إذا عرفت هذا فاعلم أن هذا المعترض يرى أن عباد القبور والصالحين الذين أشركوا بالله رب العالمين ، وجعلوا لله أندادا ونظراء فيما يستحقه على عباده من الحب والخضوع ، والتعظيم . والدعاء رغبا ورهبا . والتوكل والإنابة والاستغاثة ، والذبح والنذر والحلف ، وغير ذلك من أنواع العبادة هم من الأمة أهل الإجابة والقبلة ، وأنهم من هذه الفرق المذكورين في هذا الحديث . والشرك عنده لا وجود له إلا في اليهودية والنصرانية والمجوسية أو من جحد جميع ما جاء بها لرسول عنادا . وما عداه من المكفرات التي ذكرها أهل العلم في أبواب الردة ، بل ذكرها الله في كتابه وقررها هو ، وبينها رسوله أتم بيان ووضحها أظهر توضيح ، لا توجب الكفر عنده ولا الردة . ومن بلغت به الجهالة والضلالة إلى هذا الحد والغاية فقد سقط الكلام معه . والأولى به أن يساس بما يساس به القرمطي والسفسطائي ونحوهم ممن يكابر في اليقينات ، ويقرمط في السمعيات .
فما هو إلا الوحي أو حد مرهف
*
تزيل ظباه أخذعي كل مائل
فهذا دواء الداء من كل عاقل
*
وهذا دواء الداء من كل جاهل
ويقال لهذا الملحد : ما تقول في الغالية الذين حرقهم علي ابن أبي طالب رضي الله عنه بشهد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أهم من الاثنتين والسبعين فرقة أم لا ؟ وما تقول في مانعي الزكاة الذين قاتلهم الصديق وأجمع الصحابة على تكفيرهم ، أهم من الاثنتين والسبعين فرقة أم لا ؟ وكذلك بنو حنيفة وبنو عبيد القداح ملوك مصر والمغرب فإن دخلوا في الاثنتين والسبعين فرقة بطل تأسيسك وانهدم أصلك الفاسد . وإن لم يدخلوا كما هو الصحيح بطل إدخالك أمثالهم من عباد القبور في مسمى الأمة في هذا الحديث وثبت أن من الفرق من يخرج عن الملة ويرتد بما خالف فيه من نحلته .
فصل(175/307)
قال المعترض : وقال أيضا في الفرقان بعد كلام له سبق : فكيف إذا بلغ الأمر ببعض الناس إلى أن يضلل غيره ويكفره . فإذا كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين ، فليس كل من أخطأ يكون كافرا ولا فاسقا ولا عاصيا ، بل عفا الله بهذه الأمة من الخطأ والنسيان ، وفي كتاب الله في دعاء الرسول والمؤمنين : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وفي الصحيح : ( أن الله تعالى قال قد فعلت ) اهـ .
والجواب أن يقال : هذه الطامة أكبر من أختها . فإنها تقتضي أن عباد القبور والأوثان الذين كفرهم شيخنا رحمه الله مسلمون مؤمنون مغفور لهم خطؤهم ونسيانهم . هذا معتقد المعترض ، ولذلك ساق كلام أبي العباس محتجا به على ضلالته .
وهذا في الحقيقة تسجيل منه على أن كل من كفر عباد القبور والصالحين بعبادتهم غير الله وإشراكهم في خالص حقه . فقد كفر مسلما على خطأ مغفور له والمكفرون بمثل هذه الأشياء كافة أهل العلم من أهل الإسلام ، بل وجميع الرسل يكفرون بهذا وقد حكى الإجماع غير واحد على كفر هذا المصنف .
قال شيخ الإسلام أبو العباس ، فيما نقله عنه أكابر أصحابه وأعيان أهل مذهبه : من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعا .
قال شارحه : لأنه فعل عابدي الأصنام ، قائلين : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } وذكره ابن حجر الشافعي في ( الأعلام بقواطع الإسلام ) راضيا به مقررا له .
وأبواب الردة يستفتحها الفقهاء بذكر الشرك في الربوبية والإلهية .
إذا عرفت هذا عرفت أن هذا المعترض خرج عن إجماع المسلمين بحكمه بإسلام هؤلاء المشركين ، وأنه خطأ أهل الإسلام كافة ، بل لازمه أنه خطأ من كفرهم من سائر رسل الله الكرام . والنزاع بيننا وبين هذا وأمثاله إنما هو في عبادة الأولياء والصالحين الذين عدلوهم بربهم وسووهم به في خالص حقه ، وشبهوهم وهم عباده به في استحقاق الإلهية والعبادة .(175/308)
وكل هذه العبارات التي يحتج بها من كلام أهل العلم خارجة عن محل النزاع ، أجنبية عنه . وهذا الشيخ الذي يشير إليه هذا بالرد قد شرح كتابه بزعمه وأثنى عليه ومدحه ليروج بذلك باطلة ، ويتمكن من الإقامة بين أظهر المسلمين ، فنعوذ بالله من زيغ القلوب ورين الذنوب .
فصل
قال المعترض : وقال شمس الدين ابن القيم ، لما أتى على مسألة التكفير : اعلم أن الكفر والإيمان متقابلان ، إذا زال أحدهما خلفه الآخر . قال : ولما كان الإيمان أصلا له شعب متعددة ، وكل شعبة فيه تسمي إيمانا . فالصلاة والزكاة والصيام والحج والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل والخشية من الله تعالى والإنابة حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق ، وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزواله ، كالشهادتين . ومنها ما لا يزول بزواله . إلى أن قال : وكذلك الكفر ذو أصل وشعب كما أن الإيمان أصله الشهادتان ، فإن أصل الكفر الجحود لهما ، فكما أن شعب الإيمان إيمان فشعب الكفر كفر . إلى أن قال : وهاهنا أصل آخر ، وهو أنه لا يلزم من قام به شعبة من شعب الكفر أن يسمى كافرا ، وإن كان ما قام به كفر . إلى أن قال : فمن صدر منه خصلة من خصال الكفر فلا يستحق اسم كافر على الإطلاق . لأن معه أصل الإيمان ، وهما الشهادتان . إلى أن قال : وهاهنا أصل آخر ، وهو أن الكفر نوعان : كفر عمل وكفر جحود وعناد فكفر الجحود أن يكفر بما علم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء به من عند الله تعالى ، جحودا وعنادا منه . فهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه وأما كفر العمل فينقسم إلى ما يضاد الإيمان ، وإلى ما لا يضاد الإيمان ، فالسجود للصنم ، والاستهانة بالمصحف ، وقتل النبي وسبه ، يضاد الإيمان .(175/309)
وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعا . فالحاكم بغير ما أنزل الله كافر ، وتارك الصلاة كافر بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن كفر عمل لا كفر اعتقاد وعناد ، وقد نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر ، وعمن لم يأمن جاره بوائقه ، فهو كافر من جهة العمل ، وأن انتفى عنه كفر الجحود والاعتقاد وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ) ا هـ .
فقد نص رحمه الله أن الكفر لا يكون إلا جحودا أو عنادا . فهذا الذي يخرج عن الملة فمتى يكون هذا في الأمة ، وما سوى ذلك له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير تكفير وقتال . كما يفعل هذا الرجل بالأمة .(175/310)
والجواب أن يقال : هذا المعترض له حظ وافر من تحريف النصوص والكذب فيها . وكلام شمس الدين رحمه الله في هذه المسألة معروف مشهور ، جار على مذهب السلف وأهل العلم في التكفير بكثير من الأقوال والأفعال الباطنة والظاهرة ، ولا ينازع في تكفير من عبد غير الله . أشرك بربه ، وكلامه في هذه العبارة صريح في ذلك وقد ساقها مستدلا بها على كفر تارك الصلاة . والمعترض حرف العبارة وأسقط منها ما هو حجة عليه ، وما لا يستقيم الكلام بدونه . فأسقط من أول العبرة قوله : " ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق وبينهما شعب متفاوتة تفاوتا عظيما ومنه ما يلحق شعبة الشهادة ، ويكون إليها أقرب " فأسقط هذا لأنه صريح في التكفير بدعاء غير الله والشرك به ، وأن ما قارب هذا الأصل يكون كفرا ، ويلحق به وهذا عين كلام الشيخ بل شيخنا رحمه الله لم يكفر إلا بترك العمل بشهادة أن لا إله إلا الله ، وباتخاذ الآلهة والأنداد مع الله . وقد نص في هذه العبارة المنقولة أن هذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزواله كالشهادتين ، وهذه هي مسألة النزاع . فإن من شهد لله بالوحدانية ولم يلتزم ذلك ولم ينقد لمقتضاه ، لا يكون مؤمنا. وكذلك شهادة أن محمد رسول الله لا بد فيها من التزام ما جاء به : من الإيمان بالله وتوحيده ، وإلا فلا تنفعه هذه الشهادة ، ولا يسمى شاهدا قال تعالى : { إذ جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } فأكذبهم في زعمهم ، لأنهم لم يعلموا بمقتضى الشهادة ، بل خالفوها بالعمل والاعتقاد ، فلو تفطن فيما نقله هذا المعترض لعرف أنه عليه لا له ، وأن شيخنا أسعد بكلام أهل العلم والإيمان ممن أجاز دعاء الأموات والغائبين والالتجاء إليهم من دون الله رب العالمين .(175/311)
وكذلك قوله " الكفر ذو أصل وشعب " فهذا حق . وشيخنا لم يكفر إلا بأصل الكفر لا بشعبه ، مع أن هذا الكلام من المعترض نفاق ومغالطة ، وإلا فقد صرح في مواضع مما مر بأن أهل هذا الشرك هم خير أمة أخرجت للناس ، وهم أهل المساجد والمنار ، وهم الذين أمرنا أن نسأل الله الهداية إلى صراطهم . فكيف يرجع هنا إلى عبارة لابن القيم فيها التفصيل بين أصول الكفر وسائر شعبه ؟ وهل هذا إلا محض التناقض والتدافع ؟.
وقد أسقط من كلام شمس الدين قوله رحمه الله تعالى : كذلك من شعب الإيمان الفعلية ما يوجب زوالها زوال الإيمان ، وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية . فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختيارا ، وهي شعبة من شعب الكفر ، كذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه ، كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف اهـ . وهذا صريح في مسألة النزاع ، لكن حذفه المعترض المحرف ، لبساً للحق بالباطل ، وترويجا لباطلة ولياً بلسانه .
وقال ابن القيم في هذا الأصل : فالكفر كفران ، والظلم ظلمان ، والفسوق فسقان والجهل جهلان ، والشرك شركان : شرك ينقل عن الملة وهو الشرك الأكبر وشرك لا ينقل عن الملة وهو الشرك الأصغر : شرك العمل ، كالرياء . قال الله تعالى في الشرك الأكبر : { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار } وقال : { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } وقال في شرك الرياء : { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } ومن هذا الشرك الأصغر قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من حف بغير الله فقد أشرك ) رواه أبو داود وغيره . ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه من الملة ولا يوجب له حكم الكفار . ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل ) اهـ .(175/312)
ثم قال رحمه الله تعالى : ثم انظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم والجهل إلى ما هو كفر ينقل عن الملة وإلى ما لا ينقل عنها وكذلك النفاق نفاقان ، نفاق اعتقاد ونفاق عمل ، وكل هذا أسقطه المعترض لأنه يدفع في صدره ويرد باطله وترويجه .
ويقال أيضا : ما نقلته عن شمس الدين ابن القيم حجة لنا عليك ، مع ما فيه من التحريف والحذف واللبس .
من ذلك قوله : " ولما كان الإيمان أصلا له شعب " فهذه لنا لأن النزاع في أصل الإيمان الذي هو شهادة أن لا إله إلا الله ، والكلام في التزامها والعمل بمقتضاها. وأما بقية الشعب فليس من مسألة النزاع ولا يكفر بترك بعض الشعب التي هي دون الأصل وأركانه إلا من يكفر بالذنوب كالخوارج . فهؤلاء يحسن الرد عليهم بمثل هذا النقل . وأما من لم يكفر إلا بترك أصل الإيمان الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله فالرد عليهم بكلام ابن القيم مجرد هوس وخيلاء خرجت بصاحبها عن موضوع الكلام .
وقد تقدم أنه قال : وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزواله كالشهادتين . وقد نقله هذا المعترض ، ومن المعلوم أن المقصود زوال حقيقة الشهادتين علما وعملا أو قولا . لا زوال مجرد القول واللفظ . كما فهمه هذا الغبي .
وكذلك قوله : " وهاهنا أصل آخر وهو أنه لا يلزم من قام به شعبة من شعب الكفر أن يسمى كافرا وإن كان ما قام به كفر لأن معه أصل الإيمان وهما الشهادتان " وهذه العبارة لنا لأنا لا نكفر بترك ما دلت عليه الشهادتان مطابقة أو تضمنا ، وما عدا ذلك لم نكفر به .
فظهر أن شمس الدين ابن القيم رحمه الله قد قرر في نقل المعترض وكرر التكفير وزوال الإيمان بترك الشهادتين ، ولكن هذا الجاهل المعترض يظن أن المقصود ترك اللفظ فقط . وهذا من كثافة جهله وعدم علمه ، وقلة ممارسته ، وبعده عن صناعة العلم فالحمد لله الذي أخزاه وكبته في مماته ومحياه .(175/313)
وكذلك في نقله أن الكفر نوعان كفر عمل وكفر جحود وعناد ، وكفر الجحود أن يكفر بما علم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء به من عند الله جحودا وعنادا منه . فهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه .
هذا نقله ومن عرف ما جاء به الشيخ ودعا إليه من توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة والبراءة من كل معبود سواه ، وعرف أن هذا أصل الأصول وأكبر القواعد ، وأظهر الشعائر ، وأن القرآن من أوله إلى آخره دال عليه ، آمر به مقرر له محتج عليه مبين له ، وأن الآيات والبراهين على صحته وظهوره أظهر من الشمس في الظهيرة ، عرف حينئذ أن من رده وأباه واستمر على اتخاذ الوسائط والشفعاء والأنداد يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم من غير التفات إلى حجج الله وبيناته من أعظم الناس جحودا وعنادا وأغلظهم كفرا وفسادا ، وإن كفر هذا الصنف ملحق بكفر أهل الجحود والعناد ، ولكن غلبة الجهل وكثافة الفهم وغلظة الطبع ، واعتياد الشرك وظلمة الكفر حجب كثيفة حالت بين هؤلاء القوم وبين عرفة الكفر والإيمان ، والتوحيد والإشراك . فالتبس الأمر عليهم ، وصاروا يحتجون على أهل الإسلام بما هو عليهم لا لهم . وفى المثل ( أريها السّهى وتريني القمر ) ولما نزل قوله تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصبُ جهنم أنتم لها واردُون } قال ابن الزبعرى : اليوم أخصم محمداً . ظناً منه أن قياس الأولى يجري هنا ، لم يعرف ما بين الأصل والفرع من الفرق في علة الحكم ومناطه ، بل ظن بجهله أن الاشتراك في العبادة هو العلة .(175/314)
ولذلك قاس قياس الأولى ، والأمر ليس كذلك . فأنزل الله تعالى : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون . لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون } وروى بعضهم في ذلك حديثا الله أعلم به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : ( ما أجهلك بلغة قومك ) ما : لما لا يعقل . لك يشكل على هذا ما قرره العلامة ابن القيم رحمه الله من أن ابن الزبعرى إنما أراد إلحاق الحكم بالنظير وإجراء العلة مجراها لا أنه خفي عليه موضوع ( ما ) وإن صح الحديث فهو صريح في رد ما قاله على كلا التقديرين . وتقرير شمس الدين ابن القيم رحمه الله يشير إلى أن أصل الحديث ثابت عنده . وهو كذلك كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وشمس الدين حجة في النقل .
والمقصود بهذا تحقيق المشابهة بين المعترض وأسلافه ممن يعترض على كتاب الله ورسله وأوليائه . وحجتهم بحمد الله داحضة ، لكن ربما جر شأن شئونا .
إذا عرفت هذا فقول المعترض في آخر نقله : فمتى يكون هذا في الأمة ؟ . يشير إلى كفر الجحود والعناد . وهذه القولة صريحة في استبعاد وقوع هذا وحصوله في الأمة كما دل عليه حديث ثوبان وغيره ، وظاهر هذا : إن ما حدث من بني حنيفة والأسود العنسي والمختار ابن أبي عبيد ، وسائر أهل الردة والقرامطة والعبيديين ملوك مصر ، والتتر الذين يتلفظون بالشهادتين ، ومنهم من يصلي ، وغلاة القدرية والجهمية والرافضة والجبرية وأمثالهم ، ونظراؤهم وأشباههم ممن يتكلم بالشهادتين ، وينتسب إلى الإسلام . لا يقع منهم كفر الجحود والعناد أبداً وإنما هو كفر عمل لا يخرج عن الملة ، له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، من غير تكفير وقتال على زعم هذا المفتري وهذه الفضيحة والخزية القبيحة الدالة على محله من العقل والدين كافية في رد أباطيله ودحض أساجيله .
فليهن من ذكرنا من أعداء الرسل هذا الحكم القاسط الجائر المخالف لجميع كتب الله ، المناقض لسائر رسله .(175/315)
ومن العجب خفاء هذا الجهل على كثير ممن ينتسب إلى الإسلام ممن يخالط هذا الجاهل وأمثاله ، ويسمع لهم . ومن أعرض عن كتاب الله ولم يكن له حظ من نور الوحي وضياء الرسالة فهو مستعد لقبول ما أوحته الشياطين إلى أوليائها من الجهل والعمى ، والضلال عن سبيل الرشاد والهدى .
فصل
قال المعترض : وقال زين الدين بن رجب رحمه الله تعالى : ومن المعلوم بالضرورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل من كل من جاء يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط ، ويعصم بذلك دمه ، ويجعله مسلما . وقد أنكر على أسامة قتله لمن شهد أن لا إله إلا الله لما رفع عليه السيف ، واشتد نكيره . ثم بين رحمه الله أنه إذا كان مسلما بالشهادتين ألزم حقوق الإسلام إلى أن قال : وبهذا الذي قررنا يظهر الجمع بين ألفاظ الأحاديث في هذا الباب ، ويتبين أن كلها حق فإن كلمتي الإخلاص بمجردهما تعصمان من أتى بهما ويصير بذلك مسلما هذا عين كلامه انتهى .
إذ لولا أنه يكون مسلما بهما لم يلزم شرائع الإسلام ، ولم يجبر عليها . فإن الكافر لا يجبر على شرائع الإسلام . وإن كان على قولنا مخاطبا بها ، إلا أنها لا تصح منه لعدم شرطها ، لأن من شرط صحة شرائع الإسلام ، تقدم الشهادتين . ومن جعل شرائع الإسلام مع الشهادتين شرطا لدخول الإسلام وصحته ، وأنه لا يكون مسلماً إلا بذلك كهذا الرجل ، فقد أبعد النجعة وخالف ما عليه سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، وسلفه الصالح وسلك طريق الابتداع بتكفير الأمة على أصل هذا المذهب الخبيث .(175/316)
وسيأتي من شبه هذا الرجل من كلامه : أنه عين كلامه كما ستراه عنه بعينه . وبما ذكرنا يعلم اختلاف الخليفتين الراشدين رضي الله عنهما في قتال مانعي الزكاة أنه ليس على كفره بالمنع ، بل هل يباح دمه بمنعه أم لا ؟ فسلم بعد ذلك الفاروق للصديق . ولهذا اتفق أهل المذاهب الأربعة في كتبهم أنه لا يجوز قتال مانع الزكاة إلا لمن يفعل بإخراجها كفعل الصديق والخلفاء الراشدين ، بأن يخرجها في أصنافها الثمانية أو ما وجد منها . ومن لم يفعل ذلك فنصوا على تحريم قبضه لها ، فضلا عن أن يقاتل عليها ، مع أن قبضه لها بهذه الحالة مبرئ لدافعها بطلبه ، توفيراً للسمع والطاعة ، واجتماع الكلمة ، ووزرها على قابضها. وبهذا يتبين قول أهل السنة والجماعة وأن أعمال الجوارح يزيد بها الإيمان وينقص . حتى لا يبقى في قلب الإنسان إلا أدنى مثقال حبة خردل من إيمان ، كما في صحيح البخاري من حديث أنس رضي الله عنه بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حتى يخرج جل وعلا من قال لا إله إلا الله ، كما مر ذكره ذكرناه في كتابنا غسل الدرن .
والجواب أن يقال : إن الله تعالى وتقدس وعد رسله والذين آمنوا أن ينصرهم في ( الحياة الدنيا ) ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ومن نصر الله تعالى لأوليائه وعباده المؤمنين ولشيخنا رحمه الله تعالى خذلان أعدائهم ، وعدم تسديدهم ، وتهافت أقوالهم وما كساها من الظلمة والتناقض والتدافع ، والوحشة التي يعرفها من سلمت فطرته ، وصح إسلامه فضلا عن أهل العلم بشرعه ودينه . فلربنا الحمد ، لا نحصي ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه .(175/317)
ويقال لهذا : قد حرفت عبارة زين الدين بن رجب وتصرفت فيها ، وأخرجتها عن موضوعها ، وأزلت بهجتها : من ذلك قولك عنه : عنه يقول : ومن المعلوم بالضرورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل من كل من جاء يريد الدخل في الإسلام الشهادتين فقط . وقد نزه الله العلامة ابن رجب وأمثاله عن أن يظنوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يقبل مجرد القول من غير التزام لحقيقته ، ولا عمل بمدلوله ، وعبارة ابن رجب تدل على أنه يبدأ بالتوحيد في الدعوة والطلب ، ولا يقبل قبله عمل من الأعمال . والمقصود من في الدعوة والطلب ، ولا يقبل قبله عمل من الأعمال . والمقصود من الشهادتين ما دلتا عليه من البراءة من كل معبود سوى الله ، وانه هو المعبود وحده لا شريك له ، والإيمان بالرسل ، والتزام متابعتهم . هذا هو مدلول الشهادتين . وهو الذي دلت عليه عبارة ابن رجب وشيخنا رحمه الله أصل دعوته وجهاده على هذا ، وعلى ترك عبادة الصالحين من الأموات والغائبين ، ودعائهم مع الله رغبا ورهبا ، والتوجه إليه والاستغاثة بهم في الشدائد والملمات ، كما كانت تفعله الجاهلية فهذا الذي جاهد شيخنا عليه ، ودعا الناس إلى تركه ، وأخبرهم أن الإيمان بالله يناقض هذا ويبطله فعبارة ابن رجب تشهد لهذا الشيخ بالعلم والمتابعة ، خلافا لما توهمه بعض الجهال والضلال من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقبل مجرد القول واللفظ ، مع ارتكاب ما ينافيه ويناقضه .(175/318)
ومراد ابن رجب : أن من أظهر الإسلام وتكلم بالشهادتين ولم يأت منه ما ينافيها يحكم بإسلامه ، ويؤمر ببقية الشرائع . وقد ذكر ابن رجب بعد عبارته : أن من شرائع الإسلام ما يقاتل عليه ويكفر تاركه . فدل كلامه على أن التزام أركان الإسلام باعتقاد وجوبها شرط لصحة الإسلام وقبوله في الدار الآخرة . وأما الأحكام الدنيوية فتجرى على من أظهر الإسلام ظاهرا . فإن ظهر منه ما ينافي ذلك حكم عليه بما يقتضيه هذا المنافي من تكفير أو قتال . وهذا هو الذي دل عليه حديث أسامة وغيره من الأحاديث الدالة على الكف عمن أتى بالشهادتين .
ودعواك أن ابن رجب قال : يقبل من كل من جاء يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط . دعوى كاذبة ، وآحاد العقلاء يتنزه عن هذه العبارة . لأن معنى " فقط " لا غير " . وحينئذ فمدلولها أنه لا يقبل بقية الشرائع من الأركان الإسلامية والشعب الإيمانية . ولا يظن هذا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من له عقل يميز به ولو كافرا . فضلا عن أهل العلم والإيمان .
وأما قولك : ومن جعل شرائع الإسلام مع الشهادتين شرطا لدخول الإسلام وصحته وأنه لا يكون مسلما إلا بذلك ـ كهذا الرجل ـ فقد أبعد النجعة ، وخالف ما عليه سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وسلفه الصالح إلى آخر ما قلت .
فهذا القول منك صريح في مخالفة عبارة ابن رجب التي هي مرتبطة بما نقلته ، وشرط إلتزام الشرائع والمباني الإسلامية مجمع على اعتباره في الإسلام المنجي في الدار . وكلام ابن رجب الذي ساقه بعد العبارة التي ذكرها المعترض صريح في هذا فإنه قرر ما يقاتل عليه من الشرائع وما يقتل به الفرد المعين . وذكر شيئا مما يكفر به وذكر الخلاف في تكفير من ترك أحد المباني . وأما من ترك التوحيد الذي دلت عليه شهادة أن لا إله إلا الله فقد اتفق العلماء على كفره ووجوب قتله إن أصر وعاند .(175/319)
وقال شيخ الإسلام تقي الدين ، لما سئل عن قتال التتر مع تمسكهم بالشهادتين ، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة ، المتواترة من هؤلاء القوم أو غيرهم ، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه ، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين ، ملتزمين بعض شرائعه ، كما قاتل أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة . وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم بعد سابقة مناظره عمر لأبي بكر رضي الله عنهم . فاتفق الصحابة على القتال على حقوق الإسلام ، عملا بالكتاب والسنة . وكذلك ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج والأمر بقتالهم ، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة ، مع قوله : ( تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم ) فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال . فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله ، وحتى لا تكون فتنة ، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب ، فأيما طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج ، أو عن التزام تحريم الدماء أو الأموال أو الخمر أو الزنا أو الميسر ، أو نكاح ذوات المحارم ، أو عن التزام جهاد الكفار ، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب ، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين ، أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها التي يكفر الواحد بجحودها ، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها ، وإن كانت مقرة بها ، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء ، وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن ، كركعتي الفجر ، أو الأذان أو الإقامة ، عند من لا يقول بوجوبها ، ونحو ذلك من الشعائر ، فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا ؟ فأما الواجبات أو المحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف في القتال عليها ، وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام أو(175/320)
الخارجين عن طاعته ، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين أو خارجون عليه لإزالة ولايته ، وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة ، وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي رضي الله عنه . ولهذا افترقت سيرته رضي الله عنه في قتاله لأهل البصرة وأهل الشام ، وفي قتاله لأهل النهروان . فكانت سيرته مع البصريين والشاميين سيرة الأخ مع أخيه ومع الخوارج بخلاف ذلك ، وثبتت النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما استقر عليه إجماع الصحابة من قتال الصديق رضي الله عنه لمانعي الزكاة ، وقتال علي للخوارج . انتهى كلامه رحمه الله .
وقال أيضاً في الرسالة السنية : فإذا كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه من مرق عن الإسلام مع انتسابه إلى الإسلام والسنة ، ففي هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام . وذلك بأسباب :(175/321)
منها : الغلو الذي ذمه الله تعالى في كتابه ، حيث قال : { يا أهل الكتاب لا تغلوا قي دينكم } وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة وأمر بأخاديد خُدت لهم عند باب كندة وقذفهم فيها . واتفق الصحابة على قتلهم ، لكن ابن عباس رضي الله عنه مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق . وهذا قول أكثر العلماء ، وقصتهم معروفة . وكذا الغلو في بعض المشائخ ، بل الغلو في علي بن أبي طالب بل الغلو في الشيخ عدي ونحوه ، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعاً من الإلهية ، مثل أن يقول يا سيدي فلان أنصرني ، وأغثني وأرزقني ، وأجبرني ، أو أنا في حسبك ونحو هذه الأقوال . فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل . فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتاب ليعبد وحده لا يجعل معه إله آخر ، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق ، أو تنزل المطر، أو تنبت النبات ، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم يقولون : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلفى } { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } فبعث الله رسوله ينهى أن يدعى أحد من دونه ، لا دعاء عبادة ولا دعاء استعانة ، وذكر آيات في المعنى تبين هذه القاعدة العظيمة التي ضل بالجهل بها من ضل ، وشقي بإهمالها من شقى .
وأما ما زعمه من مخالفة شيخنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وسلفه الصالح .(175/322)
فلو كان لهذا المعترض عقل يميز به وعلم يدري به ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تكفير من عبد غير الله ، واتخذه معه الآلهة والأنداد ، وسوى بينهم وبين تعالى وتقدس في الحب والتعظيم ، والإنابة والتوكل والدعاء ، لعرف أنه هو المخالف لما كان عليه سائر رسل الله وأتباعهم إلى يوم القيامة ، وأنه يجادل ويناضل عن عاد وثمود وقوم نوح وقوم فرعون وجاهلية العرب ، وأمثالهم من الأمم الذين كذبوا الرسل ولم يتسجيبوا لهم ، ولم يلتفتوا إلى ما اختلفوا له ، وهذا الصنف من الناس هم أول من اخترع الشرك وابتدع في دين الله، وهم الذين أصلوا الأصول الخبيثة التي مقتضاها العدل بربهم وتسوية غيره به ، ومعاداة أوليائه وحزبه، ونسبتهم إلى ما لا يليق بهم وهذا هو حقيقة الخبث والرجس والفساد ، قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } وزعيمهم الذي يناضل عنهم ويجادل دونهم هو أخبثهم على الإطلاق قال تعالى : { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار } .
وأما جعله شيخنا رحمه الله ممن يشترط الشرائع الإسلامية في الدخول فيه فهذا باطل ، إنما تشترط المباني ونحوها في صحة الإسلام ، لا في الدخول فيه ، وشيخنا رحمه الله لم يقل هذا الذي زعمه هذا المعترض ، بل هو من جهله وإفكه وضلاله وبهته ، والنزاع إنما هو في شهادة أن لا إله إلا الله ، ولم يمتنع أحد من التزام الإسلام في زمن الشيخ محمد رحمه الله عن شيء من شعائر الإسلام وأركانه ، حتى يقال : أنه لم يقبل منه الدخول في الإسلام .
فهو رحمه الله وإن قاتل على ترك أحد المباني فلم يقل : لا نقبل الإسلام ابتداءً إلا بها ، ولكن هذا البهت لا يستغرب مع جهالة هذا الرجل ، وعدم شعوره بشيء من الحقائق الدينية .(175/323)
وأما قول المعترض : وبما ذكرنا يعلم اختلاف الخليفتين في قتال مانعي الزكاة أنه ليس على كفره بالمنع ، بل هل يباح دمه بمنعه أم لا ؟ فسلم بعد ذلك الفاروق للصديق .
فيقال لهذا الغبي الجاهل : ما وقع من عمر رضي الله عنه من التوقف في قتال مانعي الزكاة واستدلاله بالحديث على ترك القتال لا يدل على أنه يرى إسلام تارك الزكاة، وقد ثبت عنه أنه صرح بتكفير تارك الحج ولم يقتله . فمسألة القتال لا تستلزم تكفيراً . والتكفير لا يستلزم القتال مطلقا . هذا باعتبار أصل الخلاف وقد سلم الفاروق للصديق والتزم ما ذهب إليه الصديق من وجوب القتال . وصارت المسألة اجماعية ، وإذا أجمعوا على القتال فما المانع من التكفير ؟ وقد تقدم كلام شيخ الإسلام في تكفير مانعي الزكاة وأن الصحابة لم يفرقوا في التكفير والقتال بين من جحد الوجوب وبين من منعها ولم يؤدها ، مع اعترافه بالوجوب .
وقال أبو العباس رحمه الله أيضاً في الكلام على كفر مانع الزكاة : والصحابة لم يقولوا : هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد لها ؟ هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة بل قال الصديق لعمر رضي الله عنهما : والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلهم على منعها . فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب .
وقد روي أن طوائف كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها ، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعهم سيرة واحدة ، وهي قتل مقاتلتهم ، وسبي ذراريهم ، وغنيمة أموالهم والشهادة على قتلاهم بالنار . وسموهم جميعهم أهل الردة . وكان من أعظم فضائل الصديق عندهم أن ثبته الله عند قتالهم ولم يتوقف كما توقف غيره فناظرهم حتى رجعوا إلى قوله . وأما قتال المقرين بنبوة مسيلمة الكذاب فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم . انتهى .
وأما قوله : ولهذا اتفق أهل المذاهب الأربعة في كتبهم أنه لا يجوز قتال مانع الزكاة إلا لمن يفعل بإخراجها كفعل الصديق .(175/324)
فيقال : من عرف جهل هذا الرجل وعدم أمانته فيما ينقله ويحكيه عن الآحاد فضلاً عن الاتفاق والإجماع لم يلتفت إلى قوله ولم يصغ له ولا يعتد به إلا جاهل لا يدري ما الناس فيه . وهذه العبارة كذب بحت لم يتفقوا ولم يجمعوا بل اتفقوا على خلافها . وأن أئمة الإسلام يجب عليهم قتال مانع الزكاة حتى يؤديها . وعليهم في ذلك أن يعملوا بالمشروع . وهذا مجمع عليه . وقد حكى الإجماع عليه ابن حزم وابن هبيرة في كتابيهما في الإجماع . ومذهب الحنابلة الذي ينتسب إليه هذا المعترض : صريح في وجوب القتال على ذلك . كما يعلمه من وقف على كلامهم فدعوى هذا الرجل كاذبة خاطئة مع ما في هذه العبارة من اللحن .
فإن المذاهب والاتفاق عليها يعزى إلى الرجال والقائلين بها لا إلى الكتب . وباب العدد من الثلاثة إلى العشرة تلزم مذكرة التاء . وقد حذفها هذا الغبي الذي يترشح لمعرفة العربي .
وقوله : فنصوا على تحريم قبضه لها فضلاً عن أن يقاتل عليها . تقدم جوابه .
فصل
قال المعترض : وروى الإمام أحمد بسند صحيح عن ابن عمر وابن ماجة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : خيرت بين الشفاعة لأمتي وبين أن يدخل شطر أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكفى ، ترونها للمؤمنين المتقين ؟ لا ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين . وهل هذا الحديث إلا يفيد أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أعطى الشفاعة لقوله : ( خيرت فاخترت ) وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( شفاعتي لأهل الكبار من أمتي ) رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم عن أنس .(175/325)
والجواب أن يقال : ساق هذا المعترض ما ساقه من أحاديث الشفاعة ومراده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعا ويرجى ، وتطلب منه الشفاعة بعد موته - صلى الله عليه وسلم - ويريد أن من منع ذلك فقد أخطأ وضلل الأمة وخطأهم بغير حق . هذا مراده . فسبحان من طبع على قلبه حتى انعكس عليه الأمر وصار يفهم من النصوص والألفاظ النبوية خلاف ما دلت عليه . فإن من دعا غير الله وأشرك به ، وتعلق على الأنبياء والملائكة والصالحين وجعلهم منتهى طلبه وغاية قصده ، أو سوى بينهم وبين الله في خالص حقه ليس داخلاً في الحديث ، وليس مراداً به ، لأن لفظ الأمة في مقام المدح والوعد لا يدخل فيهم أهل الشرك بالله الذين سووا بينه وبين غيره ، وعدلوا بربهم وأنابوا إلى سواه واعتمدوا على غيره ، كحل عباد القبور الذين هم محل النزاع بيننا وبين هؤلاء الضلال . وكونه - صلى الله عليه وسلم - اختار الشفاعة أو أعطى الشفاعة لا يدل على أنه يقصد لها ويدعى لها بعد موته . فإن أصل الشرك هو دعاء الأموات والاستغاثة بهم ، وفرق بين حال الحياة وحال الممات .
يوضح هذا أن أعلم الخلق به وبدينه وهديه - صلى الله عليه وسلم - لم يطلب أحد منهم بعد موته - صلى الله عليه وسلم - منه شيئاً لا شفاعة ولا غيرها بل نهوا عن استقبال القبر حال الدعاء ، فكيف بدعائه - صلى الله عليه وسلم - ؟ ومنعوا المسلم أن يصلي إلى القبر خشية الفتنة . فأحاطوا قبره الشريف بجدار مثلث لئلا يصل أحد إليه ، وسيرتهم في قبور أصحابه وصالحي أمته كذلك ينهون عن الدعاء عندها والصلاة وعن قصدها لشيء من ذلك ، وعن رفعها واعتياد المجيء إليها بحيث تكون كالعيد الذي يعتاد في وقت معين هذه سيرتهم .(175/326)
وعباد القبور ومن نصرهم وحمل لواءهم ـ كهذا المعترض الضال ـ يحرف أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويلحد في معانيها ويقودها إلى مذهب أهل الشرك والضلال . وقد صانها الله عن أن تدل على دعاء غيره وعبادة سواه ، ولكن نبأ مستقر وسوف تعلمون .
والشفاعة قد صحت أحاديثها وتواترت ولكنها لا تدل بحمد الله على ما ذهب إليه المغالون المخالفون المبدلون لدين الله ، الداعون للأموات والغائبين ، السالكون سبيل سلفهم من الجاهلية المشركين من الكتابيين والأميين . فإنهم تعلقوا على أندادهم ودعوهم مع الله لأجل الجاه والشفاعة وأنهم قد أعطوا الشفاعة . كما حكى الله ذلك عنهم بقوله : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شُفعاؤُنا عند الله } وقال تعالى : { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى زلفى } ولهذا نطق القرآن بإبطال هذه الشفاعة التي ظنها المشركون وتعلقوا بها قال تعالى : { أم اتخذوا من دون الله شُفعاء قُل أو لو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون . قُل لله الشفاعة جميعاً لهُ ملك السموات والأرض } وقال تعالى : { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } وأصح الأقوال في هذه الآية : أن الاستثناء يرجع إلى المشفوع فيهم ، وأن الشفاعة لا تكون إلا لمن كان من أهل التوحيد ، ومن معه أصل الإيمان المنافي للشرك ودعاء غير الله . ويستدل على هذا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قلت : من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله ؟ قال : ( أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه ) فدعاء الله وحده وإسلام الوجه له هو السبب الأعظم في نيل الشفاعة وحصولها . ولو كان المشفوع فيه متلوثاً بالذنوب والخطايا . فإن حسنة التوحيد لا يقاومها ما دون الشرك من السيئات . ونجس الشرك لا يبقى معه شيء من الحسنات .(175/327)
وأما قوله : وهل هذا الحديث إلا يفيد أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أعطى الشفاعة وملكها كما يملك سائر الخلق ما أعطوا من النعم الدنيوية والأملاك الآدمية ؟ .
فهذا من أعظم الجهل وأقبحه . فإن معنى الإعطاء ليس كما يظنه هؤلاء الضلال . بل معناه : أن الله سبحانه وتعالى يأذن له في شفاعة ، ويعين له من يشفع فيهم ، ويحد له حدا معيناً . هذا ما دلت عليه الأحاديث . وهذا مما يدل المؤمن على كمال ربوبية فاطر السموات والأرض ، وأن ما توهمه المشركون من الشفاعة لا وجود له ، ولا يعلم سبحانه له وجودا أصلا . ومالا يعلم تعالى وجوده فهو منتف مستحيل الوجود ، وجبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت الأرحام وأمثالهم من أكابر رسل الله وأوليائه قد أعطوا ما أعطوا من الأمور المهمة والتدابير العظيمة ، أفيقال : أن الله ملكهم فنسألهم ما ملكهم الله ، كما هو لازم قول هذا الضال وإخوانه من المشركين . وهذا عين الشرك بالله والكفر برسله ، ورد ما جاءوا به من توحيده وعبادته . والمعترض وإخوانه من أبعد الخلق عن معرفة الله ، ومعرفة دينه ، وما جاءت به رسله ، ولذلك سرى إليهم الشرك وزينه الشيطان ، لخلوا أذهانهم وخراب قلوبهم من معرفة دين الله وشرعة .
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
*
فصادف قلبا خاليا فتمكنا
... ...
فصل
قال المعترض : في حد أنواع الشفاعة قال : حتى تناول أهل المعروف عليه والحماية من الكفار الذين استحقوا الخلود في النار على التأييد ، بالتخفيف عنهم من العذاب . وإنما قصدنا بما ذكرنا التنبيه على الاغترار وحماية الأمة وعلمائها عما يقول هذا الرجل وينتحله فيها من تكفيرها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير .
وجوابه أن يقال : قوله : حتى تناول أهل المعروف عليه والحماية . عبارة جاهلية عامية صدرت عن أحمق لا يدري شيئا من حقوق المصطفى عليه وعلى آله وأصحابه أفضل الصلاة والسلام .(175/328)
وما ذكر من التخفيف إنما ثبت في حق أبي طالب لأنه كان يحوط النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحميه من أذى المشركين . ولكن لا ينبغي أن يقال : له معروف عليه . وما فعل المسلمون معه - صلى الله عليه وسلم - من إيمان به وتصديق له أو حياطة ونصره . فالمنة فيه لله ورسوله . قال تعالى : { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } وكذلك من نصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يؤمن به كأبي طالب فإن الله تعالى لا يضيع عمل عامل ، ولو بمجازاته في الدنيا . فالمعروف حينئذ والمنة لله ورسوله ، خلافا لما قاله هذا الغبي الجاهل بحق الله وحق رسله .
وأما قوله : وإنما قصدنا بما ذكرنا التنبيه عن الاغترار وحماية الأمة وعلمائها إلى آخر ما قال .
فيقال في جوابه : قصد التنبيه لا يمنع خطأ من أتي به وادعاه . فقد يقصد التنبيه عن الاغترار أكفر الخلق وأضلهم ، كفرعون الذي قال : { ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل لكم دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد } وقال الرب سبحانه عنه أنه قال : { ما رأيكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } وقال تعالى عن أهل مسجد الضرار : { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون } وأما قوله : وحماية الأمة وعلمائها من تكفيرها بغير علم .(175/329)
فقد تقدم لك أنه حمى عباد القبور الداعين للأموات والغائبين ، الذين يعدلون بربهم ، ويسوون بينه وبين غيره ، ويشبهون الأنداد والمخلوقين بالله رب العالمين . وهم في اصطلاح هذا الرجل علماء الأمة وخيارها . كما أن الرافضة يرون أن من كفرهم ومقتهم وعاب دينهم . فقد عاب خيار الأمة ، وطعن على أهل البيت وتبرأ منهم ، ويسمون أهل السنة الناصية ، وهذا المعترض من هذا الضرب من الناس ، ما عرف الأمة ، ولا عرف العلم والعلماء ، بل هو في ضلالة عمياء ، وجهالة صماء ، لم يستفد من نور الوحي ما يستضيء به في حنادس الظلمات . عياذا بالله من هذه الجهالات والضلالات والأمة في عرفة كل من دعا الأنبياء والملائكة والصالحين ، وجعلهم واسطة بينه وبين الله رب العالمين ، لحاجاته الدنيوية والأخروية .
فصل
قال المعترض : وقد قال القرطبي المالكي رحمه الله : ليس قوله تعالى : { أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } بموجب أن يكفر الإنسان ، وهو لا يعلم . فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان كذلك لا يكون المؤمن كافرا من حيث لا يقصد للكفر ولا يختاره بالإجماع انتهي كلامه .
وهذا معنى ما ذكره مغلطاي في كتاب الإيمان من شرح البخاري : ولهذا عبارة جميع الفقهاء في باب حكم المرتد يقولون : وكل مسلم ارتد وهو مكلف مختار .
وذكر العلماء من أصحابنا في باب إخراج الزكاة في زاد المسافر وشرحه للشيخ منصور : فإن منعها ؛ أي الزكاة جحدا لوجوبها . كفر عارف بالحكم . وكذا جاهل عرف فعلم وأصر . انتهى .
وقد ذكر لي من يسترشد عمن يدعى من أعيان هؤلاء القوم ممن أتحاشى عن تسميته : أنه خطأ الشيخ منصور وصاحب المتن الذي أصله مقنع موفق الدين بن قدامه العمري العدوي القرشي من شجرة مباركة بل هو حامل لواء المذهب . فالحكم لله العلي الكبير .
فالجواب أن يقال : كل ما أبدى هذا المعترض حجة من جهلياته وضلالاته أنسانا ما قبلها من خزعبلاته وخرافاته .(175/330)
وحاصل دعواه في هذا الفصل : أنه لا يكفر إلا من عرف وعلم واختار الكفر على الإيمان . ومن دعا الأموات والغائبين وجعلهم وسائط بينه وبين الله في حاجاته وملماته لا يكفر بذلك . لأنه لا يعلم أنه كفر ولا يختار الكفر .
فيقال لهذا : قد رجعت عن قولك الأول . فإنك جعلتهم خير أمة أخرجت للناس ومن أهل العلم والدين ، وأن الرسول قد أعطى الشفاعة ، وأن من سأله ـ كالبوصيري ـ مثاب مصيب ، وأن عباد القبور هم أهل لا إله إلا الله ، وأنها تنفعهم وتعصم دماءهم وأموالهم ، وإن عبدوا القبور . فكيف ترجع هنا وتحتج بأنهم لا يعلمون ؟ .
ثم هو احتجاج فاسد في نفسه . ما عرف مورده معناه ، وما أريد منه ، فإن المقصود أن يعلم مراد المعلم والمنبه والمرشد ، ويعرف ذلك ، وليس المقصود أن يتبين له الصواب في نفس الأمر . فإن كثيرا من أهل النار ما عرفوا الحق في الدنيا ولا تبين لهم . قال تعالى : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا . الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } والآية بعدها . وقال تعالى : { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين . وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون } وقال تعالى : { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا } وقال : { كذلك ربنا لكل أمة عملهم } وغير ذلك من الآيات الدالة على أنهم لم يعرفوا الكفر ولم يتصوره ، والذين ؟: { قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } لم يعرفوا كفرهم وضلالهم .(175/331)
وأما كلام القرطبي : فهو في رفع الصوت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو وأمثاله من السيئات التي تحبط الأعمال وصاحبها لا يشعر ، وأما من أتي بمكفر وقامت الحجة عليه ، فلا شك في كفره ، وترك الانقياد للحجة والدليل وداعي الحق يقتضي إيثار الكفر واختياره وقصده ، لا أنه لا يكون مختارا قاصدا إلا إذا علم أنه كفر ، وارتكبه مع العلم بأنه كفر ، هذا لا تقتضيه عبارة القرطبي ولا تدل عليه ، ولو دلت عليه فلا حاجة فيها والآيات القرآنية والأحاديث النبوية تدل على أن من قامت عليه الحجة حكم عليه بمقتضاها من كفر أو فسق ، وفي الحديث : ( أن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ، ما يلقي لها بالا لا يظن أن تبلغ ما بلغت ، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه ، وأن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالا ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه ) وحديث الذين قالوا : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء : أرغب بطونا ، ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء . نزل فيهم قوله تعالى : { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } والحجة ليست في كلام القرطبي بإجماع المسلمين . وإنما يحتج بالكتاب والسنة والإجماع .
ثم القرطبي قد قال في شرح أسماء الله الحسنى مالا يستجيزه من عقل عن الله وعن رسوله ، وعرف ما كان عليه سلف الأمة في ذلك الباب ولا يبعد أن المعترض حرف عبارة القرطبي على عادته في التحريف ، وكذلك ما ذكره المعترض عن مغلطاي هو من هذا الباب ، إن صح نقله .
ثم ما معني العدول عن كلام الله وكلام رسوله ، مع أن هذه المسألة في الكتاب والسنة وكلام الأئمة أشهر من أن تذكر . فأي حجة والحالة هذه في كلام أحاد الناس ، مع أنه عليه لا له ؟ وآفته الفهم السقيم .
وقوله : عبارة جميع الفقهاء في باب حكم المرتد يقولون : وكل مسلم ارتد وهو مكلف مختار .(175/332)
فمرادهم : أن أفعاله تقع عن اختيار وقصد ، لا أنه يختار أن يكفر مع العلم بأن ما فعله كفر . هذا سوء فهم وعدم فقه .
وأما من فعل مكفرا وهو غير مكلف ولا مختار ، كالصغير والمجنون ونحوهما أو لم تبلغه الحجة الرسالية . فهذا لا يحكم عليه بالردة .
ثم لو يسلم له هذا الزعم تسليما جدليا . فشيخنا لا يكفر إلا بعد التعريف بالحكم الشرعي وقيام الحجة . فكلام المعترض ساقط هالك على كل تقدير وعبارة زاد المسافر ، هي من هذا الباب : إذا جحد الوجوب عارف بالحكم أي حكم الوجوب . يكفر بذلك ، وكذلك الجاهل . يعني بوجوبها إذا بلغه الوجوب وأصر بعده وليس المقصود أن يعرف أنه كفر ولم يقصد الشيخ منصور أن من جحد الوجوب للزكاة أو غيرها من الأركان لا يكفر إلا إذا عرف أنه كفر . هذا لا تقتضيه عبارته . بل المقصود أن يعرف الوجوب .
وأما ما نقله عن بعض الأعيان أنه خطأ الشيخ منصور وصاحب المتن . فيقال : قد تقدم بيان كذب المعترض في النقل ، وقررنا أنه من أهل الوضع والافتراء فنقوله موقوفة حتى يأتي بشاهدي عدل يشهدان له .
ثم لو خطأ منصورا أو غيره ممن لم تثبت له العصمة ، وهو متأول في ذلك قاصد للحق ، ماذا يعاب عليه ؟ .
ولعل التخطئة وقعت في مفهوم هذا المعترض وأمثاله من الضلال الذين يقولون : لابد أن يعلم أن ما فعله كفر وردة . وهذا لم يقصده منصور . ولو قصده لتوجه منعه .(175/333)
وأما استعظامه الخطأ على الشيخ منصور البهوتي وصاحب المقنع فهذا من جهله . فإن الفضل لا يقتضي العصمة ولا يوجبها . قد يقع الخطأ من الفاضل ، كما يقع من المفضول . وقد قال مالك بن أنس رحمه الله : ما منا إلا راد ومردود عليه ، إلا صاحب هذا القبر . يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ومازال العلماء ينتقد بعضهم على بعض ، وينكرون الخطأ على قائله كائنا من كان . وهذا واضح بحمد الله ولازم هذا القول عيب أهل العلم برد ما خالف الدليل من أوال أهل الفضل والعلم . ففي الحقيقة هذا المعترض هو الذي طعن على أهل العلم من عهد النبوة إلى عصرنا هذا ولكنه لا يشعر ولا يدري ما تضمنه كلامه الغث .
فصل
قال المعترض : قال أبو الوفاء بن عقيل : نعوذ بالله أن نلزم إنسانا بلازم قول وهو يفر منه . انتهى .
وقد قال تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى } وقال في الآية الأخرى : { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى } وقال تعالى : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى } وقد مر التنبيه على ذلك . فهذا كتاب الله ينطق بالحق وكلام علماء الأمة أمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
والجواب أن يقال : هذا الكلام معناه أن الشيخ كفر باللازم . وهذا تناقض منه فقد تقدم له أن الشيخ كفر بنفس الأفعال الصادرة ممن يدعو الصالحين ، ويستغيث بهم ويسألهم فزعمه أنه يكفر باللازم نقض لما تقدم .
ويقال أي إنسان كفره الشيخ بلازم مذهبه ؟ وفي أي مسألة ؟ هذا لا يعرف عن الشيخ ولا صدر منه قط في حق واحد . فإيراده عبارة ابن عقيل هنا تكثر بما لا يجدي وتشبع بما ليس له . وهو كلابس ثوبي زور .(175/334)
وأما قول الله تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى } وما بعدها من الآيات ، فهو الحق الذي لا ريب فيه والهدى الذي لا ضلال يعتريه . والشأن كل الشأن في فهم خطابه وما دل عليه ، وما انطوى عليه من الأحكام والدلالات ، ليس المعنى ما زعمه هذا من أنه لا يكفر أحد حتى يتبين له الإيمان ويختار الكفر ، بل المراد عند أهل العلم بالتأويل أن من تبين له ما جاء به الرسول من الحجة والبيان ثم عاند وأصر وشاق الرسول ، ولو ظن إصابة نفسه كالخوارج : متوعد بهذا الوعيد العظيم في هذه الآيات الكريمات . وليس المراد أنه لا يكفر إلا هذا الصنف من الناس . وقد تقدم من الآيات الدالة على تكفير من زين له سوء عمله فرآه حسنا . ومن ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه محسن . وقد قال تعالى : { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين } .
وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى وغيره حال المقلدين لرؤساء الكفر من عامتهم وضعفائهم وجزموا بكفرهم ، كما دلت عليه الآيات المحكمات . قال تعالى : { ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين } الآيات ، وكذلك آيات إبراهيم (14 : 21 ) ( 2 : 165 – 170 ) ( 7 : 37-40 ) و (25 : 27 – 31 ) و (33 : 64 – 68 ) وغيرها من الآيات الدالة على تكفير الاتباع على ما هم فيه من الكفريات والضلالات .
وتقدم أن أكثر النصارى وجمهورهم والمجوس ونحوهم لم يتبين لهم كفرهم ، لكن يبين لهم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - جاء بخلافه ، وأنه كفرهم واستباح دماءهم وأموالهم وذراريهم .
وعلى زعم هذا الرجل ليسوا بكفار ، لأنه حصر الكفر في صنف واحد .(175/335)
وقد تقدم هذا ولكنه يكرر فنكرر الجواب ، ولولا ظهور هذه المسألة لذكرت من الآيات والأحاديث ، وكلام المفسرين ، كلام الفقهاء في تقسيم الكفار إلى أقسام ، ما يثلج الصدر ، وتقر به العين . ولكن أردت الاختصار في النقل وأرشدت الطالب . فمن أراد الوقوف على ذلك فهو سهل بحمد الله تعالى .
وفي كلام شمس الدين ابن القيم الذي قرره في طبقات المكلفين ، وما ذكره في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية على قوله تعالى : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة } الآيتين . ما يكفي المؤمن المسترشد . والله الهادي والمرفق .
وبهذا تعلم أن هذا المعترض من أبعد الناس عن فهم كلام الله ورسوله وكلام أهل العلم .
فصل
قال المعترض : قال أبو الوفاء بن عقيل في الفنون ، فيما نقله عنه ابن مفلح : قال معتزلي : لا مسلم إلا من اعتقد وجود الله وصفاته على ما يليق .فقلت له : لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهل ما صعبت ، فقنع من الناس بدون ذلك . ويقول للأَمة : ( أين الله ؟ ) فتشير إلى السماء . فيقول : ( إنها مؤمنة ؟ ) فتركهم - صلى الله عليه وسلم - على أصل الإثبات . إلى أن قال : إن من ذهب المعتزلة أن من خرج عن معتقدهم فليس بمؤمن ، وأن هذا ينعطف على السلف الصالح بالتكفير ، وإنا نتحقق أن أبا بكر وعمر وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم لم يكن إيمانهم على ما اعتقده أبو علي الجبائي وأبو هاشم فخجل المعتزلى . انتهى .
ولهذا لما قال الأعرابي للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه رأى هلال رمضان . كما عند الإمام أحمد وغيره قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ ) قال : نعم . فأمر - صلى الله عليه وسلم - مناديا ينادي بالصيام ) فاكتفى منه بالشهادتين . ولم يكلفه غيرهما لقبول قوله . فأخذ الإمام أحمد رحمه الله بهذا الحديث في دخول رمضان لخبر الواحد .(175/336)
والجواب أن يقال : مراد المعترض بنقل كلام ابن عقيل على ما فيه من التحريف : أنه ينبغي التسهيل للعامة وغيرهم ممن دعا الصالحين وصرف لهم ما يستحقه الله رب العالمين من العبادات والدين ، لأن النزاع في هذه المسألة . فاستدل عليها بقول ابن عقيل : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهل ما صعبت إلى آخره .
وهذا صريح في أن من كفر المشركين وقاتلهم وشدد في توحيد الله ، والنهي عن الشرك به : مخالف مخطئ ، قد شدد في السهل وصعب اللين . هكذا زعم هذا المعترض واستدل . والتشديد على المشرك وتكفيره وقتاله إذا أصر وعاند ليس من خواص الشيخ الذي اعترض عليه هذا . بل هو دين الرسل وطريقتهم ونحلتهم ، هم ومن اتبعهم إلى يوم القيامة . فعلى هذا يطرد الاعتراض ، ويقال : شددوا وصعبوا فيما ينبغي السهولة فيه .
فالاعتراض ليس خاصا بالشيخ ، بل طرده يفضي إلى ما ترى : وهل بعد هذا الجهل والضلال غاية ينتهي إليها الملحدون ؟ اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة .
ثم يقال لهذا الجاهل الجهل المركب : إنما كلام ابن عقيل مع معتزلي يعتقد ما اعتقدته المعتزلة في صفات الله ، على ما هو مقرر في معتقدهم . فأخبرهم ابن عقيل بأن من كلف العامة طريقة المعتزلة وما فيها من النفي المفصل ، فقد صعب السهل . لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اكتفى بالإيمان المطلق ، لما سأل الجارية . هذا ما قصد ابن عقيل .(175/337)
وأما المعترض فأراد أن المشرك الذي يسوي بين الله وبين غيره في خالص العبادة يسهل عليه ولا يشدد ، فسحقا للقوم الظالمين . قال الله تعالى : { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة } وقال تعالى : { فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم } وقال تعالى : { براءه من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ـ إلى قوله ـ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } وقوله تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلط عليهم ومأواهم جنهم وبئس المصير } وقال تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } والآيات في المعنى كثيرة فسبحان من ختم على قلوب هؤلاء الضلال ، حتى كابروا بالمجون والمحال .
وكذلك ما ذكره بعد ذلك من الاستدلال بشهادة الأعرابي ، يقال له : من رد شهادة الأعراب ؟ ومن الذي أفسد عقائد العامة ؟ والكلام فيمن أشرك بالله وسوى بينه وبين غيره ، فأين هذه المسألة من شهادة الأعرابي ؟ وأي جامعة بينهما لو كانوا يعلمون ؟ .
ثم في هذا الكلام بحث لا يعقله هذا الجاهل ، وذلك أن ابن عقيل أجابه بحسب ما عنده ، وإلا فعقيدة المعتزلة أفسد العقائد في هذا الباب وأضلها والواجب هو الإثبات الذي أقرت به الجارية ، اعتقده أهل العلم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان . وليس فوق ذلك غاية ينتهي إليها المؤمنون في هذا الباب ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقنع من أحد إلا بما يليق بجلال الله وعظمته ، وربوبيته وإلهيته .(175/338)
ومعلوم أنا لو جارينا هذا الكلام وسلمنا للمعتزلة ما هم عليه من الإلحاد والتعطيل للزم القدح في السلف ، فالحق الذي لا ريب فيه ما تلقاه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نبيهم ، واعتقدوه في ربهم ، وما عداه فهو محض ضلال وجهل ومحال ، ومن اعتقد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قنع من العامة في هذا الباب وغيره بما لا يحصل به الإيمان والسعادة والفلاح ، وأن الغاية العليا عند غيرهم من الخلوف والمتكلمين ، فهذا من أضل الناس وأبعدهم عن طريق الهدى ، وأسوأهم ظنا بربه وبنبيه - صلى الله عليه وسلم - وبسط هذا يطول ، وبهذا تعلم حال المعترض وأنه لا يدري ما يقول .
وأما قوله : أن من مذهب المعتزلة من خرج عن معتقدهم فليس بمؤمن .
يقال له : وعند الرسل أيضا إن من خرج عن معتقدهم فليس بمؤمن فإن رد مذهب الرسل لموافقة المعتزلة في تكفير المخالف . فهذا الكلام إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان .
فصل
قال المعترض : قال ابن عقيل : يا علماء السوء ، ما نقنع منكم بما أنتم عليه من تصاريفكم فإن طبيبا به مثل مرضي يضيق على الأغذية ولا يحتمي مشكوك في صدقه عندي ، فالحظوا حال من أنتم ورثته يا سباع يا قطاع الطريق . لا ترون إلا على مطارح الجيف . نبيكم - صلى الله عليه وسلم - قنع من المرأة بإشارتها إلى السماء ، وأنتم تشككون الناس في العقائد ، انفتح بكلامكم البثق العظيم . انتهى . وقد قال تعالى : { فأنذرتكم نارا تلظى . لا يصلاها إلا الأشقى . الذي كذب وتولى } قال المفسرون البغوي والجلال المحلي : كذب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتولي عن الإيمان انتهي . وهذا الاستثناء عند العلماء رحمهم الله تعالى من استثناء الحصر . والصلى هنا إنما هو المؤبد .(175/339)
والجواب أن يقال : كلام ابن عقيل إنما هو مع المتكلمين الذين أحدثوا بدعة الكلام والخوض في الجواهر والاعراض ، والحركة والسكون ، والكميات والكينيات ونحو ذلك من مقالات المتكلمين ، وتشبهاتهم التي أوجبت لكثير من الناس الشك في ضروريات الدين ، وبديهيات اليقين . فمن أخذ هذا واستدل به على رد قوله علماء الإسلام الذين أمروا بتوحيد الله وعبادته ، والكفر بالطاغوت من الأنداد والآلهة والكهان ونحوهم فهو من أسفه الناس وأجلهم بأمر الأديان وما جاءت به الرسل : من التوحيد والإيمان ومن أضلهم في عدم الفرق بين ما عليه أهل الإسلام مما عليه أهل المنطق والكلام . ولذلك رد على أهل التوحيد والإيمان بما رد به على المتكلمين من أهل منطق اليونان فظن أن البحث في التوحيد وتحقيقه . والنهي عن الشرك وسد ذرائعه ، وقطع وسائله . وتبين حقيقته . والفرق بين أصغره وأكبره هو من جنس أبحاث المتكلمين المخالفين للسلف في خوضهم في مسألة الجوهر والعرض ، وبقية المقولات العشر . ولذلك رد على المسلمين بما رد به ابن عقيل على المتكلمين . وذكر أن تحقيق التوحيد وذكر أصوله وفروعه وثمراته وبيان الشرك وذكر أصوله وفروعه ووسائله وذرائعه من جنس بدعة المتكلمين وانفتح بها البثق .
فقف هنا ، واعتبر واعرف بعد هذا الضرب من الناس عن طريق العلم والهدى واعرف ما تضمنه قوله تعالى : { إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } من الحكم الفصل الذي هو في غاية المطابقة لحال هؤلاء الضلال . ما رضي تعالى أن شبههم بالأنعام حتى قال : { بل هم أضل سبيلا } .
وأما كلام المعترض على قوله تعالى : { فأنذرتكم نارا تلظي } فمن أقبح الجهل ، وأبعده عن مظان الهدى ، وكلام المفسرين صحيح لا شك فيه .(175/340)
وأما مفهوم هذا المعترض : فمن أبطل الباطل ، وأمحل المحال وذلك أنه ظن أن من دعا الأولياء والصالحين واستغاث بهم وناداهم في حاجاته وملماته لا يدخل في هذه الآية ولا تتناوله وأي تكذيب وتول أعظم من رد النصوص الدالة على توحيد الله وردها بشبه القبوريين ، وهذيان المشركين ؟ فقوله وهذا الاستثناء عند العلماء من استثناء الحصر ، والصلى هنا إنما هو المؤبد كقوله تعالى : { فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق } فهذا كلام جاهل لا يعقل ما يقول فإن الصلى نوع ، والتأبيد نوع ولا تلزم بين الصلى والتأبيد بل التأبيد يلزم منه الصلى ولا يلزم من الصلى التأبيد . وقول بعضهم أن الصلى في الآية يراد به المؤبد ، لا يدل على التلازم . وإنما قالوه لتخصيص العموم المستفاد من الحصر . لقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فخصوه بالصلى المؤبد إشارة إلى أنه عام مخصوص ، أو عام أريد به على أصلها فلا يحتاج لما تقدم . ويكون الصلى نوع خاص من العذاب لا بمعنى الدخول . فتأمل .
واستدلاله بالآية الأخرى دليل على جهله بمعاني التنزيل . فإن في هذه الآية مقالا لأهل العلم وبحثا في الاستثناء الذي في هذه الآية وهو قوله : { إلا ما شاء ربك } لا يدريه أمثال هذا .
وأما قوله : فهذا من استثناء الحصر . فهذه عبارة جاهل باصطلاحهم .
والصواب أن يقال : من حصر المستثنى .
وأما قوله : فمتى يوجد في هذه الأمة من يكون قاصدا لتكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - مولياً عن الإيمان به مختاراً لذلك من عوامها فضلا عن علمائها ؟ .(175/341)
فجوابه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن هذه الأمة أنها تتبع سنن من كان قبلها . وتأخذ مأخذ القرون شبراً بشبر وذراعا بذراع حذو النعل بالنعل وحذو القذة بالقذة فأنتم أعلم أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ؟ فهذا يقع بلا شك فيهم من كذَّب وتولى . وفيهم من ألحد وبدل . وفيهم من كذب وافترى . وفيهم الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله . كحال هذا المفتري وفيهم من عبد العجل . بل فيهم من عبد سائر الموجودات ، وتأله جميع المخلوقات ، وهذا ظاهر مستبين ، تعرفه العامة فضلا عن الخاصة لكن المعترض وأمثاله ممن طبع الله على قلوبهم ، وصرفها عن معرفة الحق وإرادته . فهم في ظلمات الجهل والطبع والريب والهوى يترددون ، ويحسبون أنهم على شيء . فنعوذ بالله من الخذلان وتلاعب الشيطان .
فصل
قال المعترض : وقال أبو الوفاء ابن عقيل : واكمداه من مخالفة الجهال ، من أجل استماع ذي الجهالة للحق والإنكار له . ينفر قلبه من أدلة المحققين . فهم بهيمية في طبع جهال . فلا تزول جهالتهم بالمعالجة .
قال : وهل طاحت دماء الأنبياء والأولياء إلا بالذي مثل هؤلاء حيث رأوا من التحقيق ما ينكرون فصالوا لما قدروا وغالوا لما لم يقدروا . فهم بين قاتل للمتقين والمؤمنين ، مجاهرة إذا قدروا ، وغيلة إذا عجزوا . انتهى ملخصا .
قال المعترض : وقد صح عندنا أن هؤلاء في أثناء دعوتهم أتوا إلى المجمعة في ناحية سدير فدخلوها ليلا قبل أن يتولوا عليهم فأذنوا في أحد مساجدهم يطلبون قتل من جاء متقدما للصلاة في المسجد فجاءهم شياب من أهل الخير فقتلوهم في المسجد ، قال المزنى قال الشافعي : يا إبراهيم العلم جهل عند أهل الجهل كما أن الجهل جهل عند أهل العلم .
وأنشد :
ومنزلة الفقيه من السفيه
*
كمنزلة السفيه من الفقيه
فهذا زاهد في قرب هذا
*
وهذا فيه أزهد منه فيه(175/342)
إذا غلب الشقاء على السفيه
*
تنطع في مخالفة السفيه
والجواب أن يقال : لو كان هذا يدري ، ويفرق بين الجهل والعلم ، والحق والباطل ، والضلالة والهدى والغي والرشاد ، والصلاح والفساد لعرف أن كلام ابن عقيل ، وكلام الشافعي يتعين حمله على هذا المعترض وأمثاله الضالين عن الهدى ، الصادين عن طريق أهل العلم والتقى ، المستحلين لأعراض خيار الأمة وأئمتها الذين يأمرون بعبادة الله وحده لا شريك له ، ويدعون إلى ذلك وينهون عن الشرك به واتخاذ الأنداد معه ، والتسوية بينه وبين غيره ، فيما يستحقه على عباده ، ويختص به من العبادات الباطنة والظاهرة ، كالحب والخضوع ، والخوف والرجاء والاستعانة والاستغاثة ، الإنابة والتوكل ، والطاعة والتقوى ، وغير ذلك من أنواع العبادات والطاعات . فمن تأول كلام ابن عقيل وكلام الشافعي في ردهما على المتكلمين والسفهاء الذين يرغبون عن العلم والفقه في أئمة الهدى ومصابيح الدجى ، فهو من أضل البرية وأسفههم وأقلهم حظاً ونصيباً من العلم والهدى والحلم والنهى ، وهو كمن يتأول آيات التنزيل في أهل الشرك من الجاهلية ، فيمن خال بدعته ونحلته من المؤمنين المتقين ، كما جرى للخوارج وأمثالهم من الضالين .
وأما قوله : وقد صح عندنا أن هؤلاء أتوا إلى المجمعة في ناحية سدير ودخلوها ليلاً .. . إلى آخر عبارته .
