة سواء كانت الدلالة حقيقة أو مجازية أو غير ذلك ثم ذلك المعنى المدلول عليه اللفظ إذا كان له جزء فدلالة اللفظ عليه تضمن لأن اللفظ تضمن ذلك الجزء ودلالته على لازم ذلك المعنى هي دلالة الملزوم وكل لفظ استعمل في معنى فدلالته عليه مطابقة لأن اللفظ طابق المعنى بأي لغة كان سواء سمي ذلك حقيقة أو مجازا فالماهية التي يعنيها المتكلم بلفظه دلالة لفظه عليها دلالة مطابقة ودلالته على ما دخل فيها دلالة تضمن ودلالته على ما يلزمها وهو خارج عنها دلالة الإلتزام
5
454(186/317)
فإذا قيل الصفات الذاتية الداخلة في الماهية والخارجة عن الماهية وعني بالداخل ما دل عليه اللفظ بالتضمن وبالخارج ما دل عليه بالالتزام فهذا صحيح وهذا الدخول والخروج هو بحسب ما تصوره المتكلم فمن تصور حيوانا ناطقا فقال إنسان كانت دلالته على المجموع مطابقة وعلى أحدهما تضمن وعلى اللازم مثل كونه ضاحكا التزام وإذا تصور إنسانا ضاحكا كانت دلالة إنسان على المجموع مطابقة وعلى أحدهما تضمن وعلى اللازم مثل كونه ناطقا التزام وأما أن تكون الصفات اللازمة للموصوف في الخارج بعضها داخل في حقيقته وماهيته وبعضها خارج عن حقيقته وماهيته والداخل هو الذاتي والخارج ينقسم إلى لازم للماهية والوجود وإلى لازم للوجود دون الماهية فهذا كله مما قد بسط الكلام عليه في مواضع وبينا ما في المنطق اليوناني من الأغاليط التي بعضها من معلمهم الأول وبعضها من تغيير المتأخرين وتكلمنا على ما ذكره أئمتهم في ذلك واحدا واحدا كابن سينا
5
455
وأبي البركات وغيرهما وأنه يوجد من كلامهم أنفسهم ومن رد بعضهم على بعض ما يبين أن ما ذكروه من تقسيم الصفات اللازمة للموصوف إلى هذه الأقسام الثلاثة تقسيم باطل إلا إذا جعل ذلك باعتبار ما في الذهن من الماهية لا باعتبار ماهية موجودة في الخارج وكذلك ما فرعوه على هذا من أن الإنسان مركب من الجنس والفصل فإن هذا التركيب ذهني لا حقيقة له في الخارج وتركبه من الحيوان والناطق من جنس تركبه من الحيوان والضاحك إذا جعل كل من الصفتين لازما ملزوما وأريد الضاحك بالقوة والناطق بالقوة وأما إذا قيل في الخارج الإنسان مركب من هذا وهذا فإن أريد به أن الإنسان موصوف بهذا وهذا فهذا صحيح وكذلك إذا فرق بين الصفات اللازمة للإنسان التي لا يكون إنسانا إلا بها كالحيوانية والناطقية والضاحكية وبين ما يعرض لبعض الناس كالسواد والبياض والعربية والعجمية فهذا صحيح أما إذا قيل هو مركب من صفاته اللازمة له وهي أجزاء له وهي
5(186/318)
456
متقدمة عليه تقدما ذاتيا فإن الجزء قبل الكل والمفرد قبل المركب وأريد بذلك التركيب في الخارج فهذا كله تخليط فإن الصفة تابعة للموصوف فكيف تكون متقدمة عليه بوجه من الوجوه وإذا قيل هو مركب من الحيوانية والناطقية أو من الحيوان والناطق فإن أريد أنه مركب من جوهرين قائمين بأنفسهما لزم أن يكون في كل موصوف جواهر كثيرة بعدد صفاته فيكون في الإنسان جوهر هو جسم وجوهر هو حساس وجوهر هو نام وجوهر هو متحرك بالإرادة وجوهر هو ناطق ومعلوم أن هذا خطأ بل الإنسان جوهر قائم بنفسه موصوف بهذه الصفات فيقال جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق وإن أريد به أنه مركب من عرضين فالإنسان جوهر والجوهر لا يتركب من أعراض لاحقة له فضلا عن أن تكون سابقة له متقدمة عليه وهذا كله قد بسطناه في مواضع وإنما كان المقصود هنا أن هؤلاء الفلاسفة كثيرا ما يغلطون في جعل الأمور الذهنية المعقولة في النفس فيجعلون ذلك بعينه أمورا موجودة في الخارج فأصحاب فيثاغورس القائلون بالأعداد المجردة في الخارج من هنا كان غلطهم وأصحاب
5
457
أفلاطون الذي أثبتوا المثل الأفلاطونية من هنا كان غلطهم وأصحاب صاحبه أرسطو الذين أثبتوا جواهر معقولة مجردة في الخارج مقارنة للجواهر الموجودة المحسوسة كالمادة والصورة والماهية الزائدة على الوجود في الخارج من هنا كان غلطهم وهم إذا أثبتوا هذه الماهية قيل لهم أهي في الذهن أم في الخارج ففي أيهما أثبتوها ظهر غلطهم وإذا قالوا نثبتها مطلقة مع قطع النظر
5
458(186/319)
عن هذا وهذا أو أعم من هذا وهذا قيل عدم نظر الناظر لا يغير الحقائق عما هي عليه في نفس الأمر إما في الذهن وإما في الخارج وما كان أعم منها فهو أيضا في الذهن فإنك إذا قدرت ماهية لا في الذهن ولا في الخارج لم تكن مقدرا إلا في الذهن ومعنى ذلك أن هذا التقدير في الذهن لا أن الماهية التي قيل عنها ليست في الذهن هي في الذهن بل الماهية التي تصورها الإنسان في ذهنه يمكنه تقديرها ليست في ذهنه مع أن تقديرها ليست في ذهنه هو في ذهنه وإن كان تقديرا ممتنعا بل يجب الفرق بين الماهية المقيدة بكونها في الذهن وبين الماهية المطلقة التي لا تتقدر بذهن ولا خارج مع العلم بأن هذه الماهية المطلقة لا تكون أيضا إلا في الذهن وإن أعرض الذهن عن كونها في الذهن فكونها في الذهن شيء والعلم بكونها في الذهن شيء آخر وهؤلاء يتصورون أشياء ويقدرونها وذلك لا يكون إلا في الذهن لكن حال ما يتصور الإنسان شيئا في ذهنه ويقدره قد لا يشعر بكونه في الذهن كمن رأى الشيء في الخارج فاشتغل بالمرئي عن كونه رائيا له وهذا يشبه ما يسميه بعضهم الفناء الذي يفنى بمذكوره عن ذكره
5
459(186/320)
وبمحبوبه عن محبته وبمعبوده عن عبادته ونحو ذلك كما يقدر الشيء بخلاف ما هو عليه كما إذا قدر أن الجبل من ياقوت والبحر من زئبق فتقدير الأمور على خلاف ما هي عليه هو تقدير اعتقادات باطلة والإعتقادات الباطلة لا تكون إلا في الأذهان فمن قدر ماهية لا في الذهن ولا في الخارج فهو مثل من قدر موجودا لا واجبا ولا ممكنا ولا قديما ولا محدثا ولا قائما بنفسه ولا قائما بغيره وهذا التقدير في الذهن وقد بسطنا الكلام على ذلك لما بينا فساد احتجاج كثير من أهل النظر بالتقديرات الذهنية على الإمكانات الخارجية كما يقوله الرازي وغيره إنا يمكننا أن نقول الموجود إما داخل العالم وإما خارج العالم وإما لا داخل العالم ولا خارجه وكل موجود إما مباين لغيره وإما محايث له وإما لا مباين ولامحايث فهذا يدل على إمكان القسم الثالث وكذلك إذا قلنا الموجود إما متحيز وإما قائم بالمتحيز وإما لا متحيز ولا قائم بالمتحيز وهذا يدل على إمكان القسم الثالث وهذا غلط فإن هذا كقول القائل الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وإما لا قائم بنفسه ولا بغيره فدل على إمكان القسم الثالث فإن هذا غلط
5
460(186/321)
وكذلك إذا قيل إما قديم وإما محدث وإما لا قديم ولا محدث وإما واجب وإما ممكن وإما لا واجب ولا ممكن وكذلك ما أشبه هذا ودخل الغلط على هؤلاء حيث ظنوا أن مجرد تقدير الذهن وفرضه يقتضي إمكان ذلك في الخارج وليس كذلك بل الذهن يفرض أمورا ممتنعة لا يجوز وجودها في الخارج ولا تكون تلك التقديرات إلا في الذهن لا في الخارج وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر ولكن المقصود هنا ذكر ما اختلف فيه الناس من جهة الذم والعقاب وبينا أن الحال يرجع إلى أصلين أحدهما أن كل ما تنازع فيه الناس هل يمكن كل أحد اجتهاد يعرف به الحق أم الناس ينقسمون إلى قادر على ذلك وغير قادر والأصل الثاني المجتهد العاجز عن معرفة الصواب هل يعاقبه الله أم لا يعاقب من اتقى الله ما استطاع وعجز عن معرفة بعض الصواب وإذا عرف هذان الأصلان فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ما يطعن به فيهم أكثره كذب والصدق منه غايته أن يكون ذنبا أو خطأ والخطأ مغفور والذنب له أسباب متعددة توجب المغفرة ولا يمكن أحد أن يقطع بأن واحدا منهم فعل من الذنوب ما يوجب النار
5
461
لا محالة وكثير مما يطعن به على أحدهم يكون من محاسنه وفضائله فهذا جواب مجمل ثم نحن نتكلم على ما ذكرته الرافضة من المطاعن على وجه التفصيل كما ذكره أفضل الرافضة في زمنه صاحب هذا الكتاب لما ذكر أن الكلبي صنف كتابا في المثالب قال الرافضي وقد ذكر غيره منها أشياء كثيرة ونحن نذكر منها شيئا يسيرا منها ما رووه عن أبي بكر أنه قال على المنبر إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتصم بالوحي وإن لي شيطانا يعتريني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني وكيف يجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه مع أن الرعية تحتاج إليه
5
462(186/322)
والجواب أن يقال هذا الحديث من أكبر فضائل الصديق رضي الله عنه وأدلها على أنه لم يكن يريد علوا في الأرض ولا فسادا فلم يكن طالب رياسة ولا كان ظالما وإنه إنما كان يأمر الناس بطاعة الله ورسوله فقال لهم إن استقمت على طاعة الله فأعينوني عليها وإن زغت عنها فقوموني كما قال أيضا أيها الناس أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم والشيطان الذي يعتريه يعترى جميع بني آدم فإنه ما من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن قيل وأنت يا رسول الله قال وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير وفي الصحيح عنه قال لما مر به بعض الأنصار وهو يتحدث مع
5
463
صفية ليلا قال على رسلكما إنها صفية بنت حيي ثم قال إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئا إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ومقصود الصديق بذلك إني لست معصوما كالرسول صلى الله عليه وسلم وهذا حق وقول القائل كيف تجوز إمامة من يستعين على تقويمه بالرعية كلام جاهل بحقيقة الإمامة فإن الإمام ليس هو ربا لرعيته حتى يستغني عنهم ولا هو رسول الله إليهم حتى يكون هو الواسطة بينهم وبين الله وإنما هو والرعية شركاء يتعاونون هم وهو على مصلحة الدين والدنيا فلا بد له من إعانتهم ولا بد لهم من إعانته كأمير القافلة الذي يسير بهم في الطريق إن سلك بهم الطريق اتبعوه وإن أخطأ عن الطريق نبهوه وأرشدوه وإن خرج عليهم صائل يصول عليهم تعاون هو وهم علي دفعه لكن إذا كان أكملهم علما وقدرة ورحمة كان ذلك أصلح لأحوالهم
5
464(186/323)
وكذلك إمام الصلاة إن استقام صلوا بصلاته وإن سها سبحوا به فقوموه إذا زاغ وكذلك دليل الحاج إن مشى بهم في الطريق مشوا خلفه وإن غلط قوموه والناس بعدالرسول لا يتعلمون الدين من الإمام بل الأئمة والأمة كلهم يتعلمون الدين من الكتاب والسنة ولهذا لم يأمر الله عند التنازع برد الأمر إلى الأئمة بل قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآيةسورة النساء فأمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول لا إلى الأئمة وولاة الأمور وإنما أمر بطاعة ولاة الأمور تبعا لطاعة الرسول ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم إنما الطاعة في المعروف وقال لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقال من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه
5
465(186/324)
وقول القائل كيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه مع أن الرعية تحتاج إليه وارد في كل متعاونين ومتشاركين يحتاج كل منهما إلى الاخر حتى الشركاء في التجارات والصناعات وإمام الصلاة هو بهذه المنزلة فإن المأمومين يحتاجون إليه وهو يحمل عنهم السهو وكذلك القراءة عند الجمهور وهو يستعين بهم إذا سها فينبهونه على سهوه ويقومونه ولو زاغ في الصلاة فخرج عن الصلاة الشرعية لم يتبعوه فيها ونظائره متعددة ثم يقال استعانة علي برغيته وحاجته إليهم كانت أكثر من استعانة أبي بكر وكان تقويم أبي بكر لرعيته وطاعتهم له أعظم من تقويم علي لرعيته وطاعتهم له فإن أبا بكر كانوا إذا نازعوه أقام عليهم الحجة حتى يرجعوا إليه كما أقام الحجة على عمر في قتال مانعي الزكاة وغير ذلك وكانوا إذا أمرهم أطاعوه وعلي رضى الله عنه لما ذكر قوله في أمهات الأولاد وأنه اتفق رأيه ورأي عمر على أن لا يبعن ثم رأى أن يبعن فقال له قاضيه عبيدة السلماني رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة وكان يقول اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي وكانت رعيته كثيرة المعصية له وكانوا يشيرون عليه بالرأي الذي
5
466(186/325)
يخالفهم فيه ثم يتبين له أن الصواب كان معهم كما أشار عليه الحسن بأمور مثل أن لا يخرج من المدينة دون المبايعة وأن لا يخرج إلى الكوفة وأن لا يقاتل بصفين وأشار عليه أن لا يعزل معاوية وغير ذلك من الأمور وفي الجملة فلا يشك عاقل أن السياسة انتظمت لأبي بكر وعمر وعثمان ما لم تنتظم لعلي رضي الله عنهم فإن كان هذا لكمال المتولي وكمال الرعية كانوا هم ورعيتهم أفضل وإن كان لكمال المتولي وحده فهو أبلغ في فضلهم وإن كان ذلك لفرط نقص رعية علي كان رعية علي أنقص من رعية أبي بكر رضي الله عنه وعمر وعثمان ورعيته هم الذين قاتلوا معه وأقروا بإمامته ورعية الثلاثة كانوا مقرين بإمامتهم فإذا كان المقرون بإمامة الثلاثة أفضل من المقرين بإمامة علي لزم أن يكون كل واحد من الثلاثة أفضل منه وأيضا فقد انتظمت السياسة لمعاوية ما لم تنتظم لعلي فيلزم أن تكون رعية معاوية خيرا من رعية علي ورعية معاوية شيعة عثمان وفيهم النواصب المبغضون لعلي فتكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة علي فيلزم على كل تقدير إما أن يكون الثلاثة أفضل من علي وإما أن تكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة علي والروافض وأيهما كان لزم فساد مذهب الرافضة فإنهم يدعون أن عليا أكمل
5
467(186/326)
من الثلاثة وأن شيعته الذين قاتلوا معه أفضل من الذين بايعوا الثلاثة فضلا عن أصحاب معاوية والمعلوم باتفاق الناس أن الأمر انتظم للثلاثة ولمعاوية ما لم ينتظم لعلي فكيف يكون الإمام الكامل والرعية الكاملة على رأيهم أعظم اضطرابا وأقل انتظاما من الإمام الناقص والرعية الناقصة بل من الكافرة والفاسقة على رأيهم ولم يكن في أصحاب علي من العلم والدين والشجاعة والكرم إلا ما هو دون ما في رعية الثلاثة فلم يكونوا أصلح في الدنيا ولا في الدين ومع هذا فلم يكن للشيعة إمام ذو سلطان معصوم بزعمهم أعظم من علي فإذا لم يستقيموا معه كانوا أن لا يستقيموا مع من هو دونه أولى وأحرى فعلم أنهم شر وأنقص من غيرهم وهم يقولون المعصوم إنما وجبت عصمته لما في ذلك من اللطف بالمكلفين والمصلحة لهم فإذا علم أن مصلحة غير الشيعة في كل زمان خير من مصلحة الشيعة واللطف لهم أعظم من اللطف للشيعة علم أن ما ذكروه من إثبات العصمة باطل وتبين حينئذ حاجة الأئمة إلى الأمة وأن الصديق هو الذي قال الحق وأقام العدل أكثر من غيره
5
468
فصل قال الرافضي وقال أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم فإن كانت إمامته حقا كانت استقالته منها معصية وإن كانت باطلة لزم الطعن والجواب أن هذا كذب ليس في شيء من كتب الحديث ولا له إسناد معلوم فإنه لم يقل وعلي فيكم بل الذي ثبت عنه في الصحيح أنه قال يوم السقيفة بايعوا أحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح فقال له عمر بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر كنت والله لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من تأمري على قوم فيهم أبو بكر ثم لو قال وعلي فيكم لاستخلفه مكان عمر فإن أمره كان مطاعا
5
469(186/327)
وأما قوله إن كانت إمامته حقا كانت استقالته منها معصية فيقال إن ثبت أنه قال ذلك فإن كونها حقا إما بمعنى كونها جائزة والجائز يجوز تركه وإما بمعنى كونها واجبة إذا لم يولوا غيره ولم يقيلوه وأما إذا أقالواه وولوا غيره لم تكن واجبة عليه والإنسان قد يعقد بيعا أو إجارة ويكون العقد حقا ثم يطلب الإقالة وهو لتواضعه وثقل الحمل عليه قد يطلب الإقالة وإن لم يكن هناك من هو أحق بها منه وتواضع الإنسان لا يسقط حقه فصل قال الرافضي وقال عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ولو كانت إمامته صحيحة لم يستحق فاعلها القتل فيلزم تطرق الطعن إلى عمر وإن كانت باطلة لزم الطعن عليهما معا والجواب أن لفظ الحديث سيأتي قال فيه فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن وقي الله شرها وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر ومعناه أن بيعة أبي بكر بودر إليها من غير تريث ولا انتظار لكونه
5
470
كان متعينا لهذا الأمر كما قال عمر ليس فيكم من تقطع إليه الاعناق مثل أبي بكر وكان ظهور فضيلة أبي بكر على من سواه وتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم له على سائر الصحابة أمرا ظهرا معلوما فكانت دلالة النصوص على تعيينه تغني عن مشاورة وانتظار وتريث بخلاف غيره فإنه لا تجوز مبايعته إلا بعد المشاورة والإنتظار والتريث فمن بايع غير أبي بكر عن غير انتظار وتشاور لم يكن له ذلك وهذا قد جاء مفسرا في حديث عمر هذا في خطبته المشهورة الثابتة في الصحيح التي خطب بها مرجعه من الحج في آخر عمره وهذه الخطبة معروفة عند أهل العلم وقد رواها البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال كنت اقرىء رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها إذ رجع إلى عبد الرحمن بن عوف
5
471(186/328)
فقال لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت فغضب عمر ثم قال إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغضبوهم أمورهم فقال عبد الرحمن فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول مقالتك متمكنا فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها فقال عمر أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة قال ابن عباس فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة فلما كان يوم الجمعة عجلت بالرواح حين زاغت
5
472(186/329)
الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر فجلست حوله تمس ركبتي ركبته فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف فأنكر علي وقال ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب
5
473
الله إن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تطروني كما أطرت النصاري عيسى بن مريم وقولوا عبد الله ورسوله ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول والله لو مات عمر لبايعت فلانا فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل
5
474(186/330)
أبي بكر من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت لأبي بكر يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان فذكرا ما تمالأ عليه القوم فقالا أين تريدون يا معشر المهاجرين فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار فقالا لا عليكم أن لا تقربوهم أقضوا أمركم فقلت والله لنأتينهم فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم فقلت من هذا فقالوا هذا سعد بن عبادة فقلت ما له قالوا يوعك
5
475
فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط وقد دفت دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحصنونا من الأمر فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحد فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر على رسلك فكرهت أن أغضبه فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت فقال ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب
5
476(186/331)
نسبا ودارا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا فلم أكره مما قال غيرها كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر اللهم إلا أن تسول لي نفسي عند الموت شيئا لا أجده الآن فقال قائل من الأنصار أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الإختلاف فقلت ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة فقلت قتل الله سعد بن عبادة قال عمر وإنا والله
5
477
ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا فإما بايعناهم على ما لا نرضى وإما أن نخالفهم فيكون فساد فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا قال مالك وأخبرني ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن الرجلين اللذين لقياهما عويمر بن ساعدة ومعن بن عدي وهما ممن شهد بدرا قال ابن شهاب وأخبرني سعيد بن المسيب أن
5
478(186/332)
الذي قال أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب الحباب بن المنذر وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبوبكر بالسنح فقام عمر يقول والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقال عمر والله ما كان يقع في قلبي إلا ذاك وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم فجاء أبو بكر رضي الله عنه فكشف عن رسول صلى الله عليه وسلم فقبله فقال بأبي وأمي طبت حيا وميتا والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا ثم خرج فقال أيها الحالف على رسلك فلما تكلم أبو بكر جلس عمر فحمد الله أبوبكر وأثنى عليه وقال ألا من كان يعبد محمدا فإن محمد قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقال الله تعالى إنك ميت وإنهم ميتون
5
479(186/333)
سورة الزمر وقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات او قتل أنقلبتم على أعاقبكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله سشيئا شيئا وسيجزي الله الشاكرين سورة آل عمران قال فنشج الناس يبكون واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا منا أمير ومنكم أمير فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر وكان عمر يقول والله ما أردت بذلك إلا أني هيأت كلاما قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس فقال في كلامه نحن الأمراء وأنتم الوزراء فقال حباب ابن المنذر لا والله لا نفعل منا أمير ومنكم أمير فقال أبو بكر لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء هم أوسط العرب دارا وأعربهم أحسابا فبايعوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح فقال عمر بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس فقال قائل قتلتم سعد بن عبادة فقال عمر قتله الله وفي صحيح البخاري عن عائشة في هذه القصة قالت ما كان من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها لقد خوف عمر الناس وإن فيهم
5
480(186/334)
لنفاقا فردهم الله بذلك ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى وعرفهم الحق الذي عليهم وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك أنه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر وذلك الغد من يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتشهد وأبو بكر صامت لا يتكلم قال كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا يريد بذلك أن يكون آخرهم فإن يكن محمد قد مات فإن الله قد جعل بين أظهركم نورا تهتدون به به هدى الله محمدا وإن إبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين وإنه أولى المسلمين بأموركم فقوموا فبايعوه وكانت طائفة منهم قد بايعوه قيل ذلك في سقيفة بني ساعدة وكانت بيعة العامة على المنبر وعنه قال سمعت عمر يقول لأبي بكر يومئذ اصعد المنبر فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة
5
481
وفي طريق أخرى لهذه الخطبة أما بعد فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا لما هدى الله به رسوله صلى الله عليه وسلم فصل قال الرافضي وقال أبو بكر عند موته ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل للأنصار في هذا الأمر حق وهذا يدل على أنه في شك من إمامته ولم تقع صوابا والجواب أن هذا كذب على أبي بكر رضي الله عنه وهو لم يذكر له إسنادا ومعلوم أن من احتج في أي مسألة كانت بشيء من النقل فلا بد أن يذكر إسنادا تقوم به الحجة فكيف بمن يطعن في السابقين الأولين بمجرد حكاية لا إسناد لها ثم يقال هذا يقدح فيما تدعونه من النص على علي فإنه لو كان قد
5
482(186/335)
نص عل علي لم يكن للأنصار فيه حق ولم يكن في ذلك شك فصل قال الرافضي وقال عند احتضاره ليت أمي لم تلدني يا ليتني كنت تبنة في لبنة مع أنهم قد نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من محتضر يحتضر إلا ويرى مقعده من الجنة والنار والجواب أن تكلمه بهذا عند الموت غير معروف بل هو باطل فلا ريب بل الثابت عنه أنه لما احتضر وتمثلت عنده عائشة بقول الشاعر لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر فكشف عن وجهه وقال ليس كذلك ولكن قولي وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد سورة ق
5
483
ولكن نقل عنه أنه قال في صحته ليت أمي لم تلدني ونحو هذا قاله خوفا إن صح النقل عنه ومثل هذا الكلام منقول عن جماعة أنهم قالوه خوفا وهيبة من أهوال يوم القيامة حتى قال بعضهم لو خيرت بين أن أحاسب وأدخل الجنة وبين أن أصير ترابا لاخترت أن أصير ترابا وروى الإمام أحمد عن أبي ذر أنه قال والله لوددت أني شجرة تعضد وقد روى أبو نعيم في حلية الأولياء قال حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن علي الصائغ حدثنا سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا السري بن يحيى قال قال عبد الله بن مسعود لو وقفت بين الجنة والنار فقيل لي اختر في أيهما تكون أو تكون رمادا لاخترت أن أكون رمادا وروى الإمام أحمد بن حنبل حدثنا يحيي بن سعيد عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال قال رجل عند عبد الله بن مسعود ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين أكون من المقربين أحب إلي فقال عبد الله بن مسعود لكن ها هنا رجل ود أنه إذا مات لم يبعث يعني نفسه والكلام في مثل هذا هل هو مشروع أم لا له موضع آخر لكن
5
484(186/336)
الكلام الصادر عن خوف العبد من الله يدل على إيمانه بالله وقد غفر الله لمن خافه حين أمر أهله بتحريقه وتذرية نصفه في البر ونصفه في البحر مع أنه لم يعمل خيرا قط وقال والله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه وقال ما حملك على ما صنعت قال من خشيتك يا رب فغفر له أخرجاه في الصحيحين فإذا كان مع شكه في القدرة والمعاد إذا فعل ذلك غفر له بخوفه من الله علم أن الخوف من الله من أعظم أسباب المغفرة للأمور الحقيقية إذا قدر أنها ذنوب فصل قال الرافضي وقال أبو بكر ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت بيدي على يد أحد الرجلين فكان هو الأمير وكنت
5
485
الوزير قال وهو يدل على أنه لم يكن صالحا يرتضي لنفسه الإمامة والجواب أن هذا إن كان قاله فهو أدل دليل على أن عليا لم يكن هو الإمام وذلك إن قائل هذا إنما يقوله خوفا من الله أن يضيع حق الولاية وأنه إذا ولى غيره وكان وزيرا له كان أبرأ لذمته فلو كان علي هو الإمام لكانت توليته لأحد الرجلين إضاعة للإمامة أيضا وكان يكون وزيرا لظالم غيره وكان قد باع آخرته بدنيا غيره وهذا لا يفعله من يخاف الله ويطلب براءة ذمته وهذا كما لو كان الميت قد وصى بديون فاعتقد الوارث أن المستحق لها شخص فأرسلها إليه مع رسوله ثم قال يا ليتني أرسلتها مع من هو أدين منه خوفا أن يكون الرسول الأول مقصرا في الوفاء تفريطا أو خيانة وهناك شخص حاضر يدعي أنه المستحق للدين دون ذلك الغائب فلو علم الوارث أنه المستحق لكان يعطيه ولا يحتاج إلى الإرسال به إلى ذلك الغائب فصل قال الرافضي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في
5
486(186/337)
مرض موته مرة بعد أخرى مكررا لذلك أنفذوا جيش أسامة لعن الله المتخلف عن جيش أسامة وكان الثلاثة معه ومنع أبو بكر وعمر من ذلك والجواب أن هذا من الكذب المتفق على أنه كذب عند كل من يعرف السيرة ولم ينقل أحد من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر أو عثمان في جيش أسامة وإنما روي ذلك في عمر وكيف يرسل أبا بكر في جيش أسامة وقد استخلفه يصلي بالمسلمين مدة مرضه وكان ابتداء مرضه من يوم الخميس إلى الخميس إلى يوم الإثنين اثني عشر يوما ولم يقدم في الصلاة بالمسلمين إلا أبا بكر بالنقل المتواتر ولم تكن الصلاة التي صلاها أبو بكر بالمسلمين في مرض النبي صلى الله عليه وسلم صلاة ولا صلاتين ولا صلاة يوم ولا يومين حتى يظن ما تدعيه الرافضة من التلبيس وأن عائشة قدمته بغير أمره بل كان يصلي بهم مدة مرضه فإن الناس متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل بهم في مرض موته إلا أبو بكر وعلي أنه صلى بهم عدة أيام وأقل ما قيل إنه صلى بهم سبعة عشرة صلاة صلى بهم صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة وخطب بهم يوم الجمعة
5
487(186/338)
هذا مما تواترت به الأحاديث الصحيحة ولم يزل يصلي بهم إلى فجر يوم الاثنين صلى بهم صلاة الفجر وكشف النبي صلى الله عليه وسلم الستارة فرآهم يصلون خلف أبي بكر فلما رأوه كادوا يفتنون في صلاتهم ثم أرخى الستارة وكان ذلك آخر عهدهم به وتوفي يوم الإثنين حين اشتد الضحى قريبا من الزوال وقد قيل إنه صلى به أكثر من ذلك من الجمعة التي قبل فيكون قد صلى بهم مدة مرضه كلها لكن خرج النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة واحدة لما وجد خفة في نفسه فتقدم وجعل أبا بكر عن يمينه فكان أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون بأبي بكر وقد كشف الستارة يوم الإثنين صلاة الفجر وهم يصلون خلف أبي بكر ووجهه صلى الله عليه وسلم كأنه ورقة مصحف فسر بذلك لما رأى اجتماع الناس في الصلاة خلف أبي بكر ولم يروه بعدها وقد قيل إن آخر صلاة صلاها كانت خلف أبي بكر وقيل صلى خلفه غيرها فكيف يتصور أن يأمره بالخروج في الغزاة وهو يأمره بالصلاة بالناس
5
488(186/339)
وأيضا فإنه جهز جيش أسامة قبل أن يمرض فإنه أمره على جيش عامتهم المهاجرون منهم عمر بن الخطاب في آخر عهده صلى الله عليه وسلم وكانوا ثلاثة آلاف وأمره أن يغير على أهل مؤتة وعلى جانب فلسطين حيث أصيب أبوه وجعفر وابن رواحة فتجهز أسامة ابن زيد للغزو وخرج في ثقله إلى الجرف وأقام بها أياما لشكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة فقال اغد على بركة الله والنصر والعافية ثم أغر حيث أمرتك أن تغير قال أسامة يا رسول الله قد أصبحت ضعيفا وأرجو أن يكون الله قد عافاك فاذن لي فأمكث حتى يشفيك الله فإني إن خرجت وأنت على هذه الحالة خرجت وفي نفسي منك قرحة وأكره أن أسأل عنك الناس فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بأيام فلما جلس أبو بكر للخلافة أنفذه مع ذلك الجيش غير أنه استأذنه في أن يأذن لعمر بن الخطاب في الإقامة لأنه ذو رأي ناصح للإسلام فأذن له وسار أسامة لوجهه الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب في ذلك العدو مصيبة عظيمة وغنم هو وأصحابه وقتل قاتل أبيه وردهم الله سالمين إلى المدينة
5
489(186/340)
وإنما أنفذ جيش أسامة أبوبكر الصديق بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقال لا أحل راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار عليه غير واحد أن يرد الجيش خوفا عليهم فإنهم خافوا أن يطمع الناس في الجيش بموت النبي صلى الله عليه وسلم فامتنع أبو بكر من رد الجيش وأمر بإنفاذه فلما رآهم الناس يغزون عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك مما أيد الله به الدين وشد به قلوب المؤمنين وأذل به الكفار والمنافقين وكان ذلك من كمال معرفة أبي بكر الصديق وإيمانه ويقينه وتدبيره ورأيه فصل قال الرافضي وأيضا لم يؤل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ألبتة عملا في وقته بل ولى عليه عمرو بن العاص تارة وأسامة أخرى ولما أنفذه بسورة براءة رده بعد ثلاثة أيام بوحي من الله وكيف يرتضي العاقل إمامة من لا يرتضيه النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله لأداء عشر آيات من براءة
5
490(186/341)
والجواب أن هذا من أبين الكذب فإنه من المعلوم المتواتر عند أهل التفسير والمغازي والسير والحديث والفقه وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج عام تسع وهو أول حج كان في الإسلام من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن قبله حج في الإسلام إلا الحجة التي أقامها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية من مكة فإن مكة فتحت سنة ثمان أقام الحج ذلك العام عتاب بن أسيد الذي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة ثم أمر أبا بكر سنة تسع للحج بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك وفيها أمر أبا بكر بالمناداة في الموسم أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولم يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر على مثل هذه الولاية فولاية أبي بكر كانت من خصائصه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر على الحج أحد كتأمير أبي بكر ولم يستخلف على الصلاة أحدا كاستخلاف أبي بكر وكان علي من رعيته في هذه الحجة فإنه لحقه فقال أمير أو مأمور فقال علي بل مأمور وكان علي يصلي خلف أبي بكر مع سائر المسلمين في هذه الولاية ويأتمر لأمره كما يأتمر له سائر من معه ونادى علي مع الناس في هذه الحجة بأمر أبي بكر وأما ولاية غير أبي بكر فكانت مما يشاركه فيها غيره كولاية علي
5
491(186/342)
وغيره فلم يكن لعلي ولاية إلا ولغيره مثلها بخلاف ولاية أبي بكر فإنها من خصائصه ولم يول النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر لا أسامة بن زيد ولا عمرو بن العاص فأما تأمير أسامة عليه فمن الكذب المتفق على كذبه وأما قصة عمرو بن العاص فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أرسل عمرا في سرية وهي غزوة ذات السلاسل وكانت إلى بني عذرة وهم أخوال عمرو فأمر عمرا ليكون ذلك سببا لإسلامهم للقرابة التي له منهم ثم أردفه بأبي عبيدة ومعه أبو بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين وقال تطاوعا ولا تختلفا فلما لحق عمرا قال أصلي بأصحابي وتصلي بأصحابك قال بل أنا أصلي بكم فإنما أنت مدد لي فقال له أبو عبيدة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أطاوعك فإن عصيتني أطعتك قال فإنى أعصيك فأراد عمرو أن ينازعه في ذلك فأشار عليه أبو بكر أن لا يفعل ورأى أبو بكر أن ذلك أصلح للأمر فكانوا يصلون خلف عمرو مع علم كل أحد أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة أفضل من عمرو
5
492
وكان ذلك لفضلهم وصلاحهم لأن عمرا كانت إمارته قد تقدمت لأجل ما في ذلك من تآلف قومه الذين أرسل إليهم لكونهم أقاربه ويجوز تولية المفضول لمصلحة راجحة كما أمر أسامة بن زيد ليأخذ بثأر أبيه زيد بن حارثة لما قتل في غزوة مؤتة فكيف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر على أبي بكر أحدا في شيء من الأمور بل قد علم بالنقل العام المتواتر أنه لم يكن أحد عنده أقرب إليه ولا أخص به ولا أكثر اجتماعا به ليلا و نهارا سرا وعلانية من أبي بكر
5
493(186/343)
ولا كان أحد من الصحابة يتكلم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم قبله فيأمر فيأمر وينهى ويخطب ويفتي يوقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك راضيا بما يفعل ولم يكن ذلك تقدما بين يديه بل بإذن منه قد علمه وكان ذلك معونة للنبي صلى الله عليه وسلم وتبليغا عنه وتنفيذا لأمره لأنه كان أعلمهم بالرسول وأحبهم إلى الرسول واتبعهم له وأما قول الرافضي إنه لما أنفذه ببراءة رده بعد ثلاثة أيام فهذا من الكذب المعلوم أنه كذب فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أبا بكر على الحج ذهب كما أمره وأقام الحج في ذلك العام عام تسع للناس ولم يرجع إلى المدينة حتى قضى الحج وأنفذ فيه ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم فإن المشركين كانوا يحجون البيت وكانوا يطوفون بالبيت عراة وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهود مطلقة فبعث أبا بكر وأمره أن ينادي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فنادى بذلك من أمره أبو بكر بالنداء ذلك العام وكان علي بن أبي طالب من جملة من نادى بذلك في الموسم بأمر أبي بكر ولكن لما خرج أبو بكر أردفه النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب لينبذ إلى المشركين العهود قالوا وكان من عادة العرب أن لا يعقد العهود ولا يفسخها إلا المطاع أو رجل من أهل بيته فبعث عليا لأجل فسخ العهود التي كانت مع المشركين خاصة لم يبعثه لشيء آخر ولهذا كان علي يصلي خلف
5
494(186/344)
أبي بكر ويدفع بدفعه في الحج كسائر رعية أبي بكر الذين كانوا معه في الموسم وكان هذا بعد غزوة تبوك واستخلافه له فيها على من تركه بالمدينة وقوله له أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ثم بعد هذا أمر أبا بكر على الموسم وأردفه بعلي مأمورا عليه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وكان هذا مما دل على أن عليا لم يكن خليفة له إلا مدة مغيبه عن المدينة فقط ثم أمر أبا بكر عليه عام تسع ثم إنه بعد هذا بعث عليا وأبا موسى الأشعري ومعاذا إلى اليمن فرجع علي وأبو موسى إليه وهو بمكة في حجة الوداع وكل منهما قد أهل بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم فأما معاذ فلم يرجع إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فصل قال الرافضي وقطع يسار سارق ولم يعلم أن القطع لليد اليمنى والجواب أن قول القائل إن أبا بكر يجهل هذا من أظهر الكذب ولو قدر أن أبا بكر كان يجيز ذلك لكان ذلك قولا سائغا
5
495
لأن القرآن ليس في ظاهره ما يعين اليمين لكن تعيين اليمين في قراءة ابن مسعود فاقطعوا أيمانهما وبذلك مضت السنة ولكن أين النقل بذلك عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قطع اليسرى وأين الإسناد الثابت بذلك وهذه كتب أهل العلم بالآثار موجودة ليس فيها ذلك ولا نقل أهل العلم بالإختلاف ذلك قولا مع تعظيمهم لأبي بكر رضي الله عنه فصل قال الرافضي وأحرق الفجاءة السلمي بالنار وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحراق بالنار الجواب أن الإحراق بالنار عن علي أشهر وأظهر منه عن أبي بكر وأنه قد ثبت في الصحيح أن عليا أتى بقوم زنادقة من غلاة الشيعة فحرقهم بالنار فبلغ ذلك ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار لنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب بعذاب الله ولضربت أعناقهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه
5
496(186/345)
فبلغ ذلك عليا فقال ويح ابن أم الفضل ما أسقطه على الهنات فعلي حرق جماعة بالنار فإن كان ما فعله أبو بكر منكرا ففعل علي أنكر منه وإن كان فعل علي مما لا ينكر مثله على الأئمة فأبو بكر أولى أن لا ينكر عليه فصل قال الرافضي وخفي عليه أكثر أحكام الشريعة فلم يعرف حكم الكلالة وقال أقول فيها برأيي فإن يك صوابا فمن الله وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان وقضى في الجد بسبعين قضية وهو يدل على قصوره في العلم والجواب أن هذا من أعظم البهتان كيف يخفى عليه أكثر أحكام الشريعة ولم يكن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من يقضي ويفتي إلا هو ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مشاورة لأحد من أصحابه منه له ولعمر ولم يكن أحد أعظم اختصاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم منه ثم عمر
5
497
وقد ذكر غير واحد مثل منصور بن عبد الجبار السمعاني وغيره إجماع أهل العلم على أن الصديق أعلم الأمة وهذا بين فإن الأمة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصلها هو بعلم يبينه لهم وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنة كما بين لهم موت النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيتهم على الإيمان وقراءته عليهم الآية ثم بين لهم موضع دفنه وبين لهم قتال مانعي الزكاة لما استراب فيه عمر وبين لهم أن الخلافة في قريش في سقيفة بني ساعدة لما ظن من ظن أنها تكون في غير قريش وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أول حجة حجت من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وعلم المناسك أدق ما في العبادات ولولا سعة علمه بها لم يستعمله وكذلك الصلاة استخلفه فيها ولولا علمه بها لم يستخلفه ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه أنس من أبي بكر وهو أصح ما روي فيها وعليه اعتمد الفقهاء وفي الجملة لا يعرف لأبي بكر مسسائل من الشريعة غلط فيها وقد عرف لغيره مائل كثيرة كما بسط في موضعه وقد تنازعت الصحابة بعده في مسائل مثل الجد والإخوة ومثل(186/346)
5
498
العمرتين ومثل العول وغير ذلك من مسائل الفرائض وتنازعوا في مسألة الحرام والطلاق الثلاث بكلمة والخلية والبرية والبتة وغير ذلك من مسائل الطلاق وكذلك تنازعوا في مسائل صارت مسائل نزاع بين الأمة إلى اليوم وكان تنازعهم في خلافة عمر نزاع اجتهاد محض كل منهم يقر صاحبه على اجتهاده كتنازع الفقهاء أهل العلم والدين وأما في خلافة عثمان فقوى النزاع في بعض الأمور حتى صار يحصل كلام غليظ من بعضهم لبعض ولكن لم يقاتل بعضهم بعضا باليد ولا بسيف ولا غيره وأما في خلافة علي فتغلظ النزاع حتى تقاتلوا بالسيوف
5
499
وأما في خلافة أبي بكر فلم يعلم أنه استقر بينهم نزاع في مسألة واحدة من مسائل الدين وذلك لكمال علم الصديق وعدله ومعرفته بالأدلة التي تزيل النزاع فلم يكن يقع بينهم نزاع إلا أظهر الصديق من الحجة التي تفصل النزاع ما يزول معها النزاع وكان عامة الحجج الفاصلة للنزاع يأتي بها الصديق ابتداء وقليل من ذلك يقوله عمر أو غيره فيقره أبو بكر الصديق وهذا مما يدل على أن الصديق ورعيته أفضل من عمر ورعيته وعثمان ورعيته وعلي ورعيته فإن أبا بكر ورعيته أفضل الأئمة والأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم الأقوال التي خولف فيها الصديق بعد موته قوله فيها أرجح من قول من خالفه بعد موته وطرد ذلك الجد والإخوة فإن قول الصديق وجمهور الصحابة وأكابرهم أنه يسقط الإخوة وهو قول طوائف من العلماء وهو مذهب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي العباس بن سريج من الشافعية وأبي حفص البرمكي من الحنابلة ويذكر ذلك رواية عن أحمد والذين قالوا بتوريث الإخوة مع الجد كعلي وزيد وابن مسعود اختلفوا اختلافا معروفا وكل منهم قال قولا خالفه فيه الآخر وانفرد بقوله عن سائر الصحابة وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع
5
500(186/347)
في مصنف مفرد وبينا أن قول الصديق وجمهور الصحابة هو الصواب وهو القول الراجح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية من وجوه كثيرة ليس هذا موضع بسطها وكذلك ما كان عليه الأمر في زمن صديق الأمة رضي الله عنه من جواز فسخ الحج إلى العمرة بالتمتع وأن من طلق ثلاثا بكلمة واحدة لا يلزمه إلا طلقة واحدة هو الراجح دون من يحرم الفسخ ويلزم بالثلاث فإن الكتاب والسنة إنما يدل على ما كان عليه الأمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر دون القول المخالف لذلك ومما يدل على كمال حال الصديق وأنه أفضل من كل من ولى الأمة بل وممن ولى غيرها من الأمم بعد الأنبياء أنه من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الأولين والأخرين وأفضل من سائر الخلق من جميع العالمين وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال كانت بنو اسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء ويكثرون قالوا يا رسول الله فما تأمرنا قال فوا بيعة الأول فالأول ومن المعلوم أنه من تولى بعد الفاضل إذا كان فيه نقص كثير عن
5
501(186/348)
سياسة الأول ظهر ذلك النقص ظهورا بينا وهذا معلوم من حال الولاة إذا تولى ملك بعد ملك أو قاض بعد قاض أو شيخ بعد شيخ أو غير ذلك فإن الثاني إذا كان ناقص الولاية نقصا بينا ظهر ذلك فيه وتغيرت الأمور التي كان الأول قد نظمها وألفها ثم الصديق تولى بعد أكمل الخلق سياسة فلم يظهر في الإسلام نقص بوجه من الوجوه بل قاتل المرتدين حتى عاد الأمر إلى ما كان عليه وأدخل الناس في الباب الذي خرجوا منه ثم شرع في قتال الكفار من أهل الكتاب وعلم الأمة ما خفي عليهم وقواهم لما ضعفوا وشجعهم لما جبنوا وسار فيهم سيرة توجب صلاح دينهم ودنياهم فأصلح الله بسببه الأمة في علمهم وقدرتهم ودينهم وكان ذلك مما حفظ الله به على الأمة دينها وهذا مما يحقق أنه أحق الناس بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما قول الرافضي لم يعرف حكم الكلالة حتى قال فيها برأيه فالجواب أن هذا من أعظم علمه فإن هذا الرأي الذي رآه في الكلالة قد اتفق عليه جماهير العلماء بعده فإنهم أخذوا في الكلالة بقول أبي بكر بكر وهو من لا ولد له ولا والد والقول بالرأي هو معروف عن سائر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وابن معروف عن سائر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل لكن الرأي الموافق للحق هو الذي يكون لصاحبه
5
502
أجران كرأي الصديق فإن هذا خير من الرأي الذي غاية صاحبه أن يكون له أجر واحد وقد قال قيس بن عباد لعلي أرأيت مسيرك هذا ألعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأى رأيته فقال بلى رأي رأيته رواه أبو داود وغيره فإذا كان مثل هذا الرأى الذي حصل به من سفك الدماء ما حصل لا يمنع صاحبه أن يكون إماما فكيف بذلك الرأي الذي اتفق جماهير العلماء على حسنه وأما ما ذكره من قضائه في الجد بسبعين قضية فهذا كذب وليس هو قول أبي بكر ولا نقل هذا عن أبي بكر بل نقل هذا عن أبي
5
503(186/349)
بكر يدل على غاية جهل هؤلاء الروافض وكذبهم ولكن نقل بعض الناس عن عمر أنه قضى في الجد بسبعين قضية ومع هذا هو باطل عن عمر فإنه لم يمت في خلافته سبعون جدا كل منهم كان لابن ابنه إخوة وكانت تلك الوقائع تحتمل سبعين قولا مختلفة بل هذا الاختلاف لا يحتمله كل جد في العالم فعلم أن هذا كذب وأما مذهب أبي بكر في الجد فإنه جعله أبا وهو قول بضعة عشر من الصحابة وهو مذهب كثير من الفقهاء كأبي حنيفة وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي حفص البرمكي ويذكر رواية عن أحمد كما تقدم وهو أظهر القولين في الدليل ولهذا يقال لا يعرف لأبي بكر خطأ في الفتيا بخلاف غيره من الصحابة فإن قوله في الجد أظهر القولين والذين ورثوا الإخوة مع الجد وهم علي وزيد وابن مسعود وعمر في إحدى الروايتين عنه تفرقوا في ذلك وجمهور الفقهاء على قول زيد وهو قول مالك والشافعي وأحمد فالفقهاء في الجد إما على قول أبي بكر وإما على قول زيد الذي أمضاه عمر ولم يذهب أحد من أئمة الفتيا إلى قول علي في الجد وذلك مما يبين أن الحق لا يخرج عن أبي بكر وعمر فإن زيدا قاضي عمر مع أن قول أبي بكر أرجح من قول زيد
5
504(186/350)
وعمر كان متوقفا في الجد وقال ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهن لنا الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا وذلك لأن الله تعالى سمى الجد أبا في غير موضع من كتابه كما قال تعالى أخرج أبويكم من الجنة سورة الأعراف وقوله ملة أبيكم إبراهيم سورة الحج وقد قال يا بني إسرائيل يا بني آدم في غير موضع وإذا كان ابن الابن ابنا كان أبو الأب أبا ولأن الجد يقوم مقام الأب في غير مورد النزاع فإنه يسقط ولد الأم كالأب ويقدم على جميع العصبات سوى البنين كالأب ويأخذ مع الولد السدس كالأب ويجمع له بين الفرض والتعصيب مع البنات كالأب وأما في العمريتين زوج وأبوين وزوجة وأبوين فإن الأم تأخذ ثلث الباقي والباقي للآب ولو كان معها جد لأخذت الثلث كله عند جمهور الصحابة والعلماء إلا ابن مسعود لأن الأم أقرب من الجد
5
505(186/351)
وإنما الجدة نظير الجد والأم تأخذ مع الأب الثلث والجدة لا تأخذ مع الجد إلا السدس وهذا مما يقوى به الجد ولأن الإخوة مع الجد الأدنى كالأعمام مع الجد الأعلى وقد وقد اتفق المسلمون على أن الجد الأعلى يقدم على الأعمام فكذلك الجد الأدنى يقدم على الإخوة لأن نسبة الإخوة إلى الجد الأدنى كنسبة الأعمام إلى الجد الأعلى ولأن الأخوة لو كانوا لكونهم بني الأب يشاركون الجد لكان بنو الإخوة كذلك كما يقوم بنو البنين مقام آبائهم ولما كان بنو الإخوة لا يشاركون الجد كان آباؤهم الإخوة كذلك وعكسه البنون لما كان الجد يفرض له مع البنين فرض له مع بني البنين وأما الحجة التي تورى عن علي وزيد في أن الإخوة يشاركون الجد حيث شبهوا ذلك بأصل شجرة خرج منها فرع خرج منه غصنان فأخذ الغصنين أقرب إلى الآخر منه إلى الأصل وبنهر خرج منه نهر آخر ومنه جدولان فأحدهما إلى الآخر أقرب من الجدول إلى النهر الأول فمضمون هذه الحجة أن الإخوة أقرب إلى الميت من الجد ومن تدبر أصول الشريعة علم أن حجة أبي بكر وجمهور الصحابة لا تعارضها هذه الحجة فإن هذه لو كانت صحيحة لكان بنو الأخ أولى من الجد ولكان العم أولى من جد الأب فإن نسبة الإخوة من الأب إلى
5
506(186/352)
الجد أبي الأب كنسبة الأعمام بني الجد الأعلى إلى الجد الأعلى جد الأب فلما أجمع المسلمون على أن الجد أولى من الأعمام كان الجد الأدنى أولى من الإخوة وهذه حجة مستقلة تقتضي ترجيح الجد على الإخوة وأيضا فالقائلون بمشاركة الإخوة للجد لهم أقوال متعارضة متناقضة لا دليل على شيء منها كما يعرف ذلك من يعرف الفرائض فعلم أن قول أبي بكر في الجد أصح الأقوال كما أن قوله دائما أصح الأقوال فصل قال الرافضي فأي نسبة له بمن قال سلوني قبل أن تفقدوني سلوني عن طرق السماء فإني أعرف بها من طرق الأرض قال أبو البختري رأيت عليا صعد المنبر بالكوفة وعليه مدرعة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدا بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمما بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إصبعه خاتم رسول الله صلى
5
507
الله عليه وسلم فقعد على المنبر وكشف عن بطنه فقال سلوني من قبل أن تفقدوني فإنما بين الجوانح مني علم جم هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ما زقني رسول الله صلى الله عليه وسلم زقا من غير وحي إلى فوالله لو ثنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الله التوراة والإنجيل فتقول صدق علي قد أفتاكم بما أنزل الله في وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون والجواب أما قول علي سلوني فإنما كان يخاطب بهذا أهل الكوفة ليعلمهم العلم والدين فإن غالبهم كانوا جهالا لم يدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وأما أبو بكر فكان الذين حول منبره هم أكابر
5
508(186/353)
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين تعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم والدين فكانت رعية أبي بكر أعلم الأمة وأدينها وأما الذين كان علي يخاطبهم فهم من جملة عوام الناس التابعين وكان كثير منهم من شرار التابعين ولهذا كان علي رضي الله عنه يذمهم ويدعو عليهم وكان التابعون بمكة والمدينة والشام والبصرة خيرا منهم وقد جمع الناس الأقضية والفتاوي المنقولة عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فوجدوا أصوبها وأدلها على علم صاحبها أمور أبي بكر ثم عمر ولهذا كان ما يوجد من الأمور التي وجد نص يخالفها عن عمر أقل مما وجد عن علي وأما أبو بكر فلا يكاد يوجد نص يخالفه وكان هو الذي يفصل الأمور المشتبهة عليهم ولم يكن يعرف منهم اختلاف على عهده وعامة ما تنازعوا فيه من الأحكام كان بعد أبي بكر والحديث المذكور عن علي كذب ظاهر لا تجوز نسبة مثله إلى علي فإن عليا أعلم بالله وبدين الله من أن يحكم بالتوراة والإنجيل إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لمسلم أن يحكم بين أحد إلا بما أنزل الله في القرآن وإذا تحاكم اليهود والنصارى إلى المسلمين لم يجز لهم أن يحكموا بينهم إلا بما أنزل الله في القرآن كما قال تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب
5
509(186/354)
سماعون لقوم آخرين لم يأتوك سورة المائدة إلى قوله تعالى فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين سورة المائدة إلى قوله فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا سورة المائدة إلى قوله وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله من أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون سورة المائدة وإذا كان من المعلوم بالكتاب والسنة والإجماع أن الحاكم بين اليهود والنصارى لا يجوز أن يحكم بينهم إلا بما أنزل الله على محمد سواء وافق ما بأيديهم من التوراة والإنجيل أو لم يوافقه كان من نسب عليا إلى أنه يحكم بالتوراة والإنجيل بين اليهود والنصارى أو يفتيهم بذلك ويمدحه بذلك إما أن يكون من أجهل الناس بالدين وبما يمدح به صاحبه وإما أن يكون زنديقا ملحدا أراد القدح في علي بمثل هذا الكلام الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب دون المدح والثواب
5
510
فصل قال الرافضي وروى البيهقي بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى علي بن أبي طالب فأثبت له ما تفرق فيهم والجواب أن يقال أولا أين إسناد هذا الحديث والبيهقي يروي في الفضائل أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة كما جرت عادة أمثاله من أهل العلم ويقال ثانيا هذا الحديث كذب موضوع على رسول الله صلى الله
5
511(186/355)
عليه وسلم بلا ريب عند أهل العلم بالحديث ولهذا لا يذكره أهل العلم بالحديث وإن كانوا حراصا على جمع فضائل علي كالنسائي فإنه قصد أن يجمع فضائل علي في كتاب سماه الخصائص والترمذي قد ذكر أحاديث متعددة في فضائله وفيها ما هو ضعيف بل موضوع ومع هذا لم يذكروا هذا ونحوه فصل قال الرافضي قال أبو عمر الزاهد قال أبو العباس لا نعلم أحدا قال بعد نبيه سلوني من شيث إلى محمد إلا علي فسأله الأكابر أبو بكر وعمر وأشباههما حتى انقطع
5
512
السؤال ثم قال بعد هذا يا كميل ابن زياد إن ههنا العلما جما لو أصبت له حملة والجواب أن هذا النقل إن صح عن ثعلب فثعلب لم يذكر له إسنادا حتى يحتج به وليس ثعلب من أئمة الحديث الذين يعرفون صحيحه من سقيمه حتى يقال قد صح عنده كما إذا قال ذلك أحمد أو يحيى ابن معين أو البخاري ونحوهم بل من هو أعلم من ثعلب من الفقهاء يذكرون أحاديث كثيرة لا أصل لها فكيف ثعلب وهو قد سمع هذا من بعض الناس الذين لا يذكرون ما يقولون عن أحد وعلي رضي الله عنه لم يكن يقول هذا بالمدينة لا في خلافة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان وإنما كان يقول هذا في خلافته في الكوفة ليعلم أولئك الذين لم يكونوا يعلمون ما ينبغي لهم علمه وكان هذا لتقصيرهم في طلب العلم وكان علي رضي الله عنه يأمرهم بطلب العلم والسؤال وحديث كميل بن زياد يدل على هذا فإن كميلا من النابغين لم
5
513(186/356)
يصحبه إلا بالكوفة فدل على أنه كان يرى تقصيرا من أولئك عن كونهم حملة للعلم ولم يكن يقول هذا في المهاجرين والأنصار بل كان عظيم الثناء عليهم وأما أبو بكر فلم يسأل عليا قط عن شيء وأما عمر فكان يشاور الصحابة عثمان وعليا وعبد الرحمن وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم فكان علي من أهل الشورى كعثمان وابن مسعود وغيرهما ولم يكن أبو بكر ولا عمر ولا غيرهما من أكابر الصحابة يخصان عليا بسؤال والمعروف أن عليا أخذ العلم عن أبي بكر كما في السنن عن علي قال كنت إذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله به ما شاء أن ينفعني وإذا حدثني غيره حديثا استحلفته فإذا حلف لي صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من عبد مؤمن يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له
5
514
فصل قال الرافضي وأهمل حدود الله فلم يقتص من خالد بن الوليد ولا حده حيث قتل مالك بن نويرة وكان مسلما وتزوج امرأته في ليلة قتله وضاجعها وأشار عليه عمر بقتله فلم يفعل والجواب أن يقال أولا أن كان ترك قتل قاتل المعصوم مما ينكر على الأئمة كان هذا من أعظم حجة شيعة عثمان على علي فإن عثمان خير من ملء الأرض من مثل مالك بن نوبرة وهو خليفة المسلمين وقد قتل مظلوما شهيدا بلا تأويل مسوغ لقتله وعلي لم يقتل قتلته وكان هذا من أعظم ما امتنعت به شيعة عثمان عن مبايعة علي
5
515(186/357)
فإن كان علي له عذر شرعي في ترك قتل قتلة عثمان فعذر أبي بكر في ترك قتل قاتل مالك بن نويرة أقوى وإن لم يكن لأبي بكر عذر في ذلك فعلي أولى أن لا يكون له عذر في ترك قتل قتلة عثمان وأما ما تفعله الرافضة من الإنكار على أبي بكر في هذه القضية الصغيرة وترك إنكار ما هو أعظم منها على علي فهذا من فرط جهلهم وتناقضهم وكذلك إنكارهم على عثمان كونه لم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان هو من هذا الباب وإذا قال القائل علي كان معذورا في ترك قتل قتلة عثمان لأن شروط الإستيفاء لم توجد إما لعدم العلم بأعيان القتلة وإما لعجزه عن القوم لكونهم ذوي شوكة ونحو ذلك قيل فشروط الإستيفاء لم توجد في قتل قاتل مالك بن نويرة وقتل قاتل الهرمزان لوجود الشبهة في ذلك والحدود تدرأ بالشبهات
5
516
وإذا قالوا عمر أشار على أبي بكر بقتل خالد بن الوليد وعلي أشار على عثمان بقتل عبيد الله بن عمر قيل وطلحة والزبير وغيرهما أشاروا على علي بقتل قتلة عثمان مع أن الذين أشاروا على أبي بكر بالقود أقام عليهم حجة سلموا لها إما لظهور الحق معه وإما لكون ذلك مما يسوغ فيه الإجتهاد وعلي لما لم يوافق الذين أشاروا عليه بالقود جرى بينه وبينهم من الحروب ما قد علم وقتل قتلة عثمان أهون مما جرى بالجمل وصفين فإذا كان في هذا اجتهاد سائغ ففي ذلك أولى وإن قالوا عثمان كان مباح الدم قيل لهم فلا يشك أحد في أن إباحة دم مالك بن نويرة أظهر من إباحة دم عثمان بل مالك بن نويرة لا يعرف أنه كان معصوم الدم
5
517(186/358)
ولم يثبت ذلك عندنا وأما عثمان فقد ثبت بالتواتر ونصوص الكتاب والسنة أنه كان معصوم الدم وبين عثمان ومالك بن نويرة من الفرق ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى ومن قال إن عثمان كان مباح الدم لم يمكنه أن يجعل عليا معصوم الدم ولا الحسين فإن عصمة دم عثمان أظهر من عصمة دم علي والحسين وعثمان أبعد عن موجبات القتل من علي والحسين وشبهة قتلة عثمان أضعف بكثير من شبهة قتلة علي والحسين فإن عثمان لم يقتل مسلما ولا قاتل أحدا على ولايته ولم يطلب قتال أحد على ولايته أصلا فإن وجب أن يقال من قتل خلقا من السلمين على ولايته إنه معصوم الدم وإنه مجتهد فيما فعله فلأن يقال عثمان معصوم الدم وإنه مجتهد فيما فعله من الأموال والولايات بطريق الأولى والأحرى
5
518(186/359)
ثم يقال غاية ما يقال في قصة مالك ابن نويرة إنه كان معصوم الدم وإن خالدا قتله بتأويل وهذا لا يبيح قتل خالد كما أن أسامة ابن زيد لما قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله وقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله فأنكر عليه قتله ولم يوجب عليه قودا ولا دية ولا كفارة وقد روى محمد بن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس وقتادة أن هذه الآية قوله تعالى ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا الآية سورة النساء نزلت في شأن مرداس رجل من غطفان بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشا إلى قومه عليهم غالب الليثي ففر أصحابه ولم يفر قال إني مؤمن فصبحته الخيل فسلم عليهم فقتلوه وأخذوا غنمه فأنزل الله هذه الآية وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برد أمواله إلى أهله وبديته إليهم ونهى المؤمنين عن مثل ذلك وكذلك خالد بن الوليد قد قتل بني جذيمة متأولا ورفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ومع هذا فلم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان متأولا فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله مع قتله غير واحد من
5
519(186/360)
المسلمين من بني جذيمة للتأويل فلأن لا يقتله أبو بكر لقتله مالك ابن نويرة بطريق الأولى والأحرى وقد تقدم ما ذكره هذا الرافضي من فعل خالد ببني جذيمة وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله فكيف لم يجعل ذلك حجة لأبي بكر في أن لا يقتله لكن من كان متبعا لهواه أعماه عن اتباع الهدى وقوله إن عمر أشار بقتله فيقال غاية هذا أن تكون مسألة اجتهاد كان رأي أبي بكر فيها أن لا يقتل خالدا وكان رأي عمر فيها قتله وليس عمر بأعلم من أبي بكر لا عند السنة ولا عند الشيعة ولا يجب على أبي بكر ترك رأيه لرأي عمر ولم يظهر بدليل شرعي أن قول عمر هو الراجح فكيف يجوز أن يجعل مثل هذا عيبا لأبي بكر إلا من هو من أقل الناس علما ودينا وليس عندنا أخبار صحيحة ثابتة بأن الأمر جرى على وجه يوجب قتل خالد وأما ما ذكره من تزوجه بامرأته ليلة قتله فهذا مما لم يعرفه ثبوته ولو ثبت لكان هناك تأويل يمنع الرجم والفقهاء مختلفون في عدة الوفاة هل تجب للكافر على قولين وكذلك تنازعوا هل يجب على الذمية عدة وفاة على قولين مشهورين للمسلمين بخلاف عدة الطلاق فإن تلك سببها الوطء فلا بد من براءة الرحم وأما عدة الوفاة فتجب
5
520(186/361)
بمجرد العقد فإذا مات قبل الدخول بها فهل تعتد من الكافر أم لا فيه نزاع وكذلك إن كان دخل بها وقد حاضت بعد الدخول حيضة هذا إذا كان الكافر أصليا وأما المرتد إذا قتل أو مات على ردته ففي مذهب الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد ليس عليها عدة وفاة بل عدة فرقة بائنة لأن النكاح بطل بردة الزوج وهذه الفرقة ليست طلاقا عند الشافعي وأحمد وهي طلاق عند مالك وأبي حنيفة ولهذا لم يوجبوا عليها عدة وفاة بل عدة فرقة بائنة فإن كان لم يدخل بها فلا عدة عليها كما ليس عليها عدة من الطلاق ومعلوم أن خالدا قتل مالك بن نويرة لأنه رآه مرتدا فإذا كان لم يدخل بامرأته فلا عدة عليها عند عامة العلماء وإن كان قد دخل بها فإنه يجب عليها استبراء بحيضة لا بعدة كاملة في أحد قوليهم وفي الآخر بثلاث حيض وإن كان كافرا أصليا فليس على أمرأته عدة وفاة في أحد قوليهم وإذا كان الواجب استبراء بحيضة فقد تكون حاضت ومن الفقهاء من يجعل بعض الحيضة استبراء فإذا كانت في آخر الحيض جعل ذلك استبراء لدلالته على براءة الرحم وبالجملة فنحن لم نعلم أن القضية وقعت على وجه لا يسوغ فيها الاجتهاد والطعن بمثل ذلك من قول من يتكلم بلا علم وهذا مما حرمه الله ورسوله
5
521(186/362)
فصل قال الرافضي وخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم في توريث بنت النبي صلى الله عليه وسلم ومنعها فدكا وتسمى بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يستخلفه والجواب أما الميراث فجميع المسلمين مع أبي بكر في ذلك ما خلا بعض الشيعة وقد تقدم الكلام في ذلك وبينا أن هذا من العلم الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن قول الرافضة باطل قطعا وكذلك ما ذكر من فدك والخلفاء بعد أبي بكر على هذا القول وأبو بكر وعمر لم يتعلقا من فدك ولا غيرها من العقار بشيء ولا أعطيا أهلهما من ذلك شيئا وقد أعطيا بني هاشم أضعاف أضعاف ذلك ثم لو احتج محتج بأن عليا كان يمنع المال ابن عباس وغيره من بني هاشم حتى أخذ ابن عباس بعض مال البصرة وذهب له لم يكن الجواب عن علي إلا بأنه إمام عادل قاصد للحق لا يتهم في ذلك وهذا الجواب هو في حق أبي بكر بطريق الأولى والأحرى وأبو بكر
5
522(186/363)
أعظم محبة لفاطمة ومراعاة لها من علي لابن عباس وابن عباس بعلي أشبه من فاطمة بأبي بكر فإن فضل أبي بكر على فاطمة أعظم من فضل علي على ابن عباس وليس تبرئة الإنسان لفاطمة من الظن والهوى بأولى من تبرئة أبي بكر فإن أبا بكر إمام لا يتصرف لنفسه بل للمسلمين والمال لم يأخذه لنفسه بل للمسلمين وفاطمة تطلب لنفسها وبالضرورة نعلم أن بعد الحاكم عن اتباع الهوى أعظم من بعد الخصم الطالب لنفسه فإن علم أبي بكر وغيره بمثل هذه القضية لكثرة مباشرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم من علم فاطمة وإذا كان أبو بكر أولى بعلم مثل ذلك وأولى بالعدل فمن جعل فاطمة أعلم منه في ذلك وأعدل كان من أجهل الناس لا سيما وجميع المسلمين الذين لا غرض لهم هم مع أبي بكر في هذه المسألة فجميع أئمة الفقهاء عندهم أن الأنبياء لا يورثون مالا وكلهم يحب فاطمة ويعظم قدرها رضي الله عنها لكن لا يترك ما علموه من قول النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس ولم يأمرهم الله ورسوله أن يأخذوا دينهم من غير محمد صلى الله عليه وسلم لا عن أقاربه ولا عن غير أقاربه وإنما أمرهم الله بطاعة الرسول وأتباعه
5
523
وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال لا أفلح قوم ولوا أمرهم أمرأة فكيف يسوغ للأمة أن تعدل عما علمته من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يحكى عن فاطمة في كونها طلبت الميراث تظن أنها ترث فصل وأما تسميته بخليفة رسول الله فإن المسلمين سموه بذلك فإن كان الخليفة هو المستخلف كما ادعاه هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلفه كما يقول ذلك من يقول من أهل السنة وإن كان
5
524(186/364)
الخليفة هو الذي خلف غيره وإن كان لم يستخلفه ذلك الغير كما يقوله الجمهور لم يحتج في هذا الإسم إلى الإستخلاف والإستعمال الموجود في الكتاب والسنة يدل على أن هذا الإسم يتناول كل من خلف غيره سواء استخلفه أو لم يستخلفه كقوله تعالى ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعلمون سورة يونس وقوله تعالى وهو الذي جعلكم خلائف الأرض الآية سورة الإنعام وقال ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون سورة الزخرف وقوله واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح سورة الأعراف وفي القصة الأخرى خلفاء من بعد عاد سورة الأعراف وقال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي سورة الأعراف فهذا استخلاف وقال تعالى وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر سورة الفرقان وقال إن في اختلاف الليل والنهار سورة يونس أي هذا يخلف هذا وهذا يخلف هذا فهما يتعاقبان وقال موسى عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف
5
525(186/365)
تعملون سورة الأعراف وقال تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم سورة النور وقال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة سورة البقرة وقال يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض سورة ص فغالب هذه المواضع ليكون الثاني خليفة عن الأول وإن كان الأول لم يستخلفه وسمي الخليفة خليفة لأنه يخلف من قبله والله تعالى جعله يخلفه كما جعل الليل يخلف النهار والنهار يخلف الليل ليس المراد أنه خليفة عن الله كما ظنه بعض الناس كما قد بسطناه في موضع آخر والناس يسمون ولاة أمور المسلمين الخلفاء وقال النبي صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ومعلوم أن عثمان لم يستخلف عليا وعمر لم يستخلف واحدا معينا وكان يقول إن أستخلف فإن أبا بكر استخلف وإن لم استخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف وكان مع هذا يقول لأبي بكر يا خليفة رسول الله وكذلك خلفاء بني أمية وبني العباس كثير منهم لم يستخلفه من قبله فعلم إن الإسم عام فيمن خلف غيره
5
526
وفي الحديث إن صح وددت أني رأيت أو قال رحمة الله على خلفائي قالوا ومن خلفاؤك يا رسول الله قال الذين يحيون سنتي ويعلمونها الناس وهذا إن صح من قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو حجة في المسألة وإن لم يكن من قوله فهو يدل على أن الذي وضعه كان من عادتهم استعمال لفظ الخليفة فيمن خلف غيره وإن لم يستخلفه فإذا قام مقامه وسد مسده في بعض الأمور فهو خليفة عنه في ذلك الأمر تم بحمد الله(186/366)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب
منهاج السنة النبوية
اسم المؤلف
شيخ الإسلام بن تيمية
عدد الاجزاء
دار النشر
مدينة النشر
سنة النشر
رقم الطبعة
8
مؤسسة قرطبة
1406
الأولى
اسم المحقق
د. محمد رشاد سالم
الجزء السادس
الجزء
رقم الصفحة
محتوى الصفحة
6
5
فصل قال الرافضي ومنها ما رووه عن عمر روى أبو نعيم الحافظ في كتابه حلية الأولياء أنه قال لما احتضر قال يا ليتني كنت كبشا لقومي فسمنوني ما بدا لهم ثم جاءهم أحب قومهم إليهم فذبحوني فجعلوا نصفي شواء ونصفي قديدا فأكلوني فأكون عذرة ولا أكون بشرا وهل هذا إلا مساو لقول الكافر يا ليتني كنت ترابا سورة النبأ قال وقال لابن عباس عند احتضاره لو أن لي ملء
6
6
الأرض ذهبا ومثله معه لافتديت به نفسي من هول المطلع وهذا مثل قوله ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب سورة الزمر فلينظر المنصف العاقل قول الرجلين عند احتضارهما وقول علي متى ألقى الأحبة محمدا وحزبه متى ألقاها متى يبعث أشقاها وقوله حين قتله ابن ملجم فزت ورب الكعبة والجواب أن في هذا الكلام من الجهالة ما يدل على فرط جهل قائله وذلك أن ما ذكره عن علي قد نقل مثله عمن هو دون أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بل نقل مثله عمن يكفر علي بن أبي طالب من الخوارج كقول بلال عتيق أبي بكر عند الاحتضار وأمرأته تقول واحرباه وهو يقول واطرباه غدا ألقى الأحبة محمدا وحزبه وكان عمر قد دعا لما عارضوه في قسمة الأرض فقال اللهم اكفني بلالا وذويه فما حال الحول وفيهم عين تطرف
6
7(187/1)
وروى أبو نعيم في الحلية حدثنا القطيعي حدثنا الحسن بن عبد الله حدثنا عامر بن سيار حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر ابن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن الحارث بن عمير قال طعن معاذ وأبو عبيدة وشرحبيل بن حسنة وأبو مالك الأشعري في يوم واحد فقال معاذ إنه رحمة ربكم ودعوة نبيكم وقبض الصالحين قبلكم اللهم آت آل معاذ النصيب الأوفر من هذه الرحمة فما أمسى حتى طعن ابنه عبد الرحمن بكره الذي كان يكنى به وأحب الخلق إليه فرجع من المسجد فوجده مكروبا فقال يا عبد الرحمن كيف
6
8
أنت قال يا أبت الحق من ربك فلا تكونن من الممترين قال وأنا إن شاء الله ستجدني من الصابرين فأمسكه ليلة ثم دفنه من الغد وطعن معاذ فقال حين اشتد به النزع نزع الموت فنزع نزعا لم ينزعه أحد وكان كلما أفاق فتح طرفه وقال رب اخنقني خنقك فوعزتك إنك لتعلم أن قلبي يحبك وكذلك قوله فزت ورب الكعبة قد قالها من هو دون علي قالها عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق لما قتل يوم بئر معونة وكان قد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مع سرية قبل نجد قال العلماء بالسير طعنه جبار بن سلمى فأنفذه فقال عامر فزت والله فقال جبار ما قوله فزت والله قال عروة بن الزبير يرون أن الملائكة دفنته
6
9(187/2)
وشبيب الخارجي لما طعن دخل في الطعنة وجعل يقول وعجلت إليك رب لترضى وأعرف شخصا من أصحابنا لما حضرته الوفاة جعل يقول حبيبي ها قد جئتك حتى خرجت نفسه ومثل هذا كثيره وأما خوف عمر ففي صحيح البخاري عن المسور بن مخرمة قال لما طعن عمر جعل يألم فقال ابن عباس وكأنه يجزعه أي يزيل جزعه يا أمير المؤمنين ولئن كان ذلك لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت المسلمين فأحسنت صحبتهم ولئن فارقتهم كتفارقنهم وهم عنك راضون فقال أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه فإنما ذاك من من الله من به على وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك من من الله من به علي وأما ما ترى
6
10
من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه وفي صحيح البخاري عن عمرو بن ميمون في حديث قتل عمر يا ابن عباس انظر من قتلني فجال ساعة ثم جاء فقال غلام المغيرة قال الصنع قال نعم قال قاتله الله لقد أمرت به معروفا الحمد لله الذي لم يجعل قتلي بيد رجل يدعي الإسلام قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة وكان العباس أكثرهم رقيقا فقال إن شئت فعلت أي إن شئت قتلنا قال كذبت بعد ما تعلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم وحجوا حجكم فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ فقائل يقول لا بأس وقائل يقول أخاف عليه فأتى بنبيذ فشربه فخرج من جوفه ثم أتى بلبن فشربه فخرج من جرحه فعلموا أنه ميت فدخلنا عليه
6
11(187/3)
وجاء الناس يثنون عليه وجاء رجل شاب فقال أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم في الإسلام ما قد علمت ووليت فعدلت ثم شهادة قال وددت أن ذلك كفافا لا علي ولا لي فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض فقال ردوا على الغلام قال يا ابن أخي ارفع إزارك فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك يا عبد الله بن عمر انظر ما على من الدين فحسبوه فوجوده ستة وثمانين ألفا أو نحوه قال إن وفى له مال آل عمر فأد من أموالهم وإلا فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تف أموالهم وإلا فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم فاد عني هذا المال انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل يقرأ عليك عمر
6
12
السلام ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه فقالت كنت أريده لنفسي ولأوثرنه اليوم على نفسي فلما أقبل قيل هذا عبد الله ابن عمر وقد جاء فقال ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال ما لديك قال الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت قال الحمد لله ما كان شيء أهم من ذلك فإذا أنا قضيت فاحملوني ثم سلم وقل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين وذكر تمام الحديث ففي نفس الحديث أنه يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنه راض ورعيته عنه راضون مقرون بعدله فيهم ولما مات كأنهم لم يصابوا بمصيبة قبل مصيبته لعظمها عندهم
6
13(187/4)
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذي تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم ولم يقتل عمر رضي الله عنه رجل من المسلمين لرضا المسلمين عنه وإنما قتله كافر فارسي مجوسى وخشيته من الله لكمال علمه فإن الله تعالى يقول إنما يخشى الله من عباده العلماء سورة فاطر وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء وقرأ عليه ابن مسعود سورة النساء فلما بلغ إلى قوله فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا سورة النساء قال حسبك فنظرت إلى عينيه وهما تذرفان وقد قال تعالى قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم سورة الأحقاف
6
14
وفي صحيح مسلم أنه قال لما قتل عثمان ين مظعون قال ما أدري والله وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم وفي الترمذي وغيره عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله وددت أني كنت شجرة تعضد وقوله وددت أني كنت شجرة تعضد قيل إنه من قول أبي ذر لا من قول النبي صلى الله عليه وسلم وقال تعالى إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون الآية سورة المؤمنون
6
15(187/5)
وفي الترمذي عن عائشة قالت قلت يا رسول الله هو الرجل يزني ويسرق ويخاف فقال لا يا بنت الصديق ولكنه الرجل يصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه وأما قول الرافضي وهل هذا إلا مساو لقول الكافر يا ليتني كنت ترابا سورة النبأ فهذا جهل منه فإن الكافر يقول ذلك يوم القيامة حين لا تقبل توبة ولا تنفع حسنة وأما من يقول ذلك في الدنيا فهذا يقوله في دار العمل على وجه الخشية لله فيثاب على خوفه من الله وقد قالت مريم يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا سورة مريم ولم يكن هذا كتمني الموت يوم القيامة ولا يجعل هذا كقول أهل النار كما أخبر الله عنهم بقوله ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك سورة الزخرف وكذلك قوله ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا
6
16
يحتسبون سورة الزمر فهذا إخبار عن حالهم يوم القيامة حين لا ينفع توبة ولا خشية وأما في الدنيا فالعبد إذا خاف ربه كان خوفه مما يثيبه الله عليه فمن خاف الله في الدنيا أمنه يوم القيامة ومن جعل خوف المؤمن من ربه في الدنيا كخوف الكافر في الآخرة فهو كمن جعل الظلمات كالنور والظل كالحرور والأحياء كالأموات ومن تولى أمر المسلمين فعدل فيهم عدلا يشهد به عامتهم وهو في ذلك يخاف الله أن يكون ظلم فهو أفضل ممن يقول كثير من رعيته إنه ظلم وهو في نفسه آمن من العذاب مع أن كليهما من أهل الجنة والخوارج الذين كفروا عليا واعتقدوا أنه ظالم مستحق للقتل مع كونهم ضلالا مخطئين هم راضون عن عمر معظمون لسيرته وعدله وبعدل عمر يضرب المثل حتى يقال سيرة العمرين سواء كانا عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز كما هو قول أهل العلم والحديث كأحمد وغيره أو كانا أبا بكر وعمر كما تقوله طائفة من أهل اللغة كأبي عبيد وغيره فإن عمر بن الخطاب داخل في ذلك على التقديرين
6
17(187/6)
ومعلوم أن شهادة الرعية لراعيها أعظم من شهادته هو لنفسه وقد قال تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا سورة البقرة وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال وجبت وجبت ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال وجبت وجبت قالوا يا رسول الله ما قولك وجبت وجبت قال هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار قالوا بم يا رسول الله قال بالثناء الحسن وبالثناء السىء ومعلوم أن رعية عمر انتشرت شرقا وغربا وكانت رعية عمر خيرا من رعية علي وكانت رعية علي جزءا من رعية عمر ومع هذا فكلهم يصفون عدله وزهده وسياسته ويعظمونه والأمة قرنا بعد قرن تصف عدله وزهده وسياسته ولا يعرف أن أحدا طعن في ذلك
6
18(187/7)
والرافضة لم تطعن في ذلك بل لما غلت في علي جعلت ذنب عمر كونه تولى وجعلوا يطلبون له ما يتبين به ظلمه فلم يمكنهم ذلك وأما علي رضي الله عنه فإن أهل السنة يحبونه ويتولونه ويشهدون بأنه من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين لكن نصف رعيته يطعنون في عدله فالخوارج يكفرونه وغير الخوارج من أهل بيته وغير أهل بيته يقولون إنه لم ينصفهم وشيعة عثمان يقولون إنه ممن ظلم عثمان وبالجملة لم يظهر لعلي من العدل مع كثرة الرعية وانتشارها ما ظهر لعمر ولا قريب منه وعمر لم يول أحدا من أقاربه وعلي ولى أقاربه كما ولى عثمان أقاربه وعمر مع هذا يخاف أن يكون ظلمهم فهو أعدل وأخوف من الله من علي فهذا مما يدل على أنه أفضل من علي وعمر مع رضا رعيته عنه يخاف أن يكون ظلمهم وعلي يشكو من رعيته وتظلمهم ويدعو عليهم ويقول إني أبغضهم ويبغضوني وسئمتهم وسئموني اللهم فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون
6
19
فصل قال الرافضي وروى أصحاب الصحاح الستة من مسند ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرض مرض موته أئتوني بدواة وبياض أكتب لكم كتابا لا تضلون به من بعدي فقال عمر إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله فكثر اللغط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجوا عني لا ينبغي التنازع لدي فقال ابن عباس الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عمر لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات محمد ولا يموت حتى يقطع أيدي رجال
6
20(187/8)
وأرجلهم فلما نهاه أبو بكر وتلا عليه إنك ميت وإنهم ميتون سورة الزمر وقوله أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم سورة آل عمران قال كأني ما سمعت هذه الآية والجواب أن يقال أما عمر فقد ثبت من علمه وفضله مالم يثبت لأحد غير أبي بكر ففي صحيح مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب وفي لفظ للبخاري لقد كان
6
21
فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر وفي الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال بينا أنا نائم إذ رأيت قدحا أتيت به فيه لبن فشربت منه حتى أني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلى عمر بن الخطاب قالوا فما أولته يا رسول الله قال العلم وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره قالوا ما أولت ذلك يا رسول الله قال الدين
6
22(187/9)
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال قال عمر وافقت ربي في ثلاث في مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي أسارى بدر وللبخاري عن أنس قال قال عمر وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى سورة البقرة وقلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض أزواجه فدخلت عليهم فقلت إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن حتى أتت إحدى نسائه فقالت يا عمر أما في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأنزل الله عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن الآية سورة التحريم
6
23
وأما قصة الكتاب الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يكتبه فقد جاء مبينا كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ويأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر وفي صحيح البخاري عن القاسم بن محمد قال قالت عائشة وارأساه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان وأنا حي فاستغفر لك وأدعو لك قالت عائشة واثكلاه والله إني لأظنك تحب موتي فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنا وارأساه لقد همت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ويدفع الله ويأبى المؤمنون وفي صحيح مسلم عن ابن أبي مليكة قال سمعت عائشة
6
24(187/10)
وسئلت من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفا لو استخلف قالت أبو بكر فقيل لها ثم من بعد أبي بكر قالت عمر قيل لها ثم من بعد عمر قالت أبو عبيدة عامر بن الجراح ثم انتهت إلى هذا وأما عمر فاشتبه عليه هل كان قول النبي صلى الله عليه وسلم من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة والمرض جائز على الأنبياء ولهذا قال ماله أهجر فشك في ذلك ولم يجزم بأنه هجر والشك جائز على عمر فإنه لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم لا سيما وقد شك بشبهة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريضا فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض كما يعرض للمريض أو كان من كلامه المعروف الذي يجب قبوله وكذلك ظن أنه لم يمت حتى تبين أنه قد مات والنبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي
6
25
ذكره لعائشة فلما رأى أن الشك قد وقع علم أن الكتاب لا يرفع الشك فلم يبق فيه فائدة وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه كما قال ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر وقول ابن عباس إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب الكتاب يقتضي أن هذا الحائل كان رزية وهو رزية في حق من شك في خلافة الصديق أو اشتبه عليه الأمر فإنه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك فأما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه ولله الحمد ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه وأما الشيعة القائلون بأن عليا كان هو المستحق للإمامة فيقولون إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصا جليا ظاهرا معروفا وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب
6
26(187/11)
وإن قيل إن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور فلأن تكتم كتابا حضره طائفة قليلة أولى وأحرى وأيضا فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبينه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحد فإنه أطوع الخلق له فعلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجبا ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ إذ لو وجب لفعله ولو أن عمر رضي الله عنه اشتبه عليه أمر ثم تبين له أو شك في بعض الأمور فليس هو أعظم ممن يفتي ويقضي بأمور ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بخلافها مجتهدا في ذلك ولا يكون قد علم حكم النبي صلى الله عليه وسلم فإن الشك في الحق أخف من الجزم بنقيضه وكل هذا إذا كان باجتهاد سائغ كان غايته أن يكون من الخطأ الذي رفع الله المؤاخذه به كما قضى على في الحامل المتوفى عنها زوجها أنها تعتد أبعد الأجلين مع ما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قيل له إن أبا السنابل بن بعكك أفتى بذلك لسبيعة الأسلمية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب
6
27(187/12)
أبو السنابل بل حللت فانكحى من شئت فقد كذب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الذي أفتى بهذا وأبو السنابل لم يكن من أهل الاجتهاد وما كان له أن يفتي بهذا مع حضور النبي صلى الله عليه وسلم وأما علي وابن عباس رضي الله عنهما وإن كانا أفتيا بذلك لكن كان ذلك عن اجتهاد وكان ذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن بلغهما قصة سبيعة وهكذا سائر أهل الاجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم إذا اجتهدوا فأفتوا وقضوا وحكموا بأمر والسنة بخلافه ولم تبلغهم السنة كانوا مثابين على اجتهادهم مطيعين لله ورسوله فيما فعلوه من الاجتهاد بحسب استطاعتهم ولهم أجر على ذلك ومن اجتهد منهم وأصاب فله أجران والناس متنازعون هل يقال كل مجتهد مصيب أم المصيب واحد وفصل الخطاب أنه إن أريد بالمصيب المطيع لله ورسوله فكل مجتهد أتقى الله ما استطاع فهو مطيع لله ورسوله فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وهذا عاجز عن معرفة الحق في نفس الأمر فسقط عنه
6
28
وان عنى بالمصيب العالم بحكم الله في نفس الأمر فالمصيب ليس إلا واحدا فإن الحق في نفس الأمر واحد وهذا كالمجتهدين في القبلة إذا أفضى اجتهاد كل واحد منهم إلى جهة فكل منهم مطيع لله ورسوله والفرض ساقط عنه بصلاته إلى الجهة التي اعتقد أنها الكعبة ولكن العالم بالكعبة المصلى إليها في نفس الأمر واحد وهذا قد فضله الله بالعلم والقدرة على معرفة الصواب والعمل به فأجره أعظم كما أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك قضى علي رضي الله عنه في المفوضة بأن مهرها يسقط بالموت مع قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق بأن لها مهر نسائها وكذلك طلبه نكاح بنت أبي جهل حتى غضب النبي صلى الله عليه وسلم فرجع عن ذلك وقوله لما ندبه وفاطمة النبي صلى الله عليه وسلم الى الصلاة بالليل فاحتج بالقدر لما قال ألا تصليان فقال
6
29(187/13)
على إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فولى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب فخذه ويقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا وأمثال هذا إذا لم يقدح في علي لكونه كان مجتهدا ثم رجع إلى ما تبين له من الحق فكذلك عمر لا يقدح فيه ما قاله باجتهاده مع رجوعه إلى ما تبين له من الحق والأمور التي كان ينبغي لعلي أن يرجع عنها أعظم بكثير من الأمور التي كان ينبغي لعمر أن يرجع عنها مع أن عمر قد رجع عن عامة تلك الأمور وعلي عرف رجوعه عن بعضها فقط كرجوعه عن خطبة بنت أبي جهل وأما بعضها كفتياه بأن المتوفى عنها الحامل تعتد أبعد الأجلين وأن المفوضة لا مهر لها إذا مات الزوج وقوله إن المخيرة إذا اختارت زوجها فهي واحدة مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساءه ولم يكن ذلك طلاقا فهذه لم يعرف إلا بقاؤه عليها حتى مات وكذلك مسائل كثيرة ذكرها الشافعي في كتاب اختلاف علي وعبد الله وذكرها محمد بن نصر
6
30
المروزي في كتاب رفع اليدين في الصلاة وأكثرها موجودة في الكتب التي يذكر فيها أقوال الصحابة إما بإسناد وإما بغير إسناد مثل مصنف عبد الرزاق وسنن سعيد بن منصور ومصنف وكيع ومصنف أبي بكر ابن أبي شيبة وسنن الأثرم ومسائل حرب وعبد الله بن أحمد وصالح وأمثالهم مثل كتاب ابن المنذر وابن جرير الطبري والطحاوي ومحمد بن نصر وابن حزم وغير هؤلاء فصل قال الرافضي ولما وعظت فاطمة أبا بكر في فدك كتب لها كتابا بها وردها عليها فخرجت من عنده
6
31(187/14)
فلقيها عمر بن الخطاب فحرق الكتاب فدعت عليه بما فعله أبو لؤلؤه به وعطل حدود الله فلم يحد المغيرة بن شعبة وكان يعطى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المال أكثر مما ينبغي وكان يعطى عائشة وحفصة في كل سنة عشرة آلاف درهم وغير حكم الله في المنفيين وكان قليل المعرفة في الأحكام والجواب أن هذا من الكذب الذي لا يستريب فيه عالم ولم يذكر هذا أحد من أهل العلم ولا يعرف له إسناد وأبو بكر لم يكتب فدكا قط لأحد لا لفاطمة ولا غيرها ولا دعت فاطمة على عمر وما فعله أبو لؤلؤة كرامة في حق عمر رضي الله عنه وهو أعظم مما فعله ابن ملجم بعلي رضي الله عنه وما فعله قتلة الحسين رضي الله عنه به فإن أبا لؤلؤة كافر قتل عمر كما يقتل الكافر المؤمن وهذه الشهادة أعظم من شهادة من يقتله مسلم فإن قتيل الكافر أعظم درجة من قتيل المسلمين وقتل أبي لؤلؤة لعمر كان بعد موت فاطمة بمدة
6
32
خلافة أبي بكر وعمر إلا ستة أشهر فمن أين يعرف أن قتله كان بسبب دعاء حصل في تلك المدة والداعي إذا دعا على مسلم بأن يقتله كافر كان ذلك دعاء له لا عليه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لأصحابه بنحو ذلك كقوله يغفر الله لفلان فيقولون لو أمتعنا به وكان إذا دعا لأحد بذلك استشهد ولو قال قائل إن عليا ظلم أهل صفين والخوارج حتى دعوا عليه بما فعله ابن ملجم لم يكن هذا أبعد عن المعقول من هذا وكذلك لو قال إن آل سفيان بن حرب دعوا على الحسين بما فعل به
6
33(187/15)
وذلك أن عمر لم يكن له غرض في فدك لم يأخذها لنفسه ولا لأحد من أقاربه وأصدقائه ولا كان له غرض في حرمان أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بل كان يقدمهم في العطاء على جميع الناس ويفضلهم في العطاء على جميع الناس حتى انه لما وضع الديوان للعطاء وكتب اسماء الناس قالوا نبدأ بك قال لا ابدأوا بأقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعوا عمر حيث وضعه الله فبدأ ببني هاشم وضم إليهم بني المطلب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام فقدم العباس وعليا والحسن والحسين وفرض لهم أكثر مما فرض لنظرائهم من سائر القبائل وفضل أسامة بن زيد على ابنه عبد الله في العطاء فغضب ابنه وقال تفضل علي أسامة قال فإنه كان أحب إلى رسول الله منك وكان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيكوهذا الذي ذكرناه من تقديمه بني هاشم وتفضيله لهم أمر مشهور عند جميع العلماء بالسير لم يختلف فيه اثنان فمن تكون هذه مراعاته لأقارب الرسول وعنزته أيظلم أقرب الناس إليه وسيدة نساء أهل الجنة وهي مصابة به في يسير من المال وهو يعطى أولادها أضعاف
6
34(187/16)
ذلك المال ويعطى من هو أبعد عن النبي صلى الله عليه وسلم منها ويعطى عليا ثم العادة الجارية بأن طلاب الملك والرياسة لا يتعرضون للنساء بل يكرمونهن لأنهن لا يصلحن للملك فكيف يجزل العطاء للرجال والمرأة يحرمها من حقها لا لغرض أصلا لا ديني ولا دنيوي وأما قول الرافضي وعطل حدود الله فلم يحد المغيرة بن شعبة فالجواب أن جماهير العلماء على ما فعله عمر في قصة المغيرة وأن البينة إذا لم تكمل حد الشهود ومن قال بالقول الآخر لم ينازع في أن هذه مسألة اجتهاد وقد تقدم أن ما يرد على علي بتعطيل إقامة القصاص والحدود على قتلة عثمان أعظم فإن كان القادح في علي مبطلا فالقادح في عمر أولى بالبطلان والذي فعله بالمغيرة كان بحضرة الصحابة رضي الله عنهم وأقروه على ذلك وعلي منهم والدليل على إقرار علي له أنه لما جلد الثلاثة الحد أعاد أبو بكرة القذف وقال والله لقد زنى فهم عمر بجلده ثانيا فقال له علي إن كنت جالده فارجم المغيرة يعني أن هذا القول إن كان هو الأول فقد حد عليه وإن جعلته بمنزلة قول ثان فقد
6
35
تم النصاب أربعة فيجب رجمة فلم يحده عمر وهذا دليل على رضا علي بحدهم أولا دون الحد الثاني وإلا كان أنكر حدهم أولا كما أنكر الثاني وكان من هو دون علي يراجع عمر ويحتج عليه بالكتاب والسنة فيرجع عمر إلى قوله فإن عمر كان وقافا عند كتاب الله تعالى روى البخاري عن ابن عباس قال قدم عيينة بن حصن على ابن أخيه الحر بن قيس وكان من النفر الذين يدنيهم عمر وكان القراء أصحاب مجالس عمر كهولا كانوا أو شبانا فقال عيينة لابن أخيه يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه فقال سأستأذن لك عليه قال ابن عباس فاستأذن الحر لعيينة فأذن
6
36(187/17)
له عمر فلما دخل عليه قال هيه يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم أن يوقع به فقال له الحر يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين سورة الأعراف وإن هذا من الجاهلين فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان عمر وقافا عند كتاب الله وعمر رضي الله عنه من المتواتر عنه أنه كان لا تأخذ في الله لومة لائم حتى أنه أقام على ابنه الحد لما شرب بمصر بعد أن كان عمرو ابن العاص ضربه الحد لكن كان ضربه سرا في البيت وكان الناس يضربون علانية فبعث عمرو إلى عمر يزجره ويتهدده لكونه حابي ابنه ثم طلبه فضربه مرة ثانية فقال له عبد الرحمن ما لك هذا فزجر عبد الرحمن وما روى أنه ضربه بعد الموت فكذب على عمر وضرب الميت لا يجوز وأخبار عمر المتواترة في إقامة الحدود وأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم أكثر من أن تذكر هنا
6
37
وأي غرض كان لعمر في المغيرة بن شعبة وكان عمر عند المسلمين كالميزان العادل الذي لا يميل إلى ذا الجانب ولا ذا الجانب وقوله وكان يعطى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المال أكثر مما ينبغي وكان يعطى عائشة وحفصة من المال في كل سنة عشرة آلاف درهم فالجواب أما حفصة فكان ينقصها من العطاء لكونها ابنته كما نقص عبد الله بن عمر وهذا من كمال احتياطه في العدل وخوفه مقام ربه ونهيه نفسه عن الهوى وهو كان يرى التفضيل في العطاء بالفضل فيعطى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أعظم مما يعطى غيرهن من النساء كما كان يعطى بني هاشم من آل أبي طالب وأل العباس أكثر مما يعطى أعدادهم من سائر القبائل فإذا فضل شخصا كان لأجل اتصاله برسول الله صلى الله عليه وسلم أو لسابقته واستحقاقه وكان يقول
6
38(187/18)
ليس أحد أحق بهذا المال من أحد وإنما هو الرجل وغناؤه والرجل وبلاؤه والرجل وسابقته والرجل وحاجته فما كان يعطى من يتهم على إعطائه بمحاباة في صداقة أو قرابة بل كان ينقص ابنه وابنته ونحوهما عن نظرائهم في العطاء وإنما كان يفضل بالأسباب الدينية المحضة ويفضل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على جميع البيوتات ويقدمهم وهذه السيرة لم يسرها بعده مثله لا عثمان ولا علي ولا غيرهما فإن قدح فيه بتفضيل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فليقدح فيه بتفضيل رجال أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بل وتقديمهم على غيرهم فصل وأما قوله وغير حكم الله في المنفيين فالجواب أن التغيير لحكم الله بما يناقض حكم الله مثل إسقاط ما أوجبه الله وتحريم ما أحله الله والنفي في الخمر كان من باب التعزير الذي يسوغ فيه الاجتهاد وذلك أن الخمر لم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم حدها لا قدره ولا صفته بل جوز فيها الضرب
6
39
بالجريد والنعال وأطراف الثياب وعثكول النخل والضرب في حد القذف والزنا إنما يكون بالسوط وأما العدد في الخمر فقد ضرب الصحابة أربعين وضربوا ثمانين وقد ثبت في الصحيح عن علي رضي الله عنه أنه قال وكل سنة والفقهاء لهم في ذلك قولان قيل الزيادة على أربعين حد واجب كقول أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وقيل هو تعزير للإمام أن يفعله وأن يتركه بحسب المصلحة وهذا قول الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى وهو أظهر وكان عمر رضي الله عنه يحلق في شرب الخمر وينفى أيضا وكان هذا من جنس التعزير العارض فيها وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما
6
40(187/19)
وقد تنازع العلماء هل هو منسوخ أو محكم أو هو من باب التعزير الذي يفعله الإمام إن احتاج إليه ولا يجب على ثلاثة أقوال وعلي رضي الله عنه كان يضرب في الحد فوق الأربعين وقال ما أحد أقيم عليه الحد فيموت فأجد في نفسي إلا شارب الخمر فإنه لو مات لوديته فإن شيء فعلناه برأينا رواه الشافعي وغيره واستدل الشافعي بهذا على أن الزيادة من باب التعزير الذي يفعل بالاجتهاد ثم هذا مبنى على مسألة أخرى وهو أن أقيم عليه حد أو تعزير أو قصاص فمات
6
41
من ذلك هل يضمن اتفق العلماء على أن الواجب المقدر كالحد لا تضمن سرايته لأنه واجب عليه واختلفوا في المباح كالقصاص وفي غير المقدر كالتعزير وضرب الرجل امرأته وضرب الرائض للدابة والمؤدب للصبي على ثلاثة أقوال فقيل لا يضمن في الجميع لأنه مباح وهو قول أحمد بن حنبل ومالك فيما أظن وقيل يضمن في المباح دون الواجب الذي ليس بمقدر لأن له تركه وهو قول أبي حنيفة وقيل يضمن غير المقدر وهو قول الشافعي لأن غير المقدر يتبين أنه أخطأ إذا تلف به فصل قال الرافضي وكان قليل المعرفة بالأحكام أمر برجم حامل فقال له علي إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها فأمسك وقال لولا علي لهلك عمر والجواب أن هذه القصة إن كانت صحيحة فلا تخلو من أن
6
42(187/20)
يكون عمر لم يعلم أنها حامل فأخبره علي بحملها ولا ريب أن الأصل عدم العلم والإمام إذا لم يعلم أن المستحقة للقتل أو الرجم حامل فعرفه بعض الناس بحالها كان هذا من جملة إخباره بأحوال الناس المغيبات ومن جنس ما يشهد به عنده الشهود وهذا أمر لا بد منه مع كل أحد من الأنبياء والأئمة وغيرهم وليس هذا من الأحكام الكلية الشرعية وإما أن يكون عمر قد غاب عنه كون الحامل لا ترجم فلما ذكره علي ذكر ذلك ولهذا أمسك ولو كان رأيه أن الحامل ترجم لرجمها ولم يرجع إلي رأي غيره وقد مضت سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الغامدية لما قالت إني حبلى من الزنا فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم اذهبي حتى تضعيه ولو قدر أنه خفى عليه علم هذه المسألة حتى عرفه لم يقدح ذلك فيه لأن عمر ساس المسلمين وأهل الذمة يعطى الحقوق ويقيم الحدود ويحكم بين الناس كلهم وفي زمنه انتشر الإسلام وظهر ظهورا لم يكن قبله مثله وهو دائما يقضى ويفتى ولولا كثرة علمه لم يطق ذلك فإذا خفيت عليه قضية من مائة ألف قضية ثم عرفها أو كان نسيها فذكرها فأى عيب في ذلك
6
43(187/21)
وعلي رضي الله عنه قد خفى عليه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أضعاف ذلك ومنها ما مات ولم يعرفه ثم يقال عمر رضي الله عنه قد بلغ من علمه وعدله ورحمته بالذرية أنه كان لا يفرض للصغير حتى يفطم ويقول يكفيه اللبن فسمع امرأة تكره ابنها على الفطام ليفرض له فأصبح فنادى في الناس أن أمير المؤمنين يفرض للفطيم والرضيع وتضرر الرضيع كان بإكراه أمه لا بفعله هو لكن رأى أن يفرض للرضعاء ليمتنع الناس عن إيذائهم فهذا إحسانه إلى ذرية المسلمين ولا ريب أن العقوبة إذا أمكن أن لا يتعدى بها الجاني كان ذلك هو الواجب ومع هذا فإذا كان الفساد في ترك عقوبة الجاني أعظم من الفساد في عقوبة من لم يجن دفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما كما رمى النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف بالمنجنيق مع أن المنجنيق قد يصيب النساء والصبيان
6
44
وفي الصحيحين أن الصعب بن جثامة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم فقال هم منهم ولو صالت المرأة الحامل على النفوس والأموال المعصومة فلم يندفع صيالها إلا بقتلها قتلت وإن قتل جنينها فإذا قدر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ظن أن إقامة الحدود من هذا الباب حتى تبين له أنه ليس من هذا الباب لم يكن هذا بأعظم من القتال يوم الجمل وصفين الذي أفضى إلى أنواع من الفساد أعظم من هذا وعلي رضي الله عنه كان مع نظره واجتهاده لا يظن أن الأمر يبلغ إلى ما بلغ ولو علم ذلك لما فعل ما فعل كما أخبر عن نفسه
6
45(187/22)
فصل قال الرافضي وأمر برجم مجنونة فقال له علي رضي الله عنه إن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق فأمسك وقال لولا على لهلك عمر والجواب أن هذه الزيادة ليست معروفة في هذا الحديث ورجم المجنونة لا يخلو إما أن يكون لم يعلم بجنونها فلا يقدح ذلك في علمه بالأحكام أو كان ذاهلا عن ذلك فذكر بذلك أو يظن الظان أن العقوبات لدفع الضرر في الدنيا والمجنون قد يعاقب لدفع عدوانه على غيره من العقلاء والمجانين والزنا هو من العدوان فيعاقب على ذلك حتى يتبين له أن هذا من باب حدود الله تعالى التي لا تقام إلا على المكلف والشريعة قد جاءت بعقوبة الصبيان على ترك الصلاة كما قال صلى الله عليه وسلم مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع
6
46
والمجنون إذا صال ولم يندفع صياله إلا بقتله قتل بل البهيمة إذا صالت ولم يندفع صيالها إلا بقتلها قتلت وإن كانت مملوكة لم يكن على قاتلها ضمان للمالك عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم وأبو حنيفة يقول إنه يضمنها للمالك لأنه قتلها لمصلحته فهو كما لو قتلها في المخمصة والجمهور يقولون هناك قتلها بسبب منه لا بسبب عدوانها وهنا قتلها بسبب عدوانها ففي الجملة قتل غير المكلف كالصبي والمجنون والبهيمة لدفع عدوانهم جائز بالنص والاتفاق إلا في بعض المواضع كقتلهم في الإغارة والبيات وبالمنجنيق وقتلهم لدفع صيالهم وحديث رفع القلم عن ثلاثة إنما يدل على رفع الإثم لا يدل على منع الحد إلا بمقدمة أخرى وهو أن يقال من لا قلم عليه لا حد عليه وهذه المقدمة فيها خفاء فإن من لا قلم عليه قد يعاقب أحيانا ولا يعاقب أحيانا والفصل بينهما يحتاج إلى علم خفي ولو استكره المجنون امرأة على نفسها ولم يندفع إلا بقتله فلها قتله بل عليها ذلك بالسنة واتفاق أهل العلم
6
47(187/23)
فلو اعتقد بعض المجتهدين أن الزنا عدوان كما سماه الله تعالى عدوانا بقوله فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون سورة المؤمنون فيقتل به المجنون حتى يتبين له أن هذا حد الله فلا يقام إلا بعد العلم بالتحريم والمجنون لم يعلم التحريم لم يشنع عليه في هذا إلا من شنع بأعظم منه على غيره فلو قال قائل قتال المسلمين هو عقوبة لهم فلا يعاقبون حتى يعلموا الإيجاب والتحريم وأصحاب معاوية الذين قاتلهم علي لم يكونوا يعلمون أن لهم ذنبا فلم يجز لعلي قتالهم على ما لا يعلمون أنه ذنب وإن كانوا مذنبين فإن غاية ما يقال إنهم تركوا الطاعة الواجبة لكن كثير منهم أو أكثرهم لم يكونوا يعلمون أنه يجب عليهم طاعة علي ومتابعته بل كان لهم من الشبهات والتأويلات ما يمنع علمهم بالوجوب فكيف جاز قتال من لم يعلم أنه ترك واجبا أو فعل محرما مع كونه كان معصوما لم يكن مثل هذا قدحا في إمامة علي فكيف يكون ذلك قدحا في إمامة عمر لا سيما والقتال على ترك الواجب إنما يشرع إذا كانت مفسدة القتال أقل من مفسدة ترك ذلك الواجب والمصلحة بالقتال أعظم من المصلحة بتركه
6
48(187/24)
ولم يكن الأمر كذلك فإن القتال لم يحصل الطاعة المطلوبة بل زاد بذلك عصيان الناس لعلي حتى عصاه وخرج عليه خوارج من عسكره وقاتله كثير من أمراء جيشه وأكثرهم لم يكونوا مطيعين له مطلقا وكانوا قبل القتال أطوع له منهم بعد القتال فإن قيل علي كان مجتهدا في ذلك معتقدا أنه بالقتال يحصل الطاعة قيل فإذا كان مثل هذا الاجتهاد مغفورا مع أنه أفضى إلى قتل ألوف من المسلمين بحيث حصل الفساد ولم يحصل المطلوب من الصلاح أفلا يكون الاجتهاد في قتل واحد لو قتل لحصل به نوع المصلحة من الزجر عن الفواحش اجتهادا مغفورا مع أن ذلك لم يقتله بل هم به وتركه وولى الأمر إلى معرفة الأحكام في السياسة العامة الكلية أحوج منه إلى معرفة الأحكام في الحدود الجزئية وعمر رضي الله عنه لم يكن يخفى عليه أن المجنون ليس بمكلف لكن المشكل أن من ليس بمكلف هل يعاقب لدفع الفساد هذا موضع مشتبه فإن الشرع قد جاء بعقوبة غير المكلفين في دفع الفساد في غير موضع والعقل يقتضي ذلك لحصول مصلحة الناس والغلام الذي قتله الخضر قد قيل إنه
6
49(187/25)
كان لم يبلغ الحلم وقتله لدفع صوله على أبويه بأن يرهقهما طغيانا وكفرا وقول النبي صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق والنائم حتى يستيقظ إنما يقتضي رفع المأثم لا رفع الضمان باتفاق المسلمين فلو أتلفوا نفسا أو مالا ضمنوه وأما رفع العقوبة إذا سرق أحدهما أو زنى أو قطع الطريق فهذا علم بدليل منفصل بمجرد هذا الحديث ولهذا اتفق العلماء على أن المجنون والصغير الذي ليس بمميز ليس عليه عبادة بدنية كالصلاة والصيام والحج واتفقوا على وجوب الحقوق في أموالهم كالنفقات والأثمان واختلفوا في الزكاة فقالت طائفة كأبي حنيفة أنها لا تجب إلا على مكلف كالصلاة وقال الجمهور كمالك والشافعي وأحمد بل الزكاة من الحقوق المالية كالعشر وصدقة الفطر وهذا قول جمهور الصحابة فإذا كان غير المكلف قد تشتبه بعض الواجبات هل تجب في ماله أم لا فكذلك بعض العقوبات قد تشتبه هل يعاقب بها أم لا لأن من الواجبات ما يجب في ذمته بالاتفاق ومنها مالا يجب في ذمته بالاتفاق وبعضها يشتبه هل هو من هذا أو هذا
6
50(187/26)
وكذلك العقوبات منها مالا يعاقب به بالاتفاق كالقتل على الإسلام فإن المجنون لا يقتل على الإسلام فإن المجنون لا يقتل على الإسلام ومنها ما يعاقب به كدفع صياله ومنها ما قد يشتبه ولا نزاع بين العلماء أن غير المكلف كالصبي المميز يعاقب على الفاحشة تعزيرا بليغا وكذلك المجنون يضرب على ما فعله لينزجر لكن العقوبة التي فيها قتل أو قطع هي التي تسقط عن غير المكلف وهذا إنما علم بالشرع وليس هو من الأمور الظاهرة حتى يعاب من خفيت عليه حتى يعلمها وأيضا فكثير من المجانين أو أكثرهم يكون له حال إفاقة وعقل فلعل عمر ظن أنها زنت في حال عقلها وإفاقتها ولفظ المجنون يقال على من به الجنون المطبق والجنون الخانق ولهذا يقسم الفقهاء المجنون إلى هذين النوعين والجنون المطبق قليل والغالب هو الخانق وبالجملة فما ذكره من المطاعن في عمر وغيره يرجع إلى شيئين إما نقص العلم وإما نقص الدين ونحن الآن في ذكره فما ذكره من منع فاطمة ومحاباته في القسم ودرء الحد ونحو ذلك يرجع إلى أنه لم يكن
6
51(187/27)
عادلا بل كان ظالما ومن المعلوم للخاص والعام أن عدل عمر رضي الله عنه ملأ الأفاق وصار يضرب به المثل كما قيل سيرة العمرين وأحدهما عمر بن الخطاب والآخر قيل إنه عمر بن عبد العزيز وهو قول أحمد بن حنبل وغيره من أهل العلم والحديث وقيل هو أبو بكر وعمر وهو قول أبي عبيدة وطائفة من أهل اللغة والنحو ويكفي الإنسان أن الخوارج الذين هم أشد الناس تعنتا راضون عن أبي بكر وعمر في سيرتهما وكذلك الشيعة الأولى أصحاب علي كان يقدمون عليه أبا بكر وعمر وروى ابن بطة ما ذكره الحسن بن عرفة حدثني كثير بن مروان الفلسطيني عن أنس بن سفيان عن غالب بن عبد الله العقيلي قال لما طعن عمر دخل عليه رجال منهم ابن عباس وعمر يجود بنفسه وهو يبكي فقال له ابن عباس ما يبكيك يا أميرالمؤمنين فقال له عمر أما والله ما أبكي جزعا على الدنيا ولا شوقا إليها ولكن أخاف هول المطلع قال فقال له ابن عباس فلا تبك يا أمير المؤمنين فوالله لقد أسلمت فكان إسلامك فتحا ولقد
6
52
أمرت فكانت إمارتك فتحا ولقد ملأت الأرض عدلا وما من رجلين من المسلمين يكون بينهما ما يكون بين المسلمين فتذكر عندهما إلا رضيا بقولك وقنعا به قال فقال عمر أجلسوني فلما جلس قال عمر أعد على كلامك يا ابن عباس قال نعم فأعاده فقال عمر أتشهد لي بهذا عند الله يوم القيامة يا ابن عباس قال نعم يا أمير المؤمنين أنا أشهد لك بهذا عند الله وهذا علي يشهد لك وعلي بن أبي طالب جالس فقال علي بن أبي طالب نعم يا أمير المؤمنين وهؤلاء أهل العلم الذين يبحثون الليل والنهار عن العلم وليس لهم غرض مع أحد بل يرجحون قول هذا الصاحب تارة وقول هذا الصاحب تارة بحسب ما يرونه من أدلة الشرع كسعيد بن المسيب وفقهاء المدينة مثل عروة بن الزبير والقاسم بن محمد وعلي بن الحسين وأبي بكر بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن يسار وخارجة بن زيد وسالم بن عبد الله بن عمر وغير هؤلاء
6
53(187/28)
ومن بعدهم كابن شهاب الزهري ويحيى بن سعيد وأبي الزناد وربيعة ومالك بن أنس وابن أبي ذئب وعبد العزيز الماجشون وغيرهم ومثل طاووس اليماني ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وعبيد بن عمير وعكرمة مولى ابن عباس ومن بعدهم مثل عمرو بن دينار وابن جريج وابن عيينة وغيرهم من أهل مكة ومثل الحسن البصري ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد أبي الشعثاء ومطرف بن عبد الله بن الشخير ثم أيوب السختياني وعبد الله ابن عون وسليمان التيمي وقتادة وسعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وأمثالهم مثل علقمة والأسود وشريح القاضي وأمثالهم ثم إبراهيم النخعي وعامر الشعبي والحكم بن عتيبة ومنصور بن المعتمر إلى سفيان الثوري وأبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك إلى وكيع بن الجراح وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وأمثالهم ثم الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وأبو عبيد القاسم بن سلام والحميدي عبد الله بن الزبير وأبو ثور ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن جرير الطبري وأبو بكر بن المنذر ومن لا
6
54
يحصى عددهم إلا الله من أصناف علماء المسلمين كلهم خاضعون لعدل عمر وعلمه وقد أفرد العلماء مناقب عمر فإنه لا يعرف في سير الناس كسيرته كذلك قال أبو المعالي الجويني قال ما دار الفلك على شكله قالت عائشة رضي الله عنها كان عمر أحوذيا نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها وكانت تقول زينوا مجالسكم بذكر عمر وقال ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة ابنة صاحب مدين إذ قالت يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين سورة القصص وخديجة في النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين استخلف عمر وكل هؤلاء العلماء الذين ذكرناهم يعلمون أن عدل عمر كان أتم من عدل من ولي بعده وعلمه كان أتم من علم من ولى بعده
6
55(187/29)
وأما التفاوت بين سيرة عمر وسيرة من ولي بعده فأمر قد عرفته العامة والخاصة فإنها أعمال ظاهرة وسيرة بينة يظهر لعمر فيها من حسن النية وقصد العدل وعدم الغرض وقمع الهوى مالا يظهر من غيره ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك لأن الشيطان إنما يستطيل على الإنسان بهواه وعمر قمع هواه وقال النبي صلى الله عليه وسلم لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر
6
56
وقال إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه ووافق ربه في غير واحدة نزل فيها القرآن بمثل ما قال وقال ابن عمر كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر وهذا لكمال نفسه بالعلم والعدل قال الله تعالى وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا سورة الأنعام فالله تعالى بعث الرسل بالعلم والعدل فكل من كان أتم علما وعدلا كان أقرب إلى ما جاءت به الرسل وهذا كان في عمر أظهر منه في غيره وهذا في العمل والعدل ظاهر لكل أحد وأما العلم فيعرف برأيه وخبرته بمصالح المسلمين وما ينفعهم وما يضرهم في دينهم ودنياهم ويعرف بمسائل النزاع التي له فيها قول ولغيره فيها قول فإن صواب عمر في مسائل النزاع وموافقته للنصوص أكثر من صواب عثمان وعلي
6
57
ولهذا كان أهل المدينة إلى قوله أميل ومذهبهم أرجح مذاهب أهل الأمصار فإنه لم يكن في مدائن الإسلام في القرون الثلاثة أهل مدينة أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم وهم متفقون على تقديم قول عمر على قول علي وأما الكوفيون فالطبقة الأولى منهم أصحاب ابن مسعود يقدمون قول عمر على قول علي وأولئك أفضل الكوفيين حتى قضاته شريح وعبيدة السلماني وأمثالهما كانوا يرجحون قول عمر وعلي على قوله وحده قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ما رأيت عمر قط إلا وأنا يخيل لي أن بين عينيه ملكا يسدده وروى الشعبي عن علي قال ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر وقال حذيفة بن اليمان كان
6
58(187/30)
الإسلام في زمن عمر كالرجل المقبل لا يزداد إلا قربا فلما قتل كان كالرجل المدبر لا يزداد إلا بعدا وقال ابن مسعود ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر وقال أيضا إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر كا ن إسلامه نصرا وإمارته فتحا وقال أيضا كان عمر أعلمنا بكتاب الله وأفقهنا في دين الله وأعرفنا بالله والله لهو أبين من طريق الساعين يعنى أن هذا أمر بين يعرفه الناس
6
59
وقال أيضا عبد الله بن مسعود لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان ووضع علم أهل الأرض في كفة لرجح عليهم وقال أيضا لما مات عمر إني لأحسب هذا قد ذهب بتسعة أعشار العلم وإني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهب مع عمر يوم أصيب وقال مجاهد إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما صنع عمر فخذوا برأيه وقال أبو عثمان النهدي إنما كان عمر ميزانا لا يقول كذا ولا يقول كذا وهذه الآثار وأضعافها مذكورة بالأسانيد الثابتة في الكتب المصنفة في هذا الباب ليس من أحاديث الكذابين والكتب الموجودة فيها هذه الآثار المذكورة بالأسانيد الثابتة كثيرة جدا
6
60
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن أبي خالد حدثنا قيس بن أبي حازم قال قال عبد الله بن مسعود ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وابن عباس وغيرهما أنه قال اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام أو بعمر بن الخطاب قال فغدا عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم يومئذ وفي لفظ أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك وروى النضر عن عكرمة عن ابن عباس قال لما أسلم عمر قال المشركون قد انتصف القوم منا
6
61(187/31)
وروى أحمد بن منيع حدثنا ابن عليه حدثنا أيوب عن أبي معشر عن إبراهيم قال قال ابن مسعود كان عمر حائطا حصينا على الإسلام يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه فلما قتل عمر انثلم الحائط فالناس اليوم يخرجون منه وروى ابن بطة بالإسناد المعروف عن الثوري عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أم أيمن قالت وهي الإسلام يوم مات عمر والثوري عن منصور عن ربعي عن حذيفة قال كان الإسلام في زمن عمر كالرجل المقبل لا يزداد إلا قربا فلما قتل كان كالرجل المدبر لا يزداد إلا بعدا
6
62
ومن طريق الماجشون قال أخبرني عبد الواحد بن أبي عون عن القاسم بن محمد كانت عائشة رضي الله عنها تقول من رأى عمر بن الخطاب علم أنه خلق غناء للإسلام كان والله أحوذيا نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها وقال محمد بن إسحاق في السيرة أسلم عمر بن الخطاب وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره فامتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عزوا وكان عبد الله بن مسعود يقول ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر بن الخطاب فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه وكذلك رواه مسندا محمد بن عبيد الطنافسى قال حدثنا إسماعيل عن قيس بن أبي حازم قال قال عبد الله بن مسعود ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر والله لو رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالكعبة ظاهرين حتى أسلم عمر فقاتلهم حتى تركونا فصلينا
6
63(187/32)
وقد روى من وجوه ثابتة عن مكحول عن غضيف عن أبي ذر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله جعل الحق على لسان عمر يقول به وفي لفظ جعل الحق على لسان عمر وقلبه أو قلبه ولسانه وهذا مروى من حديث ابن عمر وأبي هريرة وقد ثبت من غير وجه عن الشعبي عن علي قال ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر ثبت هذا عن الشعبي عن علي وهو قد رأى عليا وهو من أخبر الناس بأصحابه وحديثه وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر بن الخطاب وثبت عن طارق بن شهاب قال إن كان الرجل ليحدث عمر بالحديث فيكذب الكذبة فيقول احبس هذه ثم يحدثه الحديث فيقول احبس هذه فيقول كل ما حدثتك به حق إلا ما أمرتني أن أحبسه
6
64
وروى ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب بعث جيشا وأمر عليهم رجلا يدعى سارية قال فبينا عمر يخطب في الناس فجعل يصيح على المنبر يا سارية الجبل يا سارية الجبل قال فقدم رسول الجيش فسأله فقال يا أمير المؤمنين لقينا عدونا فهزمونا فإذا بصائح يا سارية الجبل يا سارية الجبل فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزمهم الله فقيل لعمر بن الخطاب إنك كنت تصيح بذلك على المنبر وفي الصحيحين عن عمر أنه قال وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى سورة البقرة وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن قال فنزلت آية الحجاب واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت كذلك وفي الصحيحين أنه لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعى له رسول
6
65(187/33)
الله صلى الله عليه وسلم ليصلى عليه قال عمر فلما قام دنوت إليه فقلت يا رسول الله أتصلي عليه وهو منافق فأنزل الله ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره سورة التوبة وأنزل الله استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم سورة التوبة وثبت عن قيس عن طارق بن شهاب قال كنا نتحدث أن عمر يتحدث على لسانه ملك وعن مجاهد قال كان عمر إذا رأى الرأي نزل به القرآن وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال رأيت كأن الناس عرضوا علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما هو دون ذلك وعرض على عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره قالوا فما أولته يا رسول الله قال الدين وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال بينا أنا نائم رأيتني أتيت بقدح فشربت منه حتى أني لا أرى الري يخرج من
6
66
أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا ما أولت ذلك يا رسول الله قال العلم وفي الصحيحين عنه قال رأيت كأني أنزع على قليب بدلو فأخذها ابن أبي قحافة فنزع ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعة ضعف والله يغفر له ثم أخذ عمر بن الخطاب فاستحالت في يده غربا فلم أر عبقريا من الناس يفرى فريه حتى ضرب الناس بعطن وقال عبد الله بن أحمد حدثنا الحسن بن حماد حدثنا وكيع عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله بن مسعود قال لو أن علم عمر وضع في كفه ميزان ووضع علم خيار أهل الأرض في كفه لرجح عليهم بعلمه قال الأعمش فأنكرت ذلك وذكرته لإبراهيم فقال ما أنكرت من ذلك قد قال ما هو أفضل من ذلك قال إني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهب مع عمر بن الخطاب وروى ابن بطة بالإسناد الثابت عن ابن عيينة وحماد بن سلمة وهذا لفظه عن عبد الله بن عمير عن زيد بن وهب أن رجلا أقرأه معقل بن مقرن أبو عميرة آية وأقرأها عمر بن الخطاب آخر فسألا ابن مسعود عنها فقال لأحدهما من أقرأكها قال أبو عميرة بن معقل بن مقرن
6
67(187/34)
وقال للآخر من أقرأكها قال عمر بن الخطاب فبكى ابن مسعود حتى كثرت دموعه ثم قال اقرأها كما أقرأكها عمر فإنه كان أقرأنا لكتاب الله وأعلمنا بدين الله ثم قال كان عمر حصنا حصينا على الإسلام يدخل في الإسلام ولا يخرج منه فلما ذهب عمر انثلم الحصن ثلمة لا يسدها أحد بعده وكان إذا سلك طريقا اتبعناه ووجدناه سهلا فإذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر فحيهلا بعمر فحيهلا بعمر وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبي حدثنا هشيم حدثنا العوام عن مجاهد قال إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما صنع عمر فخذوا به وروى ابن مهدي عن حماد بن زيد قال سمعت خالدا الحذاء يقول نرى أن الناسخ من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وروى ابن بطة من حديث أحمد بن يحيى الحلواني حدثنا عبيد بن جناد حدثنا عطاء بن مسلم عن صالح المرادي عن عبد خير قال رأيت عليا صلى العصر فصف له أهل نجران صفين فلما صلى أومأ رجل
6
68
منهم إلى رجل فأخرج كتابا فناوله اياه فلما قرآه دمعت عيناه ثم رفع رأسه إليهم فقال يا أهل نجران أو يا أصحابي هذا والله خطى بيدي وإملاء عمر علي فقالوا يا أمير المؤمنين اعطنا ما فيه فدنوت منه فقلت إن كان رادا على عمر يوما فاليوم يرد عليه فقال لست رادا على عمر شيئا صنعه إن عمر كان رشيد الأمر وإن عمر أعطاكم خيرا مما أخذ منكم وأخذ منكم خيرا مما أعطى ولم يجر لعمر نفع مع أخذ لنفسه إنما أخذه لجماعة المسلمين وقد روى أحمد والترمذي وغيرهما قال أحمد حدثنا أبو عبد الرحمن المقري حدثنا حيوة بن شريح حدثنا بكر بن عمرو المعافري عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر الجهني قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب
6
69(187/35)
ورواه ابن وهب وغيره عن ابن لهيعة عن مشرح فهو ثابت عنه وروى ابن بطة من حديث عقبة بن مالك الخطمى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان غيري نبي لكان عمر بن الخطاب وفي لفظ لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر وهذا اللفظ في الترمذي وقال عبدالله بن أحمد حدثنا شجاع بن مخلد حدثنا يحيى بن يمان حدثنا سفيان عن عمرو بن محمد عن سالم بن عبد الله عن أبى موسى الأشعري أنه أبطأ عليه خبر عمر فكلم امرأة في بطنها شيطان فقالت حتى يجيء شيطاني فأسأله فقال رأيت عمر متزرا بكساء يهنأ إبل الصدقة وذلك لا يراه الشيطان إلا خر لمنخرية للملك الذي بين عينيه روح القدس ينطق على لسانه ومثل هذا في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال استأذن عمر
6
70
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن فلما استأذن عمر قمن فابتدرن الحجاب فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقال عمر أضحك الله سنك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب فقال عمر قلت يا رسول الله أنت أحق أن يهبن ثم قال عمر أي عدوات أنفسهن تهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلن نعم أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك وفي حديث آخر أن الشيطان يفر من حس عمر
6
71(187/36)
وقال أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن واصل عن مجاهد قال كنا نتحدث أن الشياطين كانت مصفدة في إمارة عمر فلما قتل عمر وثبت وهذا باب طويل قد صنف الناس فيه مجلدات في مناقب عمر مثل كتاب أبي الفرج بن الجوزي وعمر بن شبه وغيرهما غير ما ذكره الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة العلم مثل ما صنفه خيثمة بن سليمان في فضائل الصحابة والدارقطني والبيهقي وغيرهم ورسالة عمر المشهورة في القضاء إلى أبى موسى الأشعري تداولها الفقهاء وبنوا عليها واعتمدوا على ما فيها من الفقه وأصول الفقه ومن طرقها ما رواه أبو عبيد وابن بطة وغيرهما بالإسناد الثابت عن كثير بن هشام عن جعفر بن برقان قال كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فأفهم إذا أدلى إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ
6
72
له آس بين الناس في مجلسك ووجهك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك البينة على من أدعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا ومن ادعى حقا غائبا فامدد له أمدا ينتهي إليه فإن جاء ببينة فأعطه حقه وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية فإن ذلك هو أبلغ في العذر وأجلى للعمى ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم وليس يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجربا عليه شهادة زور أو مجلودا في حد أو ظنينا في ولاء أو نسب
6
73(187/37)
فإن الله تولى من العباد السرائر وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان ثم الفهم الفهم فيما أدلى إليك وفيما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة ثم قايس الأمور عند ذلك ثم اعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالخصوم فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذخر فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن تزين بما ليس في نفسه شانه الله عز وجل فإن الله عز وجل لا
6
74
يقبل من العبد إلا ما كان له خالصا فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته وروى ابن بطة من حديث أبي يعلى الناجي حدثنا العتبي عن أبيه قال خطب عمر بن الخطاب يوم عرفة يوم بويع له فقال الحمد لله الذي ابتلاني بكم وابتلاكم بي وأبقاني فيكم من بعد صاحبي من كان منكم شاهدا باشرناه ومن كان غائبا ولينا أمره أهل القوة عندنا فإن أحسن زدناه وإن أساء لم نناظره أيتها الرعية إن للولاة عليكم حقا وإن لكم عليهم حقا واعلموا أنه ليس حلم أحب إلى الله وأعظم نفعا من حلم إمام وعدله وليس جهل أبغض إلى الله تعالى من جهل وال وخرقه وأنه من يأخذ العافية ممن تحت يده يعطه الله العافية ممن هو فوقه قلت وهو معروف من حديث الأحنف عن عمر قال الوالي إذا طلب العافية ممن هو دونه أعطاه الله العافية ممن هو فوقه وروى من حديث وكيع عن الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن
6
75(187/38)
يحيى بن جعدة قال قال عمر رضي الله عنه لولا ثلاث لأحببت أن أكون قد لحقت بالله لولا أن أسير في سبيلي الله أو أضع جبهتي في التراب ساجدا أو أجالس قوما يلتقطون طيب الكلام كما يلتقط طيب الثمر وكلام عمر رضي الله عنه من أجمع الكلام وأكمله فإنه ملهم محدث كل كلمة من كلامه تجمع علما كثيرا مثل هؤلاء الثلاث التي ذكرهن فإنه ذكر الصلاة والجهاد والعلم وهذه الثلاث هي أفضل الأعمال بإجماع الأمة قال أحمد بن حنبل أفضل ما تطوع به الإنسان الجهاد وقال الشافعي أفضل ما تطوع به الصلاة وقال أبو حنيفة ومالم العلم والتحقيق أن كلا من الثلاثة لا بد له من الآخرين وقد يكون هذا أفضل في حال وهذا أفضل في حال كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يفعلون هذا وهذا وهذا كل في موضعه بحسب الحاجة والمصلحة وعمر جمع الثلاث ومن حديث محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن
6
76
عبد الله عن ابن عباس قال قال لي عمر إنه والله يا ابن عباس ما يصلح لهذا الأمر إلا القوي في غير عنف اللين في غير ضعف الجواد في غير سرف الممسك في غير بخل قال يقول ابن عباس فوالله ما أعرفه غير عمر وعن صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه كان إذا ذكر عمر قال لله در عمر لقل ما سمعته يقول يحرك شفتيه بشيء قط يتخوفه إلا كان حقا فصل قال الرافضي وقال في خطبة له من غالى في مهر أمرأة جعلته في بيت المال فقالت له امرأة كيف تمنعنا ما أعطانا الله في كتابه حين قال وأتيتم إحداهن قنطارا سورة النساء فقال كل أحد أفقه من عمر حتى المخدرات والجواب أن هذه القصة دليل على كمال فضل عمر ودينه وتقواه ورجوعه إلى الحق إذا تبين له وأنه يقبل الحق حتى من امرأة ويتواضع له وأنه معترف بفضل الواحد عليه ولو في أدنى مسألة وليس من شرط
6
77(187/39)
الأفضل أن لا ينبهه المفضول لأمر من الأمور فقد قال الهدهد لسليمان أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين سورة النمل وقد قال موسى للخضر هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا سورة الكهف والفرق بين موسى والخضر أعطم من الفرق بين عمر وبين أشباهه من الصحابة ولم يكن هذا بالذي أوجب أن يكون الخضر قريبا من موسى فضلا عن أن يكون مثله بل الأنبياء المتبعون لموسى كهارون ويوشع وداود وسليمان وغيرهم أفضل من الخضر وما كان عمر قد رآه فهو مما يقع مثله للمجتهد الفاضل فإن الصداق فيه حق لله تعالى ليس من جنس الثمن والأجرة فإن المال والمنفعة يستباح بالإباحة ويجوز بذله بلا عوض وأما البضع فلا يستباح بالإباحة ولا يجوز النكاح بغير صداق لغير النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق المسلمين واستحلال البضع بنكاح لا صداق فيه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لكن يجوز عقده بدون التسمية ويجب مهر المثل فلو مات قبل أن يفرض لها ففيها قولان للصحابة والفقهاء أحدهما لا يجب شيء وهو مذهب علي ومن اتبعه كمالك والشافعي في أحد قوليه والثاني يجب مهر المثل وهو مذهب عبد الله بن مسعود ومذهب أبي حنيفة وأحمد والشافعي في قوله الآخر والنبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق بمثل ذلك فكان هذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمر لم يستقر قوله
6
78(187/40)
على خلاف النص فكان حاله أكمل من حال من استقر قوله على خلاف النص وإذا كان الصداق فيه حق لله أمكن أن يكون مقدرا بالشرع كالزكاة وفدية الأذى وغير ذلك ولهذا ذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن أقله مقدر بنصاب السرقة وإذا جاز تقدير أقله جاز تقدير أكثره وإذا كان مقدرا اعتبر بالسنة فلم يتجاوز به ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسائه وبناته وإذا قدر أن هذا لا يسوغ كانت قد بذلت لمن لا يستحقها فلا يعطاها الباذل لحصول مقصوده ولا الآخذ لكونه لا يستحقها فتوضع في بيت المال كما تقوله طائفه من الفقهاء إن المتجر جمال غيره يتصدق بالربح وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات وكما يقوله محققو الفقهاء فيمن باع سلاحا في الفتنة أو عصيرا أو عنبا للخمر إنه يتصدق بالثمن ففي الجملة عمر لو نفذ اجتهاده لم يكن أضعف من كثير من اجتهاد غيره الذي أنفذه وكيف لم ينفذه وقوله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا سورة النساء يتأول كثير من الناس ما هو أصرح منها بأن يقولوا هذا قيل للمبالغة كما قالوا في
6
79
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم التمس ولو خاتما من حديد أنه قاله على سبيل المبالغة فإذا كان المقدرون لأدناه يتأولون مثل هذا جاز أن يكون المقدر لأعلاه يتأول مثل هذا وإذا كان في هذا منع للمرأة المتسحقة فكذلك منع المفوضة المهر الذي استحقته بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سيما والمزوجة بلا تسمية لم تغال في الصداق وعمر مع هذا لم يصر على ذلك بل رجع إلى الحق فعلم أن تأييد الله له وهدايته إياه أعظم من تأييده لغيره وهدايته إياه وأن أقواله الضعيفة التي رجع عنها ولم يصر عليها خير من أقوال غيره الضعيفة التي لم يرجع عنها
6
80(187/41)
والله تعالى قد غفر لهذه الأمة الخطأ وإن لم يرجعوا عنه فكيف بمن رجع عنه وقد ثبت في موضع غير هذا أن اجتهادات السلف من الصحابة والتابعين كانت أكمل من اجتهادات المتأخرين وأن صوابهم أكمل من صواب المتأخرين وخطأهم أخف من خطأ المتأخرين فالذين قالوا من الصحابة والتابعين بصحة نكاح المتعة خطؤهم أيسر من خطأ من قال من المتأخرين بصحة نكاح المحلل من أكثر من عشرين وجها قد ذكرناها في مصنف مفرد والذين قالوا من الصحابة والتابعين بجواز الدرهم بدرهمين خطؤهم أخف من خطأ من جوز الحيل الربوية من المتأخرين وأن الذين أنكروا ما قاله الصحابة عمر وغيره في مسألة المفقود من أن زوجها إذا أتى خير بين أمرأته ومهرها قولهم ضعيف وقول الصحابة هو الصواب الموافق لأصول الشرع والذين عدوا هذا خلاف القياس وقالوا لا ينفذ حكم الحاكم إذا حكم به قالوا ذلك لعدم معرفتهم بمآخذ الصحابة ودقة فهمهم فإن هذا مبني على وقف العقود عند الحاجة وهو أصل شريف من أصول الشرع وكذلك ما فعله عمر من جعل أرض العنوة فيئا هو فيه على الصواب دون من لم يفهم ذلك من المتأخرين وأن الذي أشار به علي بن أبي طالب في قتال أهل القبلة كان علي رضي الله عنه فيه على الصواب دون من أنكره عليه من الخوارج وغيرهم
6
81(187/42)
وما أفتى به ابن عباس وغيره من الصحابة في مسائل الأيمان والنذور والطلاق والخلع قولهم فيها هو الصواب دون قول من خالفهم من المتأخرين وبالجملة فهذا باب يطول وصفه فالصحابة أعلم الأمة وأفقهها وأدينها ولهذا أحسن الشافعي رحمه الله في قوله هم فوقنا في كل علم وفقة ودين وهدى وفي كل سبب ينال به علم وهدى ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا أو كلاما هذا معناه وقال أحمد بن حنبل أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أحسن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال أيها الناس من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد كانوا أفضل هذه الأمة أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم وقال حذيفة رضي الله عنه يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا وإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا
6
82
فصل قال الرافضي ولم يحد قدامة في الخمر لأنه تلا عليه ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا سورة المائدة الآية فقال له علي ليس قدامة من أهل هذه الآية فلم يدركم يحده فقال له أمير المؤمنين حده ثمانين إن شارب الخمر إذا شربها سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى والجواب أن هذا من الكذب البين الظاهر على عمر رضي الله عنه فإن علم بن الخطاب بالحكم في مثل هذه القضية أبين من أن يحتاج إلى دليل فإنه قد جلد في الخمر غير مرة هو وأبو بكر قبله وكانوا يضربون فيها تارة أربعين وتارة ثمانين وكان عمر أحيانا يعزر فيها بحلق الرأس والنفي وكانوا يضربون فيها تارة بالجريد وتارة بالنعال والأيدي
6
83(187/43)
وأطراف الثياب وقد تنازع علماء المسلمين في الزائد عن الأربعين إلى الثمانين هل هو حد يجب إقامته أو تعزير يختلف باختلاف الأحوال على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد أحدهما أنه حد لأن أقل الحدود ثمانون وهو حد القذف وأدعى أصحاب هذا القول أن الصحابة أجمعت على ذلك وأن ما نقل من الضرب أربعين كان بسوط له طرفان فكانت الأربعون قائمة مقام الثمانين وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما واختاره الخرقي والقاضي أبو يعلي وغيرهما والثاني أن الزائد على الأربعين جائز فليس بحد واجب وهو قول الشافعي واختاره أبو بكر وأبو محمد وغيرهما وهذا القول أقوى لأنه قد ثبت في الصحيح عن علي رضي الله عنه أنه جلد الوليد أربعين وقال جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي وفي الصحيحين عن أنس قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر فضربه بالنعال نحوا من أربعين ثم أتى به أبو بكر ففعل به مثل ذلك ثم أتى به عمر فاستشار الناس في الحدود
6
84
فقال ابن عوف أخف الحدود ثمانون فضربه عمر ولأنه يجوز الضرب فيه بغير السوط كالجريد والنعال والأيدي وأطراف الثياب فلما لم تكن صفة الضرب مقدرة بل يرجع فيها إلى الاجتهاد فكذلك مقدار الضرب وهذا لأن أحوال الشاربين تختلف ولهذا أمر أولا بقتل الشارب في المرة الرابعة وقد قيل إن هذا منسوخ وقيل بل هو محكم وقيل بل هو تعزير جائز يفعل عند الحاجة إليه وهذا لأن الضرب بالثوب ليس أمرا محدودا بل يختلف باختلاف قلته وكثرته وخفته وغلظته والنفوس قد لا تنتهي فيه عنه مقدار فردت أكثر العقوبة فيه إلى الاجتهاد وإن كان أقلها مقدرا كما أن من التعزيرات ما يقدر أكثره ولا يقدر أقله وأما قصة قدامة فقد روى أبو إسحاق الجوزجاني وغيره حديثه عن ابن عباس أن قدامة بن مظعون شرب الخمر فقال له عمر ما يحملك على ذلك فقال إن الله يقول ليس على الذين آمنوا(187/44)
6
85
وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات الآية سورة المائدة وإني من المهاجرين الأولين من أهل بدر وأحد فقال عمر أجيبوا الرجل فسكتوا عنه فقال لابن عباس أجبه فقال إنما أنزلها الله عذرا للماضين لمن شربها قبل أن تحرم وأنزل إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه سورة المائدة حجة على الناس ثم سأل عمر عن الحد فيها فقال علي بن أبي طالب إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فاجلده ثمانين جلدة فجلد عمر ثمانين ففيه أن عليا أشار بالثمانين وفيه نظر فإن الذي ثبت في الصحيح أن عليا جلد أربعين عند عثمان بن عفان لما جلد الوليد بن عقبة وأنه أضاف الثمانين إلى عمر وثبت في الصحيح أن عبد الرحمن بن عوف أشار بالثمانين فلم يكن جلد الثمانين مما استفاده عمر من علي وعلي قد نقل عنه أنه جلد في خلافته ثمانين فدل على انه كان يجلد تارة أربعين وتارة ثمانين وروى عن علي أنه قال ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر فإنه لو مات لوديته لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه لنا
6
86(187/45)
وهذا لم يقل به أحد من الصحابة والفقهاء في الأربعين فما دونها ولا ينبغي أن يحمل كلام علي على ما يخالف الإجماع وإنما تنازع الفقهاء فيما إذا زاد على الأربعين فتلف هل يضمن على قولين فقال جمهورهم لا يضمن أيضا وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم وقال الشافعي يضمنه إما بنصف الدية في أحد القولين جعلا له قد تلف بفعل مضمن وغير مضمن وإما أن تقسط الدية على عدد الضربات كلها فيجب من الدية بقدر الزيادة على الأربعين في القول الأخر والشافعي بني هذا على أن الزيادة تعزير غير مقدر ومن أصله أن من مات بعقوبة غير مقدرة ضمن لأنه بالتلف يتبين عدوان المعزر كما إذا ضرب الرجل امرأته والمؤدب الصبي والرائض الدابة وأما الجمهور فمنهم من يخالفه في الأصلين ومنهم من يخالفه في أحدهما فأبو حنيفة ومالك يقولان الثمانون حد واجب وهو قول أحمد في إحدى الروايتين وفي الأخرى يقول كل من تلف بعقوبة جائزة فالحق قتله سواء كانت واجبة أو مباحة وسواء كانت مقدرة أو غير مقدرة إذا لم يتعد وعلى هذا لا يضمن عنده سراية القود في الطرف وإن لم يكن واجبا وقد اتفق الأئمة على أنه إذا تلف في عقوبة
6
87
مقدرة واجبة لا يضمن كالجلد في الزنا والقطع في السرقة وتنازعوا في غير ذلك فمنهم من يقول يضمن في الجائز ولا يضمن في الواجب كقول أبي حنيفة فإنه يقول يضمن سراية القود ولا يضمن سراية التعزير لحق الله تعالى ومنهم من يقول يضمن غير المقدر ولا يضمن في المقدر سواء كان واجبا أو جائزا كقول الشافعي ومنهم من يقول لا يضمن لا في هذا ولا في هذا كقول مالك وأحمد وغيرهما فصل قال الرافضي وأرسل إلى حامل يستدعيها فأسقطت خوفا فقال له الصحابة نراك مؤدبا ولا شيء عليك ثم سأل أمير المؤمنين فأوجب الدية على عاقلته والجواب أن هذه مسألة اجتهاد تنازع فيها العلماء وكان عمر بن الخطاب يشاور الصحابة رضي الله عنهم في الحوادث يشاور عثمان
6
88(187/46)
وعليا وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم حتى كان يشاور ابن عباس وهذا كان من كمال فضله وعقله ودينه ولهذا كان من أسد الناس رأيا وكان يرجع تارة إلى رأي هذا وتارة إلى رأى هذا وقد أتى بامرأة قد أقرت بالزنا فاتفقوا على رجمها وعثمان ساكت فقال مالك لا تتكلم فقال أراها تستهل به استهلال من لا يعلم أن الزنا محرم فرجع فاسقط الحد عنها لما ذكر له عثمان ومعنى كلامه أنها تجهر به وتبوح به كما يجهر الإنسان ويبوح بالشيء الذي لا يراه قبيحا مثل الأكل والشرب والتزوج والتسرى والاستهلال رفع الصوت ومنه استهلال الصبي وهو رفعه صوته عند الولادة وإذا كانت لا تعلمه قبيحا كانت جاهلة بتحريمه والحد لا يجب إلا على من بلغه التحريم فإن الله تعالى يقول وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا سورة الإسراء وقال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل سورة النساء ولهذا لا يجوز قتال الكفار الذين لم تبلغهم الدعوة حتى يدعوا إلى الإسلام ولهذا من أتى شيئا من المحرمات التي لم يعلم تحريمها لقرب عهده بالإسلام أو لكونه نشأ بمكان جهل لم يقم عليه الحد ولهذا لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم من أكل من أصحابه حتى يتبين له الخيط
6
89(187/47)
الأبيض من الخيط الأسود لأنهم أخطأوا في التأويل ولم يعاقب أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله لأنه ظن جواز قتله لما اعتقد أنه قالها تعوذا وكذلك السرية التي قتلت الرجل الذي قال إنه مسلم وأخذت ماله لم يعاقبها لأنها كانت متأولة وكذلك خالد بن الوليد لما قتل بني جذيمة لما قالوا صبأنا لم يعاقبه لتأويله وكذلك الصديق لم يعاقب خالدا على قتل مالك بن نويرة لأنه كان متأولا وكذلك الصحابة لما قال هذا لهذا أنت منافق لم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان متأولا ولهذا قال الفقهاء الشبهة التي يسقط بها الحد شبهة اعتقاد أو شبهة ملك فمن تزوج نكاحا اعتقد أنه جائز ووطىء فيه لم يحد وإن كان حراما في الباطن وأما إذا علم التحريم ولم يعلم العقوبة فإنه يحد كما حد النبي صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك إذ كان قد علم تحريم الزنا ولكنه لم يكن يعلم أن الزاني المحصن يرجم فرجمه النبي صلى الله عليه وسلم لعلمه بتحريم الفعل وإن لم يعلم أنه يعاقب
6
90
بالرجم والمقصود هنا أن عمر رضي الله عنه كان يشاورهم وأنه من ذكر ما هو حق قبله وذلك من وجهين أحدهما أن يتبين في القصة المعينة مناط الحكم الذي يعرفونه كقول عثمان إنها جاهلة بالتحريم فإن عثمان لم يفدهم معرفة الحكم العام بل أفادهم إن هذا المعين هو من أهله وكذلك قول علي إن هذه مجنونة قد يكون من هذا فأخبره بجنونها أو بحملها أو نحو ذلك والثاني أن يتبين نصا أو معنى نص يدل على الحكم العام كتنبيه المرأة له على قوله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا سورة النساء وكإلحاق عبد الرحمن حد الشارب بحد القاذف ونحو ذلك
6
91(187/48)
فصل قال الرافضي وتنازعت امرأتان في طفل ولم يعلم الحكم وفزع فيه إلى أمير المؤمنين علي فاستدعى أمير المؤمنين المرأتين ووعظهما فلم ترجعا فقال ائتوني بمنشار فقالت المرأتان ما تصنع به فقال أقده بينكما نصفين فتأخذ كل واحدة نصفا فرضيت واحدة وقالت الأخرى الله الله يا أبا الحسن إن كان ولا بد من ذلك فقد سمحت لها به فقال علي الله أكبر هو ابنك دونها ولو كان ابنها لرقت عليه فاعترفت الأخرى أن الحق مع صاحبتها ففرح عمر ودعا لأمير المؤمنين
6
92
والجواب أن هذه قصة لم يذكر لها إسنادا ولا يعرف صحتها ولا أعلم أحدا من أهل العلم ذكرها ولو كان لها حقيقة لذكروها ولا تعرف عن عمر وعلي ولكن هي معروفة عن سليمان بن داود عليهما السلام وقد ثبت ذلك في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت هذه لصاحبتها إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك فتحاكما الى داود فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه فقال أئتوني بالسكين أشقه بينكما فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى قال أبو هريرة والله إن سمعت بالسكين إلا يومئذ ما كنا نقول إلا المدية
6
93(187/49)
فإن كان بعض الصحابة علي أو غيره سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعها أبو هريرة أو سمعوها من أبي هريرة فهذا غير مستبعد وهذه القصة فيها أن الله تعالى فهم سليمان من الحكم ما لم يفهمه لداود كما فهمه الحكم إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكان سليمان قد سأل ربه حكما يوافق حكمه ومع هذا فلا يحكم بمجرد ذلك بأن سليمان أفضل من داود عليهما السلام فصل قال الرافضي وأمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر فقال له علي إن خاصمتك بكتاب الله تعالى خصمتك إن الله يقول وحمله وفصاله ثلاثون شهرا سورة الأحقاف وقال تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة سورة البقرة والجواب أن عمر كان يستشير الصحابة فتارة يشير عليه عثمان بما يراه صوابا وتارة يشير عليه علي وتارة يشير عليه عبد الرحمن بن عوف وتارة يشير عليه غيرهم وبهذا مدح الله المؤمنين بقوله تعالى وأمرهم شورى بينهم سورة الشورى والناس متنازعون في المرأة إذا ظهر بها
6
94(187/50)
حمل ولم يكن لها زوج ولا سيد ولا ادعت شبهة هل ترجم فمذهب مالك وغيره من أهل المدينة والسلف أنها ترجم وهو قول أحمد في إحدى الروايتين ومذهب أبي حنيفة والشافعي لا ترجم وهي الرواية الثانية عن أحمد قالوا لأنها قد تكون مستكرهة على الوطء أو موطوءة بشبهة أو حملت بغير وطء والقول الأول هو الثابت عن الخلفاء الراشدين وقد ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب خطب الناس في آخر عمره وقال الرجم في كتاب الله حق على من زنى من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الأعتراف فجعل الحبل دليلا على ثبوت الزنا كالشهود وهكذا هذه القضية وكذلك اختلفوا في الشارب هل يحد إذا تقيأ أو وجدت منه الرائحة على قولين والمعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أنهم كانوا يحدون بالرائحة وبالقيء وكان الشاهد إذا شهد أنه تقيأها كان كشهادته بأنه شربها والاحتمالات البعيدة هي مثل احتمال غلط الشهود أو كذبهم وغلطه في
6
95(187/51)
الإقرار أو كذبه بل هذه الدلائل الظاهرة يحصل بها من العلم مالا يحصل بكثير من الشهادات والإقرارات والشهادة على الزنا لا يكاد يقام بها حد وما أعرف حدا أقيم بها وإنما تقام الحدود إما باعتراف وإما بحبل ولكن يقام بها ما دون الحد كما إذا رئيا متجردين في لحاف ونحو ذلك فلما كان معروفا عند الصحابة أن الحد يقام بالحبل فلو ولدت المرأة لدون ستة أشهر أقيم عليها الحد والولادة لستة أشهر نادرة إلى الغاية والأمور النادرة قد لا تخطر بالبال فأجرى عمر ذلك على الأمر المعتاد المعروف في النساء كما في أقصى الحمل فإن المعروف من النساء أن المرأة تلد لتسعة أشهر وقد يوجد قليلا من تلد لسنتين ووجد نادرا من ولدت لأربع سنين ووجد من ولدت لسبع سنين فإذا ولدت امرأة بعد إبانة زوجها لهذه المدة فهل يلحقه النسب فيه نزاع معروف وهذه من مسائل الاجتهاد فكثير من العلماء يحد لأقصى الحمل المدة النادرة هذا يحد سنتين وهذا يحد أربعا وهذا يحد سبعا ومنهم من يقول هذا أمر نادر لا يلتفت إليه وإذا أبانها وجاءت بالولد على خلاف المعتاد مع ظهور كونه من غيره لم يجب إلحاقه به
6
96(187/52)
فصل قال الرافضي وكان يضطرب في الأحكام فقضى في الجد بمائة قضية والجواب أن عمر رضي الله عنه أسعد الصحابة المختلفين في الجد بالحق فإن الصحابة في الجد مع الإخوة على قولين أنه يسقط الإخوة وهذا قول أبي بكر وأكثر الصحابة كأبي بن كعب وأبي موسى وابن عباس وابن الزبير ويذكر عن أربعة عشر منهم وهو مذهب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كابن سريج من أصحاب الشافعي وأبي حفص البرمكي من أصحاب أحمد ويذكر هذا رواية عن أحمد وهذا القول هو الصحيح فإن نسبة بني الإخوة من الأب إلى الجد كنسبة الأعمام بني الجد إلى الجد أبي الأب وقد اتفق المسلمون على أن الجد أبا الأب أولى من الأعمام فيجب أن يكون الجد أبو الأب أولى من الإخوة وأيضا فإن الإخوة لو كانوا لكونهم يدلون ببنوة الأب بمنزلة الجد لكان أبناؤهم وهم بنو الإخوة كذلك كان أولادهم ليسوا
6
97(187/53)
بمنزلتهم علم أنهم لا يتقدمون ببنوة الأب ألا ترى أن الابن لما كان أولى من الجد كان ابنه ابن الابن بمنزلته وأيضا فإن الجدة كالأم فيجب أن يكون الجد كالأب ولأن الجد يسمى أبا وهذا القول هو إحدى الروايتين عن عمر والقول الثاني أن الجد يقاسم الإخوة وهذا قول علي وزيد وابن مسعود وروى عن عثمان القولان ولكنهم مختلفون في التفصيل اختلافا متباينا وجمهور أهل هذا القول على مذهب زيد كمالك والشافعي وأحمد وأما قول علي في الجد فلم يذهب إليه أحد من أئمة الفقهاء وإنما يذكر عن ابن أبي ليلى أنه كان يقضى به ويذكر عن علي فيه أقوال مختلفة فإن كان القول الأول هو الصواب فهو قول لعمر وإن كان الثاني فهو قول لعمر وإنما نفذ قول زيد في الناس لأنه كان قاضي عمر وكان عمر ينفذ قضاءه في الجد لورعه لأنه كان يرى أن الجد كالأب مثل قول أبي بكر فلما صار جدا تورع وفوض الأمر في ذلك لزيد وقول القائل إنه قضى في الجد بمائة قضية إن صح هذا لم يرد به أنه قضى في مسألة واحدة بمائة قول فإن هذا غير ممكن وليس في مسائل الجد نزاع أكثر مما في مسألة الخرقاء
6
98(187/54)
أم وأخت وجد والأقوال فيها ستة فعلم أن المراد به إن كان صحيحا أنه قضى في مائة حادثة من حوادث الجد وهذا مع أنه ممكن لكن لم يخرج قوله عن قولين أو ثلاثة وقول علي مختلف أيضا وأهل الفرائض يعلمون هذا وهذا مع أن الأشبه أن هذا كذب فإن وجود جد وإخوة في الفريضة قليل جدا في الناس وعمر إنما تولى عشر سنين وكان قد أمسك عن الكلام في الجد وثبت عنه في الصحيح أنه قال ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بينهن لنا الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا ومن كان متوقفا لم يحكم فيها بشيء ومما يبين هذا أن الناس إنما نقلوا عن عمر في فريضة واحدة قضاءين قضى في المشركة فروى عنه بالإسناد المذكور في كتب أهل العلم أنه قضى فيها مرة بعدم التشريك وهذا قول علي وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل في المشهور عنه وقضى في نظيرها في العام الثاني بالتشريك وقال ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضى وهذا قول زيد وهو قول مالك والشافعي فإنهما وغيرهما مقلدان لزيد في الفرائض وهي رواية حرب عن أحمد ابن حنبل وهذا مما استدل به الفقهاء على أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد
6
99(187/55)
وعلي رضي الله عنه يوافق على ذلك فإنه قد ثبت عنه أنه قال كان رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن ثم قد رأيت أن يبعن فقال له قاضيه عبيدة السلماني رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة فعلي له في المسألة قولان ومعلوم أن ما قضى به في عتقهن ومنع بيعهن هو وعمر لم يكن ينقضه وإنما كان يرى أن يستأنف فيما بعد أن يجوز بيعهن والمسائل التي لعلي فيها قولان وأكثر كثيرة ونفس الجد مع الإخوة قد نقل عنه فيها اختلاف كثير ونقل عنه أنه كان إذا أرسل إليه بعض نوابه يسأله عن قضية في ذلك يأمره فيها باجتهاده ويقول قطع الكتاب فإنه رضي الله عنه رأى أنه إنما يتكلم فيها بالاجتهاد للضرورة وهو مضطر إلى الاجتهاد في هذه المعينة وكره أن يقلده غيره من غير اجتهاد منه فأمره بتقطيع الكتاب لذلك بخلاف ما إذا كان معه فيها نص فإنه كان يبلغه ويأمره بتبليغه ولا يأمر بقطع كتابه والعلماء مختلفون في بيع الكتب التي فيها العلم بالرأي هل يجوز بيعه وغير ذلك من الأحكام فيه على قولين
6
100
فصل قال الرافضي وكان يفضل في الغنيمة والعطاء وأوجب الله تعالى التسوية والجواب أما الغنيمة فلم يكن يقسمها هو بنفسه وإنما يقسمها الجيش الغانمون بعد الخمس وكان الخمس يرسل إليه كما يرسل إلى غيره فيقسمه بين أهله ولم يقل عمر ولا غيره إن الغنيمة يجب فيها التفضيل ولكن تنازع العلماء هل للإمام أن يفضل بعض الغانمين على بعض إذا تبين له زيادة نفع فيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد إحداهما أن ذلك جائز وهو مذهب أبي حنيفة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفل في بدايته الربع بعد الخمس وفي رجعته الثلث بعد الخمس رواه أبو داود وغيره وهذا تفضيل لبعض الغانمين من أربعة الأخماس ولأن في
6
101(187/56)
الصحيح صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى سلمة بن الأكوع سهم راجل وفارس في غزوة الغابة وكان راجلا لأن أتى من القتل والغنيمة وإرهاب العدو بما لم يأت به غيره والقول الثاني لا يجوز ذلك وهو مذهب مالك والشافعي ومالك يقول لا يكون النفل إلا من الخمس والشافعي يقول لا يكون إلا من خمس الخمس وقد ثبت في الصحيح عن ابن عمر قال غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل نجد فبلغت سهماننا اثنى عشر بعيرا ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرا بعيرا وهذا النفل لا يقوم به خمس الخمس وفي الجملة فهذه مسألة اجتهاد فإذا كان عمر يسوغ التفضيل للمصلحة فهو الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه وأما التفضيل في العطاء فلا ريب أن عمر كان يفضل فيه ويجعل
6
102
الناس فيه على مراتب وروى عنه أنه قال لئن عشت إلى قابل لأجعلن الناس بابا واحدا أي نوعا واحدا وكان أبو بكر يسوى في العطاء وكان علي يسوي أيضا وكان عثمان يفضل وهي مسألة اجتهاد فهل للإمام التفضيل فيه للمصلحة على قولين هما روايتان عن أحمد والتسوية في العطاء اختيار أبي حنيفة والشافعي والتفضيل قول مالك وأما قول القائل إن الله أوجب التسوية فيه فهو لم يذكر على ذلك دليلا ولو ذكر دليلا لتكلمنا عليه كما نتكلم في مسائل الاجتهاد والذين أمروا بالتسوية من العلماء احتجوا بأن الله قسم المواريث بين الجنس الواحد بالسواء ولم يفضل أحدا بصفة وأجاب المفضلون بأن تلك تستحق بسبب لا بعمل واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم سوى في المغانم بين الجنس الواحد فأعطى الراجل سهما واحدا وأعطى الفارس ثلاثة أسهم كما ثبت في الصحيحين وهو قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد وقيل
6
103(187/57)
أعطاه سهمين وهو قول أبي حنيفة وقد روى في ذلك أحاديث ضعيفة والثابت في الصحيحين أنه عام خبير أعطى الفارس ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه وكانت الخيل مائتي فرس وكانوا أربعة عشر مائة فقسم خيبر على ثمانية عشر سهما كل مائة في سهم فأعطى أهل الخيل ستمائة سهم وكانوا مائتين وأعطى ألفا ومائتين لألف ومائتي رجل وكان أكثرهم ركبانا على الإبل فلم يسهم للإبل عام خيبر والمجوزون للتفضيل قالوا بل الأصل التسوية وكان أحيانا يفضل فدل على جواز التفضيل وهذا القول أصح أن الأصل التسوية وأن التفضيل لمصلحة راجحة جائز وعمر لم يفضل لهوى ولا حابي بل قسم المال على الفضائل الدينية فقدم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ثم من بعدهم من الصحابة ثم من بعدهم وكان ينقص نفسه وأقاربه عن نظرائهم فنقص ابنه وابنته عمن كانا أفضل منه
6
104(187/58)
وإنما يطعن في تفضيل من فضل لهوى أما من كان قصده وجه الله تعالى وطاعة رسوله وتعظيم من عظمه الله ورسوله وتقديم من قدمه الله ورسوله فهذا يمدح ولا يذم ولهذا كان يعطى عليا والحسن والحسين ما لا يعطى لنظرائهم وكذلك سائر أقارب النبي صلى الله عليه وسلم ولو سوى لم يحصل لهم إلا بعض ذلك وأما الخمس فقد اختلف اجتهاد العلماء فيه فقالت طائفة سقط بموت النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستحق أحد من بني هاشم شيئا بالخمس إلا أن يكون فيهم يتيم أو مسكين فيعطى لكونه يتيما أو مسكينا وهذا مذهب أبي حنيفة وغيره وقالت طائفة بل هو لذي قربى ولي الأمر بعده فكل ولي أمر يعطى أقاربه وهذا قول طائفة منهم الحسن وأبو ثور فيما أظن وقد نقل هذا القول عن عثمان وقالت طائفة بل الخمس يقسم خمسة أقسام التسوية وهذا قول الشافعي وأحمد في المشهور عنه وقالت طائفة بل الخمس إلى اجتهاد الإمام يقسمه بنفسه في طاعة الله ورسوله كما يقسم الفيء وهذا قول أكثر السلف وهو قول عمر بن عبدالعزيز ومذهب أهل المدينة مالك وغيره وهو الرواية الأخرى عن
6
105(187/59)
أحمد وهو أصح الأقوال وعليه يدل الكتاب والسنة كما قد بسطناه في موضعه فمصرف الفيء والخمس واحد فكان ديوان العطاء الذي لعمر يقسم فيه الخمس والعطاء جميعا وأما ما يقوله من أن خمس مكاسب المسلمين يوخذ منهم ويصرف إلى من يرونه هو نائب الإمام المعصوم أو إلى غيره فهذا قول لم يقله قط أحد من الصحابة لا علي ولا غيره ولا أحد من التابعين لهم بإحسان ولا أحد من القرابة لا بني هاشم ولا غيرهم وكل من نقل هذا عن علي أو علماء أهل بيته كالحسن والحسين وعلي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وجعفر بن محمد فقد كذب عليهم فإن هذا خلاف المتواتر من سيرة علي رضي الله عنه فإنه قد تولى الخلافة أربع سنين وبعض أخرى ولم يأخذ من المسلمين من أموالهم شيئا بل لم يكن في ولايته قط خمس مقسوم أما المسلمون فما خمس لا هو ولا غيره أموالهم وأما الكفار فإذا غنمت منهم الأموال خمست بالكتاب والسنة لكن في عهده لم يتفرغ المسلمون لقتال الكفار بسبب ما وقع من الفتنة والاختلاف وكذلك من المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمس أموال المسلمين ولا طالب أحدا قط من المسلمين بخمس
6
106(187/60)
ماله بل إنما كان يأخذ منهم الصدقات ليس لآل محمد منها شيء وكان يأمرهم بالجهاد بأموالهم وأنفسهم وكان هو صلى الله عليه وسلم يقسم ما أفاء الله على المسلمين يقسم الغنائم بين أهلها ويقسم الخمس والفيء وهذه هي الأموال المشتركة السلطانية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يتولون قسمتها وقد صنف العلماء لها كتبا مفردة وجمعوا بينها في مواضع يذكرون قسم الغنائم والفيء والصدقة والذي تنازع فيه أهل العلم لهم فيه مأخذ فتنازعوا في الخمس لأن الله تعالى قال في القرآن واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير سورة الأنفال وقال في الفيء ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم سورة الحشر وقد قال قبل ذلك وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء سورة الحشر وأصل الفيء الرجوع والله خلق الخلق لعبادته وأعطاهم الأموال يستعينون بها على عبادته فالكفار لما كفروا بالله وعبدوا غيره لم يبقوا
6
107(187/61)
مستحقين للأموال فأباح الله لعباده قتلهم وأخذ أموالهم فصارت فيئا أعاده الله على عباده المؤمنين لأنهم هم المستحقون له وكل مال أخذ من الكفار قد يسمى فيئا حتى الغنيمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في غنائم حنين ليس لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم لكن لما قال تعالى وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب سورة الحشر وقال ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى سورة الحشر صار اسم الفيء عند الإطلاق لما أخذ من الكفار بغير قتال وجمهور العلماء على أن الفيء لا يخمس كقول مالك وأبي حنيفة وأحمد وهذا قول السلف قاطبة وقال الشافعي والخرقي ومن وافقه من أصحاب أحمد يخمس والصواب قول الجمهور فإن السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه تقتضي أنهم لم يخمسوا فيئا قط بل أموال بني النضيركانت أول الفيء ولم يخمسها النبي صلى الله عليه وسلم بل خمس غنيمة بدر وخمس خيبر وغنائم حنين وكذلك الخلفاء بعده لم يكونوا يخمسون الجزية والخراج ومنشأ الخلاف أنه لما كان لفظ آية الخمس وآية الفيء واحدا اختلف فهم الناس للقرآن فرأت طائفة أن آية الخمس تقتضي أن يقسم الخمس بين الخمسة بالسوية وهذا قول الشافعي وأحمد وداود
6
108(187/62)
الظاهري لأنهم ظنوا أن هذا ظاهر القرآن ثم إن آية الفيء لفظها كلفظ آية الخمس فرأى بعضهم أن الفيء كله يصرف أيضا مصرف الخمس إلى هؤلاء الخمسة وهذا قول داود بن علي وأتباعه وما علمت أحدا من المسلمين قال هذا القول قبله وهو قول يقتضي فساد الإسلام إذا دفع الفيء كله إلى هذه الأصناف وهؤلاء يتكلمون أحيانا بما يظنونه ظاهر اللفظ ولا يتدبرون عواقب قولهم ورأى بعضهم أن قوله في آية الفيء فلله وللرسول ولذي القربى سورة الحشر المراد بذلك خمس الفيء فرأوا أن الفيء يخمس وهذا قول الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد وقال الجمهور هذا ضعيف جدا لأنه قال فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل سورة الحشر لم يقل خمسه لهؤلاء ثم قال للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم سورة الحشر والذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم سورة الحشر والذين جاءوا من بعدهم سورة الحشر وهؤلاء هم المستحقون للفيء كله فكيف يقول المراد خمسه وقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما قرأ هذه الآية قال هذه عمت المسلمين كلهم وأما أبو حنيفة ومن وافقه فوافقوا هؤلاء على أن الخمس يستحقه هؤلاء لكن قالوا إن سهم الرسول كان يستحقه في حياته وذوو قرباه كانوا يستحقونه لنصرهم له وهذا قد سقط بموته فسقط سهمهم كما سقط سهمه
6
109(187/63)
والشافعي وأحمد قالا بل يقسم سهمه بعد موته في مصرف الفيء إما في الكراع والسلاح وإما في المصالح مطلقا واختلف هؤلاء هل كان الفيء ملكا للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته على قولين أحدهما نعم كما قاله الشافعي وبعض أصحاب أحمد لأنه أضيف إليه والثاني لم يكن ملكا له لأنه لم يكن يتصرف فيه تصرف المالك وقالت طائفة ذوو القربى هم ذوو قربى القاسم المتولى وهو الرسول في حياته ومن يتولى الأمر بعده واحتجوا بما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ما أطعم الله نبيا طعمه إلا كانت لمن يتولى الأمر بعده والقول الخامس قول مالك وأهل المدينة وأكثر السلف أن مصرف الخمس والفيء واحد وأن الجميع لله والرسول بمعنى أنه يصرف فيما أمر الله به والرسول هو المبلغ عن الله فما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا سورة الحشر
6
110(187/64)
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال إني والله لا أعطى أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت فدل على أنه يعطى المال لمن أمره الله به لا لمن يريد هو ودل على أنه أضافه إليه لكونه رسول الله لا لكونه مالكا له وهذا بخلاف نصيبه من المغنم وما وصى له به فإنه كان ملكه ولهذا سمى الفيء مال الله بمعنى أنه المال الذي يجب صرفه فيما أمر الله به ورسوله أي في طاعة الله أي لا يصرفه أحد فيما يريد وإن كان مباحا بخلاف الأموال المملوكة وهذا بخلاف قوله وآتوهم من مال الله الذي آتاكم سورة النور فإنه لم يضفه إلى الرسول بل جعله مما آتاهم الله قالوا وقوله تعالى ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل سورة الحشر تخصيص هؤلاء بالذكر للاعتناء بهم لا لاختصاصهم بالمال ولهذا قال كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم سورة الحشر أي لا تتداولونه وتحرمون الفقراء ولو كان مختصا بالفقراء لم يكن للأغنياء فضلا عن أن يكون دولة وقد قال تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا سورة الحشر فدل على أن الرسول هو القاسم للفيء والمغانم ولو كانت مقسومة محدودة كالفرائض لم يكن للرسول أمر فيها ولا نهي وأيضا فالأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه تدل على هذا القول فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمس قط خمسا
6
111(187/65)
خمسة أجزاء ولا خلفاؤه ولا كانوا يعطون اليتامى مثل ما يعطون المساكين بل يعطون أهل الحاجة من هؤلاء وهؤلاء وقد يكون المساكين أكثر من اليتامى الأغنياء وقد كان بالمدينة يتامى أغنياء فلم يكونوا يسوون بينهم وبين الفقراء بل ولا عرف أنهم أعطوهم بخلاف ذوي الحاجة والأحاديث في هذا كثيرة ليس هذا موضع ذكرها فصل قال الرافضي وقال بالرأي والحدس والظن والجواب أن القول بالرأي لم يختص به عمر رضي الله عنه بل علي كان من أقولهم بالرأي وكذلك أبو بكر وعثمان وزيد وابن مسعود وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقولون بالرأي وكان رأي علي في دماء أهل القبلة ونحوه من الأمور العظائم كما في سنن أبي داود وغيره عن الحسن عن قيس بن عباد قال قلت لعلي أخبرنا عن مسيرك هذا أعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأى رأيته قال ما عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى شيئا ولكنه رأى رأيته وهذا أمر ثابت ولهذا لم يرو على
6
112
رضي الله عنه في قتال الجمل وصفين شيئا كما رواه في قتال الخوارج بل روى الأحاديث الصحيحة هو وغيره من الصحابة في قتال الخوارج المارقين وأما قتال الجمل وصفين فلم يرو أحد منهم فيه نصا إلا القاعدون فإنهم رووا الأحاديث في ترك القتال في الفتنة وأما الحديث الذي يروى أنه أمر بقتل الناكثين والقاسطين والمارقين فهو حديث موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن الرأي إن لم يكن مذموما فلا لوم على من قال به وإن كان مذموما فلا رأى أعظم ذما من رأي أريق به دم ألوف مؤلفة من
6
113(187/66)
المسلمين ولم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين لا في دينهم ولا في دنياهم بل نقص الخير عما كان وزاد الشر على ما كان فإذا كان مثل هذا الرأي لا يعاب به فرأى عمر وغيره في مسائل الفرائض والطلاق أولى أن لا يعاب مع أن عليا شركهم في هذا الرأي وامتاز برأيه في الدماء وقد كان ابنه الحسن وأكثر السابقين الأولين لا يرون القتال مصلحة وكان هذا الرأي أصلح من رأي القتال بالدلائل الكثيرة ومن المعلوم أن قول علي في الجد وغيره من المسائل كان بالرأي وقد قال اجتمع رأيي ورأى عمر على المنع من بيع أمهات الأولاد والآن فقد رأيت أن يبعن فقال له قاضيه عبيده السلماني رأيك مع رأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة وفي صحيح البخاري عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة عن علي قال اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الاختلاف حتى يكون للناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي قال وكان ابن سيرين يرى أن عامة ما يروى عن علي كذب وقد جمع الشافعي ومحمد بن نصر المروزي المسائل التي تركت من قول علي وابن مسعود فبلغت شيئا كثيرا وكثير منها قد جاءت السنة بخلافه كالمتوفى عنها الحامل فإن مذهب علي رضي الله عنه أنها
6
114(187/67)
تعتد أبعد الأجلين وبذلك أفتى أبو السنابل بن بعكك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاءته سبيعة الأسلمية وذكرت ذلك له قال كذب أبو السنابل بل حللت فانكحي من شئت وكان زوجها قد توفي عنها بمكة في حجة الوداع فإن كان القول بالرأي ذنبا فذنب غير عمر كعلي وغيره أعظم فإن ذنب من استحل دماء المسلمين برأي هو ذنب أعظم من ذنب من حكم في قضية جزئية برأيه وإن كان منه ما هو صواب ومنه ما هو خطأ فعمر رضي الله عنه أسعد بالصواب من غيره فإن الصواب في رأيه أكثر منه في رأي غيره والخطأ في رأي غيره أكثر منه في رأيه وإن كان الرأي كله صوابا فالصواب الذي مصلحته أعظم هو خير وأعظم من الصواب الذي مصلحته دون ذلك وآراء عمر رضي الله عنه كانت مصالحها أعظم للمسلمين فعلى كل تقدير عمر فوق القائلين بالرأي من الصحابة فيما يحمد وهو أخف منهم فيما يذم ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر ومعلوم أن رأي المحدث الملهم أفضل من رأي من ليس كذلك وليس فوقه إلا النص الذي هو حال الصديق المتلقى من الرسول ونحن نسلم أن الصديق أفضل من عمر لكن عمر أفضل من سائرهم
6
115(187/68)
وفي المسند وغيره أن الله تعالى ضرب الحق على لسان عمر وقلبه وقال عبد الله بن عمر ما سمعت عمر يقول لشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان كما يقول فالنصوص والإجماع والاعتبار يدل على أن رأي عمر أولى بالصواب من رأي عثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ولهذا كانت آثار رأيه محمودة فيها صلاح الدين والدنيا فهو الذي فتح بلاد فارس والروم وأعز الله به الإسلام وأذل به الكفر والنفاق وهو الذي وضع الديوان وفرض العطاء وألزم أهل الذمة بالصغار والغيار وقمع الفجار وقوم العمال وكان الإسلام في زمنه أعز ما كان وما يتمارى في كمال سيرة عمر وعلمه وعدله وفضله من له أدنى مسكة من عقل وإنصاف ولا يطعن على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا أحد رجلين إما رجل منافق زنديق ملحد عدو للإسلام يتوصل بالطعن فيهما إلى الطعن في الرسول ودين الإسلام وهذا حال المعلم الأول للرافضة أول من ابتدع الرفض وحال أئمه الباطنية وإما جاهل مفرط في الجهل والهوى وهو الغالب على عامة الشيعة إذا كانوا مسلمين في الباطن وإذا قال الرافضي علي كان معصوما لا يقول برأيه بل كل ما قاله فهو مثل نص الرسول وهو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته من جهة الرسول
6
116(187/69)
قيل له نظيرك في البدعة الخوارج كلهم يكفرون عليا مع أنهم أعلم واصدق وأدين من الرافضة لا يسترتب في هذا كل من عرف حال هؤلاء وهؤلاء وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيهم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم وقد قاتلوه في حياته وقتله واحد منهم ولهم جيوش وعلماء ومدائن وأهل السنة ولله الحمد متفقون على أنهم مبتدعة ضالون وأنه يجب قتالهم بالنصوص الصحيحة وأن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه كان من أفضل أعماله قتاله الخوارج وقد اتفقت الصحابة على قتالهم ولا خلاف بين علماء السنة أنهم يقاتلون مع أئمة العدل مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكن هل يقاتلون مع أئمة الجور فنقل عن مالك أنهم لا يقاتلون وكذلك قال فيمن نقض العهد من أهل الذمة لا يقاتلون مع أئمة الجور ونقل عنه أنه قال ذلك في الكفار وهذا منقول عن مالك وبعض أصحابه ونقل عنه خلاف ذلك وهو قول الجمهور وأكثر أصحابه خالفوه في ذلك وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وقالوا يغزى مع كل أمير برا كان أو فاجرا إذا كان الغزو الذي يفعله
6
117(187/70)
جائزا فإذا قاتل الكفار أو المرتدين أو ناقضي العهد أو الخوارج قتالا مشروعا قوتل معه وإن قاتل قتالا وإن قاتل قتالا غير جائز لم يقاتل معه فيعاون على البر والتقوى ولا يعاون على الإثم والعدوان كما أن الرجل يسافر مع من يحج ويعتمر وإن كان في القافلة من هو ظالم فالظالم لا يجوز أن يعاون على الظلم لأن الله تعالى يقول وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان سورة المائدة وقال موسى رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين سورة القصص وقال تعالى ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار سورة هود وقال تعالى ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها سورة النساء والشفيع المعين فكل من أعان شخصا على أمر فقد شفعه فيه فلا يجوز أن يعان أحد لا ولي أمر ولا غيره على ما حرمه الله ورسوله وأما إذا كان للرجل ذنوب وقد فعل برا فهذا إذا أعين على البر لم يكن هذا محرما كما لو أراد مذنب أن يؤدى زكاته أو يحج أو يقضى ديونه أو يرد بعض ما عنده من المظالم أو يوصى على بناته فهذا إذا أعين عليه فهو إعانة على بر وتقوى ليس إعانة على إثم وعدوان فكيف الأمور العامة
6
118(187/71)
والجهاد لا يقوم به إلا ولاة الأمور فإن لم يغز معهم لزم أن أهل الخير الأبرار لا يجاهدون فتفتر عزمات أهل الدين عن الجهاد فإما أن يتعطل وإما أن ينفرد به الفجار فيلزم من ذلك استيلاء الكفار أو ظهور الفجار لأن الدين لمن قاتل عليه وهذا الرأي من أفسد الآراء وهو رأي أهل البدع من الرافضة والمعتزلة وغيرهم حتى قيل لبعض شيوخ الرافضة إذا جاء الكفار إلى بلادنا فقتلوا النفوس وسبوا الحريم وأخذوا الأموال هل نقاتلهم فقال لا المذهب أنا لا نغزو إلا مع المعصوم فقال ذلك المستفتى مع عاميته والله إن هذا لمذهب نجس فإن هذا المذهب يفضي إلى فساد الدين والدنيا وصاحب هذا القول تورع فيما يظنه ظلما فوقع في أضعاف ما تورع عنه بهذا الورع الفاسد وأين ظلم بعض ولاة الأمور من استيلاء الكفار بل من استيلاء من هو أظلم منه فالأقل ظلما ينبغي أن يعاون على الأكثر ظلما فإن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين حتى يقدم عند التزاحم خير الخيرين ويدفع شر الشرين ومعلوم أن شر الكفار والمرتدين والخوارج أعظم من شر الظالم وأما اذا لم يكونوا يظلمون المسلمين والمقاتل لهم يريد أن يظلمهم فهذا عدوان منه فلا يعاون على العدوان
6
119
فصل قال الرافضي وجعل الأمر شورى بعده وخالف فيه من تقدمه فإنه لم يفوض الأمر فيه إلى اختيار الناس ولا نص على إمام بعده بل تأسف على سالم مولى أبي حذيفة وقال لو كان حيا لم يختلجني فيه شك وأمير المؤمنين علي حاضر وجمع فيمن يختار بين الفاضل والمفضول ومن حق الفاضل التقدم على المفضول ثم طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى وأظهر أنه يكره أن يتقلد أمر المسلمين ميتا كما تقلده حيا ثم تقلده ميتا بأن جعل الإمامة في ستة ثم ناقص فجعلها في أربعة ثم في ثلاثة ثم في واحد فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار بعد أن وصفه
6
120(187/72)
بالضعف والقصور ثم قال إن اجتمع أمير المؤمنين وعثمان فالقول ما قالاه وإن صاروا ثلاثة فالقول قول الذي صار فيهم عبد الرحمن بن عوف لعلمه أن عليا وعثمان لا يجتمعان على أمر واحد وأن عبد الرحمن لا يعدل الأمر عن أخيه وهو عثمان وابن عمه ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام مع أنهم عندهم من العشرة المبشرة بالجنة وأمر بقتل من خالف الأربعة منهم وأمر بقتل من خالف الثلاثة الذين بينهم عبد الرحمن وكل ذلك مخالف للدين وقال لعلي وإن وليتها وليسوا فاعلين لتركبنهم على المحجة البيضاء وفيه إشارة إلى أنهم لا يولونه إياها قال لعثمان إن وليتها لتركبن آل أبي معيط على رقاب الناس وإن فعلت لتقتلن وفيه إشارة إلى الأمر بقتله
6
121
والجواب أن هذا الكلام كله لا يخرج عن قسمين إما كذب في النقل وإما قدح في الحق فإن منه ما هو كذب معلوم الكذب أو غير معلوم الصدق وما علم أنه صدق فليس فيه ما يوجب الطعن على عمر رضي الله عنه بل ذلك معدود من فضائله ومحاسنه التي ختم الله بها عمله ولكن هؤلاء القوم لفرط جهلهم وهواهم يقلبون الحقائق في المنقول والمعقول فيأتون إلى الأمور التي وقعت وعلم أنها وقعت فيقولون ما وقعت وإلى أمور ما كانت ويعلم أنها ما كانت فيقولون كانت ويأتون إلى الأمور التي هي خير وصلاح فيقولون هي فساد وإلى الأمور التي هي فساد فيقولون هي خير وصلاح فليس لهم لا عقل ولا نقل بل لهم نصيب من قوله وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير سورة الملك وأما قول الرافضي وجعل الأمر شورى بعده وخالف فيه من تقدمه فالجواب أن الخلاف نوعان خلاف تضاد وخلاف تنوع فالأول مثل أن يوجب هذا شيئا ويحرمه الآخر والنوع الثاني مثل القراءات التي يجوز كل منها وإن كان هذا يختار قراءة وهذا يختار قراءة كما ثبت في الصحاح بل استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
6
122(187/73)
إن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف وثبت أن عمر وهشام بن حكيم بن حزام اختلفا في سورة الفرقان فقرأها هذا على وجه وهذا على وجه آخر فقال لكليهما هكذا أنزلت ومن هذا الباب أنواع التشهدات كتشهد ابن مسعود الذي أخرجاه في الصحيحين وتشهد أبي موسى الذي رواه مسلم وألفاظهما متقاربة وتشهد ابن عباس الذي رواه مسلم وتشهد عمر الذي علمه الناس على منبر النبي صلى الله عليه وسلم وتشهد ابن عمر وعائشة وجابر اللواتي
6
123
رواها أهل السنن عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فهو سائغ وجائز وإن اختار كل من الناس بعض التشهدات إما لكونه هو الذي علمه ولاعتياده إياه وإما لاعتقاده رجحانه من بعض الوجوه وكذلك الترجيع في الآذان وترك الترجيع فإن الأول قد ثبت في الصحيح في أذان أبي محذورة وروى في أوله التكبير مرتين كما رواه مسلم وروى أربعا كما رواه أبو داود وترك الترجيح هو الذي رواه أهل
6
124
السنن في آذان بلال وكذلك وتر الإقامة هو الذي ثبت في أذان بلال وشفع الإقامة ثبت في الصحيح في أذان أبي محذورة فأحمد وغيره من فقهاء الحديث أخذوا بأذان بلال وإقامته والشافعي أخذ بأذان أبي محذورة وإقامة بلال وأبو حنيفة أخذ بأذان بلال وإقامة أبي محذورة وكل هذه الأمور جائزة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان من الفقهاء من يكره بعض ذلك لاعتقاده أنه لم يثبت كونه سن في الأذان فذلك لا يقدح في علم من علم أنه سنة وكذلك أنواع صلاة الخوف فإنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها أنواع متعددة كصلاة ذات الرقاع وصلاة عسفان وصلاة نجد فإنه صلى بهم بعسفان جماعة صلاة واحدة لكن جعلهم صفين فالصف الواحد ركعوا معه جميعا وسجد معه الصف الأول وتخلف الصف
6
125(187/74)
الآخر عن المتابعة ليحرسوا ثم أتموا لأنفسهم وفي الركعة الثانية بالعكس فكان في ذلك من خلاف الصلاة المعتادة تخلف أحد الصفين عن السجود معه لأجل الحرس وهذه مشروعة إذا كان العدو وجاه القبلة وصار هذا اصلا للفقهاء في تخلف المأموم لعذر فيما دون الركعة كالزحمة والنوم والخوف وغير ذلك أنه لا يبطل الصلاة وأنه يفعل ما تخلف عنه وأكثر الصلوات كان يجعلهم طائفتين وهذا يتعين إذا كان العدو في غير جهة الكعبة فتارة يصلي بطائفة ركعة ثم يفارقونه ويتمون لأنفسهم ثم يصلى بالطائفة الثانية الركعة الثانية ويتمون لأنفسهم قبل سلامه فيسلم بهم فيكون الأولون أحرموا معه والآخرون سلموا معه كما صلى بهم في ذات الرقاع وهذه أشهر الأنواع وأكثر الفقهاء يختارونها لكن منهم من يختار أن تسلم الثانية بعده كالمسبوق كما يروى عن مالك والأكثرون يختارون ما ثبت به النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأن المسبوق قد صلى غيره مع الإمام الصلاة كلها فيسلم بهم بخلاف هذا فإن الطائفة الأولى لم تتم معه الصلاة فلا يسلم إلا بهم ليكون تسليمه بالمأمومين
6
126
فإن في السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم فهذا مروى عن علي وغيره ومنها صلاة نجد صلى بطائفة ركعة ثم ذهبت إلى وجاه العدو وجاءت الطائفة الثانية فصلى بهم الثانية ثم ذهبوا إلى وجاه العدو ورجع الأولون فأتموا بركعة ثم رجع هؤلاء فأتموا بركعة وهذه يختارها أبو حنيفة لأنها على وفق القياس عنده إذ ليس فيها إلا العمل الكثير واستدبار القبلة لعذر وهو يجوز ذلك لمن سبقه الحدث ومنها صلوات أخرى والصحيح الذي لا يجوز أن يقال بغيره أن كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فهو جائز وإن كان المختار يختار بعض ذلك فهذا من اختلاف التنوع ومن ذلك أنواع الاستفتاحات في الصلاة كاستفتاح أبي هريرة الذي
6
127(187/75)
رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصحيحين واستفتاح علي بن أبي طالب الذي رواه مسلم واستفتاح عمر الذي كان يجهر به في محراب النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه الناس متفق عليه وهو في السنن مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الاستفتاحات ومن ذلك صفات الاستعاذة وأنواع الأدعية في آخر الصلاة وأنواع الأذكار التي تقال في الركوع والسجود مع التسبيح المأمور به ومن ذلك صلاة التطوع يخير فيها بين القيام والقعود ويخير بين الجهر بالليل والمخافتة إلىأمثال ذلك ومن ذلك تخيير الحاج بين التعجيل في يومين من أيام منى وبين التأخر إلى اليوم الثالث وهذا الاختلاف قسمان أحدهما يكون الإنسان مخيرا فيه بين النوعين بدون اجتهاد في أصلحهما والثاني يكون تخييره بحسب ما يراه من المصلحة وتخيير المتصرف لغيره هو من هذا الباب كولي اليتيم وناظر الوقف والوكيل والمضارب والشريك وأمثال ذلك ممن تصرف
6
128(187/76)
لغيره فإنه إذا كان مخيرا بين هذا النقد وهذا أو بين النقد والنسيئة أو بين ابتياع هذا الصنف وهذا الصنف أو البيع في هذا السوق وهذا السوق فهو تخيير مصلحة واجتهاد فليس له أن يعدل عما يراه أصلح لمن أئتمنه إذا لم يكن عليه في ذلك مشقة تسوغ له تركه ومن هذا الباب تصرف ولي الأمر للمسلمين كالأسير الذي يخير فيه بين القتل والاسترقاق وكذلك بين المن والفداء عند أكثر العلماء ولهذا استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فيهم يوم بدر فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه بأخذ الفداء وشبهة النبي صلى الله عليه وسلم بإبراهيم وعيسى وأشار عليه عمر رضي الله عنه بالقتل وشبهه النبي صلى الله عليه وسلم بنوح وموسى ولم يعب واحدا منهما بما أشار عليه به بل مدحه وشبهه بالأنبياء ولو كان مأمورا بأحد الأمرين حتما لما استشارهم فيما يفعل وكذلك اجتهاد ولى الأمر فيمن يولى فعليه أن يختار أصلح من يراه ثم إن الاجتهاد يختلف ويكون جميعه صوابا كما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان رأيه أن يولى خالد بن الوليد في حروبه وكان عمر يشير عليه بأن يعزله فلا يعزله ويقول إنه سيف سله الله على المشركين ثم إن عمر لما تولى عزله وولى أبا عبيدة بن الجراح وما فعله كل منهما كان أصلح في وقته فإن أبا بكر كان فيه لين وعمر كان فيه
6
129
شدة وكانا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرهما النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه أنه قال إذا اتفقتما على شيء لم أخالفكما وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في بعض مغازيه إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا وفي رواية في الصحيح كيف ترون القوم صنعوا حين فقدوا نبيهم وأرهقتهم صلاتهم قلنا الله ورسوله أعلم قال أليس فيهم أبو بكر وعمر إن يطيعوهما فقد رشدوا ورشدت أمتهم وإن يعصوهما فقد غووا وغوت أمتهم قالها ثلاثا
6
130(187/77)
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس عن عمر قال لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه وهم ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آتني ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله تعالى إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين سورة الأنفال فأمده الله بالملائكة قال أبو زميل فحدثني ابن عباس قال بينما رجل من
6
131
المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع فجاء الأنصارى فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين فقال أبو زميل قال ابن عباس فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر ما ترون في هؤلاء الأساري فقال أبو بكر يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على المشركين فعسى الله أن يهديهم للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترى يا ابن الخطاب قلت لا والله يا رسول ما أرى
6
132(187/78)
الذي رأى أبو بكر ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكني من فلان نسيب لعمر فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت يا رسول الله ما يبكيك أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكى للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة شجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى ما كان لنبي أن يكون
6
133
له أسرى حتى يثخن في الأرض الآية سورة الأنفال قال فأحل الله لهم الغنيمة ورواه عبد الله بن مسعود وقال فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم سورة إبراهيم أو كمثل عيسى قال إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم سورة المائدة وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا سورة نوح وقال يا عمر كمثل موسى قال وأشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم سورة يونس
6
134
وقد روى هذ المعنى من حديث أم سلمة وابن عباس وغيرهما وقد روى أحمد في المسند من حديث أبي معاوية ورواه ابن بطة ورويناه في جزء ابن عرفة عن أبي معاوية وهي لفظه قال لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقولون في هؤلاء الأساري فقال أبو بكر يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستأن بهم لعل الله يتوب عليهم وقال عمر يا رسول الله كذبوك وأخرجوك قربهم واضرب أعناقهم فذكر الحديث قال فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئا قال فخرج رسول
6
135(187/79)
الله صلى الله عليه وسلم فقال إن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم سورة إبراهيم وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم سورة المائدة وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا سورة نوح وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال وأشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم سورة يونس وروى ابن بطة بالإسناد الثابت من حديث الزنجي بن خالد عن إسماعيل بن أمية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر لولا أنكما تختلفان على ما خالفتكما وكان السلف متفقين على تقديمهما حتى شيعة علي رضي الله عنه وروى ابن بطة عن شيخه المعروف بأبي العباس بن مسروق حدثنا محمد بن حميد حدثنا جرير عن سفيان عن عبد الله بن زياد عن حدير قال قدم أبو إسحاق السبيعي الكوفة قال لنا شمر بن
6
136
عطية قوموا إليه فجلسنا إليه فتحدثوا فقال أبو إسحاق خرجت من الكوفة وليس أحد يشك في فضل أبي بكر وعمر وتقديمهما وقدمت الآن وهم يقولون ويقولون ولا والله ما أدرى ما يقولون وقال حدثنا النيسابوري حدثنا أبو أسامة الحلبي حدثنا أبي حدثنا ضمرة عن سعيد بن حسن قال سمعت ليث بن أبي سليم يقول أدركت الشيعة الأولى وما يفضلون على أبي بكر وعمر أحدا وقال أحمد بن حنبل حدثنا ابن عيينة عن خالد بن سلمة عن الشعبي عن مسروق قال حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة ومسروق من أجل تابعي الكوفة وكذلك قال طاووس حب
6
137(187/80)
أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة وقد روى ذلك عن ابن مسعود وكيف لا تقدم الشيعة الأولى أبا بكر وعمر وقد تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه أنه قال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وقد روى هذا عنه من طرق كثيرة قيل إنها تبلغ ثمانين طريقا وقد رواه البخاري عنه في صحيحه من حديث الهمدانيين الذين هم أخص الناس بعلي حتى كان يقول ولو كنت بوابا على باب جنة لقلت لهمدان أدخلي بسلام وقد رواه البخاري من حديث سفيان الثوري وهو همداني عن منذر وهو همداني عن محمد بن الحنفية قال قلت لأبي يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا بني أو ما تعرف فقلت لا قال أبو بكر فقلت ثم من قال عمر وهذا يقوله لابنه بينه وبينه ليس هو مما يجوز أن يقوله تقية ويرويه عن أبيه خاصة وقال على المنبر
6
138
وعنه أنه كان يقول لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفتري وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ولهذا كان أحد قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد أن قولهما إذا اتفقا حجة لا يجوز العدول عنها وهذا أظهر القولين كما أن الأظهر أن اتفاق الخلفاء الأربعة أيضا حجة لا يجوز خلافها لأمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع سنتهم وكان نبينا صلى الله عليه وسلم مبعوثا بأعدل الأمور وأكملها فهو الضحوك القتال وهو نبي الرحمة ونبي الملحمة بل أمته موصوفون بذلك في مثل قوله تعالى أشداء على الكفار رحماء بينهم سورة الفتح وقوله تعالى أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين سورة المائدة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين شدة هذا ولين هذا فيأمر بما هو العدل وهما يطيعانه فتكون أفعالهما على كمال الاستقامة فلما قبض الله نبيه وصار كل منهما خليفة على المسلمين خلافة نبوة كان من كمال أبي بكر رضي الله عنه أن يولى
6
139(187/81)
الشديد ويستعين به ليعتدل أمره ويخلط الشدة باللين فإن مجرد اللين يفسد ومجرد الشدة تفسد ويكون قد قام مقام النبي صلى الله عليه وسلم فكان يستعين باستشارة عمر وباستنابة خالد ونحو ذلك وهذا من كماله الذي صار به خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا اشتد في قتال أهل الردة شدة برز بها على عمر وغيره حتى روى أن عمر قال له يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم تألف الناس فقال علام أتألفهم أعلى حديث مفترى أم على شعر مفتعل وقال أنس خطبنا أبو بكر عقيب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وإنا لكالثعالب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود وأما عمر رضي الله عنه فكان شديدا في نفسه فكان من كماله استعانته باللين ليعتدل أمره فكان يستعين بأبي عبيدة بن الجراح وسعد ابن أبي وقاص وأبي عبيد الثقفي والنعمان بن مقرن وسعيد بن عامر وأمثال هؤلاء من أهل الصلاح والزهد الذين هم أعظم زهدا وعبادة من مثل خالد بن الوليد وأمثاله ومن هذا الباب أمر الشورى فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان كثير المشاورة للصحابة فيما لم يتبين فيه أمر الله ورسوله فإن الشارع نصوصه كلمات جوامع وقضايا كلية وقواعد عامة يمتنع أن
6
140(187/82)
ينص على كل فرد من جزئيات العالم إلى يوم القيامة فلا بد من الاجتهاد في المعينات هل تدخل في كلماته الجامعة أم لا وهذا الاجتهاد يسمى تحقيق المناط وهو مما اتفق عليه الناس كلهم نفاة القياس ومثبتته فإن الله إذا أمر أن يستشهد ذوا عدل فكون الشخص المعين من ذوي العدل لا يعلم بالنص بل باجتهاد خاص وكذلك إذا أمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها وأن يولى الأمور من يصلح لها فكون هذا الشخص المعين صالحا لذلك أو راجحا على غيره لا يمكن أن تدل عليه النصوص بل لا يعلم إلا باجتهاد خاص والرافضي إن زعم أن الإمام يكون منصوصا عليه وهو معصوم فليس هو أعظم من الرسول ونوابه وعماله ليسوا معصومين ولا يمكن أن ينص الشارع على كل معينة ولا يمكن النبي ولا الإمام أن يعلم الباطن في كل معينة بل قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يولى الوليد بن عقبة ثم ينزل الله فيه إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة سورة الحجرات وقد كان يظن أن الحق في قضيته مع بني أبيرق ثم ينزل الله
6
141
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما سورة النساء الآيات وأما علي رضي الله عنه فظهور الأمر له في الجزئيات بخلاف ما ظنه كثير جدا فعلم أنه لا بد من الاجتهاد في ا لجزئيات من المعصومين وغير المعصومين وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون الحن بحجته من بعض وإنما أقضى بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فحكمه في القضية المعينة إنما هو باجتهاده ولهذا نهى المحكوم له أن يأخذ ما حكم له به إذا كان الباطن بخلاف ما ظهر للحاكم وعمر رضي الله عنه إمام وعليه أن يستخلف الأصلح للمسلمين فاجتهد في ذلك ورأى أن هؤلاء الستة أحق من غيرهم وهو كما رأى فإنه لم يقل أحد أن غيرهم أحق منهم وجعل التعيين إليهم خوفا أن
6
142(187/83)
يعين واحدا منهم ويكون غيره أصلح لهم فإنه ظهر له رجحان الستة دون رجحان التعيين وقال الأمر في التعيين إلى الستة يعينون واحدا منهم وهذا أحسن اجتهاد إمام عالم عادل ناصح لا هوى له رضي الله عنه وأيضا فقد قال تعالى وأمرهم شورى بينهم سورة الشورى وقال وشاورهم في الأمر سورة آل عمران فكان ما فعله من الشورى مصلحة وكان ما فعله أبو بكر رضي الله عنه من تعيين عمر هو المصلحة أيضا فإن أبا بكر تبين له من كمال عمر وفضله واستحقاقه للأمر مالم يحتج معه إلى الشورى وظهر أثر هذا الرأي المبارك الميمون على المسلمين فإن كل عاقل منصف يعلم أن عثمان أو عليا أو طلحة أو الزبير أو سعدا أو عبد الرحمن بن عوف لا يقوم مقام عمر فكان تعيين عمر في الاستحقاق كتعيين أبي بكر في مبايعتهم له ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أفرس الناس ثلاثه بنت صاحب مدين حيث قالت يا أبت أستأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين سورة القصص وأمرأة العزيز حيث قالت عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا سورة القصص وأبو بكر حيث استخلف عمر
6
143
وقالت عائشة رضي الله عنها في خطبتها أبي وما أبيه والله لا تعطوه الأيدي ذاك طود منيف وفرع مديد هيهات كذبت الظنون أنجح إذ أكديتم وسبق إذا ونيتم سبق الجواد إذا استولى على الأمد فتى قريش ناشئا وكهفها كهلا يفك عانيها ويريش مملقها ويرأب شعبها حتى حليته قلوبها ثم استشرى
6
144
في الله فما برحت شكيمته في ذات الله تعالى تشتد حتى اتخذ بفنائه مسجدا يحيى فيه ما أمات المبطلون وكان رحمه الله غزير الدمعة وقيذ الجوانح شجى النشيج فتتقصف عليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه ويستهزئون به الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون سورة البقرة فأكبرت ذلك رجالات قريش فحنت له قسيها وفوقت له سهامها وانتبلوه غرضا فما فلوا له
6
145(187/84)
صفاة ولا قصفوا له قناة ومر على سيسائه حتى إذا ضرب الدين بجرانه وألقى بركه ورست أوتاده ودخل الناس فيه أفواجا ومن كل فرقة أرسالا وأشتاتا اختار الله نبيه صلى الله عليه وسلم ما عنده فلما قبض الله نبيه نصب الشيطان رواقة ومد طنبه ونصب حبائله فظن رجال أن قد تحققت أطماعهم ولات حين الذي يرجون وأني والصديق بين أظهرهم فقام حاسرا مشمرا فجمع حاشيته ورفع قطريه فرد نشر الإسلام على غره ولم شعثه
6
146
بطبه وأقام أوده بثقافة فدق النفاق بوطأته وانتاش الدين فمنعه فلما أراح الحق على أهله وقرر الرؤوس على كواهلها وحقن الدماء في أهبها أتته منيته فسد ثلمه بنظيره في الرحمة وشقيقه في السيرة والمعدلة ذاك ابن الخطاب لله ثم حملت به ودرت عليه لقد أوحدت به ففنخ الكفرة وديخها وشرد الشرك شذر مذر وبعج الأرض وبخعها
6
147
فقاءت أكلها ولفظت خبيئها ترأمه ويصدف عنها وتصدى له ويأباها ثم ورع فيها وودعها كما صحبها فأروني ما تريبون وأي يوم تنقمون أيوم إقامته إذ عدل فيكم أم يوم ظعنه وقد نظر لكم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وروى هذه الخطبة جعفر ابن عون عن أبيه عن عائشة وهؤلاء رواة الصحيحين وقد رواها أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه وبعضهم رواها عن هشام ولم يذكر فيه عروة وأما عمر رضي الله عنه فرأى الأمر في الستة متقاربا فإنهم وإن كان لبعضهم من الفضيلة ما ليس لبعض فلذلك المفضول مزيه أخرى ليست للآخر ورأى أنه إذا عين واحدا فقد يحصل بولايته نوع من الخلل فيكون منسوبا إليه فترك التعيين خوفا من الله تعالى وعلم أنه ليس واحد أحق بهذا الأمر منهم فجمع بين المصلحتين بين
6
148(187/85)
تعيينهم إذ لا أحق منهم وترك تعيين واحد منهم لما تخوفه من التقصير والله تعالى قد أوجب على العبد أن يفعل المصلحة بحسب الإمكان فكان ما فعله غاية ما يمكن من المصلحة وإذا كان من الأمور أمور لا يمكن دفعها فتلك لا تدخل في التكليف وكان كما رآه فعلم أنه أن ولى واحدا من الستة فلا بد أن يحصل نوع من التأخر عن سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأن يحصل بسبب ذلك مشاجرة كما جبل الله على ذلك طباع بني آدم وإن كانوا من أولياء الله المتقين وذكر في كل واحد من الستة الأمر الذي منعه من تعيينه وتقديمه على غيره ثم إن الصحابة اجتمعوا على عثمان رضي الله عنه لأن ولايته كانت أعظم مصلحة وأقل مفسدة من ولاية غيره والواجب أن يقدم أكثر الأمرين مصلحة وأقلهما مفسدة وعمر رضي الله عنه خاف أن يتقلد أمرا يكون فيه ما ذكر ورأى أنهم إذا بايعوا واحدا منهم باختيارهم حصلت المصلحة بحسب الإمكان وكان الفرق بين حال المحيا وحال الممات أي في الحياة يتولى أمر
6
149(187/86)
المسلمين فيجب عليه أن يولى عليهم أصلح من يمكنه وأما بعد الموت فلا يجب عليه أن يستخلف معينا إذا كانوا يجتمعون على أمثلهم كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم أنهم يجتمعون على أبي بكر استغنى بذلك عن كتابه الكتاب الذي كان قد عزم على أن يكتبه لأبي بكر وأيضا فلا دليل على أنه يجب على الخليفة أن يستخلف بعده فلم يترك عمر واجبا ولهذا روجع في استخلاف المعين وقيل له أرأيت لو أنك استرعيت فقال إن الله تعالى لم يكن يضيع دينه ولا خلافته ولا الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم فإن عجل بى أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ومما ينبغي أن يعلم أن الله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الناس على غاية ما يمكن من الصلاح لا لرفع الفساد بالكلية فإن هذا ممتنع في الطبيعة الإنسانية إذ لا بد فيها من فساد ولهذا قال تعالى إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك الآية سورة البقرة ولهذا لم تكن أمة من الأمم إلا وفيها شر وفساد وأمثل
6
150(187/87)
الأمم قبلنا بنو إسرائيل وكان فيهم من الفساد والشر ما قد علم بعضه وأمتنا خير أمم وأكرمها على الله وخيرها القرون الثلاثة وأفضلهم الصحابة وفي أمتنا شر كثير لكنه أقل من شر بني إسرائيل وشر بني إسرائيل أقل من شر الكفار الذين لم يتبعوا نبيا كفرعون وقومه وكل خير في بني إسرائيل ففي أمتنا خير منه وكذلك أول هذه الأمة وآخرها فكل خير من المتأخرين ففي المتقدمين ما هو خير منه وكل شر في المتقدمين ففي المتأخرين ما هو شر منه وقد قال تعالى فاتقوا الله ما استطعتم سورة التغابن ولا ريب أن الستة الذين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض الذي عينهم عمر لا يوجد أفضل منهم وإن كان في كل منهم ما كرهه فإن غيرهم يكون فيه من المكروه أعظم ولهذا لم يتول بعد عثمان خير منه ولا أحسن سيرة ولا تولى بعد علي خير منه ولا تولى ملك من ملوك المسلمين أحسن سيرة من معاوية رضي الله عنه كما ذكر الناس سيرته وفضائله وإذا كان الواحد من هؤلاء له ذنوب فغيرهم أعظم ذنوبا وأقل حسنات فهذا من الأمور التي ينبغي أن تعرف فإن الجاهل بمنزلة الذباب الذي لا يقع إلا على العقير ولا يقع على الصحيح والعاقل يزن الأمور جميعا هذا وهذا
6
151(187/88)
وهؤلاء الرافضة من أجهل الناس يعيبون على من يذمونه ما يعاب أعظم منه على من يمدحونه فإذا سلك معهم ميزان العدل تبين أن الذي ذموه أولى بالتفضيل ممن مدحوه وأما ما يروى من ذكره لسالم مولى أبي حذيفة فقد علم أن عمر وغيره من الصحابة كانوا يعلمون أن الإمامة في قريش كما استفاضت بذلك السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان وفي لفظ ما بقي منهم اثنان وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس تبع لقريش في هذا الشأن مؤمنهم تبع لمؤمنهم وكافرهم تبع لكافرهم رواه مسلم وفي حديث جابر قال الناس تبع لقريش في الخير والشر وخرج البخاري عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين
6
152(187/89)
وهذا مما احتجوا به على الأنصار يوم السقيفة فكيف يظن بعمر أنه كان يولى رجلا من غير قريش بل من الممكن أنه كان يوليه ولاية جزئية أو يستشيره فيمن يولى ونحو ذلك من الأمور التي يصلح لها سالم مولى أبي حذيفة فإن سالما كان من خيار الصحابة وهو الذي كان يؤمهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المهاجرون وأما قول الرافضي وجمع بين الفاضل والمفضول ومن حق الفاضل التقدم على المفضول فيقال له أولا هؤلاء كانوا متقاربين في الفضيلة ولم يكن تقدم بعضهم على بعض ظاهرا كتقدم أبي بكر وعمر على الباقين ولهذا كان في الشورى تارة يؤخذ برأي عثمان وتارة يؤخذ برأي علي وتارة برأي عبد الرحمن وكل منهم له فضائل لم يشركه فيها الآخر ثم يقال له ثانيا وإذا كان فيهم فاضل ومفضول فلم قلت إن عليا هو الفاضل وعثمان وغيره هم المفضولون وهذا القول خلاف ما أجمع عليه المهاجرون والأنصار كما قال غير واحد من الأئمة منهم
6
153
أيوب السختياني وغيره من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان وفي لفظ ثم ندع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم فهذا إخبار عما كان عليه الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان وقد روى أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره وحينئذ فيكون هذا التفضيل ثابتا بالنص وإلا فيكون ثابتا بما ظهر بين المهاجرين والأنصار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير وبما ظهر لما توفي عمر فإنهم كلهم بايعوا عثمان بن عفان من غير رغبة ولا رهبة ولم ينكر هذه الولاية منكر منهم
6
154(187/90)
قال الإمام أحمد لم يجتمعوا على بيعة أحد ما أجتمعوا على بيعة عثمان وسئل عن خلافة النبوة فقال كل بيعة كانت بالمدينة وهو كما قال فإنهم كانوا في آخر ولاية عمر أعز ما كانوا وأظهر ما كانوا قبل ذلك وكلهم بايع عثمان بلا رغبة بذلها لهم ولا رهبة فإنه لم يعط أحدا على ولايته لا مالا ولا لاية وعبد الرحمن الذي بايعه لم يوله ولم يعطه مالا وكان عبد الرحمن من أبعد الناس عن الأغراض مع أن عبد الرحمن شاور جميع الناس ولم يكن لبني أمية شوكة ولا كان في الشورى منهم أحد غير عثمان مع أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا كما وصفهم الله عز وجل يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم سورة المائدة وقد بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا الحق حيثما كانوا لا يخافون في الله لومة لائم ولم ينكر أحد منهم ولاية عثمان بل كان في الذين بايعوه عمار بن ياسر وصهيب وأبو ذر وخباب والمقداد بن الأسود وابن مسعود وقال ابن مسعود ولينا أعلانا ذا فوق ولم نأل وفيهم العباس بن عبد المطلب وفيهم من النقباء مثل عبادة بن
6
155(187/91)
الصامت وأمثاله وفيهم مثل أبي أيوب الأنصاري وأمثاله وكل من هؤلاء وغيرهم لو تكلم بالحق لم يكن هناك عذر يسقطه عنه فقد كان يتكلم من يتكلم منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ولاية من يولى وهو مستحق للولاية ولا يحصل لهم ضرر وتكلم طلحة وغيره في ولاية عمر لما استخلفه أبو بكر وتكلم أسيد بن حضير في ولاية أسامة بن زيد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد كانوا يكلمون عمر فيمن يوليه ويعزله وعثمان بعد ولايته وقوة شوكته وكثرة أنصاره وظهور بني أمية كانوا يكلمونه فيمن يوليه ويعطيه منهم ومن غيرهم ثم في آخر الأمر لما اشتكوا من بعضهم عزله ولما اشتكوا من بعض من يأخذ بعض المال منعه فأجابهم إلى ما طلبوه من عزل ومنع من المال وهم أطراف من الناس وهو في عزة ولايته فكيف لا يسمع كلام الصحابة أئمتهم وكبرائهم مع عزهم وقوتهم لو تكلموا في ولاية عثمان وقد تكلموا مع الصديق في ولاية عمر وقالوا ماذا تقول لربك وقد وليت علينا فظا غليظا فقال أبالله تخوفوني أقول وليت عليهم خير أهلك فلم يحابوا الصديق في عهده لعمر مع شدته
6
156(187/92)
ومن شأن الناس أن يراعوا من يرشح للولاية فيحابونه خوفا منه أن ينتقم منهم إذا ولى ورجاء له وهذا موجود فهؤلاء لم يحابوا عمر ولا أبا بكر مع ولايتهما فكيف يحابون عثمان وهو بعد لم يتول ولا شوكة له فلولا علم القوم بأن عثمان أحقهم بالولاية لما ولوه وهذا أمر كلما تدبره الخبير ازداد به خبرة وعلما ولا يشك فيه إلا من لم يتدبره من أهل العلم بالاستدلال أو من هو جاهل بالواقع أو بطريق النظر والاستدلال والجهل بالأدلة أو بالنظر فيها يورث الجهل وأما من كان عالما بما وقع وبالأدلة وعالما بطريقة النظر والاستدلال فإنه يقطع قطعا لا يتمارى فيه أن عثمان كان أحقهم بالخلافة وأفضل من بقي بعده فاتفاقهم على بيعة عثمان بغير نكير دليل على أنهم لم يكن عندهم أصلح منها وإن كان في ذلك كراهية في الباطن من بعضهم لاجتهاد أو هوى فهذا لا يقدح فيها كما لا يقدح في غيرها من الولايات كولاية أسامةبن زيد وولاية أبي بكر وعمر وأيضا فإن ولاية عثمان كان فيها من المصالح والخيرات مالا يعلمها إلا الله وما حصل فيها من الأمور التي كرهوها كتأمير بعض بني
6
157(187/93)
أمية وإعطائهم بعض المال ونحو ذلك فقد حصل من ولاية من بعده ما هو أعظم من ذلك من الفساد ولم يحصل فيها من الصلاح ما حصل في إمارة عثمان وأين إيثار بعض الناس بولاية أو مال من كون الأمة يسفك بعضها دماء بعض وتشتغل بذلك عن مصلحة دينها ودنياها حتى يطمع الكفار في بلاد المسلمين وأين اجتماع المسلمين وفتح بلاد الأعداء من الفرقة والفتنة بين المسلمين وعجزهم عن الأعداء حتى يأخذوا بعض بلادهم أو بعض أموالهم قهرا أو صلحا وأما قول الرافضي إنه طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى وأظهر أنه يكره أن يتقلد أمر المسلمين ميتا كما تقلده حيا ثم تقلده بأن جعل الإمامة في ستة فالجواب أن عمر لم يطعن فيهم طعن من يجعل غيرهم أحق بالإمامة منهم بل لم يكن عنده أحق بالإمامة منهم كما نص على ذلك بين عذره المانع له من تعيين واحد منهم وكره أن يتقلد ولاية معين ولم يكره أن يتقلد تعيين الستة لأنه قد علم أنه لا أحد أحق بالأمر منهم فالذي علمه وعلم أن الله يثيبه عليه ولا تبعة عليه فيه إن تقلده هو
6
158(187/94)
اختيار الستة والذي خاف أن يكون عليه فيه تبعة وهو تعيين واحد منهم تركه وهذا من كمال عقله ودينه رضي الله عنه وليس كراهته لتقلده ميتا كما تقلده حيا لطعنه في تقلده حيا فإنه إنما تقلد الأمر حيا باختياره وبأن تقلده كان خيرا له وللأمة وإن كان خائفا من تبعة الحساب فقد قال تعالى والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون سورة المؤمنون قالت عائشة يا رسول الله أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يعاقب قال لا يا بنت الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه فخوفه من التقصير في الطاعة من كمال الطاعة والفرق بين تقلده حيا وميتا أنه في حياته كان رقيبا على نوابه متعقبا لأفعالهم يأمرهم بالحج كل عام ليحكم بينهم وبين الرعية فكان ما يفعلونه مما يكرهه يمكنه منعهم منه وتلافيه بخلاف ما بعد الموت فإنه لا يمكنه لا منعهم مما يكرهه ولا تلافي ذلك فلهذا كره تقلد الأمر ميتا
6
159
وأما تعيين الستة فهو عنده واضح بين لعلمه أنهم أحق الناس بهذا الأمر وأما قوله ثم ناقص فجعلها في أربعة ثم في ثلاثة ثم في واحد فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار بعد أن وصفه بالضعف والقصور فالجواب أولا أنه ينبغي لمن احتج بالمنقول أن يثبته أولا وإذا قال القائل هذا غير معلوم الصحة لم يكن عليه حجة والنقل الثابت في صحيح البخاري وغيره ليس فيه شيء من هذا بل هو يدل على نقيض هذا وأن الستة هم الذين جعلوا الأمر في ثلاثة ثم الثلاثة جعلوا الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف واحد منهم ليس لعمر في ذلك أمر وفي الحديث الثابت عن عمرو بن ميمون أن عمر بن الخطاب لما طعن قال إن الناس يقولون استخلف وإن الأمر إلى هؤلاء الستة الذين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض علي وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن مالك ويشهدهم
6
160(187/95)
عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء فإن أصابت الخلافة سعدا ولا فليستعن به من ولي فإني لم اعزله عن عجز ولا خيانة ثم قال أوصى الخليفة من بعدي بتقوى الله تعالى وأوصيه بالمهاجرين الأولين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم وأوصيه بالأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم وأوصيه بأهل الامصار خيرا فإنهم ردء الإسلام وغيظ العدو وجباة الأموال لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضا منهم وأوصيه بالأعراب خيرا فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يؤخذ منهم من حواشي أموالهم فترد على فقرائهم وأوصيه بذمه الله ورسوله أن يوفى لهم بعدهم ويقاتل من وراءهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم فقد وصى الخليفة من بعده بجميع أجناس الرعية السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وأوصاه بسكان الأمصار من المسلمين
6
161
وأوصاه بأهل البوادي وبأهل الذمة قال عمرو بن ميمون فلما قيب انطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر وقال يستأذن عمر بن الخطاب قالت أدخلوه فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن بن عوف اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم قال الزبير قد جعلت أمري إلى علي وقال طلحة قد جعلت أمري إلى عثمان وقال سعد قد جعلت أمرى إلى عبد الرحمن بن عوف وقال عبد الرحمن أيكم يبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضل من في نفسه فأسكت الشيخان فقال عبد الرحمن أتجعلونه إلي والله علي أن لا آلو عن أفضلكما قالا نعم فأخذ بيد أحدهما فقال لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت والله عليك لئن أمرتك لتعدلن ولئن أمرت عليك لتسمعن ولتطيعن ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك فلما أخذ الميثاق قال ارفع يدك يا عثمان فبايعه وبايع له علي وولج أهل الدار فبايعوه وفي الصحيحين من حديث المسور بن مخرمة قال أن الرهط
6
162(187/96)
الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا وقال لهم عبد الرحمن لست بالذي أنافسكم في هذا الأمر ولكن إن شئتم اخترت لكم منكم فجعلوا ذلك لعبد الرحمن بن عوف فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم مال الناس على عبد الرحمن حتى ما أرى أحدا من الناس يتبع أولئك الرهط الذين ولاهم عمر ولا يطأ عقبه قال ومال الناس إلى عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها قال المسور طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت فقال أراك نائما والله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم انطلق فادع لي الزبير وسعدا فدعوتهما فشاورهما ثم دعاني فقال ادع لي عليا فدعوته فناجاه حتى آبهار الليل ثم قام على من عنده وهو على طمع وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي
6
163
شيئا ثم قال ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح فلما صلى الناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر أرسل إلى من كان حاضرا من المهاجرين والأنصار وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال أما بعد يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلا فقال أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس والمهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون وأما قوله ثم قال إن اجتمع علي وعثمان فالقول ما قالاه وإن صاروا ثلاثة فالقول قول الذين صار فيهم عبد الرحمن لعلمه أن عليا وعثمان لا يجتمعان على أمر وأن عبد الرحمن لا يعدل بالأمر عن أخيه وعثمان وابن عمه فيقال له من الذي قال إن عمر قال ذلك وإن كان قد قال ذلك
6
164(187/97)
فلا يجوز أن يظن به أنه كان غرضه ولاية عثمان محاباة له ومنع علي معاداة له فإنه لو كان قصده هذا لولى عثمان ابتداء ولم ينتطح فيها عنزان كيف والذين عاشوا بعده قدموا عثمان بدون تعيين عمر له فلو كان عمر عينه لكانوا أعظم متابعة له وطاعة سواء كانوا كما يقوله المؤمنون أهل دين وخير وعدل أو كانوا كما يقوله المنافقون الطاعنون فيهم إن مقصودهم الظلم والشر لا سيما عمر كان في حال الحياة لا يخاف أحدا والرافضة تسميه فرعون هذه الأمة فإذا كان في حياته لم يخف من تقديم أبي بكر والأمر في أوله والنفوس لم تتوطن على طاعة أحد معين بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولا صار لعمر أمر فكيف يخاف من تقديم عثمان عند موته والناس كلهم مطيعوه وقد تمرنوا على طاعته فعلم أنه لو كان له غرض في تقديم عثمان لقدمه ولم يحتج إلى هذه الدورة البعيدة ثم أي غرض يكون لعمر رضي الله عنه في عثمان دون علي وليس بينه وبين عثمان من أسباب الصلة أكثر مما بينه وبين علي لا من جهة القبيلة ولا من غير جهة القبيله
6
165(187/98)
وعمر قد أخرج من الأمر ابنه ولم يدخل في الأمر ابن عمه سعيد بن زيد وهو أحد العشرة المشهود لأعيانهم بالجنة في حديث واحد وهم من قبيلة بني عدي ولا كان يولى من بني عدي أحدا بل ولى رجلا منهم ثم عزله وكان باتفاق الناس لا تأخذه في الله لومة لائم فأي داع يدعوه إلى محاباة زيد دون عمر وبلا غرض يحصله من الدنيا فمن أقصى عشيرته وأمر بأن الدين الذي عليه لا يوفى إلا من مال أقاربه ثم من مال بني عدي ثم من مال قريش ولا يؤخذ من بيت المال شيء ولا من سائر الناس فأي حاجة له إلى عثمان أو علي أو غيرهما حتى يقدمه وهو لا يحتاج إليه لا في أهله الذين يخلفهم ولا في دينه الذي عليه والإنسان إنما يحابي من يتولى بعده لحاجته إليه في نحو ذلك فمن لا يكون له حاجة لا إلى هذا ولا إلى هذا فأي داع يدعوه إلى ذلك لا سيما عند الموت وهو وقت يسلم فيه الكافر ويتوب فيه الفاجر فلو علم أن لعلي حقا دون غيره أو أنه أحق بالأمر من غيره لكان الواجب أن يقدمه حينئذ إما توبة إلى الله وإما تخفيفا للذنب فإنه إذا لم يكن له مانع دنيوي لم يبق إلا الدين فلو كان الدين يقتضي ذلك
6
166(187/99)
لفعله وإلا فليس في العادة أن الرجل يفعل ما يعلم أنه يعاقب عليه ولا ينتفع به لا في دين ولا دنيا بل لا يفعل ما لا غرض له فيه أصلا ويترك ما يحتاج إليه في دينه عند الموت مع صحة العقل وحضوره وطول الوقت ولو قدر والعياذ بالله أنه كان عدوا مبغضا للنبي صلى الله عليه وسلم غاية البغضة فلا ريب أنه نال بسبب النبي صلى الله عليه وسلم ما ناله من السعادة ولم يكن عمر ممن يخفي عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق مصدق فإنه كان من أذكى الناس ودلائل النبوة من أظهر الأمور فهو يعلم أنه أن استمر على معاداته يعذب في الآخرة وليس له وقت الموت غرض في ولاية عثمان ونحوه فكيف يصرف الأمر عن مستحقه لغير غرض وإن قيل إنه كان يخاف أن يقال إنه رجع وتاب كما خاف أبو طالب من الإسلام وقت الموت فيقال قد كان يمكنه ولاية على بلا إظهار توبة فإنه لو ولى عليا أو غيره لسمع الناس وأطاعوا ولم ينتطح في ذلك عنزان والإنسان قد يكون عليه مظالم فيؤديها على وجه لا يعرف أنه كان ظالما فيوصي وقت
6
167(187/100)
الموت لفلان بكذا ولفلان بكذا ويجعلها وصية ويكون إما معتقدا وإما خائفا أن يكون حقا واجبا عليه وليس لعمر من يخاف عليه بعد موته فإن أقاربه صرف الأمر عنهم وهو يعلم أن عليا أعدل وأتقى من أن يظلمهم ولو قدر أن عليا كان ينتقم من الذين لم يبايعوه أولا فبنو عدى كانوا أبعد الناس عن ذلك فإنه لم يكن لهم شوكة ولا كانوا كثيرين وهم كلهم محبون لعلي معظمون له ليس فيهم من يبغض عليا أو يبغضه علي ولا قتل على منهم أحدا لا في جاهليه ولا إسلام وكذلك بنو تيم كلهم يحبون عليا وعلي يحبهم ولم يقتل علي منهم أحدا في جاهلية ولا إسلام و يقال ثانيا عمر ما زال إذا روجع رجع وما زال يعترف غير مرة أنه يتبين له الحق فيرجع إليه فإن هذا توبة ويقول رجل أخطأ وامرأة أصابت ويجدد التوبة لما يعلم أنه يتاب منه فهذا كان يفعله في حال الحياة وهو ذو سلطان على الأرض فكيف لا يفعله وقت الموت وقد كان يمكنه أن يحتال لعلي بحيلة يتولى بها ولا يظهر ما به يذم كما أنه احتال لعثمان ولو علم أن الحق كان لعلي دون غيره لكان له طرق كثيرة في تعيينه تخفى على أكثر الناس
6
168(187/101)
وكذلك قول القائل إنه علم أن عليا وعثمان لا يجتمعان على أمر كذب على عمر رضي الله عنه ولم يكن بين عثمان وعلي نزاع في حياة عمر أصلا بل كان أحدهما أقرب إلى صاحبه من سائر الأربعة إليهما كلاهما من بني عبد مناف وما زال بنو عبد مناف يدا واحدة حتى أن أبا سفيان بن حرب أتى عليا عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يتولى الأمر لكون على كان ابن عم أبي سفيان وأبو سفيان كان فيه بقايا من جاهلي العرب يكره أن يتولى علي الناس رجل من غير قبيلته وأحب أن تكون الولاية في بني عبد مناف وكذلك خالد بن سعيد كان غائبا فلما قدم تكلم مع عثمان وعلي وقال أرضيتم أن يخرج الأمر عن بني عبد مناف وكل من يعرف الأمور العادية ويعرف ما تقدم من سيرة القوم يعلم أن بني هاشم وبني أمية كانوا في غاية الاتفاق في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر حتى أن أبا سفيان لما خرج من مكة عام الفتح يكشف الخبر ورآه العباس أخذه وأركبه خلفه وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وطلب من النبي أن يشرفه بشيء لما قال له إن
6
169
أبا سفيان رجل يحب الشرف وكل هذا من محبة العباس لأبي سفيان وبني أمية لأنهم كلهم بنو عبد مناف وحتى أنه كان بين علي وبين رجل آخر من المسلمين منازعة في حد فخرج عثمان في موكب فيهم معاوية ليقفوا على الحد فابتدر معاوية وسأل عن معلم من معالم الحد هل كان هذا على عهد عمر فقالوا نعم فقال لو كان هذا ظلما لغيره عمر فانتصر معاوية لعلي في تلك الحكومة ولم يكن علي حاضرا بل كان قد وكل ابن جعفر وكان علي يقول إن للخصومات قحما وإن الشيطان يحضرها وكان قد وكل عبد الله بن جعفر عنه في المحاكمة وبهذا احتج الشافعي وغير واحد من الفقهاء على جواز التوكيل في الخصومة بدون اختيار الخصم كما هو مذهب الشافعي وأصحاب أحمد وأحد القولين في مذهب أبي حنيفة فلما رجعوا ذكروا ذلك لعلي فقال أتدري لم فعل ذلك معاوية
6
170(187/102)
فعل لأجل المنافية أي لأجل أنا جميعا من بني عبد مناف وكانت قد وقعت حكومة شاورنى فيها بعض قضاة القضاة وأحضر لي كتابا فيه هذه الحكومة ولم يعرفوا هذه اللفظة لفظة المنافية فبينتها لهم وفسرت لهم معناها والمقصود أن بني عبد مناف كانوا متفقين في أول الأمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وإنما وقعت الفرقة بينهم وبعد ذلك لما تفرقوا في الإمارة كما أن بني هاشم كانوا متفقين على عهد الخلفاء الأربعة وعهد بني أمية وإنما حصلت الفرقة لما ولي بنو العباس وصار بينهم وبين بعض بني أبي طالب فرقة واختلاف وهكذا عادة الناس يكون القوم متفقين إذا لم يكن بينهم ما يتنازعون عليه من جاه أو مال أو غير ذلك وإن كان لهم خصم كانوا جميعا إلبا واحدا عليه فإذا صار الأمر إليهم تنازعوا واختلفوا فكان بنو هاشم من آل علي والعباس وغيرهم في الخلافة الأموية متفقين لا نزاع بينهم ولما خرج من يدعو إليهم صار يدعو إلى الرضا من آل محمد ولا يعينه وكانت العلوية تطمع أن تكون فيهم وكان جعفر ابن محمد وغيره قد علموا أن هذا الأمر لا يكون إلا في بني العباس فلما أزالوا الدولة الأموية وصارت الدولة هاشمية وبنى السفاح مدينة
6
171(187/103)
سماها الهاشمية ثم تولى المنصور وقع نزاع بين الهاشميين فخرج محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن حسن على المنصور وسير المنصور إليهما من يقاتلهما وكانت فتنة عظيمة قتل فيها خلق كثير ثم إن العباسيين وقع بينهم نزاع كما وقع بين الأمين والمأمون أمور أخر فهذه الأمور ونحوها من الأمور التي جرت بها العادة ثم إن عثمان وعليا جميعا اتفقا على تفويض الأمر إلى عبد الرحمن بن عوف من غير أن يكره أحدهما الآخر وقوله إن عمر علم أن عبد الرحمن لا يعدل الأمر عن أخيه وابن عمه فهذا كذب بين على وعمر وعلى أنسابهم فإن عبد الرحمن ليس أخا لعثمان ولا ابن عمه ولا من قبيلته أصلا بل هذا من بني زهرة وهذا من بني أمية وبنو زهرة إلى بني هاشم أكثر ميلا منهم إلى بني أميه فإن بني زهرة أخوال النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم عبد الرحمن بن
6
172
عوف وسعد بن أبي وقاص الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم هذا خالي فليرني امرؤ خاله ولم يكن أيضا بين عثمان وعبد الرحمن مؤاخاة ولا مخالطة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري ولا بين أنصاري وأنصاري وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار فآخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع الأنصاري وحديثه مشهور ثابت في الصحاح وغيرها يعرفه أهل العلم بذلك ولم يؤاخ قط بين عثمان وعبد الرحمن
6
173(187/104)
وأما قوله ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام فيقال أولا من قال إن هذا الصحيح وأين النقل الثابت بهذا وإنما المعروف أنه أمر الأنصار أن أن لايفارقوهم حتى يبايعوا واحدا منهم ثم يقال ثانيا هذا من الكذب على عمر ولم ينقل هذا أحد من أهل العلم بإسناد يعرف ولا أمر عمر قط بقتل الستة الذين يعلم أنهم خيار الأمة وكيف يأمر بقتلهم وإذا قتلوا كان الأمر بعد قتلهم أشد فسادا ثم لو أمر بقتلهم لقال ولوا بعد قتلهم فلانا وفلانا فكيف يأمر بقتل المستحقين للأمر ولا يولى بعدهم أحدا وأيضا فمن الذي يتمكن من قتل هؤلاء والأمة كلها مطيعة لهم والعساكر والجنود معهم ولو أرادت الأنصار كلهم قتل واحد منهم لعجزوا عن ذلك وقد أعاذ الله الأنصار من ذلك فكيف يأمر طائفة قليلة من الأنصار بقتل هؤلاء الستة جميعا ولو قال هذا عمر فكيف كان يسكت هؤلاء الستة ويمكنون الأنصار منهم ويجتمعون في موضع ليس فيه من ينصرهم ولو فرضنا أن الستة لم يتول واحد منهم لم يجب قتل أحد منهم بذلك بل تولى غيرهم وهذا عبد الله بن عمر كان دائما
6
174(187/105)
تعرض عليه الولايات فلا يتولى وما قتله أحد وقد عين للخلافة يوم الحكمين فتغيب عنه وما آذاه أحد قط وما سمع قط أن أحدا امتنع من الولاية فقتل على ذلك فهذا من اختلاق مفتر لا يدري ما يكتب لا شرعا ولا عادة ثم نقول جوابا مركبا لا يخلو إما أن يكون عمر أمر بهذا أو لم يكن أمر به فإن كان الأول بطل إنكاره وإن كان الثاني فليس كون الرجل من أهل الجنة أو كونه وليا لله مما يمنع قتله إذا اقتضى الشرع ذلك فإنه قد ثبت في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم الغامدية وقال لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله فهذه يشهد لها الرسول بذلك ثم لما كان الحد قد ثبت عليها أمر برجمها ولو وجب على الرجل قصاص وكان من أولياء الله وتاب من قتل العمد توبة نصوحا لوجب أن يمكن أولياء المقتول منه فإن شاءوا قتلوه ويكون قتله كفارة له
6
175
والتعزير بالقتل إذا لم تحصل المصلحة بدونه مسألة اجتهادية كقتل الجاسوس المسلم للعلماء فيه قولان معروفان وهما قولان في مذهب أحمد أحدهما يجوز قتله وهو مذهب مالك واختيار ابن عقيل والثاني لا يجوز قتله وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي واختيار القاضي أبي يعلى وغيره وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه وقال في شارب الخمر إن شربها في الرابعة فاقتلوه وقد تنازع العلماء في هذا الحكم هل هو منسوخ أم لا فلو قدر أن عمر أمر بقتل واحد من المهاجرين الأولين لكان ذلك منه على سبيل الاجتهاد السائغ له ولم يكن ذلك مانعا من كون ذلك الرجل في الجنة ولم يقدح لا في عدل هذا ولا في دخول هذا الجنة فكيف إذا لم يقع شيء من ذلك ثم من العجب أن الرافضة يزعمون أن الذين أمر عمر بقتلهم بتقدير صحة هذا النقل يستحقون القتل إلا عليا فإن كان عمر أمر بقتلهم فلماذا ينكرون عليه ذلك ثم يقولون إنه كان يحابيهم في الولاية ويأمر(187/106)
6
176
بقتلهم فهذا جمع بين الضدين وإن قلتم كان مقصوده قتل علي قيل لو بايعوا إلا عليا لم يكن ذلك يضر الولاية فإنما يقتل من يخاف وقد تخلف سعد بن عبادة عن بيعة أبي بكر ولم يضربوه ولم يحبسوه فضلا عن القتل وكذلك من يقول إن عليا وبني هاشم تخلفوا عن بيعة أبي بكر ستة أشهر يقول إنهم لم يضربوا أحدا منهم ولا أكرهوه على البيعة فإذا لم يكره أحد على مبايعة أبي بكر التي هي عنده متعينة فكيف يأمر بقتل الناس على مبايعة عثمان وهي عنده غير متعينة وأبو بكر وعمر مدة خلافتهما ما زالا مكرمين غاية الإكرام لعلي وسائر بني هاشم يقدمونهم على سائر الناس ويقول أبو بكر أيها الناس ارقبوا محمدا في أهل بيته وأبو بكر يذهب وحده إلى بيت علي وعنده بنو هاشم فيذكر لهم فضلهم ويذكرون له فضله ويعترفون له باستحقاقه الخلافة ويعتذرون من التأخر ويبايعونه وهو عندهم وحده والآثار المتواترة بما كان بين القوم من المحبة والائتلاف توجب كذب من نقل ما يخالف ذلك
6
177
ولو أراد أبو بكر وعمر في ولايتهما إيذاء علي بطريق من الطرق لكانا أقدر على ذلك من صرف الأمر عنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فهؤلاء المفترون يزعمون أنهم ظلموه في حال كان فيها أقدر على دفع الظلم عن نفسه ومنعهما من ظلمه وكانا أعجز عن ظلمه لو أرادا ذلك فهلا ظلماه بعد قوتهما ومطاوعة الناس لهما إن كانا مريدين لظلمه ومن العادة المعروفة أن من تولى ولاية وهناك من هو مرشح لها يخاف أن ينازعه أنه لا يقر حتى يدفعه عن ذلك إما بحبس وإما بقتل سرا أو علانية كما جرت عادة الملوك فإذا كانا يعلمان أنهما ظالمان له وهو مظلوم يعرف أنه مظلوم وهو مريد للولاية فلا بد أن يخافا منه فكان ينبغي لو كان هذا حقا أن يسعيا في قتله أو حبسه ولو بالحيلة وهذا أو أراداه لكان أسهل عليهما من منعه ابتداء مع وجود النص ولو أرادا تأميره على بعض الجيوش وأوصيا بعض أهل الجيوش أن يقتله
6
178(187/107)
ويسمه كان هذا ممكنا ففي الجملة دفع المتولى لمن يعرف أنه ينازعه ويقول إنه أحق بالأمر منه أمر لا بد منه وذلك بأنواع من إهانة وإيذاء وحبس وقتل وإبعاد وعلي رضي الله عنه ما زالا مكرمين له غاية الإكرام بكل طريق مقدمين له بل ولسائر بني هاشم على غيرهم في العطاء مقدمين له في المرتبة والحرمة والمحبة والموالاة والثناء والتعظيم كما يفعلان بنظرائه ويفضلانه بما فضله الله عز وجل به على من ليس مثله ولم يعرف عنهم كلمة سوء في علي قط بل ولا في أحد من بني هاشم ومن المعلوم أن المعاداة التي في القلب توجب إرادة الأذى لمن يعادي فإذا كان الإنسان قادرا اجتمعت القدرة مع الإرادة الجازمة وذلك يوجب وجود المقدور فلو كانا مريدين بعلي سوءا لكان ذلك مما يوجب ظهوره لقدرتهما فكيف ولم يظهر منهما إلا المحبة والموالاة وكذلك علي رضي الله عنه قد تواتر عنه من محبتهما وموالاتهما وتعظيمهما وتقديمهما على سائر الأمة ما يعلم به حاله في ذلك ولم يعرف عنه قط كلمة سوء في حقهما ولا أنه كان أحق بالأمر منهما وهذا معروف عند من عرف الأخبار الثابتة المتواترة عند الخاصة والعامة والمنقولة بأخبار الثقات
6
179(187/108)
وأما من رجع إلى ما ينقله من هو من أجهل الناس بالمنقولات وأبعد الناس عن معرفة أمور الإسلام ومن هو معروف بافتراء الكذب الكثير الذي لا يروج إلا على البهائم ويروج كذبه على قوم لا يعرفون الإسلام إما قوم سكان البوادي أو رءوس الجبال أو بلد أهله من أقل الناس علما وأكثرهم كذابا فهذا هو الذي يضل وهكذا الرافضة لا يتصور قط أن مذهبهم يروج على أهل مدينة كبيرة من مدائن المسلمين فيها أهل علم ودين وإنما يروج على جهال سكنوا البوادي والجبال أو على محلة في مدينة أو بليدة أو طائفة يظهرون للناس خلاف ما يبطنون لظهور كذبهم حتى أن القاهرة لما كانت مع العبيديين وكانوا يظهرون التشيع لم يتمكنوا من ذلك حتى منعوا من فيها من أهل العلم والدين من إظهار علمهم ومع هذا فكانوا خائفين من سائر مدائن المسلمين يقدم عليهم الغريب من البلد البعيد فيكتمون عنه قولهم ويداهنونه ويتقونه كما يخاف الملك المطاع وهذا لأنهم أهل فرية وكذب وقد قال تعالى إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين سورة الأعراف قال ابو قلابة هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة وكذلك قوله أمر بقتل من خالف الأربعة وأمر بقتل من خالف الثلاثة منهم عبد الرحمن
6
180(187/109)
فيقال هذا من الكذب المفترى ولو قدر أنه فعل ذلك لم يكن عمر قد خالف الدين بل يكون قد أمر بقتل من يقصد الفتنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان والمعروف عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقتل من أراد أن ينفرد عن المسلمين ببيعة بلا مشاورة لأجل هذا الحديث وأما قتل الواحد المتخلف عن البيعة إذا لم تقم فتنة فلم يأمر عمر بقتل مثل هذا ولا يجوز قتل مثل هذا وكذلك ما ذكره من الإشارة إلى قتل عثمان ومن الإشارة إلى ترك ولاية علي كذب بين على عمر فإن قوله لئن فعلت ليقتلنك الناس إخبار عما يفعله الناس ليس فيه أمر لهم بذلك وكذلك قوله لا يولونه إياها إخبار عما سيقع ليس فيه نهي لهم عن الولاية مع أن هذا اللفظ بهذا السياق ليس بثابت عن عمر بل هو كذب عليه والله تعالى أعلم
6
181
فصل قال الرافضي وأما عثمان فإنه ولى أمور المسلمين من لا يصلح للولاية حتى ظهر من بعضهم الفسوق ومن بعضهم الخيانة وقسم الولايات بين أقاربه وعوتب على ذلك مرارا فلم يرجع واستعمل الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر وصلى بالناس وهو سكران واستعمل سعيد بن العاص على الكوفة وظهر منه ما أدى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها وولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر حتى تظلم منه أهلها وكاتبه أن يستمر على ولايته سرا خلاف ما كتب إليه جهرا وأمر بقتل محمد بن أبي بكر وولى معاوية الشام فأحدث من الفتن ما أحدث وولى عبد الله بن عامر البصرة
6
182(187/110)
ففعل من المناكير ما فعل وولى مروان أمره وألقى إليه مقاليد أموره ودفع إليه خاتمه فحدث من ذلك قتل عثمان وحدث من الفتنة بين الأمة ما حدث وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال حتى أنه دفع إلى أربعة نفر من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار ودفع إلى مروان ألف ألف دينار وكان ابن مسعود يطعن عليه ويكفره ولما حكم ضربه حتى مات وضرب عمارا حتى صار به فتق وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم عمار جلدة بين عيني تقتله الفئة الباغية لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة وكان عمار يطعن عليه وطرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة ومعه ابنه مروان فلم يزل هو وابنه طريدا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما ولي عثمان آواه ورده إلى المدينة وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره مع أن الله تعالى قال لا تجد قوما يؤمنون بالله