فيقال له : قد صححت فيما مضى من المستحيلات والمفتريات وصوبت من الجهالات والضلالات ما يقضي بسقوط خبرك وإطراح تصحيحك ، وقد قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } وأين من يساعدك على صحة قولك ، وثبوت دعواك ؟ وقد جرى من أمثالك من المارقين ، ومن المبتدعة الضالين والكفرة المشركين من البهت والزور ما لا يحصى ، وفي الحديث : ( عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ) .(175/343)
ثم لو فرض أن هذا وقع من بعض أتباع الشيخ أينسب الخطأ إليه ، ويشنع به عليه وقد أخطأ أسامة بن زيد ، وأنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - خطأه ، ومن نسب خطأه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان . وكذلك خالد بن الوليد قتل بني جذيمة بعد أن قالوا : صبأنا ولم يحسنوا أن يقولوا : أسلمنا . فأنكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووداهم .
والشعر الذي أورده عن الشافعي رحمه الله تعالى قد غير فيه وبدل وأفسد معناه فقوله : وهذا فيه أزهد منه فيه . فقوله " فيه " الأولى زيادة ليست في كلام الشافعي ، يخرج الكلام من وزنه . وقوله في البيت الأخير :
إذا غلب الشقاء على السفيه
*
تنطع في مخالفة السفيه
كذا بخط المعترض . وصوابه في مخالفة " الفقيه " لا السفيه .
فصل(175/344)
قال المعترض : وقال الإمام أحمد رضي الله عنه : أنه يجب هجر من فسق أو كفر ببدعة أو دعا إلى بدعة مضلة أو مفسقة على من عجز عن الرد عليه أو خاف الاغترار به والتأذي . ذكره ابن مفلح : وقال القاضي أبو الحسين ، قال المروذي : قلت لأبي عبدالله ترى للرجل أن يشتغل بالصوم والصلاة ، ويسكت عن الكلام في أهل البدع ؟ فكلح على وجهه . وقال : إذا هو صلى وصام واعتزل الناس أهو لنفسه ؟ قلت بلى . قال : فإذا تكلم كان له ولغيره ؟ يتكلم أفضل . قال أبو طالب عن الإمام أحمد : كان أيوب يقدم الجريري على سليمان التيمي لأن الجريري كان يخاصم القدرية وأهل البدع . وروى الإمام أحمد عن أبى عقبة الخولاني رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم بطاعته ) وقال أبو الفرج الشيرازي من الأصحاب ، قال أحمد بن حنبل : إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه ، فإذا رأيته مع أصحاب البدع فايئس منه ، فإن الشاب مع أول نشأة . وقال أبو الفرج بن الجوزى لما ذكر أهل البدع من المعتزلة وغيرهم قال : الله الله من مصاحبة هؤلاء . ويجب منع الصبيان من مخالطتهم ، لئلا يشرب في قلوبهم من ذلك شيء . انتهى .
فلقد صدق ابن الحوزى رحمه الله . قال الشاعر :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
*
فصادف قلباً خالياً فتمكنا(175/345)
والجواب أن يقال : هذا المعترض لما غلبت عليه ظلمات الجهل والهوى ، والضلال عن سبيل الحق والهدى ، ظن أن من دعا إلى توحد الله ، ونهى عن الشرك به وألزم بأركان الإسلام وشرائعه ، مبتدع ضال . يدخل فيما نقل عن الأئمة من ذم أهل البدع وهجرهم . فلم يفرق بين أهل السنة وأهل البدع ، وأهل الشرك وأهل التوحيد ، وأهل البر وأهل الفجور . وقد خاصم بعض هؤلاء الحمقى رجلا عند بعض الأمراء . فقال : إنه ناصبي شيعي يسب علي ابن الخطاب ، ويمدح معاوية بن أبي طالب . فقال الأمير : لا أدرى على أى شيء أحسدك أعلى علمك بالمذاهب ، أو على معرفتك بالأنساب ؟ .(175/346)
وكذلك حال هذا الضال ، يجمع بين الأضداد ولا يعرف المقصود من الخطاب والمراد . فهو في ظلمات بعضها فوق بعض ، لما عفت آثار الإسلام ، وقل من يعرفه من الخاصة والعوام ، وصارت الغلبة لأمثاله من الجهال والطغام استغرب ما أبداه الشيخ العلم الإمام من أصول الملة وقواعد الإسلام ، وظن أنه من جنس بدع الرافضة والقدرية وأهل الكلام ، لأنه لا شعور له بحقيقة ما جاءت به الرسل ولا إلمام ، أولئك كالأنعام بل هم أضل ، من كل وجه ، حتى في المعارف والأفهام . أين من يقول : أعبدوا الله مالكم من إله غيره ، واتركوا ما أنتم عليه من دعاء الأحجار والأشجار والصالحين والأصنام ، ويجد للسنة ما اندرس من القواعد والأصول والأعلام ، ممن يدعو إلى إنكار القدر السابق ، وأن الله لم يخلق أفعال العباد من الأنام ؟ بل وأين هو ممن يرى رأي المعتزلة في سلب الصفات وإنكار ما جاءت به الآيات والأحاديث ويبالغ في الجدال والخصام وأين هو من رافضي يذهب إلى تضليل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويرى شتم السابقين الأولين من الصفوة الكرام ؟ ما بعد التباس أمر الفريقين وعدم الفرق بين المذهبين غاية ينتهي إليها أهل الشك والظلام ، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور . ومن أصعب الأشياء على النفوس مخالفة العوائد ، وما ألفته ونشأت عليه من النحل والطرائق ما لم تساعد هداية التوفيق ويأتي المدد من مصرف القلوب وعلام السرائر والغيوب .
فصل
قال المعترض : فصل – ولنختم هذا الكتاب بمسألة هذا الرجل الذي ذكرنا أنها قاعدة قنطرته على الأمة . قال في شبهه المذكور في خاتمتها : ولنختم الكلام بمسألة عظيمة مهمة يكثر جهل الموحدين بها . فنقول : لا خلاف أن التوحيد يعني الإيمان لا بد أن يكون بالقلب واللسان والجوارح .
فإن خلت بعض هذه الثلاث فهو كافر أعظم من كفر فرعون وإبليس وأمثالهما . وهذا يغلط فيه كثير من الناس اهـ المقصود .(175/347)
ثم ذكر كلاما بعده . وهذه المسألة ذكرها أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى بعينها في كتاب الإيمان الكبير له وقال : من هذه المسألة نشأت البدع . إلى أن قال : واتفق أهل السنة والجماعة والخوارج على أن الإيمان اعتقاد بالجنان ونطق باللسان وعمل بالأركان . ثم افترقت عند ذك عنهم الخوارج ، فقالوا : إن اختل بعض هذه الثلاث لم يكن مسلما . هذا محصول كلام أبي العباس . وصح بهذا الكلام من هذا الرجل الذي هو قرره وعظمه أنه عين مذهب الخوارج الذين كفروا به الأمة ، وقاتلوا عليه أمير المؤمنين علي بن أبى طالب رضي الله عنه الذي هو من النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعده . كما في الصحيحين وغيرهما ، وكفروه بذلك . وقد ذكر هذه القاعدة العلامة ابن قندس في حاشيته على الفروع . ونقل كلام أبي العباس وابن قندس رحمهما الله تعالى ، لأنهما ذكرا أن هذه الصورة التي ذكرها هذا الرجل بعينها هي مذهب الخوارج بعينه . ومذهب الخوارج كفانا سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - في رده فيما صح عنه ، مع كونهم يقولون من خير قول البرية . وهذا الرجل قد عظم هذه المسألة أشد التعظيم ، كما ترى بالحض عليها وجعلها مهمة بحيث دعا إلى الاهتمام بها وبلزومها والعمل بموجبها . وأنه يكثر الجهل من الموحدين بها . وصدق في ذلك بل كل الموحدين بحمد الله تعالى لا يعتقدونها ، ولا يعرفونها لأنها جهل ليس بعلم . والجهل لا يسمى علماً على الصحيح عند الأصوليين . وهذا الرجل قد جعل المخالف لها كافراً أعظم من كفر فرعون وإبليس وأمثالهما . فإذا كان هذا كلامه في هذه المسألة فماذا يزيد الإيمان وينقص حتى يكون أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة خردل من إيمان ، كما في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشفاعة والخردلة أدون من الذرة بكثير . فهذه حال أهل الأهواء لا يتبعون أهل الحق ولا يهتدون(175/348)
سبيلا لتناقضهم ، وتقطيع آثارهم بالأهواء ، وتحكيم عقولهم بالجهل ، يهيمون في كل واد . فكيف ندبر على هذا الطريق الزائغ أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة خردل من إيمان . فلا يصدق بقولهم هذا إلا من كذب بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي في الصحيحين في الشفاعة عن أنس رضي الله عنه وغيره . أفلا يستحيون من هذا الهذيان الذي لا قوام له في هذا الميدان ؟ إذا التفت الفرسان ونشرت الصحف وعلق الميزان من السنة والقرآن ؟ وأحضر قول علماء هذا الشأن .
فحينئذ يكون قولهم هذا كالسراب في القيعان ، يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه وبرحه فواحسرتا للعطشان . ومع هذا ليس لهم عن ذلك رجوع ، وقولهم لا يسمن ولا يغني من جوع .
إذا تقرر هذا فكل أتباعه يشربون من هذا البحر التيار المظلم من أي أركانه ويلتقطون من ضفادعه وحيتانه . فهذا ملتقى البحرين يلتقيان ، بينهما برزخ لا يبغيان بحر أجاج بتكفير الأمة نجاج ، وبحر سائغ شرابه لذة للشاربين ، وبينهما حاجز الأمواج ، فسلك هذا الرجل بحر الظلمات بنص العلماء الثقاة ، ومن شك في هذا فليراجع من الاثبات ما ذكرنا في المجلدات ، ليتبع سبيل المؤمنين المفلحين المنجحين عن سبيل الظلمات فما يقول من هذا مقاله فيما رويناه وذكر حديث البطاقة .(175/349)
والجواب أن يقال : قد تقدم مرارا أن المعترض له حظ وافر من صناعة التبديل والتحريف ، كما وصف الله اليهود بذلك في غير آية والذبح والنذر لغير الله ، وإخلاص الدين في ذلك كله الله . هذا ما دل عليه كلام شيخنا رحمه الله في كشف الشبهات . وهذا مجمع عليه بين أهل العلم . فإذا اختل أحد هذه الثلاثة اختل الاسلام ، وبطل ، كما دل عليه حديث جبريل لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الاسلام والإيمان والإحسان . فبدأ في تعريف الاسلام بالشهادتين . ولا شك أن العلم والقول والعمل مشترط في صحة الإتيان بهما . وهذا لا يخفى على أحد شم رائحة العلم . وإنما خالف الخوارج فيما دون ذلك من ظلم العبد لنفسه ، وظلمه لغيره من الناس .
وأما الديوان الأكبر ، وهو ظلم الشرك . فلا خلاف بين أهل السنة والخوارج في التكفير بالشرك الأكبر ، بعد قيام الحجة الرسالية . والمعترض جاهل ، لا يفرق بين مسائل الإجماع ومسائل النزاع .
وها أنا أسوق لك كلام شيخ الإسلام تقي الدين لتعلم أن هذا المعترض بدل اللفظ وحرف المعنى ، وجمع بين الأمرين اللذين ذم الله بهما اليهود بغيا وحسدا والله حسيبه . والمقصود هنا رد شبهته .
قال شيخ الاسلام في أواخر النصف الأول من كتاب الإيمان : فإن قيل : فإذا كان الإيمان المطلق يتناول جميع ما أمر الله تعالى به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فمتى ذهب بعض ذلك بطل الإيمان فيلزم تكفير أهل الذنوب ، كما تقوله الخوارج أو تخليدهم في النار . ولا ينفى عنهم اسم الإيمان بالكلية ، كما تقوله المعتزلة . وكلا القولين شر من قول المرجئة . فإن المرجئة منهم جماعة من العلماء والعباد المذكورين عند الأمة بخير ، وأما الخوارج والمعتزلة فأهل السنة والجماعة من جميع الطوائف مطبقون على ذمهم .(175/350)
قيل : أولا : ينبغي أن يعرف أن القول الذي لم يوافق الخوارج والمعتزلة عليه أحد من أهل السنة هو القول بتخليد أهل الكبائر في النار . فإن هذا القول من البدع المشهورة . وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين على أنه لا يخلد في النار أحد ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، واتفقوا أيضا على أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - يشفع فيمن يأذن الله له بالشفاعة فيه من أهل الكبائر من أمته ، وفي الصحيحين عنه أنه قال : ( لكل نبي دعوة مستجابة ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ) وهذه الأحاديث مذكورة في مواضعها ، وقد نقل بعض الناس عن الصحابة في ذلك خلافا ، كما روي عن ابن عباس أن القاتل لا توبة له ، وهذا غلط على الصحابة فإنه لم يقل أحد منهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشفع لأهل الكبائر ، ولا قال إنهم يخلدون في النار . لكن ابن عباس في إحدى الروايتين عنه قال : أن القاتل لا توبة له . وعن أحمد بن حنبل في قبول توبة القاتل روايتان أيضا . والنزاع في التوبة غير النزاع في التخليد ، وذلك أن القتل يتعلق به حق آدمي . فلهذا حصل النزاع فيه ، وأما قول القائل : إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله . فهذا ممنوع . وهذا هو أصل الذي تفرعت منه البدع في الإيمان ، فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله ، لم يبق منه شيء ثم قالت الخوارج والمعتزلة : هو مجموع ما أمر الله به ورسوله ، وهذا هو الإيمان المطلق ، كما قاله أهل الحديث . قالوا : فإذا ذهب منه شيء لم يبق مع صاحبه شيء من الإيمان ، فيخلد في النار وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم : فلا يذهب بالكبائر وبترك الواجبات الظاهرة شيء منه إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء . فيكون شيئا واحدا ، يستوي فيه البر والفاجر . ونصوص الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تدل على ذهاب بعضه وبقاء بعضه . كقوله : ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان )(175/351)
انتهى المقصود منه .
فقف واعتبر يا من أنعم عليه ، وتأمل كلام الشيخ الذي احتج به هذا المعترض الضال . فإنه صريح في أن الخوارج إنما خالفوا السلف وانفردوا عن أهل السنة بالتكفير بالذنوب ، التي دون الشرك ، ودون ما يوجب الكفر .
وأهل العلم قاطبة فرقوا بين هذا وبين رأي الخوارج . وعقدوا أبوابا مستقلة في أحكام المرتدين واتفقوا على التكفير بإنكار الوحدانية ، واتخاذ الآلهة من دون الله كما عليه عباد القبور وعباد الملائكة والأنفس المفارقة .
وجعلوا هذا أظهر شعائر الاسلام ، وأعظم قواعده ، وأكبر أركانه ، كما في حديث معاذ : ( رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ) والحنابلة وغيرهم قرروا هذا في أبواب حكم المرتد . وكذلك من قبلهم من الأئمة . والسلف يكفرون من كفره الله ورسوله ، وقام الدليل على كفره ، حتى في الفروع . فيكفرون منكر هذه الأحكام المجمع على حلها أو تحريمها كحل الخبز وتحريم الخنزير ، بل جميع الرسل جاءت بتكفير من عدل بربه وسوى بينه وبين غيره . كما ذكره شيخ الاسلام في رده على اليهود والنصارى . ودليله ظاهر في كتاب الله تعالى وسنة رسوله .
فإن كان تكفير المشرك ومن قام الدليل على كفره هو مذهب الخوارج ولا يكفر أحد عند أهل السنة . فهذا رد على الله وعلى رسله وعلى أهل العلم والإيمان قاطبة . ويكفي هذا رداً وفضيحة لهذا المعترض ، الذي لم يميز ولم يفرق بين دين المرسلين ، ومذهب الخارجين والمارقين .(175/352)
وإن اعترف المعترض بالتفصيل وسلم للرسل واتباعهم تكفير المشركين العادلين برب العالمين . فيقال له : هذا الذي اعترضت به على الشيخ ، أهو تكفير بالذنوب التي دون الشرك أم النزاع في تكفير من دعا الصالحين وسألهم وتوكل عليهم ، وجعلهم واسطة بينه وبين الله في حاجاته وملماته الدينية والدنيوية ؟ فإن اعترف بأن النزاع في هذا فقد خصم وهزم ، ونادى على نفسه بالخطأ والكذب ، ونسبة الشيخ إلى ما قد نزهه الله عنه .
وإن أنكر وقال : النزاع فيما دون هذا طولب ببيانه ، مع أن الخاص والعام يكذبه ويرد عليه لو أنكر ، لعلم أن النزاع والخصومة بين الشيخ رحمه الله وبين أعدائه إنما هي في دعاء غير الله وعبادة سواه ، والاعتماد والتوكل على الشركاء والأنداد التي هي من الإفك الذي افتراه الضالون وانتحله المبطلون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
إذا عرفت هذا تبين لك ما قدمناه من إفك هذا المفتري وضلاله ، وتحامله على شيخ الاسلام ، وأن ما قرره الشيخ مباين لمذهب الخوارج موافق لمذهب أهل الاسلام من أهل العلم والدين . وأن من زعم أن قول الشيخ هو قول الخوارج فقد تضمن زعمه وبهته تجهيل أئمة الدين ، وعلماء المسلمين ، ممن نهى عن الشرك بالله رب العالمين . وأنهم لم يفرقوا بين مذهب الخوارج ودين الرسل ، بل لازمه أن ما تضمنه الكتاب العزيز والسنة النبوية من تكفير من دعا مع الله آلهة أخرى هو مذهب الخوارج . فنعوذ بالله من الجهل المعمي ، والهوى المردي .
ثم هذا رجوع عن مذهبه الأول . فإنه جعل فعل عباد القبور من التوسل الجائز الذي دل عليه حديث الأعمى . وهناك نكص على عقبه وجعله من الذنوب التي تكفر بها الخوارج .
يوما بحزوى ويوما بالعقيق
*
وبالعذيب يوما ويوما بالخليصاء
وتارة تنتحى نجداً وآونة
*
شعب الغوير وطورا قصر تيماء(175/353)
وأما قوله : فإذا كان كلامه في هذه المسألة فماذا يزيد الإيمان وينقص حتى يكون أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة خردل من إيمان . إلى آخر قوله .
فهذه العبارة تنادي بجهله . فالخوارج لا ينازعون في زيادة الإيمان وإنما النزاع في نقصه وأئمة الاسلام يقولون يزيد مع بقاء أصله الذي دلت عليه شهادة أن لا إله إلا الله وينقص حتى لا يبقى منه شيء . فإذا ثبت الإسلام زاد الإيمان ونقص ، ومع عدم الاسلام وانهدام أصله لا يعتد بما أتي به من شعبه .
وقوله : وهذه حال أهل الأهواء لا يتبعون أهل الحق ولا يهتدون سبيلا .
فيقال : نعم هو ذاك ، ولو شعرت أن هذا الكلام منطبق على حالك ، منادٍ بضلالك ، وأنك لا تعرف الحق ولا أهله ، ولا تعرف السبيل ولا تهتدي إليه . وإنما يعرف الحق والإيمان من له نور يمشي به في الناس .
وأما الجاهل المظلم مثلك فهو من أبعد الناس عن معرفة الحق واتباعه ، ومعرفة السبيل وسلوكه .
وأما قوله : كيف ندبر على هذا الطريق الزائغ أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة خردل من إيمان إلى آخره .
فيقال : هذه العبارة عبارة جاهل غبي . فإن تدبير النصوص والأحكام إلى الملك الحق العليم العلام . وأهل العلم لا يستعملون هذه العبارة ، ولا يعبرون بتعبير أهل الجهالة والغباوة . وإنما يقال : كيف يفهم أو كيف يحمل ، أو كيف يخرج ، أو كيف يوجه ؟ .(175/354)
ثم هذا القول صريح في أن هذا المعترض لم يشم رائحة العلم ولم يمارس أهله . فإن الموحد السالم من الشرك الأكبر هو الذي يتصور أن يبقى في قلبه بقية من الإيمان والتوحيد . وأما المشرك العادل بربه المسوي بينه وبين غيره ، فلا يتصور بقاء شيء من الإيمان والتوحيد . وأما المشرك العادل بربه ، المسوي ممن حبسه القرآن ، وحكم بخلوده في التبار والخسران . قال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقال تعالى : { إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً . خالدين فيها أبداً لا يجدون وليا ولا نصيراً } والمعترض كأنه من بوادي السودان الذين لم يأنسوا بشيء من العلم والإيمان . ولم يمر على أسماعهم شيء من نصوص السنة والقرآن ، ولم يميزوا بين ما جاءت به الرسل وما عليه عباد الأصنام والأوثان . فربما زين الشيطان لأحدهم وأوهمه أنه من خلاصة نوع الإنسان ، وأنه ممن يثبت عند المبارزة والمخاصمة في الميدان . فإذا التقت الصفوف وتقارب الزحفان ، نكص المغرور على عقبه وتخلى عنه قرينه وأسلمه الشيطان . وتبين له أنه كان في غاية من الجهالة والضلالة والطغيان .قد لبس عليه واشتبه الأمر لديه . فلم يفرق بين حزب الرحمن وحزب الشيطان . والى الله المصير وعليه الاعتماد والتكلان . وربنا جل ذكره وتقدس اسمه كل يوم هو في شأن .
فصل(175/355)
وأما قوله : فما يقول من هذا مقاله فيما روينا بأسانيدنا إلى الشيخ مفتي السادة الحنابلة عبد الباقي وساق سند عبدالباقي إلى عبدالله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر ، ثم يقول الله عز وجل : أتنكر من هذا شيئا يا عبدي ؟ فيقول : لا يا رب . فيقول الله تعالى ألك عذر أو حسنة ؟ فيقول : لا يا رب ؟ فيقول الله تعالى : بلى ، إن لك عندنا حسنة ، وإنه لا ظلم عليك فيخرج الله له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله : فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول الله تعالى : إنك لا تظلم . فتوضع تلك السجلات في كفة والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ) .
فالجواب أن يقال : حديث البطاقة شاهد لكلام شيخنا ، وأنه لا اعتبار بالأعمال إذا عدم التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله . وان رجحان الموازين لا يحصل إلا بتحقيق التوحيد ، والصدق والإخلاص في هذه الشهادة ، وأن المشرك لا يقام له وزن ، هذا من الأدلة والبراهين على ما دعا إليه الشيخ محمد رحمه الله تعالى . وأنه رأس الأمر وقاعدته العظمى .
قال في كتاب التوحيد ( باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب ) : وقول الله تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } .
وساق من الآيات والأحاديث المطابقة للترجمة ما يبين أن الشيخ رحمه الله تعالى داع إلى التوحيد آمر به وبوسائله وذرائعه ، ناه عن الشرك والتنديد وعن وسائله وذرائعه .(175/356)
وشبهة المعترض إنما أتته من حيث ظن أن دعاء الصالحين وعبادتهم والتوكل عليهم ذنب دون الشرك لا يخل بالتوحيد ، بل يبقى معه من التوحيد والإيمان ما ينجو به صاحبه . هذا معنى ما قرره هنا . وقد تقدم أنه لا يراه ذنبا من الذنوب . وكلامه متناقض مختلف ، ولكنه أورد الحديث هنا لما ذكرنا من ظنه وحسبانه . فسبحان من طبع على قلبه قال تعالى : { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون } .
قال شيخ الاسلام تقي الدين في الكلام على حديث البطاقة : إن صاحب البطاقة أتى بهذه الشهادة بصدق وإخلاص ويقين ، ولم يأت بعد بما يخالفها ويضعفها . والصدق والإخلاص واليقين في هذا التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص مكفر للذنوب ، لا يبقى معه ذنب . كما أن اجتناب الكبائر مكفر للصغائر .
وهذا يشهد لما قرره شيخنا من أن الشرك الأكبر لا يبقي معه عمل .
وقد انتهى بنا القول في رد أباطيل المعترض وكشف زيغه وضلاله ، وبيان كذبه ومحاله إلى هذه الغاية ، والوقوف عند هذه النهاية . واستغفر الله العلي العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم . مما وقع من التفريط والإخلال بواجب حقه ونصرة دينه .
واسأله جل ذكره أن يجعل ما أوردناه هنا من العمل الخالص لوجهه الذي يرضاه ويثيب فاعله . وألا يكلنا إلى أنفسنا فنهلك . ولا إلى أحد من خلقه فنضل .
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم .
والله أعلم وصلى الله على عبده ورسوله محمد النبي الصادق الكريم ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين إله الأولين والآخرين .(175/357)
مع الاثني عشرية في الأصول والفروع
دراسة مقارنة في العقائد
د. علي السالوس
1-4
تمهيد
إن الحمد كله لله نحمده سبحانه وتعالي ونستهديه ، ونستعينه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ونسأله عز وجل أن يجنبنا الزلل في القول والعمل . ونصلى ونسلم على رسله الكرام ، وعلى أولهم خاتم الأنبياء والمرسلين ، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمنذ نحو أربعين سنة بدأت الاطلاع على كتب الشيعة الجعفرية الاثنى عشرية ، والاتصال ببعض علمائهم . وشجعني على هذا أستاذي المرحوم الشيخ محمد المدني ، أحد دعاة التقريب بين المذاهب الخمسة ، حيث اعتبروا المذهب الشيعي هذا مذهباً خامساً ، ولذلك كانت رسالتي للماجستير في الفقه المقارن بين الشيعة الإمامية – أي الجعفرية الاثنى عشرية – والمذاهب الأربعة .
غير أنني عندما بدأت الدراسة ، ثم قرأت كثيراً من كتبهم ، وجدت الأمر على خلاف ما تصوره دعاة التقريب ، حيث إن عقيدتهم في الإمامة ، وما ينبنى عليها ، تمنع التقريب وتحول دونه ، فإن هذه العقيدة لا تصح إلا بالطعن في خير أمة أخرجت للناس ، حيث يعتبر باقي الصحابة – وحاشاهم – مقرين للمعصية ، راضين عنها .
وإذا كانت مسألة الإمامة في ذمة التاريخ ، فلا حاجة لإثارتها ، وخلاف الأمس لا يمنع تقريب اليوم ، ومن هنا كانت رسالتي للدكتوراه عن أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله ، وللأسف الشديد أنني وجدت هذه العقيدة الباطلة قد أفسدت الكثير من أصول الفقه . فكيف تكون دعوة التقريب ؟
إن قلنا للشيعة : دعوا مسألة الإمامة في مجال العقيدة ، ولا تجعلوا لها أثراً في التشريع وأصوله حتى تصبحوا كأي مذهب من مذاهب أهل السنة والجماعة ، أفيقبلون ؟
وإذا كانوا لا يقبلون ، بل لم توجه لهم هذه الدعوة ، أفنؤمن نحن بعقيدتهم الباطلة ؟(176/1)
لهذا يجب أن تكون دعوة التقريب على هدى وبصيرة . ولذا رأيت أن أجعل بين أيدي المسلمين ، ودعاة التقريب منهم ، بعض الكتب التي تبين الفوارق بين السنة والشيعة في مجالات مختلفة ، ليفكروا في هذه الفوارق ، ولنحدد كيف تكون دعوة التقريب ، ومن الذي يجب أن يترك رأيه ويقترب من الآخر .
وكنت جمعت المادة العلمية منذ عدة سنوات ، ثم توقفت بضعة أعوام عندما شغلت بالاقتصاد الإسلامي ، والمعاملات المعاصرة ، وتم بحمد الله تعالي وفضله تأليف بعض الكتب والأبحاث ، غير أن البحث في المعاملات المعاصرة أمر متجدد لا ينتهي ، فرأيت ألا أجعل الوقت كله له ، وأن أعود إلى ما جمعت من مادة للدراسة المقارنة حتى أخرج الكتب التي أريدها ، مستعيناً بالله عز وجل .
وتوطئة لهذه الدراسة صدر كتابى الأول تحت عنوان :
" عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية- دراسة في ضوء الكتاب والسنة – هل كان شيخ الأزهر البشرى شيعياً ؟ ! "
وانتهت الدراسة إلي أن عقيدتهم لا تستند إلى كتاب ولا إلى سنة ، بل باطلة تصطدم بالكتاب والسنة ، وأظهرت الدراسة كثيراً من الأخطاء ، وكشفت عن مفتريات وأباطيل ، ونزهت الشيخ البشرى مما نسبه إليه المفترى الكذّاب صاحب كتاب المراجعات .
ورأيت أن تكون الدراسة التالية للكتاب السابق تتعلق بكتاب الله العزيز ، المصدر الأول للعقيدة والشريعة . فكان الكتاب الثانى في التفسير المقارن وأصوله بين أهل السنة والشيعة الاثنى عشرية ، وقسمته قسمين :-
القسم الأول : للحديث عن التفسير وأصوله عند أهل السنة.
القسم الثانى : للتفسير وأصوله عند الشيعة الاثنى عشرية.(176/2)
ومن يقرأ ما احتواه القسمان يدرك الفوارق البينة الظاهرة بين التفسيرين ، وأصول كل منهما . ويتأكد من أن مسألة الإمامة ليست نظرية بحتة تاريخية ، بل لها أثرها في كتبهم خلال جميع العصور ، ولهذا وجدنا الغالين الضالين من الشيعة يحرفون القرآن نصا ومعنى ، ويطعنون في الصحابة الكرام ، ويجعلون أئمتهم هم المراد من كلمات الله حتى وصل بعضهم إلى تأليه الأئمة ،ووجدنا المعتدلين منهم يقعون في تناقض بين ، وهذه نتيجة حتمية ، فكيف يجمع بين هذه العقيدة والاعتدال ؟! وكيف يجمع بين توثيقهم وإجلالهم لأكبر كبار علمائهم كالقمى والعياشى والكلينى ، وهم رءوس الغلو والضلال ، وحملة لواء التشكيك والتضليل ، وتحريف القرآن المجيد ، وتكفير خير أمة أخرجت للناس ؟! كيف يجمع بين هذا كله وبين شيء من الاعتدال ؟! والمهم أن ما أنسبه إليهم هنا منقول من كتبهم وليس مما كتب عنهم ، وبذلك يكون الحكم دقيقاً غير جائر .
وانتهيت من الكتاب الثانى سنة 1409 هـ (1989م) ، وفى أواخر ذلك العام كانت الطامة حيث صدر البيان المشهور عن دار الإفتاء المصرية الذي أحل بعض المعاملات التي أجمعت المجامع الفقهية كلها وجميع دور الإفتاء على أنها من الربا المحرم ، وتبع البيان بعد ذلك تحليل صور أخرى من المعاملات الربوية حتى وصل الأمر إلى القول بأن البنوك في جميع بقاع الأرض تستثمر بالطرق التي أحلها الله تعالي !!
فشغلت بالرد على البيان ، وعلى ما صدر بعد ذلك من الفتاوى الباطلة ، فكتبت عشرات المقالات ، وبضعة كتب وأبحاث ،ووقفت عند الكتاب الثانى بين الشيعة والسنة .(176/3)
ومنذ سنوات طلبت منى إحدى الجهات العلمية البارزة كتابة رد على كتاب المراجعات لعبدالحسين شرف الدين الموسوي ، ثم تكرر الطلب حتى استحييت ، وكنت كتبت بعض الملاحظات حول الكتاب استعداداً للرد قبل هذا الطلب ، فأعدت النظر فيما كتبت ، واستعنت بالله عز وجل ، وبذلت أقصى ما أستطيع حتى انتهيت بحمد الله عز وجل وفضله وكرمه - من كتاب " المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى " ، حيث أثبت يقينا براءة شيخ الأزهر مما نسب إليه ، وأن عبدالحسين هو وحده صاحب هذه المراجعات المفتراة . والقارئ يجد هذا الأمر واضحاً جلياً ، وسيعجب كل العجب من جرأة هذا الرافضي لا على الكذب والافتراء فقط ، ولكن أيضا على تصوير شيخ الأزهر وشيخ المالكية وقد جاوز الثمانين عاما في صورة جاهل لا يدرى ما في كتب في التفسير والحديث عند أهل السنة أنفسهم ، وما يدرس منها لطلاب الأزهر ، فبدا كأنه أقل علماً من هؤلاء الطلاب ، إلى أن جاء هذا الشاب الرافضي الطريد الذي لجأ إلى مصر ليعلم شيخ الأزهر نفسه ما في هذه الكتب ، ويصور الرافضي نفسه في صورة من أخرج شيخ الأزهر من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، وجعله يسلم بصحة عقيدة الرافضة وشريعتهم وبطلان ما عليه أمة الإسلام منذ الصحابة الكرام البررة إلى عصرنا !!
وقد ناقشت الرافضي مناقشة علمية مستفيضة ، نسأل الله تعالى أن يتقبلها منا فهو سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى.
وبعد أن انتهيت من كتاب المراجعات رأيت أن أستكمل الموضوع الذي بدأته بالكتابين اللذين أشرت إليهما من قبل ، ولكن بدا لي أن أقدم للمسلمين موسوعة شاملة في هذا الموضوع تبين حقيقة الشيعة والرافضة في الماضي والحاضر في ضوء الكتاب والسنة ، وكل ما أنسبه إليهم منقول من كتبهم هم أنفسهم ، وليس مما كتب عنهم ، وبذلك يكون الحكم دقيقا غير جائر . وهذه الموسوعة يضمها كتاب في أربعة أجزاء :
الجزء الأول في العقائد .(176/4)
الجزء الثانى في التفسير وكتبه ورجاله .
الجزء الثالث في الحديث وعلومه وكتبه ورجاله .
والجزء الرابع في أصول الفقه والفقه .
وكل جزء له مقدمة تخصه وتناسبه .
وكتبت بحثا عنوانه " السنة بيان الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم " ، فرأيت من المناسب أن ألحقه بالجزء الثالث الخاص بالسنة المشرفة .
وقبل أن أنتقل إلى مقدمة الجزء الأول أحب أن أذكر بما يأتي :-
أولا: لماذا كثر ما كتبت عن الشيعة ؟
بعد أن تخرجت في كلية دار العلوم سنة 1376 هـ (1957م) ، والتحقت بالدراسات العليا ، كان ممن درس لنا أستاذنا الجليل / محمد المدني - رحمه الله تعالى - وهو من الأعضاء البارزين لدار التقريب بين المذاهب في القاهرة ، وكثيراً ما كان يحدّثنا عن الشيعة ، وفقههم وأنهم لا يختلفون كثيراً عن المذاهب الأربعة ، ويمكن اعتبارهم مذهبا خامسا .
والشيعة يزيدون على سبعين فرقة ، لكنه كان يقصد الشيعة الإمامية الجعفرية الاثنى عشرية بالذات ، فهى صاحبة دار التقريب فكرة وتنفيذا.
ونتيجة فهمى لما سمعته منه سجلت رسالة الماجستير تحت عنوان " فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة " وأردت أن أحدد مواضع الخلاف فقط ، أي ما ينفردون به دون أي مذهب من المذاهب الأربعة ، ثم أناقش هذه المواضع باعتبارهم مذهبا خامسا من باب التقريب .
غير أننى عندما بدأت البحث ، واطلعت على مراجعهم الأصلية وجدت الأمر يختلف عما سمعت تماما . ورأيت أن عقيدة الإمامة عندهم ، التي جعلوها أصلا من أصول الدين ، أثرت في مصادر الشريعة ، وجميع أبواب الفقه ، ولذلك جعلت رسالة الدكتوراه عنوانها " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله".
فدراستى إذن بدأت بتوجيه من الشيخ المدني من أجل التقريب . ولكن الدراسة العلمية لها طابعها الذي لا يخضع للأهواء والرغبات .(176/5)
وكان طبيعيا ألا أقف عند الماجستير والدكتوراه ، وأن يظهر هذا التخصص في دراسات أخرى ، ولهذا قمت بتأليف عدة كتب في سلسلة دراسات في الفرق .
من هذا التوضيح يعرف سبب كثرة ما كتبت في هذا المجال ، وما أكتبه ليس من أهدافه الحوار مع الشيعة والرافضة ، وإنما أوجه كتابتى لأهل السنة والجماعة وجمهور المسلمين في ضوء المصادر المعتمدة التي تلقتها الأمة بالقبول ، والمنهج العلمي الذي اتفق عليه جمهور المسلمين .
ثانيا: الشيعة ليسوا سواء
الشيعة الاثنا عشرية ليسوا سواء ، فمنهم الغلاة الذين نرى فيما كتبوا الكفر والزندقة ، ومنهم من ينشد الاعتدال ، ويتصدى لبعض هؤلاء الغلاة ، ومنهم من يجمع بين الغلو والاعتدال . فعلى سبيل المثال .
ظهر في القرن الثالث الهجرى ثلاثة كتب في التفسير هي التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري ، وتفسير العياشى ، وتفسير القمي. وهذه الثلاثة كلها زيغ وضلال وزندقة : تكفر الصحابة رضي الله تعالي عنهم ، وعلى الأخص الخلفاء الراشدين قبل الإمام على ، ومن بايعوهم ، وتحرف القرآن الكريم نصا ومعنى وتغلو في الأئمة الاثنى عشر إلى درجة الشرك بالله عز وجل .
وفى القرن الرابع الهجرى يؤلف الكلينى ـ وهو تلميذ القمي ـ كتابه الكافى ، الكتاب الأول في الحديث عندهم ، وقد ضل ضلالا بعيداً ، ونهج منهج التفاسير الثلاثة وزاد عليها كفراً وضلالا .
وفى القرن الخامس يؤلف الطوسي كتابه التبيان في التفسير ، وينهج منهجا فيه شيء من الاعتدال ، ويتصدى لحركة التشكيك والتضليل التي سبقته ، ويحاول جاهدا صيانة كتاب الله العزيز نصا ومعنى ، وإن تأثر بعقيدته في بعض معانى الآيات الكريمة .(176/6)
والإمامية الاثنا عشرية بعد هذا منهم من سار في ظلمات الضالين الغلاة ومنهم من اقترب من شيخ الطائفة الطوسي ، ومنهم من أخذ من كل نصيبا . وقد بينت هذا بالتفصيل في كتابى " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله " ، وفى هذا الكتاب بأجزائه الأربعة.
وعبد الحسين في كتابه " المراجعات " الذي أشرت إليه من قبل لم ينقل إلا عن الغلاة الضالين ، وأضاف إليهم ما هو أشد كفرا وضلالا ، ولم ينقل شيئا عن التبيان للطوسى شيخ طائفتهم وصاحب كتابين من كتب الحديث الأربعة .
ولذلك فهو يعد من أشد الروافض غلوا وزندقة وكفرا .
وأرجو أن يكون واضحا أن ما نراه في كتب الغلاة الرافضة ، وما نصمهم به نتيجة ما قدمت أيديهم ، لا ينطبق على المعتدلين من الطائفة .
والذى تعجب له هو موقف المعتدلين الغلاة من الشيعة ، حيث نرى تناقضا واضحا :-
فهم يثنون على الصحابة الكرام ، ويقولون بأن القرآن الكريم الذي بين أيدى المسلمين هو كما أنزله الله عز وجل ، وأن أي خبر يتعارض مع هذا سواء أكان في الكافى أو غيره ، يضرب به عرض الحائط ، وكذلك ما يتصل بفرية علم الأئمة للغيب .
والتناقض يأتي في الإشادة بكتب الغلاة كالمراجعات ، وهو الذي يتعارض مع كل ما سبق كما يظهر عند عرضه ومناقشته ، وبيان ما فيه من البلاياوالرزايا .
وكذلك القول بأن كل ما في تفسير على بن إبراهيم القمي صحيح ، وهو الذي كفر الصحابة وقال بالتحريف تنزيلاً وتأويلاً ، وعلم الأئمة لما كان وما يكون إلى يوم القيامة .
تناقض واضح جلى بلا شك !! ولذلك فهم جمعوا بين الاعتدال والغلو !!(176/7)
ووجدنا طائفة من معتدلي الشيعة لم تقع في مثل هذا التناقض ، وظهرت لهم كتب تفضح وترد على غلاة الشيعة ، وذلك مثل كتاب تحطيم الصنم ، والمقصود بالصنم كتاب الكافى ، وكتاب لله ثم للتاريخ ، وفيه تبرئة الأئمة الأطهار مما نسب إليهم من الغلو ، وما كتبه أحمد الكاتب ، وموسى الموسوي ، وغيرهم .فالشيعة إذن ليسوا سواء .
ثالثا: منهج الرافضة في محاولة هدم الإسلام
عبد الحسين الذي افترى كتاب المراجعات ، أراد أن يبين أن علامة أهل السنة وشيخ أزهرهم ، والذى جاوز الثمانين من عمره ، جاهل بالكتاب والسنة معا ، حتى بالكتب التي تدرس لطلاب الأزهر ، ويسلم بكل ما يقوله هذا الرافضي الشاب الطريد الذي لجأ إلي مصر ، فلا ينتهى الكتاب المفترى حتى ينطق ويشهد شيخ الأزهر- وحاشاه ثم حاشاه - بما ينطق به غلاة الروافض ! وإذا كان هذا هو حال الإمام الأكبر فعلى الباقين جميعا أن يسلموا تسليماً ، وأن يعود الأزهر شيعيا كما بدأ ! هكذا زين الشيطان للرافضى !
وأراد شيطان الرافضة أن يبين أنه صاحب ذلك الكتاب لا ريب فيه ، وبه نور الظلم ، وأنقذ شيخ الأزهر من ظلمات الجهل… هكذا دون أدنى خجل أو حياء من الله عز وجل ، أو من الناس .
وما ذكر في مقدمة كتاب المراجعات عن عبد الحسين فهو من باب ما قاله الإمام الشافعى " أشهد الناس بالزور الرافضة " .
وأحب أن أنبه إلى أمر هام وهو منهج الرافضة في هدم الإسلام من الداخل ونشر عقائدهم الباطلة .(176/8)
رأيت كتابا لعبد الحسين هذا عنوانه " الفصول المهمة في تأليف الأمة " ، ومن الذي لا يريد تأليف أمة الإسلام ؟ فلما نظرت في الكتاب وجدته ينتهى إلى أن التأليف إنما يكون باعتناق عقيدة الرافضة وترك ما عليه أهل السنة والجماعة ، وهذا هو ما انتهى إليه في كتاب المراجعات ، بعد أن بدأه بالتحذير من الفرقة ، ووجوب اجتماع الكلمة ، أي أننا يجب أن نجتمع ، على الكفر والزندقة ، لا على سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده ، التي أمرنا أن نعض عليها بالنواجذ .
فيجب أن نتنبه إلى هذا المنهج الخبيث ، وإلى أنهم في سبيل تصدير الثورة التي نادى بها الخمينى ، أي عقيدة الرافضة وشريعتهم ، يغرون بالمال الوفير ، وبالنساء عن طريق زواج المتعة عندهم .
رابعا : عبد الله بن سبأ
صاحب فكرة الوصي بعد النبي صلى الله عليه وسلم
عبد الله بن سبأ كان يهودياً ثم أعلن إسلامه ، ووالي على بن أبى طالب - رضي الله تعالى عنه - وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بالغلو ، فقال في إسلامه بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أبى الحسن مثل ذلك . وهو صاحب فكرة أن علياً هو وصى النبي - صلى الله عليه وسلم .
جاء في كتاب فرق الشيعة للحسن بن موسى النوبختي ، وسعد بن عبد الله القمي ، وهما من علماء الشيعة في القرن الثالث الهجرى :
" عبد الله بن سبأ أول من شهر القول بفرض إمامة على رضي الله عنه ، وأظهر البراءة من أعدائه ، وكاشف مخالفيه وكفرهم ، فمن هاهنا قال من خالف الشيعة: إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية " . ( ص 32:33 وانظر هذا أيضا في ترجمة ابن سبأ في تنقيح المقال للماماقانى 2/184 ، والأنوار النعمانية للسيد نعمة الله الموسوي الجزائري ص 234 . وكلها مراجع شيعية ).(176/9)
ونتيجة لدور ابن سبأ في تأسيس عقيدة الرافضة ، ولرفع هذه التهمة الثابتة ، ألف مرتضى العسكري الشيعي كتابا عن عبد الله بن سبأ ، وقال: إنه شخصية خرافية لا وجود لها ، وإن قصته وضعها سيف بن عمر ، واشتهرت عن طريق تاريخ الطبري .
وما قاله هذا الشيعي غير صحيح ، بل جرأة عجيبة على إنكار ما هو ثابت مشتهر ، فما أكثر ما جاء عن ابن سبأ من غير طريق سيف بن عمر ، وما نقلته من كتاب فرق الشيعة وغيره ليس فيه سيف بن عمر ، وليس منقولا عن طريق الطبري ، وأضيف إليه بعض المراجع الشيعية الأخرى التي ذكرت ابن سبأ ، وليس في سندها سيف بن عمر :
فانظر على سبيل المثال لأصحاب كتب الحديث الأربعة عند الشيعة :
الكافى للكلينى 1/545 ، وللصدوق : فقيه من لا يحضره الفقيه 1/213 ، وعلل الشرائع ص 344 ، والخصال 638 ، وللطوسى : تهذيب الأحكام 2/322 ، واختيار معرفة الرجال 2/108 ، والأمالى 1/234 .
وراجع أيضا : وسائل الشيعة 18/554 ، ورجال الكشّى ، وغيرها من مراجع الشيعة أنفسهم ، إلى جانب مراجع الجمهور التي يطول ذكرها . ويمكن أن يكون هذا الموضوع بحثا موسعا نثبت به أخطاء مرتضى العسكري وغيره ، ولكن أكتفى بذكر نموذج لأحد الشيعة المشهورين بالاعتدال إلى حد ما وهو السيد أبو القاسم الخوئى ، الذي كان المرجع الأعلى للشيعة في العراق . جاء في كتابه معجم رجال الحديث في ترجمة عبد الله بن سبأ ما نصه :
الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلوّ : من أصحاب على رضي الله عنه رجال الشيخ (76).(176/10)
وقال الكشّى (48) : " حدثني محمد بن قولويه القمي ، قال : حدثني سعد بن عبد الله بن أبى خلف القمي ، قال : حدثني محمد بن عثمان العبدى ، عن يونس بن عبدالرحمان ، عن عبد الله بن سنان ، قال : حدثني أبى عن أبى جعفررضي الله عنه : أنّ عبد الله بن سبأ كان يدعى النبوة ويزعم أن أمير المؤمنين رضي الله عنه هو الله !! تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً فبلغ ذلك أمير المؤمنين رضي الله عنه ، فدعاه وسأله فأقرّ بذلك ، وقال : نعم أنت هو وقد كان ألقى في روعى أنك أنت الله وأنىّ نبي !! فقال له أمير المؤمنين رضي الله عنه : ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أمك وتب ، فأبى فحبسه واستتابه ثلاثة أيام فلم يتب فأحرقه بالنار" . وقال : إنّ الشيطان استهواه فكان يأتيه ويلقى في روعه ذلك .
حدثني محمد بن قولويه ، قال : حدثني سعد بن عبد الله ، قال : حدّثنا يعقوب ابن يزيد ومحمد بن عيسى ، عن ابن أبى عمير ، عن هشام بن سالم ، قال : سمعت أبا عبد الله يقول وهو يحدث أصحابه بحديث عبد الله بن سبأ ، وما ادّعى من الربوبية في أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه ، فقال : إنه لما ادّعى ذلك فيه استتابه أمير المؤمنين رضي الله عنه فأبى أن يتوب فأحرقه بالنار.
حدثني محمد بن قولويه : قال : حدثني سعد بن عبد الله ، قال : حدّثنا يعقوب بن يزيد ، ومحمد بن عيسى ، عن على بن مهزيار ، عن فضالة بن أيوب الأرذى عن أبان بن عثمان ، قال : سمعت أبا عبد الله رضي الله عنه يقول : لعن الله عبد الله بن سبأ إنه ادّعى الربوبية في أمير المؤمنين رضي الله عنه، وكان والله أمير المؤمنين رضي الله عنه عبد الله طائعاً ، الويل لمن كذب علينا وإن قوما يقولون فينا ما لانقوله في أنفسنا ، نبرأ إلى الله منهم . نبرأ إلى الله منهم .(176/11)
وبهذا الإسناد عن يعقوب بن يزيد ، عن ابن أبى عمير ، وأحمد بن محمد بن عيسى ، عن أبيه ، والحسين بن سعيد ، عن ابن أبى عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبى حمزة الثمالى ، قال : قال على بن الحسين صلوات الله عليهما: لعن الله من كذب علينا إنى ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كل شعرة في جسدى ، لقد ادّعى أمراً عظيماً ! ما له لعنه الله ، كان على رضي الله عنه والله عبداً لله صالحاً ، أخا رسول الله ، ما نال الكرامة من الله إلا بطاعته لله ولرسوله ، وما نال رسول الله صلى الله عليه وآله الكرامة من الله إلا بطاعته لله .
وبهذا الإسناد : عن محمد بن خالد الطيالسى ، عن ابن أبى نجران ، عن عبد الله (بن سنان) ، قال : قال أبو عبد الله رضي الله عنه :إنّا أهل بيت صديقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلموآله أصدق الناس لهجة وأصدق البرية كلّها ، وكان مسيلمة يكذب عليه، وكان أمير المؤمنين رضي الله عنه أصدق من برأ الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه ويفترى على الله الكذب عبد الله بن سبأ .
أقول ـ أي الخوئى : وتأتى هذه الرواية الأخيرة في ترجمة محمد بن أبى زينب وفى سندها ابن سنان ، بدل عبد الله .
وقال الكشّى : " ذكر بعض أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى عليا رضي الله عنه، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصى موسى بالغلو ! فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في على رضي الله عنه مثل ذلك ، وكان أول من شهر بالقول بفرض إمامة على !! وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه وأكفرهم ، فمن ها هنا قال من خالف الشيعة : أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية !! " .(176/12)
أقول : بطلان قول من خالف الشيعة واضح ناشئ عن العصبية العمياء ، فإن أصل التشيع والرفض مأخوذ من الله عز وجل حيث قال سبحانه وتعالى:
" إنما وليكم لله ورسوله والذين آمنوا... " والرسول الأعظم صلوات الله عليه وآله حيث قال في الغدير : " من كنتٌ مولاه فهذا على مولاه ، اللهم وال من والاه ..." وأما عبد الله بن سبأ فعلى فرض وجوده فهذه الروايات تدل على أنه كفر وادّعى الألوهيّة في على رضي الله عنه لا أنه قائل بفرض إمامته رضي الله عنه ، مضافاً إلى أن أسطورة عبد الله بن سبأ وقصص مشاغباته الهائلة موضوعة مختلفة اختلقها سيف بن عمر الوضاع الكذّاب ، ولا يسعنا المقام الإطالة في ذلك والتدليل عليه ، وقد أغنانا العلامة الجليل والباحث المحقق السيد مرتضى العسكري في ما قدم من دراسات عميقة دقيقة في هذه القصص الخرافية وعن سيف وموضوعاته في مجلّدين ضخمين طبعا باسم ( عبد الله بن سبأ ) وفى كتابه الآخر (خمسون ومائة صحابي مختلق ) صلى الله عليه وسلم (11/205: 207 ) . انتهت الترجمة.
ونلاحظ هنا أن الخوئى نقل الترجمة من مراجع شيعية فقط ، وذكر الأخبار بأسانيدها وليس في أي منها سيف بن عمر ، ومع ذلك يقول : أسطورة عبد الله بن سبأ ، ويثنى على مرتضى العسكري ! وعلى دراساته ! أين ذهب عقل الخوئى وهو يكتب هذا ؟!
ثم لا يكتفى بالافتراء على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالنسبة لأصل التشيع ، بل يلحق به الرفض الذي يعنى الطعن في أبى بكر وعمر ، خير البشر بعد الرسول صلى الله عليه وسلم . وفى الأمة الإسلامية كلها التي بايعت كلا منهما . والخوئى مشهور بالاعتدال النسبى ، فماذا ننتظر من غلاة الرافضة وزنادقتهم ؟!(1)[1])
__________
(1) استدلال الخوئى هنا على أصل التشيع والرفض يأتي أثناء ذكر الأدلة ومناقشتها في هذا الجزء الأول .(176/13)
أما من عرف بالاعتدال وعدم الغلو والتطرف من الشيعة فقد وجدنا منهم من يكتب عن عبد الله بن سبأ ويثبت وجوده ، ويرد على مرتضى العسكري ومن أيده ، ففي كتاب كشف الأسرار وتبرئة الأئمة الأطهار لعالم شيعي من علماء النجف وهو السيد حسين الموسوي نجد سبعة نصوص تؤيد وجود عبد الله بن سبأ ، ثم يقول المؤلف بعد ذكر هذه النصوص ما يأتي :
فهذه سبعة نصوص من مصادر معتبرة ومتنوعة ، بعضها في الرجال وبعضها في الفقه والفرق، وتركنا النقل عن مصادر كثيرة لئلا نطيل ، كلها تثبت وجود شخصية اسمها عبد الله بن سبأ ، فلا يمكننا بعد نفي وجودها خصوصاً وأن أمير المؤمنين رضي الله عنه قد أنزل بابن سبأ عقاباً على قوله فيه ، بأنه إله ، وهذا يعنى أن أمير المؤمنين رضي الله عنه قد التقى عبد الله بن سبأ ، وكفى بأمير المؤمنين بحجة ، فلا يمكن بعد ذلك إنكار وجوده .
نستفيد من النصوص المتقدمة ما يأتي :-
ـ إثبات وجود شخصية ابن سبأ ، ووجود فرقة تناصره وتنادى بقوله ، وهذه الفرقة تعرف بالسبئية .
ـ أن ابن سبأ هذا كان يهودياً فأظهر الإسلام ، وهو وإن أظهر الإسلام إلا أن الحقيقة أنه بقى على يهوديته وأخذ يبث سمومه من خلال ذلك .
ـ أنه هو الذي أظهر الطعن في أبى بكر وعمر وعثمان والصحابة ، وكان أول من قال بذلك ، وهو أول من قال بإمامة أمير المؤمنين رضي الله عنه ، وهو الذي قال بأنه رضي الله عنه وصى النبي محمد صلى الله عليه وآله ، وأنه نقل هذا القول عن اليهودية ؟ وأنه ما قال هذا إلا محبة لأهل البيت ودعوة لولايتهم ، والتبرؤ من أعدائهم ـ وهم الصحابة ومن والاهم بزعمه .
إذن شخصية عبد الله بن سبأ حقيقة لا يمكن تجاهلها أو إنكارها ، ولهذا ورد التنصيص عليها وعلى وجودها في كتبنا ومصادرنا المعتبرة ، وللاستزادة في معرفة هذه الشخصية ، انظر المصادر التالية :(176/14)
" الغارات للثقفى ، " رجال الطوسي " ، " الرجال " للحلي ، " قاموس الرجال " للتستري ، " دائرة المعارف " المسماة بـ " مقتبس الأثر " للأعلمى الحائري ، " الكنى والألقاب " لعباس القمي ، " حل الإشكال " لأحمد بن طاووس المتوفى سنة (673 هـ ) ، " الرجال " لابن داود ، " التحرير " للطاوسي ، " مجمع الرجال " للقهبانى ، " نقد الرجال " للتفرشى ، " جامع الرواة " للمقدسى الأردبيلى ، " مناقب آل أبى طالب " لابن شهر أشوب ، " مرآة الأنوار " لمحمد بن طاهر العاملي .
فهذه على سبيل المثال لا الحصر ، أكثر من عشرين مصدراً من مصادرنا تنص كلها على وجود ابن سبأ ، فالعجب كل العجب من فقهائنا أمثال المرتضى العسكري ، والسيد محمد جواد مغنية ، وغيرهما ... في نفى وجود هذه الشخصية ، ولا شك أن قولهم ليس فيه شيء من الصحة .
انتهى كلام السبد حسين الموسوي ، العالم الشيعي النجفي ، ومصادره كلها شيعية كما ذكر
مقدمة الجزء الأول
بعد أن انتهينا من التمهيد للكتاب كله بأجزائه الأربعة ننتقل إلى مقدمة هذا الجزء الأول ، فأقول مستعينا بالله سبحانه وتعالى:
لا شك أن الإمامة قد حظيت بكثير من الدراسة والبحث ، ولا غرو فأعظم خلاف وقع بين المسلمين إنما كان بسببها .
والشيعة الإمامية الجعفرية الاثنا عشرية أكبر الفرق الإسلامية المعاصرة وإليها اتجهت دعوة التقريب ، لذا رأيت أن أبين عقيدة الإمامة عندهم كما جاءت في كتبهم هم أنفسهم ، دون اعتماد على شيء مما كتب عنهم ، فبعض من كتبوا عنهم خلطوا بينهم وبين فرق شيعية أخرى .
والإسلام - عقيدة وشريعة - إنما يستمد أصلاً من الوحي الذي أنزله الله عز وجل في كتابه المجيد ، وما بينه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المطهرة.(176/15)
وصحة عقيدة الجعفرية أو بطلانها لا يثبت إذن إلا بالكتاب والسنة. لهذا رأيت أن أحدد أهم أدلتهم التي تستند إلى القرآن الكريم ، وأبين وجهة نظرهم ، وأناقشهم فيما ذهبوا إليه.
وإذا كان من اليسير أن نحدد أدلتهم التي تستند إلى القرآن الكريم ، فمن العسير تعيين أدلتهم التي تستند إلى السنة النبوية الشريفة ، لأن السنة مجال واسع رحب ، ودور الكذّابين والوضاعين معروف . والجعفرية معنيون كل عناية بالحديث عن الإمامة ، ومحاولة إثبات صحة مذهبهم بالأدلة النقلية والعقلية ،ولهم في القديم والحديث مئات المؤلفات ، بل عشرات المئات ، فقلما نجد عالماً من علمائهم لم يدل بدلوه في هذا الميدان . وفى مؤلفاتهم نرى الميل إلى الإكثار الزائد من النقل والجدل ، مثال هذا أنهم يستدلون على صحة الإمامة بأحد الأحاديث ، فجاء كاتب من كتابهم وألف كتاباً في ستة عشر مجلداً ليثبت به صحة هذا الحديث وشهرته ، ومن قبله يقرون كتب غيره كتاب الألفين - أي من الأدلة - في إمامة أمير المؤمنين ؟!
وأمام هذا الفيض الزاخر رأيت أن اعتمد أساساً على ثمانية كتب من كتب السنة هي : الموطأ ومسند الإمام أحمد ، والصحيحان ، وكتب السنن الأربعة ، ثم جمعت كل ما جاء فيها متصلاً بالإمامة سواء أأيد رأيهم أم عارضه ، وناقشت ما جمعت سنداً ومتناً لنتبين دلالة السنة.
أما كتب السنة عند الجعفرية فلم أعتمد عليها لأننى عندما اطلعت عليها رأيت أنها ما وضعت إلا من أجل عقيدتهم وما يتصل بها . على أن كتب الجعفرية التي ينشرونها في الأوساط المختلفة وتتعرض لعقيدتهم في الإمامة ، تذكر أن هذه العقيدة تؤيدها كتب السنة عند جمهور المسلمين ، ويذكرون أخباراً كثيرة ينسبونها لهذه الكتب ويحتجون بها . وجمعنا لما جاء في الكتب الثمانية المذكورة آنفاً ومناقشة ما جمع يغنى عن مناقشة ما جاء في كل كتاب من مئات الكتب الجعفرية .(176/16)
غير أننى لم أكتف بهذا ، بل رأيت تخصيص فصل لأدلتهم التي يذكرونها ، مع مناقشتها ، وهى تعتمد على تحريف القرآن الكريم نصاً ومعنى ، وعلى الأحاديث الموضوعة المفتراة .
وهذه الأدلة نرى معظمها في كتابين من كتبهم .
أولهما : كتاب منهاج الكرامة لابن المطهر الحلى ، ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بكتابة منهاج السنة النبوية .
والكتاب الثانى هو : المراجعات لعبد الحسين شرف الدين الموسوي ، ورددت عليه بكتابي : المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى.
فتناولت في الفصل شيئاً من كتابى ابن المطهر وعبد الحسين ، والرد عليهما ، وبينت بعض ما جاء فيهما من الباطل والضلال .
وبعد الحديث عن عقيدة الإمامة ، والمناقشة ختمت الجزء بفصل عن العقائد التابعة لعقيدة الإمامة وأهمها : عصمة الأئمة ، والبداء ، والرجعة ، والتقية. فهذا الجزء يقع في خمسة فصول :-
الفصل الأول :- الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة.
الفصل الثانى :- أدلة الإمامة من القرآن العظيم .
الفصل الثالث :- الإمامة في ضوء السنة.
الفصل الرابع :- الاستدلال بالتحريف والوضع .
الفصل الخامس :- عقائد تابعة .
نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعاً سواء السبيل ، إنه نعم المولي ونعم النصير ، وهو المستعان .
? رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ?، ? سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ علَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ??.
الفصل الأول
الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة
أولا : الإمامة والخلافة
الإمامة لغة التقدم ، نقول : أمّ القوم وبهم : تقدمهم . والإمام : ما ائتم به الناس من رئيس أو غيره : هادياً كان أو ضالاً ، ويطلق لفظ الإمام على الخليفة ، وهو السلطان الأعظم وإمام الرعية ورئيسهم .
وأممت القوم في الصلاة إمامة ، وائتم به أي اقتدى .(176/17)
ويطلق لفظ الإمام كذلك على القرآن الكريم ، فهو إمام المسلمين ، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهو إمام الأئمة بأئمتها ، وعليهم جميعاً الائتمام بسنته التي نص عليها .
ويطلق على قيم الأمر المصلح له ، وعلى قائد الجند ، وقد يذكر ويراد به غير هذه المعاني (1).
ولم يرد لفظ الإمامة في القرآن الكريم ، وإنما ورد لفظ إمام وأئمة ، قال تعالى :-
" قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "(2) أي جاعلك قدوة يؤتم به ، وقال سبحانه :" وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا " (3) وقال عز وجل "فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ "(4) } - { ) أي قاتلوا رؤساء الكفر وقادتهم الذين صار ضعفاؤهم تبعاً لهم . وقال تعالى : "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ " (5)[3]) ، أي من تبعهم فهو في النار يوم القيامة .
ومن المفهوم اللغوى لكلمة إمام نستطيع أن ندرك سبب إطلاق هذا الاسم على حاكم المسلمين ، كما وجدنا ترادفاً بين الإمامة والخلافة . ويفسر هذا أستاذنا الشيخ أبو زهرة رحمه الله فيقول : " سميت خلافة لأن الذي يتولاها ويكون الحاكم الأعظم للمسلمين يخلف النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة شئون المسلمين ، وتسمى الإمامة لأن الخليفة كان يسمى إماماً ، ولأن طاعته واجبة ، ولأن الناس يسيرون وراءه كما يصلون وراء من يؤمهم للصلاة "(6)[4]).
__________
(1) من بينها مثلا : أمة يؤمه إذا قصده كما جاء في الآية الكريمة الثانية من سورة المائدة
{ ولا آمين البيت الحرام } انظر مادة " أمم " في لسان العرب والقاموس المحيط .
(2) البقرة : 124.
(3) الأنبياء : 73.
(4) التوبة 12
(5) القصص :41
(6) تاريخ المذاهب الإسلامية 1/21 . والمعروف أن الخليفة الأول رضي الله عنه خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبعده كل خليفة يخلف من سبقه .(176/18)
وأعظم خلاف بين الأمة - كما يقول الشهر ستانى - خلاف الإمامة ، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان (1)[5])
وبالطبع ما كان الخلاف ليجد مكانا بين المسلمين وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسم الخلاف ، ويصلح النفوس ويهدى إلى صراط مستقيم
"فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" (2)[6])
ثانيا : التفكير في الإمامة وبيعة الصديق
أكان المسلمون يفكرون فيمن يخلف الرسول الكريم في إمامتهم وعلى وجه الخصوص عندما اشتد مرضه الأخير ؟
وردت روايات صحيحة الإسناد تفيد وجود مثل هذا التفكير ، منها ما جاء عن ابن عباس أن على بن أبى طالب خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفى فيه ، فقال الناس : يا أبا حسن ، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئاً ، قال ابن عباس : فأخذ بيده عباس بن عبدالمطلب فقال : ألا ترى أنت ؟ والله إنى أعرف وجوه بنى عبدالمطلب عند الموت ، فاذهب بنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلنسأله فيمن هذا الأمر ؟ فإن كان فينا علمنا ذلك ، وإن كان في غيرنا كلمناه فأوصى بنا ، فقال على : والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس أبداً ، فوالله لا أسأله أبداً (3)[7]).
__________
(1) الملل والنحل 1/24.
(2) - سورة النساء : الآية 65 .
(3) انظر الرواية رقم 2374 بالجزء الرابع من مسند الإمام أحمد تحقيق وتخريج الشيخ أحمد شاكر . وانظر هذه الرواية بسند صحيح آخر رقم 299 ج 5 من المسند .(176/19)
وجاء عن على - كرم الله وجهه - قال : " قيل : يا رسول الله ، من يؤمر بعدك ؟ قال : إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة ، وإن تؤمروا عمر تجدوه أميناً لا يخاف في الله لومة لائم ، وإن تؤمروا علياً ، ولا أراكم فاعلين ، تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الطريق المستقيم " (1)[8])
معنى هذا أن التفكير في الإمامة نبت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن الخلاف لم ينشأ إلا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى حيث كان اجتماع السقيفة المشهور الذي انتهى بالبيعة للخليفة الأول ، وتحدث الخليفة الثانى في إحدى خطبه عن ذلك الاجتماع فقال : " بلغنى أن قائلاً منكم يقول : والله لو مات عمر بايعت فلانا ، فلا يغترن امرؤ أن يقول : إنما كانت بيعة أبى بكر فلتة ، وتمت ، ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها ، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبى بكر. من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا ، وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلا أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بنى ساعدة ، وخالف عنا على والزبير ومن معهما ، واجتمع المهاجرون إلى أبى بكر ، فقلت لأبى بكر : يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نريدهم ، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان ، فذكرا ما تمالى عليه القوم ، فقالا : لا عليكم أن تقربوهم ، اقضوا أمركم ، فقلت : ماله ؟ قالوا : يوعك ، فلما جلسنا قليلاً تشهد خطيبهم ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وأنتم معشر المهاجرين رهط ، وقد دفت دافة من قومكم ، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر ، فلما سكت أردت أن أتكلم ، وكنت زورت مقالة أعجبتنى أريد
__________
(1) المرجع السابق ج3 رواية رقم 859 وهى صحيحة الإسناد.(176/20)
أن أقدمها بين يدى أبى بكر ، وكنت أدارى منه بعض الحد ، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر : على رسلك ، فكرهت أن أغضبه ، فتكلم أبوبكر فكان هو أعلم منى وأوقر . والله ما ترك من كلمة أعجبتنى من تزويرى إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت ، فقال : ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيهما شئتم ، فأخذ بيدى وبيد أبى عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا ، فلم أكره مما قال غيرها ، كان والله أن أقدم فتضرب عنقى ، ولا يقربنى ذلك من إثم ، أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تسول إلى نفسى عند الموت شيئاً لا أجده الآن . فقال قائل من الأنصار : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش . فكثر اللغط ، وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف ، فقلت : أبسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ، ثم بايعته الأنصار ، ونزونا على سعد بن عبادة ، قال عمر : وإنّا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبى بكر ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا ، فإما بايعناهم على ما لا نرضى ، وإما نخالفهم فيكون فساد ، فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو و لا الذي بايعه تغرة أن يقتلا "(1)
__________
(1) صحيح البخاري – كتاب المحاربين – باب رجم الحبلى ، وراجع المسند تحقيق شاكر ج1 رواية رقم 391 قوله : تغرة أن يقتلا : أي خوف وقوعهما في القتل . يحضوننا : يخرجوننا : زورت : هيأت وحسنت والتزوير : إصلاح الشيء ، وكلام مزور: أي محسن . جذيلها المحكك : الجذيل تصغير جذل ، وهو العود الذي ينصب للإبل الجربى لتحتك به ، وهو تصغير تعظيم ، أي أنا ممن يستشفى برأيه كما تستشفى الإبل الجربى بالاحتكاك بهذا العود ، وقيل : أراد أنه شديد البأس صلب المكسر . المرجب من الترجيب ، وهو أن تعمد النخلة الكريمة ببناء إذا خيف عليها – لطولها وكثرة حملها – أن تقع . ( انظر المسند ففيه المزيد ) .(176/21)
} - { ).
ثالثاً : الإمامة عند الجمهور
مما ذكره الفاروق نلاحظ ما يأتي :-
أولاً : لا خلاف حول وجوب إقامة خليفة ، وإنما كان الخلاف بشأن من يخلف الرسول صلى الله عليه وسلم . وإلى هذا انتهى جمهور السنة ، فلا يستقيم أمر الأمة بغير حاكم .