6
183
واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم الآية سورة المجادلة ونفى أبا ذر إلى الربذة وضربه ضربا وجيعا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حقه ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر وقال إن الله أوحى إلى أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم فقيل من هم يا رسول الله قال سيدهم علي وسلمان والمقداد وأبو ذر وضيع حدود الله فلم يقتل عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان مولى أمير المؤمنين بعد إسلامه وكان أمير المؤمنين يطلب عبيد الله لإقامة القصاص عليه فلحق بمعاوية وأراد أن يعطل حد الشرب في الوليد بن عقبة حتى حده أمير المؤمنين وقال لا يبطل حد الله وأنا حاضر وزاد الأذان الثاني يوم الجمعة وهو بدعة وصار سنة
6
184(187/111)
إلى الآن وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل وعابوا أفعاله وقالوا له غبت عن بدر وهربت يوم أحد ولم تشهد بيعة الرضوان والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى والجواب أن يقال نواب علي خانوه وعصوه أكثر مما خان عمال عثمان له وعصوه وقد صنف الناس كتبا فيمن ولاه علي فأخذ المال وخانه وفيمن تركه وذهب إلى معاوية وقد ولى علي رضي الله عنه زياد بن أبي سفيان أبا عبيدالله بن زياد قاتل الحسين وولي الأشتر النخعي وولى محمد بن أبي بكر وأمثال هؤلاء ولا يشك عاقل أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كان خيرا من هؤلاء كلهم ومن العجب أن الشيعة ينكرون على عثمان ما يدعون أن عليا كان أبلغ فيه من عثمان فيقولون إن عثمان ولى أقاربه من بني أمية ومعلوم أن عليا ولى أقاربه من قبل أبيه وأمه كعبد الله وعبيد الله ابنى العباس فولى عبيد الله بن عباس على اليمن وولى على مكة والطائف قثم ابن العباس وأما المدينة فقيل إنه ولى عليها سهل بن حنيف وقيل ثمامة بن العباس وأما البصرة فولى عليها عبد الله بن عباس وولى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي رباه في حجره ثم إن الإمامية تدعي أن عليا نص على أولاده في الخلافة أو على
6
185
ولده وولده على ولده الآخر وهلم جرا ومن المعلوم أنه إن كان توليه الأقربين منكرا فتولية الخلافة العظمى أعظم من إمارة بعض الأعمال وتولية الأولاد أقرب إلى الإنكار من تولية بني العم ولهذا كان الوكيل والوالي الذي لا يشترى لنفسه لا يشترى لابنه أيضا في أحد قولي العلماء والذي دفع إليه المال ليعطيه لمن يشاء لا يأخذه لنفسه ولا يعطيه لولده في أحد قوليهم وكذلك تنازعوا في الخلافة هل للخليفة أن يوصي بها لولده على قولين والشهادة لابنه مردودة عند أكثر العلماء ولا ترد الشهادة لبني عمه وهكذا غير ذلك من الأحكام وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنت ومالك لأبيك وقال ليس لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهبه لولده
6
186(187/112)
فإن قالوا إن عليا رضي الله عنه فعل ذلك بالنص قيل أولا نحن نعتقد أن عليا خليفة راشد وكذلك عثمان لكل قبل أن ينعلم حجة كل منهما فيما فعل فلا ريب أن تطرق الظنون والتهم إلى ما فعله على أعظم من تطرق التهم والظنون إلى ما فعله عثمان وإذا قال القائل لعلي حجة فيما فعله قيل له وحجة عثمان فيما فعله أعظم وإذا ادعى لعلي العصمة ونحوها مما يقطع عنه ألسنة الطاعنين كان ما يدعى لعثمان من الاجتهاد الذي يقطع ألسنة الطاعنين أقرب إلى المعقول والمنقول فإن الرافضي يجيء إلى أشخاص ظهر بصريح المعقول وصحيح المنقول أن بعضهم أكمل سيرة من بعض فيجعل الفاضل مذموما مستحقا للقدح ويجعل المفضول معصوما مستحقا للمدح كما فعلت النصارى يجيئون إلى الأنبياء صلوات الله عليهم وقد فضل الله بعضهم
6
187(187/113)
على بعض فيجعلون المفضول إلها والفاضل منقوصا دون الحواريين الذين صحبوا المسيح فيكون ذلك قلبا للحقائق وأعجب من ذلك أنهم يجعلون الحواريين الذين ليسوا أنبياء معصومين عن الخطأ ويقدحون في بعض الأنبياء كسليمان وغيره ومعلوم أن إبراهيم ومحمدا أفضل من نفس المسيح صلوات الله وسلامه عليهم بالدلائل الكثيرة بل وكذلك موسى فكيف يجعل الذين صحبوا المسيح أفضل من إبراهيم ومحمد وهذا من الجهل والغلو الذي نهاهم الله عنه قال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه سورة النساء وكذلك الرافضة موصفون بالغلو عند الأمة فإن فيهم من أدعى الإلهية في علي وهؤلاء شر من النصارى وفيهم من أدعى النبوة فيه ومن أثبت نبيا بعد محمد فهو شبيه بأتباع مسيلمة الكذاب وأمثاله من المتنبئين إلا أن عليا رضي الله عنه بريء من هذه الدعوة بخلاف من أدعى النبوة لنفسه كمسيلمة وأمثاله وهؤلاء الإمامية يدعون ثبوت إمامته بالنص وأنه كان معصوما هو وكثير من ذريته وأن القوم ظلموه وغصبوه ودعوى العصمة تضاهي المشاركة في النبوة فإن المعصوم يجب
6
188(187/114)
اتباعه في كل ما يقول لا يجوز أن يخالف في شيء وهذه خاصة الأنبياء ولهذا أمرنا أن نؤمن بما أنزل اليهم فقال تعالى قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسي وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون سورة البقرة فأمرنا أن نقول آمنا بما أوتي النبيون وقال تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير سورة البقرة وقال تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبين سورة البقرة فالإيمان بما جاء به النبيون مما أمرنا أن نقوله ونؤمن به وهذا مما اتفق عليه المسلمون أنه يجب الإيمان بكل نبي ومن كفر بنبي واحد فهو كافر ومن سبه وجب قتله باتفاق العلماء وليس كذلك من سوى الأنبياء سواء سموا أولياء أو أئمة أو حكماء أو علماء أو غير ذلك فمن جعل بعد الرسول معصوما يجب الإيمان بكل ما يقوله فقد أعطاه معنى النبوة وإن لم يعطه لفظها ويقال لهذا ما الفرق بين هذا وبين أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا
6
189
مأمورين باتباع شريعة التوراة وكثير من الغلاة في المشايخ يعتقد أحدهم في شيخه نحو ذلك ويقولون الشيخ محفوظ ويأمرون باتباع الشيخ في كل ما يفعل لا يخالف في شيء أصلا وهذا من جنس غلو الرافضة والنصارى والإسماعيلية تدعى في أئمتها أنهم كانوا معصومين وأصحاب ابن تومرت الذي ادعى أنه المهدى يقولون إنه معصوم ويقولون في خطبة الجمعة الإمام المعصوم والمهدي المعلوم ويقال إنهم قتلوا بعض من أنكر أن يكون معصوما ومعلوم أن كل هذه الأقوال مخالفة لدين الإسلام للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها فإن الله تعالى يقول أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله
6
190(187/115)
والرسول الآية سورة النساء فلم يأمرنا بالرد عند التنازع إلا إلى الله والرسول فمن أثبت شخصا معصوما غير الرسول أوجب رد ما تنازعوا فيه إليه لأنه لا يقول عنده إلا الحق كالرسول وهذا خلاف القرآن وأيضا فإن المعصوم تجب طاعته مطلقا بلا قيد ومخالفة يستحق الوعيد والقرآن إنما أثبت هذا في حق الرسول خاصة قال تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا سورة النساء وقال ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا سورة الجن فدل القرآن في غير موضع على أن من أطاع الرسول كان من أهل السعادة ولم يشترط في ذلك طاعة معصوم آخر ومن عصى الرسول كان من أهل الوعيد وإن قدر أنه أطاع من ظن أنه معصوم فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فرق الله به بين أهل الجنة وأهل النار وبين الأبرار والفجار وبين الحق والباطل وبين الغي والرشاد والهدى والضلال وجعله القسيم الذي قسم الله به عباده إلى شقى وسعيد فمن اتبعه فهو السعيد ومن خالفه فهو الشقى وليست هذه المرتبة لغيره ولهذا اتفق أهل العلم أهل الكتاب والسنة على أن كل شخص
6
191(187/116)
سوى الرسول فإنه يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يجب تصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل أمر فإنه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وهو الذي يسأل الناس عنه يوم القيامة كما قال تعالى فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين سورة الأعراف وهو الذي يمتحن به الناس في قبورهم فيقال لأحدهم من ربك وما دينك ومن نبيك ويقال ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فيقول هو عبد الله ورسوله جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه ولو ذكر بدل الرسول من ذكره من الصحابة والأئمة والتابعين والعلماء لم ينفعه ذلك ولا يمتحن في قبره بشخص غير الرسول والمقصود هنا أن ما يعتذر به عن علي فيما أنكر عليه يعتذر بأقوى منه عن عثمان فإن عليا قاتل على الولاية وقتل بسبب ذلك خلق كثير عظيم ولم يحصل في ولايته لا قتال للكفار ولا فتح لبلادهم ولا كان المسلمون في زيادة خير وقد ولى من أقاربه من ولاه فولاية الأقارب مشتركة ونواب عثمان كانوا أطوع من نواب على وأبعد عن
6
192(187/117)
الشر وأما الأموال التي تأول فيها عثمان فكما تأول على في الدماء وأمر الدماء أخطر وأعظم ويقال ثانيا هذا النص الذي تدعونه أنتم فيه مختلفون اختلافا يوجب العلم الضروري بأنه ليس عندكم ما يعتمد عليه فيه بل كل قوم منكم يفترون ما شاءوا وأيضا فجماهير المسلمين يقولون إنا نعلم علما يقينا بل ضروريا كذب هذا النص بطرق كثيرة مبسوطة في مواضعها ويقال فجماهير المسلمين يقولون إنا نعلم علما يقينا بل ضروريا كذب هذا النص بطرق كثيرة مبسوطة في مواضعها ويقال ثالثا إذا كان كذلك ظهرت حجة عثمان فإن عثمان يقول إن بني أمية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعملهم في حياته وإستعملهم بعده من لا يتهم بقرابة فيهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من بني عبد شمس لأنهم كانوا كثيرين وكان فيهم شرف وسؤدد فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم في عزة الإسلام على أفضل الأرض مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية واستعمل على نجران أبا سفيان بن حرب بن أمية واستعمل أيضا خالد بن سعيد بن العاص على صدقات بني مذحج
6
193(187/118)
وعلى صنعاء اليمن فلم يزل عليها حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعمل عثمان بن سعيد بن العاص على تيماء وخيبر وقرى عرينة واستعمل أبان بن سعيد بن العاص على بعض السرايا ثم استعمله على البحرين فلم يزل عليها بعد العلاء بن الحضرمي حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط حتى أنزل الله فيه إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة الآية سورة الحجرات فيقول عثمان أنا لم استعمل إلا من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم منهم ومن جنسهم ومن قبيلتهم وكذلك أبو بكر وعمر بعده فقد ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان بن حرب في فتوح الشام وأقره عمر ثم ولى عمر بعده أخاه معاوية وهذا النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في استعمال هؤلاء ثابت مشهور عنه بل متواتر عند أهل العلم ومنه متواتر عند علماء الحديث ومنه ما يعرفه العلماء منهم ولا ينكره أحد منهم فكان الاحتجاج على جواز الاستعمال من بني أمية بالنص الثابت عن
6
194(187/119)
النبي صلى الله عليه وسلم أظهر عند كل عاقل من دعوى كون الخلافة في واحد معين من بني هاشم بالنص لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل وذاك صدق باتفاق أهل العلم بالنقل وأما بنو هاشم فلم يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم منهم إلا على ابن أبي طالب رضي الله عنه على اليمن وولى أيضا على اليمن معاذ ابن جبل وأبا موسى الأشعري وولى جعفر بن أبي طالب على قتال مؤتة وولى قبل جعفر زيد بن حارثة مولاه وقيل عبد الله بن رواحة فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم في الولاية زيد بن حارثة مولاه وهو من كلب على جعفر بن أبي طالب وقد روى أن العباس سأله ولاية فلم يوله إياها وليس في بني هاشم بعد علي أفضل من حمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث بن المطلب الذي قتل يوم بدر فحمزة لم يتول شيئا فإنه قتل يوم أحد شهيدا رضي الله عنه وما ينقله بعض الترك بل وشيوخهم من سيرة حمزة ويتداولونها بينهم ويذكرون له حروبا وحصارات وغير ذلك فكله كذب من جنس ما يذكره الذاكرون من الغزوات المكذوبة على علي بن أبي
6
195
طالب بل وعلى النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ما يذكره أبو الحسن البكري صاحب تنقلات الأنوار فيما وضعه من السيرة فإنه من جنس ما يفتريه الكذابون من سيرة داهمة والبطالين والعيارين ونحو ذلك فإن مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفة مضبوطة عند أهل العمل وكانت بضعا وعشرين غزوه لكن لم يكن القتال منها إلا في تسع مغاز بدر وأحد والخندق وبني المصطلق والغابة وفتح خيبر وفتح مكة وحنين والطائف وهي آخر غزوات القتال لكن لما حاصر الطائف وكان بعدها غزوة تبوك وهي آخر المغازي وأكثرها عددا وأشقها على الناس وفيها أنزل الله سورة براءة لكن لم يكن فيها قتال وما يذكره جهال الحجاج من حصار تبوك كذب لا أصل له فلم يكن بتبوك حصن ولا مقاتلة وقد أقام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
6
196(187/120)
عشرين ليلة ثم رجع إلى المدينة النبوية وإذا كان جعفر أفضل بني هاشم بعد على في حياته ثم مع هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وهو من كلب عليه علم أن التقديم بفضيلة الإيمان والتقوى وبحسب أمور أخر بحسب المصلحة لا بالنسب ولهذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر على أقاربه لأن رسول الله يأمر بأمر الله ليس من الملوك الذين يقدمون بأهوائهم لأقاربهم ومواليهم وأصدقائهم وكذلك كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حتى قال عمر من أمر رجلا لقرابة أو صداقة بينهما وهو يجد في المسلمين خيرا منهم فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين فصل والقاعدة الكلية في هذا أن لا نعتقد أن أحدا معصوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم بل الخلفاء وغير الخلفاء يجوز عليهم الخطأ والذنوب التي تقع منهم قد يتوبون منها وقد تكفر عنهم بحسناتهم الكثيرة وقد يبتلون أيضا بمصائب يكفر الله عنهم بها
6
197
وقد يكفر عنهم بغير ذلك فكل ما ينقل عن عثمان غايته أن يكون ذنبا أو خطأ وعثمان رضي الله عنه قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة منها سابقته وإيمانه وجهاده وغير ذلك من طاعاته وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بل بشره بالجنة على بلوى تصيبه ومنها أنه تاب من عامة ما أنكروه عليه وأنه ابتلى ببلاء عظيم فكفر الله به خطاياه وصبر حتى قتل شهيدا مظلوما وهذا من أعظم ما يكفر الله به الخطايا وكذلك علي رضي الله عنه ما تنكره الخوارج وغيرهم عليه غايته أن يكون ذنبا أو خطأ وكان قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة منها سابقته وإيمانه وجهاده وغير ذلك من طاعته وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة ومنها أنه تاب من أمور كثيرة أنكرت عليه وندم
6
198(187/121)
عليها ومنها أنه قتل مظلوما شهيدا فهذه القاعدة تغنينا أن نجعل كل ما فعل واحد منهم هو الواجب أو المستحب من غير حاجة بنا إلى ذلك والناس المنحرفون في هذا الباب صنفان القادحون الذين يقدحون في الشخص بما يغفره الله له والمادحون الذين يجعلون الأمور المغفورة من باب السعي المشكور فهذا يغلو في الشخص الواحد حتى يجعل سيئاته حسنات وذلك يجفو فيه حتى يجعل السيئة الواحدة منه محبطة للحسنات وقد أجمع المسلمون كلهم حتى الخوارج على أن الذنوب تمحى بالتوبة وأن منها ما يمحى بالحسنات وما يمكن أحد أن يقول إن عثمان أو عليا أو غيرهما لم يتوبوا من ذنوبهم فهذه حجة على الخوارج الذين يكفرون عثمان وعليا وعلى الشيعة الذين يقدحون في عثمان وغيره وعلى الناصبة الذين يخصون عليا بالقدح ولا ريب أن عثمان رضي الله عنه تقابلت فيه طائفتان شيعته من بني أمية وغيرهم ومبغضوه من الخوارج والزيدية والإمامية وغيرهم
6
199
لكن شيعته أقل غلوا فيه من شيعة علي فما بلغنا أن أحدا منهم اعتقد فيه بخصوصه إلاهية ولا نبوة ولا بلغنا أن أحدا اعتقد ذلك في أبي بكر وعمر لكن قد يكون بعض من يغلو في جنس المشايخ ويعتقد فيهم الحلول أو الأتحاد أو العصمة يقول ذلك في هؤلاء لكن لا يخصهم بذلك ولكن شيعة عثمان الذين كان فيهم انحراف عن علي كان كثير منهم يعتقد أن الله إذا استخلف خليفة يقبل منه الحسنات ويتجاوز له عن السيئات وأنه يجب طاعته في كل ما يأمر به وهو مذهب كثير من شيوخ الشيعة العثمانية وعلمائها ولهذا لما حج سليمان بن عبد الملك وتكلم مع أبي حازم في ذلك قال له أبو حازم يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب سورة ص وموعظة أبي حازم لسليمان معروفة
6
200(187/122)
ولما توفى عمر بن عبد العزيز أظهر من السنة والعدل ما كان قد خفى ثم مات فطلب يزيد بن عبد الملك أن يسير سيرته فجاء إليه عشرون شيخا من شيوخ الشيعة العثمانية فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو أن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات حتى أمسك عن مثل طريقة عمر بن عبد العزيز ولهذا كانت فيهم طاعة مطلقة لمتولي أمرهم فإنهم كانوا يرون أن الله أوجب عليهم طاعة ولي أمرهم مطلقا وأن الله لا يؤاخذه على سيئاته ولم يبلغنا أن أحدا منهم كان يعتقد فيهم أنهم معصومون بل يقولون إنهم لا يؤاخذون على ذنب كأنهم يرون أن سيئات الولاة مكفرة بحسناتهم كما تكفر الصغائر باجتناب الكبائر فهؤلاء إذا كانوا لا يرون خلفاء بني أمية معاوية فمن بعده مؤاخذين بذنب فكيف يقولون في عثمان مع سابقته وفضله وحسن سيرته وعدله وأنه من الخلفاء الراشدين وأما الخوارج فأولئك يكفرون عثمان وعليا جميعا ولم يكن لهم اختصاص بذم عثمان وأما شيعة علي فكثير منهم أو أكثرهم يذم عثمان حتي الزيدية اللذين يترحمون على أبي بكر وعمر فيهم من يسب عثمان ويذمه وخيارهم الذي يسكت عنه فلا يترحم عليه ولا يلعنه
6
201(187/123)
وقد كان من شيعة عثمان من يسب عليا ويجهر بذلك على المنابر وغيرها لأجل القتال الذي كان بينهم وبينه وكان أهل السنة من جميع الطوائف تنكر ذلك عليهم وكان فيهم من يؤخر الصلاة عن وقتها فكان المتمسك بالسنة يظهر محبة علي وموالاته ويحافظ على الصلاة في مواقيتها حتى رئي عمرو بن مرة الجملي وهو من خيار أهل الكوفة شيخ الثوري وغيره بعد موته فقيل له ما فعل الله بك فقال فغر لي بحب علي بن أبي طالب ومحافظتي على الصلاة في مواقيتها وغلت شيعة علي في الجانب الآخر حتى صاروا يصلون العصر مع الظهر دائما قبل وقتها الخاص ويصلون العشاء مع المغرب دائما قبل وقتها الخاص فيجمعون بين الصلاتين دائما في وقت الأولى وهذا خلاف المتواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الجمع إنما كان يفعله لسبب لا سيما الجمع في وقت الأولى فإن الذي تواتر عند الأئمة أنه فعله بعرفة وأما ما فعله بغيرها ففيه نزاع ولا خلاف أنه لم يكن يفعله دائما لا في الحضر ولا في السفر بل في حجة الوداع لم يجمع إلا بعرفة ومزدلفة ولكن روى عنه الجمع في غزوة تبوك وروى أيضا أنه جمع بالمدينة لكن نادرا لسبب والغالب عليه ترك الجمع فكيف يجمع بين الصلاتين دائما وأولئك إذا كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر فهو خير من تقديم العصر إلى وقت الظهر فإن جمع التأخير خير من جمع التقديم فإن
6
202(187/124)
الصلاة يفعلها النائم والناسي قضاء بعد الوقت وأما الظهر قبل الزوال فلا تصلى بحال وهكذا تجد في غالب الأمور بدع هؤلاء أشنع من بدع أولئك ولم يكن أحد منهم يتعرض لأبي بكر وعمر إلا بالمحبة والثناء والتعظيم ولا بلغنا أن أحدا منهم كفر عليا كما كفرته الخوارج الذين خرجوا عليه من أصحابه وإنما غاية من يعتدى منهم على علي رضي الله عنه أن يقول كان ظالما ويقولون لم يكن من الخلفاء ويروون عنه أشياء من المعاونة على قتل عثمان والإشارة بقتله في الباطن والرضا بقتله وكل ذلك كذب علي علي رضي الله عنه وقد حلف رضي الله عنه وهو الصادق بلا يمين أنه لم يقتل عثمان ولا مالا على قتله بل ولا رضي بقتله وكان يلعن قتله عثمان وأهل السنة يعلمون ذلك منه بدون قوله فهو أتقى لله من أن يعين على قتل عثمان أو يرضى بذلك فما قالته شيعه على في عثمان أعظم مما قالته شيعة عثمان في علي فإن كثيرا منهم يكفر عثمان وشيعة عثمان لم تكفر عليا ومن لم يكفره يسبه ويبغضه أعظم مما كانت شيعة عثمان تبغض عليا وأهل السنة يتولون عثمان وعليا جميعا ويتبرؤون من التشيع والتفرق في الدين الذي يوجب موالاة أحدهما ومعاداة الآخر وقد استقر أمر أهل السنة على أن هؤلاء مشهود لهم بالجنة ولطلحة الزبير وغيرهما
6
203(187/125)
ممن شهد له الرسول بالجنة كما قد بسط في موضعه وكان طائفة من السلف يقولون لا نشهد بالجنة إلا الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة وهذا قول محمد بن الحنفية والأوزاعي وطائفة أخرى من أهل الحديث كعلي بن المديني وغيره يقولون هم في الجنة ولا يقولون نشهد لهم بالجنة والصواب أنا نشهد لهم بالجنة كما استقر على ذلك مذهب أهل السنة وقد ناظر أحمد بن حنبل لعلي بن المديني في هذه المسألة وهذا معلوم عندنا بخبر الصادق وهذه المسألة لبسطها موضع آخر والكلام هنا فيما يذكر عنهم من أمور يراد بها الطعن عليهم فطائفة تغلو فيهم فتريد أن تجعلهم معصومين أو كالمعصومين وطائفة تريد أن تسبهم وتذمهم بأمور إن كانت صدقا فهم مغفور لهم أو هم غير مؤاخذين بها فإنه ما ثم إلا ذنب أو خطأ في الاجتهاد والخطأ قد رفع الله المؤاخذة به عن هذه الأمة والذنب لمغفرته عدة أسباب كانت موجودة فيهم وهما أصلان عام وخاص أما العام فإن الشخص الواحد يجتمع فيه أسباب الثواب والعقاب عند عامة
6
204(187/126)
المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين والنزاع في ذلك مع الخوارج والمعتزلة الذين يقولون ما ثم إلا مثاب في الآخرة أو معاقب ومن دخل النار لم يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها ويقولون إن الكبيرة تحبط جميع الحسنات ولا يبقى مع صاحبها من الإيمان شيء وقد ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم إخراج قوم من النار بعد ما امتحشوا وثبت أيضا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته والآثار بذلك متواترة عند أهل العلم بالحديث أعظم من تواتر الآثار بنصاب السرقة ورجم الزاني المحصن ونصب الزكاة ووجوب الشفعة وميراث الجدة وأمثال ذلك لكن هذا الأصل لا يحتاج اليه في مثل عثمان وأمثاله ممن شهد له بالجنة وأن الله رضي عنه وأنه لا يعاقبه في الآخرة بل نشهد أن العشرة في الجنة وأن أهل بيعة الرضوان في الجنة وأن أهل بدر في الجنة كما ثبت الخبر بذلك عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن إلهوى إن هو إلا وحي يوحى وقد دخل في الفتنة خلق من
6
205
هؤلاء المشهود لهم بالجنة والذي قتل عمار بن ياسر هو أبو الغادية وقد قيل إنه من أهل بيعة الرضوان ذكر ذلك ابن حزم فنحن نشهد لعمار بالجنة ولقاتله إن كان من أهل بيعة الرضوان بالجنة وأما عثمان وعلي وطلحة والزبير فهم أجل قدرا من غيرهم ولو كان منهم ما كان فنحن لا نشهد أن الواحد من هؤلاء لا يذنب بل الذي نشهد به أن الواحد من هؤلاء إذا أذنب فإن الله لا يعذبه في الآخرة ولا يدخله النار بل يدخله الجنة بلا ريب وعقوبة الآخر تزول عنه إما بتوبة منه وأما بحسناته الكثيرة وإما بمصائبه المكفرة وأما بغير ذلك كما قد بسطناه في موضعه فإن الذنوب مطلقا من جميع المؤمنين هي سبب العذاب لكن العقوبة بها في الآخرة في جهنم تندفع بنحو عشرة أسباب
6
206(187/127)
السبب الأول التوبة فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له والتوبة مقبولة من جميع الذنوب الكفر والفسوق والعصيان قال الله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف سورة الأنفال وقال تعالى فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين سورة التوربة وقال تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا اله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم سورة المائدة وقال إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق سورة البروج قال الحسن البصري انظروا إلى هذا الكرم والجود فتنوا أولياءه وعذبوهم بالنار ثم هو يدعوهم إلى التوبة والتوبة عامة لكل عبد مؤمن كما قال تعالى وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما سورة الأحزاب وقد أخبر الله في كتابه عن توبة أنبيائه ودعائهم بالتوبة كقوله فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم سورة
6
207(187/128)
البقرة وقول إبراهيم وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمه مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم سورة البقرة وقال موسى أنت ولينا فأغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك سورة الأعراف وقوله رب إني ظلمت نفسي فأغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم سورة القصص وقوله تبت إليك وأنا أول المؤمنين سورة الأعراف وكذلك ما ذكره في قصة داود وسليمان وغيرهما وأما المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فكثير مشهور وأصحابه كانوا أفضل قرون الأمة فهم أعرف القرون بالله وأشدهم له خشية وكانوا أقوم الناس بالتوبة في حياته وبعد مماته فمن ذكر ما عيب عليهم ولم يذكر توبتهم التي بها رفع الله درجتهم كان ظالما لهم كما جرى من بعضهم يوم الحديبية وقد تابوا منه مع أنه كان قصدهم الخير وكذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة تاب منها بل زانيهم كان يتوب توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له كما تاب ماعز بن مالك وأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى
6
208
طهره بإقامة الحد عليه وكذلك الغامدية بعده وكذلك كانوا زمن عمر وغيره إذا شرب أحدهم الخمر أتى إلى أميره فقال طهرني وأقم على الحد فهذا فعل من يأتي الكبيرة منهم حين يعلمها حراما فكيف إذا أتى احدهم الصغيرة أو ذنبا تأول فيه ثم تبين له خطؤه وعثمان بن عفان رضي الله عنه تاب توبة ظاهرة من الأمور التي صاروا ينكرونها ويظهر له أنها منكر وهذا مأثور مشهور عنه رضي الله عنه وأرضاه وكذلك عائشة رضي الله عنها ندمت على مسيرها إلى البصرة وكانت إذا ذكرته تبكي حتى تبل خمارها وكذلك طلحة ندم على ما ظن من تفريطه في نصر عثمان وعلي غير ذلك والزبير ندم على مسيره يوم الجمل
6
209(187/129)
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ندم على أمور فعلها من القتال وغيره وكان يقول لقد عجزت عجزة لا أعتذر سوف أكيس بعدها وأستمر وأجمع الرأي الشتيت المنتشر وكان يقول ليالي صفين لله در مقام قامه عبد الله بن عمر وسعد ابن مالك إن كان برا إن أجره لعظيم وإن كان إثما إن خطره ليسير وكان يقول يا حسن يا حسن ما ظن أبوك أن الأمر يبلغ إلى هذا ود أبوك لو مات قبل هذا بعشرين سنة ولما رجع من صفين تغير كلامه وكان يقول لا تكرهوا إمارة معاوية فلو قد فقدتموه لرأيتم الرؤوس تتطاير عن كواهلها وقد روى هذا عن علي رضي الله عنه من وجهين أو ثلاثة وتواترت الاثار بكراهته الأحوال في آخر الأمر ورؤيته اختلاف الناس وتفرقهم وكثرة الشر الذي أوجب أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما فعل ما فعل وبالجملة ليس علينا أن نعرف كل واحد تاب ولكن نحن نعلم أن التوبة مشروعة لكل عبد للأنبياء ولمن دونهم وأن الله سبحانه يرفع عبده بالتوبة وإذا ابتلاه بما يتوب منه فالمقصود كمال النهاية لا نقص البداية فإنه تعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين وهو يبدل بالتوبة السيئات حسنات
6
210(187/130)
والذنب مع التوبة يوجب لصاحبه من العبودية والخشوع والتواضع والدعاء وغير ذلك مالم يكن يحصل قبل ذلك ولهذا قال طائفة من السلف إن العبد ليفعل الذنب فيدخل به الجنة ويفعل الحسنة فيدخل بها النار يفعل الذنب فلا يزال نصب عينيه إذا ذكره تاب إلى الله ودعاه وخشع له فيدخل به الجنة ويفعل الحسنة فيعجب بها فيدخل النار وفي الأثر لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أعظم من الذنب وهو العجب وفي أثر آخر لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه وفي أثر آخر يقول الله تعالى أهل ذكرى أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا اقنطهم من رحمتي إن تابوا فأنا حبيبهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب والتائب حبيب الله سواء كان شابا أو شيخا السبب الثاني الاستغفار فإن الاستغفار هو طلب المغفرة وهو من جنس الدعاء والسؤال وهو مقرون بالتوبة في الغالب ومأمور
6
211(187/131)
به لكن قد يتوب الإنسان ولا يدعو وقد يدعو ولا يتوب وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال أذنب عبد ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال الله تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب قد غفرت لعبدي وفي رواية لمسلم فليفعل ما شاء والتوبة تمحو جميع السيئات وليس شىء يغفر جميع الذنوب إلا التوبة فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وأما التوبة فإنه قال تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم سورة الزمر وهذه لمن تاب ولهذا قال لا تقنطوا من رحمة الله بل توبوا إليه وقال بعدها وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم
6
212
العذاب ثم لا تنصرون سورة الزمر وأما الاستغفار بدون التوبة فهذا لا يستلزم المغفرة ولكن هو سبب من الأسباب السبب الثالث الأعمال الصالحة فإن الله تعالى يقول إن الحسنات يذهبن السيئات سورة هود وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل يوصيه يا معاذ اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر أخرجاه في الصحيحين وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من صام رمضان
6
213(187/132)
إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وقال من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وقال أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهرا غمرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل كان يبقى من دونه شىء قالوا لا قال كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا كما يمحو الماء الدرن وهذا كله في الصحيح
6
214
وقال الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار رواه الترمذي وصححه وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم سورة الصف وفي الصحيح يغفر للشهيد كل شىء إلا الدين وما روى أن
6
215
شهيد البحر يغفر له الدين فإسناده ضعيف والدين حق لآدمى فلابد من استيفائه وفي الصحيح صوم يوم عرفة كفارة سنتين وصوم يوم عاشوراء كفارة سنة ومثل هذه النصوص كثير وشرح هذه الأحاديث يحتاج إلى بسط كثير
6
216
فإن الإنسان قد يقول إذا كفر عنى بالصلوات الخمس فأي شىء تكفر عني الجمعة أو رمضان وكذلك صوم يوم عرفة وعاشوراء وبعض الناس يجيب عن هذا بأنه يكتب لهم درجات إذا لم تجد ما تكفره من السيئات فيقال أولا العمل الذي يمحو الله به الخطايا ويكفر به السيئات هو العمل المقبول والله تعالى إنما يتقبل من المتقين والناس لهم في هذه الآية وهي قوله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين سورة المائدة ثلاثة أقوال طرفان ووسط فالخوارج والمعتزلة يقولون لا يتقبل الله إلا ممن اتقى الكبائر وعندهم صاحب الكبيرة لا يقبل منه حسنة بحال والمرجئة يقولون من اتقى الشرك والسلف والأئمة يقولون لا يتقبل إلا ممن اتقاه في ذلك العمل ففعله
6
217(187/133)
كما أمر به خالصا لوجه الله تعالى قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا سورة هود قال أخلصه وأصوبه قيل يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة فصاحب الكبائر إذا اتقى الله في عمل من الأعمال تقبل الله منه ومن هو أفضل منه إذا لم يتق الله في عمل لم يتقبله منه وإن تقبل منه عملا آخر وإذا كان الله يتقبل ممن يعمل العمل على الوجه المأمور به ففي السنن عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن العبد لينصرف عن صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها حتى قال إلا عشرها وقال ابن عباس ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها وفي الحديث رب صائم حظه من صيامه العطش ورب قائم حظه من قيامه السهر وكذلك الحج والجهاد وغيرهما
6
218(187/134)
وفي حديث معاذ موقوفا ومرفوعا وهو في السنن الغزو غزوان فغزو يبتغى به وجه الله ويطاع فيه الأمير وتنفق فيه كرائم الأموال ويياسر فيه الشريك ويجتنب فيه الفساد ويتقى فيه الغلول فذلك الذيلا يعدله شىء وغزو لا يبتغى به وجه الله ولا يطاع فيه الأمير ولا تنفق فيه كرائم الأموال ولا يياسر فيه الشريك ولا يجتنب فيه الفساد ولا يتقى فيه الغلول فذاك حسب صاحبه أن يرجع كفافا وقيل لبعض السلف الحاج كثير فقال الداج كثير والحاج قليل ومثل هذا كثير فالمحو والتكفير يقع بما يتقبل من الأعمال وأكثر الناس يقصرون في الحسنات حتى في نفس صلاتهم فالسعيد منهم من يكتب له نصفها وهم يفعلون السيئات كثيرا فلهذا يكفر بما يقبل من الصلوات الخمس شيء وبما يقبل من الجمعة شيء وبما يقبل من صيام رمضان شيء آخر وكذلك سائر الأعمال وليس كل حسنة تمحو كل سيئة بل المحو يكون للصغائر تارة ويكون للكبائر تارة باعتبار الموازنة والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه
6
219
إخلاصه وعبوديته لله فيغفر الله له به كبائر كما في الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فيقال هل تنكر من هذا شيئا فيقول لا يا رب فيقول لا ظلم عليك فتخرج له بطاقة قدر الكف فيها شهادة أن لا إله إلا الله فيقول أين تقع هذه البطاقة مع هذه السجلات فتوضع هذه البطاقة في كفيه والسجلات في كفة فثقلت البطاقة وطاشت السجلات فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق كما قالها هذا الشخص وإلا فأهل الكبائر الذين دخلواالنار كلهم كانوا يقولون لا إله إلا الله
6
220(187/135)
ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجم قول صاحب البطاقة وكذلك في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه فيها العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له وفي لفظ في الصحيحين إن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له موقها فسقته به فغفر لها وفي لفظ في الصحيحين أنها كانت بغيا من بغايا بني إسرائيل وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
6
221
قال بينما رجل يمشي في طريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال دخلت أمرأة النار في هرة ربطتها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت فهذه سقط الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها وإلا فليس كل ما بغى سقت كلبا يغفر لها وكذلك هذا الذي نحى غصن الشوك عن الطريق فعله إذ ذاك بإيمان خالص وإخلاص قائم بقلبه فغفر له بذلك فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا وبين
6
222(187/136)
صلاتيهما كما بين السماء والأرض وليس كل من نحى غصن شوك عن الطريق يغفر له قال الله تعالى لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم سورة الحج فالناس يشتركون في الهدايا والضحايا والله لا يناله الدم المهراق ولا اللحم المأكول والتصدق به لكن يناله تقوى القلوب وفي الأثر أن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين المشرق والمغرب فإذا عرف أن الأعمال الظاهرة يعظم قدرها ويصغر قدرها بما في القلوب وما في القلوب يتفاضل لا يعرف مقادير ما في القلوب من الإيمان إلا الله عرف الإنسان أن ما قاله الرسول كله حق ولم يضرب بعضه ببعض وقد قال تعالى والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون سورة المؤمنون وفي الترمذي وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله أهو الرجل يزنى ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يعاقب قال لا
6
223
يا ابنه الصديق بل هو الرجل يصوم ويصلى ويتصدق ويخاف أن لا يتقبل منه وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو انفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وذلك أن الإيمان الذي كان في قلوبهم حين الإنفاق في أول الإسلام وقله أهله وكثرة الصوارف عنه وضعف الدواعي إليه لا يمكن أحدا أن يحصل له مثله ممن بعدهم وهذا يعرف بعضه من ذاق الأمور وعرف المحن والابتلاء الذي يحصل للناس وما يحصل للقلوب من الأحوال المختلفة وهذا مما يعرف به أنا أبا بكر رضي الله عنه لن يكون أحد مثله فإن اليقين والإيمان الذي كان في قلبه لا يساويه فيه أحد قال أبو بكر بن عياش ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشىء وقر في قلبه وهكذا سائر الصحابة حصل لهم بصحبتهم للرسول مؤمنين به مجاهدين معه إيمان ويقين لم يشركهم فيه من بعدهم
6
224(187/137)
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء فقال النجوم أمنه للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنه لأمتي فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يوعدون
6
225
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ليأتين على الناس زمان يغزو فيه فئام من الناس فيقال هل فيكم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال نعم فيفتح لهم وفي لفظ هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يأتي على الناس زمان يغزو فيه فئام من الناس فيقال هل فيكم من صحب من صحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم هذا لفظ بعض الطرق والثلاث الطبقات متفق عليها في جميع الطرق وأما الطبقة الرابعة فهي مذكورة في بعضها وقد ثبت ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة في عدة أحاديث صحيحة من حديث ابن مسعود وعمران بن حصين يقول فيها
6
226(187/138)
خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ويشك بعض الرواة هل ذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة والمقصود أن فضل الأعمال وثوابها ليس لمجرد صورها الظاهرة بل لحقائقها التي في القلوب والناس يتفاضلون ذلك تفاضلا عظيما وهذا مما يحتج به من رجح كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم فإن العلماء متفقون على أن جملة الصحابة أفضل من جملة التابعين لكن هل يفضل كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم ويفضل معاوية على عمر بن عبد العزيز ذكر القاضي عياض وغيره في ذلك قولين وأن الأكثرين يفضلون كل واحد من الصحابة وهذا مأثور عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما ومن حجة هؤلاء أن أعمال التابعين وإن كانت أكثر وعدل عمر بن عبد العزيز أظهر من عدل معاوية وهو أزهد من معاوية لكن الفضائل عند الله بحقائق الإيمان الذي في القلوب وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه قالوا فنحن قد نعلم أن أعمال بعض من بعدهم أكثر من أعمال بعضهم لكن من أين نعلم أن ما في قلبه من الإيمان أعظم مما في قلب ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن جبل ذهب من الذين
6
227(187/139)
أسلموا بعد الحديبية لا يساوي نصف مد من السابقين ومعلوم فضل النفع المتعدى بعمر بن عبد العزيز أعطى الناس حقوقهم وعدل فيهم فلو قدر أن الذي أعطاهم ملكه وقد تصدق به عليهم لم يعدل ذلك مما أنفقه السابقون إلا شيئا يسيرا وأين مثل جبل أحد ذهبا حتى ينفقه الإنسان وهو لا يصير مثل نصف مد ولهذا يقول من يقول من السلف غبار دخل في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمل عمر بن عبد العزيز وهذه المسألة تحتاج إلى بسط وتحقيق ليس هذا موضعه إذ المقصود هنا أن الله سبحانه مما يمحو به السيئات الحسنات وأن الحسنات تتفاضل بحسب ما في قلب صاحبها من الإيمان والتقوى وحينئذ فيعرف أن من هو دون الصحابة قد تكون له حسنات تمحو مثل ما يذم من أحدهم فكيف الصحابة السبب الرابع الدعاء للمؤمنين فإن صلاة المسلمين على الميت ودعاءهم له من أسباب المغفرة وكذلك دعاؤهم واستغفارهم في غير صلاة الجنازة والصحابة ما زال المسلمون يدعون لهم السبب الخامس دعاء النبي صلى الله عليه وسلم واستغفاره في حياته وبعد مماته كشفاعته يوم القيامة فإنهم أخص الناس بدعائه وشفاعته في محياه ومماته
6
228(187/140)
السبب السادس ما يفعل بعد الموت من عمل صالح يهدي له مثل من يتصدق عنه ويحج عنه ويصوم عنه فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن ذلك يصل إلى الميت وينفعه وهذا غير دعاء ولده فإن ذلك من عمله قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له رواه مسلم فولده من كسبه ودعاؤه محسوب من عمله بخلاف دعاء غير الولد فإنه ليس محسوبا من عمله والله ينفعه به السبب السابع المصائب الدنيوية التي يكفر الله بها الخطايا كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا غم ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مثل
6
229
المؤمن مثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح تقومها تارة وتميلها أخرى ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تزال ثابتة على أصلها حتى يكون انجعافها مرة واحدة وهذا المعنى متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يبتلون بالمصائب الخاصة وابتلوا بمصائب مشتركة كالمصائب التي حصلت في الفتن ولو لم يكن إلا أن كثيرا منهم قتلوا والأحياء أصيبوا بأهليهم وأقاربهم وهذا أصيب في ماله وهذا أصيب بجراحته وهذا أصيب بذهاب ولايته وعزه
6
230
إلى غير ذلك فهذه كلها مما يكفر الله بها ذنوب المؤمنين من غير الصحابة فكيف الصحابة وهذا مما لا بد منه وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لايسلط عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها
6
231(187/141)
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه لما نزل قوله تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم سورة الأنعام قال النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك أو من تحت أرجلكم قال النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال هذا أهون وأيسر فهذا أمر لا بد منه للأمة عموما والصحابة رضي الله عنهم كانوا أقل فتنا من سائر من بعدهم فإنه كلما تأخر العصر عن النبوة كثر التفرق والخلاف ولهذا لم تحدث في خلافة عثمان بدعة ظاهرة فلما قتل وتفرق الناس حدثت بدعتان متقابلتان بدعة الخوارج المكفرين لعلي وبدعة الرافضة المدعين لإمامته وعصمته أو نبوته أو الإهيته ثم لما كان في آخر عصر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك حدثت بدعة المرجئة والقدر به ثم لما كان في أول عصر التابعين في أواخر الخلافة الأموية حدثت بدعة الجهمية المعطلة والمشبهة الممثلة ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك وكذلك فتن السيف فإن الناس كانوا في ولاية معاوية رضي الله عنه متفقين يغزون العدو فلما مات معاوية قتل الحسين وحوصر ابن الزبير بمكة ثم جرت فتنة الحرة بالمدينة
6
232(187/142)
ثم لما مات يزيد جرت فتنة بالشام بين مروان والضحاك بمرج راهط ثم وثب المختار على ابن زياد فقتله وجرت فتنة ثم جاء مصعب بن الزبير فقتل المختار وجرت فتنة ثم ذهب عبد الملك إلى مصعب فقتله وجرت فتنة وأرسل الحجاج إلى ابن الزبير فحاصره مدة ثم قتله وجرت فتنة ثم لما تولى الحجاج العراق خرج عليه ابن الأشعث مع خلق عظيم من العراق وكانت فتنة كبيرة فهذا كله بعد موت معاوية ثم جرت فتنة ابن المهلب بخراسان وقتل زيد بن علي بالكوفة وقتل خلق كثير آخرون ثم قام أبو مسلم وغيره بخراسان وجرت حروب وفتن يطول وصفها ثم هلم جرا فلم يكن من ملوك المسلمين ملك خير من معاوية ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيرا منهم في زمن معاوية إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده وأما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل وقد روى أبو بكر الأثرم ورواه ابن بطة من طريقه حدثنا محمد بن
6
233
عمرو بن جبلة حدثنا محمد بن مروان عن يونس عن قتادة قال لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم هذا المهدي وكذلك رواه ابن بطة بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش عن مجاهد قال لو أدركتم معاوية لقلتم هذا المهدي ورواه الأثرم حدثنا محمد بن حواش حدثنا أبو هريرة المكتب قال كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله فقال الأعمش فكيف لو أدركتم معاوية قالوا في حلمة قال لا والله بل في عدله وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق قال لما قدم معاوية فرض للناس على أعطيه آبائهم حتى انتهى الى فأعطاني ثلثمائة درهم وقال عبد الله أخبرنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة ثنا الثقفي عن أبي إسحاق يعني السبيعي أنه ذكر معاوية
6
234(187/143)
فقال لو أدركتموه أو أدركتم أيامه لقلتم كان المهدي وروى الأثرم حدثنا محمد بن العلاء عن أبي بكر بن عياش عن ابي إسحاق قال ما رأيت بعده مثله يعني معاوية وقال البغوي حدثنا سويد بن سعيد حدثنا ضمام بن إسماعيل عن ابي قيس قال كان معاوية قد جعل في كل قبيل رجلا وكان رجل منا يكنى أبا يحيى يصبح كل يوم فيدور على المجالس هل ولد فيكم الليلة ولد هل حدث الليلة حدث هل نزل اليوم بكم نازل قال فيقولون نعم نزل رجل من أهل اليمن بعياله يسمونه وعياله فإذا فرغ من القبيل كله أتى الديوان فأوقع أسماءهم في الديوان وروى محمد بن عوف الطائي حدثنا أبو المغيرة حدثنا أبن أبي مريم عن عطية بن قيس قال سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطبنا يقول إن في بيت مالكم فضلا بعد أعطياتكم وإني قاسمه بينكم فإن كان يأتينا فضل عاما قابلا قسمناه عليكم وإلا فلا عتبة علي فإنه ليس بمالي وإنما هو مال الله الذي أفاء عليكم
6
235
وفضائل معاوية في حسن السيرة والعدل والإحسان كثيرة وفي الصحيح أن رجلا قال لابن عباس هل لك في أمير المؤمنين معاوية إنه أوتر بركعة قال أصاب إنه فقيه وروى البغوي في معجمه بإسناده ورواه ابن بطة من وجه آخر كلاهما عن سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر عن قيس بن الحارث عن الصنابحي عن أبي الدرداء قال ما رأيت أحدا أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من إمامكم هذا يعني معاوية فهذه شهادة الصحابة بفقهه ودينه والشاهد بالفقه ابن عباس وبحسن الصلاة أبو الدرداء وهما هما والآثار الموافقة لهذا كثيرة
6
236(187/144)
هذا ومعاوية ليس من السابقين الأولين بل قد قيل إنه من مسلمة الفتح وقيل أسلم قبل ذلك وكان يعترف بأنه ليس من فضلاء الصحابة وهذه سيرته مع عموم ولايته فإنه كان في ولايته من خراسان إلى بلاد إفريقية بالمغرب ومن قبرص إلى اليمن ومعلوم بإجماع المسلمين أنه ليس قريبا من عثمان وعلي فضلا عن أبي بكر وعمر فكيف يشبه غير الصحابة بهم وهل توجد سيرة أحد من الملوك مثل سيرة معاوية رضي الله عنه والمقصود أن الفتن التي بين الأمة والذنوب التي لها بعد الصحابة أكثر وأعظم ومع هذا فمكفرات الذنوب موجودة لهم وأما الصحابة فجمهورهم وجمهور أفاضلهم ما دخلوا في فتنة قال عبد الله بن الإمام أحمد حدثنا أبي حدثنا إسماعيل يعني ابن علية حدثنا أيوب يعني السختياني عن محمد بن سيرين قال هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف فما حضرها منهم مائة بل لم يبلغوا ثلاثين وهذا الإسناد
6
237
من أصح إسناد على وجه الأرض ومحمد بن سيرين من أورع الناس في منطقة ومراسيله من أصح المراسيل وقال عبد الله حدثنا أبي حدثنا اسماعيل حدثنا منصور بن عبد الرحمن قال قال الشعبي لم يشهد الجمل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير علي وعمار وطلحة والزبير فإن جاءوا بخامس فأنا كذاب وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبي حدثنا أمية بن خالد قال قيل لشعبة إن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلا فقال كذب والله لقد ذاكرت الحكم بذلك وذاكرناه في بيته فما وجدناه شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت قلت هذا النفي يدل على قلة من حضرها وقد قيل إنه حضرها سهل بن حنيف وأبو أيوب وكلام ابن سيرين مقارب فما يكاد يذكر مائة واحد وقد روى ابن بطة عن بكير بن الأشج قال إما إن رجالا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم
6
238(187/145)
السبب الثامن ما يبتلى به المؤمن في قبره من الضغطة وفتنة الملكين السبب التاسع ما يحصل له في الآخرة من كرب أهوال يوم القيامة السبب العاشر ما ثبت في الصحيحين أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض فإذا هذبوا ونقوا اذن لهم في دخول الجنة فهذه الأسباب لا تفوت كلها من المؤمنين إلا القليل فكيف بالصحابة رضوان الله عليهم الذين هم خير قرون الأمة وهذا في الذنوب المحققة فكيف بما يكذب عليهم فكيف بما يجعل من سيئاتهم وهو من حسناتهم وهذا كما ثبت في الصحيح أن رجلا أراد أن يطعن في عثمان عند ابن عمر فقال إنه قد فر يوم أحد ولم يشهد بدرا ولم يشهد بيعة الرضوان فقال ابن عمر أما يوم أحد فقد عفا الله عنه وفي لفظ فر يوم أحد فعفا الله عنه وأذنب عندكم ذنبا فلم تعفوا عنه وأما يوم
6
239
بدر فإن النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه على ابنته وضرب له بسهمه وأما بيعة الرضوان فإنما كانت بسبب عثمان فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعثة إلى مكة وبايع عنه بيده ويد النبي صلى الله عليه وسلم خير من يعد عثمان فقد أجاب ابن عمر بأن ما يجعلونه عيبا ما كان منه عيبا فقد عفا الله عنه والباقي ليس بعيب بل هو من الحسنات وهكذا عامة ما يعاب به على سائر الصحابة هو إما حسنة وإما معفو عنه وحينئذ فقول الرافضي إن عثمان ولى من لا يصلح للولاية إما أن يكون هذا باطلا ولم يول إلا من يصلح وإما أن يكون ولى من لا يصلح في نفس الأمر لكنه كان مجتهدا في ذلك فظن أنه كان يصلح وأخطأ ظنه وهذا لا يقدح فيه وهذا الوليد بن عقبة الذي أنكر عليه ولايته قد اشتهر في التفسير
6
240(187/146)
والحديث والسير أن النبي صلى الله عليه وسلم ولاه على صدقات ناس من العرب فلما قرب منهم خرجوا إليه فظن أنهم يحاربونه فأرسل الى النبي صلى الله عليه وسلم يذكر محاربتهم له فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم جيشا فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين سورة الحجرات فإذا كان حال هذا خفي على النبي صلى الله عليه وسلم فكيف لا يخفى على عثمان وإذا قيل إن عثمان ولاه بعد ذلك فيقال باب التوبة مفتوح وقد كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح ارتد عن الإسلام ثم جاء تائبا وقبل النبي صلى الله عليه وسلم إسلامه وثبوته بعد أن كان أهدر دمه وعلي رضي الله عنه تبين له من عماله مالم يكن يظنه فيهم فهذا لا يقدح في عثمان ولا غيره وغاية ما يقال إن عثمان ولي من يعلم أن غيره أصلح منه وهذا من موارد الاجتهاد أو يقال إن محبته لأقاربه ميلته إليهم حتى صار يظنهم أحق من
6
241(187/147)
غيرهم أو أن ما فعله كان ذنبا وقد تقدم أن دنبه لا يعاقب عليه في الآخرة وقوله حتى ظهر من بعضهم الفسق ومن بعضهم الخيانة فيقال ظهور ذلك بعد الولاية لا يدل على كونه كان ثابتا حين الولاية ولا على أن المولى علم ذلك وعثمان رضي الله عنه لما علم أن الوليد بن عقبة شرب الخمر طلبه وأقام عليه الحد وكان يعزل من يراه مستحقا للعزل ويقيم الحد على من رآه لإقامة الحد عليه وأما قوله وقسم المال بين أقاربه فهذا غايته أن يكون ذنبا لا يعاقب عليه في الآخرة فكيف إذا كان من موارد الاجتهاد فإن الناس تنازعوا فيما كان للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته هل يستحقه ولي الأمر بعده على قولين وكذلك تنازعوا في ولى اليتيم هل له أن يأخذ من مال اليتيم إذا كان غنيا أجرته مع غناه والترك أفضل أو الترك واجب على قولين ومن جوز الأخذ من مال اليتم مع الغني جوزه للعامل على بيت مال المسلمين وجوزه للقاضي وغيره من الولاة ومن قال لا يجوز ذلك من مال اليتيم فمنهم من يجوزه من مال بيت المال كما يجوز للعامل على الزكاة الأخذ مع الغني فإن العامل على الزكاة يجوز له أخذ جعالته مع غناه
6
242(187/148)
وولي اليتيم قد قال تعالى فيه ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف سورة النساء وأيضا فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن سهم ذوي القربى هو لقرابة الإمام كما قاله الحسن وأبو ثور وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي أقاربه بحكم الولاية وسقط حق ذوي قرباه بموته كما يقول ذلك كثير من العلماء كأبي حنيفة وغيره ثم لما سقط حقه بموته فحقه الساقط قيل إنه يصرف في الكراع والسلاح والمصالح كما كان يفعل أبو بكر وعمر وقيل هو لمن ولى الأمر بعده وقيل إن هذا مما تأوله عثمان ونقل عن عثمان رضي الله عنه نفسه أنه ذكر هذا وأنه يأخذ بعمله وأن ذلك جائز وإن كان ما فعله أبو بكر وعمر أفضل فكان له الأخذ بهذا وهذا وكان يعطي أقرباءه مما يختص به فكان يعطيهم لكونهم ذوى قربى الإمام على قول من يقول ذلك وبالجملة فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه إما بولاية وإما بمال وعلي ولي أقاربه أيضا وأما قوله استعمل الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر وصلى بالناس وهو سكران
6
243(187/149)
فيقال لا جرم طلبه وأقام عليه الحد بمشهد من علي بن أبي طالب وقال لعلي قم فاضربه فأمر علي الحسن بضربه فامتنع وقال لعبد الله بن جعفر قم فاضربه فضربه أربعين ثم قال إمسك ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي رواه مسلم وغيره فإذا أقام الحد برأي علي وأمره فقد فعل الواجب وكذلك قوله إنه استعمل سعيد بن العاص على الكوفة وظهر منه ما أدى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها فيقال مجرد إخراج أهل الكوفة لا يدل على ذنب يوجب ذاك فإن القوم كانوا يقومون على كل وال قد قاموا على سعد بن أبي وقاص وهو الذي فتح البلاد وكسر جنود كسرى وهو أحد أهل الشورى ولم يتول عليهم نائب مثله وقد شكوا غيره مثل عمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص والمغيرة بن شعبة وغيرهم ودعا عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال اللهم إنهم قد لبسوا علي فلبس عليهم وإذا قدر أنه أذنب ذنبا فمجرد ذلك لا يوجب أن يكون عثمان راضيا بذنبه ونواب علي قد أذنبوا ذنوبا كثيرة بل كان غير واحد من نواب النبي صلى الله عليه وسلم يذنبون ذنوبا كثيرة وإنما يكون الإمام مذنبا
6
244(187/150)
إذا ترك ما يجب عليه من إقامة حد أو استيفاء حق أو اعتداء ونحو ذلك وإذا قدر أن هناك ذنبا فقد علم الكلام فيه وأما قوله وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر حتى تظلم منه أهلها وكاتبه أن يستمر على ولايته سرا خلاف ما كتب إليه جهرا والجواب أن هذا كذب على عثمان وقد حلف عثمان أنه لم يكتب شيئا من ذلك وهو الصادق البار بلا يمين وغاية ما قيل إن مروان كتب بغير علمه وأنهم طلبوا أن يسلم إليهم مروان ليقتلوه فامتنع فإن كان قتل مروان لا يجوز فقد فعل الواجب وإن كان يجوز ولا يجب فقد فعل الجائز وإن كان قتله واجبا فذاك من موارد الاجتهاد فإنه لم يثبت لمروان ذنب يوجب قتله شرعا فإن مجرد التزوير لا يوجب القتل وبتقدير أن يكون ترك الواجب فقد قدمنا الجواب العام وأما قوله أمر بقتل محمد بن أبي بكر فهذا من الكذب المعلوم على عثمان وكل ذي علم بحال عثمان وإنصاف له يعلم أنه لم يكن ممن يأمر بقتل محمد بن أبي بكر ولا أمثاله ولا عرف منه قط أنه قتل أحدا من هذا الضرب وقد سعوا في
6
245
قتله ودخل عليه محمد فيمن دخل وهو لا يأمر بقتالهم دفعا عن نفسه فكيف يبتدىء بقتل معصوم الدم وإن ثبت أن عثمان أمر بقتل محمد بن أبي بكر لم يطعن على عثمان بل عثمان إن كان أمر بقتل محمد بن أبي بكر أولى بالطاعة ممن طلب قتل مروان لأن عثمان إمام هدى وخليفة راشد يجب علي سياسة رعيته وقتل من لا يدفع شره إلا بالقتل وأما الذين طلبوا قتل مروان فقوم خوارج مفسدون في الأرض ليس لهم قتل أحد ولا إقامة حد وغايتهم أن يكونوا ظلموا في بعض الأمور وليس لكل مظلوم أن يقتل بيده كل من ظلمه بل ولا يقيم الحد وليس مروان أولى بالفتنة والشر من محمد بن أبي بكر ولا هو أشهر بالعلم والدين منه بل أخرج أهل الصحاح عدة أحاديث عن مروان وله قول مع أهل الفتيا واختلف في صحبته
6
246(187/151)
ومحمد بن أبي بكر ليس بهذه المنزلة عند الناس ولم يدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا اشهرا قليلة من ذي القعدة إلى أول شهر ربيع الأول فإنه ولد بالشجرة لخمس بقين من ذي القعدة عام حجة الوداع ومروان من أقران ابن الزبير فهو قد أدرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم ويمكن أنه رآه عام فتح مكة أو عام حجة الوداع والذين قالوا لم ير النبي صلى الله عليه وسلم قالوا إن أباه كان بالطائف فمات النبي صلى الله عليه وسلم وأبوه بالطائف وهو مع أبيه ومن الناس من يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم نفى إباه إلى الطائف وكثير من أهل العلم ينكر ذلك ويقول إنه ذهب باختياره وإن نفيه ليس له إسناد وهذا إنما يكون بعد فتح مكة فقد كان أبوه بمكة مع سائر الطلقاء وكان هو قد قارب سن التمييز وأيضا فقد يكون أبوه حج مع الناس فرآه في حجة الوداع ولعله قدم إلى المدينة فلا يمكن الجزم بنفي رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم وأما أقرانه كالمسور بن مخرمة وعبد الله بن الزبير فهؤلاء كانوا بالمدينة وقد ثبت أنهم سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم وأما قوله ولى معاوية الشام فأحدث من الفتن ما أحدثه فالجواب أن معاوية إنما ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان ولاه عمر مكان أخيه واستمر في ولاية
6
247(187/152)
عثمان وزاده عثمان في الولاية وكانت سيرة معاوية مع رعيته من خيار سير الولاة وكانت رعيته يحبونه وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونه ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم وإنما ظهر الأحداث من معاوية في الفتنة لما قتل عثمان ولما قتل عثمان كانت الفتنة شاملة لأكثر الناس لم يختص بها معاوية بل كان معاوية أطلب للسلامة من كثير منهم وأبعد عن الشر من كثير منهم ومعاويةكان خيرا من الأشتر النخعي ومن محمد بن أبي بكر ومن عبيد الله بن عمر بن الخطاب ومن أبى الأعور السلمى ومن هاشم بن هاشم بن هاشم المرقال ومن الأشعث بن قيس الكندي ومن بسر بن أبي أرطاة وغير هؤلاء من الذين كانوا معه ومع علي بن أبي طالب رضي الله عنهما
6
248
وأما قوله وولى عبد الله بن عامر البصرة ففعل من المناكير ما فعل فالجواب أن عبد الله بن عامر له من الحسنات والمحبة في قلوب الناس مالا ينكر وإذا فعل منكرا فذنبه عليه فمن قال إن عثمان رضي بالمنكر الذي فعله وأما قوله وولى مروان أمره وألقى إليه مقاليد أموره ودفع إليه خاتمه وحدث من ذلك قتل عثمان وحدث من الفتنة بين الأمة ما حدث فالجواب أن قتل عثمان والفتنة لم يكن سببها مروان وحده بل اجتمعت أمور متعددة من جملتها أمور تنكر من مروان وعثمان رضي الله عنه كان قد كبر وكانوا يفعلون أشياء لا يعلمونه بها فلم يكن آمرا لهم بالأمور التي أنكرتموها عليه بل كان يأمر بإبعادهم وعزلهم فتارة يفعل ذلك وتارة لا يفعل ذلك وقد تقدم الجواب العام ولما قدم المفسدون الذين أرادوا قتل عثمان وشكوا أمورا أزالها كلها عثمان حتى أنه أجابهم إلى عزل من يريدون عزله وإلى أن مفاتيح بيت المال تعطى لمن يرتضونه وأنه لا يعطي أحدا من المال إلا بمشورة الصحابة ورضاهم ولم يبق لهم طلب ولهذا قالت عائشة
6
249(187/153)
رضي الله عنها مصصتموه كما يمص الثوب ثم عمدتم إليه فقتلتموه وقد قيل إنه زور عليه كتاب بقتلهم وأنهم أخذوه في الطريق فأنكر عثمان الكتاب وهو الصادق وأنهم اتهموا به مروان وطلبوا تسليمه إليهم فلم يسلمه وهذا بتقدير أن يكون صحيحا لا يبيح شيئا مما فعلوه بعثمان وغايته أن يكون مروان قد أذنب في إرادته قتلهم ولكن لم يتم غرضه ومن سعى في قتل إنسان ولم يقتله لم يجب قتله فما كان يجب قتل مروان بمثل هذا نعم ينبغي الاحتراز ممن يفعل مثل هذا وتأخيره وتأديبه ونحو ذلك أما الدم فأمر عظيم وأما قوله وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال حتى أنه دفع إلى أربعة نفر من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار ودفع إلى مروان ألف ألف دينار فالجواب أولا أن يقال أين النقل الثابت بهذا نعم كان يعطي أقاربه عطاء كثيرا ويعطي غير أقاربه أيضا وكان محسنا إلى جميع المسلمين وأما هذا القدر الكثير فيحتاج إلى نقل ثابت
6
250(187/154)
ثم يقال ثانيا هذا من الكذب البين فإنه لا عثمان ولا غيره من الخلفاء الراشدين أعطوا أحدا ما يقارب هذا المبلغ ومن المعلوم أن معاوية كان يعطي من يتألفه أكثر من عثمان ومع هذا فغاية ما أعطى الحسن بن علي مائة ألف أو ثلاثمائة ألف درهم وذكروا أنه لم يعط أحدا قدر هذا قط نعم كان عثمان يعطي بعض أقاربه ما يعطيهم من العطاء الذي أنكر عليه وقد تقدم تأويله في ذلك والجواب العام يأتي على ذلك فإنه كان له تأويلان في إعطائهم كلاهما مذهب طائفة من الفقهاء أحدهما أنه ما أطعم الله لنبي طعمة إلا كانت طعمة لمن يتولى الأمر بعده وهذا مذهب طائفة من الفقهاء ورووا في ذلك حديثا معروفا مرفوعا وليس هذا موضع بسط الكلام في جزئيات المسائل وقالوا إن ذوي القربي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ذوو قرباه وبعد موته هم ذوو قربى من يتولى الأمر بعده وقالوا إن أبا بكر وعمر لم يكن لهما أقارب كما كان لعثمان فإن بني عبد شمس من أكبر قبائل قريش ولم يكن من يوازيهم إلا بنو مخزوم والإنسان مأمور بصلة رحمه من ماله فإذا اعتقدوا أن ولي الأمر يصله من مال بيت المال مما جعله الله لذوي القربى استحقوا بمثل هذا أن يوصلوا من
6
251(187/155)
بيت المال ما يستحقونه لكونهم أولى قربى الإمام وذلك أن نصر ولى الأمر والذب عنه متعين وأقاربه ينصرونه ويذبون عنه مالا يفعله غيرهم وبالجملة فلا بد لكل ذوي أمر من أقوام يأتمنهم على نفسه ويدفعون عنه من يريد ضرره فإن لم يكن الناس مع إمامهم كما كانوا مع أبي بكر وعمر احتاج الأمر إلى بطانة يطمئن إليهم وهم لا بد لهم من كفاية فهذا أحد التأويلين والتأويل الثاني أنه كان يعمل في المال وقد قال الله تعالى والعاملين عليها سورة التوبة والعامل على الصدقة الغنى له أن يأخذ بعمالته باتفاق المسلمين والعامل في مال اليتيم قد قال الله تعالى فيه ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف سورة النساء وهل الأمر للغنى بالاستعفاف أمر إيجاب أو أمر استحباب على قولين وولى بيت المال وناظر الوقف هل هو كعامل الصدقة أو كولي اليتيم على قولين وإذا جعل ولي الأمر كعامل الصدقة استحق مع الغنى وإذا جعل كولي اليتيم ففيه القولان فهذه ثلاثة أقوال وعثمان على قولين كان له الأخذ مع الغنى وهذا مذهب الفقهاء ليست كأغراض الملوك التي لم يوافق عليها أحد من أهل العلم
6
252(187/156)
ومعلوم أن هذه التأويلات إن كانت مطابقة فلا كلام وإن كانت مرجوحة فالتأويلات في الدماء التي جرت من على ليست بأوجه منها والاحتجاج لهذه الأقوال أقوى من الاحتجاج لقول من رأى القتال وأما قوله وكان ابن مسعود يطعن عليه ويكفره فالجواب أن هذا من الكذب البين على ابن مسعود فإن علماء أهل النقل يعلمون أن ابن مسعود ما كان يكفر عثمان بل لما ولى عثمان وذهب ابن مسعود إلى الكوفة قال ولينا أعلانا ذا فوق ولم نأل وكان عثمان في السنين الأول من ولايته لا ينقمون منه شيئا ولما كانت السنين الآخرة نقموا منه أشياء بعضها هم معذورون فيه وكثير منها كان عثمان هو المعذور فيه من جملة ذلك أمر ابن مسعود فإن ابن مسعود بقي في نفسه من أمر المصحف لما فوض كتابته إلى زيد دونه وأمر الصحابة أن يغسلوا مصاحفهم وجمهور الصحابة كانوا على ابن مسعود مع عثمان وكان زيد بن ثابت قد انتدبه قبل ذلك أبو بكر وعمر لجمع المصحف في
6
253(187/157)
الصحف فندب عثمان من ندبه أبو بكر وعمر وكان زيد بن ثابت قد حفظ العرضة الأخيرة فكان اختيار تلك أحب إلى الصحابة فإن جبريل عارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في العام الذي قبض فيه مرتين وأيضا فكان ابن مسعود أنكر على الوليد بن عقبة لما شرب الخمر وقد قدم ابن مسعود إلى المدينة وعرض عليه عثمان النكاح وهؤلاء المبتدعة غرضهم التكفير أو التفسيق للخلفاء الثلاثة بأشياء لا يفسق بها واحد من الولاة فكيف يفسق بها أولئك ومعلوم أن مجرد قول الخصم في خصمه لا يوجب القدح في واحد منها وكذلك كلام أحد المتشاجرين في الآخر ثم يقال بتقدير أن يكون ابن مسعود طعن على عثمان رضي الله عنهما فليس جعل ذلك قدحا في عثمان بأولى من جعله قدحا في ابن مسعود وإذا كان كل واحد منهما مجتهدا فيما قاله أثابه الله على حسناته وغفر له خطأه وإن كان صدر من أحدهما ذنب فقد علمنا أن كلا منهما ولى لله وأنه من أهل الجنة وأنه لا يدخل النار فذنب كل واحد منهما لا يعذبه الله عليه في الآخرة
6
254(187/158)
وعثمان أفضل من كل من تكلم فيه هو أفضل من ابن مسعود وعمار وأبي ذر ومن غيرهم من وجوه كثيرة كما ثبت ذلك بالدلائل الكثيرة فليس جعل كلام المفضول قادحا في الفاضل بأولى من العكس بل إن أمكن الكلام بينهما بعلم وعدل وإلا تكلم بما يعلم من فضلهما ودينهما وكان ما شجر بينهما وتنازعا فيه أمره إلى الله ولهذا أوصوا بالإمساك عما شجر بينهم لأنا لا نسأل عن ذلك كما قال عمر بن عبد العزيز تلك دماء طهر الله منها يدى فلا أحب أن أخضب بها لساني وقال آخر تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون سورة البقرة لكن إذا ظهر مبتدع يقدح فيهم بالباطل فلا بد من الذب عنهم وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل وكذلك ما نقل من تكلم عمار في عثمان وقول الحسن فيه ونقل عنه أنه قال لقد كفر عثمان كفره صلعاء وأن الحسن بن علي أنكر ذلك عليه وكذلك على وقال له يا عمار أتكفر برب آمن به عثمان وقد تبين أن الرجل المؤمن الذي هو ولى لله قد يعتقد كفر الرجل المؤمن الذي هو ولي لله ويكون مخطئا في هذا الاعتقاد ولا يقدح
6
255(187/159)
هذا في إيمان واحد منهما وولايته كما ثبت في الصحيح أن أسيد بن حضير قال لسعد بن عبادة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم إنك منافق تجادل عن المنافقين وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحاطب بن أبي بلتعة دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فعمر أفضل من عمار وعثمان أفضل من حاطب بن أبي بلتعة بدرجات كثيرة وحجة عمر فيما قال لحاطب أظهر من حجة عمار ومع هذا فكلاهما من أهل الجنة فكيف لا يكون عثمان وعمار من أهل الجنة وإن قال أحدهما للآخر ما قال مع أن طائفة من العلماء أنكروا أن يكون عمار قال ذلك وأما قوله إنه لما حكم ضرب ابن مسعود حتى مات فهذا كذب باتفاق أهل العلم فإنه لما ولى أقر ابن مسعود على ما كان عليه من الكوفة إلى أن جرى من ابن مسعود ما جرى وما مات ابن مسعود من ضرب عثمان أصلا وفي الجملة فإذا قيل إن عثمان ضرب ابن مسعود أو عمارا فهذا لا
6
256(187/160)
يقدح في أحد منهم فإنا نشهد أن الثلاثة في الجنة وأنهم من أكابر أولياء الله المتقين وقد قدمنا أن ولي الله قد يصدر منه ما يستحق عليه العقوبة الشرعية فكيف بالتعزير وقد ضرب عمر بن الخطاب أبي بن كعب بالدرة لما رأى الناس يمشون خلفه فقال ما هذا يا أمير المؤمنين قال هذا ذلة للتابع وفتنة للمتبوع فإن كان عثمان أدب هؤلاء فإما أن يكون عثمان مصيبا في تعزيرهم لاستحقاقهم ذلك أو يكون ذلك الذي عزروا عليه تابوا منه أو كفر عنهم بالتعزير وغيره من المصائب أو بحسناتهم العظيمة أو بغير ذلك وإما أن يقال كانوا مظلومين مطلقا فالقول في عثمان كالقول فيهم وزيادة فإنه أفضل منهم وأحق بالمغفرة والرحمة وقد يكون الإمام مجتهدا في العقوبة مثابا عليها وأولئك مجتهدون فيما فعلوه لا يأثمون به بل يثابون عليه لاجتهادهم مثل شهادة أبي بكرة على المغيرة فإن أبا بكرة رجل صالح من خيار المسلمين وقد كان محتسبا في شهادته معتقدا أنه يثاب على ذلك وعمر أيضا محتسب في إقامة الحد مثاب على ذلك
6
257(187/161)
فلا يمتنع أن يكون ما جرى من عثمان في تأديب ابن مسعود وعمار من هذا الباب وإذا كان المقتتلون قد يكون كل منهم مجتهدا مغفورا له خطؤه فالمختصمون أولى بذلك وإما أن يقال كان مجتهدا وكانوا مجتهدين فمثل هذا يقع كثيرا يفعل الرجل شيئا باجتهاده ويرى ولي الأمر أن مصلحة المسلمين لا تتم إلا بعقوبته كما أنها لا تتم إلا بعقوبة المتعدى وإن تاب بعد رفعه إلى الإمام فالزاني والسارق والشارب إذا تابوا بعد الرفع إلى الإمام وثبوت الحد عليهم لم يسقط الحد عنهم بالتوبة بل يعاقبون مع كونهم بالتوبة مستحقين للجنة ويكون الحد مما يثابون عليه ويؤجرون عليه ويكفر الله به ما يحتاج إلى التكفير ولو أن رجلا قتل من اعتقده مستحقا لقتله قصاصا أو أخذ مالا يعتقد أنه له في الباطن ثم ادعى أهل المقتول وأهل المال بحقهم عند ولي الأمر حكم لهم به وعاقب من امتنع من تسليم المحكوم به إليهم وإن كانوا متأولا فيما فعله بل بريئا في الباطن
6
258
وأكثر الفقهاء يحدون من شرب النبيذ المتنازع فيه وإن كان متأولا وكذلك يأمرون بقتال الباغي المتأول لدفع بغيه وإن كانوا مع ذلك لا يفسقونه لتأويله وقد ثبت في الصحيح أن عمار بن ياسر لما أرسله علي إلى الكوفة هو والحسن ليعينوا على عائشة قال عمار بن ياسر إنا لنعلم أنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة ولكن الله ابتلاكم بها لينظر إياه تطيعون أم إياها فقد شهد لها عمار بأنها من أهل الجنة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرة ومع هذا دعا الناس إلى دفعها بما يمكن من قتال وغيره فإذا كان عمار يشهد لها بالجنة ويقاتلها فكيف لا يشهد له عثمان بالجنة ويضربه وغاية ما يقال إن ما وقع كان هذا وهذا وهذا مذنبين فيه وقد قدمنا القاعدة الكلية أن القوم مشهود لهم بالجنة وإن كان لهم ذنوب وأما قوله وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم عمار جلدة بين عيني تقتله الفئة الباغية لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة
6
259(187/162)
فيقال الذي في الصحيح تقتل عمار الفئة الباغية وطائفة العلماء ضعفوا هذا الحديث منهم الحسين الكرابيسى وغيره ونقل ذلك عن أحمد أيضا وأما قوله لا أنالهم الله شفاعتي فكذب مزيد في الحديث لم يروه أحد من أهل العلم بإسناد معروف وكذلك قوله عمار جلدة بين عيني لا يعرف له إسناد ولو قيل مثل ذلك فقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال إنما فاطمة بضعة منى يريبنى ما يربيها وفي الصحيح عنه أنه قال لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها وثبت عنه في الصحيح أنه كا يحب أسامة ثم يقول اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه ومع هذا لما قتل ذلك الرجل أنكر عليه إنكار شديدا وقال
6
260
يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله قال فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ وثبت عنه في الصحيح أنه قال يا فاطمة بنت محمد لا أغنى عنك من الله شيئا يا عباس عم رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا الحديث وثبت عنه في عبد الله حمار أنه كان يضربه على شرب الخمر مرة بعد مرة وأخبر عنه أنه يحب الله ورسوله
6
261
وقال في خالد سيف من سيوف الله ولما فعل في بني جذيمة ما فعل قال اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد وثبت عنه أنه قال لعلي أنت مني وأنا منك ولما خطب بنت أبي جهل قال إن بني المغيرة استأذنوني في أن يزوجوا ابنتهم عليا وإني لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد وفي حديث آخر أنه رأى أبا بكر يضرب عبده وهو محرم فقال انظروا ما يفعل المحرم ومثل هذا كثير
6
262(187/163)
فكون الرجل محبوبا لله ورسوله لا يمنع أن يؤدب بأمر الله ورسوله فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه أخرجاه في الصحيحين ولما نزل قوله تعالى من يعمل سوءا يجز به سورة النساء قال أبو بكر يا رسول الله قد جاءت قاصمة الظهر فقال ألست تحزن ألست تنصب ألست تصيبك اللأواء فهو مما تجزون به رواه أحمد وغيره وفي الحديث الحدود كفارات لأهلها
6
263
وفي الصحيحين عن عبادة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له فإذا كانت المصائب السماوية التي تجري بغير فعل بشر مما يكفر الله بها الخطايا فما يجري من أذى الخلق والمظالم بطريق الأولى كما يصيب المجاهدين من أذى الكفار وكما يصيب الأنبياء من أذى من يكذبهم وكما يصيب المظلوم من أذى الظالم
6
264(187/164)
إذا كان هذا مما يقع معصية لله ورسوله فما يفعله ولى الأمر من إقامة حد وتعزير يكون تكفير الخطايا به أولى وكانوا في زمن عمر إذا شرب أحدهم الخمر جاء بنفسه إلى الأمير وقال طهرني وقد جاء ماعز بن مالك والغامدية إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبا منه التطهير وإذا كان كذلك فكون الرجل وليا لله لا يمنع أن يحتاج إلى ما يكفر الله به سيئاته من تأديب ولي الأمر الذي أمره الله عليه وغير ذلك وإذا قيل هم مجتهدون معذورون فيما أدبهم عليه عثمان فعثمان أولى أن يقال فيه كان مجتهدا معذورا فيما أدبهم عليه فإنه إمام مأمور بتقويم رعيته وكان عثمان أبعد عن الهوى وأولى بالعلم والعدل فيما أدبهم عليه رضي الله عنهم أجمعين ولو قدح رجل في علي بن أبي طالب بأنه قاتل معاوية وأصحابه وقاتل طلحة والزبير لقيل له علي بن أبي طالب أفضل وأولى بالعلم والعدل من الذين قاتلوه فلا يجوز أن يجعل الذين قاتلوه هم العادلين وهو ظالم لهم كذلك عثمان فيمن أقام عليه حدا أو تعزيرا هو أولى بالعلم والعدل منهم وإذا وجب الذب عن علي لمن يريد أن يتكلم فيه بمثل ذلك فالذب عن عثمان لمن يريد أن يتكلم فيه بمثل ذلك أولى
6
265(187/165)
وقوله وطرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة ومعه ابنه مروان فلم يزل هو وابنه طريدين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما ولى عثمان آواه ورده إلى المدينة وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره مع أن الله قال لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله الآية سورة المجادلة والجواب أن الحكم بن أبي العاص كان من مسلمة الفتح وكانوا ألفى رجل ومروان ابنه كان صغيرا إذ ذاك فإنه من أقران ابن الزبير والمسور بن مخرمة عمره حين الفتح سن التمييز إما سبع سنين أو أكثر بقليل أو أقل بقليل فلم يكن لمروان ذنب يطرد عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه وقالوا هو ذهب باختياره وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح ولا لها إسناد يعرف به أمرها ومن الناس من يروي أنه حاكى النبي صلى الله عليه وسلم في مشيته ومنهم من يقول غير ذلك ويقولون إنه نفاه إلى الطائف
6
266(187/166)
والطلقاء ليس فيهم من هاجر بل قال النبي صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ولما قدم صفوان بن أمية مهاجرا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى مكة ولما أتاه العباس برجل ليبايعه على الهجرة وأقسم عليه أخذ بيده وقال إني أبررت قسم عمي ولا هجرة بعد الفتح وكان العباس قد خرج من مكة إلى المدينة قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم إليها عام الفتح فلقيه في الطريق فلم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه كما تقدم وقالوا هو ذهب باختياره والطرد هو النفي والنفي قد جاءت به السنة في الزاني وفي المخنثين وكانوا يعزرون بالنفي وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزر رجلا بالنفي لم يلزم أن يبقى منفيا طول الزمان فإن هذا لا يعرف في شىء من الذنوب ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه
6
267(187/167)
منفيا دائما بل غاية النفي المقدر سنة وهو نفي الزاني والمخنث حتى يتوب من التخنيث فإن كان تعزير الحاكم لذنب حتى يتوب منه فإذا تاب سقطت العقوبة عنه وإن كانت على ذنب ماض فهو أمر اجتهادى لم يقدر فيه قدر ولم يوقت فيه وقت وإذا كان كذلك فالنفي كان في آخر الهجرة فلم تطل مدته في زمن أبي بكر وعمر فلما كان عثمان طالت مدته وقد كان عثمان شفع في عبد الله بن أبي سرح إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان كاتبا للوحي وارتد عن الإسلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه فيمن أهدر ثم جاء به عثمان فقبل النبي صلى الله عليه وسلم شفاعته فيه وبايعه فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم وقد رووا أن عثمان سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يرده فأذن له في ذلك ونحن نعلم أن ذنبه دون ذنب عبد الله بن سعيد بن أبي سرح وقصة عبد الله ثابتة معروفة بالإسناد الثابت وأما قصة الحكم فعامة من ذكرها إنما ذكرها مرسلة وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثر الكذب فيما يروونه وقل أن يسلم لهم نقلهم من الزيادة والنقصان فلم يكن هنا نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان
6
268(187/168)
والمعلوم من فضائل عثمان ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم له وثنائه عليه وتخصيصه بابنتيه وشهادته له بالجنة وإرساله إلى مكة ومبايعة له عنه لما أرسله إلى مكة وتقديم الصحابة له باختيارهم في الخلافة وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنه راض وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه فلا يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ولا يعرف كيف وقع ويجعل لعثمان ذنب بأمر لا يعرف حقيقته بل مثل هذا مثل الذين يعارضون المحكم بالمتشابه وهذا من فعل الذين في قلوبهم زيغ الذين يبتغون الفتنة ولا ريب أن الرافضة من شرار الزائغين الذين يبتغون الفتنة الذين ذمهم الله ورسوله وبالجملة فنحن نعلم قطعا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمر بنفي أحد دائما ثم يرده عثمان معصية لله ورسوله ولا ينكر ذلك عليه المسلمون وكان عثمان رضي الله عنه أتقى لله من أن يقدم على مثل هذا بل هذا مما يدخله الاجتهاد فلعل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يرداه لأنه لم يطلب ذلك منهما وطلبه من عثمان فأجابه إلى ذلك أو لعله لم يتبين لهما توبته وتبين ذلك لعثمان وغاية ما يقدر أن يكون هذا خطأ من الاجتهاد أو ذنبا وقد تقدم الكلام على ذلك
6
269(187/169)
وأما استكتابه مروان فمروان لم يكن له في ذلك ذنب لأنه كان صغيرا لم يجر عليه القلم ومات النبي صلى الله عليه وسلم ومروان لم يبلغ الحلم باتفاق أهل العلم بل غايته أن يكون له عشر سنين أو قريب منها وكان مسلما باطنا وظاهرا يقرأ القرآن ويتفقه في الدين ولم يكن قبل الفتنة معروفا بشىء يعاب به فلا ذنب لعثمان في استكتابه وأما الفتنة فأصابت من هو أفضل من مروان ولم يكن مروان ممن يحاد الله ورسوله وأما أبوه الحكم فهو من الطلقاء والطلقاء حسن إسلام أكثرهم وبعضهم فيه نظر ومجرد ذنب يعزر عليه لا يوجب أن يكون منافقا في الباطن والمنافقون تجري عليهم في الظاهر أحكام الإسلام ولم يكن أحد من الطلقاء بعد الفتح يظهر المحادة لله ورسوله بل يرث ويورث ويصلي عليه ويدفن في مقابر المسلمين وتجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على غيره وقد عرف نفاق جماعة من الأوس والخزرج كعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله ومع هذا كان المؤمنون يتعصبون لهم أحيانا كما تعصب سعد بن عبادة لابن أبي بين يدى رسول الله صلى الله عليه
6
270
وسلم وقال لسعد بن معاذ والله لا تقتله ولا تقدر على قتله وهذا وإن كان ذنبا من سعد لم يخرجه ذلك عن الإيمان بل سعد من أهل الجنة ومن السابقين الأولين من الأنصار فكيف بعثمان إذا آوى رجلا لا يعرف أنه منافق ولو كان منافقا لم يكن الإحسان إليه موجبا للطعن في عثمان فإن الله تعالى يقول لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين سورة الممتحنة وقد ثبت في الصحيح أن أسماء بنت أبي بكر قالت يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها قال نعم صلى أمك وقد أوصت صفية بنت حيى بن أخطب لقرابة لها من اليهود فإذا كان الرجل المؤمن قد يصل أقاربه الكفار ولا يخرجه ذلك عن الإيمان فكيف إذا وصل أقاربه المسلمين وغاية ما فيهم أن يتهموا بالنفاق
6
271(187/170)
و أم المؤمنين صفية بنت حيى بن أخطب كان أبوها من رءوس اليهود المحادين لله ورسوله وكانت هي امرأة صالحة من أمهات المؤمنين المشهود لها بالجنة ولما ماتت أوصت لبعض أقاربها من اليهود وكان ذلك مما تحمد عليه لا مما تذم عليه وهذا مما احتج به الفقهاء على جواز صلة المسلم لأهل الذمة بالصدقة عليهم والوصية لهم فكيف بأمير المؤمنين إذا أحسن إلى عمه المظهر للإسلام وهذا حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة لشهوده بدرا والحديبية وقال لمن قال إنه منافق ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأين حاطب من عثمان فلو قدر والعياذ بالله أن عثمان فعل مع أقاربه ما هو من هذا الجنس لكان إحساننا القول فيه والشهادة له بالجنة أولى بذلك من حاطب بن أبي بلتعة وأما قوله إنه نفى أبا ذر إلى الربذة وضربه ضربا وجيعا مع أن
6
272(187/171)
النبي صلى الله عليه وسلم قال في حقه ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذى لهجة أصدق من أبي ذر وقال إن الله أوحى إلى أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم فقيل له من هم يا رسول الله قال علي سيدهم وسلمان والمقداد وأبو ذر فالجواب أن أبا ذر سكن الربذة ومات بها لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس فإن أبا ذر رضي الله عنه كان رجلا صالحا زاهدا وكان من مذهبه أن الزهد واجب وأن ما أمسكه الإنسان فاضلا عن حاجته فهو كنز يكوي به في النار واحتج على ذلك بما لا حجة فيه من الكتاب والسنة احتج بقوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله سورة التوبة وجعل الكنز ما يفضل عن الحاجة واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه قال يا أبا ذر ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا يمضي عليه ثالثة وعندي منه دينار إلا دينارا أرصده لدين وأنه قال الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا
6
273
ولما توفي عبد الرحمن بن عوف وخلف مالا جعل أبو ذر ذلك من الكنز الذي يعاقب عليه وعثمان يناظره في ذلك حتى دخل كعب ووافق عثمان فضربه أبو ذر وكان قد وقع بينه وبين معاوية بالشام بهذا السبب وقد وافق أبا ذر على هذا طائفة من النساك كما يذكر عن عبد الواحد ابن زيد ونحوه ومن الناس من يجعل الشبلي من أرباب هذا القول وأما الخلفاء الراشدون وجماهير الصحابة والتابعين فعلى خلاف هذا القول فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة فنفى الوجوب فيما دون المائتين ولم يشترط كون صاحبها محتاجا إليها أم لا وقال جمهور الصحابة الكنز هو المال الذي لم تؤد حقوقه وقد قسم
6
274(187/172)
الله تعالى المواريث في القرآن ولا يكون الميراث إلا لمن خلف مالا وقد كان غير واحد من الصحابة له مال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار بل ومن المهاجرين وكان غير واحد من الأنبياء له مال وكان أبو ذر يريد أن يوجب على الناس ما لم يوجب الله عليهم ويذمهم على ما لم يذمهم الله عليه مع أنه مجتهد في ذلك مثاب على طاعته رضي الله عنه كسائر المجتهدين من أمثاله وقول النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إيجاب إنما قال ما أحب أن يمضي على ثالثة وعندي منه شىء فهذا يدل على استحباب إخراج ذلك قبل الثالثة لا على وجوبه وكذا قوله المكثرون هم المقلون دليل على أن من كثر ماله قلت حسناته يوم القيامة إذا لم يكثر الإخراج منه وذلك لا يوجب أن يكون الرجل القليل الحسنات من أهل النار إذا لم يأت كبيرة ولم يترك فريضة من فرائض الله وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقوم رعيته تقويما تاما فلا يعتدي لا الأغنياء والفقراء فلما كان في خلافة عثمان توسع الأغنياء في الدنيا حتى زاد كثير منهم على قدر المباح في المقدار
6
275
والنوع وتوسع أبو ذر في الإنكار حتى نهاهم عن المباحات وهذا من أسباب الفتن بين الطائفتين فكان اعتزال أبي ذر لهذا السبب ولم يكن لعثمان مع أبي ذر غرض من الأغراض وأما كون أبي ذر من أصدق الناس فذاك لا يوجب أنه أفضل من غيره بل كان أبو ذر مؤمنا ضعيفا كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لاتأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير وأهل الشورى مؤمنون أقوياء وأبو ذر وأمثاله مؤمنون ضعفاء
6
276(187/173)
فالمؤمنون الصالحون لخلافة النبوة كعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف أفضل من أبي ذر وأمثاله والحديث المذكور بهذا اللفظ الذي ذكره الرافضي ضعيف بل موضوع وليس له إسناد يقوم به وأما قوله إنه ضيع حدود الله فلم يقتل عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان مولى أمير المؤمنين بعد إسلامه وكان أمير المؤمنين يطلب عبيد الله لإقامة القصاص عليه فلحق بمعاوية وأراد أن يعطل حد الشرب في الوليد بن عقبة حتى حده أمير المؤمنين وقال لا تبطل حدود الله وأنا حاضر فالجواب أما قوله إن الهرمزان كان مولى علي فمن الكذب الواضح فإن الهرمزان كان من الفرس الذين استنابهم كسرى على قتال المسلمين فأسره المسلمون وقدموا به على عمر
6
277
فأظهر الإسلام فمن عليه عمر وأعتقه فإن كان عليه ولاء فهو للمسلمين وإن كان الولاء لمن باشر العتق فهو لعمر وإن لم يكن عليه ولاء بل هو كالأسير إذا من عليه فلا ولاء عليه فإن العلماء تنازعوا في الأسير إذا أسلم هل يصير رقيقا بإسلامه أم يبقى حرا يجوز المن عليه والمفاداة كما كان قبل الإسلام مع اتفاقهم على أنه عصم بالإسلام دمه وفي المسألة قولان مشهوران هما قولان في مذهب أحمد وغيره وليس لعلي سعى لا في استرقاقه ولا في إعتاقه ولما قتل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كان الذي قتله أبو لؤلؤة الكافر المجوسي مولى المغيرة بن شعبة وكان بينه وبين الهرمزان مجانسة وذكر لعبيد الله بن عمر أنه رؤى عند الهرمزان حين قتل عمر فكان ممن أتهم بالمعاونة على قتل عمر وقد قال عبد الله بن عباس لما قتل عمر وقال له عمر قد كنت
6
278(187/174)
أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة فقال إن شئت أن نقتلهم فقال كذبت أما بعد إذ تكلموا بلسانكم وصلوا إلى قبلتكم فهذا ابن عباس وهو أفقه من عبيد الله بن عمر وأدين وأفضل بكثير يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقا الذين كانوا بالمدينة لما اتهموهم بالفساد اعتقد جواز مثل هذا فكيف لا يعتقد عبد الله جواز قتل الهرمزان فلما استشار عثمان الناس في قتله فأشار عليه طائفة من الصحابة أن لا تقتله فإن أباه قتل بالامس ويقتل هو اليوم فيكون في هذا فساد في الإسلام وكأنهم وقعت لهم شبهة في عصمة الهرمزان وهل كان من الصائلين الذين كانوا يستحقون الدفع أو من المشاركين في قتل عمر الذين يستحقون القتل وقد تنازع الفقهاء في المشتركين في القتل إذا باشر بعضهم دون
6
279
بعض فقيل لا يجب القود إلا على المباشر خاصة وهو قول أبي حنيفة وقيل إذا كان السبب قويا وجب على المباشر والمتسبب كالمكره والمكره وكالشهود بالزنا والقصاص إذا رجعوا وقالوا تعمدنا وهذا مذهب الجمهور كمالك والشافعي وأحمد ثم إذا أمسك واحد وقتله الآخر فمالك يوجب القود على الممسك والقاتل وهو إحدى الروايتين عن أحمد والرواية الأخرى يقتل القاتل ويحبس الممسك حتى يموت كما روى عن ابن عباس وقيل لا قود إلا على القاتل كقول أبي حنيفة والشافعي وقد تنازعوا أيضا في الآمر الذي لم يكره إذا أمر من يعتقد أن القتل محرم هل يجب القود على الآمر على قولين وأما الردء فيما يحتاج فيه إلى المعاونة كقطع الطريق فجمهورهم على أن الحد يجب على الردء والمباشرة جميعا وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد وكان عمر بن الخطاب يأمر بقتل الربيئة وهو الناطور لقطاع الطريق
6
280(187/175)
وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر جاز قتله في أحد القولين قصاصا وعمر هو القائل في المقتول بصنعاء لو تمالأ عليه أهل صنعاء لأقدتهم به وأيضا فقد تنازع الناس في قتل الأئمة هل يقتل قاتلهم حدا أو قصاصا على قولين في مذهب أحمد وغيره أحدهما أنهم يقتلون حدا كما يقتل القاتل في المحاربة حدا لأن قتل الأئمة فيه فساد عام أعظم من فساد قطاع الطريق فكان قاتلهم محاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض فسادا وعلى هذا خرجوا فعل الحسن بن علي رضي الله عنهما لما قتل ابن ملجم قاتل علي وكذلك قتل قتلة عثمان وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر كان من المفسدين في الأرض المحاربين فيجب قتله لذلك ولو قدر أن المقتول معصوم الدم يحرم قتله لكن كان القاتل متأولا يعتقد حل قتله لشبهة ظاهرة صار ذلك شبهة تدرأ القتل عن القاتل كما أن أسامة بن زيد لما قتل ذلك الرجل بعدما قال لا إله إلا الله واعتقد أن هذا القول لا يعصمه عزره النبي صلى الله عليه وسلم بالكلام ولم يقتله لأنه كان متأولا لكن الذي قتله أسامة كان مباحا قبل القتل فشك في العاصم
6
281(187/176)
وإذا كان عبيد الله بن عمر متأولا يعتقد أن الهرمزان أعان على قتل أبيه وأنه يجوز له قتله صارت هذه شبهة يجوز أن يجعلها المجتهد مانعة من وجوب القصاص فإن مسائل القصاص فيها مسائل كثيرة اجتهادية وأيضا فالهرمزان لم يكن له أولياء يطلبون دمه وإنما وليه ولي الأمر ومثل هذا إذا قتله قاتل كان للإمام قتل قاتله لأنه وليه وكان له العفو عنه إلى الديه لئلا تضيع حقوق المسلمين فإذا قدر أن عثمان عفا عنه ورأى قدر الدية أن يعطيها لآل عمر لما كان على عمر من الدين فإنه كان عليه ثمانون ألفا وأمر أهله أن يقضوا دينه من أموال عصبته عاقلته بني عدي وقريش فإن عاقلة الرجل هم الذين يحملون كله والدية لو طالب بها عبيد الله أو عصبة عبيد الله إذا كان قتله خطأ أو عفا عنه إلى الدية فهم الذين يؤدون دين عمر فإذا أعان بها في دين عمر كان هذا من محاسن عثمان التي يمدح بها لا يذم وقد كانت أموال بيت المال في زمن عثمان كثيرة وكان يعطى الناس عطاء كثيرا أضعاف هذا فكيف لا يعطى هذا لآل عمر
6
282
وبكل حال فكانت مسألة اجتهادية وإذا كانت مسألة اجتهادية وقد رأى طائفة كثيرة من الصحابة أن لا يقتل ورأى آخرون أن يقتل لم ينكر على عثمان ما فعله باجتهاده ولا على علي ما قاله باجتهاده وقد ذكرنا تنازع العلماء في قتل الأئمة هل هو من باب الفساد الذي يجب قتل صاحبه حتما كالقاتلين لأخذ المال أم قتلهم كقتل الآحاد الذين يقتل أحدهم الآخر لغرض خاص فيه فيكون على قاتل أحدهم القود وذكرنا في ذلك قولين وهما قولان في مذهب أحمد وغيره وذكرهما القاضي أبو يعلى وغيره فمن قال إن قتلهم حد قال إن جنايتهم توجب من الفتنة والفساد أكثر مما يوجبه جناية بعض قطاع الطريق لأخذ المال فيكون قاتل الأئمة من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا ويدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله
6
283(187/177)
عليه وسلم أنه قال من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان فأمر بقتل الواحد المريد لتفريق الجماعة ومن قتل إمام المسلمين فقد فرق جماعتهم ومن قال هذا قال إن قاتل عمر يجب قتله حتما وكذلك قتله عثمان يجب قتلهم حتما وكذلك قاتل علي يجب قتله حتما وبهذا يجاب عن ابنه الحسن بن علي وغيره من يعترض عليهم فنقول كيف قتلوا قاتل علي وكان في ورثته صغار وكبار والصغار لم يبلغوا فيجاب عن الحسن بجوابين أحدهما أن قتله كان واجبا حتما لأن قتل علي وأمثاله من أعظم المحاربة لله ورسوله والفساد في الأرض ومنهم من يجيب بجواز انفراد الكبار بالقود كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين وإذا كان قتل عمر وعثمان وعلي ونحوهم من باب المحاربة فالمحاربة يشترك فيها الردء والمباشر عند الجمهور فعلى هذا من أعان
6
284
على قتل عمر ولو بكلام وجب قتله وكان الهرمزان ممن ذكر عنه أنه أعان على قتل عمر بن الخطاب وإذا كان الأمر كذلك كان قتله واجبا ولكن كان قتله إلى الأئمة فافتات عبيد الله بقتله وللإمام أن يعفو عمن افتات عليه وأما قوله إن عليا كان يريد قتل عبيد الله بن عمر فهذا لو صح كان قدحا في علي والرافضة لا عقول لهم يمدحون بما هو إلى الذم أقرب فإنها مسألة اجتهاد وقد حكم حاكم بعصمة الدم فكيف يحل لعلي نقضه وعلي ليس ولي المقتول ولا طلب ولي المقتول القود وإذا كان حقه لبيت المال فللإمام أن يعفو عنه وهذا مما يذكر في عفو عثمان وهو أن الهرمزان لم يكن له عصبة إلا السلطان وإذا قتل من لا ولى له كان الإمام أن يقتل قاتله وله أن لا يقتل قاتله ولكن يأخذ الدية والدية حق للمسلمين فيصرفها في مصارف الأموال وإذا ترك لآل عمر دية مسلم كان هذا بعض ما يستحقونه على المسلمين وبكل حال فلم يكن بعد عفو عثمان وحكمه بحقن دمه يباح قتله
6
285(187/178)
أصلا وما أعلم في هذا نزاعا بين المسلمين فكيف يجوز أن ينسب إلى علي مثل ذلك ثم يقال يا ليت شعري متى عزم علي على قتل عبيد الله ومتى تمكن علي من قتل عبيد الله أو متى تفرغ له حتى ينظر في أمره وعبيد الله كان معه ألوف مؤلفة من المسلمين مع معاوية وفيهم خير من عبيد الله بكثير وعلي لم يمكنه عزل معاوية وهو عزل مجرد أفكان يمكنه قتل عبيد الله ومن حين مات عثمان تفرق الناس وعبد الله بن عمر الرجل الصالح لحق بمكة ولم يبايع أحدا ولم يزل معتزل الفتنة حتى اجتمع الناس على معاوية مع محبته لعلي ورؤيته له أنه هو المستحق للخلافة وتعظيمه له وموالاته له وذمه لمن يطعن عليه ولكن كان لا يرى الدخول في القتال بين المسلمين ولم يمتنع عن موافقة على إلا في القتال وعبيد الله بن عمر لحق معاوية بعد مقتل عثمان كما لحقه غيره ممن كانوا يميلون إلى عثمان وينفرون عن علي ومع هذا فلم يعرف لعبيدالله من القيام في الفتنة ما عرف لمحمد بن أبي بكر والأشتر النخعي وأمثالهما فإنه بعد القتال وقع الجميع في الفتنة وأما قبل مقتل عثمان فكان أولئك ممن أثار الفتنة بين المسلمين
6
286(187/179)
ومن العجب أن دم الهرمزان المتهم بالنفاق والمحاربة لله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد تقام فيه القيامة ودم عثمان يجعل لا حرمة له وهو إمام المسلمين المشهود له بالجنة الذي هو وإخوانه أفضل الخلق بعد النبين ومن المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكف الناس عن الدماء وأصبر الناس على من نال من عرضه وعلى من سعى في دمه فحاصروه وسعوا في قتله وقد عرف إرادتهم لقتله وقد جاءه المسلمون من كل ناحية ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم وهو يأمر الناس بالكف عن القتال ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم وروى أنه قال لمماليكه من كف يده فهو حر وقيل له تذهب إلى مكة فقال لا أكون ممن الحد في الحرم فقيل له تذهب إلى الشام فقال لا أفارق دار هجرتي فقيل له فقاتلهم فقال لا أكون أول من خلف محمدا في أمته بالسيف فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله عند المسلمين ومعلوم أن الدماء الكثيرة التي سفكت باجتهاد علي ومن قاتله لم يسفك قبلها مثلها من دماء المسلمين فإذا كان ما فعله علي مما لا يوجب القدح في علي بل كان دفع الظالمين لعلي من الخوارج وغيرهم من النواصب
6
287(187/180)
القادحين في علي واجبا فلأن يجب دفع الظالمين القادحين في عثمان بطريق الأولى والأحرى إذ كان بعد عثمان عن استحلال دماء المسلمين أعظم من بعد علي عن ذلك بكثير كثير وكان من قدح في عثمان بأنه كان يستحل إراقة دماء المسلمين بتعطيل الحدود كان قد طرق من القدح في علي ماهو أعظم من هذا وسوغ لمن أبغض عليا وعاداه وقاتله أن يقول إن عليا عطل الحدود الواجبة على قتلة عثمان وتعطيل تلك الحدود إن كانت واجبة أعظم فسادا من تعطيل حد وجب بقتل الهرمزان وإذا كان من الواجب الدفع عن علي بأنه كان معذورا باجتهاد أو عجز فلأن يدفع عن عثمان بأنه كان معذورا بطريق الأولى وأما قوله أراد عثمان تعطيل حد الشرب في الوليد بن عقبة حتى حده أمير المؤمنين فهذا كذب عليهما بل عثمان هو الذي أمر عليا بإقامة الحد عليه
6
288
كما ثبت ذلك في الصحيح وعلي خفف عنه وجلده أربعين ولو جلده ثمانين لم ينكر عليه عثمان وقول الرافضي إن عليا قال لا يبطل حد الله وأنا حاضر فهو كذب وإن كان صدقا فهو من أعظم المدح لعثمان فإن عثمان قبل قول علي ولم يمنعه من إقامة الحد مع قدرة عثمان على منعه لو أراد فإن عثمان كان إذا أراد شيئا فعله ولم يقدر على علي منعه وإلا
6
289(187/181)
فلو كان علي قادرا على منعه مما فعله من الأمور التي أنكرت عليه ولم يمنعه مما هو عنده منكر مع قدرته كان هذا قدحا في علي فإذا كان عثمان أطاع عليا فيما أمره به من إقامة الحد دل ذلك على دين عثمان وعدله وعثمان ولى الوليد بن عقبة هذا على الكوفة وعندهم أن هذا لم يكن يجوز فإن كان حراما وعلي قادر على منعه وجب على علي منعه فإذا لم يمنعه دل على جوازه عند علي أو على عجز علي وإذا عجز عن منعه عن الإمارة فكيف لا يعجز عن ضربه الحد فعلم أن عليا كان عاجزا عن حد الوليد لولا أن عثمان أراد ذلك فإذا أراده عثمان دل على دينه وقائل هذا يدعي أن الحدود ما زالت تبطل وعلي حاضر حتى في ولايته يدعون أنه كان يدع الحدود خوفا وتقية فإن كان قال هذا ولم يقله إلا لعلمه بأن عثمان وحاشيته يوافقونه على إقامة الحدود وإلا فلو كان يتقي منهم لما قال هذا ولا يقال إنه كان أقدر منهم على ذلك فإن قائل هذا يدعي أنه كان عاجزا لا يمكنه إظهار الحق بينهم
6
290(187/182)
ودليل هذا أنه لم يمكنه عندهم إقامة الحد على عبيد الله بن عمر وعلى نواب عثمان وغيرهم والرافضة تتكلم بالكلام المتناقض الذي ينقض بعضه بعضا وأما قوله إنه زاد الأذان الثاني يوم الجمعة وهو بدعة فصار سنة إلى الآن فالجواب أن عليا رضي الله عنه كان ممن يوافق على ذلك في حياة عثمان وبعد مقتله ولهذا لما صار خليفة لم يأمر بإزالة هذا الأذان كما أمر بما أنكره من ولاية طائفة من عمال عثمان بل أمر بعزل معاوية وغيره ومعلوم أن إبطال هذه البدعة كان أهون عليه من عزل أولئك ومقاتلتهم التي عجز عنها فكان علي إزالة هذه البدعة من الكوفة ونحوها من أعماله أقدر منه على إزالة أولئك ولو أزال ذلك لعلمه الناس ونقلوه فإن قيل كان الناس لا يوافقونه على إزالتها قيل فهذا دليل على أن الناس وافقوا عثمان على استحبابها واستحسانها حتى الذين قاتلوا مع علي كعمار وسهل بن حنيف وغيرهما من السابقين الأولين وإلا فهؤلاء الذين هم أكابر الصحابة لو أنكروا لم يخالفهم غيرهم وإن قدر أن في الصحابة من كان ينكر
6
291(187/183)
هذا ومنهم من لا ينكره كان ذلك من مسائل الاجتهاد ولم يكن هذا مما يعاب به عثمان وقول القائل هي بدعة إن أراد بذلك أنه لم يكن يفعل قبل ذلك فكذلك قتال أهل القبلة بدعة فإنه لم يعرف أن إماما قاتل أهل القبلة قبل علي وأين قتال أهل القبلة من الأذان فإن قيل بل البدعة ما فعل بغير دليل شرعي قيل لهم فمن أين لكم أن عثمان فعل هذا بغير دليل شرعي وإن عليا قاتل أهل القبلة بدليل شرعي وأيضا فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحدث في خلافته العيد الثاني بالجامع فإن السنة المعروفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان أنه لا يصلي في المصر إلا جمعة واحدة ولا يصلى يوم النحر والفطر إلا عيد واحد والجمعة كانوا يصلونها في المسجد والعيد يصلونه بالصحراء وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة وعرفة قبل الصلاة وفي العيد بعد الصلاة واختلف عنه في الاستسقاء فلما كان على عهد علي قيل له إن بالبلد ضعفاء لا يستطيعون
6
292(187/184)
الخروج إلى المصلى فاستخلف عليهم رجلا صلى بالناس بالمسجد قيل إنه صلى ركعتين بتكبير وقيل بل صلى أربعا بلا تكبير وأيضا فإن ابن عباس عرف في خلافة علي بالبصرة ولم يرو عن علي أنه أنكر ذلك وما فعله عثمان من النداء الأول اتفق عليه الناس بعده أهل المذاهب الأربعة وغيرهم كما اتفقوا على ما سنه أيضا عمر من جمع الناس في رمضان على إمام واحد وأما ما سنة علي من إقامة عيدين فتنازع العلماء فيه وفي الجمعة على ثلاثة أقوال قيل إنه لا يشرع في المصر إلا جمعة واحدة وعيد واحد كقول مالك وبعض أصحاب أبي حنيفة لأنه السنة وقيل بل يشرع تعدد صلاة العيد في المصر دون الجمعة كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين لكل قائل هذا بناه على أن صلاة العيد لا يشترط لها الإقامة والعدد كما يشترط للجمعة وقالوا إنها تصلى في الحضر والسفر وهذا خلاف المتواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين وقيل بل يجوز عند الحاجة أن تصلي جمعتان في المصر كما صلى على عيدين للحاجة وهذا مذهب أحمد بن حنبل في المشهور عنه وأكثر أصحاب أبي حنيفة وأكثر المتأخرين من
6
293(187/185)
أصحاب الشافعي وهؤلاء يحتجون بفعل علي بن أبي طالب لأنه من الخلفاء الراشدين وكذلك أحمد بن حنبل جوز التعريف بالأمصار واحتج بأن ابن عباس فعله بالبصرة وكان ذلك في خلافة علي وكان ابن عباس نائبه بالبصرة فأحمد بن حنبل وكثير من العلماء يتبعون عليا فيما سنه كما يتبعون عمر وعثمان فيما سناه وآخرون من العلماء كمالك وغيره لا يتبعون عليا فيما سنه وكلهم متفقون على اتباع عمر وعثمان فيما سناه فإن جاز القدح في عمر وعثمان فيما سناه وهذا حاله فلأن يقدح في علي فيما سنه وهذا حاله بطريق الأولى وإن قيل بأن ما فعله على سائغ لا يقدح فيه لأنه باجتهاده أو لأنه سنة يتبع فيه فلأن يكون ما فعله عمر وعثمان كذلك بطريق الأولى ومن هذا الباب ما يذكر مما فعله عمر مثل تضعيف الصدقة التي هي جزية في المعنى على نصارى بني تغلب وأمثال ذلك ثم من العجب أن الرافضة تنكر شيئا فعله عثمان بمشهد من الأنصار والمهاجرين ولم ينكروه عليه واتبعه المسلمون كلهم عليه في أذان الجمعة وهم قد زادوا في الأذان شعارا لم يكن يعرف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا نقل أحد أن النبي صلى الله عليه
6
294(187/186)
وسلم أمر بذلك في الأذان وهو قولهم وحي على خير العمل وغاية ما ينقل إن صح النقل أن بعض الصحابة كابن عمر رضي الله عنهما كان يقول ذلك أحيانا على سبيل التوكيد كما كان بعضهم يقول بين النداءين حي على الصلاة حي على الفلاح وهذا يسمى نداء الأمراء وبعضهم يسميه التثويب ورخص فيه بعضهم وكرهه أكثر العلماء ورووا عن عمر وابنه وغيرهما كراهة ذلك ونحن نعلم بالاضطرار أن الأذان الذي كان يؤذنه بلال وابن أم مكتوم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأبو محذورة بمكة وسعد القرظ في قباء لم يكن فيه هذا الشعار الرافضي ولو كان فيه لنقله المسلمون ولم يهملوه كما نقلوا ما هو أيسر منه فلما لم يكن في الذين نقلوا الأذان من ذكر هذه الزيادة علم أنها بدعة باطلة وهؤلاء الأربعة كانوا يؤذنون بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ومنه تعلموا الأذان وكانوا يؤذنون في أفضل المساجد مسجة مكة ومسجد المدينة ومسجد قباء وأذانهم متواتر عند العامة والخاصة
6
295
ومعلوم أن نقل المسلمين للأذان أعظم من نقلهم إعراب آية كقوله وأرجلكم ونحو ذلك ولا شيء أشهر في شعائر الإسلام من الأذان فنقله أعظم من نقل سائر شعائر الإسلام وإن قيل فقد اختلف في صفته قيل بل كل ما ثبت به النقل فهو صحيح سنة ولا ريب أن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذورة الأذان وفيه الترجيع والإقامة مثناة كالأذان ولا ريب أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ولم يكن في أذانه ترجيع فنقل إفراد الإقامة صحيح بلا ريب ونقل تثنيتها صحيح بلا ريب وأهل العلم بالحديث يصححون هذا وهذا وهذا مثل أنواع التشهدات المنقولات ولكن اشتهر بالحجاز آخرا إفراد الإقامة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم بلالا وأما الترجيع فهو يقال سرا وبعض الناس يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم علمه لأبي محذورة ليثبت الإيمان في قلبه لا أنه من الأذان فقد اتفقوا على
6
296(187/187)
أنه لقنه أبا محذورة فلم يبق بين الناس خلاف في نقل الأذان المعروف وأما قوله وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل وعابوا أفعاله وقالوا له غبت عن بدر وهربت يوم أحد ولم تشهد بيعة الرضوان والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى فالجواب أما قوله وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل فإن أراد أنهم خالفوه خلافا يبيح قتله أو أنهم كلهم أمروا بقتله ورضوا بقتله وأعانوا على قتله فهذا مما يعلم كل أحد أنه من أظهر الكذب فإنه لم يقتله إلا طائفة قليلة باغية ظالمة قال ابن الزبير لعنت قتلة عثمان خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية فقتلهم الله كل قتلة ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب يعني هربوا ليلا وأكثر المسلمين كانوا غائبين وأكثر أهل المدينة الحاضرين لم يكونوا يعلمون أنهم يريدون قتله حتى قتلوه وإن أراد أن كل المسلمين خالفوه في كل ما فعله أو في كل ما أنكر عليه فهذا أيضا كذب فما من شىء أنكر عليه إلا وقد وافقه عليه
6
297(187/188)
كثير من المسلمين بل من علمائهم الذين لا يتهمون بمداهنة والذين وافقوا عثمان على ما أنكر عليه أكثر وأفضل عند المسلمين من الذين وافقوا عليا على ما أنكر عليه إما في كل الأمور وإما في غالبها وبعض المسلمين أنكر عليه بعض الأمور وكثير من ذلك يكون الصواب فيه مع عثمان وبعضه يكون فيه مجتهدا ومنه ما يكون المخالف له مجتهدا إما مصيبا وإما مخطئا وأما الساعون في قتله فكلهم مخطئون بل ظالمون باغون معتدون وإن قدر أن فيهم من قد يغفر الله له فهذا لا يمنع كون عثمان قتل مظلوما والذي قال له غبت عن بدر وبيعة الرضوان وهربت يوم أحد قليل جدا من المسلمين ولم يعين منهم إلا اثنان أو ثلاثة أو نحو ذلك وقد اجابهم عثمان وابن عمر وغيرهما عن هذا السؤال وقالوا يوم بدر غاب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ليخلفه عن ابنة النبي صلى الله عليه وسلم فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره ويوم الحديبية بايع النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان بيده ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير له من يده لنفسه وكانت البيعة
6
298(187/189)
بسببه فإنه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم رسولا إلى أهل مكة بلغه انهم قتلوه فبايع أصحابه على أن لا يفروا وعلى الموت فكان عثمان شريكا في البيعة مختصا بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم له وطلبت منه قريش أن يطوف بالبيت دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فامتنع من ذلك وقال حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يرسل عمر فأخبره أنه ليس له بمكة شوكة يحمونه وأن عثمان له بمكة بنو أمية وهم من أشراف مكة فهم يحمونه وأما التولي يوم أحد فقد قال الله تعالى إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ماكسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم سورة آل عمران فقد عفا الله عن جميع المتولين يوم أحد فدخل في العفو من هو دون عثمان فكيف لا يدخل هو فيه مع فضله وكثرة حسناته
6
300
فصل قال الرافضي وقد ذكر الشهرستاني وهو من أشد المتعصبين على الإمامية أن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم فأول تنازع وقع في مرضه ما رواه البخاري بإسناده إلى أبن عباس قال لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي توفي فيه فقال ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده فقال عمر إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله وكثر اللغط فقال النبي صلى الله عليه وسلم قوموا عني لا ينبغي عند التنازع الجواب أن يقال ما ينقله الشهرستاني وأمثاله من المصنفين في الممل والنحل عامته مما ينقله بعضهم عن بعض وكثير من ذلك لم يحرر فيه
6
301(187/190)
أقوال المنقول عنهم ولم يذكر الإسناد في عامة ما ينقله بل هو ينقل من كتب من صنف المقالات قبله مثل أبي عيسى الوراق وهو من المصنفين للرافضة المتهمين في كثر مما ينقلونه ومثل أبي يحيى وغيرهما من الشيعة وينقل أيضا من كتب بعض الزيدية والمعتزلة الطاعنين في كثير من الصحابة ولهذا تجد نقل الأشعري أصح من نقل هؤلاء لأنه أعلم بالمقالات وأشد احترازا من كذب الكذابين فيها مع أنه يوجد في نقله ونقل عامة من ينقل المقالات بغير ألفاظ أصحابها ولا إسناد عنهم من الغلط ما يظهر به الفرق بين قولهم وبين ما نقل عنهم حتى في نقل الفقهاء بعضهم مذاهب بعض فإنه يوجد فيها غلط كثير وإن لم يكن الناقل ممن يقصد الكذاب بل يقع الغلط على من ليس له غرض في الكذب عنه بل هو معظم له أو متبع له ورسول الله صلى الله عليه وسلم كل المؤمنين متفقون على موالاته وتعظيمه ووجوب الباعة ومع هذا فغير علماء الحديث يكثر في نقلهم الغلط عليه ويزيدون في كلامه وينقصون نقصا يفسد المعنى الذي قصده بل يغلطون في معرفة أموره المشهورة المتواترة عند العامة وغيرهم
6
302(187/191)
ونحن وإن كنا قد بينا كذب كثير مما ينقله هذا الرافضي فمعلوم أن كثيرا ممن ينقل ذلك لم يتعمد الكذب لا هذا ولا نحوه لكن وقع إما تعمدا للكذب من بعضهم وإما غلطا وسوء حفظ ثم قبله الباقون لعدم علمهم ولهواهم فإن الهوى يعمى ويصم وصاحب الهوى يقبل ما وافق هواه بلا حجة توجب صدقة ويرد ما خالف هواه بلا حجة توجب رده وليس في الطوائف أكثر تكذيبا بالصدق وتصديقا بالكذب من الرافضة فإن رؤوس مذهبهم وأئمته والذين ابتدعوه وأسسوه كانوا منافقين زنادقة كما ذكر ذلك عن غير واحد من أهل العلم وهذا طاهر لمن تأمله بخلاف قول الخوارج فإنه كان عن جهل بتأول القرآن وغلو في تعظيم الذنوب وكذلك قول الوعيدية والقدرية كان عن تعظيم الذنوب وكذلك قول المرجئة كان أصل مقصودهم نفى التكفير عمن صدق الرسل ولهذا رؤوس المذاهب التي ابتدعوها لم يقل أحد أنهم زنادقة منافقون بخلاف الرافضة فإن رؤوسهم كانوا كذلك مع أن كثيرا منهم ليسوا منافقين ولا كفارا بل بعضهم له إيمان وعمل صالح ومنهم من هو مخطىء يغفر له خطاياه ومنهم من هو صاحب ذنب يرجى له مغفرة الله لكن الجهل بمعنى القرآن والحديث
6
303(187/192)
شامل لهم كلهم فليس فيهم إمام من أئمة المسلمين في العلم والدين وأصل المذهب إنما ابتدعه زنادقة منافقون مرادهم إفساد دين الإسلام وقد رأيت كثيرا من كتب أهل المقالات التي ينقلون فيها مذاهب الناس ورأيت أقوال أولئك فرأيت فيها اختلافا كثيرا وكثير من الناقلين ليس قصده الكذب لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم وسائر ما به يعرف مرادهم قد يتعسر على بعض الناس ويتعذر على بعضهم ثم إن غالب كتب أهل الكلام والناقلين للمقالات ينقلون في أصول الملل والنحل من المقالات ما يطول وصفه ونفس ما بعث الله به رسوله وما يقوله أصحابه والتابعون لهم في ذلك الأصل الذي حكوا فيه أقوال الناس لا ينقلونه لا تعمدا منهم لتركه بل لأنهم لم يعرفوه بل ولا سمعوه لقلة خبرتهم بنصوص الرسول وأصحابه والتابعين وكتاب المقالات للأشعري أجمع هذه الكتب وأبسطها وفيه من الأقوال وتحريرها ما لا يوجد في غيرها وقد نقل مذهب أهل السنة والحديث بحسب ما فهمه وظنه قولهم وذكر أنه يقول بكل ما نقله عنهم وجاء بعده من أتباعه كابن فورك من لم يعجبه ما نقله عنهم فنقص
6
304(187/193)
من ذلك وزاد مع هذا فلكون خبرته بالكلام أكثر من خبرته بالحديث ومقالات السلف وأئمة السنة قد ذكر في غير موضع عنهم أقوالا في النفي والإثبات لا تنقل عن أحد منهم أصلا مثل ذلك الإطلاق لا لفظا ولا معنى بل المنقول الثابت عنهم يكون فيه تفصيل في نفي ذلك اللفظ والمعنى المراد وإثباته وهم منكرون الإطلاق الذي أطلقه من نقل عنهم ومنكرون لبعض المعنى الذي أراده بالنفي والإثبات والشهرستاني قد نقل في غير موضع أقوالا ضعيفة يعرفها من يعرف مقالات الناس مع أن كتابه أجمع من أكثر الكتب المصنفة في المقالات وأجود نقلا لكن هذا الباب وقع فيه ما وقع ولهذا لما كان خبيرا بقول الأشعرية وقول ابن سينا ونحوه من الفلاسفة كان أجود ما نقله قول هاتين الطائفتين وأما الصحابة والتابعون وائمة السنة والحديث فلا هو ولا أمثاله يعرفون أقوالهم بل ولا سمعوها على وجهها بنقل أهل العلم لها بالأسانيد المعروفة وإنما سمعوا جملا تشتمل على حق وباطل ولهذا إذا اعتبرت مقالاتهم الموجودة في مصنفاتهم الثابتة بالنقل
6
305(187/194)
عنهم وجد من ذلك ما يخالف تلك النقول عنهم وهذا من جنس نقل التواريخ والسير ونحو ذلك من المرسلات والمقاطيع وغيرهما مما فيه صحيح وضعيف وإذا كان كذلك فنقول ما علم بالكتاب والسنة والنقل المتواتر من محاسن الصحابة وفضائلهم لا يجوز أن يدفع بنقول بعضها منقطع وبعضها محرف وبعضها لا يقدح فيما علم فإن اليقين لا يزول بالشك ونحن قد تيقنا ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف قبلنا وما يصدق ذلك من المنقولات المتواترة من أدلة العقل من أن الصحابة رضي الله عنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء فلا يقدح في هذا أمور مشكوك فيها فكيف إذا علم بطلانها وأما قوله إن الشهرستاني من أشد المتعصبين على الإمامية فليس كذلك بل يميل كثير إلى أشياء من أمورهم بل يذكر أحيانا أشياء من كلام الإسماعيلية الباطنية وإن لم يكن الأمر كذلك وقد ذكر من اتهمه بعض الناس بأنه من الإسماعيلية وإن لم يكن الأمر كذلك وقد ذكر من اتهمه شواهد من كلامه وسيرته وقد يقال هو مع الشيعة بوجه ومع أصحاب الأشعرى بوجه
6
306
وقد وقع في هذا كثير من أهل الكلام والوعاظ وكانوا يدعون بالأدعية المأثورة في صحيفة علي بن الحسين وإن كان أكثرها كذبا على علي ابن الحسين وبالجملة فالشهرستاني يظهر الميل إلى الشيعة إما بباطنه وإما مداهنة لهم فإن هذا الكتاب كتاب الملل والنحل صنفه لرئيس من رؤسائهم وكانت له ولاية ديوانية وكان للشهرستاني مقصود في استعطافه له وكذلك صنف له كتاب المصارعة بينه وبين ابن سينا لميله إلى التشيع والفلسفة وأحسن أحواله أن يكون من الشيعة إن لم يكن من الإسماعيلية أعني المصنف له ولهذا تحامل فيه للشيعة تحاملا بينا
6
307(187/195)
وإذا كان في غير ذلك من كتبه يبطل مذهب الإمامية فهذا يدل على المداهنة لهم في هذا الكتاب لأجل من صنفه له وأيضا فهذه الشبهة التي حكاها الشهرستاني في أول كتاب الملل والنحل عن إبليس في مناظرته للملائكة لا تعلم إلا بالنقل وهو لم يذكر لها إسنادا بل لا إسناد لها أصلا فإن هذه لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة ولا عن أئمة المسلمين المشهورين ولا هي أيضا مما هو معلوم عند أهل الكتاب وهذه لا تعلم إلا بالنقل عن الأنبياء وإنما توجد في شيء من كتب المقالات وبعض كتب النصارى والشهرستاني أكثر ما ينقله من المقالات من كتب المعتزلة وهم يكذبون بالقدر فيشبه والله أعلم أن يكون بعض المكذبين بالقدر وضع هذه الحكاية ليجعلها حجة على المثبتين للقدر كما يضعون شعرا على لسان يهودي وغير ذلك فإنا رأينا كثيرا من القدرية يضعون على لسان الكفار ما فيه حجة على الله ومقصودهم بذلك التكذيب بالقدر
6
308(187/196)
وأن من صدق به فقد جعل للخلق حجة على الخالق كما وجدنا كثيرا من الشيعة يضع حججا لهم على لسان بعض اليهود ليقال لأهل السنة أجيبوا هذا اليهودي ويخاطب بذلك من لا يحسن أن يبين فساد تلك الحجة من جهال العامة وأما قول القائل إن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم فهذا من أظهر الكذب الباطل فإنه إن كان قصده أن هذا أول ذنب أذنب فهذا باطل ظاهر البطلان وإن كان قصده أن هذا أول اختلاف وقع بعد تلك الشبهة فهو باطل من وجوه أحدها أن شبهة إبليس لم توقع خلافا بين الملائكة ولا سمعها الآدميون منه حتى يوقع بينهم خلافا والثاني أن الخلاف ما زال بين بني آدم من زمن نوح واختلاف الناس قبل المسلمين أعظم بكثير من اختلاف المسلمين وقد قال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم سورة البقرة قال ابن عباس كان بين آدم
6
309(187/197)
ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ثم اختلفوا بعد ذلك وقال تعالى وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا سورة يونس وقال تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم سورة هود وقالت المائكة لما قال تعالى إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك سورة البقرة وقد أخبر الله تعالى أن ابني آدم قتل أحدهما أخاه وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها فإنه أول من سن القتل وقال تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد سورة البقرة
6
310(187/198)
وقد قال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات سورة آل عمران فهذه نصوص القرآن تخبر بالاختلاف والتفرق الذي كان في الأمم قبلنا وقال صلى الله عليه وسلم افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وقد أخبر الله من تكذيب قوم عاد وثمود وفرعون لأنبيائهم ما فيه عبرة وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذروني ماتركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم وإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وقال تعالى عن أهل الكتاب قبلنا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله سورة المائدة وقال تعالى ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة سورة المائدة وأمثال ذلك مما يعلم بالاضطرار في الأمم قبلنا من الاختلاف
6
311(187/199)
والنزاع والخلاف الواقع في غير أهل الملل أكثر منه في أهل الملل فكل من كان إلى متابعة الأنبياء أقرب كان الخلاف بينهم أقل فالخلاف المنقول عن فلاسفة اليونان والهند وأمثالهم أمرلا يحصيه إلا الله وبعده الخلاف عن أعظم الملل ابتداعا كالرافضة فينا وبعد ذلك الخلاف الذي بين المعتزلة ونحوهم وبعد ذلك خلاف الفرق المنتسبة إلى الجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية ونحوهم ثم بعد ذلك اختلاف أهل الحديث وهم أقل الطوائف اختلافا في أصولهم لأن ميراثهم من النبوة أعظم من ميراث غيرهم فعصمهم حبل الله الذي اعتصموا به فقال واعتصموا بحبل الله جميعا سورة آل عمران فكيف يقال مع الاختلاف الذي في الأمم قبلنا إن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم وكم قد وقع من الفساد والاختلاف قبل هذا والتحديد يشبهة إبليس والاختلاف الواقع في المرض باطل فأما شبهة إبليس فلا يعرف لها أثر إسناد كما تقدم والكذب ظاهر عليها وأما ما وقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يقع قبل ذلك ما هو أعظم منه وقد وقع قتال بين أهل قباء حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم
6
312(187/200)
وقد تنازع المسلمون يوم بدر في الأنفال فقال الآخذون هي لنا وقال الذاهبون خلف العدو هي لنا وقال الحافظون لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي لنا حتى أنزل الله تعالى يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم سورة الأنفال وقد كان بين الأنصار خلاف في قصة الإفك حتى هم الحيان بالاقتتال فسكنهم النبي صلى الله عليه وسلم في شخص هل يجوز قتله أم لا يجوز وقد وقع نزاع بين الأنصار مرة بسبب يهودي كان يذكرهم حروبهم في الجاهلية التي كانت بين الأوس والخزرج حتى أختصموا وهموا بالقتال حتى أنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هوي إلى صراط مستقيم آل عمران وقد ثبت في الصحيح أنهم كانوا في سفر فاقتتل رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقال المهاجري يا للمهاجرين وقال الأنصاري يا للأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم دعوها فإنها منتنة
6
313
وقد كان الصحابة يتنازعون في مراد النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كما ثبت في الصحيحين عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم الصلاة في الطريق فقال بعضهم نصلي ولا نترك الصلاة وقال بعضهم لا نصلي إلا في بني قريظة فصلوا بعد غروب الشمس فما عنف النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم وفي البخاري عن ابن الزبير أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد تميم قال أبو بكر أمر القعقاع بن معبد وقال عمر أمر الأقرع بن حابس فقال ما أردت إلا خلافي فقال ما أردت خلافك فارتفعت أصواتهما فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية سورة الحجرات فكان عمر بعد ذلك لا يحدثه إلا كأخي السرار
6
314(187/201)
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بشيء أو يأذن فيه فيراجع فيه فينسخ الله ذلك الأمر الأول كما أنه لما أمرهم بكسر الأواني التي فيها لحوم الحمر قالوا ألا نريقها قال أريقوها ولما كانوا في سفر استأذنوه في نحر ظهورهم فأذن لهم حتى جاه عمر فقال يا رسول الله إن أذنت في ذلك نفد ظهرهم ولكن اجمع ما معهم وادع الله تبارك وتعالى فيه ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ومن ذلك حديث أبي هريرة لما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم بغلته وقال اذهب فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فبشره بالجنة فلقيه عمر فقال فضربه في صدره وقال ارجع فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له عمر فلا تفعل فإني أخاف أن يتكل الناس عليها فخلهم
6
315
يعملون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلهم وأمثال ذلك كثير الوجه الثالث أن الذي وقع في مرضه كان من أهون الأشياء وأبينها وقد ثبت في الصحيح أنه قال لعائشة في مرضه ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي ثم قال يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر فلما كان يوم الخميس هم أن يكتب كتابا فقال عمر ماله أهجر فشك عمر هل هذا القول من هجر الحمي أو هو مما يقول على عادته فخاف عمر أن يكون من هجر الحمى فكان هذا مما خفى على عمر كما خفى عليه موت النبي صلى الله عليه وسلم بل أنكره ثم قال بعضهم هاتوا كتابا وقال بعضهم لا تأتوا بكتاب فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الكتاب في هذا الوقت لم يبق فيه فائدة لأنهم يشكون هل أملاه مع تغيره بالمرض أم مع سلامته من ذلك فلا يرفع النزاع فتركه ولم تكن كتابة الكتاب مما أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلغه في ذلك
6
316(187/202)
الوقت إذ لو كان كذلك لما ترك صلى الله عليه وسلم ما أمره الله به لكن ذلك مما رآه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبي بكر ورأى أن الخلاف لا بد أن يقع وقد سأل ربه لأمته ثلاثا فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة سأله أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطاه إياها وسأله أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه إياها وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعه إياها وهذا ثبت في الصحيح وقال ابن عباس الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب الكتاب فإنها رزية أي مصيبة في حق الذين شكوا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وطعنوا فيها وابن عباس قال ذلك لما ظهر أهل الأهواء من الخوارج والروافض ونحوهم وإلا فابن عباس كان يفتي بما في كتاب الله فإن لم يجد في كتاب الله فبما في سنة رسول الله فإن لم يجد في سنة رسول الله صلى
6
317
الله عليه وسلم فبما أفتى أبو بكر وعمر وهذا ثابت من حديث ابن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس ومن عرف حال ابن عباس علم أنه كان يفضل أبا بكر وعمر على علي رضي الله عنه ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك كتابة الكتاب باختياره فلم يكن في ذلك نزاع ولو استمر على إرادة الكتاب ما قدر أحد أن يمنعه ومثل هذا النزاع قد كان يقع في صحته ما هو أعظم منه والذي وقع بين أهل قباء وغيرهم كان أعظم من هذا بكثير حتى أنزل فيه وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما سورة الحجرات لكن روى أنه كان بينهم قتال بالجريد والنعال ومن جهل الرافضة أنهم يزعمون أن ذلك الكتاب كان كتابه بخلافة علي وهذا ليس في القصة ما يدل عليه بوجه من الوجوه ولا في
6
318(187/203)
شىء من الحديث المعروف عند أهل النقل أنه جعل عليا خليفة كما في الأحاديث الصحيحة ما يدل على خلافة أبي بكر ثم يدعون مع هذا أنه كان قد نص على خلافة على نصا جليا قاطعا للعذر فإن كان قد فعل ذلك فقد أغنى عن الكتاب وإن كان الذين سمعوا ذلك لا يطيعونه فهم أيضا لا يطيعون الكتاب فأي فائدة لهم في الكتاب لو كان كما زعموا وأما قوله الخلاف الثاني الواقع في مرضه أنه قال جهزوا جيش أسامة لعن الله من تخلف عنه فقال قوم يجب علينا امتثال أمره وأسامة قد برز وقال قوم قد اشتد مرضه ولا يسع قلوبنا المفارقة فالجواب أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالنقل فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لعن الله من تخلف عنه ولا نقل هذا بإسناد ثبت بل ليس له إسناد في كتب أهل الحديث أصلا ولا امتنع أحد من أصحاب أسامة من الخروج معه لو خرج بل كان أسامة
6
319(187/204)
هو الذي توقف في الخروج لما خاف أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم فقال كيف أذهب وأنت هكذا أسأل عنك الركبان فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم في المقام ولو عزم على أسامة في الذهاب لأطاعة ولو ذهب أسامة لم يتخلف عنه أحد ممن كان معه وقد ذهبوا جميعهم معه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتخلف عنه أحد بغير إذنه وأبو بكر رضي الله عنه لم يكن في جيش أسامة باتفاق أهل العلم لكن روى أن عمر كان فيهم وكان عمر خارجا مع أسامة لكن طلب منه أبو بكر أن يأذن له في المقام عنده لحاجته إليه فأذن له مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات كان أحرص الناس على تجهيز أسامة هو وأبو بكر وجمهور الصحابة أشاروا عليه بأن لا يجهزه خوفا عليهم من العدو فقال أبو بكر رضي الله عنه والله لا أحل راية عقدها النبي صلى الله عليه وسلم وكان إنفاذه من أعظم المصالح التي فعلها أبو بكر رضي الله عنه في أول خلافته ولم يكن في شىء من ذلك نزاع مستقر أصلا والشهرستاني لا خبرة له بالحديث وآثار الصحابة والتابعين ولهذا نقل في كتابه هذا ما ينقله من اختلاف غير المسلمين واختلاف المسلمين ولم ينقل مع هذا مذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في الأصول
6
320(187/205)
الكبار لأنه لم يكن يعرف هذا هو وأمثاله من أهل الكلام وإنما ينقلون ما يحدثونه في كتب المقالات وتلك فيها أكاذيب كثيرة من جنس مافي التواريخ ولكن أهل الفرية يزعمون أن الجيش كان فيه أبو بكر وعمر وأن مقصود الرسول كان إخراجهما لئلا ينازعا عليا وهذا إنما يكذبه ويفتريه من هو من أجهل الناس بأحوال الرسول والصحابة وأعظم الناس تعمدا للكذب وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم طول مرضه يأمر أبا بكر أن يصلي بالناس والناس كلهم حاضرون ولو ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس من ولاه لأطاعوه وكان المهاجرون والأنصار يحاربون من نازع أمر الله ورسوله وهم الذين نصروا دينه أولا وآخرا ولو أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستخلف عليا في الصلاة هل كا يمكن أحدا أن يرده ولو أراد تأميره على الحج على أبي بكر ومن معه هل كان ينازعه أحد ولو قال لأصحابه هذا هو الأمير عليكم والإمام بعدي هل كان يقدر أحد أن يمنعه ذلك ومعه جماهير المسلمين من المهاجرين والأنصار كلهم مطيعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيهم من يبغض عليا ولا من قتل علي أحدا من أقاربه وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح في عشرة آلاف سليم ألف مزينة ألف وجهينة ألف وغفار ألف ونحو ذلك والنبي
6
321
صلى الله عليه وسلم يقول أسلم سالمها الله وغفار غفر الله لها ويقول قريش والأنصار وأسلم وغفار وجهينة موالى دون الناس ليس لهم مولى دون الله ورسوله وهؤلاء لم يقتل على أحدا منهم ولا أحدا من الأنصار وقد كان عمر رضي الله عنه أشد عداوة منذ أسلم للمشركين من على فكانوا يبغضونه أعظم من بغضهم لسائر الصحابة وكان الناس ينفرون عن عمر لغلظته وشدته أعظم من نفورهم عن علي حتى كره بعضهم توليه أبي بكر له وراجعوه لبغض النفوس للحق لأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم فلم
6
322(187/206)
يكن قط سبب يدعو المسلمين إلى تأخير من قدمه النبي صلى الله عليه وسلم ونص عليه وتقدم من يريد تأخيره وحرمانه ولو أراد إخراجهما في جيش أسامة خوفا منهما لقال للناس لا تبايعوهما فياليت شعري ممن كان يخاف الرسول فقد نصره الله وأعزه وحوله المهاجرون والأنصار الذين لو أمرهم بقتل آبائهم وأبنائهم لفعلوا وقد أنزل الله سورة براءة وكشف فيها حال المنافقين وعرفهم المسلمين وكانوا مدحوضين مذمومين عند الرسول وأمته وأبو بكر وعمر كانا أقرب الناس عنده وأكرم الناس عليه وأحبهم إليه وأخصهم به وأكثر الناس له صحبة ليلا ونهارا وأعظمهم موافقة له ومحبة له وأحرص الناس على امتثال أمره وإعلاء دينه فكيف يجوز عاقل أن يكون هؤلاء عند الرسول من جنس المنافقين الذين كان أصحابه قد عرفوا إعراضه عنهم وإهانته لهم ولم يكن يقرب أحدا منهم بعد سورة براءة بل قال الله تعالى لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سورة الأحزاب فانتهوا عن إظهار النفاق وانقمعوا هذا وأبو بكر عنده أعز الناس وأكرمهم وأحبهم إليه
6
323(187/207)
وأما قوله الخلاف الثالث في موته فالجواب لا ريب أن عمر خفي عليه موته أولا ثم أقر به من الغد واعترف بأنه كان مخطئا في إنكار موته فارتفع الخلاف وليس لفظ الحديث كما ذكره الشهرستاني ولكن في الصحيحين عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال اجلس يا عمر فأبي أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر فقال أبو بكر أما بعد فمن كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه الآية سورة آل عمران قال والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله قد أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها الناس كلهم فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها فأخبرني ابن المسيب أن عمر قال والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويت
6
324
إلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات وأما قوله الخلاف الرابع في الإمامة وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينيه مثل ما سل على الإمامة في كل زمان فالجواب أن هذا من أعظم الغلط فإنه ولله الحمد لم يسل سيف على خلافة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا كان بين المسلمين في زمنهم نزاع في الإمامة فضلا عن السيف ولا كان بينهم سيف مسلول علىشىء من الدين والأنصار تكلم بعضهم بكلام أنكره عليهم
6
325(187/208)
أفاضلهم كأسيد بن حضير وعباد بن بشر وغيرهما ممن هو أفضل من سعد بن عبادة نفسا وبيتا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيحين من غير وجه أنه قال خير دور الأنصار دار بني النجار ثم دار بني عبد الأشهل ثم دار بني الحارث بن الخزرج ثم دار بني ساعدة وفي كل دور الأنصار خير فأهل الدور الثلاثة المفضلة دار بني النجار وبني عبد الأشهل وبني الحارث بن الخزرج لم يعرف منهم من نازع في الإمامة بل رجال بني النجار كأبي أيوب الأنصارى وأبي طلحة وأبي بن كعب وغيرهم كلهم لم يختاروا إلا أبا بكر وأسيد بن حضير هو الذي كان مقدم الأنصار يوم فتح مكة عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر عن يمينه وهو كان من بني عبد الأشهل وهو كان يأمر ببيعة أبي بكر رضي الله عنه وكذلك غيره من رجال الأنصار وإنما نازع سعد بن عبادة والحباب بن المنذر وطائفة قليلة ثم رجع هؤلاء وبايعوا الصديق ولم يعرف أنه تخلف منهم إلا سعد بن عبادة
6
326(187/209)
وسعد وإن كان رجلا صالحا فليس هو معصوما بل له ذنوب يغفرها الله وقد عرف المسلمون بعضها وهو من أهل الجنة السابقين الأولين من الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم فما ذكره الشهرستاني من أن الأنصار اتفقوا على تقديمهم سعد بن عبادة هو باطل باتفاق أهل المعرفة بالنقل والأحاديث الثابتة بخلاف ذلك وهو وأمثاله وإن لم يتعمدوا الكذب لكن ينقلون من كتب من ينقل عمن يتعمد الكذب وكذلك قول القائل إن عليا كان مشغولا بما أمره النبي صلى الله عليه وسلم من دفنه وتجهيزه وملازمة قبره فكذب ظاهر وهو مناقض لما يدعونه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن إلا بالليل لم يدفن بالنهار وقيل إنه إنما دفن من الليلة المقبلة ولم يأمر أحدا بملازمة قبره ولا لازم على قبره بل قبر في بيت عائشة وعلي أجنبي منها ثم كيف يأمر بملازمة قبره وقد أمر بزعمهم أن يكون إماما بعده ولم يشتغل بتجهيزه على وحده بل علي والعباس وبنو العباس ومولاه شقران وبعض الأنصار وأبو بكر وعمر وغيرهما على باب البيت حاضرين غسله وتجهيزه لم يكونوا حينئذا في بني ساعدة لكن السنة أن يتولى الميت أهله فتولى أهله غسله وأخروا دفنه ليصلي المسلمون عليه فإنهم صلوا عليه أفرادا واحدا بعد واحد
6
327(187/210)
رجالهم ونساؤهم خلق كثير فلم يتسع يوم الاثنين لذلك مع تغسيله وتكفينه بل صلوا عليه يوم الثلاثاء ودفن يوم الأربعاء وأيضا فالقتال الذي كان في زمن علي لم يكن على الإمامة فإن أهل الجمل وصفين والنهروان لم يقاتلوا على نصب إمام غير على ولا كان معاوية يقول أنا الإمام دون على ولا قال ذلك طلحة والزبير فلم يكن أحد ممن قاتل عليا قبل الحكمين نصب إماما يقاتل علي طاعته فلم يكن شىء من هذا القتال على قاعدة من قواعد الإمامة المنازع فيها لم يكن أحد من المقاتلين يقاتل طعنا في خلافة الثلاثة ولا ادعاء للنص على غيرهم ولا طعنا في جواز خلافة علي فالأمر الذي تنازع فيه الناس من أمر الإمامة كنزاع الرافضة والخوارج المعتزلة وغيرهم ولم يقاتل عليه أحد من الصحابة أصلا ولا قال أحد منهم إن الإمام المنصوص عليه هو علي ولا قال إن الثلاثة كانت إمامتهم باطلة ولا قال أحد منهم إن عثمان وعليا وكل من والاهما كافر فدعوى المدعي أن أول سيف سل بين أهل القبلة كان مسلولا على قواعد الإمامة التي تنازع فيها الناس دعوى كاذبة ظاهرة الكذب يعرف كذبها بأدنى تأمل مع العلم بما وقع
6
328(187/211)
وإنما كان القتال قتال فتنة عند كثير من العلماء وعند كثير منهم هو من باب قتال أهل العذل والبغي وهو القتال بتأويل سائغ لطاعة غير الإمام لا على قاعدة دينية ولو أن عثمان نازعه منازعون في الإمامة وقاتلهم لكان قتالهم من جنس قتال علي وإن كان ليس بينه وبين أولئك نزاع في القواعد الدينية ولكن أول سيف سل على الخلاف في القواعد الدينية سيف الخوارج وقتالهم من أعظم القتال وهم الذين ابتدعوا أقوالا خالفوا فيها الصحابة وقاتلوا عليها وهم الذين تواترت النصوص بذكرهم كقوله صلى الله عليه وسلم تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق وعلي رضي الله عنه لم يقاتل أحدا على إمامة من قاتله ولا قاتله أحد على إمامته نفسه ولا ادعى أحد قط في زمن خلافته أنه أحق بالإمامة منه لا عائشة ولا طلحة ولا الزبير ولا معاوية وأصحابه ولا الخوارج بل كل الأمة كانوا معترفين بفضل علي وسابقته بعد قتل
6
329(187/212)
عثمان وأنه لم يبق في الصحابة من يماثله في زمن خلافته كما كان عثمان كذلك لم ينازع قط أحد من المسلمين في إمامته وخلافته ولا تخاصم اثنان في أن غيره أحق بالإمامة منه فضلا عن القتال على ذلك وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وبالجملة فكل من له خبرة بأحوال القوم يعلم علما ضروريا أنه لم يكن بين المسلمين مخاصمة بين طائفتين في إمامة الثلاثة فضلا عن قتال وكذلك علي لم يتخاصم طائفتان في أن غيره أحق بالإمامة منه وإن كان بعض الناس كارها لولاية أحد من الأربعة فهذا لا بد منه فإن من الناس من كان كارها لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فكيف لا يكون فيهم من يكره إمامة بعض الخلفاء لكن لم يكن بين الطوائف نزاع ظاهر في ذلك بالقول فضلا عن السيف كما بين أهل العلم نزاع في مقالات معروفة بينهم في المسائل العملية والعقائد العلمية وقد تجتمع طائفتان فيتنازعون ويتناظرون في بعض المسائل والخلفاء الأربعة لم يكن على عهدهم طائفتان يظهر بينهم النزاع
6
330(187/213)
لا في تقديم أبي بكر على من بعده وصحة إمامته ولا في تقديم عمر وصحة إمامته ولا في تقديم عثمان وصحة إمامته ولا في أن عليا مقدم بعد هؤلاء وليس في الصحابة بعدهم من هو أفضل منه ولا تنازع طائفة من المسلمين بعد خلافة عثمان في أنه ليس في جيش علي أفضل منه لم تفضل طائفة معروفة عليه طلحة والزبير فضلا أن يفضل عليه معاوية فإن قاتلوه مع ذلك لشبهة عرضت لهم فلم يكن القتال له لا على أن غيره أفضل منه ولا أنه الإمام دونه ولم يتسم قط طلحة والزبير باسم الإمارة ولا بايعهما أحد على ذلك وعلي بايعه كثير من المسلمين وأكثرهم بالمدينة على أنه أمير المؤمنين ولم يبايع طلحة والزبير أحد على ذلك ولا طلب أحد منهما ذلك ولا دعا إلى نفسه فإنهما رضي الله عنهما كانا أفضل وأجل قدرا من أن يفعلا مثل ذلك وكذلك معاوية لم يبايعه أحد لما مات عثمان على الإمامة ولا حين كان يقاتل عليا بايعه أحد على الإمامة ولا تسمى بأمير المؤمنين ولا سماه أحد بذلك ولا ادعى معاوية ولاية قبل حكم الحكمين وعلي يسمى نفسه أمير المؤمنين في مدة خلافته والمسلمون معه
6
331(187/214)
يسمونه أمير المؤمنين لكن الذين قاتلوه مع معاوية ما كانوا يقرون له بذلك ولا دخلوا في طاعته مع اعترافهم بأنه ليس في القوم أفضل منه ولكن ادعوا موانع تمنعهم عن طاعته ومع ذلك فلم يحاربوه ولا دعوه وأصحابه إلى أن يبايع معاوية ولا قالوا أنت وإن كنت أفضل من معاوية لكن معاوية أحق بالإمامة منك فعليك أن تتبعه وإلا قاتلناك كما يقول كثير من خيار الشيعة الزيدية إن عليا كان أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ولكن كانت المصلحة الدينية تقتضي خلافة هؤلاء لأنه كان في نفوس كثير من المسلمين نفور عن على بسبب من قتله من أقاربهم فما كانت الكلمة تتفق على طاعته فجاز توليه المفضول لأجل ذلك فهذا القول يقوله كثير من خيار الشيعة وهم الذين ظنوا أن عليا كان أفضل وعلموا أن خلافة أبي بكر وعمر حق لا يمكن الطعن فيها فجمعوا بين هذا وهذا بهذا الوجه وهؤلاء عذرهم آثار سمعوها وأمور ظنوها تقتضي فضل على عليهم كما يقع مثل ذلك في عامة المسائل المتنازع فيها بين الأمة يكون الصواب مع أحد القولين ولكن الآخرون معهم منقولات ظنوها صدقا ولم يكن لهم خبرة بأنها كذب ومعهم من الآيات والأحاديث الصحيحة تأويلات ظنوها مرادة ومن النص ولم تكن كذلك ومعهم نوع من القياس والرأي ظنوه حقا وهو باطل
6
332(187/215)
فهذا مجموع ما يورث الشبه في ذلك إذا خلت النفوس عن الهوى وقل أن يخلو أكثر الناس عن الهوي إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى سورة النجم والمقصود أن جواز تولية المفضول لأسباب مانعه من توليه الفاضل هو قول ذهب إليه طوائف من السنة والشيعة ومع هذا فلم يكن الذين مع معاوية يقولون إنه الإمام والخليفة وإن على علي وأصحابه مبايعته وطاعته وإن كان علي أفضل لأن توليته أصلح فهذا لم يكونوا يقولونه ولا يقاتلون عليه وهذا مما هو معلوم لعموم أهل العلم ولا بدأوا عليا وأصحابه بقتال أصلا ولأن الخوارج بدأوه بذلك فإنهم قتلوا عبد الله بن خباب لما اجتاز بهم فسألوه أن يحدثهم عن أبيه خباب بن الأرت فحدثهم حديثا في ترك الفتن وكان قصده رحمه الله رجوعهم عن الفتنة فقتلوه وبقي دمه مثل الشراك في الدماء فأرسل إليهم علي يقول سلموا إلينا قاتل عبد الله بن خباب فقالوا كلنا قتله ثم أغاروا على سرح الناس وهي الماشية التي أرسلوها تسرح مع الرعاء فلما رأى علي أنهم استحلوا دماء المسلمين وأموالهم ذكر النصوص التي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم في صفتهم وفي الأمر بقتالهم ورأى تلك الصفة منطبقة عليهم فقاتلهم ونصره الله عليهم وفرح بذلك وسجد لله شكرا لما جاءه خبر المخدج أنه معهم فإنه هو كان العلامة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم واتفق الصحابة على قتالهم فقتاله للخوارج كان بنص من الرسول وبإجماع الصحابة
6
333(187/216)
وأما قتال الجمل وصفين فقد ذكر علي رضي الله عنه أنه لم يكن معه نص من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان رأيا وأكثر الصحابة لم يوافقوه على هذا القتال بل أكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء كسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وأمثالهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان مع أنهم معظمون لعلي يحبونه ويوالونه ويقدمونه على من سواه ولا يرون أن أحدا أحق بالإمامة منه في زمنه لكن لم يوافقوه في رأيه في القتال وكان معهم نصوص سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم تدلهم على أن ترك القتال والدخول في الفتنة خير من القتال وفيها ما يقتضى النهي عن ذلك والآثار بذلك كثيرة معروفة وأما معاوية فلم يقاتل معه من السابقين الأولين المشهورين أحد بل كان مع علي بعض السابقين ولم يكن مع معاوية أحد وأكثرهم اعتزلوا الفتنة وقيل كان مع معاوية بعض السابقين الأولين وإن قاتل عمار بن ياسر هو أبو الغادية وكان ممن بايع تحت الشجرة وهم السابقون الأولون ذكر ذلك ابن حزم وغيره
6
334(187/217)
والمقصود أن عليا لم يقاتله أحد على إمامة غيره ولا دعاه إلى أن يكون تحت ولاية غيره ثم إنه لما رفعت المصاحف ودعوا إلى التحكيم واتفقوا على ذلك وأجمعوا في العام القابل واتفق الحكمان على عزل علي ومعاوية وأن يكون الأمر شورى بين المسلمين وقال أحد الحكمين هذا عزل صاحبه وأنا لم أعزل صاحبي ومال أبو موسى إلى تولية عبد الله بن عمر فغضب عبد الله لذلك ولم يكن اتفاقهما على عزل معاوية عن كونه أمير المؤمنين فإنه لم يكن قبل هذا أمير المؤمنين بل عزله عن ولايته على الشام فإنه كان يقول أنا ولاني الخليفتان عمر وعثمان فأنا باق على ولايتي حتى يجتمع الناس على الإمام فاتفق الحكمان على أن يعزل علي عن إمرة المؤمنين ومعاوية عن إمرة الشام وكان مقصود أحدهما إبقاء صاحبه ولم يظهر ما في نفسه فلما أظهر ما في نفسه تفرق الناس عن غير اتفاق ولم يقع بعد هذا قتال فلو قدر أن معاوية في هذا الحال صار يدعى أصحابه أنه أمير المؤمنين دون علي فلم يمكنهم أن يقولوا إن عليا بعد ذلك قوتل على إمامة معاوية فتبين أن عليا لم يقاتله أحد على أن يكون غيره إماما وهو مطيع له فإن الذين كانوا يستحقون الإمامة أبو بكر وعمر وعثمان وكان هو أتقى لله من أن يخرج عليهم بقول أو فعل بل عثمان كان علي هو أول من بايعه قبل جمهور الناس
6
335(187/218)
وأما معاوية فكان المسلمون أعلم وأعدل من أن يقولوا لعلي بايع معاوية بل يقولوا له بايع طلحة والزبير وهما من أهل الشورى فعبد الرحمن بن عوف مات في خلافة عثمان وبقي بعد موت عثمان أربعة فأما سعد فاعتزل الفتنة ولم يدخل في قتال أحد من المسلمين وعاش بعدهم كلهم وهو آخر العشرة موتا واعتزل بالعقيق ولما مات حمل على الأعناق فدفن بالبقيع وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص كان سعد ابن أبي وقاص في إبله فجاء ابنه عمر فلما رآه سعد قال أعوذ بالله من شر هذا الراكب فنزل فقال له أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون في الملك بينهم فضرب سعد في صدره وقال اسكت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي وابنه عمر هذا كان يحب الرياسة ولو حصلت على الوجه المذموم ولهذا لما ولى ولاية وقيل له لا نوليك حتى تتولى قتال الحسين وأصحابه كان هو أمير تلك السرية وأما سعد رضي الله عنه فكان مجاب الدعوة وكان مسددا في زمنه
6
336(187/219)
وهو الذي فتح العراق وكسر جنود كسرى وكان يعلم أنه لا بد من وقوع فتن بين المسلمين وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيستبيح بيضتهم فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها والمقصود أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يقتتلوا قط لاختلافهم في قاعدة من قواعد الإسلام أصلا ولم يختلفوا في شىء من قواعد الإسلام لا في الصفات ولا في القدر ولا مسائل الأسماء والأحكام ولا مسائل الإمامة لم يختلفوا في ذلك بالاختصام بالأقوال فضلا عن الاقتتال بالسيف بل كانوا مثبتين لصفات الله التي أخبر بها عن نفسه نافين عنها تمثيلها بصفات المخلوقين مثبتين للقدر كما أخبر الله به ورسوله مثبتين للأمر والنهى والوعد والوعيد مثبتين لحكمة الله في خلقه وأمره مثبتين لقدرة العبد واستطاعته ولفعله مع إثباتهم للقدر ثم لم يكن في زمنهم من يحتج للمعاصي بالقدر ويجعل القدر حجة لمن عصى أو كفر ولا من يكذب بعلم الله ومشيئته الشاملة
6
337(187/220)
وقدرته العامة وخلقه لكل شىء وينكر فضل الله وإحسانه ومنه على أهل الإيمان والطاعة وأنه هو الذي أنعم عليهم بالإيمان والطاعة وخصهم بهذه النعمة دون أهل الكفر والمعصية ولا من ينكر افتقار العبد إلى الله في كل طرفة عين وأنه لا حول ولا قوة إلا به في كل دق وجل ولا من يقول إن الله يجوز أن يأمر بالكفر والشرك وينهى عن عبادته وحده ويجوز أن يدخل إبليس وفرعون الجنة ويدخل الأنبياء النار وأمثال ذلك فلم يكن فيهم من يقول بقول القدرية النافية ولا القدرية الجبرية الجهمية ولا كان فيهم من يقول بتخليد أحد من أهل القبلة في النار ولا من يكذب بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر ولا من يقول إيمان الفساق كإيمان الأنبياء بل قد ثبت عنهم بالنقول الصحيحة القول بخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان من النار بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأن إيمان الناس يتفاضل وأن الإيمان يزيد وينقص ومن نقل عن ابن عباس أنه كان يقول بتخليد قاتل النفس فقد كذب عليه كما ذكر ذلك ابن حزم وغيره وأما المنقول عن ابن
6
338(187/221)
عباس ففي توبة القاتل لا القول بتخليده وتوبته فيها روايتان عن أحمد كما قد بسط في موضعه فأين هذا من هذا ولا كان في الصحابة من يقول إن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا أئمة ولا كانت خلافتهم صحيحة ولا من يقول إن خلافتهم ثابتة بالنص ولامن يقول إن بعد مقتل عثمان كان غير علي أفضل منه ولا أحق منه بالإمامة فهذه القواعد الدينية التي اختلف فيها من بعد الصحابة لم يختلفوا فيها بالقول ولا بالخصومات فضلا عن السيف ولا قاتل أحد منهم على قاعدة في الإمامة فقبل خلافة علي لم يكن بينهم قتال في الإمامة ولا في ولايته لم يقاتله أحد على أنه يكون تابعا لذاك والذين قاتلوا عليا لم يقاتلوا لاختصاص علي دون الأئمة قبله بوصف بل الذين قاتلوا معه كانوا يقرون بإمامة من قبله وشائعا بينهم أن أبا بكر أفضل منه وقد تواتر عنه نفسه أنه كان يقول ذلك على المنبر ولم يظهر عن الشيعة الأول تقديم علي على أبي بكر وعمر فضلا عن الطعن في إمامتهما
6
339(187/222)
وبكل حال فمن المعلوم للخاصة والعامة أهل السنة وأهل البدعة أن القتال في زمن علي لم يكن لمعاوية ومن معه إلا لكونهم لم يبايعوا عليا لم يكن لكونهم بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان وأما الحرب التي كانت بين طلحة والزبير وبين علي فكان كل منهما يقاتل عن نفسه ظانا أنه يدفع صول غيره عليه لم يكن لعلي غرض في قتالهم ولا لهم غرض في قتاله بل كانوا قبل قدوم على يطلبون قتله عثمان وكان للقتلة من قبائلهم من يدفع عنهم فلم يتمكنوا منهم فلما قدم علي وعرفوه مقصودهم عرفهم أن هذا أيضا رأيه لكن لا يتمكن حتى ينتظم الأمر فلما علم بعض القتلة ذلك حمل على أحد العسكرين فظن الآخرون أنهم بدأوا بالقتال فوقع القتال بقصد أهل الفتنة لا بقصد السابقين الأولين ثم وقع قتال على الملك فلم يكن ما وقع قدحا في خلافة الثلاثة مثل الفتنة التي وقعت بين ابن الزبير وبين يزيد ثم بين مروان وابنه وهؤلاء كلهم كانوا متفقين على موالاة عثمان وقتال من قاتله فضلا عن أبي بكر وعمر وكذلك الفتنة التي وقعت بين يزيد وأهل المدينة فتنة الحرة فإنما كانت من بعض أهل المدينة أصحاب السلطان من بني أمية وأصحاب يزيد لم تكن لأجل أبي بكر وعمر أصلا بل كان كل من بالمدينة والشام من الطائفتين متفقين على ولاية أبي بكر وعمر
6
340(187/223)
والحسين رضي الله عنه لما خرج إلى الكوفة إنما كان يطلب الولاية مكان يزيد لم يكن يقاتل على خلافة أبي بكر وعمر وكذلك الذين قتلوه ولم يكن هو حين قتل طالبا للولاية ولا كان معه جيش يقاتل به وإنما كان قد رجع منصرفا وطلب أن يرد إلى يزيد ابن عمه أو أن يرد إلى منزله بالمدينة أو يسير إلى الثغر فمنعه أولئك الظلمة من الثلاثة حتى يستأسر لهم فلم يقتل رضي الله عنه وهو يقاتل على ولاية بل قتل وهو يطلب الدفع عن نفسه لئلا يؤسر ويظلم والحسن أخوه قد كانت معه الجيوش العظيمة ومع هذا فقد نزل عن الأمر وسلم إلى معاوية وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أثنى عليه بذلك وقال إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ثم لما قتل الحسين قام من يطلب بدمه مع المختار بن أبي عبيد الثقفي وقتلوا عبيد الله بن زياد ثم لما قدم مصعب بن الزبير قتل المختار فإنه كذب وادعى أنه يوحى إليه وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سيكون من ثقيف كذاب ومبير وكان الكذاب هو الذي سمى المختار
6
341(187/224)
ولم يكن بالمختار والمبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي والفتنة التي وقعت في زمنه فتنة ابن الاشعث خرج عليه ومعه القراء كانت بظلمة وعسفه فلم يكن شىء من هذه لأجل خلافة أبي بكر وعمر بل كل هؤلاء كانوا متفقين على خلافة أبي بكر وعمر وإنما كانت على ولاية سلطان الوقت فإذا جاء قوم ينازعونه قام معه ناس وقام عليه أناس وهكذا كانت الفتن التي وقعت بعد هذا في زمن بني أمية فان زيد ابن علي بن الحسين لما خرج في خلافة هشام وطلب الأمر لنفسه كان ممن يتولى أبا بكر وعمر فلم يكن قتاله على قاعدة من قواعد الإمامة التي يقولها الرافضة ولما خرج أبو مسلم وشيعة بني هشام على بني أمية إنما قاتلوا من كان متوليا في ذلك الوقت وهو مروان بن محمد وأنصاره وما زال بنو العباس مثبتين لخلافة الأربعة مقدمين لأبي بكر وعمر وعثمان على المنابر فلم يقاتل أحد من شيعتهم ولا من شيعة بني أمية قدحا في خلافة الثلاثة والذين خرجوا عليهم مثل محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة وأخيه إبراهيم بالبصرة إنما خرجا ومن معهما على المنصور لا
6
342(187/225)
على من يتولى أبا بكر وعمر بل الذين كانوا معهما بالمدينة والبصرة كلهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر فهذه وأمثالها الفتن الكبار التي كانت في السلف وكذلك لما صار عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس ودامت ولايته مدة طويلة لم يكن النزاع بينه وبين العباسيين على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان فهذه الولايات الكبار التي كانت في الإسلام القائمون فيها والخارجون على الولاة لم يكن قتالهم فيها على قاعدة الإمامة التي يختلف فيها أهل السنة والرافضة وإنما ظهر من دعا إلى الرفض وتسمى بأمير المؤمنين وأظهر القتال على ذلك وحصل لهم ملك وأعوان مدة بني عبيد الله القداح الذين أقاموا بالمغرب مدة وبمصر نحو مائتي سنة وهؤلاء باتفاق أهل العلم والدين كانوا ملاحدة ونسبهم باطل فلم يكن لهم بالرسول اتصال نسب في الباطن ولا دين وإنما أظهروا النسب الكاذب وأظهروا التشيع ليتوسلوا بذلك إلى متابعة الشيعة إذ كانت أقل الطوائف عقلا ودينا وأكثرها جهلا وإلا فأمر
6
343(187/226)
هؤلاء العبيدية المنتسبين إلى إسماعيل بن جعفر أظهر من أن يخفي على مسلم ولهذا جميع المسلمين الذين هم مؤمنون في طوائف الشيعة يتبرأون منهم فالزيدية والإمامية تكفرهم وتتبرأ منهم وإنما ينتسب إليهم الإسماعيلية الملاحدة الذين فيهم من الكفر ما ليس لليهود والنصارى كابن الصباح الذي أخرج لهم السكين وشر منهم قرامطة البحرين أصحاب أبي سعيد الجنابى فإن أولئك لم يكونوا يتظاهرون بدين الإسلام بالكلية بل قتلوا الحجاج وأخذوا الحجر الأسود فهذه وأمثالها الملاحم والفتن التي كانت في الإسلام ليس فيها ما وقع القتال فيه حقيقة على قاعدة الإمامة التي تدعيها الرافضة وإن ذكر بعض الخارجين ببعض البلاد من يدعو إلى نفسه ومعه من يقاتل فهؤلاء من جنس سكان الجبال وأهل البوادي ولأمصار الصغار من الرافضة وهم طائفة قليلة مقموعون مع جمهور المسلمين ليس لهم سيف مسلول على الجمهور حتى يقول القائل أعظم خلاف وقع بين الأمة خلاف الإمامة أو ما سل في الإسلام سيف مثل ما سل علي الإمامة في كل زمان
6
344(187/227)
وإن كان صاحب هذا القول يعني به أنه إنما يقتتل الناس على الإمامة التي هي ولاية شخص في ذلك الزمان فقوم يقاتلون معه وقوم يخرجون عليه فهذا ليس من مذهب السنة والشيعة في شىء فإن من المعلوم أن الناس الذين دينهم واحد ونبيهم واحد إذا اقتتلوا فلا بد أن يكون لهؤلاءمن يقدمونه فيجعلونه متوليا ولهؤلاء من يقدمونه فيجعلونه متوليا فيقاتل كل قوم على إمارة من جعلوه هم إمامهم لكن هؤلاء لا يقاتلون على القاعدة الدينية من كون الإمامة ثبتت بالنص لعلي ولا أن خلافة الثلاثة باطلة بل عامة هؤلاء معترفون بإمامة الثلاثة ثم قد تبين أن الصحابة لم يقتتلوا على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان والنزاع بينهم فتبين أن خلافتهم كانت بلا سيف مسلول أصلا وإنما كان السيف مسلول في خلافة علي فإن كان هذا قدحا فالقدح يختص بمن كان السيف في زمانه بين الأمة وهذه حجة للخوارج وحجتهم أقوى من حجة الشيعة كما أن سيوفهم أقوى من سيوف الشيعة ودينهم أصح وهم صادقون لا يكذبون ومع هذا فقد ثبت بالسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه
6
345
وسلم واتفاق أصحابه أنهم مبتدعون مخطئون ضلال فكيف بالرافضة الذين هم أبعد منهم عن العقل والعلم والدين والصدق والشجاعة والورع وعامة خصال الخير ولم يعرف في الطوائف أعظم من سيف الخوارج ومع هذا فلم يقاتل القوم على خلافة أبي بكر وعمر بل هم متفقون على إمامتهما وموالاتهما وقوله الخلاف الخامس في فدك والتوارث رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم نحن معاشر الانبياء لا نورث ما تركناه صدقة فيقال هذا أيضا اختلاف في مسألة شرعية وقد زال الخلاف فيها والخلاف في هذه دون الخلاف في ميراث الإخوة مع الجد وميراث الجدة مع ابنها وحجب الأم الأخوين وجعل الجد مع الأم كالأب وأمثال ذلك من مسائل الفرائض التي تنازعوا فيها فالخلاف في هذا أعظم لوجوه أحدها أنهم تنازعوا في ذلك ثم
6
346(187/228)
لم يجتمعوا على قول واحد كما اجتمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث الثاني أنهم لم يرو لهم من النصوص الصريحة في هذه المسائل ماروى لهم في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم الثالث الخلاف هنا في قصة واحدة لا يتعدد والنزاع في هذه المسائل من جنس متعدد وعامة النزاع في تلك هي نزاع في قليل من المال هل يختص به ناس معينون وأولئك القوم قد أعطاهم أبو بكر وعمر من مال الله بقدر ما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم أضعافا مضاعفة ولو قدر أنها كانت ميراثا مع أن هذا باطل فإنما أخذ منهم قرية ليست كبيرة لم يأخذ منهم مدينة ولا قرية عظيمة وقد تنازع العلماء في مسائل الفرائض وغيرها ويكون النزاع في مواريث الهاشميين وغيرهم من أضعاف أموال فدك ولا ينسب المتنازعون فيها إلى ظلم إذا كانوا قائلين باجتهادهم فلو قدر أن الخلفاء اجتهدوا فأعطوا الميراث من لا يستحقه كان أضعاف هذا يقع من العلماء المجتهدين الذين هم دون الأئمة ولا يقدح ذلك في دينهم وإن قدر أنهم مخطئون في الباطن لأنهم تكلموا باجتهادهم فكيف بالخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم أجمعين
6
347(187/229)
وإنما يعظم القول في مثل هذه الأمور أهل الجهل والهوى الذين لهم غرض في فتح باب الشر على الصحابة بالكذب والبهتان وقد تولى على بعد ذلك وصار فدك وغيرها تحت حكمه ولم يعطها لأولاد فاطمة ولا أخذ من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ولا ولد العباس شيئا من ميراثه فلو كان ذلك ظلما وقدر على إزالته لكان هذا أهون عليه من قتالمعاوية وجيوشه أفتراه يقاتل معاوية مع ما جرى في ذلك من الشر العظيم ولا يعطى هؤلاء قليلا من المال وأمره أهون بكثير وأما قوله الخلاف السادس في قتال مانعى الزكاة قاتلهم أبو بكر واجتهد عمر في ايام خلافته فرد السبايا والأموال إليهم وأطلق المحبوسين فهذا من الكذب الذي لا يخفى على من عرف أحوال المسلمين فإن مانعى الزكاة اتفق أبو بكر وعمر على قتالهم بعد أن راجعه عمر في ذلك كما في الصحيحين عن أبي هريرة أن عمر قال لأبي بكر يا خليفة رسول الله كيف تقاتل الناس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
6
348
أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم إلا بحقها وحسابهم على الله فقال أبو بكر ألم يقل إلا بحقها وحسابهم على الله فإن الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها قال عمر فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق وفي الصحيحين تصديق فهم أبي بكر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فعمر وافق أبا بكر على قتال أهل الردة مانعي الزكاة وكذلك سائر الصحابة وأقر أولئك بالزكاة بعد امتناعهم منها ولم تسب لهم
6
349(187/230)
ذرية ولا حبس منهم أحد ولا كان بالمدينة حبس لا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على عهد أبي بكر فكيف يمون وهم في حبسه وأول حبس اتخذ في الإسلام بمكة اشترى عمر من صفوان بن أمية داره وجعلها حبسا بمكة ولكن من الناس من يقول سبى أبو بكر نساءهم وذراريهم وعمر أعاد ذلك عليهم وهذا إذا وقع ليس فيه بيان اختلافهما فإنه قد يكون عمر كان موافقا على جواز سبيهم لكن رد إليهم سبيهم كما رد النبي صلى الله عليه وسلم على هوازن سبيهم بعد أن قسمه بين المسلمين فمن طابت نفسه بالرد وإلا عوضه من عنده لما أتى أهلهم مسلمين فطلبوا رد ذلك إليهم وأهل الردة كان قد اتفق أبو بكر وعمر وسائر الصحابة على أنهم لا يمكنون من ركوب الخيل ولا حمل السلاح بل يتركون يتبعون أذناب البقر حتى يرى الله خليفة رسوله والمؤمنين حسن إسلامهم فلما تبين لعمر حسن إسلامهم رد ذلك إليهم لأنه جائز وقوله الخلاف السابع في تنصيص أبي بكر على عمر في الخلافة فمن الناس من قال وليت علينا فظا غليظا
6
350(187/231)
والجواب أن يقال إن جعل مثل هذا خلافا فقد كان مثل هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قد طعن بعض الصحابة في إمارة زيد ابن حارثة وبعضهم في إمارة أسامة ابنه وقد كان غير واحد يطعن فيمن يوليه أبو بكر وعمر ثم إن القائل لها كان طلحة وقد رجع عن ذلك وهو من أشد الناس تعظيما لعمر كما أن الذين طعنوا في إمارة زيد وأسامة رجعوا عن طعنهم طاعة لله ورسوله وقوله الخلاف الثامن في إمرة الشورى واتفقوا بعد الاختلاف على إمارة عثمان والجواب أن هذا من الكذب الذي اتفق أهل النقل على أنه كذب فإنه لم يختلف أحد في خلافة عثمان ولكن بقي عبد الرحمن يشاور الناس ثلاثة أيام وأخبر أن الناس لا يعدلون بعثمان وأنه شاور حتى العذاري في خدورهن وإن كان في نفس أحد كراهة لم ينقل أو قال أحد شيئا ولم ينقل إلينا فمثل هذا قد يجري في مثل هذه الأمور والأمر الذي يتشاور فيه الناس لا بد فيه من كلام لكن لا يمكن الجزم بذلك بمجرد الحزر
6
351(187/232)
فلما علمنا نقلا صحيحا أنه ما كان اختلاف في ولاية عثمان ولا أن طائفة من الصحابة قالت ولوا عليا أو غيره كما قال بعض الأنصار منا أمير ومنكم أمير ولو وجد شيء من ذلك لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله كما نقل نزاع بعض الأنصار في خلافة أبي بكر فالمدعي لذلك مفتر ولهذا قال الإمام أحمد لم يتفق الناس على بيعة كما اتفقوا على بيعة عثمان وعثمان ولاه المسلمون بعد تشاورهم ثلاثة أيام وهو مؤتلفون متفقون متحابون متوادون معتصمون بحبل الله جميعا وقد أظهرهم الله وأظهر بهم ما بعث به نبيه من الهدى ودين الحق ونصرهم على الكفار وفتح بهم بلاد الشام والعراق وبعض خراسان فلم يعدلوا بعثمان غيره كما أخبر بذلك عبد الرحمن بن عوف ولهذا بايعه عبد الرحمن كما ثبت هذا في الأحاديث الصحيحة وأما ما ذكره بعض الناس من أنه اشترط على عثمان سيرة الشيخين فلم يجب إما لعجزه عن مثل سيرتهما وإما لأن التقليد غير واجب أو غير جائز وأنه اشترط على علي سيرة الشيخين فأجابه لإمكان متابعتهما أو جواز تقليدهما فهذا النقل باطل ليس له إسناد ثابت
6
352(187/233)
فإنه مخالف للنقل الثابت في الصحيح الذي فيه أن عبد الرحمن بقي ثلاثة أيام لم يغتمض في لياليها بكثير نوم في كل ذلك يشاور المسلمين ولم يرهم يعدلون بعثمان غيره بل رأوه أحق وأشبه بالأمر من غيره وأن عبد الرحمن لم يشترط على علي إلا العدل فقال لكل منهما الله عليك إن وليتك لتعدلن وإن وليت عليك لتسمعن ولتطيعن فيقول نعم فشرط على المتولي العدل وعلى المتولي عليه السمع والطاعة وهذا حكم الله ورسوله كما دل عليه الكتاب والسنة وأما قوله ووقعت اختلافات كثيرة منها ردة الحكم بن أمية إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يسمى طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان يشفع إلى أبي بكر وعمر أيام خلافتهما فما أجاباه إلى ذلك ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخا فيقال مثل هذا إن جعله اختلافا جعل كلما حكم خليفة بحكم ونازعه فيه قوم اختلافا وقد كان ذكرك لما اختلفوا فيه من المواريث
6
353(187/234)
والطلاق وغير ذلك أصح وأنفع فإن الخلاف في ذلك ثابت منقول عند أهل العلم ينتفع الناس بذكره والمناظرة فيه وهو خلاف في أمر كلي يصلح أن تقع فيه المناظرة وأما هذه الأمور فغايتها جزئية ولا تجعل مسائل خلاف يتناظر فيها الناس هذا مع أن فيما ذكره كذبا كثيرا منه ما ذكره من أمر الحكم وأنه طرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يسمى طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه استشفع إلى أبي بكر وعمر أيام خلافتهما فما أجاباه إلى ذلك وأن عمر نفاه من مقامة باليمن أربعين فرسخا فمن الذي نقل ذلك وأين إسناده ومتى ذهب هذا إلى اليمن وما الموجب لنفيه إلى اليمن وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ما يدعونه بالطائف وهي أقرب إلى مكة والمدينة من اليمن فإذا كان الرسول أقره قريبا منه فما الموجب لنفيه بعد ثبوته إلى اليمن وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن نفى الحكم باطل فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينفه إلى الطائف بل هو ذهب بنفسه وذكر بعض الناس أنه نفاه ولم يذكروا إسنادا صحيحا بكيفية القصة وسببها وعلى هذا التقدير فليس فيمن يجب نفيه في الشريعة من يستحق
6
354
النفي الدائم بل ما من ذنب يستحق صاحبه النفي إلا ويمكن أن يستحق بعد ذلك الإعادة إلى وطنه فإن النفي إما مؤقت كنفي الزاني البكر عند جمهور العلماء سنة فهذا يعاد بعد السنة وإما نفي مطلق كنفي المخنث فهذا ينفي إلى أن يتوب وكذلك نفى عمر في تعزير الخمر وحينئذ فلا يمكن أن يقال إن ذنب الحكم الذي نفى من أجله لم يتب منه في مدة بضع عشرة سنة وإذا تاب من ذنبه مع طول هذه المدة جاز أن يعاد وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجر الثلاثة الذين خلفوا خمسين ليلة ثم تاب الله عليهم وكلمهم المسلمون وعمر رضي الله عنه نفى صبيغ بن عسل التميمي لما أظهر اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وضربه وأمر المسلمين بهجرة سنة بعد أن أظهر التوبة فلما تاب أمر المسلمين بكلامه
6(187/235)
355
وبهذا أخذ أحمد وغيره في أن الداعي إلى البدعة إذا تاب يؤجل سنة كما أجل عمر صبيغا وكذلك الفاسق إذا تاب واعتبر مع التوبة صلاح العمل كما يقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين ثم لو قدر أنه كان يستحق النفي الدائم فغاية ذلك أن يكون اجتهادا اجتهده عثمان في رده لصاحبه أجر مغفور له أو ذنبا له أسباب كثيرة توجب غفرانه وقوله ومنها نفيه أبا ذر إلى الربذة وتزويجه مروان بن الحكم ابنته وتسليمه خمس غنائم إفريقية وقد بلغت مائتي ألف دينار فيقال أما قصة أبي ذر فقد تقدم ذكرها وأما تزويجه مروان ابنته فأي شيء في هذا مما يجعل اختلافا وأما إعطاؤه خمس غنائم إفريقية وقد بلغت مائتي ألف دينار فمن الذي نقل ذلك وقد تقدم قوله إنه أعطاه ألف ألف دينار والمعروف أن خمس إفريقية لم يبلغ ذلك
6
356
ونحن لا ننكر أن عثمان رضي الله عنه كان يحب بني أمية وكان يواليهم ويعطيهم أموالا كثيرة وما فعله من مسائل الاجتهاد التي تكلم فيها العلماء الذين ليس لهم غرض كما أننا لا ننكر أن عليا ولى أقاربه وقاتل وقتل خلقا كثيرا من المسلمين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون ويصلون لكن من هؤلاء من قاتله بالنص والإجماع ومنهم من كان قتاله من مسائل الاجتهاد التي تكلم فيها العلماء الذين لا غرض لهم وأمر الدماء أخطر من أمر الأموال والشر الذي حصل في الدماء بين الأمة أضعاف الشر الذي حصل بإعطاء الأموال فإذا كنا نتولى عليا ونحبه ونذكر ما دل عليه الكتاب والسنة من فضائله مع أن الذي جرى في خلافته أقرب إلى الملام مما جرى في خلافة عثمان وجرى في خلافة عثمان من الخير مالم يجر مثله في خلافته فلأن نتولى عثمان ونحبه ونذكر ما دل عليه الكتاب والسنة بطريق الأولى وقد ذكرنا أن ما فعله عثمان في المال فله ثلاثة مآخذ أحدها أنه عامل عليه والعامل يستحق مع الغنى
6
357(187/236)
الثاني أن ذوي القربى هم ذوو قربى الإمام الثالث أنهم كانوا قبيلة كثيرة ليسوا مثل قبيلة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فكان يحتاج إلى إعطائهم وولايتهم أكثر من حاجة أبي بكر وعمر إلى توليه أقاربهما وإعطائهما وهذا مما نقل عن عثمان الاحتجاج به وقد قدمنا أنا لا ندعي عصمة في أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذنب فضلا عن الخطأ في الاجتهاد وقد قال سبحانه وتعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون سورة الزمر وقال تعالى أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون سورة الأحقاف وقوله ومنها ايواؤه عبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد أن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه وتوليته مصر فالجواب إن كان المراد أنه لم يزل مهدر الدم حتى ولاه عثمان كما
6
358(187/237)
يفهم من الكلام فهذا لا يقوله إلا مفرط في الجهل بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته فإن الناس كلهم متفقون على أنه في عام فتح مكة بعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دم جماعة منهم عبد الله بن سعد أتى عثمان به النبي صلى الله عليه وسلم وبايعه النبي صلى الله عليه وسلم بعد مراجعة عثمان له في ذلك وحقن دمه وصار من المسلمين المعصومين له ما لهم وعليه ما عليهم وقد كان هو من أعظم الناس معاداة للنبي عليه الصلاة والسلام وأسلم وحسن إسلامه وإنما كان صلى الله عليه وسلم أهدر دمه كما أهدر دماء قوم بغلظ كفرهم إما بردة مغلظة كمقيس ابن صبابة وعبد الله هذا كان كاتبا للوحي فارتد وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر دمه ثم لما قدم به عثمان عفا عنه صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول بايع عبد الله فأعرض عنه مرتين أو ثلاثا ثم بايعه فقال أما فيكم رجل رشيد ينظر إلى وقد أعرضت عن هذا فيضرب عنقه فقال رجل من الأنصار يا رسول الله هلا أومضت إلى فقال ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين
6
359(187/238)
ثم لما بايعه حسن إسلامه ولم يعلم منه بعد ذلك إلا الخير وكان محمودا عند رعيته في مغازيه وقد كانت عداوة غيره من الطلقاء أشد من عداوته مثل صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وأبي سفيان بن حرب وغيرهم وذهب ذلك كله كما قال تعالى عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم موده والله قدير والله غفور رحيم سورة الممتحنة فجعل بين أولئك وبين النبي صلى الله عليه وسلم مودة تجب تلك العداوة والله قدير على تقليب القلوب وهو غفور رحيم غفر الله ما كان من السيئات بما بدلوه من الحسنات وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون وأما قوله كان عامل جنوده معاوية بن أبي سفيان عامل الشام وعامل الكوفة سعيد بن العاص وبعده عبد الله بن عامر والوليد بن عقبة عامل البصرة فيقال أما معاوية فولاه عمر بن الخطاب لما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان مكانه ثم ولاه عثمان رضي الله عنه الشام كله وكانت سيرته
6
360
في أهل الشام من أحسن السير وكانت رعيته من أعظم الناس محبة له وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وكان معاوية تحبه رعيته وتدعو له وهو يحبها ويدعو لها وأما توليته لسعيد بن العاص فأهل الكوفة كانوا دائما يشكون من ولاتهم ولى عليهم سعد بن أبي وقاص وأبو موسى الأشعري وعمار ابن ياسر والمغيرة بن شعبة وهم يشكون منهم وسيرهم في هذا مشهورة ولا شك أنهم كانوا يشكون في زمن عثمان أكثر وقد علم أن عثمان وعليا رضي الله عنه كل منهما ولى أقاربه وحصل له بسبب ذلك من كلام الناس وغير ذلك ما حصل وأما قوله الخلاف التاسع في زمن أمير المؤمنين عليه السلام بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له فأولا خروج طلحة والزبير إلى مكة ثم حمل عائشة إلى البصرة ثم نصب
6
361(187/239)
القتال معه ويعرف ذلك بحرب الجمل والخلاف بينه وبين معاوية وحرب صفين ومغادرة عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري وكذا الخلاف بينه وبين الشراة المارقين بالنهروان وبالجملة كان على مع الحق والحق معه وظهر في زمانه الخوارج عليه مثل الأشعث بن قيس ومسعر بن فدكى التميمي وزيد بن حصين الطائي وغيرهم وظهر في زمنه الغلاة كعبد الله بن سبأ ومن الفرقتين ابتدأت الضلالة والبدع وصدق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم يهلك فيه اثنان محب غال ومبغض قال
6
362
فانظر بعين الإنصاف إلى كلام هذا الرجل هل خرج موجب الفتنة عن المشايخ أو تعداهم والجواب أن يقال هذا الكلام مما يبين تحامل الشهرستاني في هذا الكتاب مع الشيعة كما تقدم وإلا فقد ذكر أبا بكر وعمر وعثمان ولم يذكر من أحوالهم أن الحق معهم دون من خالفهم ولما ذكر عليا قال وبالجملة كان الحق مع علي وعلي مع الحق والناقل الذي لا غرض له إما أن يحكى الأمور بالأمانة وإما أن يعطى كل ذي حق حقه فأما دعوى المدعي أن الحق كان مع علي وعلي مع الحق وتخصيصه بهذا دون أبي بكر وعمر وعثمان فهذا لا يقوله أحد من المسلمين غير الشيعة ومما يبين فساد هذا الكلام قوله إن الاختلاف وقع في زمن علي بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له ومن المعلوم أن كثيرا من المسلمين لم يكونوا بايعوه حتى كثير من أهل المدينة ومكة الذين رأوه لم يكونوا بايعوه من دع الذين كانوا بعيدين كأهل الشام ومصر والمغرب العراق وخراسان وكيف يقال مثل هذا في بيعة علي ولا يقال في بيعة عثمان التي اجتمع عليها المسلمون كلهم ولم يتنازع فيها اثنان
6
363(187/240)
وكذلك ما ذكره من التعريض بالطعن على طلحة والزبير وعائشة من غير أن يذكر لهم عذرا ولا رجوعا وأهل العلم يعلمون أن طلحة والزبير لم يكونا قاصدين قتال علي ابتداء وكذلك أهل الشام لم يكن قصدهم قتاله وكذلك علي لم يكن قصده قتال هؤلاء ولا هؤلاء ولكن حرب الجمل جرى بغير اختياره ولا اختيارهم فإنهم كانوا قد اتفقوا على المصالحة وإقامة الحدود على قتله عثمان فتواطأت القتلة على إقامة الفتنة آخرا كما أقاموها أولا فحملوا على طلحة والزبير وأصحابهما فحملوا دفعا عنهم وأشعروا عليا أنهما حملا عليه فحمل على دفعا عن نفسه وكان كل منهما قصده دفع الصيال لا ابتداء القتال هكذا ذكر غير واحد من أهل العلم بالسير فإن كان الأمر قد جرى على وجه لا ملام فيه فلا كلام وإن كان قد وقع خطأ أو ذنب من أحدهما أو كليهما فقد عرف أن هذا لا يمنع ما دل عليه الكتاب والسنة من أنهم من خيار أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وعباهة الصالحين وأنهم من أهل الجنة
6
364(187/241)
وقول هذا الرافضي انظر بعين الانصاف إلى كلام هذا الرجل هل خرج موجب الفتنة عن المشايخ أو تعداهم فالجواب أن يقال أما الفتنة فإنما ظهرت في الإسلام من الشيعة فإنهم أساس كل فتنة وشر وهم قطب رحى الفتن فإن أول فتنة كانت في الإسلام قتل عثمان وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاث من نجا فقد نجا منهن موتي وقتل خليفة مضطهد بغير حق والدجال ومن استقرأ أخبار العالم في جميع الفرق تبين له أنه لم يكن قط طائفة أعظم اتفاقا على الهدى والرشد وأبعد عن الفتنة والتفرق والاختلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم خير الخلق بشهادة الله لهم بذلك إذ يقول تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله سورة آل عمران كما لم يكن في الأمم أعظم اجتماعا على الهدى وأبعد عن التفرق والاختلاف من هذه الأمة لأنهم أكمل اعتصاما بحبل الله الذي هو كتابه المنزل وما جاء به من نبيه المرسل وكل من كان أقرب إلى الإعتصام
6
365(187/242)
بحبل الله وهو اتباع الكتاب والسنة كان أولى بالهدى والاجتماع والرشد والصلاح وأبعد عن الضلال والافتراق والفتنة واعتبر ذلك بالأمم فأهل الكتاب أكثر اتفاقا وعلما وخيرا من الخارجين عن الكتب والمسلمون أكثر أتفاقا وهدى ورحمة وخيرا من اليهود والنصارى فإن أهل الكتابين قبلنا تفرقوا وبدلوا ما جاءت به الرسل وأظهروا الباطل وعادوا الحق وأهله وإنه وإن كان يوجد في أمتنا نظير ما يوجد في الأمم قبلنا كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن الناس وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا فارس والروم قال فمن الناس إلا أولئك لكن أمتنا لا تزال فيها طائفة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة ولهذا لا يسلط الله عليهم عدوا من
6
366(187/243)
غيرهم فيجتاحهم كما ثبت هذا وهذا في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة وأخبر أنه سأل ربه أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه ذلك وسأله أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطاه ذلك وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم شديدا فمنعه ذلك ومن قبلنا كان الحق يغلب فيهم حتى لا تقوم به طائفة ظاهرة منصورة ولهذا كان العدو يسلط عليهم فيجتاحهم كما سلط على بني إسرائيل وخرب بيت المقدس مرتين فلم يبق لهم ملك ونحن ولله الحمد لم يزل لأمتنا سيف منصور يقاتلون على الحق فيكونون على الهدى ودين الحق الذي بعث الله به الرسول فلهذا لم نزل ولا نزال وأبعد الناس عن هذه الطائفة المهدية المنصورة هم الرافضة لأنهم أجهل وأظلم طوائف أهل الأهواء المنتسبين إلى القبلة وخيار هذه الأمة هم الصحابة فلم يكن في الأمة أعظم اجتماعا على الهدى ودين الحق ولا أبعد عن التفرق والاختلاف منهم وكل ما يذكر عنهم مما فيه نقص فهذا إذا قيس إلى ما يوجد في غيرهم من الأمة كان قليلا من كثير وإذا قيس ما يوجد في الأمة إلى ما يوجد في سائر الأمم
6
367(187/244)
كان قليلا من كثير وإنما يغلط من يغلط أنه ينظر إلى السواد القليل في الثوب الأبيض ولا ينظر إلى الثوب الأسود الذي فيه بياض وهذا من الجهل والظلم بل يوزن هؤلاء بنظرائهم فيظهر الفضل والرجحان وأما ما يقترحه كل أحد في نفسه مما لم يخلق فهذا لا اعتبار به فهذا يقترح معصوما في الأئمة وهذا يقترح ما هو كالمعصوم وإن لم يسمه معصوما فيقترح في العالم والشيخ والأمير والملك ونحو ذلك مع كثرة علمه ودينه ومحاسنه وكثرة ما فعل الله على يديه من الخير يقترح مع ذلك أن لا يكون قد خفى عليه شيء ولا يخطىء في مسألة وأن يخرج عن حد البشرية فلا يغضب بل كثير من هؤلاء يقترح فيهم مالا يقترح في الأنبياء وقد أمر الله تعالى نوحا ومحمدا أن يقولا لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك سورة هود فيريد الجهال من المتبوع أن يكون عالما بكل ما يسئل عنه قادرا على كل ما يطلب منه غنيا عن الحاجات البشرية كالملائكة وهذا الاقتراح من ولاة الأمر كاقتراح الخوارج في عموم الأمة أن لا يكون لأحدهم ذنب ومن كان له ذنب كان عندهم كافرا مخلدا في النار
6
368(187/245)
وكل هذا باطل خلاف ما خلقه الله وخلاف ما شرعه الله فاقتراح هؤلاء فيمن يوليه كاقتراح أولئك عليه فيمن يرسله وكاقتراح هؤلاء فيمن يرحمه ويغفر له والبدع مشتقة من الكفر فما من قول مبتدع إلا وفيه شعبة من شعب الكفر وكما أنه لم يكن في القرون أكمل من قرن الصحابة فليس في الطوائف بعدهم أكمل من أتباعهم فكل من كان للحديث والسنة وآثار الصحابة أتبع كان أكمل وكانت تلك الطائفة أولى بالاجتماع والهدى والاعتصام بحبل الله وأبعد عن التفرق والاختلاف والفتنة وكل من بعد عن ذلك كان أبعد عن الرحمة وأدخل في الفتنة فليس الضلال والغي في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في الرافضة كما أن الهدى والرشاد والرحمة ليس في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في أهل الحديث والسنة المحضة الذين لا ينتصرون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم خاصته وهو إمامهم المطلق الذي لا يغضبون لقول غيرهم إلا إذا اتبع قوله ومقصودهم نصر الله ورسوله وإذا كان الصحابة ثم أهل الحديث والسنة المحضة أولى
6
369(187/246)
بالهدى ودين الحق وأبعد الطوائف عن الضلال والغي فالرافضة بالعكس وقد تبين أن هذا الكلام الذي ذكره هذا الرجل فيه من الباطل ما لا يخفى على عاقل ولا يحتج به إلا من هو جاهل وأن هذا الرجل كان له بالشيعة إلمام واتصال وأنه دخل في هواهم بما ذكره في هذا الكتاب مع أنه ليس من علماء النقل والآثار وإنما هو من جنس نقلة التواريخ التي لا يعتمد عليها أولو الأبصار ومن كان علمه بالصحابة وأحوالهم من مثل هذا الكتاب فقد خرج عن جملة أولى الألباب ومن الذي يدع كتب النقل التي اتفق أهل العلم بالمنقولات على صحتها ويدع ما تواتر به النقل في كتب الحديث على بعضها كالصحاح والسنن والمساند والمعجمات والأسماء والفضائل وكتب أخبار الصحابة وغير ذلك وكتب السير والمغازي وأن كانت دون ذلك وكتب التفسير والفقه وغير ذلك من الكتب التي من نظر فيها علم بالتواتر اليقيني ضد ما في النقل الباطل وعلم أن
6
370(187/247)
الصحابة رضي الله عنهم كانوا أئمة الهدى ومصابيح الدجى وأن أصل كل فتنة وبليه هم الشيعة ومن انضوى إليهم وكثير من السيوف التي سلت في الإسلام إنما كانت من جهتهم وعلم أن أصلهم ومادتهم منافقون اختلقوا أكاذيب وابتدعوا آراء فاسدة ليفسدوا بها دين الإسلام ويستزلوا بها من ليس من أولى الأحلام فسعوا في قتل عثمان وهو أول الفتن ثم انزووا إلا على لا حبا فيه ولا في أهل البيت لكن ليقيموا سوق الفتنة بين المسلمين ثم هؤلاء الذين سعوا معه منهم من كفره بعد ذلك وقاتله كما فعلت الخوارج وسيفهم أول سيف سل على الجماعة ومنهم من أظهر الطعن على الخلفاء الثلاثة كما فعلت الرافضة وبهم تسترت الزنادقة كالغالية من النصيرية وغيرهم ومن القرامطة الباطنية والإسماعيلية وغيرهم فهم منشأ كل فتنة والصحابة رضي الله عنهم منشأ كل علم وصلاح وهدى ورحمة في الإسلام ولهذا تجد الشيعة ينتصرون لأعداء الإسلام المرتدين كبني حنيفة أتباع مسيلمة الكذاب ويقولون إنهم كانوا مظلومين كما ذكر صاحب هذا الكتاب وينتصرون لأبي لؤلؤة الكافر المجوسي ومنهم من يقول اللهم أرض عن أبي لؤلؤة واحشرني معه ومنهم من يقول في بعض
6
371(187/248)
ما يفعله من محاربتهم واثارات أبي لؤلؤة كما يفعلونه في الصورة التي يقدرون فيها صورة عمر من الجبس أو غيره وأبو لؤلؤة كافر باتفاق أهل الإسلام كان مجوسيا من عباد النيران وكان مملوكا للمغيرة بن شعبة وكان يصنع الأرحاء وعليه خراج للمغيرة كل يوم أربعة دراهم وكان قد رأى ما عمله المسلمون بأهل الذمة وإذا رأى سبيهم يقدم إلى المدينة يبقى في نفسه من ذلك وقد روى أنه طلب من عمر أن يكلم مولاه في خراجه فتوقف عمر وكان من نيته أن يكلمه فقتل عمر بغضا في الإسلام وأهله وحبا للمجوس وانتقاما للكفار لما فعل بهم عمر حين فتح بلادهم وقتل رؤساءهم وقسم أموالهم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الحديث الصحيح حيث يقول إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله وعمر هو الذي أنفق كنوزهما وهذا الحديث الصحيح مما يدل على صحة
6
372
خلافته وأنه كان ينفق هذين الكنزين في سبيل الله الذي هو طاعته وطاعة رسوله وما يقرب إلى الله لم ينفق الأموال في أهواء النفوس المباحة فضلا عن المحرمة فهل ينتصر لأبي لؤلؤة مع هذا إلا من هو أعظم الناس كفرا بالله ورسوله وبغضا في الإسلام ومفرط في الجهل لا يعرف حال أبي لؤلؤة ودع ما يسمع وينقل عمن خلا فلينظر كل عاقل فيما يحدث في زمانه وما يقرب من زمانه من الفتن والشرور والفساد في الإسلام فإنه يجد معظم ذلك من قبل الرافضة وتجدهم من أعظم الناس فتنا وشرا وأنهم لا يقعدون عما يمكنهم من الفتن والشر وإيقاع الفساد بين الأمة ونحن نعرف بالعيان والتواتر العام وما كان في زماننا من حين خرج جنكزخان ملك الترك الكفار وما جرى في الإسلام من الشر فلا يشك عاقل أن استيلاء الكفار المشركين الذين لا يقرون بالشهادتين ولا بغيرها من المباني الخمس ولا يصومون شهر رمضان ولا يحجون البيت العتيق ولا يؤمنون بالله ولا بملائكته ولا بكتبه ورسله واليوم الآخر(187/249)
6
373
وأعلم من فيهم وأدين مشرك يعبد الكواكب والأوثان وغايته أن يكون ساحرا أو كاهنا له رئي من الجن وفيهم من الشرك والفواحش ما هم به شر من الكهان الذين يكونون في العرب فلا يشك عاقل أن استيلاء مثل هؤلاء على بلاد الإسلام وعلى أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم كذرية العباس وغيرهم بالقتل وسفك الدماء وسبي النساء وإستحلال فروجهن وسبي الصبيان واستعبادهم وإخراجهم عن دين الله إلى الكفر وقتل أهل العلم والدين من أهل القرآن والصلاة وتعظيم بيوت الأصنام التي يسمونها البذخانات والبيع والكنائس على المساجد ورفع المشركين وأهل الكتاب من النصارى وغيرهم على المسلمين بحيث يكون المشركون وأهل الكتاب أعظم عزا وأنفذ كلمة وأكثر حرمة من المسلمين إلى أمثال ذلك مما لا يشك عاقل أن هذا أضر على المسلمين من قتال بعضهم بعضا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما جرى على أمته من هذا كان كراهته له وغضبه منه أعظم من كراهته لإثنين مسلمين تقاتلا على الملك ولم يسب
6
374(187/250)
أحدهما حريم الآخر ولا نفع كافرا ولا أبطل شيئا من شرائع الإسلام المتواترة وشعائره الظاهرة ثم مع هذا الرافضة يعاونون أولئك الكفار وينصرونهم على المسلمين كما قد شاهده الناس لما دخل هولاكو ملك الكفار الترك الشام سنة ثمان وخمسين وستمائة فإن الرافضة الذين كانوا بالشام بالمدائن والعواصم من أهل حلب وما حولها ومن أهل دمشق وما حولها وغيرهم كانوا من أعظم الناس أنصارا وأعوانا على إقامة ملكه وتنفيذ أمره في زوال ملك المسلمين وهكذا يعرف الناس عامة وخاصة ما كان بالعراق لما قدم هولاكون إلى العراق وقتل الخليفة وسفك فيها من الدماء مالا يحصيه إلا الله فكان وزير الخليفة ابن العلقمي والرافضة هم بطانته الذين أعانوه على ذلك بأنواع كثيرة باطنة وظاهرة يطول وصفها وهكذا ذكر أنهم كانوا مع جنكزخان وقد رآهم المسلمون بسواحل الشام وغيرها إذا اقتتل المسلمون والنصارى هواهم مع النصارى ينصرونهم بحسب الإمكان ويكرهون فتح مدائنهم كما كرهوا فتح عكا وغيرها ويختارون إدالتهم على المسلمين حتى أنهم لما انكسر
6
375(187/251)
عسكر المسلمين سنة غازان سنة تسع وتسعين وخمسمائة وخلت الشام من جيش المسلمين عاثوا في البلاد وسعوا في أنواع من الفساد من القتل وأخذ الأموال وحمل راية الصليب وتفضيل النصارى على المسلمين وحمل السبي والأمول والسلاح من المسلمين إلى النصارى أهل الحرب بقبرس وغيرها فهذا وأمثاله قد عاينه الناس وتواتر عند من لم يعاينه ولو ذكرت أنا ما سمعته ورأيته من آثار ذلك لطال الكتاب وعند غيري من أخبار ذلك وتفاصيله مالا أعلمه فهذا أمر مشهود من معاونتهم للكفار على المسلمين ومن اختيارهم لظهور الكفر وأهله على الإسلام وأهله ولو قدر أن المسلمين ظلمة فسقه ومظهرون لأنواع من البدع التي هي أعظم من سب علي وعثمان لكان العاقل ينظر في خير الخيرين وشر الشرين ألا ترى أن أهل السنة وإن كانوا يقولون في الخوارج والروافض وغيرهما من أهل البدع ما يقولون لكن لا يعاونون الكفار على دينهم ولا يختارون ظهور الكفر وأهله على ظهور بدعة دون ذلك والرافضة إذا تمكنوا لا يتقون وانظر ما حصل لهم في دولة السلطان خدابندا الذي صنف له هذا الكتاب كيف ظهر فيهم من الشر الذي لو دام وقوي أبطلوا به عامة شرائع الإسلام لكن يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون
6
376(187/252)
وأما الخلفاء والصحابة فكل خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإيمان والإسلام والقرآن والعلم والمعارف والعبادات ودخول الجنة والنجاة من النار وانتصارهم على الكفار وعلو كلمة الله فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة الذين بلغوا الدين وجاهدوا في سبيل الله وكل مؤمن آمن بالله فللصحابة رضي الله عنهم عليه فضل إلى يوم القيامة وكل خير فيه الشيعة وغيرهم فهو ببركة الصحابة وخير الصحابة تبع لخير الخلفاء الراشدين فهم كانوا أقوم بكل خير في الدين والدنيا من سائر الصحابة فكيف يكون هؤلاء منبع الشر ويكون أولئك الرافضة منبع الخير ومعلوم أن الرافضي يوالي أولئك الرافضة ويعادي الصحابة فهل هذا إلا من شر من أعمى الله بصيرته فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وإذا قال القائل الجمهور الذين يتولون الثلاثة فيهم من الشر والفتن ما لم ينقل مثله عن علي فلا يقابل بين الرافضة والصحابة والجمهور فنقول الجواب من وجهين الأول أنا لم نذكر هذا للمقابلة بل ردا على من زعم أن الفتنة لم تخرج إلا عن الخلفاء الراشدين ونحن قد علمنا بالمعاينة والتواتر أن الفتن والشرور العظيمة التي لا تشابهها فتن
6
377(187/253)
إنما تخرج عن طائفته التي يتولاها ويزعم أنهم هم المؤمنون أهل الجنة وعلمنا أن الخير العظيم الذي لا يوازيه خير إنما ظهر عن الصحابة والخلفاء الراشدين لنبين عظيم افتراء هذا المفترى وان مثله في ذلك مثل من قال من أتباع إخوانه الكذابين الذين يعظمون غير الأنبياء على الأنبياء كأئمة العبيديين وغيرهم من الملادحة وأتباع مسيلمة الكذاب وأبى لؤلؤة قاتل عمر ونحوهما ممن يعظمه هذا المفترى إذا قال انظر هل ظهرت الفتن إلا من موسى وعيسى ومحمد فيقال له بل الفتن إنما ظهرت عن أصحابك وإخوانك الذين يفترون على الله الكذب ويعظمون الكذابين المفترين كتعظيم العبيديين الملاحدة وتعظيم مسيلمة الكذاب وتعظيم الطوسي الملحد وأمثاله وقد رأيناك وأمثالك تعظمون هؤلاء الملاحدة علماءهم وولاتهم على أتباع الأنبياء فلكم أوفر نصيب من قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا
6
378(187/254)
هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا سورة النساء فإن مسيلمة الكذاب من أكابر الأئمة الذين كفروا وكذلك أمثاله من الملاحدة العبيديين وأمثالهم الذين كانوا يدعون الإلهية والنبوة أو يدعى أن الفيلسوف أعظم من الأنبياء ونحو ذلك من مقالات الذين كفروا فإن المبتدعة من الجهمية والرافضة وغيرهم الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا فيحق عليهم ما وعد الله به حيث قال أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا سورة النساء ومن هؤلاء من يعظم الشرك والسحر والأحوال الشيطانية مما هو من الإيمان بالجبت والطاغوت فإن الجبت هو السحر والطاغوت الشيطان والأوثان الوجه الثاني أنا لو فرضنا المقابلة بين الجمهور والرافضة فما بين خير الطائفتين وشرهما نسبة فإنا لا ننكر أن في الجمهور شرا كثيرا لكن إذا جاءت المقابلة فلا بد من المعادلة كما أنا إذا قابلنا بين المسلمين والنصارى واليهود لم نستكثر ما في المسلمين من الشر لكن يجب العدل فإن الله أمر بالقسط والعدل وهو مما اتفقت العقول والشرائع على وجوبه وحسنه فتقول ما من شر يوجد في الجمهور إلا وفي الرافضة من جنسه ما هو
6
379(187/255)
أعظم منه كما أنه مامن شر يكون في المسلمين إلا وفي اليهود والنصارى من جنسه ما هو أعظم منه وما من خير يكون في الشيعة إلا وفي الجمهور من جنسه ما هو أعظم منه كما أنه مامن خير يكون في بعض أهل الكتاب إلا وفي المسلمين من جنسه ما هو خير منه وأمهات الفضائل العلم والدين والشجاعة والكرم فاعتبر هذا في هؤلاء وهؤلاء فالجمهور فيهم من العلم بالقرآن ومعانيه وعلومه ما لا يوجد منه شيء عند الشيعة بعضهم تعلمه من أهل السنة وهم مع هذا مقصرون فمن صنف منهم تفسير القرآن فمن تفاسير أهل السنة يأخذ كما فعل الطوسي والموسوي فما في تفسيره من علم يستفاد هو مأخوذ من تفاسير أهل السنة وأهل السنة في هذا الموضع من يقر بخلافة الثلاثة فالمعتزلة داخلون في أهل السنة وهم إنما يستعينون في التفسير والمنقولات بكلام المعتزلة وكذلك بحوثهم العقلية فما كان فيها صوابا فإنما أخذوه عن أهل السنة والذين يمتازون به هو كلامهم في ثلب الصحابة والجمهور ودعوى النص ونحو ذلك مما هم به أخلق وهو بهم أشبه وأما الحديث فهم من أبعد الناس عن معرفته لا إسناده ولا متنه ولا يعرفون الرسول واحواله ولهذا إذا نقلوا شيئا من الحديث كانوا من
6
380(187/256)
أجهل الناس به وأي كتاب وجدوا فيه ما يوافق هواهم نقلوه من غير معرفة بالحديث كما نجد هذا المصنف وأمثاله ينقلون ما يجدونه موافقا لأهوائهم ولو أنهم ينقلون ما لهم وعليهم من الكتب التي ينقلون منها مثل تفسير الثعلبي وفضائل الصحابة لأحمد بن حنبل وفضائل الصحابة لأبي نعيم وما في كتاب أحمد من زيادات القطيعي وزيادات ابن أحمد لانتصف الناس منهم لكنه لا يصدقون إلا بما يوافق قلوبهم وأما الفقه فهم من أبعد الناس عن الفقه وأصل دينهم في الشريعة هي مسائل ينقلونها عن بعض علماء أهل البيت كعلي بن الحسين وابنه أبي جعفر محمد وابنه جعفر بن محمد وهؤلاء رضي الله عنهم من أئمة الدين وسادات المسلمين لكن لا ينظرون في الإسناد إليهم هل ثبت النقل إليهم أم لا فإنه لا معرفة لهم بصناعة الحديث والإسناد ثم إن الواحد من هؤلاء إذا قال قولا لا يطلب دليله من الكتاب والسنة ولا ما يعارضه ولا يردون ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول كما أمر الله به ورسوله بل قد أصلوا لهم ثلاثة أصول أحدها أن هؤلاء معصومون والثاني أن كل ما يقولونه منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم والثالث أن إجماع العترة حجة وهؤلاء هم العترة
6
381(187/257)
فصاروا لذلك لا ينظرون في دليل ولا تعليل بل خرجوا عن الفقه في الدين كخروج الشعرة من العجين وإذا صنف واحد منهم كتابا في الخلاف وأصول الفقه كالموسوي وغيره فإن كانت المسألة فيها نزاع بين العلماء أخذوا حجة من يوافقهم واحتجوا بما احتج به أولئك وأجابوا عما يعارضهم بما يجيب به أولئك فيظن الجاهل منهم أن هذا قد صنف كتابا عظيما في الخلاف أو الفقه أو الأصول ولا يدري الجاهل أن عامته استعارة من كلام علماء أهل السنة الذين يكفرهم ويعاديهم وما انفردوا به فلا يساوى مداده فإن المداد ينفع ولا يضر وهذا يضر ولا ينفع وإن كانت المسألة مما انفردوا به اعتمدوا على ذلك الأصول الثلاثة التي فيها من الجهل والضلال ما لا يخفى وكذلك كلامهم في الأصول والزهد والرقائق والعبادات والدعوات وغير ذلك وكذلك إذا نظرت ما فيهم من العبادة والأخلاق المحمودة تجده جزءا مما عليه الجمهور
6
382
فصل قال الرافضي الفصل الثالث في الأدلة الدالة على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعد رسول صلى الله عليه وسلم الأدلة في ذلك كثيرة لا تحصى لكن نذكر المهم منها وننظم أربعة مناهج المنهج الأول في الأدلة العقلية وهي خمسة الأول أن الإمام يجب أن يكون معصوما ومتى كان ذلك كان الإمام هو عليا عليه السلام أما المقدمة الأولى فلأن الإنسان مدني بالطبع لا يمكن أن يعيش منفردا لافتقاره في بقائه إلى ما يأكل ويشرب ويلبس ويسكن ولا يمكن أن يفعلها بنفسه بل يفتقر إلى مساعدة
6
383(187/258)
غيره بحيث يفرغ كل واحد منهم إلى ما يحتاج إليه صاحبه حتى يتم قيام النوع ولما كان الاجتماع في مظنه التغالب والتغابن بأن كل واحد من الأشخاص قد يحتاج إلى ما في يد غيره فتدعوه قوته الشهوانية إلى أخذه وقهره عليه وظلمه فيه فيؤدى ذلك إلى وقوع الهرج والمرج وإثارة الفتن فلا بد من نصب إمام معصوم يصدهم عن الظلم والتعدى ويمنعهم عن التغالب والقهر وينصف المظلوم من الظالم ويوصل الحق إلى مستحقه لا يجوز عليه الخطأ ولا السهو ولا المعصية وإلا لافتقر إلى إمام آخر لأن العلة المحوجة إلى نصب الإمام هي جواز الخطأ على الأمة فلو جاز الخطأ عليه لاحتاج إلى إمام آخر فإن كان معصوما كان هو الإمام وإلا لزم التسلسل وأما المقدمة الثانية فظاهرة لأن أبا بكر وعمر وعثمان لم
6
384
يكونوا معصومين اتفاقا وعلي معصوم فيكون هو الإمام والجواب عن ذلك أن نقول كلتا المقدمتين باطلة أما الأولى فقوله لا بد من نصب إمام معصوم يصدهم عن الظلم والتعدي ويمنعهم عن التغالب والقهر وينصف المظلوم من الظالم ويوصل الحق إلى مستحقه لا يجوز عليه الخطأ ولا السهو ولا المعصية فيقال له نحن نقول بموجب هذا الدليل إن كان صحيحا فإن الرسول هو المعصوم وطاعته واجبة في كل زمان على كل أحد وعلم الأمة بأمره ونهيه أتم من علم آحاد الرعية بأمر الإمام الغائب كالمنتظر ونحوه بأمره ونهيه فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام معصوم والأمة تعرف أمره ونهيه ومعصومهم ينتهي إلى الغائب المنتظر الذي لو كان معصوما لم يعرف أحد لا أمره و لا نهية بل ولا كانت رعية على تعرف أمره ونهيه كما تعرف الأمة نبيها ونهيه بل عند أمه محمد صلى الله عليه وسلم من علم أمره ونهيه ما أغناهم عن كل إمام سواه بحيث أنهم لا يحتاجون قط إلى المتولى عليهم في شيء من معرفة دينهم ولا يحتاجون في العمل إلى ما يحتاجون فيه إلى التعاون وهم يعلمون أمره ونهيه أعظم من معرفة آحاد رعية المعصوم ولو قدر
6(187/259)
385
وجوده بأمره فإنه لم يتول على الناس ظاهر من أدعيت له العصمة إلا علي ونحن نعلم قطعا أنه كان في رعيته باليمن وخراسان وغيرهما من لا يدري بماذا أمر ولا عماذا نهى بل نوابه كانوا يتصرفون بما لا يعرفه هو وأما الورثة الذين ورثوا علم محمد صلى الله عليه وسلم فهم يعرفون أمره ونهيه ويصدقون في الإخبار عنه أعظم من علم نواب علي بأمره ونهيه ومن صدقهم في الإخبار عنه وهم إنما يريدون أنه لا بد من إمام معصوم حي فنقول هذا الكلام باطل من وجوه أحدها أن هذا الإمام الموصوف لم يوجد بهذه الصفة أما في زماننا فلا يعرف إمام معروف يدعى فيه هذا ولا يدعي لنفسه بل مفقود غائب عند متبعيه ومعدوم لا حقيقة له عند العقلاء ومثل هذا لا يحصل به شيء من مقاصد الإمامة أصلا بل من ولى على الناس ولو كان فيه بعض الجهل وبعض الظلم كان أنفع لهم ممن لا ينفعهم بوجه من الوجوه وهؤلاء المنتسبون إلى الإمام المعصوم لا يوجدون مستعينين في أمورهم إلا بغيره بل هم ينتسبون إلى المعصوم وإنما يستعينون بكفور أو ظلوم فإذا كان المصدقون لهذا المعصوم المنتظر لم ينتفع به أحد
6
386(187/260)
منهم لا في دينه ولا في دنياه لم يحصل لأحد به شيء من مقاصد الإمامة وإذا كان المقصود لا يحصل منه شيء لم يكن بنا حاجة إلى إثبات الوسيلة لأن الوسائل لا تراد إلا لمقاصدها فإذا جزمنا بانتفاء المقاصد كان الكلام في الوسيلة من السعي الفاسد وكان هذا بمنزلة من يقول الناس يحتاجون إلى من يطعمهم ويسقيهم وينبغي أن يكون الطعام صفته كذا والشراب صفته كذا وهذا عند الطائفة الفلانبة وتلك الطائفة قد علم أنها من أفقر الناس وأنهم معروفون بالإفلاس وأي فائدة في طلب ما يعلم عدمه واتباع مالا ينتفع به أصلا والإمام يحتاج إليه في شيئين إما في العلم لتبليغه وتعليمه وإما في العمل به ليعين الناس على ذلك بقوته وسلطانه وهذا المنتظر لا ينفع لا بهذا ولا بهذا بل ما عندهم من العلم فهو من كلام من قبله ومن العمل إن كان مما يوافقهم عليه المسلمون استعانوا بهم وإلا استعانوا بالكفار والملاحدة ونحوهم فهم أعجز الناس في العمل وأجهل الناس في العلم مع دعواهم ائتمامهم بالمعصوم الذي مقصوده العلم والقدرة ولم يحصل لهم لا علم ولا قدرة فعلم انتفاء هذا مما يدعونه
6
387(187/261)
وأيضا فالأئمة الاثنا عشر لم يحصل لأحد من الأمة بأحد منهم جميع مقاصد الإمامة أما من دون على فإنما كان يحصل للناس من علمه ودينه مثل ما يحصل من نظرائه وكان علي بن الحسين وابنه أبو جعفر وابنه جعفر ابن محمد يعلمون الناس ما علمهم الله كما علمه و علماء زمانهم وكان في زمنهم من هو أعلم منهم وأنفع للأمة وهذا معروف عند أهل العلم ولو قدر أنهم كانوا أعلم وأدين فلم يحصل من أهل العلم والدين ما يحصل من ذوي الولاية من القوة والسلطان وإلزام الناس بالحق ومنعهم باليد عن الباطل وأما من بعد الثلاثة كالعسكريين فهؤلاء لم يظهر عليهم علم تستفيده الأمة ولا كان لهم يد تستعين به الأمة بل كانوا كأمثالهم من الهاشميين لهم حرمة ومكانة وفيهم من معرفة ما يحتاجون إليه في الإسلام والدين ما في أمثالهم وهو ما يعرفه كثير من عوام المسلمين وأما ما يختص به أهل العلم فهذا لم يعرف عنهم ولهذا لم يأخذ عنهم أهل العلم كما أخذوا عن أولئك الثلاثة ولو وجدوا ما يستفاد لأخذوا ولكن طالب العلم يعرف مقصوده وإذا كان للإنسان نسب شريف كان ذلك مما يعينه على قبول
6
388(187/262)
الناس منه ألا ترى أن ابن عباس لما كان كثير العلم عرفت الأمه له ذلك واستفادت منه وشاع ذكره بذلك في الخاصة والعامة وكذلك الشافعي لما كان عنده من العلم والفقه ما يستفاد منه عرف المسلمون له ذلك واستفادوا ذلك منه وظهر ذكره بالعلم والفقه ولكن إذا لم يجد الإنسان مقصوده في محل لم يطلبه منه ألا ترى أنه لو قيل عن أحد إنه طبيب أو نحوي وعظم حتى جاء إليه الأطباء أو النحاة فوجدوه لا يعرف من الطب والنحو ما يطلبون أعرضوا عنه ولم ينفعه مجرد دعوى الجهال وتعظيمهم وهؤلاء الإمامية أخذوا عن المعتزلة أن الله يجب عليه الإقدار والتمكين واللطف بما يكون المكلف عنده أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد مع تمكنه في الحالين ثم قالوا والإمامة واجبة وهي أوجب عندهم من النبوة لأن بها لطفا في التكاليف قالوا إنا نعلم يقينا بالعادات واستمرار الأوقات أن الجماعة متى كان لهم رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد كانوا بوجوده أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإذا لم يكن لهم رئيس وقع الهرج والمرج بينهم وكانوا عن الصلاح أبعد ومن الفساد أقرب وهذه الحال مشعرة بقضية العقل معلومة لا ينكرها إلا من جهل
6
389(187/263)
العادات ولم يعلم استمرار القاعدة المستمرة في العقل قالوا وإذا كان هذا لطفا في التكليف لزم وجوبه ثم ذكروا صفاته من العصمة وغيرها ثم أورد طائفة منهم على أنفسهم سؤالا فقالوا إذا قلتم إن الإمام لطف وهو غائب عنكم فأين اللطف الحاصل مع غيبته وإذا لم يكن لطفه حاصلا مع الغيبة وجاز التكليف بطل أن يكون الإمام لطفا في الدين وحينئذ يفسد القول بإمامة المعصوم وقالوا في الجواب عن هذا السؤال إنا نقول إن لطف الإمام حاصل في حالة الغيبة للعارفين به في حال الظهور وإنما فات اللطف لمن لم يقل بإمامته كما أن لطف المعرفة لم يحصل لمن لم يعرف الله تعالى وحصل لمن كان عارفا به قالوا وهذا يسقط هذا السؤال ويوجب القول بإمامة المعصومين فقيل لهم لو كان اللطف حاصلا في حال الغيبة كحال الظهور لوجب أن يستغنوا عن ظهوره ويتبعوه إلى أن يموتوا وهذا خلاف ما يذهبون إليه فأجابوا بأنا نقول إن اللطف في غيبته عند العارف به من باب التنفير والتبعيد عن القبائح مثل حال الظهور لكن نوجب ظهوره لشيء غير ذلك وهو رفع أيدي المتغلبين عن المؤمنين وأخذ الأموال ووضعها في مواضعها من أيدي الجبابرة ورفع ممالك الظلم التي لا يمكننا رفعها إلا بطريقة وجهاد الكفار الذي لا يمكن إلا مع ظهوره
6
390(187/264)
فيقال لهم هذا كلام ظاهر البطلان وذلك أن الإمام الذي جعلتموه لطفا هو ما شهدت به العقول والعادات وهو ما ذكرتموه قلتم إن الجماعة متى كان لهم رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد كانوا بوجوده أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد واشترطتم فيه العصمة قلتم لأن مقصود الأنزجار لا يحصل إلا بها ومن المعلوم أن الموجودين الذين كانوا قبل المنتظر لم يكن أحد منهم بهذه الصفة لم يكن أحد منهم منبسط اليد ولا متصرفا وعلي رضي الله عنه تولى الخلافة ولم يكن تصرفه وانبساطه تصرف من قبله وانبساطهم وأما الباقون فلم تكن أيديهم منبسطة ولا متصرفون بل كان يحصل بأحدهم ما يحصل بنظرائه وأما الغائب فلم يحصل به شيء فإن المعترف بوجوده إذا عرف أنه غاب من أكثر من أربعمائة سنة وستين سنة وأنه خائف لا يمكنه الظهور فضلا عن إقامة الحدود ولا يمكنه أن يأمر أحدا ولا ينهاه لم يزل الهرج والفساد بهذا ولهذا يوجد طوائف الرافضة أكثر الطوائف هرجا وفسادا واختلافا بالألسن والأيدي ويوجد من الإقتتال والاختلاف وظلم بعضهم لبعض ما لا يوجد فيمن لهم متول كافر فضلا عن متول مسلم فأي لطف حصل لمتبعيه به
6
391(187/265)
واعتبر المدائن والقرى التي يقر أهلها بإمامة المنتظر مع القرى التي لا يقرون به تجد حال هؤلاء أعظم انتظاما وصلاحا في المعاش والمعاد حتى أن الخبير بأحوال العالم يجد بلاد الكفار لوجود رؤسائهم يقيمون مصلحة دنياهم أكثر انتظاما من كثير من الأرض التي ينسبون فيها إلى متابعة المنتظر لا يقيم لهم سببا من مصلحة دينهم ودنياهم ولو قدر أن اعترافهم بوجوده يخافون معه أن يظهر فيعاقبهم على الذنوب كان من المعلوم أن خوف الناس من ولاة أمورهم المشهورين أن يعاقبوهم أعظم من خوف هؤلاء من عقوبة المنتظر لهم ثم الذنوب قسمان منها ذنوب ظاهرة كظلم الناس والفواحش الظاهرة فهذه تخاف الناس فيها من عقوبة ولاة أمورهم أعظم مما يخافه الإمامية من عقوبة المنتظر فعلم أن اللطف الذي أوجبوه لا يحصل بالمنتظر أصلا للعارف به ولا لغيره وأما قولهم إن اللطف به يحصل للعارفين به كما يحصل في حال الظهور فهذه مكابرة ظاهرة فإنه إذا ظهر حصل به من إقامة الحدود والوعظ وغير ذلك ما يوجب أن يكون في ذلك لطف لا يحصل مع عدم الظهور
6
392(187/266)
وتشبيههم معرفته بمعرفة الله في باب اللطف وأن اللطف به يحصل للعارف دون غيره قياس فاسد فإن المعرفة بأن الله موجود حى قادر يأمر بالطاعة ويثيب عليها وينهى عن المعصية ويعاقب عليها من أعظم الأسباب في الرغبة والرهبة منه فتكون هذه المعرفة داعية إلى الرغبة في ثوابه بفعل المأمور وترك المحظور والرهبة من عقابه إذا عصى لعلم العبد بأنه عالم قادر وأنه قد جرت سنته بإثابة المطيعين وعقوبة العاصين وأما شخص يعرف الناس أنه مفقود من أكثر من أربعمائة سنة وأنه لم يعاقب أحدا وأنه لم يثب أحدا بل هو خائف على نفسه إذا ظهر فضلا عن أن يأمر وينهى فكيف تكون المعرفة به داعية إلى فعل ما أمر وترك ما حظر بل المعرفة بعجزه وخوفه توجب الإقدام على فعل القبائح لا سيما مع طول الزمان وتوالي الأوقات وقتا بعد وقت وهو لم يعاقب أحدا ولم يثب أحدا بل لو قدر أنه يظهر في كل مائة سنة مرة فيعاقب لم يكن ما يحصل به من اللطف مثل ما يحصل بآحاد ولاة الأمر بل ولو قيل إنه يظهر في كل عشر سنين بل ولو ظهر في السنة مرة فإنه لا تكون منفعته كمنفعة ولاة الأمور الظاهرين للناس في كل وقت بل هؤلاء مع
6
393(187/267)
ذنوبهم وظلمهم في بعض الأمور شرع الله بهم وما يفعلونه من العقوبات وما يبذلونه من الرغبات في الطاعات أضعاف ما يقام بمن يظهر بعد كل مدة فضلا عمن هو مفقود يعلم جمهور العقلاء أنه لا وجود له والمقرون به يعلمون أنه عاجز خائف لم يفعل قط ما يفعله آحاد الناس فضلا عن ولاة أمرهم وأي هيبة لهذا وأي طاعة وأي تصرف وأي يد منبسطة حتى إذا كان للناس رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد كانوا أقرب إلى الصلاح بوجوده ومن تدبر هذا علم أن هؤلاء القوم في غاية الجهل والمكابرة والسفسطه حيث جعلوا اللطف به في حال عجزه وغيبته مثل اللطف به في حال ظهوره وأن المعرفة به مع عجزه وخوفه وفقده لطف كما لو كان ظاهرا قادرا آمنا وأن مجرد هذه المعرفة لطف كما أن معرفة الله لطف الوجه الثاني أن يقال قولكم لا بد من نصب إمام معصوم يفعل هذه الأمور أتريدون أنه لا بد أن يخلق الله ويقيم من يكون متصفا بهذه الصفات أم يجب على الناس أن يبايعوا من يكون كذلك فإن أردتم الأول فالله لم يخلق أحدا متصفا بهذه الصفات فإن غاية ما عندكم أن تقولوا إن عليا كان معصوما لكن الله لم يمكنه ولم يؤيده
6
394(187/268)
لا بنفسه ولا بجند خلقهم له حتى يفعل ما ذكرتموه بل أنتم تقولون إنه كان عاجزا مقهورا مظلوما في زمن الثلاثة ولما صار له جند قام له جند آخرون قاتلوه حتى لم يتمكن أن يفعل ما فعل الذين كانوا قبله الذين هم عندكم ظلمة فيكون الله قد أيد أولئك الذين كانوا قبله حتى تمكنوا من فعل ما فعلوه من المصالح ولم يؤيده حتى يفعل ذلك وحينئذ فما خلق الله هذا المعصوم المؤيد الذي اقترحتموه على الله وإن قلتم إن الناس يجب عليهم أن يبايعوه ويعاونوه قلنا أيضا فالناس لم يفعلوا ذلك سواء كانوا مطيعين أو عصاة وعلى كل تقدير فما حصل لأحد من المعصومين عندكم تأييد لا من الله ولا من الناس وهذه المصالح التي ذكرتموها لا تحصل إلا بتأييد فإذا لم يحصل ذلك لم يحصل مابه تحصل المصالح بل حصل أسباب ذلك وذلك لا يفيد المقصود الوجه الثالث أن يقال إذا كان لم يحصل مجموع مابه تحصل هذه المطالب بل فات كثير من شروطها فلم لا يجوز أن يكون الفائت هو العصمة وإذا كان المقصود فائتا إما بعدم العصمة وإما بعجز المعصوم فلا فرق بين عدمها بهذا أو بهذا فمن أين يعلم بدليل العقل أنه يجب على الله أن يخلق إماما معصوما وهو إنما يخلقه ليحصل به مصالح عباده وقد خلقه عاجزا لا يقدر على تلك المصالح بل حصل به من الفساد مالم يحصل إلا بوجوده
6
395(187/269)
وهذا يتبين بالوجه الرابع وهو أنه لو لم يخلق هذا المعصوم لم يكن يجري في الدنيا من الشر أكثر مما جرى إذ كان وجوده لم يدفع شيئا من الشر حتى يقال وجوده دفع كذا بل وجوده أوجب أن كذب به الجمهور وعادوا شيعته وظلموه وظلموا أصحابه وحصل من الشرور التي لا يعلمها إلا الله بتقدير أن يكون معصوما فإنه بتقدير أن لا يكون علي رضي الله عنه معصوما ولا بقية الاثنى عشر ونحوهم لا يكون ما وقع من تولية الثلاثة وبني أمية وبني العباس فيه من الظلم والشر ما فيه بتقدير كونهم أئمة معصومين وبتقدير كونهم معصومين فما أزالوا من الشر إلا ما يزيله من ليس بمعصوم فصار كونهم معصومين إنما حصل به الشر لا الخير فكيف يجوز على الحكيم أن يخلق شيئا ليحصل به الخير وهو لم يحصل به إلا الشر لا الخير وإذا قيل هذا الشر حصل من ظلم الناس له قيل فالحكيم الذي خلقه إذا كان خلقه لدفع ظلمهم وهو يعلم أنه إذا خلقه زاد ظلمهم لم يكن خلقه حكمة بل سفها وصار هذا كتسليم إنسان ولده إلى من يأمره بإصلاحه وهو يعلم أنه لا يطيعه بل يفسده فهل يفعل هذا حكيم ومثل أن يبنى إنسان خانا في الطريق لتأوى إليه القوافل ويعتصموا
6
396(187/270)
به من الكفار وقطاع الطريق وهو يعلم أنه إذا بناه اتخذه الكفار حصنا والقطاع مأوى لهم ومثل من يعطى رجلا مالا ينفقه في الغزاة والمجاهدين وهو يعلم أنه إنما ينفقه في الكفار والمحاربين أعداء الرسول ولا ريب أن هؤلاء الرافضة القدرية أخذوا هذه الحجج من أصول المعتزلة القدرية فلما كان أولئك يوجبون على الله الصلاح والأصلح أخذ هؤلاء ذلك منهم وأصل أولئك في أنه يجب على الله أن يفعل بكل مكلف ما هو الأصلح له في دينه ودنياه وهو أصل فاسد وإن كان الرب تعالى بحكمته ورحمته يفعل بحكمة لخلقه ما يصلحهم في دينهم ودنياهم والناس في هذا الأصل على ثلاثة أقوال فالقدرية يقولون يجب على الله رعاية الأصلح أو الصلاح في كل شخص معين ويجعلون ذلك الواجب من جنس ما يجب على الإنسان فغلطوا حيث شبهوا الله بالواحد من الناس فيما يجب عليه ويحرم عليه وكانوا هم مشبهة الأفعال فغلطوا من حيث لم يفرقوا بين المصلحة العامة الكلية وبين مصلحة آحاد الناس التي قد تكون مستلزمة لفساد عام ومضاده لصلاح عام
6
397(187/271)
والقدرية المجبرة الجهمية لا يثبتون له حكمة ولا رحمة بل عندهم يفعل بمشيئة محضة لا لها حكمة ولا رحمة والجهم بن صفوان رأس هؤلاء كان يخرج إلى المبتلين من الجذمى وغيرهم فيقول أرحم الراحمين يفعل هذا يريد أنه ليس له رحمة فهؤلاء وأولئك في طرفين متقابلين والثالث قول الجمهور إن الله عليم حكيم رحيم قائم بالقسط وإنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها كما نطقت بذلك نصوص الكتاب والسنة وكما يشهد به الاعتبار حسا وعقلا وذلك واقع منه بحكمته ورحمته وبحكم أنه كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم لا بأن الخلق يوجبون عليه ويحرمون ولا بأنه يشبه المخلوق فيما يجب ويحرم بل كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل وليس لمخلوق عليه حق إلا ما أحقه هو على نفسه المقدسة كقوله كتب ربكم على نفسه الرحمة سورة الأنعام وقوله وكان حقا علينا نصر المؤمنين سورة الروم وذلك بحكم وعده وصدقه في خبره وهذا متفق عليه بين المسلمين وبحكم كتابه على نفسه وحكمته ورحمته وهذا فيه تفصيل ونزاع مذكور في غير هذا الموضع ثم القدرية القائلون برعاية الأصلح يقولون إنما خلقهم لتعريضهم للثواب
6
398(187/272)
فإذا قيل لهم فهو كان يعلم أن هذا الذي عرضه لا ينتفع مما خلقه له بل يفعل ما يضره فكان كمن يعطى شخصا مالا لينفقه في سبيل الله وسيفا ليقاتل به الكفار وهو يعلم أنه ينفقه في حرب المسلمين وقتالهم قالوا المكلف إنما أتى من جهة نفسه فهو الذي فرط بترك الطاعة أجابهم أهل السنة بجوابين أحدهما مبني على إثبات العلم والثاني مبني على إثبات المشيئة والقدرة التامة وأنه خالق كل شيء فقالوا على الأول إذا كان هو يعلم أن مقصوده بالفعل لم يحصل لم يكن فعله حكمة وإن كان بتفريط غيره والثاني أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو خالق كل شيء وهو يعلم أنه لا يشاء ويخلق ما به يكون ما ذكروه من المطلوب فيمتنع مع هذا أن يكون ما ذكروه هو المطلوب بالخلق وكل جواب للقدرية فهو جواب للرافضة ويجابون بأجوبة أخرى تجيبهم بها القدرية وإن وافقوهم على قاعدة التعليل والتجوير فيقولون إنما يجب خلق إمام معصوم إذا لم يكن قد خلق لهم ما يغنيهم عنه وبالجملة فحقيقة هذه الحجة أنها استدلال بالواجب على الواقع
6
399(187/273)
فيقولون يجب عليه كذا فلا بد أن يكون قد فعل الواجب وليس هذا إلا هكذا والعلم بالواقع له طرق كثيرة قطعية يقينية تبين انتفاء هذا الذي ذكروا أنه واقع فإذا علمنا انتقاء الفائدة المطلوبة قطعا لم يمكن إثبات لازمها وهو الوسيلة فإنا نستدل على إثبات اللازم بإثبات الملزوم فإذا كان الملزوم قد علمنا انتفاءه قطعا لم يمكن إثبات لازمه ثم بعد ذلك آن أن نقدح في الإيجاب جملة وتفصيلا أو نقول الواجب من الجملة لا يتوقف على ما ادعوه من المعصوم ما لم يكن مثله في نواب معاوية وقول الرافضة من جنس قول النصارى إن الإله تجسد ونزل وإنه أنزل ابنه ليصلب ويكون الصلب مغفره لذنب آدم ليدفع الشيطان بذلك لهم فقيل لهم إذا كان قتله وصلبه وتكذيبه من أعظم الشر والمعصية فيكون قد أراد أن يزيل ذنبا صغيرا بذنب هو أكبر منه وهو مع ذلك لم يغير الشر بل زاد على ما كان فكيف يفعل شيئا لمقصود والحاصل إنما هو ضد المقصود الوجه الخامس إذا كان الانسان مدنيا بالطبع وإنما وجب نصب
6
400(187/274)
المعصوم ليزيل الظلم والشر عن أهل المدينة فهل تقولون إن لم يزل في كل مدينة خلقها الله تعالى معصوم يدفع ظلم الناس أم لا فإن قلتم بالأول كان هذا مكابرة ظاهرة فهل في بلاد الكفار من المشركين وأهل الكتاب معصوم وهل كان في الشام عند معاوية معصوم وإن قلتم بل نقول هو في كل مدينة واحد وله نواب في سائر المدائن قيل فكل معصوم له نواب في جميع مدائن الأرض أم في بعضها فإن قلتم في الجميع كان هذا مكابرة وإن قلتم في البعض دون البعض قيل فما الفرق إذا كان ما ذكرتموه واجبا على الله وجميع المدائن حاجتهم إلى المعصوم واحدة الوجه السادس أن يقال هذا المعصوم يكون وحده معصوما أو كل من نوابه معصوما وهم لا يقولون بالثاني والقول به مكابرة فإن نواب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا معصومين ولا نواب علي بل كان في بعضهم من الشر والمعصية ما لم يكن مثله في نواب معاوية لأميرهم فأين العصمة وأن قلت يشترط فيه وحده قيل فالبلاد الغائبة عن الإمام لا سيما إذا لم يكن المعصوم قادرا على قهر نوابه بل هو عاجز ماذا ينتفعون بعصمة الإمام وهم يصلون
6
401(187/275)
خلف غير معصوم ويحكم بينهم غير معصوم ويطيعون غير معصوم ويأخذ أموالهم غير معصوم فإن قيل الأمور ترجع إلى المعصومين قيل لو كان المعصوم قادرا ذا سلطان كما كان عمر وعثمان ومعاوية وغيرهم لم يتمكن أن يوصل إلى كل من رعيته العدل الواجب الذي يعلمه هو وغاية ما يقدر عليه أن يولى أفضل من يقدر عليه لكن إذا لم يجد إلا عاجزا أو ظالما كيف يمكنه تولية قادر عادل فإن قالوا إذا لم يخلق الله إلا هذا سقط عنه التكليف قيل فإذا لم يجب على الله أن يخلق قادرا عادلا مطلقا بل أوجب على الإمام أن يفعل ما يقدر عليه فكذلك الناس عليهم أن يولوا أصلح من خلقه الله تعالى وإن كان فيه نقص إما من قدرته وإما من عدله وقد كان عمر رضي الله عنه يقول اللهم إليك اشكو جلد الفاجر وعجز الثقة وما ساس العالم أحد مثل عمر فكيف الظن بغيره هذا إذا كان المتولى نفسه قادرا عادلا فكيف إذا كان المعصوم عاجزا بل كيف إذا كان مفقودا من الذي يوصل الرعية إليه حتى يخبروه بأحوالهم ومن الذي يلزمها بطاعته حتى تطيعه وإذا أظهر بعض نوابه
6
402(187/276)
طاعته حتى يوليه ثم أخذ ما شاء من الأموال وسكن في مدائن الملوك فأي حيلة للمعصوم فيه فعلم أن المعصوم الواحد لا يحصل به المقصود إذا كان ذا سلطان فكيف إذا كان عاجزا مقهورا فكيف إذا كان مفقودا غائبا لا يمكنه مخاطبة أحد فكيف إذا كان معدوما لا حقيقه له الوجه السابع أن يقال صد غيره عن الظلم وإنصاف المظلوم منه وإيصال حق غيره إليه فرع على منع ظلمه واستيفاء حقه فإذا كان عاجزا مقهورا لا يمكنه دفع الظلم عن نفسه ولا استيفاء حقه من ولاية ومال لا حق امرأته من ميراثها فأي ظلم يدفع وأي حق يوصل فكيف إذا كان معدوما أوخائفا لا يمكنه أن يظهر في قرية او مدينة خوفا من الظالمين أن يقتلوه وهو دائما على هذه الحال أكثر من اربعمائة وستين سنة والأرض مملوءة من الظلم والفساد وهو لا يقدر أن يعرف بنفسه فكيف يدفع الظلم عن الخلق أو يوصل الحق إلى المستحق وما أخلق هؤلاء بقوله تعالى أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون أن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا سورة الفرقان الوجه الثامن أن يقال الناس في باب ما يقبح من الله على قولين منهم من يقول الظلم ممتنع منه وفعل القبيح مستحيل ومهما
6
403(187/277)
فعله كان حسنا فهؤلاء يمتنع عندهم أن يقال يحسن منه كذا فضلا عن القول بالوجوب والقول الثاني قول من يقول إنه يجب عليه العدل والرحمة بإيجابه على نفسه كما قال تعالى كتب ربكم على نفسه الرحمة سورة الأنعام ويحرم الظلم بتحريمه على نفسه كما قال في الصحيح يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ويقول إن ذلك واجب بالعقل وعلى كل قول فهو سبحانه لم يقع منه ظلم ولم يخل بواجب فقد فعل ما يجب عليه وهو مع هذا لم يخلق ما تحصل به هذه المصالح المقصودة من المعصوم فإن كانت هذه المصالح تحصل بمجرد خلقه وهي لم تحصل لزم أن لا يكون خلقه واجبا وهو المطلوب وإن كانت لا تحصل إلا بخلقه وخلق أمور أخرى حتى يحصل بالمجموع المطلوب فهو لم يخلق ذلك المجموع سواء كان لم يخلق شيئا منه أو لم يخلق بعضه والإخلال بالواجب ممتنع عليه في القليل والكثير فلزم علي التقديرين أنه لا يجب عليه خلق الموجب لهذه المطالب وإذا لم يجب عليه ذلك فلا فرق بين أن يخلق معصوما لا يحصل به ذلك وبين أن لا يخلقه فلا يكون ذلك واجبا عليه وحينئذ فلا يلزم أن يكون موجودا فالقول بوجوب وجوده باطل على كل تقدير وإن قيل إن المطلوب يحصل بخلقه وبطاعة المكلفين له
6
404(187/278)
قيل إن كانت طاعة المكلفين مقدورة لله ولم يخلقها فلم يخلق المصلحة المطلوبة بالمعصوم فلا تكون واجبه عليه وإن لم تكن مقدورة امتنع الوجوب بدونها في حق المكلف فكيف في حق الله وما لا يتم الوجوب إلا به وهو غير موجود فليس الأمر حينئذ بواجب ألا ترى أن الإنسان لا يجب عليه تحصيل مصلحة لا تحصل بدون فعل غيره إلا إذا أعانه ذلك الغير كالجمعة التي لا تجب إلا خلف إمام أو مع عدد فلا يجب على الإنسان أن يصليها إلا إذا حصل الإمام وسائر العدد والحج الذي لا يجب عليه السفر إليه إلا مع رفقة يأمن معهم أو مع من يكريه دابته فلا يجب عليه إذا لم يحصل من يفعل معه ذلك ودفع الظلم عن المظلوم إذا لم يمكن إلا بأعوان لم يجب على من لا أعوان له فإذا قالوا إن الرب يجب عليه تحصيل هذه المصالح لعباده الحاصلة بخلق المعصوم وهي لا تحصل إلا بوجود من يطيعه والله تعالى على هذا التقدير لا يمكنه أن يجعل الناس يطيعونه لم يكن خلق المعصوم واجبا عليه لعدم وجوب ما لا يحصل الواجب إلا به وعدم حصول المطلوب بالمعصوم وحده وإن قيل يخلقه لعل بعض الناس يطيعه قيل أولا هذا ممتنع ممن يعلم عواقب الأمور
6
405(187/279)
وقيل ثانيا إذا كان شرط المطلوب قد يحصل وقد لا يحصل وهو في كثير من الأوقات أو غالبها أو جميعها لا يحصل أمكن أن يخلق غير المعصوم يكون عادلا في كثير من الأوقات أو بعضها فإن حصول المقصود ممن يعدل في كثير من الأمور ويظلم في بعضها إذا كانت مصلحة وجوده أكثر من مفسدته خير ممن لا يقدر على أن يعدل بحال ولا يدفع شيئا من الظلم فإن هذا لا مصلحة فيه بحال وإن قالوا الرب فعل ما يجب عليه من خلق المعصوم ولكن الناس فوتوا المصلحة بمعصيتهم له قيل أولا إذا كان يعلم أن الناس لا يعاونونه حتى تحصل المصلحة بل يعصونه فيعذبون لم يكن خلقه واجبا بل ولا حكمة على قولهم ويقال ثانيا ليس كل الناس عصاه بل بعض الناس عصوه ومنعوه وكثير من الناس تؤثر طاعته ومعرفة ما يقوله فكيف لا يمكن هؤلاء من طاعته فإذا قيل أولئك الظلمة منعوا هؤلاء قيل فإن كان الرب قادرا على منع الظلمة فهلا منعهم على قولهم وإن لم يكن ذلك مقدورا فهو يعلم أن حصول المصلحة غير مقدورة فلا يفعله فلم قلتم على هذا التقدير إنه يمكن خلق معصوم غير نبي
6
406(187/280)
وهذا لازم لهم فإنهم إن قالوا إن الله خالق أفعال العباد أمكنه صرف دواعي الظلمة حتى يتمكن الناس من طاعته وإن قالوا ليس خالق أفعال العباد قيل فالعصمة إنما تكون بأن يريد الفاعل الحسنات ولا يريد السيئات وهو عندكم لا يقدر أن يغير إرادة أحد فلا يقدر على جعله معصوما وهذا أيضا دليل مستقل على إبطال خلق أحد معصوما على قول القدرية فإن العصمة إنما تكون بأن يكون العبد مريدا للحسنات غير مريد للسيئات فإذا كان هو المحدث للإرادة والله تعالى عند القدرية لا يقدر على إحداث إرادة أحد امتنع منه أن يجعل أحدا معصوما وإذا قالوا يخلق ما تميل به إرادته إلى الخير قيل إن كان ذلك ملجئا زال التكليف وإن لم يكن ملجئا لم ينفع وإن كان ذلك مقدورا عندكم فهلا فعله بجميع العبادة فإنه أصلح لهم إذا أوجبتم على الله أن يفعل الأصلح بكل عبد وذلك لا يمنع الثواب عندكم كما لا يمنعه في حق المعصوم الوجه التاسع أن يقال حاجة الإنسان إلى تدبير بدنه بنفسه أعظم من حاجة المدينة إلى رئيسها وإذا كان الله تعالى لم يخلق نفس الإنسان معصومة فكيف يجب عليه أن يخلق رئيسا معصوما مع أن الإنسان يمكنه أن يكفر بباطنه ويعصي بباطنه وينفرد بأمور
6
407(187/281)
كثيرة من الظلم والفساد والمعصوم لا يعلمها وإن علمها لا يقدر على إزالتها فإذا لم يجب هذا فكيف يجب ذاك الوجه العاشر أن يقال المطلوب من الأئمة أن يكون الصلاح بهم أكثر من الفساد وأن يكون الإنسان معهم أقرب إلى المصلحة وأبعد عن المفسدة مما لو عدموا ولم يقم مقامهم أم المقصود بهم وجود صلاح لا فساد معه أم مقدار معين من الصلاح فإن كان الأول فهذا المقصود حاصل لغالب ولاة الأمور وقد حصل هذا المقصود على عهد أبي بكر وعمر وعثمان أعظم مما حصل على عهد علي وهو حاصل بخلفاء بني أمية وبني العباس أعظم مما هو حاصل بالاثنى عشر وهذا حاصل بملوك والترك والهند أكثر مما هو حاصل بالمنتظر الملقب صاحب الزمان فإنه ما من أمير يتولى ثم يقدر عدمه بلا نظير إلا كان الفساد في عدمه أعظم من الفساد في وجوده لكن قد يكون الصلاح في غيره أكثر منه كما قد قيل ستون سنة مع إمام جائر خير من ليلة واحدة بلا إمام وإن قيل بل المطلوب وجود صلاح لا فساد معه قيل فهذا لم يقع ولم يخلق الله ذلك ولا خلق أسبابا توجب ذلك لا محالة فمن أوجب ذلك وأوجب ملزوماته على الله كان إما مكابرا لعقله وإما ذاما لربه وخلق ما يمكن معه وجود ذلك لا يحصل به ذلك إن لم يخلق مايكون به ذلك
6
408(187/282)
ومثل هذا يقال في أفعال العباد لكن القول في المعصوم أشد لأن مصلحته تتوقف على أسباب خارجة عن قدرته بل عن قدرة الله عند هؤلاء الذين هم معتزلة رافضة فإيجاب ذلك على الله أفسد من إيجاب خلق مصلحة كل عبد له الوجه الحادي عشر أن يقال قوله لو لم يكن الإمام معصوما لافتقر إلى إمام آخر لأن العلة المحوجة إلى الإمام هي جواز الخطأ على الأمة فلو جاز الخطأ عليه لاحتاج إلى إمام آخر فيقال له لم لا يجوز أن يكون إذا أخطأ الإمام كان في الأمة من ينبهه على الخطأ بحيث لا يحصل اتفاق المجموع على الخطأ لكن إذا أخطأ بعض الأمة نبهه الإمام أو نائبه أو غيره وإن أخطأ الإمام أو نائبه نبهه آخر كذلك وتكون العصمة ثابتة للمجموع لا لكل واحد من الأفراد كما يقوله أهل الجماعة وهذا كما أن كل واحد من أهل خبر التواتر يجوز عليه الخطأ وربما جاز عليه تعمد الكذب لكن المجموع لا يجوز عليهم ذلك في العادة وكذلك الناظرون إلى الهلال أو غيره من الأشياء الدقيقة قد يجوز الغلط على الواحد منهم ولا يجوز على العدد الكثير وكذلك الناظرون في الحساب والهندسة ويجوز على الواحد منهم الغلط في مسألة أو مسألتين فأما إذا كثر أهل المعرفة بذلك امتنع في العادة غلطهم
6
409(187/283)
ومن المعلوم أن ثبوت العصمة لقوم اتفقت كلمتهم أقرب إلى العقل والوجود من ثبوتها لواحد فإن كانت العصمة لا تمكن للعدد الكثير في حال اجتماعهم على الشىء المعين فأن لا تمكن للواحد أولى وإن أمكنت للواحد مفردا فلأن تمكن له ولأمثاله مجتمعين بطريق الأولى والأحرى فعلم أن اثبات العصمة للمجموع أولى من إثباتها للواحد وبهذه العصمة يحصل المقصود المطلوب من عصمة الإمام فلا تتعين عصمة الإمام ومن جهل الرافضة إنهم يوجبون عصمة واحد من المسلمين ويجوزون على مجموع المسلمين الخطأ إذا لم يكن فيهم واحد معصوم والمعقول الصريح يشهد أن العلماء الكثيرين مع اختلاف اجتهاداتهم إذا اتفقوا على قول كان أولى بالصواب من واحد وأنه إذا أمكن حصول العلم بخبر واحد فحصوله بالأخبار المتواترة أولى ومما يبين ذلك أن الإمام شريك الناس في المصالح العامة إذ كان هو وحده لا يقدر أن يفعلها إلا أن يشترك هو وهم فيها فلا يمكنه أن يقيم الحدود ويستوفى الحقوق ولا يوفيها ولا يجاهد عدوا إلا أن يعينوه بل لا يمكنه أن يصلي بهم جمعة ولا جماعة إن لم يصلوا معه ولا يمكن أن يفعلوا ما يأمرهم به إلا بقواهم وإرادتهم فإذا كانوا مشاركين
6
410(187/284)
له في الفعل والقدرة لا ينفرد عنهم بذلك فكذلك العلم والرأي لا يجب أن ينفرد به بل يشاركهم فيه فيعاونهم ويعاونونه وكما أن قدرته تعجز إلا بمعاونتهم فكذلك علمه يعجز إلا بمعاونتهم الوجه الثاني عشر أن يقال العلم الديني الذي يحتاج إليه الأئمة والأمة نوعان علم كلي كإيجاب الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان والزكاة والحج وتحريم الزنا والسرقة والخمر ونحو ذلك وعلم جزئي كوجوب الزكاة على هذا ووجوب إقامة الحد على هذا ونحو ذلك فأما الأول فالشريعة مستقلة به لا تحتاج فيه إلى الإمام فإن النبي إما أن يكون قد نص على كليات الشريعة التي لا بد منها أو ترك منها ما يحتاج إلى القياس فإن كان الأول ثبت المقصود وإن كان الثاني فذلك القدر يحصل بالقياس وإن قيل بل ترك فيها مالا يعلم بنصه ولا بالقياس بل بمجرد قول المعصوم كان هذا المعصوم شريكا في النبوة لم يكن نائبا فإنه إذا
6
411(187/285)
كان يوجب ويحرم من غير إسناد إلى نصوص النبي كان مستقلا لم يكن متبعا له وهذا لا يكون إلا نبيا فأما من لا يكون إلا خليفة لنبي فلا يستقل دونه وأيضا فالقياس إن كان حجة جاز إحالة الناس عليه وإن لم يكن حجة وجب أن ينص النبي على الكليات وأيضا فقد قال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا سورة المائدة وهذا نص في أن الدين كامل لا يحتاج معه إلى غيره والناس في هذا الأصل على ثلاثة أقوال منهم من يقول النصوص قد انتظمت جميع كليات الشريعة فلا حاجة إلى القياس بل لا يجوز القياس ومنهم من يقول بل كثير من الحوادث لا يتناولها النصوص فالحاجة داعية إلى القياس ومن هؤلاء من قد يدعي أن أكثر الحوادث كذلك وهذا سرف منهم ومنهم من يقول بل النصوص تناولت الحوادث بطرق جلية أو خفية فمن الناس من لا يفهم تلك الأدلة أو لا يبلغه النص فيحتاج إلى القياس وإن كانت الحوادث قد تناولها النص أو يقول إن كل واحد من عموم النص القطعي والقياس المعنوي حجة وطريق يسلك السالك
6
412(187/286)
إليه ما أمكنه وهما متفقان لا يتناقضان إلا لفساد أحدهما وهذا القول أقرب من غيره وأما الجزئيات فهذه لا يمكن النص على أعيانها بل لا بد فيها من الاجتهاد المسمى بتحقيق المناط كما أن الشارع لا يمكن أن ينص لكل مصل على جهة القبلة في حقه ولكل حاكم على عدالة كل شاهد وأمثال ذلك وإذا كان كذلك فإن ادعوا عصمة الإمام في الجزئيات فهذه مكابرة ولا يدعيها أحد فإن عليا رضي الله عنه كان يولى من تبين له خيانته وعجزه وغير ذلك وقد قطع رجلا بشهادة شاهدين ثم قالا أخطأنا فقال لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ففى الصحيحين عنه أنه قال إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضى بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار وقد ادعى قوم من أهل الخير على ناس من أهل الشر يقال لهم
6
413(187/287)
بنو أبيرق أنهم سرقوا لهم طعاما ودروعا فجاء قوم فبرأوا أولئك المتهمين فظن النبي صلى الله عليه وسلم صدق أولئك المبرئين لهم حتى أنزل الله تعالى عليه إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما الآيات سورة النساء وبالجملة الأمور نوعان كلية عامة وجزئية خاصة فأما الجزئيات الخاصة كالجزئى الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه مثل ميراث هذا الميت وعدل هذا الشاهد ونفقة هذه الزوجة ووقوع الطلاق بهذا الزوج وإقامة الحد على هذا المفسد وأمثال ذلك فهذا مما لا يمكن لا نبيا ولا إماما ولا أحدا من الخلق أن ينص على كل فرد فرد منه لأن أفعال بني آدم وأعيانهم يعجز عن معرفة أعيانها الجزئية علم واحد من البشر وعبارته لا يمكن بشر أن يعلم ذلك كله بخطاب الله له وإنما الغاية الممكنة ذكر الأمور الكلية العامة كما قال صلى الله عليه وسلم بعثت بجوامع الكلم فالإمام لا