ثانياً : أن الخلافة في قريش : " لن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش " ولم يأخذ الأنصار بهذا أول الأمر ، ولكن ما أسرع أن بايعوا قريشاً ما عدا سعد عبادة فلم يبايع ، ويؤيد ما ذكره الصديق أحاديث صحيحة : فالبخارى - في كتاب الأحكام من صحيحه -جعل باباً بعنوان " الأمراء من قريش " ، ومما آخرجه هنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين " وقوله صلوات الله عليه : " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقى منهم اثنان " .
وفى كتاب الإمارة من صحيح مسلم نجد " باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش " ، ومما جاء في هذا الباب قول الرسول الكريم " الناس تبع لقريش في هذا الشأن " وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال هذا الأمر في قريش مابقى من الناس اثنان " .
وأخرج أحمد في مسنده روايات كثيرة صحيحة الإسناد تؤيد هذا ، منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " أما بعد ، يا معشر قريش ، فإنكم أهل هذا الأمر ، ما لم تعصوا الله ، فإذا عصيتموه بعث إليكم من يلحاكم كما يلحى هذا القضيب - لقضيب في يده - ثم لحا قضية ، فإذا هو أبيض يصلد " (1) } - - { )
ثالثاً : لا يكون خليفة إلا بالبيعة " قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم " . " فقلت ابسط يدك ياأبا بكر ، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ، ثم بايعته الأنصار " .
__________
(1) 10] ) المسند ج6 رواية رقم 4380 ، وانظر كذلك ج7 رواية رقم 4832 ، ج8 الروايتين 5677 ، 6121 ، ج13 الروايتين 7304 ، 7547.(176/22)
فإذا تمت البيعة وجب الوفاء بها ، ولهذا قال " خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا فإما بايعناهم على مالا نرضى ، وإما نخالفهم فيكون فساد " وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر" (1)2) وقال أيضا: " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد ، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ". (2)[11])
رابعا : ما دام الواجب الوفاء بالبيعة فلا بيعة إلا بمشورة المسلمين " فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا " والشورى مبدأ معروف في الإسلام فمن المقطوع به أن الحكم في الإسلام ينبنى على مبدأين أساسيين هما العدالة والشورى ، قال تعالى:-
__________
(2) 11] ) في فتح البارى بعد الحديث عن الرواية السابقة قال ابن حجر : قد صحح ابن حبان وغيره من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه أن علياً بايع أبا بكر في أول الأمر . وأما ما وقع في مسلم عن الزهرى أن رجلاً قال له : لم يبايع على أبا بكر حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها قال : لا ولا أحد من بنى هاشم . فقد ضعفه البيهقي بأن الزهرى لم يسنده ، وأن الرواية الموصولة عن أبى سعيد أصح . وجمع غيره بأنه بايعه بيعة ثانية مؤكدة للأولى لإزالة ما كان وقع بسبب الميراث . وحينئذ يحمل قول الزهرى لم يبايعه على في تلك الأيام على إرادة الملازمة له والحضور عنده ، وما أشبه ذلك ، فإن في انقطاع مثله عن مثله يوهم من لا يعرف باطن الأمر أنه بسبب عدم الرضا بخلافته ، فأطلق من أطلق ذلك ، وبسبب ذلك أظهر على المبايعة التي بعد موت فاطمة لإزالة هذه الشبهة.(176/23)
" وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ " (1)[12]). وقال جل شأنه:-" وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ " (2)[13]) " وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ"َ (3)[14])
خامساً :-أن البيعة تمت لأبى بكر بهذه السرعة ، بغير تدبير سابق وإنما كانت فلتة نظراً لمكانته . " ليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبى بكر " - ...... " كان والله أن أقوم فتضرب عنقى - لا يقربنى ذلك من إثم - أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر " .
بعد هذه الملاحظات نقول : إنه في ضوء ما سبق وغيره اشترط الجمهور للخلافة الراشدة ، خلافة النبوة ، أن تكون لقرشى عادل عن طريق البيعة والشورى ، على خلاف في بعض الأمور مثل تحديد من تنعقد بهم البيعة(4) } - - { ) .
ورأي الأنصار في أحقيتهم للخلافة انتهى بالبيعة ، ولم يطل على التاريخ من جديد ، ولكن أولئك القرشيين الذي امتنعوا عن البيعة أول الأمر، ثم ما لبثوا أن بايعوا كان لهم شأن آخر في تاريخ الأمة الإسلامية . والمشهور أن هؤلاء لم يبايعوا لأنهم يرون أن الإمامة ليست في قريش بصفة عامة ، وإنما هي في أهل بيت النبوة وللإمام على بصفة خاصة . وهؤلاء قلة يذكر لنا التاريخ منهم بعض الصحابة من غير بنى هاشم كالمقداد بن الأسود ، وسلمان الفارسى ، وأبى ذر الغفارى رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، ولكنهم جميعاً لم يتعرضوا للخليفة بتكفير أو تجريح . وعرض أبوسفيان البيعة على الإمام على ولكنه أبى لقوة دينه وفرط ذكائه .
*****
رابعاً : على وبيعة من سبقه
__________
(1) 12]) سورة النساء – الآية 58.
(2) 13]) سورة الشورى : الآية 38 .
(3) 14]) آل عمران – الآية 159.
(4) 15]) انظر تاريخ المذاهب الإسلامية 1/93: 109 ، والفرق بين الفرق ص 210 –212.(176/24)
إذا كان المشهور يدل غالباً على واقع الأمر . فإن من الأمور ما يشتهر مخالفاً للحقيقة . فمما اشتهر أن الإمام علياً لم يبايع لأنه كان يرى أحقيته بالإمامة من غيره . ولكن الثابت من أقواله يدل على أنه كان يرى ألا يقضى مثل هذا الأمر دون أن يكون له فيه رأي ، مع اعترافه بأفضلية الصديق ، وعدم إنكار أحقيته لإمامة المسلمين : روى البخاري أن الإمام علياً عندما أراد مبايعة الصديق رضي الله عنهما أرسل إليه فجاءه ، فتشهد على فقال : " إنّا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله ، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك ، ولكنك استبددت علينا بالأمر ، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيباً ، حتى فاضت عينا أبى بكر . فلما تكلم أبو بكر قال : والذى نفسى بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتى ، وأما الذي شجر بينى وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيها عن الخير ، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته . فقال على لأبى بكر : موعدك العشية للبيعة . فلما صلى أبو بكر الظهر رقى على المنبر فتشهد ، وذكر شأن على وتخلفه عن البيعة ، وعذره بالذى اعتذر إليه ، ثم استغفر وتشهد على فعظم حق أبى بكر ، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبى بكر ولا إنكارا للذى فضله الله به ،ولكنا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً ، فاستبد علينا ، فوجدنا في أنفسنا ، فسر بذلك المسلمون وقالوا : أصبت . وكان المسلمون إلى على قريباً حين راجع الأمر بالمعروف" ( كتاب المغازي باب غزوة خيبر). وروى مسلم أكثر من رواية تفيد ما سبق ، وفى إحدى رواياته " ثم قام على فعظم من حق أبى بكر ، وذكر فضيلته وسابقته ، ثم مضى إلى أبى بكر فبايعه ، فأقبل الناس إلى على فقالوا : أصبت وأحسنت " (كتاب الجهاد - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا نورث ماتركنا فهو صداقة ) . واستبد بالأمر : إذا(176/25)
انفرد به غير مشارك له فيه ، وقول الإمام : ولكنك استبددت علينا بالأمر : أي لم تشاورنا في أمر الخلافة .
ومن المشهور كذلك أن الإمام علياً لم يبايع إلا بعد وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنهما ، ولكن يوجد ما يدل على أنه لم يتآخر هذه الفترة.
وقبل انتهاء فترة الخلافة الأولى القصيرة - التي بارك الله تعالى فيها أيما بركة - كان الصديق قد استقر رأيه على استخلاف عمر بعد تعرفه على آراء كثير من الصحابة الكرام . على أن بعض هؤلاء قد تخوف من خلافة الفاروق لما اشتهر به من الشدة ، وقالوا لأبى بكر : قد وليت علينا فظاً غليظاً ، فقال : لو سألنى ربى يوم القيامة لقلت : وليت عليهم خيرهم (1)(2) } - تمهيد { ) .
وعندما أخذ رأي المسلمين في البيعة لمن ذكر في كتاب الخليفة الأول قالوا : نسمع ونطيع ، غير أن على بن أبى طالب انفرد بقوله : " لا نرضى إلا أن يكون عمر " (3) } - - { ) .
__________
(2) 16]) انظر الملل والنحل 1/25 ، وجاء في كتاب الاستخلاف " إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب ، فإن بر وعدل فذلك علمى به ورأيى فيه ، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب ، والخير أردت . ولكل امرئ ما اكتسب . وسيعلم الذي ظلموا أي منقلب ينقلبون " ( الكامل للمبرد 1/8) .
(3) 17]) عبقرية الصديق ص 164.(176/26)
ولم يتأخر أحد عن بيعة عمر بن الخطاب إلا سعد بن عبادة . ومرت الخلافة العمرية الراشدة ، وانتهى الأمر إلى الستة (1) } - - { ) ليختاروا واحدا منهم ، ثم انحصرت الخلافة في ثلاثة ، فاثنين هما عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب ، ثم كانت البيعة الجماعية لذى النورين ، فلماذا انتهت إليه ؟
__________
(1) 18]) الستة هم : على وعثمان والزبير وطلحة وسعد بن أبى وقاص وعبدالرحمن بن عوف . قال عبدالرحمن : اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم . فقال الزبير : قد جعلت أمرى إلى على . فقال طلحة : قد جعلت أمرى إلى عثمان . وقال سعد : قد جعلت أمرى إلى عبدالرحمن بن عوف .(176/27)
روى البخاري بسنده عن المسور بن مخرمة " أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا ، قال لهم عبدالرحمن : لست بالذى أنافسكم على هذا الأمر ، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم ، فجعلوا ذلك إلى عبدالرحمن ، فلما ولوا عبدالرحمن أمرهم ، فمال الناس على عبدالرحمن حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه ، ومال الناس على عبدالرحمن يشاورونه تلك الليالى ، حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان قال المسور : طرقنى عبدالرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت ، فقال : أراك نائماً ، فوالله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم ، انطلق فادع الزبير وسعداً ، فدعوتهما له فشاورهما ، ثم دعانى فقال : ادع لي علياً فدعوته ، فناجاه حتى ابهار الليل ، ثم قام على من عنده وهو على طمع ، وقد كان عبدالرحمن يخشى من على شيئاً ، ثم قال : ادع لي عثمان فدعوته ، فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح . فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر ، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار ، وأرسل إلى أمراء الأجناد ، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر ، فلما اجتمعوا تشهد عبدالرحمن ، ثم قال : أما بعد يا على إنى قد نظرت في أمر الناس ، فلم أرهم يعدلون بعثمان ، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً ، فقال : أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده ، فبايعه عبدالرحمن ، وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون(1)[19]).
__________
(1) 19] ) البخاري – كتاب الأحكام – باب كيف يبايع الإمام الناس ، وراجع فتح الباري – كتاب المناقب – باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان رضي الله عنه .(176/28)
وكانت السنوات الأولى في عهد عثمان خيراً وبركة ، ثم بدأت الفتنة التي أدت إلى مقتله . وقد بذل الإمام على كل ما استطاع في سبيل إخمادها ولكن هيهات ! وفى هذه الفترة بدأت الأنظار تتعلق بعلى ، وتذكر ما له من فضل ومكانة . إذا ما انتقل الخليفة الشهيد إلى حيث بشره الرسول صلى الله عليه وسلم تجمع المسلمون حول أبى الحسن علهم يجدون على يديه مخرجاً . وتمت البيعة ولكن لم تنته الفتنة ، بل زاد أوراها ، وسالت دماء طاهرة على أرض الإسلام بسيوف المسلمين! وعلى قتله عثمان الوزر الأكبر لكل ما نتج عن هذه الفتنة ، ولكن " وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً" (1) } - - { ) .
وكان من نتيجة حادثة " التحكيم " الشهيرة أن انسل جماعة من أتباع الإمام وخرجوا على المتحاربين معاً ، على ومعاوية ! وهؤلاء هم الذين سموا " الخوارج " أما الذين ظلوا مع الإمام فهم الذين أطلق عليهم لقب " الشيعة " . (2)
__________
(1) 20]) سورة الأنفال : الآية رقم 25 .
(2) 21]) الشيعة معناها الأتباع والأنصار والفرقة ، ولكن غلب هذا الاسم على كل من يتولى علياً وأهل بيته حتى صار اسماً لهم خاصاً ، وجمعه أشياع وشيع . ( انظر مادة شيع في القاموس المحيط).
وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم بمعناه في عدد من آياته كقوله تعالى :- { وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } ( القصص آية "15" ).وقوله عز وجل في سورة الأنعام (الآية 159 ): { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } . وقيل : إن ظهور هذا اللقب كان عام سبع وثلاثين من الهجرة ، وقيل بل بعد أن قبض معاوية على زمام السلطة (انظر مختصر التحفة ص 5 وروح الإسلام ص 313 ). وقال الدكتور طه حسين : الشيء الذي ليس فيه شك فيما أعتقد هو أن الشيعة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة عند الفقهاء والمتكلمين ومؤرخى الفرق لم توجد في حياة على وإنما وجدت بعد موته بزمن غير طويل . وإنما كان معنى كلمة الشيعة أيام على هو نفس معناها اللغوى القديم الذي جاء في القرآن ( على وبنوه ص 173 ) . وتحدث بعد ذلك (ص 187 - 189) عن عودة الحسن من الكوفة إلى المدينة بعد الصلح مع معاوية ، وعن مجىء وفد من أشراف الكوفة ومعاتبتهم له ، وطلبهم إليه أن يعيد الحرب ، وموقفه منهم . وقال الدكتور طه حسين بعد ذلك : "وأعتقد أن اليوم الذي لقى الحسن فيه هؤلاء الوفد من أهل الكوفه ، فسمع منهم ما سمع وقال لهم ما قال ورسم لهم خطتهم ، هو اليوم الذي أنشئ فيه الحزب السياسى المنظم لشيعة على وبنيه ، نظم الحزب في* *المدينة في ذلك المجلس وأصبح الحسن له رئيساً ، وعاد أشراف أهل الكوفة إلى من وراءهم ينبئونهم بالنظام الجديد والخطة المرسومة " (ص 189-190) .(176/29)
} - - { )
خامساً : الخوارج ورأيهم في الإمامة
الخوارج لا يزال لهم بقية إلى يومنا هذا (1) } - - { ) وقد انقسموا فرقاً على مر التاريخ " ويجمع الخوارج على اختلاف مذاهبها : إكفار على ، وعثمان وأصحاب الجمل ، والحكمين ، ومن رضى بالتحكيم وصوب الحكمين أو أحدهما ، ووجوب الخروج على السلطان الجائر " (2)[23]) .
وللخوارج رأي خاص في الإمامة :
__________
(1) 22]) هذه البقية من الإباضية ، وهم أكثر الخوارج اعتدالا وأقربهم إلى الجماعة الإسلامية تفكيراً ، فهم أبعدهم عن الشطط والغلو ولذلك بقوا ، ولهم فقه جيد ، وفيهم علماء ممتازون ، ويقيم طوائف منهم في بعض واحات الصحراء الغربية ، وبعض آخر في بلاد الزنجبار. ويقولون عن مخالفيهم إنهم كفار نعمة لا كفار في الاعتقاد ، وذلك لأنهم لم يكفروا بالله تعالى ، ولكنهم قصروا في جنب الله عز وجل (انظر ص 91من الجزء الأول من تاريخ المذاهب الإسلامية ) كما يقيم طوائف منهم في عمان والجزائر وتونس.
(2) 23]) الفرق بين الفرق ص 45 ، واقرأه إلى ص 67 للتعرف على الخوارج وآرائهم ، وراجع كذلك : الملل والنحل 1/114 –138 والخطط المقريزية ج4 ص 178-180وفجر الإسلام 1/314 ، 325 ، وتاريخ المذاهب الإسلامية 1/96 –92.(176/30)
فالإمام لا يكون إلا باختيار حر من المسلمين ، وإذا اختير فليس يصح أن يتنازل أو يحكم . ويظل رئيساً للمسلمين ما دام قائماً بالعدل مجتنباً للجور ، ومن خرج عليه يجب نصب القتال معه ، ولكن إذا غير السيرة وعدل عن الحق وجب عزله أو قتله . ولا يشترطون القرشية كما اشترط الجمهور ، فللأمة أن تختار من تشاء ولو كان عبداً حبشياً . كما أن فرقة منهم وهى "النجدات" أجمعت على أنه لا حاجة بالناس إلى إمام وإنما عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم ، فإن رأوا أن ذلك لا يتم إلا بإمام يحملهم عليه فأقاموه جاز ، فإقامة الإمام في نظرهم ليست واجبة بإيجاب الشرع بل جائزة ، وإذا وجبت فإنما تجب بحكم المصلحة والحاجة.وفرقة أخرى منهم وهى " الشبيبية " أتباع شبيب بن يزيد الشيبانى - " أجازوا إمامة المرأة منهم إذا قامت بأمورهم . وخرجت على مخالفيهم ، وزعموا أن غزالة أم شبيب كانت الإمام بعد قتل شبيب إلى أن قتلت " (1) } - - { )
سادساً : الإمامة عند الزيدية
الشيعة على اختلاف فرقهم يرون وجوب إمام ، ولكن رأيهم في الإمامة يخالف ما ذهب إليه جمهور المسلمين .
وأقربهم إلى الجمهور فرقة الزيدية ، أتباع زيد بن على بن الحسين بن علىبن أبى طالب رضي الله عنهم . فبعد استشهاد الإمام الحسين ذهبت فرقة من الشيعة إلى أن الإمامة لا تكون إلا في أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها ، ويستوى في هذا أولاد الحسن وأولاد الحسين ، ورأوا أن كل فاطمى عالم شجاع سخى خرج بالإمامة فهو إمام واجب الطاعة ، وجوزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال ، فلما خرج زيد بن على في عهد هشام بن عبد الملك بايعه هؤلاء.
__________
(1) 24]) الفرق بين الفرق ص 65: 66 .(176/31)
وكان من مذهب الإمام زيد جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل ، فقال : " كان على بن أبى طالب رضي الله عنه أفضل الصحابة ، إلا أن الخلافة فوضت إلى أبى بكر لمصلحة رأوها ، وقاعدة دينية راعوها ، من تسكين نائرة الفتنة ، وتطييب قلوب العامة ، فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريباً ، وسيف أمير المؤمنين على عن دماء المشركين من قريش وغيرهم لم يجف بعد . والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي ، فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل ، ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد ، فكانت المصلحة أن يكون القائم بهذا الشأن من عرفوه باللين والتؤدة والتقدم بالسن ، والسبق في الإسلام ، والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم.... وكذلك يجوز أن يكون المفضول إماماً والأفضل قائم فيرجع إليه في الأحكام ، ويحكم بحكمه في القضايا " (1) } - - { )
ولما سمعت شيعة الكوفه هذه المقالة منه ، وعرفوا أنه لا يتبرأ من الشيخين ، وإنما قال : " إنى لا أقول فيهما إلا خيراً ، وما سمعت أبى يقول فيهما إلا خيراً ، وإنما خرجت على بنى أمية الذين قاتلوا جدى الحسين " عندما سمعوا ذلك فارقوه ، ورفضوا مقالته حتى قال لهم : رفضتمونى ، ومن يومئذ سموا رافضه (2) } - تمهيد { ) .
وفرق الزيدية منهم من يتفق مع ما ذهب إليه الإمام زيد ومنهم من خالفه ، فالجارودية زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على الإمام على بالوصف دون التسمية ، وهو الإمام بعده ، والناس قصروا حيث لم يتعرفوا الوصف ، ولم يطلبوا الموصوف ، وإنما نصبوا أبا بكر باختيارهم فكفروا بذلك (3)[27]).
__________
(1) 25]) الملل والنحل 1/155.
(2) 26]) الفرق بين الفرق ص 25 ، وانظر الملل والنحل 1/155.
(3) 27]) انظر المرجع الأول ص22 ، والملل والنحل 1/157 -158 .(176/32)
ولكن باقي فرق الزيدية ذهبوا إلى أن الإمامة شورى فيما بين الخلق ، وأنها تصح في المفضول مع وجود الأفضل ، وأثبتوا إمامة الشيخين أبى بكر وعمر حقاً باختيار الأمة حقاً اجتهادياً ، واختلفوا في عثمان فمنهم من طعن ، ومنهم من توقف (1)[28]).
سابعاً : الإمامة عند الإسماعيلية
أما الشيعة الإمامية فهم يرون أن الإمامة منصب إلهى يختار له الله بسابق علمه بعباده كما يختار النبي ، ويأمر النبي بأن يدل الأمة عليه ويأمر باتباعه .
ويقولون : إن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه بأن ينص على علىّ وينصبه علماً للناس من بعده ، وقد بلغ الرسول الكريم ربه ، فلما انتقل إلى الرفيق الأعلى لم يتبع المسلمون أمر الله تعالى و لا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتركوا ركناً من أركان الإيمان . ويرون أن النص بعد الإمام على لابنه محمد الباقر ، فابنه جعفر الصادق . وبعد القول بإمامة أبى عبد الله جعفر الصادق نرى منشأ أكبر فرقتين من فرق الشيعة هما الإسماعيلية والجعفرية الاثنا عشرية .
فالإسماعيلية جعلوا الإمامة بعده لابنه إسماعيل ، الابن الأكبر ، وافترق هؤلاء فرقتين :
فرقة منتظرة لإسماعيل بن جعفر ، مع اتفاق أصحاب التواريخ على موت إسماعيل في حياة أبيه . وفرقة قالت : كان الإمام بعد جعفر سبطه محمد بن إسماعيل بن جعفر حيث إن جعفر نصب ابنه إسماعيل للإمامة بعده ، فلما مات إسماعيل في حياة أبيه علمنا أنه إنما نصب ابنه إسماعيل للدلالة على إمامة ابنه محمد بن إسماعيل ، وإلى هذا القول مالت الإسماعيلية الباطنة (2)[29]).
__________
(1) 28]) انظر الملل والنحل 1/159 –162 ، والفرق بين الفرق ص 24، وفرق الشيعة ص 20 –21 ، ص 55 ، والفصل في الملل والأهواء والنحل ص 92-93.
(2) 29] ) الفرق بين الفرق ص39 .(176/33)
والإسماعيلية جعلوا الإمامة بعد إسماعيل لابنه محمد المكتوم ، ومنهم من وقف عليه وقال برجعته بعد غيبته ، ومنهم من ساق الإمامة في أئمة " مستورين" منهم ، ثم في (ظاهرين قائمين ) من بعدهم . وقالوا : لم تخل الأرض قط من إمام حى قائم . إما ظاهر مكشوف ، وإما باطن مستور .
فإذا كان الإمام ظاهراً جاز أن يكون حجته مستوراً ، وإذا كان الإمام مستوراً فلابد أن يكون حجته ودعاته ظاهرين .
ومن مذهبهم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ، وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية (1) } - - { ).
ثامناً : عقيدة الإمامة عند الجعفرية
الجعفرية الاثنا عشرية ـ وهم أكبر الفرق الإسلامية المعاصرة ـ لهم عقيدة خاصة في الإمامة أحب بيانها بشئ من التفصيل ، فأقول :
يعتقد الجعفرية أن الإمامة كالنبوة في كل شئ باستثناء الوحي ، فالقول فيه مخلتف ، ولذلك قالوا (2) } - - { ).
إن الإمامة أصل من أصول الدين :-
__________
(1) 30]) انظر الملل والنحل 1/191-192.
(2) 31]) انظر أقوالهم في المراجع الآتية :
عقائد الأمامية ص 80:65 – أصل الشيعة وأصولها ص 41:33 – كشف المراد شرح تجريد الاعتقاد : المقصد الخامس : الإمامة ص284 وما بعدها – بحار الأنوار : باب جامع في صفات الإمام وشرائط الإمامة 25/115 : 175 وباب أنه جرى لهم ( أي للأئمة ) من الفضل والطاعة مثل ما جرى للرسول - صلى الله عليه وسلم -وأنهم في الفضل سواء .انظر نفس الجزء من ص 352 إلى363 .(176/34)
لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها ، فمن لم يذهب مذهبهم في الإمامة فهم يجمعون على أنه غير مؤمن ، وإن اختلفوا في تفسير غير المؤمن هذا : فمن قائل بكفره ، إلى قائل بالفسق ، وأكثرهم اعتدالا أو أقلهم غلواً يذهب إلى أنه ليس مؤمناً بالمعنى الخاص وإنما هو مسلم بالمعنى العام ، ما لم يكن مبغضاً للأئمة وشيعتهم فضلاً عن حربهم فهو يعد كافراً عند جميع الجعفرية .
ذكر الحلى ـ الملقب عند الجعفرية بالعلامة ـ بأن إنكار الإمامة شر من إنكار النبوة ! حيث قال : " الإمامة لطف عام والنبوة لطف خاص لإمكان خلو الزمان من نبي حى بخلاف الإمام....وإنكار اللطف العام شر من إنكار اللطف الخاص " (الألفين 1/3) .
وعقب أحد علمائهم على هذا بأنه " نعم ما قال " وأضاف : وإلى هذا أشار الصادق بقوله عن منكر الإمامة هو شر الثلاثة ، فعنه أنه قال : الناصبى شر من اليهودى . قيل : وكيف ذلك يا بن رسول الله ؟ فقال : إن اليهودى منع لطف النبوة وهو لطف خاص ، والناصبى منع لطف الإمامة وهو عام ( انظر حاشية ص43 النافع يوم الحشر ) .
وفى مصباح الهداية (ص 61-62 ) ذكر المؤلف أن الإمامة مرتبة فوق النبوة !
وقال ابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق : " اعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين على بن أبى طالب والأئمة من بعده أنه كمن جحد نبوة جميع الأنبياء . واعتقادنا فيمن أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحداً من بعده من الأئمة أنه بمنزلة من أقر بجميع الأنبياء وأنكر نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ( رسالته في الاعتقادات ص 103 ) .
وقال المفيد : " اتفقت الإمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة ، فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار"( بحار الأنوار للمجلسى 23/390، والمجلسى ذكر قول المفيد لتأييد رأيه ) . والمفيد كان رأس الإمامية ، وشيخاً لشيخ طائفتهم أبى جعفر الطوسي .(176/35)
وإلى جانب ضلال هؤلاء القوم وغلوهم نجد غلوهم في جانب آخر ، فهم يرون أن الفاسق منهم يدخل الجنة وإن مات بلا توبة ! (انظر أجوبة المسائل الدينية - العدد الثامن-المجلد التاسع ص 226وراجع كتابى : فقه الشيعة الإمامية 1/15).
الإمام كالنبي في عصمته وصفاته وعلمه :-
فالإمام يجب أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن ، من سن الطفولة إلى الموت ، عمداً وسهواً ، كما يجب أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان !
ويجب أن يكون أفضل الناس في صفات الكمال من شجاعة وكرم وعفة وصدق وعدل ومن تدبير وعقل وحكمة وخلق .
أما علمه فهو يتلقى المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات من طريق النبي أو الإمام من قبله .(176/36)
وإذا استجد شئ فلابد أن يعلمه من طريق الإلهام بالقوة القدسية التي أودعها الله تعالى فيه ، فإن توجه إلى شئ وشاء أن يعلمه على وجهه الحقيقى ، لا يخطئ فيه و لايشتبه عليه ، و لا يحتاج في كل ذلك إلى البراهين العقلية ، ولا إلي تلقينات المعلمين ، وإن كان علمه قابلاً للزيادة والاشتداد . وذهب بعضهم إلى أن أحد الملائكة كان يلازم الرسول صلى الله عليه وسلم ليسدده ويرشده ويعلمه ، فلما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ظل الملك بعده . ولم يصعد ليؤدى نفس وظيفته مع الأئمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم (1)
__________
(1) 32] ) ) انظر أصول الكافى : باب فيه ذكر الأرواح التي في الأئمة (1/271-272) وباب الروح التي يسدد الله بها الأئمة (1/273-274) وهذا الباب فيه ستة أخبار منها عن أبى * *عبد الله { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } قال : خلق من خلق الله عز وجل أعظم من جبرائيل وميكائيل ، كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره ويسدده ، وهو مع الأئمة من بعده. وفى الباب الأسبق ذكر أن روح القدس خاصة بالأنبياء ، فإذا قبض النبي انتقل روح القدس فصار إلى الإمام . وروح القدس لاينام ولا يغفل و لايلهو و لا يزهو والإمام يرى به ، وفيه الحاشية فسر الرؤية بقوله : يعنى ماغاب عنه في أقطار الأرض وما في عنان السماء ! وبالجملة ما دون العرش إلى ما تحت الثرى ! وانظر بحار الأنوار ( 47/25-99 ) باب الأرواح التي فيهم ( أي في الأئمة ) وأنهم مؤيدون بروح القدس . وقال ابن بابويه القمي في رسالته ( ص 108-109 ) : " اعتقادنا في الأخبار الصحيحة عن الأئمة أنها موافقة لكتاب الله ، متفقة المعانى ، غير مختلفة ، لأنها مأخوذة من طريق الوحي عن الله سبحانه وتعالى " وهذا القمي صاحب كتاب " فقيه من لايحضره الفقيه " : أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عند الجعفرية . وقال المجلسى : أصحابنا أجمعوا على عصمة الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم من الذنوب الصغيرة والكبيرة. عمداً وخطأ ونسيانّا قبل النبوة والإمامة وبعهدهما ، بل من وقت ولادتهما إلى أن يلقوا الله تعالى . ولم يخالف في ذلك إلا الصدوق محمد بن بابويه وشيخة ابن الوليد ، فإنهما جوزا الإسهاء من الله تعالى لا السهو الذي يكون من الشيطان في غير ما يتعلق بالتبليغ وبيان الأحكام " ( بحار الأنوار : 25/350-351) .وقال الطوسي: " لا يجوز عليهم- أي على الأئمة - السهو والنسيان فيما يؤدونه عن الله . فأما غير ذلك فإنه يجوز أن ينسوه أو يسهوا عنه ما لم يؤد ذلك إلى الإخلال بكمال العقل .وكيف لا يجوز عليهم ذلك وهم ينامون ويمرضون ويغشى عليهم . والنوم سهو ، وينسون كثيراً من تصرفاتهم أيضاً ، وما جرى لهم فيما مضى من الزمن " (التبيان 4/165-116) . والطوسى يلقبونه بشيخ الطائفة ، وهو صاحب كتابين من كتب الحديث الأربعة .(176/37)
[32]).
لابد أن يكون في كل عصر إمام هاد يخلف النبي في وظائفه من هداية البشر وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين ، وله ما للنبي من الولاية العامة على الناس لتدبير شئونهم ومصالحهم وإقامة العدل بينهم ، ورفع الظلم والعدوان من بينهم ، وعلى هذا فإن الإمامة استمرار للنبوة .
الأئمة هم أولو الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم ، وهم الشهداء على الناس ، وأبواب الله والسبل إليه والأدلاء عليه . فأمرهم أمر الله تعالى ونهيهم نهيه ، وطاعتهم طاعته ، ومعصيتهم معصيته ، ووليهم وليه وعدوهم عدوه . ولا يجوز الرد عليهم ، والراد عليهم كالراد على الرسول ، والراد على الرسول كالراد على الله تعالى ، فيجب التسليم لهم ، والانقياد لأمرهم ، والأخذ بقولهم .
ولذا فالجعفرية يعتقدون أن الأحكام الشرعية الإلهية لا تستقى إلا من نمير ماء أئمتهم ، ولا يصح أخذها إلا منهم ، ولا تفرغ ذمة المكلف بالرجوع إلى ، غيرهم ، و لايطمئن بينه وبين الله تعالى إلى أنه قد أدى ما عليه من التكاليف المفروضة إلا من طريقهم .
مادامت الإمامة كالنبوة فهى لا تكون إلا بنص من الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أو على لسان الإمام المنصوب بالنص إذا أراد أن ينص على الإمام من بعده ، وحكمها في ذلك حكم النبوة بلا فرق ، فليس للناس أن يتحكموا فيمن يعينه هادياً ومرشداً لعامة البشر ، كما ليس لهم حق تعيينه أو ترشيحه أو انتخابه ، لأن الشخص الذي له من نفسه القدسية استعداد لتحمل أعباء الإمامة العامة وهداية البشر قاطبة يجب ألا يعرف إلا بتعريف الله تعالى ، ولا يعين إلا بتعيينه .(176/38)
ويعتقدون كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على خليفته والإمام في البرية من بعده ، فعين ابن عمه على بن أبى طالب أميراً للمؤمنين وأميناً للوحى ،وإماماً للخلق في عدة مواطن ، ونصبه وأخذ البيعة له بإمرة المؤمنين يوم غدير خم . كما أنه صلى الله عليه وسلم بين أن الأئمة من بعده اثنا عشر ، نص عليهم جميعاً بأسمائهم ، ثم نص المتقدم منهم على من بعده .
6-الأئمة الاثنا عشرية الذين نص عليهم الرسول صلى الله عليه وسلمهم :-
1- ابو الحسن على بن أبى طالب ( المرتضى ) الذي ولد قبل البعثة بعشر سنوات ، واستشهد سنة أربعين من الهجرة .
2- أبو محمد الحسن بن على " الزكى "
(3-50)
3- أبو عبد الله الحسين بن على "سيد الشهداء "
(4-61)
4- أبو محمد على بن الحسين " زين العابدين "
(38-95)
5-أبو جعفر محمد بن على " الباقر"
(57-114)
6- أبو عبد الله جعفر بن محمد " الصادق "
(83-148)
7- أبو إبراهيم موسى بن جعفر " الكاظم "
(128-183)
8- أبو الحسن على بن موسى " الرضا "
(148-202 أو 203)
9- ابو جعفر محمد بن على " الجواد "
(195-220)
10-أبو الحسن على بن محمد " الهادى "
(212أو 214-250)
11-أبو محمد الحسن بن على " العسكري"
(232-260)
12-أبو القاسم محمد بن الحسن "المهدى " وهو الحجة في هذا العصر الغائب ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً . قيل ولد سنة 256 هـ ، وغاب غيبة صغرى سنة 260 هـ ، وغيبة كبرى سنة 329
تعقيب
بعد بيان عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية كما جاءت في كتبهم هم أنفسهم أذكر بما يأتي :-(176/39)
جعلهم الإمامة أصلا من أصول الدين فيه طعن في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، فما منهم من أحد يقول بالإمامة التي تقصدها هذه الفرقة ، حتى أن الإمام علياً رضى عنه هو نفسه لم يقل بهذا كما بينت وأثبت فيما جاء تحت عنوان " رابعاً : على وبيعة من سبقه " ، وأول من قال بالوصى بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو عبد الله بن سبأ كما نقلت من المراجع الشيعية نفسها في التمهيد .
إجماعهم على تكفير من حارب أمير المؤمنين على بن طالب رضي الله عنه يعنى تكفير آلاف الصحابة الكرام البررة ، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي شهد لهم بالخيرية ، وبشر بعضهم بالجنة ، بل يصطدم مع كتاب ربنا عز وجل ، فمنهم من شهد الله سبحانه وتعالى بأنه رضى عنهم ، ولم يثبت أنه عاد فسخط عليهم فمن أين إذن جاءوا بهذه الفرية الكبرى ؟!
ما سبق من قول المفيد ـ شيخ طائفتهم الطوسي ، وابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق ، وصاحب أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عندهم ، وابن المطهر الحلى الملقب عندهم بالعلامة ، وغيرهم يدل على أنهم يرون تكفير الأمة كلها ما عدا الرافضة وأتباع عبد الله بن سبأ ، وعلى الأخص خير أمة أخرجت للناس وهم الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه . وهذا ما سنراه عند تناولنا لكتاب الكافى للكلينى ، وهو أول وأعلى كتب الحديث المعتمدة عندهم ، وكتاب شيخه على بن إبراهيم القمي في التفسير .(176/40)
وفى كتابى " المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى " أثبت أن عبد الله الحسين شرف الدين يرى هذا الرأي الفاجر الكافر الضال ، وهذا يقطع بأن مسألة تكفير الأمة والصحابة الكرام ليس مسألة تاريخية جاءت في كتب التراث عندهم كما يحلو لدعاة التقريب عن جهل أو تضليل أن يبرروا هذا الضلال. بل إن عبدالحسين الذي يرى هذا الرأي ذكر أنه من دعاة التقريب !! وقد جاء هذا في أحد مؤتمرات التقريب في طهران ، وعبدالحسين في كتابيه المراجعات والفصول المهمة في تأليف الأمة يعتبر فعلاً من دعاة التقريب ولكن بمفهوم خاص !! فهو يدعو إلى تأليف الأمة كلها وجمعها تحت راية عبد الله بن سبأ ، وجعلها جميعها من الرافضة التي رفضت تبرئة الشيخيين خير البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعت على تكفيرهما وتكفير من بايعهما !!
ويحضرنى هنا ما اشتهر عن أبى زرعة الرازى أنه قال :
" إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق : وذلك أن القرآن حق ، والرسول صلى الله عليه وسلم حق ، وما جاء به حق ، وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة . فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة ، فيكون الجرح به أليق ، والحكم عليه بالزندقة والضلال أقوم وأحق " .
قولهم بوجوب استمرار الإمامة أبداً دون انقطاع أو توقف إلى يوم القيامة بعد الإمام الحسين ـ رضي الله عنه ـ في أحد من نسله ، بحيث يكون الابن خلفا للأب ، هذا القول جعلهم يضطرون إلى تنصيب طفل صغير في السابعة من عمره ، وهو إمامهم محمد الجواد الإمام التاسع ، ولذلك وجدنا فرقتين من شيعة أبيه على الرضا لم يعترفوا بإمامته لأنهم استصبوه واستصغروه . وفى كتاب فرق الشيعة (ص 92) للنوبختى والقمى الشيعيين جاء بيان هذا حيث قالا :(176/41)
" إن أبا الحسن الرضا عليه السلام توفى وابنه محمد ابن سبع سنين ، فاستصبوه واستصغروه ، وقالوا : لا يجوز أن يكون الإمام إلا بالغا ، ولو جاز أن يأمر الله ـ عز وجل ـ بطاعة غير بالغ لجاز أن يكلف الله غير بالغ ، فإنه كما لا يعقل أن يحتمل التكليف غير بالغ ، فكذلك لا يفهم القضاء بين الناس ، دقيقه وجليله، وغامض الأحكام وشرائع الدين ، وجميع ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ، وما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة من أمر دينها ودنياها ، طفل غير بالغ ، ولو جاز أن يفهم ذلك من قد نزل عن حد البلوغ درجة ، لجاز أن يفهم ذلك من قد نزل عن حد البلوغ درجتين وثلاثا وأربعا راجعا إلى الطفولة ، حتى يجوز أن يفهم ذلك طفل في المهد والخرق ، وذلك غير معقول ولا مفهوم ولا متعارف " ا. هـ
وكذلك اعتبروا ابنه عليا الهادى إماما وهو في السادسة من عمره ، وعلى قول آخر في الثامنة ، أي أنه كسابقه في سن الطفولة !
وأعجب من هذا كله قولهم بعد إمامهم الحادي عشر الحسن العسكري : فقد توفى ولم ير له خلف ، ولم يعرف له ولد ظاهر ، فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأمه ، فافترق أصحابه من بعده أكثر من عشر فرق ، فاخترع الاثنا عشرية له ابنا طفلا إماما حيا لا يموت إلى يوم القيامة !! وهو غائب يحج كل عام يرانا و لانراه !!
والإمامية الذين ساروا مع ضلال الاثنى عشرية في أحد عشر إماما ، جميعهم ـ ما عدا فرقة واحدة ـ قالوا وأكدوا أن الحسن العسكري ليس له ولد .(176/42)
من يراجع كتب الفرق يجد ظاهرة عامة وهى افتراق الشيعة إلى فرق مختلفة عند موت كل إمام ، وكل فرقة من هذه الفرق يمكن أن تفترق هي الأخرى إلى عدة فرق . وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان لشىء من هذا في موضوع تدوين السنة عند الشيعة في الجزء الثالث ، ونجد من هذه الفرق من بلغت درجة تأليه بعض البشر ، والشرك بالله عز وجل ، ومن ادعت نبوة فرد من أفرادها ، ومن استباحت اللواط ونكاح المحارم ، وقالت : من عرف الإمام فليصنع ما شاء فلا إثم عليه !
والمهم أن كل فرقة من هذه الفرق الضالة تزعم أنها هي الفرقة الناجية ، وأنها تمثل مذهب أهل البيت ! وأهل البيت الأطهار الأبرار برءاء منهم جميعاً .
وإن تعجب فعجب قول كل فرقة أنها مؤيدة بالكتاب العزيز ، والسنة المطهرة !!
ويأتى لهذا مزيد بيان في الفصل التالي ، وفى التدوين وكتب الحديث عند الاثنى عشرية في الجزء الثالث من هذا الكتاب .
الفصل الثاني
أدلة الإمامة من القرآن العظيم
" بين يدى الفصل "
من المعلوم أن القرآن الكريم ليس فيه نص ظاهر يؤيد المذهب الجعفرى ، فلجأ معتنقوه إلى التأويل ، والاستدلال بروايات ذكرت في أسباب النزول لآيات كريمة . وأهم ما استدل به الجعفرية هو :
قال تعالى :
" إِنمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ " (1) } - - { )
هذه الآية الكريمة يسمونها آية الولاية ، ويقولون : إنها تدل على أن إمام المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل هو على بن أبى طالب ، لأن لفظة " إنما " تفيد الحصر و " وليكم " تفيد من هو أولى بتدبير الأمور ووجوب طاعته ، والآية الكريمة نزلت في على بلا خلاف - كما يقولون - عندما تصدق بخاتمه وهو راكع .
في آية المباهلة
__________
(1) 33] ) سورة المائدة – الآية 55 .(176/43)
" فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ " (1)[34])
3 - قال تعالي :
" وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" (2)[35])
قالوا :إن المراد بأهل البيت هنا على وفاطمة والحسن والحسين ، وهذه الآية الكريمة تدل على عصمتهم ، والإمامة تدور مع العصمة .
4- قال سبحانه وتعالى :"وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (3)[36])
قالوا : إن هذه الآية الكريمة قد أبطلت إمامة كل ظالم ، فصارت في الصفوة من ذرية إبراهيم الخليل . ومن عبد غير الله ولو لحظة فهو ظالم ، وعلى هو الذي لم يعبد صنماً قط . أما غيره من الخلفاء فهم ظالمون لا يستحقون هذه الخلافة .
__________
(1) 34] ) سورة آل عمران – الآية 61 .
(2) 35] ) سورة الأحزاب – الآية 33 .
(3) 36] ) سورة البقرة – الآية 124.(176/44)
ومعنى هذا أن القرآن الكريم - على قولهم - قد أشار في أكثر من موضع أن عليا هو المستحق للإمامة دون غيره ، ولذلك فهم يعتقدون أن الله سبحانه أمر نبيه بأن ينص على علىِّ وينصبه علماً للناس من بعده ، وكان النبي يعلم أن ذلك سوف يثقل على الناس ، وقد يحملونه على المحاباة والمحبة لابن عمه وصهره ، ومن المعلوم أن الناس ذلك اليوم ، وإلى اليوم ليسوا في مستوى واحد من الإيمان واليقين بنزاهة النبي وعصمته عن الهوى والغرض ، ولكن الله سبحانه لم يعذره في ذلك ، فأوحى إليه :
"يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" (1)[37])
فلم يجد بداً من الامتثال بعد هذا الإنذار الشديد ، فخطب الناس عند منصرفه من حجة الوداع في غدير خم ، فنادى وجلهم يسمعون :
" ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : اللهم بلى . فقال : من كنت مولاه فهذا على مولاه ، إلى آخر ما قال ، ثم أكد ذلك في مواطن آخرى تلويحاً وتصريحاً ، وإشارة ونصاً حتى أدى الوظيفة(2)[38]).
وقبل أن ينصرف الرسول صلى الله عليه وسلم من غدير خم وقبل أن يتفرق الجمع نزل قوله تعالى : "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا " (3)[39])
__________
(1) 37] ) سورة المائدة – الآية 67.
(2) 38] ) أصل الشيعة وأصولها ص 134 ، وفيه " يا أيها النبي " و " اللهم نعم " .
(3) 39] ) الآية الثالثة من سورة المائدة .(176/45)
فقال رسول صلى الله عليه وسلم : الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضا الرب برسالتى ، والولاية لعلى من بعدى ، ثم طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين وفى مقدمتهم الشيخان(1)[40]). فشاع ذلك وطار في البلاد ، فبلغ ذلك الحرث بن النعمان الفهري . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة له حتى أتى الأبطح فنزل عن ناقته فأناخها ، فقال : يا محمد ، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا ، وأمرتنا أن نصلى خمساً فقبلناه منك ، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا ، وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلنا ، وأمرتنا بالحج فقبلنا ، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعى ابن عمك ففضلته علينا ، وقلت من كنت مولاه فعلى مولاه ، فهذا شىء منك أم من الله عز وجل ؟ فقال : والذي لا إله إلا هو إن هذا من الله . فولى الحرث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . فما وصل إليها حتى رماه الله تعالى بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله ، وأنزل الله عز وجل : "سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ " (2)[41])الآيات (3)[42])
هذه الآيات الكريمة السبعة السابقة هي أساس ما يستدلون به من القرآن الكريم ، فلنعرض رأيهم ، ونناقشه بالتفصيل .
أولا : الولاية
ننظر في الآية الكريمة الأولى ، آية الولاية كما يسميها الجعفرية والتي يعتبرونها نصاً صريحاً في إمامته ، فنجد أنهم يروون أنها نزلت في على بن أبى طالب رضي الله تعالى عنه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته ، فأومى بخنصره اليمنى إليه فأخذ السائل الخاتم من خنصره .
وقالوا في المعنى : إن الله تعالى بين من له الولاية على الخلق ، والقيام بأمورهم ، وتجب طاعته عليهم فقال :
__________
(1) 40] ) انظر الغدير 1/11 .
(2) 41] ) أول سورة المعارج .
(3) 42] ) الغدير 1/240 .(176/46)
"إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ" أي الذي يتولى مصالحكم ويدبر أموركم هو الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، " وَالَّذِينَ آمَنُواْ " ثم وصف الذين آمنوا فقال:" الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ " بشرائطها "وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ" أي يعطونها في حالة الركوع .
ثم قالوا : هذه الآية من أوضح الدلائل على صحة إمامة على بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل ، والوجه فيه أنه إذا ثبت أن لفظ وليكم تفيد من هو أولى بتدبير أموركم ويجب طاعته ، وثبت أن المراد بالذين آمنوا على ، ثبت النص عليه بالإمامة ، ووضح . الذي يدل على الأول هو الرجوع إلى اللغة ، فمن تأملها علم أن القوم نصوا على ذلك ، ولا يجوز حمل لفظة الولى على الموالاة في الدين والمحبة ، لأنه لا تخصيص في هذا المعنى لمؤمن دون مؤمن آخر ، ولفظة " إنما " تقتضى التخصيص ونفى الحكم عمن عدا المذكور . والذى يدل على أن المراد بالذين آمنوا على الروايات الكثيرة . فهو وحده الذي تصدق في حال الركوع ، كما أن الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية ، وإلا أدى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه (1)[43]).
هذا ما ذهب إليه الجعفرية ، ولكن أهل التأويل - كما يقول الطبري(2) } - - { ).
-اختلفوا في المعنى بقوله تعالى :
"وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ"، فقال بعضهم : عنى به على بن أبى طالب ، وقال بعضهم : عنى به جميع المؤمنين .
__________
(1) 43] ) راجع تأويلات الجعفرية للآية الكريمة ، والروايات التي ذكروها لتأييد ما ذهبوا إليه في المراجع التالية:التبيان 3/558 – 564 . ومجمع البيان 6/126 –130 ، والميزان 6/2 –24 ، وزبدة البيان ص 107 –110 ، وكشف المراد ص 289 ، ومصباح الهداية ص 179 –181 ، وتفسير شبر ص141
(2) 44]) انظر تفسير الطبري ، تحقيق شاكر 10/424 – 425(176/47)
وذكر الطبري الروايات التي تؤيد ما ذهب إليه القائلون بأن المعنى به جميع المؤمنين ، وفى بعضها تعجب ممن سأل عن المراد بالذين آمنوا ، لأنه يسأل عن شيء لا يسأل عن مثله . ثم ذكر روايتين :
الأولى : عن إسماعيل بن إسرائيل قال : حدّثنا أيوب بن سويد قال ، حدّثنا عتبة بن أبى حكيم في هذه الآية " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ " قال : على بن أبى طالب.
الثانية : هي حدثني الحارث قال : حدثني عبدالعزيز قال : حدّثنا غالب بن عبيد الله قال ، سمعت مجاهداً يقول في قوله : " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ " قال : نزلت في على ابن أبى طالب ، تصدق وهو راكع .
والرواية الأولى في سندها أيوب بن سويد ، وعتبة بن أبى الحكيم : فأما أيوب فقد ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما . وقال البخاري في الكبير " يتكلمون فيه " (1) } - - { ) وأما عتبة فقد ضعفه ابن معين ، وكان أحمد يوهنه قليلاً ، ولكن ذكره ابن حبان في الثقات (2)[46]).
فهذه الراوية إذن ضعيفة السند . والرواية الثانية في سندها غالب بن عبيد الله وهو منكر الحديث متروك(3) } - - { ) فراويته لا يؤخذ بها .
والحافظ ابن كثير عند تفسير الآية قال (4) } - - { ) : " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ " أي ليس اليهود بأوليائكم ، بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين، وقوله :
__________
(1) 45]) انظر المرجع السابق ج 5 حاشية ص 224.
(2) 46]) نفس المرجع ج10 حاشية ص 426.
(3) 47]) الموضع السابق من المرجع ذاته .
(4) 48]) انظر تفسيره 2/71 .(176/48)
"الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ " أي المؤمنون المتصفون بهذه الصفات من إقامة الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام ، وهى له وحده لا شريك له ، وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين من الضعفاء والمساكين . وأما قوله "وَهمْ رَاكِعُون"َفقد توهم بعض الناس أ هذه الجملة في موضع الحال في قوله: "وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ " أي في حال ركوعهم ، ولو كان هذا كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح ، وليس الأمر كذلك عند أحد العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى . وحتى أن بعضهم ذكر في هذا أثراً عن على بن أبى طالب أن هذه الآية نزلت فيه ، وذلك أنه مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه .
وذكر ابن كثير الروايات التي تشير إلى هذا ، ثم بين أنها لا يصح شئ منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها . ثم قال : وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - حيث تبرأ من حلف اليهود ، ورضى بولاية الله ورسوله والمؤمنين ، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله : " وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ"
كما قال تعالى : "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أنا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ - ...أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" .
فكل من رضى بولاية الله ورسله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة ، ومنصور في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة . " وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ"
وبعد هذا كله نذكر بعض الملاحظات :(176/49)
بدراسة روايات الطبري ، ومما ذكره الحافظ ابن كثير ، نجد أن رواية التصدق في حالة الركوع لا تصح سنداً ، يضاف إلى هذا أن كتب السنة التي رجعت إليها لم أجد فيها ذكراً لمثل هذه الرواية(1)[49]).
الروايات مرفوضة كذلك من ناحية المتن كما أشار ابن كثير وغيره ، فالفضيلة في الصلاة كونها خالية عما لا يتعلق بها من الحركات ، سواء أكانت كثيرة أو قليلة ، غاية الأمر أن الكثيرة مفسدة للصلاة دون القليلة ، ولكن تؤثر قصوراً في معنى لإقامة الصلاة ألبتة (2)[50]).
قال ثعلب : الركوع الخضوع ، ركع يركع ، ركعاً وركوعاً : طأطأ رأسه . وقال الراغب الأصبهانى : الركوع الانحناء ، فتارة يستعمل في الهيئة المخصوصة في الصلاة كما هي وتارة في التواضع والتذلل : إما في العبادة ، وإما في غيرها . وكانت العرب في الجاهلية تسمى الحنيف راكعاً إذا لم يعبد الأوثان ، ويقولون : ركع إلى الله ، قال الزمخشري : أي اطمأن ، قال النابغة الذيبانى :
سيبلغ عذراً أو نجاحاً من امرئ إلى ربه رب البرية راكع
وتقول : ركع فلان لكذا وكذا إذا خضع له ، ومنه قول الشاعر :
بيعت بكسر لئيم واستغاث بهامن الهزال أبوها بعد ما ركعا
يعنى بعد ما خضع من شدة الجهد والحاجة .
ومنه كذلك : لا تهين الفقير علك أن تركع يوماً والدهر قد رفعه
وقد استعمل بهذا المعنى في القرآن الكريم أيضاً كما قيل في قوله سبحانه:" وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ" ، إذ ليس في صلاة من قبلنا من أهل الشرائع ركوع هو أحد الأركان بالإجماع . وكذا في قوله تعالى " وَخَرَّ رَاكِعًا " إلى غير هذا(3)[51])
__________
(1) 49] ) راجع أيضا ما ذكر عن الإمام على في مفتاح كنوز السنة ، فلا توجد إشارة لمثل هذه الرواية
(2) 50] ) انظر تفسير الآلوسى 2/331 .
(3) 51] ) انظر مادة ركع في لسان العرب ، وتاج العروس ، وأساس البلاغة ، وانظر كذلك تفسير الطبري 1/ 574 –575 ، وتفسير الألوسى 2 / 330 .(176/50)
فقوله تعالى :- " وَهُمْ رَاكِعُونَ " يعنى به وهم خاضعون لربهم منقادون لأمره ، متواضعون متذللون في أدائهم للصلاة وإيتائهم للزكاة ، فهو بمعنى الركوع الذي هو في أصل اللغة بمعنى الخضوع .
وأرى تأييد لهذا المعنى مجئ الآية الكريمة بالفعل المضارع ، فهو يدل على أن الآية الكريمة لا تشير إلى حادثة حدثت وانتهت ، وإنما تدل على الاستمرار والدوام ، أي أن صفات المؤمنين وطبيعتهم الصلاة والزكاة وهم راكعون ، ولا يستقيم المعنى - بغير تكلف - أن يكون من صفاتهم إخراج الزكاة أثناء الصلاة .
ذكر الشيعة أن التصدق أثناء الركوع لم يقتصر على أمير المؤمنين ولكن اقتدى به باقي أئمتهم جميعاً ! وهنا يرد تساؤل : إذا كان هذا العمل من الفضائل التي امتدح بها أبو الأئمة وتبعه جميعهم فكيف لم يحرص على هذه الفضيلة سيد الخلق أجمعين صلوات الله وسلامه عليه ؟وكذلك سائر الأمة ؟
5. قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : " وَهُمْ رَاكِعُونَ" ما يأتي:
" الواو فيه للحال : أي يعملون ذلك في حال الركوع وهو الخشوع والإخبات والتواضع لله إذ صلوا وإذا زكوا . وقيل هو حال من يؤتون الزكاة بمعنى يؤتونها في حال ركوعهم في الصلاة ، وأنها نزلت في على كرم الله وجهه حين سأله سائل وهو راكع فطرح له خاتمه كأنه كان مرجا في خنصره فلم يتكلف لخلعه كثير عمل تفسد بمثله صلاته.
فإن قلت : كيف صح أن يكون لعلى رضي الله عنه واللفظ لفظ جماعة ؟ قلت : جيء به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلاً واحداً ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه ، ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البر والإحسان وتفقد الفقراء ، حتى إن لزهم أمر لا يقبل التأخير في الصلاة لم يؤخروه إلى الفرغ منه " (1)[52])
__________
(1) 52] ) الكشاف : 1/624 ، ولزهم إلى كذا : اضطرهم .(176/51)
والزمخشرى هنا ذكر أولاً المعنى المفهوم من النص ، ثم ما قيل في سبب النزول دون تمحيص ، وقد ظهر أن سبب النزول هذا غير صحيح ، فلا ضرورة للتأويل الذي ذهب إليه . ثم ما هذا الأمر الذي لا يقبل التأخير وهم في الصلاة ؟ ألم يكن الأفضل أن يصلى السائل مع المصلين ؟ أو أن ينتظرهم حتى تنتهى الصلاة ؟ وكيف يذهب لراكع يسأله الصدقة ويشغله عن الصلاة ؟ ولو وجد مثل هذا السائل فكيف نشجعه على ارتكاب خطأ جسيم كهذا ؟
6. سبق قول الإمامة بأن الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية وإلا أدى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه ، وهذا نوع من الجدل العقيم ، لأن المراد ولاية بعض المؤمنين بعضاً لا أن يكون كل واحد منهم ولى نفسه . كما أن الخطاب موجه كذلك إلى أولئك الذي تبرءوا من ولاية اليهود فأولياؤهم المؤمنون ، وهم أيضاً أولياء لغيرهم من المؤمنين ، وفى مثل قوله تعالى :-
" وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ " خطاب للمؤمنين جميعاً أفمعنى هذا أنه نهى لكل مسلم أن يلمز نفسه ؟! قال الألوسى : كيف يتوهم من قولك مثلاً : أيها الناس لا تغتابوا الناس أنه نهى لكل واحد من الناس أن يغتاب نفسه ؟! (1) } - - { )
7. من المعلوم لدى جميع العلماء - شيعة وسنة - أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فلوصح ما ذكر في سبب النزول لا نطبق على كل من يتصف بالإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في حال الركوع كما ذكروا ، أو الحرص على البر والإحسان وتفقد الفقراء كما أوله الزمخشري .
__________
(1) 53]) راجع تفسيره 2/332 .(176/52)
8. كلمة الولى تأتى بمعنى المتولى للأمور والمستحق للتصرف فيها ، وتأتى بمعنى الناصر والخليل ، والسياق يحدد المعنى المراد ، والقرآن الكريم عندما يأمر بموالاة المؤمنين ، أو ينهاهم عن موالاة غير المؤمنين من الكفار وأهل الكتاب تأتى الموالاة بمعنى النصرة والمحبة كقوله تعالى :- " وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا" (1) } - - { )
وقوله عز وجل : " الذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ " (2) } - - { )
وقوله سبحانه : " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ " (3) } - تمهيد { )
ولم يخرج عن هذا المعنى إلا حالات خاصة كولاية الدم وولاية السفيه . ولكن حالة من هذه الحالات لم تأت بمعنى الولاية العامة على المؤمنين (4)[57]) أفآية الولاية شذت عن هذا النسق القرأنى ؟
__________
(1) 54]) سورة النساء – الآية 89 .
(2) 55]) نفس السورة – الآية 139.
(3) 56]) سورة التوبة – الآية 71 .
(4) 57]) راجع الآيات القرآنية التي تبين ما ذكر مستعيناً بما جاء في مادة " ولى " من المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم .(176/53)
وقبل هذه الآية الكريمة جاء قوله سبحانه : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (1) } - - { ) . فهذا نهى عن موالاة من تجب معاداتهم . ثم بينت الآية الكريمة - آية الولاية - من تجب موالاتهم ، ثم جاء النهى مرة أخرى في قوله سبحانه وتعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (2) } - - { )
ولا شك أن الذي جاء قبل الآية الكريمة وبعدها ينهى عن المالاة في الدين والمحبة ، فإذا جاء الأمر بالموالاة بين نهيين فإنه قطعاً لا يخرج عن هذا المعنى إلا بدليل آخر .
فكلمة " وليكم " ليست دليلاً على أن الإمامة العظمى لأبى الحسن - كرم الله وجهه . وإنما هي في حاجة إلى دليل يظهر أنها خرجت على الاستعمال القرآنى العام ، وعلى المفهوم الخاص لتلك الأيات الكريمة المتتابعة في سورة المائدة .
9. لا خلاف في أن لفظة " إنما " تقتضى التخصيص ونفى الحكم عمن عدا المذكور ، ولكن الجعفرية بنوا على هذا عدم جواز حمل لفظة الولى على الموالاة في الدين والمحبة لأنه لا تخصيص في هذا المعنى لمؤمن دون مؤمن آخر .
__________
(1) 58]) سورة المائدة – الآية 51 .
(2) 59]) السورة السابقة – الآية 57 .(176/54)
وهذا الاستدلال أيضاً لا يستقيم ، فالموالاة مختصة بالمؤمنين جميعاً دون غيرهم ممن تجب معاداتهم ، وليست لمؤمن دون مؤمن ، بل إن هذا التخصيص يقتضى عكس ما ذهبوا إليه " لأن الحصر يكون فيما يحتمل اعتقاد الشركة والتردد والنزاع ، ولم يكن بالإجماع وقت نزول هذه الآية تردد ونزاع في الإمامة وولاية التصرف ، بل كان في النصرة والمحبة (1)[60]).
10. أمر الله تعالى للمؤمنين بموالاة أقوام ، ونهيه إياهم عن موالاة آخرين ، كل هذا صدر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ونفذ في حياته ، فكيف يكون إمام المسلمين الأعظم علياً مع وجود الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
هذه بعض الملاحظات ، وأعتقد بعد هذا أن الآية الخامسة والخمسين من سورة المائدة لا تدل بحال على أن إمام المسلمين بعد الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون على بن أبى طالب . على أن هذه الآية الكريمة تعد أهم دليل قرآنى يستندون إليه . فلننظر بعد هذا في باقي الأدلة .
ثانياً : المباهلة
في آية المباهلة قالوا : اتفق المفسرون كافة أن الأبناء إشارة إلى الحسن والحسين ، والنساء إشارة إلى فاطمة ،والأنفس إشارة إلى على رضي الله تعالى عنه . ولا يمكن أن يقال : إن نفسهما واحدة ، فلم يبق المراد من ذلك إلا المساوى ، ولا شك في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الناس فمساويه كذلك أيضاً (2)[61]).
ونلاحظ هنا :
__________
(1) 60] ) تفسير الآلوسى 2/330 .
(2) 61] ) كشف المراد ص 304 ،وانظر مصباح الهداية ص 99-103(176/55)
لو سلمنا بكل ماسبق فإن الآية الكريمة لا تنص على إمامة أحد ، لأن ولاية أمر المسلمين تحتاج إلى قدرات خاصة تتوافر في صاحبها ، حتى يستطيع أن يقود الأمة بسلام ، ويرعى مصالحها على الوجه الأكمل ، والآية الكريمة لا تشير إلى شىء من هذا و لاتتعرض للخلافة على الإطلاق ، وإنما تذكر الأبناء والنساء والأنفس في مجال التضحية لإثبات صحة الدعوى ، وهؤلاء المذكورون من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبهذا يتحقق للمعاندين صحة دعواه لتقديمه للمباهلة أقرب الناس إليه . وفرق شاسع بين مجال التضحية ومجال الإمامة ، ففي التضحية يمكن أن يقدم النساء والصغار ولكنهم لا يقدمون للخلافة .
القول بأن الإمام عليا يساوى الرسول صلى الله عليه وسلم غلو لا يقبله الإمام نفسه كرم الله وجهه ، ويجب ألا يذهب إليه مسلم ، مكانة الرسول المصطفى غير مكانة من اهتدى بهديه واقتبس من نوره .(176/56)
لو قلنا : أن الآية الكريمة تدل على أفضلية الإمام على رضي الله عنه فإن إمامة المفضول مع وجود الأفضل جائزة حتى عند بعض فرق الشيعة أنفسهم كالزيدية ، وهذا لا يمنعه الشرع ولا العقل ، لأن المفضول بصفة عامة قد يكون أفضل بصفة خاصة فيما يتعلق بأمور الخلافة ومصلحة المسلمين ، وكان الرسول الكريم يولى الأنفع على من هو أفضل منه (1) } تمهيد - { ) .
عقب ابن تيمية على قولهم بأن الله تعالى جعل عليا نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :هذا خطأ ، وإنما هذا مثل قوله : "لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُموهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا " (2) } تمهيد - { )
وقوله تعالى :"فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ " (3)[64]) ، " وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيارِكُمْ "(4) } تمهيد - { )
__________
(1) 62]) قال ابن قيم الجوزية تحت عنوان : " تولية الرسّول- صلى الله عليه وسلم - الأنفع على من هو أفضل منه " : وبهذا مضت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه يولى الأنفع للمسلمين عى من هو أفضل منه ، كما ولى خالد بن الوليد من حين أسلم على حروبه لنكايته في العدو ، وقدمه على بعض السابقين من المهاجرين والأنصار . وكان أبو ذر من أسبق السابقين وقال له : ( ياأبا ذر ، إنى أراك ضعيفاً ، وأحب لك ما أحبه لنفسى ، لا تؤمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم ) . وأمر عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل ، لأنه كان يقصد أخواله بنى عذرة ، فعلم أنهم يطيعونه ما لايطيعون غيره للقرابة .... إلخ - انظر أعلام الموقعين 1/114 -115.
(2) 63]) سورة النور – الآية 12.
(3) 64]) سورة البقرة – الآية 54 .
(4) 65]) نفس السورة – الآية 84 .(176/57)
فالمراد بالأنفس: الإخوان نسباً أو ديناً (1) } تمهيد تمهيد { ) .
__________
(1) 66]) المنتقى ص 17 – حاول أحد الجعفرية نقض كلام ابن تيمية فقال : " فلولا إذ سمعتموه ظن كل مؤمن بنفسه خيراً ، وظنت كل مؤمنة بنفسها خيراً ، لا أن كل مؤمن ظن بأخيه خيراً " ( منهاج الشريعة 2/287 ) ويكفى هنا أن نذكر ما قاله الطوسي شيخ الطائفة في تفسيره :
" هلا حين سمعتم هذا الإفك من القائلين ظن المؤمنون بالمؤمنين الذين هم كأنفسهم – خيراً ، لأن المؤمنين كلهم كالنفس الواحدة فيما يجرى عليها من الأمور ، فإذا جرى على أحدهم محنة ،* *فكأنه جرى على جماعتهم وهو كقوله : " فسلموا على أنفسكم " وهو قول مجاهد …. إلخ " ( انظر التبيان 7/416) .(176/58)
قال الزمخشري : " فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه . وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه ، فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟ قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة . وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجل بنفسه حتى يقتل . ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ويسمون الذادة عنهم بأرواحهم حماة الحقائق . وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم . وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها . وفيه دليل لا شىء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام (1) } تمهيد - { ).
وبعد : فمهما اختلفت الأقوال فالآية الكريمة تدل على مكانة أولئك الذين قدموا للمباهلة ، ولكن هذا لا صلة له بالخلافة كما بينا .
ثالثاً : التطهير
__________
(1) 67]) تفسير الكشاف 1/434 – وقال أحد مفسري الجعفرية : " والمباهلة والملاعنة وإن كانت بحسب الظاهر كالمحاجة بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين رجال النصارى ، لكن عممت الدعوة للأبناء والنساء ليكون أدل على اطئنان الداعى بصدق دعواه ، وكونه على الحق ، لما أودعه الله سبحانه في قلب الإنسان من محبتهم والشفقة عليهم ، فتراه يقيهم بنفسه ، ويركب الأهوال والمخاطرات دونهم ، وفى سبيل حمايتهم والغيرة عليهم والذب عنهم . ولذلك بعينه قدم الأبناء على النساء لأن محبة الإنسان بالنسبة إليهم أشد وأدوم " . الميزان (3/244) .(176/59)
قال تعالى : " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًاوَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا "(1) } تمهيد - { ) فخير الرسول صلى الله عليه وسلم زوجاته ، فاخترن جميعاً الله ورسوله والدار الآخرة ، واستحققن بعد هذا الاختيار مخاطبة الله تعالى لهن بقوله :" يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ - - .... " إلى قوله تعالى " لَطِيفًا خَبِيرًا " (2)
__________
(1) 71) سورة الأحزاب – الآيتان 28،29 .
(2) 72) الآيات الخمسة من نفس السورة وهى :
{ يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ? } .(176/60)
} تمهيد - { ) . فهذه الآيات الخمس في نساء النبي كما يبدو ، ولكن جدلاً كثيراً دار حول عجز الآية الثالثة والثلاثين " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا"
وهذا الجزء يطلق عليه اسم آية التطهير ، ويرى الشيعة أنه لا صلة له بما قبله ولا بما بعده ، وإنما هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم والسيدة فاطمة الزهراء والإمام على وبنيهما الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم جميعاً ، وأنه يدل على عصمتهم ، ومن ثم يستدلون به على مذهبهم في الإمامة .