6
414
يمكنه الأمر والنهي لجميع رعيته إلا بالقضايا الكلية العامة وكذلك إذا ولى نائبا لا يمكنه أن يعهد إليه إلا بقواعد كلية عامة ثم النظر في دخول الأعيان تحت تلك الكليات أو دخول نوع خاص تحت أعم منه لا بد فيه من نظر المتولى واجتهاده وقد يصيب تارة ويخطىء أخرى فإن اشترط عصمة كل واحد اشترط عصمة النواب في تلك الأعيان وهذا منتف بالضرورة واتفاق العقلاء وإن اكتفى بالكليات فالنبي يمكنه أن ينص على الكليات كما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم إذ ذكر ما يحرم من النساء وما يحل فجميع أقارب الرجل من النساء حرام عليه إلا بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته كما ذكر هؤلاء الأربع في سورة الأحزاب وكذلك في الأشربة حرم كل مسكر دون مالا يسكر وأمثال ذلك بل قد حصر المحرمات في قوله قل إنما حرم ربي الفواحش
6
415(187/288)
ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون سورة الأعراف فكل ما حرم تحريما مطلقا عاما لا يباح في حال فيباح في أخرى كالدم والميتة ولحم الخنزير وجميع الواجبات في قوله قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين سورة الأعراف الآية فالواجب كله محصور في حق الله وحق عبادة وحق الله على عبادة أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحقوق عباده العدل كما في الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه قال كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده قلت الله ورسوله أعلم قال حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت الله ورسوله أعلم قال حقهم على الله أن لا يعذبهم ثم إنه سبحانه فصل أنواع الفواحش والبغي وأنواع حقوق العباد في مواضع أخر ففصل المواريث وبين من يستحق الإرث ممن لا يستحقه وما يستحق الوارث بالفرض والتعصيب وبين ما يحل من المناكح وما يحرم وغير ذلك فإن كان يقدر على نصوص كلية تتناول الأنواع فالرسول أحق بهذا من الإمام وإن قيل لا يمكن فالإمام أعجز عن هذا من الرسول
6
416(187/289)
والمحرمات المعينة لا سبيل إلى النص عليها لا لرسول الله ولا إمام بل لا بد فيها من الاجتهاد والمجتهد فيها يصيب تارة ويخطىء أخرى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر وكما قال لسعد بن معاذ وكان حكما في قضية معينة يؤمر فيها الحاكم أن يختار الأصلح فلما حكم بقتل المقاتلة وسبي الذرية من بني قريظة قال النبي صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة وكما كان يقول لمن يرسله أميرا على سرية أو جيش إذا حاصرت أهل الحصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك والأحاديث الثلاثة ثابتة في الصحيح فتبين بذلك أنه لا مصلحة في عصمة الإمام إلا وهي حاصلة بعصمة الرسول ولله الحمد والمنة والواقع يوافق هذا وإنا رأينا كل من كان إلى اتباع السنة والحديث واتباع الصحابة أقرب كانت مصلحتهم في الدنيا والدين أكمل وكل من كان أبعد من ذلك كان بالعكس ولما كانت الشيعة أبعد الناس عن اتباع المعصوم الذي لا ريب في
6
417(187/290)
عصمته وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله بالهدى ودين الحق بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا الذي أخرج به الناس من الظلمات إلى النور وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد الذي فرق بين الحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد والنور والظلمة وأهل السعادة وأهل الشقاوة وجعله القاسم الذي قسم به عباده إلى شقى وسعيد فأهل السعادة من آمن به وأهل الشقاوة من كذب به وتولى عن طاعته فالشيعة القائلون بالإمام المعصوم ونحوهم من أبعد الطوائف عن اتباع هذا المعصوم فلا جرم تجدهم من أبعد الناس عن مصلحة دينهم ودنياهم حتى يوجد ممن هو تحت سياسة أظلم الملوك وأضلهم من هو أحسن حالا منهم ولا يكونون في خير إلا تحت سياسة من ليس منهم ولهذا كانوا يشبهون اليهود في أحوال كثيرة منها هذا أنه ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وضربت عليهم المسكنة فلا يعيشون في الأرض إلا بأن يتمسكوا بحبل بعض ولاة الأمور الذي ليس بمعصوم ولا بد لهم من نسبة إلى الإسلام يظهرون بها خلاف ما في قلوبهم فما جاء به الكتاب والسنة يشهد له ما يرينا الله من الآيات في الآفاق وفي أنفسنا قال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق سورة فصلت
6
418(187/291)
ومما أرانا أن رأينا آثار سبيل المتبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم أصلح في دينهم ودنياهم من سبيل الإمام المعصوم بزعمهم وإن زعموا أنهم متبعون للرسول فهم من أجهل الناس بأقواله وأفعاله وأحواله وهذا الذي ذكرته كل من استقرأة في العالم وجده وقد حدثني الثقات الذين لهم خبرة بالبلاد الذين خبروا حال أهلها بما يبين ذلك ومثال ذلك أنه يوجد في الحجاز وسواحل الشام من الرافضة من ينتحلون المعصوم وقد رأينا حال من كان بسواحل الشام مثل جبل كسروان وغيره وبلغنا أخبار غيرهم فما رأينا في العالم طائفة أسوأ من حالهم في الدين والدنيا ورأينا الذين هم تحت سياسة الملوك على الإطلاق خيرا من حالهم فمن كان تحت سياسة ملوك الكفار حالهم في الدين والدنيا أحسن من أحوال ملاحدتهم كالنصيرية والإسماعيلية ونحوهم من الغلاة الذين يدعون الإلهية والنبوة في غير الرسول أو يتخلون عن هذا كله ويعتقدون دين الإسلام كالإمامية والزيدية فكل طائفة تحت سياسة ملوك السنة ولو أن الملك كان أظلم الملوك في الدين والدنيا حاله خير من حالهم فإن الأمر الذي يشترك
6
419(187/292)
فيه أهل السنة ويمتازون به عن الرافضة تقوم به مصالح المدن وأهلها على بعض الوجوه وأما الأمر الذي يشترك فيه الرافضة ويمتازون عن به أهل السنة فلا تقوم به مصلحة مدينة واحدة ولا قربة ولا تجد أهل مدينة ولا قرية يغلب عليهم الرفض إلا ولا بد لهم من الاستعانة بغيرهم إما من أهل السنة وإما من الكفار وإلا فالرافضة وحدهم لا يقوم أمرهم قط كما أن اليهود وحدهم لا يقوم أمرهم قط بخلاف أهل السنة فإن مدائن كثيرة من أهل السنة يقومون بدينهم ودنياهم لا يحوجهم الله سبحانه وتعالى إلى كافر ولا رافضي والخلفاء الثلاثة فتحوا الأمصار وأظهروا الدين في مشارق الأرض ومغاربها ولم يكن معهم رافضي بل بنو أمية بعدهم مع إنحراف كثير منهم عن علي وسب بعضهم له غلبوا على مدائن الإسلام كلها من مشرق الأرض إلى مغربها وكان الإسلام في زمنهم أعز منه فيما بعد ذلك بكثير ولم ينتظم بعد انقراض دولتهم العامة لما جاءتهم الدولة العباسية صار إلى الغرب عبد الرحمن بن هشام الداخل إلى المغرب الذي يسمى صقر قريش واستولى هو ومن بعده على بلاد الغرب وأظهروا الإسلام فيها
6
420(187/293)
وأقاموه وقمعوا من يليهم من الكفار وكانت لهم من السياسة في الدين والدنيا ما هو معروف عند الناس وكانوا من أبعد الناس عن مذاهب أهل العراق فضلا عن أقوال الشيعة وإنما كانوا على مذهب أهل المدينة وكان أهل العراق على مذهب الأوزاعي وأهل الشام وكانوا يعظمون مذهب أهل الحديث وينصره بعضهم في كثير من الأمور وهم من أبعد الناس عن مذهب الشيعة وكان فيهم من الهاشميين الحسينيين كثير ومنهم من صار من ولاة الأمور على مذهب أهل السنة والجماعة ويقال إن فيهم من كان يسكت ممن علي فلا يربع به في الخلافة لأن الأمة لم تجتمع عليه ولا يسبونه كما كان بعض الشيعة يسبه وقد صنف بعض علماء الغرب كتابا كبيرا في الفتوح فذكر فتوح النبي صلى الله عليه وسلم وفتوح الخلفاء بعده أبي بكر وعمر وعثمان ولم يذكر عليا مع حبه له وموالاته له لأنه لم يكن في زمنه فتوح وعلماء السنة كلهم مالك وأصحابه والأوزاعي وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه وغير هؤلاء كلهم يحب الخلفاء ويتولاهم ويعتقد إمامتهم وينكر على من يذكر أحدا منهم بسوء فلا يستجيزون ذكر علي ولا عثمان ولا غيرهما بما يقوله الرافضة والخوارج
6
421(187/294)
وكان صار إلى المغرب طوائف من الخوارج والروافض كما كان هؤلاء في المشرق وفي بلاد كثيرة من بلاد الإسلام ولكن قواعد هذه المدائن لا تستمر على شيء من هذه المذاهب بل إذا ظهر فيها شيء من هذه المذاهب مدة أقام الله ما بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق الذي يظهر على باطلهم وبنو عبيد يتظاهرون بالتشيع واستولوا من المغرب على ما استولوا عليه وبنوا المهدية ثم جاءوا إلى مصر واستولوا عليها مائتي سنة واستولوا على الحجاز والشام نحو مائة سنة وملكوا بغداد في فتنة البساسيرى وانضم إليهم الملاحدة في شرق الأرض وغربها وأهل البدع والأهواء تحب ذلك منهم ومع هذا فكانوا محتاجين إلى أهل السنة ومحتاجين إلى مصانعتهم والتقية لهم ولهذا رأس مال الرافضة التقية وهي أن يظهر خلاف ما يبطن كما يفعل المنافق وقد كان المسلمون في أول الإسلام في غاية الضعف والقلة وهم يظهرون دينهم لا يكتمونه والرافضة يزعمون أنهم يعملون بهذه الآية قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه سورة آل عمران ويزعمون أنهم هم المؤمنون وسائر أهل القبلة كفار مع أن لهم في تكفير الجمهور قولين لكن قد رأيت غير واحد من أئمتهم يصرح في كتبه
6
422(187/295)
وفتاويه بكفر الجمهور وأنهم مرتدون ودارهم دار ردة يحكم بنجاسة مائعها وأن من أنتقل إلى قول الجمهور منهم ثم تاب لم تقبل توبته لأن المرتد الذي يولد على الفطرة لا يقبل منه الرجوع إلى الإسلام وهذا في المرتد عن الإسلام قول لبعض السلف وهو رواية عن الإمام أحمد قالوا لأن المرتد من كان كافرا فأسلم ثم رجع إلى الكفر بخلاف من يولد مسلما فجعل هؤلاء هذا في سائر الأمة فهم عندهم كفار فمن صار منهم إلى مذهبهم كان مرتدا وهذه الآية حجة عليهم فإن هذه الآية خوطب بها أولا من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين فقيل لهم لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين سورة آل عمران وهذه الآية مدنية باتفاق العلماء فإن سورة آل عمران كلها مدنية وكذلك البقرة والنساء والمائدة ومعلوم أن المؤمنين بالمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد منهم يكتم إيمانه ولا يظهر للكفار أنه منهم كما يفعله الرافضة مع الجمهور وقد اتفق المفسرون على أنها نزلت بسبب أن بعض المسلمين أراد إظهار مودة الكفار فنهوا عن ذلك وهم لا يظهرون المودة للجمهور وفي رواية الضحاك عن ابن عباس أن عبادة بن الصامت كان له حلفاء من
6
423(187/296)
اليهود فقال يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو فنزلت هذه الآية وفي رواية أبي صالح أن عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين كانوا يتولون اليهود ويأتونهم بالأخبار يرجون لهم الظفر على النبي صلى الله عليه وسلم فنهى الله المؤمنين عن مثل فعلهم وروى عن ابن عباس أن قوما من اليهود كانوا يباطنون قوما من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك وقال اجتنبوا هؤلاء فأبوا فنزلت هذه الآية وعن مقاتل بن حيان ومقاتل بن سليمان أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار مكة فنهاهم الله عن ذلك والرافضة من أعظم الناس إظهارا لمودة أهل السنة ولا يظهر أحدهم دينه حتى إنهم يحفظون من فضائل الصحابة والقصائد التي في مدحهم وهجاء الرافضة ما يتوددون به إلى أهل السنة ولا يظهر أحدهما دينه كما كان المؤمنون يظهرون دينهم للمشركين وأهل الكتاب فعلم أنهم من أبعد الناس عن العمل بهذه الآية وأما قوله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقاة سورة آل عمران قال مجاهد إلا مصانعة والتقاة ليست بأن أكذب وأقول بلساني ما ليس في قلبي فإن هذا نفاق ولكن أفعل ما أقدر عليه
6
424(187/297)
كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان فالمؤمن إذا كان بين الكفار والفجار لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه ولكن إن أمكنه بلسانه وإلا فبقلبه مع أنه لا يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه إما أن يظهر دينه وإما أن يكتمه وهو مع هذا لا يوافقهم على دينهم كله بل غايته أن يكون كمؤمن آل فرعون وأمرأة فرعون وهو لم يكن موافقا لهم على جميع دينهم ولا كان يكذب ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه بل كان يكتم إيمانه وكتمان الدين شيء وإظهار الدين الباطل شيء آخر فهذا لم يبحه الله قط إلا لمن أكره بحيث أبيح له النطق بكلمة الكفر والله تعالى قد فرق بين المنافق والمكره والرافضة حالهم من جنس حال المنافقين لا من جنس حال المكره الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان فإن هذا الإكراه لا يكون
6
425(187/298)
عاما من جمهور بني آدم بل المسلم يكون أسيرا أو منفردا في بلاد الكفر ولا أحد يكرهه على كلمه الكفر ولا يقولها ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه وقد يحتاج إلى أن يلين لناس من الكفار ليظنوه منهم وهو مع هذا لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه بل يكتم ما في قلبه وفرق بين الكذب وبين الكتمان فكتمان ما في النفس يستعمله المؤمن حيث يعذره الله في الإظهار كمؤمن آل فرعون وأما الذي يتكلم بالكفر فلا يعذره إلا إذا أكره والمنافق الكذاب لا يعذر بحال ولكن في المعاريض مندوحة عن الكذب ثم ذلك المؤمن الذي يكتم إيمانه يكون بين الكفار الذين لا يعلمون دينه وهو مع هذا مؤمن عندهم يحبونه ويكرمونه لأن الإيمان الذي في قلبه يوجب أن يعاملهم بالصدق والأمانة والنصح وإرادة الخير بهم وإن لم يكن موافقا لهم على دينهم كما كان يوسف الصديق يسير في أهل مصر وكانوا كفارا وكما كان مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه ومع هذا كان يعظم موسى ويقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله سورة غافر وأما الرافضي فلا يعاشر أحدا إلا استعمل معه النفاق فإن دينه الذي في قلبه دين فاسد يحمله على الكذب والخيانة وغش الناس وإرادة السوء بهم فهو لا يألوهم خبالا ولا يترك شرا يقدر عليه إلا فعله بهم وهو ممقوت عند من لا يعرفه وإن لم يعرف أنه رافضي تظهر على وجهه سيما النفاق وفي لحن القول ولهذا تجده ينافق ضعفاء الناس ومن لا حاجة به إليه لما في قلبه من النفاق الذي يضعف قلبه
6
426(187/299)
والمؤمن معه عزة الإيمان فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ثم هم يدعون الإيمان دون الناس والذلة فيهم أكثر منها في سائر الطوائف من المسلمين وقد قال تعالى إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد سورة غافر وهم أبعد طوائف أهل الإسلام عن النصرة وأولاهم بالخذلان فعلم أنهم أقرب طوائف أهل الإسلام إلى النفاق وأبعدهم عن الإيمان وآية ذلك أن المنافقين حقيقة الذين ليس فيهم إيمان من الملاحدة يميلون إلى الرافضة والرافضة تميل إليهم أكثر من سائر الطوائف وقد قال صلى الله عليه وسلم الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وقال ابن مسعود رضي الله عنه اعتبروا الناس بأخدانهم فعلم أن بين أرواح الرافضة وأرواح المنافقين اتفاقا محضا قدرا مشتركا وتشابها وهذا لما في الرافضة فإن النفاق شعب كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أربع
6
427(187/300)
من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وفي رواية لمسلم وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم والقرآن يشهد لهذا فإن الله وصف المنافقين في غير موضع بالكذب والغدر والخيانة وهذه الخصال لا توجد في طائفة أكثر منها في الرافضة ولا أبعد منها عن أهل السنة المحضة المتبعين للصحابة فهؤلاء أولى الناس بشعب الإيمان وأبعدهم عن شعب النفاق والرافضة أولى الناس بشعب النفاق وأبعدهم عن شعب الإيمان وسائر الطوائف قربهم إلى الإيمان وبعدهم عن النفاق بحسب سنتهم وبدعتهم وهذا كله مما يبين أن القوم أبعد الطوائف عن اتباع المعصوم الذي لا شك في عصمته وهو خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وما يذكرونه من خلاف السنة في دعوى الإمام المعصوم وغير ذلك فإنما هو في الأصل من ابتداع منافق زنديق كما قد ذكر ذلك أهل العلم
6
428(187/301)
ذكر غير واحد منهم أن أول من ابتدع الرفض والقول بالنص على علي وعصمته كان منافقا زنديقا أراد فساد دين الإسلام وأراد أن يصنع بالمسلمين ما صنع بولص بالنصارى لكن لم يتأت له ما تأتى لبولص لضعف دين النصارى وعقلهم فإن المسيح صلى الله عليه وسلم رفع ولم يتبعه خلق كثير يعلمون دينه ويقومون به علما وعملا فلما ابتدع بولص ما ابتدعه من الغو في المسيح اتبعه على ذلك طوائف وأحبوا الغلو في المسيح ودخلت معهم ملوك فقام أهل الحق خالفوهم وأنكروا عليهم فقتلت الملوك بعضهم وداهن الملوك بعضهم وبعضهم اعتزلوا في الصوامع والديارات وهذه الأمة ولله الحمد لا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق فلا يتمكن ملحد ولا مبتدع من إفساده بغلو أو انتصار على أهل الحق ولكن يضل من يتبعه على ضلاله وأيضا فنواب المعصوم الذي يدعونه غير معصومين في الجزئيات وإذا كان كذلك فيقال إذا كانت العصمة في الجزئيات غير واقعة وإنما الممكن العصمة في الكليات فالله تعالى قادر أن ينص على الكليات بحيث لا يحتاج في معرفتها إلى الإمام ولا غيره وقادر أيضا أن يجعل نص النبي أكمل من نص الإمام وحينئذ فلا يحتاج إلى عصمة الإمام لا في الكليات ولا في الجزئيات
6
429(187/302)
الوجه الثالث عشر أن يقال العصمة الثابتة للإمام أهي فعله للطاعات باختياره وتركه للمعاصي باختياره مع أن الله تعالى عندكم لا يخلق اختياره أم هي خلق الإرادة له أم سلبة القدرة على المعصية فإن قلتم بالأول وعندكم أن الله لا يخلق اختيار الفاعلين لزمكم أن الله لا يقدر على خلق معصوم وإن قلتم بالثاني بطل أصلكم الذي ذهبتم إليه في القدرة وإن قلتم سلب القدرة على المعصية كان المعصوم عندكم هو العاجز عن الذنب كما يعجز الأعمى عن نقط المصاحف والمقعد عن المشي والعاجز عن الشيء لا ينهى عنه ولا يؤمر به وإذا لم يؤمر وينه لم يستحق ثوابا على الطاعة فيكون المعصوم عندكم لا ثواب له على ترك معصية بل ولا على فعل طاعة وهذا غاية النقص وحينئذ فأي مسلم فرض كان خيرا من هذا المعصوم إذا أذنب ثم تاب لأنه بالتوبة محيت سيئاته بل بدل بكل سيئة حسنة مع حسناته المتقدمة فكان ثواب المكلفين خيرا من المعصوم عند هؤلاء وهذا يناقض قولهم غاية المناقضة
6
430(187/303)
وأما المقدمة الثانية فلو قدر أنه لا بد من معصوم فقولهم ليس بمعصوم غير علي اتفاقا ممنوع بل كثير من الناس من عبادهم وصوفيتهم وجندهم وعامتهم يعتقدون في كثير من شيوخهم من العصمة من جنس ما تعتقده الرافضة في الاثنى عشر وربما عبروا هو ذلك بقولهم الشيخ محفوظ وإذا كانوا يعتقدون هذا في شيوخهم مع اعتقادهم أن الصحابة أفضل منهم فاعتقادهم ذلك في الخلفاء من الصحابة أولى وكثير من الناس فيهم من الغلو في شيوخهم من جنس ما في الشيعة من الغلو في الأئمة وأيضا فالإسماعيلية يعتقدون عصمة أئمتهم وهم غير الاثنى عشر وأيضا فكثير من أتباع بني أمية أو أكثرهم كانوا يعتقدون أن الإمام لا حساب عليه ولا عذاب وأن الله لا يؤاخذهم على ما يطيعون فيه الإمام بل تجب عليهم طاعة الإمام في كل شيء والله أمرهم بذلك وكلامهم في ذلك معروف كثير وقد أراد يزيد بن عبد الملك أن يسير بسيرة عمر بن العزيز فجاء إليه جماعة من شيوخهم فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو أنه اذا ولى الله على الناس إماما تقبل الله منه الحسنات وتجاوز عنه السيئات
6
431(187/304)
ولهذا تجد في كلام كثير من كبارهم الأمر بطاعة ولي الأمر مطلقا وأن من أطاعه فقد أطاع الله ولهذا كان يضرب بهم المثل يقال طاعة شامية وحينئذ فهؤلاء يقولون إن إمامهم لا يأمرهم إلا بما أمرهم الله به وليس فيهم شيعة بل كثير منهم يبغض عليا ويسبه ومن كان اعتقاده أن كل ما يأمر الإمام به فإنه مما أمر الله به وأنه تجب طاعته وأن الله يثيبه على ذلك ويعاقبه على تركه لم يحتج مع ذلك إلى معصوم غير إمامه وحينئذ فالجواب من وجهين أحدهما أن يقال كل من هذه الطوائف إذا قيل لها إنه لا بد لها من إمام معصوم تقول يكفيني عصمة الإمام الذي ائتممت به لا احتاج إلى عصمة الأثنى عشر لا علي ولا غيره ويقول هذا شيخي وقدوتي وهذا يقول إمامي الأموي والإسماعيلي بل كثير من الناس يعتقدون أن من يطيع الملوك لا ذنب له في ذلك كائنا من كان ويتأولون قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم سورة النساء فإن قيل هؤلاء لا يعتد بخلافهم قيل هؤلاء خير من الرافضة الإسماعيلية
6
432(187/305)
وأيضا فإن أئمة هؤلاء وشيوخهم خير من معدوم لا ينتفع به بحال فهم بكل حال خير من الرافضة وأيضا فبطلت حجة الرافضة بقولهم لم تدع العصمة إلا في علي وأهل بيته فإن قيل لم يكن في الصحابة من يدعي العصمة لأبي بكر وعمر وعثمان قيل إن لم يكن فيهم من يدعي العصمة لعلي بطل قولكم وإن كان فيهم من يدعي العصمة لعلي لم يمتنع أن يكون فيهم من يدعي العصمة للثلاثة بل دعوى العصمة لهؤلاء أولى فإنا نعلم يقينا أن جمهور الصحابة كانوا يفضلون أبا بكر وعمر بل على نفسه كان يفضلهما عليه كما تواتر عنه وحينئذ فدعواهم عصمة هذين أولى من دعوى عصمة علي فإن قيل فهذا لم ينقل عنهم قيل لهم ولا نقل عن واحد منهم القول بعصمة علي ونحن لا نثبت عصمة لا هذا ولا هذا لكن نقول ما يمكن أحدا أن ينفي نقل أحد منهم بعصمة أحد الثلاثة مع دعواهم أنهم كانوا يقولون بعصمة علي فهذا الفرق لا يمكن أحدا أن يدعيه ولا ينقله عن واحد منهم وحينئذ فلا يعلم زمان أدعى فيه العصمة لعلي أو لأحد من الاثنى عشر
6
433(187/306)
ولم يكن من ذلك الزمان من يدعي عصمة غيرهم فبطل أن يحتج بانتفاء عصمة الثلاثة ووقوع النزاع في عصمة علي الوجه الرابع عشر أن يقال إما أن يجب وجود المعصوم في كل زما أن لا يجب فإن لم يجب بطل قولهم وإن وجب لم نسلم على هذا التقدير أن عليا كان هو المعصوم دون الثلاثة بل إذا كان هذا القول حقا لزم أن يكون أبو بكر وعمر وعثمان معصومين فإن أهل السنة متفقون على تفضيل أبي بكر وعمر وأنهما أحق بالعصمة من علي فإن كانت العصمة ممكنة فهي إليهما أقرب وإن كانت ممتنعة فهي عنه أبعد وليس أحد من أهل السنة يقول بجواز عصمة علي دون أبي بكر وعمر وهم لا يسلمون انتفاء العصمة عن الثلاثة إلا مع انتفائها عن علي فأما انتفاؤها عن الثلاثة دون علي فهذا ليس قول أحد من أهل السنة وهذه كنبوة موسى وعيسى فإن المسلمين لا يسلمون نبوة أحد من هذين إلا مع نبوة محمد وليس في المسلمين من يقر بنبوتهما منفردة عن نبوة محمد بل المسلمون متفقون على كفر من أقر بنبوة بعضهم دون بعض وأن من كفر بنبوة محمد وأقر بأحد هذين فهو أعظم كفرا ممن أقر بمحمد وكفر بأحد هذين وإذا قيل إن الإيمان بمحمد مستلزم للإيمان بهما وكذلك
6
434(187/307)
الإيمان بهما مستلزم للإيمان بمحمد وهكذا نفى العصمة وثبوت الإيمان والتقوى وولاية الله فأهل السنة لا يقولون بإيمان علي وتقواه وولايته لله إلا مقرونا بإيمان الثلاثة وتقواهم وولايتهم لله ولا ينفون العصمة عنهم إلا مقرونا بنفيها عن علي ومعنى ذلك أن الفرق باطل عندهم وإذا قال الرافضى لهم الإيمان ثابت لعلي بالإجماع والعصمة منتفية عن الثلاثة بالإجماع كان كقول اليهودي نبوة موسى ثابتة بالإجماع أو قول النصراني الإلهية منتفية عن محمد بالإجماع والمسلم يقول نفى الإلهية عن محمد وموسى كنفيها عن المسيح فلا يمكن أن أنفيها عن موسى ومحمد وأسلم ثبوتها للمسيح وإذا قال النصراني اتفقنا على أن هؤلاء ليسوا آلهة وتنازعنا في النصراني أن الله لا بد أن يظهر له في صورة البشر ولم يدع ذلك إلا في المسيح كان كتقرير الرافضى أنه لا بد من إمام معصوم ولم يدع ذلك إلا لعلي ونحن نعلم بالاضطرار أنه ليس لعيسى مزية يستحق أن يكون بها إلها دون موسى ومحمد كما يعلم بالاضطرار أن عليا لم يكن له مزية يستحق أن يكون بها معصوما دون أبي بكر وعمر ومن أراد التفريق منعناه ذلك وقلنا لا نسلم إلا التسوية في الثبوت أو الانتفاء
6
435(187/308)
وإذا قال أنتم تعتقدون انتفاء العصمة عن الثلاثة قلنا نعتقد انتفاء العصمة عن علي ونعتقد أن انتفاءها عنه أولى من انتفائها عن غيره وأنهم أحق بها منه إن كانت ممكنة فلا يمكن مع هذا أن يحتج علينا بقولنا وأيضا فنحن إنما نسلم انتفاء العصمة عن الثلاثة لاعتقادنا أن الله لم يخلق إماما معصوما فإن قدر أن الله خلق إماما معصوما فلا يشك أنهم أحق بالعصمة من كل من جاء بعدهم ونفينا لعصمتهم لاعتقادنا هذا التقدير وهنا جواب ثالث عن أصل الحجة وهو أن يقال من أين علمتم أن عليا معصوم ومن سواه ليس بمعصوم فإن قالوا بالإجماع على ثبوت عصمة علي وانتفاء عصمة غيره كما ذكروه من حجتهم قيل لهم إن لم يكن الإجماع حجة بطلت هذه الحجة وإن كان حجة في إثبات عصمة علي التي هي الأصل أمكن أن يكون حجة في المقصود بعصمة من حفظ الشرع ونقله ولكن هؤلاء يحتجون بالإجماع ويردون كون الإجماع حجة فمن أين علموا أن عليا هو المعصوم دون من سواه فإن ادعوا التواتر عندهم عن النبي في عصمته كان القول في ذلك
6
436(187/309)
كالقول في تواتر النص على إمامته وحينئذ فلا يكون لهم مستند آخر الجواب الرابع أن يقال الإجماع عندهم ليس بحجة إلا أن يكون قول المعصوم فيه فإن لم يعرفوا ثبوت المعصوم إلا به لزم الدور فإنه لا يعرف أنه معصوم إلا بقوله ولا يعرف أن قوله حجة إلا إذا عرف أنه معصوم فلا يثبت واحد منهما فعلم بطلان حجتهم على إثبات المعصوم وهذا يبين أن القوم ليس لهم مستند علمي أصلا فيما يقولون فإن الإجماع عندهم ليس بحجة بل لا يجوز عندهم أن تجتمع الأمة إلا إذا كان المعصوم فيهم فإن قول المعصوم وحده هو الحجة فيحتاجون حينئذ إلى العلم بالشخص المستقل حتى يعلم أن قوله حجة فإذا احتجوا بالإجماع لم تكن الحجة عندهم في الإجماع إلا قول المعصوم فيصير هذا مصادرة على المطلوب ويكون حقيقة قولهم فلان معصوم لأنه قال إني معصوم فغذا قيل لهم بم عرفتم أنه معصوم وأن من سواه ليسوا معصومين قالوا بأنه قال أنا معصوم ومن سواى ليس بمعصوم وهذا مما يمكن كل أحد أن يقوله فلا يكون حجة وصار هذا كقول القائل أنا صادق في كل ما أقوله فإن لم يعلم صدقه بغير قوله لم يعلم صدقه فيما يقوله
6
437(187/310)
وحجتهم هذه من جنس حجة إخوانهم الملاحدة والإسماعيلية فإنهم يدعون إلى الإمام المعلم المعصوم ويقولون إن طرق العلم من الأدلة السمعية والعقلية لا يعرف صحتها إلا بتعليم المعلم المعصوم وكأنهم أخذوا هذا الأصل الفاسد عن إخوانهم الرافضة فلما ادعت الرافضة أنه لا بد من إمام معصوم في حفظ الشريعة وأقرت بالنبوة ادعت الإسماعيلية ما هو أبلغ فقالوا لا بد في جميع العلوم السمعية والعقلية من المعصوم وإذا كان هؤلاء ملاحدة في الباطن يقرون بالنبوات في الظاهر والشرائع ويدعون أن لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه الناس منها ويقولون بسقوط العبادات وحل المحرمات للخواص الواصلين فإن لهم طبقات في الدعوة ليس هذا موضعها وإنما المقصود أن كلتا الطائفتين تدعي الحاجة إلى معصوم غير الرسول لكن الاثنى عشرية يجعلون المعصوم أحد الأثنى عشر وتجعل الحاجة إليه في حفظ الشريعة وتبليغها وهؤلاء ملاحدة كفار
6
438(187/311)
والإمامية في الجملة يعتقدون صحة الإسلام في الباطن إلا من كان منهم ملحدا فإن كثير من شيوخ الشيعة هو في الباطن على غير اعتقادهم إما متفلسف ملحد وإما غير ذلك ومن الناس من يقول إن صاحب هذا الكتاب ليس هو في الباطن على قولهم وإنما احتاج أن يتظاهر بهذا المذهب لما له في ذلك من المصلحة الدنيوية وهذا يقوله غير واحد ممن يحب صاحب هذا الكتاب ويعظمه والأشبه أنه وأمثاله حائرون بين أقوال الفلاسفة وأقوال سلفهم المتكلمين ومباحثهم تدل في كتبهم على الحيرة والاضطراب ولهذا صاحب هذا الكتاب يعظم الملاحدة كالطوسي وابن سينا وأمثالهما ويعظم شيوخ الإمامية ولهذا كثير من الإمامية تذمه وتسبه وتقول إنه ليس على طريق الإمامية وهكذا أهل كل دين تجد فضلاءهم في الغالب إما أن يدخلوا في دين الإسلام الحق وإما أن يصيروا ملاحدة مثل كثير من علماء النصارى هم في الباطن زنادقة ملاحدة وفيهم من هو في الباطن يميل إلى دين الإسلام وذلك لما ظهر لهم من فساد دين النصارى فإذا قدر أن الحاجة إلى المعصوم ثابتة فالكلام في تعينه فإذا طولب الإسماعيلي بتعيين معصومه وما الدليل على أن هذا هو
6
439(187/312)
المعصوم دون غيره لم يأت بحجة أصلا وتناقضت أقواله وكذلك الرافضي أخذ من القدرية كلامهم في وجوب رعاية الأصلح وبني عليه أنه لا بد من معصوم وهي أقوال فاسدة ولكن إذا طولب بتعيينه لم يكن له حجة أصلا إلا مجرد قول من لم تثبت بعد عصمته إني معصوم فإن قيل إذا ثبت بالعقل أنه لا بد من معصوم فإذا قال علي أني معصوم لزم أن يكون هو المعصوم لأنه لم يدع هذا غيره قيل لهم لو قدر ثبوت معصوم في الوجود لم يكن مجرد قول شخص أنا معصوم مقبولا لإمكان كون غيره هو المعصوم وإن لم نعلم نحن دعواه وإن لم يظهر دعواه بل يجوز أن يسكت عن دعوى العصمة وإظهارها على أصلهم كما جاز للمنتظر أن يخفى نفسه خوفا من الظلمة وعلى هذا التقدير فلا يمتنع أن يكون في الأرض معصوم غير الاثنى عشر وإن لم يظهر ذلك ولم نعلمه كما أدعوا مثل ذلك في المنتظر فلم لم يبق معهم دليل على التعيين لا إجماع ولا دعوى
6
440
ومع هذا كله بتقدير دعوى على العصمة فإنما يقبل هذا لو كان علي قال ذلك وحاشاه من ذلك وهذا جواب خامس وهو أنه إذا لم تكن الحجة على العصمة إلا قول المعصوم إني معصوم فنحن راضون بقول علي في هذه المسألة فلا يمكن أحد أن ينقل عنه بإسناد ثابت أنه قال ذلك بل النقول المتواترة عنه تنفى اعتقاده في نفسه العصمة وهذا جواب سادس فإن إقراره لقضاته على أن يحكموا بخلاف رأيه دليل على أنه لم يعد نفسه معصوما وقد ثبت بالإسناد الصحيح أن عليا قال اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن وقد رأيت الآن أن يبعن فقال له عبيدة السلماني قاضيه رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة وكان شريح يحكم باجتهاده ولا يراجعه ولا يشاوره وعلي يقره على ذلك وكان يقول اقضوا كما كنتم تقضون وكان يفتي ويحكم باجتهاده ثم يرجع عن ذلك باجتهاده كأمثاله من الصحابة وهذه أقواله المنقولة عنه بالأسانيد الصحاح موجودة
6
441(187/313)
ثم قد وجد من أقواله التي تخالف النصوص أكثر مما وجد من أقوال عمر وعثمان وقد جمع الشافعي من ذلك كتابا فيه خلاف علي وابن مسعود لما كان أهل العراق يناظرونه في المسألة فيقولون قال علي وابن مسعود ويحتجون بقولهما فجمع الشافعي كتابا ذكر فيه ما تركوه من قول علي وابن مسعود وجمع بعده محمد بن نصر المروزي كتابا أكبر من ذلك بكثير ذكره في مسألة رفع اليدين في الصلاة لما احتج عليه فيها بقول ابن مسعود وهذا كلام مع علماء يحتجون بالأدلة الشرعية من أهل الكوفة كأصحاب أبي حنيفة محمد بن الحسن وأمثاله فإن أكثر مناظرة الشافعي كانت مع محمد بن الحسن وأصحابه لم يدرك أبا يوسف ولا ناظره ولا سمع منه بل توفي أبو يوسف قبل أن يدخل الشافعي العراق توفي سنة ثلاث وثمانين وقدم الشافعي العراق سنة خمس وثمانين ولهذا إنما يذكر في كتبه أقوال أبي يوسف عن محمد بن الحسن عنه
6
442(187/314)
وهؤلاء الرافضة في احتجاجهم على أن عليا معصوم بكون غيرهم ينفي العصمة عن غيرة احتجاجا لقولهم بقولهم وإثبات الجهل بالجهل ومن توابع ذلك ما رأيته في كتب شيوخهم أنهم إذا اختلفوا في مسألة على قولين وكان أحد القولين يعرف قائله والآخر لا يعرف قائله فالصواب عندهم القول الذى لا يعرف قائله قالوا لأن قائله إذا لم يعرف كان من أقوال المعصوم فهل هذا إلا من أعظم الجهل ومن أين يعرف أن القول الآخر وإن لم يعرف قائله إنما قاله المعصوم ولو قدر وجوده أيضا لم يعرف أنه قاله كما لم يعرف أنه قاله الآخر ولم لا يجوز أن يكون المعصوم قد قال القول الذي يعوف وأن غيره قاله كما أنه يقول أقوالا كثيرة يوافق فيها غيره وأن القول الآخر قد قاله من لا يدري ما يقول بل قاله شيطان من شياطين الجن والإنس فهم يجعلون عدم العلم بالقول وصحته دليلا على صحته كما قالوا هنا عدم القول بعصمة غيره دليل على عصمته وكما جعلوا عدم العلم بالقائل دليلا على أنه قول المعصوم وهذا حال من أعرض عن نور السنة التي بعث الله بها رسوله فإنه يقع في ظلمات البدع ظلمات بعضها فوق بعض
6
443
فصل قال الرافضى الوجه الثاني أن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه لما بينا من بطلان الاختيار وأنه ليس بعض المختارين لبعض الأمة أولى من البعض المختار الآخر ولادائه إلى التنازع والتشاجر والتشاجر فيؤدى نصب الإمام إلى أعظم أنواع الفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبنا نصبه وغير علي من أئمتهم لم يكن منصوصا عليه بالإجماع فتعين أن يكون هو الإمام والجواب عن هذا بمنع المقدمتين أيضا لكن النزاع هنا في الثانية أظهر وأبين فإنه قد ذهب طوائف كثيرة من السلف والخلف من أهل الحديث والفقه والكلام إلى النص على أبي بكر وذهبت طائفة من الرافضة إلى النص على العباس
6
444(187/315)
وحينئذ فقوله غير علي من أئمتهم لم يكن منصوصا عليه بالإجماع كذب متيقن فإنه لا إجماع على نفي النص عن غير علي وهذا الرافضي المصنف وإن كان من أفضل بني جنسه ومن المبرزين على طائفته فلا ريب أن الطائفة كلها جهال وإلا فمن له معرفة بمقالات الناس كيف يدعى مثل هذا الإجماع ونجيب هنا بجواب ثالث مركب وهو أن نقول لا يخلوا إما أن يعتبر النص في الإمامة وإما أن لا يعتبر فإن اعتبر منعنا المقدمة الثانية إن قلنا إن النص ثابت لأبي بكر وإن لم يعتبر بطلت المقدمة الأولى وهنا جواب رابع وهو أن نقول الإجماع عندكم ليس بحجة وإنما الحجة قول المعصوم فيعود الأمر إلى إثبات النص بقول الذي يدعى له العصمة ولم يثبت بعد لا نص ولا عصمة بل يكون قول القائل لم يعرف صحة قوله أنا المعصوم وأنا المنصوص على إمامتي حجة وهذا من أبلغ الجهل وهذه الحجة من جنس التي قبلها وجواب خامس وهو أن يقال ما تعنى بقولك يجب أن يكون منصوصا عليه لأنه لا بد من أن يقول هذا هو الخليفة من بعدي
6
445(187/316)
فاسمعوا له وأطيعوا فيكون الخليفة بمجرد هذا النص أم لا يصير هذا إماما حتى تعقد له الإمامة مع ذلك فإن قلت بالأول قيل لا نسلم وجوب النص بهذا الاعتبار والزيدية مع الجماعة تنكر هذا النص وهم من الشيعة الذين لا يتهمون على علي وأما قوله إنه إذا لم يكن كذلك أدى إلى التنازع والتشاجر فيقال النصوص التي تدل على استحقاقه الإمامة وتعلم دلالتها بالنظر والاستدلال يحصل بها المقصود في الأحكام فليست كل الأحكام منصوصة نصا جليا يستوي في فهمه العام والخاص فإذا كانت الأمور الكلية التي تجب معرفتها في كل زمان يكتفي فيها بهذا النص فلأن يكتفي بذلك في القضية الجزئية وهو تولية إمام معين بطريق الأولى والأحرى فإنا قد بينا أن الكليات يمكن نص الأنبياء عليها بخلاف الجزئيات وأيضا فيه إذا كانت الأدلة ظاهرة في أن بعض الجماعة أحق بها من غيره استغنى بذلك عن استخلافه والدلائل الدالة على أن أبا بكر كان أحقهم بالإمامة ظاهرة بينة لم
6
446
ينازع فيها أحد من الصحابة ومن نازع من الأنصار لم ينازع في أن أبا بكر أفضل المهاجرين وإنما طلب أن يولى واحد من الأنصار مع واحد من المهاجرين فإن قيل إن كان لهم هوى منعوا ذلك بدلالة النصوص قيل وإذا كان لهم هوى عصوا تلك النصوص وأعرضوا عنها كما ادعيتم أنتم عليهم فمع قصدهم القصد الحق يحصل المقصود بهذا وبهذا ومع العناد لا ينفع هذا ولا هذا وجواب سادس أن يقال النص على الأحكام على وجهين نص كلي عام يتناول أعيانها ونص على الجزئيات فإذا قلتم لا بد من النص على الإمام إن أردتم النص على العام الكلي على ما يشترط للإمام وما يجب عليه وما يجب له كالنص على الحكام والمفتين والشهود وأئمة الصلاة والمؤذنين وأمراء الجهاد وغير هؤلاء ممن يتقلد شيئا من أمور المسلمين فهذه النصوص ثابتة ولله الحمد كثيره كما هي ثابتة على سائر الأحكام وإن قلتم لا بد من نص على أعيان من يتولى
6
447(187/317)
قيل قد تقدم أن النص على جزئيات الأحكام لا يجب بل ولا يمكن والإمامة حكم من الأحكام فإن النص على كل من يتولى على المسلمين ولاية ما إلى قيام الساعة غير ممكن ولا واقع والنص على معين دون معين لا يحصل به النص على كل معين بل يكون نصا على بعض المعينين وحينئذ فإذا قيل يمكن النص على إمام ويفوض إليه النص على من يستخلفه قيل ويمكن أن ينص على من يستخلفه الإمام وعلى من يتخذه وزيرا والنص على ذلك أبلغ في المقصود وأيضا فالإمام المنصوص على عينه أهو معصوم فيمن يوليه أو ليس بمعصوم فإن كان معصوما لزم أن يكون نوابه كلهم معصومين وهذا كله باطل بالضرورة وإن لم يكن كذلك أمكن أن يستخلف غير معصوم فلا يحصل المقصود في سائر الأزمنة بوجود المعصوم فإن قيل هو معصوم فيمن يستخلفه بعده دون من يستخلفه في حياته
6
448
قيل الحاجة داعية إلى العصمة في كليهما وعلمه بالحاضر أعظم من علمه بالمستقبل فكيف يكون معصوما فيما يأتي وليس معصوما في الحاضر فإن قيل فالنص ممكن فلو نص النبي صلى الله عليه وسلم على خليفة قيل فنصه على خليفة بعده كتولية واحد في حياته ونحن لا نشترط العصمة لا في هذا ولا في هذا وجواب سابع وهو أن يقال أنتم أوجبتم النص لئلا يفضى إلى التشاجر المفضي إلى أعظم أنواع الفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبتم نصبه فيقال الأمر بالعكس فإن أبا بكر رضي الله عنه تولى بدون هذا الفساد وعمر وعثمان توليا بدون هذا الفساد فإنما عظم هذا الفساد في الإمام الذي ادعيتم أنه منصوص عليه دون غيره فوقع في ولايته من أنواع التشاجر والفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبتم نصبه فكان ما جعلتموه وسيلة إنما حصل معه نقيض المقصود وحصل المقصود بدون وسيلتكم فبطل كون ما ذكرتموه وسيلة إلى المقصود
6
449(187/318)
وهذا لأنهم أوجبوا على الله ما لا يجب عليه وأخبروا بما لم يكن فلزم من كذبهم وجهلهم هذا التناقض وجواب ثامن وهو أن يقال النص الذي يزيل هذا الفساد يكون على وجوه أحدها أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بولاية الشخص ويثنى عليه في ولايته فحينئذ تعلم الأمة أن هذا إن تولى كان محمودا مرضيا فيرتفع النزاع وإن لم يقل ولوه وهذا النص وقع لأبي بكر وعمر الثاني أن يخبر بأمور تستلزم صلاح الولاة وهذه النصوص وقعت في خلافة أبي بكر وعمر الثالث أن يأمر من يأتيه أن يأتي بعد موته شخصا يقوم مقامه فيدل على أنه خليفة من بعده وهذا وقع لأبي بكر الرابع أن يريد كتابة كتاب ثم يقول إن الله والمؤمنين لا يولون إلا فلانا وهذا وقع لأبي بكر الخامس أن يأمر بالاقتداء بعده بشخص فيكون هو الخليفة بعده السادس أن يأمر باتباع سنة خلفائه الراشدين المهديين ويجعل
6
450
خلافتهم إلى مدة معينة فيدل على أن المتولين في تلك المدة هم الخلفاء الراشدون السابع أن يخص بعض الأشخاص بأمر يقتضي أنه هو المقدم عنده في الاستخلاف وهذا موجود لأبي بكر وهنا جواب تاسع وهو أن يقال ترك النص على معين أولى بالرسول فإنه إن كان النص ليكون معصوما فلا معصوم بعد الرسول وإن كان بدون العصمة فقد يحتج بالنص على وجوب اتباعه في كل مايقول ولا يمكن أحد بعد موت الرسول أن يراجع الرسول في أمره ليرده أو يعزله فكان أن لا ينص على معين أولى من النص وهذا بخلاف من يوليه في حياته فإنه إذا أخطأ أو أذنب أمكن الرسول بيان خطئه ورد ذنبه وبعد موته لا يمكنه ذلك ولا يمكن الأمة عزله لتولية الرسول إياه فكان عدم النص على معين مع علم المسلمين بدينهم أصلح للأمة وكذلك وقع وأيضا لو نص على معين ليؤخذ الدين منه كما تقوله الرافضة
6
451(187/319)
بطلت حجة الله فإن ذلك لا يقوم به شخص واحد غير الرسول إذ لا معصوم إلا هو ومن تدبر هذه الأمور وغيرها علم أن ما اختاره الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته أكمل الأمور وجواب عاشر وهو أن النص على الجزئيات لا يمكن والكليات قد نص عليها فلو نص على معين وأمر بطاعته في تعيين الكليات كان هذا باطلا وإن أمر بطاعته في الجزئيات سواء وافقت الكليات أو خالفتها كان هذا باطلا وإن أمر بطاعته في الجزئيات إذا طابقت الكليات فهذا حكم كل متول وأيضا فلو نص على معين لكان من يتولى بعده إذا لم يكن منصوصا عليه يظن الظان أنه لا تجوز طاعته إذ طاعه الأول إنما وجبت بالنص ولا نص معه وإن قيل كل واحد ينص على الآخر فهذا إنما يكون إذا كان الثاني معصوما والعصمة منتفية عن غير الرسول وهذا مما يبين أن القول بالنص فرع على القول بالعصمة وذلك من أفسد الأقوال فكذلك هذا أعنى النص الذي تدعيه الرافضة وهو الأمر بطاعة المتولى في كل مايقوله من غير رد ما يقوله الكتاب إلى الكتابة والسنة إذا نوزع
6
452(187/320)
وأما إذا كان يرد ما تنوزع فيه إلى الكتاب والسنة لم يحتج حينئذ إلى نص عليه لحفظ الدين فإن الدين محفوظ بدونه وبالجملة فالنص على معين إن أريد به أنه يطاع كما يطاع الرسول في كل ما يأمر به وينهى عنه ويبيحه وليس لأحد أن ينازعه في شىء كما ليس له أن ينازع الرسول وأنه يستبد بالأحكام والأمة معه كما كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم فهذا لا يكون لأحد بعد الرسول ولا يمكن هذا لغيره فإن أحدا بعده لا يأتيه الوحي كما كان يأتيه ولم يعرف أحد كل ما عرفه الرسول فلم يبق سبيل إلى مماثلته لا من جهته ولا من جهة الرب تعالى وإن أريد بالنص أنه يبين للأمة أن هذا أحق بأن يتولى عليكم من غيره وولاية هذا أحب إلى الله ورسوله وأصلح لكم في دينكم ودنياكم ونحو هذا مما يبين أنه أحق بالتقدم في خلافة النبوة فلا ريب أن النصوص الكثيرة بهذه المعاني دلت على خلافة أبي بكر وإن أريد أنه أمرهم أن يتابعوه كما أمرهم أبو بكر أن يتابعوا عمر ويعهد إليهم في ذلك فهذا إذا علم أن الأمة تفعله كان تركه خيرا
6
453(187/321)
من فعله وإن خاف أن لا تفعله إلا بأمره كان الأمر أولى به ولهذا لما خشى عليهم أبو بكر رضي الله عنه أن يختلفوا بعده عهد إلى عمر ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يبايعون أبا بكر لم يأمرهم بذلك كما في الصحيحين أنه قال لعائشة ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي ثم قال يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر فعلم أن الله لا يولى إلا أبا بكر والمؤمنون لا يبايعون إلا أبا بكر وكذلك سائر الأحاديث الصحيحة تدل على أنه علم ذلك وإنما كان ترك الأمر مع علمه أفضل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لأن الأمة إذا ولته طوعا منها بغير التزام وكان هو الذي يرضاه الله ورسوله كان أفضل للأمة ودل على علمها ودينها فإنها لو ألزمت بذلك لربما قيل إنها أكرهت على الحق وهي لا تختاره كما كان يجري مثل ذلك لبني إسرائيل ويظن الظان أنه كان في الأمة بقايا جاهلية من التقدم بالأنساب فإنهم كانوا يريدون أن لا يتولى إلا من هو من بني عبد مناف كما كان أبو سفيان وغيره
6
454(187/322)
يختارون ذلك فلو ألزم المهاجرين والأنصار بهذا لظن الظان أنهم كانوا من جنس أبي سفيان وأمثاله وكانوا يعرفون اختصاص الصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم أولا وآخرا وموافقته له باطنا وظاهرا فقد يقول القائل إنهم كانوا في الباطن كارهين لمن يأمرهم بمثل ما أمرهم به الرسول لكن لما ألزمهم بذلك احتاجوا إلى التزامه لو لم يقدح فيهم بذلك لم يمدحوا إلا بمجرد الطاعة للأمر فإذا كانوا برضاهم واختيارهم اختاروا ما يرضاه الله ورسوله من غير إلزام كان ذلك أعظم لقدرهم وأعلى لدرجتهم وأعظم في مثوبتهم وكان ما اختاره الله ورسوله للمؤمنين به هو أفضل الأمور له ولهم ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن حارثة وبعده أسامة بن زيد وطعن بعض الناس في إمارتهما واحتاجوا مع ذلك إلى لزوم طاعتهما فلو ألزمهم بواحد لكان يظن بهم أن مثل هذا كان في نفوسهم وأنه ليس الصديق عندهم بالمنزلة التي لا يتكلم فيها أحد فلما اتفقوا على بيعته ولم يقل قط أحد إني أحق بهذا الأمر منه
6
455(187/323)
لا قرشى ولا أنصارى فإن من نازع أولا من الأنصار لم تكن منازعته للصديق بل طلبوا أن يكون منهم أمير ومن قريش أمير وهذه منازعة عامة لقريش فلما تبين لهم أن هذا الأمر في قريش قطعوا المنازعة وقال لهم الصديق رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة بن الجراح قال عمر فكنت والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر وقال له بمحضر الباقين أنت خيرنا وأفضلنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة ثم بايعوا أبا بكر من غير طلب منه ولا رغبة بذلت لهم ولا رهبة فبايعه الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة والذين بايعوه ليلة العقبة والذين بايعوه لما كانوا يهاجرون إليه والذين بايعوه لما كانوا يسلمون من غير هجرة كالطلقاء وغيرهم ولم يقل أحد قط إني أحق بهذا من أبي بكر ولا قاله أحد في أحد بعينه إن فلانا أحق بهذا الأمر من أبي بكر وإنما قال من فيه أثر جاهلية عربية أو فارسية إن بيت الرسول أحق
6
456(187/324)
بالولاية لكون العرب كانت في جاهليتها تقدم أهل بيت الرؤساء وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به إلى هذا كما نقل عن أبي سفيان وصاحب هذا الرأي لم يكن له غرض في علي بل كان العباس عنده بحكم رأيه أولى من علي وإن قدر أنه رجح عليا فلعلمه بأن الإسلام يقدم الإيمان والتقوى على النسب فأراد أن يجمع بين حكم الجاهلية والإسلام فأما الذين كانوا لا يحكمون إلا بحكم الإسلام المحض وهو التقديم بالإيمان والتقوى فلم يختلف منهم اثنان في أبي بكر ولا خالف أحد من هؤلاء ولا من هؤلاء في أنه ليس في القوم أعظم إيمانا وتقوى من أبي بكر فقدموه مختارين له مطيعين فدل ذلك على كمال إيمانهم وتقواهم واتباعهم لما بعث الله به نبيهم من تقديم الأتقى فالأتقى وكان ما اختاره الله لنبيهم صلى الله عليه وسلم ولهم أفضل لهم والحمد لله على أن هدى هذه الأمة وعلى أن جعلنا من أتباعهم
6
457
فصل قال الرافضى الثالث أن الإمام يجب أن يكرن حافظا للشرع لانقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم وقصور الكتاب والسنة عن تفاصيل الأحكام الجزئية الواقعة إلى يوم القيامة فلا بد من إمام منصوب من الله تعالى معصوم من الزلل والخطأ لئلا يترك بعض الأحكام أو يزيد فيها عمدا أو سهوا وغير علي لم يكن كذلك بالإجماع والجواب من وجوه أحدها أنا لا نسلم أنه يجب أن يكون حافظا للشرع بل يجب أن تكون الأمة حافظة للشرع وحفظ الشرع يحصل بمجموع الأمة كما يحصل بالواحد بل الشرع إذا نقله أهل التواتر كان خيرا من أن ينقله واحد منهم وإذا كان كل طائفة تقوم بهم الحجة تنقل بعصمة حصل المقصود وعصمة أهل التواتر حصل في نقلهم أعظم عند بني آدم كلهم من عصمة من ليس بنبي فإن أبا بكر وعمر وعثمان
6
458(187/325)
وعليا ولو قيل إنهم معصومون فما نقله المهاجرون والأنصار أبلغ مما نقله هؤلاء وأيضا فإن كان أكثر الناس يطعنون في عصمة الناقل لم يحصل ا فكيف إذا كان كثير من الأمة يكفرة والتواتر يحصل بأخبار المخبرين الكثيرين وإن لم تعلم عدالتهم الوجه الثاني أن يقال أتريد به من يكون حافظا للشرع وإن لم يكن معصوما أو من يكون معصوما فإن اشترطت العصمة فهذا هو الوجه الأول وقد كررته وتقدم الجواب عليه وإن اشترطت مجرد الحفظ فلا نسلم أن عليا كان أحفظ للكتاب والسنة وأعلم بهما من أبي بكر وعمر بل هما كانا أعلم بالكتاب والسنة منه فبطل ما ادعاه من الإجماع الوجه الثالث أن يقال أتعني بكونه حافظا للشرع معصوما أنه لا يعلم صحة شىء من الشرع إلا بنقله أم يمكن أن يعلم صحة شىء من الشرع بدون نقله إن قلت بالثاني لم يحتج لا إلى حفظه ولا إلى عصمته فإنه
6
459
إذا أمكن حفظ شىء من الشرع بدونه أمكن حفظ الآخر حتى يحفظ الشرع كله من غير حاجة إليه وإن قلت بل معناه أنه لا يمكن معرفة شىء من الشرع إلا بحفظه فيقال حينئذ لا تقوم حجة على أهل الأرض إلا بنقله ولا يعلم صحة نقله حتى يعلم أنه معصوم ولا يعلم أنه معصوم إلا بالإجماع على نفي عصمة من سواه فإن كان الإجماع معصوما أمكن حفظ الشرع به وإن لم يكن معصوما لم تعلم عصمته الوجه الرابع أن يقال فبماذا تثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عند من يقر بنبوته فإن قيل بما نقله الإمام من معجزاته قيل من لم يقر بنبوة محمد لم يقر بإمامة علي رضي الله عنه بطريق الأولى بل يقدح في هذا وهذا وإن قيل بما تنقله الأمة نقلا متواترا من معجزاته كالقرآن وغيره قيل فإذا كان نقل الأمة المتواتر حجة يثبت بها أصل نبوته فكيف لا يكون حجة يثبت بها فروع شريعته الوجه الخامس أن الإمام هل يمكنه تبليغ الشرع إلى من ينقله عنه بالتواتر أم لا يزال منقولا نقل الآحاد من إمام إلى إمام
6
460(187/326)
فإن كان الإمام يمكنه ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يمكنه ذلك بطريق الأولى وحينئذ فلا حاجة إلى نقل الإمام وإن قيل لا يمكنه ذلك لزم أن يكون دين الإسلام لا ينقله إلا واحد بعد واحد والنقلة لا يكونون إلا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يمكن القادح في نبوته أن يقول إنهم يقولون عليه مايشاؤون ويصير دين المسلمين شرا من دين النصارى واليهود الذين يدعون أن أئمتهم يختصون بعلمه ونقله الوجه السادس أن ما ذكروه ينقص من قدر النبوة فإنه إذا كان الذي يدعي العصمة فيه وحفظ من عصبته كان ذلك من أعظم التهم التي توجب القدح في نبوته ويقال إن كان طالب ملك أقامه لأقاربه وعهد إليهم مايحفظون به الملك وأن لا يعرف ذلك غيرهم فإن هذا بأمر الملك أشبه منه بأمر الأنبياء الوجه السابع أن يقال الحاجة ثابتة إلى معصوم في حفظ الشرع ونقله وحينئذ فلماذا لا يجوز أن يكون الصحابة الذين حفظوا القرآن والحديث وبلغوه هم المعصومين الذين حصل بهم مقصود حفظ
6
461(187/327)
الشرع وتبليغه ومعلوم أن العصمة إذا حصلت في الحفظ والتبليغ من النقلة حصل المقصود وإن لم يكونوا هم الأئمة الوجه الثامن أن يقال لماذا لا يجوز أن تكون العصمة في الحفظ والبلاغ ثابتة لكل طائفه بحسب ماحملته من الشرع فالقراء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه والمحدثون معصومون في حفظ الحديث وتبليغه والفقهاء معصومون في فهم الكلام والاستدلال على الأحكام وهذا هو الواقع المعلوم الذي أغنى الله به عن واحد معدوم الوجه التاسع أنه إذا كان لا يحفظ الشرع ويبلغه إلا واحد بعد واحد معصوم عن معصوم وهذا المنتظر له أكثر من أربعمائة وستين سنة لم يأخذ عنه أحد شيئا من الشرع فمن أين علمتم القرآن من أكثر من أربعمائة سنة ولم لا يجوز ان يكون هذا القرآن الذي تقرؤونه ليس فيه شىء من كلام الله وكذلك من أين لكم العلم بشىء من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه وأنتم لم تسمعوا شيئا من ذلك من معصوم لأن المعصوم إما مفقود وإما معدوم
6
462(187/328)
فإن قالوا تواتر ذلك عند أصحابنا بنقلهم عن الأئمة المعصومين قيل فإذا كان تواتر أصحابكم عن الأئمة يوجب حفظ الشرع ونقله فلماذا لا يجوز أن يكون تواتر الأمة كلها عن نبيها أولى بحفظ الشرع ونقله من غير احتياج إلى نقل واحد عن واحد وهم يقولون إن ما بأيديهم من العلم الموروث عمن قبل المنتظر يغنيهم عن أخذ شىء من المنتظر فلماذا لا يكون ما بأيدي الأمة عن نبيها يغنيها عن أخذ شىء عمن بعده وإذا كانوا يدعون أن ماينقلونه عن واحد من الاثنى عشر ثابت فلماذا لا يكون ما تنقله الأمة عن نبيها ثابتا ومن المعلوم أن مجموع الأمة أضعاف أضعاف الرافضة بكثير وأنهم أحرص على حفظ دين نبيهم وتبليغه أقدر على ذلك من الرافضة على حفظ ما يقوله هؤلاء ونقله وهذا مما لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأمور الوجه العاشر أن يقال قولك لانقطاع الوحى وقصور النصوص عن تفاصيل الأحكام أتريد به قصورها عن بيان جزئى جزئى بعينه أو قصورها عن البيان الكلي المتناول للجزئيات
6
463(187/329)
فإن ادعيت الأول قيل لك وكلام الإمام وكل أحد بهذه المنزلة فإن الأمير إذا خاطب الناس فلا بد أن يخاطبهم بكلام عام يعم الأعيان والأفعال وغير ذلك فإنه من الممتنع أن يعين بخطابه كل فعل من كل فاعل في كل وقت فإن هذا غير ممكن فإذا لا يمكنه إلا الخطاب العام الكلي والخطاب العام الكلي ممكن من الرسول وإن ادعيت أن نفس نصوص الرسول ليست عامة كلية قيل لك هذا ممنوع وبتقدير أن يمنع هذا في نصوص الرسول الذي هو أكمل من الإمام فمنع ذلك من نصوص الإمام أولى وأحرى فأنت مضطر في خطاب الإمام إلى أحد أمرين إما ثبوت عموم الألفاظ وإما ثبوت عموم المعاني بالاعتبار وأيهما كان أمكن إثباته في خطاب الرسول فلا يحتاج في بيانه الأحكام إلى الإمام الوجه الحادي عشر أن يقال وقد قال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم سورة إبراهيم وقال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل سورة النساء وقال تعالى وما على الرسول إلا البلاغ المبين سورة النور وأمثال ذلك فيقال وهل قامت الحجة على الخلق ببيان الرسوم أم لا
6
464(187/330)
فإن لم تقم بطلت هذه الآيات وما كان في معناها وإن قامت الحجة ببيان الرسول علم أنه لا يحتاج إلى معين آخر يفتقر الناس إلى بيانه فضلا عن حفظ تبليغه وأن ما جعل الله في الإنسان من القوة الناقلة لكلام الرسول وبيانه كافية من ذلك لا سيما وقد ضمن الله حفظ ما أنزله من الذكر فصار ذلك مأمونا أن يبدل أو يغير وبالجملة دعوى هؤلاء المخذولين أن دين الإسلام لا يحفظ ولا يفهم إلا بواحد معين من أعظم الإفساد لأصول الدين وهذا لا يقوله وهو يعلم لوازمه إلا زنديق ملحد قاصد لإبطال الدين ولا يروج هذا إلا على مفرط في الجهل والضلال الوجه الثاني عشر أن يقال قد علم بالاضطرار أن أكثر المسلمين بلغهم القرآن والسنة بدون نقل علي فإن عمر رضي الله عنه لما فتح الأمصار بعث إلى الشام والعراق من علماء الصحابة من علمهم وفقههم واتصل العلم من أولئك إلى سائر المسلمين ولم يكن ما بلغه علي للمسلمين أعظم مما بلغه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وأمثالهما وهذا أمر معلوم ولو لم يحفظ الدين إلا بالنقل عن علي لبطل عامة الدين فإنه لا يمكن أن ينقل عن علي إلا أمر قليل لا يحصل به المقصود
6
465
والنقل عنه ليس متواترا وليس في زماننا معصوم يمكن الرجوع إليه فلا حول ولا قوة إلا بالله ما أسخف عقول الرافضة فصل قال الرافضي الرابع أن الله تعالى قادر على نصب إمام معصوم وحاجة العالم داعية إليه ولا مفسدة فيه فيجب نصبه وغير علي لم يكن كذلك إجماعا فتعين أن يكون الإمام هو علي أما القدرة فظاهرة وأما الحاجة فظاهرة أيضا لما بينا من وقوع التنازع بين العالم وأما انتفاء المفسدة فظاهر أيضا لأن المفسدة لازمة لعدمه وأما وجوب نصبه فلأن عند ثبوت القدرة والداعي وانتفاء الصارف يجب الفعل والجواب أن هذا هو الوجه الأول بعينه ولكن قرره وقد تقدمت
6
466(187/331)
الأجوبة عنه بمنع المقدمة الأولى وبيان فساد هذا الاستدلال فإن مبناه على الاحتجاج بالإجماع فإن كان الإجماع معصوما أغنى عن عصمة علي وإن لم يكن معصوما بطلت دلالته على عصمة علي فبطل الدليل على التقديرين ومن العجب أن الرافضة تثبت أصولها على ما تدعيه من النص والإجماع وهم أبعد الأمة عن معرفة النصوص والإجماعات والاستدلال بها بخلاف السنة والجماعة فإن السنة تتضمن النص والجماعة تتضمن الإجماع فأهل السنة والجماعة هم المتبعون للنص والإجماع ونحن نتكلم على هذا التقرير ببيان فساده وذلك من وجوه أحدها أن يقال لا نسلم أن الحاجة داعية إلى نصب إمام معصوم وذلك لأن عصمة الأمة مغنية عن عصمته وهذا مما ذكره العلماء في حكمة عصمة الأمة قالوا لأن من كان من الأمم قبلنا كانوا إذا بدلوا دينهم بعث الله نبيا
6
467
يبين الحق وهذه الأمة لا نبي بعد نبيها فكانت عصمتها تقوم مقام النبوة فلا يمكن أحدا منهم أن يبدل شيئا من الدين إلا أقام الله من يبين خطأه فيما بدله فلا تجتمع الأمة على ضلال كما قال صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة وقال إن الله أجاركم على لسان نبيكم أن تجتمعوا على ضلالة إلى غير ذلك من الدلائل الدالة على صحة الإجماع الثاني إن أريد بالحاجة أن حالهم مع وجوده أكمل فلا ريب أن حالهم مع عصمة نواب الإمام أكمل وحالهم مع عصمة أنفسهم أكمل وليس كل ما تقدره الناس أكمل لكل منهم يفعله الله ولا يجب عليه فعله وإن أريد أنهم مع عدمه يدخلون النار أو لا يعيشون في الدنيا أو يحصل لهم نوع من الأذى
6
468(187/332)
فيقال هب أن الأمر كذلك فلم قلت إن أزالة هذا واجب ومعلوم أن الأمراض والهموم والغموم موجودة والمصائب في الأهل والمال والغلاء موجود والجوائح التي تصيب الثمار موجودة وليس ما يصيب المظلوم من الضرر بأعظم مما يصيبه من هذه الأسباب والله تعالى لم يزل ذلك الثالث أن قوله عند ثبوت القدرة والداعي وانتفاء الصارف يجب الفعل يقال له لم قلت إن الداعي ثابت والصارف منتف وقوله حاجة العالم داعية إليه يقال له الداعي هو الذي يكون داعيا للفاعل فلم قلت إن مجرد الحاجة داعية للرب تعالى فيها وكذلك قوله وانتفاء الصارف وأنت لم تدع إلا عدم المفسدة التي ادعيتها فلم قلت لا مفسدة في ذلك كما يقال إن الواحد منا يحتاج إلى المال والصحة والقوة وغير ذلك
6
469
الرابع أن قوله إن الله قادر على نصب إمام معصوم أتريد به معصوما بفعل الطاعات باختياره والمعاصي باختياره والله تعالى لم يخلق اختياره كما هو قولهم أم تريد به أنه معصوم يفعل الطاعات بغير اختيار يخلقه الله فيه فإن قالوا بالأول كان باطلا على أصلهم فإن الله عندهم لا يقدر على خلق مؤمن معصوم بهذا التفسير كما لا يقدر على خلق مؤمن وكافر عندهم بهذا التفسير فإن الله عندهم لا يقدر على فعل الحي المختار ولا يخلق إرادته المختصة بالطاعة دون المعصية وإن قالوا بهذا الثاني لم يكن لهذا المعصوم ثواب على فعل الطاعة ولا على ترك المعصية وحينئذ فسائر الناس يثابون على طاعتهم وترك معاصيهم أفضل منه فكيف يكون الإمام المعصوم الذي لا ثواب له أفضل من أهل الثواب فتبين انتقاض مذهبهم حيث جمعوا بين متناقضين بين إيجاب خلق معصوم على الله وبين قولهم إن الله لا يقدر على جعل أحد معصوما باختياره بحيث يثاب على فعله للطاعات وتركه للمعاصي الوجه الخامس أن يقال قولك يقدر على نصب إمام معصوم
6
470(187/333)
لفظ مجمل فإنه يقال إن الله يقدر على جعل هذا الجسم أسود وأبيض ومتحركا وساكنا وميتا وحيا وهذا صحيح بمعنى أن الله إن شاء سوده وإن شاء بيضه وإن شاء أحياه وإن شاء أماته لكن ليس المراد أنه يصير أبيض وأسود في حال واحدة فإن اجتماع الضدين ممتنع لذاته فليس بشيء ولا يسمى شيئا باتفاق الناس ولا يدخل في عموم قوله والله على كل شيء قدير سورة البقرة وإذا كان كذلك فقولك قادر على نصب إمام معصوم إن أردت أنه قادر على أن ينصب إماما ويلهمه فعل الطاعات وترك المعاصي فلا ريب أن الله قادر على ذلك غيره كما هو قادر على أن يجعل جميع البشر معصومين كالإمام بجعل كل واحد من البشر نبيا وأمثال ذلك من مقدورات الله تعالى وإن أردت أنه مع ذلك تحصل حكمته المنافية لوجود ذلك التي يمتنع وجودها إلا مع عدم ذلك فهذا يستلزم الجمع بين الضدين فمن أين تعلم انتفاء جميع أنواع الحكمة التي تنافي وجود ذلك ولو لم يكن الأعظم أجر المطيعين إذا لم يكن لهم إمام معصوم فإن معرفة الطاعة والعمل بها حينئذ أشق فثوابه أكبر وهذا الثواب يفوت بوجود المعصوم
6
471
وأيضا فحفظ الناس للشرع وتفقههم في الدين واجتهادهم في معرفة الدين والعمل به تقل بوجود المعصوم فتفوت هذه الحكم والمصالح وأيضا فجعل غير النبي مماثلا للنبي في ذلك قد يكون من أعظم الشبه والقدح في خاصة النبي فإنه إذا وجب أن يؤمن بجميع ما يقوله هذا كما يجب الإيمان بجميع ما يقوله النبي لم تظهر خاصة النبوة فإن الله أمرنا أن نؤمن بجميع ما أتى به النبيون فلو كان لنا من يساويهم في العصمة لوجب الإيمان بجميع ما يقوله فيبطل الفرق الوجه السادس أن يقال المعصوم الذي تدعو الحاجة اليه أهو القادر على تحصيل المصالح وإزالة المفاسد أم هو عاجز عن ذلك الثاني ممنوع فإن العاجز لا يحصل به وجود المصلحة ولا دفع المفسدة بل القدرة شرط في ذلك فإن العصمة تفيد وجود داعية إلى
6
472(187/334)
الصلاح لكن حصول الداعي بدون القدرة لا يوجب حصول المطلوب وإن قيل بل المعصوم القادر قيل فهذا لم يوجد وإن كان هؤلاء الاثنا عشر قادرين على ذلك ولم يفعلوه لزم أن يكونوا عصاه لا معصومين وإن لم يقدروا لزم أن يكونوا عاجزين فأحد الأمرين لازم قطعا أو كلاهما العجز وانتفاء العصمة وإذا كان كذلك فنحن نعلم بالضرورة انتفاء ما استدل به على وجوده والضروريات لا تعارض بالاستدلال الوجه السابع أن يقال هذا موجود في هذا الزمان وسائر الأزمنة وليس في هذا الزمان أحد يمكنه العلم بما يقوله فضلا عن كونه يجلب مصلحة أو يدفع مفسدة فكان ما ذكروه باطلا الوجه الثامن أنه سبحانه وإن كان قادرا على نصب معصوم فلا نسلم أنه لا مفسده في نصبه وهذا النفي العام لا بد له من دليل ولا يكفي في ذلك عدم العلم بالمفسدة فإن عدم العلم ليس علما
6
473
بالعدم ثم من المفاسد في ذلك أن يكون طاعة من ليس بنبي وتصديقه مثل طاعة النبي مطلقا وإذا ساوى النبي في وجوب طاعته في كل شيء ووجوب تصديقه في كل شيء ونفى كل غلط منه فيقال فأي شيء خاصة النبي التي انفرد بها عنه حتى صار هذا نبيا وهذا ليس بنبي فإن قيل بنزول الوحي عليه قيل إذا كان المقصود بنزول الوحي عليه قد حصل له فقد استراح من التعب الذي كان يحصل للنبي وقد شاركه في المقصود وأيضا فعصمته إنما تكون بإلهام الحق له وهذا وحي وأيضا فإما أن يخبر بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر بما أمر به أو يخبر بأخبار وأوامر زائدة فإن كان الأول لم يكن إليه حاجة ولا فيه فائدة فإن هذا قد عرف بأخبار الرسول وأوامره وإن كان غير ذلك وهو معصوم فيه فهذا نبي فإنه ليس بمبلغ عن الأول وإذا قيل بل يحفظ ما جاء به الرسول
6
474(187/335)
قيل يحفظه لنفسه أو للمؤمنين فإن كان لنفسه فلا حاجة بالناس إليه وإن كان للناس فبأي شىء يصل إلى الناس ما يحفظه أفبالتواتر أم بخبر الواحد فبأى طريق وصل ذلك منه إلى الناس الغائبين وصل من الرسول إليهم مع قلة الوسائط ففي الجملة لا مصلحة في وجود معصوم بعد الرسول إلا وهي حاصلة بدونه وفيه من الفساد مالا يزول إلا بعدمه فقولهم الحاجة داعية إليه ممنوع وقولهم المفسدة فيه معدومة ممنوع بل الأمر بالعكس فالمفسدة معه موجودة والمصلحة معه منتفية وإذا كان اعتقاد وجوده قد أوجب من الفساد ما أوجب فما الظن بتحقق وجوده فصل قال الرافضى الخامس أن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته وعلي أفضل أهل زمانه على ما يأتي فيكون هو الإمام لقبح تقديم المفضول على الفاضل عقلا ونقلا قال تعالى أفمن يهدي إلىالحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا
6
475(187/336)
أن يهدي فما لكم كيف تحكمون سورة يونس والجواب من وجوه أحدها منع المقدمة الثانية الكبرى فإنا لا نسلم أن عليا أفضل أهل زمانه بل خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر كما ثبت ذلك عن علي وغيره وسيأتي الجواب عما ذكروه وتقرير ما ذكرناه الثاني أن الجمهور من أصحابنا وغيرهم وإن كانوا يقولون يجب توليه الأفضل مع الإمكان لكن هذا الرافضي لم يذكر حجة على هذه المقدمة وقد نازعه فيها كثير من العلماء وأما الآية المذكورة فلا حجة فيها له لأن المذكور في الآية من يهدي إلى الحق ومن لا يهدي إلا أن يهدي والمفضول لا يجب أن يهدي إلا أن يهديه الفاضل بل قد يحصل له هدى كثير بدون تعلم من الفاضل وقد يكون الرجل يعلم ممن هو أفضل منه وإن كان ذلك الأفضل قد مات وهذا الحي الذي هو أفضل منه لم يتعلم منه شيئا وأيضا فالذي يهدي إلى الحق مطلقا هو الله والذي لا يهدي إلا أن يهدي صفة كل مخلوق لا يهدي إلا أن يهديه الله تعالى وهذا هو المقصود بالآية وهي أن عبادة الله أولى من عبادة خلقه كما قال في سياقها قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل
6
476(187/337)
الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى سورة يونس فافتتح الآيات بقوله قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت سورة يونس الى قوله قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق سورة يونس وأيضا فكثير من الناس يقول ولاية الأفضل واجبة إذا لم تكن في ولاية المفضول مصلحة راجحة ولم يكن في ولاية الأفضل مفسدة وهذه البحوث يبحثها من يرى عليا أفضل من أبي بكر وعمر كالزيدية وبعض المعتزلة أو من يتوقف في ذلك كطائفة من المعتزلة وأما أهل السنة فلا يحتاجون إلى منع هذه المقدمة بل الصديق عندهم أفضل الأمة لكن المقصود أن نبين أن الرافضة وإن قالوا حقا فلا يقدرون أن يدلوا عليه بدليل صحيح لأنهم سدوا على أنفسهم كثيرا من طرق العلم فصاروا عاجزين عن بيان الحق حتى أنه لا يمكنهم تقرير إيمان علي على الخوارج ولا تقرير إمامته على المروانية ومن قاتله فإن ما يستدل به على ذلك قد أطلق جنسه على أنفسهم لأنهم لا يدرون ما يلزم أقوالهم الباطلة من التناقض والفساد لقوة جهلهم واتباعهم الهوى بغير علم(187/338)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب
منهاج السنة النبوية
اسم المؤلف
شيخ الإسلام بن تيمية
عدد الاجزاء
دار النشر
مدينة النشر
سنة النشر
رقم الطبعة
8
مؤسسة قرطبة
1406
الأولى
اسم المحقق
د. محمد رشاد سالم
الجزء السابع
الجزء
رقم الصفحة
محتوى الصفحة
7
5
قال الرافضي المنهج الثاني في الأدلة المأخوذة من القرآن والبراهين الدالة على إمامة علي من الكتاب العزيز كثيرة الأول قوله تعالى أنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون و قد أجمعوا أنها نزلت في علي قال الثعلبي في إسناده إلى أبي ذر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم بهاتين و إلا صمتا و رايته بهاتين و إلا عميتا يقول علي قائد البررة و قاتل الكفرة فمنصور من نصره و مخذول من خذله أما أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما صلاة الظهر فسال سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا فرفع السائل يده إلى السماء و قال اللهم أنك تشهد أني سالت في مسجد
7
6
رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يعطني أحد شيئا و كان علي راكعا فأومأ بخنصره اليمنى و كان متختما فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم و ذلك بعين النبي صلى الله عليه و سلم فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء و قال اللهم أن موسى سألك و قال رب اشرح لي صدري و يسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي و اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري و أشركه في أمري فأنزلت عليه قرأنا ناطقا سنشد عضدك بأخيك و نجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا اللهم وأنا محمد نبيك و صفيك اللهم فاشرح لي صدري و يسر لي أمري و اجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري قال أبو ذر فما استتم كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزل عليه جبريل من عند الله فقال يا محمد اقرأ
7
7(188/1)
قال وما اقرأقال اقرأ أنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون و نقل الفقيه ابن المغازلي الو اسطي الشافعي أن هذه نزلت في علي و الولي هو المتصرف وقد اثبت له الولاية في الآية كما أثبتها الله تعالى لنفسه و لرسوله و الجواب من وجوه أحدها أن يقال ليس فيما ذكره ما يصلح أن يقبل ظنا بل كل ما ذكره كذب و باطل من جنس السفسطة و هو لو أفاده ظنونا كان تسميته براهين تسمية منكرة فإن البرهان في القرآن و غيره يطلق على ما يفيد العلم و اليقين كقوله تعالى و قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين و قال تعالى آمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء
7
8
والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين فالصادق لا بد له من برهان على صدقه و الصدق المجزوم بأنه صدق هو المعلوم وهذا الرجل جميع ما ذكره من الحجج فيها كذب فلا يمكن أن يذكر حجة واحدة جميع مقدماتها صادقة فإن المقدمات الصادقة يمتنع أن تقوم على باطل و سنبين أن شاء الله تعالى عند كل واحدة منها ما يبين كذبها فتسميه هذه براهين من أقبح الكذب ثم أنه يعتمد في تفسير القرآن على قول يحكى عب بعض الناس مع أنه قد يكون كذبا عليه و أن كان صدقا فقد خالف أكثر الناس فأن كان قول الواحد الذي لم يعلم صدقه و قد خالفه الأكثرون برهانا فأنه يقيم براهين كثيرة من هذا الجنس على نقيض ما يقوله فتتعارض البراهين فتتناقض و البراهين لا تتناقض بل سنبين أن شاء الله تعالى قيام البراهين الصادقة التي لا تتناقض على كذب ما يدعيه من البراهين و أن الكذب في عامتها كذب ظاهر
7
9(188/2)
لا يخفى إلا على من أعمى الله قلبه وأن البراهين الدالة على نبوة الرسول حق و أن القرآن حق و أن دين الإسلام حق تناقض ما ذكره من البراهين فإن غاية ما يدعيه من البراهين إذا تأمله اللبيب و تأمل لوازمه وجده يقدح في الأيمان والقرآن و الرسول و هذا لأن اصل الرفض كان من وضع قوم زنادقة منافقين مقصودهم الطعن في القرآن و الرسول ودين الإسلام فوضعوا من الأحاديث ما يكون التصديق به طعنا في دين الإسلام و روجوها على أقوام فمنهم من كان صاحب هوى و جهل فقبلها لهواه و لم ينظر في حقيقتها و منهم من كان له نظر فتدبرها فوجدها تقدح في حق الإسلام فقال بموجبها و قدح بها في دين الإسلام أما لفساد اعتقاده في الدين وأما لاعتقاده أن هذه صحيحة و قدحت فيما كان يعتقده من دين الإسلام و لهذا دخلت عامة الزنادقة من هذا الباب فأن ما تنقله الرافضة من الأكاذيب تسلطوا به على الطعن في الإسلام و صارت شبها عند من لم يعلم أنه كذب و كان عنده خبرة بحقيقة الإسلام و ضلت طوائف كثيرة من الإسماعيلية و النصيرية و غيرهم من الزنادقة
7
10(188/3)
الملاحدة المنافقين و كان مبدأ ضلالهم تصديق اللرافضة في أكاذيبهم التي يذكرونها في تفسير القرآن و الحديث كأئمة العبيديين أنما يقيمون مبدأ دعوتهم بالأكاذيب التي اختلقتها الرافضة ليستجيب لهم بذلك الشيعة الضلال ثم ينقلون الرجل من القدح في الصحابة إلى القدح في علي ثم في النبي صلى الله عليه و سلم ثم في إلالاهية كما رتبه لهم صاحب البلاغ الأكبر و الناموس الأعظم و لهذا كان الرفض اعظم باب و دهليز إلى الكفر و الإلحاد ثم نقول ثانيا الجواب عن هذه الآية حق من وجوه الأول أنا نطالبه بصحة هذا النقل أو لايذكر هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة فأن مجرد عزوه إلى تفسير الثعلبي أو نقل الإجماع على ذلك من غير العالمين بالمنقولات الصادقين في نقلها ليس بحجة باتفاق أهل العلم أن لم نعرف ثبوت إسناده و كذلك إذا روى فضيلة لأبي بكر و عمر لم يجز اعتقاد ثبوت ذلك بمجرد ثبوت روايته باتفاق أهل العلم
7
11
فالجمهور أهل السنة لا يثبتون بمثل هذا شيئا يريدون إثباته لا حكما و لا فضيلة و لا غير ذلك و كذلك الشيعة وإذا كان بمجرده ليس بحجة باتفاق الطوائف كلها بطل الاحتجاج به و هكذا القول في كل ما نقله و عزاه إلى أبي نعيم أو الثعلبي أو النقاش أو ابن المغازلي و نحوهم الثاني قوله قد أجمعوا أنها نزلت في علي من اعظم الدعاوى الكاذبة بل اجمع أهل العلم بالنقل على أنها لم تنزل في علي بخصوصه و أن عليا لم يتصدق بخاتمه في الصلاة و اجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع
7
12(188/4)
و أما ما نقله من تفسير الثعلبي فقد اجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبي يروي طائفة من الأحاديث الموضوعات كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة عن أبي إمامة في فضل تلك السورة و كأمثال ذلك و لهذا يقولون هو كحاطب ليل وهكذا الواحدي تلميذه و أمثالهما من المفسرين زيادة ينقلون الصحيح و الضعيف و لهذا لما كان البغوي عالما بالحديث اعلم به من الثعلبي و الواحدي و كان تفسيره مختصر تفسير الثعلبي لم يذكر في تفسيره شيئا من الأحاديث الموضوعة التي يرويها الثعلبي و لا ذكر تفاسير أهل البدع التي ذكرها الثعلبي مع أن الثعلبي فيه خير و دين لكنه لا خبرة له بالصحيح من الأحاديث زيادة ولا يميز بين السنة و البدعة في كثير من الأقوال
7
13
و أما أهل العلم الكبار أهل التفسير مثل تفسير محمد بن جرير الطبري و بقي بن مخلد و ابن أبي حاتم و ابن المنذر و عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم و أمثالهم فلم يذكروا فيها مثل هذه الموضوعات دع من هو اعلم منهم مثل تفسير احمد بن حنبل و اسحق بن راهويه بل و لا يذكر مثل هذا عند ابن حميد و لا عبد الرزاق مع أن عبد الرزاق كان يميل إلى التشيع و يروي كثيرا من فضائل علي و أن كانت ضعيفة لكنه اجل قدرا من أن يروي مثل هذا الكذب الظاهر وقد اجمع أهل العلم بالحديث إلى أنه لا يجوز الاستدلال بمجرد خبر يرويه الواحد من جنس الثعلبي و النقاش و الواحدي و أمثال هؤلاء المفسرين لكثرة ما يروونه من الحديث و يكون ضعيفا بل موضوعا فنحن لو لم نعلم كذب هؤلاء من وجوه أخرى لم يجز أن نعتمد عليه لكون الثعلبي و أمثاله رووه فكيف إذا كنا عالمين بأنه كذب وسنذكر أن شاء الله تعالى ما يبين كذبه عقلا و نقلا و إنما المقصود هنا
7
14(188/5)
بيان افتراء هذا المصنف أو كثرة جهله حيث قال قد أجمعوا أنها نزلت في علي فيا ليت شعري من نقل هذا الإجماع من أهل العلم والعالمين بالإجماع في مثل هذه الأمور فإن نقل الإجماع في مثل هذا لا يقبل من غير اهل العلم بالمنقولات و ما فيها من إجماع و اختلاف فالمتكلم و المفسر و المؤرخ و نحوهم لو ادعى أحدهم نقلا مجردا بلا إسناد ثابت لم يعتمد عليه فكيف إذا ادعى إجماعا الوجه الثالث أن يقال هؤلاء المفسرون الذين نقل من كتبهم هم و من هم اعلم منهم قد نقلوا ما يناقض هذا الإجماع المدعى و الثعلبي قد نقل في تفسيره أن ابن عباس يقول نزلت في أبي بكر ونقل عن عبد الملك قال سألت أبا جعفر قال هم المؤمنون قلت فأن أناسا يقولون هو علي قال فعلي من الذين آمنوا و عن الضحاك مثله و روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه قال حدثنا أبو صالح كاتب الليث حدثنا معاوية بن صالح حدثنا علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه قال كل من آمن فقد تولى الله و رسوله الذين آمنوا قال و حدثنا أبو سعيد إلاشج عن المحاربي عن عبد الملك بن
7
15
أبي سليمان قال سالت أبا جعفر محمد بن علي عن هذه الآية فقال هم الذين آمنوا قلت نزلت في علي قال علي من الذين آمنوا و عن السدي مثله الوجه الرابع أنا نعفيه من الإجماع و نطالبه أن ينقل ذلك بإسناد واحد صحيح و هذا الإسناد الذي ذكره الثعلبي إسناده ضعيف فيه رجال متهمون و أما نقل ابن المغازلي الو اسطي فاضعف و اضعف فأن هذا قد جمع في كتابه من الأحاديث الموضوعات ما لا يخفى أنه كذب على من له أدنى معرفة بالحديث والمطالبة بإسناد يتناول هذا و هذا الوجه الخامس أن يقال لو كان المراد بالآية أن يؤتى الزكاة حال ركوعه كما يزعمون أن عليا تصدق بخاتمه في الصلاة لوجب أن يكون
7
16(188/6)
ذلك شرطا في الموالاة و أن لا يتولى المسلمون إلا عليا وحده فلا يتولى الحسن و لا الحسين و لا سائر بني هاشم و هذا خلاف إجماع المسلمين الوجه السادس أن قوله الذين صيغة جمع فلا يصدق على علي وحده الوجه السابع أن الله تعالى لا يثني على الإنسان إلا بما هو محمود عنده أما واجب و أما مستحب والصدقة والعتق و الهدية و الهبة و الإجارة و النكاح و الطلاق و غير ذلك من العقود في الصلاة ليست واجبة و لا مستحبة باتفاق المسلمين بل كثير منهم يقول أن ذلك يبطل الصلاة و أن لم يتكلم بل تبطل بإلاشارة المفهمة و آخرون يقولون لا يحصل الملك بها لعدم الإيجاب الشرعي و لو كان هذا مستحبا لكان النبي صلى الله عليه و سلم يفعله و يحض عليه أصحابه و لكان علي يفعله في غير هذه الواقعة فلما لم يكن شيء من ذلك علم أن التصدق في الصلاة ليس من الأعمال الصالحة و إعطاء السائل لا يفوت فيمكن المتصدق إذا سلم أن يعطيه و أن في الصلاة لشغلا الوجه الثامن أنه لو قدر أن هذا مشروع في الصلاة لم يختص بالركوع بل يكون في القيام و القعود أولى منه في الركوع فكيف يقال لا ولي لكم إلا الذين يتصدقون في كل الركوع فلو تصدق المتصدق
7
17(188/7)
في حال القيام و القعود أما كان يستحق هذه الموالاة فأن قيل هذه أراد بها التعريف بعلي على خصوصه قيل له أوصاف علي التي يعرف بها كثيرة ظاهرة فكيف يترك تعريفه الأمور المعروفة و يعرفه بأمر لا يعرفه إلا من سمع هذا و صدقه وجمهور إلامة لم تسمع هذا الخبر و لا هو في شيء من كتب المسلمين المعتمدة لاالصحاح و لا السنن و لا الجوامع ولا المعجمات و لا شيء من أمهات أحد الأمرين لازم أن قصد به المدح بالوصف فهو باطل و أن قصد به التعريف فهو باطل الوجه التاسع أن يقال قوله و يؤتون الزكاة و هم راكعون على قولهم يقتضي أن يكون قد أتى الزكاة في حالة ركوعه و علي رضي الله عنه لم يكن ممن تجب عليه على عهد النبي صلى الله عليه و سلم فأنه كان فقيرا و زكاة الفضة أنما تجب على من ملك النصاب حولا و علي لم يكن من هؤلاء الوجه العاشر أن إعطاء الخاتم في الزكاة لا يجزي عند كثير من
7
18(188/8)
الفقهاء إلا إذا قيل بوجوب الزكاة في الحلي و قيل أنه يخرج من جنس الحلي و من جوز ذلك بالقيمة فالتقويم في الصلة متعذر و القيم تختلف باختلاف الأحوال الوجه الحادي عشر أن هذه آلية بمنزلة قوله و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و اركعوا مع الراكعين هذا أمر بالركوع وكذلك قوله يا مريم اقنتي لربك و اسجدي و اركعي مع الراكعين وهذا أمر بالركوع قد قيل ذكر ذلك ليبين أنهم يصلون الجماعة لأن المصلي في الجماعة أنما يكون مدركا للركعة بادراك ركوعها بخلاف الذي لم يدرك إلا السجود فأنه قد فاتته الركعة و أما القيام فلا يشترط فيه الإدراك و بالجملة الواو أما واو الحال و أما واو العطف و العطف هو الأكثر و هي المعروفة في مثل هذا الخطاب و قوله أنما يصح إذا كانت واو الحال فأن لم يكن ثم دليل على تعيين ذلك بطلت الحجة فكيف إذا كانت الأدلة تدل على خلافة الوجه الثاني عشر أنه من المعلوم المستفيض عند أهل التفسير خلفا عن سلف أن هذه الآية نزلت في النهي عن موالاة الكفار و الأمر بموالاة المؤمنين لما كان بعض المنافقين مثل كعبد الله بن أبي يوالي اليهود و يقول أني أخاف الدوائر فقال بعض المؤمنين و هو عبادة بن الصامت أني
7
19(188/9)
يا رسول الله أتولى الله و رسوله و أبرا إلى الله و رسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم ولهذا لمل جاءتهم بنو قينقاع و سبب تأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول فأنزل الله هذه الآية يبين فيها وجوب موالاة المؤمنين زيادة عموما و ينهى عن موالاة الكفار عموما و قد تقدم كلام الصحابة و التابعين أنها عامة لا تختص بعلي الوجه الثالث عشر أن سياق الكلام يدل على ذلك لمن تدبر القرآن فأنه قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فأنه منهم أن الله لا يهدي القوم الظالمين فهذا نهى عن موالاة اليهود و النصارى ثم قال فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده إلى قوله فاصبحوا خاسرين فهذا وصف الذين في قلوبهم مرض الذين يوالون الكفار المنافقين ثم قال يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله واسع
7
20(188/10)
عليم فذكر فعل المرتدين و أنهم لن يضروا الله شيئا و ذكر من يأتي به بدلهم ثم قال أنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين رسوله يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة و هم راكعون و من يتولى الله و رسوله و الذين آمنوا فأن حزب الله هم الغالبون فتضمن هذا الكلام ذكر أحوال من دخل في الإسلام من المنافقين و ممن يرتد عنه وحال المؤمنين الثابتين عليه ظاهرا و باطنا فهذا السياق مع أتيناه أتى بصيغة الجمع مما يوجب لمن تدبر ذلك علما يقينا لا يمكنه دفعه عن نفسه أن الآية عامة في كل المؤمنين المتصنفين بهذه الصفات لا تختص بواحد بعينه لا أبي بكر و لا عمر و لا عثمان و لا علي و لا غيرهم لكن هؤلاء أحق إلامة بالدخول فيها الوجه الرابع عشر أن الألفاظ المذكورة في الحديث مما يعلم أنها كذب على النبي صلى الله عليه و سلم فأن عليا ليس قائدا لكل البررة بل لهذه الأمة رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا هو أيضا قاتلا لكل الكفره بل قتل بعضهم كما قتل غيره بعضهم و ما أحد من المجاهدين القاتلين لبعض الكفار إلا و هو قاتل لبعض الكفرة و كذلك قوله منصور من نصره و مخذول من خذله هو خلاف
7
21(188/11)
الواقع و النبي صلى الله عليه و سلم لا يقول إلا حقا لا سيما على قول الشيعة فأنهم يدعون أن إلامة كلها خذلته إلى قتل عثمان و من المعلوم أن الأمة كانت منصورة في أعصار الخلفاء الثلاثة نصرا لم يحصل لها بعده مثله ثم لما قتل عثمان و صار الناس ثلاثة أحزاب حزب نصره و قاتل معه و حزب قاتلوه و حزب خذلوه لم يقاتلوا لا مع هؤلاء و لا مع هؤلاء لم يكن الذين قاتلوا معه منصورين على الحزبين الآخرين و لا على الكفار بل أولئك الذين نصروا عليهم و صار الأمر لهم لما تولى معاوية فانتصروا على الكفار و فتحوا البلاد أنما كان علي منصورا كنصر أمثاله في قتال الخوارج و الكفار والصحابة الذين قاتلوا الكفار و المرتدين كانوا منصورين نصرا عظيما فالنصر وقع كما وعد الله به حيث قال أنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد فالقتال الذي كان بأمر الله و أمر رسوله من المؤمنين للكفار و المرتدين و الخوارج كانوا فيه منصورين نصرا عظيما إذا اتقوا و صبروا فإن التقوى والصبر من تحقيق الإيمان الذي علق به النصر
7
22
و أيضا فالدعاء الذي ذكره عن النبي صلى الله عليه و سلم عقب التصدق بالخاتم من اظهر الكذب فمن المعلوم أن الصحابة أنفقوا في سبيل الله وقت الحاجة إليه ما هو اعظم قدرا و نفعا من إعطاء سائل خاتما و في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما نفعني مال كمال أبي بكر أن آمن الناس علي في صحبته و ذات يده أبو بكر ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و قد تصدق عثمان بألف بعير في سبيل الله في غزوة العسرة حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم
7
23(188/12)
والأنفاق في سبيل الله وفي إقامة الدين في أول الإسلام اعظم من صدقة على سائل محتاج و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم لا تسبوا أصحابي فوا الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم و لا نصيفه أخرجاه في الصحيحين قال تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل أولئك اعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد و قاتلوا و كلا وعد الله الحسنى فكذلك الإنفاق الذي صدر في أول الإسلام في إقامة الدين ما بقي له نظير يساويه و أما إعطاء السؤال لحاجتهم فهذا البر يوجد مثله إلى يوم القيامة فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم لأجل تلك النفقات العظيمة النافعة الضرورية لا يدعو بمثل هذا الدعاء فكيف يدعوا به لأجل إعطاء خاتم لسائل قد يكون كاذبا في سؤاله
7
24
ولا ريب أن هذا و مثله من كذب جاهل أراد أن يعارض ما ثبت لأبي بكر بقوله و سيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى و لسوف يرضى بأن يذكر لعلي شيئا من هذا الجنس فما أمكنه أن يكذب أنه فعل ذلك في أول الإسلام فكذب هذه الأكذوبة التي لا تروج إلا على مفرط في الجهل وأيضا فكيف يجوز أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم في المدينة بعد الهجرة و النصرة و اجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري مع أن الله قد اعزه بنصره و بالمؤمنين كما قال تعالي هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين و قال إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن أن الله معنا فالذي كان معه حين نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا هو أبو بكر و كانا اثنين الله ثالثهما و كذلك لما كان يوم بدر لما صنع له عريش كان الذي دخل معه في العريش دون سائر الصحابة أبو بكر و كل من الصحابة له في نصر رسول الله صلى الله عليه و سلم سعي مشكور و عمل مبرور و روي أنه لما جاء علي بسيفه يوم أحد قال لفاطمة اغسليه يوم أحد(188/13)
7
25
غير ذميم فقال النبي صلى الله عليه و سلم أن تك أحسنت فقد أحسن فلأن و فلأن و فلأن فعدد جماعة من الصحابة و لم يكن لعلي اختصاص بنصر النبي صلى الله عليه و سلم دون أمثاله و لا عرف موطن احتاج النبي صلى الله عليه و سلم فيه إلى معونة علي و حده لا باليد و لا باللسان و لا كان إيمان الناس برسول الله صلى الله عليه و سلم و طاعتهم له لأجل علي بسبب دعوة علي لهم و غير ذلك من الأسباب الخاصة كما كان هارون و موسى فإن بني إسرائيل كانوا يحبون هارون جدا ويهابون موسى و كان هارون يتألفهم و الرافضة تدعي أن الناس كانوا يبغضون عليا و أنهم لبغضهم له لم يبايعوه فكيف يقال أن النبي صلى الله عليه و سلم احتاج إليه كما احتاج موسى إلى هارون و هذا أبو بكر الصديق اسلم على يديه ستة أو خمسة من العشرة عثمان و طلحة و الزبير و سعد و عبد الرحمن بن عوف و أبو عبيده و لم يعلم أنه اسلم على يد علي و عثمان و غيرهما أحد من السابقين الأولين من المهاجرين و إلأنصار و مصعب بن عمير هو الذي بعثه النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة لما بايعه إلأنصار ليلة العقبة و اسلم على يده رؤوس إلأنصار كسعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته و اسيد بن حضير و غير هؤلاء
7
26(188/14)
و كان أبو بكر يخرج مع النبي صلى الله عليه و سلم يدعو معه الكفار إلى الإسلام في الموسم و يعاونه معاونة عظيمة في الدعوة بخلاف غيره و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في الصحيح لو كنت متخذا من أهل الأرضى خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و قال أيها الناس أني جئت إليكم فقلت أني رسول الله فقلتم كذبت و قال أبو بكر صدقت فهل أنتم تاركو لي صاحبي ثم أن موسى دعا بهذا الدعاء قبل أن يبلغ الرسالة إلى الكفار ليعاون عليها و نبينا صلى الله عليه و سلم قد بلغ الرسالة لما بعثه الله بلغها وحده و أول من آمن به باتفاق أهل الأرض أربعة أول من آمن به من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة و من الصبيان علي و من الموالي زيد و كان أنفع الجماعة في الدعوه باتفاق الناس أبو بكر ثم خديجة لأن أبا بكر هو أول رجل حر بالغ آمن به باتفاق الناس و كان له قدر عند قريش لما كان فيه من المحاسن فكان آمن الناس عليه في صحبته و ذات يده و مع هذا فما دعا الله أن يشد أزره بأحد لا بأبي بكر و لا بغيره
7
27(188/15)
بل قام مطيعا لربه متوكلا عليه صابرا له كما أمر بقوله قم فأنذر و ربك فكبر و ثيابك فطهر و الرجز فاهجر و لا تمنن تستكثر و لربك فاصبر و قال فاعبده و توكل عليه فمن زعم أن النبي صلى الله عليه و سلم سأل الله عز و جل أن يشد أزره بشخص من الناس كما سأل موسى أن يشد أزره بهارون فقد افترى على رسول الله صلى الله عليه و سلم و بخسه حقه ولا ريب أن الرفض مشتق من الشرك و الإلحاد و النفاق لكن تارة يظهر لهم ذلك فيه و تارة يخفى الوجه الخامس عشر أن يقال غاية ما في الآية أن المؤمنين عليهم موالاة الله و رسوله و المؤمنين فيوالون عليا و لا ريب أن موالاة علي واجبة على كل مؤمن كما يجب على كل مؤمن مولاة أمثاله من المؤمنين قال تعالى و أن تظاهرا عليه فأن الله هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين فبين الله أن كل صالح من المؤمنين فهو مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم الله مولاه و جبريل مولاه الصالح من المؤمنين متوليا على رسول الله كما أن الله مولاه وجبريل مولاه يأن يكون صالح المؤمنين متوليا على رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا متصرفا فيه و أيضا قال تعالى و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض
7
28(188/16)
فجعل كل مؤمن وليا لكل مؤمن و ذلك لا يوجب أن يكون أميرا عليه معصوما لا يتولى عليه إلا هو و قال تعالى إلا أن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون الذين آمنوا و كانوا يتقون فكل مؤمن تقي فهو ولي الله و الله وليه كما قال تعالى الله ولي الذين آمنوا و قال ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم و قال أن الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله ثم آووا و نصروا إلى قوله و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله فهذه النصوص كلها ثبتت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض و أن هذا ولي هذا وهذا ولي هذا وأنهم أولياء الله و أن الله و ملائكته و المؤمنين موالي رسوله كما أن الله و رسوله و الذين آمنوا هم أولياء المؤمنين و ليس في شيء من هذه النصوص أن من كان وليا للآخر كان أميرا عليه دون غيره و أنه يتصرف فيه دون سائر الناس الوجه السادس عشر أن الفرق بين الولاية بالفتح و الولاية بالكسر معروف فالولاية ضد العداوة و هي المذكوره في هذه النصوص ليست هي الولاية بالكسر التي هي الإمارة و هؤلاء الجهال يجعلون الولي هو الأمير و لم يفرقوا بين الولاية و الولاية و الأمير يسمى
7
29(188/17)
الوالي لا يسمى الولي و لكن قد يقال هو ولي الأمر كما يقال وليت أمركم و يقال أولو الأمر و أما إطلاق القول بالمولى وإراده الولي فهذا لا يعرف بل يقال في الولي المولى و لا يقال الوالي و لهذا قال الفقهاء إذا اجتمع في الجنازة الوالي و الولي فقيل يقدم الوالي وهو قول أكثرهم و قيل يقدم الولي فبين أن الولاية دلت على الموالاة المخالفة للمعاداة الثابتة لجميع المؤمنين بعضهم على بعض و هذا مما يشترك فيه الخلفاء الأربعة و سائر أهل بدر و أهل بيعة الرضوان فكلهم بعضهم أولياء بعض و لم تدل الآية على أحد منهم يكون أميرا على غيره بل هذا باطل من وجوه كثيرة إذ لفظ الولي و الولاية غير لفظ الوالي و الآية عامة في المؤمنين و المارة لا تكون عامة الوجه السابع عشر أنه لو أراد الولاية التي هي إلا مارة لقال أنما يتولى عليكم الله و رسوله و الذين آمنوا و لم يقل و من يتولى الله و رسوله فأنه لا يقال لمن ولي عليهم وال أنهم يقولون تولوه بل يقال تولى عليهم
7
30(188/18)
الوجه الثامن عشر أن الله سبحانه و تعالى لا يوصف بأنه متول على عباده و أنه أمير عليهم جل جلاله و تقدست أسماؤه فأنه خالقهم و رازقهم و ربهم و مليكهم له الخلق و الأمر و لا يقال أن الله أمير المؤمنين كما يسمى المتولي مثل علي و غيره أمير المؤمنين بل الرسول صلى الله عليه و سلم أيضا لا يقال أنه متول على الناس و أنه أمير عليهم فأن قدره اجل من هذا بل أبو بكر الصديق رضي الله عنه لم يكونوا يسمونه إلا خليفة رسول الله و أول من سمي من الخلفاء أمير المؤمنين هو عمر رضي الله عنه و قد روي أن عبد الله بن جحش كان أميرا في سرية فسمي أمير المؤمنين لكن إمارة خاصة في تلك السرية لم يسم أحد بإمارة المؤمنين عموما قبل عمر و كان خليقا بهذا الاسم و أما الولاية المخالفة للعداوة فأنه يتولى عباده المؤمنين فيحبهم و يحبونه و يرضى عنهم و يرضون عنه و من عادى له وليا فقد بارزه بالمحاربة وهذه الولاية من رحمته و إحسانه ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجته إليه قال تعالى و قل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا و لم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل فالله تعالى ليس له ولي من الذل بل هو القائل من كان يريد العزة فلله العزة جميعا بخلاف الملوك و غيرهم ممن يتولاه لذاته إذا لم يكن له ولي ينصره
7
31(188/19)
الوجه التاسع عشر أنه ليس كل من تولى عليه إمام عادل يكون من حزب الله و يكون غالبا فأن أئمة العدل يتولون على المنافقين و الكفار كما كان في مدينة النبي صلى الله عليه و سلم تحت حكمه ذميون و منافقون و كذلك كان تحت ولاية علي كفار و منافقون و الله تعالى يقول ومن يتول الله و رسوله و الذين آمنوا فأن حزب الله هم الغالبون فلو أراد الإمارة لكان المعنى أن كل من تأمر عليهم الذين آمنوا يكونون من حزبه الغالبين و ليس كذلك و كذلك الكفار و المنافقون تحت أمر الله الذي هو قضاؤه و قدره مع كونه لا يتولاهم بل يبغضهم فصل قال الرافضي البرهان الثاني قوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك و أن لم تفعل فما بلغت رسالته اتفقوا في نزولها في علي و روى أبو نعيم الحافظ من الجمهور بإسناده عن عطية قال نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه و سلم في علي بن أبي طالب ومن تفسير
7
32
الثعلبي قال معناه بلغ ما أنزل إليك من ربك في فضل علي فلما نزلت هذه الآيه اخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه و النبي صلى الله عليه و سلم مولى أبي بكر و عمر و باقي الصحابة بالإجماع فيكون علي مولاهم فيكون هو الإمام و من تفسير الثعلبي لما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا فاخذ بيد علي و قال من كنت مولاه فعلي مولاه فشاع ذلك و طار في البلاد فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته حتى أتى الأبطح فنزل عن ناقته وأناخها فعقلها فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو في ملا من أصحابه فقال يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا اله إلا الله و أنك رسول الله فقبلنا منك و أمرتنا أن نصلي خمسا فقبلناه منك و أمرتنا أن نزكي أموالنا فقبلناه منك و أمرتنا أن نصوم شهرا فقبلناه منك و أمرتنا أن نحج البيت فقبلناه منك ثم لم ترض
7
33(188/20)
بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك و فضلته علينا و قلت من كنت مولاه فعلي مولاه و هذا منك أم من الله قال النبي صلى الله عليه و سلم و الله الذي لا اله إلا هو هو من أمر الله فولى الحارث يريد راحلته و هو يقول اللهم أن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته و خرج من دبره فقتله و أنزل الله تعالى سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله و قد روي هذه الرواية النقاش من علماء الجمهور في تفسيره و الجواب من وجوه أحدها أن هذا اعظم كذبا و فرية من الأول كما سنبينه أن شاء الله تعالى و قوله اتفقوا على نزولها في علي اعظم كذبا مما قاله في تلك الآيه فلم يقل لا هذا و لا ذاك أحد من العلماء الذين يدرون ما يقولون
7
34
و أما ما يرويه أبو نعيم في الحلية أو في فضائل الخلفاء و النقاش و الثعلبي و الواحدي و نحوهم في التفسير فقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن فيما يروونه كثيرا من الكذب الموضوع واتفقوا على أن هذا الحديث المذكور الذي رواه الثعلبي في تفسيره هو من الموضوع وسنبين أدلة يعرف بها أنه موضوع و ليس الثعلبي من أهل العلم بالحديث ولكن المقصود هنا أنا نذكر قاعدة فنقول المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب والمرجع في التمييز بين هذا و هذا إلى أهل علم الحديث كما نرجع إلى النحاة في الفرق بين نحو العرب ونحو غير العرب ونرجع إلى علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة وكذلك علماء الشعر والطب وغير ذلك فلكل علم رجال يعرفون به
7
35(188/21)
و العلماء بالحديث اجل هؤلاء قدرا و أعظمهم صدقا و أعلاهم منزلة و اكثر دينا وهم من اعظم الناس صدقا و أمانة و علما و خبرة فيما يذكرونه عن الجرح و التعديل مثل مالك و شعبة و سفيان و يحيى بن سعيد و عبد الرحمن بن المهدي و ابن المبارك ووكيع و الشافعي و احمد و إسحاق بن راهويه و أبي عبيد و ابن معين وابن المديني و البخاري ومسلم و أبي داود و أبي زرعة و أبي حاتم و النسائي و العجلي و أبي احمد بن عدي و أبي حاتم البستي و الدار قطني و أمثال هؤلاء خلق كثير لا يحصى عددهم من أهل العلم بالرجال و الجرح و التعديل و أن كان بعضهم اعلم بذلك من بعض و بعضهم اعدل من بعض في وزن كلامه كما أن الناس في سائر العلوم كذلك و قد صنف للناس كتبا في نقلة الأخبار كبارا و صغارا مثل الطبقات لابن سعد و تاريخي البخاري و الكتب المنقولة عن احمد بن حنبل و يحيى بن معين و غيرهما و قبلها عن يحيى بن سعيد القطان و غيره و كتاب يعقوب بن سفيان و ابن أبي خيثمة و ابن أبي حاتم و كتاب بن عدي و كتب أبي حازم و أمثال ذلك وصنفت كتب الحديث تارة على المساند فتذكر ما اسنده الصاحب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كمسند احمد و إسحاق و أبي داود
7
36(188/22)
الطيالسي و أبي بكر بن أبي شيبة و محمد بن أبي عمر و العدني و احمد بن منيع و أبي يعلى الموصلي و أبي بكر البزار البصري و غيرهم وتارة على الأبواب فمنهم من قصد مقصده الصحيح كالبخاري و مسلم و ابن خزيمة و أبي حاتم و غيرهم و كذلك من خرج على الصحيحين كإلاسماعيلي و البرقاني و أبي نعيم غيرهم و منهم من خرج أحاديث السنن كأبي داود والنسائي ابن ماجة و غيرهم و منهم من خرج الجامع الذي يذكر فيه الفضائل و غيرها كالترمذي و غيره و هذا علم عظيم من اعظم علوم الإسلام و لا ريب أن الرافضة اقل معرفة بهذا الباب و ليس في أهل الأهواء و البدع اجهل منهم به فأن سائر أهل الأهواء كالمعتزلة و الخوارج مقصورون وفي معرفة هذا ولكن المعتزلة اعلم بكثير من الخوارج و الخوارج اعلم بكثير من الرافضة و الخوارج اصدق من الرافضة و أدين اورع بل الخوارج لا نعرف عنهم أنهم يتعمدون الكذب بل هم من اصدق الناس والمعتزلة مثل سائر الطوائف فيهم من يكذب و فيهم من يصدق لكن ليس لهم من العناية بالحديث و معرفته ما لأهل الحديث و السنة فأن هؤلاء يتدينون به فيحتاجون إلى أن يعرفوا ما هو الصدق
7
37(188/23)
وأهل البدع سلكوا طريقا آخر ابتدعوها اعتمدوا عليها و لا يذكرون الحديث بل و لا القرآن في أصولهم للاعتضاد لا للاعتماد والرافضة اقل معرفة و عناية بهذا إذ كانوا لا ينظرون في الإسناد و لا في سائر الأدلة الشرعية و العقلية هل توافق ذلك أو تخالفه و لهذا لا يوجد لهم أسانيد متصلة صحيحة قط بل كل إسناد متصل لهم فلا بد من أن يكون فيه من هو معروف بالكذب أو كثرة الغلط وهم في ذلك شبيه باليهود و النصارى فأنه ليس لهم إسناد و الإسناد من خصائص هذه الأمة و هم من خصائص الإسلام ثم هو في الإسلام من خصائص أهل السنة و الرافضة من اقل الناس عناية إذ كانوا لا يصدقون إلا بما يوافق أهواءهم و علامة كذبه أنه يخالف هواهم و لهذا قال عبد الرحمن بن مهدي أهل العلم يكتبون ما لهم و ما عليهم وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم ثم أن أولهم كانوا كثيري الكذب فانتقلت أحاديثهم إلى قوم لا يعرفون الصحيح من السقيم فلم يمكنهم التمييز إلا بتصديق الجميع أو تكذيب الجميع و الاستدلال على ذلك بدليل منفصل غير الإسناد
7
38(188/24)
فيقال ما يرويه مثل أبي نعيم و الثعلبي و النقاش و غيرهم أتقبلونه مطلقا أم تردونه مطلقا أم تقبلونه إذا كان لكم لا عليكم و تردونه إذ كان عليكم فأن تقبلوه مطلقا ففي ذلك أحاديث كثيره في فضائل أبي بكر و عمر و عثمان تناقض قولكم و قد روى أبو نعيم في أول الحلية في فضائل الصحابة و في كتاب مناقب أبي بكر و عمر و عثمان و علي أحاديث بعضها صحيحة و بعضها ضعيفة بل منكرة و كان رجلا عالما بالحديث فيما ينقله لكن هو و أمثاله يروون ما في الباب لا يعرف أنه روى كالمفسر الذي ينقل أقوال الناس في التفسير و الفقيه الذي يذكر الأقوال في الفقه و المصنف الذي يذكر حجج الناس ليذكر ما ذكروه و أن كان كثير من ذلك لا يعتقد صحته بل يعتقد ضعفه لأنه يقول أنا نقلت ما ذكر غيري فالعهدة على القائل لا على الناقل و هكذا كثير ممن صنف في فضائل العبادات و فضائل الأوقات و غير
7
39
ذلك يذكرون أحاديث كثيرة و هي ضعيفة بل موضوعة باتفاق أهل العلم كما يذكرون أحاديث في فضل صوم رجب كلها ضعيفة بل موضوعة عند أهل العلم و يذكرون صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة منه و ألفية نصف شعبان و كما يذكرون في فضائل عاشوراء ما ورد من التوسعة على العيال و فضائل المصافحة و الحناء و الخضاب و الاغتسال و نحو ذلك و يذكرون فيها صلاة و كل هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يصح في عاشوراء إلا فضل صيامه قال حرب الكرماني قلت لأحمد بن حنبل الحديث الذي يروى من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته فقال لا اصل له وقد صنف في فضائل الصحابة علي و غيره غير واحد مثل خيثمة بن سليمان إلاطرابلسي و غيره و هذا قبل أبي نعيم يروي عنه إجازة و هذا و أمثاله جروا على العادة المعروفة لأمثالهم ممن يصنف في الأبواب أنه يروي ما سمعه في هذا الباب
7
40(188/25)
و هكذا المصنفون في التواريخ مثل تاريخ دمشق لابن عساكر و غيره إذا ذكر ترجمة واحد من الخلفاء الأربعة أو غيره يذكر كل ما رواه في ذلك الباب فيذكر لعلي و معاوية من الأحاديث المروية في فضلهما ما يعرف أهل العلم بالحديث أنه كذب و لكن لعلي من الفضائل الثابتة في الصحيحين و غيرهما و معاوية ليست له بخصوصه فضيلة في الصحيح لكن قد شهد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حنينا و الطائف و تبوك و حج معه حجة الوداع و كان يكتب الوحي فهو ممن ائتمنه النبي صلى الله عليه و سلم على كتابة الوحي كما ائتمن غيره من الصحابة فإذا كان المخالف يقبل كل ما رواه هؤلاء و أمثالهم في كتبهم فقد رووا أشياء كثيرة تناقض مذهبهم و أن كان يرد الجميع بطل احتجاجه بمجرد عزوه الحديث بدون المذهب إليهم و أن قال أقبل ما يوافق مذهبي وارد ما يخالفه أمكن منازعه أن يقول له مثل هذا و كلاهما باطل لا يجوز أن يحتج على صحة مذهب بمثل هذا فأنه يقال أن كنت أنما عرفت صحة هذا الحديث بدون المذهب فاذكر ما يدل على صحته و أن كنت إنما عرفت صحته لأنه يوافق المذهب امتنع تصحيح الحديث بالمذهب لأنه يكون حينئذ صحة المذهب موقوفة على صحة الحديث و صحة الحديث موقوفة على صحة المذهب فيلزم الدور الممتنع
7
41(188/26)
و أيضا فالمذهب أن كنت عرفت صحته بدون هذا الطريق لم يلزم صحة هذا الطريق فأن الإنسان قد يكذب على غيره قولا و أن كان ذلك القول حقا فكثير من الناس يروي عن النبي صلى الله عليه و سلم قولا هو حق في نفسه لكن لم يقله رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا يلزم من كون الشيء صدقا في نفسه أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم قاله و أن كنت أنما عرفت صحته بهذا الطريق امتنع أن تعرف صحة الطريق بصحته لإفضائه إلى الدور فثبت أنه على التقديرين لا يعلم صحة هذا الحديث لموافقته للمذهب سواء كان المذهب معلوم الصحة أو غير معلوم الصحه وأيضا فكل من له أدنى علم و أنصاف يعلم أن المنقولات فيها صدق و كذب و أن الناس كذبوا في المثالث و المناقب كما كذبوا في غير ذلك و كذبوا فيما يوافقه و يخالفه و نحن نعلم أنهم كذبوا في كثير مما رووه في فضائل أبى بكر وعمر وعثمان كما كذبوا في كثير مما رووه في فضائل علي و ليس في أهل الأهواء اكثر كذبا من الرافضة بخلاف غيرهم فأن الخوارج لا يكادون يكذبون بل هم من اصدق الناس مع بدعتهم و ضلالهم
7
42(188/27)
و أما أهل العلم و الدين فلا يصدقون بالنقل و يكذبون به بمجرد موافقة ما يعتقدون بل قد ينقل الرجل أحاديث كثيرة فيها فضائل النبي صلى الله عليه و سلم و أمته و أصحابه فيردونها لعلمهم بأنها كذب و يقبلون أحاديث كثيرة لصحتها و أن كان ظاهرها بخلاف ما يعتقدونه أما لاعتقادهم أنها منسوخة أو لها تفسير لا يخالفونه و نحو ذلك فالأصل في النقل أن يرجع فيه إلى أئمة النقل و علمائه و من يشركهم في علمهم علم ما يعلمون و أن يستدل على الصحة و الضعف بدليل منفصل عن الرواية فلا بد من هذا و هذا و إلا فمجرد قول القائل رواه فلان لا يحتج به لا أهل السنة و لا الشيعة و ليس في المسلمين من يحتج بكل حديث رواه كل مصنف فكل حديث يحتج به نطالبه من أول مقام بصحته و مجرد عزوه إلى رواية الثعلبي و نحوه ليس دليلا على صحته باتفاق أهل العلم بالنقل و لهذا لم يروه أحد من علماء الحديث في شيء من كتبهم التي ترجع الناس إليها في الحديث لا في الصحاح ولا في السنن و لا المسانير و لاغير ذلك لان كذب مثل هذا لا يخفى على من له أدنى معرفة بالحديث وإنما هذا عند اهل العلم بمنزلة ظن من يظن من العامة و بعض من يدخل في غمار الفقهاء أن النبي صلى الله عليه و سلم كان على أحد المذاهب الأربعة و أن أبا حنيفة و نحوه كانوا من قبل النبي صلى الله عليه و سلم
7
43(188/28)
أو كما يظن طائفة من التركمان أن حمزة له مغاز عظيمة و ينقلونها بينهم و العلماء متفقون على انه لم يشهد إلا بدرا و أحدا قتل يوم أحد و مثل ما يظن كثير من الناس أن في مقابر دمشق من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم أم سلمة و غيرها و من أصحابه أبي بن كعب و أويس القرني و غيرهما وأهل العلم يعلمون أن أحدا من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم لم يقدم دمشق و لكن كان في الشام أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصاري و كان أهل الشام يسمونها أم سلمة فظن الجهال أنها أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم و أبي بن كعب مات بالمدينة و أويس تابعي لم يقدم الشام ومثل من يظن من الجهال أن قبر علي بباطن النجف و أهل العلم بالكوفة و غيرها يعلمون بطلان هذا و يعلمون أن عليا و معاوية و عمرو بن العاص كل منهم دفن في قصر الإمارة ببلده خوفا عليه من الخوارج أن ينبشوه فانهم كانوا تحالفوا على قتل الثلاثة فقتلوا عليا و جرحوا معاوية و كان عمرو بن العاص قد استخلف رجلا يقال له خارجة فضربه القاتل يظنه عمرا فقتله فتبين انه خارجة فقال أردت عمرا و أراد الله خارجة فصار مثلا و مثل هذا كثير مما يظنه كثير من الجهال و أهل العلم بالمنقولات يعلمون خلاف ذلك
7
44(188/29)
الوجه الثاني أن نقول في نفس هذا الحديث ما يدل على انه كذب من وجوه كثيرة فان فيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما كان بغدير يدعى خما نادى الناس فاجتمعوا فاخذ بيدي علي و قال من كنت مولاه فعلي مولاه و أن هذا قد شاع و طار في بالبلاد و بلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري و انه أتى النبي صلى الله عليه و سلم على ناقته و هو في الأبطح و أتى و هو في ملا من الصحابه فذكر انهم امتثلوا أمره بالشهادتين و الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج ثم قال ألم ترضى بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضله علينا و قلت من كنت مولاه فعلي مولاه و هذا منك أم من الله فقال النبي صلى الله عليه و سلم هو من أمر الله فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته و هو يقول اللهم أن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فما و صل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته و خرج من دبره فقتله و انزل الله سال سائل بعذاب واقع للكافرين الآيه فيقال لهؤلاء الكذابين اجمع الناس كلهم على أن ما قاله النبي صلى الله عليه و سلم بغدير خم كان مرجعه من حجة الوداع و الشيعة تسلم هذا و تجعل ذلك اليوم عيدا و هو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة و النبي صلى الله عليه و سلم لم يرجع إلى مكة بعد ذلك بل رجع من حجة الوداع إلى المدينة و عاش تمام ذي الحجة و المحرم و صفر و توفي في أول ربيع الأول
7
45(188/30)
و في هذا الحديث يذكر انه بعد أن قال هذا بغدير خم و شاع في البلاد جاءه الحارث و هو بالأبطح و الأبطح بمكة فهذا كذب جاهل لم يعلم متى كانت قصة غدير خم و أيضا فان هذه السورة سورة سأل سائل مكية باتفاق أهلا العلم نزلت بمكة قبل الهجرة فهذه نزلت قبل غدير خم قبل بعشر سنين أو اكثر من ذلك فكيف تكون نزلت بعده و أيضا قوله و غذ قالوا اللهم أن كان هذا هو الحق من عندك في سورة الأنفال و قد نزلت عقيب بدر بالاتفاق قبل غدير خم بسنين كثيرة و أهل التفسير متفقون على أنها نزلت بسبب ما قاله المشركون للنبي صلى الله عليه و سلم قبل الهجرة كأبي جهل و أمثاله و أن الله ذكر نبيه بما كانوا يقولونه بقوله و إذ قالوا الله أن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أي اذكر قولهم كقوله و إذ قال ربك للملائكة و إذ غدوت من أهلك و نحو ذلك يأمره بان يذكر كل ما تقدم فدل على أن هذا القول كان قبل نزول هذه السورة و أيضا فانهم لما استفتحوا بين الله انه لا ينزل عليهم العذاب محمد صلى الله عليه و سلم فيهم فقال و إذ قالوا اللهم أن كان هذا هو الحق
7
46(188/31)
من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ثم قال الله تعالى و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون و اتفق الناس على أن أهل مكة لم تنزل عليهم حجارة من السماء لما قالوا ذلك فلو كان هذا آية لكان من جنس آية أصحاب الفيل و مثل هذا مما تتوفر الهمم و الدواعي على نقله و لو أن الناقل طائفة من أهل العلم فلما كان هذا لا يرويه أحد من المصنفين في العلم لا المسند و لا الصحيح و لا الفضائل و لا التفسير و لا السير و نحوها إلا ما يروى بمثل هذا الإسناد المنكر علم انه كذب و باطل و أيضا فقد ذكر في هذا الحديث أن هذا القائل أمر بمباني الإسلام الخمس و على هذا فقد كان مسلما فانه قال فقبلناه منك و من المعلوم بالضرورة أن أحدا من المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه و سلم لم يصبه هذا و أيضا فهذا الرجل لا يعرف في الصحابة بل هو من جنس الأسماء التي يذكرها الطرقية من جنس الأحاديث التي في سيرة عنترة و دلهمة و قد صنف الناس كتبا كثيرة في أسماء الصحابة الذين ذكروا في شيء من الحديث حتى في الأحاديث الضعيفة مثل كتاب الاستيعاب لابن
7
47(188/32)
عبد البر و كتاب ابن منده و أبي نعيم الأصبهاني و الحافظ أبي موسى و نحو ذلك و لم يذكر أحد منهم هذا الرجل فعلم انه ليس له ذكر في شيء من الروايات فان هؤلاء لا يذكرون إلا ما رواه أهل العلم لا يذكرون أحاديث الطرقية مثل تنقلات الأنوار للبكري الكذاب و غيره الوجه الثالث أن يقال أنتم ادعيتم أنكم إثبتم بالقرآن و القران ليس في ظاهره ما يدل على ذلك أصلا فانه قال بلغ ما انزل إليك من ربك و هذا اللفظ عام في جميع ما انزل إليه من ربه لا يدل على شيء معين فدعوى المدعى أن إمامة علي هي مما بلغها أو مما أمر بتبليغها لا تثبت بمجرد القران فان القران ليس فيه دلالة على شيء معين فان ثبت ذلك بالنقل كان ذلك إثباتا بالخبر لا بالقران فمن ادعى أن القران يدل على أن إمارة علي مما أمر بتبليغه فقد افترى على القران فالقران لا يدل على ذلك عموما و لا خصوصا الوجه الرابع أن يقال هذه الآية مع ما علم من أحوال النبي صلى الله عليه و سلم تدل على نقيض ما ذكروه و هو أن الله لم ينزلها عليه و لم يأمره بها فأنها لو كانت مما أمره الله بتبليغه لبلغه فانه لا يعصي الله في ذلك
7
48(188/33)
و لهذا قالت عائشة رضي الله عنها من زعم أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد كذب و الله تعالى يقول يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك و أن لم تفعل فما بلغت رسالته لكن أهل العلم يعلمون بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يبلغ شيئا من إمامة علي و لهم على هذا طرق كثيرة يثبتون بها هذا العلم منها أن هذا مما تتوفر الهمم و الدواعي على نقله فلو كان له أصل لنقل كما نقل أمثاله من حديثه لا سيما مع كثرة ما ينقل من فضائل علي من الكذب الذي لا أصل له فكيف لا ينقل الحق الصدق الذي قد بلغ للناس ولان النبي صلى الله عليه و سلم أمر أمته بتبليغ ما سمعوا منه فلا يجوز عليهم كتمان ما أمرهم الله بتبليغه و منها أن النبي صلى الله عليه و سلم لما مات و طلب بعض الأنصار ان يكون منهم أمير و من المهاجرين أمير فأنكر ذلك عليه و قالوا الإمارة لا تكون إلا في قريش و روى الصحابة في مواطن متفرقة الأحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم في أن الأمامه في قريش
7
49
و لم يرو واحد منهم لا في ذلك المجلس و لا غيره ما يدل على إمامة علي و بايع المسلمون أبا بكر و كان اكثر بني عبد مناف من بني أمية و بني هاشم و غيرهم لهم ميل قوي إلى علي بن أبي طالب يختارون ولايته و لم يذكر أحد منهم هذا النص و هكذا اجري الأمر في عهد عمر و عثمان و في عهده أيضا لما صارت له ولآية و لم يذكر هو ولا أحد من أهل بيته و لا من الصحابة المعروفين هذا النص و إنما ظهر هذا النص بعد ذلك و أهل العلم بالحديث و السنة الذين يتولون عليا و يحبونه و يقولون انه كان الخليفة بعد عثمان كأحمد بن حنبل و غيره من الأئمة قد نازعهم في ذلك طوائف من أهل العلم و غيرهم و قالوا كان زمانه زمان فتنة و اختلاف بين الأمة لم تتفق الأمة فيه لا عليه و لا على غيره
7
50(188/34)
و قال طوائف من الناس كالكرامية بل هو كان إماما و معاوية إماما و جوزوا أن يكون للناس إمامان للحاجة و هكذا قالوا في زمن ابن الزبير و يزيد حيث لم يجدوا الناس اتفقوا على إمام وأحمد بن حنبل مع انه اعلم أهل زمانه بالحديث احتج على إمامة علي بالحديث الذي في السنن تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة ثم تصير ملكا و بعض الناس ضعف هذا الحديث لكن أحمد و غيره يثبتونه فهذا عمدتهم من النصوص على خلافة علي فلو ظفروا بحديث مسند أو مرسل موافق لهذا لفرحوا به فعلم أن ما تدعيه الرافضة من النص هو مما لم يسمعه أحد من أهل العلم بأقوال الرسول صلى الله عليه و سلم لا قديما و لا حديثا و لهذا كان أهل العلم بالحدث يعلمون بالضرورة كذب هذا النقل كما ليعلمون كذب غيره من المنقولات المكذوبة و قد جرى تحكيم الحكمين و معه اكثر الناس فلم يكن في المسلمين من أصحابه و لا غيرهم من ذكر هذا النص مع كثرة شيعته ولا فيهم من احتج به في مثل هذا المقام الذي تتوفر فيه الهمم و الدواعي على إظهار مثل هذا النص ومعلوم انه لو كان النص معروفا عند شيعة علي فضلا عن غيرهم لكانت العادة المعروفة تقتضي أن يقول أحدهم هذا نص رسول الله صلى الله عليه و سلم على خلافته فيجب تقديمه على معاوية و أبو موسى نفسه كان من خيار المسلمين لو علم أن النبي صلى الله
7
51(188/35)
عليه وسلم نص عليه لم يستحل عزله و لو عزله لكان من أنكر عزله عليه يقول كيف تعزل من نص النبي صلى الله عليه و سلم على خلافته و قد احتجوا بقوله صلى الله عليه و سلم تقتل عمارا الفئة الباغية و هذا الحديث خبر وأحد أو اثنين أو ثلاثة و نحوهم و ليس هذا متواترا و النص عند القائلين به متواتر فيا لله العجب كيف ساغ عند الناس احتجاج شيعة علي بذلك الحديث و لم يحتج أحد منهم بالنص فصل قال الرافضي البرهان الثالث قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا روى أبو نعيم بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم دعا الناس إلى غدير خم و أمر بإزالة ما تحت الشجر من الشوك فقام فدعا
7
52
عليا فاخذ بضبعيه فرفعهما حتى نظر الناس إلى بياض إبطي رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم لم يتفرقوا حتى نزلت هذه الآية اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم الله اكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة و رضا الرب برسالتي و بالولاية لعلي من بعدي ثم قال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله و الجواب من وجوه أحدها أن المستدل عليه بيان صحة الحديث و مجرد عزوه إلى رواية أبي نعيم لا تفيد الصحة باتفاق الناس علماء السنة و الشيعة فان أبا نعيم روى كثيرا من الأحاديث التي هي ضعيفة بل موضوعة باتفاق علماء أهل الحديث السنة و الشيعة و هو وأن كان حافظا كثير الحديث واسع الرواية لكن روى كما عادة المحدثين أمثاله يروون جميع ما في الباب لأجل المعرفة بذلك و أن كان لا يحتج من ذلك إلا ببعضه و الناس في مصنفاتهم منهم من لا يروي عمن يعلم انه يكذب مثل مالك و شعبة و يحيى بن سعيد و عبد الرحمن بن مهدي و أحمد بن حنبل فان هؤلاء لا يروون عن شخص ليس بثقة عندهم
7
53(188/36)
و لا يروون حديثا يعلمون انه عن كذاب فلا يروون أحاديث الكذابين الذين يعرفون بتعمد الكذب لكن قد يتفق فيما يروونه ما يكون صاحبه أخطأ فيه و قد يروي الإمام أحمد و اسحاق و غيرهما أحاديث تكون ضعيفة عندهم لاتهام رواتها بسوء الحفظ و نحو ذلك ليعتبر بها و يستشهد بها فانه قد يكون لذلك الحديث ما يشهد له انه محفوظ و قد يكون له ما يشهد بأنه خطا و قد يكون صاحبها كذبها في الباطن ليس مشهورا بالكذب بل يروى كثيرا من الصدق فيروى حديثه و ليس كل ما رواه الفاسق يكون كذبا بل يجب التبين من خبره كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا فيروى لتنظر سائر الشواهد هل تدل على الصدق أو الكذب و كثير من المصنفين يعز عليه تمييز ذلك على وجهه بل يعجز عن ذلك فيروي ما سمعه كما سمعه و الدرك على غيره لا عليه و أهل العلم ينظرون في ذلك و في رجاله و إسناده الوجه الثاني أن هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالموضوعات و هذا يعرفه أهل العلم بالحديث و المرجع إليهم في ذلك و لذلك لا يوجد هذا في شيء من كتب الحديث التي يرجع إليها أهل العلم بالحديث
7
54(188/37)
الوجه الثالث انه قد ثبت في الصحاح و المساند و التفسير أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه و سلم و هو واقف بعرفة و قال رجل من اليهود لعمر بن الخطاب يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا فقال له عمر و أي آية هي قال قوله اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا فقال عمر أني لأعلم أي يوم نزلت و في أي مكان نزلت نزلت يوم عرفة بعرفة و رسول الله صلى الله عليه و سلم واقف بعرفة و هذا مستفيض من زيادة و وجوه أخر و هو منقول في كتب المسلمين الصحاح و المساند و الجوامع و السير و التفسير و غير ذلك وهذا اليوم كان قبل غدير خم بتسعة أيام فانه كان يوم الجمعة تاسع ذي الحجة فكيف يقال أنها نزلت يوم الغدير الوجه الرابع أن هذه الأيه ليس فيها دلالة على علي و لا إمامته بوجه
7
55(188/38)
من الوجوه بل فيها إخبار الله بإكمال الدين و إتمام النعمة على المؤمنين و رضا الإسلام دينا فدعوى المدعي أن القران يدل على إمامته من هذا الوجه كذب ظاهر و أن قال الحديث يدل على ذلك فيقال الحديث أن كان صحيحا فتكون الحجة من الحديث لا من الآية و أن لم يكن صحيحا فلا حجة في هذا و لا في هذا فعلى التقديرين لا دلالة في الآية على ذلك و هذا مما يبين به كذب الحديث فان نزول الأية لهذا السبب و ليس فيها ما يدل عليه أصلا تناقض الوجه الخامس أن هذا اللفظ و هو قوله اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله كذب باتفاق أهل المعروفة بالحديث و أما قوله من كنت مولاه فعلي مولاه فلهم فيه قولان و سنذكره فان شاء الله في موضعه الوجه السادس أن دعاء النبي صلى الله عليه و سلم مجاب و هذا الدعاء ليس بمجاب فعلم انه ليس من دعاء النبي صلى الله عليه و سلم فإنه من المعلوم انه لما تولى كان الصحابة و سائر المسلمين ثلاثة أصناف صنف قاتلوا معه و صنف قاتلوه و صنف قعدوا عن هذا و هذا و اكثر السابقين الأولين كانوا من القعود و قد قيل أن بعض السابقين الألين قاتلوه و ذكر ابن حزم أن عمار بن ياسر قتله أبو الغادية و أن أبا الغادية
7
56(188/39)
هذا من السابقين ممن بايع تحت الشجرة و أولئك جميعهم قد ثبت في الصحيحين انه لا يدخل النار منهم أحد ففي صحيح مسلم و غيره عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة و في الصحيح أن غلام حاطب بن ابي بلتعة قال يا رسول الله ليدخلن حاطب النار فقال كذبت انه شهد بدرا و الحديبية و حاطب هذا هو الذي كاتب المشركين بخبر النبي صلى الله عليه و سلم و بسبب ذلك نزل يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة الأية و كان مسيئا إلى مماليكه و لهذا قال مملوكه هذا القول و كذبه النبي صلى الله عليه و سلم و قال انه شهد بدرا و الحديبية و في الصحيح لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة و هؤلاء فيهم ممن قاتل عليا كطلحة و الزبير و أن كان قاتل عمار فيهم فهو ابلغ من غيره وكان الذين بايعوه تحت الشجرة نحو ألف و أربعمائة و هم الذين فتح الله عليهم خيبر كما وعدهم الله بذلك في سورة الفتح و قسمها بينهم
7
57(188/40)
النبي صلى الله عليه و سلم على ثمانية عشر سهما لأنه كان فيهم مائتا فارس فقسم للفارس ثلاثة اسهم سهما له و سهمين لفرسه فصار لأهل الخيل ستمائة سهم و لغيرهم ألف و مائتا سهم هذا هو الذي ثبت في الأحاديث الصحيحة و عليه اكثر أهل العلم كمالك و الشافعي و أحمد و غيرهم و قد ذهب طائفة إلى أنه أسهم للفارس سهمين وأن الخيل كانت ثلاثمائة كما يقول ذلك من يقول من أصحاب أبي حنيفة وأما على فلا ريب أنه قاتل معه طائفة من السابقين لأولين كسهل بن حنيف و عمار بن ياسر لكن الذين لم يقاتلوا معه كانوا افضل فان سعد بن أبي وقاص لم يقاتل معه و لم يكن قد بقي من الصحابة بعد علي افضل منه و كذلك محمد بن مسلمة من الأنصار و قد جاء في الحديث أن الفتنة لا تضره فاعتزل و هذا مما استدل به على أن القتال كان قتال فتنة بتأويل لم يكن من الجهاد الواجب و لا المستحب وعلي و من معه أولى بالحق من معاوية و أصحابه كما ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال تمرق مارقة على خير فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق فدل هذا الحديث على أن عليا أولى بالحق ممن قاتله فانه هو الذي قتل الخوارج لما افترق المسلمون فكان قوم معه و قوم عليه ثم أن هؤلاء الذين قاتلوه لم يخذلوا بل ما زالوا
7
58(188/41)
منصورين يفتحون البلاد و يقتلون الكفار و في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم و لا من خذلهم حتى تقوم الساعة قال معاذ بن جبل و هم بالشام و في مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال لا يزال أهل الغرب ظاهرين حتى تقوم الساعة قال أحمد بن حنبل و غيره أهل الغرب هم أهل الشام و هذا كما ذكروه فان كل بلد له غرب و شرق والاعتبار في لفظ النبي صلى الله عليه و سلم بغرب مدينته و من الفرات هو غرب المدينة فالبيرة و نحوها على سمت المدينة كما أن حران و الرقة و سميساط و نحوها على سمت مكة و لهذا يقال أن قبلة هؤلاء اعدل القبل بمعنى انك تجعل القطب الشمالي خلف ظهرك فتكون مستقبل الكعبة فما كان غربي الفرات فهو غربي المدينة إلى آخر الأرض و أهل الشام أول هؤلاء
7
59
و العسكر الذين قاتلوا مع معاوية ما خذلوا قط بل و لا في قتال علي فكيف يكون النبي صلى الله عليه و سلم قال اللهم اخذل من خذله و انصر من نصره و الذين قاتلوا معه لم ينصروا على هؤلاء بل الشيعة الذين تزعمون انهم مختصون بعلي ما زالوا مخذولين مقهورين لا ينصرون إلا مع غيرهم أما مسلمين وإما كفار و هم يدعون انهم أنصاره فأين نصر الله لمن نصره و هذا و غيره مما يبين كذب هذا الحديث فصل قال الرافضي البرهان الرابع قوله تعالى و النجم إذا هوى ما ضل صاحبكم و ما غوى روى الفقيه علي بن المغازلي الشافعي بإسناده عن ابن عباس قال كنت جالسا مع فتية من بني هاشم عند النبي صلى الله عليه و سلم إذ انقض كوكب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم من انقض هذا النجم في منزله فهو الوصي من بعدي فقام فتية من بني هاشم فنظروا فإذا الكوكب قد انقض في منزل علي قالوا يا رسول الله قد غويت في حب علي فانزل الله تعالى
7
60(188/42)
والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم و ما غوى و الجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحته كما تقدم و ذلك أن القول بلا علم حرام بالنص و الإجماع قال تعالى و لا تقف ما ليس لك به علم وقال قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي بغير الحق و أن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا و أن تقولوا على الله ما لا تعلمون وقال ها انتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم و قال ومن الناس من يجادل في الله بغير علم و قال الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله و عند الذين آمنوا والسلطان الذي أتاهم هو الحجة الآتية من عند الله كما قال أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون و قال أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم أن كنتم صادقين و قال أن هي إلا أسماء سميتموها انتم و آباؤكم ما انزل الله بها من سلطان
7
61(188/43)
فما جاءت به الرسل عن الله فهو سلطان فالقرآن سلطان و السنة سلطان لكن لا يعرف أن النبي صلى الله عليه و سلم جاء به إلا بالنقل الصادق عن الله فكل من احتج بشيء منقول عن النبي صلى الله عليه و سلم فعليه أن يعلم صحته قبل أن يعتقد موجبه و يستدل به و إذا احتج به على غيره فعليه بيان صحته و إلا كان قائلا بلا علم مستدلا بلا علم و إذا علم أن في الكتب المصنفة في الفضائل ما هو كذب صار الاعتماد على مجرد ما فيها مثل الاستدلال بشهادة الفاسق الذي يصدق تارة و يكذب أخرى بل لو لم يعلم أن فيها كذبا لم يفدنا علما حتى نعلم ثقة من رواها و بيننا و بين الرسول مئون من السنين و نحن نعلم بالضرورة أن فيما ينقل الناس عنه و عن غيره صدقا و كذبا و قد روى عنه انه قال سيكذب علي فان كان هذا الحديث صدقا فلا بد أن يكذب عليه و أن كان كذبا فقد كذب عليه و أن كان كذلك لم يجز لأحد أن يحتج في مسالة فرعية بحديث حتى يبين ما به يثبت فكيف يحتج في مسائل الأصول التي يقدح فيها خيار القرون و جماهير المسلمين و سادات أولياء الله المقربين بحيث لا يعلم المحتج به صدقه
7
62(188/44)
و هو لو قيل له أتعلم أن هذا واقع فان قال اعلم ذلك فقد كذب فمن أين يعلم و قوعه و يقال له من أين علمت صدق ذلك و ذلك مما لا يعرف إلا بالإسناد و معرفة أحوال الرواة و أنت لا تعرفه و لو انك عرفته لعرفت أن هذا كذب و أن قال لا اعلم ذلك فكيف يسوغ لك الاحتجاج بما لا تعلم صحته الثاني أن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالحديث و هذا المغازلي ليس من أهل الحديث كابي نعيم و أمثاله و لا هو أيضا من جامعي العلم الذين يذكرون ما غالبه حق و بعضه باطل كالثعلبي و أمثاله بل هذا لم يكن الحديث من صنعته فعمد إلى ما وجده من كتب الناس من فضائل علي فجمعها كما فعل اخطب خوار زم و كلاهما لا يعرف الحديث و كل منهما يروي فيما جمعه من الأكاذيب الموضوعة ما لا يخفى انه كذب على اقل علماء النقل و الحديث و لسنا نعلم أن أحدهما يتعمد الكذب فيما ينقله لكن الذي
7
63
تيقناه أن الأحاديث التي يروونها فيها ما هو كذب كثير باتفاق أهل العلم و ما قد كذبه الناس قبلهم و هما و أمثالهما قد يروون ذلك و لا يعلمون أنه كذب و قد يعلمون أنه كذب فلا ادري هل كانا من أهل العلم بان هذا كذب أو كانا مما لا يعلمان ذلك و هذا الحديث ذكره الشيخ أبو الفرج في الموضوعات لكن بسياق آخر من حديث محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال لما عرج بالنبي صلى الله عليه و سلم إلى السماء السابعة و أراه الله من العجائب في كل سماء فلما اصبح جعل يحدث الناس عن عجائب ربه فكذبه من أهل مكة من كذبه و صدقه من صدقه فعند ذلك انقض نجم من السماء فقال النبي صلى الله عليه و سلم في دار من و قع هذا النجم فهو خليفتي من بعدي فطلبوا ذلك النجم فوجدوه في دار علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال أهل مكة
7
64(188/45)
ضل محمد و غوى و هوى أهل بيته و مال إلى ابن عمه على بن أبي طالب رضي الله عنه فعند ذلك نزلت هذه السورة و النجم إذا هوى ما ضل صاحبكم و ما غوى قال أبو الفرج هذا حديث موضوع لا شك فيه و ما ابرد الذي وضعه و ما ابعد ما ذكر و في إسناده ظلمات منها أبو صالح و كذلك الكلبي و محمد بن مروان السدي و المتهم به الكلبي قال أبو حاتم بن حبان كان الكلبي من الذين يقولون أن عليا لم يمت و أنه يرجع إلى الدنيا و أن راو سحابة قالوا أمير المؤمنين فيها لا يحل الاحتجاج به قال و العجب من تغفيل من وضع هذا الحديث كيف رتب ما لا يصح في المعقول من أن النجم يقع في دار و يثبت إلى أن يرى و من بلهه أنه وضع هذا الحديث على ابن عباس و كان ابن عباس زمن المعراج ابن سنتين فكيف يشهد تلك الحالة و يرويها
7
65
قلت إذا لم يكن هذا الحديث في تفسير الكلبي المعروف عنه فهو مما وضع بعده و هذا هو الأقرب قال أبو الفرج و قد سرق هذا الحديث بعينه قوم و غيروا إسناده و رووه بإسناد غريب من طريق أبي بكر العطار عن سليمان بن احمد المصري و من طريق أبي قضاعة ربيعة بن محمد حدثنا ثوبان بن إبراهيم حدثنا مالك بن غسان النهشلي عن انس قال انقض كوكب على عهد النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم انظروا ألي هذا الكوكب فمن انقض في داره فهو خليفة من بعدي قال فنظرنا فإذا هو قد انقض في منزل علي فقال جماعة قد غوى محمد في حب علي فانزل الله تعالى و النجم إذا هوى ما ضل صاحبكم و ما غوى
7
66(188/46)
قال أبو الفرج و هذا الحديث هو المتقدم سرقه بعض هؤلاء الرواة فغير إسناده و من تغفيله وضعه إياه على انس فان أنسا لم يكن بمكة زمن المعراج و لا حين نزول هذه السورة لأن المعراج كان قبل الهجرة بسنة و انس أنما عرف رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة و في هذا الإسناد ظلمات أما مالك النهشلي فقال ابن حبان يأتي عن الثقات بما لا يشبه حديث الإثبات وأما ثوبان فهو أخو ذي النون المصري ضعيف في الحديث و أبو قضاعة منكر الحديث متروكه و أبو بكر العطار و سليمان بن أحمد مجهولان الوجه الثالث أنه مما يبين أنه كذب أن فيه ابن عباس شهد نزول سورة النجم حين انقض الكوكب في منزل علي و سورة النجم باتفاق الناس من أول ما نزل بمكة و بن عباس حين مات النبي صلى الله عليه و سلم كان مراهقا للبلوغ لم يحتلم بعد هكذا ثبت عنه في الصحيحين فعند نزول هذه إلآيه أما أن ابن عباس لم يكن ولد بعد و أما أنه كان طفلا لا يميز فان النبي صلى الله عليه و سلم لما هاجر كان لابن عباس نحو خمس سنين و الأقرب أنه لم يكن ولد عند نزول سورة النجم فإنها من أوائل ما نزل من القران
7
67(188/47)
الوجه الرابع أنه لم ينقض قط كوكب إلى الأرض بمكة و لا بالمدينة و لا غيرهما و لما بعث النبي صلى الله عليه و سلم كثر الرمي بالشهب و مع هذا فلم ينزل كوكب إلى الأرض و هذا ليس من الخوارق التي تعرف في العالم بل هو من الخوارق التي لا يعرف مثلها في العالم و لا يروي مثل هذا ألا من هو من اوقح الناس و أجرئهم على الكذب و اقلهم حياء و دينا و لا يروج ألا على من هو من اجهل الناس و أحمقهم و اقلهم معرفة و علما الوجه الخامس أن نزول سورة النجم كان قي أول الإسلام و علي إذ ذاك كان صغيرا و الأظهر أنه لم يكن احتلم و لا تزوج بفاطمة و لا شرع بعد فرائض الصلاة أربعا و ثلاثا و اثنين و لا فرائض الزكاة و لا حج البيت و لا صوم رمضان و لا عأمةقواعد الإسلام و أمر الوصية بالإمأمة لو كان حقا أنما يكون في آخر الأمر كما ادعوه يوم غدير خم فكيف يكون قد نزل في ذلك الوقت الوجه السادس أن أهل العلم بالتفسير متفقون على خلاف هذا و أن النجم المقسم به أما نجوم السماء و أما نجوم القران و نحو ذلك و لم يقل أحد أنه كوكب نزل في دار أحد بمكة الوجه السابع أن من قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم غويت
7
68(188/48)
فهو كافر و الكفار لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم يأمرهم بالفروع قبل الشهادتين و الدخول في الإسلام الوجه الثامن أن هذا النجم أن كان صاعقة فليس نزول الصاعقة في بيت شخص كرأمةله و أن كان من نجوم السماء فهذه لا تفارق الفلك و أن كان من الشهب فهذه يرمى بها رجوما للشياطين و هي لا تنزل إلى الأرض و لو قدر أن الشيطان الذي رمي بها وصل إلى بيت علي حتى احترق بها فليس هذا كرأمةله مع أن هذا لم يقع قط فصل قال الرافضي البرهان الخامس قوله تعالى أنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا فروى احمد بن حنبل في مسنده عن واثلة بن الاسقع قال طلبت عليا في منزله فقالت فاطمة رضي الله عنها ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فجاءا جميعا فدخلا و دخلت معهما فاجلس عليا عن يساره و فاطمة عن يمينه و الحسن و الحسين بين يديه ثم التفع عليهم بثوبه
7
69
و قال أنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا اللهم أن هؤلاء أهلي حقا و عن أم سلمة قالت أن النبي صلى الله عليه و سلم كان في بيتها فاتته فاطمة رضي الله عنها ببرمة فيها حريرة فدخلت بها عليه فقال ادعي زوجك و ابنيك قالت فجاء علي و الحسن و الحسين فدخلوا و جلسوا يأكلون من تلك الحريرة و هو و هم على منام له علي و كان تحته كساء خيبري قالت و أنا في الحجرة أصلي فانزل الله تعالى هذه الآية أنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا قالت فاخذ فضل الكساء و كساهم به ثم اخذ يده فألوى بها إلى السماء و قال هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس
7
70(188/49)
و طهرهم تطهيرا و كرر ذلك قالت فأدخلت رأسي و قلت و أنا معهم يا رسول الله قال انك إلى خير وفي هذه الآية دلالة على العصمة مع التأكيد بلفظه أنما و إدخال اللام في الخبر و الاختصاص في الخطاب بقوله أهل البيت والتكرير بقوله ويطهركم والتأكيد بقوله تطهيرا و غيرهم ليس بمعصوم فتكون الإمأمةفي علي و لأنه ادعاها في عدة من أقواله كقوله و الله لقد تقمصها ابن أبي قحافة و هو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى و قد ثبت نفي الرجس عنه فيكون صادقا فيكون هو الإمام و الجواب أن هذا الحديث صحيح في الجملة فانه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لعلي و فاطمة و حسن و حسين اللهم أن هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا
7
71
و روى ذلك مسلم عن عائشة قالت خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم غداة و عليه مرط مرحل من شعر اسود فجاء الحسن بن علي فادخله معه ثم جاءت فاطمة فادخلها معه ثم جاء علي فادخله ثم قال ثم لاجاء الحسين فأدخله معه أنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا و هو مشهور من رواية أم سلمة من رواية احمد و الترمذي لكن ليس في هذا دلالة على عصمتهم و لا إمامتهم و تحقيق ذلك في مقامين أحدهما أن قوله أنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا كقوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج و كقوله يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر و كقوله يريد الله ليبن لكم و يهديكم سنن الذين من قبلكم و يتوب عليكم و الله عليم حكيم و الله يريد أن يتوب عليكم و يريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما فان أرادة الله في هذه الآيات متضمنة المحبة الله لذلك المراد و رضاه به و أنه شرعه للمؤمنين و أمرهم به ليس في ذلك أنه خلق ذلك المراد و لا أنه قضاه و قدره و لا أنه يكون لا محالة والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم بعد نزول هذه الآية
7
72(188/50)
قال اللهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا فطلب من الله لهم إذهاب الرجس و التطهير فلو كانت الآية تتضمن إخبار الله بأنه قد اذهب عنهم الرجس و طهرهم لم يحتج إلى الطلب و الدعاء وهذا على قول القدرية أظهر فان أرادة الله عندهم لا تتضمن وجود المراد بل قد يريد ما لا يكون و يكون ما لا يريد فليس في كونه تعالى مريدا لذلك ما يدل على وقوعه و هذا الرافضي و أمثاله قدرية فكيف يحتجون بقوله أنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت على وقوع المراد و عندهم أن الله قد أراد إيمان من على وجه الأرض فلم يقع مراده و أما على قول أهل الإثبات فالتحقيق في ذلك أن الأرادة في كتاب الله نوعان أرادة شرعية دينية تتضمن محبته و رضاه و أرادة كونية قدرية تتضمن خلقه و تقديره الأولى مثل هؤلاء الآيات و الثانية مثل قوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح زيارده صدره للإسلام و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء و قول نوح و لا ينفعكم نصحي أن أردت أن انصح لكم أن كان الله يريد أن يغويكم
7
73(188/51)
و كثير من المثبة و القدرية يجعل الأرادة نوعا واحدا كما يجعلون الأرادة و المحبة شيئا واحدا ثم القدرية ينفون أرادته لما بين أنه مراد في آيات التقدير وأولئك ينفون إرادته لما بين أنه مراد في آيات التشريع فان عندهم كل ما قيل أنه مراد فلا بدان يكون كائنا و الله قد اخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين و أن يطهرهم و فيهم من تاب و فيهم من لم يتب و فيهم من تطهر و فيهم من لم يتطهر و إذا كانت الآية دالة على وقوع ما أراده من التطهير و إذهاب الرجس لم يلزم بمجرد الآية ثبوت ما ادعاه و مما يبين ذلك أن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم مذكورات في الآية و الكلام في الأمر بالتطهير بإيجابه و وعد الثواب على فعله و العقاب على تركه قال تعالى يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين و كان ذلك على الله يسيرا و من يقنت منكن لله و رسوله و تعمل صالحا نؤتها اجرها مرتين و اعتدنا لها رزقا كريما يا نساء النبي لستن كأحد من النساء أن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض إلى قوله و اطعن الله و رسوله أنما يريد الله
7
74(188/52)
ليذهب الرجس عنكم أهل البيت و يطهركم تطهيرا فالخطاب كله لأزواج النبي صلى الله عليه و سلم و معهن الأمر و النهي و الوعد والوعيد لكن لما تبين ما في هذا من المنفعة التي تعمهن و تعم غيرهن من أهل البيت جاء التطهير بهذا الخطاب و غيره و ليس مختصا بأزواجه بل هو متناول لأهل البيت كلهم و علي و فاطمة و الحسن و الحسين أخص من غيرهم بذلك و لذلك خصهم النبي صلى الله عليه و سلم بالدعاء لهم و هذا كما أن قوله لمسجد أسس على التقوى من أول يوم نزلت بسبب مسجد قباء لكن الحكم يتناوله و يتناول ما هو أحق منه بذلك و هو مسجد المدينة وهذا يوجه ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال هو مسجدي هذا و ثبت عنه في الصحيح أنه كان يأتي قباء كل سبت ماشيا و راكبا فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة و يأتي قباء يوم
7
75
السبت و كلاهما مؤسس على التقوى و هكذا أزواجه و علي و فاطمة و الحسن و الحسين كلهم من أهل البيت لكن عليا و فاطمة و الحسن و الحسين أخص بذلك من أزواجه و لهذا خصهم بالدعاء و قد تنازع الناس في آل محمد من هم فقيل هم أمته و هذا قول طائفة من أصحاب مالك و احمد و غيرهم و قيل المتقون من أمته و رووا حديثا آل محمد كل مؤمن تقي رواه الخلال و تمام في الفوائد له و قد احتج به طائفة من أصحاب احمد و غيرهم و هو حديث موضوع و بنى على ذلك طائفة من الصوفية أن آل محمد هم خواص الأولياء كما ذكر الحكيم الترمذي والصحيح أن آل محمد هم أهل بيته و هذا هو المنقول عن الشافعي و احمد و هو اختيار الشريف أبي جعفر و غيرهم لكن هل أزواجه من أهل
7
76(188/53)
بيته على قولين هما روايتان عن احمد أحدهما أنهن لسن من أهل البيت و يروى هذا عن زيد بن أرقم و الثاني هو الصحيح أن أزواجه من آله فانه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه علمهم الصلاة عليه الله صل على محمد و أزواجه و ذريته و لأن أمرأة إبراهيم من آله و أهل بيته و أمرأة لوط من آله و أهل بيته بدلالة القران فكيف لا يكون أزواج محمد من آله و أهل بيته و لأن هذه الآية تدل على أنهن من أهل بيته و ألا لم يكن لذكر ذلك في الكلام معنى و أما الأتقياء من أمته فهم أولياؤه كما ثبت في الصحيح أنه قال أن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء و أنما وليي الله و صالح المؤمنين فبين أن أولياءه صالح المؤمنين و كذلك في حديث آخر أن أوليائي المتقون حيث كانوا و اين كانوا
7
77
و قد قال تعالى و أن تظاهرا عليه فان الله هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين و في الصحاح عنه أنه قال وددت أنى رأيت إخواني قالوا أولسنا إخوانك قال بل انتم أصحابي و إخواني قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي و لم يروني
7
78(188/54)
و إذا كان كذلك فأولياؤه المتقون بينه و بينهم قرابة الدين و الإيمان و التقوى و هذه القرابة الدينية أعظم من القرابة الطينية و القرب بين القلوب و الأرواح أعظم من القرب بين الأبدان و لهذا كان افضل الخلق أولياؤه المتقون و أما أقاربه ففيهم المؤمن و الكافر و البر و الفاجر فان كان فاضلا منهم كعلي رضي الله عنه و جعفر و الحسن و الحسين فتفضيلهم بما فيهم من الإيمان و التقوى و هم أولياؤه بهذا الاعتبار لا بمجرد النسب فأولياؤه أعظم درجة من آله و أن صلى على آله تبعا له لم يقتض ذلك أن يكونوا افضل من أوليائه الذين لم يصل عليهم فان الأنبياء و المرسلين هم من أوليائه و هم افضل من أهل بيته و أن لم يدخلوا في الصلاة معه تبعا فالمفضول قد يختص بأمر و لا يلزم أن يكون افضل من الفاضل و دليل ذلك أن أزواجه هم ممن يصلي عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين فقد ثبت باتفاق الناس كلهم أن الأنبياء افضل منهن كلهن
7
79(188/55)
فان قيل فهب أن القران لا يدل على وقوع ما أريد من التطهير و إذهاب الرجس لكن دعاء النبي صلى الله عليه و سلم لهم بذلك يدل على وقوعه فان دعاءه مستجاب قيل المقصود ان القرآن لا يدل ما ادعاه من ثبوت الطهارة و إذهاب الرجس فضلا عن ان يدل على العصمة و الإمأمة و أما الاستدلال بالحديث فذاك مقام آخر ثم نقول في المقام الثاني هب أن القران دل على طهارتهم و إذهاب الرجس عنهم كما أن الدعاء المستجاب لا بد أن يتحقق معه طهارة المدعو لهم و إذهاب الرجس عنهم لكن ليس في ذلك ما يدل على العصمة من الخطأ و الدليل عليه أن الله لم يرد بما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه و سلم أن لا يصدر من واحدة منهن خطأ فأن الخطأ مغفور لهن و لغيرهن و سياق الآية يقتضي أنه يريد ليذهب عنهم الرجس الذي هو الخبث كالفواحش و يطهرهم تطهيرا من الفواحش و غيرها من الذنوب و التطهير من الذنب على وجهين كما في قوله و ثيابك فطهر و قوله إنهم أناس يتطهرون فإنه قال
7
80
فيها من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين و التطهير عن الذنب أما بأن لا يفعله العبد و أما بأن يتوب منه كما في قوله خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها لكن ما أمر الله به من الطهارة ابتداء و أرادة فإنه يتضمن نهيه عن الفاحشة لا يتضمن الإذن فيها بحال لكن هو سبحانه ينهى عنها و يأمر من فعلها بأن يتوب منها و في الصحيح عن النبي انه كان يقول اللهم باعد بيني و بين خطاياي كما باعدت بين المشرق و المغرب و اغسلني بالثلج و البرد و الماء البارد اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس و في الصحيحين أنه قال لعائشة رضي الله عنها في قصة الإفك قبل أن يعلم النبي براءتها و كان قد ارتاب في أمرها فقال يا عائشة أن كنت بريئة فسيبرئك الله و أن كنت الممت بذنب
7
81(188/56)
فاستغفري الله وتوبي إليه فان العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب الله عليه و بالجملة لفظ الرجس أصله القذر و يراد به الشرك كقوله فاجتنبوا الرجس من الأوثان و يراد به الخبائث المحرمة كالمطعومات و المشروبات كقوله قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه ألا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسق و قوله أنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان و إذهاب ذلك إذهاب لكله و نحن نعلم أن الله اذهب عن أولئك السادة الشرك و الخبائث و لفظ الرجس عام يقتضي أن الله يريد أن يذهب جميع الرجس فإن النبي صلى الله عليه و سلم دعا بذلك و أما قوله و طهرهم تطهيرا فهو سؤال مطلق بما يسمى طهارة و بعض الناس يزعم أن هذا مطلق فيكتفي فيه بفرد من أفراد الطهارة و يقول مثل ذلك في قوله فاعتبروا يا أولى الأبصار و نحو ذلك و التحقيق أنه أمر بمسمى الاعتبار الذي يقال عند الإطلاق كما إذا قيل اكرم هذا أي افعل معه ما يسمى عند الإطلاق إكراما و كذلك
7
82(188/57)
ما يسمى عند الإطلاق اعتبارا و الإنسان لا يسمى معتبرا إذا اعتبر في قصة و ترك ذلك في نظيرها و كذلك لا يقال هو طاهر أو متطهرا أو مطهرا إذا كان متطهرا من شيء متنجسا بنظيره و لفظ الطاهر كلفظ الطيب قال تعالى و الطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات كما قال الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات و قد روى أنه قال لعمار ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيب و هذا أيضا كلفظ المتقي و لفظ المزكي قال تعالى قد افلح من زكاها و قد خاب من دساها و قال خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها و قال قد افلح من تزكى و قال و لولا فضل الله عليكم و رحمته ما زكى منكم من أحد و لكن الله يزكي من يشاء و ليس من شرط المتقين و نحوهم أن لا يقع منهم ذنب و لا أن يكونوا معصومين من الخطأ و الذنوب فإن هذا لو كان كذلك لم يكن في الأمة متق بل من تاب من ذنوبه دخل في المتقين و من فعل ما يكفر سيئاته دخل في المتقين كما قال أن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم و ندخلكم مدخلا كريما
7
83(188/58)
فدعاء النبي صلى الله عليه و سلم بان يطهرهم تطهيرا كدعائه بان يزكيهم و يطيبهم و يجعلهم متفقين و نحو ذلك و معلوم أن من استقر أمره على ذلك فهو داخل في هذا لا تكون الطهارة التي دعا بها بأعظم مما دعا به لنفسه و قد قال اللهم طهرني من خطاياي بالثلج و البرد و الماء البارد فمن وقع ذنبه مغفورا أو مكفرا فقد طهره الله منه تطهيرا و لكن من مات متوسخا بذنوبه فانه لم يطهر منها في حياته و قد يكون من تمام تطهيرهم صيانتهم عن الصدقة التي هي أوساخ الناس و النبي صلى الله عليه و سلم إذا دعا بدعاء أجابه الله بحسب استعداد المحل فإذا استغفر للمؤمنين و المؤمنات لم يلزم أن لا يوجد مؤمن مذنب فإن هذا لو كان واقعا لما عذب مؤمن لا في الدنيا و لا في الآخرة بل يغفر الله لهذا بالتوبة و لهذا بالحسنات الماحية و يغفر الله لهذا ذنوبا كثيرة و أن واحدة بأخرى و بالجملة فالتطهير الذي أراده الله و الذي دعا به النبي صلى الله عليه و سلم ليس هو العصمة بالإتفاق فان أهل السنة عندهم لا معصوم ألا النبي صلى الله عليه و سلم و الشيعة يقولون لا معصوم غير النبي صلى الله عليه و سلم و الإمام فقد وقع الاتفاق على انتفاء العصمة المختصة بالنبي صلى الله عليه و سلم و الإمام عن أزواجه و بناته و غيرهن من النساء
7
84(188/59)
و إذا كان كذلك امتنع أن يكون التطهير المدعو به للأربعة متضمنا للعصمة التي يختص بها النبي صلى الله عليه و سلم و الإمام عندهم فلا يكون من دعاء النبي صلى الله عليه و سلم بهذه العصمة لا لعلي و لا لغيره فإنه دعا بالطهارة لأربعة مشتركين لم يختص بعضهم بدعوة و أيضا فالدعاء بالعصمة من الذنوب ممتنع على أصل القدرية بل و بالتطهير أيضا فإن الأفعال الاختيارية التي هي فعل الواجبات و ترك المحرمات عندهم غير مقدورة للرب و لا يمكنه أن يجعل العبد مطيعا و لا عاصيا و لا متطهرا من الذنوب و لا غير متطهر فامتنع على أصلهم أن يدعو لأحد بان يجعله فاعلا للواجبات تاركا للمحرمات و أنما المقدور عندهم قدرة تصلح للخير و الشر كالسيف الذي يصلح لقتل المسلم و الكافر و المال الذي يمكن إنفاقه في الطاعة و المعصية ثم العبد يفعل باختياره أما الخير و أما الشر بتلك القدرة و هذا الأصل يبطل حجتهم و الحديث حجة عليهم في إبطال هذا الأصل حيث دعا النبي صلى الله عليه و سلم لهم بالتطهير فإن قالوا المراد بذلك أنه يغفر لهم و لا يؤاخذهم
7
85
كان ذلك أدل على البطلان من دلالته على العصمة فتبين أن الحديث لا حجة لهم فيه بحال على ثبوت العصمة و العصمة مطلقا التي هي فعل المأمور و ترك المحظور ليست مقدورة عندهم لله و لا يمكنه أن يجعل أحدا فاعلا لطاعة و لا تاركا لمعصية لا لنبي و لا لغيره فيمتنع عندهم أن من يعلم انه إذا عاش يطيعه باختيار نفسه لا بإعانة الله و هدايته و هذا مما يبين تناقض قولهم في مسائل العصمة كما تقدم و لو قدر ثبوت العصمة فقد قدمنا أنه لا يشترط في الإمام العصمة و لا إجماع على انتفاء العصمة في غيرهم و حينئذ فتبطل حجتهم بكل طريق و أما قوله أن عليا ادعاها و قد ثبت نفي الرجس عنه فيكون صادقا فجوابه من وجوه أحدها أنا لا نسلم أن عليا ادعاها بل نحن نعلم بالضرورة علما متيقنا أن عليا ما ادعاها قط حتى قتل عثمان و أن
7
86(188/60)
كان قد يميل بقلبه إلى أن يولي لكن ما قال إني أنا الإمام و لا أنى معصوم و لا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جعلني إلإمام بعده و لا أنه أوجب على الناس متابعتي و لا نحو هذه الألفاظ بل نحن نعلم بالاضطرار أن من نقل هذا و نحوه عنه فهو كاذب عليه و نحن نعلم أن عليا كان اتقى لله من أن يدعي الكذب الظاهر الذي تعلم الصحابة كلهم أنه كذب و أما نقل الناقل عنه أنه قال لقد تقمصها ابن أبي قحافة و هو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى فنقول أولا أين إسناد هذا النقل بحيث ينقله ثقة عن ثقة متصلا إليه و هذا لا يوجد قط و أنما يوجد مثل هذا في كتاب نهج البلاغة و أمثاله و أهل العلم يعلمون أن اكثر خطب هذا الكتاب مفتراة على علي و لهذا لا يوجد غالبها في كتاب متقدم و لا لها إسناد معروف فهذا الذي نقلها من أين نقلها و لكن هذه الخطب بمنزلة من يدعي أنه علوي أو عباسي و لا نعلم أحدا من سلفه ادعى ذلك قط ولا ادعى ذلك له فيعلم كذبه فإن النسب يكون معروفا من أصله حتى يتصل بفرعه و كذلك المنقولات لا بد أن تكون ثابته معروفة عمن نقل عنه حتى تتصل بنا فإذا صنف واحد كتابا ذكر فيه خطبا كثيرة للنبي صلى الله عليه و سلم و أبي بكر
7
87(188/61)
و عمر و عثمان و لم علي و لم يرو أحد منهم تلك الخطب قبله بإسناد معروف علمنا قطعا أن ذلك كذب و في هذه الخطب أمور كثيرة قد علمنا بقينا من علي ما يناقضها و نحن في هذا المقام ليس علينا أن نبين أن هذا كذب بل يكفينا المطالبة بصحة النقل فإن الله لم يوجب على الخلق أن يصدقوا بما لم يقم دليل على صدقه بل هذا ممتنع بالاتفاق لا سيما على القول بامتناع تكليف ما لا يطاق فإن هذا من أعظم تكليف ما لا يطاق فكيف يمكن الإنسان أن يثبت ادعاء علي للخلافة بمثل حكاية ذكرت عنه في اثناء المائة الرابعة لما كثر الكذابون عليه و صار لهم دولة تقبل منهم ما يقولون سواء كان صدقا أو كذبا و ليس عندهم من يطالبهم بصحة النقل و هذا الجواب عمدتنا في نفس الأمر و فيما بيننا و بين الله تعالى ثم نقول هب أن عليا قال ذلك فلم قلت أنه أراد اني إمام معصوم منصوص عليه و لم لا يجوز أنه أراد اني كنت احق بها من غيري لاعتقاده في نفسه أنه افضل و احق من غيره و حينئذ فلا يكون مخبرا عن أمر تعمد فيه الكذب و لكن يكون متكلما باجتهاده و الاجتهاد يصيب و يخطئ
7
88(188/62)
و نفي الرجس لا يوجب أن يكون معصوما من الخطإ بالاتفاق بدليل أن الله لم يرد من أهل البيت أن يذهب عنهم الخطإ فإن ذلك غير مقدور عليه عندهم و الخطإ مغفور فلا يضر وجوده و أيضا فالخطأ لا يدخل فيه عموم الرجس وأيضا فانه لا معصوم من أن يقر على خطأ ألا رسول الله صلى الله عليه و سلم و هم يخصون ذلك بالأئمة بعده و إذهاب الرجس قد اشترك فيه علي و فاطمة و غيرهما من أهل البيت و أيضا فنحن نعلم أن عليا كان اتقى لله من أن يتعمد الكذب كما أن أبا بكر و عمر و عثمان و غيرهم كانوا اتقى لله من أن يتعمدوا للكذب لكن لو قيل لهذا المحتج بالآلية أنت لم تذكر دليلا على أن الكذب من الرجس و إذا لم تذكر على ذلك دليلا لم يلزم من إذهاب الرجس إذهاب الكذبة الواحدة إذا قدر أن الرجس ذاهب فهو فيمن يحتج بالقران و ليس في القران ما يدل على إذهاب الرجس و لا ما يدل على أن الكذب و الخطأ من الرجس و لا أن عليا قال ذلك و لكن هذا كله لو صح شيء منه لم يصح ألا بمقدمات ليست في القران فأين البراهين التي في القران على الإمامة و هل يدعي هذا إلا من هو من أهل الخزي و الندامة
7
89
فصل قال الرافضي البرهان السادس في قوله تعالى في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو و الآصال رجال إلى قوله يخافون يوما تتقلب فيه القلوب و الأبصار قال الثعلبي بإسناده عن انس و بريده قالا قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية فقام رجل فقال أي بيوت هذه يا رسول الله فقال بيوت الأنبياء فقام إليه أبو بكر فقال يا رسول الله هذا البيت منها يعني بيت علي و فاطمة قال نعم من أفضلها وصف فيها الرجال بما يدل على أفضليتهم فيكون علي هو الإمام و ألا لزم تقديم المفضول على الفاضل والجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة هذا النقل و مجرد عزو ذلك
7
90(188/63)
إلى الثعلبي ليس بحجة باتفاق أهل السنة و الشيعة و ليس كل خبر رواه واحد من الجمهور يكون حجة عند الجمهور بل علماء الجمهور متفقون على أن ما يرويه الثعلبي و أمثاله لا يحتجون به لا في فضيلة أبي بكر و عمر و لا في إثبات حكم من الأحكام ألا أن يعلم ثبوته بطريق فليس له أن يقول أنا نحتج عليكم بالأحاديث التي يرويها واحد من الجمهور فإن هذا بمنزلة من يقول أنا احكم عليكم بمن يشهد عليكم من الجمهور فهل يقول أحد من علماء الجمهور أن كل من شهد منهم فهو عدل أو قال أحد من علمائهم أن كل من روى منهم حديثا كان صحيحا ثم علماء الجمهور متفقون على أن الثعلبي و أمثاله يروون الصحيح و الضعيف و متفقون على أن مجرد روايته لا توجب اتباع ذلك و لهذا يقولون في الثعلبي و أمثاله أنه حاطب ليل يروي ما وجد سواء كان صحيحا أو سقيما فتفسيره و أن كان غالب الأحاديث التي فيه صحيحة ففيه ما هو كذب موضوع باتفاق أهل العلم
7
91(188/64)
و لهذا اختصره أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي و كان اعلم بالحديث و الفقه منه و الثعلبي اعلم بأقوال المفسرين ذكر البغوي عنه أقوال المفسرين و النحاة و قصص الأنبياء فهذه الأمور نقلها البغوي من الثعلبي و أما الأحاديث فلم يذكر في تفسيره شيئا من الموضوعات التي رواها الثعلبي بل يذكر الصحيح منها و يعزوه إلى البخاري و غيره فإنه مصنف كتاب شرح السنة و كتاب المصابيح و ذكر ما في الصحيحين و السنن و لم يذكر الأحاديث التي تظهر لعلماء الحديث إنها موضوعة كما يفعله غيره من المفسرين كالوا حدي صاحب الثعلبي و هو اعلم بالعربية منه و كالزمخشري و غيرهم من المفسرين الذين يذكرون من الأحاديث ما يعلم أهل الحديث أنه موضوع الثاني أن هذا الحديث موضوع عند أهل المعرفة بالحديث و لهذا لم يذكره علماء الحديث في كتبهم التي يعتمد في الحديث عليها كالصحاح و السنن و المساند مع أن في بعض هذه ما هو ضعيف بل ما يعلم أنه كذب لكن هذا قليل جدا و أما هذا الحديث و أمثاله فهو أظهر كذبا من أن يذكروه في مثل ذلك الثالث أن يقال الآية باتفاق الناس هي في المساجد كما قال
7
92(188/65)
في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو و الآصال و بيت علي و غيره ليس موصوفا بهذه الصفة الرابع أن يقال بيت النبي صلى الله عليه و سلم افضل من بيت علي باتفاق المسلمين و مع هذا لم يدخل في هذه الآية لأنه ليس في بيته رجال و أنما فيه هو و الواحدة من نسائه و لما أراد بيت النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تدخلوا بيوت النبي و قال و اذكرن ما يتلى في بيوتكن الوجه الخامس أن قوله هي بيوت الأنبياء كذب فانه لو كان كذلك لم يكن لسائر المؤمنين فيها نصيب و قوله يسبح له فيها بالغدو و الآصال رجال لا تليهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله متناول لكل من كان بهذه الصفة الوجه السادس أن قوله في بيوت أذن الله أن ترفع نكرة موصوفة ليس فيها تعيين وقوله أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه أن أراد بذلك ما لا يختص به المساجد من الذكر في البيوت و الصلاة فيها دخل ذلك بيوت اكثر المؤمنين المتصفين بهذه الصفة فلا تختص بيوت الأنبياء
7
93(188/66)
وان أراد بذلك ما يختص به المساجد من وجود الذكر في الصلوات الخمس و نحو ذلك كانت مختصة بالمساجد و أما بيوت الأنبياء فليس فيها خصوصية المساجد و أن كان لها فضل بسكنى الأنبياء فيها الوجه السابع أن يقال أن أريد ببيوت الأنبياء ما سكنه النبي صلى الله عليه و سلم فليس في المدينة من بيوت الأنبياء ألا بيوت أزواج النبي صلى الله عليه و سلم فلا يدخل فيها بيت علي و أن أريد ما دخله الأنبياء فالنبي صلى الله عليه و سلم قد دخل بيوت كثير من الصحابة و أي تقدير قدر في الحديث لا يمكن تخصيص بيت علي بأنه من بيوت الأنبياء دون بيت أبي بكر و عمر و عثمان و نحوهم و إذا لم يكن له اختصاص فالرجال مشتركون بينه و بين غيره الوجه الثامن أن يقال قوله الرجال المذكورون موصوفون بأنهم لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله ليس في الآية ما يدل على انهم افضل من غيرهم و ليس فيها ذكر ما وعدهم الله به من الخير و فيها الثناء عليهم و لكن ليس كل من اثني عليه أو وعد بالجنة يكون افضل من غيره و لهذا لم يلزم أن يكون هو افضل من الأنبياء
7
94(188/67)
الوجه التاسع أن يقال هب أن هذا يدل على انهم افضل ممن ليس كذلك من هذا الوجه لكن لم قلت أن هذه الصفة مختصة بعلي بل كل من كانت لا تلهيه التجارة و البيع عن ذكر الله و اقام الصلاة و إيتاء الزكاة و يخاف بوم القيامة فهو متصف بهذه الصفة فلم قلت أنه ليس متصف بذلك ألا عليا و لفظ الآية يدل على انهم رجال ليسوا رجلا واحدا فهذا دليل على أن هذا لا يختص بعلي بل هو و غيره مشتركون فيها و حينئذ فلا يلزم أن يكون افضل من المشاركين له فيها الوجه العاشر أنه لو سلم أن عليا افضل من غيره في هذه الصفة فلم قلت أن ذلك يوجب الإمامة و أما امتناع تقديم المفضول على الفاضل إذا سلم فإنما هو في مجموع الصفات التي تناسب الإمامة و ألا فليس كل من فضل في خصلة من الخير استحق أن يكون هو الإمام و لو جاز هذا لقيل ففي الصحابة من قتل من الكفار اكثر مما قتل علي و فيهم من انفق من ماله اكثر مما انفق علي و فيهم من كان اكثر صلاة و صياما من علي و فيهم من أوذي في الله اكثر من علي و فيهم من كان أسن من علي و فيهم من كان عنده من العلم ما ليس عند علي و بالجملة لا يمكن أن يكون واحد من الأنبياء له مثل ما لكل واحد من الأنبياء من كل وجه و لا أحد من الصحابة يكون له مثل ما لكل أحد
7
95(188/68)
من الصحابة من كل وجه بل يكون في المفضول نوع من الأمور التي يمتاز بها عن الفاضل و لكن الاعتبار في التفضيل بالمجموع فصل قال الرافضي البرهان السابع قوله تعالى قل لا أسألكم عليه أجرا ألا المودة في القربى روى احمد بن حنبل في مسنده عن ابن عباس قال لما نزلت قل لا أسألكم عليه أجرا ألا المودة في القربى قالوا يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم قال علي و فاطمة و ابناهما و كذا في تفسير الثعلبي و نحوه في الصحيحين و غير علي من الصحابة و الثلاثة لا تجب مودته فيكون علي افضل فيكون هو الإمام و لأن مخالفته تنافي المودة و بامتثال أوامره تكون مودته فيكون واجب الطاعة و هو معنى الإمامة و الجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة هذا الحديث و قوله
7
96
أن احمد روى هذا في مسنده كذب بين فان هذا مسند احمد موجود به من النسخ ما شاء الله و ليس فيه هذا الحديث و أظهر من ذلك كذبا قوله أن نحو هذا في الصحيحين و ليس هو في الصحيحين بل فيهما و في المسند ما يناقض ذلك ولا ريب أن هذا الرجل و أمثاله جهال بكتب أهل العلم لا يطالعونها و لا يعلمون ما فيها و رأيت بعضهم جمع لهم كتابا في أحاديث من كتب متفرقة معزوة تارة إلى الصحيحين و تارة إلى مسند احمد و تارة إلى المغازلي و الموفق خطيب خوارزم و الثعلبي و أمثاله و سماه الطرائف في الرد على الطوائف و آخر صنف كتابا لهم سماه العمدة و اسم مصنفه ابن البطريق و هؤلاء مع كثرة الكذب فيما يروونه فهم امثل حالا من أبي جعفر محمد بن علي الذي صنف لهم و أمثاله فان هؤلاء يروون من الأكاذيب ما لا يخفى ألا على من هو من اجهل الناس و رأيت كثيرا من ذلك المعزو الذي عزاه أولئك إلى المسند و الصحيحين و غيرهما باطلا لا حقيقة له يعزون إلى مسند احمد ما ليس فيه أصلا لكن احمد صنف كتابا في فضائل أبي بكر و عمر و عثمان و علي و غيرهم وقد يروي في هذا الكتاب ما ليس في المسند و ليس كل
7
97(188/69)
ما رواه احمد في المسند و غيره يكون حجة عنده بل يروي ما رواه أهل العلم و شرطه في المسند أن لا يروي عن المعروفين بالكذب عنده و أن كان في ذلك ما هو ضعيف و شرطه في المسند مثل شرط أبي داود في سننه و أما كتب الفضائل فيروي ما سمعه من شيوخه سواء كان صحيحا أو ضعيفا فانه لم يقصد أن لا يروي في ذلك إلا ما ثبت عنده ثم زاد ابن احمد زيادات وزاد أبو بكر القطيعى زيادات و في زيادات القطيعي زيادات كثيرة كذب موضوعة فظن الجاهل أن تلك من رواية احمد و انه رواها في المسند و هذا خطأ قبيح فإن الشيوخ المذكورين شيوخ القطيعي و كلهم متأخر عن احمد وهم ممن يروى عن أحمد لا ممن يروي احمد عنه و هذا مسند احمد و كتاب الزهد له و كتاب الناسخ و المنسوخ و كتاب التفسير و غير ذلك من كتبه يقول حدثنا و كيع حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان حدثنا عبد الرزاق فهذا احمد و تارة يقول حدثنا أبو معمر القطيعي حدثنا علي بن الجعد حدثنا أبو نصر التمار فهذا عبد الله و كتابه في فضائل الصحابة له فيه هذا و هذا و فيه من زيادات القطيعي يقول حدثنا احمد بن عبد الجبار الصوفي و أمثاله ممن هو مثل عبد الله بن احمد في الطبقة و هو ممن غايته أن يروي عن احمد فإن احمد ترك الرواية في آخر عمره لما طلب الخليفة أن يحدثه و يحدث ابنه
7
98(188/70)
و يقيم عنده فخاف على نفسه من فتنة الدنيا فامتنع من الحديث مطلقا ليسلم من ذلك و لأنه كان قد حدث بما كان عنده قبل ذلك فكان يذكر الحديث بإسناده بعد شيوخه و لا يقول حدثنا فلان فكان من يسمعون منه ذلك يفرحون بروايته عنه فهذا القطيعي يروي عن شيوخه زيادات و كثير منها كذب موضوع و هؤلاء قد وقع لهم هذا الكتاب و لم ينظروا ما فيه من فضائل سائر الصحابة بل اقتصروا على ما فيه من فضائل علي و كلما زاد حديثا ظنوا أن القائل ذلك هو احمد بن حنبل فإنهم لا يعرفون الرجال و طبقاتهم و أن شيوخ القطيعي يمتنع أن يروي احمد عنهم شيئا ثم انهم لفرط جهلهم ما سمعوا كتابا إلا المسند فلما ظنوا أن احمد رواه و انه إنما يروي في المسند صاروا يقولون لما رواه القطيعي رواه احمد في المسند هذا أن لم يزيدوا على القطيعي ما لم يروه فإن الكذب عندهم غير مأمون و لهذا يعزو صاحب الطرائف و صاحب العمدة أحاديث يعزوها إلى احمد لم يروها احمد لا في هذا و لا في هذا و لا سمعها أحد
7
99(188/71)
قط و احسن حال هؤلاء أن تكون تلك مما رواه القطيعي و ما رواه القطيعي فيه من الموضوعات القبيحة الوضع ما لا يخفى على عالم و نقل هذا الرافضي من جنس صاحب كتاب العمدة و الطرائف فما ادري نقل منه أو عمن ينقل عنه و إلا فمن له بالنقل أدنى معرفة يستحي ان يعزو مثل هذا الحديث إلى مسند احمد و الصحيحين والصحيحان و المسند نسخهما ملء الأرض و ليس هذا في شيء منها و هذا الحديث لم يرو في شيء من كتب العلم المعتمدة أصلا و إنما يروي مثل هذا من يحطب بالليل كالثعلبي و أمثاله الذين يروون الغث و السمين بلا تمييز الوجه الثاني أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث و هم المرجوع إليهم في هذا و هذا لا يوجد في شيء من كتب الحديث التي يرجع إليها الوجه الثالث أن هذه الأيه في سورة الشورى و هي مكية باتفاق أهل السنة بل جميع آل حم مكيات و كذلك آل طس و من المعلوم أن عليا إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد غزوة بدر و الحسن ولد في السنة الثالثة من الهجرة و الحسين في السنة الرابعة فتكون هذه الآية قد نزلت قبل وجود الحسن و الحسين بسنين متعددة فكيف يفسر النبي صلى الله عليه و سلم الآية بوجوب مودة قرابة لا تعرف و لم تخلق بعد
7
100(188/72)
الوجه الرابع ان تفسير الآية الذي في الصحيحين عن ابن عباس يناقض ذلك ففي الصحيحين عن سعيد بن جبير قال سئل ابن عباس عن قوله تعالى قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى فقلت أن لا تؤذوا محمدا في قرابته فقال ابن عباس عجلت انه لم يكن بطن من قريش إلا لرسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم قرابة فقال لا أسألكم عليه أجرا لكن أسألكم ان تصلوا القرابة التي بيني و بينكم فهذا ابن عباس ترجمان القران و اعلم أهل البيت بعد علي يقول ليس معناها مودة ذوي القربى لكن معناها لا أسألكم يا معشر العرب و يا معشر قريش عليه أجرا لكن أسألكم ان تصلوا القرابة التي بيني و بينكم فهو سأل الناس الذين أرسل إليهم أولا ان يصلوا رحمه فلا يعتدوا عليه حتى يبلغ رسالة ربه
7
101
الوجه الخامس انه قال لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى لم يقل إلا المودة في للقربى و لا المودة لذوي القربى فلو أراد المودة لذوي القربى لقال المودة لذوى القربى كما قال و اعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه و للرسول و لذوي القربى و قال ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله و للرسول و لذي القربى وكذلك قوله فآت ذا القربى حقه و المسكين و ابن السبيل و قوله و أتى المال على حبه ذوي القربى و هكذا في غير موضع فجميع ما في القران من التوصية بحقوق ذوي قربى النبي صلى الله عليه و سلم و ذوي قربى الإنسان إنما قيل فيها ذوي القربى لم يقل في القربى فلما ذكر هنا المصدر دون الاسم دل على انه لم يرد ذوي القربى الوجه السادس انه لو أريد المودة لهم لقال المودة لذوي القربى و لم يقل في القربى فإنه لا يقول من طلب المودة لغيره أسألك المودة في فلان و لا في قربى فلان و لكن أسألك المودة لفلان و المحبة لفلان فلما قال المودة في القربى علم انه ليس المراد لذوي القربى الوجه السابع ان يقال إن النبي صلى الله عليه و سلم لا يسأل على
7
102(188/73)
تبليغ رسالة ربه أجرا ألبته بل أجره على الله كما قال قل ما أسألكم عليه من أجر و ما انا من المتكلفين و قوله أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون و قوله قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله و لكن الاستثناء هنا منقطع كما قال قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء ان يتخذ إلى ربه سبيلا ولا ريب ان محبة أهل بيت النبي صلى الله عليه و سلم واجبة لكن لم يثبت وجوبها بهذه الآية و لا محبتهم أجر للنبي صلى الله عليه و سلم بل هو مما أمرنا الله به كما أمرنا بسائر العبادات و في الصحيح عنه انه خطب أصحابه بغدير يدعى خما بين مكة و المدينة فقال أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي و في السنن عنه انه قال و الذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله و لقرابتي فمن جعل
7
103
محبة أهل بيته أجرا له يوفيه إياه فقد اخطأ خطأ عظيما و لو كان أجرا له لم نثب عليه نحن لانا أعطيناه أجره الذي يستحقه بالرسالة فهل يقول مسلم مثل هذا الوجه الثامن ان القربى معرفة باللام فلا بد ان يكون معروفا عند المخاطبين الذين أمر ان يقول لهم قل لا أسألكم عليه أجرا و قد ذكرنا أنها لما نزلت لم يكن قد خلق الحسن و لا الحسين و لا تزوج علي بفاطمة فالقربى التي كان المخاطبون يعرفونها يمتنع ان تكون هذه بخلاف القربى التي بينه و بينهم فإنها معروفة عندهم كما تقول لا أسألك إلا المودة في الرحم التي بيننا و كما تقول لا أسألك إلا العدل بيننا و بينكم و لا أسألك إلا ان تتقي الله في هذا الأمر الوجه التاسع أنا نسلم أن عليا تجب مودته و موالاته بدون
7
104(188/74)
الاستدلال بهذه الآية لكن ليس في وجوب موالاته و مودته ما يوجب اختصاصه بالامامة ولا الفضيله بالفضيلة و أما قوله و الثلاثة لا تجب موالاتهم فممنوع بل يجب أيضا مودتهم و موالاتهم فإنه قد ثبت ان الله يحبهم و من كان الله يحبه وجب علينا ان نحبه فإن الحب في الله و البغض في الله واجب و هو أوثق عرى الإيمان و كذلك هم من أكابر أولياء الله المتقين و قد أوجب الله موالاتهم بل قد ثبت ان الله رضي عنهم و رضوا عنه بنص القران وكل من رضي الله عنه فانه يحبه و الله يحب المتقين والمحسنين والمقسطين و الصابرين و هؤلاء أفضل من دخل في هذه النصوص من هذه الأمة بعد نبيها و في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم كمثل الجسد الواحد ان اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى و السهر فهو اخبرنا المؤمنين يتوادون و يتعاطفون و يتراحمون و انهم في ذلك كالجسد ال و هؤلاء قد ثبت إيمانهم بالنصوص و الإجماع كما قد ثبت إيمان علي و لا يمكن من قدح في إيمانهم يثبت إيمان علي بل كل طريق دل
7
105(188/75)
على إيمان علي فإنها على إيمانهم أدل و الطريق التي يقدح بها فيهم يجاب عنها كما يجاب عن القدح في علي و أولى فان الرافضي الذي يقدح فيهم و يتعصب لعلي فهو منقطع الحجة كاليهود و النصارى الذين يريدون إثبات نبوة موسى و عيسى و القدح في نبوة محمد صلى الله عليه و سلم و لهذا لا يمكن الرافضي أن يقيم الحجة على النواصب الذين يبغضون عليا أو يقدحون في إيمانه من الخوارج و غيرهم فإنهم إذا قالوا له بأي شيء علمت ان عليا مؤمن أو ولي لله تعالى فان قال بالنقل المتواتر بإسلامه و حسناته قيل له هذا النقل موجود في أبي بكر و عمر و عثمان و غيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم بل النقل المتواتر بحسنات هؤلاء السليمة عن المعارض اعظم من النقل المتواتر في مثل ذلك لعلي وإن قال بالقران الدال على إيمان علي قيل له القران إنما دل بأسماء عامة كقوله لقد رضي الله عن المؤمنين و نحو ذلك و أنت تخرج من ذلك أكابر الصحابة فإخراج واحد ان اسهل و قال بالأحاديث الدالة على فضائله أو نزول القران فيه قيل أحاديث أولئك أكثر و اصح و قد قدحت فيهم
7
106(188/76)
و قيل له تلك الأحاديث التي في فضائل علي إنما رواها الصحابة الذين قدحت فيهم فان كان القدح صحيحا بطل النقل و كان النقل صحيحا بطل القدح و قال بنقل الشيعة أو تواترهم قيل له الصحابة لم يكن فيهم من الرافضة أحد و الرافضة تطعن في جميع الصحابة إلا نفرا قليلا بضعة عشر و مثل هذا قد يقال انهم قد تواطأوا على ما نقلوه فمن قدح في نقل الجمهور كيف يمكنه إثبات نقل نفر قليل و هذا مبسوط في موضعه و المقصود ان قوله و غير علي من الثلاثة لا تجب مودته كلام باطل عند الجمهور بل مودة هؤلاء أوجب عند أهل السنة من مودة علي لان وجوب المودة على مقدار الفضل فكل من كان أفضل كانت مودته اكمل وقد قال تعالى أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا قالوا يحبهم ويحببهم إلى عباده وهؤلاء أفضل من آمن وعمل صالحا من هذه الأمة بعد نبيها كما قال تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من اثر السجود إلى السورة وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم انه سئل أي الناس احب إليك قال عائشة قيل فمن الرجال قال أبوها
7
107(188/77)
وفي الصحيح أن عمر قال لأبي بكر رضي الله عنهما يوم السقيفة بل أنت سيدنا وخيرنا واحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصديق ذلك ما استفاض في الصحاح من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن مودة الإسلام فهذا يبين انه ليس في أهل الأرض أحق بمحبته ومودته من أبي بكر وما كان احب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو احب إلى الله وما كان احب إلى الله ورسوله فهو أحق ان يكون احب إلى المؤمنين الذين يحبون ما احبه الله ورسوله كما احب الله ورسوله والدلائل الدالة على انه أحق بالمودة كثيرة فضلا عن ان يقال ان المفضول تجب مودته وان الفاضل لا تجب مودته وأما قوله إن مخالفته تنافي المودة وامتثال أوامره هو مودته فيكون واجب الطاعة وهو معنى الإمامة فجوابه من وجوه أحدها ان كان المودة توجب الطاعة فقد وجبت مودة ذوى القربى فتجب طاعتهم فيجب ان تكون فاطمة أيضا إماما وان كان هذا باطلا فهذا مثله الثاني ان المودة ليست مستلزمة للإمامة في حال وجوب المودة فليس
7
108(188/78)
من وجبت مودته كان إماما حينئذ بدليل ان الحسن والحسين تجب مودتهما قبل مصيرهما إمامين وعلي تجب مودته في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن إماما بل تجب وان تأخرت إمامته إلى مقتل عثمان الثالث ان وجوب المودة ان كان ملزوم الإمامة وانتفاء الملزوم يقتضي انتفاء اللازم فلا تجب المودة إلا من يكون إماما معصوما فحينئذ لا يود أحد آمن المؤمنين ولا يحبهم فلا تجب مودة أحد من المؤمنين ولا يحبهم فلا ولا محبته إذا لم يكونوا أئمة لا شيعة على ولا غيرهم وهذا خلاف الإجماع وخلاف ما علم بالاضطرار من دين الإسلام الرابع ان قوله والمخالفة تنافى المودة يقال متى كان ذلك واجب الطاعة أو مطلقا الثاني ممنوع و إلا لكان من أوجب على غيره شيئا لم يوجبه الله عليه أن خالفه فلا يكون محبا له فلا يكون مؤمن محبا لمؤمن حتى يعتقد وجوب طاعته وهذا معلوم الفسادأما و الأول فيقال إذا لم تكن المخالفة قادحة في المودة إلا إذا كان واجب الطاعة فحينئذ يجب ان يعلم أولا وجوب الطاعة حتى تكون مخالفته قادحة في مودته فإذا ثبت وجوب الطاعة بمجرد وجوب المودة
7
109(188/79)
باطلا وكان ذلك دورا ممتنعا فانه لا يعلم ان المخالفة تقدح في المودة حتى يعلم وجوب الطاعة ولا يعلم وجوب الطاعة إلا إذا علم انه إمام ولا يعلم انه إمام حتى يعلم ان مخالفته تقدح في مودته الخامس ان يقال المخالفة تقدح في المودة إذا أمر بطاعته أم لم يؤمروالثاني منتف ضرورة وأما الأول فإنا نعلم ان عليا لم يأمر الناس بطاعته في خلافة أبي بكر ان وعثمان السادس يقال هذا بعينه يقال في حق أبي بكر وعمر وعثمان فان مودتهم ومحبتهم وموالاتهم واجبة كما تقدم ومخالفتهم تقدح في ذلك السابع الترجيح من هذا الحديث لان القوم دعوا الناس إلى ولايتهم وطاعتهم وادعوا الإمامة والله أوجب طاعتهم فمخالفتهم تقدح في مودتهم بل تقدح في محبة الله ورسوله ولا ريب ان الذي ابتدع الرفض لم يكن محبا لله ولرسوله بل كان عدوا لله وهؤلاء القوم مع أهل السنة بمنزلة النصارى مع المسلمين فالنصارى يجعلون المسيح إلها و يجعلون إبراهيم و موسى و محمدا اقل من الحواريين الذين كانوا مع عيسى و هؤلاء يجعلون عليا هو الإمام المعصوم أو هو النبي أو اله و الخلفاء الأربعة
7
110
اقل من مثل الاشتر النخعي و أمثاله الذين قاتلوا معه و لهذا كان جهلهم و ظلمهم اعظم من ان يوصف و يتمسكون بالمنقولات المكذوبة و الألفاظ المتشابهة و الاقيسة الفاسدة و يدعون المنقولات الصادقة بل المتواترة و النصوص البينة و المعقولات الصريحة فصل قال الرافضي البرهان الثامن قوله تعالى و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله قال الثعلبي ان رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أراد الهجرة خلف علي بن أبي طالب لقضاء ديونه و رد الودائع التي كانت عنده و أمره ليلة خرج إلى الغار و قد أحاط المشركون بالدار ان ينام على فراشه فقال له يا علي اتشح ببردي الحضرمي الأخضر و نم على فراشي فانه لا يخلص إليك منهم مكروه ان شاء الله
7
111(188/80)
تعالى ففعل ذلك فأوحى الله تعالى إلى جبريل و ميكائيل أنى قد آخيت بينكما و جعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة فاختاره كلامهماالحياه فأوحى الله إليها إلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه و بين محمد عليه الصلاة و السلام فبات على فراشه يفديه بنفسه و يؤثره بالحياة اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فنزلا فكان جبريل عند رأسه و ميكائيل عند رجليه فقال جبريل بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة فأنزل الله عز و جل على رسوله صلى الله عليه و سلم و هو متوجه إلى المدينة في شان علي و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله و قال ابن عباس إنما نزلت في علي لما هرب النبي صلى الله عليه و سلم من المشركين إلى الغار و هذه
7
112
فضيلة لم تحصل لغيره تدل على أفضلية علي على جميع الصحابة فيكون هو الإمام الجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة هذا النقل و مجرد نقل الثعلبي و أمثاله لذلك بل روايتهم ليس بحجة باتفاق طوائف أهل السنة و الشيعة لان هذا مرسل متأجر و لم يذكر إسناده و في نقله من هذا الجنس للإسرائيليات و الأسلاميات أمور أنها يعلم باطلة و أن كان هو لم يتعمد الكذب ثانيها ان هذا الذي نقله من هذا الوجه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث و السيرة و المرجع إليهم في هذا الباب الثالث ان النبي صلى الله عليه و سلم لما هاجر هو و أبو بكر إلى المدينة لم يكن للقوم غرض في طلب علي و إنما كان مطلوبهم النبي صلى الله عليه و سلم و أبا بكر و جعلوا في كل واحد منهما ديته لمن جاء به كما ثبت ذلك في الصحيح الذي لا يستريب أهل العلم في صحته و ترك عليا في
7
113(188/81)
فراشه ليظنوا ان النبي صلى الله عليه و سلم في البيت فلا يطلبوه فلما اصبحوا وجدوا عليا فظهرت خيبتهم و لم يؤذوا عليا بل سألوه عن النبي صلى الله عليه و سلم فاخبرهم انه لا علم له به و لم يكن هناك خوف على علي من أحد و إنما كان الخوف على النبي صلى الله عليه و سلم و صديقه و لو كان لهم في علي غرض لتعرضوا له لما وجدوه فلما لم يتعرضوا له دل على انهم لا غرض لهم فيه فأرى فداء هنا بالنفس و الذي كان يفديه بنفسه بلا ريب و يقصد ان يدفع بنفسه عنه و يكون الضرر به دونه هو أبو بكر كان يذكر الطلبة فيكون خلفه و يذكر الرصد فيكون إمامه وكان يذهب فيكشف له الخبر وإذا كان هناك ما يخاف احب أن يكون به لا بالنبي صلى الله عليه وسلم و غير واحد من الصحابة قد فداه بنفسه في مواطن الحروب فمنهم من قتل بين يديه و منهم من شلت يده كطلحة بن عبد الله و هذا واجب على المؤمنين كلهم فلو قدر انه كان هناك فداء بالنفس لكان هذا من الفضائل المشتركة بينه و بين غيره من الصحابة فكيف إذا لم يكن هناك خوف على علي قال ابن إسحاق في السيرة مع انه من المتولين لعلي المائلين إليه وذكر خروج النبي صلى الله عليه وسلم من منزله واستخلاف علي على فراشه ليلة مكر الكفار به قال فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم
7
114(188/82)
فقال له لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه قال فلما كانت عتمة الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم مقامهم قال لعلي نم على فراشي و اتشح ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم و عن محمد بن كعب القرظي قال لما اجتمعوا له و فيهم أبو جهل فقال و هم على بابه أن محمدا يزعم أنكم أن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب و العجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنات كجنات الأردن و أن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحرقون فيها قال وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فاخذ حفنة
7
115
من تراب في يده ثم قال نعم أنا أقول ذلك أنت أحدهم و اخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه و لم يبق منهم رجلا إلا وضع على رأسه ترأبا ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب فاتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال ما تنتظرون هاهنا قالوا محمدا قال خيبكم الله قد و الله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا إلا و قد وضع على رأسه ترأبا و انطلق لحاجته افما ترون ما بكم قال فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب ثم جعلوا يطلعون فيرون عليا على الفراش مسجى ببرد رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقولون و الله أن هذا لمحمد نائما عليه بردة فلم يبرحوا كذلك حتى اصبحوا فقام علي عن الفراش فقالوا و الله لقد كان صدقنا الذي كان حدثنا و كان مما انزل الله من القران ذلك اليوم و إذ يمكر بك الذين كفروا
7
116(188/83)
ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين و قوله أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون و أذن الله لنبيه في الهجرة عند ذلك فهذا يبين أن القوم لم يكن لهم غرض في علي أصلا و أيضا فان النبي صلى الله عليه و سلم قد قال اتشح ببردي هذا الأخضر فنم فيه فانه لن يخلص إليك منهم رجل بشيء تكرهه فوعده و هو الصادق انه لا يخلص إليه مكروه و كان طمأنينته بوعد الرسول صلى الله عليه و سلم الرابع أن هذا الحديث فيه من الدلائل على كذبه ما لا يخفى فان الملائكة لا يقال فيهم مثل هذا الباطل الذي لا يليق بهم و ليس أحدهما جائعا فيؤثره الآخر بالطعام و لا هناك خوف فيؤثر أحدهما صاحبه بالآمن فكيف يقول الله لهما أيكما يؤثر صاحبه بالحياة و لا للمؤاخاة بين الملائكة اصل بل جبريل له عمل يختص به دون ميكائيل و ميكائيل له عمل يختص به دون جبريل كما جاء في الآثار أن الوحي و النصر لجبريل و أن الرزق و المطر لميكائيل
7
117
ثم أن كان الله قضى بان عمر أحدهما أطول من الآخر فهو ما قضاه وان قضاه لواحد واراد منهما أن يتفقا على تعيين الأطول أو يؤثر به أحدهما الآخر و هما راضيان بذلك فلا كلام و أما أن كانا يكرهان ذلك فكيف يليق بحكمة الله و رحمته أن يحرش بينهما و يلقي بينهما العداوة و لو كان ذلك حقا تعالى الله عن ذلك ثم هذا القدر لو وقع مع انه باطل فكيف تأخر من حين خلقهما الله قبل آدم إلى حين الهجرة و إنما كان يكون ذلك لو كان عقب خلقهما الخامس أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يؤاخ عليا و لا غيره بل كل ما روي في هذا فهو كذب و حديث المؤاخاة الذي يروى في ذلك مع ضعفه و بطلانه إنما فيه مؤاخاته له في المدينة هكذا رواه الترمذي فأما بمكة فمؤاخاته له باطلة على التقديرين وأيضا فقد عرف انه لم يكن فداء بالنفس و لا إيثار بالحياة باتفاق علماء النقل السادس أن هبوط جبريل و ميكائيل لحفظ واحد من الناس من
7
118(188/84)
اعظم المنكرات فان الله يحفظ من شاء من خلقه دون هذا و إنما روي هبوطهما يوم بدر للقتال و في مثل تلك الأمور العظام و لو نزلا لحفظ واحد من الناس النزلا لحفظ النبي صلى الله عليه و سلم و صديقه اللذين كان الأعداء يطلبانهما من كل وجه و قد بذلوا في كل واحد منهما ديته و هم عليهما غلاظ شداد سود الكباد السابع أن هذه الآية في سورة البقرة و هي مدنية بلا خلاف و إنما نزلت بعد هجرة النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة لم تنزل وقت هجرته و قد قيل أنها نزلت لما هاجر صهيب و طلبه المشركون فأعطاهم ماله و أتى المدينة فقال النبي صلى الله عليه و سلم ربح البيع أبا يحيى و هذه القصة مشهورة في التفسير نقلها غير واحد و هذا ممكن فان صهيبا هاجر من مكة إلى المدينة قال ابن جرير اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية فيه و من عني بها
7
119
فقال بعضهم نزلت في المهاجرين و الأنصار و عني بها المجاهدون في سبيل الله و ذكر بإسناده هذا القول و عن قتادة وقال بعضهم نزلت في قوم بأعيانها وروى عن القاسم قال حدثنا الحسين حدثنا حجاج حدثنا ابن جريح عن عكرمة قال نزلت في صهيب و أبي ذر جندب اخذ أهل أبي ذر أبا ذر فانفلت منهم فقدم على النبي صلى الله عليه و سلم فلما رجع مهاجرا عرضوا له و كانوا بمر الطهران فانفلت أيضا حتى قدم عليه و أما صهيب فاخذ أهله فافتدى منهم بماله ثم خرج مهاجرا فأدركه قنفذ بن عمير بن جدعان
7
120(188/85)
فخرج له مما بقي من ماله فخلى سبيله و قال آخرون عني بذلك كل شار نفسه في طاعة الله و جهاد في سبيل الله و أمر بمعروف و نسب هذا القول إلى عمر بل و ابن عباس و أن صهيبا كان سبب النزول الثامن أن لفظ الآية مطلق ليس فيه تخصيص فكل من باع نفسه ابتغاء مرضات الله فقد دخل فيها و أحق من دخل فيها النبي و صديقه فانهما شريا نفسهما ابتغاء مرضات الله و هاجرا في سبيل الله و العدو يطلبهما من كل وجه التاسع أن قوله هذه فضيلة لم تحصل لغيره فدل على أفضليته فيكون هو الإمام
7
121
فيقال لا ريب أن الفضيلة التي حصلت لأبي بكر قي الهجرة لم تحصل لغيره من الصحابة بالكتاب و السنة و الإجماع فتكون هذه الأفضلية ثابتة له دون عمر و عثمان و علي و غيرهم من الصحابة فيكون هو الإمام فهذا هو الدليل الصدق الذي لا كذب فيه يقول الله إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن أن الله معنا و مثل هذه الفضيلة لم تحصل لغير أبي بكر قطعا بخلاف الوقاية بالنفس فإنها لو كانت صحيحة فغير واحد من الصحابة وقى النبي صلى الله عليه و سلم بنفسه و هذا واجب على كل مؤمن ليس من الفضائل المختصة بالأكابر من الصحابة و الأفضلية إنما تثبت بالخصائص لا بالمشتركات يبين ذلك انه لم ينقل أحد أن عليا أوذي في مبيته على فراش النبي و قد أوذي غيره في وقايتهم النبي صلى الله عليه و سلم تارة بالضرب و تارة بالجرح و تارة بالقتل فمن فداه و أوذي اعظم ممن فداه و لم يؤذ و قد قال العلماء ما صح لعلي من الفضائل فهي مشتركة شاركه فيها غيره بخلاف الصديق فان كثيرا من فضائله و أكثرها خصائص له لا يشركه فيها غيره و هذا مبسوط في موضعه
7
122(188/86)
فصل قال الرافضي البرهان التاسع قوله تعالى فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم ونساءنا ونساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين نقل الجمهور كافة أن أبناءنا إشارة إلى الحسن والحسين ونساءنا إشارة إلى فاطمة و أنفسنا إشارة إلى على وهذه الآية دليل على ثبوت الإمامة لعلى لأنه تعالى قد جعل نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم والاتحاد محال فيبقى المراد بالمساواة له الولاية وأيضا لو كان غير هؤلاء مساويا لهم وأفضل منهم في استجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم معه لأنه في موضع الحاجة وإذا كانوا هم الأفضل تعينت الإمامة فيهم وهل تخفى دلالة هذه الآية على المطلوب إلا على من استحوذ الشيطان عليه واخذ بمجامع
7
123
قلبه وحببت إليه الدنيا التي لا ينالها إلا بمنع أهل الحق من حقهم والجواب أن يقال أما أخذه عليا وفاطمة والحسن والحسين في المباهلة فحديث صحيح رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال في حديث طويل لما نزلت هذه الآية فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم ونساءنا ونساءكم و أنفسنا و أنفسكم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهم هؤلاء أهل ولكن لا دلالة في ذلك على الإمامة و لا على الأفضلية وقوله قد جعله الله نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم والاتحاد محال فبقى المساواة له وله الولاية العامة فكذا المساوية قلنا لا نسلم انه لم يبق إلا المساواة ولا دليل على ذلك بل حمله على ذلك ممتنع لان أحدا لا يساوي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عليا ولا غيره
7
124(188/87)
وهذا اللفظ في لغة العرب لا يقتضي المساواة قال تعالى في قصة الإفك لولا إذا سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ولم يوجب ذلك أن يكون المؤمنون والمؤمنات متساوين وقد قال الله تعالى في قصة بني إسرائيل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم أي يقتل بعضكم بعضا ولم يوجب ذلك أن يكونوا متساوين ولا أن يكون من عبد العجل مساويا لمن لم يعبده وكذلك قد قيل في قوله ولا تقتلوا أنفسكم أي لا يقتل بعضكم بعضا وان كانوا غير متساوين وقال تعالى ولا تلمزوا أنفسكم أي لا يلمز بعضكم بعضا فيطعن عليه ويعيبه وهذا نهي لجميع المؤمنين أن لا يفعل بعضهم ببعض هذا الطعن و العيب مع انهم غير متساوين لا في الأحكام ولا في الفضيلة ولا الظالم كالمظلوم ولا الإمام كالمأموم ومن هذا الباب قوله تعالى ثم انتم هؤلاء تقتلون وأنفسكم أي يقتل بعضكم بعضا وإذا كان اللفظ وأنفسنا كأنفسكم كاللفظ في قوله ولا تلمزوا أنفسكم وقوله تعالى لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ونحو ذلك مع أن التساوي هنا ليس بواجب بل ممتنع فكذلك هناك واشد بل هذا اللفظ يدل على المجانسة والمشابهة والتجانس والمشابهة يكون بالاشتراك
7
125(188/88)
في بعض الأمور كالاشتراك في الإيمان فالمؤمنون اخوة في الإيمان وهو المراد بقوله لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقوله ولا تلمزوا أنفسكم وقد يكون الاشتراك في الدين وان كان فيهم المنافق كاشتراك المسلمين في الإسلام الظاهر وان كان مع ذلك الاشتراك في النسب فهو أوكد وقوم موسى كانوا أنفسنا بهذا الاعتبار قوله تعالى تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم أي رجالنا ورجالكم أي الرجال الذين هم من جنسنا في الدين والنسب والرجال الذين هم من جنسكم أو المراد التجانس في القرابة فقط لأنه قال أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم فذكر الأولاد وذكر والنساء والرجال فعلم انه أراد الأقربين إلينا من الذكور والإناث من الأولاد والعصبة ولهذا دعا الحسن والحسين من الأبناء ودعا فاطمة من النساء ودعا عليا من رجاله ولم يكن عنده أحد أقرب إليه نسبا من هؤلاء وهم الذين أدار عليهم الكساء والمباهلة إنما تحصل بالأقربين إليه و إلا فلو بأهلهم بالابعدين في
7
126(188/89)
النسب وان كانوا أفضل عند الله لم يحصل المقصود فان المراد انهم يدعون الأقربين كما يدعوا هو الأقرب إليه والنفوس تحنوا على أقاربها مالا تحنوا على غيرهم وكانوا يعلمون انه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلمون انهم أن باهلوه نزلت البهلة عليهم وعلى أقاربهم واجتمع خوفهم على أنفسهم وعلى أقاربهم فكان ذلك أبلغ في امتناعهم و إلا فالإنسان قد يختار أن يهلك ويحيا ابنه والشيخ الكبير قد يختار الموت إذا بقى أقاربه في نعمة ومال وهذا موجود كثير فطلب منهم المباهلة بالأبناء والنساء والرجال والأقربين من الجانبين فلهذا دعا هؤلاء وآية المباهلة نزلت سنة عشر لما قدم وفد نجران ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد بقي من أعمامه إلا العباس والعباس لم يكن من السابقين الأولين ولا كان له به اختصاص كعلي و أما بنو عمه فلم يكن فيهم مثل علي وكان جعفر قد قتل قبل ذلك فان المباهلة كانت لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر وجعفر قتل بمؤتة سنة ثمان فتعين علي رضي الله عنه وكونه تعين للمباهلة إذ ليس في الأقارب من يقوم مقامه لا يوجب أن يكون مساويا للنبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الأشياء بل ولا أن يكون أفضل من سائر الصحابة مطلقا بل له بالمباهلة نوع فضيلة
7
127(188/90)
وهي مشتركة بينه وبين فاطمة وحسن وحسين ليست من خصائص الإمامة فان خصائص الإمامة لا تثبت للنساء ولا يقتضي أن يكون من بأهل به أفضل من جميع الصحابة كما لم يوجب أن تكون فاطمة وحسن وحسين أفضل من جميع الصحابة و أما قول الرافضي لو كان غير هؤلاء مساويا لهم أو أفضل منهم في استجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم معه لأنه في موضع الحاجة فيقال في الجواب لم يكن المقصود إجابة الدعاء فان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وحده كاف ولو كان المراد بمن يدعوه معه أن يستجاب دعاؤه لدعا المؤمنين كلهم ودعا بهم كما كان يستسقى بهم وكما كان يستفتح بصعاليك المهاجرين وكان يقول وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم و إخلاصهم ومن المعلوم أن هؤلاء وان كانوا مجابين فكثرة الدعاء ابلغ في الإجابة لكن لم يكن المقصود دعوة من دعاه لإجابة دعائه بل لأجل المقابلة بين الأهل والأهل ونحن نعلم بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه
7
128(188/91)
وسلم لو دعا أبا بكر وعمر وعثمان و طلحة و الزبير وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وغيرهم للمباهلة لكانوا من اعظم الناس استجابة لأمره وكان دعاء هؤلاء وغيرهم ابلغ في إجابة الدعاء لكن لم يأمره الله سبحانه بأخذهم معه لان ذلك لا يحصل به المقصود فان المقصود أن أولئك يأتون بمن يشفقون عليه طبعا كأبنائهم ونسائهم ورجالهم الذين هم أقرب الناس إليهم فلو دعا النبي صلى الله عليه وسلم قوما أجانب لأتى أولئك بأجانب ولم يكن يشتد عليه نزول البهلة بأولئك الأجانب كما يشتد عليهم نزولها بالأقربين إليهم فان طبع البشر يخاف على أقربيه مالا يخاف على الأجانب فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوا قرابته وأن يدعوا أولئك قرابتهم و الناس عند المقابلة تقوا كل طائفة للأخرى ارهنوا عندنا أبناءكم و نساءكم فلو رهنت إحدى الطائفتين أجنبيا لم يرض أولئك كما أنه لو دعا النبيي الأجانب لم يرض أولئك المقابلون له و لا يلزم أن يكون أهل الرجل أفضل عند الله إذا قابل بهم لمن يقابله بأهله فقد تبين أن الآية لا دلالة فيها أصلا على مطلوب الرافضي لكنه و أمثاله ممن في قلبه زيغ كالنصارى الذين يتعلقون بالألفاظ المجملة و يدعون النصوص الصريحة ثم قدحه في خيار الأمة بزعمه الكاذب
7
129(188/92)
حيث زعم أن المراد بالأنفس المساوون و هو خلاف المستعمل في لغة العرب و مما يبين ذلك أن قوله نساءنا لا يختص بفاطمة بل من دعاه من بناته كانت بمنزلتها في ذلك لكن لم يكن عنده إذ ذاك إلا فاطمة فإن رقية و أم كلثوم و زينب كن قد توفين قبل ذلك فكذلك أنفسنا ليس مختصا بعلي بل هذه صيغة جمع كما انه صيغة جمع و كذلك أبناءنا صيغة جمع و إنما دعا حسنا و حسينا لأنه لم يكن ممن ينسب إليه بالبنوة سواهما فان إبراهيم أن كان موجودا إذ ذاك فهو طفل لا يدعى فان إبراهيم هو ابن مارية القبطية التي أهداها له المقوقس صاحب مصر و أهدى له البغلة و مارية و سيرين فأعطى سيرين لحسان بن ثابت و تسرى مارية فولدت له إبراهيم و عاش بضعة عشر شهرا و مات فقال النبي صلى الله عليه و سلم أن له مرضعا في الجنة تتم إرضاعه
7
130
و كان إهداء المقوقس بعد الحديبية بل بعد حنين فصل قال الرافضي البرهان العاشر قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه روى الفقيه ابن المغازلي الشافعي بإسناده عن ابن عباس قال سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه قال سأله بحق محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين أن يتوب عليه فتاب عليه و هذه فضيلة لم يلحقه أحد من الصحابة فيها فيكون هو الإمام لمساواته النبي صلى الله عليه و سلم في التوسل به إلى الله تعالى و الجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة هذا النقل فقد عرف أن مجرد رواية ابن المغازلي لا يسوغ الاحتجاج بها باتفاق أهل العلم
7
131(188/93)
الثاني أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم و ذكره أبو الفرج بن الجوزي في الموضوعات عن طريق الدار قطني فان له كتبا في الأفراد و الغرائب قال الدار قطني تفرد به عمرو بن ثابت عن أبيه عن أبي المقدام لم يروه عنه غير حسن الأشقر قال يحيى بن معين عمرو بن ثابت ليس ثقة و لا مأمونا و قال ابن حبان يروي الموضوعات عن الأثبات الثالث إن الكلمات التي تلقاها آدم قد جاءت مفسرة في قوله تعالى ربنا ظلمنا أنفسنا و أن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين وقد روي عن السلف هذا و ما يشبهه و ليس في شيء من النقل الثابت عنهم ما ذكره من القسم الرابع انه معلوم بالاضطرار أن من هو دون آدم من الكفار و الفساق إذا تاب أحدهم إلى الله تاب الله عليه و أن لم يقسم عليه بأحد فكيف يحتاج آدم في توبته إلى ما لا يحتاج إليه أحد من المذنبين لا مؤمن و لا كافر و طائفة قد رووا انه توسل بالنبي صلى الله عليه و سلم حتى قبل توبته و هذا كذب و روي عن مالك في ذلك حكاية في خطابه للمنصور و هو كذب على مالك و إن كان ذكرها القاضي عياض في الشفا
7
132(188/94)
الخامس أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر أحدا بالتوبة بمثل هذا الدعاء بل و لا أمر أحدا بمثل هذا الدعاء في توبة و لا غيرها بل و لا شرع لامته أن يقسموا على الله بمخلوق و لو كان هذا الدعاء مشروعا لشرعه لامته السادس أن الأقسام على الله بالملائكة و الأنبياء أمر لم يرد به كتاب و لا سنة بل قد نص غير واحد من أهل العلم كأبي حنيفة و أبي يوسف و غيرهما على انه لا يجوز أن يقسم على الله بمخلوق و قد بسطنا الكلام على ذلك السابع أن هذا لو كان مشروعا فآدم نبي كريم كيف يقسم على الله بمن هو اكرم عليه منه و لا ريب أن نبينا صلى الله عليه و سلم أفضل من آدم لكن آدم أفضل من علي و فاطمة وحسن و حسين الثامن أن يقال هذه ليست من خصائص الأئمة فأنها قد ثبتت لفاطمة و خصائص الأئمة لا تثبت للنساء و ما لم يكن من خصائصهم لم يستلزم الإمأمةفان دليل الإمأمةلا بد أن يكون ملزوما لها يلزم من وجوده استحقاقها فلو كان هذا دليلا على الإمأمة لكان من يتصف به يستحقها و المرأة لا تكون إماما بالنص و الإجماع فصل قال الرافضي البرهان الحادي عشر قوله تعالى إني
7
133(188/95)
جاعلك للناس إماما و من ذريتي روى الفقيه ابن المغازلي الشافعي عن ابن مسعود قال قال النبي صلى الله عليه و سلم انتهت الدعوة إلى و إلى علي لم يسجد أحدنا لصنم قط فاتخذني نبيا و اتخذ عليا وصيا و هذا نص في الباب و الجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة هذا كما تقدم الثاني أن هذا الحديث كذب موضوع بإجماع أهل العلم بالحديث الثالث أن قوله انتهت الدعوة إلينا كلام لا يجوز أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه و سلم فانه إن أريد أنها لم تصب من قبلنا كان ممتنعا لأن الأنبياء من ذرية إبراهيم دخلوا في الدعوة قال تعالى و وهبنا له اسحق و يعقوب نافلة و كلا جعلنا صالحين و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا و أوحينا إليهم فعل الخيرات و أقام الصلاة و إيتاء الزكاة و قال تعالى و آتينا موسى الكتاب و جعلناه هدى لبني إسرائيل و قال عن بني إسرائيل و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون
7
134(188/96)
و قال نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين و نمكن لهم في الأرض فهذه عدة نصوص من القران في جعل الله أئمة من ذرية إبراهيم قبل امتنا و إن أريد انتهت الدعوة إلينا انه لا إمام بعدنا لزم أن إلا يكون الحسن و الحسين و لا غيرهما أئمة و هو باطل بالإجماع ثم التعليل بكونه لم يسجد لصنم هو علة موجودة في سائر المسلمين بعدهم الوجه الرابع أن كون الشخص لم يسجد لصنم فضيلة يشاركه فيها جميع من ولد على الإسلام مع أن السابقين الأولين أفضل منه فكيف يجعل المفضول مستحقا لهذه المرتبة دون الفاضل الخامس انه لو قيل انه لم يسجد لصنم لأنه اسلم قبل البلوغ فلم يسجد بعد إسلامه فهكذا كل مسام و الصبي غير مكلف و إن قيل انه لم يسجد قبل إسلامه فهذا النفي غير معلوم و لا قائله ممن يوثق به و يقال ليس كل من لم يكفر أو من لم يأت بكبيرة أفضل ممن تاب عنها مطلقا بل قد يكون التائب من الكفر و الفسوق أفضل ممن لم يكفر و لم يفسق كما دل على ذلك الكتاب العزيز فان الله فضل الذين أنفقوا من فبل الفتح و قاتلوا على الذين أنفقوا من بعد و قاتلوا و أولئك كلهم اسلموا بعد الكفر و هؤلاء فيهم من ولد على الإسلام و فضل
7
135(188/97)
السابقين الأولين على التابعين لهم بإحسان و أولئك آمنوا بعد الكفر و أكثر التابعين ولدوا على الإسلام و قد ذكر الله في القران أن لوطا آمن لإبراهيم و بعثه الله نبيا و قال شعيب قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها و ما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا و قال تعالى و قال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا و قد اخبر الله عن اخوة يوسف بما اخبر ثم نباهم بعد توبتهم و هم الأسباط الذين امرنا أن نؤمن بما أوتوا في سورة البقرة و آل عمران و النساء و إذا كان في هؤلاء من صار نبيا فمعلوم أن الأنبياء أفضل من غيرهم و هذا مما تنازع فيه الرافضة و غيرهم و يقولون من صدر منه ذنب لا يصير نبيا و النزاع فيمن اسلم أعظم لكن الاعتبار بما دل عليه الكتاب و السنة و الذين منعوا من هذا عمدتهم أن التائب من الذنب يكون ناقصا مذموما لا يستحق النبوة و لو صار من أعظم الناس طاعة و هذا هو الأصل الذي نوزعوا فيه و الكتاب و السنة و الإجماع يدل على بطلان قولهم فيه فصل قال الرافضي البرهان الثاني عشر قوله تعالى إن
7
136(188/98)
الذين آمنوا و عملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا روى الحافظ أبو نعيم الاصبهاني بإسناده إلى ابن عباس قال نزلت في علي و الود محبة في القلوب المؤمنة و في تفسير الثعلبي عن البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا لعلي قل اللهم اجعل لي عندك عهدا و اجعل لي في صدور المؤمنين مودة فانزل الله إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا و لم يثبت لغيره ذلك فيكون هو الإمام و الجواب من وجوه أحدها انه لا بد من إقأمةالدليل على صحة المنقول إلا فالاستدلال بما لا تثبت مقدماته باطل بالاتفاق و هو من القول بلا علم و من قفو الإنسان بما ليس له به علم و من المحاجة بغير علم و العزو المذكور لا يفيد الثبوت باتفاق أهل السنة و الشيعة الوجه الثاني أن هذين الحديثين من الكذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث
7
137
الثالث أن قوله إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات عام في جميع المؤمنين فلا يجوز تخصيصها بعلي بل هي متناولة لعلي و غيره و الدليل عليه أن الحسن و الحسين و غيرهما من المؤمنين الذين تعظمهم الشيعة داخلون في الآية فعلم بذلك الإجماع على عدم اختصاصها بعلي و أما قوله و لم يثبت مثل ذلك لغيره من الصحابة فممنوع كما تقدم فانهم خير القرون فالذين آمنوا و عملوا الصالحات فيهم أفضل منهم في سائر القرون و هم بالنسبة إليهم أكثر منهم في كل قرن بالنسبة إليه الرابع أن الله قد اخبر انه سيجعل للذين آمنوا و عملوا الصالحات ودا و هذا وعد منه صادق و معلوم أن الله قد جعل للصحابة مودة في قلب كل مسلم لا سيما الخلفاء رضي الله عنهم لا سيما أبو بكر و عمر فان عأمةالصحابة و التابعين كانوا يودونهما و كانوا خير القرون و لم يكن كذلك علي فان كثيرا من الصحابة و التابعين كانوا يبغضونه
7
138(188/99)
و يسبونه و يقاتلونه و أبو بكر و عمر رضي الله عنهما قد ابغضهما و سبهما الرافضة و النصيرية و الغالية و الإسماعيلية لكن معلوم أن الذين احبوا دينك أفضل و أكثر و أن الذين ابغضوهما ابعد عن الإسلام و اقل بخلاف علي فان الذين ابغضوه و قاتلوه هم خير من الذين ابغضوا أبا بكر و عمر بل شيعة عثمان الذين يحبونه و يبغضون عليا وان كانوا مبتدعين ظالمين فشيعة علي الذين يحبونه و يبغضون عثمان انقص منهم علما و دينا و أكثر جهلا و ظلما فعلم أن المودة التي جعلت للثلاثة أعظم و إذا قيل علي قد ادعيت فيه الاهية و النبوة قيل قد كفرته الخوارج كلها و أبغضته المر وانية و هؤلاء خير من الرافضة الذين يسبون أبا بكر و عمر رضي الله عنهما فضلا عن الغالية فصل قال الرافضي البرهان الثالث عشر قوله تعالى إنما أنت منذر و لكل قوم هاد من كتاب الفردوس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا
7
139
المنذر و علي الهادي بك يا علي يهتدي المهتدون و نحوه رواه أبو نعيم و هو صريح في ثبوت الولاية و الإمأمة و الجواب من وجوه و أحدها أن هذا لم يقم دليل على صحته فلا يجوز الاحتجاج به و كتاب الفردوس للديلمي فيه موضوعات كثيرة اجمع أهل العلم على أن مجرد كونه رواه لا يدل على صحة الحديث و كذلك رواية أبي نعيم لا تدل على الصحة الثاني أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث فيجب تكذيبه و رده
7
140(188/100)
الثالث أن هذا الكلام لا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه و سلم فان قوله أنا المنذر و بك يا علي يهتدى المهتدون ظاهره انهم بك يهتدون دوني و هذا لا يقوله مسلم فان ظاهره أن النذارة و الهداية مقسومة بينهما فهذا نذير لا يهتدي به و هذا هاد و هذا لا يقوله مسلم الرابع أن الله تعالى قد جعل محمدا هاديا فقال و انك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله فكيف يجعل الهادي من لم يوصف بذلك دون من وصف به الخامس أن قوله بك يهتدي المهتدون ظاهره أن كل من اهتدى من أمةمحمد فبه اهتدى و هذا كذب بين فانه قد آمن بالنبي صلى الله عليه و سلم خلق كثير و اهتدوا به و دخلوا الجنة و لم يسمعوا من علي كلمة واحدة و أكثر الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه و سلم و اهتدوا به لم يهتدوا بعلي في شيء و كذلك لما فتحت الأمصار و آمن و اهتدى الناس بمن سكنها من الصحابة و غيرهم كان جماهير المؤمنين لم يسمعوا من علي شيئا فكيف يجوز أن يقال بك يهتدي المهتدون
7
141
السادس انه قد قيل معناه إنما أنت نذير و لكل قوم هاد و هو الله تعالى و هو قول ضعيف و كذلك قول من قال أنت نذير و هاد لكل قوم قول ضعيف و الصحيح أن معناها إنما أنت نذير كما أرسل من قبلك نذير و لكل أمةنذير يهديهم أن يدعوهم كما في قوله و إن من أمةإلا خلا فيها نذير و هذا قول جماعة من المفسرين مثل قتادة و عكرمة و أبي الضحى و عبد الرحمن بن زيد قال ابن جرير الطبري حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة و حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن السدي عن عكرمة و منصور عن أبي الضحى إنما أنت منذر و لكل قوم هاد قالا محمد هو المنذر و هو الهادي حدثنا يونس حدثنا ابن وهب قال قال ابن زيد لكل قوم نبي الهادي النبي و المنذر النبي أيضا و قرا وأن من أمة
7
142(188/101)
إلا خلا فيها نذير و قرا نذير من النذر الأولى قال نبي من الأنبياء حدثنا بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا سفيان عن ليث عن مجاهد قال المنذر محمد و لكل قوم هاد قال نبي و قوله يوم ندعوا كل أناس بإمامهم إذ الإمام هو الذي يؤتم به أي يقتدي به و قد قيل أن المراد به هو الله الذي يهديهم و الأول اصح و أما تفسيره بعلي فانه باطل لأنه قال و لكل قوم هاد و هذا يقتضي أن يكون هادي هؤلاء غيرها دي هؤلاء فيتعدد الهداة فكيف يجعل علي هاديا لكل قوم من الأولين و الآخرين السابع أن الاهتداء بالشخص قد يكون بغير تاميره عليهم كما يهتدي بالعالم و كما جاء في الحديث الذي فيه أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم فليس هذا صريحا في أن الإمأمةكما زعمه هذا المفتري
7
143
الثامن أن قوله لكل قوم هاد نكرة في سياق الإثبات و هذا لا يدل على معين فدعوى دلالة القران على علي باطل و الاحتجاج بالحديث ليس احتجاجا بالقرآن مع انه باطل التاسع أن قوله كل قوم صيغة عموم و لو أريد أن هاديا واحدا للجميع لقيل لجميع الناس هاد لا يقال لكل قوم فان هؤلاء القوم غير هؤلاء القوم و هو لم يقل لجميع القوم و لا يقال ذلك بل أضاف كلا إلى نكرة لم يضفه إلى معرفة كما في قولك كل الناس يعلم أن هنا قوما و قوما متعددين و أن كل قوم لهم هاد ليس هو هادي الآخرين و هذا يبطل قول من يقول أن الهادي هو الله تعالى و دلالته على بطلان قول من يقول هو علي اظهر فصل قال الرافضي البرهان الرابع عشر قوله تعالى قفوهم انهم مسؤولون من طريق أبي نعيم عن الشعبي عن ابن عباس قال في قوله تعالى و قفوهم انهم مسئولون عن ولآية علي و كذا في كتاب الفردوس عن أبي
7
144(188/102)
سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم و إذا سئلوا عن الولاية وجب ان تكون ثابتة له و لم يثبت لغيره من الصحابة ذلك فيكون هو الإمام و الجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة النقل و العزو إلى الفردوس و إلى أبي نعيم لا تقوم به حجة باتفاق أهل العلم الثاني أن هذا كذب موضوع بالاتفاق الثالث أن الله تعالى قال بل عجبت و يسخرون و إذا ذكروا لا يذكرون و إذا رأوا آية يستسخرون و قالوا إن هذا إلا سحر مبين أإذا متنا و كنا ترأبا وعظاما أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل نعم و انتم دآخرون فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون و قالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون احشروا الذين ظلموا و أزواجهم و ما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم و قفوهم انهم مسئولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون و اقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن أليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين و ما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين فانهم يومئذ في العذاب مشتركون إنا كذلك نفعل بالمجرمين انهم كانوا إذا
7
145(188/103)
قيل لهم لا اله إلاالله يستكبرون و يقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق و صدق المرسلين فهذا خطاب عن المشركين المكذبين بيوم الدين و هؤلاء يسألون عن توحيد الله و الأيمان برسله و اليوم الآخر و أي مدخل لحب علي في سؤال هؤلاء تراهم لو أحبوه مع هذا الكفر و الشرك أكان ذلك ينفعهم أو تراهم لو ابغضوه أين كان بغضهم له في بغضهم لأنبياء الله و لكتابه و دينه و ما يفسر القران بهذا و يقول النبي صلى الله عليه و سلم فسره بمثل هذا إلا زنديق ملحد متلاعب بالدين قادح في دين الإسلام أو مفرط في الجهل لا يدري ما يقول و أي فرق بين حب علي و طلحة و الزبير و سعد و أبي بكر و عمر و عثمان و لو قال قائل انهم مسئولون عن حب أبي بكر لم يكن قوله ابعد من قول من قال عن حب علي و لا في الآية ما يدل على أن ذلك القول ارجح بل دلالتها على ثبوتهما و انتفائهما سواء و الأدلة الدالة على وجوب حب أبي بكر أقوى الرابع أن قوله مسئولون لفظ مطلق لم يوصل به ضمير يخصه بشيء و ليس في السياق ما يقتضي ذكر حب علي فدعوى المدعي دلالة اللفظ على سؤالهم عن حب علي من أعظم الكذب و البهتان
7
146
الخامس انه لو ادعى مدع انهم مسئولون عن حب أبي بكر و عمر لم يكن إبطال ذلك بوجه إلا و إبطال السؤال عن حب علي أقوى و اظهر فصل قال الرافضي البرهان الخامس عشر قوله تعالى و لتعرفنهم في لحن القول روى أبو نعيم بإسناده عن أبي سعيد الخدري في قوله تعالى و لتعرفنهم في لحن القول قال ببغضهم عليا و لم يثبت لغيره من الصحابة ذلك فيكون أفضل منهم فيكون هو الإمام و الجواب المطالبة بصحة النقل أولا و الثاني أن هذا من الكذب على أبي سعيد عند أهل المعرفة بالحديث الثالث أن يقال لو ثبت انه قاله فمجرد قول أبي سعيد قول واحد من الصحابة و قول الصاحب إذا خالفه صاحب آخر ليس بحجة باتفاق
7
147(188/104)
أهل العلم و قد علم قدح كثير من الصحابة في علي و إنما احتج عليهم بالكتاب و السنة لا بقول آخر من الصحابة الرابع إنا نعلم بالاضطرار أن عأمةالمنافقين لم يكن ما يعرفون به من لحن القول هو بغض علي فتفسير القران بهذا فرية ظاهرة الخامس أن عليا لم يكن أعظم معاداة للكفار و المنافقين من عمر بل و لا نعرف انهم كانوا يتأذون منه كما يتأذون من عمر بل و لا نعرف انهم كانوا يتأذون منه إلا و كان بغضهم لعمر اشد السادس انه في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال آية الأيمان حب الأنصار و آية النفاق بغض الأنصار و قال لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله و اليوم الآخر فكان معرفة المنافقين في لحنهم ببغض الأنصار أولى فان هذه الأحاديث اصح مما يروى عن علي انه قال انه لعهد النبي الأمي إلي انه لا يحبني إلا مؤمن و لا يبغضني لا منافق فان هذا من أفراد مسلم و هو من رواية عدي بن ثابت عن زر بن حبيش عن علي و البخاري عن هذا الحديث بخلاف أحاديث الأنصار
7
148(188/105)
فأنها مما اتفق عليه أهل الصحيح كلهم البخاري غيره و أهل العلم يعلمون يقينا أن النبي قاله و حديث علي قد شك فيه بعضهم السابع أن علامات النفاق كثيرة كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب و إذا وعد اخلف و إذا ائتمن خان فهذه علامات ظاهرة فعلم أن علامات النفاق لا تختص بحب شخص أو طائفة و لا بغضهم إن كان ذلك من العلامات و لا ريب أن من حب عليا لله بما يستحقه من المحبة لله فذلك من الدليل على أيمانه و كذلك من احب الأنصار لأنهم نصروا الله و رسوله فذلك من علامات أيمانه و من ابغض عليا و الأنصار لما فيهم من الأيمان بالله و رسوله و الجهاد في سبيله فهو منافق و أما من احب الأنصار أو عليا أو غيرهم لأمر طبيعي مثل قرابة بينهما فهو كمحبة أبي طالب للنبي و ذلك لا ينفعه عند الله و من غلا في الأنصار أو في علي أو في المسيح أو في نبي فاحبه و اعتقد فيه فوق مرتبته فانه لم يحبه في الحقيقة إنما احب مالا وجود له كحب النصارى للمسيح فان المسيح أفضل من علي و هذه المحبة لا تنفعهم فإنه إنما ينفع الحب لله لا الحب مع الله قال تعالى و من الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله و الذين آمنوا اشد حبا لله
7
149(188/106)
و من قدر انه سمع عن بعض الأنصار أمرا يوجب بغضه فابغضه لذلك كان ضالا مخطئا و لم يكن منافقا بذلك و كذلك من اعتقد في بعض الصحابة اعتقادا غير مطابق و ظن فيه انه كان كافرا أو فاسقا فابغضه لذلك كان جاهلا ظالما و لم يكن منافقا و هذا مما يبين به كذب ما يروى عن بعض الصحابة كجابر انه قال ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي صلى الله عليه و سلم إلا ببغضهم علي بن أبي طالب فان هذا النفي من اظهر الأمور كذبا لا يخفى بطلان هذا النفي على آحاد الناس فضلا عن أن يخفى مثل ذلك على جابر أو نحوه فان الله قد ذكر في سورة التوبة و غيرها من علامات المنافقين و صفاتهم أمورا متعددة ليس في شيء منها بغض علي كقوله و منهم من يقول ائذن لي و لا تفتني إلا في الفتنة سقطوا و قوله و منهم من يلمزك في الصدقات فان أعطوا منها رضوا و إن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون و قوله و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله و قوله و منهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن و لنكونن من
7
150
الصالحين إلى قوله وبما كانوا يكذبون إلى أمثال ذلك من الصفات التي يصف بها المنافقين وذكر علاماتهم وذكر الأسباب الموجبة للنفاق وكل ما كان موجبا للنفاق فهو دليل عليه وعلامة له فكيف يجوز لعاقل أن يقول لم يكن للمنافقين علامة يعرفون بها غير بغض علي وقد كان من علامتهم التخلف عن الجماعة كما في الصحيح عن ابن مسعود انه قال أيها الناس حافظوا على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن فإنهن من سنن الهدى وان الله شرع لنبيه سنن الهدى وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلى هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ولقد رايتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف
7
151(188/107)
وعامة علا مات النفاق وأسبابه ليست في أحد من أصناف الأمة اظهر منها في الرافضة حتى يوجد فيهم من النفاق الغليظ الظاهر ما لا يوجد في غيرهم وشعار دينهم التقية التي هي أن يقول بلسانه ما ليس في قلبه وهذا علامة النفاق كما قال الله تعالى وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبأذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ اقرب منهم للأيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله اعلم بما يكتمون وقال تعالى يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وقال تعالى في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وفيها قراءتان يكذبون و يكذبون وفي الجملة فعلامات النفاق مثل الكذب والخيانة و إخلاف الوعد والغدر لا يوجد في طائفة أكثر منها في الرافضة وهذا من صفاتهم القديمة حتى انهم كانوا يغدرون بعلي والحسن والحسين
7
152(188/108)
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب و إذا وعد اخلف و إذا عاهد غدر و إذا خاصم فجر وهذا لبسطه موضوع آخر والمقصود هنا أنه يمتنع أن يقال لا علامة للنفاق إلا بغض على ولا يقول هذا أحد من الصحابة لكن الذي قد يقال أن بغضه من علا مات النفاق كما في الحديث المرفوع لا يبغضني إلا منافق فهذا يمكن توجيهه فانه من علم ما قام به على رضى الله عنه من الأيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله ثم ابغضه على ذلك فهو منافق ونفاق من يبغض الأنصار اظهر فان الأنصار قبيلة عظيمة لهم مدينة وهم الذين تبؤاالدار الدار والأيمان من قبل المهاجرين وبالهجرة إلى دارهم عز الأيمان واستظهر أهله وكان لهم من نصر الله ورسوله ما لم يكن لأهل مدينة غيرهم ولا لقبيلة سواهم فلا يبغضهم إلا منافق ومع هذا فليسوا بأفضل من المهاجرين بل المهاجرون أفضل منهم فعلم انه لا يلزم من كون بغض الشخص من علامات النفاق أن يكون أفضل من غيره ولا يشك من عرف أحوال الصحابة أن عمر كان اشد عداوة للكفار والمنافقين من على وان تأثيره في نصر الإسلام و إعزازه
7
153(188/109)
وإذلال الكفار والمنافقين أعظم من تأثير على وان الكفار والمنافقين أعداء الرسول يبغضونه أعظم مما يبغضون علي ولهذا كان الذي قتل عمر كافرا يبغض دين الإسلام ويبغض الرسول و أمته فقتله بغضا للرسول ودينه و أمته و الذي قتل عليا كان يصلى ويصوم ويقرأ القران وقتله معتقدا أن الله ورسوله يحب قتل على وفعل ذلك محبة لله ورسول في زعمه وان كان في ذلك مبتدعا ضالا والمقصود أن النفاق في بغض عمر اظهر منه في بغض علي ولهذا لما كان الرافضة من أعظم الطوائف نفاقا كانوا يسمون عمر فرعون الأمة و كانوا يوالون أبا لؤلؤة قاتله الله الذي هو من اكفر الخلق و أعظمهم عداوة لله ولرسوله فصل قال الرافضي البرهان السادس عشر قوله تعالى والسابقون السابقون أولئك المقربون روى أبو نعيم عن ابن عباس في هذه الآية سابق هذه الأمة
7
154
علي بن أبي طالب روى الفقيه ابن المغازلي الشافعي عن مجاهد عن ابن عباس في قوله والسابقون السابقون قال سبق يوشع بن نون إلى موسى وسبق موسى إلى هارون وسبق صاحب يس إلى عيسى وسبق على إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الفضيلة لم تثبت لغيره من الصحابة فيكون هو الإمام والجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة النقل فان الكذب كثير فيما يرويه هذا وهذا الثاني أن هذا باطل عن ابن عباس ولو صح عنه لم يكن حجة إذا خالفه من هو أقوى منه الثالث أن الله يقول والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه واعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار
7
155(188/110)
وقال تعالى ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بأذن الله الآيه والسابقون الأولون هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا الذين هم أفضل ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل ودخل فيهم أهل بيعة الرضوان وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة فكيف يقال أن سابق هذه الأمة واحد الرابع قوله وهذه الفضيلة لم تثبت لغيره من الصحابة ممنوع فان الناس متنازعون في أول من اسلم فقيل أبو بكر أول من اسلم فهو اسبق إسلاما من على وقيل أن عليا أسلم قبله لكن علي كان صغيرا وإسلام الصبي فيه نزاع بين العلماء ولا نزاع في أن إسلام أبي بكر أكمل وانفع فيكون هو أكمل سبقا بالاتفاق واسبق على الإطلاق على القول الآخر فكيف يقال على اسبق منه بلا حجة تدل على ذلك الخامس أن هذه الآية فضلت السابقين الأولين ولم تدل على أن كل من كان اسبق إلى الإسلام كان أفضل من غيره وإنما يدل على أن السابقين أفضل قوله تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى فالذين سبقوا إلى الإنفاق والقتال قبل الحديبية أفضل ممن بعدهم فان الفتح فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية و إذا كان أولئك السابقون قد سبق بعضهم بعضا إلى الإسلام فليس
7
156(188/111)
في الآيتين ما يقتضي أن يكون أفضل مطلقا بل قد يسبق إلى الإسلام من سبقه غيره إلى الإنفاق والقتال ولهذا كان عمر رضي الله عنه ممن اسلم بعد تسعة وثلاثين وهو أفضل من أكثرهم بالنصوص الصحيحة وبإجماع الصحابة والتابعين وما علمت أحدا قط قال أن الزبير ونحوه أفضل من عمر و الزبير اسلم قبل عمر ولا قال من يعرف من أهل العلم إن عثمان أفضل من عمر وعثمان اسلم قبل عمر وان كان الفضل بالسبق إلى الإنفاق والقتال فمعلوم أن أبا بكر أخص بهذا فانه لم يجاهد قبله أحد لا بيده ولا بلسانه بل هو من حين آمن بالرسول ينفق ماله ويجاهد بحسب الإمكان فاشترى من المعذبين في الله غير واحد وكان يجاهد مع الرسول قبل الأمر بالقتال وبعد الأمر بالقتال كما قال تعالى وجاهدهم به جهادا كبيرا فكان أبو بكر اسبق الناس و أكملهم في أنواع الجهاد بالنفس والمال ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح إن آمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر والصحبة بالنفس وذات اليد هو المال فاخبر النبي صلى الله عليه وسلم انه آمن الناس عليه في النفس والمال
7
157
فصل قال الرافضي البرهان السابع عشر قوله تعالى الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله روى رزين بن معاوية في الجمع بين الصحاح الستة أنها نزلت في علي لما افتخر طلحة بن شيبة والعباس وهذه لم ثبت لغيره من الصحابة فيكون أفضل فيكون هو الإمام والجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة النقل ورزين قد ذكر في كتابه أشياء ليست في الصحاح الثاني أن الذي في الصحيح ليس كما ذكره عن رزين بل الذي في الصحيح ما رواه النعمان بن بشير قال كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل لا أبالي أن لا اعمل عملا بعد الإسلام إلا أن اسقي الحاج وقال آخر لا أبالي أن لا اعمل عملا بعد الإسلام إلا أن
7
158(188/112)
اعمر المسجد الحرام وقال آخر الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فانزل الله تعالى أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله الآية إلى آخرها أخرجه مسلم وهذا الحديث يقتضي أن قول على الذي فضل به الجهاد على السدانة والسقامة اصح من قول من فضل السدانة والسقاية وان عليا كان اعلم بالحق في هذه المسالة ممن نازعه فيها وهذا صحيح وعمر قد وافق ربه في عدة أمور يقول شيئا وينزل القران بموافقته قال للنبي صلى الله عليه وسلم لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وقال إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن بالحجاب فنزلت آية الحجاب وقال عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات فنزلت كذلك وأمثال ذلك وهذا كله ثابت في الصحيح وهذا أعظم من تصويب علي في مسالة واحدة وأما التفضيل بالأيمان والهجرة والجهاد فهذا ثابت لجميع الصحابة الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا فليس هاهنا فضيلة اختص بها علي حتى يقال أن هذا لم يثبت لغيره
7
159(188/113)
الثالث انه لو قدر انه اختص بمزية فهذه ليست من خصائص الإمامة ولا موجبة لأن يكون أفضل مطلقا فان الخضر لما علم ثلاث مسائل لم يعلمها موسى لم يكن أفضل من موسى مطلقا والهدهد لما قال لسليمان أحطت بما لم تحط به لم يكن اعلم من سليمان مطلقا الرابع أن عليا كان يعلم هذه المسألة فمن أين يعلم أن غيره من الصحابة لم يعلمها فدعوى اختصاصه بعلمها باطل فبطل الاختصاص على التقديرين بل من المعلوم بالتواتر أن جهاد أبي بكر بماله أعظم من جهاد على فان أبا بكر كان موسرا قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ما نفعني مال كمال أبي بكر وعلي كان فقيرا وأبو بكر أعظم جهادا بنفسه كما سنذكره إن شاء الله تعالى فصل قال الرافضي البرهان الثامن عشر قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقه
7
160
من طريق الحافظ أبي نعيم إلى ابن عباس قال أن الله حرم كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا بتقديم الصدقة و بخلوا أن يتصدقوا قبل كلامه و تصدق علي و لم يفعل ذلك أحد من المسلمين غيره و من تفسير الثعلبي قال ابن عمر كان لعلي ثلاثة لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم تزويجه فاطمة و إعطاؤه الراية يوم خيبر و آية النجوى و روى رزين بن معاوية في الجمع بين الصحاح الستة عن علي ما عمل بهذه الآية غيري و بي خفف الله عن هذه الأمة و هذا يدل على فضيلته عليهم فيكون هو أحق بالإمامة و الجواب أن يقال أما الذي ثبت فهو أن عليا رضي الله عنه تصدق و ناجى ثم نسخت الآية قبل أن يعمل بها غيره لكن الآيه لم توجب الصدقة عليهم لكن أمرهم إذا ناجوا أن يتصدقوا فمن لم يناج لم يكن عليه أن يتصدق و إذا لم تكن المناجاة واجبة لم يكن أحد ملوما إذا ترك ما ليس بواجب و من كان فيهم عاجزا عن الصدقة و لكن لو قدر لناجى
7
161(188/114)
فتصدق فله نيته و اجره و من لم يعرض له سبب يناجي لأجله لم يجعل ناقصا و لكن من عرض له سبب اقتضى المناجاة فتركه بخلا فهذا قد ترك المستحب و لا يمكن أن يشهد على الخلفاء أنهم كانوا من هذا الضرب و لا يعلم أنهم كانوا ثلاثتهم حاضرين عند نزول هذه الآية بل يمكن غيبة بعضهم و يمكن حاجة بعضهم و يمكن عدم الداعي إلى المناجاة و لم يطل زمان عدم نسخ الآية حتى يعلم أن الزمان الطويل لا بد أن يعرض فيه حاجة إلى المناجاة و بتقدير أن يكون أحدهم ترك المستحب فقد بينا غير مرة أن من فعل مستحبا لم يجب أن يكون أفضل من غيره مطلقا و قد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه من اصبح منكم اليوم صائما فقال أبو بكر أنا قال فمن تبع منكم جنازة قال أبو بكر أنا قال هل فيكم من عاد مريضا قال أبو بكر أنا قال هل فيكم من تصدق بصدقة فقال أبو بكر أنا قال ما اجتمع لعبد هذه الخصال إلا و هو من أهل الجنة و هذه الأربعة لم ينقل مثلها لعلي و لا غيره في يوم و في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير فإن كان من
7
162(188/115)
أهل الصلاة دعي من باب الصلاة و أن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد و أن كان من اهل الصدقة دعي من باب الصدقة فقال أبو بكر يا رسول الله فما على من دعى من تلك الأبواب كلها من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها قال نعم و ارجوا أن تكون منهم و لم يذكر هذا لغير أبي بكر رضي الله عنه وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال بينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها فالتفتت إليه و قالت إني لم اخلق لهذا و لكني أنما خلقت للحرث فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فإني أؤمن به أنا و أبو بكر و عمر و ما هما ثم قال أبو هريرة و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بينما راع في غنمه عدا عليها الذئب فأخذ منها شاة فطلبه الراعي حتى استنقذها منه فالتفت إليه الذئب فقال من لها يوم السبع يوم ليس لها راع غيري فقال الناس سبحان الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فإني أؤمن بذلك أنا و أبو بكر و عمر و هما ثم
7
163
و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما نفعني مال كمال أبي بكر و هذا صريح في اختصاصه بهذه الفضيلة لم يشركه فيها علي و لا غيره و كذلك قوله في الصحيحين أن آمن الناس علي في صحبته و ماله أبو بكر و لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا لكن اخوة الإسلام و مودته لا يبقين باب في المسجد إلا سد إلا بارك أبي بكر و في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأبي بكر أما أنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي
7
164(188/116)
و في الترمذي و سنن أبي داود عن عمر رضي الله عنه قال امرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نتصدق فوافق منى مالا فقلت اليوم اسبق أبا بكر أن سبقته قال فجئت بنصف مالي فقال النبي صلى الله عليه و سلم ما أبقيت لأهلك قلت مثله و اتى أبو بكر بكل ما عنده فقال يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك قال الله و رسوله قلت لا أسابقه إلى شيء أبدا و في البخاري عن أبي الدرداء قال كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه و سلم إذ اقبل أبو بكر أخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته فقال النبي الله عليه و سلم أما صاحبكم فقد غامر فسلم و قال أنه كان بيني و بين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك فقال يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا ثم أن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل أثم أبو بكر قالوا لا فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فسلم عليه فجعل وجه النبي صلى الله عليه و سلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه و قال