فاستدلالهم ينبنى على ثلاث نقاط هي : تحديد المراد بأهل البيت في الآية الكريمة ، ثم دلالة الآية على عصمتهم ، وأخيراً التلازم بين العصمة والإمامة .
وقد ذهبوا إلى أن المراد بأهل البيت هم هؤلاء الخمسة فقط مستدلين بشيئين:(1) } - - { ) .
الأول : الخطاب في قوله تعالى " عنكم " ، " يطهركم " بالجمع المذكر يدل - كما يقولون - - على أن الآية الشريفة في حق غير زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فسياق الآيات يقتضى التعبير بخطاب الجمع المؤنث ؛ أي " عنكن " و " يطهركن " فالعدول عنهما إلى الخطاب بالجمع المذكر يشهد بأن المراد من أهل البيت غير الزوجات .
الثانى : أخبار تدل على أنها في الخمسة الأطهار .
وبالرجوع إلى كتاب الله تعالى نجد قوله : " قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ"( (2) } - - { ) وهذا خطاب لامرأة إبراهيمرضي الله عنه.
__________
(1) 70]) انظر أدلتهم في : التبيان 8/339 –340 ، ومجمع البيان ط مكتبة الحياة 22/137 –139 ، وجوامع الجامع ص 372 ، والميزان 16/330-331 ، ومصباح الهداية ص 103-109.
(2) 71]) سورة هود ـ الآية 73 .(176/61)
وقوله تعالى:" فَلَمَّا قَضَى مُوسَىالْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ" (1) } - - { ) ومعلوم أن موسى سار بزوجته ابنة شعيب .
وقوله تعالى :" وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ "(2)[73])
وقوله عز وجل :" إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ" (3)[74])
وقوله تعالى : " وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ " (4)[75])
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تبين أن الاستعمال القرآنى لا يمنع أن يكون المراد بأهل البيت في الآية الكريمة نساء النبي مع الخطاب بالجمع المذكر ، بل إن المذكر هو الذي يتمشى مع هذا الاستعمال ، فلم أجد التعبير بالمؤنث مع كلمة الأهل - سواء أأريد بها الزوجات أم غيرهن - في القرآن الكريم كله (5)[76]).
واحتج طائفة من العلماء على أن الآل هم الأزواج والذرية بما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل : كيف نصلى عليك ؟ فقال : " قولوا : اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته ، كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد " . وهذا الحديث متفق عليه .
__________
(1) 72]) سورة القصص – الآية 29 .
(2) 73]) السورة السابقة – الآية 12.
(3) 74]) سورة العنكبوت – الآية 33 .
(4) 75]) سورة يوسف – الآية 29 .
(5) 76]) انظر مادة " أهل " في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ، وارجع إلى الآيات التي اشتملت على هذه الكلمة.(176/62)
وكذلك بما ورى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل : اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته ، كما صليت على آل إبراهيم ، إنك ، حميد مجيد " (1) } - - { ).
وروى الإمام البخاري بسنده عن أنس رضي الله عنه قال : " بنى على النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم ، فأرسلت على الطعام داعياً .... فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله ، فقالت : وعليك السلام ورحمة الله ، كيف وجدت أهلك ؟ بارك الله لك ، فتقرى حجر نسائه كلهن ، يقول لهن كما قال لعائشة ، ويقلن له كما قالت عائشة " (2) } - - { )
كما أن المعنى اللغوى للأهل لا يخرج الزوجات (3) } - - { ).
فالاستعمال القرآنى والنبوي واللغوى لا يخرج الزوجات من آية التطهير، والسياق إن لم يحتم دخولهن فعلى أقل تقدير يعتبر مرجحاً . هذا بالنسبة لأمهات المؤمنين . ولكن سواء أشملتهن الآية أم لم تشملهن ، فإن تخصيص المراد بالخمسة لا يكون إلا إذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك . فلننظر إذن في الروايات .
قال الطبري : حدثني محمد بن المثنى ، قال ثنا بكر بن يحيى بن زياد العنزى ، قال ثنا مندل عن الأعمش عن عطية ، عن أبى سعيد الخدري قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نزلت هذه الآية في خمسة : في وفى على رضي الله عنه وحسن رضي الله عنه وحسين رضي الله عنه ، وفاطمة رضي الله عنها " (4) } - - { ).
__________
(1) 77]) نيل الأوطار 2/ 324 –326 .
(2) 78]) صحيح البخاري – كتاب التفسير – باب " لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم …" .
(3) 79]) انظر المادة في معاجم اللغة .
(4) 83) تفسير الطبري ط الحلبي 22/6 .(176/63)
وذكر الطبري بعد ذلك كثيراً من الروايات التي تبين أن الآية الكريمة تعنى هؤلاء المذكورين أو بعضهم ، ثم ذكر أخيراً ما روى عن عكرمة من أنها نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة (1) } - - { ).
والروايتان الأولى والأخيرة فيهما نظر ، فأما الأولى ففي سندها عطية عن أبى سعيد الخدري ، وعطية هذا كان يأتي الكلبى فيأخذ عنه التفسير وكان يكنيه بأبى سعيد فيقول : قال أبو سعيد ليوهم أنه الخدري . وقد ضعفه أحمد والنسائى وغيرهما (2) } - - { ).
أما الرواية الأخيرة فذكرت أيضاً عن عكرمة عن ابن عباس ، وقال عكرمة : من شاء باهلته أنها نزلت في شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم (3) } - - { ) . فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن فهذا يتفق مع ما ذهب إليه كثير من المفسرين . وراوية عطية المذكورة ظهر ضعفها فلا أثر لمعارضتها ، وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن فهذا معارض بكثير من الروايات ، ولذلك فالرواية لا تقٌبل إلا على الوجه الأول .
وروايات الطبري الأخرى منها رواية عن السيدة عائشة قالت : خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة ، وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجاء الحسن فأدخله معه ، ثم قال : "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" وهذه الرواية تقتصر على الحسن ، ولكنها بلا شك لا تمنع كون غيره من أهل البيت ، وقد روى الإمام مسلم عنها رواية مماثلة وفيها دخول باقي الخمسة الأطهار.
__________
(1) 84) انظر نفس المرجع 22/6 -8 .
(2) 85) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب وميزان الاعتدال ، وسيأتي الحديث عنه مفصلاً في روايات الغدير في بحث قادم إن شاء الله .
(3) 86) انظر تفسير ابن كثير 3/483 .(176/64)
وروى الطبري عن أنمس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلما خرج إلى الصلاة ، فيقول : الصلاة أهل البيت " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ" . وهذه الرواية كذلك لا تمنع شمول الآية لغير من ذكر .
وروى عدة روايات عن أم سلمة : قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم عندي ، وعلى فاطمة والحسن والحسين ، فجعلت لهم خزيرة (1)[84]) ، فأكلوا وناموا ، وغطى عليهم عباءة أو قطيفة ، ثم قال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي ، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً "
وفى رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم أجلسهم على كساء ، ثم أخذ بأطرافه الأربعة بشماله ، فضمه فوق رءوسهم ، وأومأ بيده اليمنى إلى ربه ، فقال : هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً .
وهاتان الروايتان تتفقان مع رواية مسلم عن السيدة عائشة في دخول الخمسة في الآية ، ولكن هذا لا يحتم عدم دخول غيرهم .
وذكر الطبري روايتين عن واثلة بن الأسقع تتفقان مع الروايات الثلاثة السابقة وتدخلانه هو مع أهل البيت ، ففي إحداهما :
__________
(1) 87) الخزيرة : لحم يقطع قطعاً صغاراً ثم يطبخ بماء كثير وملح ، فإذا اكتمل نضجه ذر عليه الدقيق وعصد به ، ثم أٌدم بأي إدام . وتطلق الكلمة أيضاً على الحساء من الدسم والدقيق.(176/65)
عن أبى عمار قال : إنى لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ ذكروا علياً رضي الله عنه ، فشتموه ، فلما قاموا ، قال : اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموا ، إنى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه على وفاطمة وحسن وحسين ، فألقى عليهم كساء له، ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. ( قلت : يا رسول الله وأنا ؟ قال وأنت . قال : فوالله إنها لأوثق عمل عندي . وفى الأخرى : اللهم هؤلاء أهلي ، اللهم أهلي أحق . قال واثلة : فقلت من ناحية البيت : وأنا يا رسول الله من أهلك ؟ قال : وأنت من أهلي . قال واثلة ، إنها لمن أرجى ما أرتجى ) .
ولكن باقي روايات الطبري عن أم سلمة فيها زيادات تشير إلى عدم دخولها مع أهل الكساء . وهذه الروايات هي :-
حدثني أبو كريب قال : ثنا وكيع ، عن عبدالحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبى سعيد الخدري ، عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية "إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فجلل عليهم كساء (1)[85]) خيبرياً ، فقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، قالت أم سلمة : ألست منهم ؟ قال : أنت إلى خير.
__________
(1) 88) أي جعل الكساء يغطيهم .(176/66)
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا حسن بن عطية ، قال : ثنا فضيل بن مرزوق عن عطية ، عن أبى سعيد ، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نزلت في بيتها "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا" قالت : وأنا جالسة على باب البيت ، فقلت : أنا يا رسول الله ألست من أهل البيت ؟ قال : إنك إلى خير ، أنت من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت ، وفى البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا خالد بن مخلد ، قال : ثنا موسى بن يعقوب ، قال : ثنا هاشم بن هاشم بن عقبة بن أبى وقاص عن عبد الله بن وهب بن زمعة ، قال : أخبرتني أم سلمة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع عليا والحسين ، ثم أدخلهم تحت ثوبه ، ثم جأر إلى الله ثم قال : هؤلاء أهل بيتي . فقالت أم سلمة : يا رسول الله أدخلنى معهم . قال : إنك من أهلي " .
حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، قال : ثنا عبدالرحمن بن صالح ، قال : ثنا محمد بن سليمان الأصبهانى ، عن يحيى بن عبيد المكى ، عن عطاء عن عمر بن أبى سلمة ، قال : " نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" فدعا حسناً وحسيناً وفاطمة ، وأجلسهم بين يديه ، ودعا علياً فأجلسه خلفه . فتجلل هو وهم بالكساء ثم قال : هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطيراً . وقالت أم سلمة أنا معهم مكانك ، وأنت على خير "(176/67)
حدثنا ابن حميد ، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس ، عن الأعمش ، عن حكيم ابن سعد قال : " ذكرنا على بن أبى طالب رضي الله عنه عند أم سلمة ، قالت: فيه نزلت "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" قالت أم سلمة : جاء النبي : صلى الله عليه وسلم إلى بيتي ، فقال : لاتأذنى لأحد ، فجاءت فاطمة ، فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها ، ثم جاء الحسن فلم استطع أن أمنعه أن يدخل على جده وأمه ، وجاء الحسين فلم أستطع أن أحجبه ، فاجتمعوا حول النبي صلى الله عليه وسلم على بساط ، فجللهم نبي الله بكساء كان عليه ، ثم قال : هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط ، قالت : فقلت : يا رسول الله ، وأنا ، قالت : فوالله ما أنعم وقال : إنك إلى خير "
وبالنظر في هذه الروايات نجد ما يأتي :
أولاً: في الروايتين الأولى والثانية ينتهى الإسناد إلى عطية عن أبى سعيد عن أم سلمة ، وقد بينا ضعف عطية ورواياته عن أبى سعيد .(176/68)
ثانياً :- في إسناد الرواية الثالثة " خالد بن مخلد " : وهو متكلم فيه : وثقة عثمان بن أبى شيبة وابن حبان والعجلى ، وقال ابن معين وابن عدى : لا بأس به ، وقال أبو حاتم ، يُكتب حديثه ، وقال الآجري عن أبى داود : صدوق ولكنه يتشيع ، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه : له أحاديث مناكير ، وقال ابن سعد : كان متشيعا منكر الحديث في التشيع مفرطاً ، وكتبوا عنه للضرورة . وقال صالح بن محمد جزرة : ثقة في الحديث إلا أنه كان متهماً بالغلو . وقال الجوزجانى : كان شتاماً معلناً لسوء مذهبه . وقال الأعين : قلت له : عندك أحاديث في مناقب الصحابة ؟ قال : قل في المثالب أو المثاقب ، يعنى بالمثلثة لا بالنون . وحكى أبوالوليد الباجى في رجال البخاري عن أبى حاتم أنه قال : لخالد بن مخلد أحاديث مناكير و‘يكتب حديثه . وقال الأزدى : في حديثه بعض المناكير وهو عندنا في عداد أهل الصدق . وذكره الساجى والعقيلى في الضعفاء (1) } - تمهيد { ) .
من هنا نرى أن ما يرويه خالد عن مخلد متصلاً بمذهبه الشيعي لا يحتج به (2) } - - { ).
__________
(1) 89) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب .
(2) 90) قد يقال : كيف لا يحتج به وهو من شيوخ البخاري ؟ فنقول : من الثابت أن له مناكير كما قال الإمام أحمد بن حنبل ، والإمام البخاري يعرف متى يكتب ومتى يترك ولذا جاء في كتاب توجيه النظر ( ص 103 ) في الحديث عن خالد بن مخلد :
" أما المناكير فقد تتبعها أبو أحمد بن عدى من حديثه وأوردها في كامله ، وليس فيها شىء مما أخرجه له البخاري ، بل أم أر له عنده من أفراده سوى حديث واحد وهو حديث أبى هريرة : من عادى لي وليا – الحديث "
وما ذكره الجزائرى هنا هو قول ابن حجر ( انظر هدى الساري ص 400) .(176/69)
وفى إسناد هذه الرواية كذلك يروى خالد عن موسى بن يعقوب ، وهو متكلم فيه أيضاً : وثقه ابن معين وابن حبان وابن القطان ، وقال الآجري عن أبى داود : هو صالح ، وقال ابن عدى : لابأس به عندي ولا برواياته . وقال على بن المديني : ضعيف الحديث : منكر الحديث .
وقال النسائي: ليس بالقوى - وقال أحمد : لا يعجبني .
ثالثاً: في إسناد الرواية الرابعة عبدالرحمن بن صالح ، وهو من شيعة الكوفة ومتكلم فيه : وثقه أبو حاتم وابن حبان وغيرهما . وقال موسى بن هارون : كان ثقة وكان يحدث بمثالب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الآجري عن أبى داود : لم أر أن أكتب عنه ، وضع كتاب مثالب في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال : وذكروه مرة أخرى فقال : كان رجل سوء . وقال ابن عدى : معروف مشهور في الكوفيين لم يُذكر بالضعف في الحديث ولا اتهم فيه إلا أنه محترق فيما كان فيه من التشيع (1) } - - { ).
وفى الإسناد أيضاً محمد بن سليمان الأصبهانى : ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال أبو حاتم : لا بأس به . يكتب حديثه ولا يحتج به . وقال ابن عدى : مضطرب الحديث ، قليل الحديث ، ومقدار ماله قد أخطأ في غير شىء منه . وضعفه النسائي.
رابعاً: في سند الرواية الأخيرة عبد الله بن عبدالقدوس ، وهو شيعي متكلم فيه :
__________
(1) 91) انظر الترجمة في تهذيب التهذيب .(176/70)
قال البخاري : هو في الأصل صدوق إلا أنه يروى عن أقوام ضعاف . وذكره ابن حبان في الثقات وقال : ربما أغرب . وقال عبد الله بن أحمد : سألت ابن معين عنه قال : ليس بشىء ، رافضى خبيث . وقال محمد بن مهران الحمال : لم يكن بشىء كان يُسخر منه يشبه المجنون يصيح الصبيان في أثره . وقال أبو داود : ضعيف الحديث كان يرمى بالرفض ، قال وبلغنى عن يحيى أنه قال : ليس بشىء . وقال أبو أحمد الحاكم : في حديثه بعض المناكير وضعَّفه النسائي والدار قطنى(1) } - - { ).
وفى سند الرواية كذلك ضعف آخر ، فالأعمش - وهو مدلس - لم يذكر ما يفيد سماعه من حكيم .
بعد النظر في أسانيد هذه الروايات يمكن القول بأنها ليست حجة يرد بها دلالة السياق ، والظاهر من الآيات الكريمة ، فكيف إذن يحتج بمثل هذه الروايات لإثبات أصل من أصول العقيدة ؟(2) } - - { )
وذكر الترمذي رواية عن أم سلمة وفيها : وأنا معهم يا نبي الله ؟ قال:أنت على مكانك وأنت إلى خير . ثم عقب على الحديث بقوله : إنه غريب(3) } - - { ) .
وفى أبواب العلل يتحدث عن الغريب فيقول:" أهل الحديث يستغربون الحديث لمعان : رُب حديث يكون غريباً لا يروى إلا من وجه واحد - - .... ورب حديث إنما يستغرب لزيادة تكون في الحديث ، وإنما تصح إذا كانت الزيادة ممن يعتمد على حفظه .... ، ورب حديث يروى من أوجه كثيرة وإنما يستغرب لحال الإسناد " .
ومعنى الحديث يتفق مع ما ذكره مسلم ، فلعل الترمذي استغربه من أجل هذه الزيادة .
__________
(1) 92) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب .
(2) 93) الشيعة يستندون في استدلالهم على ما روى عن أم سلمة – انظر مراجعهم السابق ذكرها.
(3) 94) كتاب المناقب – باب مناقب أهل بيت النبي ((176/71)
والحافظ ابن كثير ذكر الآية الكريمة وقال : (1)[92]) إنها نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا ؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية ، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً : إما وحده على قول ، أو مع غيره على الصحيح.
وذكر روايات الطبري وروايات أخرى ، ثم ذكر رواية في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً بماء يدُعى خما بين مكة والمدينة ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، ووعظ وذكر ، ثم قال : " أما بعد: " ألا أيها الناس ، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتينى رسول ربى فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين ، أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " فحث على كتاب الله عز وجل ورغب فيه ثم قال : " وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثاً " . فقال له حصين . ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده . قال ومن هم ؟ قال : هم آل على ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس ، رضي الله عنهم .
وذكر رواية مسلم الأخرى عن زيد أيضاً بنحو ما تقدم وفيها : فقلت له : من أهل بيته ؟ نساؤه ؟ قال : لا . وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها ، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده (2) } - - { ).
__________
(1) 95) انظر تفسيره 3/483-486 .
(2) 96) الرواية الأولى ذكرت بطريقين آخرين أيضاً – انظر الرواية في صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل على بن أبى طالب ، رضي الله تعالى عنهم جميعاً.(176/72)
ثم قال ابن كثير : هكذا وقع في هذه الرواية ، والأولى أولى والأخذ بها أحرى . وهذه الثانية تحتمل أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث الذي رواه إنما المراد بهم آله الذين حرموا الصدقة ، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط، بل هم مع آله ، وهذا الاحتمال أرجح جمعاً بينها وبين الرواية التي قبلها ، وجمعاً أيضاً بين القرآن والأحاديث المتقدمة إن صحت ،فإن في بعض أسانيدها نظراً والله أعلم .
ويؤيد هذا الاحتمال الذي ذكره ابن كثير أن السؤال في الحديث الأول فيه من التبعيضية " أليس نساؤه من أهل بيته ؟ وفى رواية مماثلة عن زيد أيضاً في المسند : قال حصين : " ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : إن نساءه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده " (1) } - - { ) . فهنا تأكيد أن نساءه من أهل بيته .
__________
(1) 97) المسند 4/366-367 .(176/73)
وقال ابن كثير بعد ذلك : الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلمداخلات في قوله تعالى : "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا" فإن سياق الكلام معهن ، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله : " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ - - ... ("ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته فقرابته أحق بهذه التسمية كما تقدم في الحديث " وأهل بيتي أحق " ، وهذا يشبه ما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال : " هو مسجدى هذا " ، فهذا من هذا القبيل ، فإن الآية إنما نزلت في مسجد قباء كما ورد في الأحاديث الأخر ، ولكن إذا كان ذلك أسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بتسميته بذلك والله أعلم .وبمثل هذا قال ابن تيمية من قبل (1) } - - { ).
__________
(1) 95]) انظر المنتقى ص 168 - 169.(176/74)
وقال القرطبى (1) } - تمهيد { ) : قوله تعالى:" وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ " . هذه الألفاظ تعطى أن أهل البيت نساؤه ، وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت ، ومن هم ؟ فقال عطاء وعكرمة وابن عباس : هم زوجاته خاصة لا رجل معهن ، وذهبوا إلى أن البيت أريد به مساكن النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ " وقالت فرقة منهم الكلبى : هم على وفاطمة والحسن والحسين خاصة . وفى هذا أحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام . واحتجوا بقوله تعالى " لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ " " بالميم " ولو كان للنساء خاصة لكان " عنكن ويطهركن " ، إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على لفظ الأهل . كما يقول الرجل لصاحبه : كيف أهلك ؟ أي امرأتك ونساؤك ، فيقول هم بخير ، قال تعالى : " قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ" ، الذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيره . وإنما قال " ويطهركم " لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلياً وحسناً وحسيناً كانوا فيهم ، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر ، فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت . لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن ، يدل عليه سياق الكلام والله أعلم .
__________
(1) 96]) راجع تفسيره 14/182-184.(176/75)
ثم قال القرطبى : " فكيف صار في الوسط كلام منفصل لغيرهن ، وإنما هذا جرى في الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين ، فعمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى كساء فلفها عليهم ثم ألوى بيده إلى السماء فقال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " فهذه دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم لهم بعد نزول الآية ، أحب أن يدخلهم في الآية التي خوطب بهاالأزواج ، فذهب الكلبى ومن وافقه فصيرها لهم خاصة ، وهى دعوة لهم خارجة من التنزيل .
وممن صير الآية لأهل الكساء خاصة أبو جعفر الطحاوي ، فقد انتهى إلى هذا في كتابه مشكل الآثار (1) } - - { ) وبنى رأيه على مجرد احتمالات فقال : إن أم سلمة من أهله لأنها من أزواجه ، وأزواجه أهله ، كما قال في حديث الإفك : " من يعذرنى من رجل قد بلغ أذاه في أهلي ؛ والله ما علمت في أهلي إلا خيراً " ليحتمل أن يكون قوله لأم سلمة أنت من أهلي من هذا المعنى أيضاً لا أنها من أهل الآية المتلوة في هذا الباب . واستدل ببعض الروايات المذكورة عنها ، وفى بعضها : وما قال إنك من أهل البيت ، وفى أخرى : أنت من أزواج النبي ، وأنت على خير أو إلى خير .
وفى رواية : قلت يا رسول الله : ألستُ من أهلك ؟ قال : بلى (2) } - - { ).
قالت : فأدخل في الكساء ؟ قلت : فدخلته بعد ما قضى دعاءه لابن عمه على وبنيه وبنته فاطمة رضي الله عنهم .
__________
(1) 100) انظر كتابه 1/332-339.
(2) 101) وذكر القرطبى عن القشيرى قال : قالت أم سلمة : أدخلت رأسى في الكساء وقلت : أنا منهم يا رسول الله ؟ قال : نعم . (انظر تفسيره 14/183) وقال الزمخشري : " أهل البيت" نصب على النداء أو على المدح . وفى هذا دليل بين على أن نساء النبي ( من أهل بيته " . ( انظر الكشاف 3/260) .(176/76)
وأرى أن الرواية الأخيرة تدل على دخولها في الآية لا على خروجهامنها ، فالسؤال متصل بدخولها فيمن شملتهم الآية . والجواب يؤيده . ودخولها في الكساء بعدهم أليق بالأدب النبوي ، فما كان صلى الله عليه وسلم ليدخل زوجته في كسائه مع ابن عمه .
وذكر الطحاوي الاعتراض بأنها في آيات نساء النبي وقال : جوابنا له : أن الذي تلاه إلى آخر ما قبل قوله " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ " الآية خطاب لأزواجه ثم أعقب ذلك بخطاب لأهله بقوله" إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ" فجاء على خطاب الرجال.... فعقلنا أن قوله خطاب لمن أراده من الرجال بذلك ليعلمهم تشريفه لهم ، ورفعه لمقدارهم ، أن جعل نساءهم ممن قد وصفه لما وصفه به مما في الآيات المتلوة قبل الذي خاطبهم به تعالى .
ولكن جواب الطحاوي - لو صح - لاقتصرت الآية على الرسول صلى الله عليه وسلم فقط لأن الآيات في نساء النبي ، فكيف تشمل غيره من الرجال والبنين فضلاً عن النساء ؟ وقد مر من قبل الحديث عن التعبير بالمذكر في الآية الكريمة ، وبيان ضعف الروايات التي تمنع شمول الآية الكريمة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم .
والطحاوي على أية حال حاول ألا يخرج على السياق ولكن الغريب أن نجد من يقول :
" الآية لم تكن بحسب النزول جزءاً من آيات نساء النبي ، ولا متصلة بها ، وإنما وضعت بينها . إما بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم أو عند التأليف بعد الرحلة "(1)[99]).
فكيف أن عجز آية ُيضم إلى صدرها و لا صلة بينهما ؟ ثم كيف يكون الصدر متصلاً بما قبله وما بعده ، والعجز يبعد عن هذا كل البعد ؟ وما الحكمة في وضعه هنا إذن ؟ والأشد غرابة ونكراً أن يوجد احتمال وضعه بدون أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) 99] ) الميزان 16/330(176/77)
وقال الطبرسي : " متى قيل إن صدر الآية وما بعدها في الأزواج ، فالقول فيه أن هذا لا ينكره من عرف عادة الفصحاء في كلامهم ، فإنهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه ، والقرآن من ذلك مملوء ، وكذلك كلام العرب وأشعارهم " (1)[100]).
وهذا القول وإن كان ينقصه الدليل ، وبيان الحكمة المقتضية لمثل هذا ، وبالذات إذا كان الخروج إلى ما ليس له علاقة بالموضوع ، هذا القول لا ينزل إلى مستوى القول السابق .
ونخرج من هذا بأن آية التطهير في نساء النبي وغيرهم من أهل البيت كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن إذا كان لأحد أن يتكلم في شمولها لأمهات المؤمنين فليس هناك دليل على الإطلاق يخرج باقي قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأي دليل يمنع شمولها لباقى بنات النبي ؟ ومفارقتهن للحياة قبل نزول الآية لا يعنى عدم إرادة تطهيرهن في حياتهن ، وما الذي يمنع دخول باقي ذرية الإمام على ؟ وآل جعفر وآل عقيل وآل عباس ؟
وعلى القول بأنها منحصرة في الخمسة كيف تتعداهم إلى غيرهم من باقي الأئمة الاثنى عشر؟ ولماذا لم تشمل أئمة الزيدية مثلاً أو الإسماعيلية أو باقي فرق الشيعة التي جاوزت السبعين ؟
وننتقل بعد هذا إلى دلالة الآية الكريمة على العصمة . قال الطوسي(2)[101]):
__________
(1) 103) مجمع البيان 2/139 ط مكتبة الحياة .
(2) 104) يطلق عليه الجعفرية لقب " شيخ الطائفة " .(176/78)
" استدل أصحبنا بهذه الآية أن في جملة أهل البيت معصوماً لا يجوز عليه الغلط وأن إجماعهم لا يكون إلا صواباً بأن قالوا : ليس يخلو إرادة الله لإذهاب الرجس عن أهل البيت بأن يكون هو ما أراد منهم من فعل الطاعات واجتناب المعاصى ، أو يكون عبارة عن أنه أذهب عنهم الرجس بأن فعل لهم لطفاً اختاروا عنده الامتناع من القبائح ، والأول لا يجوز أن يكون مراداً لأن هذه الإرادة حاصلة مع جميع المكفلين ، فلا اختصاص لأهل البيت في ذلك ، ولا خلاف أن الله تعالى خص بهذه الآية أهل البيت بأمر لم يشركهم فيه غيرهم ، فكيف يحمل على ما يبطل هذا التخصيص ويخرج الآية من أن يكون لهم فيها فضيلة ومزية على غيرهم ؟ على أن لفظة إنما تجرى مجرى ليس ، فيكون تلخيص الكلام (ليس يريد الله إلا إذهاب الرجس على هذا الحد من أهل البيت ) ، فدل ذلك على أن إذهاب الرجس قد حصل فيهم ، وذلك يدل على عصمتهم" (1)[102])
وقد انفرد الجعفرية بهذا القول ، وخالفوا أهل التأويل جميعاً ، وما ذكروه فيه نظر لعدة أمور :
مخالفتهم لأهل التأويل جميعاً يجعل قولهم غير مقبول ما لم يؤيد بأدلة قوية تسنده .
في الأحاديث السابقة ما يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع أهل الكساء ودعا لهم بأن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً ،فإذا كان إذهاب الرجس قد حصل والتطهير قد تم فما الحاجة إلى الدعاء ؟
أية التطهير واقعة بين آيات فيها الأمر والنهى مما يؤيد إرادة فعل الطاعات ، واجتناب المعاصى ليؤدى ذلك إلى إذهاب الرجس وحدوث التطهير ، ويؤيده أيضاً ما روى من قبل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلما خرج إلى الصلاة ، فيقول : الصلاة أهل البيت " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" فهنا يبدو الربط بين الأمر بالصلاة والآية الكريمة.
__________
(1) 105) مجمع البيان 22/139 ط مكتبة الحياة .(176/79)
ويزيد ذلك تأييداً ما روى بسند صحيح عن على بن أبى طالب أنه قال :
" أتانى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم وفاطمة ، وذلك من السحر ، حتى قام على الباب ، فقال : ألا تصلون ؟ فقلت مجيباً له : يا رسول الله ، إنما نفوسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا ، قال : فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرجع إلى الكلام ، فسمعته حين ولى يقول ، وضر ب بيده على فخذه : وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً " (1)[103]) ، وفى رواية أخرى عن الإمام أيضاً قال : " دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى فاطمة من الليل ، فأيقظنا للصلاة ، قال : ثم رجع إلى بيته فصلى هويّاً من الليل ، قال ، فلم يسمع لنا حساً ، قال : فرجع إلينا فأيقظنا ، وقال : قوما فصليا ، قال : جلست وأنا أعرك عينى وأقول : إنا والله ما نصلى إلا ما كتب لنا ، إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا ، قال : فولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول ويضرب بيده على فخذه : ما نصلى إلا ما كتب لنا ! ما نصلى إلا ماكتب لنا ! وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً " (2) } - - - { ).
فهنا يتضح حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إذهاب الرجس عن أهل بيته وتطهيرهم تطهيراً ، وغضبه لما بدر من زوج الزهراء رضي الله تعالى عنهما.
قال ابن تيمية :
أما الآية ( الأحزاب 33) " وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" فليس فيها إخبار بذهاب الرجس وبالطهارة ، بل فيها الأمر لهم بما يوجبها ، وذلك كقوله تعالى :
"مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ علَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ " (3) } - - - { )
__________
(1) 106) حديث رقم 571 ج 2 من المسند ، وانظر في التعليق بيان المرحوم الشيخ أحمد شاكر لصحة الإسناد ، والروايات الأخرى الصحيحة لهذا الحديث .
(2) 107) حديث رقم 705 ج 2 من المسند ، وإسناده صحيح .
(3) 108) سورة المائدة – الآية رقم 6.(176/80)
" يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ " (1) } - - تمهيد { )
" يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ " (2) } - - - { )
فالإرادة هنا متضمنة للأمر والمحبة والرضا ، ليست هي الملتزمة لوقوع المراد ، ولو كان كذلك لتطهر كل من أراد الله طهارته ، ثم أيد رأيه بدعائهصلى الله عليه وسلم لأصحاب الكساء (3) } - - - { ) .
6.انتهينا إلى أن آية التطهير في نساء النبي ، وغيرهن من أهل البيت وهم: آل على وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس . ولا قائل بعصمة هؤلاء ، وتخصيص الخمسة يحتاج إلى دليل ،والأدلة التي وجدناها تمنع هذا التخصيص.
بقى بعد هذا ما ذكره الطوسي من أن حمل الإرادة على هذا المعنى لا يجوز لأن هذه الإرادة حاصلة مع جميع المكلفين . فلا اختصاص لأهل البيت في ذلك ، ولا خلاف أن الله تعالى خص بهذه الآية أهل البيت بأمر لم يشركهم فيه غيره ، فكيف يحمل على ما يبطل هذا التخصيص ويخرج الآية من أن يكون لهم فيه فضيلة ومزية على غيرهم ؟!
هذا هو الدليل الذي استند إليه الطوسي (4) } - - - { ) ، وهو استدلال عقلى ، فهل يرد بمثل هذا الدليل ما ذكرناه من الأدلة ؟!
__________
(1) 109) سورة النساء – الآية 26 .
(2) 107]) سورة النساء – الآية 28 .
(3) 108]) انظر المنتقى ص 168 ، وانظر ص 428.
(4) 109]) وبهذا أيضا استدل العالم المعاصر محمد تقى الحكيم ، وذهب إلى أن الإرادة تكوينية لا تشريعية (انظر الأصول العامة للفقه المقارن ص 150) .(176/81)
ولو صح هذا القول لكانت آية التطير في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، فقد اختصصن بمضاعفة الأجر ، وهذا يجعلهن أقرب إلى التطهير وإذهاب الرجس ، كما اختصصن بنزول الوحي في بيوتهن ، ولكنا نقول : إن إرادة التطهير وإن كانت حاصلة مع المكلفين ، إلا أن أهل البيت بها أخص فهم المقتدى بهم،ولأصحاب الكساء النصيب الأوفى . فهذا التأويل لا يمنع الفضيلة والمزية ، ولكنه لا يثبت العصمة .
والاستدلال بآية التطهير بعد هذا يصبح غير مسلم به ، فتخصيصها بالخمسة الأطهار غير ثابت ، وتأويلها بما يثبت العصمة لا دليل عليه ، وهم يرون ثبوت الإمامة لثبوت العصمة . على أن القول بعصمة الإمام نتحدث عنه عند مناقشة الدليل التالي .
*****
رابعا : عصمة الأئمة
ذكرت من قبل ما ذهب إليه الشيعة من القول بعصمة الأئمة ، فلا يخطئون عمداً ولا سهواً ولا نسياناً طوال حياتهم ، لافرق في ذلك بين سن الطفولة وسن النضج العقلى ، ولا يختص هذا بمرحلة الإمامة .
ومما استدلوا به قوله تعالى :- " إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ " .
قالوا : تدل هذه الآية على أن الإمام لا يكون إلا معصوماً عن القبائح ، لأن الله سبحانه وتعالى نفى أن ينال عهده الذي هو الإمامة ظالم ، ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالماً إما لنفسه وإما لغيره ، فإن قيل : إنما نفى أن يناله ظالم في حال ظلمه ، فإذا تاب لا يسمى ظالماً ، فيصح أن يناله ، فالجواب أن الظالم وإن تاب فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالماً . فإذا نفى أن يناله فقد حكم عليه بأنه لا ينالها . والآية مطلقة غير مقيدة بوقت دون وقت ، فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلها ، فلا ينالها الظالم وإن تاب فيما بعد (1) } - - - { ) .
__________
(1) 113) انظر التبيان 1/449 ، ومجمع البيان 1/202 ، ومصباح الهداية 60-63 .(176/82)
ثم قالوا : إن الله سبحانه وتعالى عصم اثنين فلم يسجدا لصنم قط وهما : محمد بن عبد الله وعلى بن أبى طالب ، فلأحدهما كانت الرسالة ، وللآخر كانت الإمامة ، أما الخلفاء الثلاثة فلم يعصموا ، وهم ظالمون ليسوا أهلاً للإمامة .
ونلاحظ هنا :
1. في تأويل الآية الكريمة (1) } - - - { )" إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا " يحتمل جعله رسولاً ُيقتدي به ، لأن أهل الأديان، مع اختلافهم ، يدينون به ، ويقرون بنبوته . ويحتمل إماماً من الإمامة والخلافة ، أو الإمامة والاقتداء ، فيقتدي به الصالحون . والعهد اختُلف في تأويله : فقيل الرسالة والوحي ، وقيل الإمامة ، وهو واضح من التأويل السابق ، ويؤيده عدة روايات . وعن ابن عباس قال : " لا ينال عهدي الظالمين " قال : ليس للظالمين عهد ، وإن عاهدته أنقضه ، وروى عن مجاهد وعطاء ومقاتل بن حبان نحو ذلك. وقال الثوري عن هارون بن عنترة عن أبيه قال : ليس لظالم عهد . وقال عبدالرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة قال : لا ينال عهد في الآخرة الظالمين ، وأما في الدنيا فقد ناله الظالم فآمن به وأكل وعاش ، وكذا قال إبراهيم النخعى وعطاء والحسن وعكرمة . وقال الربيع بن أنس : عهد الله الذي عهد إلى عباده دينه ، يقول لا ينال الظالمين ، ألا ترى أنه قال :
" وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ " (2) } - - - { )
__________
(1) 111]) نظر تفسير الماتريدى : ص 279 ، والطبرى تحقيق شاكر 3/18- 24 ، وابن كثير1/167 ، والآلوسى 1/306 -308 ، والبحر المحيط 1/374 -379 ، والقرطبى 2/107-109 .
(2) 112]) سورة الصافات – الآية 113.(176/83)
يقول : ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق ، وكذا روى عن أبى العالية وعطاء ومقاتل بن حيان ، وقال جويبر عن الضحاك : لاينال طاعتي عدو لي يعصيني ، ولا أنحلها إلا ولياً يطيعني . وروى عن على بن أبى طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا ينال عهدي الظالمين " قال : " لا طاعة إلا في المعروف . فالآية الكريمة إذا اختلف في تأويلها ، والقطع بأن المراد هو ما ذهب إليه الجعفرية من التأويل ينقصه الدليل ، ورد باقي الأدلة .
2. ولكن مع هذا فلا خلاف بأن الظالم لا يصلح لإمامة المسلمين ، قال الزمخشري : " وكيف يصلح لها من لايجوز حكمه وشهادته ، ولا تجب طاعته ، ولا يقبل خبره ، ولا يقدم للصلاة ؟ وكان أبو حنيفة رحمه الله يفتى سراً بوجوب نصرة زيد بن على رضوان الله عليهما ، وحمل المال إليه ، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة كالدوانيقى(1) } - - - { ) وأشباهه ، وقالت له امرأة : أشرت على بنى بالخروج مع إبراهيم ومحمد بنى عبد الله بن الحسن حتى قتل : فقال ليتنى مكان ابنك وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنما هو لكف الظلمة ، فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه فقد جاء المثل السائر : من استرعى الذئب ظلم "(2) } - - - { )
__________
(1) 116) اللص المتغلب والخليفة الذي ذكره الزمخشري هو هشام بن عبدالملك ، وأما الدوانيقى فهو المنصور أخو السفاح ، سمى بذلك قيل لبخله ، وقد ذكر يعض المصنفين أنه لم يكن بخيلاً ( البحر المحيط 1/378) .
(2) 114]) الكشاف 1/309 وقال القرطبى (2/109) قال بن خويزمنداد : وكل من كان ظالماً لم يكن نبياً ولا خليفة ، ولا حاكماً ، ولا مفتياً ولا إمام صلاة ، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة ، ولا تقبل شهادته في الأحكام .(176/84)
ا 3. لايمكن التسليم بأن غير المعصوم لابد أن يكون ظالماً ، أو أن غير الظالم لابد أن يكون معصوماً ، فبين العصمة وعدم الظلم فرق شاسع ، فالمخطئ قبل التكليف ليس ظالماً ولا يحاسب بالاتفاق ، ومن ندر ارتكابه للصغائر وأتبعها بالتوبة والاستغفار لا يكون ظالماً ، أما الخطأ والنسيان فمما لايحاسب عليه كما قال صلى الله عليه وسلم : " وُضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (1)[115]). وكما يؤخذ من دراسة قوله تعالى :
" رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا " (2) } - - تمهيد { )
__________
(1) 115]) رواه ابن ماجة وابن أبى عاصم ،ورجاله ثقات ، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وقال النووى في الروضة وفى الأربعين أنه حسن . ووقع في كتب كثيرين من الفقهاء والأصوليين بلفظ " رفع " بدل " وضع " ، وحول الحديث كلام يطول ذكره ، انظر المقاصد الحسنة ص 228 – 230 وكشف الخفاء 1/433-434 .
(2) 116]) روى الامام مسلم وغيره ما يفيد استجابة ربنا عز وجل لهذا الدعاء ، وروى كذلك عند الجعفرية : انظر مجمع البيان 2/404 ، وانظر كذلك تفسير بن كثير 1/342-343 ، والقرطبى 3/431-432 والكشاف 1/408.(176/85)
4. في رفض الآلوسى لما ذهب إليه الشيعة قال : استدل بها بعض الشيعة على نفى إمامة الصديق وصاحبيه رضي الله عنهم ، حيث إنهم عاشوا مدة مديدة على الشرك ، وإن الشرك لظلم عظيم ، والظالم بنص الآية لا تناله الإمامة ، وأجيب بأن ( غاية ما يلزم أن الظالم في حال الظلم لايناله ، والإمامة إنما نالتهم رضي الله تعالى عنهم في وقت كمال إيمانهم وغاية عدالتهم ) ، ثم قال : " ومن كفر أو ظلم ثم تاب وأصلح لا يصح أن يطلق عليه أنه كافر ، أو ظالم في لغة وعرف وشرع ، إذ قد تقرر في الأصول أن المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة وفى غيره مجاز ، ولا يكون المجاز أيضاً مطرداً بل حيث يكون متعارفاً وإلا لجاز صبى لشيخ ونائم لمستيقظ وغنى لفقير وجائع لشبعان وحى لميت وبالعكس ، وأيضاً لو اطرد ذلك يلزم من حاف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافراً قبل سنين متطاولة أن يحنث ، ولا قائل به " (1) } - - - { ) .
5. ليس من المقطوع به أن الإمام عليا لم يسجد لصنم قط ، ولم أجد أثراً صحيحاً يؤيد هذا ، ولكن يرجحه أن الإسلام أدركه وهو صبى ، وأنه تربى في بيت النبوة ، واقتدى بابن عمه سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وتخلق بخلقه ، ولهذا كان أول من أسلم بعد خديجة رضي الله تعالى عنهما .
والذين لم يسجدوا للأصنام كثيرون كالصحابة الذين عاشوا في بيئة إسلامية في صغرهم فنشئوا على الإسلام ، ثم الذين ولدوا في هذه البيئة ، فلا اختصاص لأمير المؤمنين هنا .
__________
(1) 117]) انظر تفسير الآلوسى 1/307 - 308 .(176/86)
6. العصمة من الخطأ كبيره وصغيره ، عمداً وسهواً ونسياناً من المولد إلى الممات أمر يتنافى مع الطبيعة البشرية ، فلا يقبله العقل إلا بالدليل قطعى من النقل . وهذه الآية الكريمة لا تثبته للأئمة عموماً فضلاً عن أئمة الجعفرية على وجه الخصوص ، على أن دلالة القرآن الكريم تتنافى مع مثل هذه العصمة حتى بالنسبة لخير البشر جميعاً الذين اصطفاهم الله تعالى للنبوة والرسالة . وقد أثبتُّ هذا من قبل في بحثى الذي نلت به درجة الماجستير (1) } - - - { ) ، وسيأتي الحديث عن العصمة في الفصل الخامس من هذا الجزء .
7. الصحابة الكرام من المهاجرين والأنصار الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه ، والذين مدحهم القرآن الكريم في أكثر من موضع ، ويبين أنهم .
" كُنتُمْ خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ " (2) } - - - { )
كيف يستبيح مسلم لنفسه أن يصفهم بأنهم ظالمون ؟ وكيف يصدر هذا ممن يقول : الظلم اسم ذم ، ولا يجوز أن يطلق إلا على مستحق اللعن لقوله تعالى:
"أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" (3) } - - - { )
وكيف يبين القرآن الكريم أنهم خير أمة أخرجت للناس ثم تؤول آية من آياته بأنهم ملعونون ؟
فعلى الجعفرية إذا أن يعيدوا النظر في تأويلهم ، وما بنوه على هذا التأويل.
والآية الكريمة على كل حال لا تدل على أن إمام المسلمين بعد الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون على بن أبى طالب و لا على إمامة أحد بعينه .
*****
خامسا : الغدير
__________
(1) 118]) انظر فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة ج1 ص 37:18.
(2) 119]) سورة آل عمران – الآية رقم 110 .
(3) 120]) انظر التبيان 1/158 ، والآية المذكورة هي رقم 18 من سورة هود .(176/87)
ذكرت من قبل ما قاله الجعفرية من أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن ينص على على وينصبه علماً للناس ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم امتثل للأمر - بعد تردد! وبلغ المسلمين عند غدير خم بعد منصرفه من حجة الوداع . وبحث ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في الغدير يتعلق بالسنة ، ولكنهم ذكروا أن ثلاث آيات تتصل بهذه الحادثة ، آيتان من سورة المائدة ، وأول سورة المعارج كما بينت عند ذكر أدلتهم من القرآن الكريم . وآية التبليغ هي قوله تعالى :
" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" (1) } - - - { )
ولم يكتف بعضهم بذكر أنها نزلت في على ، ولكن ذكر الأقوال المختلفة في أسباب النزول ، قال الطوسي (2) } - - - { ) :
قيل في سبب نزول هذه الآية أربعة أقوال :
أحدها : قال محمد بن كعب القرظى وغيره : إن أعرابياً هم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فسقط السيف من يده وجعل يضرب برأسه شجرة حتى انتثر دماغه .
الثانى : أن النبي صلى الله عليه وسلم كلن يهاب قريشاً ، فأزال الله عز وجل بالآية تلك الهيبة . وقيل : كان للنبي صلى الله عليه وسلم حراس بين أصحابه ، فلما نزلت الآية قال : ألحقوا بملاحقكم ، فإن الله تعالى عصمنى من الناس .
الثالث : قالت عائشة : إن المراد بذلك إزالة التوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي للتقية .
الرابع : قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام : إن الله تعالى لما أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستخلف علياً كان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعاً له على القيام بما أمره بأدائه .
__________
(1) 124) سورة المائدة – الآية 67.
(2) 125) التبيان 3/587-588 .(176/88)
ولم يناقش الطوسي ما قيل ، ولم يذكر ما يرجح أحد هذه الأقوال ، ولكن كثيراً من طائفته استدلوا بروايات على أنها استخلاف على(1) } - - - { ) ، وظاهر النص لا يدل على هذا ، والروايات كلها أقصى ما تبلغه لا تصل إلى مرتبة السنة ، فليس فيها ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، على أنا لم نجد رواية واحدة صحيحة عن طريق الجمهور تؤيد ما ذهب إليه الجعفرية ، ولننظر إلى ما ذهب إليه المفسرون .
قال الطبري في تفسير الآية الكريمة :-
" هذا أمر من الله تعالى ذكره نبيه محمداً بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قص تعالى ذكره قصصهم في هذه السورة ، وذكر فيها معايبهم وخبث أديانهم واجتراءهم على ربهم وتوثبهم على أنبيائهم ، وتبديلهم كتابه ، وتحريفهم إياه ، ورداءة مطاعمهم ومآكلهم ، وسائر المشركين وغيرهم ، ما أنزل عليه فيهم من معايبهم ، والإزراء عليهم ، والتقصير بهم والتهجين لهم ، وما أمرهم به وما نهاهم عنه ، وأن لا يشعر نفسه حذراً منهم أن يصيبوه في نفسه بمكروه ما قام فيهم بأمر الله ، و لاجزعاً من كثرة عددهم وقلة عدد من معه ، وأن لايتقى أحداً في ذات الله ، فإن الله تعالى ذكره كافيه كل أحد من خلقه ، ودافع عنه مكروه كل من يبغى مكروهه ، وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصر عن إبلاغ شئ مما يبلغ إليه إليهم ، فهو في تركة تبليغ ذلك وإن قل ما لم يبلغ منه فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذنب بمنزلته لو لم يبلغ من تنزيله شيئاً . وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل " (2)[124]) .
__________
(1) 126) انظر البيان ط مكتبة الحياة 6/152 –153 ، والميزان 6/42 –64 وتفسير شبر ص 143 ، والغدير 1/214 –229 ، ومصباح الهداية 190-198.
(2) 127) تفسير الطبري تحقيق شاكر 10/467.(176/89)
والذى ذهب إليه أهل التأويل هو الذي يتفق مع سياق الآيات الكريمة ، ومع تكملة الآية ذاتها . والخروج على السياق وفصل صدر الآية عن عجزها لا يجوز بغير أدلة صحيحة .
والطبرى بعد أن ذكر اتفاق أهل التأويل في المراد من الآية الكريمة ، ذكر أنهم اختلفوا في السبب الذي من أجله نزلت ، فقال بعضهم نزلت بسبب أعرابى كان هُّم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكفاه الله إياه ، وقال آخرون : بل نزلت لأنه كان يخاف قريشاً ، فأومن من ذلك ، وذكر روايات القائلين بهذين القولين (1) } - - - { ).
أما الحافظ ابن كثير فقد توسع في الحديث عن هذه الآية الكريمة ، حيث قال :
" يقول تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة ، وآمراً له بإبلاغ جميع ما أرسله الله بذلك به وقد امتثل عليه أفضل الصلاة والسلام ذلك ، وقام به أتم القيام ، قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب ، وهو يقول :
__________
(1) 128) صاحب كتاب الغدير ذكر أن الطبري يرى أن الآية الكريمة نزلت في الغدير كما يذهب الجعفرية (امظر كتابه 1/214 –216 –223-225 ) وما قاله الطبري يتفق مع أهل التأويل – كما نص هو على هذا – وإن اختلفوا في السبب الذي من أجله نزلت ، ومعنى هذا أن أهل التأويل متفقون على صحة ما ذهب إليه الجعفرية لو صح ما ذكره صاحب الغدير ! قول غريب نعود إليه في الحديث عن الآية التالية .(176/90)
" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ " الآية هكذا رواه ههنا مختصراً ، وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولاً ، وكذا رواه مسلم في كتاب الإيمان ، والتزمذى والنسائى في كتاب التفسير من سننهما ، من طرق عن عامر الشعبي ، عن مسروق بن الأجدع ، عنها رضي الله تعالى عنها . وفى الصحيحين عنها أيضاً أنها قالت : لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية :-
" وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ " (1) } - - تمهيد { )
وقال ابن أبى حاتم :
حدثنا أحمد بن منصور الرمادى ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه قال : كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال له : إن ناساً يأتونا يخبرونا أن عندكم شيئاً لم يبده رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس ، فقال ابن عباس : ألم تعلم أن الله تعالى قال :-
" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ " والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء في بيضاء وهذا إسناد جيد . وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبى جحيفة وهب بن عبد الله السوائى قال : قلت لعلى بن أبى طالب رضي الله عنه : هل عندكم شئ من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال : لا والذى فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل (2) } - - - { ) ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر .
وقال البخاري :
__________
(1) 126]) المائدة الآية- 67 .
(2) 127]) أي الدية .(176/91)
قال الزهرى : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم . وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع ، وقد كان هناك من أصحابه نحو أربعين ألفاً ، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ : " أيها الناس إنكم مسئولون عنى فما أنتم قائلون ؟ " قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت . فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ويقول : " اللهم هل بلغت " . قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير حدثنا فضيل يعنى ابن غزوان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع " يا أيها الناس أي يوم هذا ؟ " قالوا : يوم حرام ، قال : " أي بلد هذا ؟ " قالوا : بلد حرام ، قال : " فأي شهر هذا " قالوا : شهر حرام ، قال : " فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا من شهركم هذا " مراراً قال : يقول ابن عباس : والله لوصية إلى ربه عز وجل ، ثم قال : ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، ولا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " . وقد روى البخاري عن على بن المديني ، عن يحيى بن سعيد ، عن فضيل بن غزوان به نحوه ، وقوله تعالى :
" وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ " يعنى وإن لم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به فما بلغت رسالته ، أي وقد علم ما يترتب على ذلك لو وقع ، " وقال على بن أبى طلحة عن ابن عباس" وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ" يعنى إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته(1) } - - - { ) . ا . هـ .
__________
(1) 128]) تفسير ابن كثير 2/77 –78 .(176/92)
ثم استمر ابن كثير في تفسيره ليبين ما يتعلق بتتمة الآية الكريمة . وأشار إلى كيد المشركين وأهل الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عصمه الله تعالى منهم ، وقال بعد أن ذكر شيئاً من كيدهم : " ولهذا أشباه كثيرة جدا يطول ذكرها . فمن ذلك ما ذكره المفسرون عن هذه الآية الكريمة " (1) } 129 { ) ، وذكر بعض روايات الطبري وغيره .
وهكذا نجد أن تفسير الآية الكريمة لا يتفق مع ما ذهب إليه الجعفرية .
وبالإضافة إلى ما ذكره المفسرون روى الإمام أحمد ، وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً مأموراً بلغ والله ما أرسل به ، وما اختصنا دون الناس بشئ ليس ثلاثا ، أمرنا أن نسبغ الوضوء ، وأن لا نأكل الصدقة ، ولا ننزى حماراً على فرس " (2) } 130 { ).
وهذه رواية صحيحة السند ، ونصها يتعارض مع تأويل الجعفرية .
__________
(1) 129]) المرجع السابق 2/97 .
(2) 130]) انظر الرواية وتخريجها ، وبيان صحة سندها في المسند ج 3 رواية رقم 1977 تحقيق المرحوم الشيخ أحمد شاكر ، وأشار إلى روايات أخرى مؤيدة . وفى التعليق تفسير للجزء الأخير بأن الخيل كانت في بنى هاشم قليلة فأحب ( أن تكثر فيهم .(176/93)
على أن بعض المفسرين ناقش الشيعة فيما ذهبوا إليه ، وبين أنه قول لا يستقيم . قال الآلوسى عند تفسيره للآية الكريمة : ( أخبار الغدير التي فيها الأمر بالاستخلاف غير صحيحة عند أهل السنة ، ولا مسلمة لديهم أصلاً ) (1) } - - - { ) وأيد هذا القول : ثم قال : ومما يبعد دعوى الشيعة من أن الآية نزلت في خصوص خلافة على كرم الله وجهه ، وأن الموصول فيها خاص كقوله تعالى : " وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ" فإن الناس فيه وإن كان عاماً إلا أن المراد بهم الكفار ، ويهديك إليه " إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ " فإنه في موضع التعليل بعصمته عليه الصلاة والسلام (2) } - - - { ): وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر ، أي لأن الله تعالى لا يهديهم إلى أمنيتهم فيك . ومتى كان المراد بهم الكفار بعد إرادة الخلافة : بل لو قيل لم تصح ، لم يبعد ، لأن التخوف الذي تزعمه الشيعة منه صلى الله عليه وسلم - وحاشاه - في تبليغ أمر الخلافة إنما هو من الصحابة. رضي الله تعالى عنهم - حيث إن فيهم - معاذ الله تعالى - من يطمع فيها لنفسه ، ومتى رأي حرمانه منها لم يبعد قصد الإضرار برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتزام القول - والعياذ بالله عز وجل - بكفر من عرضوا بنسبة الطمع في الخلافة إليه ، مما يلزمه محاذير كلية أهونها تفسيق الأمير كرم الله وجهه وهو هو ، أو نسبة الجبن إليه وهو أسد الله تعالى الغالب ، أو الحكم عليه بالتقية وهو الذي لا يأخذه في الله تعالى لومة لائم ، ولا يخشى إلا الله سبحانه (3) } - - - { ).
__________
(1) 131]) تفسير الآلوسى 2/349.
(2) 132]) انظر مثل ما ذكره الآلوسى هنا في الكشاف 1/631 ، والبحر المحيط 3/530 .
(3) 133]) انظر مثل ما ذكره الآلوسى هنا في الكشاف 1/631 ، والبحر المحيط 3/530 .(176/94)
ولقد وفق الآلوسى في الاستدلال عن طريق ربط الآية بعضها ببعض وتأويله الآية كما ذهب إليه جمهور المفسرين لا يحتاج إلى دليل ، لأنه أخذ بظاهر النص وعمومه ، وبدلالة السياق ، ولكن تخصيصها باستخلاف على هو الذي يحتاج إلى أدلة أصح وأكثر قبولاً من أدلة الجمهور المذكورة ، وهذا ما لم نجده . وروايات الغدير تناقش تفصيلاً في بحث متصل بالسنة النبوية الشريفة .
والآية الكريمة الأخرى من سورة المائدة هي " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي " (1) } - - - { ) وإختلف أهل التأويل في المراد بإكمال الدين ، فقال بعضهم : يعنى جل ثناؤه بقوله : " الْيَوْمَ أَكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " اليوم أكملت لكم أيها المؤمنون فرائضى عليكم ، وحدودى وأمرى إياكم ونهى وحلالى وحرامى ، وتنزيلى من ذلك ما أنزلت منه في كتاب ، وتبيانى ما بينت لكم منه بوحيى على لسان رسولى ، والأدلة نصبتها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم ، فأتممت لكم جميع ذلك ، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم.
وقال آخرون : إن الله عز وجل أخبر نبيه -صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، أنه أكمل لهم - يوم أنزل هذه الآية على نبيه - دينهم ، بإفرادهم البلد الحرام ، وإجلائه عنه المشركين ، حتى حجه المسلمون دونهم لا يخالطهم المشركون ، وهذا هو الذي اختاره الطبري وأيده (2) } - - - { ).
__________
(1) 134]) جزء من الآية الثالثة.
(2) 138) انظر تفسير الآية الكريمة في الطبري تحقيق شاكر 9/517 ـ 531 وابن كثير 2/12 ـ 14 والكشاف 1/593 ، و الآلوسى 2/248 ـ 249 والقرطبى 6/61 ـ 63 ، والبحر المحيط 3/426.(176/95)
والجعفرية لا يخرجون في تأويلهم عن القولين ، ولكنهم يزيدون أن الآية الكريمة نزلت بعد أن نصب النبي صلى الله عليه وسلم علياً علماً للأنام يوم غدير خم عند منصرفه من حجة الوداع ، ويروون هذا عن الإمامين الباقر والصادق ، ويرون أن الولاية آخر فريضة أنزلها الله تعالى ، ثم لم ينزل بعدها فريضة (1) } - - تمهيد { ).
وفسر الطبرسي " وأتممت عليكم نعمتي " بولاية على بن أبى طالب ، وذكروا رواية عن أبى سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد نزوله الآية الكريمة:الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضا الرب برسالتي ، وولاية على بن أبى طالب من بعدى .
ولكن الطوسي لا يذكر مثل هذه الرواية ، ويفسر " وأتممت عليكم نعمتي " بقوله : " خاطب الله تعالى جميع المؤمنين بأنه أتم نعمته عليهم ، بإظهارهم على عدوهم المشركين ونفيهم إياهم عن بلادهم ، وقطعه طمعهم من رجوع المؤمنين وعودهم إلى ملة الكفر ، وانفراد المؤمنين بالحج والبلد الحرام ، وبه قال ابن عباس وقتادة والشعبي" .
ولم يشر الطوسي إلى الولاية ، وما ذكره كأنما نقل عن شيخ المفسرين ، فقد قال الطبري في تفسيره : " يعنى جل ثناؤه بذلك : وأتممت نعمتي ، أيها المؤمنون بإظهاركم على عدوى وعدوكم من المشركين ، ونفيي إياهم عن بلادكم ، وقطعي طمعهم من رجوعكم وعودكم إلى ماكنتم عليه من الشرك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وروى عن ابن عباس أنه قال : كان المسلمون والمشركون يحجون جميعاً ، فلما نزلت براءة : فنفُى المشركون عن البيت ، وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين ، فكان ذلك في تمام النعمة : " وأتممت عليكم نعمتي ".
__________
(1) 139) راجع للجعفرية : التبيان 3/435 -436، ومجمع البيان ط مكتبة الحياة 6/25 ـ 26 ، وجوامع الجامع ص 104 ، وتفسير شبر ص 133 ، ومصباح الهداية ص 204 ـ 205 .(176/96)
وعن قتادة : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة يوم جمعة حين نفى الله المشركين عن المسجد الحرام ، وأخلص للمسلمين حجهم .
وعن الشعبي قال : نزلت هذه الآية بعرفات ، حيث هدم منار الجاهلية ، واضمحل الشرك ولم يحج معهم في ذلك العام مشرك .
وعن عامر قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفات ، وقد أطاف به الناس ، وتهدمت منار الجاهلية ومناسكهم واضمحل الشرك ، ولم يطف حول البيت عريان فأنزل الله :" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " . وعن الشعبي بنحوه .
إن روايات قتادة والشعبى التي ذكرها الطبري تعارض ما قيل من أن الآية الكريمة نزلت يوم الغدير . وهناك روايات أخرى صحيحة السند تثبت نزولها يوم عرفة يوم جمعة لا يوم الغدير . وذكر الطبري بعض هذه الروايات ، وروايات أخرى معارضة ، ثم قال : وأولى الأقوال في وقت نزول الآية القول الذي روى عن عمر بن الخطاب : أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة ، لصحة سنده ، ووهى أسانيد غيره .
وقال الحافظ ابن كثير : " قال الإمام أحمد : حدثنا أبى جعفر بن عون ، حدثنا أبو العميس ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين ، إنكم تقرءون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً . قال : وأي آية ؟(176/97)
قال : قوله " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي " فقال عمر : والله إنى لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة (1) } - - - { ) ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون به ، ورواه أيضاً مسلم والترمذى والنسائى أيضاً من طرق عن قيس بن مسلم به . ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية عن طريق سفيان الثوري عن قيس عن طارق قال : قالت اليهود لعمر : إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً . فقال عمر : إنى لأعلم حين أنزلت ، وأين أنزلت ، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت : يوم عرفة وأنا والله بعرفة . قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة أم لا : " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " الآية وشك سفيان رحمه الله إن كان في الرواية فهو تورع حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا ، وإن كان شكاً في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة فهذا ما إخاله يصدر عن الثوري رحمه الله ، فإن هذا أمر مقطوع به لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير ، ولا من الفقهاء ، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها، والله أعلم . وقد روى هذا عن غير وجه من عمر " .
__________
(1) 140) الرواية صحيحة الإسناد ، ورواها الإمام أحمد بسند صحيح أخر ، وانظر الروايتين رقم 188 ، 272 في الجزء الأول من المسند .(176/98)
وبعد هذه الروايات ذكر ابن كثير روايات الطبري التي صح سندها ، وهى تبين - كما سبق - أن الآية نزلت يوم الجمعة . ثم ذكر الروايات المعارضة ، وهى التي استوهاها الطبري ، وبين ضعفها ، ومنها ما روى عن الربيع بن أنس أنها نزلت في المسير في حجة الوداع ، وقال : وقد روى ابن مردويه عن طريق أبى هارون العبدى ، عن أبى سعيد الخدري ، أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم حين قال لعلى : " من كنت مولاه فعلى مولاه " . ثم رواه عن أبى هريرة وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذى الحجة ، يعنى مرجعه عليه السلام من حجة الوداع ، ولايصح هذا ولا هذا ، بل الصواب الذي لا شك فيه و لامرية أنها أنزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة ، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وعلى بن أبى طالب ، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبى سفيان ، (1) } - - - { ) وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ، وسمرة بن جندب رضي الله عنهم ، وأرسله الشعبي وقتادة بن دعامة وشهر بن حوشب ، وغير واحد من الأئمة والعلماء ، واختاره ابن جرير الطبري رحمه الله .
__________
(1) 141) المروى في الصحاح الستة عن طريق معاوية في الأحكام ثلاثون حديثاً ، ذكرها ابن الوزير – من علماء الزيدية – في كتابه الروض الباسم ، وأثبت صحتها ثم صحة باقي الأحاديث المروية عن طريقه في غير الأحكام ، وأشار إلى أنه لم يرد حديث واحد عن طريق معاوية في ذم الإمام على " انظر كتابه 2/114 –119" .(176/99)
ومن هنا يظهر أن الروايات الصحيحة تعارض ما ذهب إليه الجعفرية من نزول الآية الكريمة يوم الغدير ، ولكن أحد كتابهم أيد ما ذهبوا إليه بقوله بأنه " يؤكده النقل الثابت في تفسير الرازى ( 3 ص 529 ) عن أصحاب الآثار أنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لم يعمر بعد نزولها إلا أحداً وثمانين يوماً ، أو اثنين وثمانين ، وعينه أبو السعود في تفسيره بهامش تفسير الرازى (3 ص 523 ) وذكره المؤرخون منهم : إن وفاته صلى الله عليه وسلم في الثانى عشر من ربيع الأول ، وكأن فيه تسامحاً بزيادة يوم واحد على الاثنين والثمانين يوماً بعد إخراج يومى الغدير والوفاة ، وعلى أي فهو أقرب إلى الحقيقة من كون نزولها يوم عرفة كما جاء في صحيحى البخاري ومسلم وغيرهما (1) } - - - { ) . لزيادة الأيام حينئذ ، على أن ذلك معتضد بنصوص كثيرة لا محيص عن الخضوع لمفادها " (2) } - - - { ) .
أما النصوص الكثيرة التي يرى ألا محيص عن الخضوع لمفادها فقد سبق ذكر بعضها وبيان عدم الأخذ بها ، فهى روايات ضعيفة السند متعارضة مع روايات صحيحة بل متواترة كما ذكر الحافظ ابن كثير .
ومن الواضح البين أن رواية الرازى للأيام إذا تعارضت مع هذ الروايات وجب طرح رواية الرازى . وليس من البحث العلمي الصحيح أن رواية تأتى في أحد كتب التفاسير تسقط بها روايات متعددة كثيرة السند ، جاءت عن طريق الأئمة أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم .
__________
(1) 139]) من العجيب الغريب أن الروايات التي ينكرها هنا يستدل بها هي ذاتها في مكان آخر بشيء آخر ، فذكر قول اليهودى " لو نزلت فينا هذه الآية لاتخذنا يوم نزولها عيداً " ثم قال : وصدر من عمر ما يشبه التقرير لكلامه . وانتهى من هذا إلى أن يوم نزولها عيد وهو عيد الغدير ! ولم يشر إلى يوم عرفة ! ( انظر الغدير 1/283) .
(2) 140]) المرجع السابق 1/230 .(176/100)
وأول النصوص الكثيرة التي يرى مؤلف الغدير ألا محيص عن الخضوع لمفادها نص ذكر أن الطبري رواه بإسناده عن زيد بن أرقم في كتاب الولاية ، وأشار إليه هنا حيث أثبته بالكامل عند استدلاله على آية التبليغ السابقة في غديره (1) } - - - { ) ، وبالرجوع إلى النص نجد أمراً عجيباً ! فهو يكاد يجمع ما يتصل بعقيدة الإمامية وغلاتهم في الإمامة ، فهى لعلى بالنص ، ثم في أولاده إلى يوم القيامة إلى القائم المهدى ، وغيرهم أئمة يدعون إلى النار ، وهم وأتباعهم في الدرك الأسفل منها ، والله تعالى ورسوله بريئان منهم .... إلخ .
والمعروف أن شيخ المفسرين الطبري ليس شيعياً فضلاً عن غلاتهم ، ولكن صاحب الغدير بعد ذكر الرواية وروايات أخرى قال (2) } - - - { ) بأن الطبري أول من عرفناه ممن ذكر أن آية التبليغ حول قصة الغدير .
وأخذ يناقش الروايات التي جاءت في تفسير الطبري ليبين أنها لا تتعارض مع الرواية المذكورة في كتابه عن الولاية ، مع أن الطبري متفق مع أهل التأويل كما ذكرنا من قبل عند مناقشة الآية الكريمة ، أفكل أهل التأويل جعفريون ؟!
__________
(1) 141]) انظر المرجع المذكور 1/214-216 .