7
165
يا رسول الله و الله أنا كنت اظلم مرتين فقال النبي صلى الله عليه و سلم إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت و قال أبو بكر صدق وواسني بنفسه و ماله فهل أنتم تاركون لي صاحبي فهل أنتم تاركون لي صاحبي فما أوذي بعدها و في لفظ آخر إني قلت أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا فقلتم كذبت و قال أبو بكر صدقت و في الترمذي مرفوعا لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره و تجهيز عثمان بألف بعير اعظم من صدقة علي بكثير كثير فإن الأنفاق في الجهاد كان فرضا بخلاف الصدقة إمام النجوى فإنه مشروط بمن يريد النجوى فمن لم يردها لم يكن عليه أن يتصدق و قد أنزل الله في بعض الأنصار و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة
7
166(188/117)
و في الصحيحين عن أبي هريرة رضي لله عنه قال جاء رجل إلى النبي النبي الله عليه و سلم فقال إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه فقالت و الذي بعثك بالحق نبيا ما عندي إلا ماء ثم إلى أخرى فقالت مثل ذلك حتى قلن كلهن مثل ذلك لا و الذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال من يضيفه هذه الليلة رحمه الله فقام رجل من الأنصار فقال أنا يا رسول الله و أنطلق به إلى رحله فقال لامرأته هل عندك شيء فقالت لا قوت صبياننا فقال فعلليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئ السراج و أريه أنا نأكل فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه قال فقعدوا فأكل الضيف فلما اصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال قد عجب الله صنعكما بضيفكما الليلة و في رواية فنزلت هذه الآية و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة
7
167
و بالحملة فباب الإنفاق في سبيل الله و غيره لكثير من المهاجرين و الأنصار فيه من الفضيلة ما ليس لعلي فإنه لم يكن له مال على عهد رسول الله صلى عليه و سلم فصل قال الرافضي البرهان التاسع عشر و اسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا قال ابن عبد البر و أخرجه أبو نعيم أيضا أن النبي الله عليه و سلم ليلة اسري به جمع الله بينه و بين الأنبياء ثم قال سلهم يا محمد علام بعثتم قالوا بعثنا على شهادة ا ن لا اله إلا الله و على الإقرار بنبوتك و الولاية لعلي بن أبي طالب و هذا صريح بثبوت الإمامة لعلي والجواب من وجوه أحدها المطالبة في هذا وأمثاله بالصحة وقولنا في هذا الكذب القبيح وأمثاله المطالبة بالصحة ليس بشك منا في أن هذا وأمثاله من اسمج الكذب أقبحه لكن علي طريق التنزل في المناظرة وأن هذا لو لم يعلم أنه كذب ولم يجز أن يحتج به حتى يثبت صدقه فإن
7
168(188/118)
الاستدلال بما لا تعلم صحته لا يجوز بالإتفاق فإنه قول بلا علم وهو حرام بالكتاب بالسنة والإجماع الوجه الثاني أن مثل هذا مما أتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع الوجه الثالث أن هذا مما يعلم من له علم ودين أنه من الكذب الباطل الذي لا يصدق به من له عقل ودين وإنما يختلق مثل هذا أهل الوقاحة والجراءة في الكذب فإن الرسل صلوات الله عليهم كيف يسألون عما لا يدخل في اصل الإيمان وقد اجمع المسلمون على أن الرجل لو آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وأطاعه ومات في حياته قبل أن يعلم أن الله خلق أبا بكر وعمر وعثمان وعليا لم يضره ذلك شيئا ولم يمنعه ذلك من دخول الجنة فإذا كان هذا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يقال أن الأنبياء يجب عليهم الإيمان بواحد من الصحابة والله تعالى قد أخذ الميثاق عليهم لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه هكذا قال ابن عباس وغيره كما قال تعالى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول إلى قوله تعالى أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين
7
169(188/119)
فأما الإيمان بتفصيل ما بعث به محمد فلم يؤخذ عليهم فكيف يؤخذ عليهم موالاة واحد من الصحابة دون غيره من المؤمنين الرابع أن لفظ الآية و سأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ليس في هذا سؤال لهم بماذا بعثوا الخامس أن قول القائل أنهم بعثوا بهذه الثلاثة أن أراد أنهم لم يبعثوا إلا بها فهذا كذب على الرسل وأن أراد أنها أصول ما بعثوا به فهذا أيضا كذب فإن أصول الدين التي بعثوا بها من الإيمان بالله واليوم الآخر و أصول الشرائع أهم عندهم من ذكر الإيمان بواحد من أصحاب نبي غيرهم بل ومن الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الإقرار بمحمد يجب عليهم مجملا كما يجب علينا نحن الإقرار بنبواتهم مجملا لكن من أدركه منهم وجب عليه الإيمان بشرعه على التفصيل كما يجب علينا و أما الإيمان بشرائع الأنبياء على التفصيل فهو
7
170
واجب على أممهم فكيف يتركون ذكر ما هو واجب على أممهم ويذكرون ما ليس هو الأوجب الوجه السادس أن ليلة الإسراء كانت بمكة قبل الهجرة بمدة قيل أنها سنة ونصف وقيل أنها خمس سنين وقيل غير ذلك وكان على صغيرا ليلة المعراج لم يحصل له هجرة ولا جهاد ولا أمر يوجب أن يذكره به الأنبياء والأنبياء لم يكن يذكر على في كتبهم أصلا وهذه كتب الأنبياء الموجودة التي اخرج الناس ما فيها من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ليس في شيء منها ذكر على بل ذكروا أن في التابوت الذي كان فيه عند المقوقس صور الأنبياء صورة أبي بكر وعمر مع صورة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه بها يقيم الله أمره وهؤلاء الذين أسلموا من أهل الكتاب لم يذكر أحد منهم أنه ذكر علي عندهم فكيف يجوز أن يقال أن كلا من الأنبياء بعثوا بالإقرار بولاية علي ولم يذكروا ذلك لأممهم ولا نقله أحد منهم فصل قال الرافضي البرهان العشرون قوله تعالى وتعيها أذن واعية في تفسير الثعلبي قال قال رسول الله
7
171(188/120)
صلى الله عليه و سلم سالت الله عز و جل أن يجعلها أذنك يا علي و من طريق أبي نعيم قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا علي أن الله امرني أن أدنيك و أعلمك يا علي أن الله امرني أن أدنيك و أعلمك لتعي و أنزلت علي هذه الآية و تعيها أذن واعية فأنت أذن واعية و هذه الفضيلة لم تحصل لغيره فيكون هو الإمام و الجواب من وجوه أحدها بيان صحة الإسناد و الثعلبي و أبو نعيم يرويان ما لا يحتج به بالإجماع الثاني أن هذا موضوع باتفاق أهل العلم الثالث أن قوله لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة و تعيها أذن واعية لم يرد به أذن واحد من الناس فقط فإن هذا خطاب لبني آدم و حملهم في السفينة من اعظم الآيات قال تعالى و آية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون و خلقنا لهم من مثله ما يركبون
7
172(188/121)
و قال ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته أن في ذلك لآيات لكل صبار شكور فكيف يكون ذلك كله ليعي ذلك واحد من الناس نعم أذن علي من الأذن الواعية كأذن أبي بكر و عمر و عثمان و غيرهم و حينئذ فلا اختصاص لعلي بذلك و هذا مما يعلم بالاضطرار أن الآذان الواعية ليست أذن علي وحدها أترى أذن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليست واعية و لا أذن الحسن و الحسين و عمار و أبي ذر و المقداد و سلمان الفارسي و سهل بن حنيف و غيرهم ممن يوافقون على فضيلتهم و إيمانهم و إذا كانت الأذن الواعية له و لغيره لم يجز أن يقال هذه الأفضلية لم تحصل لغيره و لا ريب أن هذا الرافضي الجاهل الظالم يبني أمره على مقدمات باطلة فإنه لا يعلم في طوائف أهل البدع أوهى من حجج الرافضة بخلاف المعتزلة و نحوهم فإن لهم حججا و أدلة قد تشبه على كثير من أهل العلم و العقل أما الرافضة فليس لهم حجة قط تنفق إلا على جاهل أو ظالم صاحب هوى يقبل ما يوافق هواه سواء كان حقا أو باطلا و لهذا يقال فيهم ليس لهم عقل و لا نقل و لا دين صحيح و لا دنيا منصورة
7
173(188/122)
و قالت طائفة من العلماء لو علق حكما بأجهل الناس لتناول الرافضة مثل أن يحلف إني ابغض اجهل الناس و نحو ذلك و أما لو وصى لأجهل الناس فلا تصح الوصية لأنها لا تكون إلا قربة فإذا وصى لقوم يدخل فيهم الكافر جاز بخلاف ما لو جعل الكفر و الجهل جهة و شرطا في الاستحقاق ثم الرافضي يدعي في شيء أنه من فضائل علي و قد لا يكون كذلك ثم يدعي أن تلك الفضيلة ليست لغيره و قد تكون من الفضائل المشتركة فإن فضائل علي الثابتة عامتها مشتركة بينه و بين غيره بخلاف فضائل أبي بكر و عمر فإن عامتها خصائص لم يشاركا فيها ثم يدعي أن تلك الفضيلة توجب الإمامة و معلوم أن الفضلية الجزئية في أمر من الأمور ليست مستلزمة للفضيلة المطلقة و لا للإمامة و لا مختصة بالإمام بل تثبت للإمام و لغيره و للفاضل المطلق و لغيره فبنى هذا الرافضي أمره على هذه المقدمات الثلاث و الثلاث باطلة ثم يردفها بالمقدمة الرابعة و تلك فيها نزاع لكن نحن لا ننازعه فيها بل نسلم أنه من كان أفضل كان أحق بالإمامة لكن الرافضي لا حجة معه على ذلك
7
174
فصل قال الرافضي البرهان الحادي و العشرون سورة هل اتى في تفسير الثعلبي من طرق مختلفة قال مرض الحسن و الحسين فعادهما جدهما رسول الله صلى الله عليه و سلم و عامة العرب فقالوا يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك فنذر صوم ثلاثة أيام و كذا نذرت أمهما فاطمة و جاريتهم فضة فبرئا و ليس عند آل محمد قليل و لا كثير فاستقرض علي ثلاثة آصع من شعير فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته و خبزت منه خمسة أقراص لكل واحد منهم قرصا و صلى علي مع النبي صلى الله عليه و سلم المغرب ثم اتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم مسكين فقال السلام عليكم أهل بيت محمد صلى
7
175(188/123)
الله عليه و سلم مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فسمعه علي فأمر بإعطائه فأعطوه الطعام و مكثوا يومهم و ليلتهم لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح فلما كان اليوم الثاني قامت فاطمة فخبزت صاعا و صلى علي مع النبي صلى الله عليه و سلم ثم اتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فاتاهم يتيم فوقف بالباب و قال السلام عليكم أهل بيت محمد صلى الله عليه و سلم يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي يوم العقبة أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فسمعه علي فأمر بإعطائه فأعطوه الطعام و مكثوا يومين و ليلتين لم يذوقوا إلا الماء القراح فلما كان اليوم الثالث قامت فاطمة إلى الصاع الثالث فطحنته و خبزته و صلى علي مع النبي صلى الله عليه و سلم ثم اتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ اتى أسير فقال أتأسروننا و تشردوننا و لا تطعموننا أطعموني فإني أسير محمد أطعمكم الله من موائد الجنة فسمعه علي فأمر بإعطائه فأعطوه الطعام
7
176
و مكثوا ثلاثة أيام بلياليها لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح فلما كان اليوم الرابع و قد وفوا نذورهم أخذ علي الحسن بيده اليمنى و الحسين بيده اليسرى و اقبل على رسول الله صلى الله عليه و سلم و هم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع فلما بصرهما النبي صلى الله عليه و سلم قال يا أبا الحسن ما اشد ما يسوؤني ما أرى بكم أنطلق بنا إلى منزل ابنتي فاطمة فانطلقوا أليها و هي في حجرتها قد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع و غارت عيناها فلما رآها النبي صلى الله عليه و سلم قال و اغوثاه بالله أهل بيت محمد يموتون جوعا فهبط جبريل على محمد صلى الله عليه و سلم فقال يا محمد خذ
7
177(188/124)
ما هنأك الله في أهل بيتك فقال ما أخذ يا جبريل فأقراه هل اتى على الإنسان حين و هي تدل على فضائل جمة لم يسبقه أليها أحد و لا يلحقه أحد فيكون أفضل من غيره فيكون هو الإمام و الجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة النقل كما تقدم و مجرد رواية الثعلبي و الواحدي و أمثالهما لا تدل على أنه صحيح باتفاق أهل السنة و الشيعة و لو تنازع اثنان في مسالة من مسائل الأحكام و الفضائل و احتج أحدهما بحديث لم يذكر ما يدل على صحته إلا رواية الواحد من هؤلاء له في تفسيره لم يكن ذلك دليلا على صحته و لا حجة على منازعه باتفاق العلماء و هؤلاء من عادتهم يروون ما رواه غيرهم و كثير من ذلك لا يعرفون هل هو صحيح أم ضعيف و يروون من الأحاديث الإسرائيليات ما يعلم غيرهم أنه باطل في نفس الأمر لأن وصفهم النقل لما نقل أو حكاية أقوال الناس و أن كان كثير من هذا و هذا باطلا و ربما تكلموا على صحة بعض المنقولات و ضعفها و لكن لا يطردون هذا و لا يلتزمونه الثاني أن هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث الذي هم أئمة هذا الشأن و حكامه و قول هؤلاء هو المنقول في
7
178(188/125)
هذا الباب و لهذا لم يرو هذا الحديث في شيء من الكتب التي يرجع أليها في النقل لا في الصحاح و لا في المساند و لا في الجوامع و لا السنن و لا رواه المصنفون في الفضائل و أن كانوا قد يتسامحون في رواية أحاديث ضعيفة كالنسائي فإنه صنف خصائص علي و ذكر فيها عدة أحاديث ضعيفة و لم يرو هذا و أمثاله و كذلك أبو نعيم في الخصائص و خيثمة بن سليمان و الترمذي في جامعة روى أحاديث كثيرة في فضائل علي كثير منها ضعيف و لم يرو مثل هذا لظهور كذبه و أصحاب السير كابن اسحق و غيره يذكرون من فضائله أشياء ضعيفة و لم يذكروا مثل هذا و لا رووا ما قلنا فيه أنه موضوع باتفاق أهل النقل من أئمة أهل التفسير الذين ينقلونها بالأسانيد المعروفة كتفسير ابن جريج و سعيد بن أبي عروبة و عبد الرزاق و عبد بن حميد
7
179
و أحمد و إسحاق و تفسير بقي بن مخلد و ابن جرير الطبري و محمد بن أسلم الطوسي و ابن أبي حاتم و أبي بكر بن المنذر و غيرهم من العلماء الأكابر الذين لهم في الإسلام لسان صدق و تفاسيرهم متضمنة للمنقولات التي يعتمد عليها في التفسير الوجه الثالث أن الدلائل على كذب هذا كثيرة منها أن عليا أنما تزوج فاطمة بالمدينة و لم يدخل بها إلا بعد غزوة بدر كما ثبت ذلك في الصحيح و الحسن و الحسين ولدا بعد ذلك سنة ثلاث أو أربع و الناس متفقون على أن عليا لم يتزوج فاطمة إلا بالمدينة لم يولد له ولد إلا بالمدينة وهذا من العم العام المتواتر الذي يعرفه كل من عنده طرف من العلم بمثل هذه الأمور و سورة هل اتى مكية باتفاق أهل التفسير و النقل لم يقل أحد منهم أنها مدنية و هي على طريقة السور المكية في تقرير أصول الدين المشتركة بين الأنبياء كالإيمان بالله و اليوم الآخر و ذكر الخلق والبعث و لهذا قيل أنه كان النبي صلى الله عليه و سلم يقرؤها مع ألم تنزيل
7
180(188/126)
في فجر يوم الجمعة لأن فيه خلق آدم و فيه دخل الجنة و فيه تقوم الساعة و هاتان السورتان متضمنتان لابتداء خلق السماوات و الأرض و خلق الإنسان إلى أن يدخل فريق الجنة و فريق النار و إذا كانت السورة نزلت بمكة قبل أن يتزوج علي بفاطمة تبين أن نقل أنها نزلت بعد مرض الحسن و الحسين من الكذب و البين الوجه الرابع أن سياق هذا الحديث و ألفاظه من وضع جهال الكذابين فمنه قوله فعادهما جدهما و عامة العرب فإن عامة العرب لم يكونوا بالمدينة و العرب الكفار ما كانوا يأتونهما يعودونهما و منه قوله فقالوا يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك و علي لا يأخذ الدين من أولئك العرب بل يأخذه من النبي صلى الله عليه و سلم فإن كان هذا أمرا بطاعة فرسول الله صلى الله عليه و سلم أحق أن يأمره به من أولئك العرب و أن لم يكن طاعة لم يكن علي يفعل ما يأمرون به ثم كيف يقبل منهم ذلك من غير مراجعة إلى النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك الوجه الخامس أن في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن النذر و قال أنه لا يأتي بخير و أنما يستخرج به من البخيل
7
181(188/127)
و في طريق آخر ا أن النذر يرد ابن آدم إلى القدر فيعطى على النذر ما لا يعطى غيره و إذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهى عن النذر و يقول أنه لا يأتي بخير و إنما يرد ابن آدم إلى القدر فإن كان علي و فاطمة و سائر أهلهما لم يعلموا مثل هذا و علمه عموم الأمة فهذا قدح في علمهم فأين المدعي للعصمة و أن كانوا علموا بذلك و فعلوا ما لا طاعة فيه لله و لرسوله و لا فائدة لهما فيه بل قد نهيا عنه إما نهي تحريم و أما نهي تنزيل كان هذا قدحا أما في دينهم و أما في عقلهم و علمهم فهذا الذي يروي مثل هذا في فضائلهم جاهل يقدح فيهم من حيث يمدحهم و يخفضهم من حيث يرفعهم و يذمهم من حيث يحمدهم و لهذا قال بعض أهل البيت للرافضة ما معناه أن محبتكم لنا صارت معرة علينا و في المثل السائر عدو عاقل خير من صديق جاهل
7
182
و الله تعالى أنما مدح على الوفاء بالنذر لا على نفس عقد النذر و الرجل ينهى عن الظهار و أن ظاهر وجبت عليه كفارة للظهار و إذا عاود مدح على فعل الواجب و هو التكفير لا على نفس الظهار المحرم و كذلك إذا طلق امرأته ففارقها بالمعروف مدح على فعل ما أوجبه الطلاق لا نفس الطلاق المكروه و كذلك من باع أو اشترى فأعطى ما عليه مدح على فعل ما أوجبه العقد لا على نفس العقد الموجب و نظائر هذا كثيرة الوجه السادس أن عليا و فاطمة لم يكن لهما جارية اسمها فضة بل و لا لأحد من أقارب النبي صلى الله عليه و سلم و لا نعرف أنه كان بالمدينة جارية اسمها فضة و لا ذكر ذلك أحد من أهل العلم الذين ذكروا أحوالهم دقها و جلها و لكن فضة هذه بمنزلة ابن عقب الذي يقال أنه كان معلم الحسن و الحسين و أنه أعطى تفاحة كان فيها علم الحوادث المستقبلة و نحو ذلك من الأكاذيب التي تروج على الجهال و قد اجمع أهل العلم على أنهما لم يكن لهما معلم و لم يكن في الصحابة أحد يقال له أب عقب و هذه الملاحم المنظومة المنسوبة إلى ابن عقب هي من نظم بعض
7(188/128)
183
متأخري الجهال الرافضة الذين كانوا زمن نور الدين و صلاح الدين لما كان كثير من الشام بأيدي النصارى و مصر بأيدي القرامطة الملاحدة بقايا بني عبيد فذكر من الملاحم ما يناسب تلك الأمور بنظم جاهل عامي و هكذا هذه الجارية فضة و قد ثبت في الصحيحين عن علي أن فاطمة سالت النبي صلى الله عليه و سلم خادما فعلمها أن تسبح عند المنام ثلاثا و ثلاثين وتكبر ثلاثا وثلاثين و تحمد أربعا و ثلاثين و قال هذا خير لك من خادم قال علي فما تركتهن منذ سمعتهن من النبي صلى الله عليه و سلم قيل له و لا ليلة صفين قال و لا ليلة صفين و هذا خبر صحيح باتفاق أهل العلم و هو يقتضي أنه لم يعطها خادما فإن كان بعد ذلك حصل خادم فهو ممكن لكن لم يكن اسم خادمها فضة بلا ريب الوجه السابع أنه قد ثبت في الصحيح عن بعض الأنصار أنه آثر
7
184
ضيفه بعشائهم و نوم الصبية و بات هو و امرأته طاويين فأنزل الله سبحانه و تعالى و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة و هذا المدح اعظم من المدح بقوله و يطعمون الطعام على حبه مسكينا فإن هذا كقوله وآتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل أي الصدقة أفضل قال أن تصدق و أنت صحيح شحيح تأمل البقاء و تخاف الفقر و لا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا و لفلان كذا و قد كان لفلان و قال تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فالتصدق بما يحبه الإنسان جنس تحته أنواع كثيرة و أما الإيثار مع الخصاصة فهو اكمل من مجرد التصدق مع المحبة فإنه ليس كل متصدق محبا مؤثرا و لا كل متصدق يكون به خصاصة بل قد يتصدق بما يحب مع اكتفائه ببعضه مع محبة لا تبلغ به الخصاصة
7
185(188/129)
فإذا كان الله مدح الأنصار بإيثار الضيف ليلة بهذا المدح و الإيثار المذكور في قصة أهل البيت هو اعظم من ذلك فكان ينبغي أن يكون المدح عليه اكثر أن كان هذا مما يمدح عليه و أن كان مما لا يمدح عليه فلا يدخل في المناقب الثامن أن في هذه القصة ما لا ينبغي نسبته إلى علي و فاطمة رضي الله عنهما فإنه خلاف المأمور به المشروع و هو إبقاء الأطفال ثلاثة أيام جياعا و وصالهم ثلاثة أيام و مثل هذا الجوع قد يفسد العقل و البدن و الدين و ليس هذا مثل قصة الأنصاري فإن ذلك بيتهم ليلة واحدة بلا عشاء و هذا قد يحتمله الصبيان بخلاف ثلاثة أيام بلياليها التاسع أن في هذه القصة أن اليتيم قال استشهد والدي يوم العقبة و هذا من الكذب الظاهر فإن ليلة العقبة لم يكن فيها قتال و لكن النبي صلى الله عليه و سلم بايع الأنصار ليلة العقبة قبل الهجرة و قبل أن يؤمر بالقتال و هذا يدل على أن الحديث مع أنه كذب فهو من كذب اجهل الناس بأحوال النبي صلى الله عليه و سلم و لو قال استشهد والدي يوم أحد لكان اقرب العاشر أن يقال أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يكفي أولاد من قتل معه و لهذا قال لفاطمة لما سألته خادما لا ادع يتامى بدر و أعطيك
7
186(188/130)
فقول القائل أنه كان من يتامى المجاهدين الشهداء من لا يكفيه النبي صلى الله عليه و سلم كذب عليه و قدح فيه الحادي عشر أنه لم يكن في المدينة قط أسير يسال الناس بل كان المسلمون يقومون بالأسير الذي يستاسرونه فدعوى المدعي أن أسراهم كانوا محتاجين إلى مسالة الناس كذب عليهم و قدح فيهم و الإسراء الكثيرون أنما كانوا يوم بدر قبل أن يتزوج علي بفاطمة رضي الله عنها و بعد ذلك فالأسرى في غاية القلة الثاني عشر أنه لو كانت هذه القصة صحيحة و هي من الفضائل لم تستلزم أن يكون صاحبها أفضل الناس و لا أن يكون هو الإمام دون غيره فقد كان جعفر اكثر إطعاما للمساكين من غيره حتى قال له النبي صلى الله عليه و سلم أشبهت خلقي و خلقي و كان أبو هريرة يقول ما احتذى النعال بعد النبي صلى الله عليه و سلم أحد أفضل من جعفر يعني في الأحسان إلى المساكين إلى غير ذلك من الفضائل فلم يكن بذلك أفضل من علي و لا غيره فضلا عن أن يكون مستحقا للإمامة الثالث عشر أنه من المعلوم أن أنفاق الصديق أمواله اعظم و أحب إلى الله و رسوله فإن إطعام الجائع من جنس الصدقة المطلقة التي يمكن كل واحد فعلها إلى يوم القيامة بل و كل أمة يطعمون جياعهم من المسلمين و غيرهم و أن كانوا لا يتقربون إلى الله بذلك بخلاف المؤمنين
7
187(188/131)
فإنهم يفعلون ذلك لوجه الله بهذا تميزوا كما قال تعالى عنهم أنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء و لا شكورا و أما أنفاق الصديق و نحوه فإنه كان في أول الإسلام لتخليص من آمن و الكفار يؤذونه أو يريدون قتله مثل اشترائه بماله سبعة كانوا يعذبون في الله منهم بلال حتى قال عمر أبو بكر سيدنا و اعتق سيدنا يعني بلالا و أنفاقه على المحتاجين من أهل الإيمان و في نصر الإسلام حيث كان أهل الأرض قاطبة أعداء الإسلام و تلك النفقة ما بقي يمكن مثلها و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث المتفق على صحته لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ أحدهم و لا نصيفه و هذا في النفقة التي اختصوا بها و أما جنس إطعام الجائع مطلقا فهذا مشترك يمكن فعله إلي يوم القيامة فصل قال الرافضي البرهان الثاني و العشرون قوله تعالى و الذي جاء بالصدق و صدق به أولئك هم المتقون من طريق أبي نعيم عن مجاهد في قوله و الذي جاء
7
188
بالصدق محمد صلى الله عليه و سلم و آله و صدق به قال علي بن أبي طالب و من طريق الفقيه الشافعي عن مجاهد و الذي جاء بالصدق و صدق به قال جاء به محمد صلى الله عليه و سلم و صدق به علي و هذه فضيلة اختص بها فيكون هو الإمام و الجواب من وجوه أحدها أن هذا ليس منقولا عن النبي صلى الله عليه و سلم و قول مجاهد وحده ليس بحجة يجب اتباعها على كل مسلم لو كان هذا النقل صحيحا عنه فكيف إذا لم يكن ثابتا عنه فإنه قد عرف بكثرة الكذب و الثابت عن مجاهد خلاف هذا و هو أن الصدق هو القرآن و الذي صدق به هو المؤمن الذي عمل به فجعلها عامة رواه الطبري و غيره عن مجاهد قال هم أهل القرآن يجيئون به يوم القيامة
7
189(188/132)
فيقولون هذا الذي أعطيتمونا قد اتبعنا ما فيه و رواه أبو سعيد الأشج قال حدثنا ابن إدريس عن ليث عن مجاهد فذكره و حدثنا المحاربي عن جويبر عن الضحاك و صدق به قال المؤمنون جميعا قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو صالح حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس و صدق به قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الوجه الثاني أن هذا معارض بما هو اشهر منه عند أهل التفسير و هو أن الذي جاء بالصدق محمد و الذي صدق به أبو بكر فإن هذا يقوله طائفة و ذكره الطبري بإسناده إلى علي قال جاء به محمد و صدق به أبو بكر و في هذا حكاية ذكرها بعضهم عن أبي بكر عبد العزيز بن جعفر غلام أبي بكر الخلال أن سائلا سأله عن هذه الآية فقال له هو أو بعض الحاضرين نزلت في أبي بكر فقال السائل بل في علي فقال أبو بكر ابن جعفر اقرأ ما بعدها أولئك هم المتقون إلى قوله ليكفر الله عنهم اسوأ الذي عملوا الآية فبهت السائل الثالث أن يقال لفظ الآية عام مطلق لا يختص بابي بكر و لا بعلي
7
190(188/133)
بل كل من دخل في عمومها دخل في حكمها و لا ريب أن أبا بكر و عمر و عثمان و عليا أحق هذه الأمة بالدخول فيها لكنها لا تختص بهم و قد قال تعالى فمن اظلم ممن كذب على الله و كذب بالصدق إذا جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين و الذي جاء بالصدق و صدق به أولئك هم المتقون الآية فقد ذم الله سبحانه و تعالى الكاذب على الله و المكذب بالصدق و هذا ذم عام و الرافضة اعظم أهل البدع دخولا في هذا الوصف المذموم فإنهم اعظم الطوائف افتراء للكذب على الله و أعظمهم تكذيبا بالصدق لما جاءهم وأبعد الطوائف عن المجيء بالصدق و التصديق به و أهل السنة المحضة أولى الطوائف بهذا فإنهم يصدقون و يصدقون بالحق في كل ما جاء به و ليس لهم هوى إلا مع الحق و الله تعالى مدح الصادق فيما يجئ به و المصدق بهذا الحق فهذا مدح للنبي صلى الله عليه و سلم و لكل من آمن به و بما جاء به و هو سبحانه لم يقل و الذي جاء بالصدق و الذي صدق به فلم يجعلهما صنفين بل جعلهما صنفا واحدا لأن المراد مدح النوع الذي يجئ بالصدق و يصدق بالصدق فهو ممدوح على اجتماع الوصفين على أن لا يكون من شأنه إلا أن يجيء بالصدق و من شأنه أن يصدق بالصدق و قوله جاء بالصدق اسم جنس لكل صدق و أن كان القرآن أحق بالدخول في ذلك من غيره و لذلك صدق به أي بجنس الصدق و قد
7
191(188/134)
يكون الصدق الذي صدق به ليس هو عين الصدق الذي جاء به كما تقول فلان يسمع الحق و يقول الحق و يقبله و يأمر بالعدل و يعمل به أي هو موصوف بقول الحق لغيره و قبول الحق من غيره وأنه يجمع بين الأمر بالعدل و العمل به وإن كان كثير من العدل الذي يأمر به ليس هو عين العدل الذي يعمل به فلما ذم الله سبحانه من اتصف بأحد الوصفين الكذب على الله و التكذيب بالحق إذ كل منهما يستحق به الذم مدح ضدهما الخالي عنهما بأن يكون يجيء بالصدق لا بالكذب و أن يكون مع ذلك مصدقا بالحق لا يكون ممن يقوله هو و إذا قاله غيره لم يصدقه فإن من الناس من يصدق و لا يكذب لكن يكره أن غيره يقوم مقامه في ذلك حسدا و منافسة فيكذب غيره في غيره أو لا يصدقه بل يعرض عنه و فيهم من يصدق طائفة فيما قالت قبل أن يعلم ما قالوه اصدق هو أم كذب و الطائفة الأخرى لا يصدقها فيما تقول و أن كان صادقا بل إما أن يصدقها وإما أن يعرض عنها و هذا موجود في عامة أهل الأهواء تجد كثيرا منهم صادقا فيما ينقله لكن ما ينقله عن طائفته يعرض عنه فلا يدخل هذا في المدح بل في الذم لأنه لم يصدق بالحق الذي جاءه
7
192(188/135)
والله قد ذم الكاذب والمكذب بالحق لقوله في غير آية ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه وقال ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ولهذا لما كان مما وصف الله به الأنبياء الذين هم أحق الناس بهذه الصفة أن كلا منهم يجيء بالصدق فلا يكذب فكل منهم صادق في نفسه مصدق لغيره ولما كان قوله و الذي صنفا من الأصناف لا يقصد به واحد بعينه أعاد الضمير بصيغة الجمع فقال و الذي جاء بالصدق و صدق به أولئك هم المتقون وأنت تجد كثيرا من المنتسبين إلى علم و دين لا يكذبون فيما يقولونه بل لا يقولون إلا الصدق لكن لا يقبلون ما يخبر به غيرهم من الصدق بل يحملهم الهوى و الجهل على تكذيب غيرهم وإن كان صادقا أما تكذيب نظيره وإما تكذيب من ليس من طائفته و نفس تكذيب الصادق هو من الكذب ولهذا قرنه بالكاذب على الله فقال فمن اظلم ممن كذب على الله و كذب بالصدق إذ جاءه فكلاهما كاذب هذا كاذب فيما يخبر به عن الله و هذا كاذب فيما يخبر به عن المخبر عن الله
7
193(188/136)
و النصارى يكثر فيهم المفترون للكذب على الله و اليهود يكثر فيهم المكذبون بالحق و هو سبحانه ذكر المكذب بالصدق نوعا ثانيا لأنه أولا لم يذكر جميع أنواع الكذب بل ذكر من كذب على الله و أنت إذا تدبرت هذا و علمت أن كل واحد من الكذب على الله و التكذيب بالصدق مذموم و أن المدح لا يستحقه إلا من كان آتيا بالصدق مصدقا للصدق علمت أن هذا مما هدى الله به عباده إلى صراطه المستقيم إذا تأملت هذا تبين لك أن كثيرا من الشر أو أكثره يقع من أحد هذين فتجد إحدى الطائفتين أو الرجلين من الناس لا يكذب فيما يخبر به من العلم لكن لا يقبل ما تأتي به الطائفة الأخرى فربما جمع بين الكذب على الله و التكذيب بالصدق و هذا وإن كان يوجد في عامة الطوائف شيء منه فليس في الطوائف ادخل في ذلك من الرافضة فإنما اعظم الطوائف كذبا على الله و على رسوله و على الصحابة و على ذوي القربى و كذلك هم من اعظم الطوائف تكذيبا بالصدق فيكذبون بالصدق الثابت المعلوم من المنقول الصحيح و المعقول الصريح فهذه الآية و لله الحمد ما فيها من مدح فهو يشتمل على الصحابة الذين افترت عليهم الرافضة و ظلمتهم فإنهم جاءوا بالصدق و صدقوا به
7
194
و هم من اعظم أهل الأرض دخولا في ذلك و علي منهم و ما فيها من ذم فالرافضة ادخل الناس فيه فهي حجة عليهم من الطرفين و ليس فيها حجة على اختصاص علي دون الخلفاء الثلاثة بشيء فهي حجة عليهم من كل وجه و لا حجة لهم فيها بحال فصل قال الرافضي البرهان الثالث و العشرون قوله تعالى هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين من طريق أبي نعيم عن أبي هريرة قال مكتوب على العرش لا اله إلا الله وحده لا شريك له محمد عبدي و رسولي أيدته بعلي بن أبي طالب و ذلك قوله في كتابه هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين يعني بعلي و هذه من اعظم الفضائل التي لم تحصل لغيره من الصحابة فيكون هو الإمام
7
195(188/137)
و الجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة النقل و أما مجرد العزو إلى رواية أبي نعيم فليس حجة بالإتفاق و أبو نعيم له كتاب مشهور في فضائل الصحابة و قد ذكر قطعة من الفضائل في أول الحلية فإن كانوا يحتجون بما رواه فقد روى في فضائل أبي بكر و عمر و عثمان ما ينقض بنيانهم و يهدم أركانهم وإن كانوا لا يحتجون بما رواه فلا يعتمدون على نقله و نحن نرجع فيما رواه هو و غيره إلى أهل العلم بهذا الفن و الطرق التي بها يعلم صدق الحديث و كذبه من النظر في إسناده و رجاله و هل هم ثقات سمع بعضهم من بعض أم لا و ننظر إلى شواهد الحديث و ما يدل عليه على أحد الأمرين لا فرق عندنا بين ما يروى في فضائل علي أو فضائل غيره فما ثبت أنه صدق صدقناه و ما كان كذبا كذبناه فنحن نجيء بالصدق و نصدق به و لا نكذب صادقا و هذا معروف عند أئمة السنة و أما من افترى على الله كذبا أو كذب بالحق فعلينا أن نكذبه في كذبه وتكذيبه للحق كاتباع مسيلمة
7
196(188/138)
الكذاب و المكذبين بالحق الذي جاء به الرسول و اتبعه عليه المؤمنون به صديقه الأكبر و سائر المؤمنين و لهذا نقول في الوجه الثاني إن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث و هذا الحديث و أمثاله مما جزمنا أنه كذب موضوع نشهد أنه كذب موضوع فنحن و الله الذي لا اله إلا هو نعلم علما ضروريا في قلوبنا لا سبيل لنا إلى دفعه أن هذا الحديث كذب ما حدث به أبو هريرة و هكذا نظائره مما نقول فيه مثل ذلك وكل من كان عارفا بعلم الحديث و بدين الإسلام يعرف و كل من لم يكن له بذلك علم لا يدخل معنا كما أن أهل الخبرة بالصرف يحلفون على ما يعلمون يعلمون أنه مغشوش وإن كان من لا خبرة له لا يميز بين المغشوش والصحيح الثالث أن الله تعالى قال هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين و ألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما الفت بين قلوبهم و لكن الله ألف بينهم و هذا نص في أن المؤمنين عدد مؤلف بين قلوبهم و علي واحد منهم ليس له قلوب يؤلف بينها و المؤمنون صيغة جمع فهذا نص صريح لا يحتمل أنه أراد به واحدا
7
197(188/139)
معينا و كيف يجوز أن يقال المراد بهذا علي وحده الوجه الرابع أن يقال من المعلوم بالضرورة و التواتر أن النبي صلى الله عليه و سلم ما كان قيام دينه بمجرد موافقة علي فإن عليا كان من أول من أسلم فكان الإسلام ضعيفا فلولا أن الله هدى من هداه إلى الأيمان و الهجرة و النصرة لم يحصل بعلي وحده شيء من التأييد و لم يكن إيمان الناس و هجرتهم و لا نصرتهم على يد علي و لم يكن علي منتصبا لا بمكة و لا بالمدينة للدعوة إلى الإيمان كما كان أبو بكر منتصبا لذلك و لم ينقل أنه أسلم على يد علي أحد من السابقين الأولين لا من المهاجرين ولا من الأنصار بل لا نعرف أنه على يد علي أحد من الصحابة لكن لما بعثه النبي صلى الله عليه و سلم إلى اليمن قد يكون قد أسلم على يديه من أسلم إن كان وقع ذلك و ليس أولئك من الصحابة وإنما أسلم أكابر الصحابة على يد أبي بكر و لا كان يدعو المشركين و يناظرهم كما كان أبو بكر يدعوهم و يناظرهم و لا كان المشركون يخافونه كما يخافون أبا بكر و عمر بل قد ثبت في الصحاح و المساند و المغازي واتفق عليه الناس أنه لما كان يوم أحد وانهزم المسلمون صعد أبو سفيان على الجبل و قال أفي القوم محمد أفي القوم محمد فقال النبي صلى الله عليه و سلم
7
198(188/140)
لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن أبي قحافة أفي القوم ابن أبي قحافة فقال النبي صلى الله عليه و سلم لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن الخطاب فقال النبي صلى الله عليه و سلم لا تجيبوه فقال لأصحابه أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه أن قال كذبت يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء و قد بقي لك ما يسوؤك فقال يوم بيوم بدر فقال عمر لا سواء قتلانا في الجنة و قتلاكم في النار ثم أخذ أبو سفيان يرتجز و يقول اعل هبل اعل هبل فقال النبي صلى الله عليه و سلم ألا تجيبوه فقالوا و ما نقول قال قولوا الله أعلى وأجل فقال إن لنا العزى و لا عزى لكم فقال النبي صلى الله عليه و سلم ألا تجيبوه فقالوا و ما نقول قال قولوا الله مولانا و لا مولى لكم فقال ستجدون في القوم مثله لم آمر بها و لم تسؤني فهذا جيش المشركين إذ ذاك لا يسال إلا على النبي صلى الله عليه و سلم و أبي بكر و عمر فلو كان القوم خائفين من علي أو عثمان أو طلحة أو الزبير أو نحوهم أو كان للرسول تأييد بهؤلاء كتأييده بابي بكر و عمر لكان يسال عنهم كما يسال عن هؤلاء فإن المقتضى للسؤال قائم و المانع
7
199(188/141)
منتف و مع وجود القدرة و الداعي و انتفاء الصارف يجب معه وجود الفعل الوجه الخامس أنه لم يكن لعلي في الإسلام اثر حسن إلا و لغيره من الصحابة مثله و لبعضهم آثار اعظم من آثاره و هذا معلوم لمن عرف السيرة الصحيحة الثابتة بالنقل و أما من يأخذ بنقل الكذابين و أحاديث الطرقية فباب الكذب مفتوح و هذا الكذب يتعلق بالكذب على الله و من اظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه و مجموع المغازي التي كان فيها القتال مع النبي صلى الله عليه و سلم تسع مغاز و المغازي كلها بضع و عشرون غزاة و أما السرايا فقد قيل إنها تبلغ سبعين و مجموع من قتل من الكفار في غزوات الرسول صلى الله عليه و سلم يبلغون ألفا أو اكثر أو اقل و لم يقتل علي منهم عشرهم و لا نصف عشرهم وأكثر السرايا لم يكن يخرج فيها و أما بعد النبي صلى الله عليه و سلم فلم يشهد شيئا من الفتوحات لا هو و لا عثمان و لا طلحة
7
200(188/142)
و لا الزبير إلا أن يخرجوا مع عمر حين خرج إلى الشام و أما الزبير فقد شهد فتح مصر و سعد شهد فتح القادسية و أبو عبيدة فتح الشام فكيف يكون تأييد الرسول بواحد من أصحابه دون سائرهم و الحال هذه و أين تأييده بالمؤمنين كلهم من السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار الذين بايعوه تحت الشجرة و التابعين لهم بإحسان و قد كان المسلمون يوم بدر ثلاثمائة و ثلاث عشر و يوم أحد نحو سبعمائة و يوم الخندق اكثر من ألف أو قريبا من ذلك و يوم بيعة الرضوان ألفا و أربع مائة و هم الذين شهدوا فتح خيبر و يوم فتح مكة كانوا عشرة آلاف و يوم حنين كانوا اثني عشر ألفا تلك العشرة و الطلقاء ألفان و أما تبوك فلا يحصى من شهدها بل كانوا اكثر من ثلاثين ألفا و أما حجة الوداع فلا يحصى من شهدها معه و كان قد أسلم على عهده أضعاف من رآه و كان من أصحابه و أيده الله بهم في حياته باليمن و غيرها و كل هؤلاء من المؤمنين الذين أيده الله بهم بل كل من آمن و جاهد إلى يوم القيامة دخل في هذا المعنى
7
201
فصل قال الرافضي البرهان الرابع و العشرون قوله تعالى يا أيها النبي حسبك الله و من اتبعك من المؤمنين من طريق أبي نعيم قال نزلت في علي و هذه فضيلة لم تحصل لأحد من الصحابة غيره فيكون هو الإمام و الجواب من وجوه أحدها منع الصحة الثاني أن هذا القول ليس بحجة الثالث أن يقال هذا الكلام من اعظم الفرية على الله و رسوله و ذلك أن قوله حسبك الله و من اتبعك من المؤمنين معناه أن الله حسبك و حسب من اتبعك من المؤمنين فهو وحده كافيك و كافي من معك من المؤمنين و هذا كما تقول العرب حسبك و زيدا درهم و منه قول الشاعر فحسبك و الضحاك سيف مهند
7
202(188/143)
و ذلك أن حسب مصدر فلما أضيف لم يحسن العطف عليه إلا بإعادة الجار فإن العطف بدون ذلك وإن كان جائزا في اصح القولين فهو قليل و إعادة الجار احسن وأفصح فعطف على المعنى و المضاف إليه في معنى المنصوب فإن قوله فحسبك و الضحاك معناه يكفيك و الضحاك وزياده المصدر يعمل عمل الفعل لكن إذا أضيف عمل في غير المضاف إليه و لهذا أن أضيف إلى الفاعل نصب المفعول و أن أضيف إلى المفعول رفع الفاعل فتقول أعجبني دق القصار الثوب و هذا وجه الكلام و تقول أعجبني دق الثوب القصار و من النحاة من يقول أعماله منكرا احسن من أعماله مضافا لأنه بالإضافة قوي شبهه بالأسماء و الصواب أن إضافته إلى أحدهما و أعماله في الآخر احسن من تنكيره و أعماله فيهما فقول القائل أعجبني دق القصار الثوب احسن من قوله دق الثوب القصار فإن التنكير أيضا من خصائص الأسماء و الإضافة أخف لأنه اسم و الأصل فيه أن يضاف و لا يعمل لكن لما تعذرت إضافته إلى الفاعل و المفعول جميعا أضيف إلى أحدهما و اعمل في الآخر و هكذا في المعطوفات أن أمكن إضافتها أليها كلها كالمضاف إلى الظاهر فهو احسن كقول النبي صلى الله عليه و سلم أن الله حرم بيع
7
203
الخمر والميتة والدم والخنزير والأصنام وكقولهم نهى عن بيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة وإن تعذر لم يحسن ذلك كقولك حسبك وزيدا درهم عطفا على المعنى ومما يشبه هذا قوله وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا نصب هذا على محل الليل المجرور فإن اسم الفاعل كالمصدر ويضاف تارة ويعمل تارة أخرى
7
204(188/144)
وقد ظن بعض الغالطين أن معنى الآية أن الله والمؤمنين حسبك ويكون من اتبعك رفعا عطفا على الله وهذا خطا قبيح مستلزم للكفر فإن الله وحده حسب جميع الخلق كما قال تعالى الذين قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل أي الله وحده كافينا كلنا و في البخاري عن ابن عباس في هذه الكلمة قالها إبراهيم حين القي في النار و قالها محمد حين قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل فكل من النبيين قال حسبي الله فلم يشرك بالله غيره في كونه حسبه فدل على أن الله وحده حسبه ليس معه غيره و مه قوله تعالى أليس الله بكاف عبده و قوله تعالى و لو أنهم رضوا ما أتاهم الله و رسوله و قالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله و رسوله الآية فدعاهم إلى أن يرضوا ما اتاهم الله و رسوله و إلى أن يقولوا حسبنا الله و لا يقولوا حسبنا الله و رسوله لأن الإيتاء يكون بأذن الرسول كما قال و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا
7
205(188/145)
و أما الرغبة فإلى الله كما قال تعالى فإذا فرغت فانصب و إلى ربك فارغب و كذلك التحسب الذي هو التوكل على الله وحده فلهذا أمروا أن يقولوا حسبنا الله و لا يقولوا و رسوله فإذا لم يجز أن يكون الله و رسوله حسب المؤمن كيف يكون المؤمنون مع الله حسبا لرسوله و أيضا فالمؤمنون محتاجون إلى الله كحاجة الرسول إلى الله فلا بد لهم من حسبهم و لا يجوز أن يكون معونتهم و قوتهم من الرسول و قوة الرسول منهم فإذا هذا يستلزم الدور بل قوتهم من الله وقوة الرسول من الله فالله وحده يخلق قوتهم و الله وحده يخلق قوة الرسول فهذا كقوله هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين و ألف بين قلوبهم فإنه وحده هو المؤيد للرسول بشيئين أحدهما نصره الذي ينصر به و الثاني بالمؤمنين الذين اتى بهم و هناك قال حسبك الله و لم يقل نصر الله فنصر الله منه كما أن المؤمنين من مخلوقاته أيضا فعطف ما منه على ما منه إذ كلاهما منه و أما هو سبحانه فلا يكون معه غيره في إحداث شيء من الأشياء بل هو وحده الخالق لكل ما سواه و لا يحتاج في شيء من ذلك إلى غيره و إذا تبين هذا فهؤلاء الرافضة رتبوا جهلا على جهل فصاروا في
7
206(188/146)
ظلمات بعضها فوق بعض فظنوا أن قوله حسبك الله و من أتبعك من المؤمنين معناه أن الله و من اتبعك من المؤمنين حسبك ثم جعلوا المؤمنين الذين اتبعوه هم علي بن أبي طالب و جهلهم في هذا اظهر من جهلهم في الأول فإن الأول قد يشتبه على بعض الناس و أما هذا فلا يخفى على عاقل فإن عليا لم يكن وحده من الخلق كافيا لرسول الله صلى الله عليه و سلم و لو لم يكن معه إلا علي لما اقام دينه و هذا علي لم يغن عن نفسه و معه أكثر جيوش الأرض بل لما حاربه معاوية مع أهل الشام كان معاوية مقاوما له أو مستظهرا سواء كان ذلك بقوة قتال أو قوة مكر و احتيال فالحرب خدعة الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول و هي المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لنفس مرة بلغت من العلياء كل مكان فإذا لم يغن عن نفسه بعد ظهور الإسلام و اتباع اكثر أهل الأرض له فكيف يغني عن الرسول صلى الله عليه و سلم و أهل الأرض كلهم أعداؤه و إذا قيل أن عليا أنما لم يغلب معاوية و من معه لأن جيشه لا يطيعونه بل كانوا مختلفين عليه
7
207(188/147)
قيل فإذا كان من معه من المسلمين لم يطيعوه فكيف يطيعه الكفار الذين يكفرون بنبيه و به و هؤلاء الرافضة يجمعون بين النقيضين لفرط جهلهم و ظلمهم يجعلون عليا اكمل الناس قدرة و شجاعة حتى يجعلوه هو الذي اقام دين الرسول و أن الرسول كان محتاجا إليه و يقولون مثل هذا الكفر إذ يجعلونه شريكا لله في إقامة دين محمد ثم يصفونه بغاية العجز و الضعف و الجزع و التقية بعد ظهور الإسلام و قوته و دخول الناس فيه أفواجا و من المعلوم قطعا أن الناس بعد دخولهم في الدين الإسلام أتبع للحق نمهم قبل دخولهم فيه فمن كان مشاركا لله في إقامة دين محمد حتى قهر الكفار و أسلم الناس كيف لا يفعل هذا في قهر طائفة بغوا عليه هم اقل من الكفار الموجودين عند بعثة الرسول و اقل منهم شوكة و اقرب إلى الحق منهم فإن الكفار حين بعث الله محمدا كانوا اكثر ممن نازع عليا ابعد عن الحق فإن أهل الحجاز و الشام و اليمن و مصر و العراق و خرا سان و المغرب كلهم كانوا كفارا ما بين مشرك و كتابي و مجوسي و صابئ و لما مات النبي صلى الله عليه و سلم كانت جزيرة العرب قد ظهر فيها الإسلام و لما قتل عثمان كان الإسلام قد ظهر في الشام و مصر و العراق و خرا سان و المغرب فكان أعداء الحق عند موت النبي صلى الله عليه و سلم اقل منهم
7
208(188/148)
و اضعف و اقل عداوة منهم له عند مبعثه و كذلك كانوا عند مقتل عثمان اقل منهم و اضعف و اقل عداوة منهم له حين بعث محمد صلى الله عليه و سلم فإن جميع الحق الذي كان يقاتل عليه علي هو جزء من الحق الذي قاتل عليه النبي صلى الله عليه و سلم فمن كذب بالحق الذي بعث به محمد صلى الله عليه و سلم و قاتله عليه كذب بما قاتل عليه علي من ذلك فإذا كان على في هذه الحال قد ضعف وعجز عن نصر الحق ودفع الباطل فكيف يكون حاله حين المبعث وهو اضعف واعجز و أعداء الحق اعظم واكثر واشد عداوة ومثل الرافضة في ذلك مثل النصارى ادعوا في المسيح الإلهية وأنه رب كل شيء ومليكه وهو على كل شيء قدير ثم يجعلون أعداءه صفعوه ووضعوا الشوك على رأسه وصلبوه وأنه جعل يستغيث فلا يغيثوه فلا افلحوا بدعوى تلك القدرة القاهرة ولا بإثبات هذه الذلة التامة وأن قالوا كان هذا برضاه قيل فالرب أنما يرضى بأن يطاع لا بأن يعصى فإن كان قتله وصلبه برضاه كان ذلك عبادة وطاعة لله فيكون اليهود الذين صلبوه عابدين
7
209(188/149)
لله مطيعين في ذلك فيمدحون على ذلك لا يذمون وهذا من اعظم الجهل والكفر وهكذا يوجد من فيه شبه من النصارى والرافضة من الغلاة في أنفسهم وشيوخهم تجدهم في غاية الدعوى وفي غاية العجز كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم شيخ زان وملك كذاب وفقير مختال وفي لفظ عائل مزهو وفي لفظ وعائل مستكبر وهذا معنى قول بعض العامة الفقر والزنطرة فهكذا شيوخ الدعاوى والشطح يدعى أحدهم الإلهية وما هو اعظم من النبوة ويعزل الرب عن ربوبيته والنبي عن رسالته ثم آخرته شحاذ يطلب ما يقيته أو خائف يستعين بظالم على دفع مظلمته فيفتقر إلى لقمة ويخاف من كلمة فأين هذا الفقر والذل من دعوى الربوبية المتضمنة للغنى والعز وهذه حال المشركين الذين قال الله فيهم ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق
7
210(188/150)
وقال مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وأن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون وقال سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا والنصارى فيهم شرك بين كما قال تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا اله إلا هو سبحانه عما يشركون وهكذا من أشبههم من الغالية من الشيعة والنساك فيه شرك وغلو كما في النصارى شرك وغلو واليهود فيهم كبر والمستكبر معاقب بالذل قال تعالى ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون وقال تعالى أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون فتكذيبهم وقتلهم للأنبياء كان استكبارا فالرافضة فيهم شبه من اليهود من وجه وشبه من النصارى من وجه ففيهم شرك وغلو وتصديق بالباطل كالنصارى وفيهم من جبن وكبر وحسد وتكذيب بالحق كاليهود
7
211(188/151)
وهكذا غير الرافضة من أهل الأهواء والبدع تجدهم في نوع من الضلال ونوع من الغي فيهم شرك وكبر لكن الرافضة ابلغ من غيرهم في ذلك ولهذا تجدهم من اعظم الطوائف تعطيلا لبيوت الله ومساجده من الجمع والجماعات التي هي أحب الاجتماعات إلى الله وهم أيضا لا يجاهدون الكفار أعداء الدين بل كثيرا ما يوالونهم ويستعينون بهم على عداوة المسلمين فهم أولياء الله المؤمنين ويوالون أعداءه المشركين وأهل الكتاب كما يعادون أفضل الخلق من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان ويوالون اكفر الخلق من الإسماعيلية و النصيرية ونحوهم من الملاحدة وأن كانوا يقولون هم كفار فقلوبهم وابدأنهم إليهم أميل منها إلى المهاجرين والأنصار والتابعين وجماهير المسلمين وما من أحد من أهل الأهواء والبدع حتى المنتسبين إلى العلم والكلام والفقه والحديث والتصوف إلا وفيه شعبة من ذلك كما يوجد أيضا شعبة من ذلك في أهل الأهواء من اتباع الملوك والوزراء والكتاب والتجار لكن الرافضة ابلغ في الضلال والغي من جميع الطوائف أهل البدع فصل قال الرافضي البرهان الخامس و العشرون قوله تعالى
7
212
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه قال الثعلبي أنما نزلت في علي و هذا يدل على أنه أفضل فيكون هو الإمام و الجواب من وجوه أحدها أن هذا كذب على الثعلبي فإنه قال في تفسيره في هذه الآيه قال علي و قتادة و الحسن أنهم أبو بكر و أصحابه و قال مجاهد هم أهل اليمن و ذكر حديث عياض بن غنم أنهم أهل اليمن و ذكر الحديث أتاكم أهل اليمن فقد نقل الثعلبي أن عليا فسر هذه الآية بأنهم أبو بكر و أصحابه و أما أئمة التفسير فروى الطبري عن المثنى حدثنا عبد الله بن هاشم حدثنا سيف بن عمر عن أبي روق عن الضحاك عن أبي أيوب عن علي في قوله يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه قال علم الله المؤمنين و وقع معنى السوء
7
213(188/152)
على الحشو الذي فيهم من المنافقين و من في علمه أن يرتدوا فقال من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله المرتدة في دورهم بقوم يحبهم و يحبونه بابي بكر و أصحابه رضي الله عنهم و ذكر بإسناده هذا القول عن قتادة و الحسن و الضحاك و ابن جريج و ذكر قوم أنهم الأنصار و عن آخرين أنهم أهل اليمن و رجح هذا الآخر و أنهم رهط أبي موسى قال و لولا صحة الخبر بذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم ما كان القول عندي في ذلك إلا قول من قال هم أبو بكر و أصحابه قال لما ارتد المرتدون جاء الله بهؤلاء على عهد عمر رضي الله عنه
7
214
الثاني أن هذا قول بلا حجة فلا يجب قبوله الثالث أن هذا معارض بما هو اشهر منه واظهر و هو أنها نزلت في أبي بكر و أصحابه الذين قاتلوا معه أهل الردة و هذا هو المعروف عند الناس كما تقدم لكن هؤلاء الكذابون أرادوا أن يجعلوا الفضائل التي جاءت في أبي بكر يجعلونها لعلي و هذا من المكر السيء الذي لا يحيق إلا بأهله و حدثني الثقة من أصحابنا أنه اجتمع بشيخ اعرفه و كان فيه دين و زهد و أحوال معروفة لكن كان فيه تشيع قال و كان عنده كتاب يعظمه و يدعي أنه من الأسرار و أنه أخذه من خزائن الخلفاء و بالغ في وصفه فلما أحضره فإذا به كتاب قد كتب بخط حسن و قد عمدوا إلى الأحاديث التي في البخاري و مسلم جميعها في فضائل أبي بكر و عمر و نحوهما جعلوها لعلي و لعل هذا الكتاب كان من خزائن بني عبيد المصريين فإن خواصهم كانوا ملاحدة زنادقة غرضهم قلب الإسلام و كانوا قد وضعوا من الأحاديث المفتراة التي يناقضون بها الدين ما لا يعلمه إلا الله و مثل هؤلاء الجهال يظنون ان الاحداث التي في البخاري و مسلم أنما أخذت عن البخاري و مسلم كما يظن مثل ابن الخطيب و نحوه ممن لا يعرف حقيقة الحال و أن البخاري و مسلما كان الغلط يروج عليهما أو
7
215(188/153)
كانا يتعمد أن الكذب و لا يعلمون أن قولنا رواه البخاري و مسلم علامة لنا على ثبوت صحته لا أنه كان صحيحا بمجرد رواية البخاري و مسلم بل أحاديث البخاري و مسلم رواها غيرهما من العلماء و المحدثين من لا يحصي عدده إلا الله و لم ينفرد واحد منهما بحديث بل ما من حديث إلا و قد رواه قبل زمانه و في زمانه و بعد زمانه طوائف و لو لم يخلق البخاري و مسلم لم ينقص من الدين شيء و كانت تلك الأحاديث موجوده بأسانيد يحصل بها المقصود و فوق المقصود و أنما قولنا رواه البخاري و مسلم كقولنا قراه القراء السبعة و القرآن منقول بالتواتر لم يختص هؤلاء السبعة بنقل شيء منه و كذلك التصحيح لم يقلد أئمة الحديث فيه البخاري و مسلما بل جمهور ما صححاه كان قبلهما عند أئمة الحديث صحيحا متلقي بالقبول و كذلك في عصرهما و كذلك بعدهما قد نظر أئمة هذا الفن في كتابيهما و وافقوهما على تصحيح ما صححاه إلا مواضع يسيرة نحو عشرين حديثا غالبها في مسلم أنتقدها عليهما طائفة من الحفاظ و هذه
7
216(188/154)
المواد المنتقدة غالبها في مسلم و قد أنتصر طائفة لهما فيها وطائف قررت قول المنتقدة و الصحيح التفصيل فإن فيها مواضع منتقدة بلا ريب مثل حديث أم حبيبة و حديث خلق الله البرية يوم السبت و حديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات و اكثر و فيها مواضع لا انتقاد فيها في البخاري فإنه ابعد الكتابين عن الانتقاد و لا يكاد يروي لفظا فيه انتقاد إلا ويروي اللفظ الآخر الذي يبين أنه منتقد فما في كتابه لفظ منتقد إلا و في كتابه ما يبين أنه منتقد و في الجملة من نقد سبعة آلاف درهم فلم يرج عليه فيها إلا دراهم يسيرة و مع هذا فهي مغيرة ليست مغشوشة محضة فهذا إمام في صنعته و الكتابان سبعة آلاف حديث و كسر و المقصود أن أحاديثهما أنتقدها الأئمة الجهابذة قبلهم بعدهم و رواها خلائق لا يحصي عددهم إلا الله فلم ينفردا لا برواية و لا بتصحيح و الله سبحانه و تعالى هو الكفيل بحفظ هذا الدين كما قال تعالى أنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون و هذا مثل غالب المسائل التي توجد في الكتب المصنفة في مذاهب الأئمة مثل القدوري و التنبيه و الخرقي و الجلاب غالب ما فيها إذا
7
217(188/155)
قيل ذكره فلأن علم أنه مذهب ذلك الإمام و قد نقل ذلك سائر أصحابه و هم خلق كثير ينقلون مذهبه بالتواتر و هذه الكتب فيها مسائل أنفرد بها بعض أهل المذهب وفيها نزاع بينهم لاكن غالبا هو قول أهل المذهب و أما البخاري و مسلم فجمهور ما فيهما أتفق عليه أهل العلم بالحديث الذين هم اشد عناية بألفاظ الرسول و ضبطا لها و معرفة بها من اتباع الأئمة لألفاظ أئمتهم وعلماء الحديث أعلم بمقاصد الرسول في ألفاظه من أتباع الأئمة بمقاصد أئمتهم و النزاع بينهم في ذلك اقل من تنازع اتباع الأئمة في مذاهب أئمتهم و الرافضة لجهلهم يظنون أنهم إذا قبلوا ما في نسخة من ذلك و جعلوا فضائل الصديق لعلي أن ذلك يخفى على أهل العلم الذين حفظ الله بهم الذكر الرابع أن يقال أن الذي تواتر عند الناس أن الذي قاتل أهل الردة هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي قاتل مسيلمة الكذاب المدعي للنبوة و اتباعه بني حنيفة و أهل اليمامة ز قد قيل كانوا نحو مائة ألف أو اكثر و قاتل طليحة الاسدي و كان قد ادعى النبوة بنجد و اتبعه من أسد تميم وغطفات ما شاء الله ادعت النبوة سجاح امرأة تزوجها مسيلمة الكذاب فتزوج الكذاب بالكذابة
7
218(188/156)
و أيضا فكان من العرب من ارتد عن الإسلام و لم يتبع متنبئا كذابا و منهم قوم اقروا بالشهادتين لكن امتنعوا من أحكامهما كمانعي الزكاة و قصص هؤلاء مشهورة متواترة يعرفها كل من له بهذا الباب أدنى معرفة و المقاتلون للمرتدين هم من الذين يحبهم الله و يحبونه و هم أحق الناس بالدخول في هذه الآية و كذلك الذين قاتلوا سائر الكفار من الروم و الفرس و هؤلاء أبو بكر و عمر و من اتبعهما من أهل اليمن و غيرهم و لهذا روي أن هذه الآية لما نزلت سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن هؤلاء فأشار إلى أبي موسى الاشعري و قال هم قوم هذا فهذا أمر يعرف بالتواتر و الضرورة أن الذين أقاموا الإسلام و ثبتوا عليه حين الردة وقاتلوا المرتدين و الكفار هم داخلون في قوله فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون في الله لومة لائم و أما علي رضي الله عنه فلا ريب أنه ممن يحب الله و يحبه الله لكن ليس بأحق بهذه الصفة من أبي بكر و عمر و عثمان و لا كان جهاده للكفار و المرتدين اعظم من جهاد هؤلاء و لا حصل به من المصلحة للدين اعظم مما حصل بهؤلاء بل كل منهم له سعي مشكور و عمل مبرور و آثار صالحة في الإسلام و الله يجزيهم عن الإسلام و أهله خير جزاء فهم
7
219(188/157)
الخلفاء الراشدون و الأئمة المهديون الذين قضوا بالحق و به كانوا يعدلون و أما أن يأتي إلى أئمة الجماعة الذين كان نفعهم في الدين و الدنيا اعظم فيجعلهم كفارا أو فساقا ظلمة و يأتي إلى من لم يجر على يديه من الخير مثل ما جرى على يد واحد منهم فيجعله الله أو شريكا لله أو شريك رسول الله صلى الله عليه و سلم أو الإمام المعصوم الذي لا يؤمن إلا من جعله معصوما منصوصا عليه و من خرج عن هذا فهو كافر و يجعل الكفار المرتدين الذي قاتلهم أولئك كانوا مسلمين و يجعل المسلمين الذين يصلون الصلوات الخمس و يصومون شهر رمضان و يحجون البيت و يؤمنون بالقرآن يجعلهم كفارا لأجل قتال هؤلاء فهذا عمل أهل الجهل و الكذب و الظلم و الإلحاد في دين الإسلام عمل من لا عقل له و لا دين و لا إيمان و العلماء دائما يذكرون أن الذي ابتدع الرفض كان زنديقا ملحدا مقصوده إفساد دين الإسلام و لهذا صار الرفض مأوى الزنادقة الملحدين من الغالية و المعطلة كالنصيرية و الإسماعيلية و نحوهم و أول الفكرة آخر العمل فالذي ابتدع الرفض كان مقصوده إفساد
7
220(188/158)
دين الإسلام ونقض عراه وقلعه بعروشه اخرا لكن صار يظهر منه ما يكنه من ذلك ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون وهذا معروف عن ابن سبا واتباعه وهو الذي ابتدع النص في علي وابتدع أنه معصوم فالرافضة الأمامية هم اتباع المرتدين وغلمان الملحدين وورثة المنافقين لم يكونوا أعيان المرتدين الملحدين الوجه الخامس أن يقال هب أن الآية نزلت في علي أيقول القائل أنها مختصة به ولفضها يصرح بأنهم جماعة قال تعالى من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه إلى قوله لومة لائم أفليس هذا صريحا في أن هؤلاء ليسوا رجلا فإن الرجل لا يسمى قوما في لغة العرب لا حقيقة ولا مجازا ولو قال المراد هو وشيعته لقيل إذا كانت الآية أدخلت مع على غيره فلا ريب أن الذين قاتلوا الكفار والمرتدين أحق بالدخول فيها ممن لم يقاتل إلا أهل القبلة فلا ريب أن أهل اليمن الذين قاتلوا مع أبي بكر وعمر وعثمان أحق بالدخول فيها من الرافضة الذين يوالون اليهود والنصارى والمشركين ويعادون السابقين الأولين فإن قيل الذين قاتلوا مع علي كان كثير منهم من أهل اليمن قيل والذين قاتلوه أيظا كان كثير منهم من أهل اليمن فكلا
7
221(188/159)
العسكرين كانت اليمانية والقيسية فيهم كثيرة جدا واكثر اذواء اليمن كانوا مع معاوية كذى كلاع وذى وذي رعين عمرو ونحوهم وهم الذين يقال لهم الذوين كما قال الشاعر وما أعني بذلك أصغريهم ولكنى أريد به الذوينا الوجه السادس قوله فسوف يأتي الله بقوم بحبهم ويحبونه لفظ مطلق ليس فيه تعيين وهو متناول لمن قام بهذه الصفات كائنا ما كان لا يختص ذلك بابي بكر ولا بعلي وإذا لم يكن مختصا بإحداهما لم يكن هذا من خصائصه فبطل أن يكون بذلك أفضل ممن يشاركه فيه فضلا عن أن يستوجب بذلك الإمامة بل هذه الآية تدل على أنه لا يرتد أحد عن الدين إلى يوم القيامة إلا اقام الله قوما يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون هؤلاء المرتدين والردة قد تكون عن اصل الإسلام كالغالية من النصيرية والإسماعيلية فهؤلاء مرتدون باتفاق أهل السنة والشيعة وكالعباسية
7
222
وقد تكون الردة عن بعض الدين كحال أهل البدع الرافضة وغيرهم والله تعالى يقيم قوما يحبهم ويحبونه ويجاهدون من ارتد عن الدين أو عن بعضه كما يقيم من يجاهد الرافضة المرتدين عن الدين أو عن بعضه في كل زمان والله سبحانه المسؤول أن يجعلنا من الذين يحبهم ويحبونه الذين يجاهدون المرتدين واتباع المرتدين ولا يخافون لومة لائم فصل قال الرافضي البرهان السادس والعشرون قوله تعالى والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم روى أحمد بن حنبل بإسناد عن أبي ليلى عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
7
223(188/160)
الصديقون ثلاثة حبيب بن موسى النجار مؤمن آل ياسين الذي قال يا قوم اتبعوا المرسلين وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال اتقتلوا رجلا أن يقول ربي الله وعلي بن أبي طالب الثالث وهو أفضلهم ونحوه روى أبن المغازلي الفقيه الشافعي وصاحب كتاب الفردوس هذه وفضيلة تدل على إمامته والجواب من وجوه إحدهما المطالبة بصحة الحديث وهذا ليس في مسند أحمد ومجرد روايته له في الفضائل لو كان رواه لا يدل على صحته عنده باتفاق أهل العلم فإنه يروي ما رواه الناس وأن لم تثبت صحته وكل من عرف العلم يعلم أنه ليس كل حديث رواه أحمد في الفضائل ونحوه يقول أنه صحيح بل ولا كل حديث رواه في مسنده يقول أنه صحيح بل أحاديث مسنده هي التي رواها الناس عمن هو معروف عند الناس بالنقل ولم يظهر كذبه وقد يكون في بعضها علة تدل على أنه ضعيف بل باطل لكن غالبها وجمهورها أحاديث جيدة يحتج بها وهي أجود من أحاديث سنن أبي داود و أما ما رواه في الفضائل فليس من هذا الباب عنده والحديث قد يعرف أن محدثه غلط فيه أو كذبه من غير علم بحال المحدث بل بدلائل آخر
7
224
والكوفيون كان قد اختلط كذبهم بصدقهم فقد يخفى كذب أحدهم أو غلطه على المتأخرين ولكن يعرف ذلك بدليل آخر فكيف وهذا الحديث لم يروه أحمد لا في المسند ولا في كتاب الفضائل وإنما هو من زيادات القطيعى رواه عن محمد بن يونس القرشي حدثنا الحسن بن محمد الأنصاري حدثنا عمرو بن جميع حدثنا بن أبي ليلى عن أخيه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره
7
225(188/161)
ورواه القطيعي أيضا من طريق آخر قال كتب إلينا عبد الله بن غنام الكوفي يذكر أن الحسن بن عبد الرحمن بن أبي ليلى المكفوف حدثهم قال حدثنا عمرو بن جميع حدثنا محممد بن أبي ليلى عن عيسى ثم ذكر الحديث وعمرو بن جميع ممن لا يحتج بنقله بل قال بن عدي يتهم بالوضع قال يحيى كذاب خبيث وقال النسائي والدار قطني متروك وقال بن حبان يروي الموضوعات عن الإثبات والمناكير عن المشاهير لا يحل كتب حديثه إلا على سبيل الاعتبار الثاني أن هذا الحديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم الثالث أن في الصحيح من غير وجه تسميه غير علي صديقا كتسمية أبي بكر الصديق فكيف يقال الصديقون الثلاثة وفي الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحدا
7
226
وتبعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم اثبت أحد فما عليك إلا نبي أو صديق وشهيدان ورواه الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد عن قتادة عن أنس وفي رواية ارتج بهم أحد وفي الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا الوجه الرابع أن الله تعالى قد سمى مريم صديقة فكيف يقال الصديقون ثلاثة
7
227(188/162)
الوجه الخامس أن قول قول القائل الصديقون ثلاثة أن أراد به أنه لا صديق إلا هؤلاء فإنه كذب مخالف للكتاب والسنة و إجماع المسلمين وأن أراد أن الكامل في الصديقية هم الثلاثة فهو أيضا خطا لأن امتنا خير أمة أخرجت للناس فكيف يكون المصدق بموسى ورسل عيسى أفضل من المصدقين بمحمد والله تعالى لم يسم مؤمن آل فرعون صديقا ولا يسمى صاحب آل ياسين صديقا ولكنهم صدقوا بالرسل والمصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم أفضل منهم وقد سمى الله الأنبياء صديقين في مثل قوله واذكر في الكتاب إبراهيم أنه كان صديقا نبيا واذكر في الكتاب إدريس أنه كان صديقا نبيا وقوله عن يوسف أيها الصديق الوجه السادس أن الله تعالى قال والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم وهذا يقتضي أن كل مؤمن آمن بالله ورسله فهو صديق
7
228
السابع أن يقال أن كان الصديق هو الذي يستحق الإمامة فأحق الناس بكونه صديقا أبو بكر فإنه الذي ثبت له هذا الاسم بالدلائل الكثيرة وبالتواتر الضروري عند الخاص والعام حتى أن أعداء الإسلام يعرفون ذلك فيكون هو المستحق للإمامة وأن لم يكن كونه صديقا يستلزم الإمامة بطلت الحجة فصل قال الرافضي البرهان السابع والعشرون قوله تعالى الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية من طريق أبي نعيم بإسناده إلى ابن عباس نزلت في على كان معه أربعة دراهم فأنفق درهما بالليل ودرهما بالنهار ودرهما سرا ودرهما علانية وروى الثعلبي ذلك ولم يحصل ذلك لغيره فيكون أفضل فيكون هو الإمام والجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة النقل ورواية أبي نعيم والثعلبي لا تدل على الصحة
7
229(188/163)
الثاني أن هذا كذب ليس بثابت الثالث أن الآية عامة في كل من ينفق بالليل والنهار سرا وعلانية فمن عمل بها دخل فيها سواء كان عليا أو غيره ويمتنع أن لا يراد بها إلا واحد معين الرابع أن ما ذكر من الحديث يناقض مدلول الآية فإن الآية تدل على الأنفاق في الزمانين اللذين لا يخلو الوقت عنهما وفي الحالين اللذين لا يخلو الفعل منهما فالفعل لابد له من زمان والزمان أما ليل و أما نهار والفعل أما سرا و أما علانية فالرجل إذا أنفق بالليل سرا كان قد أنفق ليلا سرا وإذا أنفق علانية نهارا كان قد أنفق علانية نهارا وليس الأنفاق سرا وعلانية خارجا عن الأنفاق بالليل والنهار فمن قال أن المراد من أنفق درهما بالسر ودرهما في العلانية ودرهما بالليل ودرهما بالنهار كان جاهلا فإن الذي أنفقه سرا وعلانية قد أنفقه ليلا ونهارا والذي قد أنفقه ليلا ونهارا قد أنفقه سرا وعلانية فعلم أن الدرهم الواحد يتصف بصفتين لا يجب أن يكون المراد أربعة لكن هذه التفاسير الباطلة يقول مثلها كثير من الجهال كما يقولون
7
230(188/164)
محمد رسول الله والذين معه أبو بكر أشداء على الكفار عمر رحماء بينهم عثمان تراهم ركعا سجدا على يجعلون هذه الصفات لموصوفات متعددة ويعينون الموصوف في هؤلاء الأربعة والآية صريحة في أبطال هذا وهذا فإنها صريحة في ان هذه الصفات كلها لقوم يتصفون بها كلها وأنهم كثيرون ليسوا واحدا ولا ريب أن الأربعة أفضل هؤلاء وكل من الأربعة موصوف بهذا كله وأن كان بعض الصفات في بعض أقوى منها في آخر واغرب من ذلك قول بعض جهال المفسرين والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين أنهم الأربعة فإن هذا مخالف للعقل والنقل لكن الله اقسم بالأماكن الثلاثة التي أنزل فيها كتبه الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن وظهر منها موسى وعيسى ومحمد كما قال في التوراة جاء الله من طور سينا واشرق من ساعين واستعلن من جبال فاران فالتين والزيتون الأرض التي بعث فيها المسيح وكثيرا ما تسمى الأرض بما ينبت فيها فيقال فلأن خرج إلى الكرم والى الزيتون و إلى الرمان ونحو ذلك ويراد الأرض التي فيها ذلك فإن الأرض تتناول ذلك فعبر عنها ببعضها وطور سينين حيث كلم الله موسى وهذا البلد الأمين مكة أم القرى التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم
7
231(188/165)
والجاهل بمعنى الآية لتوهمه أن الذي أنفقه سرا وعلانية غير الذي أنفقه في الليل والنهار يقول نزلت فيمن أنفق أربعة دراهم أما على و إما غيره ولهذا قال الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية لم يعطف بالواو فيقول سرا وعلانية بل هذأن داخلان في الليل والنهار سواء قيل هما منصوبان على المصدر لأنهما نوعان من الأنفاق أو قيل على الحال فسواء قدرا سرا وعلانية أو مسرا ومعلنا فتبين أن الذي كذب هذا كان جاهلا بدلالة القرآن والجهل في الرافضة ليس بمنكر الخامس أنا لو قدرنا أن عليا فعل ذلك ونزلت فيه الآية فهل هنا إلا أنفاق أربعة دراهم في أربعة أحوال وهذا عمل مفتوح بابه ميسر إلى يوم القيامة والعاملون بهذا و أضعافه اكثر من أن يحصوا وما من أحد فيه خير إلا ولا بد أن ينفق ان إنشاء الله تارة بالليل وتارة بالنهار وتارة في السر وتارة في العلانية فليس هذا من الخصائص فلا يدل على فضيلة الإمامة فصل قال الرافضي البرهان الثامن والعشرون ما رواه أحمد بن
7
232(188/166)
حنبل عن ابن عباس قال ليس من آية في القرآن يا أيها الذين آمنوا إلا علي رأسها وأميرها وشريفها وسيدها ولقد عاتب الله تعالى أصحاب محمد في القرآن وما ذكر عليا إلا بخير وهذا يدل على أنه أفضل فيكون هو الإمام والجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة النقل وليس هذا في مسند أحمد ولا مجرد روايته له لو رواه في الفضائل يدل على أنه صدق فكيف ولم يروه أحمد لا في المسند ولا في الفضائل وإنما هو من زيادات القطيعي رواه عن إبراهيم عن شريك الكوفي حدثنا زكريا بن يحيى الكسائى حدثنا عيسى عن على بن بذيمة عن عكرمة عن بن عباس ومثل هذا الإسناد لا يحتج به باتفاق أهل العلم فإن زكريا بن يحيى الكسائى قال فيه يحيى رجل سوء يحدث بأحاديث يستأهل أن يحفر له بئر فيلقى فيها وقال الدارقطني قطني متروك وقال ابن عدي كان يحدث بأحاديث في مثالب الصحابة الثاني أن هذا كذب على ابن عباس والمتواتر عنه أنه كان يفضل عليه أبا بكر وعمر وله معايبات يعيب بها عليا ويأخذ عليه في أشياء من
7
233(188/167)
أموره حتى أنه لما حرق الزنادقة الذين ادعوا فيه الإلهية قال لو كنت أنا لم احرقهم لنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب بعذاب الله ولضربت أعناقهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاتتلوه رواه البخاري وغيره ولما بلغ عليا ذلك عليا قال ويح أم ابن عباس ومن الثابت أن ابن عباس أنه كان يفتي إذا لم يكن معه نص بقول أبي بكر وعمر فهذا اتباعه لأبي بكر وعمر وهذه معارضته لعلي وقد ذكر غير واحد منهم الزبير بن بكار مجاوبته لعلي لما أخذ ما أخذ من مال البصرة فأرسل إليه رسالة فيها تغليط عليه فأجاب عليا بجواب يتضمن أن ما فعلته دون ما فعلته من سفك دماء المسلمين على الإمارة ونحو ذلك الثالث أن هذا الكلام ليس فيه مدح لعلي فإن الله كثيرا ما يخاطب الناس بمثل هذا في مقام عتاب كقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون فإن كان علي راس هذه الآية فقد وقع منه هذا الفعل الذي أنكره الله وذمه وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وثبت في الصحاح أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين بمكة فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليا والزبير ليأتيا بالمرأة التي كان معها الكتاب وعلي كان بريئا
7
234(188/168)
من ذنب حاطب فكيف يجعل راس المخاطبين الملامين على هذا الذنب وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن القي إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا وهذه الآية نزلت في الذين وجدوا رجلا في غنيمة له فقال أنا مسلم فلم يصدقوه وأخذوا غنمه فأمرهم الله سبحانه وتعالى بالتثبت والتبين ونهاهم عن تكذيب مدعي الإسلام طمعا في دنياه وعلي رضي الله عنه بري من ذنب هؤلاء فكيف يقال هو رأسهم و أمثال هذا كثير في القرآن الرابع هو ممن شمله لفظ الخطاب وأن لم يكن هو سبب الخطاب فلا ريب أن اللفظ شمله كما يشمل غيره وليس في لفظ الآية تفريق بين مؤمن ومؤمن الخامس أن قول القائل عن بعض الصحابة أنه راس الآيات وأميرها وشريفها وسيدها كلام لا حقيقة له فإن أريد أنه أول من خوطب بها فليس كذلك فإن الخطاب يتناول المخاطبين تناولا واحدا لا تتقدم بعضهم بما تناوله عن بعض وأن قيل أنه أول من عمل بها فليس كذلك فإن في الآيات آيات قد عمل بها من قبل علي وفيها آيات لم يحتج علي أن يعمل بها وأن قيل أن تناولها لغيره أو عمل غيره بها مشروط به كالإمام في الجمعة فليس الأمر كذلك فإن شمول الخطاب لبعضهم ليس مشروطا
7
235(188/169)
بشموله لآخرين ولا وجوب العمل على بعضهم مشروط على آخرين بوجوبه وأن قيل أنه أفضل من عنى بها فهذا يبنى على كونه أفضل الناس فإن ثبت ذلك فلا حاجة إلى الاستدلال بهذه الآية وأن لم يثبت لم يجز الاستدلال بها فكان الاستدلال بها باطلا على التقديرين وغاية ما عندكم أن تذكروا أن ابن عباس كان يفضل عليا وهذا مع أنه هذا كذب على ابن عباس وخلاف المعلوم عنه فلو أنه قدر أنه قال ذلك مع مخالفة جمهور الصحابة لم يكن حجة السادس أن قول القائل لقد عاتب الله أصحاب محمد في القرآن وما ذكر عليا إلا بخير كذب معلوم فإنه لا يعرف أن الله عاتب أبا بكر في القرآن بل ولا أنه ساء رسول الله بل روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في خطبته أيها الناس اعرفوا أبي بكر حقه فإنه لم يسؤني يوما قط والثابت من الأحاديث الصحيحة يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتصر لأبي بكر وينهى الناس عن معارضته ولم ينقل أنه ساءه كما نقل ذلك عن غيره فإن عليا لما خطب بنت أبي جهل خطب النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة المعروفة وما حصل مثل هذا في حق أبي بكر قط
7
236(188/170)
وأيضا فعلي لم يكن يدخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور العامة كما كان يدخل معه أبو بكر مثل المشاوره في وولايته وحربه وعطائه وغير ذلك فإن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا مع النبي صلى الله عليه وسلم مثل الوزيرين له شاورهما في أسرى بدر ما يصنع بهم وشاورهما في وفد بني تميم لمن يولي عليهم وشاورهما في غير ذلك من الأمور العامة يخصهما بالشورى وفي الصحيحين عن علي أن عمر لما مات قال له والله إني لأرجو أن يحشرك الله مع صاحبيك فإني كنت كثيرا ما اسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا و أبو بكر وعمر وذهبت أنا وأبو بكر وعمر وكان يشاور أبا بكر بأمور حروبه يخصه كما شاوره في قصة الإفك كما استشار أسامة بن زيد وكما سال بريرة وهذا أمر يخصه فإنه لما اشتبه عليه أمر عائشة رضي الله عنها وتردد هل يطلق لما بلغه عنها أم يمسكها صار يسال عنها بريرة لتخبره بباطن أمرها ويشاور فيها عليا أيمسكها أم يطلقها فقال له أسامة أهلك ولا نعلم إلا خيرا وقال على لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير و اسأل الجارية تصدقك ومع
7
237(188/171)
هذا فنزل القرآن ببراءتها وإمساكها موافقة لما أشار به أسامة بن زيد حب النبي صلى الله عليه وسلم وكان عمر يدخل في مثل هذه الشورى ويتكلم مع نسائه فيما يخص النبي صلى الله عليه وسلم حتى قالت له أم سلمة يا عمر لقد دخلت في كل شيء حتى دخلت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين نسائه و أما الأمور العامة الكلية التي تعم المسلمين إذا لم يكن فيها وحي خاص فكان يشاور فيها أبا بكر وعمر وأن دخل غيرهما في الشورى لكن هما الأصل في الشورى وكان عمر تاره ينزل القرآن بموافقته فيما يراه وتارة يتبين له الحق في الخلاف ما رآه فيرجع عنه و أما الأمور العامة الكلية التي تعم المسلمين إذا لم يكن فيها وحي خاص فكان يشاور فيها أبا بكر وعمر وأن دخل غيرهما في الشورى لكن هما الأصل في الشورى وكان عمر تارة ينزل القرآن بموافقته فيما يراه وتارة يتبين له الحق في خلاف ما رآه فيرجع عنه و أما أبو بكر فلم يعرف أنه أنكر عليه شيئا ولا كان أيضا يتقدم في شيء اللهم إلا لما تنازع هو وعمر فيمن يولى من بني تميم حتى ارتفعت أصواتهما فأنزل الله هذه الآية يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول وليس تأذي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بأكثر من تأذيه في قصة فاطمة وقد قال تعالى وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله وقد أنزل الله تعالى في على يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون لما صلى فقرا وخلط
7
238
وقال النبي صلى الله عليه وسلم وكان الإنسان اكثر شيء جدلا لما قال له ولفاطمة إلا تصليان فقالا أنما أنفسنا بيد الله سبحانه وتعالى فصل قال الرافضي البرهان التاسع والعشرون قوله تعالى
7
239(188/172)
أن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما من صحيح البخاري عن كعب بن عجرة قال سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت فإن الله علمنا كيف نسلم قال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وفي صحيح مسلم قلنا يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف الصلاة عليك فقال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ولا شك أن عليا أفضل آل محمد فيكون أولى بالإمامة والجواب أنه لا ريب أن هذا الحديث صحيح متفق عليه وأن عليا من آل محمد الداخلين في قوله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ولكن ليس هذا من خصائصه فإن جميع بني هاشم داخلون في هذا كالعباس وولده والحارث بن عبد المطلب وولده وكبنات النبي صلى الله عليه وسلم زوجتي عثمان رقية و أم كلثوم وبنته فاطمة وكذلك
7
240(188/173)
أزواجه كما في الصحيحين فيه قوله اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته بل يدخل فيه سائر أهل بيته إلى يوم القيامة ويدخل فيه اخوة علي كجعفر وعقيل ومعلوم أن دخول هؤلاء في الصلاة والتسليم لا يدل على أنه أفضل من كل من لم يدخل في ذلك ولا أنه يصلح بذلك للإمامة فضلا عن أن يكون مختصا بها إلا ترى أن عمارا والمقداد وأبا ذر وغيرهم ممن أتفق أهل السنة والشيعة على فضلهم لا يدخلون في الصلاة على إلال ويدخل فيها عقيل والعباس وبنوه وأولئك أفضل من هؤلاء باتفاق أهل السنة والشيعة وكذلك يدخل فيها عائشة وغيرها من أزواجه ولا تصلح امرأة لإمامه وليست أفضل الناس باتفاق أهل السنة والشيعة فهذه فضيلة مشتركة بينه وبين غيره وليس كل من اتصف بها أفضل ممن لم يتصف بها وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم فالتابعون أفضل من القرن الثالث وتفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم تفصيل الأفراد على كل فرد فإن القرن الثالث والرابع فيهم من هو أفضل من كثير ممن أدرك الصحابة
7
241
كالاشتر النخعي وأمثاله من رجال الفتن وكالمختار بن أبي عبيد و أمثاله من الكذابين والمفترين والحجاج بن يوسف وأمثاله من أهل الظلم والشر وليس على أفضل أهل البيت بل أفضل أهل البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه داخل في أهل البيت كما قال للحسن أما علمت أنا أهل بيت لا نأكل الصدقة وهذا الكلام يتناول المتكلم ومن معه وكما قالت الملائكة رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت وإبراهيم فيهم وكما قال اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم آل إبراهيم وإبراهيم داخل فيهم وكما في قوله تعالى إلا آل لوط نجيناهم فإن لوطا دخل فيهم وكذلك قوله أن الله اصطفى آدم ونوحا وال إبراهيم وال عمران على العالمين فقد دخل إبراهيم في الاصطفاء
7
242(188/174)
وكذلك قوله سلام على آل ياسين فقد دخل ياسين في السلام وكذلك قول النبي اللهم صل عرلى آل أبي أوفى دخل في ذلك أبو أوفى وكذلك قوله لقد أوتى هذا مزمارا من مزامير آل داود وليس إذا كان علي أفضل أهل البيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون أفضل الناس بعده لأن بني هاشم أفضل من غيرهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم و أما إذا خرج منهم فلا يجب أن يكون أفضلهم بعده أفضل ممن سواهم كما أن التابعين إذا كانوا أفضل من تابعي التابعين وكان فيهم واحد أفضل لم يجب أن يكون الثاني أفضل من أفضل تابعي التابعين بل الجملة إذا فضلت على الجملة فكان أفضلهما أفضل من الجملة الأخرى حصل مقصود التفضيل وما بعد ذلك فموقوف على الدليل بل قد يقال لا يلزم أن يكون أفضلها أفضل من فاضل الأخرى إلا بدليل
7
243
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم فإذا كان جملة قريش أفضل من غيرها لم يلزم أن يكون كل منهم أفضل من غيرهم بل في سائر العرب وغيرهم من المؤمنين من هو أفضل من اكثر قريش والسابقون الأولون من قريش نفر معدودون وغالبهم أنما أسلموا عام الفتح وهم الطلقاء وليس كل المهاجرين من قريش بل المهاجرون من قريش وغيرهم كابن مسعود الهزلي وعمران بن حصين الخزاعي والمقداد بن الاسود الكندي وهؤلاء وغيرهم من البدريين أفضل من اكثر بني هاشم فالسابقون من بني هاشم حمزة وعلى وجعفر وعبيدة بن الحارث أربعة أنفس وأهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر فمنهم من بني هاشم ثلاثة وسائرهم أفضل من سائر بني هاشم وهذا كله بناء على أن الصلاة والسلام على آل محمد وأهل بيته تقتضي
7
244(188/175)
أن يكونوا أفضل من سائر أهل البيوت وهذا مذهب أهل السنة والجماعة الذين يقولون بنو هاشم أفضل قريش وقريش أفضل العرب والعرب أفضل بني آدم وهذا هو المنقول عن أئمة السنة كما ذكره حرب الكرماني عمن لقيهم مثل أحمد وإسحاق وسعيد بن منصور وعبد الله بن الزبير الحميدي وغيرهم وذهبت طائفة إلى منع التفضيل بذلك كما ذكره القاضي أبو بكر والقاضي أبو يعلى في المعتمد وغيرهما و الأول اصح فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال لأن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريش من كنانة واصطفى هاشما من قريش واصطفاني من بني هاشم وروي أن الله اصطفى بني إسماعيل وهذا مبسوط في غير هذا الموضع فصل قال الرافضي البرهان الثلاثون قوله تعالى مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان
7
245
من تفسير الثعلبي وطريق أبي نعيم عن ابن عباس في قوله مرج البحرين يلتقيان قال علي وفاطمة بينهما برزخ لا يبغيان النبي صلى الله عليه وسلم وآله يخرج منها اللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين ولم يحصل لغيره من الصحابة هذه الفضيلة فيكون أولى بالإمامة والجواب أن هذا وأمثاله أنما يقوله من لا يعقل ما يقول وهذا بالهذيان أشبه منه بتفسير القرآن وهو من جنس تفسير الملاحدة ة والقرامطة الباطنية للقرآن بل هو شر من كثير منه والتفسير بمثل هذا طريق للملاحدة على القرآن والطعن فيه بل تفسير القرآن بمثل هذا من اعظم القدح فيه والطعن فيه و لجهال المنتسبين إلى السنة تفاسير في الأربعة وهي أن كانت باطلة فهي امثل من هذا كقولهم الصابرين محمد والصادقين أبو بكر والقانتين عمر والمنفقين عثمان والمستغفرين بالأسحار علي وكقوله محمد رسول الله والذين معه أبو بكر أشداء على الكفار عمر رحماء بينهم عثمان تراهم ركعا سجدا على
7
246(188/176)
وكقولهم والتين أبو بكر والزيتون عمر وطور سينين عثمان وهذا البلد الأمين علي وكقولهم والعصر أن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا أبو بكر وعملوا الصالحات عمر وتواصوا بالحق عثمان وتواصوا بالصبر علي فهذه التفاسير من جنس تلك التفاسير وهي أمثل من الحادات الرافضة كقولهم وكل شئ أحصيناه في إمام مبين علي وكقولهم وأنه في أم الكتاب لدنيا لعلي حكيم أنه علي بن أبي طالب والشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية و أمثال هذا الكلام الذي لا يقوله من يرجو لله وقارا ولا يقوله من يؤمن بالله وكتابه وكذلك قول القائل مرج البحرين يلتقيان علي وفاطمة بينهما برزخ لا يبغيان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين وكل من له أدنى علم وعقل يعلم بالاضطرار بطلان هذا التفسير وأن ابن عباس لم يقل هذا وهذا من التفسير الذي في تفسير الثعلبي وذكره بإسناد رواته مجهولون لا يعرفون عن سفيان الثوري وهو كذب على سفيان قال
7
247(188/177)
الثعلبي أخبرني الحسن بن محمد الدينوري حدثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال قرا أبي على أبي محمد بن الحسن بن علوية القطان من كتابه و أنا اسمع حدثنا بعض أصحابنا حدثنا رجل من أهل مصر يقال له طسم حدثنا أبو حذيفة عن أبيه عن سفيان الثوري في قوله مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان قال فاطمة و علي يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان الحسن و الحسين و هذا الإسناد ظلمات بعضها فوق بعض لا يثبت بمثله شيء و مما يبين كذب ذلك وجوه أحدها أن تسمية هذين بحرين و هذا لؤلؤا هذا في سورة الرحمان وهي مكية بإجماع المسلمين والحسن والحسين إنما ولدا بالمدينة الثاني أن عن عيسى ثم ذكر و هذا مرجانا و جعل النكاح مرجا أمر لا تحتمله لغة العرب بوجه لا حقيقة و لا مجازا بل كما أنه كذب على الله و على القرآن فهو كذب على اللغة الثالث أنه ليس في هذا شيء زائد على ما يوجد في سائر بني آدم فإن كل من تزوج امرأة و ولد لهما ولدان فهما من هذا الجنس فليس في ذكر هذا ما يستعظم من قدرة الله و آياته
7
248(188/178)
إلا ما في نظائره من خلق الآدميين فلا موجب للتخصيص و إن كان ذلك لفضيلة الزوجين و الولدين فإبراهيم و اسحق و يعقوب افضل من علي و في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل أي الناس اكرم فقال اتقاهم فقالوا ليس عن هذا نسألك فقال يوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل الله و آل إبراهيم الذين امرنا أن نسأل لمحمد و أهل بيته من الصلاة مثل ما صلى الله عليهم و نحن و كل مسلم نعلم أن آل إبراهيم افضل من آل علي لكن محمد افضل من إبراهيم و لهذا ورد هنا سؤال مشهور و هو انه إذا كان محمد افضل فلم قيل كما صليت على إبراهيم و المشبه دون المشبه به و قد أجيب عن ذلك بأجوبه منها أن يقال أن آل إبراهيم فيهم الأنبياء و محمد فيهم قال ابن عباس محمد من آل إبراهيم فمجموع آل إبراهيم بمحمد افضل من آل محمد و محمد قد دخل في الصلاة على
7
249(188/179)
آل إبراهيم ثم طلبنا له من الله و لأهل بيته دونه مثل ما صلى على إبراهيم فيأخذ أهل بيته ما يليق بهم و يبقى سائر ذلك لمحمد صلى الله عليه و سلم فيكون قد طلب له من الصلاة ما جعل للأنبياء من آل إبراهيم و الذي يأخذه الفاضل من أهل بيته لا يكون مثلما يحصل لنبي فتعظم الصلاة عليه بهذا الاعتبار صلى الله عليه و سلم و قيل أن التشبيه في الأصل لا في القدر الرابع أن الله ذكر انه مرج البحرين في آية أخرى فقال في الفرقان و هو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات و هذا ملح أجاج فلو أريد بذلك علي و فاطمة لكان ذلك ذما لأحدهما و هذا باطل بإجماع أهل السنة و الشيعة الخامس انه قال بينهما برزخ لا يبغيان فلو أريد بذلك علي و فاطمة لكان البرزخ الذي هو النبي صلى الله عليه و سلم بزعمهم أو غيره هو المانع لأحدهما أن يبغي على الآخر و هذا بالذم أشبه منه بالمدح السادس أن أئمة التفسير متفقون على خلاف هذا كما ذكره ابن جرير و غيره فقال ابن عباس بحر السماء و بحر الأرض يلتقيان كل عام و قال الحسن مرج البحرين يعني بحر فارس و الروم بينهما برزخ هو الجزائر
7
250(188/180)
و قوله يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان قال الزجاج إنما يخرج من البحر الملح و إنما جمعهما لانه إذا خرج من أحدهما فقد خرج منهما مثل و جعل القمر فيهن نورا و قال الفارسي أراد من أحدهما فحذف المضاف و قال ابن جرير إنما قال منهما لانه يخرج من أصداف البحر عن قطر السماء و أما اللؤلؤ و المرجان ففيهما قولان أحدهما أن المرجان ما صغر من اللؤلؤ و اللؤلؤ العظام قاله الأكثر ون منهم ابن عباس و قتادة و الفراء و الضحاك و قال الزجاج اللؤلؤ اسم جامع للحب الذي يخرج من البحر و المرجان صغاره الثاني أن اللؤلؤ الصغار و المرجان الكبار قاله مجاهد و السدى و مقاتل قال ابن عباس إذا أمطرت السماء فتحت الأصداف أفواهها فما و قع فيها من المطر فهو لؤلؤ و قال ابن جرير حيث وقعت قطرة كانت لؤلؤة و قال ابن مسعود المرجان الخرز الأحمر و قال الزجاج المرجان ابيض شديد البياض و حكى عن أبي يعلى أن المرجان ضرب من اللؤلؤ كالقضبان فصل قال الرافضي البرهان الحادي و الثلاثون قوله تعالى
7
251(188/181)
و من عنده علم الكتاب من طريق أبي نعيم عن ابن الحنفية قال هو علي بن أبي طالب و في تفسير الثعلبي عن عبد الله بن سلام قال قلت من هذا الذي عنده علم الكتاب قال ذلك علي بن أبي طالب و هذا يدل على انه افضل فيكون هو الإمام و الجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة النقل عن ابن سلام و ابن الحنفية الثاني انه بتقدير ثبوته ليس بحجة مع مخالفة الجمهور لها الثالث أن هذا كذب عليهما الرابع أن هذا باطل قطعا و ذلك أن الله تعالى قال قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب و لو أريد به علي لكان المراد أن محمدا يستشهد على ما قاله بابن عمه علي و معلوم أن عليا لو شهد له بالنبوة و بكل ما قال لم ينتفع محمد بشهادته له و لا يكون ذلك حجة له على الناس و لا يحصل بذلك دليل المستدل و لا ينقاد بذلك أحد لأنهم يقولون من أين لعلي بذلك و إنما هو استفاد ذلك من محمد فيكون محمد هو الشاهد لنفسه و منها أن يقال أن هذا ابن عمه و من أول من آمن به فيظن به
7
252(188/182)
المحاباة والمداهنة والشاهد أن لم يكن عالما بما يشهد به بريئا من التهمه لم يحكم بشهادته ولم يكن حجة على المشهود عليه فكيف إذا لم يكن له علم بها إلا من المشهود له ومعلوم انه لو شهد له بتصديقه فيما قاله أبو بكر وعمر وغيرهما كان انفع له لان هؤلاء ابعد عن ا لتهمة ولان هؤلاء قد يقال انهم كانوا رجالا وقد سمعوا من أهل الكتاب ومن الكهان أشياء علموها من غير جهة محمد بخلاف على فانه كان صغيرا فكان الخصوم يقولون لا يعلم ما شهد به إلا من جهة المشهود له و أما أهل الكتاب فإذا شهدوا بما تواتر عندهم عن الأنبياء وبما علم صدقه كانت تلك شهادة نافعة كما لو كان الأنبياء موجودين وشهدوا له لان ما ثبت نقله عنهم بالتواتر وغيره كان بمنزلة شهادتهم أنفسهم ولهذا نحن نشهد على الأمم بما علمناه من جهة نبينا كما قال تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا فهذا الجاهل الذي جعل هذا فضيلة لعلى قدح بها فيه وفي النبي الذي صار به على من المؤمنين وفي الأدلة الدالة على الإسلام ولا يقول هذا إلا زنديق أو جاهل مفرط في الجهل
7
253(188/183)
فان كنت لا تدري فتلك مصيبة وان كنت تدري فالمصيبة اعظم الخامس أن الله سبحانه وتعالى قد ذكر الاستشهاد بأهل الكتاب في غير آية كقوله تعالى قل ارأيتم أن كان من عند الله ثم كفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل علي مثله افترى عليا هو من بني إسرائيل وقال تعالى فان كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك فهل كان على من الذين يقرؤون الكتاب من قبله وقال وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر فهل أهل الذكر الذين يسألونهم هل أرسل الله إليهم رجالا هم علي بن أبي طالب السادس انه لو قدر أن عليا هو الشاهد لم يلزم أن يكون افضل من غيره كما أن أهل الكتاب الذين يشهدون بذلك مثل عبد الله بن سلام وسلمان وكعب الأحبار وغيرهم ليسوا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كابي بكر وعمر وعثمان وعلى وجعفر وغيرهم
7
254
فصل قال الرافضي البرهان الثاني والثلاثون قوله تعالى يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه روى أبو نعيم مرفوعا إلى ابن عباس قال أول من يكسى من حلل الجنة إبراهيم عليه السلام بخلته من الله ومحمد صلى الله عليه وسلم لانه صفوة الله ثم على يزف بينهما إلى الجنان ثم قرا ابن عباس يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه قال علي و أصحابه وهذا يدل على انه افضل من غيره فيكون هو الإمام والجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة النقل لا سيما في مثل هذا الذي لا اصل له
7
255(188/184)
الثاني أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث الثالث أن هذا باطل قطعا لان هذا يقتضي أن يكون علي افضل من إبراهيم ومحمد لانه وسط و هما طرفان و افضل الخلق إبراهيم و محمد فمن فضل عليهما عليا كان اكفر من اليهود و النصارى الرابع انه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم و ليس فيه ذكر محمد و لا علي و تقديم إبراهيم بالكسوة لا يقتضي انه افضل من محمد مطلقا كما أن قوله أن الناس يصعقون يوم القيامة فاكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بالعرش فلا ادري هل استفاق قبلي أم كان من الذين استثنى الله
7
256
فتجويز أن يكون سبقه في الإفاقة أو لم يصعق بحال لا يمنعنا أن نعلم أن محمدا افضل من موسى ولكن إذا كان التفضيل على وجه الغض من المفضول في النقص له نهى عن ذلك كما نهى في هذا الحديث عن تفضيله على موسى وكما قال لمن قال يا خير البرية قال ذاك إبراهيم وصح قوله أنا سيد ولد آدم ولا فخر آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر
7
257(188/185)
وكذلك الكلام في تفضيل الصحابة يتقى فيه نقص أحد عن رتبته أو الغض من درجته أو دخول الهوى والفرية في ذلك كما فعلت الرافضة و النواصب الذين يبخسون بعض الصحابة حقوقهم الخامس أن قوله تعالى يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا انك على كل شيء قدير وقوله يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم نص عام في المؤمنين الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم وسياق الكلام يدل على عمومه والآثار المروية في ذلك تدل على عمومه قال ابن عباس ليس أحد من المسلمين إلا يعطى نورا يوم القيامة فأما المنافق فيطفأ نوره يوم القيامة والمؤمن يشفق مما يرى من إطفاء نور المنافق فهو يقول ربنا أتمم لنا نورنا فان العموم في ذلك
7
258
يعلم قطعا ويقينا وانه لم يرد به شخص واحد فكيف يجوز أن يقال انه على وحده ولو أن قائلا قال في كل ما جعلوه عليا انه أبو بكر أو عمر أو عثمان أي فرق كان بين هؤلاء وهؤلاء إلا محض الدعوى والافتراء بل يمكن ذكر شبه لمن يدعي اختصاص ذلك بابي بكر وعمر اعظم من شبه الرافضة آلتي تدعى اختصاص ذلك بعلى وحينئذ فدخول على في هذه الآية كدخول الثلاثة بل هم أحق بالدخول فيها فلم يثبت بها أفضليته ولا إمامته فصل قال الرافضي البرهان الثالث والثلاثون قوله تعالى أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية روى الحافظ أبو نعيم بإسناده إلى ابن عباس لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي تأتى أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي خصماؤك
7
259(188/186)
غضابا مفحمين وإذا كان خير البرية وجب أن يكون هو الإمام والجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة النقل وان كنا غير مرتابين في كذب ذلك لكن مطالبة المدعي بصحة النقل لا يأباه إلا معاند ومجرد رواية أبي نعيم ليست بحجة باتفاق طوائف المسلمين الثاني أن هذا مما هو كذب موضوع باتفاق العلماء وأهل المعرفة بالمنقولات الثالث أن يقال هذا معارض بمن يقول أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم النواصب كالخوارج وغيرهم ويقولون أن من تولاه فهو كافر مرتد فلا يدخل في الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويحتجون على ذلك بقوله ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون قالوا ومن حكم الرجال في دين الله فقد حكم بغير ما انزل الله فيكون كافرا ومن تولى الكافر فهو كافر لقوله ومن يتولهم منكم فانه منهم وقالوا انه هو وعثمان ومن تولاهما مرتدون بقول النبي صلى الله عليه وسلم ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال فأقول أي رب أصحابي أصحابي فيقال انك لا تدري ما أحدثوا بعدك انهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم
7
260
قالوا وهؤلاء هم الذين حكموا في دماء المسلمين و اموالهم بغير ما انزل الله واحتجوا بقوله لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض قالوا والذين ضرب بعضهم رقاب بعض رجعوا بعده كفارا فهذا و أمثاله من حجج الخوارج وهو وان كان باطلا بلا ريب فحجج الرافضة ابطل منه والخوارج اعقل واصدق واتبع للحق من الرافضة فانهم صادقون لا يكذبون أهل دين ظاهرا وباطنا لكنهم ضالون جاهلون مارقون مرقوا من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية و أما الرافضة فالجهل والهوى والكذب غالب عليهم وكثير من أئمتهم وعامتهم زنادقة ملا حدة ليس لهم غرض في العلم ولا في الدين بل أن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى
7
261(188/187)
والمر وانية الذين قاتلوا عليا وان كانوا لا يكفرونه فحججهم أقوى من حجج الرافضة وقد صنف الجاحظ كتابا للمر وانية ذكر فيه من الحجج التي لهم ما لا يمكن الرافضة نقضه بل لا يمكن الزيدية نقضه دع الرافضة أهل السنة والجماعة لما كانوا معتدلين متوسطين صارت الشيعة تنتصر بهم فيما يقولونه في حق علي من الحق ولكن أهل السنة قالوا ذلك بأدلة يثبت بها فضل الأربعة وغيرهم من الصحابة ليس مع أهل السنة ولا غيرهم حجة تخص عليا بالمدح وغيره بالقدح فان هذا ممتنع لا ينال إلا بالكذب المحال لا بالحق المقبول في ميدان النظر والجدال الوجه الرابع أن يقال قوله أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات عام في كل من اتصف بذلك فما الذي أوجب تخصيصه بالشيعة فان قيل لان من سواهم كافر قيل أن ثبت كفر من سواهم بدليل كان ذلك مغنيا لكم عن هذا التطويل وان لم يثبت لم ينفعكم هذا الدليل فانه من جهة النقل لا يثبت فان أمكن إثباته بدليل منفصل فذاك هو الذي يعتمد عليه لا هذه الآية
7
262(188/188)
الوجه الخامس أن يقال من المعلوم المتواتر أن ابن عباس كان يوالي غير شيعة علي اكثر مما يوالي كثيرا من الشيعة حتى الخوارج كان يجالسهم و يفتيهم و يناظرهم فلو اعتقد أن الذين آمنوا و عملوا الصالحات هم الشيعة فقط و أن من سواهم كفار لم يعمل مثل هذا و كذلك بنو أمية كانت معاملة ابن عباس و غيره لهم من اظهر الأشياء دليلا على انهم مؤمنون عنده لا كفار فان قبل نحن لا نكفر من سوى الشيعة لكن نقول هم خير البرية قيل الآية تدل على أن الذين آمنوا و عملوا الصالحات هم خير البرية فان قلتم أن من سواهم لا يدخل في ذلك فأما أن تقولوا هو كافر أو تقولوا فاسق بحيث لا يكون من الذين آمنوا و عملوا الصالحات و أن دخل اسمهم في الإيمان و إلا ممن كان مؤمنا فليس بفاسق فهو داخل في الذين آمنوا و عملوا الصالحات فان قلتم هو فاسق قيل لكم أن ثبت فسقهم كفاكم ذلك في الحجة و أن لم يثبت لم ينفعكم ذلك في الاستدلال و ما تذكرون به فسق طائفة من الطوائف إلا و تلك الطائفة تبين لكم أنكم أولى بالفسق منهم من وجوه كثيرة و ليس لكم حجة صحيحة تدفعون بها هذا
7
263(188/189)
و الفسق غالب عليكم لكثرة الكذب فيكم و الفواحش و الظلم فان ذلك اكثر فيكم منه في الخوارج و غيرهم من خصومكم و اتباع بني أمية كانوا اقل ظلما و كذبا و فواحش ممن دخل في الشيعة بكثير و أن كان في بعض الشيعة صدق و دين و زهد فهذا في سائر الطوائف اكثر منهم و لو لم يكن إلا الخوارج الذين قيل فيهم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم و صيامه مع صيامهم و قراءته مع قراءتهم الوجه السادس انه قال قبل ذلك أن الذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية ثم قال أن الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية و هذا يبين أن هؤلاء من سوى المشركين و أهل الكتاب و في القران مواضع كثيرة ذكر فيها الذين آمنوا و عملوا الصالحات و كلها عامة فما الموجب لتخصيص هذه الآية دون نظائرها و إنما دعوى الرافضة أو غيرهم من أهل الاهواء الكفر في كثير ممن سواهم كالخوار و كثير من المعتزلة و الجهمية و انهم هم الذين آمنوا و عملوا الصالحات دون من سواهم كقول اليهود و النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين بلى من اسلم وجهه لله و هو محسن فله اجره عند ربه و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون و هذا عام في كل من عمل
7
264(188/190)
لله بما أمره الله فالعمل الصالح هو المأمور به و إسلام وجهه لله إخلاص قصده لله فصل قال الرافضي البرهان الرابع و الثلاثون قوله تعالى و هو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا و صهرا و في تفسير الثعلبي عن ابن سيرين قال نزلت في النبي صلى الله عليه و سلم و علي بن أبي طالب زوج فاطمة عليا و هو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا و صهر ولم يثبت لغيره ذلك فكان افضل فيكون هو الإمام و الجواب من وجوه أولا المطالبة بصحة النقل و ثانيا أن هذا كذب على ابن سيرين بلا شك و ثالثا أن مجرد قول ابن سيرين الذي خالفه فيه الناس ليس بحجة الرابع أن يقال هذه الآية في سورة الفرقان و هي مكية و هذا من الآيات المكية باتفاق الناس قبل أن يتزوج علي بفاطمة فكيف يكون ذلك قد أريد به علي و فاطمة
7
265
الخامس أن الآية مطلقة في كل نسب و صهر لا اختصاص لها بشخص دون شخص و لا ريب أنها تتناول مصاهرته لعلي كما تتناول مصاهرته لعثمان مرتين كما تتناول مصاهرة أبي بكر و عمر للنبي صلى الله عليه و سلم فان النبي صلى الله عليه و سلم تزوج عائشة بنت أبي بكر و حفصة بنت عمر من أبويهما و زوج عثمان برقية و أم كلثوم بنتيه و زوج عليا بفاطمة فالمصاهرة ثابتة بينه و بين الأربعة و روي عنه انه قال لو كانت عندنا ثالثة لزوجناها عثمان و حينئذ فتكون المصاهرة مشتركة بين علي و غيره فليست من خصائصه فضلا عن أن توجب أفضليته و إمامته عليهم السادس انه لو فرض انه أريد بذلك مصاهرة علي فمجرد المصاهرة لا تدل على انه افضل من غيره باتفاق أهل السنة و الشيعة فان المصاهرة ثابتة لكل من الأربعة مع ان بعضهم افضل من بعض فلو كان المصاهرة توجب الأفضلية للزم التناقض
7
266(188/191)
فصل قال الرافضي البرهان الخامس و الثلاثون قوله تعالى يا آيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين أوجب الله علينا الكون مع المعلوم منهم الصدق و ليس إلا المعصوم لتجويز الكذب في غيره فيكون هو عليا إذ لا معصوم من الأربعة سواه و في حديث أبي نعيم عن ابن عباس أنها نزلت في علي و الجواب من وجوه أحدها أن الصديق مبالغة في الصادق فكل صديق صادق و ليس كل صادق صديقا و أبو بكر رضي الله عنه قد ثبت انه صديق بالأدلة الكثيرة فيجب أن تتناوله الآية قطعا و أن تكون معه بل تناولها له أولى من تناولها لغيره من الصحابة و إذا كنا معه مقرين بخلافته امتنع أن نقر بان عليا كان هو الإمام دونه فالآية تدل على نقيض مطلوبهم الثاني أن يقال علي أما أن يكون صديقا و أما أن لا يكون فان لم يكن صديقا فأبو بكر الصديق فالكون مع الصادق الصديق أولى من الكون مع الصادق الذي ليس بصديق و أن كان صديقا فعمر و عثمان أيضا صديقون و حينئذ فإذا كان الأربعة صديقين لم يكن علي مختصا
7
267(188/192)
بذلك ولا بكونه صادقا فلا يتعين الكون مع واحد دون الثلاثة بل لو قدرنا التعارض لكان الثلاثة أولى من الواحد فانهم اكثر عددا لا سيما وهم اكمل في الصدق الثالث أن يقال هذه الآية نزلت في قصة كعب بن مالك لما تخلف عن غزوة تبوك وصدق النبي صلى الله عليه وسلم في انه لم يكن له عذر وتاب الله عليه ببركة الصدق وكان جماعة أشاروا عليه بان يعتذر ويكذب كما اعتذر غيره من المنافقين وكذبوا وهذا ثابت في الصحاح والمساند وكتب التفسير والسير والناس متفقون عليه ومعلوم انه لم يكن لعلي اختصاص في هذه القصة بل قال كعب بن مالك فقام إلي طلحة يهرول فعانقني والله ما قام إلي من المهاجرين غيره فكان كعب لا ينساها لطلحة وإذا كان كذلك بطل حملها على علي وحده الوجه الرابع أن هذه الآية نزلت في هذه القصة ولم يكن أحد يقال انه معصوم لا علي ولا غيره فعلم أن الله أراد مع الصادقين ولم يشترط كونه معصوما الخامس انه قال مع الصادقين وهذه صيغة جمع وعلي واحد فلا يكون هو المراد وحده السادس أن قوله تعالى مع الصادقين أما أن يراد كونوا معهم في
7
268(188/193)
الصدق وتوابعه فاصدقوا كما يصدق الصادقون ولا تكونوا مع الكاذبين كما في قوله واركعوا مع الراكعين وقوله ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وكما في قوله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما وأما أن يراد به كونوا مع الصادقين في كل شيء وان لم يتعلق بالصدق والثاني باطل فان الانسان لا يجب عليه أن يكون مع الصادقين في المباحات كالأكل والشرب واللباس ونحو ذلك فإن كان الأول هو الصحيح فليس في هذا أمر بالكون مع شخص معين بل المقصود اصدقوا ولا تكذبوا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عليكم بالصدق فان الصدق يهدي إلى البر وان البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياك والكذب فان الكذب يهدي إلى الفجور وان الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا
7
269(188/194)
وهذا كما يقال كن مع المؤمنين كن مع الأبرار أي ادخل معهم في هذا الوصف وجامعهم عليه ليس المراد انك مأمور بطاعتهم في كل شيء الوجه السابع أن يقال إذا أريد كونوا مع الصادقين مطلقا فذلك لان الصدق مستلزم لسائر البر كقول النبي صلى الله عليه وسلم عليكم بالصدق فان الصدق يهدي إلى البر الحديث وحينئذ فهذا وصف ثابت لكل من اتصف به الثامن أن يقال أن الله امرنا أن نكون مع الصادقين ولم يقل مع المعلوم فيهم الصدق كما انه قال واشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهادة لله لم يقل من علمتم انهم ذوو عدل منكم وكما قال أن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها لم يقل إلى من علمتم انهم أهلها وكما قال وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل لم يقل بما علمتم انه عدل لكن علق الحكم بالوصف ونحن علينا الاجتهاد بحسب الإمكان في معرفة الصدق والعدالة وأهل الأمانة والعدل ولسنا مكلفين في ذلك بعلم الغيب كما أن النبي صلى الله عليه وسلم المأمور أن يحكم بالعدل قال إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ان يكون الحن بحجته من بعض و إنما اقضي بنحو مما اسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما اقطع له من النار
7
270(188/195)
الوجه التاسع هب أن المراد من المعلوم فيهم الصدق لكن العلم كالعلم في قوله فان علمتموهن مؤمنات والإيمان أخفى من الصدق فإذا كان العلم المشروط هناك يمتنع أن يقال فيه ليس إلا العلم بالمعصوم كذلك هنا يمتنع أن يقال لا يعلم إلا صدق المعصوم الوجه العاشر هب أن المراد علمنا صدقه لكن يقال أن أبا بكر وعمر وعثمان ونحوهم ممن علم صدقهم وانهم لا يتعمدون الكذب وان جاز عليهم الخطأ أو بعض الذنوب فان الكذب اعظم ولهذا ترد شهادة الشاهد بالكذبة الواحدة في أحد قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن احمد وقد روى في ذلك حديث مرسل ونحن قد نعلم يقينا أن هؤلاء لم يكونوا يتعمدون الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ولا يتعمدون الكذب بحال و لا نسلم أنا لا نعلم انتفاء الكذب إلا عمن يعلم انه معصوم مطلقا بل كثير من الناس إذا اختبرته تيقنت انه لا يكذب وان كان يخطىء ويذنب ذنوبا أخرى ولا نسلم أن كل من ليس بمعصوم يجوز أن يتعمد الكذب وهذا خلاف الواقع فان الكذب لا بتعمده إلا من هو من شر الناس وهؤلاء الصحابة لم يكن فيهم من يتعمد الكذب على رسول البنبي الله صلى الله عليه وسلم وأهل العلم يعلمون بالاضطرار أن مثل مالك وشعبة ويحيى بن
7
271(188/196)
سعيد والثوري والشافعي واحمد ونحوهم لم يكونوا يتعمدون الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا على غيره فكيف بابن عمر وابن عباس وأبى سعيد وغيرهم الوجه الحادي عشر انه لو قدر أن المراد به المعصوم لا نسلم الإجماع على انتفاء العصمة من غير على كما تقدم بيان ذلك فان كثيرا من الناس الذين هم خير من الرافضة يدعون في شيوخهم هذا المعنى وان غيروا عبارته وأيضا فنحن لا نسلم انتفاء عصمتهم مع ثبوت عصمته بل أما انتفاء الجميع وأما ثبوت الجميع فصل قال الرافضي البرهان السادس والثلاثون قوله تعالى واركعوا مع الراكعين من طريق أبي نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي خاصة وهما أول من صلى وركع وهذا يدل على فضيلته فيدل على إمامته
7
272
الجواب من وجوه أحدها أنا لا نسلم صحة هذا ولم يذكر دليلا على صحته الثاني أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل العلم الحديث الثالث أن هذه الآية في سورة البقرة وهي مدنية باتفاق المسلمين وهي في سياق مخاطبة لبني إسرائيل وسواء كان الخطاب لهم أو لهم وللمؤمنين فهو خطاب انزل بعد الهجرة وبعد أن كثر المصلون والراكعون ولم تنزل في أول الإسلام حتى يقال أنها مختصة بأول من صلى وركع الرابع أن قوله مع الراكعين صيغة جمع ولو أريد النبي صلى الله عليه وسلم وعلي لقيل مع الراكعين بالتثنية وصيغة الجمع لا يراد بها اثنان فقط باتفاق الناس بل أما الثلاثة فصاعدا وأما الاثنان فصاعدا أما إرادة اثنين فقط فخلاف الإجماع الخامس انه قال لمريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ومريم كانت قبل الإسلام فعلم انه كان راكعون قبل الإسلام فليس فيهم علي فكيف لا يكون راكعون في أول الإسلام ليس فيهم علي وصيغة الاثنين واحدة
7
273(188/197)
السادس أن الآية مطلقة لا تخص شخصا بعينه بل أمر الرجل المؤمن أن يصلي مع المصلين وقيل المراد به الصلاة في الجماعة لان الركعة لا تدرك إلا بادراك الركوع السابع انه لو كان المراد الركوع معهما لا نقطع حكمها بموتهما فلا يكون أحد مأمورا أن يركع مع الراكعين الثامن أن قول القائل علي أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ممنوع بل اكثر الناس على خلاف ذلك وان أبا بكر صلى قبله التاسع انه لو كان أمرا بالركوع معه لم يدل ذلك على ان من ركع معه يكون هو الإمام فان عليا لم يكن إماما مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان يركع معه فصل قال الرافضي البرهان السابع والثلاثون قوله تعالى واجعل لي وزيرا من أهلي من طريق أبي نعيم عن
7
274
ابن عباس قال اخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي وبيدي ونحن بمكة وصلى أربع ركعات ورفع يده إلى السماء فقال اللهم موسى بن عمران سألك وأنا محمد نبيك أسألك أن تشرح لي صدري وتحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي علي بن أبي طالب أخي اشدد به أزرى أشركه في أمري قال ابن عباس سمعت مناديا ينادي يا احمد قد أوتيت ما سالت وهذا نص في الباب والجواب المطالبة بالصحة كما تقدم أولا الثاني أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث بل هم يعلمون أن هذا من أسمج الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة في اكثر الأوقات لم يكن ابن عباس قد ولد وابن عباس ولد وبنو هاشم في الشعب
7
275(188/198)
محصور ون ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ابن عباس بلغ سن التمييز ولا كان ممن يتوضأ ويصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فان النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو لم يحتلم بعد وكان له عند الهجرة نحو خمس سنين أو اقل منها وهذا لا يؤمر بوضوء ولا صلاة فان النبي صلى الله عليه وسلم قال مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ومن يكون بهذا السن لا يعقل الصلاة ولا يحفظ مثل هذا الدعاء إلا بتلقين لا يحفظ بمجرد السماع الرابع انهم قد قدموا في قوله إنما وليكم الله ورسوله وحديث التصدق بالخاتم في الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بهذا الدعاء وهنا قد ذكروا انه قد دعا بهذا الدعاء بمكة قبل تلك الواقعة بسنين متعددة فان تلك كانت في سورة المائدة والمائدة من آخر القران نزولا وهذا في مكة فإذا كان قد دعا بهذا في مكة وقد استجيب له فأي حاجة إلى الدعاء به بعد ذلك بالمدينة بسنين متعددة
7
276(188/199)
الخامس أنا قد بينا فيما تقدم وجوها متعددة في بطلان مثل هذا فان هذا الكلام كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة ولكن هنا قد زادوا فيه زيادات كثيرة لم يذكروها هناك وهي قوله أشركه في أمري فصرحوا هنا بان عليا كان شريكه في أمره كما كان هارون شريك موسى وهذا قول من يقول بنبوته وهذا كفر صريح وليس هو قول الأمامية و إنما هو من قول الغالية و ليس الشريك في الأمر هو الخليفة من بعده فانهم يدعون إمامته بعده و مشاركته له في أمره في حياته و هؤلاء الأمامية و إن كانوا يكفرون من يقول بمشاركته له في النبوة لكنهم يكثرون سوادهم في المقال و الرجال بمن يعتقدون فيه الكفر و الضلال و بما يعتقدون انه من الكفر و الضلال لفرط منابذتهم للدين و مخالفتهم لجماعة المسلمين و بغضهم لخيار أولياء الله المتقين و اعتقادهم فيهم انهم من المرتدين فهم كما قيل في المثل رمتني بدائها و انسلت و هذا الرافضي الكذاب يقول و هذا نص في الباب فيقال له يا دبير هذا نص في أن عليا شريكه في أمره في حياته كما كان هارون شريكا لموسى فهل تقول بموجب هذا النص أم ترجع عن الإحتجاج بأكاذيب المفترين و ترهات إخوانك المبطلين
7
277
فصل قال الرافضي البرهان الثامن و الثلاثون قوله تعالى إخوانا على سرر متقابلين من مسند احمد بإسناده إلى زيد بن أبي أوفى قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم مسجده فذكر قصة مؤاخاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال علي لقد ذهبت روحي و انقطع ظهري حين فعلت بأصحابك فان كان هذا من سخط الله علي فلك العقبى و الكرامة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم و الذي بعثني بالحق نبيا ما اخترتك لا لنفسي فأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي و أنت أخي
7
278(188/200)
و وارثي و أنت معي في قصري في الجنة و مع ابنتي فاطمة فأنت أخي و رفيقي ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم إخوانا على سرر متقابلين المتحابين في الله ينظر بعضهم إلى بعض و المؤاخاة تستدعي المناسبة و المشاكلة فلما اختص علي بمؤاخاة النبي صلى الله عليه و سلم كان هو الإمام و الجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة هذا الإسناد و ليس هذا الحديث في مسند احمد و لا رواه احمد قط لا في المسند و لا في الفضائل و لا ابنه فقول هذا الرافضي من مسند احمد كذب و افتراء على المسند و إنما هو من زيادات القطيعي التي فيها من الكذب الموضوع ما اتفق أهل العلم على انه كذب موضوع رواه القطيعي عن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي حدثنا حسين بن محمد الذارع حدثنا عبد المؤمن بن عباد حدثنا يزيد بن معن عن عبد الله بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى
7
279
و هذا الرافضي لم يذكره بتمامه فان فيه عند قوله و أنت أخي و وارثي قال و ما ارث منك يا رسول الله قال ما ورث الأنبياء من قبلي قال و ما ورث الأنبياء من قبلك قال كتاب الله و سنة نبيهم و هذا الإسناد مظلم انفرد به عبد المؤمن بن عباد أحد المجروحين ضعفه أبو حاتم عن يزيد بن معن و لا يدري من هو فلعله الذي اختلقه عن عبد الله بن شرحبيل و هو مجهول عن رجل من قريش عن زيد بن أبي أوفى الوجه الثاني أن هذا مكذوب مفترى باتفاق أهل المعرفة الثالث أن أحاديث المؤاخاة بين المهاجرين بعضهم مع بعض والانصار بعضهم مع بعض كلها كذب و النبي صلى الله عليه و سلم لم يؤاخ عليا و لا آخى بين أبي بكر و عمر و لا بين مهاجري و مهاجري لكن آخى بين المهاجرين و الأنصار كما آخى بين عبد الرحمن بن عوف و سعد بن الربيع و بين سلمان الفارسي و أبي الدرداء و بين علي و سهل بن حنيف
7
280(188/201)
وكانت المؤاخاة في دور بني النجار كما اخبر بذلك انس في الحديث الصحيح لم تكن في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم كما ذكر في الحديث الموضوع و إنما كانت في دار كان لبعض بني النجار و بناه في محلتهم فالمؤاخاة التي اخبر بها انس ما في الصحيحين عن عاصم بن سليمان الأحول قال قلت لأنس أبلغت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا حلف في الإسلام فقال انس قد حالف رسول الله صلى الله عليه و سلم بين قريش و الأنصار في داري الرابع أن قوله في هذا الحديث أنت أخي و وارثي باطل على قول أهل السنة و الشيعة فانه أن أراد ميراث المال بطل قولهم أن فاطمة ورثته و كيف يرث ابن العم مع وجود العم و هو العباس و ما الذي خصه بالإرث دون سائر بني العم الذين هم في درجة واحدة و أن أراد وارث العلم و الولاية بطل احتجاجهم بقوله و ورث سليمان داود و قوله فهب لي من لدنك وليا يرثني
7
281
إذ لفظ الإرث إذا كان محتملا لهذا و لهذا أمكن أن أولئك الأنبياء ورثوا كما ورث علي النبي صلى الله عليه و سلم و أما أهل السنة فيعلمون أن ما ورثه النبي صلى الله عليه و سلم من العلم لم يختص به علي بل كل من أصحابه حصل له نصيب بحسبه و ليس العلم كالمال بل الذي يرثه هذا يرثه هذا و لا يتزاحمان إذ لا يمتنع أن يعلم هذا ما علمه هذا كما يمتنع أن يأخذ هذا المال الذي أخذه هذا الوجه الخامس أن النبي صلى الله عليه و سلم قد اثبت الاخوة لغير علي كما في الصحيحين انه قال لزيد أنت أخونا و مولانا و قال له أبو بكر لما خطب ابنته الست أخي قال أنا أخوك و بنتك حلال لي و في الصحيح انه قال في حق أبي بكر و لكن اخوة الإسلام
7
282(188/202)
وقال في الصحيح أيضا وددت أن قد رأيت إخواني قالوا اولسنا إخوانك يا رسول الله قال لا انتم أصحابي و لكن إخواني قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي و لم يروني يقول انتم لكم من الاخوة ما هو أخص منها و هو الصحبة و أولئك لهم اخوة بلا صحبة وقد قال تعالى إنما المؤمنون اخوة و قال صلى الله عليه و سلم لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا و لا تحاسدوا و كونوا عباد الله إخوانا أخرجاه في الصحيحين و قال المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يسلمه و قال والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه
7
283
وهذه الأحاديث و أمثالها في الصحاح و إذا كان كذلك علم أن مطلق المؤاخاة لا يقتضي التماثل من كل وجه و لا يقتضي المناسبة و المشاكلة من كل وجه بل من بعض الوجوه و إذا كان كذلك فلم قيل أن مؤاخاة علي لو كانت صحيحة اقتضت الإمامة و الأفضلية مع أن المؤاخاة مشتركة و ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم في الصحاح من غير وجه انه قال لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و لكن صاحبكم خليل الله لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر أن أمن الناس علينا في صحبته و ذات يده أبو بكر و في هذا إثبات لخصائص لأبي بكر لا يشركه فيها أحد غيره و هو صريح في انه ليس من أهل الأرض من هو احب إليه و لا أعلى منزلة عنده و لا ارفع درجة و لا اكثر اختصاصا به من أبي بكر كما في الصحيحين قيل له أي الناس احب إليك قال عائشة قيل و من الرجال قال أبوها وفي الصحيحين عن عمر
7
284(188/203)
انه قال أنت سيدنا و خيرنا و احبنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذه الأحاديث التي اجمع أهل العلم على صحتها و تلقيها بالقبول و لم يقدح فيها أحد من العلم تبين أن أبا بكر كان احب إليه و أعلى عنده من جميع الناس و حينئذ فان كانت المؤاخاة دون هذه المرتبة لم تعارضها و أن كانت أعلي كانت هذه الأحاديث الصحيحة تدل على كذب أحاديث المؤاخاة و أن كنا نعلم أنها كذب بدون هذه المعارضة لكن المقصود أن هذه الأحاديث الصحيحة تبين أن أبا بكر كان احب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من علي و أعلى قدرا عنده منه و من كل من سواه و شواهد هذا كثيرة و قد روى بضعة و ثمانون نفسا عن علي انه قال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر رواها البخاري في الصحيح عن علي رضي الله عنه و هذا هو الذي يليق بعلي رضي الله عنه فانه من اعلم الصحابة بحق أبي بكر و عمر و اعرفهم بمكانهما من الإسلام و حسن تأثيرهما في الدين حتى انه تمنى أن يلقى الله بمثل عمل عمر رضي الله عنهم أجمعين
7
285
وروى الترمذي وغيره مرفوعا عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين و الآخرين لا تخبرهما يا علي وهذا الحديث وأمثاله لو عورض بها أحاديث المؤاخاة وأحاديث الطير ونحوه لكانت باتفاق المسلمين اصح منها فكيف إذا انضم إليها سائر الأحاديث التي لا شك في صحتها مع الدلائل الكثيرة المتعددة التي توجب علما ضروريا لمن علمها أن أبا بكر كان احب الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وافضل عنده من عمر وعثمان وعلي وغيرهم وكل من كان بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحواله اعلم كان بهذا اعرف وإنما يستريب فيه من لا يعرف الأحاديث الصحيحة من الضعيفة فأما أن يصدق الكل أو يتوقف في الكل
7
286(188/204)
وأما أهل العلم بالحديث الفقهاء فيه فيعلمون هذا علما ضروريا دع هذا فلا ريب أن كل من له في الأمة لسان صدق من علمائها و عبادها متفقون على تقديم أبي بكر و عمر كما قال الشافعي رضي الله عنه فيما نقله عنه البيهقي بإسناده قال لم يختلف أحد من الصحابة و التابعين في تفضيل أبي بكر و عمر رضي الله عنهما و تقديمهما على جميع الصحابة و كذلك أيضا لم يختلف علماء الإسلام في ذلك كما هو قول مالك و أصحابه و أبي حنيفة وأصحابه واحمد وأصحابه وداود وأصحابه والثورى وأصحابه والليث وأصحابه والاوزاعي و أصحابه و إسحاق و أصحابه وابن جرير وأصحابه وأبي ثور وأصحابه و كما هو قول سائر العلماء المشهورين إلا من لا يؤبه له و لا يلتفت إليه وما علمت من نقل عنه في ذلك نزاع من أهل الفتيا إلا ما نقل عن الحسن بن صالح بن حي انه كان يفضل عليا و قيل أن هذا كذب عليه و لو صح هذا عنه لم يقدح فيما نقله الشافعي من الإجماع فان الحسن بن صالح لم يكن مكن التابعين ولا من الصحابة والشافعي ذكر إجماع الصحابة و التابعين على تقديم أبي بكر و لو قاله الحسن فإذا أخطأ واحد من مائة ألف إمام أو اكثر لم يكن ذلك بمنكر و ليس في شيوخ الرافضة إمام في شيء من علوم الإسلام لا علم
7
287(188/205)
الحديث و لا الفقه و لا التفسير و لا القرآن بل شيوخ الرافضة أما جاهل و أما زنديق كشيوخ أهل الكتاب بل السابقون الأولون و أئمة السنة و الحديث متفقون على تقديم عثمان و مع هذا انهم لم يجتمعوا على ذلك رغبة و لا رهبة بل مع تباين آرائهم و أهوائهم و علومهم و اختلافهم و كثرة اختلافاتهم فيما سوى ذلك من مسائل العلم فأئمة الصحابة و التابعين رضي الله عنهم متفقون على هذا ثم من بعدهم كمالك بن انس و ابن أبي ذئب و عبد العزيز بن الماجشون و غيرهم من علماء المدينة و مالك يحكي الإجماع عمن لقيه انهم لم يختلفوا في تقديم أبي بكر و عمر و ابن جريج و ابن عيينة و سعد بن سالم و مسلم بن خالد و غيرهم من علماء مكة و أبي حنيفة و الثوري و شريك بن عبد الله و ابن أبي ليلى و غيرهم من فقهاء الكوفة و هي دار الشيعة حتى كان الثوري يقول من قدم عليا على أبي بكر ما أرى أن يصعد له إلى الله عمل رواه أبو داود في سننه و حماد بن زيد و حماد بن سلمة و سعيد بن أبي عروبة و أمثالهم من علماء البصرة و الاوزاعي و سعيد بن عبد العزيز و غيرهم من علماء الشام
7
288(188/206)
و الليث و عمرو بن الحارث و ابن وهب و غيرهم من علماء مصر ثم مثل عبد الله بن المبارك و وكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي و أبي يوسف و محمد بن الحسن و مثل الشافعي و احمد بن حنبل و اسحق ابن إبراهيم وإبي عبيد ومثل لالبخاري وأبي داود وإبراهيم الحربي و مثل الفضيل بن عياض و أبي سليمان الداراني و معروف الكرخي و السرى السقطي و الجنيد و سهل بن عبد الله التستري و من لا يحصي عدده إلا الله ممن له في الإسلام لسان صدق كلهم يجزمون بتقديم أبي بكر و عمر كما يجزمون بإمامتهما مع فرط اجتهادهم في متابعة النبي صلى الله عليه و سلم و موالاته فهل يوجب هذا إلا ما علموه من تقديمه هو لأبي بكر و عمر و تفضيله لهما بالمحبة و الثناء و المشاورة و غير ذلك من أسباب التفضيل فصل قال الرافضي البرهان التاسع و الثلاثون قوله تعالى و إذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم الست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة أنا كنا عن هذا غافلين في كتاب الفردوس
7
289(188/207)
لابن شيرويه يرفعه عن حذيفة بن اليمان قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو يعلم الناس متى سمي علي أمير المؤمنين ما أنكروا فضله سمي أمير المؤمنين و آدم بين الروح و الجسد قال تعالى و إذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم و أشهدهم على انفسهم الست بربكم قالت الملائكة بلى فقال تبارك و تعالى أنا ربكم و محمد نبيكم و علي أميركم و هو صريح في الباب و الجواب من وجوه أحدها منع الصحة و المطالبة بتقريرها و قد اجمع أهل العلم بالحديث على أن مجرد رواية صاحب الفردوس لا تدل على أن الحديث صحيح فابن شيرويه الديلمي الهمذاني ذكر في هذا الكتاب أحاديث كثيرة صحيحة و أحاديث حسنة و أحاديث موضوعة و أن كان من أهل العلم و الدين و لم يكن ممن يكذب هو لكنه نقل ما في كتب الناس و الكتب فيها الصدق و الكذب ففعل كما فعل كثير من الناس في جمع الأحاديث أما بالأسانيد و أما محذوفة الأسانيد الثاني أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث
7
290(188/208)
الثالث أن الذي في القران انه قال الست بربكم قالوا بلى ليس فيه ذكر النبي و لا الأمير و فيه قوله أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم فدل على أنه ميثاق التوحيد خاصة ليش فيه ميثاق النبوة فكيف ما دونها الرابع أن الأحاديث المعروفة في هذا التي في المسند و السنن و الموطأ و كتب التفسير و غيرها ليس فيها شيء من هذا و لو كان ذلك مذكورا في الأصل لم يهمله جميع الناس و ينفرد به من لا يعرف صدقه بل يعرف انه كذب الخامس أن الميثاق اخذ على جميع الذرية فيلزم أن يكون علي أميرا على الأنبياء كلهم من نوح إلى محمد صلى الله عليه و سلم و هذا كلام المجانين فان أولئك ماتوا قبل أن يخلق الله عليا فكيف يكون أميرا عليهم و غاية ما يمكن أن يكون أميرا على أهل زمانه أما الإمارة على من خلق قبله و على من يخلق بعده فهذا من كذب من لا يعقل ما يقول و لا يستحي فيما يقول و من العجب أن هذا الحمار الرافضي الذي هو احمر من عقلاء اليهود الذين قال الله فيهم مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا و العامة معذورون في
7
291(188/209)
قولهم الرافضي حمار اليهودي و ذلك أن عقلاء اليهود يعلمون أن هذا ممتنع عقلا و شرعا و أن هذا كما يقال خر عليهم السقف من تحتهم فيقال لا عقل و لا قران و كذلك كون علي أميرا على ذرية آدم كلهم و إنما ولد بعد موت آدم بألوف السنين و أن يكون أميرا على الأنبياء الذين هم متقدمون عليه في الزمن و المرتبة و هذا من جنس قول ابن عربي الطائي و أمثاله من ملا حدة المتصوفة الذين يقولون أن الأنبياء كانوا يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء الذي وجد بعد محمد بنحو ستمائة سنة فدعوى هؤلاء في الإمامة من جنس دعوى هؤلاء في الولاية و كلاهما يبني أمره على الكذب و الغلو و الشرك و الدعاوي الباطلة و مناقضة الكتاب و السنة و إجماع سلف الأمة ثم أن هذا الحمار الرافضي يقول و هو صريح في الباب فهل يكون هذا حجة عند أحد من أولي الألباب أو يحتج بهذا من يستحق
7
292
أو يؤهل للخطاب فضلا عن أن يحتج به في تفسيق خيار هذه الأمة و تضليلهم و تكفيرهم و تجهيلهم و لولا أن هذا المعتدي الظالم قد اعتدى على خيار أولياء الله و سادات أهل الأرض خير خلق الله بعد النبيين اعتداء يقدح في الدين و يسلط الكفار و المنافقين و يورث الشبه و الضعف عند كثير من المؤمنين لم يكن بنا حاجة إلى كشف أسراره و هتك أستاره و الله حسيبه و حسيب أمثاله فصل قال الرافضي البرهان الأربعون قوله تعالى فان الله هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين و الملائكة بعد ذلك ظهير اجمع المفسرون أن صالح المؤمنين هو علي روى أبو نعيم بإسناده إلى أسماء بنت عميس قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ هذه الآية و أن تظاهرا عليه فان الله هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين قال صالح المؤمنين علي بن أبي طالب و اختصاصه
7
293(188/210)
بذلك يدل عل أفضليته فيكون هو الإمام و الآيات في هذا المعنى كثيرة اقتصرنا على ما ذكرنا للاختصار و الجواب من وجوه أحدها قوله اجمع المفسرون على أن صالح المؤمنين هو علي كذب مبين فانهم لم يجمعوا على هذا ولا نقل الإجماع على هذا أحد من علماء التفسير ولا علماء الحديث ونحوهم ونحن نطالبهم بهذا النقل ومن نقل هذا الإجماع الثاني أن يقال كتب التفسير مملوءة بنقيض هذا قال ابن مسعود وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم هو أبو بكر وعمر وذكر هذا جماعة من المفسرين كابن جرير الطبري وغيره وقيل هو أبو بكر رواه مكحول عن أبي امامة وقيل عمر قاله سعيد بن جبير ومجاهد وقيل خيار المؤمنين قاله الربيع بن انس وقيل هم الأنبياء قاله قتادة والعلاء بن زياد وسفيان وقيل هو علي حكاه الماوردي ولم يسم قائله فلعله بعض الشيعة
7
294
الثالث أن يقال لم يثبت هذا القول بتخصيص علي به عمن قوله حجة والحديث المذكور كذب موضوع وهو لم يذكر دلالة علي صحته ومجرد رواية أبي نعيم له لا تدل على الصحة الرابع أن يقال قوله وصالح المؤمنين اسم يعم كل صالح من المؤمنين كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال أن آل أبي فلان ليسو لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين الخامس أن يقال أن الله جعل في هذه الآية صالح المؤمنين مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما اخبر أن الله مولاه والمولى يمنع أن يراد به الموالي عليه فلم يبق المراد به إلا الموالي ومن المعلوم أن كل من كان صالحا من المؤمنين كان مواليا للنبي صلى الله عليه وسلم قطعا فانه لو لم يواله لم يكن من صالح المؤمنين بل قد يواليه المؤمن وان لم يكن صالحا لكن لا تكون موالاة كاملة وأما الصالح فيواليه موالاة كاملة فانه إذا كان صالحا احب ما احبه الله ورسوله وابغض ما ابغضه الله ورسوله و أمر بما أمر به الله ورسوله ونهى عما نهى الله عنه ورسوله وهذا يتضمن الموالاة
7
295(188/211)
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمر أن عبد الله رجل صالح لو كان يصلي من الليل فما نام بعدها وقال عن أسامة بن زيد انه من صالحيكم فاستوصوا به خيرا وأما قوله والآيات في هذا المعنى كثيرة فغايته أن يكون المتروك من جنس المذكور والذي ذكره خلاصة ما عندهم وباب الكذب لا ينسد ولهذا كان من الناس من يقابل كذبهم بما يقدر عليه من الكذب ولكن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمعه فإذا هو زاهق وللكذابين الويل مما يصفون
7
296
وما ذكر وقال أريد به علي إذا ذكر انه أريد به أبو بكر أو عمر أو عثمان لم يكن هذا القول بأبعد من قولهم بل يرجح على قوله لا سيما في مواضع كثيرة وإذا قال فهذا لم يقله أحد بخلاف قولنا كان الجواب من وجهين أحدهما أن هذا ممنوع بل من الناس من يخص أبا بكر وعمر ببعض ما ذكره من الآيات وغيرهما الثاني أن قول القائل خص هذا بواحد من الصحابة إذا أمكن غيره أن يخصه بآخر تكون حجته من جنس حجته فانه يدل على فساد قوله وان كان لم يقله فان الإنسان إذا كذب كذبة لم يمكن مقابلتها بمثلها ولم يمكنه دفع هذا إلا بما يدفع به قوله ووجب أما تصديق الاثنين وأما كذب الاثنين كالحكاية المشهورة عن قاسم بن زكريا المطرز قال دخلت على بعض الشيعة وقد قيل انه عباد بن يعقوب فقال لي من حفر البحر فقلت الله تعالى فقال تقول من حفره قلت من حفره قال علي ابن أبي طالب قال من جعل فيه الماء قلت الله قال تقول من هو الذي جعل فيه الماء قلت من هو قال الحسن قال فلما أردت أن أقوم قال من حفر البحر قلت معاوية قال ومن الذي جعل فيه الماء قلت يزيد فغضب من ذلك وقام
7
297(188/212)
وكان غرض القاسم أن يقول هذا القول مثل قولك وأنت تكره ذلك وتدفعه وبما به يدفع ذلك يدفع به قولك وكذلك ما تذكره الناس من المعارضات لتأويلات القرامطة والرافضة ونحوهم كقولهم في قوله فقاتلوا أئمة الكفر طلحة والزبير وأبو بكر وعمر ومعاوية فيقابل هذا بقول الخوارج انهم علي الحسن والحسين وكل هذا باطل لكن الغرض انهم يقابلون بمثل حجتهم والدليل على فسادها يعم النوعين فعلم بطلان الجميع فصل قال الرافضي المنهج الثالث في الأدلة المستندة إلى السنة المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي اثنا عشر الأول ما نقله الناس كافة انه لما نزل قوله تعالى وانذر عشيرتك الاقربين جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب في دار أبي طالب وهم أربعون رجلا و امر أن يصنع لهم فخذ شاه مع مد من البر ويعد لهم
7
298
صاعا من اللبن و كان الرجل منهم يأكل الجذعة في مقعد واحد و يشرب الفرق من الشراب في ذلك المقام فأكلت الجماعة كلهم من ذلك الطعام اليسير حتى شبعوا و لم يتبين ما أكلوه فبهرهم النبي صلى الله عليه و سلم بذلك و تبين لهم آية نبوته فقال يا بني عبد المطلب أن الله بعثني بالحق إلى الخلق كافة و بعثني إليكم خاصة فقال و انذر عشيرتك الاقربين و أنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان تقيلتن في الميزان تملكون بهما العرب و العجم و تنقاد لكم بهما الأمم و تدخلون بهما الجنة و تنجون بهما من النار شهادة أن لا اله إلا الله و أني رسول الله فمن يجيبني إلى هذا الأمر و يؤازرني على القيام به يكن
7
299(188/213)
أخي و وزيري و وصيي و وارثي و خليفتي من بعدي فلم يجبه أحد منهم فقال أمير المؤمنين أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر فقال اجلس ثم أعاد القول على القوم ثانية فصمتوا فقال علي فقمت فقلت مثل مقالتي الأولى فقال اجلس ثم أعاد القول ثالثة فلم ينطق أحد منهم بحرف فقمت فقلت أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر فقال اجلس فأنت أخي و وزيري و وصيي و وارثي و خليفتي من بعدي فنهض القوم و هم يقولون لأبي طالب ليهنئك اليوم أن دخلت في دين ابن أخيك فقد جعل ابنك أميرا عليك و الجواب من وجوه الأول المطالبة بصحة النقل و ما ادعاه من نقل الناس كافة من اظهر الكذب عند أهل العلم بالحديث فان هذا الحديث ليس في شيء من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل لا في الصحاح و لا في المساند و السنن و المغازي و التفسير التي
7
300
يذكر فيها الإسناد الذي يحتج به و إذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل منها الصحيح و الضعيف مثل تفسير الثعلبي و الواحدي و البغوي بل و ابن جرير و ابن أبي حاتم لم يكن مجرد رواية واحد من هؤلاء دليلا على صحته باتفاق أهل العلم فانه إذا عرف أن تلك المنقولات فيها صحيح و ضعيف فلا بد من بيان أن هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف و هذا الحديث غايته أن يوجد في بعض كتب التفسير التي فيها الغث و السمين و فيها أحاديث كثيرة موضوعة مكذوبة مع أن كتب التفسير التي يوجد فيها هذا مثل تفسير ابن جرير و ابن أبي حاتم و الثعلبي و البغوي ينقل فيها بالأسانيد الصحيحة ما يناقض هذا مثل بعض المفسرين الذين ذكروا هذا في سبب نزول الآية فانهم ذكروا مع ذلك بالأسانيد الصحيحة الثابتة باتفق أهل العلم على صحتها ما يناقض ذلك و لكن هؤلاء المفسرون ذكروا ذلك على عادتهم في انهم ينقلون ما ذكر في سبب نزول الآية من المنقولات الصحيحة و الضعيفة و لهذا يذكر أحدهم في سبب نزول الآية عدة أقوال ليذكر
7
301(188/214)
أقوال الناس و ما نقلوه فيها و أن كان بعض ذلك هو الصحيح و بعضه كذب و إذا احتج بمثل هذا الضعيف و أمثاله واحد بذكر بعض ما نقل في تفسير الآية من المنقولات و ترك سائر ما ينقل مما يناقض ذلك كان هذا من افسد الحجج كمن احتج بشاهد يشهد له و لم تثبت عدالته بل ثبت جرحه و قد ناقضه عدول كثيرون يشهدون بما يناقض شهادته أو يحتج برواية واحد لم تثبت عدالته بل ثبت جرحه ويدع روايات كثيرين عدول وقد رووا ما يناقض ذلك بل لو قدر أن هذا الحديث من رواية أهل الثقة والعدالة وقد روى آخرون من أهل الثقة والعدالة ما يناقض ذلك لوجب النظر في الروايتين أيهما اثبت وارجح فكيف إذا كان أهل العلم بالنقل متفقين على أن الروايات المناقضه لهذا الحديث هي الثابتة الصحيحة بل هذا الحديث مناقض لما علم بالتواتر وكثير من أئمة التفسير لم يذكروا هذا بحال لعلمهم انه باطل
7
302(188/215)
الثاني أنا نرضى منه من هذا النقل العام بأحد شيئين أما بإسناد يذكره مما يحتج به أهل العلم في مسائل النزاع ولو انه مسالة فرعية وأما قول رجل من أهل الحديث الذين يعتمد الناس على تصحيحهم فانه لو تناظر فقيهان في فرع من الفروع لم تقم الحجة على المناظرة إلا بحديث يعلم انه مسند إسنادا تقوم به الحجة أو يصححه من يرجع إليه في ذلك فأما إذا لم يعلم إسناده ولم يثبته أئمة النقل فمن أين يعلم لا سيما في مسائل الأصول التي يبنى عليها الطعن في سلف الأمة وجمهورها ويتوسل بذلك إلى هدم قواعد المسالة فكيف يقبل في مثل ذلك حديث لا يعرف إسناده ولا يثبته أئمة النقل ولا يعرف أن عالما صححه الثالث أن هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث فما من عالم يعرف الحديث إلا وهو يعلم انه كذب موضوع ولهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات لان أدنى من له معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب وقد رواه بن جرير والبغوي بإسناد فيه عبد الغفار بن القاسم بن فهد أبو مريم الكوفي وهو مجمع على تركه كذبه سماك بن حرب وأبو داود
7
303
وقال احمد ليس بثقة عامة أحاديث بواطيل قال يحيى ليس بشيء قال ابن المدينى كان يضع الحديث وقال النسائي وأبو حاتم متروك الحديث وقال ابن حبان البستي كان عبد الغفار بن قاسم يشرب الخمر حتى يسكر وهو مع ذلك يقلب الأخبار لا يجوز الاحتجاج به وتركه احمد ويحيى ورواه ابن أبي حاتم وفي إسناده عبد الله بن عبد القدوس وهو ليس بثقة وقال فيه يحيى بن معين ليس بشيء رافضي خبيث وقال النسائي ليس بثقة وقال الدار قطني ضعيف وإسناد الثعلبي اضعف لان فيه من لا يعرف وفيه من الضعفاء والمتهمين من لا يجوز الاحتجاج بمثله في اقل مسالة
7
304(188/216)
الرابع أن بني عبد المطلب لم يبلغوا أربعين رجلا حين نزلت هذه الآية فإنها نزلت بمكة في أول الأمر ثم ولا بلغوا أربعين رجلا في مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم فان بني عبد المطلب لم يعقب منهم باتفاق الناس إلا أربعة العباس وأبو طالب والحارث وأبو لهب وجميع ولد عبد المطلب من هؤلاء الأربعة وهم بنو هاشم ولم يدرك النبوة من عمومته إلا أربعة العباس وحمزة وأبو طالب وأبو لهب فآمن اثنان وهما حمزة والعباس وكفر اثنان أحدهما نصره وأعانه وهو أبو طالب والآخر عاداه وعان أعداءه وهو أبو لهب وما العمومة وبنو العمومة فأبو طالب كان له أربعة بنين طالب وعقيل وجعفر وعلي وطالب لم يدرك الإسلام وأدركه الثلاثة فآمن علي وجعفر في أول الإسلام وهاجر جعفر إلى ارض الحبشة ثم إلى المدينة عام خيبر وكان عقيل قد استولى على رباع بني هاشم لما هاجروا وتصرف فيها ولهذا لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في حجته ننزل غدا في دارك بمكة قال وهل ترك لنا عقيل من دار
7
305
وأما العباس فبنوه كلهم صغار إذ لم يكن فيهم بمكة رجل وهب انهم كانوا رجالا فهم عبد الله وعبيد الله والفضل وأما قثم فولد بعدهم وأكبرهم الفضل وبه كان يكنى وعبد الله ولد في الشعب بعد نزول قوله وانذر عشيرتك الاقربين وكان له في الهجرة نحو ثلاث سنين أو أربع سنين ولم يولد للعباس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا الفضل وعبد الله وعبيد الله وأما سائرهم فولدوا بعده وأما الحارث بن عبد المطلب وأبو لهب فبنوهما اقل والحارث كان له ابنان أبو سفيان وربيعة وكلاهما تأخر إسلامه وكان من مسلمة الفتح وكذلك بنو أبي لهب تأخر إسلامهم إلى زمن الفتح وكان له ثلاثة ذكور فاسلم منهم اثنان عتبة ومغيث وشهد الطائف وحنينا وعتيبة دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكله الكلب فقتله السبع بالزرقاء من الشام كافرا
7
306(188/217)
فهؤلاء بنو عبد المطلب لا يبلغون عشرين رجلا فأين الأربعون الخامس قوله أن الرجل منهم كان يأكل الجذعة ويشرب الفرق من اللبن فكذب على القوم ليس بنو هاشم معروفين بمثل هذه الكثرة في الأكل ولا عرف فيهم من كان يأكل جذعة ولا يشرب فرقا السادس أن قوله للجماعة من يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني على القيام به يكن أخي ووزيري ووصيي وخليفتي من بعدي كلام مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز نسبته إليه فان مجرد الإجابة إلى الشهادتين والمعاونة على ذلك لا يوجب هذا كله فان جميع المؤمنين أجابوا إلى هاتين الكلمتين وأعانوه على هذا الأمر وبذلوا أنفسهم وأموالهم في اقامته وطاعته وفارقوا أوطانهم وعادوا إخوانهم وصبروا على الشتات بعد الألفة وعلى الذل بعد العز وعلى الفقر بعد الغنى وعلى الشدة بعد الرخاء وسيرتهم معروفة مشهورة ومع هذا فلم يكن أحد منهم بذلك خليفة له
7
307(188/218)
وأيضا فان كان عرض هذا الأمر على أربعين رجلا أمكن أن يجيبوه أو أكثرهم أو عدد منهم فلو أجابه منهم عدد من كان الذي يكون الخليفة بعده أيعين واحدا بلا موجب أم يجعل الجميع خلفاء في وقت واحد وذلك انه لم يعلق الوصية والخلافة والاخوة والمؤازرة إلا بأمر سهل وهو الإجابة على الشهادتين والمعاونة على هذا الأمر وما من مؤمن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر إلى يوم القيامة إلا وله من هذا نصيب وافر ومن لم يكن له من ذلك حظ فهو منافق فكيف يجوز نسبة مثل هذا الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم السابع أن حمزة وجعفر وعبيده بن الحارث أجابوا إلى ما أجابه علي من الشهادتين والمعاونة على هذا الأمر فان هؤلاء من السابقين الأولين الذين آمنوا بالله ورسوله في أول الأمر بل حمزة اسلم قبل أن يصير المؤمنون أربعين رجلا وكان النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم ابن أبي الأرقم وكان اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم به في دار الأرقم ولم يكن يجتمع هو وبنو عبد المطلب كلهم في دار واحدة فان أبا لهب كان مظهرا لمعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما حصر بنو هاشم في الشعب لم يدخل معهم أبو لهب الثامن أن الذي في الصحاح من نزول هذه الآية غير هذا ففي الصحيحين عن ابن عمر وأبي هريرة واللفظ له عن النبي صلى الله
7
308(188/219)
عليه وسلم لما نزلت و انذر عشيرتك الاقربين دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم قريشا فاجتمعوا فخص و عم فقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا املك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها و في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا لما نزلت هذه الآية قال يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا اغني عنكم من الله شيئا يا بني عبد المطلب لا اغني عنكم من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا اغني عنك من الله شيئا يافاطمة بنت محمد لا أغنى عنك من الله شيئا سلاني ما شئتما من مالي و خرجه مسلم من حديث ابن
7
309
المخارق و زهير بن عمرو و من حديث عائشة و قال فيه قام علي الصفا و قال في حديث قبيصة انطلق إلى رضمة من جبل فعلا أعلاها حجرا ثم نادى يا بني عبد مناف إني لكم نذير إنما مثلي و مثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ أهله فخشي أن يسبقوه فجعل يهتف يا صباحاه و في الصحيحين من حديث ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية خرج رسول الله و سلم حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه فقالوا من هذا الذي يهتف قالوا محمد فاجتمعوا إليه فجعل ينادي يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبد المطلب و في رواية يا بني فهر يا بني عدي يا بني فلان لبطون قريش فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا ينظر ما هو فاجتمعوا فقال ارايتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل اكنتم
7
310(188/220)
مصدقي قالوا ما جربنا عليك كذبا قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب تبا لك أما جمعتنا إلا لهذا فقام فنزلت هذه السورة تبت يدا أبي لهب و تب و في رواية ارأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم و يمسيكم اكنتم تصدقوني قالوا بلى فان قيل فهذا الحديث قد ذكره طائفة من المفسرين و المصنفين في الفضائل كالثعلبي و البغوي و أمثالهما و المغازلي قيل له مجرد رواية هؤلاء لا توجب ثبوت الحديث باتفاق أهل العلم بالحديث فان في كنت هؤلاء من الأحاديث الموضوعة ما اتفق أهل العلم على انه كذب موضوع و فيها شيء كثير يعلم بالأدلة اليقينية السمعية و العقلية أنها كذب بل فيها ما يعلم بالاضطرار انه كذب و الثعلبي و أمثاله لا يتعمدون الكذب بل فيهم من الصلاح و الدين ما يمنعهم من ذلك لكن ينقلون ما وجدوه في الكتب و يروون ما سمعوه و ليس لاحدهم من الخبرة بالأسانيد ما لائمة الحديث كشعبة و يحيى بن سعيد القطان و عبد الرحمن بن مهدي و احمد بن حنبل و علي بن
7
311(188/221)
المديني و يحيى بن معين و إسحاق و محمد بن يحيى الذهلي و البخاري و مسلم و أبي داود و النسائي و أبي حاتم و أبي زرعة الرازيين و أبي عبد الله بن منده و الدار قطني و أمثال هؤلاء من أئمة الحديث و نقاده ومكامه و حفاظه الذين لهم خبرة و معرفة تامة بأحوال النبي و سلم وأحوال من نقل العلم والحديث عن النبي من الصحابة و التابعين و تابعيهم و من بعدهم من نقلة العلم و قد صنفوا الكتب الكثيرة في معرفة الرجال الذين نقلوا الآثار و أسماءهم و ذكروا أخبارهم و أخبار من اخذوا عنه و من اخذ عنهم مثل كتاب العلل و أسماء الرجال عن يحيى القطان و ابن المديني و احمد و ابن معين و البخاري و مسلم و أبي زرعة و أبي حاتم زو النسائي و الترمذي و احمد بن عدي و ابن حبان و أبي الفتح الازدي و الدار قطين قطني و غيرهم و تفسير الثعلبي فيه أحاديث موضوعة و أحاديث صحيحة و من الموضوع فيه الأحاديث التي في فضائل السور سورة و قد ذكر هذا الحديث الزمخشري و الواحدي و هو كذب موضوع باتفاق أهل الحديث و كذلك غير هذا
7
312(188/222)
و كذلك الواحدي تلميذ الثعلبي و البغوي اختصر تفسيره من تفسير الثعلبي و الواحدي لكنهما اخبر بأقوال المفسرين منه و الواحدي اعلم بالعربية من هذا و هذا و البغوي اتبع للسنة منهما و ليس لكون الرجل من الجمهور الذين يعتقدون خلافة الثلاثة يوجب له أن كل ما رواه صدق كما أن كونه من الشيعة لا يوجب أن يكون كل ما رواه كذبا بل الاعتبار بميزان العدل و قد وضع الناس أحاديث كثيرة مكذوبة على رسول الله و سلم في الأصول والأحكام و الزهد و الفضائل و وضعوا كثيرا من فضائل الخلفاء الأربعة و فضائل معاوية و من الناس من يكون قصده رواية كل ما روي في الباب من غير تمييز بين صحيح و ضعيف كما فعله أبو نعيم في فضائل الخلفاء و كذلك غيره ممن صنف في الفضائل و مثل مل جمعه أبو الفتح بن أبي الفوارس و أبو علي الاهوازي و غيرهما في فضائل معاوية و مثل ما جمعه النسائي في فضائل علي و كذلك ما جمعه أبو القاسم بن عساكر في فضائل علي و غيره فان هؤلاء و أمثالهم قصدوا أن يرووا ما سمعوا من غير تمييز بين صحيح ذلك و ضعيفه فلا يجوز أن يجزم بصدق الخبر بمجرد رواية الواحد من هؤلاء باتفاق أهل العلم و أما من يذكر الحديث بلا إسناد ومن المصنفين في الأصول و الفقه و الزهد و الرقائق فهؤلاء يذكرون أحاديث كثيرة صحيحة و يذكر بعضهم
7
313(188/223)
أحاديث كثيرة ضعيفة و موضوعة كما يوجد ذلك في كتب الرقائق و الرأي و غير ذلك فصل قال الرافضي الثاني الخبر المتواتر عن النبي و سلم انه لما نزل قوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك خطب الناس في غدير خم وقال للجمع كله يا أيها الناس الست أولى منكم بأنفسكم قالوا بلى قال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله فقال عمر بخ بخ أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن و مؤمنة والمراد بالمولى هنا الأولى بالتصرف لتقدم التقرير منه صلى الله عليه وسلم بقوله الست أولى منكم بأنفسكم والجواب عن هذه الآية والحديث المذكور قد تقدم وبينا أن هذا
7
314
كذب وأن قوله بلغ ما انزل إليك من ربك نزل قبل حجة الوداع بمدة طويلة ويوم الغدير إنما كان ثامن عشر ذي الحجة بعد رجوعه من الحج وعاش بعد ذلك شهرين وبعض الثالث ومما يبين ذلك أن آخر المائدة نزولا قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي وهذه الآية نزلت بعرفة تاسع ذي الحجة في حجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة كما ثبت ذلك في الصحاح والسنن وكما قاله العلماء قاطبة من أهل التفسير والحديث وغيرهم وغدير خم كان بعد رجوعه إلى المدينة ثامن عشر ذي الحجة بعد نزول هذه الآية بتسعة أيام فكيف يكون قوله بلغ ما انزل إليك من ربك نزل ذلك الوقت ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية نزلت قبل ذلك وهي من أوائل ما نزل بالمدينة وإن كان ذلك في سورة المائدة كما أن فيها تحريم الخمر والخمر حرمت في أوائل الأمر عقب غزوة أحد وكذلك فيها الحكم بين أهل الكتاب بقوله فان جاءوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم وهذه الآية نزلت إما في الحد لما رجم اليهوديين وإما في الحكم بين قريظة والنضير لما تحاكموا إليه في الدماء ورجم اليهوديين كان أول ما
7
315(188/224)
فعله بالمدينة وكذلك الحكم بين قريظة والنضير فان بني النضير أجلاهم قبل الخندق وقريظة قتلهم عقب غزوة الخندق والخندق باتفاق الناس كان قبل الحديبية وقبل فتح خيبر وذلك كله قبل فتح مكة وغزوة حنين وذلك كله قبل حجة الوداع وحجة الوداع قبل خطبة الغدير فمن قال أن المائدة نزل فيها شيء بغدير خم فهو كاذب مفتر باتفاق أهل العلم وأيضا فان الله تعالى قال في كتابه يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس فضمن له سبحانه انه يعصمه من الناس إذا بلغ الرسالة ليؤمنه بذلك من الأعداء ولهذا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل نزول هذه الآية يحرس فلما نزلت هذه الآية ترك ذلك
7
316
وهذا إنما يكون قبل تمام التبليغ وفي حجة الوداع تم التبليغ وقال في حجة الوداع ألا هل بلغت ألا هل بلغت قالوا نعم قال اللهم اشهد وقال لهم أيها الناس إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وأنتم تسألون عني فما انتم قائلون قالوا نشهد انك قد بلغت وأديت ونصحت فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكبها إلى الأرض ويقول اللهم اشهد اللهم اشهد وهذا لفظ حديث جابر في صحيح مسلم وغيره في الأحاديث الصحيحة وقال ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع فتكون العصمة المضمونة موجودة وقت التبليغ المتقدم فلا تكون هذه الآية نزلت بعد حجة الوداع لانه قد بلغ قبل ذلك ولأنه حينئذ لم يكن خائفا من أحد يحتاج أن يعصم منه بل بعد حجة الوداع كان أهل مكة والمدينة وما حولهما كلهم مسلمين منقادين له ليس فيهم
7
317(188/225)
كافر والمنافقون مقموعون مسرون للنفاق ليس فيهم من يحاربه ولا من يخاف الرسول منه فلا يقال له في هذه الحال بلغ ما انزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس وهذا مما يبين أن الذي جرى يوم الغدير لم يكن مما أمر بتبليغه كالذي بلغه في حجة الوداع فإن كثيرا من الذين حجوا معه أو أكثرهم لم يرجعوا معه إلى المدينة بل رجع أهل مكة إلى مكة أهل الطائف إلى الطائف وأهل اليمن إلى اليمن وأهل البوادي القريبة من ذاك إلى بواديهم وإنما رجع معه أهل المدينة ومن كان قريبا منها فلو كان ما ذكره يوم الغدير مما أمر بتبليغه كالذي بلغه في الحج لبلغه في حجة الوداع كما بلغ غيره فلما لم يذكر في حجة الوداع امامة ولا ما يتعلق بالإمامة أصلا ولم ينقل أحد بإسناد صحيح ولا ضعيف انه في حجة الوداع ذكر امامة علي بل ولا ذكر عليا في شيء من خطبته وهو المجمع العام الذي أمر فيه بالتبليغ العام علم أن امامة علي لم تكن من الدين الذي أمر بتبليغه بل ولا حديث الموالاة وحديث الثقلين ونحو ذلك مما يذكر في إمامته
7
318(188/226)
والذي رواه مسلم انه بغدير خم قال إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله فذكر كتاب الله وحض عليه ثم قال وعثرتي أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثا وهذا مما انفرد به مسلم ولم يروه البخاري وقد رواه الترمذي وزاد فيه وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض وقد طعن غير واحد من الحفاظ في هذه الزيادة وقال إنها ليست من الحديث والذين اعتقدوا صحتها قالوا إنما يدل على أن مجموع العترة الذين هم بنو هاشم لا يتفقون على ضلالة وهذا قاله طائفة من أهل السنة وهو من أجوبة القاضي أبي يعلى وغيره والحديث الذي في مسلم إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله فليس فيه إلا الوصية باتباع كتاب الله وهذا أمر قد تقدمت الوصية به في حجة الوداع قبل ذلك وهو لم يأمر باتباع العترة لكن قال أذكركم الله في أهل بيتي وتذكير الأمة بهم يقتضي أن يذكروا ما تقدم الأمر به قبل ذلك من إعطائهم حقوقهم والامتناع من ظلمهم وهذا أمر قد تقدم بيانه قبل غدير خم
7
319
فعلم انه لم يكن في غدير خم أمر يشرع نزل إذ ذاك لا في حق علي ولا غيره لا إمامته ولا غيرها لكن حديث الموالاة قد رواه الترمذي وأحمد والترمذي في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال من كنت مولاه فعلى مولاه وأما الزيادة وهي قوله اللهم وال من والاه وعاد من عاداه الخ فلا ريب انه كذب ونقل الأثرم في سننه عن احمد أن العباس سأله عن حسين الأشقر وأنه حدث بحديثين أحدهما قوله لعلي انك ستعرض على البراءة مني فلا تبرا والآخر اللهم وال من والاه وعاد من عاداه فأنكره أبو عبيد الله جدا لم يشك أن هذين كذب وكذلك قوله أنت أولى بكل مؤمن ومؤمنة كذب أيضا وأما قوله من كنت مولاه فعلي مولاه فليس هو في الصحاح لكن هو مما رواه العلماء وتنازع الناس في صحته فنقل عن البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم بالحديث انهم طعنوا فيه
7
320(188/227)
وضعفوه ونقل عن احمد بن حنبل انه حسنه كما حسنه الترمذي وقد صنف أبو العباس بن عقدة مصنفا في جميع طرقه وقال ابن حزم الذي صح من فضائل علي فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي وقوله لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وهذه صفة واجبة لكل مسلم مؤمن وفاضل وعهده صلى الله عليه وسلم أن عليا لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق وقد صح مثل هذا في الأنصار انهم لا يبغضهم من يؤمن بالله واليوم الآخر قال وأما من كنت مولاه فعلى مولاه فلا يصح من طريق
7
321
الثقات أصلا وأما سائر الأحاديث التي يتعلق بها الروافض فموضوعة يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلها فان قيل لم يذكر ابن حزم ما في الصحيحين من قوله أنت مني وأنا منك وحديث المباهلة والكساء قيل مقصود ابن حزم الذي في الصحيح من الحديث الذي لا يذكر فيه إلا علي وأما تلك ففيها ذكر غيره فإنه قال لجعفر أشبهت خلقي وخلقي وقال لزيد أنت أخونا ومولانا وحديث المباهلة والكساء فيهما ذكر علي وفاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم فلا يرد هذا على ابن حزم ونحن نجيب بالجواب المركب فنقول أن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فلا كلام وإن كان قاله فلم يرد به قطعا الخلافة بعده إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه ومثل هذا الأمر العظيم يجب أن يبلغ بلاغا مبينا
7
322(188/228)
و ليس في الكلام ما يدل دلالة بينة على أن المراد به الخلافة و ذلك أن المولى كالمولى والله تعالى قال إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا وقال وإن تظاهرا عليه فان الله هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير فبين أن الرسول ولي المؤمنين وأنهم مواليه أيضا كما بين أن الله ولي المؤمنين وأنهم أولياؤهم وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض فالموالاة ضد المعاداة و هي تثبت من الطرفين وإن كان أحد المتواليين اعظم قدرا و ولايته إحسان وتفضل وولاية الآخر طاعة وعبادة كما أن الله يحب المؤمنين و المؤمنون يحبونه فإن الموالاة ضد المعاداة و المحاربة و المخادعة و الكفار لا يحبون الله و رسوله و يحادون الله و رسوله و يعادونه و قد قال تعالى لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء و هو يجازيهم على ذلك كما قال تعالى فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله و رسوله و هو ولي المؤمنين و هو مولاهم يخرجهم من الظلمات إلى النور و إذا كان كذلك فمعنى كون الله ولي المؤمنين و مولاهم و كون الرسول وليهم و مولاهم و كون علي مولاهم هي الموالاة التي هي ضد المعاداة
7
323(188/229)
و المؤمنون يتولون الله و رسوله الموالاة المضادة للمعاداة و هذا حكم ثابت لكل مؤمن فعلي رضي الله عنه من المؤمنين الذين يتولون المؤمنين و يتولونه و في هذا الحديث إثبات إيمان علي في الباطن و الشهادة له بأنه يستحق المولاة باطنا و ظاهرا و ذلك يرد ما يقوله فيه أعداؤه من الخوارج و النواصب لكن ليس فيه انه ليس للمؤمنين مولى غيره فكيف و رسول الله صلى الله عليه و سلم له موالي و هم صالحو المؤمنين فعلي أيضا له مولى بطريق الأولى و الأحرى و هم المؤمنون الذين يتولونه و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم أن اسلم و غفارا و مزينة و جهينة و قريشا و الأنصار ليس لهم مولى دون الله و رسوله و جعلهم موالي رسول الله صلى الله عليه و سلم كما جعل صالح المؤمنين مواليه و الله و رسوله مولاهم
7
324(188/230)
و في الجملة فرق بين الولي و المولى و نحو ذلك و بين الوالي فباب الولاية التي هي ضد العداوة شيء و باب الولاية التي هي الإمارة شيء و الحديث إنما هو في الأولى دون الثانية و النبي صلى الله عليه و سلم لم يقل من كنت واليه فعلي واليه و إنما اللفظ من كنت مولاه فعلي مولاه و أما كون المولى بمعنى الوالي فهذا باطل فان الولاية تثبت من الطرفين فان المؤمنين أولياء الله و هو مولاهم و أما كونه أولى بهم من أنفسهم فلا يثبت إلا من طرفه صلى الله عليه و سلم و كونه أولى بكل مؤمن من نفسه من خصائص نبوته و لو قدر انه نص على خليفة من بعده لم يكن ذلك موجبا أن يكون أولى بكل مؤمن من نفسه كما انه لا يكون أزواجه أمهاتهم و لو أريد هذا المعنى لقال من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه و هذا لم يقله و لم ينقله أحد و معناه باطل قطعا لان كون النبي صلى الله عليه و سلم أولى بكل مؤمن من نفسه أمر ثابت في حياته و مماته و خلافة علي لو قدر وجودها لم تكن إلا بعد موته لم تكن في حياته فلا يجوز أن يكون علي خليفة في زمنه فلا يكون حينئذ أولى بكل مؤمن من نفسه بل و لا يكون مولى أحد من المؤمنين إذا أريد به الخلافة
7
325(188/231)
و هذا مما يدل على انه لم يرد الخلافة فإن كونه ولي كل مؤمن وصف ثابت له في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لم يتأخر حكمه إلى الموت وأما الخلافة فلا يصير خليفة إلا بعد الموت فعلم أن هذا ليس هذا وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم في حياته وبعد مماته إلى يوم القيامة وإذا استخلف أحدا على بعض الأمور في حياته أو قدر انه استخلف أحدا على بعض الأمور في حياته أو قدر انه استخلف أحدا بعد موته وصار له خليفة بنص أو إجماع فهو أولى بتلك الخلافة وبكل المؤمنين من أنفسهم فلا يكون قط غيره أولى بكل مؤمن من نفسه لا سيما في حياته وأما كون علي وغيره مولى كل مؤمن فهو وصف ثابت لعلي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته وبعد ممات علي فعلي اليوم مولى كل مؤمن وليس اليوم متوليا على الناس وكذلك سائر المؤمنين بعضهم أولياء بعض أحياء وامواتا فصل قال الرافضي الثالث قوله أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي اثبت له عليه السلام جميع
7
326
منازل هارون من موسى عليه السلام للاستثناء ومن جملة منازل هارون انه كان خليفة لموسى ولو عاش بعده لكان خليفة أيضا وإلا لزم تطرق النقض إليه ولأنه خليفته مع وجوده وغيبته مدة يسيرة فبعد موته وطول مدة الغيبة أولى بأن يكون خليفته والجواب أن هذا الحديث ثبت في الصحيحين بلا ريب وغيرهما كان النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذلك في غزوة تبوك وكان صلى الله عليه وسلم كلما سافر في غزوة أو عمرة أو حج يستخلف على المدينة بعض الصحابة كما استخلف على المدينة في غزوة ذي أمر عثمان وفي غزوة بني قينقاع
7
327(188/232)
بشير بن عبد المنذر ولما غزا قريشا ووصل إلى الفرع استعمل ابن أم مكتوم وذكر ذلك محمد بن سعد وغيره وبالجملة فمن المعلوم انه كان لا يخرج من المدينة حتى يستخلف وقد ذكر المسلمون من كان يستخلفه فقد سافر من المدينة في عمرتين عمرة الحديبية وعمرة القضاء وفي حجة الوداع وفي مغازيه اكثر من عشرين غزاة وفيها كلها استخلف وكان يكون بالمدينة رجال كثيرون يستخلف عليهم من يستخلفه فلما كان في غزوة تبوك لم يأذن لاحد في التخلف عنها وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم ولم يجتمع
7
328
معه أحد كما اجتمع معه فيها فلم يتخلف عنه إلا النساء و الصبيان أو من هو معذور لعجزه عن الخروج أو من هو منافق و تخلف الثلاثة الذين تيب عليهم و لم يكن في المدينة رجال من المؤمنين يستخلف عليهم كما كان يستخلف عليهم في كل مرة بل كان هذا الاستخلاف اضعف من الاستخلافات المعتادة منه لأنه لم يبق في المدينة رجال من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم أحدا كما كان يبقى في جميع مغازيه فإنه كان يكون بالمدينة رجال كثيرون من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم من يستخلف فكل استخلاف استخلفه في مغازيه مثل استخلافه في غزوة بدر الكبرى و الصغرى و غزوة بني المصطلق و الغابة و خيبر و فتح مكة و سائر مغازيه التي لم يكن فيها قتال و مغازيه بضع عشرة غزوة و قد استخلف فيها كلها إلا القليل و قد استخلف في حجة الوداع و عمرتين قبل غزوة تبوك و في كل مرة يكون بالمدينة افضل ممن بقي في غزوة تبوك فكان كل استخلاف قبل هذه يكون علي افضل ممن استخلف عليه عليا فلهذا خرج إليه علي رضي الله عنه يبكي و قال أتخلفني مع النساء و الصبيان د و قيل أن بعض المنافقين طعن فيه و قال أنما خلفه لانه يبغضه فبين له النبي صلى الله عليه و سلم اني إنما استخلفتك لأمانتك عندي
7
329(188/233)
و أن الاستخلاف ليس بنقص و لا غض فإن موسى استخلف هارون على قومه فكيف يكون نقصا و موسى ليفعله بهارون فطيب بذلك قلب علي و بين أن جنس الاستخلاف يقتضي كرامة المستخلف و أمانته لا يقتضي إهانته ولا تخوينه و ذلك لان المستخلف يغيب عن النبي صلى الله عليه و سلم و قد خرج معه جميع الصحابة و الملوك و غيرهم إذا خرجوا في مغازيهم اخذوا معهم من يعظم انتفاعهم به و معاونته لهم و يحتاجون إلى مشاورته و الانتفاع برأيه و لسانه و يده و سيفه و المتخلف إذا لم يكن له في المدينة سياسة كثيرة لا يحتاج إلى هذا كله فظن من ظن أن هذا غضاضة من علي و نقص منه و خفض من منزلته حيث لم يأخذه معه في المواضع المهمة التي تحتاج إلى سعي و اجتهاد بل تركه في المواضع التي لا تحتاج إلى كثير سعي و اجتهاد فكان قول النبي صلى الله عليه و سلم مبينا أن جنس الاستخلاف ليس نقصا و لا غضا إذ لو كان نقصا أو غضا لما فعله موسى بهارون و لم يكن هذا الاستخلاف كاستخلاف هارون لان العسكر كان مع هارون و إنما ذهب موسى وحده و أما استخلاف النبي صلى الله عليه و سلم فجميع العسكر كان معه
7
330(188/234)
و لم يخلف بالمدينة غير النساء و الصبيان إلا معذور أو عاص و قول القائل هذا بمنزلة هذا و هذا مثل هذا هو كتشبيه الشيء بالشيء و تشبيه الشيء بالشيء يكون بحسب ما دل عليه السياق لا يقتضي المساواة في كل شيء ألا ترى إلى ما ثبت في الصحيحين من قول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث الأسارى لما استشار أبا بكر و أشار بالفداء و استشار عمر فاشار بالقتل قال سأخبركم عن صاحبيكم مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم إذ قال فمن تبعني فانه مني و من عصاني فإنك غفور رحيم و مثل عيسى إذ قال أن تعذبهم فانهم عبادك و أن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم و مثلك يا عمر مثل نوح إذ قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا و مثل موسى إذ قال ربنا اطمس على أموالهم و اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فقوله هذا مثلك كمثل إبراهيم و عيسى و لهذا مثل نوح و موسى اعظم من قوله أنت مني بمنزلة هارون من موسى فان نوحا و إبراهيم و موسى و عيسى اعظم من هارون و قد جعل هذين مثلهم و لم
7
331(188/235)
يرد انهما مثلهم في كل شيء لكن فيما دل عليه السياق من الشدة في الله و اللين في الله و كذلك هنا إنما هو بمنزلة هارون فيما دل عليه السياق و هو استخلافه في مغيبه كما استخلف موسى هارون و هذا الاستخلاف ليس من خصائص علي بل و لا هو مثل استخلافاته فضلا عن أن يكون افضل منها و قد استخلف من علي افضل منه في كثير من الغزوات و لم تكن تلك الاستخلافات توجب تقديم المستخلف على علي إذا قعد معه فكيف يكون موجبا لتفضيله على علي بل قد استخلف على المدينة غير واحد و أولئك المستخلفون منه بمنزلة هارون من موسى من جنس استخلاف علي بل كان ذلك الاستخلاف يكون علي اكثر و أفضل ممن استخلف عليه عام تبوك و كانت الحاجة إلى الاستخلاف اكثر فإنه كان يخاف من الأعداء على المدينة فأما عام تبوك فإنه كان قد أسلمت العرب بالحجاز و فتحت مكة و ظهر الإسلام و عز و لهذا أمر الله نبيه أن يغزو أهل الكتاب بالشام و لم تكن المدينة تحتاج إلى من يقاتل بها العدو و لهذا لم يدع النبي صلى الله عليه و سلم عند علي أحدا من المقاتلة كما كان يدع بها في سائر الغزوات بل اخذ المقاتلة كلهم معه و تخصيصه لعلي بالذكر هنا هو مفهوم اللقب و هو نوعان لقب هو جنس و لقب يجري مجرى العلم مثل زيد و أنت و هذا المفهوم
7
332(188/236)
اضعف المفاهيم و لهذا كان جماهير أهل الأصول و الفقه على انه لا يحتج به فإذا قال محمد رسول الله لم يكن هذا نفيا للرسالة عن غيره لكن إذا كان في سياق الكلام ما يقتضي التخصيص فإنه يحتج به على الصحيح كقوله ففهمناها سليمان و قوله كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون و أما إذا كان التخصيص لسبب يقتضيه فلا يحتج به باتفاق الناس فهذا من ذلك فإنه إنما خص عليا بالذكر لأنه خرج إليه يبكي و يشتكي تخليفه مع النساء و الصبيان و من استخلفه سوى علي لما لم يتوهموا أن في الاستخلاف نقصا لم يحتج أن يخبرهم بمثل هذا الكلام و التخصيص بالذكر إذا كان لسبب يقتضي ذاك لم يقتض الاختصاص بالحكم فليس في الحديث دلالة على أن غيره لم يكن منه بمنزلة هارون من موسى كما أنه لما قال للمضروب الذي نهى عن لعنه دعه فإنه يحب الله و رسوله لم يكن هذا دليلا على أن غيره لا يحب الله و رسوله بل ذكر ذلك لاجل الحاجة إليه لينهى بذلك عن لعنه و لما استأذنه عمر رضي الله عنه في قتل حاطب بن أبي بلتعة قال دعه فانه قد شهد بدرا و لم يدل هذا على أن غيره لم يشهد بدرا بل ذكر المقتضى لمغفرة ذنبه
7
333
و كذلك لما شهد للعشرة بالجنة لم يقتض أن غيرهم لا يدخل الجنة لكن ذكر ذلك لسبب اقتضاه و كذلك لما قال للحسن و أسامة اللهم إني احبهما فأحبهما و أحب من يحبهما لا يقتضي انه لا يحب غيرهما بل كان يحب غيرهما اعظم من محبتهما و كذلك لما قال لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة لم يقتض أن من سواهم يدخلها و كذلك لما شبه أبا بكر بإبراهيم و عيسى لم يمنع ذلك أن يكون في أمته و أصحابه من يشبه إبراهيم و عيسى و كذلك لما شبه عمر بنوح و موسى لم يمتنع أن يكون في أمته من يشبه نوحا و موسى فان قيل أن هذين افضل من يشبههم من أمته قيل الاختصاص بالكمال لا يمنع المشاركة في اصل التشبيه و كذلك لما قال عن عروة بن مسعود إنه مثل صاحب ياسين
7
334(188/237)
و كذلك لما قال للأشعريين هم مني و أنا منهم لم يختص ذلك بهم بل قال لعلي أنت مني و أنا منك و قال لزيد أنت أخونا و مولانا و ذلك لا يختص بزيد بل أسامة أخوهم و مولاهم و بالجملة الأمثال و التشبيهات كثيرة جدا و هي لا توجب التماثل من كل وجه بل فيما سيق الكلام له و لا يقتضي اختصاص المشبه بالتشبيه بل يمكن أن يشاركه غيره له في ذلك قال تعالى مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة و قال تعالى و اضرب لهم مثلا أصحاب القرية و قال مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر و قد قيل أن في القران اثنين و أربعين مثلا و قول القائل انه جعله بمنزلة هارون في كل الأشياء إلا في النبوة باطل فان قوله أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى
7
335
دليل على انه يسترضيه بذلك و يطيب قلبه لما توهم من وهن الاستخلاف و نقص درجته فقال هذا على سبيل الجبر له قوله بمنزلة هارون من موسى أي مثل منزلة هارون فإن نفس منزلته من موسى بعينها لا تكون لغيره و إنما يكون له ما يشابهها فصار هذا كقوله هذا مثل هذا و قوله عن أبي بكر مثله مثل إبراهيم و عيسى و عمر مثله مثل نوح و موسى و مما يبين ذلك أن هذا كان عام تبوك ثم بعد رجوع النبي صلى الله عليه و سلم بعث أبا بكر أميرا على الموسم و أردفه بعلي فقال لعلي أمير أم مأمور فقال بل مأمور فكان أبو بكر أميرا عليه و علي معه كالمأمور مع أميره يصلي خلفه و يطيع أمره و ينادي خلفه مع الناس بالموسم ألا لا يحج بعد العام مشرك و لا يطوف بالبيت عريان
7
336(188/238)
وإنما اردفه به لينبذ العهد إلى العرب فإنه كان من عادتهم أن لا يعقد العقود وينبذها إلا السيد المطاع أو رجل من أهل بيته فلم يكونوا يقبلون نقض العهود إلا من رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ومما يبين ذلك انه لو أراد أن يكون خليفة على أمته بعده لم يكن هذا خطابا بينهما يناجيه به ولا كان أخره حتى يخرج إليه على ويشتكي بل كان هذا من الحكم الذي يجب بيانه وتبليغه للناس كلهم بلفظ يبين المقصود ثم من جهل الرافضة انهم يتناقضون فان هذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخاطب عليا بهذا الخطاب إلا ذلك اليوم في غزوة تبوك فلو كان علي قد عرف انه المستخلف من بعده كما رووا ذلك في ما تقدم لكان علي مطمئن القلب انه مثل هارون بعده وفي حياته ولم يخرج إليه يبكي ولم يقل له أتخلفني مع النساء والصبيان ولو كان علي بمنزلة هارون مطلقا لم يستخلف عليه أحدا وقد كان
7
337
يستخلف على المدينة غيره وهو فيها كما استخلف على المدينة عام خيبر غير علي وكان علي بها ارمد حتى لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية حين قدم وكان قد أعطى الراية رجلا فقال لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وأما قوله لانه خليفته مع وجوده وغيبته مدة يسيرة فبعد موته وطول مدة الغيبة أولى بان يكون خليفته فالجواب انه مع وجوده وغيبته قد استخلف غير علي استخلافا اعظم من استخلاف علي و استخلف أولئك على افضل من الذين استخلف عليهم عليا و قد استخلف بعد تبوك على المدينة غير علي في حجة الوداع فليس جعل علي هو الخليفة بعده لكونه استخلفه على المدينة بأولى من هؤلاء الذين استخلفهم على المدينة كما استخلفه و اعظم مما استخلفه و آخر الاستخلاف كان على المدينة كان عام حجة الوداع و كان علي باليمن و شهد معه الموسم لكن استخلف عليها في حجة الوداع غير علي
7
338(188/239)
فإن كان الأصل بقاء الاستخلاف فبقاء من استخلفه في حجة الوداع أولى من بقاء استخلاف من استخلفه قبل ذلك و بالجملة فالاستخلافات على المدينة ليست من خصائصه و لا تدل على الأفضلية و لا على الإمامة بل قد استخلف عددا غيره لكن هؤلاء جهال يجعلون الفضائل العامة المشتركة بين علي و غيره خاصة بعلي و إن كان غيره اكمل منه فيها كما فعلوا في النصوص و الوقائع و هكذا فعلت النصارى جعلوا ما اتى به المسيح من الآيات دالا على شيء يختص به من الحلول و الاتحاد و قد شاركه غيره من الأنبياء فيما اتى به و كان ما اتى به موسى من الآيات اعظم مما جاء به المسيح فليس هناك سبب يوجب اختصاص المسيح دون إبراهيم و عيسى لا بحلول و لا اتحاد بل إن كان ذلك كله ممتنعا فلا ريب انه كله ممتنع في الجميع و إن فسر ذلك بأمر ممكن كحصول معرفة الله و الإيمان به و الأنوار الحاصلة بالإيمان به و نحو ذلك فهذا قدر مشترك و أمر ممكن و هكذا الأمر مع الشيعة يجعلون الأمور المشتركة بين علي و غيره التي تعمه و غيره مختصة به حتى رتبوا عليه ما يختص به من العصمة و الإمامة و الأفضلية و هذا كله منتف
7
339(188/240)
فمن عرف سيرة الرسول و أحوال الصحابة و معاني القرآن و الحديث علم انه ليس هناك اختصاص بما يوجب أفضليته و لا إمامته بل فضائله مشتركة و فيها من الفائدة إثبات إيمان علي و ولايته و الرد على النواصب الذين يسبونه أو يفسقونه أو يكفرونه و يقولون فيه من جنس ما تقوله الرافضة في الثلاثة ففي فضائل علي الثابتة رد على النواصب كما أن في فضائل الثلاثة ردا على الروافض و عثمان رضي الله عنه تقدح فيه الروافض و الخوارج ولكن شيعته يعتقدون إمامته و يقدحون في إمامة علي و هم في بدعتهم خير من شيعة علي الذين يقدحون في غيره و الزيدية الذين يتولون أبا بكر و عمر مضطربون فيه و أيضا فالاستخلاف في الحياة نوع نيابة لا بد منه لكل ولي أمر و ليس كل من يصلح للاستخلاف في الحياة على بعض الأمة يصلح إن يستخلف بعد الموت فإن النبي صلى الله عليه و سلم استخلف في حياته غير واحد و منهم من لا يصلح للخلافة بعد موته و ذلك كبشير بن عبد المنذر و غيره و أيضا فإنه مطالب في حياته بما يجب عليه من القيام بحقوق الناس
7
340(188/241)
كما يطالب بذلك ولاة الأمور و أما بعد موته فلا يطالب بشيء لانه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه ففي حياته يجب عليه جهاد الأعداء وقسم الفيء و إقامة الحدود واستعمال العمال وغير ذلك مما يوجب على ولاة الأمور بعده وبعد موته لا يجب عليه شيء من ذلك فليس الاستخلاف في الحياة كالاستخلاف بعد الموت والإنسان إذا استخلف أحدا في حياته على أولاده وما يأمر به من البر كان المستخلف وكيلا محضا يفعل ما أمر به الموكل وان استخلف أحدا على أولاده بعد موته كان وليا مستقلا يعمل بحسب المصلحة كما أمر الله ورسوله ولم يكن وكيلا للميت وهكذا أولو الأمر إذا استخلف أحدهم شخصا في حياته فانه يفعل ما يأمره به في القضايا المعينة و أما إذا استخلفه بعد موته فإنه يتصرف بولايته كما أمر الله ورسوله فإن هذا التصرف مضاف إليه لا إلى الميت بخلاف ما فعله في الحياة بأمر مستخلفه فإنه يضاف إلى من استخلفه لا إليه فأين هذا من هذا ولم يقل أحد من العقلاء إن من استخلف شخصا على بعض الأمور وانقضى ذلك الاستخلاف انه يكون خليفة بعد موته على
7
341
شيء ولكن الرافضة من اجهل الناس بالمعقول والمنقول فصل قال الرافضي الرابع انه صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة مع قصر مدة الغيبة فيجب أن يكون خليفة له بعد موته وليس غير علي إجماعا و لأنه لم يعزله عن المدينة فيكون خليفة له بعد موته فيها وإذا كان خليفة فيها كان خليفة في غيرها إجماعا والجواب أن هذه الحجة و أمثالها من الحجج الداحضة التي هي من جنس بيت العنكبوت والجواب عنها من وجوه أحدها أن نقول على أحد القولين انه استخلف أبا بكر بعد موته كما تقدم وإذا قالت الرافضة بل استخلف عليا قيل الراوندية من جنسكم قالوا استخلف العباس وكل من كان له علم بالمنقولات الثابتة يعلم أن الأحاديث الدالة على استخلاف أحد بعد موته إنما تدل
7
342(188/242)
على استخلاف أبي بكر ليس فيها شيء يدل على استخلاف علي ولا العباس بل كلها تدل على انه لم يستخلف واحدا منهما فيقال حينئذ إن كان النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أحدا فلم يستخلف إلا أبا بكر وان لم يستخلف أحدا فلا هذا ولا هذا فعلى تقدير كون الاستخلاف واجبا على الرسول لم يستخلف إلا أبا بكر فان جميع أهل العلم بالحديث والسيرة متفقون على أن الأحاديث الثابتة لا تدل على استخلاف غير آبي بكر و إنما يدل ما يدل منها على استخلاف آبي بكر وهذا معلوم بالاضطرار عند العالم بالأحاديث الثابتة الوجه الثاني أن نقول انتم لا تقولون بالقياس وهذا احتجاج بالقياس حيث قستم الاستخلاف في الممات على الاستخلاف في المغيب و أما نحن إذا فرضنا على أحد القولين فنقول الفرق بينهما ما نبهنا عليه في استخلاف عمر في حياته وتوقفه في الاستخلاف بعد موته لان الرسول في حياته شاهد على الأمة مأمور بسياستها بنفسه أو نائبه وبعد موته انقطع عنه التكليف كما قال المسيح وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم الآية لم يقل كان خليفتي الشهيد عليهم وهذا دليل على أن المسيح لم يستخلف فدل على أن الأنبياء لا يجب عليهم الاستخلاف بعد الموت وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال فأقول كما قال
7
343(188/243)
العبد الصالح وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم وقد قال تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل افإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين فالرسول بموته انقطع عنه التكليف وهو لو استخلف خليفة في حياته لم يجب إن يكون معصوما بل كان يولي الرجل ولاية ثم يتبين كذبه فيعزله كما ولى الوليد بن عقبة بن آبي معيط وهو لو استخلف رجلا لم يجب إن يكون معصوما وليس هو بعد موته شهيدا عليه ولا مكلفا برده عما يفعله بخلاف الاستخلاف في الحياة الوجه الثالث أن يقال الاستخلاف في الحياة واجب على كل ولي أمر فإن كل ولي أمر رسولا كان أو إماما عليه إن يستخلف فيما غاب عنه من الأمور فلا بد له من إقامة الأمر إما بنفسه و إما بنائبه فما شهده من الأمر أمكنه إن يقيمه بنفسه و أما ما غاب عنه فلا يمكنه إقامته إلا بخليفة يستخلفه عليه فيولى على من غاب عنه من رعيته من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويأخذ منهم الحقوق ويقيم فيهم
7
344(188/244)
الحدود ويعدل بينهم في الأحكام كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلف في حياته على كل ما غاب عنه فيولي الأمراء على السرايا يصلون بهم ويجاهدون بهم ويسوسونهم ويؤمر أمراء على الأمصار كما أمر عتاب بن اسيد على مكة أمر خالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد بن العاص وأبا سفيان بن حرب ومعاذا وأبا موسى على قرى عرينة وعلى نجران وعلى اليمن وكما كان يستعمل عمالا على الصدقة فيقبضونها ممن تجب عليه ويعطونها لمن تحل له كما استعمل غير واحد وكان يستخلف في إقامة الحدود كما قال لأنيس يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فغدا عليها فاعترفت فرجمها وكان يستخلف على الحج كما استخلف أبا بكر على إقامة الحج عام تسع بعد غزوة تبوك وكان علي من جملة رعية أبي بكر يصلي خلفه ويأتمر بأمره وذلك بعد غزوة تبوك وكما استخلف على المدينة مرات كثيرة فإنه كان كلما خرج في غزاة
7
345(188/245)
استخلف ولما حج واعتمر استخلف فاستخلف في غزوة بدر وبنى المصطلق وغزوة خيبر وغزوة الفتح واستخلف في غزوة الحديبية وفي غزوة القضاء وحجة الوداع وغير ذلك وإذا كان الاستخلاف في الحياة واجبا على متولي الأمر وإن لم يكن نبيا مع انه لا يجب عليه الاستخلاف بعد موته لكون الاستخلاف في الحياة أمرا ضروريا لا يؤدى الواجب إلا به بخلاف الاستخلاف بعد الموت فإنه قد بلغ الأمة وهو الذي يجب عليهم طاعته بعد موته فيمكنهم إن يعينوا من يؤمرونه عليهم كما يمكن ذلك في كل فروض الكفاية التي تحتاج إلى واحد معين علم انه لا يلزم من وجوب الاستخلاف في الحياة وجوبه بعد الموت الرابع أن الاستخلاف في الحياة واجب في أصناف الولايات كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلف على من غاب عنهم من يقيم فيهم الواجب ويستخلف في الحج وفي قبض الصدقات حفظ مال الفيء وفي إقامة الحدود وفي الغزو وغير ذلك ومعلوم إن هذا الاستخلاف لا يجب بعد الموت باتفاق العقلاء بل ولا يمكن فإنه لا يمكن إن يعين للأمة بعد موته من يتولى كل أمر جزئي فإنهم يحتاجون إلى واحد بعد واحد وتعيين ذلك متعذر و لأنه لو عين واحدا فقد يختلف حاله ويجب عزله فقد كان يولي في حياته من يشكى إليه فيعزله كما عزل الوليد بن عقبة وعزل سعد بن عبادة
7
346(188/246)
عام الفتح وولى ابنه قيسا وعزل إماما كان يصلي بقوم لما بصق في القبلة وولى مرة رجلا فلم يقيم بالواجب فقال أعجزتم إذا وليت من لا يقوم بأمري إن تولوا رجلا يقوم بأمري فقد فوض إليهم عزل من لا يقوم بالواجب من ولاته فكيف لا يفوض إليهم ابتداء تولية من يقوم بالواجب وإذا كان في حياته من يوليه ولا يقوم بالواجب فيعزله أو يأمر بعزله كان لو ولى واحدا بعد موته يمكن فيه أن لا يقوم بالواجب وحينئذ فيحتاج إلى عزله فإذا ولته الأمة وعزلته كان خيرا لهم من إن يعزلوا من ولاه النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مما يتبين به حكمة ترك الاستخلاف وعلى هذا فنقول في الوجه الخامس إن ترك الاستخلاف بعد مماته كان أولى من الاستخلاف كما اختاره الله لنبيه فإنه لا يختار له إلا افضل الأمور وذلك لأنه إما أن يقال يجب إن لا يستخلف في حياته من ليس
7
347(188/247)
بمعصوم وكان يصدر من بعض نوابه أمور منكرة فينكرها عليهم ويعزل من يعزل منهم كما استعمل خالد بن الوليد على قتال بني جذيمة فقتلهم فوداهم النبي صلى الله عليه وسلم بنصف دياتهم و أرسل علي بن آبي طالب فضمن لهم حتى ميلغة الكلب ورفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء وقال اللهم إني أبرا إليك مما صنع خالد واختصم خالد وعبد الرحمن بن عوف حتى قال صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو انفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ولكن مع هذا لم يعزل النبي صلى الله عليه وسلم خالدا واستعمل الوليد بن عقبة على صدقات قوم فرجع فاخبره إن القوم امتنعوا وحاربوا فأراد غزوهم فأنزل الله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا إن تصيبوا قوما بجهالة وولى سعد بن عبادة يوم الفتح فلما بلغه إن سعدا قال اليوم يوم الملحمة اليوم تستباح الحرمة عزله وولى ابنه قيسا و أرسل بعمامته علامة على عزله ليعلم سعد أن ذلك أمر من النبي صلى الله عليه وسلم وكان يشتكى إليه بعض نوابه فيأمره بما أمر الله به كما اشتكى أهل
7
348
قباء معاذا لتطويله الصلاة بهم لما قرأ البقرة في صلاة العشاء فقال افتان أنت يا معاذ اقرأ بسبح اسم ربك الأعلى والليل إذا يغشى ونحوها وفي الصحيح إن رجلا قال له إني أتخلف عن صلاة الفجر مما يطول بنا فلان فقال يا أيها الناس إذا أم أحدكم فليخفف فإن من ورائه الضعيف والكبير وذي الحاجة وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء ورأى إماما قد بصق في قبلة المسجد فعزله عن الإمامة وقال انك آذيت الله ورسوله
7
349(188/248)
وكان الواحد من خلفائه إذا أشكل عليه الشيء أرسل إليه يسأله عنه فكان الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته يعلم خلفاءه ما جهلوا ويقومهم إذا زاغوا ويعزلهم إذا لم يستقيموا ولم يكونوا مع ذلك معصومين فعلم انه لم يكن يجب عليه إن يولي المعصوم وأيضا فإن هذا تكليف ما لا يمكن فإن الله لم يخلق أحدا معصوما غير الرسول صلى الله عليه وسلم فلو كلف إن يستخلف معصوما لكلف ما لا يقدر عليه وفات مقصود الولايات وفسدت أحوال الناس في الدين والدنيا وإذا علم انه كان يجوز بل يجب إن يستخلف في حياته من ليس بمعصوم فلو استخلف بعد موته كما استخلف في حياته لاستخلف أيضا غير معصوم وكان لا يمكن إن يعلمه و يقومه كما كان يفعل في حياته فكان أن لا يستخلف خيرا من ان يستخلف و الأمة قد بلغها أمر الله ونهيه وعلموا ما أمر الله به نهى عنه فهم يستخلفون من يقوم بأمر الله ورسوله ويعاونونه على إتمامهم القيام
7
350(188/249)
بذلك إذا كان الواحد لا يمكنه القيام بذلك فما فاته من العلم بينه له من يعلمه وما احتاج إليه من القدرة عاونه عليه من يمكنه الإعانة وما خرج فيه عن الصواب أعادوه إليه بحسب الإمكان بقولهم وعملهم وليس على الرسول ما حملوه كما انهم ليس عليهم ما حمل فعلم أن ترك الاستخلاف من النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت اكمل في حق الرسول من الاستخلاف وان من قاس وجوب الاستخلاف بعد الممات على وجوبه في الحياة كان من اجهل الناس وإذا علم الرسول إن الواحد من الأمة هو أحق بالخلافة كما كان يعلم أن أبا بكر هو أحق بالخلافة من غيره كان في دلالته للأمة على انه أحق مع علمه بأنهم يولونه ما يغنيه عن استخلافه لتكون الأمة هي القائمة بالواجب ويكون ثوابها على ذلك اعظم من حصول مقصود الرسول و اما أبو بكر فلما علم انه ليس في الأمة مثل عمر وخاف إن لا يولوه إذا لم يستخلفه لشدته فولاه هو كان ذلك هو المصلحة للأمة فالنبي صلى الله عليه وسلم علم إن الأمة يولون أبا بكر فاستغنى بذلك عن توليته مع دلالته لهم على أنه أحق الأمة بالتولية وأبو بكر لم يكن يعلم إن الأمة يولون عمر إذا لم يستخلفه أبو بكر فكان ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم هو اللائق به لفضل علمه وما فعله صديق الأمة هو اللائق به إذ لم يعلم ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم
7
351(188/250)
الوجه السادس أن يقال هب إن الاستخلاف واجب فقد استخلف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على قول من يقول انه استخلفه ودل على استخلافه على القول الآخر وقوله لانه لم يعزله عن المدينة قلنا هذا باطل فانه لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم انعزل علي بنفس رجوعه كما كان غيره ينعزل إذا رجع وقد أرسله بعد هذا إلى اليمن حتى وافاه بالموسم في حجة الوداع واستخلف على الدينة في حجة الوداع غيره افترى النبي صلى الله عليه وسلم فيها مقيما وعلي باليمن وهو خليفة بالمدينة ولا ريب إن كلام هؤلاء كلام جاهل بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم كأنهم ظنوا إن عليا ما زال خليفة على المدينة حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعلموا أن عليا بعد ذلك أرسله النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع مع أبي بكر لنبذ العهود وأمر عليه أبا بكر ثم بعد رجوعه مع أبي بكر أرسله إلى اليمن كما أرسل معاذا وأبا موسى ثم لما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع استخلف على المدينة غير علي ووافاه علي بمكة ونحر النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة نحر بيده ثلثيها ونحر علي ثلثها وهذا كله معلوم عند أهل العلم متفق عليه بينهم وتواترت به
7
352(188/251)
الأخبار كأنك تراه بعينك ومن لم يكن له عناية بأحوال الرسول لم يكن له أن يتكلم في هذه المسائل الأصولية والخليفة لا يكون خليفة إلا مع مغيب المستخلف أو موته فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بالمدينة امتنع أن يكون له خليفة فيها كما أن سائر من استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع انقضت خلافته وكذلك سائر ولاة الأمور إذا استخلف أحدهم على مصره في مغيبه بطل استخلافه ذلك إذا حضر المستخلف ولهذا لا يصلح إن يقال إن الله يستخلف أحدا عنه فانه حي قيوم شهيد مدبر لعباده منزه عن الموت والنوم والغيبة ولهذا لما قالوا لأبى بكر يا خليفة الله قال لست خليفة الله بل خليفة رسول الله وحسبي ذلك والله تعالى يوصف بأنه يخلف العبد كما قال صلى الله عليه وسلم اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل وقال في حديث الدجال والله خليفتي على كل مسلم
7
353
وكل من وصفه الله بالخلافة في القرآن فهو خليفة عن مخلوق كان قبله كقوله ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و كذلك قوله إني جاعل في الأرض خليفة أي عن خلق كان في الأرض قبل ذلك كما ذكر المفسرون و غيرهم و أما ما يظنه طائفة من الاتحادية و غيرهم أن الإنسان خليفة الله فهذا جهل و ضلال فصل قال الرافضي الخامس ما رواه الجمهور عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال لأمير المؤمنين أنت أخي
7
354(188/252)
و وصيي و خليفتي من بعدي و قاضي ديني و هو نص في الباب و الجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة هذا الحديث فان هذا الحديث ليس في شيء من الكتب التي تقوم الحجة بمجرد إسناده إليها و لا صححه إمام من أئمة الحديث و قوله رواه الجمهور إن أراد بذلك إن علماء الحديث رووه في الكتب التي يحتج بما فيها مثل كتاب البخاري و مسلم و نحوهما و قالوا انه صحيح فهذا كذب عليهم و إن أراد بذلك إن هذا يرويه مثل آبي نعيم في الفضائل و المغازلي و خطيب خوارزم و نحوهم أو يروى في مكتب الفضائل فمجرد هذا ليس بحجة باتفاق أهل العلم في مسألة فروع فكيف في مسألة الإمامة التي قد أقمتم عليها القيامة الثاني إن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث و قد تقدم كلام ابن حزم إن سائر هذه الأحاديث موضوعة يعلم ذلك من له أدنى علم بالأخبار و نقلتها و قد صدق في ذلك فإن من له أدنى معرفة بصحيح الحديث و ضعيفة ليعلم إن هذا الحديث و مثله ضعيف بل و كذب موضوع و لهذا لم يخرجه أحد من أهل الحديث في الكتب التي يحتج بما فيها و إنما يرويه من يرويه في
7
355(188/253)
الكتب التي يجمع فيها بين الغث و السمين التي يعلم كل عالم إن فيها ما هو كذب مثل كثير من كتب التفسير تفسير الثعلبي و الواحدي و نحوهما و الكتب التي صنفها في الفضائل من يجمع الغث و السمين لا سيما خطيب خوارزم فإنه من أروى الناس للمكذوبات و ليس هو من أهل العلم بالحديث و لا المغازلي قال أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الموضوعات لما روى هذا الحديث من طريق آبي حاتم البستي حدثنا محمد بن سهل بن أيوب حدثنا عمار بن رجاء حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا مطر بن ميمون الإسكاف عن انس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن أخي و وزيري و خليفتي من أهلي و خير من اترك بعدي يقضي ديني و ينجز موعدي علي بن آبي طالب قال هذا حديث موضوع قال ابن حبان مطر بن ميمون يروى الموضوعات عن الأثبات لا تحل الرواية عنه رواه أيضا من طريق احمد بن عدي بنحو هذا اللفظ و مداره على
7
356
عبيد الله بن موسى عن مطر بن ميمون و كان عبيد الله بن موسى في نفسه صدوقا روى عنه البخاري لكنه معروف بالتشيع فكان لتشيعه يروي عن غير الثقات ما يوافق هواه كما روى عن مطر بن ميمون هذا و هو كذب و قد يكون علم انه كذب ذلك و قد يكون لهواه لم يبحث عن كذبه و لو بحث عنه لتبين له انه كذب هذا مع انه ليس في اللفظ الذي رواه هؤلاء المحدثون و خليفتي من بعدي و إنما في تلك الطريق و خليفتي في أهلي و هذا استخلاف خاص و أما اللفظ الآخر الذي رواه ابن عدي فإنه قال حدثنا ابن آبي سفيان حدثنا عدي بن سهل حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا مطر عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم علي أخي و صاحبي و ابن عمي و خير من اترك من بعدي يقضي ديني و ينجز موعدي و لا ريب أن مطرا هذا كذاب لم يرو عنه أحد من علماء الكوفة
7
357(188/254)
مع روايته عن انس فلم يرو عنه يحيى بن سعيد القطان و لا وكيع و لا أبو معاوية و لا أبو نعيم و لا يحيى بن آدم و لا أمثالهم مع كثرة من بالكوفة من الشيعة و مع أن كثيرا من عوامها يفضل عليا على عثمان و يروى حديثه أهل الكتب الستة حتى الترمذي و ابن ماجة قد يرويان عن ضعفاء و لم يرووا عنه و إنما روى عنه عبيد الله بن موسى لانه كان صاحب هوى متشيعا فكان لأجل هواه يروي عن هذا و نحوه و إن كانوا كذابين و لهذا لم يكتب احمد عن عبيد الله بن موسى بخلاف عبد الرزاق و ذكر احمد إن عبيد الله كان يظهر ما عنده بخلاف عبد الرزاق و مما افتراه مطر هذا ما رواه أبو بكر الخطيب في تاريخه من حديث عبيد الله بن موسى عند مطر عن انس قال كنت عند النبي صلى الله عليه و سلم فرأي عليا مقبلا فقال أنا و هذا حجة الله على أمتي يوم القيامة قال ابن الجوزي هذا حديث موضوع و المتهم بوضعه مطر قال أبو حاتم يروي الموضوعات عن الأثبات لا تحل الرواية عنه الوجه الثالث أن دين النبي صلى الله عليه و سلم لم يقضه علي
7
358
بل في الصحيح إن النبي صلى الله عليه و سلم مات و درعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين و سقا من شعير ابتاعها لأهله فهذا الدين الذي كان عليه يقضي من الرهن الذي رهنه و لم يعرف عن النبي صلى الله عليه و سلم دين آخر و في الصحيح عنه انه قال لا يقتسم ورثتي دينارا و لا درهما ما تركت بعد نفقة نسائي و مؤنة عاملي فهو صدقة فلو كان عليه دين قضي مما تركه و كان ذلك مقدما على الصدقة كان ثبت ذلك في الحديث الصحيح فصل قال الرافصي السادس حديث المؤاخاة روى انس
7
359(188/255)
إن النبي صلى الله عليه و سلم لما كان يوم المباهلة و أخي بين المهاجرين و الأنصار و علي واقف يراه و يعرفه و لم يؤاخ بينه و بين أحد فانصرف باكيا فقال النبي صلى الله عليه و سلم ما فعل أبو الحسن قالوا انصرف باكي العين قال يا بلال اذهب فائتني به فمضى إليه و دخل منزله باكي العين فقالت له فاطمة ما يبكيك قال أخي النبي صلى الله عليه و سلم بين المهاجرين و الأنصار و لم يؤاخ بيني و بين أحد قالت لا يخزيك الله لعله إنما ادخرك لنفسه فقال بلال يا علي اجب رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتى فقال ما يبكيك يا أبا الحسن فأخبره فقال إنما ادخرك لنفسي ألا يسرك
7
360
أن تكون أخا نبيك قال بلى فأخذ بيده فأتى المنبر فقال اللهم هذا مني و أنا منه إلا انه مني بمنزلة هارون من موسى إلا من كنت مولاه فعلي مولاه فانصرف فاتبعه عمر فقال بخ بخ يا أبا الحسن أصبحت مولاي و مولى كل مسلم فالمؤاخاة تدل على الأفضلية فيكون هو الإمام و الجواب أولا المطالبة بتصحيح النقل فإنه لم يعز هذا الحديث إلى كتاب أصلا كما عادته يعزو و إن كان عادته يعزو إلى كتب لا تقوم بها الحجة و هنا أرسله إرسالا على عادة أسلافه شيوخ الرافضة يكذبون و يروون الكذب بلا إسناد و قد قال ابن المبارك الإسناد من الدين لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء فإذا سئل وقف و تحير الثاني إن هذا الحديث موضوع عند أهل الحديث لا يرتاب أحد من أهل المعرفة بالحديث أنه موضوع وواضعه جاهل كذب كذبا
7
361(188/256)
ظاهرا مكشوفا يعرف انه كذب من له أدنى معرفة بالحديث كما سيأتي بيانه الثالث إن أحاديث المؤاخاة لعلي كلها موضوعة و النبي صلى الله عليه و سلم لم يؤاخ أحدا و لا أخي بين مهاجري و مهاجري و لا بين آبي بكر و عمر و لا بين أنصاري و أنصاري و لكن أخي بين المهاجرين و الأنصار في أول قدومه المدينة وأما المباهلة فكانت لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر من الهجرة الرابع إن دلائل الكذب على هذا الحديث بينة منها انه قال لما كان يوم المباهلة و أخي بين المهاجرين و الأنصار و المباهلة كانت لما قدم وفد نجران النصارى و أنزل الله سورة آل عمران و كان ذلك في
7
362
آخر الأمر سنة عشر أو سنة تسع لم يتقدم على ذلك باتفاق الناس و النبي صلى الله عليه و سلم لم يباهل النصارى لكن دعاهم إلى المباهلة فاستنظروه حتى يشتوروا فلما اشتوروا قالوا هو نبي و ما باهل قوم نبيا إلا استؤصلوا فأقروا له بالجزية و لم يباهلوا و هم أول من اقر بالجزية من أهل الكتاب و قد اتفق الناس على انه لم يكن في ذلك اليوم مؤاخاة الخامس إن المؤاخاة بين المهاجرين و الأنصار كانت في السنة الأولى من الهجرة في دار بني النجار و بين المباهلة و ذلك عدة سنين السادس انه كان قد أخي بين المهاجرين و الأنصار و النبي صلى الله عليه و سلم و علي كلاهما من المهاجرين فلم يكن بينهم مؤاخاة بل أخي بين علي و سهل بن حنيف فعلم انه لم يؤاخ عليا و هذا مما يوافق ما في الصحيحين من أن المؤاخاة إنما كانت بين المهاجرين و الأنصار لم تكن بين مهاجري و مهاجري السابع إن قوله أما ترضى إن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إنما قاله في غزوة تبوك مرة واحدة لم يقل ذلك في غير ذلك المجلس أصلا باتفاق أهل العلم بالحديث و أما حديث الموالاة فالذين رووه ذكروا انه قاله بغدير خم مرة واحدة لم يتكرر في غير ذلك المجلس أصلا
7
363(188/257)
الثامن انه قد تقدم الكلام على المؤاخاة و إن فيها عموما و إطلاقا لا يقتضي الأفضلية و الإمامة و أن ما ثبت للصديق من الفضيلة لا يشركه فيه غيره كقوله لو كنت متخذا خليلا من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلا و أخباره إن احب الرجال إليه أبو بكر و شهادة الصحابة له انه احبهم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و غير ذلك مما يبين أن الاستدلال بما روى من المؤاخاة باطل نقلا و دلالة التاسع أن من الناس من يظن أن المؤاخاة وقعت بين المهاجرين بعضهم مع بعض لأنه روى فيها أحاديث لكن الصواب المقطوع به أن هذا لم يكن و كل ما روي في ذلك فإنه باطل إما إن يكون من رواية من يتعمد الكذب وإما إن يكون اخطأ فيه و لهذا لم يخرج أهل الصحيح شيئا من ذلك و الذي في الصحيح إنما هو المؤاخاة بين المهاجرين و الأنصار و معلوم انه لو آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض و بين الأنصار بعضهم مع بعض لكان هذا مما تتوفر الهمم و الدواعي على نقله و لكان يذكر في أحاديث المؤاخاة و يذكر كثيرا فكيف و ليس في هذا حديث صحيح و لا خرج أهل الصحيح من ذلك شيئا و هذه الأمور يعرفها من كان له خبرة بالأحاديث الصحيحة و السيرة
7
364(188/258)
المتواترة و أحوال النبي صلى الله عليه و سلم و سبب المؤاخاة و فائدتها و مقصودها وأنهم كانوا يتوارثون بذلك فآخى النبي صلى الله عليه و سلم بين المهاجرين و الأنصار كما آخى بين سعد بن الربيع و عبد الرحمن بن عوف و بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء ليقعد الصلة بين المهاجرين و الأنصار حتى انزل الله تعالى و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله و هي المحالفة التي انزل الله فيها و الذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم و قد تنازع الفقهاء هل هي محكمة يورث بها عند عدم النسب أو لا يورث بها على قولين هما روايتان عن احمد الأول مذهب أبي حنيفة و الثاني مذهب مالك و الشافعي فصل قال الرافضي السابع ما رواه الجمهور كافة أن النبي صلى الله عليه و سلم لما حاصر خيبر تسعا و عشرين ليلة و كانت الراية لأمير المؤمنين علي فلحقه رمد أعجزه عن
7
365
الحرب و خرج مرحب يتعرض للحرب فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر فقال له خذ الراية فأخذها في جمع من المهاجرين فاجتهد و لم يغن شيئا و رجع منهزما فلما كان من الغد تعرض لها عمر فسار غير بعيد ثم رجع يخبر أصحابه فقال النبي صلى الله عليه و سلم جيؤني بعلي فقيل انه أرمد فقال ارونيه اروني رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله ليس بفرار فجاءوا بعلي فتفل في يده و مسحها على عينيه و رأسه فبرئ فأعطاه الراية ففتح الله على يديه و قتل مرحبا و وصفه عليه السلام بهذا الوصف يدل على انتفائه عن غيره و هو يدل على أفضليته فيكون هو الإمام و الجواب من وجوه أحدها المطالبة بتصحيح النقل و أما قوله رواه الجمهور فان الثقات الذين رووه لم يرووه هكذا بل الذي في
7
366(188/259)
الصحيح إن عليا كان غائبا عن خيبر لم يكن حاضرا فيها تخلف عن الغزاة لأنه كان ارمد ثم انه شق عليه التخلف عن النبي صلى الله عليه و سلم فلحقه فقال النبي صلى الله عليه و سلم قبل قدومه لأعطين الراية رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله يفتح الله علي يديه و لم تكن الراية قبل ذلك لأبى بكر و لا لعمر و لا قربها واحد منهما بل هذا من الأكاذيب و لهذا قال عمر فما أحببت الإمارة إلا يومئذ و بات الناس كلهم يرجون إن يعطاها فلما اصبح دعا عليا فقيل له انه ارمد فجاءه فتفل في عينيه حتى برأ فأعطاه الراية و كان هذا التخصيص جزاء مجيء علي مع الرمد و كان أخبار النبي صلى الله عليه و سلم بذلك و علي ليس بحاضر لا يرجونه من كراماته صلى الله عليه و سلم فليس في الحديث تنقيص بأبي بكر وعمر أصلا الثاني إن أخباره أن عليا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله حق و فيه رد على النواصب لكن الرافضة الذين يقولون إن الصحابة ارتدوا بعد موته لا يمكنهم الاستدلال بهذا لأن الخوارج تقول لهم هو ممن ارتد أيضا كما قالوا لما حكم الحكمين انك قد ارتددت عن الإسلام فعد إليه قال الأشعري في كتاب المقالات أجمعت الخوارج على كفر علي
7
367(188/260)
و أما أهل السنة فيمكنهم الاستدلال على بطلان قول الخوارج بأدلة كثيرة لكنها مشتركة تدل على إيمان الثلاثة و الرافضة تقدح فيها فلا يمكنهم إقامة دليل على الخوارج على إن عليا مات مؤمنا بل أي دليل ذكروه قدح فيه ما يبطله على أصلهم لان أصلهم فاسد و ليس هذا الوصف من خصائص علي بل غيره يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله لكن فيه الشهادة لعينه بذلك كما شهد لاعيان العشرة بالجنة و كما شهد لثابت بن قيس بالجنة و شهد لعبد الله حمار بأنه يحب الله و رسوله و قد كان ضربه في الحد مرات و قول القائل إن هذا يدل على انتفاء هذا الوصف عن غيره فيه جوابان أحدهما انه إن سلم ذلك فانه قال لأعطين الراية رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله يفتح الله علي يديه فهذا المجموع اختص به و هو أن ذلك الفتح كان على يديه ولا يلزم إذا كان ذلك الفتح المعين على يديه أن يكون افضل من غيره فضلا عن إن يكون مختصا بالإمامة الثاني إن يقال لا نسلم إن هذا يوجب التخصيص كما لو قيل لأعطين هذا المال رجلا فقيرا أو رجلا صالحا و لأدعون اليوم رجلا مريضا صالحا أو لأعطين هذه الراية رجلا شجاعا و نحو ذلك لم
7
368(188/261)
يكن في هذه الألفاظ ما يوجب إن تلك الصفة لا توجد إلا في واحد بل هذا يدل على أن ذلك الواحد موصوف بذلك و لهذا لو نذر إن يتصدق بألف درهم على رجل صالح أو فقير فأعطى هذا المنذور لواحد لم يلزم إن يكون غيره ليس كذلك و لو قالوا أعطوا هذا المال لرجل قد حج عني فأعطوه رجلا لم يلزم أن غيره لم يحج عنه الثالث انه لو قدر ثبوت أفضليته في ذلك الوقت فلا يدل ذلك على أن غيره لم يكن افضل منه بعد ذلك الرابع انه لو قدرنا أفضليته لم يدل ذلك على انه إمام معصوم منصوص عليه بل كثير من الشيعة الزيدية و متأخري المعتزلة و غيرهم يعتقدون أفضليته وأن الإمام هو أبو بكر و تجوز عندهم ولاية المفضول و هذا مما يجوزه كثير من غيرهم ممن يتوقف في تفضيله بعض الأربعة على بعض أو ممن يرى إن هذه المسألة ظنية لا يقوم فيها دليل قاطع على فضيلة واحد معين فإن من لم يكن له خبره بالسنة الصحيحة قد يشك في ذلك وأما أئمة المسلمين المشهورون فكلهم متفقون على أن أبا بكر و عمر افضل من عثمان و علي و نقل هذا الإجماع غير واحد كما روى البيهقي في كتب مناقب الشافعي مسنده عن الشافعي قال ما
7
369
اختلف أحد من الصحابة و التابعين في تفضيل أبي بكر و عمر و تقديمهما على جميع الصحابة و روى مالك عن نافع عن ابن عمر قال كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فنقول خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر و قد تقدم نقل البخاري عن علي هذا الكلام و الشيعة الذين صحبوا عليا كانوا يقولون ذلك و تواتر ذلك عن علي من نحو ثمانين وجها و هذا مما يقطع به أهل العلم ليس هذا مما يخفى على من كان عارفا بأحوال الرسول و الخلفاء فصل قال الرافضي الثامن خبر الطائر روى الجمهور كافة أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى بطائر فقال اللهم ائتني
7
370(188/262)
بأحب خلقك إليك و إلي يأكل معي من هذا الطائر فجاء علي فدق الباب فقال انس إن النبي صلى الله عليه و سلم على حاجة فرجع ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم كما قال أولا فدق الباب فقال انس ألم اقل لك انه علي حاجة فانصرف فعاد النبي صلى الله عليه و سلم فعاد علي فدق الباب اشد من الأولين فسمعه النبي صلى الله عليه و سلم فأذن له بالدخول و قال ما ابطأك عني قال جئت فردني انس ثم جئت فردني انس ثم جئت فردني الثالثة فقال يا انس ما حملك على هذا فقال رجوت أن يكون الدعاء لرجل من الأنصار فقال يا انس أو في الأنصار
7
371
خير من علي أو في الأنصار افضل من علي فإذا كان احب الخلق إلى الله وجب أن يكون هو الإمام و الجواب من وجوه أحدها المطالبة بتصحيح النقل و قوله روى الجمهور كافة كذب عليهم فإن حديث الطير لم يروه أحد من أصحاب الصحيح و لا صححه أئمة الحديث و لكن هو مما رواه بعض الناس كما رووا أمثاله في فضل غير علي بل قد روي في فضائل معاوية أحاديث كثيرة و صنف في ذلك مصنفات و أهل العلم بالحديث لا يصححون لا هذا و لا هذا الثاني أن حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم و المعرفة بحقائق النقل قال أبو موسى المديني قد جمع غير
7
372
واحد من الحفاظ طرق أحاديث الطير للاعتبار و المعرفة كالحاكم النيسابوري وأبي نعيم وابن مردويه و سئل الحاكم عن حديث الطير فقال لا يصح
7
373(188/263)
هذا مع إن الحاكم منسوب إلى التشيع و فد طلب منه إن يروي حديثا في فضل معاوية فقال ما يجيء من قلبي ما يجيء من قلبي و قد ضربوه على ذلك فلم يفعل و هو يروي في الأربعين أحاديث ضعيفة بل موضوعة عند أئمة الحديث كقوله بقتال الناكثين و القاسطين و المارقين لكن تشيعه و تشيع أمثاله من أهل العلم بالحديث كالنسائي و ابن عبد البر و أمثالهما لا يبلغ إلى تفضيله على أبي بكر و عمر فلا يعرف في علماء الحديث من يفضله عليهما بل غاية المتشيع منهم أن يفضله على عثمان أو يحصل منه كلام أو إعراض عن ذكر محاسن من قاتله و نحو ذلك لأن علماء الحديث قد عصمهم و قيدهم ما يعرفون من الأحاديث الصحيحة الدالة على أفضلية الشيخين و من ترفض ممن له نوع اشتغال بالحديث كابن عقدة و أمثاله فهذا غايته أن يجمع ما يروى في فضائله من المكذوبات و الموضوعات لا يقدر إن يدفع ما تواتر من فضائل الشيخين
7
374(188/264)
فإنها باتفاق أهل العلم بالحديث اكثر مما صح في فضائل علي و اصح و أصرح في الدلالة وأحمد بن حنبل لم يقل انه صح لعلي من الفضائل ما لم يصح لغيره بل احمد اجل من إن يقول مثل هذا الكذب بل نقل عنه انه قال روي له ما لم يرو لغيره مع إن في نقل هذا عن احمد كلاما ليس هذا موضعه الثالث إن أكل الطير ليس فيه أمر عظيم يناسب إن يجيء احب الخلق إلى الله ليأكل منه فان إطعام الطعام مشروع للبر و الفاجر و ليس في ذلك زيادة و قربة عند الله لهذا الآكل و لا معونة على مصلحة دين و لا دينا فأي أمر عظيم هنا يناسب جعل أحب الخلق إلى الله يفعله الرابع إن هذا الحديث يناقض مذهب الرافضة فانهم يقولون إن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعلم إن عليا احب الخلق إلى الله و انه جعله خليفة من بعده و هذا الحديث يدل على انه ما كان يعرف احب الخلق إلى الله الخامس إن يقال إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف أن عليا احب الخلق إلى الله أو ما كان يعرف فان كان يعرف ذلك كان يمكنه إن يرسل يطلبه كما كان يطلب الواحد من الصحابة أو يقول اللهم ائتني بعلي فإنه احب الخلق إليك فأي حاجة إلى الدعاء و الإبهام في ذلك و لو سمى عليا لاستراح انس من الرجاء الباطل و لم يغلق الباب في وجه علي
7
375(188/265)
و إن كان النبي صلى الله عليه و سلم لم يعرف ذلك بطل ما يدعونه من كونه كان يعرف ذلك ثم ان في لفظه احب الخلق إليك و إلي فكيف لا يعرف احب الخلق إليه السادس إن الأحاديث الثابتة في الصحاح التي اجمع أهل الحديث على صحتها و تلقيها بالقبول تناقض هذا فكيف تعارض بهذا الحديث المكذوب الموضوع الذي لم يصححوه يبين هذا لكل متأمل ما في صحيح البخاري و مسلم و غيرهما من فضائل القوم كما في الصحيحين انه قال لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و هذا الحديث مستفيض بل متواتر عند أهل العلم بالحديث فإنه قد اخرج في الصحاح من وجوه متعددة من حديث ابن مسعود وأبي سعيد و ابن عباس و ابن الزبير و هو صريح في انه لم يكن عنده من أهل الأرض أحد احب إليه من آبي بكر فإنه الخلة هي كمال الحب و هذا لا يصلح إلا لله فإذا كانت ممكنة و لم يصلح لها إلا أبو بكر علم انه احب الناس إليه و قوله في الحديث الصحيح لما سئل أي الناس احب إليك قال عائشة قيل من الرجال قال أبوها و قول الصحابة أنت خيرنا و سيدنا وأحب إلى رسول الله صلى الله
7
376(188/266)
عليه و سلم يقوله عمر بين المهاجرين و الأنصار و لا ينكر ذلك منكر و أيضا فالنبي صلى الله عليه و سلم محبته تابعة لمحبة الله و أبو بكر احبهم إلى الله تعالى فهو احبهم إلى رسوله و إنما كان كذلك لأنه اتقاهم و أكرمهم وأكرم الخلق علي الله تعالى اتقاهم بالكتاب و السنة و إنما كان اتقاهم لأن الله تعالى قال و سيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى و لسوف يرضى و أئمة التفسير يقولون إنه أبو بكر و نحن نبين صحة قولهم بالدليل فنقول الأتقى قد يكون نوعا و قد يكون شخصا وإذا كان نوعا فهو يجمع أشخاصا فإن قيل انهم ليس فيهم شخص هو اتقى كان هذا باطلا لأنه لا شك إن بعض الناس اتقى من بعض مع أن هذا خلاف قول أهل السنة و الشيعة فإن هؤلاء يقولون إن اتقى الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم من هذه الأمة هو أبو بكر و هؤلاء يقولون هو علي و قد قال بعض الناس هو عمر و يحكى عن بعض الناس غير ذلك و من توقف أو شك لم يقل
7
377(188/267)
انهم مستوون في التقوى فإذا قال انهم متساوون في الفضل فقد خالف إجماع الطوائف فتعين إن يكون هذا اتقى و إن كان الأتقى شخصا فإما إن يكون أبا بكر أو عليا فإنه إذا كان اسم جنس يتناول من دخل فيه و هو النوع و هو القسم الأول أو معينا غيرهما و هذا القسيم منتف باتفاق أهل السنة و الشيعة و كونه عليا باطل أيضا لأنه قال الذي يؤتي ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى و لسوف يرضى و هذا الوصف منتف في علي لوجوه أحدها إن هذه السورة مكية بالاتفاق و كان علي فقيرا بمكة في عيال النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن له مال ينفق منه بل كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ضمه إلى عياله لما أصابت أهل مكة سنة الثاني انه قال و ما لأحد عنده من نعمة تجزى و علي كان للنبي صلى الله عليه و سلم عنده نعمة تجزى و هو إحسانه إليه لما ضمه إلى عياله بخلاف أبي بكر فإنه لم يكن له عنده نعمة دنيوية لكن كان له عنده نعمة الدين و تلك لا تجزى فإن اجر النبي
7
378(188/268)
صلى الله عليه و سلم فيها على الله لا يقدر أحد يجزيه فنعمة النبي صلى الله عليه وسلم عند آبي بكر دينية لا تجزى و نعمته عند علي دنيوية تجزى ودينية و هذا الأتقى ليس لأحد عنده نعمة تجزى و هذا الوصف لأبى بكر ثابت دون علي فان قيل المراد به انه انفق ماله لوجه الله لا جزاء لمن انعم عليه و إذا قدر أن شخصا أعطى من احسن إليه أجرا و أعطى شيئا آخر لوجه الله كان هذا مما ليس لأحد عنده من نعمة تجزى قيل هب إن الأمر كذلك لكن علي لو انفق لم ينفق إلا فيما يأمره به النبي صلى الله عليه و سلم و النبي له عنده نعمة تجزى فلا يخلص إنفاقه عن المجازاة كما يخلص إنفاق أبي بكر و علي اتقى من غيره لكن أبا بكر اكمل في وصف التقوى مع إن لفظ الآية انه ليس عنده قط لمخلوق نعمة تجزى و هذا وصف من يجازي الناس على إحسانهم إليه فلا يبقى لمخلوق عليه منة و هذا الوصف منطبق على أبي بكر انطباقا لا يساويه فيه أحد من المهاجرين فإنه لم يكن في المهاجرين عمر و عثمان و علي و غيرهم رجل اكثر إحسانا إلى الناس قبل الإسلام و بعده بنفسه و ماله من أبي بكر كان
7
379
مؤلفا محببا يعاون الناس على مصالحهم كما قال فيه ابن الدغنة سيد القارة لما أراد إن يخرج من مكة مثلك يا أبا بكر لا يخرج و لا يخرج فإنك تحمل الكل و تقري الضيف و تكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق و في صلح الحديبية لما قال لعروة بن مسعود امصص بظر اللات أنحن نفر عنه و ندعه قال لأبى بكر لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك و ما عرف قط إن أحدا كانت له يد على أبي بكر في الدنيا لا قبل
7
380(188/269)
الإسلام و لا بعده فهو أحق الصحابة وما لأحد عنده من نعمة تجزى فكان أحق الناس بالدخول في الآية و أما علي رضي الله عنه فكان للنبي صلى الله عليه و سلم عليه نعمة دنيوية و في المسند لأحمد أن أبا بكر رضي الله عنه كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولني إياه و يقول إن خليلي امرني أن لا أسال الناس شيئا و في المسند و الترمذي وأبي داود حديث عمر قال عمر امرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم اسبق أبا بكر إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أبقيت لأهلك فقلت مثله قال و اتى أبو بكر بكل ما عنده فقال ما أبقيت لأهلك قال أبقيت لهم الله و رسوله فقلت لا أسابقك إلى شيء أبدا فأبو بكر رضي الله عنه جاء بماله كله و مع هذا فلم يكن يأكل من أحد لا صدقة و لا صلة و لا نذرا بل كان يتجر و يأكل من كسبه و لما
7
381(188/270)
ولي الناس و اشتغل عن التجارة بعمل المسلمين أكل من مال الله و رسوله الذي جعله الله له لم يأكل من مال مخلوق و أبو بكر لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم يعطيه شيئا من الدنيا يخصه به بل كان في المغازي كواحد من الناس بل يأخذ من ماله ما ينفقه على المسلمين و قد استعمله النبي صلى الله عليه و سلم و ما عرف انه أعطاه عمالة و قد أعطى عمر عمالة و أعطى عليا من الفيء و كان يعطي المؤلفة قلوبهم من الطلقاء و أهل نجد و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار لا يعطيهم كما فعل في غنائم حنين و غيرها و يقول إني لأعطي رجالا و ادع رجالا و الذي ادع احب إلي من الذي أعطي أعطى رجالا لما في قلوبهم من الجزع و الهلع و أكل رجالا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى و الخير و لما بلغه عن الأنصار كلام سألهم عنه فقالوا يا رسول الله أما ذوو الرأي منا فلم يقولوا شيئا و أما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا و يتركنا و سيوفنا تقطر من دمائهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم أفلا ترضون إن يذهب الناس بالأموال و ترجعوا إلى رحالكم برسول الله فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به قالوا بلى يا رسول
7
382(188/271)
الله قد رضينا قال فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله و رسوله على الحوض قالوا سنصبر و قوله تعالى و سيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى و لسوف يرضى استثناء منقطع و المعنى لا يقتصر في العطاء على من له عنده يد يكافئه بذلك فان هذا من العدل الواجب للناس بعضهم على بعض بمنزلة المعاوضة في المبايعة و المؤاجرة و هذا واجب لكل أحد على كل أحد فإذا لم يكن لأحد عنده نعمة تجزى لم يحتج إلى هذه المعادلة فيكون عطاؤه خالصا لوجه ربه الأعلى بخلاف من كان عنده لغيره نعمة يحتاج إن يجزيه لها فإنه يحتاج أن يعطيه مجازاة له على ذلك و هذا الذي ما لأحد عنده من نعمة تجزى إذا أعطى ماله يتزكى فانه في معاملته للناس يكافئهم دائما و يعاونهم و يجازيهم فحين أعطاه الله ماله يتزكى لم يكن لأحد عنده من نعمة تجزى
7
383
و فيه أيضا ما يبين أن التفضيل بالصدقة لا يكون إلا بعد أداء الواجبات من المعاوضات كما قال تعالى و يسألونك ماذا ينفقون قل العفو و من تكون عليه ديون و فروض و غير ذلك أداها و لا يقدم الصدقة على قضاء هذه الواجبات و لو فعل ذلك فهل ترد صدقته على قولين معروفين للفقهاء و هذه الآية يحتج بها من ترد صدقته لأن الله إنما أثنى على من اتى ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى فإذا كان عنده نعمة تجزى فعليه إن يجزيها قبل إن يؤتي ماله يتزكى فإما إذا آتى ماله يتزكى قبل إن يجزيها لم يكن ممدوحا فيكون عمله مردودا لقوله عليه الصلاة والسلام من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد الثالث انه قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال ما نفعني مال كمال أبي بكر و قال إن أمن الناس علينا في صحبته و ذات يده أبو بكر بخلاف علي رضي الله عنه فإنه لم يذكر عنه النبي
7
384(188/272)
صلى الله عليه و سلم شيئا من إنفاق المال و قد عرف إن أبا بكر اشترى سبعة من المعذبين في الله في أول الإسلام و فعل ذلك ابتغاء لوجه ربه الأعلى لم يفعل ذلك كما فعله أبو طالب الذي أعان النبي صلى الله عليه و سلم لأجل نسبه وقرابته لا لأجل الله تعالى و لا تقربا إليه و إن كان الأتقى اسم جنس فلا ريب انه يجب أن يدخل فيه اتقى الأمة و الصحابة خير القرون فأتقاها اتقى الأمة وأتقى الأمة إما أبو بكر وإما علي وإما غيرهما و الثالث منتف بالإجماع و علي إن قيل انه يدخل في هذا النوع لكونه بعد أن صار له مال اتى ماله يتزكى فيقال أبو بكر فعل ذلك في أول الإسلام وقت الحاجة إليه فيكون اكمل في الوصف الذي يكون صاحبه هو الأتقى و أيضا فالنبي صلى الله عليه و سلم إنما كان يقدم الصديق في المواضع التي لا تحتمل المشاركة كاستخلافه في الصلاة و الحج و مصاحبته وحده في سفر الهجرة و مخاطبته و تمكينه من الخطاب و الحكم والإفتاء بحضرته و رضاه بذلك إلى غير ذلك من الخصائص التي يطول وصفها
7
385
و من كان اكمل في هذا الوصف كان اكرم عند الله فيكون احب إليه فقد ثبت بالدلائل الكثيرة إن أبا بكر هو اكرم الصحابة في الصديقية و افضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون و من كان اكمل في ذلك كان افضل و أيضا فقد ثبت في النقل الصحيح عن علي انه قال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر و عمر و استفاض ذلك و تواتر عنه و توعد بجلد المفتري من يفضله عليه و روي عنه انه سمع ذلك من النبي صلى الله عليه و سلم و لا ريب أن عليا لا يقطع بذلك إلا عن علم و أيضا فإن الصحابة اجمعوا على تقديم عثمان الذي عمر افضل منه و أبو بكر افضل منهما و هذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع و تقدم بعض ذلك و لكن ذكر هذا لنبين إن حديث الطير من الموضوعات فصل قال الرافضي التاسع ما رواه الجمهور انه أمر الصحابة
7
386(188/273)
بان يسلموا على علي بإمرة المؤمنين و قال انه سيد المسلمين و إمام المتقين و قائد الغر المحجلين و قال هذا ولي كل مؤمن بعدي و قال في حقه إن عليا مني و أنا منه أولى بكل مؤمن و مؤمنة فيكون علي وحده هو الإمام لذلك و هذه نصوص في الباب و الجواب من وجوه أحدها المطالبة بإسناده و بيان صحته و هو لم يعزه إلى كتاب على عادته فإما قوله رواه الجمهور فكذب فليس هذا في كتب الأحاديث المعروفة لا الصحاح و لا المساند و لا السنن و غير ذلك فإن كان رواه بعض حاطبي الليل كما يروي أمثاله فعلم مثل هذا ليس بحجة يجب اتباعها باتفاق المسلمين و الله تعالى قد حرم علينا الكذب وأن نقول عليه ما لا نعلم و قد تواتر عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار الوجه الثاني أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث
7
387
و كل من له أدنى معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب موضوع لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث في كتاب يعتمد عليه لا الصحاح و لا السنن و لا المساند المقبولة الثالث أن هذا مما لا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه و سلم فإن قائل هذا كاذب و النبي صلى الله عليه و سلم منزه عن الكذب و ذلك إن سيد المسلمين و إمام المتقين و قائد الغر المحجلين هو رسول الله صلى الله عليه و سلم باتفاق المسلمين فان قيل علي هو سيدهم بعده قيل ليس في لفظ الحديث ما يدل على هذا التأويل بل هو مناقض لهذا لأن افضل المسلمين المتقين المحجلين هم القرن الأول و لم يكن لهم على عهد النبي صلى الله عليه و سلم سيد و لا إمام
7
388(188/274)
و لا قائد غيره فكيف يخبر عن شيء بعد إن لم يحضر و يترك الخبر عما هو أحوج إليه و هو حكمهم في الحال ثم القائد يوم القيامة هو رسول الله صلى الله عليه و سلم فمن يقود علي و أيضا فعند الشيعة جمهور المسلمين المحجلين كفار أو فساق فلمن يقود و في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال وددت إني قد رأيت إخواني قالوا اولسنا إخوانك يا رسول الله قال انتم أصحابي و إخواننا الذين لم يأتوا بعد قالوا كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله قال أرأيتم لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم إلا يعرف خيله قالوا بلى يا رسول الله قال فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء و أنا فرطهم على الحوض الحديث فهذا يبين إن كل من توضأ و غسل وجهه و يديه و رجليه فإنه من الغر المحجلين و هؤلاء جماهيرهم إنما يقدمون أبا بكر و عمر و الرافضة لا تغسل بطون أقدامها و لا أعقابها فلا يكونون من المحجلين في الأرجل و حينئذ فلا يبقى أحد من الغر المحجلين يقودهم و لا يقادون
7
389(188/275)
مع الغر المحجلين فإن الحجلة لا تكون إلا في ظهر القدم وإنما الحجلة في الرجل كالحجلة في اليد و قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال ويل للأعقاب و بطون الأقدام من النار و معلوم إن الفرس لو لم يكن البياض إلا لمعة في يده أو رجله لم يكن محجلا و إنما الحجلة بياض اليد أو الرجل فمن لم يغسل الرجلين إلى الكعبين لم يكن من المحجلين فيكون قائد الغر المحجلين بريئا منه كائنا من كان ثم كون علي سيدهم و إمامهم و قائدهم بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم مما يعلم بالاضطرار انه كذب وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يقل شيئا من ذلك بل كان يفضل عليه أبا بكر و عمر تفضيلا بينا ظاهرا عرفه الخاصة و العامة حتى أن المشركين كانوا يعرفون منه ذلك و لما كان يوم أحد قال أبو سفيان و كان حينئذ أمير المشركين أفي القوم محمد أفي القوم محمد ثلاثا فقال النبي صلى الله عليه
7
390(188/276)
و سلم لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن آبي قحافة أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاثا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن الخطاب أفي القوم ابن الخطاب ثلاثا فقال النبي صلى الله عليه و سلم لا تجيبوه فقال أبو سفيان لأصحابه أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه إن قال كذبت يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء و قد بقي لك ما يسوءك وقد ذكر باقي الحديث رواه البخاري و غيره فهذا مقدم الكفار إذ ذاك لم يسأل إلا عن النبي صلى الله عليه و سلم وأبي بكر و عمر لعلمه و علم الخاص و العام إن هؤلاء الثلاثة هم رؤوس هذا الأمر وأن قيامه بهم و دل ذلك على انه كان ظاهرا عند الكفار إن هذين وزيراه و بهما تمام أمره و أنها أخص الناس به و إن لهما من السعي في إظهار الإسلام ما ليس لغيرهما و هذا أمر كان معلوما للكفار فضلا عن المسلمين و الأحاديث الكثيرة متواترة بمثل هذا و كما في الصحيحين عن ابن عباس قال وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون له و يثنون عليه و يصلون عليه قبل إن يرفع و أنا فيهم فلم يرعني إلا برجل قد اخذ بمنكبي من ورائي فالتفت فإذا هو علي فترحم على عمر و قال ما خلفت أحدا
7
391(188/277)
احب إلي إن ألقى الله بمثل عمله منك وأيم الله إن كنت لأظن إن يجعلك الله مع صاحبيك و ذلك أني كثيرا ما كنت اسمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول جئت أنا و أبو بكر و عمر و دخلت أنا و أبو بكر و عمر و خرجت أنا و أبو بكر و عمر فإن كنت لأرجوا إن يجعلك الله معهما فلم يكن تفضيلهما عليه و على أمثاله مما يخفى على أحد و لهذا كانت الشيعة القدماء الذين أدركوا عليا يقدمون أبا بكر و عمر عليه إلا من الحد منهم و إنما كان نزاع من نازع منهم في عثمان و كذلك قوله هو ولي كل مؤمن بعدي كذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم بل هو في حياته و بعد مماته ولي كل مؤمن و كل مؤمن وليه في المحيا و الممات فالولاية التي هي ضد العداوة لا تختص بزمان وأما الولاية التي هي الإمارة فيقال فيها والي كل مؤمن بعدي كما يقال في صلاة الجنازة إذا اجتمع الولي و الوالي قدم الوالي في قول الأكثر و قيل يقدم الولي فقول القائل علي ولي كل مؤمن بعدي كلام يمتنع نسبته إلى
7
392
النبي صلى الله عليه و سلم فإنه إن أراد الموالاة لم يحتج ان يقول بعدي و إن أراد الإمارة كان ينبغي أن يقول وال على كل مؤمن و أما قوله لعلي أنت مني و أنا منك فصحيح في غير هذا الحديث ثبت انه قال له ذلك عام القضية لما تنازع هو و جعفر و زيد ابن حارثة في حضانة بنت حمزة فقضى النبي صلى الله عليه و سلم بها لخالتها و كانت تحت جعفر و قال الخالة أم و قال لجعفر أشبهت خلقي و خلقي و قال لعلي أنت مني و أنا منك و قال لزيد أنت أخونا و مولانا و في الصحيحين عنه انه قال إن الأشعريين إذا أرملوا في السفر أو نقصت نفقة عيالاتهم بالمدينة جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد فقسموه بينهم بالسوية هم مني و أنا منهم فقال للاشعريين هم مني و أنا منهم كما قال لعلي أنت مني و أنا منك و قال لجليبيب هذا مني و أنا منه فعلم إن هذه اللفظة لا تدل على الإمامة و لا على أن من قيلت له كان هو افضل الصحابة
7(188/278)
393
فصل قال الرافضي العاشر ما رواه الجمهور من قول النبي صلى الله عليه و سلم إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله و عترتي أهل بيتي و لن يفترقا حتى يردا علي الحوض و قال أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا و من تخلف عنها غرق و هذا يدل على وجوب التمسك بقول أهل بيته و علي سيدهم فيكون واجب الطاعة على الكل فيكون هو الإمام و الجواب من وجوه أحدها أن لفظ الحديث الذي في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فقال أما بعد أيها الناس إنما أنا بشر يوشك ان يأتيني رسول
7
394
ربي فأجيب ربي و إني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى و النور فخذوا بكتاب الله و استمسكوا به فحث على كتاب الله و رغب فيه ثم قال و أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي و هذا اللفظ يدل على إن الذي امرنا بالتمسك به و جعل المتمسك به لا يضل هو كتاب الله وهكذا جاء في غير هذا الحديث كما في صحيح مسلم عن جابر في حجة الوداع لما خطب يوم عرفة وقال قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عنى فما انتم قائلون قالوا نشهد انك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس اللهم اشهد ثلاث مرات وأما قوله وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض فهذا رواه الترمذى وقد سئل عنه احمد بن حنبل فضعفه
7
395(188/279)
وضعفه غير واحد من أهل العلم وقالوا لا يصح وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على أن أهل بيته كلهم لا يجتمعون على ضلالة قالوا ونحن نقول بذلك كما ذكر القاضي أبو يعلي وغيره ولكن أهل البيت لم يتفقوا ولله الحمد على شيء من خصائص مذهب الرافضة بل هم المبرؤون المنزهون عن التدنس بشيء منه وأما قوله مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح فهذا لا يعرف له إسناد لا صحيح ولا هو في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها فإن كان قد رواه مثل من يروي أمثاله من حطاب الليل الذين يروون الموضوعات فهذا ما يزيده وهنا الوجه الثاني إن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن عترته أنها والكتاب لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض وهو الصادق المصدوق فيدل على إن اجماع العترة حجة وهذا قول طائفة من أصحابنا وذكره القاضي في المعتمد لكن العترة هم بنو هاشم كلهم ولد العباس وولد علي وولد الحارث بن عبد المطلب وسائر بني أبي طالب وغيرهم وعلي وحده ليس هو العترة وسيد العترة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين ذلك إن علماء العترة كابن عباس وغيره لم يكونوا يوجبون اتباع علي في كل ما يقوله ولا كان علي يوجب على الناس طاعته في
7
396(188/280)
كل ما يفتي به ولا عرف أن أحدا من أئمة السلف لا من بنى هاشم ولا غيرهم قال انه يجب اتباع علي في كل ما يقوله الوجه الثالث أن العترة لم تجتمع على إمامته ولا أفضليته بل أئمة العترة كابن عباس وغيره يقدمون أبا بكر وعمر في الإمامة والأفضلية وكذلك سائر بنو هاشم من العباسيين والجعفريين واكثر العلويين وهم مقرون بإمامة أبي بكر وعمر وفيهم من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي واحمد وغيرهم أضعاف من فيهم من الإمامية والنقل الثابت عن جميع علماء أهل البيت من بني هاشم من التابعين وتابعيهم من ولد الحسين بن علي وولد الحسن وغيرهما انهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر وكانوا يفضلونهما على علي والنقول عنهم ثابتة متواترة وقد صنف الحافظ أبو الحسن الدارقطني كتاب ثناء الصحابة على القرابة وثناء القرابة على الصحابة وذكر فيه من ذلك قطعة وكذلك كل من صنف من أهل الحديث في السنة مثل كتاب السنة لعبد الله ابن احمد و السنة للخلال و السنة لابن بطة والسنة للآجري واللالكائي والبيهقي وابن ذر الهروي والطلمنكي وابن حفص بن شاهين و أضعاف هؤلاء الكتب التي يحتج هذا بالعزو إليها مثل كتاب فضائل الصحابة للإمام احمد ولأبي نعيم وتفسير الثعلبي وفيها من
7
397(188/281)