(2) 142]) راجع قوله في ج1 ص 223-225.(176/101)
وعند الحديث عن آية الإكمال هذه ذكر رواية الطبري وأشار إلى كتابه في الولاية ، ولم يشر إلى تفسيره ، ويتضح سر هذا وقد عرفنا الرأي الذي اختاره الطبري حيث استوهى الروايات المخالفة لرواية عمر بن الخطاب . إذن لسنا في حاجة إلى بيان ضلال الباحث عندما يسيره هواه ، ولكن أحب أن أقول هنا بأن كتاب الولاية في ضوء ما سبق إما أنه ألف ونسب إلى الطبري زورا وانتصارا لمذهب ، وإما أن الطبري جمع ما وجده من الولاية بغير نظر إلى مصادر الروايات : وفى كلتا الحالتين الكتاب لا وزن له ، ولا يبين رأي الطبري (1)
__________
(1) 143]) قد بحثت عن الكتاب المذكور فلم أجده ، وبحثت عن أسماء الكتب المنسوبة للطبرى فوجدت ما يزيد عن مائة كتاب منها كتاب فضائل على بن أبى طالب رضي الله تعالى عنه . قال ياقوت الرومى في كتابه إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب 6/452 بأن الطبري تكلم في أوله بصحة الأخبار الواردة في غدير خم ، ثم تلاه بالفضائل ، ولم يتم ، فالطبرى إذن لم يتم كتابه وهو – مع عشرات الكتب الأخرى – غير موجود ، فلعل أحداً استغل هذا فأخرج كتاباً بعنوان الولاية ونسبه للطبرى . والرواية التي ذكرها صاحب كتاب الغدير عن زيد بن أرقم نقلا عن كتاب الولاية لا تصح بحال ، وقد ذكرنا من قبل الروايات الصحيحة عن زيد بن أرقم كما رواها الإمامان أحمد ومسلم . فإذا كان الطبري قد صحح الأخبار الواردة في غدير خم كما قال ياقوت فإنها لا تزيد عما أخرجه مسلم ، وما صح من مسند أحمد ، أما أن يصح عنده مالا يؤمن به ، بل لا يقول به إلا الغلاة فهذا أمر مرفوض قطعاً .*
*ومن المعاصرين لشيخ المفسرين عالم شيعي اسمه محمد بن جرير بن رستم الطبري ويكنى أبا جعفر ، وله كتاب المسترشد في الإمامة (انظر الفهرست للطوسى ص 158 ـ 159) فلعله صاحب كتاب الولاية ، واستغل التشابه بين الاسمين والكنيتين في نسبة الكتاب لشيخ المفسرين ، وهو بلا أدنى شكل براء مما جاء به .(176/102)
} - - - { ) .
وإذا كانت آية التبليغ السابقة نزلت قبل آية الإكمال هذه - كما قال الجعفرية أنفسهم - فإن الروايات السابقة تدل على أن آية التبليغ نزلت قبل الغدير ، مما يؤيد ما ذهب إليه جمهور المفسرين في تأويلها ، ويعارض ما قاله الجعفرية من أنها خاصة بالاستخلاف يوم الغدير ، وهذا دليل آخر يضاف إلى أدلة الجمهور .
ومما سبق رأينا أن آية الإكمال نزلت يوم عرفة ، ولكن لو فرضنا أنها نزلت يوم الثامن عشر من ذى الحجة يوم الغدير فإنها لا تعتبر دليلاً على استخلاف على ، لأن هذا مبنى على أساس أن آية التبليغ خاصة بالاستخلاف وهذا غير ثابت كما بينت من قبل .
ويبقى بعد هذا ما يتعلق بأول سورة المعارج " سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ " .
والسورة الكريمة " مكية " بالاتفاق ، وما ذكره بعضهم (1) } - - - { ) يستلزم أن تكون مدنية بل من أواخر ما نزل بالمدينة بعد حجة الوداع قبيل الوفاة : وشيخ طائفتهم الطوسي لم يقع في هذا الخطأ ، ولذا قال : سورة المعارج مكية في قول ابن عباس والضحاك وغيرهما . وفسرها بما يتفق مع جمهور المفسرين ، ولم يشر إلى أن التكذيب كان بالولاية ، ولا أن جزءاً من هذه السورة نزل بالمدينة فضلاً عن كونه بعد حجة الوداع (2) } - - - { ).
__________
(1) 147) سبق ذكر روايتهم في بداية الفصل .
(2) 145]) انظر التبيان 10/112 –113 .(176/103)
وفى مجمع البيان ذكر الطبرسي مثل هذا التفسير، ثم زاد رواية عن جعفر ابن محمد عن آبائه ، قال : لما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً عليه السلام يوم غدير خم ، وقال : من كنت مولاه فعلى مولاه ، طار ذلك في البلاد ، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم النعمان بن الحرث الفهرى فقال : أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة ففعلناها ، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت : من كنت مولاه فعلى مولاه : فهذا شىء منك أو أمر من عند الله ؟ فقال : والله الذي لا إله إلا هو إن هذا من الله ، فولى النعمان ابن الحرث وهو يقول : " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء " ، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله ، وأنزل الله تعالى: " سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ" .
ولكن هذه الرواية تتعارض مع ما ذكره الطبرسي نفسه حيث قال: "سورة المعارج مكية ، وقال الحسن : إلا قوله " وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ"(1) } - - تمهيد { ) .
وفى موضع آخر ذكر روايات تبين ترتيب نزول سور القرآن الكريم ، وبحسب هذا الترتيب نجد سورة المعارج مكية ، وبعدها سبع سور مكية أخرى ، ثم ذكر السور المدنية . وفى إحدى هذه الروايات : " وكانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ، ثم يزيد الله فيها ما يشاء بالمدينة " .
__________
(1) 146]) المرجع السابق 10/350 .(176/104)
ومعنى هذا أن سورة المعارج مكية وبالأخص فاتحتها ، والطبرسي في تفسيره الآخر " جوامع الجامع " الذي كتبه بعد أن اطلع على تفسير الكشاف للزمخشرى وأعجب به (1) } - - - { ) ، ذكر أن سورة المعارج مكية ، وفسرها بما يتفق مع مكيتها ، ولم يشر للرواية المنسوبة للإمام الصادق . وفى تفسير الآية الخامسة وهى" فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا " قال : فاصبر يتعلق بسأل سائل لأنهم استعجلوا العذاب استهزاء وتكذيباً بالوحي(2) } - - - { ) .
فالطبرسي هنا لم يأخذ بالرواية المنسوبة للإمام الصادق ، وما ذكره الطوسي موافقاً به جمهور المفسرين فيه ما يكفى لرد ما ذهب إليه بعض الجعفرية.
*****
تعقيب
بعد المناقشة السابقة نقول :-
ظهر أن عقيدة الإمامة عند المذهب الجعفرى لا تستند إلى شىء من القرآن الكريم ، واستدلالاتهم تنبنى على روايات متصلة بأسباب النزول ، وتأويلات انفردوا بها ، ولم يصح شئ من هذا ولا ذاك بما يمكن أن يكون دليلاً يؤيد مذهبهم .
قال أحد مفسرى الجعفرية عن أسباب النزول :
" ما ذكروه من أسباب النزول كلها أو جلها نظرية ، بمعنى أنهم يردون غالباً الحوادث التاريخية ، ثم يشفعونها بما يقبل الانطباق عليها من الآيات الكريمة فيعدونها أسباب النزول ، وربما أدى ذلك إلى تجزئة آية واحدة ،أو آيات ذات سياق واحد ، ثم نسبة كل جزء إلى تنزيل واحد مستقر وإن أوجب ذلك اختلال نظم الآيات وبطلان سياقها . وهذا أحد أسباب الوهن في نوع الروايات الواردة في أسباب النزول (3)[149]).
__________
(1) 147]) انظر مقدمة جوامع الجامع ففيها بيان سبب التأليف ، ومما جاء في هذه المقدمة ص 3 : " وحثني وبعثنى عليه أن خطر ببالى وهجس بضميرى ، بل ألقى في روعى ، محبة الاستمداد من كلام جار الله العلامة ولطائفه ، فإن لألفاظه لذة الجدة ورونق الحداثة " .
(2) 148]) انظر المرجع السابق ص 508-509 .
(3) 152) الميزان 4/76-88 .(176/105)
وما ذكره هذا المفسر الجعفرى يكاد ينطبق على جميع الآيات الكريمة التي استدلوا بها .
ومن قبل قال الإمام أحمد بن حنبل :
ثلاثة أمور ليس لها إسناد : التفسير والملاحم والمغازى (1)[150]).
ويروى " ليس لها أصل " أي إسناد ، لأن الغالب عليه المراسيل .
يرى الجعفرية أن الاعتقاد بإمامة الأئمة الاثنى عشر ركن من أركان الإيمان، والقرآن الكريم – تبيان كل شيء – كيف لا يبين هذا الركن بنصوص ظاهرة من آياته البينات .
غلاة الجعفرية لم يكتفوا بالتأويلات الفاسدة ، ووضع الروايات كأسباب للنزول ، وإنما أقدموا على ما هو أشنع من هذا وأشد جرماً ، ذلك أنهم قالوا بتحريف القرآن الكريم ، وحذف اسم على منه في أكثر من موضع ، وسيأتي لهذا مزيد بيان في بحث التفسير عندهم في الجزء الثانى من هذه الموسوعة ، والذي جرفهم إلى هذه عقيدتهم في الإمامة ، وجعلهم إياها ركناً من أركان الإيمان .
*****
الفصل الثالث
الإمامة في ضوء السنة
أولا : خطبة الغدير والوصية بالكتاب والسنة
أخبار الغدير تعتبر المستند الأول من السنة عند الجعفرية ، فهم يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم عند غدير خم ، بعد منصرفه من حجة الوداع ، بين للمسلمين أن وصيه وخليفته من بعده على بن أبى طالب ، وذكرت من قبل أن كاتباً جعفرياً ألف كتاباً يقع في ستة عشر مجلداً ليثبت به صحة حديث وشهرته ، وهذا الكتاب الذي أشرت إليه عنوانه " الغدير في الكتاب والسنة والأدب" ! فالتأليف إذن كان من أجل واقعة الغدير ، وإذا لم يثبت في القرآن الكريم شئ مما أراده المؤلف لم يبق إلا السنة ، أما الأدب فلا حاجة لنا به في هذا المجال !
__________
(1) 153) مقدمة في أصول التفسير ص 20 .(176/106)
وقبل النظر في كتب السنة الثمانية التي حددت في منهجى الرجوع إليها ، وهى : الموطأ ، والمسند والصحيحان ، وكتب السنن الأربعة ، نسترشد بما جاء في سيرة محمد بن إسحاق (1)[151]) التي جمعها ابن هشام .
تحت عنوان موافاة على في قفوله من اليمن رسول الله في الحج ورد ما قاله ابن إسحاق عما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم علياً من أمور الحج (2) } - - - { ). ثم ورد ما يأتي :
__________
(1) 154) ولد في المدينة سنة 85 هـ ، ثم خرج إلى العراق وأقام ببغداد حتى توفى . ووفاته محصورة بين سنة 150 وبين 153 هـ . قيل إنه كان يتشيع ، ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة ، أخرج له مسلم في المتابعات ، واستشهد به البخاري في مواضع ، وروى له أبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجه . وقال الدارقطنى:اختلف الأئمة فيه وليس بحجة إنما يعتبر به . (انظر ترجمته في السيرة النبوية لابن هشام : مقدمة الناشرين ص 13 : 17 ، وراجع ترجمته كذلك في تهذيب التهذيب ) .
وقال الذهبي في ميزان الاعتدال بعد أن ذكر ترجمته : فالذى يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث ، صالح الحال صدوق . وما انفرد به ففيه نكارة ، فإن في حفظه شيئاً . وقد احتج به الأئمة ، والله أعلم .
(2) 152]) السيرة النبوية 4/602 .(176/107)
" قال ابن اسحاق : وحدثنى يحيى بن عبد الله بن عبدالرحمن بن أبى عمرة ، عن يزيد بن طلحة بن ركانة ، قال : لما أقبل على رضي الله عنه من اليمن ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف على جنده الذي معه رجلاً من أصحابه ، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل من القوم حلة من البز الذي كان مع على رضي الله عنه . فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم ، فإذا عليهم الحلل قال : ويلك ؟ ما هذا ؟ قال : كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس . قال : ويلك ! انزع قبل أن تنتهى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم . قال : فانتزع الحلل من الناس ، فردها في البز ، قال : وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم .
قال ابن اسحاق : فحدثنى عبد الله بن عبدالرحمن معمر بن حزم ، عن سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة ، عن عمته زينب بنت كعب وكانت عند أبى سعيد الخدري ، قال : اشتكى الناس علياً رضوان الله عليه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً ، فسمعته يقول : أيها الناس ، لا تشكوا عليا ، فوالله إنه لأخشن في ذات الله ، أو في سبيل الله ، من أن يشكى .
خطبة الرسول في حجة الوداع
قال ابن اسحاق : ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجه ، فأرى الناس مناسكهم ، وأعلمهم سنن حجهم ، وخطب الناس خطبته التي بيَّن فيها ما بيَّن ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :(176/108)
أيها الناس ، اسمعوا قولى : فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا الموقف أبداً ، أيها الناس ، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا ، وكحرمة شهركم هذا ، وإنكم ستلقون ربكم ، فيسألكم عن أعمالكم ، وقد بلغت ، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من أئتمنه عليها ، وإن كل ربا موضوع ، ولكن لكم رءوس أموالكم ، لا تظَلمون ولا تظُلمون . قضى الله أنه لا ربا ، وإن ربا عباس بن عبدالمطلب موضوع كله ، وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع ، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب ، وكان مسترضعاً في بنى ليث ، فقتلته هذيل فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية . أما بعد أيها الناس ، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم ، فاحذروه على دينكم ، أيها الناس : إن النسىء زيادة في الكفر ، يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله ، فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متوالية ، ورجبمضر (1) } - - - { ) ، الذي بين جمادى وشعبان.
__________
(1) 156) ورجب مضر : إنما قال لأن ربيعة كانت تحرم رمضان ، وتسميه رجباً ، فبين عليه الصلاة والسلام أنه رجب مضر لا رجب ربيعة ، وأنه الذي بين جمادى وشعبان .(176/109)
أما بعد أيها الناس ، فإن لكم على نسائكم حقاً ، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، وعليهن أن لايأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع ، وتضربوهن ضرباً غير مبرح ، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف . واستوصوا بالنساء خيراً ، فإنهن عندكم عوان (1) } - - - { ). لايملكن لأنفسهن شيئاً ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمات الله ، فاعقلوا أيها الناس قولى ، فإنى قد بلغت ، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبداً ، أمراً بيناً كتاب الله وسنة نبيه ، أيها الناس اسمعوا قولى واعقلوه ، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم ، وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه ، فلا تظلمن أنفسكم ، اللهم هل بلغت ؟ فذكر لي أن الناس قالوا : اللهم نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اشهد (2) } - - - { ) .
وغير ما ذكره ابن اسحق من سبب تلك الشكوى ، نجد سبباً آخر يذكر وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً ، واستعمل عليهم على بن أبى طالب ، فمضى في السرية فأصاب جارية ، فأنكروا عليه ، ونجد رواية أخرى أنه أصاب الجارية عندما كان على جيش وخالد بن الوليد على جيش آخر ، فأرسل خالد للرسول صلى الله عليه وسلم يخبره لما فعله أبو الحسن .
والروايات كلها تشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم دافع عن زوج الزهراء عليهما السلام ، والأقوال مختلفة ، وسنبين الصحيح منه إن شاء الله تعالى .
__________
(1) 157) عوان : جمع عانية وهى الأسيرة .
(2) 158) السيرة النبوية 4/603 -604.(176/110)
وخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع التي ذكرها ابن اسحاق ، نرى معناها مبثوثاً في كتب السنة ، ففي صحيح البخاري نجد شيئاً منها في باب الخطبة أيام منى من كتاب الحج ، وفى آخر الباب " فطفق النبي صلى الله عليه وسلم " يقول : اللهم اشهد وودع الناس فقالوا : هذه حجة الوداع " .
ونجد كثيراً منها في باب حجة النبيصلى الله عليه وسلم من كتاب الحج في صحيح مسلم . وهذه الحجة يرويها الإمام الصادق عن أبيه الباقر عن جابر رضي الله تعالى عنهم ، كما أخرجها أيضاً غيرالإمام مسلم (1) } - - تمهيد { ) .
وقد بينت في الفصل السابق أنه في يوم عرفة من حجة الوداع نزل قوله تعالى " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " ومن قبله : " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ " ويرى الجعفرية أن استخلاف الإمام على كان يوم الغدير في الثامن عشر من ذى الحجة ، وهنا يأتي تساؤل وهو : أفيمكن أن يترك ركن من أركان الإيمان لا يذكر ، وقد أكمل الله تعالى دينه ، وخطب رسوله صلى الله عليه وسلم ، وودع الناس في حجة الوداع ؟
أظن هذا مستبعداً ، ولكن ليس مستحيلاً !
ولم يَدُر جدل بين الجمهور والجعفرية حول معنى من معانى الخطبة كما ذكرها ابن إسحاق إلا في قوله صلى الله عليه وسلم : " وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً ، أمراً بينا ، كتاب الله وسنة نبيه ". فالجعفرية يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتمسك بالكتاب والعترة في خطبة الغدير ، وأنه ترك الثقلين كتاب الله تعالى وأهل بيته .
__________
(1) 159) انظر حجة النبي ( لمحمد ناصر الدين الألبانى ص 40-45 ، ص 77-79 .(176/111)
وليس معنى هذا أن الجعفرية يرون عدم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فليس بمسلم من يرى هذا ، ولكنهم يرون أن الأئمة معصومون ، وأقوالهم كأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم فهى تعتبر عندهم من السنة ، فلابد من الرجوع إليهم حتى لا تضل الأمة !
وننظر في مفتاح كنوز السنة فنجده يذكر وصيته صلى الله عليه وسلم بكتاب الله وسنة رسوله عن عشرة مراجع منها : الصحيحان ، والمسند ، والترمذى ، والنسائى ، وابن ماجه (1) } - - - { ) .
وفى صحيح البخاري نجد " كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة " ومما جاء في هذا الكتاب " وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها ، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوا إلى غيره ، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم .
وفى الموطأ يروى الإمام مالك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وسنة نبيه " (2) } - - - { ).
__________
(1) 160) انظر مفتاح كنوز السنة – باب الميم فيما ذكره عن محمد - صلى الله عليه وسلم - .
(2) 158]) كتاب النهى عن القول بالقدر ، وهذا الحديث الشريف وصلة ابن عبدالبر من حديث كثير ابن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده (انظر تنوير الحوالك 2/208) .*
*وقال ابن عبدالبر كذلك : مرسلات مالك كلها صحيحة مسندة (1/38) . وقال جلال الدين السيوطى : " ما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد … فالصواب إطلاق أن الموطأ صحيح لا يستثنى منه شىء " ( نفس المرجع 1/6) .(176/112)
ونجد في بعض هذه المراجع العشرة الوصية بكتاب الله تعالى دون ذكر السنة ، من ذلك ما جاء في سنن الدارمى : حدثنا محمد بن يوسف ، عن مالك بن مغول ، عن طلحة بن مصرف اليامى ، قال : " سألت عبد الله بن أبى أوفى : أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا ، قلت : فكيف كتب على الناس الوصية ، أو أمروا بالوصية ؟ فقال : أوصى بكتاب الله " . (انظر كتاب الوصايا . باب من لم يوص ج 2 ص 290-291)
وفى سنن النسائي رواية أخرى لهذا الحديث ، وقال السيوطى في شرحه: " أوصى بكتاب الله أي بدينه ، أو به وبنحوه ليشمل السنة " . (انظر كتاب الوصايا - باب هل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ج6 ص 240).
وفى غير المراجع العشرة نجد مثلاً في كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك " باب في لزوم السنة " ويحتوى الباب على ثمانية أخبار.
وفى المسند لأبى بكر عبد الله بن الزبير الحميدى حدث المصنف قال : ثنا سفيان قال : ثنا مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف قال : سألت عبد الله بن أبى أوفى : " هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً يوصى فيه . قلت : وكيف أمر الناس بالوصية ولم يوص ؟ قال : أوصى بكتاب الله " . ( انظر المجلد الثانى - حديث رقم 722) .
وفى فيض القدير شرح الجامع الصغير ، نجد رواية عن أبى هريرة رضي الله عنه قال : خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال : " تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله وسنتى ، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض " .
ومما قاله المناوى في شرحه :
إنهما الأصلان اللذان لا عدول عنهما ، ولا هدى إلا منهما ، والعصمة والنجاة لمن تمسك بهما . واعتصم بحبلهما ، وهما الفرقان الواضح ، والبرهان اللائح بين المحق إذا اقتفاهما ، والمبطل إذا خلاهما ، فوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة متعين معلوم من الدين بالضرورة .(176/113)
(راجع الجزء الثالث ص 240-241 ، حديث رقم 3282 وشرحه ، وانظر صحيح الجامع الصغير للشيخ ناصر الدين الألبانى جـ 2 ، حديث رقم 2934) .
ولسنا في حاجة إلى أن نطيل الوقوف هنا ، فلا خلاف بين المسلمين في وجوب التمسك والاعتصام بالقرآن الكريم ، والسنة النبوية المطهرة .
والخلاف حول شىء من السنة مرده إلى الخلاف حول الثبوت أو الدلالة ، أما ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان واضح الدلالة ، فلا خلاف حول الأخذ به ووجوب اتباعه ، فقد نطق بهذا الكتاب المجيد في مثل قوله تعالى : " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا " (1) } - - - { )
وقوله عز وجل : " مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ " (2) } - تمهيد - { )
وقوله سبحانه وتعالى :" فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" (3) } - تمهيد - { )
إلى غير ذلك من آيات الله البينات التي بينت أن من لم يتمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد ابتعد عن الإيمان . وضل ضلالاً بعيداً .
من الواضح إذن أن عصمة الأمة وعدم ضلالها في التمسك بما أنزل الله تعالى في كتابه العزيز ، وبما بينه جل شأنه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المطهرة ، دون حاجة إلى الرجوع إلى أئمة الجعفرية ، أو غيرهم من فرق الشيعة، ولكنا نجد روايات أخرى تذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الكتاب والعترة ، وفى بعضها الأمر بالتمسك بهما حتى لا نضل .
ثانيا : روايات التمسك بالكتاب والعترة
__________
(1) 162) سورة الحشر – آية 7 .
(2) 163) سورة النساء – آية 80 .
(3) 164) سورة النساء – آية 65 .(176/114)
من هذه الروايات ما رواه الإمامان مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم ، وسبق ذكره عند الحديث عن آية التطهير ، وفى تلك الروايات الحث على التمسك بكتاب الله تعالى ، ثم قوله صلى الله عليه وسلم : " أذَّكركم الله في أهل بيتي " ، وقول زيد : " إن نساءه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده " وقال " هم آل على وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس " . وهذه الروايات تحثنا معشر المسلمين على أن نرعى حقوق آل البيت ، بيت نبينا صلى الله عليه وسلم ، فنحبهم ونوقرهم وننزلهم منازلهم ، فحبنا لرسولنا الأعظم يدفعنا لحبنا لآله الأطهار ، وعلينا أن نصلهم ، ورحم الله أبا بكر الصديق حيث قال : " والذى نفسى بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتى"(1) } - تمهيد - { ) ، وقال " ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته " (2) } - تمهيد - { ).
وبالطبع لا تدل هذه الروايات على وجوب الإمامة لآل البيت ، ولا لأحد بعينه ، فلا صلة بين التذكير بأهله والنص على خلافة بعضهم .
وأما باقي الروايات فإنها جاءت في المسند ، وفى سنن الترمذي . وروايات المسند هي :-
1. حدثنا عبد الله ، حدثني أبى ، حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا إسرائيل يعنى إسماعيل بن أبى إسحق الملائى ، عن عطية ، عن أبى سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إنى تارك فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتى أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (3/14).
__________
(1) 165) البخاري – كتاب المناقب – باب مناقب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانظر كذلك الرواية رقم 55 بالجزء الأول من المسند ، وسندها صحيح .
(2) 166) البخاري – كتاب المناقب – باب مناقب الحسن والحسين .(176/115)
2.حدثنا عبد الله ، حدثني أبى ، حدثنا أبو النضر ، حدثنا محمد يعنى ابن طلحة ، عن الأعمش ، عن عطية العوفى ، عن أبى سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنى أوشك أن أدعى فأجيب ، وإنى تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله عز وجل ، وعترتى ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتى أهل بيتي ، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ، فانظرونى بم تخلفونى فيهما ؟ " (3/17) .
3.حدثنا عبد الله ، حدثنا أبى ، ثنا ابن نمير ، ثنا عبدالملك يعنى ابن أبى سليمان ، عن عطية ، عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى قد تركت فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتى أهل بيتي. ألا إنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (3/26).
4.حدثنا عبد الله ، حدثني أبى ، ثنا ابن نمير ، ثنا عبدالملك بن أبى سليمان ، عن عطية العوفى ، عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدى : الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتى أهل بيتي . ألا إنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (3/59) .
5.حدثنا عبد الله ، حدثني أبى ، ثنا الأسود بن عامر ، ثنا شريك ، عن الركين، عن القاسم بن حسان ، عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنى تارك فيكم خليفتين ، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض - أو ما بين السماء إلى الأرض - وعترتى أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يرد ا على الحوض " (5/181/182) .(176/116)
6.حدثنا عبد الله ، حدثني أبى ، ثنا أحمد الزبيرى ، ثنا شريك عن الركين ، عن القاسم بن حسان ، عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى تارك فيكم خليفتين ، كتاب الله وأهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض جميعاً " ( 5/189-190).
والترمذى أخرج روايتين هما (1) } - تمهيد - { ):- حدثنا نصر بن عبدالرحمن الكوفي ، حدثنا زيد بن الحسن هو الأنماطى ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : " ياأيها الناس ، قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدى ، كتاب الله وعترتى أهل بيتي " (حسن غريب ) .
-حدثنا على بن المنذر كوفى ، حدثنا محمد بن فضيل قال ، حدثنا الأعمش ، عن عطية ، عن أبى سعيد ، والأعمش عن حبيب بن أبى ثابت ، عن زيد بن أرقم رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى ،أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتى أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفونى فيهما " . (حسن غريب) .
مناقشة الروايات
هذه هي روايات التمسك بالكتاب والعترة ، و بالنظر فيها نجد ما يأتي :-
عن أبى سعيد الخدري خمس روايات ، الأربع الأولى من المسند ، والثانية من سنن الترمذي ، وهذه الروايات كلها يرويها عطية عن أبى سعيد .
وعطية هو " عطية بن سعد بن جنادة العوفى " والإمام أحمد نفسه - صاحب المسند - تحدث عن عطية وعن روايته عن أبى سعيد فقال بأنه ضعيف الحديث ، وأن الثوري وهشيما كانا يضعفان حديثه ، وقال : بلغنى أن عطية كان يأتي الكلبى فيأخذ عنه التفسير ، وكان يكنيه بأبى سعيد فيقول : قال أبو سعيد فيوهم أن الخدري .
__________
(1) 167) انظر مناقب أهل بيت النبي ( في أبواب المناقب من سننه .(176/117)
وقال ابن حبان : سمع عطية من أبى سعيد الخدري أحاديث فلما مات جعل يجالس الكلبى ، فإذا قال الكلبى : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ، فيحفظه ، وكناه أبا سعيد ، وروى عنه ، فإذا قيل له : من حدثك بهذا ؟ فيقول : حدثني أبو سعيد ، فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدري ، وإنما أراد الكلبى ، قال : لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب.
وقال البخاري في حديث رواه عطية : أحاديث الكوفيين هذه مناكير ، وقال أيضاً : كان هشيم يتكلم فيه . وقد ضعفه النسائي أيضاً في الضعفاء ، وكذلك أبو حاتم . ومع هذا كله وثقه ابن سعد فقال : " كان ثقه إن شاء الله ، وله أحاديث صالحة ، ومن الناس من لا يحتج به " . وسئل يحيى بن معين : كيف حديث عطية ؟ قال : صالح (1) } - تمهيد - { )
وما ذكره ابن سعد وابن معين لا يثبت أمام ما ذكر من قبل . وقد يقُال هنا : إذا كان الإمام أحمد يرى ضعف حديث عطية فلماذا روى عنه ؟
والجواب أن الإمام إنما روى في مسنده ما اشتهر ، ولم يقصد الصحيح ولا السقيم . ويدل على ذلك أن ابنه عبد الله قال : قلت لأبى : ما تقول في حديث ربعى بن خراش عن حذيفة ؟ قال : الذي يرويه عبدالعزيز بن أبى رواد ؟ قلت : نعم ، قال الأحاديث بخلافه ، قلت : فقد ذكرته في المسند ؟ قال : قصدت في المسند المشهور، فلو أردت أن أقصد ما صح عندي لن أرو من هذا المسند إلا الشئ اليسير . وقد طعن الإمام أحمد في أحاديث كثيرة من المسند ، ورد كثيراً مما روى ، ولم يقل به ، ولم يجعله مذهباً له (2) } - تمهيد تمهيد { ).
__________
(1) 168) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب ، وميزان الاعتدال .
(2) 169) انظر المسند تحقيق شاكر – طلائع الكتاب 1/75 .(176/118)
وعندما عد ابن الجوزي من الأحاديث الموضوعة أحاديث أخرحها الإمام أحمد في مسنده ، وثار عليه من ثار ، ألف ابن حجر العسقلانى كتابه " القول المسدد في الذب عن المسند " ، فذكر الأحاديث التي أوردها ابن الجوزي ، ثم أجاب عنها ، ومما قال : " الأحاديث التي ذكرها ليس فيها شئ من أحاديث الأحكام في الحلال والحرام ، والتساهل في إيرادها مع ترك البيان بحالها شائع ، وقد ثبت عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة أنهم قالوا : إذا روينا في الحلال والحرام شددنا . وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا . وهكذا حال هذه الأحاديث (1) } - تمهيد - { ).
وما ذكره ابن حجر ينطبق على الأحاديث المروية في فضائل أهل البيت والتمسك بالعترة .
الرواية الثانية للترمذى رواها عن على بن المنذر الكوفي ، عن محمد بن فضيل ، ثم انقسم السند إلى طريقين : انتهى الأول إلى عطية عن أبى سعيد ، والثانى إلى زيد بن أرقم ، ولا يظهر هنا أي السندين هو الأصل . وإذا نظرنا إلى الروايات الأربع السابقة التي رواها عطية عن أبى سعيد نجد توافقاً تاماً في المعنى وفى كثير من اللفظ بينها وبين هذه الرواية ، مما يرجح أن هذا الطريق هو الأصل ، وهو المذكور أولاً في الإسناد ، ومن قبل تحدثنا عما رواه الإمامان أحمد ومسلم عن زيد بن أرقم بطرق متعددة وفى تلك الروايات ذكر قوله صلى الله عليه وسلم " وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " فحث على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال : " وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " (2) } - تمهيد - { ).
__________
(1) 170) ص 11 من القول المسدد .
(2) 171) راجع صحيح مسلم – كتاب فضائل الصحابة – باب من من فضائل على بن ابى طالب رضي الله تعالى عنهم ، والمسند 4/366-367 .(176/119)
وهذا يتفق بعض الشئ مع رواية الترمذي ، لكن بينهما اختلاف كبير يستوجب عدم الجمع ، مما يجعلنا نطمئن إلى ضم رواية الترمذي إلى الروايات الأربع التي رواها عطية عن أبى سعيد ، واستبعادها عن روايات زيد بن أرقم إلا في موضع الاتفاق .
والذى جمع بين الطريقين في هذا الإسناد على بن المنذر الكوفي أو محمد بن فضيل ، ولكن الثانى روى عنه مسلم في إحدى رواياته السابقة عن زيد بن أرقم ، فيُستبعد الجمع عن طريقه . فلم يبق إلا على بن المنذر ، وهو من شيعة الكوفة . قال ابن أبى حاتم : سمعت منه مع أبى ، وهو صدوق ثقة . وذكره ابن حبان في الثقات . وقال ابن نمير : هو ثقة صدوق . وقال الدار قطنى : لا بأس به ، وكذا قال مسلمة بن قاسم ، وزاد : كان يتشبع .
وقال الإسماعيلى : في القلب منه شىء لست أخيره . وقال ابن ماجه : سمعته يقول : حججت ثمانياً وخمسين حجة أكثرها راجلاً (1) } - تمهيد - { ).
وما سمعه منه ابن ماجه يجعلنا نتردد كثيراً في الاحتجاج بقوله : فكيف يقطع آلاف الأميال للحج ثمانياً وخمسين مرة أكثرها راجلاً ؟ ليس من المستبعد إذن أن يجمع راوٍ شيعي كهذا روايتين في مناقب أهل البيت تتفقان في شىء وتختلفان في شىء آخر ، وهذا يجعلنا نزداد اطمئناناً إلى ما انتهينا إليه من جعل هذه الرواية مع الروايات الأخرى لعطية عن أبى سعيد ، وفصلها عن روايات زيد بن أرقم .
على أن هذه الرواية فيها ضعف آخر . وهو الانقطاع في موضعين ، فالأعمش وحبيب بن أبى ثابت مدلسان . وهما يرويان بالعنعنة . فلم يثبت سماع كل منهما هنا .
والأعمش وحبيب من الثقات . وثبت سماع الأعمش من حبيب ، وسماع حبيب من زيد بن أرقم . إلا أن في هذه الرواية لم يثبت السماع ، والأعمش فيه تشيع وهو كوفى ، وحبيب كوفى أيضاً ، وفى بيئة الكوفة يمكن أن تشيع مثل هذه الأحاديث دون دقة أو تمحيص .
__________
(1) 172) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب .(176/120)
وحبيب نفسه قال لابن جعفر النحاس : إذا حدثني رجل عنك بحديث ، ثم حدثت به عنك كنت صادقاً (1) } - - - { ).
فحبيب كان صادقاً ليس بكاذب ، إلا أنه أبان عن رأيه ، فليس من الكذب عنه أن يسمع من راوٍ عن آخر ، فيروى عن الآخر مباشرة بما لايفيد السماع منه .
وفى المستدرك روى الحاكم (2) } - - - { ) هذا الحديث بما يفيد سماع الأعمش من حبيب . وهذا ما يحتاج إلى مراجعة الإسناد الذي ذكره ، وما أكثر رجاله . غير أننا لسنا مضطرين إلى بذل هذا الجهد ، فإن ثبت سماع الأعمش بقى أكثر من موطن ضعف . والحاكم ذكر الحديث بروايتين :-
إحداهما في إسنادها الإمام أحمد بن حنبل ، وسيأتي أنه هو نفسه ضعف الحديث كما ذكر ابن تيمية ، والأخرى بين الذهبي وهَىْ إسنادها (3)
__________
(1) 170]) الأعمش هو سليمان بن مهران الأسدي الكاهلى ، مولاهم أبو محمد الكوفي . انظر ترجمته وترجمة حبيب في تهذيب التهذيب . وميزان الاعتدال .
(2) 171]) هو عبد الله بن عبد الله الضبى النيسابورى .ولد سنة 321 هـ وجاوز الثمانين حيث توفى سنة 405 هـ . قال عنه ابن حجر في لسان الميزان : إمام صدوق ولكنه يصحح في مستدركه أحاديث ساقطة فيكثر من ذلك ، فما أدرى هل خفيت عليه ؟ فما هو ممن يجهل ذلك . وإن علم فهو خيانة عظيمة
ثم هو شيعي مشهور بذلك من غير تعرض للشيخين . والحاكم أجل قدراً وأعظم خطراً وأكبر ذكراً من أن يذكر في الضعفاء . ولكن قيل في الاعتذار عنه أنه عند تصنيفه للمستدرك كان في أواخر عمره . وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره ، ويدل على ذلك أنه ذكر جماعة في كتاب الضعفاء له ، وقطع بترك الرواية عنهم ، ومنع من الاحتجاج بهم ، ثم أخرج أحاديث بعضهم في مستدركه وصححها .
(3) 172]) انظر المستدرك 3/109 - 110 .
وهذا الحديث من الأحاديث التي أنكرها عليه أصحاب الحديث ، ولم يلتفتوا إلى تصحيحه . ( راجع ترجمته بشئ من التفصيل في التذكرة التي كتبت في صدر كتابه معرفة علوم الحديث للدكتور السيد معظم حسين ) .(176/121)
} - - - { ).
القاسم بن حسان العامرى الكوفي روى الروايتين الخامسة والسادسة من المسند عن زيد بن ثابت ، ورجح المرحوم الشيخ أحمد شاكر توثيقه وقال :
" وثقة أحمد بن صالح ، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ، وذكر البخاري في الكبير اسمه فقط ، ولم يذكر عنه شيئاً ، وترجمه ابن أبى حاتم في الجرح والتعديل فلم يذكر فيه جرحاً ، ثم نقل عن المنذرى أن البخاري قال : القاسم بن حسان سمع من زيد بن ثابت ، وعن عمه عبدالرحمن بن حرملة ، وروى عنه الركين بن الربيع ، لم يصح حديثه في الكوفيين " .
ثم عقب شاكر على هذا بقوله " والذى نقله المنذرى عن البخاري في شأن القاسم بن حسان لا ادرى من أين جاء به ، فإنه لم يذكر في التاريخ الكبير إلا اسمه فقط كما قلنا ، ثم لم يترجمه في الصغير ، ولم يذكره في الضعفاء ، وأخشى أن يكون المنذرى وهم فأخطأ ، فنقل كلام ابن أبى حاتم بمعناه منسوباً للبخاري ، وأنا أظن أن قول البخاري في عبدالرحمن بن حرملة " لا يصح حديثه " إنما مرده إلى أنه لم يعرف شيئاً عن القاسم بن حسان ، فلم يصح عنده لذلك حديث عمه عبدالرحمن " (1) } - - - { )
وفى توثيق القاسم بن حسلن نظر ، فابن حبان ذكره أيضاً في أتباع التابعين ومقتضاه أنه لم يسمع من زيد بن ثابت ، وقال ابن القطان : لايعرف حاله (2) } - - - { ).
__________
(1) 173]) انظر المسند ج 5 التعليق على الرواية 3605 ، وهذه غير روايات العترة .
(2) 174]) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب .(176/122)
والبخاري ذكر اسمه فقط في التاريخ الكبير ، وليس في هذا توثيق و لا تضعيف . وفى الجرح والتعديل حقيقة لم يذكر فيه جرحاً ،ولكن لم يذكر فيه كذلك تعديلاً . وإذا كان الظن بأن البخاري ضعف عبدالرحمن بن حرملة من أجل القاسم، فمن باب أولى أن يدخل القاسم في الضعفاء ، ويبقى هنا الإشكال وهو أن البخاري لم يذكره في الضعفاء ، ولم يذكر فيه جرحاً في كتبه الأخرى المذكورة ، فمن أين جاء المنذرى بما نقله عن البخاري ؟
لعل المرحوم الشيخ شاكراً كان يتردد فيما كتب لو عرف أن البخاري له كتاب كبير في الضعفاء يقع في تسعة أجزاء ، وهو مخطوط و لا يوجد منه نسخ في مصر ، فلم لا يكون المنذرى نقل منه (1) } - - - { ) ؟ وفاته كذلك أن يقرأ ترجمة القاسم في ميزان الاعتدال ، فقد نقل الذهبي عن البخاري أن القاسم بن حسان حديثه منكر و لا يعرف (2) } - - تمهيد { ) ، وهذا قول لا يحتمل الوهم . فلا شك أن المنذرى والذهبي قد رجعا لما لم يتيسر لنا الرجوع إليه ، وأغلب الظن - إن لم يكن من المؤكد - أنهما نقلا عن كتاب الضعفاء الكبير للبخاري .
__________
(1) 175]) في الحديث عن أحد الرواة قال العلامة المرحوم أحمد شاكر : " نقل الحافظ في التهذيب أن البخاري ذكره في الضعفاء ، ولم أجد فيه " . وهذا يؤيد أنه لم يسمع بكتاب الضعفاء الكبير للبخاري – انظر قوله في الحديث عن الرواية رقم 646 بالجزء الثانى من المسند .
(2) 176]) يطلق البخاري " منكر الحديث " على من لا تحل الرواية عنه ، أما عند غيره فمنكر الحديث في درجة ضعيف الحديث – انظر : قواعد في علوم الحديث للتهانوى ص 258 ، وانظر كذلك تدريب الراوى 1/349 وحاشية ص 347 وميزان الاعتدال 1/6.(176/123)
لم يبق إذن إلا الرواية الأولى للترمذى ، وفى سندها زيد بن الحسن الأنماطى الكوفي ، الذي روى عن الإمام الصادق عن أبيه عن جابر بن عبد الله ، قال أبو حاتم عن زيد هذا : كوفى قدم بغداد ، منكر الحديث ، وذكره ابن حبان في الثقات (1) } - - - { ).
وخطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع رواها مسلم بسند صحيح عن الإمام الصادق عن أبيه عن جابر ، وليس فيها " وعترتى أهل بيتي " (2) } - - - { )، وهذه الخطبة رويت عن جابر بطرق متعددة في مختلف كتب السنة ، وليس فيها جميعاً ذكر لهذه الزيادة (3) } - - - { ) .
الاختلاف حول الحديث
رأينا فيما سبق ما رواه الإمامان مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم ، وهذا لا خلاف حول صحته .
ورأينا الروايات الأخرى لهذا الحديث ، وظهر ما بها من ضعف . وهنا ملحظ هام وهو أن الضعف أساساً جاء من موطن واحد وهو الكوفة . وهذا يذكرنا بقول الإمام البخاري في حديث رواه عطية : أحاديث الكوفيين هذه مناكير .
ومن هنا ندرك لماذا اعتبر ابن الجوزي هذا الحديث من الأحاديث الموضوعة ، وإن كانت الروايات في جملتها كما يبدو لنا لا تجعل الحديث ينزل إلى درجة الموضوع .
وفى فيض القدير شرح الجامع الصغير ذكر الحديث من مسند الإمام أحمد ، ومعجم الطبرانى رواية عن زيد بن ثابت ، وصحح الحديث السيوطى والمناوى ، وقال المناوى : " قال الهيثمى : رجاله موثقون ، ورواه أيضاً أبو يعلى بسند لا بأس به ، والحافظ عبدالعزيز بن الأخضر وزاد أنه قال : في حجة الوداع ، ووهم من زعم وضعه كابن الجوزي . قال السمهودى : وفى الباب ما يزيد على عشرين من الصحابة " ا . هـ .
__________
(1) 177]) نظر ترجمته في تهذيب التهذيب ، وميزان الاعتدال .
(2) 178]) راجع صحيح مسلم – كتاب الحج – باب حجة النبي ( .
(3) 179]) انظر حجة النبي ( كما رواها جابر بن عبد الله ص 40-45 .(176/124)
وتحدثنا من قبل عما رواه الإمام أحمد عن زيد بن ثابت ، وبينا ضعف الإسناد ، وبالنظر فيما رواه الطبرانى نجد موطن الضعف نفسه . فهو من رواية القاسم بن حسان ، فقول الهيثمى يعنى توثيق القاسم .
وما ذكره عن حجة الوداع هنا بيناه من قبل . فالتصحيح إذن غير مقبول ، غير أننا قد نوافق على عدم جعل الحديث من الموضوعات ، ومع هذا فابن الجوزي قد يكون له ما يؤيد رأيه ، فليس من المستبعد أن يكون الحديث كوفى النشأة ، وأن يكون مصنوعاً في دار الضرب التي أشار إليها الإمام مالك ، ومن هنا يمكن أن ينسب إلى عشرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، بل إلى سبعين غير أنه لو صح عن صحابى واحد لكفى إلا أن يكون ممن لا يستحق شرف الصحبة .
ولعل من المهم هنا أن نذكر أن الإمام أحمد بن حنبل ، وهو ممن أخرج الحديث ، ذكر أنه ضعيف لا يصح ، فهو إذن غير صحيح بالنسبة إلى أي من الصحابة الكرام .
وشيخ الإسلام ابن تيمية رفض هذا الحديث وقال : " وقد سئل عنه أحمد ابن حنبل فضعفه ، وضعفه غير واحد من أهل العلم وقالوا : لا يصح " (1) } - - - { ).
وفى عصرنا وجدنا العلامة المحقق الشيخ ناصر الدين الألبانى - رحمهالله - يذهب إلى تصحيح رواية التمسك بالكتاب والسنة التي أشرنا إليها من قبل ، ويوافق السيوطى والمناوى هنا أيضاً فيصحح حديث الثقلين الذي يأمر بالتمسك بالكتاب والعترة ، فيذكره في صحيح الجامع الصغير لا في ضعيفه (2) } - - - { ).
__________
(1) 183) منهاج السنة النبوية 4/105 .
(2) 184) انظر صحيح الجامع الصغير 2/217- حديث رقم 2454 .(176/125)
وعندما سعدت بلقائه في زيارته الأخيرة لدولة قطر ، دار نقاش حول هذا الحديث ، وذكرت مواطن الضعف في الروايات التي جمعتها ، فقال - زاده الله علماً وفضلاً - إن ضعف هذه الروايات لا يعنى ضعف الحديث ، فقد يكون مروياً من طرق أخرى صحيحة لم تصل إليك (1) } - - - { )، ثم أشار إلى كتابين أخرجا الحديث ولم يكونا من المصادر التي اعتمدت عليها قبل هذا البحث .
أحدهما :معجم الطبرانى ، فنظرنا فيه ووجدنا في الإسناد القاسم بن حسان ، فالرواية إذن غير صحيحة .
والثانى :مستدرك الحاكم وفيه ما يفيد سماع الأعمش من حبيب ، ولكن يبقى أيضاً مواطن الضعف الأخرى (2) } - - - { ). ولم يتذكر لماذا صحح الحديث ، ولم يتمكن من الرجوع إلى ما كتب نظراً لإبعاده عن داره ومكتبته ، وبعد سفره قرأت ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ، فلما أبلغ به طلب تصوير الصفحات .
والشيخ الجليل في تصحيحه للحديث أشار إلى تخريج المشكاة ، فرأيت الرجوع إليها عسى أن أقف على حجته في التصحيح .
في الجزء الثالث في مشكاة المصابيح ( ص 1735) جاءت روايتان للحديث هما رقم 6143، 6144.
قرأت الروايتين والتخريج فكانت المفاجأة مذهلة . وأثبت هنا ما جاء في الكتاب بالنص :
الرواية رقم 6143 :
عن جابر ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : " ياأيها الناس : إنى تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا ، كتاب الله ،وعترتي أهل بيتي " (رواه الترمذي ).
والرواية الأخرى نصها كما يلى :
__________
(1) 182]) كلام الشيخ صحيح ، ولذلك فقد جمعت كل ما استطعت جمعه والنظر فيه من الروايات ، وقد أرشدني إلى هذا المنهج ، وساعدني في التطبيق منذ سنوات العلامة الثبت المحقق الأستاذ محمود شاكر – رحمه الله رحمة واسعة .
(2) 183]) راجع ما ذكرناه من قبل عن الحاكم ومستدركه ، وعن روايتيه لهذا الحديث .(176/126)
وعن زيد بن أرقم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض ، فانظروا كيف تخلفونى فيهما " .(رواه الترمذي ) .
هاتان هما الروايتان ، أما التخريج فهو كما يلى :
الرواية الأولى : " وقال - أي الترمذي - : حديث حسن غريب .
قلت - أي الألبانى - : وإسناده ضعيف "
الرواية الثانية : " وقال : حديث حسن غريب قلت : وإسناده ضعيف أيضاً ، لكنه شاهد للذى قبله " .
هذا ما قرأته ، ونقلته بنصه ، والضعيف الذي يشهد للضعيف لا يرفعه لمرتبة الصحيح ، بل قد لا يزيده إلا ضعفاً ، فمن أين جاء تصحيح الشيخ إذن ؟
وبعد لقائى بالشيخ الجليل تتبعت روايات الطبراني للحديث في المعجم الكبير ، فوجدت خمس عشرة رواية :
تسع منها عن زيد بن أرقم ، وهى الرواية رقم 2681 بالجزء الثالث ، وفى الجزء الخامس الروايات الثمانية وأرقامها : 4980، 4981 ، 4982 ، 5025 ، 5026 ، 5027 ، 5028 ، 5040 وعرفنا ما صح عن زيد بن أرقم ، فلا حاجة للنظر في هذه الروايات .
أما الروايات الستة الباقية فهى كما يلى :
روايتان يرويهما عطية عن أبى سعيد ، وهما رقم 2678 ، 2679 بالجزء الثالث .
وروايتان يرويهما زيد بن الحسن الأنماطى ، وهما رقم 2680 ، 2683 ، وهما بالجزء الثالث أيضاً .
وروايتان يرويهما القاسم بن حسان ، وهما رقم 4922 ، 4923، وهما بالجزء الخامس .(176/127)
ومن هذا التتبع نرى أن الضعف في هذه الروايات لا يخرج عما ذكرته من قبل في مناقشة روايات مسند الإمام أحمد ، وسنن الترمذي ،ويؤكد عدم استبعاد أن يكون الحديث كوفي النشأة ، وأن يكون مصنوعاً في دار الضرب التي أشار إليها الإمام مالك . كما يزيدنا اطمئنانا إلى صحة المنهج الذي بدأت به ، واكتفيت بالرجوع إلى الكتب السبعة والموطأ . فالرجوع إلى غير هذه الكتب لم يضف إلينا جديدا .
فقه الحديث
مما سبق نرى أن حديث الثقلين التي صح سندها صح متنها ، وأن الروايات الثمانية التي تأمر بالتمسك بالعترة إلى جانب الكتاب الكريم لم تخل واحدة منها من ضعف في السند (1) } - - - { )، وفى متن هذه الروايات نجد الإخبار بأن الكتاب وأهل البيت لن يفترقا حتى يردا الحوض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن أجل هذا وجب التمسك بهما . ولكن الواقع يخالف هذا الإخبار ، فمن المتشيعين لأهل البيت من ضل وأضل ، وأكثر الفرق التي كادت للإسلام وأهله وجدت من التشيع لآل البيت ستاراً يحميها ، ووجدت من المنتسبين لآل البيت من يشجعها لمصالح دنيوية ، كأخذ خمس مايغنمه الأتباع ، وفرق الشيعة التي زادت على السبعين كل فرقة ترى أنها على صواب ، وأن غيرها قد ضل إن لم يكن قد كفر! ولسنا في حاجة إلى إثبات هذا القول ، فالكتب التي تبحث في الفرق ، وكتب الفرق ذاتها تبين هذا ، والجعفرية مثلاً عندما يشترطون للإيمان عقيدتهم في الأئمة الاثنى عشر يخرجون الأمة كلها من الإيمان ! وعقيدتهم هذه لا يسندها نص واحد من كتاب الله تعالى كما رأينا ، فإذا أمرنا
__________
(1) 187) ومع هذا الضعف جاء في كتاب المراجعات للموسوي بأنها متواترة ! (ص 51) ونسب للشيخ سليم البشرى أنه تلقى هذا القول بالقبول ! ( ص 54) وأنه طلب المزيد ، وذكر صاحب المراجعات روايات أخرى أشد ضعفاً ، ونسب للشيخ البشرى أنه أعجب بها ، ورآها حججاً ملزمة ! (ص 55-61) وسيأتي الحديث مرة أخرى عن هذا الكتاب .(176/128)
بالتمسك بأهل البيت فبمن نتمسك ؟ أبكل من ينتسب لأهل البيت ! وإن تركوا كتاب الله وسنة نبيه ! بالطبع لا .
إذن عدم الضلال يأتي من التمسك بالكتاب والسنة ، وإذا تمسك أهل البيت بهما كان لهم فضل الانتساب مع فضل التمسك واستحقوا أن يكونوا أئمة هدى يقتدي بهم كما قال تعالى:-
"وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا"أي أئمة نقتدى بمن قبلنا ، ويقتدي بنا من بعدنا(1) } - - - { ) ، ولا يختص هذا بأهل البيت ولكن بكل من يعتصم بالكتاب والسنة .
فالروايات التي ضعف سندها لا يستقيم متنها كذلك ، وهذا ضعف آخر ، ومع هذا كله فلو صحت هذه الروايات فإنها لا تدل على وجوب إمامة الأئمة الاثنى عشر وأحقيتهم للخلافة .
وللننظر في فقه روايات الحديث الكوفية .
قال العلامة المناوى في فيض القدير (3/14): " إن ائتمرتم بأوامر كتابه ، وانتهيتم بنواهيه ، واهتديتم بهدى عترتى ، واقتديتم بسيرتهم ، اهتديتم فلم تضلوا .
قال القرطبى : وهذه الوصية ، وهذا التأكيد العظيم ، يقتضى وجوب احترام أهله ، وإبرازهم وتوقيرهم ومحبتهم ، وجوب الفروض المؤكدة التي لاعذر لأحد في التخلف عنها " .
ثم قال المناوى بعد هذا (3/15): لن يفترقا : أي الكتاب والعترة ، أي يستمرا متلازمين حتى يردا على الحوض : أي الكوثر يوم القيامة .
__________
(1) 188) راجع البخاري – كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب الاقتداء بسنن الرسول ( .(176/129)
زاد في رواية : كهاتين ، وأشار بأصبعيه ، وفى هذا مع قوله أولاً : " إنى تارك " تلويح بل تصريح بأنهما كتوأمين ، خلفهما ووصى أمته بحسن معاملتهما ، وإيثار حقهما على أنفسهما ، واستمساك بهما في الدين ، أما الكتاب فلأنه معدن العلوم الدينية ، والأسرار والحكم الشرعية ، وكنوز الحقائق وخفايا الدقائق . وأما العترة فلأن العنصر إذا طاب أعان على فهم الدين ، فطيب العنصر يؤدى إلى حسن الأخلاق ، ومحاسنها تؤدى إلى صفاء القلب ونزاهته وطهارته . قال الحكيم : " والمراد بعترته هنا العلماء العاملون إذ هم الذين لا يفارقون القرآن . أما نحو جاهل وعالم مخلط فأجنبي من هذا المقام ، وإنما ينظر للأصل والعنصر عند التحلى بالفضائل ، والتخلى عن الرذائل ، فإن كان العلم النافع في غير عنصرهم لزمنا اتباعه كائناً ما كان ، ولا يعارض حثه هنا على اتباع عترته حثه في خبر على اتباع قريش ، لأن الحكم على فرد من أفراد العام بحكم العام لا يوجب قصر العام على ذلك الفرد على الأصح ، بل فائدته مزيد الاهتمام بشأن ذلك الفرد ، والتنويه يرفعه قدره . ثم قال الشريف : هذا الخبر يفهم منه وجود من يكون أهلاً للتمسك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كل زمن إلى قيام الساعة حتى يتوجه الحث المذكور إلى التمسك به ، كما أن الكتاب كذلك ، فلذلك كانوا أماناً لأهل الأرض ، فإن ذهبوا ذهب أهل الأرض " ا . هـ.
وقال ابن تيمية بعد أن بيَّن أن الحديث ضعيف لا يصح : " وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على أن أهل بيته كلهم لا يجتمعون على ضلالة . قالوا : ونحن نقول بذلك كما ذكر ذلك القاضى أبو يعلى وغيره " .
وقال أيضاً : " إجماع الأمة حجة بالكتاب والسنة والإجماع ، والعترة بعض الأمة ، فيلزم من ثبوت إجماع الأمة إجماع العترة " .
بالنظر في هذه الأقوال ، وبتدبر متن الحديث ، نقول :(176/130)
يجب ألا يغيب عن الذهن المراد بأهل البيت ، فكثير من الفرق التي رزئ بها الإسلام والمسلمون ادعت أنها هي التابعة لأهل البيت .
أهل البيت الأطهار لا يجتمعوا على ضلالة ، تلك حقيقة واقعة ، ونلحظ هنا أنهم في تاريخ الإسلام لم يجتمعوا على شىء يخالف باقي الأمة ، فالأخذ بإجماعهم أخذ بإجماع الأمة كما أشار ابن تيمية .
إذا نظرنا إلى أهل البيت كأفراد يتأسى بهم ، فمن يتأسى به منهم ، ونتمسك بسيرته ، لابد أن يكون متمسكاً بالكتاب والسنة ، فإن خالفهما فليس بمستحق أن يكون من أهل البيت .
وكل إنسان يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك فعند الخلاف نطبق قول الله :-
" فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ " (1) } - - تمهيد { )
لو كان ما ذكره الشريف من الفقه اللازم للحديث لكان في هذا ما يكفى لرفض المتن ، فالأيام أثبتت بطلانه ، وإلا فمن الذي نؤمر باتباعه في عصرنا هذا على سبيل المثال ؟
أبإحدى الفرق التي تنتسبب آل ؟ أم بجميع الفرق وكل فرقة ترى ضلال غيرها أو كفره ؟ أم بنسل آل البيت من غير الفرق ؟ !
5. فرق كبير بين التذكير بأهل البيت والتمسك بهم ، فالعطف على الصغير ، ورعاية اليتيم ، والأخذ بيد الجاهل ، غير الأخذ عن العالم العابد العامل بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثالثا : روايات أخرى متصلة بالغدير
هناك روايات أخرى متصلة بالغدير منها في المسند عن الإمام على سبع روايات هي (2) } - - - { ):-
__________
(1) 189) النساء - الآية 59 .
(2) 190) انظر الروايات وتخريج المرحوم شاكر لها في المسند ج 2 ، وأرقامها على التوالى 641 ، 670 ، 950 ، 951 ، 961 ، 964 ، 1310 .(176/131)
حدثنا ابن نمير ، حدثنا عبدالملك ، عن أبى عبدالرحيم الكندى ، عن زاذان أبى عمر قال : سمعت علياً في الرحبة وهو ينشد الناس : من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم وهو يقول ما قال ؟ فقام ثلاثة عشر رجلاً فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : من كنت مولاه فعلى مولاه .
حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا الربيع يعنى ابن أبى صالح الأسلمى ، حدثني زياد بن أبى زياد : سمعت على بن أبى طالب ينشد الناس فقال : أنشد الله رجلاً مسلماً سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم ما قال ؟ فقام اثنا عشر بدرباً فشهدوا .
قال عبد الله بن أحمد ، حدثنا على بن الحكيم الأودى ، أنبأنا شريك ، عن أبى إسحق ، عن سعيد بن وهب ، عن زيد بن يثُيع قالا : نشد على الناس في الرحبة : من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم إلا قام ؟ قال : فقام من قبل سعيد ستة ، ومن قبل زيد ستة ، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلى يوم غدير خم : أليس الله أولى بالمؤمنين ؟ قالوا : بلى ، قال : اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه .
قال عبد الله بن أحمد ، حدثنا على بن حكيم ، أنبأنا شريك ، عن أبى إسحق ، عن عمرو ذى مر ، بمثل حديث أبى إسحق ، يعنى عن سعيد وزيد ، وزاد فيه: وانصر من نصره ، واخذل من خذله .
قال عبد الله بن أحمد : حدثني عبد الله بن عمر القوايرى ، حدثنا يونس بن أرقم ، حدثنا يزيد بن أبى زياد ، عن عبدالرحمن بن أبى ليلى قال : شهدت علياً في الرحبة ينشد الناس :
أنشد الله من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم : من كنت مولاه فعلى مولاه لما قام فشهد ؟(176/132)
قال عبدالرحمن : فقام اثنا عشر بدرياً ، كانى أنظر إلى أحدهم ، فقالوا : نشهد أنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم : ألست أولى بالمؤمنين من انفسهم وأزواجى أمهاتهم ؟ فقلنا : بلى يا رسول الله ، قال : فمن كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه .
قال عبد الله بن أحمد : حدثنا أحمد بن عمر الوكيعى ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا الوليد بن عقبة بن نزار العنسى ، حدثني سماك بن العبيد ابن الوليد العبسى قال : دخلت على عبدالرحمن بن أبى ليلى ، فحدثنى أنه شهد علياً في الرحبة قال : أنشد الله رجلاً سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهده يوم غدير خم إلا قام ، ولا يقوم إلا من قد رآه ؟ فقام اثنا عشر رجلاً فقالوا : قد رأيناه وسمعناه حيث أخذ بيده يقول : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، فقام إلا ثلاثة لم يقوموا ، فدعا عليهم ، فأصابتهم دعوته .
قال عبد الله بن أحمد : حدثني حجاج بن الشاعر ، حدثنا شبابة ، حدثني نعيم بن حكيم ، حدثني أبو مريم ورجل من جلساء على عن على : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم غدير خم : من كنت مولاه فعلى مولاه ، قال : فزاد الناس بعد : وال من والاه ، وعاد من عاداه .
مناقشة الروايات(176/133)
هذه هي الروايات السبع ، والرواية الأولى سندها ضعيف ، إلا أن متنها صحيح وهو : " من كنت مولاه فعلى مولاه " ، والروايات الأخرى تؤيده ، كما أنه روى بطرق مختلفة عن غير الإمام على ، حتى عده بعض رجال الحديث من المتواتر أو المشهور (1) } - - - { ).
وفى الروايتين الثالثة والخامسة نجد زيادة " اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه " . وفى الرابعة " وانصر من نصره ، واخذل من خذله " ولكن نجد في السابعة " فزاد الناس بعد : وال من والاه ، وعاد من عاداه " .
فهذه الرواية تنص على أن الزيادة ليست من قول الرسول صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) 191) انظر كشف الخلفاء 2/274 , والرواية الساسة تتفق مع كثير من الروايات فيما عدا زيادة إنكار بعض الصحابة ودعاء الأمير عليهم ، وهى ضعيفة السند بحمد الله تعالى ، فاتفق هذا الضعف مع هذه الزيادة التي لم تأت في رواية صحيحة على الإطلاق ، والتي لا تستقيم مع ماعرف عن الصحابة الكرام ، فليس بمؤمن من يكتم شهادة حق ، وهذه شهادة معروفة لا ضرر في إظهارها ولا خير في إنكارها ، فلو كان هؤلاء ممن نافقوا لا من المؤمنين فلم يقدمون على هذا الكتمان ؟ وأنى هذا إذا كان الجرم ينسب لأنس بن مالك وزيد بن أرقم وبراء بن عازب وغيرهم من أجلاء الصحابة ! ثم أنى لمن تربى في بيت النبوة وتخلق بخلقها أن يدعو عليهم بدلاً من أن يدعو لهم ! ولكن هذه الاتهامات لخير قرن ـ مع ضعفها ـ تعجب بعض الشيعة فيلتقطونها من أي مصدر لتأييدها وترويجها . ( انظر مثلاً الغدير 1/191-195) .(176/134)
والإشكال هنا أن هذه الروايات الأربع صحيحة السند ، وفى المسند كذلك عن زيد بن أرقم عدة روايات في بعضها زيادة " اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه " ، وفى بعضها إنكار لهذه الزيادة (1) } - - - { ) ، وهذا يجعلنا نتوقف فلا نستطيع الحكم بأن هذا قول النبي الكريم أو زيادة الناس بعد إلا بمزيد من البحث للترجيح .
والمهم هنا دلالة المتن مع الزيادة أو بدونها ، أيعتبر هذا نصاً في أن الخلافة يجب أن تكون للإمام على ؟
سبق بيان أن الولى بمعنى المتولى للأمور والمستحق للتصرف فيها ، وبمعنى الناصر والخليل ، والقرآن الكريم عندما أمر بمولاة أقوام ، أو نهى عن موالاة آخرين جاءت الموالاة بمعنى النصرة والمحبة ، ولم تأت حالة واحدة بمعنى الولاية العامة على المؤمنين ، وهذه الروايات تأمر بموالاة الإمام على ونصرته وتنهى عن معاداته وخذلانه ، وهذا لا يخرج عن الاستعمال القرآنى كما هو واضح ، فإذا كان النهى عن المعاداة والخذلان ، فالأمر بالمحبة وهى الموالاة والنصرة ، ولا مكان للخلافة هنا ، ولو أرادها الرسول صلى الله عليه وسلم لكان التعبير بنص صريح لا يحتمل تأويلاً يخرجه عن معناه ، ولكانت القرائن كذلك تؤيده .
__________
(1) 192) انظر المسند ط الميمنية 4/368 – 373 .(176/135)
ومما يدل على أن المراد بالموالاة المحبة والنصرة لا الخلافة ، أن الإمام نشد الناس في الكوفة بعد أن آلت الخلافة إليه ، وأهل الكوفة - ومن ذهب معه إليها - بايعوه بلا خلاف ، ولكن أكثرهم خذلوه ولم ينصروه كما هو معلوم مشهور(1)
__________
(1) 193) للإمام على خطب كثيرة تبين تخاذل هؤلاء الشيعة ، يمكن الرجوع إليها في نهج البلاغة – وعندما أغار سفيان بن عوف بجنده على الأنبار ، ثم انصرفوا وافرين ، خطب الإمام خطبة منها : " فقبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضاً يرمى ، يغار عليكم ولا تُغيرون ، وتُغزَون ولا تَغزُون ، ويعصى الله وترضون ! فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الصيف قلتم : هذه حمارةّ القيظ ، أمهلنا يُسَّبح عنا الحر ، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارة القر ، أمهلنا ينسلخ عنا البرد ، كل هذا فراراً من الحر والقر ، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون فأنتم والله من السيف أفر !
يا أشباه الرجال و لا رجال ! حلوم الأطفال ، وعقول ربات الحجال ، لوددت أنى لم أركم ولم أعرفكم ! معرفة والله جرت ندماً ، وأعقبت سدماً ، قاتلكم الله ! لقد ملأتم قلبى قيحاً ، وشحنتم صدرى غيظاً ، وجرعتمونى نغب التهمام أنفاساً ، وأفسدتم على رأيى بالعصيان والخذلان ، حتى قالت قريش : إن ابن أبى طالب رجل شجاع ، ولكن لا علم له* *بالحرب " (نهج البلاغة ص 53 –54) (ترحاً : هماً و حزناً أو فقراً - حمارة القيظ : شدة الحر – سبخ عنا الحر : خفف – صبارة الشتاء : شدة برده – القر بالضمة : البرد – ربات الحجال : النساء – السدم : الهم مع أسف أو غيظ - النغب : جمع نغبة كجرعة لفظاً ومعنى – التهمام : الهم – أنفاساً : أي جرعة بعد جرعة ) .(176/136)
} - - - { ) ولو كان المراد بالموالاة الخلافة لاحتج بهذا على الخلفاء الراشدين السابقين وعلى من بايعهم ، وهذا لم يثبت على الإطلاق ، ولم أجد في كتب السنة التي رجعت إليها رواية واحدة تذكر مثل هذا الاحتجاج .
وفى الفصل الأول ذكرت ما رواه البخاري ومسلم عن بيعة أبى الحسن للصديق ، وليس فيها ذكر لشىء عن الغدير ، ولم ينكر الإمام على أحقية الصديق و لا فضله ، وسر المسلمون بذلك الموقف وقالوا لعلى : أصبت وأحسنت ، وكانوا إليه قريباً حين راجع المعروف ، أي حين بايع ، ولو نشد المسلمين هنا لشهد المئات ممن حضر الغدير ، ومنهم من شهد بعد ذلك بالفعل في الكوفة ، ولكنه بين سبب تأخره عن البيعة بقوله لأبى بكر : " إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله ، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك ، ولكنك استبددت علينا بالأمر ، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيباً " . وعند البيعة أمام المسلمين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر وتشهد ، وعظم حق أبى بكر ، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبى بكر ، ولا إنكاراً للذى فضله الله به ، " ولكننا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً ، فاستبد علنا ، فوجدنا في أنفسنا " .(176/137)
فالإمام على قد وجد في نفسه لأنه لم يشرك في أمر الخلافة واستبد بهغيره ، وله ما يؤيد وجهة نظره ، فأمر خطير كهذا لا يُقضى دون مشورة أبى الحسنين ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزوج ابنته فاطمة الزهراء ، إلى جانب فضله وسبقه وعلمه . وعذر أبى بكر وعمر وسائر الصحابة كان واضحاً - كما يقول النووى - لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين ، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتب عليه مفاسد عظيمة ،ولهذا أخروا دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة لأنها كانت أهم الأمور ، كيلا يقع نزاع في مدفنه أو كفنه أو غسله ، أو الصلاة عليه أو غير ذلك ، وليس لهم من يفصل الأمور ، فرأوا تقديم البيعة أهم الأشياء .
فلو كانت الموالاة تعنى الخلافة لاحتج بها على الصديق ومن بايعه ، ولما تمت البيعة أصلاً .
والشكوى التي من أجلها دافع الرسول صلى الله عليه وسلم عن أبى الحسن توضح أن المراد بالموالاه شىء آخر غير الخلافة ، أو على أقل تقدير لا ترجح أن الخلافة هي المراد .
وتبين الشكوى كذلك السبب في أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا في خطبته الجامعة يوم عرفة في حجة الوداع ، فلو كان المراد الخلافة لكان من الأرجح - إن لم يكن من المؤكد - أن يقال هذا في تلك الخطبة لا أن يقال بعد الشكوى(1)
__________
(1) 194) ذكر صاحب كتاب المراجعات أن الشيخ سليم البشرى لم يقتنع فقط بقول الجعفرية في تفسير كلمة المولى التي وردت في روايات الغدير ، بل كتب يخاطبه (ص 220) : " لو كان المراد الناصر أو نحوها ما سأل سائل بعذاب واقع ، فرأيكم في المولى ثابت مسلم ! " .
ولا أدرى أكان علامة زمانه شيخ الجامع الأزهر يجهل ما ذهب إلى جمهور المفسرين بلا خلاف من مكية سورة المعارج ؟ لقد ذكرت من قبل ما ذهب إليه جمهور المفسرين ، وموافقة الطوسي لهم ، وهو شيخ طائفة الجعفرية، وكذلك إمام المفسرين عند الجعفرية ، أكان شيخ الأزهر والمالكية جعفرياً أكثر من شيخ طائفتهم وإمام مفسريهم فاتخذ من السورة الكريمة ما يؤيد رأي صاحب المراجعات ؟ أم أن هذا نُسب كذباً لشيخ الأزهر – ولم يطبع الكتاب إلا بعد وفاته – كدأب كثير من أصحاب الفرق عند البحث عن طريق يسلكونها لتأييد مذهبهم ؟ وقد رأينا من قبل ما نسبه صاحب الغدير لشيخ المفسرين الطبري ! وسبق في ص 137 ما نسب للشيخ البشرى ، المسألة إذن تحتاج إلى نظر ! وقد دعانى هذا إلى تأليف كتاب " المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى " أثبت به يقيناً براءة الشيخ البشرى مما نسب له ، وبينت بالأدلة ضلال عبدالحسين مؤلف المراجعات ، بل كفره وزندقته .(176/138)
} - - - { ).
قال الآلوسى :
" ربما يستدل على أن المراد بالولاية المحبة بأنه لم يقع التقييد بلفظ بعدى ، والظاهر حينئذ اجتماع الولايتين في زمان واحد . ولا يتصور الاجتماع على تقدير أن يكون المراد أولوية التصرف بخلاف ما إذا كان المراد المحبة " (1) } - - - { ).
وإذا كان عدم التقييد بلفظ بعدى في جميع الروايات السابقة يؤيد ما ذهب إليه الآلوسى ، فإنى وجدت روايات فيها التقييد ،وربما يستدل بها على أن المراد بالولاية أولوية التصرف ، ويحمل المطلق على المقيد حينئذ ، وهذه الروايات نجدها في المسند وسنن الترمذي ، ففيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " إن علياً منى وأنا منه ، وهو ولى كل مؤمن بعدى" (2) } - - - { ) وزاد الترمذي : " هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من جعفر بن سليمان " . وجعفر هذا نجده في رواية الإمام أحمد كذلك ، ثم انفرد برواية أخرى عن طريق غير جعفر وفيها : " وإنه منى وأنا منه ، وهو وليكم بعدى " (3)[194]).
وجعفر بن سليمان من شيعة البصرة ، وهو متكلَّم فيه : وثقة ابن معين وعباس وابن حبان والبزار . قال ابن سعد : كان ثقة وبه ضعف ، وكان يتشيع .
وقال أبو طالب عن أحمد : لا بأس به . قيل له : إن سليمان بن حرب يقول لا يكتب حديثه ؟ فقال : إنما كان يتشيع ، وكان يحدث بأحاديث في فضل على ، وأهل البصرة يغلون في على . قلت عامة حديثة رقاق ؟ قال :
نعم ، كان قد جمعها وكان يحيى بن سعيد لا يروى عنه ، وكان يستضعفه . وكان عبدالرحمن بن مهدى يستثقل حديثه .
__________
(1) 192]) تفسير الآلوسى 2/351 .
(2) 193]) المسند ط الميمنية 4/438 ، والترمذى – كتاب المناقب – باب مناقب على بن أبى طالب رضي الله عنه .
(3) 194]) المسند 5 / 365 .(176/139)
وقال البخاري : يقال كان أميّاً ، وقال في الضعفاء ، يخالف في بعض أحاديثه . وقال ابن المديني : هو ثقة عندنا ، وقال أيضاً : أكثر عن ثابت ، وبقية أحاديثه مناكير .
وقال ابن شاهين في المختلف فيهم : إنما تكلم فيه لعلة المذهب ، وما رأيت من طعن في حديثه إلا ابن عمار يقول : جعفر بن سليمان ضعيف .
وبغير ترجيح لتوثيق جعفر بن سليمان أو تضعيفه يمكن القول بأن حديثاً ينفرد به ويتصل بمذهبه لا يرقى إلى مرتبة الاحتجاج .
والرواية الأخرى للإمام أحمد نجد في سندها الأجلح الكندى (1)[195]) ، وهو من شيعة الكوفة ، ومتكلَّم فيه أيضاً ، وثقه ابن معين والعجلى وابن عدى ، وقال يعقوب بن سفيان : ثقة حديثة لين .
وقال أحمد : روى الأجلح غير حديث منكر .
وقال القطان : في نفسى منه شىء . وقال أيضاً : ما كان يفصل بين الحسين ابن على وعلى بن الحسين ، يعنى أنه ما كان بالحافظ . وقال ابن حبان: كان لا يدرى ما يقول ، جعل أبا سفيان أبا الزبير .
وضعفه أبو داود والنسائى وأبو حاتم ، وقال ابن سعيد : كان ضعيفاً جداً ، بل وصمه الجوزجانى بالافتراء . إذن فهذه الرواية التي انفرد بها أحمد عن الأجلح لا يحتج بها ، ولا توجد روايات فيها تقييد بلفظ بعدى ، وبذا يظل ما ذكره الآلوسى صحيحاً .
رابعا : روايات أخرى يرى بعض الجعفرية أنها تؤيد مذهبهم
يرى بعض الجعفرية أنها تؤيد مذهبهم
بعد هذا كله نقول : إن الروايات السابقة هي جميع ما يتصل بالغدير عمدة أدلة الشيعة ، ومن عرضها ومناقشتها تبين لنا أنها لا تؤيد ما ذهب إليه الجعفرية
من القول في الإمامة ، وتوجد روايات أخرى يرى بعض الجعفرية أنها تؤيد مذهبهم ، نعرض أهمها ونناقشها بشىء من الإيجاز .
__________
(1) 198) انظر ترجمة كل منهما في تهذيب التهذيب .(176/140)
1-خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب في غزوة تبوك ، فقال : يا رسول الله تخلفنى في النساء والصبيان ؟ فقال : " أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدى " .
هذا الحديث الشريف رواه الشيخان وغيرهما (1) } - - تمهيد { ) ، وهو بلا شك يدل على فضل الإمام كرم الله وجهه ، وقد استخلف الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة آخرين(2) } - - - { ) ، فهذا الاستخلاف ليس خاصاً بأبى الحسن ، ومثل هذا الاستخلاف في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لايقتضى الخلافة في الأمة بعد مماته ، ولو أراد الرسول صلى الله عليه وسلم الخلافة العظمى لقالها ، فما يمنعه صلى الله عليه وسلم ولقال ذلك للمسلمين ، ووجب عليهم السمع والطاعة وإن ولى عليهم عبد حبشى مجدع الأطراف . وواضح من شكوى الإمام في جعله مع الخوالف من النساء والصبيان أن في قول الرسول صلى الله عليه وسلم ترضية لنفسه وتهدئة لخواطره ، فموسى استخلف هارون عليهما السلام عندما توجه إلى الطور ، ولكن الجعفرية يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم " أنزله منه منزلة هارون من موسى ، ولم يستثن من جميع المنازل إلا النبوة ، واستثناؤها دليل على العموم " (3) } - - - { ).
__________
(1) 199) راجع البخاري – كتاب المناقب – باب مناقب على بن أبى طالب- وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل على بن أبى طالب واللفظ لمسلم ، والمسند ج 3 رواية رقم 1463 وتخريج الشيخ شاكر لها .
(2) 200) استخلف الرسول ( على المدينة ابن أم مكتوم لما خرج لحرب بنى النضير ، وفى غزوة الخندق ، وعثمان بن عفان لما خرج لغزوة ذات الرقاع ، وأبا لبابة بن عبدالمنذر لما سار لغزوة بدر ( انظر المنتقى ص 53، 212) .
(3) 198]) المراجعات ص 152.(176/141)
وقولهم فيه نظر ، فمثلاً كان هارون أخاً لموسى وأفصح منه لساناً ، وهذا ينقض العموم ، لأن هاتين المنزلتين لا تتحققان لعلى . بل إن التطابق لا يتحقق في الاستخلاف ذاته ، فموسى استخلف أخاه على بنى إسرائيل وذهب هو للمناجاة ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم استخلف ابن عمه على المدينةوليس فيها إلا من لم يخرج للقتال من النساء ، والصبيان والعجزة ، أما عامة المسلمين فكانوا الجيش الذي خرج للقتال مع الرسول صلى الله عليه وسلم كما أن " هارون لم يل أمر بنى إسرائيل بعد موسى عليهما السلام ، وإنما ولى الأمر بعد موسى رضي الله عنه يوشع بن نون فتى موسى وصاحبها الذي سافر معه لطلب الخضر عليهما السلام ، كما ولى الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة " (1) } - - - { ).
2-روى الإمام البخاري عن جابر بن سمرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" يكون اثنى عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبى : إنه قال : كلهم من قريش (2) } - - - { ) " .
وروى الإمام مسلم عن جابر بن سمرة قال : دخلت مع أبى على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول : " إن هذا الأمر لا ينقضى حتى يمضى فيهم اثنا عشر خليفة ، قال : ثم تكلم بكلام خفى على قال : فقلت لأبى ما قال ؟ قال : كلهم من قريش " .
__________
(1) 199]) لفصل في الملل والأهواء والنحل ص 94، وانظر المنتقى حاشية ص 213 .
(2) 200]) كتاب الأحكام من صحيحه – باب الاستخلاف .(176/142)
وفى رواية أخرى " لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً " وفى إحدى الروايات كذلك " لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثنى عشر خليفة " (1) } - - - { ) ، وفى رواية لأبى داود " كلهم تجتمع عليه الأمة " (2) } - - - { ).
وتحديد الخلفاء باثنى عشر هو الذي جعل الاثنى عشرية يحتجون بهذه الروايات ، ولكن من الواضح أن هذه الروايات تشير إلى المدة التي يظل فيها عزة الإسلام والدين ، وصلاح حال المسلمين . وعلى قول الجعفرية تظل هذه العزة وهذا الصلاح إلى يوم القيامة كما يظهر من قولهم في الإمام الثانى عشر !
وواقع الأمر ودلالة الروايات يدلان على غير هذا . ومن الواضح كذلك أن الأمة لم تجتمع على أئمة الجعفرية ، بل لم يتولوا الخلافة أصلاً باستثناء الإمام على.
3-أخرج البخاري(3)[203]) عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : لما حضر النبي صلى الله عليه وسلم قال : وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال : هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدى. قال عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله . واختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال ، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال : قوموا عنى .
قال عبيد الله : فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم .
__________
(1) 201]) راجع مسلم – كتب الإمارة – باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش .
(2) 202]) راجع سنن أبى داود – كتاب المهدى .
(3) 203]) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب كراهية الخلاف .(176/143)
وعن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس : يوم الخميس ، وما يوم الخميس ؟ اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال : إئتونى أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً . فتنازعوا ، ولاينبغى عند نبي تنازع ، فقالوا : ماشأنه أهجر؟ استفهموه ، فذهبوا يردون عليه فقال : دعونى فالذى أنا فيه خير مما تدعوننى إليه ، وأوصاهم بثلاث ، قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، وسكت عن الثالثة ، أو قال : فنسيتها (1) } - - - { ).
وفى رواية للإمام أحمد (2)[205]) : حدثنا سفيان عن سليمان بن أبى مسلم خال ابن أبى نجيح ، سمع سعيد جبير يقول : قال ابن عباس : يوم الخميس ، وما يوم الخميس ، ثم بكى حتى بل دمعه - الحصى ، قلنا يا أبا العباس ، وما يوم الخميس ؟ قال : اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال : ائتونى أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً ، فتنازعوا ، ولا ينبغى عند نبي تنازع ، فقالوا ما شأنه ؟ أهجر ؟ قال سفيان : يعنى هذى ، استفهموه ، فذهبوا يعيدون عليه ، فقال : دعونى ، فالذى أنا فيه خير مما تدعونى إليه ، وأمر بثلاث ، وقال سفيان مرة أوصى بثلاث قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، وسكت سعيد عن الثالثة ، فلا أدرى أسكت عنها عمداً ، وقال مرة أو نسيها ؟ وقال سفيان مرة : وإما أن يكون تركها أو نسيها .
__________
(1) 204]) راجع صحيح البخاري – باب مرض النبي ( ووفاته .
(2) 205]) المسند ج 3 رواية رقم 1935 ،وانظر تخريج الشيخ شاكر وشرحه لها .(176/144)
ووردت هذه الروايات كذلك في صحيح مسلم (1)
__________
(1) 206]) كتاب الوصية – باب ترك الوصية ، وفى كتاب الجهاد والسير من صحيح البخاري – باب جوائز الوفد – جاءت رواية أخرى اختلفت النسخ في متنها (انظر طبعة مطابع الشعب سنة 1378 هـ ) ففي إحدى النسخ أسند الهجر إلى الرسول الكريم بغير استفهام ، ولكن في نسختين أخريين أثبتت همزة الاستفهام ، ولعلهما هنا أصح ، وهذا يتفق مع الروايات الأخرى ، وفى صحيح مسلم كانت الروايات بلفظ " أهجر" ولكن رواية جاءت بلفظ " إن رسول الله ( يهجر " هكذا بغير استفهام بل بأداة تأكيد ! وصاحب فتح البارى تحدث عن المراد بقولهم " أهجر " فقال : المراد به هنا ما يقع من كلام المريض الذي لا ينتظم ولا يعتد به لعدم* *فائدته ، ووقوع ذلك من النبي ( مستحيل ، لأنه معصوم في صحته ومرضه لقوله تعالى (3 : النجم ) { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } ، ولقوله ( : " إنى لا أقول في الغضب والرضا إلا حقاً". وإذا عرف ذلك فإنما قاله من قاله منكراً على من توقف في امتثال أمره بإحضار الكتف والدواة، فكأنه قال : كيف تتوقف ؟ أتظن أنه كغيره يقول الهذيان في مرضه ؟ ويحتمل أن بعضهم قال ذلك عن شك عرض له ، ولكن يبعده أن لا ينكره الباقون عليه من كونهم من كبار الصحابة ولو أنكروه عليه لنقل . ويحتمل أن يكون الذي قال ذلك صدر عن دهش وحيرة كما أصاب كثيراً منهم عند موته . ويحتمل أن يكون قائل ذلك أراد أنه اشتد وجعه فأطلق اللازم وأراد الملزوم ، لأن الهذيان الذي يقع للمريض ينشأ من شدة وجعه . وقيل : قال ذلك لإرادة سكوت الذين لغطوا ورفعوا أصواتهم عنده ، فكأنه قال : إن ذلك يؤذيه ويفضى في العادة إلى ما ذكره " .
ثم قال : وأوصاهم بثلاث أي في تلك الحالة ، وهذا يدل على أن الذي أراد أن يكتب لم يكن أمراً متحتماً ، لأنه لو كان مما أمر بتبليغه لم يكن يتركه لوقوع اختلافهم ، ويعاقب الله من حال بينه وبين تبليغه ، ولبلغه لهم لفظاً كما أوصاهم بإخراج المشركين وغير ذلك وقد عاش بعد هذه المقالة أياماً ، وحفظوا عنه أشياء لفظاً ، فيحتمل أن يكون مجموعها ما أراد أن يكتبه والله أعلم . ( انظر باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته ) .(176/145)
} - - تمهيد { ).
ولا تبدو صلة بين هذه الروايات وبين الإمامة ، ولكن الوصية الثالثة - التي نسيت أو تركت - كانت المدخل للجدال ! فوجدنا من الجعفرية من يقول بأن الصحابة " علموا أنه صلى الله عليه وسلم إنما أراد توثيق العهد بالخلافة ، وتأكيد النص بهذا علَى علىّ خاصة ، وعلى الأئمة من عترته عامة ، فصدوه عن ذلك كما اعترف به الخليفة الثانى في كلام دار بينه وبين ابن عباس ، وأنت إذا تأملت في قوله صلى الله عليه وسلم " ائتونى أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده " ، وقوله في حديث الثقلين : " إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ، كتاب الله وعترتى أهل بيتي " ، تعلم أن المرمى في الحديثين واحد ، وأنه صلى الله عليه وسلم أراد في مرضه أن يكتب لهم تفصيل ما أوجبه عليهم في حديث الثقلين " - كتاب المراجعات ص 284 ، وفى ص 255 قال : " ومع ذلك فقد أوصاهم عند موته بوصايا ثلاث : أن يولوا عليهم علياً ، وأن يخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأن يجيزوا الوفد بنحو ما كان يجيزه ، لكن السلطة والسياسة يومئذ ما أباحتا للمحدثين بوصيته الأولى ، فزعموا أنهم نسوها " .
ولسنا في حاجة إلى الحديث عن كبار الصحابة ، رضوان الله عليهم . وعن تنزيههم عن مثل هذه المفتريات ، ولكن يكفى أن نقول : بأن هذه الروايات ليست دليلاً قائماً بذاته وإنما يحتاج إلى أدلة أخرى لترجيح احتمالات الوصية الثالثة وما أريد كتابته ، ولذلك احتج بحديث الثقلين للاستدلال ، وهذا الحديث لم يصح له إسناد كما ثبت من قبل ، والذى صح حديث التمسك بالكتاب والسنة ، فلعله هو المراد من الوصية الثالثة .(176/146)
على أن ذلك من باب الترجيح لا الجزم (1) } - - - { ) . واتهام المحدثين بأنهم زعموا النسيان خوفاً من السلطة وميلاً مع السياسية ، وهم يعلمون أن الوصية خاصة بخلافة على ، هذا الاتهام لو صح فإنه يوجه إلى سعيد بن جبير ، ويكفى لرده أن يعرف تاريخ سعيد ، وشجاعته أمام الحجاج ، وأن نقرأ ما كتب عنه في كتب الجعفرية أنفسهم (2) } - - - { ) .
__________
(1) 207]) جاء في الموضع السابق من فتح البارى : " قال الداودى : الثالثة الوصية بالقرآن ، وبه جزم ابن التين . وقال المهلب : بل هو تجهيز جيش أسامة ، وقواه ابن بطال بأن الصحابة لما اختلفوا على أبى بكر في تنفيذ جيش أسامة قال لهم أبو بكر إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد بذلك عند موته . وقال عياض : يحتمل أن تكون هو قوله ( ولا تتخذوا قبرى وثنا ) فإنها ثبتت في الموطأ مقرونة بالأمر بإخراج اليهود . ويحتمل أن يكون ما وقع في حديث أنس أنها قوله : الصلاة وما ملكت أيمانكم .
(2) 208]) انظر ما كتب عنه في الغدير 1/65.(176/147)
وإن تعجب فعجب قولهم بأن الفاروق اعترف بأن الكتاب أريد به توثيق العهد بالخلافة لعلى والأئمة من عترته ، وأنه هو وكبار الصحابة صدوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك ! (1)
__________
(1) 209]) قال ابن تيمية : " من توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة على فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة ، وأما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبى بكر وتقديمه . وأما الشيعة القائلون بأن علياً كان هو المستحق للإمامة فيقولون أنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصاً جلياً ظاهراً معروفا ، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب ، وإن قيل : إن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور فلأن تكتم كتاباً حضره طائفة قليلة أولى وأحرى , وأيضاً فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته ، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك ، فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته لكان النبي ( يبينه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحد فإنه أطوع الخلق له ( أي للواجب ) . فعلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجباً ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ ، إذ لو وجب لفعله (المنتقى ص 349-350) .
وقال العقاد : " أما القول بأن عمر هو الذي حال بين النبي - صلى الله عليه وسلم - والتوصية باختيار على للخلافة بعده فهو قول من السخف بحيث يسىء إلى كل ذى شأن في هذه المسألة ،ولا تقتصر مساءته على عمر ومن رأي في المسألة مثل رأيه . فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدع بالكتاب الذي طلبه ليوصى بخلافة على أو خلافة غيره ، لأن الوصية بالخلافة لا تحتاج إلى أكثر من كلمة تقال ، أو إشارة كالإشارة التي فهم منها إيثار أبىبكر بالتقديم ، وهى إشارته إليه أن يصلى بالناس ، وقد عاش النبي بعد طلب الكتاب فلم يكرر طلبه ، ولم يكن بين على وبين لقائه حائل ،وكانت السيدة فاطمة زوج على عنده إلى أن فاضت نفسه الشريفة ، فلو شاء لدعى به وعهد إليه . وفضلاً عن هذا السكوت الذي لا إكراه فيه ، نرجع إلى سابقة من سنن النبي في تولية الولاة ، فنرى أنه كان يجنب آله الولاية ويمنع وراثة الأنبياء ، وهذه السنة مع هذا السكوت لا يدلان على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - أراد خلافة على فحيل بينه وبين الجهر بما أراد " . (عبقرية عمر ص 209-210) .(176/148)
} - - - { ) .
وسيأتي بعد قليل رواية الصحيحن عن عمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف .
خامسا : روايات لها صلة بموضوع الإمامة
مما سبق نرى أن السنة النبوية - كما روتها الكتب الثمانية وغيرها أيضاً مما رجعنا إليه - ليس فيها ما يؤيد عقيدة الشيعة الجعفرية في الإمامة ، وفى هذه الكتب وردت روايات أخرى لها صلة بموضوع الإمامة نعرضها ونناقشها فيمتا يأتي :-
من يؤمّر بعدك ؟
1- روى الإمام أحمد بسند صحيح (1) } - - - { ) عن الإمام على رضي الله عنه أنه قال : " قيل : يا رسول الله : من يؤمر بعدك ؟ قال : إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة ، وإن تؤمروا عمر تجدوه قوياً أميناً لا يخاف في الله لومة لائم ، وإن تؤمروا عليّاً ، ولا أراكم فاعلين تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الطريق المستقيم " .
وهذا الحديث الشريف يدل على أن الإمامة بالاختيار لا بالتعيين ، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يعين أحداً ، وإنما جعل هذا للمسلمين ، وذكر ثلاثة يصلحون لخلافته (2) } - - - { ).
الاستخلاف
2- روى الشيخان بسندهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : " قيل لعمر : ألا تستخلف ؟ قال : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى ؛ أبو بكر ، وإن أترك فقد ترك من هو خير منى ، رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأثنوا عليه فقال : راغب راهب ، وددت أنى نجوت منها كفافاً لا لي ولا على ، لا أتحملها حياً وميتاً " (3) } - - - { ) .
__________
(1) 213) انظر ج 2 – رواية رقم " 859" – وراجع بيان الشيخ شاكر لصحة الإسناد.
(2) 214) ذكر صاحب كتاب الغدير (1/12) الجزء الأخير فقط " وإن تؤمروا علياً " ولم يشر إلى الصاحبين ، وبذلك يتغير مدلول الحديث ليتفق مع عقيدته !
(3) 212]) راجع البخاري – كتاب الأحكام : باب الاستخلاف ، ومسلم : كتاب الإمارة باب الاستخلاف وتركه ، واللفظ للبخاري .(176/149)
وفى رواية أخرى لمسلم بسند آخر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : " دخلت على حفصة فقالت : أعلمت أن أباك غير مستخلف ؟ قال : فقلت : ما كان ليفعل . قالت : إنه فاعل . قال : فحلفت أنى أكلمه في ذلك ، فسكت حتى غدوت ولم أكلمه ، قال : فكنت كأنما أحمل بيمينى جبلاً حتى رجعت ، فدخلت عليه ، فسألنى عن حال الناس وأنا أخبره ، قال : ثم قلت : إنى سمعت الناس يقولون فآليت أن أقولها لك ، زعموا أنك غير مستخلف ، وإنه لو كان لك راعى إبل أو راعى غنم ثم جاءك وتركها رأيت أن قد ضيع ، فرعاية الناس أشد . قال : فوافقه قولى فوضع رأسه ساعة ثم رفعه إلىّ فقال : إن الله عز وجل يحفظ دينه ، وإنى لئن لا أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف ، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف . قال : فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فعلمت أنه لم يكن ليعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً ، وأنه غير مستخلف" (1) } - - - { ).
__________
(1) 213]) انظر الموضع السابق من صحيح مسلم ، وروى أبو داود عن ابن عمر أيضاً قال : قال عمر : إنى إن لا أستخلف ، فإن رسول الله ( لم يستخلف ، وإن استخلف فإن أبا بكر قد استخلف ، قال : فوالله إلا أن ذكر رسول الله ( وأبا بكر فعلمت أنه لا يعدل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحداً، وأنه غير مستخلف . ( انظر سنن أبى داود - كتاب الخراج والفىء والإمارة - باب في الخليفة يستخلف ) .
ددد(176/150)
وروى أحمد بسند صحيح عن الإمام على رضي الله عنه أنه قال : " لتخضبن هذه من هذا ، فما ينتظر بى الأشقى ؟ قالوا : ياأمير المؤمنين ، فأخبرنا به نبير عترته ! قال : إذن تالله تقتلون بى غير قاتلى ، قالوا : فاستخلف علينا ، قال : لا ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالوا : فما تقول لربك إذا أتيته ؟ قال : اللهم تركتنى فيهم ما بدا لك ، ثم قبضتنى إليك وأنت فيهم ، فإن شئت أصلحتهم ، وإن شئت أفسدتهم " .
وفى رواية بسند آخر أن الإمام قال : " والذى فلق الحبة وبرأ النسمة لتخضبن هذه من هذه ، قال الناس : فأعلمنا من هو ؟ والله لنبيرن عترته ! قال: أنشدكم بالله أن يقتل غير قاتلى ، قالوا : إن كنت قد علمت ذلك استخلف إذن . قال لا ، ولكن أكلكم إلى ما وكلكم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) } - - - { ).
فهذه الروايات تدل على أن عمر وعلياً رضي الله عنهما لم يستخلفا أحداً تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهى تشترك مع الرواية الأولى في الدلالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعين أحد لخلافته .
__________
(1) 217) انظر المسند ج 2 الروايتين 1078 ، 1339 ، وبالحاشية بيان الشيخ شاكر لصحة الإسناد .(176/151)
ويؤيد هذا أيضاً ما أخرجه أحمد بسند صحيح عن قيس بن عباد قال : " كنا مع على فكان إذا شهد مشهداً أو أشرف على أكمة أو هبط وادياً قال : سبحان الله ! صدق الله ورسوله ، فقلت لرجل من بنى يشكر : انطلق بنا إلى أمير المؤمنين حتى نسأله عن قوله صدق الله ورسوله ، قال : فانطلقنا إليه : فقلنا : يأأمير المؤمنين ، رأيناك إذا شهدت مشهداً ، أو هبطت وادياً ، أو أشرفت على أكمة ، قلت : صدق الله ورسوله ، فهل عهد رسول الله إليك شيئاً في ذلك ؟ قال : فأعرض عنا ، وألححنا عليه ، فلما رأي ذلك قال : والله ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً إلا شيئاً عهده إلى الناس ، ولكن الناس وقعوا على عثمان فقتلوه ، فكان غيرى فيه أسوأ حالاً وفعلاً منى ، ثم إنى رأيت أنى أحقهم بهذا الأمر فوثبت عليه ، فالله أعلم أصبنا أم أخطأنا (1) } - - - { ).
وكذلك يؤيد ما سبق ما رواه الشيخان وأحمد بأسانيد صحيحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم مات ولم يوص ، وقد روى هذا عن ابن عباس ، وعبد الله بن أبى أوفى ، والسيدة عائشة (2) } - - تمهيد { ) .
يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر
3- روى البخاري بسنده عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلوات الله عليه قال : " لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبى بكر وابنه فأعهد ، أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ، ثم قلت : يأبى الله ويدفع المؤمنون أو يدفع الله ويأبى المؤمنون " (3) } - - - { ) .
__________
(1) 218) انظر الرواية وصحة إسنادها بالمسند ج 2 رقم 1206.
(2) 219) راجع صحيح البخاري – باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته ، وكتاب التفسير : باب من قال لم يترك النبي ( إلا ما بين الدفتين ، وباب الوصاة بكتاب الله عز وجل - وراجع كذلك مسلم كتاب الوصية : باب ترك الوصية . والمسند حـ 5 روايات 3189 ، 3355 ،3356 .
(3) 220) البخاري - كتاب الأحكام – باب الاستخلاف.(176/152)
وروى مسلم عنها أيضاً أنها قالت : " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه : ادعى لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً ، فإنى أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " (1) } - - - { ) .
وأخرج أحمد في مسنده هذا الحديث الشريف بسند صحيح كسند مسلم ، وبسندين آخرين (2) } - - - { ).
وهذا الحديث الشريف يدل على أن الخلافة لو كانت بالنص لكانت لأبى بكر الصديق ، فهو الأولى بها ، وتم ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد أبى الله سبحانه والمؤمنون إلا أبا بكر .
__________
(1) 221) مسلم كتاب الفضائل – باب من فضائل أبى بكر الصديق .
(2) 219]) انظر المسند حـ 6 ص 47 ، 106 ، 144 و ذكر استاذ الفلسفة الدكتور أحمد محمود صبحى الرواية الأخيرة لهذا الحديث الشريف ، ولم يذكر مصادره بل اكتفى بنسبته لبعض أهل السنة ، ثم قال " و لا شك أن الوضع ظاهر في هذا الحديث ، وأنه أريد به معارضة حديث الشيعة في أمر كتاب النبي الذي ينسب إلى عمر* *أنه منعه ، ولو صح كتاب النبي إلى أبى بكر لكان نصاً جلياً لأبى بكر ، وهو ما لم يقل به جمهور المسلمين "
ورجل الفلسفة أقحم نفسه هنا فيما لا يعرف ، فحديث يرويه الشيخان والإمام أحمد بسند صحيح كيف يقال أنه موضوع بلا شك ؟ ! ومن المتهم بالوضع إذن ؟
والشيخان والإمام أحمد رووا الحديث الذي ظنه حديث الشيعة في أمر كتاب النبي وقال:بأن هذا وضع لمعارضته ! ورواية البخاري تدل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هم ولكنه لم يرسل ، فلا نصاً جلياً هنا لأبى بكر حتى يرفض الحديث لعدم صحة المتن .
والمؤلف كذلك اعتبر حديث التمسك بالكتاب والعترة من الأحاديث المتفق على صحتها عند أهل السنة ، مع أن رواياته لم تصح منها واحدة كما بينا من قبل . ( انظر كتابه نظرية الإمامة ص 235-236) .(176/153)
وأرى أن الرسول صلوات الله عليه قد مهد لخلافة الصديق بعدة أمور ، منها : جعله أمير الحج في العام التاسع ، ولما أرسل أبا الحسن بسورة براءة لم يرسله أميراً ، بل جعله تحت إمرة الصديق .
ومنها خطبته صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه ، فقد أخرج البخاري بسنده عن أبى سعيد الخدري قال : خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ماعند الله . فبكى أبو بكر رضي الله عنه ، فقلت في نفسى : ما يُبكى هذا الشيخ ، إن يكن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ماعنده فاختار ما عند الله ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد ، وكان أبو بكر أعلمنا .
قال : يا أبا بكر لا تبك ، إن أمنّ الناس على في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتى لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبى بكر " .
وأخرج البخاري أيضاً بسنده عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصباً رأسه بخرقة ، فقعد على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إنه ليس من الناس أحد أمن على في نفسه وماله من أبى بكر بن أبى قحافة ، ولو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن خلة الإسلام أفضل ، سدوا عنى كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبى بكر " (1) } - - - { ).
وروى الخطبة كلُُّ من أحمد والترمذى بسند صحيح (2) } - - - { ).
__________
(1) 223) راجع صحيح البخاري – كتاب الصلاة : باب الخوخة والممر في المسجد .
(2) 224) راجع المسند جـ 4 رواية رقم 2432 . والترمذى : كتاب المناقب : باب مناقب أبى بكر الصديق .(176/154)
ومما مهد كذلك لخلافة الصديق أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤم المسلمين في الصلاة عندما اشتد المرض ولم يستطع صلى الله عليه وسلم أن يؤمهم ، واستمر المسلمون مأمومين خلف أبى بكر إلى أن انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى .
وروى أحمد في مسنده بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود ، وروى النسائي عنه أيضاً (1) } - - - { ) قال : " لما ُقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فأتاهم عمر فقال : يا معشر الأنصار ، ألستهم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس ؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر ؟ فقالت الأنصار : نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر " . فإمامة الصلاة إذن مما مهد للإمامة الكبرى (2)
__________
(1) 225) انظر المسند ج 1 رواية رقم 133 ، وانظر كذلك ج 5 الروايتين 3765 ، 3842 وانظر سنن النسائي – كتاب الإمامة ، واللفظ لأحمد .
(2) 226) ذكر سيدى عبدالقادر الجيلانى –الذي ينتهى نسبه إلى الحسن بن على بن أبى طالب رضي الله عنهم – أن خلافة أبى بكر رضي الله عنه كانت باتفاق المهاجرين والأنصار وفيهم* *الإمام على ، وذكر قول عمر في إمامة الصلاة التي رواها الإمام أحمد ، ثم قال : " قيل في النقل الصحيح : لما بويع أبو بكر الصديق قام ثلاثاً يقبل على الناس يقول : ياأيها الناس أقلتكم بيعتى ، هل من كاره ؟ فيقوم على في أوائل الناس فيقول : لا نقيلك و لا نستقيلك أبداً ، قدمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن يؤخرك ؟ وبلغنا عن الثقات أن علياً - رضي الله عنه - كان أشد الصحابة قولاً في إمامة أبى بكر رضي الله عنه . وروى أن عبد الله بن الكواء دخل على على بعد قتال الجمل وسأله : هل عهد إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر شيئاً ؟ فقال : نظرنا في أمرنا فإذا الصلاة عضد الإسلام ، فرضينا لدنيانا بما رضي الله ورسوله لديننا ، فولينا الأمر أبا بكر ".
انظر الغنية 1/68 ، وراجع كذلك القول في عدم تأخر الإمام على عن المبايعة فيما نقلناه عن فتح البارى في حاشية ص 18 من فصل الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة .(176/155)
} - - - { ).
ومما مهد لهذه الإمامة كذلك ما رواه الشيخان بأسانيدهما عن جبير بن مطعم قال : أتت النبيصلى الله عليه وسلم امرأة فكلمته في شئ فأمرها أن ترجع إليه ، قالت : يا رسول الله ، أرأيت إن جئت ولم أجدك كأنها تريد الموت ، قال : إن لم تجديني فأتي أبا بكر (1) } - - - { ).
المهدى
4-أخرج أحمد في مسنده عن الإمام على قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المهدى منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة ".
وفى رواية أخرى " لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث الله عز وجل رجلاً منا ، يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً " .
وفى المسند أيضاً عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى يلى رجل من أهل بيتي ، يواطئ اسمه اسمى " .
__________
(1) 227) انظر البخاري كتاب الأحكام : باب الاستخلاف ، ومسلم كتاب فضائل الصحابة : باب من فضائل أبى بكر الصديق ، واللفظ للبخاري .(176/156)
وفى رواية ثانية : " لا تذهب الدنيا أو قال : لا تنقضى الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي ويواطئ اسمه اسمى " ، ووردت هذه الرواية بأسانيد أخرى (1) } - - - { ).
__________
(1) 228) سئل أستاذنا العلامة المحقق محمود محمد شاكر عن المهدى قال : الحديث عن المهدى متصل بالمسيح والمسيح الدجال ، فالثلاثة من علامات الساعة ، وسيكونون في وقت واحد ، ومن هنا يظهر خطأ من يجعل المهدى منفصلاً عن غيره . وسيكون المهدى حاكماً كسائر الحكام ، ثم يهديه الله – سبحانه وتعالى – ويصلحه في ليلة . وأشار سيادته إلى خطأ الشيعة وأمثالهم ، وخطأ المنكرين لأحاديث المهدى صحيحة . وفى صحيح مسلم قول الرسول ( : " لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة . قال : فينزل عيسى بن مريم - عليه السلام - فيقول أميرهم : تعال صل لنا ، فيقول : لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمه الله هذه الأمة " .وعقب الشيخ ناصر الدين الألبانى على كلمة " أميرهم " بقوله : " هو المهدى محمد بن عبد الله - عليه السلام - كما تظاهرت بذلك الأحاديث بأسانيد بعضها صحيح ، وبعضها حسن ، وقد خرجت شيئاً منها في ( الأحاديث الضعيفة ) " . انظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم 2061 .(176/157)
وأحاديث المهدى لم يرد منها شىء في الصحيحين ، ولكنها جاءت في المسند وكتب السنن ، وكثر حولها الجدل . والذى يعنينا هنا هو أن الأحاديث منها صحيحة الأسانيد بما لايدع مجالاً لرفضها (1) } - - تمهيد { ) ومع هذا فإنها لا تدل على أنه المهدى الذي قالت به " الجعفرية " وإنما هو رجل من أهل البيت يُبعث قبيل الساعة ، وفى بعض الروايات أنه يحكم خمس سنين أو سبعاً أو تسعاً (2) } - - - { ).
فلابد من أحاديث أخرى تبين أنه الإمام الثانى عشر المعين بالنص ، الذي بقى من القرن الثالث الهجرى إلى قيام الساعة (3) } - - - { ) !
__________
(1) 229) انظر روايات المسند وتخريجها : جـ 2 ، جـ 5 ، جـ 6 ، : روايات 645 ، 773 ، 3571 ، 3572 ، 3573 ، 4098 ، 4279 .
(2) 230) انظر الترمذي - كتاب الفتن : باب ما جاء في المهدى ، وفى سنن ابن ماجة " يكون في أمتى المهدى ، إن قصر فسبع ، وإلا فتسع ". (كتاب الفتن - باب خروج المهدى ، وانظر سنن أبى داود - كتاب المهدى ) .
(3) 231) ذهبت فرقة الشيخية – التي خرجت على الجعفرية – إلى أن المهدى سيوجد بالولادة مما أثار غضب الاثنى عشرية . (انظر المهدية في الإسلام ص 241) .(176/158)
وهاذا ما لم نجده في كتب الحديث الثمانية التي التزمنا الرجوع إليها ، ولا في غيرها من الكتب التي رجعنا إليها ، بل وجدنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعين أحداً للخلافة من بعده كما ذكرنا من قبل ، والإمام الثانى عشر الذي قالت به الجعفرية تبع لقولهم في باقي الأئمة . ووجدنا كذلك في بعض الأحاديث ما ينقض قول الجعفرية ، ففيها " يؤاطئ اسمه اسمى واسم أبيه اسم أبى " . وفيها أن علياً نظر إلى ابنه الحسن رضي الله عنهما فقال : إن ابنى هذا سيد كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم صلى الله عليه وسلم يشبهه في الُخلق ولا يشبهه في الخْلق صلى الله عليه وسلم.... يملأ الأرض عدلاً (1) } - - - { )
وبعد : فتلك سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم تشهد بصحة ما ذهب إليه جمهور المسلمين ، وتشهد بأن الإمامة ما كانت بنص ولا تعيين . فالحمد لله عز وجل الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله .
الفصل الرابع
الاستدلال بالتحريف والوضع
__________
(1) 232) فالمهدى إذن اسمه محمد بن عبد الله وليس محمد بن الحسن ، وينتهى نسبه إلى الحسن لا إلى الحسين رضي الله عنهما .( انظر عون المعبود شرح سنن أبى داود – كتاب المهدى 11 / 370 ، 371 ، 381 ، 382 ) وفى التفسير الكاشف للعالم الجعفرى محمد جواد مغنية أشار إلى المهدى وأحاديثه وقال : وفى هذا المعنى أحاديث كثيرة وصحيحة ، منها ما رواه أبو داود في كتاب السنن – و هو أحد الصحاح السته : " قال رسول الله : لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمى واسم أبيه اسم أبى " … ( 5/302 ) .
ولا ندرى لم ذكر هذا الحديث الشريف واعترف بصحته مع أنه يخالف عقيدته !(176/159)
رأينا في الفصول السابقة أن عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية لا تستند إلى شيء من القرآن الكريم ، واستدلالاتهم تبنى على روايات متصلة بأسباب النزول ، وتأويلات انفردوا بها ، ولم يصح شيء من هذا ولا ذاك بما يمكن أن يكون دليلا يؤيد مذهبهم .كما رأينا أن السنة النبوية المطهرة لا تؤيد هذه العقيدة الباطلة ، بل تعارضها، وتثبت بطلانها بكثير من الأحاديث الصحيحة الصريحة .
والإسلام ـ عقيدة وشريعة ـ إنما يستمد من الكتاب العزيز والسنة المشرفة . وكان إذن يمكن الاكتفاء بما سبق والانتقال إلى موضوع آخر ، غير أننى رأيت أن كتبهم التي يحاولون بها إفساد المجتمع المسلم ، ونشر هذه العقيدة الباطلة ، رأيت هذه الكتب لا تكتفي بما سبق مما ناقشناه من الأدلة ، بل تلجأ إلى تحريف القرآن الكريم نصا ومعنى ، وجمع الروايات المختلفة للأحاديث الموضوعة والباطلة ، وتقدم كل هذا على أنه أدلة ثابتة أو يقينية متواترة تؤيد عقيدتهم . وغير أهل الاختصاص ، وهم الكثرة ، بل عامة الناس ، لا يستطيعون أن يميزوا بين الروايات الصحيحة وغير الصحيحة .
ولذلك كان من المناسب كشف هذا التضليل وبيان هذا الباطل . ومن الكتب القديمة التي حاولت إفساد المجتمع المسلم آنذاك كتاب " منهاج الكرامة في معرفة الإمامة " لابن المطهر الحلي وقد رد عليه بالتفصيل ممن عاصره شيخ الإسلام ابن تيمية بكتابه القيم الفذ " منهاج السنة النبوية " .
وفى عصرنا وجدنا كتابا طبع منه ملايين النسخ ، أو مئات الآلاف على أقل تقدير ، حاول مؤلفه أيضا أن يفسد المجتمع المسلم المعاصر ، وأن يشككه في عقيدته الصحيحة ، ويزين له باطل هذا الرافضي ، وهذا الكتاب المشهور هو كتاب المراجعات لعبد الحسين شرف الدين الموسوي ، وقد رددت عليه بكتابي" المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى " .(176/160)
وفى هذا الفصل أتناول شيئا من كتابى الرافضيين ، والرد عليهما ، وبيان بعض ما جاء فيهما من الباطل والضلال ، كما نبين منهج الرافضة في التضليل، والله عز وجل هو المستعان .
تحريف القرآن الكريم
للاستدلال بالقرآن الكريم على عقيدة الرافضة ، سلكوا كغيرهم من الفرق الضالة مسلك التحريف في النص والمعنى ، وسنرى هذا بوضوح وجلاء عند دراستنا لكتب تفسيرهم ، وبيان موقفهم من القرآن الكريم ، وكذلك عند عرضنا لكتابهم الأول ـ والأعلى عندهم ـ في الحديث ، وهو كتاب الكافى ، وذلك أثناء عرض الأبواب والأخبار المتصلة بالقرآن المجيد .
وعبد الحسين في كتابه نرى المراجعة الثانية عشرة تدور حول ما أسماه " حجج الكتاب " ، وذكر فيها كثيرا من الآيات الكريمة ، وحرف معناها حتى بدا القرآن الكريم كأي كتاب من كتب الفرق الضالة وليس " ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ" ، " وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ " فعلى سبيل المثال جاء في هذه المراجعة أن الرافضة هم مراد الله تعالى فيمن ذكر أنهم أصحاب الجنة ، والمتقون ، وخير البرية ، ... إلى آخره ، أما خير أمة أخرجت للناس من الصحابة الكرام الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه ، فهؤلاء في زعم خليفة ابن سبأ هم أصحاب النار ، والفجار ، والكفار ، وكذلك خير البشر بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم أبو بكر الصديق ، وعمر الفاروق ، حيث خصهما بمزيد من الطعن ؛ فهما في زعمه الجبت والطاغوت وأئمة الضلال . وهكذا يستمر هذا الرافضي اللعين في زندقته وضلاله مما يوجب إقامة الحد عليه .(176/161)
وما ذكره هذا الرافضي يردده غلاة الرافضة في كتبهم واستدلالاتهم . ومعظم ما ذكره هنا سبقه إليه ابن المطهر الحلى ، حيث جاء بأربعين آية كريمة ، وحرف معناها لتتفق مع ضلاله . وقد أثبتها كاملة شيخ الإسلام وأجاب عنها ، وفصل بطلان الاستدلال بها في الجزء السابع من منهاج السنة ( من بدايته إلى ص 297 ) ولولا الإطالة لنقلت تلك الصفحات ، ففيها إقناع وإمتاع ، وفضح للغلاة الرافضة . وسأكتفى هنا بذكر جزء جاء في بداية الرد على البرهان الأول ، وهو نفسه الدليل الأول الذي ذكرته في الفصل الثانى من هذا الباب ، وهو ما يتعلق بقوله تعالى " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ?"( 55 : المائدة ) بعد ذكر كلام الرافضي قال شيخ الإسلام :
والجواب من وجوه : أحدها : أن يقال : ليس فيما ذكره ما يصلح أن يقبل ظنا، بل كل ما ذكره كذب وباطل ، من جنس السفسطة ، وهو لو أفاده ظنونا كان تسميته براهين تسمية منكرة ؛ فإن البرهان في القرآن وغيره يطلق على ما يفيد العلم واليقين ، كقوله تعالى:
" وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " ( سورة البقرة : 111 ) .
وقال تعالى :
" أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " ( سورة النمل : 64 ) .
فالصادق لابد له من برهان على صدقه ، والصدق المجزوم بأنه صدق هو المعلوم .(176/162)
وهذا الرجل جميع ما ذكره من الحجج فيها كذب ، فلا يمكن أن يذكر حجة واحدة جميع مقدماتها صادقة ، فإن المقدمات الصادقة يمتنع أن تقوم على باطل . وسنبين إن شاء الله تعالى عند كل واحدة منها ما يبين كذبها ، فتسمية هذه براهين من أقبح الكذب.
ثم إنه يعتمد في تفسير القرآن على قول يحكى عن بعض الناس ، مع أنه قد يكون كذبا عليه ، وإن كان صدقا فقد خالفه أكثر الناس . فإن كان قول الواحد الذي لم يُعلم صدقه ، وقد خالفه الأكثرون برهانا ، فإنه يقيم براهين كثيرة من هذا الجنس على نقيض ما يقوله فتتعارض البراهين فتتناقض ، والبراهين لا تتناقض .
بل سنبين إن شاء الله تعالى قيام البراهين الصادقة التي لا تتناقض على كذب ما يدعيه من البراهين ، وأن الكذب في عامتها كذب ظاهر ، لا يخفى إلا على من أعمى الله قلبه ، وأن البراهين الدالة على نبوة الرسول حق ، وأن القرآن حق ، وأن دين الإسلام حق ـ تناقض ما ذكره من البراهين ، فإن غاية ما يدّعيه من البراهين إذا تأمله اللبيب ، وتأمل لوازمه وجده يقدح في الإيمان والقرآن والرسول .
وهذا لأن أصل الرفض كان من وضع قوم زنادقة منافقين ، مقصودهم الطعن في القرآن والرسول ودين الإسلام ، فوضعوا من الأحاديث ما يكون التصديق به طعنا في دين الإسلام ، وروجوها على أقوام ، فمنهم من كان صاحب هوى وجهل ، فقبلها لهواه ، ولم ينظر في حقيقتها . ومنهم من كان له نظر فتدبرها فوجدها تقدح في حق الإسلام ، فقال بموجبها ، وقدح بها في دين الإسلام ، إما لفساد اعتقاده في الدين ، وإما لاعتقاده أن هذه صحيحة وقدحت فيما كان يعتقده من دين الإسلام .
ولهذا دخلت عامة الزنادقة من هذا الباب ؛ فإن ما تنقله الرافضة من الأكاذيب تسلَّطوا به على الطعن في الإسلام ، وصارت شبها عند من لم يعلم أنها كذب ، وكان عنده خبرة بحقيقة الإسلام .(176/163)
وضلت طوائف كثيرة من الإسماعيلية والنصيرية ، وغيرهم من الزنادقة الملاحدة المنافقين ، وكان مبدأ ضلالهم تصديق الرافضة في أكاذيبهم التي يذكرونها في تفسير القرآن والحديث ، كأئمة العُبيْديين إنما يقيمون مبدأ دعوتهم بالأكاذيب التي اختلقتها الرافضة ، ليستجيب لهم بذلك الشيعة الضُلاَّل ، ثم ينقلون الرجل من القدح في الصحابة ، إلى القدح في علىّ ، ثم في النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم في الإلهية ، كما رتبه لهم صاحب البلاغ الأكبر ، والناموس الأعظم . ولهذا كان الرفض أعظم باب ودهليز إلى الكفر والإلحاد .
ثم نقول : ثانيا : الجواب عن هذه الآية حق من وجوه : الأول : أنا نطالبه بصحة هذا النقل ، أو لا ُيذكر هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة ؛ فإن مجرد عزوه إلى تفسير الثعلبى ، أو نقل الإجماع على ذلك من غير العالمين بالمنقولات ، الصادقين في نقلها ، ليس بحجة باتفاق أهل العلم ، إن لم نعرف ثبوت إسناده . وكذلك إذا روى فضيلة لأبى بكر وعمر ، لم يجز اعتقاد ثبوت ذلك بمجرد ثبوت روايته باتفاق أهل العلم .
فالجمهور ـ أهل السنة ـ لا يثبتون بمثل هذا شيئا يريدون إثباته : لا حكما، ولا فضيلة ، ولا غير ذلك . وكذلك الشيعة .
وإذا كان هذا بمجرده ليس بحجة باتفاق الطوائف كلها ، بطل الاحتجاج به . وهكذا القول في كل ما نقله وعزاه إلى أبى نُعيم أو الثعلبى أو النقاش أو ابن المغازلى ونحوهم .
الثانى : قوله : " قد أجمعوا أنها نزلت في علىّ " من أعظم الدعاوى الكاذبة ، بل أجمع أهل العلم بالنقل على أنها لم تنزل في علىّ بخصوصه ، وأن عليا لم يتصدق بخاتمه في الصلاة ، وأجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع .(176/164)
وأما ما نقله من تفسير الثعلبى ، فقد أجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبى يروى طائفة من الأحاديث الموضوعات ، كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة عن أبى أمامة في فضل تلك السورة ، وكأمثال ذلك . ولهذا يقولون : " هو كحاطب ليل " .
وهكذا الواحدى تلميذه ، وأمثالهما من المفسرين : ينقلون الصحيح والضعيف .
ولهذا لما كان البغوى عالما بالحديث ، أعلم به من الثعلبى والواحدى ، وكان تفسيره مختصر تفسير الثعلبى ، لم يذكر في تفسيره شيئا من هذه الأحاديث الموضوعة التي يرويها الثعلبى ، ولا ذكر تفاسير أهل البدع التي ذكرها الثعلبى ، مع أن الثعلبى فيه خير ودين ، لكنه لا خبرة له بالصحيح والسقيم من الأحاديث ، ولا يمّيز بين السنة والبدعة في كثير من الأقوال .
وأما أهل العلم الكبار : أهل التفسير ، مثل تفسير محمد بن جرير الطبري، وبقىّ بن مخلد ، وابن أبى حاتم ، وابن المنذر ، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم ، وأمثالهم ـ فلم يذكروا فيها مثل هذه الموضوعات .
دع من هو أعلم منهم ، مثل تفسير أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه . بل ولا ُيذكر مثل هذا عند ابن حُميد ولا عبد الرزاق ، مع أن عبد الرزاق كان يميل إلى التشيع ، ويروى كثيرا من فضائل علىّ ، وإن كانت ضعيفة ، لكنه أجل قدرا من أن يروى مثل هذا الكذب الظاهر .
وقد أجمع أهل العلم بالحديث على أنه لا يجوز الاستدلال بمجرد خبر يرويه الواحد ، من جنس الثعلبى والنقَّاش والواحدى ، وأمثال هؤلاء المفسرين ، لكثرة ما يروونه من الحديث ويكون ضعيفا ، بل موضوعا . فنحن لو لم نعلم كذب هؤلاء من وجوه أخرى ، لم يجز أن نعتمد عليه ، لكون الثعلبى وأمثاله رووه ، فكيف إذا كنا عالمين بأنه كذب ؟ !(176/165)
... وسنذكر إن شاء الله تعالى ما يبيّن كذبه عقلا ونقلا ، وإنما المقصود هنا بيان افتراء هذا المصنف أو كثرة جهله ، حيث قال : " قد أجمعوا أنها نزلت في علىّ " فيا ليت شعرى من نقل هذا الإجماع من أهل العلم العالمين بالإجماع في مثل هذه الأمور ؟ فإن نقل الإجماع في مثل هذا لا يُقبل من غير أهل العلم بالمنقولات ، وما فيها من إجماع واختلاف .
فالمتكلم والمفسّر والمؤرخ ونحوهم ، لو ادّعى أحدهم نقلا مجرداً بلا إسناد ثابت لم يُعتمد عليه ، فكيف إذا ادّعى إجماعا ؟ !
الوجه الثالث : أن يقال : هؤلاء المفسرون الذين نقَلَ من كتبهم ، هم ـ ومن هم أعلم منهم ـ قد نقلوا ما يناقض هذا الإجماع المدَّعَى ، والثعلبى قد نقل في تفسيره أن ابن عباس يقول : نزلت في أبى بكر . ونقل عن عبد الملك : قال : سألت أبا جعفر ، قال : هم المؤمنون . قلت : فإن ناسا يقولون : هو علىّ . قال : فعلىُّ من الذين آمنوا . وعن الضحاك مثله .
وروى ابن أبى حاتم في تفسيره عن أبيه قال : حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثنا معاوية بن صالح ، حدثنا علىّ بن أبى طلحة ، عن ابن عباس في هذه ، قال: " كل من آمن فقد تولَّى الله ورسوله والذين آمنوا " . قال : وحدثنا أبو سعيد الأشجّ عن المحاربىّ ، عن عبد الملك بن أبى سليمان ، قال : سألت أبا جعفر محمد بن علىّ عن هذه الآية ، فقال : " هم الذين آمنوا " . قلت : نزلت في علىّ ؟ قال : علىّ من الذين آمنوا . وعن السدى مثله .
الوجه الرابع : أنّا نعفيه من الإجماع ، ونطالبه أن ينقل ذلك بإسناد واحد صحيح . وهذا الإسناد الذي ذكره الثعلبى إسناده ضعيف ، فيه رجال متهمون . وأما نقل ابن المغازلى الواسطى فأضعف وأضعف ، فإن هذا قد جمع في كتابه من الأحاديث الموضوعات ما لا يخفى أنه كذب عَلىَ من له أدنى معرفه بالحديث ، والمطالبة بإسناد يتناول هذا وهذا .
واستمر شيخ الإسلام إلى أن ذكر تسعة عشر وجها .(176/166)
والملاحظ أن ابن المطهر كان أكثر ترتيبا وتنظيما من خلفه رافضى المراجعات ، وأنه كان ضالا غاليا رافضيا خبيثا ، ومع هذا كله كان أقل فحشا وسوءا من عبد الحسين .
والملاحظ أيضا أن عبد الحسين ذكر المراجع التي رجع إليها ابن المطهر ، غير أنه أضاف إليها مراجع أخرى ، فأكثر من النقل من الصواعق المحرقة ، وسيأتي الحديث عنه لفضح منهج هذا الرافضي في نقله من الكتب ، كما نقل من مراجع تحتاج إلى وقفة خاصة .
من هذه المراجع صحيح البخاري !
ومن المسلم به بين جمهور الأمة أنه أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى ، فكيف يستدل به هذا الرافضي ؟ ! وما عهدناه يستدل بغير الموضوع والباطل . فلننظر ماذا أخذ من صحيح البخاري .
قال الرافضي : وقال ـ أي الله عز وجل فيهم وفى خصومهم :
" هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ" ( 19 : الحج )
وقال في الحاشية : أخرج البخاري في تفسير سورة الحج بالإسناد إلى علي قال : أنا أول من يجثو بين يدى الرحمن للخصومة يوم القيامة . ( قال البخاري ) : قال قيس : وفيهم نزلت : " هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ " ، قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : على وصاحباه حمزة وعبيدة ، وشيبة بن ربيعة وصاحباه عتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة .
قلت : نزول هذه الآية الكريمة في الذين بارزوا يوم بدر من المسلمين وكفار قريش أخرجه الإمام البخاري في التفسير وفى المغازي من صحيحه ، كما أخرجه غيره . والاختصام هنا واضح أنه بين المسلمين وغيرهم وهم الكفار، وبينت الآية الكريمة جزاء الذين كفروا ، وما سيلقونه في جهنم .(176/167)
ومن المعلوم أن الذين خرجوا للمبارزة أولا كانوا من الأنصار ، فرفض المشركون ، فخرج هؤلاء الثلاثة الكرام . وكان خلفهم جيش المسلمين بقيادة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ، ومعه أبو بكر الصديق في العريش ، وهو مركز القيادة ، وليس معه غيره . وممن شهد بدرا عمر وعثمان (1)[230]) رضي الله عنهم جميعا . والرافضى جعل هذه المراجعة لحجج الكتاب التي تثبت ما عليه الرافضة من القول بإمامة على ومن بعده ، وتبطل ما عليه جمهور المسلمين من مبايعة أبى بكر بالخلافة ، ومن بعده من الخلفاء الراشدين . وهذا يعنى أن الرافضي ـ لعنة الله عليه ـ جعل الرافضة وحدهم هم المسلمين ، وجعل الخلفاء الراشدين الثلاثة ومن بايعوهم هم الذين كفروا ، وقطعت لهم ثياب من نار .
أي أن الآية الكريمة ـ بحسب فريته ـ لم تجعل الاختصام بين المسلمين وكفار قريش ، وإنما في أهل بدر أنفسهم ممن كانوا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأولهم من كان معه في العريش حيث كان أول الخلفاء الراشدين بعد ذلك .
فالرافضى أخذ الخبر الصحيح من البخاري ، ثم وضع أهل بدر ـ رضي الله عنهم ورضوا عنه ـ بدلا من كفار قريش ! ! انظر كيف يفترى علىالكذب !( ومع كل هذا الكفر والفجور فسينسب للإمام البشرى إعجابه بحججه ، واتهامه لمن خالف هذا الرافضي ! ولذلك أثبت يقينا أن المراجعات المنسوبة لشيخ الأزهر البشرى ، علامة زمانه ، افتراها عليه الرافضي عبد الحسين )
هذا هو أحد خبرين أخذهما من صحيح البخاري .
وإليك الخبر الثانى :
__________
(1) 233) تخلف عثمان على امرأته رقية بنت رسول الله ـ ( ـ ، وكانت مريضة ، فتوفيت وجاءت البشرى بالفتح حين دفنت ، فضرب له رسول الله ـ ( ـ بسهمه من الغنيمة ، وبأجره من المشهد ، فهو بدرى ـ جوامع السيرة النبوية لابن حزم ص 88.(176/168)
قال تعالى :" إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" (56: الأحزاب )
نقل الرافضي عن البخاري ومسلم أيضا ما يأتي :
" فقالوا : يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ قال : قولوا : اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد ، الحديث " ثم قالالرافضي : " فعلم بذلك أن الصلاة عليهم جزء من الصلاة المأمور بها في هذه الآية " . ا . هـ.
قلت : هذه رواية متفق على صحتها ، ولكن من الآل ؟
ذكرت عند آية التطهير أن طائفة من العلماء احتجوا على أن الآل هم الأزواج والذرية بما جاء في الصحيحين عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما سئل : كيف نصلى عليك ؟ فقال : " قولوا : اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته ، كما صليت على آل ابراهيم ، وبارك على محمد وأزواجه وذريته . . . إلخ " فهذه الرواية مفسرة للرواية الأولى . ونحن نعرف موقف الرافضة من أمهات المؤمنين .
والرافضة يزعمون أن فرقتهم هي مذهب أهل البيت في الأصول والفروع ، وزعمهم يحتاج إلى وقفة من البداية لتجلية هذا الأمر ، وإزالة هذا اللبس والتلبيس ، فقد كان لهذا أثره على السذج من الناس الذين لا يعرفون حقيقةهذه الفرقة .
ومن المعروف أن عشرات الفرق من الشيعة ينازع بعضها بعضا في هذا الزعم ، بل إن عبد الله بن سبأ ـ الذي وضع فكرة الوصي بعد النبي صلى الله عليه وسلم وتبنتها فرق الغلاة ـ يزعم أنه هو نفسه من أتباع أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونحدد أولا المراد بالأهل :
جاء في المعجم الوسيط تحت مادة أهل :
أهل يأهل أهلا وأهولا : تزوج ، وأهل المكان أهولا : عمر بأهله ، وأهل فلانة : تزوجها .
والأهل : الأقارب والعشيرة والزوجة .
وأهل الدار ونحوها : سكانها .(176/169)
وفى معجم ألفاظ القرآن الكريم لمجمع اللغة العربية قال في مادة أهل :أهل : يحدد معناه بما يضاف إليه .
فأهل الرجل : زوجه ، وعشيرته ، وذوو قرباه .
وأهل الدار : سكانها .
وأهل الكتاب ، وأهل الإنجيل ، وأهل القرية ، وأهل المدينة ، ... إلخ : من يجمعهم الكتاب ، أو الإنجيل ... إلخ .
ثم أشار إلى الآيات الكريمة التي ورد فيها كلمة أهل .
وروى الإمام البخاري بسنده عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال :
" بنى على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بزينب بنت جحش بخبز ولحم ، فأرسلت على الطعام داعيا ... فخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فانطلق إلى حجرة عائشة فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله ، فقالت : وعليك السلام ورحمة الله ، كيف وجدت أهلك ؟ بارك الله لك .. فتقرى حجر نسائه كلهن ، يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن له كما قالت عائشة (1)[231]) .
من هذا نرى أن أهل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هم : زوجاته أمهات المؤمنين ـ رضي الله تعالى عنهن ، وذريته وذوو قرباه ـ رضي الله تعالى عنهم : كعلى بن أبى طالب ، وابن عباس وأبيه ، وجعفر ، وغيرهم . وأهل السنة والجماعة يقدرون أهل البيت جميعا حق قدرهم ، وينزلون هؤلاء الأطهار منزلتهم ، ويأخذون بما صح عنهم من الأحاديث و الآثار ، وكتبنا تشهد بذلك : انظر مثلا ما روى عن فضائلهم في كتب السنة المشرفة ، وما روى عنهم من الأحاديث الشريفة والآثار .
والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يختص أحدا بعلم دون غيره ، وإنما علم صحابته الكرام ، وأهل بيته الأطهار ، وعلى الأخص زوجاته أمهات المؤمنين .
__________
(1) حيح البخاري ـ كتاب التفسير ـ باب " لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم .." .(176/170)
والصحابة الكرام جميعا ـ سواء منهم من كان من أهل البيت ومن كان من غيرهم من المهاجرين والأنصار ، هم خير أمة أخرجت للناس ، شهد لهم ربهم عز وجل في كثير من آيات كتابه البينات المحكمات ، وكفى بالله شهيدا ، وشهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما أعظم شهادة من لا ينطق عن الهوى ، المبلغ والمبين عن الله ـ سبحانه وتعالى .
وعن هؤلاء الصحابة الكرام ، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، نقل إلينا كتاب ربنا العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وسنة نبينا المطهرة ، وما يتصل بهما من البيان والأحكام ، فتم علينا نعمة الله ـ تبارك وتعالى .
ولذلك اشتهر قول أبى زرعة الرازى :
" إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاعلم أنه زنديق . وذلك أن القرآن حق ، والرسول حق ، وما جاء به حق . وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة ، فيكون الجرح به أليق ، والحكم عليه بالزندقة والضلال أقوم وأحق " .
هذا موقف جمهور المسلمين من خير القرون ، فما موقف عبد الحسين وفرقته ؟
أما موقفهم من غير أهل البيت من الصحابة الكرام ، فليس موقف انتقاص فقط كما قال أبو زرعة ، وإنما سنجد في كتبهم التي قال عنها عبد الحسين في مراجعات تأتى فيما بعد : بأنها مقدسة ، ومتواترة ـ ما يشيب لهوله الولدان . سنجد الطعن والتفسيق ، بل التكفير والنفاق .. لمن ؟ لخير أمة أخرجت للناس !! وسيأتي هذا مفصلا في موضعه من كتابنا هذا .(176/171)
وما موقفهم من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أمهات المؤمنين ، وهن أول المراد من أهل البيت ، فهن : الصديقة بنت الصديق ، عائشة ـ رضي الله عنهما ـ المعلوم منزلتها عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومنزلتها العلمية وما استدركته على الصحابة ...إلخ ، غير أنها بنت خير البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى متواترا عن على رضي الله تعالى عنه ، وعن غيره ، وهذه الفرقة ترى أنه أول من اغتصب الخلافة ، وموقف أم المؤمنين من أمير المؤمنين على معروف ـ وإن نقل مشوها ، ولذلك فهم لا يأخذون شيئا من علمها الذي علمها إياه زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل يعتبرونها ـ والعياذ بالله ـ كافرة لأنها اشتركت في الحرب ضد الإمام ، وهذا واضح فيما سبق من بيان عقيدة الإمامة عندهم .
وأم المؤمنين حفصة لم تسلم من طعن هذه الفرقة ، لموقفهم من أمير المؤمنين عمر الفاروق ـ رضي الله عنه : ففي قوله تعالى :
" ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا "(1)[232]) نرى الطعن في تفسير هذه الفرقة :
يقول أحد علمائهم ، بل علامتهم المجلسى : " لا يخفى على الناقد البصير والفطن الخبير ما في تلك الآيات من التعريض ، بل التصريح بنفاق عائشة وحفصة وكفرهما !! " (2)[233]) .
كما طعنوا في أمهات المؤمنين : أم حبيبة ، وصفية وسودة رضي الله تعالى عنهن (3)[234]). ( انظر إلى ما ذكره عبد الحسين من الكتب المقدسة التي تحمل علم أهل البيت !! )
__________
(1) 235) التحريم - 01
(2) 233]) بحار الأنوار جـ 22 ص 33 .
(3) 234] ) انظر كتابى : بين الشيعة والسنة . دراسة مقارنة في التفسير وأصوله ، ص 255 .(176/172)
ولم يقف الأمر عند أمهات المؤمنين ، بل طعنوا في غيرهن من أهل البيت : فهذا مثلا عبد الله بن عباس ، حبر الأمة وترجمان القرآن ، وأبوه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ماذا قالوا فيهما ؟
من أهم كتبهم وأقدمها التي يرى عبد الحسين وغيره أن كل ما جاء فيه صحيح : تفسير على بن إبراهيم القمي ، وستأتى دراسة مفصلة لهذا الكتاب ، ونجد القمي يروى أن ابن عباس ، وأباه ، نزل فيهما قوله تعالى : " وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً" (1)[235]) ، وفى أبيه نزل قوله تعالى : " وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " (2)[236])
ولم يقف أمر هؤلاء القوم عند هذا الحد ، بل تجرءوا على بنات النبي صلى الله عليه وسلم غير السيدة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنهن جميعا وأرضاهن ! أي والله بنات النبي نفسه صلى الله عليه وسلم !
فقوم عبد الحسين لا يريدون أن يكون لأحد شرف مصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم غيرعلى رضي الله تعالى عنه ، ولذلك الذين اجترءوا على القرآن الكريم وقالوا بتحريفه ، منهم من ذكر أن سورة الشرح أسقط الصحابة منها : وجعلنا عليا صهرك(3)[237]) .
__________
(1) 238) 72 : الإسراء .
(2) 239) 34 : هود ، وانظر فرية القمي في تفسيره 2 / 23 .
(3) 240) سيأتي الحديث عن موقف هذه الفرقة من القرآن الكريم في الجزء الثانى .(176/173)
فإذا كان علي من أهل البيت ، وله شرف الزواج من إحدى بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن عثمان من أهل البيت أيضا(1)[238]) ، وله شرف الزواج من اثنتين ـ لا واحدة فقط من بنات النبي الطاهرات صلى الله عليه وسلم ، فرقية تزوجها بعد إسلامه ، وهاجر بها إلى الحبشة ، ثم إلى المدينة حيث ماتت بعد بدر بثلاثة أيام . وأصغر بنات الرسول صلى الله عليه وسلم هي أم كلثوم ، كانت لابن عمها عتبة بن أبى لهب ، وطلقها قبل أن يدخل بها ، وكانت هي التي لا تزال بغير زواج بعد أن تزوج على أختها فاطمة الزهراء ، فتزوجها عثمان بعد موت أختها رقية عنده سنة ثلاث من الهجرة .
أما أكبر بنات النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن جميعا ـ فهى زينب ، تزوجها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف . وهو ابن هالة بنت خويلد أخت السيدة خديجة رضي الله عنها ، وهو كما نرى من نسبه يعد من أهل البيت .
هؤلاء هن بنات النبي الأربعة ، والأزواج الثلاثة ، فما موقف هذه الفرقة من هؤلاء السبعة ، وهم جميعا من أهل البيت ؟
رأينا من قبل عند بيان عقيدتهم في الإمامة كيف أنهم جعلوا فاطمة الزهراء وزوجها ـ رضي الله تعالى عنهما ـ فوق الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين ، فيعتبر هذا عندهم من ضروريات المذهب ، أي أن من لم يعتقد هذا فليس مؤمنا ، وواضح أن هذا من مقالات الغلاة وعقائدهم الباطلة وذو النورين بايع الشيخين ، وتولى الخلافة بعدهما ، فهو في زعمهم ممن اغتصب هذا المنصب الإلهي ، ولذلك فإن كتبهم ـ التي أشار إليها عبد الحسين واعتبرها مقدسة متواترة ـ تجعله من الكفار والمنافقين والعياذ بالله .
__________
(1) 241) انظر بيان قرابته من الرسول ( في كتاب " ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه " للشيخ محب الدين الخطيب : ص 5 ، 6 .(176/174)
وأبو العاص ولدت له زينب ابنته أمامه التي جاء في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم حملها وهو يصلى . وتزوج على أمامه هذه بعد موت خالتها فاطمة . ومات أبو العاص في خلافة أبى بكر الصديق في ذى الحجة سنة اثنتى عشرة(1)[239]).
أما أخوات الزهراء الطاهرات فماذا قالوا عنهن ؟
قال أحد علمائهم : " رقية وزينب كانتا ابنتى هالة أخت خديجة ، ولما مات أبوهما ربيتا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسبتا إليه كما كانت عادة العرب في نسبة المربى إلى المربى . وهما اللتان تزوجهما عثمان بعد موت زوجيهما "(2)[240]) . ا . هـ .
ومعلوم أن زينب بنت خير البشر صلى الله عليه وسلم لم يتزوجها عثمان ، ولم يمت زوجها قبلها ، فقد مات في خلافة أبى بكر ـ كما ذكر من قبل ـ زوجها أبو العاص . أما هي فقد ماتت في أول سنة ثمان من الهجرة . وأخرج مسلم في الصحيح بسنده عن أم عطية قالت : لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اغسلنها وترا ، ثلاثا أو خمسا ، واجعلن في الآخرة كافورا " .
وزوجها أبو العاص ابن هالة بنت خويلد أخت السيدة خديجة ، فهل تزوج أخته بنت أمه هالة ؟ !
أفيعتبر هذا المفترى الكذاب من أتباع أهل البيت ؟ ! أم أن أهل البيت الأطهار منه براء ، ومن أمثاله سائر الغلاة الروافض ؟
أما الطاهرتان رقية و أم كلثوم فهما اللتان تزوجهما ذو النورين . وفى كتاب منهاج الشريعة ، الذي ألفه محمد مهدى للرد على منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية ، جاء الحديث عن أختى الزهراء ـ رضي الله عنهن ـ في أكثر من موضع .
__________
(1) 242) انظر ترجمة أبى العاص في باب الكنى من الجزء الرابع من الإصابة لابن حجر ، ص 121 : 123 ترجمة رقم 692 .
(2) 240]) انظر زبدة البيان ـ حاشية ص 575 .(176/175)
ومما قاله : " ما زعمه ـ أي ابن تيمية ـ من أن تزويج بنتيه لعثمان فضيلة له من عجائبه ، من حيث ثبوت المنازعة في أنهما بنتاه " (1)[241]) وقال : " لم يرد شىء من الفضل في حق من زعموهن شقيقاتها بحيث يميزن به ولو عن بعض النسوة " (2)[242]).
وقال : " قد عرفت عدم ثبوت أنهما بنتا خير الرسل ـ صلى الله عليه وسلم وعدم وجود فضل لهما تستحقان به الشرف والتقدم على غيرهما " (3)[243]).
أهؤلاء إذن أتباع مذهب أهل البيت ؟ أم أعداء أهل البيت الأطهار ؟ وما الفرق بينهم وبين دعوى ابن سبأ وحقيقته ؟
ولتأكيد أن الرافضة كاذبون في زعمهم حب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نذكر شيئا من سيرة آل البيت الأطهار يفضح هؤلاء الرافضة :
زوج على ابنته عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما ، وهذا يؤكد معنى طيبا يجمع بين الخليفتين الراشدين يفهمه أي عاقل ، فإذا بالرافضة يقولون : " ذاك فرج غصبناه " !! ويفترون روايات تذكر أن عليا زوج ابنته خوفا من عمر وتهديده له !! ( انظر وسائل الشيعة 14 / 433 ـ 434 ) .
وهذا ليس إساءة إلى عمر وحده كما يظهرون ، وإنما هو إساءة أشد إلى على الذي يسلبه ما عرف عنه من شجاعة وإقدام ، فيبدو ذليلا جبانا !! وسيأتي لهذا مزيد بيان في الجزء الرابع عند الحديث عن النكاح .
ونترك هذا ونأتى إلى ما يبين مدى حب آل البيت الأطهار للخلفاء الراشدين الثلاثة الذين عرفنا موقف الرافضة منهم ، وسأترك كتب جمهور المسلمين وآتى إلى كتاب من كتب الشيعة ألفه السيد أبو القاسم الخوئى الذي كان المرجع الأعلى للشيعة بالعراق ، وهو كتاب معجم رجال الحديث :
ونقرأ في هذا الكتاب الأرقام الآتية للتراجم وهى :
( 7618 ، 8729 ، 8731 ، 8787 ، 8788 ، 14000 ، 14002 ) .
هذه التراجم لسبعة رجال فمن هم ؟
__________
(1) 244) منهاج الشريعة 2 / 289 .
(2) 245) المرجع نفسه 2 / 290 .
(3) 246) منهاج الشريعة 2 / 291 .(176/176)
كلهم من آل البيت الأطهار ، وكلهم أبو بكر أو عمر أو عثمان .. تأمل ! فأما الإمام على فقد اختار أسماء إخوانه الثلاثة جميعا فسمى بهم أبناءه ، منهم أبو بكر و عثمان اللذان قتلا مع أخيهما الحسين في واقعة الطف . وقتل أيضا عمر مع أبيه الحسين ، وأبو بكر بن الحسن مع عمه الحسين ، وعمر بن الحسن مع عمه الحسين.
هؤلاء آل البيت الأطهار : على والحسن والحسين ، وأولادهم أبو بكر وعمر وعثمان ، فاعتبروا يا أولى الأبصار ، وتدبروا سيرة آل البيت الأطهار ، وبراءتهم من الرافضة الفجار .
وفى كتاب كشف الأسرار ( ص 17 ،18) يقول السيد حسين الموسوي تحت عنوان :
الحقيقة في انتساب الشيعة لأهل البيت : "إن من الشائع عندنا معاشر الشيعة ، اختصاصنا بأهل البيت ، فالمذهب الشيعي كله قائم على محبة أهل البيت – حسب رأينا – إذ الولاء والبراء مع العامة – وهم أهل السنّة – بسبب أهل البيت ، والبراءة من الصحابة ، وفى مقدمتهم الخلفاء الثلاثة ، وعائشة بنت أبى بكر بسبب الموقف من أهل البيت ، والراسخ في عقول الشيعة جميعاً صغيرهم وكبيرهم ، عالمهم وجاهلهم ، ذَكَرهم وأنثاهم ، أنّ الصحابة ظلموا أهلّ البيت ، وسفكوا دماءهم واستباحوا حرماتهم .
وإن أهل السنّة ناصبوا أهل البيت العداء ، ولذلك لا يتردد أحدنا في تسميتهم بالنواصب ، ونستذكر دائماً دم الحسين الشهيد رضي الله عنه ولكن كُتبنا المعتبرة عندنا تُبيّن لنا الحقيقة ، إذ تذكر لنا َتذمُّرَ أهلِ البيت صلوات الله عليهم من شيعتهم ، وتذكر لنا ما فعله الشيعة الأوائل بأهل البيت ، وتذكر لنا من الذي سفك دماء أهل البيت عليهم السلام ، ومن الذي تسبب في مقتلهم واستباحة حرماتهم .
قال أمير المؤمنين رضي الله عنه : " لو ميزت شيعتى لما وجدتهم إلا واصفة ، ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين ، ولو تمحّصتهم لما خلص من الألف واحد " " الكافى / الروضة " (8/338)(176/177)
وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه : " ياأشباه الرجال و لا رجال ، حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال ، لّوددت ُ أنّى لم أركم ولم أعرفكم ، معرفةُ جرّت والله ندماً وأعقبت سَدَماً (1) } - - - { )… قاتلكم الله ! لقد ملأتم قلبي قيحاً ، وشحنتم صدري غيظاً ، وجرَّعتمونى نغب التهمام أنفاسا ، وافسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان ، حتى لقد قالت قريش : إن ّ ابن أبى طالب رجل شجاع ولكن لا علم َ له بالحرب ، ولكن ْ لا رأي َ لمن لا يطاع " . " نهج البلاغة " ( ص 70، 71)
وقال لهم موبّخاً : منيت بكم بثلاث ، واثنتين : " صُمُّ ذوو أسماع ، وبكم ذوو كلام ، وعُمْى ذوو أبصار ، لا أحرار وصُدُق‘ عند اللقاء ، ولا إخوان‘ ثقة عند البلاء ... قد انفرجتم عن ابن أبى طالب انفراجَ المرأة عن قُبُلها " . " نهج البلاغةَّ " ( ص 142)
قال لهم ذلك بسبب تخاذلهم وغدرهم بأمير المؤمنين رضي الله عنه ، وله فيهم كلام كثير .
وقال الإمام الحسين رضي الله عنه في دعائه على شيعته : " اللهم إنْ متَّعهم إلى حين ففرقهم فرقاً ، واجعلهم طرائق قدداً ، ولا تُرْضِ الولاة عنهم أبداً ، إنَّهم دَعَوْنا لينصرونا ثم عَدَْوا علينا فقتلونا " . " الإرشاد المفيد " ( ص 241).
وقد خاطبهم مرة أخرى ودعا عليهم ، فكان مما قال :
" لكنكم استسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الدباء ، وتهافتم كتهافت الفراش ، ثم نقضتموها ، سفهاً وبعداً وسحقاً لطواغيت هذه الأمة وبقية الأحزاب ونَبَذَةِ الكتاب ، ثم أنتم هؤلاء تتخاذلون عنا وتقتلوننا ، ألا لعنةُ الله على الظالمين " . " الاحتجاج " (2/24).
وهذه النصوص تبيّن لنا مَنْ هم قتلةُ الحسين الحقيقيون ، إنهم شيعة أهل الكوفة، أي أجدادنا ، فلماذا نُحَمل أهلَ السنة مسؤولية مقتل الحسين رضي الله عنه ؟!
__________
(1) 247) السدم : الهم . والنُّغَب : جمع نغبة كجرعة وجُرع . والتهمام : الهم .(176/178)
ولهذا قال السيد محسن الأمين : " بايع الُحسَيْنَ من أهل العراق عشرون ألفاً غدروا به وخرجوا عليه ، وبيعته في أعناقهم ، وقتلوه " . " أعيان الشيعة " ( القسم الأول)
وقال الحسن رضي الله عنه: " أرى والله معاوية خيراً لي من هؤلاء ، يزعمون أنّهم لي شيعة ، ابتغوا قتلى وأخذوا مالى ، والله لأن آخذ من معاوية ما أحقنُ به من دمى ، وآمن به في أهلي خير من أن يقتلونى ، فيضيع أهل بيتي ، والله لو قاتلتُ معاوية لأخذوا بعنقى حتى يدفعوا بى إليه سلماً ، والله لأن أُسالمه وأنا عزيز خيرُ من أن يقتلنى وأنا أسير " . " الاحتجاج " (2/10).
وقال الإمام زين العابدين رضي الله عنه لأهل الكوفة : " هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبى وخدعتموه ، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق ، ثم قاتلتموه وخذلتموه ... بأي عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله يقول لكم : قاتلتم عترتى ، وانتهكتم حرمتى ؛ فلستم من أمتى " . " الاحتجاج " (2/32)
وقال أيضاً عنهم : " إن هؤلاء يبكون علينا فَمَنْ قتلَنا غيرُهم ؟ " . " الاحتجاج " (2/29).
وقال الباقررضي الله عنه : " لو كان الناس كلّهم لنا شيعة لكان ثلاثة أرباعهم لنا شكاكاً ، والربع الآخر أحمق " . " رجال الكشّي " (ص 79).
وقال الصادق رضي الله عنه" أما والله لو أجد منكم ثلاثة مؤمنين يكتمون حديثى ما استحللت ُ أن أكتمهم حديثاً " . " أصول الكافى " (1/496). انتهى . هذا بعض ما قاله العالم الشيعي .
بعد بيان موقف الرافضة من أهل البيت الأطهار نعود مرة أخرى للنظر في المراجع :
ومن المراجع التي ذكرها عبد الحسين تفسير مجاهد ، ومجاهد كما نعلم تلميذ حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ وذكرت من قبل طعن الرافضة فيهما .
قال الرافضي :
عن تفسير مجاهد ويعقوب بن سفيان عن ابن عباس في قوله تعالى :(176/179)
" وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا "، أن دحية الكلبى جاء يوم الجمعة من الشام بالميرة ، فنزل عند أحجار الزيت ، ثم ضرب بالطبول ليؤذن الناس بقدومه، فنفر الناس إليه ، وتركوا النبي ?صلى الله عليه وسلم قائما يخطب على المنبر إلا عليا والحسن والحسين وفاطمة وسلمان وأباذر والمقداد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد نظر الله إلى مسجدى يوم الجمعة ، فلولا هؤلاء لأضرمت المدينة على أهلها نارا ، وحصبوا بالحجارة كقوم لوط . وأنزل الله فيمن بقى مع رسول الله في المسجد قوله تعالى :
" يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ" الآية .
قلت : نظرت في تفسير مجاهد ، وهو مطبوع ، فلم أجد ما سبق . ثم نظرت في الدر المنثور ( 6 / 220 ـ 221 ) فوجدت الروايات المختلفة التي ذكرت من بقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تنص على أبى بكر وعمر . وأول هذه الروايات هي ما روى عن جابر بن عبد الله ، وفيها : " لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا : أنا فيهم ، وأبو بكر ، وعمر " .
والحافظ ابن حجر في الفتح عند شرحه لحديث جابر الذي أورده البخاري في كتاب الجمعه من صحيحه ، وفيه . " ما بقى مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا " قال ابن حجر :
وأما تسميتهم فوقع في رواية خالد الطحان عند مسلم أن جابرا قال : " أنا فيهم " وله في رواية هشيم " فيهم أبو بكر وعمر " .
ثم قال : وروى العقيلى عن ابن عباس " أن منهم الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأناسا من الأنصار " .
وليس في أي رواية من الروايات كلها ذكر للحسن أو الحسين .
أما الآية الأخيرة وهى رقم 36 من سورة النور فلم يذكر في تفسيرها وأسباب النزول ما ذكره الرافضي من أن الرافضة هم رجال التسبيح !! فقد أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما:-(176/180)
" فِي بُيوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ " الآية قال : هي المساجد تكرم ونهى عن اللغو فيها "وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ" يتلى فيها كتابه " يُسَبِّحُ " يصلى " لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ " صلاة الغداة " وَالْآصَالِ " صلاة العصر، وهما أول ما فرض الله من الصلاة ، وأحب أن يذكرهما ، ويذكرهما عباده. ( الدر المنثور 5 / 50 ) .
وأخرج ابن أبى حاتم عن الضحاك في قوله تعالى:- " رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ " قال : هم في أسواقهم يبيعون ويشترون، فإذا جاء وقت الصلاة لم يلههم البيع والشراء عن الصلاة .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس"? رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ...." قال : عن شهود الصلاة المكتوبة . وأخرج الفريابى عن عطاء مثله .
... وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عمر أنه كان في السوق ، فأقيمت الصلاة ، فأغلقوا حوانيتهم ، ثم دخلوا المسجد . فقال ابن عمر : فيهم نزلت " رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ " ( الدر المنثور 5 /52 ) .
ولم أجد في جميع الروايات أن آية سورة النور نزلت فيمن بقى يوم الجمعة . ولو أنها نزلت فيهم فأولهم بلا ريب الصديق والفاروق كما جاء في الأخبار الصحيحة .
قال الرافضي : أخرج المحدثون والمفسرون وأصحاب الكتب في أسباب النزول بأسانيدهم إلى ابن عباس في قوله تعالى : " الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً " ( 274 : البقرة )
قال : نزلت في على بن أبى طالب .(176/181)
قلت : أصحاب الكتب ذكروا عليا وغيره ، فقالوا : نزلت في أصحاب الخيل، فيمن يربطها في سبيل الله لا رياء ولا سمعة . ولا خيلاء ، وقالوا : نزلت في عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة . ( انظر أصحاب هذه الكتب ورواياتهم في الدر المنثور 1 / 363 ) وما أكثر الصحابة الكرام الذين كانوا ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ! ومثل على ما كان ليبخل لو كان عنده مال ، لكنه لم يكن كثير المال كما هو معلوم ، وأصحاب الأموال الذين كانوا ينفقونها في سبيل الله مشهود لهم ، وأولهم أبو بكر الصديق ، الذي نزل فيه قول الله تعالى :
"وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىوَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىوَلَسَوْفَ يَرْضَى".
والمحدثون والمفسرون وأصحاب الكتب لم يذكروا أحدا آخر غير أبى بكر الصديق . ( انظر جميع الروايات في الدر المنثور 6 / 359 ـ 360 ) ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " إن أمن الناس على في صحبته وماله أبو بكر " وقال : " وواسانى بنفسه وماله " ( راجع صحيح البخاري ـ كتاب فضائل الصحابة تجد الحديثين الشريفين وغيرهما من فضائل الصديق ، وأنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومن شهد له الله ـ عزوجل ، والرسول صلى الله عليه وسلم ، يأتي هذا الرافضي فيقول بكفره ، وأنه الجبت ، وكفر الأمة الإسلامية التي أقرت بيعته ، وبعد هذا العداء للإسلام وأهله ينسب الرافضي اللعين نفسه لأهل البيت الأطهار !! ثم يفترى الكذب على الإمام الأكبر شيخ الأزهر فينسب له أنه وافقه بل أعجب بهذا التكفير !! ) .
قال الرافضي :
وفى جميل بلائهم وجلال عنائهم قال الله تعالى: ?وَمِنَ الناسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَاد ? (1)[245])
__________
(1) 248) البقرة : الآية 207.(176/182)
ثم قال : أخرج الحاكم ( 3 ، 4 ) عن ابن عباس قال : " شرى على نفسه ولبس ثوب النبي " الحديث . وأخرج أيضا عن على بن الحسين قال : " إن أول من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله على بن أبى طالب إذ بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم " . ا . هـ .
قلت : لا شك أن عليا رضي الله تعالى عنه قد شرى نفسه حتى ولو لم يصح الخبر عن ابن عباس ، لكن الروايات كلها لم تخصه بسبب النزول ، لا عند الحاكم ولا عند غيره ، بل إن الحاكم في الجزء نفسه ذكر أن الآية الكريمة نزلت في صهيب ، وصحح الخبر ، ولم يتعقبه الذهبي ( 3 / 398 ) .
وقبل أن أنتقل إلى نقطة أخرى أحب أن أصفع هذا الرافضي وأمثاله بحديث شريف أخرجه الحاكم الذي عرف عنه التشيع وهو ما رواه بسنده عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله تبارك وتعالى اختارنى ، واختار لي أصحابا ، فجعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا . فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل " .
قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي ( جـ 3 ص 632 )
إذن عندما نلعن هذا الرافضي فإننا ننفذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد سب الصحابة الكرام وعلى الأخص خيرهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو أبو بكر الصديق ، فعمر الفاروق ، بل قال بأنهما الجبت والطاغوت ، والصحابة الذين بايعوهما كفار آمنوا بالجبت والطاغوت !
فمن كان عدوا لهؤلاء فهو عدو لله ولرسوله وملائكته ، يستحق ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم من اللعنة والخسران يوم القيامة .(176/183)
إذن يجب أن نضع الأمور في نصابها ، ونزنها بميزان الشرع وحكم الله تعالى ورسوله الكريم ، حتى لا يأتىأحد ويقول : كيف تلعن مسلما ؟ وأين أنت من دعوة التقريب ؟ ! أقول : قد لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف لا نلعنه ؟ أما التقريب فهذا الرافضي له كتاب عنوانه " الفصول المهمة في تأليف الأمة " ، انتهى إلى وجوب أن ترتد الأمة كلها فتصبح رافضة مثله ! !
فالتقريب إذن لا يكون مع مثل هذا الرافضي اللعين ، عدو الإسلام والمسلمين ، وإنما يكون مع الشيعة من غير الرافضة .
الاستدلال بالأحاديث الموضوعة
بعد تحريف القرآن الكريم لجأ الرافضة إلى الأحاديث الموضوعة ، سواء أكانت من وضعهم وأكاذيبهم أم من وضع غيرهم .
وعندما نأتى إلى دراسة كتب السنة عندهم وتدوينها فسيتضح جليا أنها مبنية على الكذب والافتراء ، وموضع هذه الدراسة في الجزء الثالث من هذا الكتاب .
ولكننا نقف هنا عند بعض الأحاديث التي ذكرها الرافضيان : ابن المطهر وعبد الحسين ، أحدهما أو كلاهما ، ونثبت جواب شيخ الإسلام ابن تيمية ، مع إضافة بعض ما كتبته في ردى على المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى، والتى افتراها عبد الحسين . ونبدأ بالدليل الأول الذي ذكره ابن المطهر ، وجواب شيخ الإسلام .
حديث الدار
هذا هو الدليل الأول عن ابن المطهر حيث قال :
" المنهج الثالث في الأدلة المستندة إلى السنة ، المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهى اثنا عشر .
الأول : ما نقله الناس كافة أنه لما نزل قوله تعالى :(176/184)
" وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ "( سورة الشعراء : 214) جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى عبد المطلب في دار أبى طالب ، وهم أربعون رجلا ، وأمر أن يصنع لهم فخذ شاة مع مد من البر ويعد لهم صاعا من اللبن ، وكان الرجل منهم يأكل الجذعة في مقعد واحد ، ويشرب الفرق من الشراب في ذلك المقام ، فأكلت الجماعة كلهم من ذلك الطعام اليسير حتى شبعوا ، ولم يتبين ما أكلوه ، فبهرهم ( النبي صلى الله عليه وآله ) بذلك ، وتبين لهم آية نوبته ، فقال : يا بنى عبد المطلب ، إن الله بعثنى بالحق إلى الخلق كافة ، وبعثنى إليكم خاصة ، فقال : "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان، ثقيلتين في الميزان ، تملكون بهما العرب والعجم ، وتنقاد لكم بهما الأمم ، وتدخلون بهما الجنة ، وتنجون بهما من النار : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأنى رسول الله ، فمن يجيبني إلى هذا الأمر ، ويؤازرنى على القيام به يكن أخي ووزيرى ، ووصيي ووارثي ، وخليفتى من بعدى . فلم يجبه أحد منهم. فقال أمير المؤمنين : أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر . فقال : اجلس. ثم أعاد القول مرة ثانية فصمتوا. فقال على : فقمت فقلت مثل مقالتى الأولى ، فقال : اجلس ثم أعاد القول ثالثة ، فلم ينطق أحد منهم بحرف ، فقمت فقلت : أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر . فقال : اجلس فأنت أخي ووزيرى ، ووصيى ووارثى ، وخليفتى من بعدى. فنهض القوم وهم يقولون لأبى طالب : ليهنئك اليوم أن دخلت في دين ابن أخيك ، فقد جعل ابنك أميرا عليك " . ا. هـ
قال شيخ الإسلام :(176/185)
والجواب من وجوه : الأول : المطالبة بصحة النقل . وما ادعاه من نقل الناس كافة من أظهر الكذب عند أهل العلم بالحديث ، فإن هذا الحديث ليس في شىء من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل : لا في الصحاح ولا في المساند والسنن والمغازى والتفسير التي يذكر فيها الإسناد الذي يحتج به ، وإذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل منها الصحيح والضعيف ، مثل تفسير الثعلبى والواحدى والبغوى ، بل وابن جرير وابن أبى حاتم ، لم يكن مجرد رواية واحد من هؤلاء ، دليلا على صحته باتفاق أهل العلم ؛ فإنه إذا عرف أن تلك المنقولات فيها صحيح وضعيف ، فلابد من بيان أن هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف .
وهذا الحديث غايته أن يوجد في بعض كتب التفسير التي فيها الغث والثمين، وفيها أحاديث كثيرة موضوعة مكذوبة ، مع أن كتب التفسير التي يوجد فيها هذا مثل تفسير ابن جرير وابن أبى حاتم والثعلبى والبغوى ، ينقل فيها بالأسانيد الصحيحة ما يناقض هذا ، مثل بعض المفسرين الذين ذكروا هذا في سبب نزول الآية ، فإنهم ذكروا مع ذلك بالأسانيد الصحيحة الثابتة التي اتفق أهل العلم على صحتها ما يناقض ذلك ، ولكن هؤلاء المفسرين ذكروا ذلك على عادتهم في أنهم ينقلون ما ذكر في سبب نزول الآية من المنقولات الصحيحة . والضعيفة ، ولهذا يذكر أحدهم في سبب نزول الآية عدة أقوال ، ليذكر أقوال الناس وما نقلوه فيها ، وإن كان بعض ذلك هو الصحيح وبعضه كذب ، وإذا احتج بمثل هذا الضعيف وأمثاله واحد بذكر بعض ما نقل في تفسير الآية من المنقولات ، وترك سائر ما ينقل مما يناقض ذلك ـ كان هذا من أفسد الحجج ، كمن احتج بشاهد يشهد له ولم تثبت عدالته بل ثبت جرحه ، وقد ناقضه عدول كثيرون يشهدون بما يناقض شهادته، أو يحتج برواية واحد لم تثبت عدالته بل ثبت جرحه ، ويدع روايات كثيرين عدول ، وقد رووا ما يناقض ذلك .(176/186)
بل لو قدر أن هذا الحديث من رواية أهل الثقة والعدالة ، وقد روى آخرون من أهل الثقة والعدالة ما يناقض ذلك ، لوجب النظر في الروايتين : أيهما أثبت وأرجح ؟ فكيف إذا كان أهل العلم بالنقل متفقين على أن الروايات المناقضة لهذا الحديث هي الثابتة الصحيحة ، بل هذا الحديث مناقض لما علم بالتواتر ، وكثير من أئمة التفسير لم يذكروا هذا بحال لعلمهم أنه باطل .
الثانى :
أنا نرضى منه من هذا النقل العام بأحد شيئين : إما بإسناد يذكره مما يحتج به أهل العلم في مسائل النزاع ، ولو أنه مسألة فرعية ، وإما قول رجل من أهل الحديث الذين يعتمد الناس على تصحيحهم . فإنه لو تناظر فقيهان في فرع من الفروع ، لم تقم الحجة على المناظرة إلا بحديث يعلم أنه مسند إسناداً تقوم به الحجة، أو يصححه من يرجع إليه في ذلك . فأما إذا لم يعلم إسناده ، ولم يثبته أئمة النقل ، فمن أين يعلم ؟ لا سيما في مسائل الأصول التي يبنى عليها الطعن في سلف الأمة وجمهورها ، ويتوسل بذلك إلى هدم قواعد المسألة ، فكيف يقبل في مثل ذلك حديث لا يعرف إسناده ولا يثبته أئمة النقل ولا يعرف أن عالما صححه ؟!
الثالث :
أن هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث ، فما من عالم يعرف الحديث إلا وهو يعلم أنه كذب موضوع ، ولهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات ، لأن أدنى من له معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب .
وقد رواه ابن جرير والبغوى بإسناد فيه عبد الغفار بن القاسم بن فهد ، أبو مريم الكوفي ، وهو مجمع على تركه ، كذبه سماك بن حرب وأبو داود ، وقال أحمد : ليس بثقة ، عامة أحاديث بواطيل . قال يحيى : ليس بشئ . قال ابن المديني: كان يضع الحديث . وقال النسائي وأبو حاتم : متروك الحديث . وقال ابن حبان البستى : كان عبد الغفار بن قاسم يشرب الخمر حتى يسكر ، وهو مع ذلك يقلب الأخبار ، لا يجوز الاحتجاج به ، وتركه أحمد ويحيى .(176/187)
ورواه ابن أبى حاتم ، وفى إسناده عبد الله بن عبد القدوس ، وهو ليس بثقة . وقال فيه يحيى بن معين : ليس بشئ رافضى خبيث . وقال النسائي : ليس بثقة . وقال الدارقطنى : ضعيف .
وإسناد الثعلبى أضعف ، لأن فيه من لا يعرف ، وفيه من الضعفاء والمتهمين من لا يجوز الاحتجاج بمثله في أقل مسألة .
الرابع :
أن بنى عبد المطلب لم يبلغوا أربعين رجلا حين نزلت هذه الآية ؛ فإنها نزلت بمكة في أول الأمر . ثم ولا بلغوا أربعين رجلا في مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإن بنى عبد المطلب لم يعقب منهم باتفاق الناس إلا أربعة : العباس ، وأبو طالب ، والحارث ، وأبو لهب . وجميع ولد عبد المطلب من هؤلاء الأربعة ، وهم بنو هاشم، ولم يدرك النبوة من عمومته إلا أربعة : العباس ، وحمزة ، وأبو طالب ، وأبو لهب ، فآمن اثنان ، وهما حمزة و العباس ، وكفر اثنان ، أحدهما نصره وأعانه ، وهو أبو طالب ، والآخر عاداه وأعان أعداءه ، وهو أبو لهب .
وأما العمومة وبنو العمومة فأبو طالب كان له أربعة بنين : طالب ، وعقيل، وجعفر ، وعلى . وطالب لم يدرك الإسلام ، وأدركه الثلاثة ، فآمن على وجعفر في أول الإسلام ، وهاجر جعفر إلى أرض الحبشة ، ثم إلى المدينة عام خيبر .
وكان عقيل قد استولى على رباع بنى هاشم لما هاجروا وتصرف فيها ، ولهذا لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في حجته : " ننزل غدا في دارك بمكة " قال : " وهل ترك لنا عقيل من دار ؟ "(176/188)
وأما العباس فبنوه كلهم صغار ، إذ لم يكن فيهم بمكة رجل . وهب أنهم كانوا رجالاً فهم : عبد الله ، وعبيد الله ، والفضل . وأما قثم فولد بعدهم ، وأكبرهم الفضل ، وبه كان يكنى . وعبد الله ولد في الشعب بعد نزول قوله : " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ "(سورة الشعراء : 214 ) وكان له في الهجرة نحو ثلاث سنين أو أربع سنين ، ولم يولد للعباس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا الفضل وعبد الله وعبيد الله، وأما سائرهم فولدوا بعده.
وأما الحارث بن عبد المطلب وأبو لهب فبنوهما أقل . والحارث كان له ابنان: أبو سفيان وربيعة ، وكلاهما تأخر إسلامه ، وكان من مسلمة الفتح .
وكذلك بنو أبى لهب تأخر إسلامهم إلى زمن الفتح ، وكان له ثلاثة ذكور ، فأسلم منهم اثنان : عتبة ومغيث ، وشهد الطائف وحنينا ، وعتيبة دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكله الكلب ، فقتله السبع بالزرقاء من الشام كافراً. فهؤلاء بنو عبد المطلب لا يبلغون عشرين رجلا ، فأين الأربعون ؟ !
الخامس :
قوله : " إن الرجل منهم كان يأكل الجذعة ويشرب الفرق من اللبن " فكذب على القوم ، ليس بنو هاشم معروفين بمثل هذه الكثرة في الأكل ، ولا عرف فيهم من كان يأكل جذعة ولا يشرب فرقا .
السادس :
أن قوله للجماعة : " من يجيبنى إلى هذا الأمر ويؤازرنى على القيام به يكن أخي ووزيرى ووصيى وخليفتى من بعدى " كلام مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يجوز نسبته إليه . فإن مجرد الإجابة إلى الشهادتين والمعاونة على ذلك لا يوجب هذا كله ؛ فإن جميع المؤمنين أجابوا إلى هاتين الكلمتين ، وأعانوه على هذا الأمر ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في إقامته وطاعته ، وفارقوا أوطانهم ، وعادوا إخوانهم ، وصبروا على الشتات بعد الألفة ، وعلى الذل بعد العز ، وعلى الفقر بعد الغنى ، وعلى الشدة بعد الرخاء ، وسيرتهم معروفة مشهورة ، ومع هذا فلم يكن أحد منهم بذلك خليفة له .(176/189)
وأيضا فإن كان عرض هذا الأمر على أربعين رجلا أمكن أن يجيبوه ـ أو أكثرهم أو عدد منهم ـ فلو أجابه منهم عدد من كان الذي يكون الخليفة بعده ؟ أيعين واحدا بلا موجب ؟ أم يجعل الجميع خلفاء في وقت واحد ؟ وذلك أنه لم يعلق الوصية والخلافة والأخوة والمؤازرة ، إلا بأمر سهل ، وهو الإجابة إلى الشهادتين، والمعاونة على هذا الأمر . وما من مؤمن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر إلى يوم القيامة ، إلا وله من هذا نصيب وافر ، ومن لم يكن له من ذلك حظ فهو منافق ، فكيف يجوز نسبة مثل هذا الكلام إلى النبي َصلى الله عليه وسلم ؟ !
السابع :
أن حمزة وجعفرا وعبيدة بن الحارث أجابوا إلى ما أجابه على من الشهادتين والمعاونة على هذا الأمر ؛ فإن هؤلاء من السابقين الأولين الذين آمنوا بالله ورسوله في أول الأمر . بل حمزة أسلم قبل أن يصير المؤمنون أربعين رجلا ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبى الأرقم ، وكان اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم به في دار الأرقم ، ولم يكن يجتمع هو وبنو عبد المطلب كلهم في دار واحدة ، فإن أبا لهب كان مظهراً لمعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما حصر بنو هاشم في الشعب لم يدخل معهم أبو لهب .
الثامن :(176/190)
أن الذي في الصحاح من نزول هذه الآية غير هذا . ففي الصحيحين عن ابن عمر وأبى هريرة ـ واللفظ له ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت : " وَأَنذِرْ عَشِيرَتكَ الْأَقْرَبِينَ "(سورة الشعراء : 214 ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا، فاجتمعوا ، فخص وعم فقال : " يابنى كعب بن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار. يا بنى مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار . يا بنى عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار. يا بنى عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار . يا بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النار . يا بنى عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار . يا فاطمة بنت محمد أنقذى نفسك من النار ، فإنى لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها " .
وفى الصحيحين عن أبى هريرة رضي الله عنه أيضا لما نزلت هذه الآية قال: " يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغنى عنكم من الله شيئا . يا بنى عبد المطلب لا أغنى عنكم من الله شيئا . يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا . يا فاطمة بنت محمد لا أغنى عنك من الله شيئا . سلانى ما شئتما من مالى " . وخرجه مسلم من حديث ابن المخارق وزهير بن عمرو ومن حديث عائشة وقال فيه : " قام على الصفا " .
وقال في حديث قبيصة : " انطلق إلى رضمة من جبل ، فعلا أعلاها حجرا ، ثم نادى : يا بنى عبد مناف إنى لكم نذير . إنما مثلى ومثلكم كمثل رجل رأي العدو فانطلق يربأ أهله ، فخشى أن يسبقوه ، فجعل يهتف : يا صباحاه " .(176/191)
وفى الصحيحين من حديث ابن عباس قال : " لما نزلت هذه الآية خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا ، فهتف : يا صباحاه " فقالوا : من هذا الذي يهتف؟ قالوا : محمد . فاجتمعوا إليه ، فجعل ينادى : " يا بنى فلان ، يا بنى عبد مناف ، يا بنى عبد المطلب " وفى رواية : " يا بنى فهر ، يا بنى عدى ، يا بنى فلان " لبطون قريش فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا ينظر ما هو ، فاجتمعوا فقال : " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل ، أكنتم مصدقى ؟ " قالوا : ما جربناعليك كذبا . قال : " فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد " قال : فقال أبو لهب : تبا لك أما جمعتنا إلا لهذا ؟ فقام فنزلت هذه السورة : " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ " ( سورة المسد : 1 ).
وفى رواية: " أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم ويمسيكم أكنتم تصدقونى؟ " قالوا : " بلى ".
فإن قيل : فهذا الحديث قد ذكره طائفة من المفسرين والمصنفين في الفضائل، كالثعلبى والبغوى وأمثالهما والمغازلى .(176/192)
قيل له : مجرد رواية هؤلاء لا توجب ثبوت الحديث باتفاق أهل العلم بالحديث ؛ فإن في كتب هؤلاء من الأحاديث الموضوعة ما اتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع ، وفيها شئ كثير يعلم بالأدلة اليقينية السمعية والعقلية أنها كذب ، بل فيها ما يعلم بالاضطرار أنه كذب . والثعلبى وأمثاله لا يتعمدون الكذب ، بل فيهم من الصلاح والدين ما يمنعهم من ذلك ، لكن ينقلون ما وجدوه في الكتب ، ويروون ما سمعوه ، وليس لأحدهم من الخبرة بالأسانيد ما لأئمة الحديث ، كشعبة، ويحيى بن سعيد القطان ، وعبد الرحمن بن مهدى ، وأحمد بن حنبل ، وعلى بن المديني ، ويحيى بن معين ، وإسحاق ، ومحمد بن يحيى الذهلى ، والبخاري ، ومسلم ، وأبى داود ، والنسائى ، وأبى حاتم وأبى زرعة الرازيين ، وأبى عبد الله ابن منده ، والدار قطنى ، وأمثال هؤلاء من أئمة الحديث ونقاده وحكامه وحفاظه الذين لهم خبرة ومعرفة تامة بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحوال من نقل العلم والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم من نقلة العلم .
وقد صنفوا الكتب الكثيرة في معرفة الرجال الذين نقلوا الآثار وأسماءهم ، وذكروا أخبارهم وأخبار من أخذوا عنه ، ومن أخذ عنهم . مثل كتاب " العلل وأسماء الرجال " عن يحيى القطان ، وابن المديني ، وأحمد ، وابن معين ، والبخاري ، ومسلم ، وأبى زرعة ، وأبى حاتم ، والنسائى ، والترمذى ، وأحمد بن عدى ، وابن حبان ، وأبى الفتح الأزدى ، والدارقطنى وغيرهم .
وتفسير الثعلبى فيه أحاديث موضوعة وأحاديث صحيحة . ومن الموضوع فيه الأحاديث التي في فضائل السور : سورة سورة .
وقد ذكر هذا الحديث الزمخشري والواحدى ، وهو كذب موضوع باتفاق أهل الحديث . وكذلك غير هذا .(176/193)
وكذلك الواحدى تلميذ الثعلبى ، والبغوى اختصر تفسيره من تفسير الثعلبى والواحدى ، لكنهما أخبر بأقوال المفسرين منه ، والواحدى أعلم بالعربية من هذا وهذا ، والبغوى أتبع للسنة منهما .
وليس كون الرجل من الجمهور الذين يعتقدون خلافة الثلاثة يوجب له أن كل ما رواه صدق ، كما أن كونه من الشيعة لا يوجب أن يكون كل ما رواه كذبا ، بل الاعتبار بميزان العدل .
وقد وضع الناس أحاديث كثيرة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم : في الأصول ، والأحكام ، والزهد ، والفضائل . ووضعوا كثيرا من فضائل الخلفاء الأربعة ، وفضائل معاوية .
ومن الناس من يكون قصده رواية كل ما روى في الباب ، من غير تمييز بين صحيح وضعيف ، كما فعله أبو نعيم في فضائل الخلفاء ، وكذلك غيره ممن
صنف في الفضائل . ومثل ما جمعه أبو الفتح بن أبى الفوارس ، وأبو على الأهوازى وغيرهما من فضائل معاوية . ومثل ما جمعه النسائي في فضائل على ، وكذلك ما جمعه أبو القاسم بن عساكر في فضائل على وغيره ، فإن هؤلاء وأمثالهم قصدوا أن يرووا ما سمعوا من غير تمييز بين صحيح ذلك وضعيفه ، فلا يجوز أن يجزم بصدق الخبر بمجرد رواية الواحد من هؤلاء باتفاق أهل العلم .
وأما من يذكر الحديث بلا اسناد من المصنفين في الأصول والفقه والزهد والرقائق ، فهؤلاء يذكرون أحاديث كثيرة صحيحة ، ويذكر بعضهم أحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة ، كما يوجد ذلك في كتب الرقائق والرأي وغير ذلك . ا. هـ.
قلت : وهذا الحديث ذكره بنصه السابق عبد الحسين ، وقال بأن الإمام أحمد أخرجه في المسند ، وذكر اسناده ، ونسب للشيخ سليم البشرى موافقته على ثبوت الحديث وصحته .(176/194)
وما جاء في المسند ( 1 / 111 ) هو ما يأتي : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن عباد ابن عبد الله الأسدي ، عن على ، قال : لما نزلت هذه الآية " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ". قال : جمع النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته ، فاجتمع ثلاثون ، فأكلوا وشربوا . قال : فقال لهم : من يضمن عنى دينى ومواعيدى ، ويكون معى في الجنة ، ويكون خليفتى في أهلي ؟ فقال رجل لم يسمه شريك : يا رسول الله ، أنت كنت بحرا ، من يقوم بهذا ! قال : ثم قاله الآخر ، قال : فعرض ذلك على أهل بيته ، فقال على : أنا .( انتهى الخبر ) .
هذا هو نص المسند الذي ذكر الرافضي إسناده ، وقال : " كل واحد من سلسلة هذا المسند حجة عند الخصم ، وكلهم من رجال الصحاح بلا كلام " .
قلت : لننظر في الاسناد ثم في المتن :
أما الاسناد ففيه ما يأتي :
1- الأعمش ثقة لكنه مدلس ، ولا يقبل حديث المدلس إذا عنعن ، " .... الأعمش ( عن ) المنهال ... "
2 - المنهال هو ابن عمرو الكوفي :
وثقه ابن معين والعجلى والنسائى وقال أحمد بن حنبل : أبو بشر أحب إلى من المنهال وأوثق . وقال الحاكم : غمزه يحيى بن سعيد ، وتكلم فيه ابن حزم ، وكان يضعفه . وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سمعت أبى يقول : ترك شعبة المنهال بن عمرو على عمد .
وقال الحافظ ابن حجر في هدى الساري ( ص 446 ) :
ماله في البخاري سوى حديث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في تعويذ الحسن والحسين من رواية زيد بن أبى أنيسة عنه ، وحديث آخر في تفسير حم فصلت ، اختلف فيه الرواة هل هو موصول أو معلق . ( انظر ترجمته في تهذيب التهذيب ، وميزان الاعتدال ، وهدى الساري ص 445 : 446 ) .
3 - عباد بن عبد الله الأسدي :(176/195)
قال الرافضي : هو عباد بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشى الأسدي ، احتج به البخاري ومسلم في صحيحيهما . سمع أسماء وعائشة بنتى أبى بكر . وروى عنه في الصحيحين ابن أبى مليكة ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وهشام بن عروة .
قلت : هذا من كذب الرافضي وتضليله ! فمن ذكره الرافضي مدني ، وصاحبنا كوفي !
والاثنان مترجم لهما في صفحة واحدة في تهذيب التهذيب ، وكذلك في كتاب الجرح والتعديل ، فهما اثنان : والمدني لا خلاف حول توثيقه ، أما صاحبنا فقال ابن حجر في ترجمته في تهذيب التهذيب : عباد بن عبد الله الأسدي الكوفي . روى عن على . وعنه المنهال بن عمرو . قال البخاري : فيه نظر . وذكره ابن حبان في الثقات . قلت ( أي ابن حجر ) : وقال ابن سعد : له أحاديث . وقال على بن المديني ضعيف الحديث . وقال ابن الجوزي : ضرب ابن حنبل على حديثه عن على : أنا الصديق الأكبر ، وقال : هو منكر . وقال ابن حزم : هو مجهول . ا . هـ
ولم يترجم له ابن حجر في هدى الساري كما ترجم للمنهال وأمثاله ، لأنه ليس من رجال الصحيحين كما ذكر الرافضي ، والبخاري نفسه ضعفه حين قال : فيه نظر .
وفى ميزان الاعتدال نجد ترجمة عباد الكوفي ولا نجد ترجمة عباد المدني . قال الذهبي في الميزان :
عباد بن عبد الله الأسدي . عن على . قال البخاري : سمع منه المنهال بن عمرو . فيه نظر .
قلت ( أي الذهبي ) : روى العلاء بن صالح ، حدثنا المنهال ، عند عباد بن عبد الله ، عن على ، قال : أنا عبد الله ، وأخو رسول الله ، وأنا الصديق الأكبر ، وما قالها أحد قبلى ، ولا يقولها إلا كاذب مفتر ، ولقد أسلمت وصليت قبل الناس بسبع سنين .
قلت ( أي الذهبي ) : هذا كذب علَى علىّ .
قال ابن المديني : ضعيف الحديث . وذكره ابن حبان في الثقات ، له في خصائص على . ا . هـ .
والذهبي ذكره أيضا في كتابه المغنى في الضعفاء .(176/196)
هذه ثلاث علل في الإسناد وليست علة واحدة ، ومع كل هذه العلل ينسب للعلامة شيخ الأزهر أنه قال :
"راجعت الحديث في ص 111 من الجزء الأول من مسند أحمد ، ونقبت عن رجال سنده ، فإذا هم ثقات أثبات حجج " !
وكأن شيخ الأزهر لا يعرف شيئا عن الحديث وعلومه ورجاله !! ولا يفرق بين عباد بن عبد الله الأسدي الكوفي ، وهو من الضعفاء ، وبين عباد بن عبد الله ابن الزبير بن العوام الأسدي المدني ، وهو من الثقات !حاشا لعلامة زمانه أن يكون كذلك !
ونأتى إلى ما هو أوضح ولا يحتاج إلى عالم ليميز كلام الرافضي من حديث المسند ، بل يدركه كل من يحسن القراءة !
فنص المسند :
" ويكون خليفتى في أهلي " ، فأين الإمامة العامة هنا ؟! ونهاية الخبر " فقال على : أنا " ، وليس فيه الزيادة الباطلة المفتراة : " إن هذا أخي ووصيى وخليفتى فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا ...." فكيف تنسب هذه الزيادة للمسند ، وهو موضع الاستدلال ؟ وفى رواية أخرى في المسند أيضا :
".. يابنى عبد المطلب ، إنى بعثت لكم خاصة وإلى الناس بعامة ، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم ، فأيكم يبايعنى على أن يكون أخي وصاحبى ؟ قال : فلم يقم إليه أحد . قال ( أي على ) : فقمت إليه ، وكنت أصغر القوم ، قال : فقال : اجلس، قال : ثلاث مرات ، كل ذلك أقوم إليه فيقول لي : اجلس ، حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدى " . انتهى الخبر .
( انظر المسند بتحقيق شاكر 2 / 352 ـ رواية رقم 1371 ) وواضح من الخبر أن عليا لم يكن هو المقصود ، ولذلك أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالجلوس ، ولما لم ينفذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطر إلى زجره أو تنبيهه بالضرب على يده في المرة الثالثة .(176/197)
فكيف تتخذ مثل هذه الأخبار في هدم الإسلام ، والطعن في نقلة الكتاب والسنة ، وتكفير خير جيل عرفته البشرية لعدم أخذهم بمبدأ ابن سبأ في الوصي بعد النبي ، ومبايعتهم للصديق خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
قال الرافضي في المراجعة ( 20 ) بعد ذكر الخبر :
" أخرجه بهذه الألفاظ كثير من حفظة الآثار النبوية " وقد رأينا كذبه فيما نسبه لمسند الإمام أحمد ، وكان الكذب في الإسناد والمتن .
وأحب أن أبين طريقة أخرى من طرق الرافضي في التضليل :
ذكر الرافضي أن أبا الفداء الحافظ ابن كثير أخرج هذا الخبر بهذه الألفاظ في تاريخه . فنظرت في البداية والنهاية فوجدت الخبر مع إشارة للزيادة : " إن هذا أخي وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا " . قال ( أي على ) : فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبى طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ! ( جـ3 ص40 ) .
فأين التضليل هنا إذن ما دام الخبر يتفق مع ماذكره الرافضي ؟ التضليل ـ أيها المسلمون ـ هو أن الرافضي لم يشر من قريب أو بعيد إلى ما ذكره الحافظ ابن كثير بعد إيراده الخبر مباشرة ، حيث قال ما نصه :
" تفرد به عبد الغفار بن القاسم أبو مريم ، وهو كذاب شيعي ، اتهمه على بن المديني وغيره بوضع الحديث وضعفه الباقون ".
المراجعة الثامنة وأحاديثها
في هذه المراجعة يظهر لنا بوضوح أن عبد الحسين رافضى ، بل من أخبث الروافض ، فهو ينتهى إلى القول بضلال الأمة و كفرها بدءا بخير أمة أخرجت للناس، وخير قرن عرفته البشرية ، خير الناس الصحابة الكرام الذين بايعوا الخلفاء الراشدين الثلاثة فهم في زعم هذا الرافضي خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يجعلوا الوصي بعده مباشرة على بن أبى طالب ، وهو القول الذي اخترعه لأول مرة اليهودى عبد الله بن سبأ.(176/198)
وهذا الطعن يشمل الإمام عليا نفسه لأنه ممن بايع كما بينا من قبل ،وممن فضل الصديق والفاروق على باقي الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت بالتواتر من ثمانين طريقا .
وهذا الرافضي يضيف إلى هذا الطعن العام طعنا خاصاً ، فيصف الخلفاء الراشدين الثلاثة بأنهم " أبناء الوزغ " :
والوزغ دويبة يقال لها سام أبرص ، ويوصف بها الرجل إذا كان ضعيفا جبانا رزلا رديئا لا مروءة له .
( راجع معاجم اللغة : والمجموع المغيث في غريبى القرآن والحديث 409 ـ 410 ) لو كان هذا الرافضي في عهد الإمام على كرم الله وجهه ـ لكان موقفه منه كموقفه من ابن سبأ سواء بسواء .
ولننظر في الأحاديث التي ذكرها في هذه المراجعة لينتهى منها إلى الحكم بضلال وكفر الصحابة الكرام وخير أمة أخرجت للناس .
استند أساسا إلى حديث الثقلين ، وفيما سبق جمعت كل روايات هذا الحديث ، وبينت الصحيح منها وغير الصحيح ، وتحدثت عن فقه الحديث الصحيح وعدم صلته بالخلافة على الإطلاق . أما الروايات غير الصحيحة ، سواء أكانت ضعيفة أم موضوعة مكذوبة ، فإنها ليست حجة في شرع الله تعالى ، ويعارضها ويسقطها الصحيح الصريح من الأحاديث الشريفة .
والملاحظ أنه ترك الروايات الصحيحة ، كرواية صحيح مسلم وغيره ، وذكر الروايات الأخرى .
وأثناء الروايات جاء ذكر " من كنت مولاه فعلى مولاه " ، وقد سبق الحديث عنه . وأكثر هنا من النقل من كتاب " الصواعق المحرقة " ، ومن أجل مثل هذه النقول ستكون الوقفة الطويلة مع هذا الكتاب .
وبعد حديث الثقلين ذكر حديثين آخرين استدل بهما على ضلال وكفر خير أمة أخرجت للناس !! هكذا ظهر خليفة ابن سبأ .
فلننظر إلى هذين الحديثين
الحديث الأول :
" ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق "
وقال الرافضي : أخرجه الحاكم بالإسناد إلى أبى ذر .
وذكر رواية أخرى للحديث ، وهى :(176/199)
" إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بنى إسرائيل من دخله غفر له " .
وقال : أخرجه الطبرانى في الأوسط عن أبى سعيد .
الحديث الثانى :
" النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتى من الاختلاف ( في الدين ) ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب ( يعنى في أحكام الله عز وجل ) اختلفوا فصاروا حزب إبليس " .
وقال الرافضي: أخرجه الحاكم عن ابن عباس ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
قلت : الحديث الأول أخرجه الحاكم في المستدرك ( 3 / 151) ، وتعقبه الذهبي وبين وهى الإسناد ، والحديث الثانى في المستدرك ( 3 / 149 ) ، وصححه الحاكم كما ذكر الرافضي ، ولكنه لم يذكر تعقيب الذهبي حيث قال : بل موضوع .
والحديث الأول في إسناده المفضل بن صالح الكوفي . قال البخاري عنه : منكر الحديث ، وهذا الجرح عند البخاري يعنى أنه لا يحل الرواية عنه . وقال مثل هذا أيضا أبو حاتم ، وغيره (1)[246]) .
والحديث الثانى بين الذهبي أنه موضوع ، وأن الوضع بسبب راويين اثنين وليس راويا واحدا . وذكر الشيخ الألبانى الحديث بلفظ " أهل بيتي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم " ، وبين أنه موضوع ، وقال : وهو في نسخة أحمد بن نبيط الكذاب، وقد وقفت عليها (2)[247]). وذكره أيضا ابن عراق في كتابه " تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة : 1 / 419 " ، وقال بأنه من طريق أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط ، وترجم له من قبل في مقدمة الكتاب ( ص 25 ) ، فقال : " كذاب ، حدث عن أبيه عن جده بنسخة فيها بلايا " .
__________
(1) 249) انظر تهذيب التهذيب لابن حجر 10 / 271 ـ 272 ، والجرح والتعديل لابن أبى حاتم 8 / 316 ـ 317 ، والمغنى في الضعفاء للذهبى 2 / 320 .
(2) 250) انظر : سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1 / 84 ـ 85 .(176/200)
ومن قبل عند مناقشة روايات التمسك بالكتاب والعترة ، وهو حديث الثقلين ، أشرت إلى أن أصحاب الحديث أنكروا على الحاكم كثيرا من الأحاديث ، ولم يلتفتوا إلى تصحيحه . وذكرت قول ابن حجر في لسان الميزان عند ترجمة الحاكم : إمام صدوق ، ولكنه يصحح في مستدركه أحاديث ساقطة فيكثر من ذلك ،فما أدرى هل خفيت عليه ؟ فما هو ممن يجهل ذلك . وإن علم فهو خيانة عظيمة . ثم هو شيعي مشهور بذلك من غير تعرض للشيخين . والحاكم أجل قدرا وأعظم خطرا وأكبر ذكرا من أن يذكر في الضعفاء . ولكن قيل في الاعتذار عنه أنه عند تصنيفه للمستدرك كان في أواخر عمره . وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره ، ويدل على ذلك أنه ذكر جماعة في كتاب الضعفاء له ، وقطع بترك الرواية عنهم ، ومنع من الاحتجاج بهم ، ثم أخرج أحاديث بعضهم في مستدركه وصححها. إذن تصحيح الحاكم ليس بحجة ، مع إمامته وصدقه كما بين الحافظ ابن حجر .
ونأتى بعد هذا إلى رواية الطبرانى في الأوسط التي ذكرها الرافضي ، وبالبحث نجد أن هذه الرواية إضافة إلى ثلاث روايات أخرى أخرجها الطبرانى في المعجم الكبير : في الجزء الثالث ( ص 45 ، 46 ) ثلاث روايات :
الأولى
هي رقم 2636 ، وفى سندها الحسن بن أبى جعفر : وهو متروك ، وعلى بن زيد ابن جدعان : وهو ضعيف .
والثانية
رقم 2637 ، وفى سندها عبد الله بن داهر : وهو متروك . وعبد الله بن عبد القدوس : بينت عدم الاحتجاج به عند الحديث عن آية التطهير ، والأعمش : وهو مدلس ، وهنا عنعن .
والرواية الثالثة
رقم 2638 ، وفى سندها الحسن بن أبى جعفر الموجود في الرواية الأولى . وهو أيضا في الرواية الرابعة ، وهى في الجزء الثانى عشر ص 34 ، ورقمها 12388.
فروايات الطبرانى كلها لم تخل من المتروكين ، فكيف يحتج بمثلها ؟ ! ( انظر تخريج الروايات في المواضع المذكورة من المعجم الكبير ) بقى أن نقول بأن استدلال الرافضي بهذه الأحاديث الثلاثة ليس جديدا !(176/201)
فقد وجدنا ابن المطهر الحلى يستدل بهذه الأحاديث نفسها ، وهو الرافضي الذي رد عليه شيخ الإسلام ، وأبطل احتجاجه بهذه الأحاديث وغيرها . بل إن ابن المطهر استدل بحديث السفينة نقلا عن شيخه نصير الدين الطوسي المتوفى سنة 672 هـ (1)[248]).
والطوسى هذا هو أبو جعفر ـ أو أبو عبد الله ـ محمد بن محمد بن الحسن، ويعرف بالمحقق وبالخواجه . " اتصل بهولاكو وأصبح مقربا عنده ، وأشار عليه بقتل المستعصم وذبح المسلمين في بغداد (2)[249]).
وتحدث ابن القيم عنه فقال :" ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والكفر الملحد ، وزير الملاحدة ، النصير الطوسي وزير هولاكو ، شفا إخوانه نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه ، فعرضهم على السيف ، حتى شفا إخوانه من الملاحدة ، واشتفى هو ، فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين ، واستبقى الفلاسفة ، والمنجمين ، والطبائعيين والسحرة . ونقل أوقاف المدارس والمساجد ، والربط إليهم ، وجعلهم خاصته وأولياءه ، ونصر في كتبه قدم العالم ، وبطلان الميعاد ، وإنكار صفات الرب جل جلاله : من علمه ، وقدرته ، وحياته ، وسمعه وبصره ، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه ، وليس فوق العرش إله يعبد ألبتة ، واتخذ للملاحدة مدارس " (3)[250]) ثم قال :
" وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله ، وملائكته، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر " (4)[251]) .
وقال أيضا :
__________
(1) 248]) انظر الأحاديث الثلاثة ورد شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية : 3 / 444 ، 7 / 142، 7 / 395 ، وما بعد الصفحات المذكورة .
(2) 249]) مقدمة منهاج السنة للدكتور محمد رشاد سالم1 / 95،وانظر قول ابن تيمية في7 / 414 .
(3) 253) ، (254) إغاثة اللهفان ، ص 601 .(176/202)
" وكان هؤلاء زنادقة ، يتسترون بالرفض، ويبطنون الإلحاد المحض ، وينتسبون إلى أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم . وهو وأهل بيته براء منهم نسبا ودينا ، وكانوا يقتلون أهل العلم والإيمان ويدعون أهل الإلحاد والشرك والكفران ، لا يحرمون حراما ، ولا يحلون حلالا (1)[252]) .
وهذا الملحد يلقبه أهل السنة بشيطان الطاق ، ولكن الرافضة يطلقون عليه مؤمن الطاق ! والرافضى في مراجعاته يلقبه بمؤمن الطاق (2)[253]) ، ولا عجب ، فهدفهما واحد . ووجدنا من الرافضة من يعتبر مجدد المائة السابعة الخواجه نصير الدين الطوسي كما صرح شهاب الدين الحسينى المرعشى النجفي في كتابه غاية الآمال ( ص : خ ) الذي جعله مقدمة لكتاب بهجة الآمال لرافضى مثله !!
المراجعة التاسعة
وجرأة الرافضي على الكذب والافتراء
مرت المراجعة الثامنة بما فيها من البلايا والرزايا ، وتكفير خير أمة أخرجت للناس ، وسب الخلفاء الراشدين الثلاثة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأثبتت المراجعة أن صاحبها ليس رافضيا فقط بل من أخبث الروافض أتباع عبد الله بن سبأ .
وتأتى المراجعة التاسعة لتثبت من جديد قول الإمام الشافعى : " ما من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة " . ولتبين أن هذا الرافضي من أكثرهم جرأة على الكذب والافتراء . لو أن شيخ الأزهر والمالكية عرض عليه المراجعة الثامنة لعاقب هذا الرافضي عقوبة تتناسب مع جريرته وجريمته .
ووضوح الكذب بجلاء في المراجعة كلها من بدايتها إلى نهايتها :
فكيف يرحب الشيخ البشرى بتكفير الصحابة وسب الخلفاء الراشدين الثلاثة ، ويطلب المزيد بقوله : أطلق عنان القلم .... ؟ !
يصف ما سبق بأنه من جوامع الكلم ، ونوابغ الحكم ، وضوال الحكمة ؟!
__________
(1) 255) المرجع السابق ، ص 600 .
(2) 253] انظر المراجعة 110 ، ص 342 .(176/203)
والشيخ بمكانته وعلمه وقد بلغ الثانية والثمانين من عمره قبيل وفاته ببضع سنوات لم يستحى هذا الرافضي أن ينسب له منكرا من القول وزورا : " وأنا في أخذ العلم عنك على جمام من نفسى و ..... إلخ " ؟! .........." فزدنى منه لله أبوك زدنى " ؟!
والعلم هنا من كتب أهل السنة والجماعة وليس من كتب الروافض ! فبعد الثمانين جاء رافضى يعلمه ما في كتبنا !!
والأحاديث التي بينا ما فيها ينسب الرافضي للعالم العلامة أنه رحب بها ، وطلب المزيد منها ، ووصفها بأنها أدلة وبينات !! إن الطالب الذي حصل شيئا من العلم يستطيع الرجوع إلى منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، والصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمى ، ليبين بطلان وضلال ما جاء في المراجعة الثامنة.
لكن هذا الرافضي الطريد أراد ـ دون خجل أو استحياء ـ أن يجعل شيخ الأزهر العالم الثبت تلميذا صغيرا جاهلا يتلقى العلم لأول مرة على يديه !
المراجعة العاشرة و أحاديثها
بعد أن جعل المراجعة السابقة تأييدا لباطله ، بل إعجابا بهذا الباطل ، ونسب للشيخ البشرى أنه طلب المزيد من النصوص دون أن يعترض على نص واحد ، أو يشير إلى ضعفه فضلا عن وضعه ، كما لم يعترض على تكفير الصحابة وخير أمة أخرجت للناس ، وسب الخلفاء الراشدين الثلاثة ، وغير ذلك من البلايا والرزايا ، بعد هذا تأتى المراجعة العاشرة بمزيد من الأحاديث الموضوعة المكذوبة ، وكل الأحاديث بلا استثناء أخذت من مراجع يعلم من له أدنى دراية بالحديث وعلومه أنها مراجع لا يكفى نسبة الأحاديث إليها لتكون حجة في الفروع ، فكيف إذا كان يستدل بها على عقيدة الرافضي ، والحكم على الأمة كلها بالضلال ؟! وإذا كان الباحث عادة يبدأ بأقوى الأدلة في نظره ، فإن هذا يعنى أنه يرى أن أحاديث المراجعة الثامنة أقوى من أحاديث هذه المراجعة. فإذا لم يثبت هناك أي حديث فمن باب أولى ألا يثبت هنا حديث واحد .(176/204)
ولننظر في الأحاديث الثلاثة التي بدأ بها مراجعته ، أي أقوى الأحاديث في نظره .
وقد أغنانا عن البيان الشيخ الألبانى حيث ذكر هذه الأحاديث في الجزء الثانى من سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وبين أنها موضوعة وليست ضعيفة فقط، وأشار إلى هذا الرافضي ، ومنهجه في كتابه المراجعات .
ولذلك فإننى أنقل كلامه هنا تاما غير منقوص ، وأرقامها في كتابه هي : 892 ، 893 ، 894 .
وهذه هي الأحاديث بأرقامها في الكتاب
892 ( من أحب أن يحيا حياتى ، ويموت موتتى ، ويسكن جنة الخلد التي وعدنى ربى عزوجل ، غرس قضبانها بيديه ، فليتول على بن أبى طالب ، فإنه لن يخرجكم من هدى ، ولن يدخلكم في ضلالة ) .
موضوع : رواه أبو نعيم في " الحلية " ( 4 / 349 ـ 350 ) والحاكم ( 3 / 128 ) وكذا الطبرانى في " الكبير " وابن شاهين في " شرح السنة " ( 18 / 65 / 2 ) من طرق عن يحيى بن يعلى الأسلمى قال : ثنا عمر بن رزيق عن أبى إسحاق عن زياد بن مطرف عن زيد بن أرقم ـ زاد الطبرانى : وربما لم يذكر زيد بن أرقم ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذكره . وقال أبو نعيم: " غريب من حديث أبى إسحاق ، تفرد به يحيى " .
قلت : وهو شيعي ضعيف ، قال ابن معين : " ليس بشئ " . وقال البخاري : " مضطرب الحديث " . وقال ابن أبى حاتم ( 4 / 2 / 196 ) عن أبيه : " ليس بالقوى ، ضعيف الحديث " .
والحديث قال الهيثمى في " المجمع" ( 9 / 108 ): " رواه الطبرانى ، وفيه يحيى بن يعلى الأسلمى ، وهو ضعيف " .
" قلت : وأما الحاكم فقال : صحيح الإسناد " ! فرده الذهبي بقوله : " قلت : أنى له الصحة والقاسم متروك . وشيخه ( يعنى الأسلمى ) ضعيف . واللفظ ركيك ، فهو إلى الوضع أقرب " .
وأقول : القاسم ـ وهو ابن شيبة ـ لم يتفرد به ، بل تابعه راويان آخران عند أبى نعيم ، فالحمل فيه على الأسلمى وحده دونه .
نعم للحديث عندي علتان أخريان :(176/205)
الأولى : أبو إسحاق ، وهو السبيعى فقد كان اختلط مع تدليسه ، وقد عنعنه .
الأخرى : الاضطراب في إسناده منه أو من الأسلمى ، فإنه يجعله تارة من مسند زيد بن أرقم ، وتارة من مسند زياد بن مطرف ، وقد رواه عنه مطين والباوردى وابن جرير وابن شاهين في " الصحابة " كما ذكر الحافظ بن حجر في " الإصابة " وقال :" قال ابن منده : " لا يصح " : قلت : في إسناده يحيى بن يعلى المحاربى . وهو واه " .
قلت : و قوله " المحاربى " سبق قلم منه . وإنما هو الأسلمى كما سبق ويأتى .
( تنبيه ) لقد كان الباعث على تخريج هذا الحديث ونقده . والكشف عن علته. أسباب عدة ، منها أنني رأيت الشيخ المدعو بعبد الحسين الموسوي الشيعي قد خرج الحديث في ( مراجعاته ) ( ص 27 ) تخريجا أوهم به القراء أنه صحيح كعادته في أمثاله . واستغل في سبيل ذلك خطأ قلميا وقع للحافظ ابن حجر رحمه الله . فبادرت إلى الكشف عن إسناده ، وبيان ضعفه ، ثم الرد على الإيهام المشار إليه ، وكان ذلك منه على وجهين . فأنا أذكرهما ، معقبا على كل منهما ببيان ما فيه فأقول :
الأول : أنه سابق الحديث من رواية مطين و من ذكرنا معه نقلا عن الحافظ من رواية زياد بن مطرف ، وصدره برقم ( 38 ) . ثم قال :
" ومثله حديث زيد بن أرقم .... " فذكره، و رقم له بـ ( 39 ). ثم علق عليهما مبينا مصادر كل منهما ، فأوهم بذلك أنهما حديثان متغايران إسنادا ! والحقيقة خلاف ذلك ، فإن كل منهما مدار إسناده على الأسلمى ، كما سبق بيانه غاية ما في الأمر أن الراوى كان يرويه تارة عن زياد بن مطرف عن زيد بن أرقم ، وتارة لا يذكر فيه زيد بن أرقم ويوقفه على زياد بن مطرف ، وهو مما يؤكد ضعف الحديث لاضطرابه في إسناده كما سبق .(176/206)
والآخر : أنه حكى تصحيح الحاكم للحديث دون أن يتبعه بيان علته ، أو على الأقل دون أن ينقل كلام الذهبي في نقده . وزاد في إيهام صحته أنه نقل عن الحافظ قوله في " الإصابة " . " قلت في إسناده يحيى بن يعلى المحاربى وهو واه " .
فتعقبه عبد الحسين ( ! ) بقوله : " أقول : هذا غريب من مثل العسقلانى ، فإن يحيى بن يعلى المحاربى ثقة بالاتفاق ، وقد أخرج له البخاري ... ومسلم .... " .
فأقول : أغرب من هذا الغريب أن يدير عبد الحسين كلامه في توهيمه الحافظ في توهينه للمحاربى ، وهو يعلم أن المقصود بهذا التوهين إنما هو الأسلمى وليس المحاربى ، لأن هذا مع كونه من رجال الشيخين ، فقد وثقه الحافظ نفسه في " التقريب " وفى الوقت نفسه ضعف الأسلمى ، فقد قال في الترجمة الأولى :
" يحيى بن يعلى بن الحارث المحاربى الكوفي ثقة ، من صغار التاسعة مات سنة ست عشرة " . وقال بعده بترجمة :
" يحيى بن يعلى الأسلمى الكوفي شيعي ضعيف ، من التاسعة " .
وكيف يعقل أن يقصد الحافظ تضعيف المحاربى المذكور وهو متفق على توثيقه ، ومن رجال " صحيح البخاري " الذي استمر الحافظ في خدمته وشرحه وترجمة رجاله قرابة ربع قرن من الزمان ؟! كل ما في الأمر أن الحافظ في " الإصابة " أراد أن يقول : " …. الأسلمى وهو واه " فقال واهما : " المحاربى وهو واه " .
فاستغل الشيعي هذا الوهم أسوأ الاستغلال . فبدل أن ينبه أن الوهم ليس في التوهين . وإنما في كتب " المحاربى " مكان الأسلمى . أخذ يوهم القراء عكس ذلك وهو أن راوى الحديث إنما هو المحاربى الثقة وليس الأسلمى الواهى ! فهل في صنيعه هذا ما يؤيد من زكاه في ترجمته في أول الكتاب بقوله:
" ومؤلفاته كلها تمتاز بدقة الملاحظة .. و أمانة النقل " .(176/207)
أين أمانة النقل يا هذا وهو ينقل الحديث من " المستدرك " وهو يرى فيه يحيى ابن يعلى موصوفا بأنه " الأسلمى " فيتجاهل ذلك ، ويستغل خطأ الحافظ ليوهم القراء أنه المحاربى الثقة . وأين أمانته أيضا وهو لا ينقل نقد الذهبي والهيثمى للحديث بالأسلمى هذا ؟! فضلا عن أن الذهبي أعله لمن هو أشد ضعفا من هذا كما رأيت ، ولذلك ضعفه السيوطى في " الجامع الكبير " على قلة عنايته فيه بالتضعيف فقال : " وهو واه " .
وكذلك وقع في " كنز العمال " رقم ( 2578 ) ، ومنه نقل الشيعي الحديث دون أن ينقل تضعيفه هذا مع الحديث ، فأين الأمانه المزعومه أين ؟!
( تنبيه ) أورد الحافظ ابن حجر الحديث في ترجمة زياد بن مطرف في القسم الأول من " الصحابة " وهذا القسم خاص كما قال في مقدمته ، " فيمن وردت صحبته بطريق الروايه عنه أو عن غيره ، سواء كانت الطريق صحيحة أو حسنة أو ضعيفة ، أو وقع ذكره بما يدل على الصحبة بأي طريق كان ، وقد كنت أولا رتبت هذا القسم الواحد على ثلاثة أقسام ، ثم بدا لي أن أجعله قسما واحدا ، وأميز ذلك في كل ترجمة " .
قلت : فلا يستفاد إذن من إيراد الحافظ للصحابى في هذا القسم أن صحبتة ثابتة ، ما دام أنه قد نص على ضعف إسناد الحديث الذي صرح فيه بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو هذا الحديث ، ثم لم يتبعه بما يدل على ثبوت صحبته من طريق أخرى ، وهذا ما أفصح بنفيه الذهبي في " التجريد " بقوله : ( 1 / 199 ) : " زياد بن مطرف ، ذكره مطين في الصحابة ، ولم يصح " .
وإذا عرفت هذا فهو بأن يذكر في المجهولين من التابعين أولى من أن يذكر في الصحابة المكرمين وعليه فهو علة ثالثة في الحديث .
ومع هذه العلل كلها في الحديث يريدنا الشيعي أن نؤمن بصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير عابئ بقوله صلى الله عليه وسلم : " من حدث عنى بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " . رواه مسلم في مقدمة " صحيحة " فالله المستعان .(176/208)
وكتاب " المراجعات " للشيعى المذكور محشو بالأحاديث الضعيفة والموضوعة في فضل على رضي الله عنه ، مع كثير من الجهل بهذا العلم الشريف، والتدليس على القراء والتضليل عن الحق الواقع . بل والكذب الصريح. مما لا يكاد القارئى الكريم يخطر في باله أن أحدا من المؤلفين يحترم نفسه يقع في مثله . من أجل ذلك قويت الهمة في تخريج تلك الأحاديث ـ على كثرتها ـ وبيان عللها وضعفها . مع الكشف عما في كلامه عليها من التدليس والتضليل . وذلك ما سيأتي بإذن الله تعالى برقم ( 4881 ـ 4975 ) .
893 ( من سره أن يحيا حياتى ، ويموت ميتتى ، ويتمسك بالقصبة الياقوتة التي خلقها الله بيده ، ثم قال لها " كونى فكانت " فليتول على بن أبى طالب من بعدى).
موضوع : رواه أبو نعيم ( 1 / 86 و 4 / 174 ) من طريق محمد بن زكريا الغلابى : ثنا بشر بن مهران : ثنا شريك عن الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة مرفوعا . وقال : " تفرد به بشر عن شريك "
قلت : هو ابن عبد الله القاضى وهو ضعيف لسوء حفظه .
وبشر بن مهران قال ابن أبى حاتم : " ترك أبى حديثه " . قال الذهبي : " قد روى عنه محمد بن زكريا الغلابى ، لكن الغلابى متهم " . قلت : ثم ساق هذا الحديث . والغلابى قال فيه الدارقطنى : " يضع الحديث " . فهو آفته .
والحديث أورده ابن الجوزي في " الموضوعات"( 1 / 387 ) من طرق أخرى ، وأقره السيوطى في " اللآلئ " ( 1 / 368 ـ 369 ) ، وزاد عليه طريقين آخرين أعلهما ، هذا أحدهما وقال : " الغلابى متهم " .
وقد روى بلفظ أتم منه ، وهو :
894 " من سره أن يحيا حياتى ، ويموت مماتى ، ويسكن جنة عدن غرسها ربى فليوال عليا من بعدى ، وليوال وليه ، وليقتد بالأئمة من بعدى . فإنهم عترتى ، خلقوا من طينتى ، رزقوا فهما وعلما ، وويل للمكذبين بفضلهم من أمتى ، القاطعين فيهم صلتى ، لا أنالهم الله شفاعتى " .(176/209)
موضوع : أخرجه أبو نعيم ( 1 / 86 ) من طريق محمد بن جعفر بن عبد الرحيم : ثنا أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم : ثنا عبد الرحمن بن عمران ابن أبى ليلى ـ أخو محمد بن عمران ـ : ثنا يعقوب بن موسى الهاشمى عن ابن أبى رواد عن إسماعيل بن أمية عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا . وقال:
" وهو غريب " .
قلت : وهذا إسناد مظلم ، كل من دون ابن أبى رواد مجهولون . لم أجد ذكرهم . غير أنه يترجح عندي أن أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم إنما هو ابن مسلم الأنصارى الأطرابلسى المعروف بابن أبى الحناجر ، قال ابن أبى حاتم ( 1 / 1 / 73 ) : " كتبنا عنه وهو صدوق " . وله ترجمة في " تاريخ ابن عساكر" (2 / ق 113 ـ 114 / 1 ) .
وأما سائرهم فلم أعرفهم ، فأحدهم هو الذي اختلق هذا الحديث الظاهر البطلان والتركيب ، وفضل على رضي الله عنه أشهر من أن يستدل عليه بمثل هذه الموضوعات ، التي يتشبث الشيعه بها ، ويسودون كتبهم بالعشرات من أمثالها مجادلين بها في إثبات حقيقة لم يبق اليوم أحد يجحدها ، وهى فضيلة على رضي الله عنه .
ثم الحديث عزاه في " الجامع الكبير " ( 2 / 253 / 1 ) للرافعى أيضا عن ابن عباس ، ثم رأيت ابن عساكر أخرجه في " تاريخ دمشق " ( 12 / 120 / 2 ) من طريق أبى نعيم ثم قال عقبه :
" هذا حديث منكر ، وفيه غير واحد من المجهولين " .
قلت : وكيف لا يكون منكرا ، وفى مثل ذاك الدعاء ! " لا أنالهم الله شفاعتى " الذي لا يعهد مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يتناسب مع خلقه صلى الله عليه وسلم ورأفته ورحمته بأمته ؟
وهذا الحديث من الأحاديث التي أوردها صاحب " المراجعات " عبد الحسين الموسوي نقلا عن كنز العمال ( 6 / 155 و 217 ـ 218 ) موهما أنه في مسند الإمام أحمد ، معرضا عن تضعيف صاحب الكنز إياه تبعا للسيوطى …... .(176/210)
وكم في هذا الكتاب " المراجعات " من أحاديث موضوعات ، يحاول الشيعي أن يوهم القراء صحتها وهو في ذلك لا يكاد يراعى قواعد علم الحديث حتى التي هي على مذهبهم إذ ليست الغاية عنده التثبت مما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في فضل على رضي الله عنه ، بل حشر كل ما روى فيه ! وعلى رضي الله عنه كغيره من الخلفاء الراشدين والصحابة الكاملين أسمي مقاما من أن يمدحوا بما لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولو أن أهل السنة والشيعة اتفقوا على وضع قواعد في " مصطلح الحديث " يكون التحاكم إليها عند الاختلاف في مفردات الروايات ، ثم اعتمدوا جميعا على ما صح منها ، لو أنهم فعلوا ذلك لكان هناك أمل في التقارب والتفاهم فهيهات هيهات أن يمكن التقارب والتفاهم معهم . بل كل محاولة في سبيل ذلك فاشلة . والله المستعان .
انتهى كلام الشيخ العلامة ، حفظه الله تعالى ونفعنا بعلمه .
هذه هي الأحاديث الثلاثة التي بدأ بها مراجعته ، وكلها موضوعة مكذوبة ، وما يأتي بعدها ليس بأحسن حالاً منها ، وعددها ثلاثة عشر ، وبالنظر إلى مراجعه التي جمع منها هذه الأحاديث نجد الآتى :
خمسة أحاديث من كتاب الصواعق المحرقة ، وابن حجر الهيثمى أثبت بطلان عقيدة الرافضة ، ولهذا ألف كتابه الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة . وقد بين في كتابه عدم صحة ما يستدلون به ، وأنه معارض بالمتواتر والصحيح . والرافضى ينقل غير الصحيح الذي يؤيد باطله ، متجاهلا ما يعارضه . ولذلك سأقف وقفة طويلة تغنينا عن الرجوع لما ينقل من كتاب الصواعق .
ونقل ثلاثة أحاديث من كنز العمال لم يصح منها شيء .
وباقى مراجعه هي : إسعاف الراغبين ، والشرف المؤبد ، والشفا ، وإحياء الميت ، والأربعين للنبهانى ، وتفسير الثعلبى ، وتفسير الزمخشري . وأخذ الأحاديث من هذه المراجع يدل على جهل أو تجاهل الرافضي للحديث وعلومه ، والمنهج العلمى في الاستدلال بالسنة المطهرة .(176/211)
فهذه الكتب كلها ليست من الكتب المعتمدة للسنن والآثار ، فضلا عن أن تكون من الصحاح . بل إن هذه الكتب يكثر فيها الأخبار الباطلة مثل هذه الأخبار المنقولة .
*****
باب مدينة العلم
من الأحاديث التي استدل الرافضيان " أنا مدينة العلم وعلى بابها " ، وأثبت هنا رد شيخ الإسلام على ابن المطهر .
قال رحمه الله تعالى :
وحديث : " أنا مدينة العلم وعلى بابها " أضعف وأوهى ، ولهذا إنما يعدّ في الموضوعات ، وإن رواه الترمذي ، وذكره ابن الجوزي وبيّن أن سائر طرقه موضوعة ، والكذب يعرف من نفس متنه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مدينة العلم ، ولم يكن لها إلا باب واحد ، ولم يُبلّغ عنه العلم إلا واحد ، فَسَدَ أمر الإسلام ، ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحدا ، بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر ، الذي يحصل العلم بخبرهم للغائب .
وخبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن ، وتلك قد تكون منتفية أو خفية عن أكثر الناس ، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة .
وإذا قالوا : ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخبره .
قيل لهم : فلابد من العلم بعصمته أولا . وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن يعلم عصمته ، فإنه دَوْر ، ولا تثبت بالإجماع ، فإنه لا إجماع فيها . وعند الإمامية إنما يكون الإجماع حجة ، لأن فيهم الإمام المعصوم ، فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه ، فعُلم أن عصمته لو كانت حقا لابد أن تعلم بطريق آخر غير خبره .
فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلا هو ، لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين ، فعلم أن هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل ظنه مدحا ، وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام ، إذ لم يبلغه إلا واحد .(176/212)
ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر ؛ فإن جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير على . أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهما ظاهر ، وكذلك الشام والبصرة ؛ فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن على إلا شيئا قليلا ، وإنما كان غالب علمه في الكوفة ، ومع هذا فأهل الكوفة كانوا يعلمون القرآن والسنة قبل أن يتولى عثمان ، فضلا عن علىّ .
وفقهاء أهل المدينة تعلموا الدين في خلافة عمر ، وتعليم معاذ لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من على . ولهذا روى أهل اليمن عن مُعاذ بن جبل أكثر مما رووا عن على ، وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على معاذ بن جبل . ولما قدم على الكوفة كان شريح فيها قاضيا . وهو وعبيدة السلمانى تفقها على غيره، فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم على الكوفة .
وقال ابن حزم : " واحتج من احتج من الرافضة بأن عليا كان أكثرهم علما ". قال : " وهذا كذب ، وإنما يعرف علم الصحابى بأحد وجهين لا ثالث لهما : أحدهما: كثرة روايته وفتاويه . والثانى : كثرة استعمال النبي صلى الله عليه وسلم له . فمن المحال الباطل أن يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم من لا علم له . وهذه أكبر شهادة على العلم وسعته ، فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى أبا بكر الصلاة بحضرته طول علته ، وجميع أكابر الصحابة حضور ، فعمر وعلى وابن مسعود وأبى وغيرهم ، فهذا بخلاف استخلافه عليا إذا غزا ، لأن ذلك على النساء وذوى الأعذار فقط ، فوجد ضرورة أن يكون أبو بكر أعلم الناس بالصلاة وشرائعها ، وأعلم المذكورين بها ، وهى عمود الإسلام . ووجدناه أيضا قد استعمله على الصدقات ، فوجب ضرورة أن يكون عنده من علم الصدقات كالذى عند غيره من علماء الصحابة ، لا أقل ، وربما كان أكثر ، إذ قد استعمل غيره ، وهو لا يستعمل إلا عالما بما استعمله فيه ، والزكاة ركن من أركان الدين بعد الصلاة .(176/213)
وبرهان ما قلناه من تمام علم أبى بكر بالصدقات أن الأخبار الواردة في الزكاة أصحها ، والذى يلزم العمل به ولا يجوز خلافه فهو حديث أبى بكر ، ثم الذي من طريق عمر . وأما من طريق على فمضطرب ، وفيه ما قد تركه الفقهاء جملة ، وهو أن في خمس وعشرين من الإبل خمسا من الشياه .
وأيضا فوجدناه صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج ، فصح ضرورة أنه أعلم من جميع الصحابة بالحج . وهذه دعائم الإسلام .
ثم وجدناه قد استعمله على البعوث ، فصح أن عنده من أحكام الجهاد مثل ما عند سائر من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على البعوث ، إذ لا يستعمل إلا عالما بالعمل ، فعند أبى بكر من علم الجهاد كالذى عند على وسائر أمراء البعوث لا أقل .
وإذا صح التقدم لأبى بكر علَى علىّ وغيره في العلم بالصلاة والزكاة والحج ، وساواه في الجهاد ، فهذه عمدة للعلم .
ثم وجدناه صلى الله عليه وسلم قد ألزم نفسه في جلوسه ومسامرته وظعنه وإقامته أبا بكر ، فشاهد أحكامه وفتاويه أكثر من مشاهدة على لها ، فصح ضرورة أنه أعلم بها ، فهل بقيت من العلم بقية إلا وأبو بكر المقدم فيها الذي لا يلحق ؟ أو المشارك الذي لا يسبق ؟ فبطلت دعواهم في العلم ، والحمد لله رب العالمين .(176/214)
وأما الرواية والفتيا ، فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يعش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سنتين وستة أشهر ، ولم يفارق المدينة إلا حاجا أو معتمرا ، ولم يحتج الناس إلى ما عنده من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن كل من حواليه أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك كله فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث واثنين وأربعين حديثا مسندة ، ولم يرو عن على إلا خمسمائة وستة وثمانون حديثا مسندة ، يصح منها نحو خمسين حديثا . وقد عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أزيد من ثلاثين سنة ، فكثر لقاء الناس إياه وحاجتهم إلى ما عنده ، لذهاب جمهور الصحابة ، وكثر سماع أهل الآفاق ، منه مرة بصفين ، وأعواما بالكوفة ، ومرة بالبصرة ، ومرة بالمدينة ، فإذا نسبنا مدة أبى بكر من حياته ، وأضفنا تفرى على البلاد بلدا بلدا ، وكثرة سماع الناس منه ، إلى لزوم أبى بكر موطنه ، وأنه لم تكثر حاجة من حواليه إلى الرواية عنه ، ثم نسبنا عدد حديثه من عدد حديثه ، وفتاويه من فتاويه ، علم كل ذى حظ من علم أن الذي عند أبى بكر من العلم أضعاف ما كان عند على منه .
وبرهان ذلك أن مَنْ عُمّر من الصحابة عُمرا قليلا قلّ النقل عنه ، ومن طال عمره منهم كثر النقل عنه إلا اليسير ممن اكتفى بنيابة غيره عنه في تعليم الناس . وقد عاش على بعد عمر سبعة عشر عاما غير أشهر ، ومسند عمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثا ، يصح منها نحو خمسين ، كالذى عن على سواء ، فكل ما زاد حديث علىّ علَى حديث عمر تسعة و أربعون حديثا في هذه المدة ، ولم يزد عليه في الصحيح إلا حديث أو حديثان .(176/215)
وفتاوى عمر موازية لفتاوى على في أبواب الفقه ، فإذا نسبنا مدة من مدة ، وضربا في البلاد من ضرب فيها ، وأضفنا حديثا إلى حديث ، وفتاوى إلى فتاوى ، علم كل ذى حس علما ضروريا أن الذي كان عند عمر من العلم أضعاف ما كان عند على ، ووجدنا مسند عائشة ألفى مسند ومائتى مسند وعشرة مسانيد ، وحديث أبى هريرة خمسة آلاف مسند ، وثلثمائة مسند ، وأربعة وسبعون مسندا ، ووجدنا مسند ابن عمر وأنس قريبا من مسند عائشة لكل واحد منهما ، ووجدنا مسند جابر وابن عباس لكل واحد منهما ، أزيد من ألف وخمسمائة ، ووجدنا لابن مسعود ثمانمائة مسند ونيفا ، ولكل من ذكرنا ـ حاشا أبى هريرة وأنس ـ من الفتاوى أكثر من فتاوى على أو نحوها ، فبطل قول هذا الجاهل " .
إلى أن قال : " فإن قالوا : قد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم عليا على الأخماس وعلى القضاء باليمن ؟ قلنا : نعم ، لكن مشاهدة أبى بكر لأقضية النبي صلى الله عليه وسلم أقوى في العلم وأثبت مما عند على وهو باليمن ، وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على بعوث فيها الأخماس ، فقد ساوى علمه علم على في حكمها بلا شك ، إذ لا يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم إلا عالما بما يستعمله عليه ، وقد صح أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يفتيان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم ذلك ، ومحال أن يبيح لهما ذلك إلا وهما أعلم من غيرهما ، وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا على القضاء باليمن مع على معاذا وأبا موسى الأشعرى ، فلعلىّ في هذا شركاء كثير ، منهم أبو بكر وعمر ، ثم انفرد أبو بكر بالجمهور والأغلب من العلم " .
نظرة في الكتب التي ينقل منها الرافضيان(176/216)
أشار شيخ الإسلام الى بعض الكتب التي نقل منها الرافضي ابن المطهر الحلى ، وبين خطأ منهجه في النقل . وعبد الحسين كسلفه الرافضي نقل من تلك الكتب بالمنهج الخاطئ هو نفسه ، غير أنه في مراجعاته نقل نقولا كثيرة من كتابين هما : نهج البلاغة ، والصواعق المحرقة ، مما يستدعى أن نقف وقفة أمام كل منهما لنرى القيمة العلمية لما ينقل من نهج البلاغة ، ومنهج التضليل والتلبيس في النقل من الصواعق : وتكفينا وقفة قصيرة بالنسبة للكتاب الأول ، أما الثانى فيحتاج إلى وقفة طويلة تفضح هذا الرافضي وأمثاله .
أولا : نهج البلاغة
كتاب نهج البلاغة كتاب بغير إسناد ، فسواء أكان من تأليف وجمع الشريف الرضى المتوفى سنة 406 هـ ، أم أخيه الشريف المرتضى المتوفى سنة 436 هـ ، فليس متصل الإسناد إلى الإمام على ـ رضي الله عنه ـ بل كان التأليف والجمع بعد ما يقرب من أربعة قرون ، وكما قال عبد الله بن المبارك وابن سيرين وغيرهما : " لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء " .
وروى الإمام الحاكم بسنده عند عبد الله بن المبارك قال : " الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء "، ثم قال بعد هذا ـ وهو شيعي لكنه غير رافضى : " فلولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له ، وكثرة مواظبتهم على حفظه ، لدرس منار الإسلام ، ولتمكن أهل الإلحاد والبدع فيه بوضع الأحاديث ، وقلب الأسانيد ، فإن الأخبار إذا تعرت عن وجود الأسانيد فيها كانت بترا " .
وروى أن ابن أبى فروة ذكر أحاديث بغير إسناد فقال له الزهرى : " قاتلك الله يا بن أبى فروة ، ما أجرأك على الله ! لا تسند حديثك ؟ تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة " ! .
( انظر كتابه معرفة علوم الحديث ص 6 ) .
فكتاب نهج البلاغة إذا بغير خطم ولا أزمة ، ولا وزن له من الناحية العلمية . وفى ضوء المنهج العلمى لا يعتبر حجة في أي فرع من فروع الشريعة فضلا عن أصول العقيدة .(176/217)
وإذا ثبت أن هذا الكتاب للشريف الرضى ـ كما سيأتي ـ فإن هذا الشاعر رافضى جلد لا يحتج بروايته كما هو معلوم من ترجمته ، وهذا يعنى أن نهج البلاغة لو كان مسندا عن طريقه فلا يجوز الإحتجاج بما جاء فيه . فلو كان مسندا فليس بحجة ، فما بالك إذا خلا تماما عن الإسناد ؟ !
وفى عام 1406 هـ ( 1986 م ) ظهرت طبعة جديدة للكتاب ، وجاء تحت العنوان ما يأتي :
نسخة جديدة محققة وموثقة ، تحوى ما ثبت نسبته للإمام على رضي الله عنه وكرم الله وجهه من خطب ورسائل وحكم . تحقيق وتوثيق دكتور صبرى إبراهيم السيد ، تقديم العلامة المحقق الأستاذ عبد السلام محمد هارون .
فلننظر في هذه النسخة لنرى ماذا قال أستاذنا رحمه الله في تقديمه ، ولنرى نتيجة التحقيق والتوثيق . قال أستاذنا في التقديم :
إنها قضية ذات كتاب : أو كتاب ذو قضية . فكتابنا هذا " نهج البلاغة "يعد في طليعة أمهات كتب الأدب العربى . ولا تكاد مكتبة أديب حفى بالتراث العربى تخلو من الظفربه أو اقتنائه .
وكنا إلى الأمس القريب في ريبتين اثنتين منه : أولاهما : من هو صانع هذا الكتاب ؟ أهو الشريف الرضى ، أم هو أخوه المرتضى ؟ والأخرى : مدى صحة هذا الحشد الهائل من الخطب والرسائل والحكم ، أو بعبارة أدق : ما مدى توثيق هذا الكم الضخم ونسبته إلى الإمام على كرم الله وجهه ؟ من ذا الذي يقضى في هذه المسائل ؟ فإن كثيرين من علماء القرن السادس الهجرى يزعمون أن معظم هذه النصوص لا يصح إسناده إلى الخليفة الإمام ، وإنما هو من صناعة قوم من فصحاء الشيعة ، صنعوه ليزيدوا الناس يقينا بما عرفوه من فصاحة الإمام واقتداره، مع أن فصاحة وبلاغة وسمو بيانه لا تحتاج إلى دليل ، أو تفتقر إلى برهان ، وزعموا أيضا أن الشريف الرضى أو غيره من الشيعة نظموا أنفسهم في سلك هؤلاء الأقوام .(176/218)
وقالوا : إنه مما يحير هذا الشك ويقويه ، ما اشتمل عليه هذا الكتاب من تعريض بالصحابة في غير ما موضع : وإن السجع والصناعة اللفظية تظهر في كثير من جوانبه على خلاف المعهود في نتاج هذا العصر النبوي .
قالوا : إن فيه من دقة الوصف ، وغرابة التصوير ما لم يكن معروفا في آثار الصدر الأول الإسلامي ، كما أنه يطوى في جنباته كثيرا من المصطلحات التي لم يتداولها الناس بعد أن شاعت علوم الحكمة ، كالأين والكيف ، إلى ما فيه من لغات علم الكلام وأبحاث الرؤية الإلهية ، والعد ، وكلام الخالق ، ومالم يكن معهودا كذلك من التقسيمات الرياضية ذات النظام .
وقالوا : إن الكتاب مشتمل على ادعاء المعرفة بالغيبيات ، وهو الأمر الذي يجل قدر الإمام على بن أبى طالب وإيمانه الصريح الخالص عن التلبس له أو اصطناعه .
وأن في الكتاب تكرارا للمقاطع بالتطويل تارة ، وبالإيجاز أخرى ، وأن كثيرا من نصوصه لم يظهر فيما أثر من كتب الأدب والتاريخ التي صنعت قبل الشريف الرضى أو أخيه ، وأن فيه تطويلا يتجاوز حد الغلو في بعض نصوصه ، كعهده إلى الأشتر النخعى . دع عنك ما يسرى فيه من مظاهر التشيع المذهبى ، والتعصب الشيعي التي يعلو قدر الإمام عنها .
وأمر آخر يريب : وهو أن جامع هذه النصوص لم يسجل في صدر كتابه أو أثنائه شيئا من مصادر التوثيق والرواية ، كما هو المألوف في أمثال هذه الكتب التي ينظر إليها بعين خاصة ، وهذه كلها شبهات تعلو ، ومسائل تطفو ، تحمل الباحث على كثير من التأمل ، وطويل من الدرس . شبهات ومسائل كانت تحيك في صدر كل دارس لهذا الكتاب الخالد ، ويود لو أن قد تفرغ لدراستها من يزيل عنها تلك الأوضار ، ليظهر من بينها يقين التحقيق .
لهذا كله كانت غبطتى بهذا البحث الذي تولاه باحث أعرف فيه الدقة والصبر، وأعرف فيه خلة التأنى ، فقد استطاع الدكتور صبرى أن يحقق نسبة الكتاب إلى الشريف الرضى بما لا يدع مجالا للشك .(176/219)
ويمكن من تحقيق نسبة النصوص في هذا الكتاب بمختلف ضروبها من خطب ورسائل وحكم إلى أصحابها ، ومن بينها ما صحت نسبته إلى الإمام على في جملتها وتفصيلها ، أو في تفصيلها فقط دور جملتها . وهذا أمر يحدث للمرة الأولى بين الباحثين في هذا الكتاب بهذا الأسلوب المنهجي الفريد " ا . هـ
وبعد هذا التقديم نأتى إلى نتائج التوثيق التي انتهى إليها الدكتور صبرى ، حيث قال :
وهكذا أجد نفسى ـ بعد هذه الجولة التوثيقية ـ أمام مستويات خمسة من النصوص :
1- نصوص ثبتت نسبتها إلى الإمام علي.
2- نصوص رواها الشيعة وحدهم .
3- نصوص لم يروها أحد .
4- نصوص مشكوك في صحة نسبتها لأسباب خاصة .
5- نصوص ثبتت نسبتها لآخرين .
( انظر ص 81 : 97 )
والذى يعنينا هو المستوى الأول فقط . وكيف استطاع المحقق إثبات نسبتها إلى الإمام على ؟
بين المحقق منهجه في التوثيق حيث قال : ( ص 65 )
" وهأنذا أحاول استكشاف ما في بطون الكتب الأدبية والتاريخية من نصوص أوردها صاحب النهج ، ملتزما في ذلك باعتماد أقوال من سبقوا الشريف الرضى ، أو عاصروه ، واستبعاد من جاءوا بعده أو لم يعاصروه " .
وقبل أن ننظر في مراجع المحقق نراه هنا يذكر أنها كتب أدبية وتاريخية،وهذه الكتب كما نعلم ليست حجة في أي فرع من فروع الشريعة ، فما بالك بأصول العقيدة ؟ !
بعد نتائج التوثيق انتقل المحقق إلى تحقيق النصوص وتوثيقها ، وبدأها بتوثيق الخطب :(176/220)
أثبت الخطبة الأولى من أولها إلى قوله : " ولا وقت معدود " ، ومرجعه العقد الفريد لابن عبد ربه . ( انظر ص 101 ) وهى هنا خمسة أسطر فقط ، وفى الأصل أكثر من خمسين ومائة سطر . والثانية نصف سطر ، وقال المحقق ( ص 101 ) : الكلمة موجودة في تاريخ اليعقوبى . والثالثة في الإمامة والسياسة لابن قتيبة ( ص 102 ) ـ قلت : الكتاب غير صحيح النسبة لابن قتيبة . وهكذا نجد مراجع المحقق من هذا النوع من الكتب التي لا تعتبر إطلاقا مراجع معتمدة في مجال الشريعة . وفى ص 297 : 309 ذكر مراجع البحث والتوثيق . وبالنظر فيها نراها كما ذكر المحقق من كتب الأدب والتاريخ ما عدا مسند الإمام أحمد ، وقد سبق جمع ما في المسند ودراسته ، إذن لا يجوز ذكر شىء مما جاء في نهج البلاغة ليحتج به في أي مجال من مجالات الشريعة ، ولسنا بعد هذا في حاجة إلى مناقشة ما يذكره هذا الرافضي ، وبيان أن ما جاء به من طعن في الصحابة الكرام الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وخيرهم الشيخان ، يتعارض مع كتاب الله تعالى ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ثبت متواترا وصحيحا عن الإمام على هو نفسه، رضي الله عنه.
ثانيا : الصواعق المحرقة
كتاب الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة للمحدث الفقيه أحمد بن حجر الهيتمى المكى ، المتوفى سنة 974 هـ .
والكتاب كما يظهر من عنوانه إنما هو للرد على هذه الفرقة وأمثالها ، ولذلك قال في بداية الكتاب :
" سئلت قديما في تأليف كتاب يبين حقية خلافة الصديق ، وإمارة ابن الخطاب، فأجبت إلى ذلك مسارعة في خدمة هذا الجانب ، فجاء بحمد الله أنموذجا لطيفا ، ومنهاجا شريفا ، ومسلكا منيفا . ثم سئلت قديما في إقرائه في رمضان سنة خمسين وتسعمائة بالمسجد الحرام لكثرة الشيعة والرافضة ونحوهما الآن بمكة المشرفة . . إلخ " ( ص 9 ) .(176/221)
فالكتاب إذن لبيان بطلان مذهب الشيعة والرافضة و نحوهما ، فكيف يستدل عبد الحسين بما جاء في هذا الكتاب لبيان صحة مذهبه لا بطلانه ؟
لننظر إلى ما جاء في الصواعق أولا ، ثم نبين مسلك عبد الحسين .
بدأ ابن حجر الهيتمى بثلاث مقدمات ، ومما جاء فيها : بيان وجوب تعظيم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد ما افتراه الرافضة عليهم من الروايات . ثم إجماع الصحابة على وجوب تنصيب الإمام بعد عصر النبوة . وأخيرا طريق ثبوت الخلافة .
وقسم الكتاب إلى أحد عشر بابا :
جعل الباب الأول في بيان كيفية خلافة الصديق ، والاستدلال على حقيتها بالنقل والعقل ، وقسم الباب إلى خمسة فصول :
الأول : في بيان كيفيتها : وبدأه بقول : " روى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما ، اللذين هما أصح الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتد به ، أن عمر رضي الله عنه ـ خطب الناس مرجعه من الحج .. " وذكر ما يتصل ببيعة الصديق، وأثبتها من قبل .
وقال بعد هذا ( ص 20 ) .
" وأخرج النسائي ، وأبو يعلى ، والحاكم وصححه : عن ابن مسعود قال : لما قبض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فأتاهم عمر ابن الخطاب ، فقال : يا معشر الأنصار : ألستم تعلمون أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس ، وأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر ؟ فقالت الأنصار : نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر " . ثم قال بعد هذا ( ص 21 ) :(176/222)
وأخرج موسى بن عقبة في مغازيه ، والحاكم ، وصححه عن عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه قال : خطب أبو بكر فقال : والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط ، ولا كنت راغبا فيها ولا سألتها الله في سر ولا علانية ، ولكننى أشفقت من الفتنة ، ومالي في الإمارة من راحة ، لقد قلدت أمرا عظيما مالى به من طاقة ، ولا يد إلا بتقوية الله . فقال على والزبير : ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة ، وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها ؛ إنه لصاحب الغار ، وإنا لنعرف شرفه وخيره ، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بين الناس وهو حى " .
وقال أيضا :
وأخرج أحمد أن أبا بكر لما خطب يوم السقيفة لم يترك شيئا أنزل في الأنصار ، وذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم إلا ذكره ، وقال : لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار واديا لسلكت وادى الأنصار ، وقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وأنت قاعد : قريش ولاة هذا الأمر ، فبر الناس تابع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم . فقال له سعد : صدقت ، نحن الوزراء وأنتم الأمراء . ويؤخذ منه ضعف ما حكاه ابن عبد البر أن سعدا أبى أن يبايع أبا بكر حتى لقى الله ـ ( انظر ص 21 : 22 ) .
وجعل الفصل الثانى في بيان انعقاد الإجماع على ولاية أبى بكر ، فقال :
قد علم مما قدمناه أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على ذلك ، وأن ما حكى من تخلف سعد بن عبادة عن البيعة مردود .(176/223)
ومما يصرح بذلك أيضا ما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: ما رآه المسلمون حسنا ، فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون سيئا ، فهو عند الله سيئ . وقد رأي الصحابة جميعا أن يستخلف أبو بكر ، فانظر إلى ما صح عن ابن مسعود ، وهو من أكابر الصحابة ، وفقهائهم ومتقدميهم من حكاية الإجماع من الصحابة جميعا على خلافة أبى بكر ، ولذا كان هو الأحق بالخلافة عند جميع أهل السنة والجماعة في كل عصر منا إلى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، وكذلك عند جميع المعتزلة ، وأكثر الفرق ، وإجماعهم على خلافته قاض بإجماعهم على أنه أهل لها مع أنها من الظهور بحيث لا تخفى . فلا يقال إنها واقعة يحتمل أنها لم تبلغ بعضهم ، ولو بلغت الكل لربما أظهر بعضهم خلافا . على أن هذا إنما يتوهم أن لو لم يصح عن بعض الصحابة المشاهدين بذلك الأمر من أوله إلى آخره حكاية الإجماع ، وأما بعد أن صح عن مثل ابن مسعود حكاية إجماعهم كلهم ، فلا يتوهم ذلك أصلا، سيما وعلى كرم الله وجهه ممن حكى الإجماع على ذلك أيضا ، كما سيأتي عنه أنه لما قدم البصرة سئل عن مسيره هل هو بعهد من النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مبايعته هو وبقية الصحابة لأبى بكر ، وأنه لم يختلف عليه منهم اثنان .(176/224)
وأخرج البيهقي عن الزعفرانى قال سمعت الشافعى يقول : أجمع الناس على خلافة أبى بكر ، وذلك أنه اضطرب الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجدوا تحت أديم السماء خيرا من أبى بكر فولوه رقابهم . وأخرج أسد السنة عن معاوية بن قرة قال: ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون أن أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما كانوا يسمونه إلا خليفة رسول الله ، وما كانوا يجتمعون على خطأ ولا ضلالة . وأيضا فالأمة اجتمعت على حقية إمامة أحد الثلاثة أبى بكر وعلى والعباس ، ثم إنهما لم ينازعاه بل بايعاه ، فتم بذلك الإجماع له على إمامته دونهما . إذ لو لم يكن على حق لنازعاه كما نازع على معاوية مع قوة شوكة معاوية عدة وعددا على شوكة أبى بكر ، فإذا لم يبال على بها ، ونازعه ، فكانت منازعته لأبى بكر أولى وأحرى ، فحيث لم ينازعه دل على اعترافه بحق خلافته ، ولقد سأله العباس في أن يبايعه ، فلم يقبل ، ولو علم نصا عليه لقبل سيما ومعه الزبير مع شجاعته وبنو هاشم وغيرهم . ومر أن الأنصار كرهوا بيعة أبى بكر وقالوا منا أمير ومنكم أمير ، فدفعهم أبو بكر بخبر : الأئمة من قريش ، فانقادوا له وأطاعوه ، وعلى أقوى منهم شوكة وعدة وعددا وشجاعة، فلو كان معه نص لكان أحرى بالمنازعة ، وأحق بالإجابة ، ولا يقدح في حكاية الإجماع تأخر على والزبير والعباس وطلحة مدة لأمور منها أنهم رأوا أن الأمر تم بمن تيسر حضوره حينئذ من أهل الحل والعقد ، ومنها أنهم لما جاءوا وبايعوا اعتذروا كما مر عن الأولين من طرق بأنهم أخروا عن المشورة مع أن لهم فيها حقا ، لا للقدح في خلافة الصديق. هذا مع الاحتياج في هذا الأمر لخطره إلى الشورى التامة ، ولهذا مر عن عمر بسند صحيح أن تلك البيعة كانت فلتة ، ولكن وقى الله شرها .(176/225)
ويوافق ما مر عن الأولين من الاعتذار ، ما أخرجه الدار قطنى من طرق كثيرة أنهما قالا عند مبايعتهما لأبى بكر : إلا أنا أخرنا عن المشورة ، وإنا لنرى أن أبا بكر أحق الناس بها . إنه لصاحب الغار وثانى اثنين ، وإنا لنعرف له شرفه وكبره ، وفى آخرها أنه اعتذر إليهم ، فقال " والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما قط ولا ليلة ، ولا كنت فيها راغبا ، ولا سألتها الله عزوجل في سر ولا علانية، ولكننى أشفقت من الفتنة ، ومالي في الإمارة من راحة ، ولقد قلدت أمرا عظيما " ، إلى آخر ما مر ، فقبلوا منه ذلك ، وما اعتذر به . ( انظر ص 23 : 25 ) .
وعقب على ما سبق وعلى رواية للبخاري ، بقوله :
فتأمل عذره وقوله : لم ننفس على أبى بكر خيرا ساقه الله إليه ، وأنه لا ينكر ما فضله الله به ، وغير ذلك مما اشتمل عليه هذا الحديث تجده بريئا مما نسبه إليه الرافضة ونحوهم ، فقاتلهم الله ما أجهلهم وأحمقهم ! ( ص 26 ) .
أما الفصل الثالث ففي النصوص السمعية الدالة على خلافة أبى بكر من القرآن والسنة ، وبدأ بالنصوص القرآنية فقال :
فمنها قوله تعالى :
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"(176/226)
أخرج البيهقي عن الحسن البصري أنه قال : هو والله أبو بكر ، لما ارتدت العرب جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردهم إلى الإسلام , وأخرج يونس بن بكير عن قتادة قال : لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب ، فذكر قتال أبى بكر لهم إلى أن قال : فكنا نتحدث أن هذه الآية نزلت في أبى بكر وأصحابه . " فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ "وشرح ثم قال :
وأخرج الدار قطنى عن ابن عمر قال : لما برز أبو بكر واستوى على راحلته أخذ على بزمامها وقال : إلى أين يا خليفة رسول الله ، أقول لك ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد : شمر سيفك ولا تفجعنا بنفسك ، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدا . ( انظر 27 : 28 ) .
واستمر في ذكر الآيات الكريمة ، ومما قاله :
ومن الآيات الدالة على خلافته أيضا قوله تعالى :" قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ".(176/227)
أخرج ابن أبى حاتم عن جويبر أن هؤلاء القوم هم بنو حنيفة ، ومن ثم قال ابن أبى حاتم وابن قتيبة وغيرهما : هذه الآية حجة على خلافة الصديق لأنه الذي دعا إلى قتالهم ، فقال الشيخ أبو الحسن الأشعرى ـ رحمه الله ـ إمام أهل السنة : سمعت الإمام أبا العباس بن سريج يقول : الصديق في القرآن في هذه الآية . قال : لأن أهل العلم أجمعوا على أنه لم يكن بعد نزولها قتال دعوا إليه إلا دعاء أبى بكر لهم وللناس إلى قتال أهل الردة ومن منع الزكاة . قال : فدل ذلك على وجوب خلافة أبى بكر ، وافتراض طاعته إذ أخبر الله أن المتولى عن ذلك يعذب عذابا أليما . قال ابن كثير : ومن فسر القوم بأنهم فارس والروم ، فالصديق هو الذي جهز الجيوش إليهم ، وتمام أمرهم كان على يد عمر وعثمان وهما فرعا الصديق .
فإن قلت : يمكن أن يراد بالداعى في الآية النبي صلى الله عليه وسلم أو على قلت : لا يمكن ذلك مع قوله تعالى : " قُل لَّن تَتَّبِعُونَا " ومن ثم لم يدعوا إلى محاربة في حياته صلى الله عليه وسلم إجماعا كما مر ، وأما على فلم يتفق له في خلافته قتال لطلب الإسلام أصلا بل لطلب الإمامة ، ورعاية حقوقها ، وأما من بعده فهم عندنا ظلمة ، وعندهم كفار ، فتعين أن ذلك الداعى الذي يجب باتباعه الأجر الحسن وبعصيانه العذاب الأليم أحد الخلفاء الثلاثة ، وحينئذ فالألزم عليه حقية أبى بكر على كل تقدير؛ لأن حقية خلافة الآخرين فرع عن حقية خلافته إذ هما فرعاها الناشئان عنها والمترتبان عليها .(176/228)
ومن تلك الآيات أيضا قوله تعالى : "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ "
قال ابن كثير : هذه الآية منطبقة على خلافة الصديق ، وأخرج ابن أبى حاتم في تفسيره عن عبد الرحمن بن عبد الحميد المهرى قال : إن ولاية أبى بكر وعمر في كتاب الله . يقول الله تعالى :" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ".
ومنها قوله تعالى :" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ".
وجه الدلاله : أن الله تعالى سماهم صادقين ، ومن شهد له سبحانه وتعالى بالصدق لا يكذب ، فلزم أن ما أطبقوا عليه من قولهم لأبى بكر خليفة رسول الله صادقون فيه ، فحينئذ كانت الآية ناصة على خلافته . أخرجه الخطيب عن أبى بكر ابن عياش وهو استنباط حسن ، كما قاله ابن كثير ، ( انظر ص 31 : 32 ) .
وبعد أن انتهى صاحب الصواعق من ذكر الآيات الكريمة ، وبيان دلالتها على خلافة أبى بكر ، انتقل إلى السنة المطهرة . فقد جمع كثيرا من الأحاديث التي تدل على خلافتة ، والأحاديث التي تدل على فضله ، وهى تزيد على المائة ، وذكرها في أبواب متفرقة .
وأثبت هنا بعض الأحاديث التي بين أنها تدل على خلافة أبى بكر .(176/229)
1 ـ أخرج أحمد وحسنه ، وابن ماجه ، والحاكم وصححه ، عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر ، وأخرجه الطبرانى من حديث أبى الدرداء والحاكم من حديث ابن مسعود . وروى أحمد والترمذى وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن حذيفه : إنى لا أدرى ما قدر بقائى فيكم فاقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر ، وتمسكوا بهدى عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوا . والترمذى عن ابن مسعود والرويانى عن حذيفة وابن عدى عن أنس :
اقتدوا باللذين من بعدى من أصحابى أبى بكر وعمر ، واهتدوا بهدى عمار ، وتمسكوا بعهد ابن مسعود .(176/230)
2 ـ أخرج الشيخان عن أبى سعيد الخدري قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: إن الله تبارك وتعالى خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله ، فبكى أبو بكر وقال : بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا ، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير ، وكان أبو بكر أعلمنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من أمنّ الناس علَىَّ في صحبته وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذا خليلا غير ربى لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقين باب إلا سد إلا باب أبى بكر ، وفى لفظ لهما : لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبى بكر ، وفى آخر لعبد الله بن أحمد : أبو بكر صاحبى ومؤنسى في الغار سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبى بكر . وفى آخر للبخاري : ليس في الناس أحد أمنّ على في نفسى ومالي من أبى بكر بن أبى قحافة، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن خلة الإسلام أفضل . سدوا عنى كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبى بكر . وفى آخر لابن عدى : سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبى بكر . وطرقه كثيرة منها عن حذيفة وأنس وعائشة وابن عباس ومعاوية بن أبى سفيان رضي الله تعالى عنهم .
قال العلماء : في هذه الأحاديث إشارة إلى خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه ؛ لأن الخليفة يحتاج إلى القرب من المسجد لشدة احتياج الناس إلى ملازمته له في الصلاة بهم وغيرها .
3 ـ أخرج الحاكم وصححه عن أنس قال : بعثنى بنو المصطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سله إلى من ندفع صدقاتنا بعدك ، فأتيته فسألته ، فقال : إلى أبى بكر . ومن لازم دفع الصدقة إليه كونه خليفة إذ هو المتولى قبض الصدقات .(176/231)
4 ـ أخرج مسلم عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا ، فإنى أخاف أن يتمنى متمن ، ويقول قائل أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر. وأخرجه أحمد وغيره من طرق عنها . وفى بعضها قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: ادعى لي عبد الرحمن بن أبى بكر أكتب لأبى بكر كتابا لا يختلف عليه أحد ، ثم قال : دعيه معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبى بكر ، وفى رواية عن عبد الله بن أحمد : أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر .
5 ـ أخرج الشيخان عن أبى موسى الأشعرى قال : مرض النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه، فقال : مروا أبا بكر فليصل بالناس . قالت عائشة ؛ يا رسول الله إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلى بالناس ، فقال : مرى أبا بكر فليصل بالناس ، فعادت ، فقال : مرى أبا بكر فليصل بالناس ، فإنكن صواحب يوسف ! فأتاه الرسول فصلى بالناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفى رواية أنها لما راجعته فلم يرجع لها قالت لحفصة : قولى له يأمر عمر ، فقالت له ، فأبى حتى غضب وقال: أنتن أو إنكن أو لأنتن صواحب يوسف ! مروا أبا بكر .(176/232)
واعلم أن هذا الحديث متواتر ، فإنه ورد من حديث عائشة وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن زمعة وأبى سعيد وعلى بن أبى طالب وحفصة. وفى بعض طرقه عن عائشة : لقد راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وما حملنى على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبى أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا، ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به ، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبى بكر . وفى حديث ابن زمعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصلاة ، وكان أبو بكر غائبا ، فتقدم عمر ، فصلى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا، لا، لا ، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، فيصلى بالناس أبو بكر ، وفى رواية عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال له : اخرج وقل لأبى بكر يصلى بالناس ، فخرج فلم يجد على الباب إلا عمر في جماعة ليس فيهم أبو بكر ، فقال يا عمر : صل بالناس ، فلما كبر وكان صيتا وسمع صلى الله عليه وسلم صوته قال : يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر . وفى حديث ابن عمر : كبر عمر فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيره فأطلع رأسه مغضبا ، فقال : أين ابن أبى قحافة ؟ قال العلماء : في هذا الحديث أوضح دلالة على أن الصديق أفضل الصحابة على الإطلاق ، وأحقهم بالخلافة ، وأولاهم بالإمامة .
قال الأشعرى :(176/233)
قد علم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الصديق أن يصلى بالناس مع حضور المهاجرين والأنصار مع قوله : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ) . فدل على أنه كان أقرأهم أي أعلمهم بالقرآن . انتهى . وقد استدل الصحابة أنفسهم بهذا على أنه أحق بالخلافة ، منهم عمر، ومر كلامه في فضل المبايعة . ومنهم على، فقد أخرج ابن عساكر عنه : لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلى بالناس ، وإنى لشاهد وما أنا بغائب ، وما بى مرض ، فرضينا لدنيانا ما رضيه النبي صلى الله عليه وسلم لديننا .
قال العلماء : وقد كان معروفا بأهلية الإمامة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم .
وأخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن سهل بن سعد قال : كان قتال بين بنى عمرو بن عوف ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم ، فقال يابلال: إن حضرت الصلاة ولم آت فمر أبا بكر فليصل بالناس ، فلما حضرت صلاة العصر أقام بلال الصلاة . ثم أمر أبا بكر فصلى . ووجه ما تقرر من أن الأمر بتقديمه للصلاة كما ذكر فيه الإشارة أو التصريح بأحقيته بالخلافة ؛ لأن القصد الذاتى من نصب الإمام العالم إقامة شعائر الدين على الوجه المأمور به من أداء الواجبات وترك المحرمات وإحياء السنن ، وإماتة البدع ، وأما الأمور الدنيوية وتدبيرها كاستيفاء الأموال من وجوهها وإيصالها لمستحقها ودفع الظلم ، ونحو ذلك فليس مقصودا بالذات ، بل ليتفرغ الناس لأمور دينهم إذ لا يتم تفرغهم له إلا إذا انتظمت أمور معاشهم بنحو الأمن على الأنفس ، والأموال ، ووصول كل ذى حق إلى حقه ، فلذلك رضى النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الدين ، وهو الإمامة العظمى ، أبا بكر بتقديمه للإمامة في الصلاة ، كما ذكرنا ومن ثم أجمعوا على ذلك كما مر .(176/234)
وأخرج ابن عدى عن أبى بكر بن عياش قال : قال لي الرشيد : يا أبا بكر كيف استخلف الناس أبا بكر الصديق ؟ قلت : يا أمير المؤمنين : سكت الله وسكت رسوله وسكت المؤمنون . قال والله وما زدتنى إلا عماء ، قلت : يا أمير المؤمنين مرض النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أيام ، فدخل عليه بلال ، فقال يا رسول الله : من يصلى بالناس ؟ قال : مر أبا بكر يصلى بالناس ، فصلى أبو بكر بالناس ثمانية أيام والوحي ينزل عليه (1)[254])، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسكوت الله ، وسكت المؤمنون لسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعجبه فقال : بارك الله فيك .
6 ـ أخرج ابن حبان عن سفينة : لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وضع في البناء حجرا ، قال لأبى بكر : ضع حجرك إلى جنب حجرى ، ثم قال لعمر : ضع حجرك إلى جنب حجر أبى بكر ، ثم قال لعثمان : ضع حجرك إلى جنب حجر عمر ، ثم قال : هؤلاء الخلفاء بعدى . قال أبو زرعة : إسناده لا بأس به ، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك ، وصححه ، والبيهقى في الدلائل ، وغيرهما . وقوله لعثمان ما ذكر يرد على من زعم أن هذا إشارة إلى قبورهم . على أن قوله آخر الحديث : هؤلاء الخلفاء بعدى صريح فيما أفاده الترتيب الأول أن المراد به ترتيب الخلافة (2)[255]).
هذه بعض الأحاديث التي ذكر أنها تنص على إمامة أبى بكر . وأراد بعد هذا أن يبين أن الموضوع محل خلاف ، ولذلك جعل عنوان الفصل الرابع " في بيان أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم هل نص على خلافة أبى بكر ؟
وقال ( ص 42 وما بعدها ) :
__________
(1) 254]) أي على الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
(2) 255]) انظر كتاب الصواعق ص 35 : 39 .(176/235)
اعلم أنهم اختلفوا في ذلك . ومن تأمل الأحاديث التي قدمناهاعلم من أكثرها أنه نص عليها نصا ظاهرا . وعلى ذلك جماعة من المحدثين وهو الحق ، وقال جمهور أهل السنة والمعتزلة والخوارج : لم ينص على أحد ، ويؤيدهم ما أخرجه البزار في مسنده عن حذيفة قال : قالوا يا رسول الله : ألا تستخلف علينا ؟ قال : إنى إن أستخلف عليكم فتعصون خليفتى ينزل عليكم العذاب . وأخرجه الحاكم في المستدرك لكن في سنده ضعف . وما أخرجه الشيخان عن عمر أنه قال حين طعن: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى ( يعنى أبا بكر ) ، وإن أترككم فقد ترككم من هو خير منى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وما أخرجه أحمد والبيهقى بسند حسن عن على أنه لما ظهر على يوم الجمل قال : أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر ، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله ، ثم إن أبا بكر رأي من الرأي أن نستخلف عمر ، فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه ، ثم إن أقواما طلبوا الدنيا فكانت أمور يقضى الله فيها . والجران بكسر الجيم باطن عنق البعير يقال ضرب بجرانه الشئ أي استقر وثبت .(176/236)
وأخرج الحاكم وصححه أنه قيل لعلى : ألا تستخلف علينا ؟ فقال : ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف ، ولكن إن يرد الله الناس خيرا فسيجمعهم بعدى على خيرهم . وما أخرجه ابن سعد عن على أيضا قال : قال على : لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قدم أبا بكر في الصلاة، فرضينا لدنيانا ما رضيه النبي صلى الله عليه وسلم لديننا فقدمنا أبا بكر . وقول البخاري في تاريخه : روى عن ابن جمهان عن سفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر وعمر وعثمان : هؤلاء الخلفاء بعدى . قال البخاري : ولم يتابع على هذا لأن عمر وعليا وعثمان قالوا لم يستخلف النبي صلى الله عليه وسلم . انتهى ، ومر أن هذا الحديث ، أعنى قوله هؤلاء الخلفاء بعدى ، صحيح ولا منافاة بين القول بالاستخلاف والقول بعدمه لأن مراد من نفاه أنه لم ينص عند الموت على استخلاف أحد بعينه ، ومراد من أثبته أنه صلى الله عليه وسلم نص عليه وأشار إليه قبل ذلك . ولا شك أن النص على ذلك قبل قرب الوفاة يتطرق إليه الاحتمال ، وإن بعد بخلافه عند الموت ، فلذلك نفى الجمهور كعلى وعمر وعثمان الاستخلاف ، ويؤيد ذلك قول بعض المحققين من متأخرى الأصوليين : معنى لم ينص عليها لأحد لم يأمر بها لأحد . على أنه قد يأخذ مما في البخاري عن عثمان أن خلافة أبى بكر منصوص عليها ، والذى فيه في هجرة الحبشة عنه من جملة حديث أنه قال : وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته ووالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله ، ثم استخلف الله أبا بكر ، فوالله ما عصيته ولا غششته ، ثم استخلف عمر فو الله ما عصيته ولا غششته . الحديث . فتأمل قوله في أبى بكر : ثم استخلف الله أبا بكر ، وفى عمر : ثم استخلف عمر ، تعلم دلالته على ما ذكرته من النص على خلافة أبى بكر ، وإذا أفهم كلامه هذا ذلك مع ما مر عنه من أنها غير منصوص عليها تعين الجمع بين كلاميه(176/237)
بما ذكرناه . وكان اشتمال كلاميه على ذلك مؤيدا للجمع الذي قدمناه ، وعلى كل فهو صلى الله عليه وسلم كان يعلم لمن هي بعده بإعلام الله له ، ومع ذلك فلم يؤمر بتبليغ الأمة النص على واحد بعينه عند الموت ، وإنما وردت عنه ظواهر تدل على أنه علم بإعلام الله له أنها لأبى بكر ، فأخبر بذلك كما مر ، وإذا أعلمها فإما أن يعلمها علما واقعا موافقا للحق في نفس الأمر أو أمرا واقعا مخالفا له ، وعلى كل حال لو وجب على الأمة مبايعة غير أبى بكر لبالغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ ذلك الواجب إليهم بأن ينص عليه نصا جليا ينقل مشتهرا حتى يبلغ الأمة ما لزمهم ، ولما لم ينقل كذلك مع توفر الدواعى على نقله دل على أنه لا نص . . وتوهم أن عدم تبليغه لعلمه بأنهم لا يأتمرون بأمره فلا فائدة فيه باطل ، فإن ذلك غير مسقط لوجوب التبليغ عليه ، ألا ترى أنه بلغ سائر التكاليف للآحاد مع الذين علم منهم أنهم لا يأتمرون فلم يسقط العلم بعدم ائتمارهم التبليغ عليه ؟ واحتمال أنه بلغ أمر الإمامة سرا ـ واحدا واثنين ـ ونقل كذلك لا يفيد ؛ لأن سبيل مثله الشهرة لصيرورته بتعدد التبليغ وكثرة المبلغين أمرا مشهورا ، إذ هو من أهم الأمور لما يتعلق به من مصالح الدين والدنيا كما مر ، مع ما فيه من دفع ما قد يتوهم من إثارة فتنة . واحتمال أنه بلغه مشتهرا ولم ينقل أو نقل ولم يشتهر فيما بعد عصره باطل أيضا، إذ لو اشتهر لكان سبيله أن ينقل نقل الفرائض لتوفر الدواعى على نقل مهمات الدين ، فالشهرة هنا لازمة لوجود النص ، فحيث لا شهرة لا نص بالمعنى المتقدم لا لعلى ولا لغيره ، فلزم من ذلك بطلان ما نقله الشيعة وغيرهم من الأكاذيب وسودوا به أوراقهم من نحو خبر : أنت الخليفة من بعدى وخبر سلموا على على بإمرة المؤمنين ، وغير ذلك مما يأتي . إذ لا وجود لما نقلوه فضلا عن اشتهاره ، كيف وما نقلوه لم يبلغ مبلغ الآحاد المطعون فيها ، إذ لم يصل علمه لأئمة(176/238)
الحديث المثابرين على التنقيب عنه كما اتصل لهم كثير مما ضعفوه . وكيف يجوز في العادة أن ينفرد هؤلاء بعلم صحة تلك الآحاد مع أنهم لم يتصفوا قط برواية ولا بصحبة محدث ؟ ويجهل تلك الآحاد مهرة الحديث وسباقه الذي أفنوا أعمارهم في الرحلات والأسفار البعيدة وبذلوا جهدهم في طلبه وفى السعى إلى كل من ظنوا عنده قليلا منه ؟ فلذلك قضت العادة المطردة القطعية بكذبهم واختلاقهم فيما زعموه من نص علَى علِىّ صح آحادا عندهم مع عدم اتصافهم برواية حديث ولا صحبة لمحدث كما تقرر . نعم روى آحادا خبر : أنت منى بمنزلة هارون من موسى . وخبر : من كنت مولاه فعلى مولاه . وسيأتي الجواب عنهما واضحا مبسوطا ، وأنه لا دلالة لواحد منهما على خلافة على لا نصا ولا إشارة ، وإلا لزم نسبة جميع الصحابة إلى الخطأ وهو باطل لعصمتهم من أن يجتمعوا على ضلالة ،فإجماعهم على خلاف ما زعمه أولئك المبتدعة الجهال قاطع بأن ما توهموه من هذين الحديثين غير مراد . أن لو فرض احتمالهم لما قالوه فكيف وهما لا يحتملانه كما يأتي . فظهر أن ما سودوا به أوراقهم من تلك الآحاد لا تدل لما زعموه ، واحتمال أن ثم نصا غير ما زعموه يعلمه على أو أحد المهاجرين أو الأنصار باطل أيضا . وإلا لأورده العالم به يوم السقيفة حين تكلموا في الخلافة أو فيما بعده لوجوب إيراده حينئذ .(176/239)
وقولهم : ترك على إيراده مع علمه تقية باطل إذ لا خوف يتوهمه من له أدنى مسكة وإحاطة بعلم أحوالهم في مجرد ذكره لهم ومنازعته في الإمامة به كيف وقد نازع من هو أضعف منه وأقل شوكة ومنعة من غير أن يقيم دليلا على ما يقوله ومع ذلك فلم يؤذ بكلمة فضلا عن أن يقتل . فبان بطلان هذه التقية المشؤومة عليهم سيما وعلى قد علم بواقعة الحباب وبعدم إيذائه بقول أو فعل مع أن دعواه لا دليل عليها ، ومع ضعفه وضعف قومه بالنسبه لعلى وقومه ، وأيضا فيمتنع عادة من مثلهم أنه يذكره لهم ولا يرجعون إليه كيف وهم أطوع الله وأعمالهم بالوقوف عند حدوده وأبعد عن اتباع حظوظ النفس لعصمتهم السابقة وللخبر الصحيح : خير القرون قرنى ، ثم الذين يلونهم . وأيضا ففيهم العشرة المبشرون بالجنة . ومنهم أبو عبيدة أمين هذه الأمة كما صح من طرق ، فلا يتوهم فيهم وهم بهذه الأوصاف الجليلة أنهم يتركون العمل بما يرويه لهم من تقبل روايته بلا دليل أرجح يعولون عليه . معاذ الله أن يجوز ذلك عليهم شرعا أو عادة إذ هو خيانة في الدين وإلا لارتفع الأمان في كل ما نقوله عنه من القرآن والأحكام . ولم يجزم بشئ من أمور الدين مع أنه بجميع أصوله وفروعه إنما أخذ منهم ، على أن في نسبة على إلى الكتم غاية نقص له لما يلزم عليه من نسبته ، وهو أشجع الناس، إلى الجبن والظلم . ولهذا التوهم كفره بعض الملحدين كما يأتي فعلم مما تقرر جميعه أنه لا نص على إمامة على حتى ولا بالإشارة ، وأما أبو بكر فقد علمت النصوص السابقة المصرحة بخلافته ، وعلى فرض أن لا نص عليه أيضا ففي إجماع الصحابة عليها غنى عن النص إذ هو أقوى منه ؛ لأن مدلوله قطعى ومدلول خبر الواحد ظنى ، وأما تخلف جمع كعلى والعباس والزبير والمقداد عن البيعة وقت عقدها فمر الجواب عنه مستوفى . وحاصله مع الزيادة : أن أبا بكر أرسل إليهم بعد فجاءوا فقال للصحابة : هذا على ولا بيعة لي في عنقه وهو بالخيار في أمره . ألا فأنتم(176/240)
بالخيار جميعا في بيعتكم إيأي ، فإن رأيتم لها غيرى فأنا أول من يبايعه ، فقال على : لا نرى لها أحدا غيرك ، فبايعه هو وسائر المتخلفين .
ونرى صاحب الصواعق بعد هذا يذكر الشبه التي أثارها الروافض ويدحضها، وهذه الشبه كرر ذكرها صاحب المراجعات ، فهى إذن في صلب موضوعنا ، غير أننا إذا أثبتناها كاملة يطول النقل كثيرا ، ولذلك أكتفى بذكر بعضها :
الشبهة السابعة
زعموا أنه ظالم لفاطمة لمنعه إياها مخلف أبيها ، وأنه لا دليل له في الخبر الذي رواه : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ؛ لأن فيه احتجاجا بخبر الواحد مع معارضته لآية المواريث ، وفيه ما هو مشهور عند الأصوليين . وزعموا أيضا أن فاطمة معصومة بنص " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت " . وخبر : " فاطمة بضعة منى " وهو معصوم ، فتكون معصومة ، وحينئذ فيلزم صدق دعواها الإرث .(176/241)
وجوابها : أما عن الأول ، فهو لم يحكم بخبر الواحد الذي هو محل الخلاف، وإنما حكم بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنده قطعى فساوى آية المواريث في قطعية المتن ، وأما حمله على ما فهمه منه فلانتفاء الاحتمالات التي يمكن تطرقها إليه عنه بقرينة الحال ، فصار عنده دليلا قطعيا مخصصا لعموم تلك الآيات . وأما عن الثانى ، فمن أهل البيت أزواجه على ما يأتي في فضائل أهل البيت ، ولسن بمعصومات اتفاقا ، فكذلك بقية أهل البيت . وأما بضعة منى : فمجاز قطعا فلم يستلزم عصمتها وأيضا فلا يلزم مساواة البعض للجملة في جميع الأحكام بل الظاهر أن المراد أنها كبضعة منى : فيما يرجع للخير والشفقة ، ودعواها أنه صلى الله عليه وسلم نحلها فدك لم تأت عليها إلا بعلى وأم أيمن ، فلم يكمل نصاب البينة ، على أن في قبول شهادة الزوج لزوجته خلافا بين العلماء ، وعدم حكمه بشاهد ويمين ، إما لعلة كونه ممن لا يراه ككثيرين من العلماء ، أو أنها لم تطلب الحلف مع من شهد لها ، وزعمهم أن الحسن والحسين وأم كلثوم شهدوا لها باطل ، على أن شهادة الفرع والصغير غير مقبولة ، وسيأتي عن الإمام زيد بن الحسن بن على بن الحسين رضي الله عنهم ، أنه صوب ما فعله أبو بكر ، وقال : لو كنت مكانه لحكمت بمثل ما حكم به . وفى رواية تأتى في الباب الثانى أن أبا بكر كان رحيما وكان يكره أن يغير شيئا تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما قالت : أعطانى فدك ، فقال : هل لك بينة ، فشهد لها على وأم أيمن ، فقال لها : فبرجل وأمرأة تستحقينها . ثم قال زيد : والله ، لو رفع الأمر فيها إلى لقضيت بقضاء أبى بكر رضي الله عنه . وعن أخيه الباقر أنه قيل له : أظلمكم الشيخان من حقكم شيئا ؟ فقال : لا ومنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، ما ظلمنا من حقنا ما يزن حبة خردلة .(176/242)
وأخرج الدارقطنى ، أنه سئل ما كان يعمل على في سهم ذوى القربى ؟ قال: عمل فيه بما عمل أبو بكر وعمر ، وكان يكره أن يخالفهما .
وأما عذر فاطمة في طلبها روايته لها الحديث ، فيحتمل أنه لكونها رأت أن خبر الواحد لا يخصص القرآن كما قيل به . فاتضح عذره في المنع وعذرها في الطلب ، فلا يشكل عليك ذلك ، وتأمله فإنه مهم . ويوضح ما قررناه في هذا المحل حديث البخاري ، فإنه مشتمل على نفائس تزيل ما في نفوس القاصرين من شبه وهو : عن الزهرى ، قال : أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان النضرى ، أن عمر بن الخطاب دعاه إذ جاءه حاجبه يرفا فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد يستأذنون ؟ قال : نعم ، فأدخلهم فلبث قليلا ، ثم جاء فقال : هل لك في عباس وعلى يستأذنان ؟ قال : نعم ، فلما دخلا قال عباس : يا أمير المؤمنين ، اقض بينى وبين هذا ، وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله من بنى النضير ، فاستب على وعباس ، فقال الرهط : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر . فقال عمر : اتئدوا أنشدكم بالله الذي بإذنه تكون السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نورث ما تركناه صدقة ، يريد بذلك نفسه ، قالوا : قد قال ذلك . فأقبل عمر على على وعباس ، فقال : أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك ؟ قالا : نعم . قال : فإنى أحدثكم عن هذا الأمر ، إن الله كان خص رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره فقال : " وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ" إلى قوله "قَدِيرٌ"، فكانت هذه خالصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم والله ما اختارها دونكم ولا استأثر بها عليكم لقد أعطاكموها ، وقسمها فيكم حتى بقى هذا المال منها ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقى(176/243)
فيجعله مجعل مال الله فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته ، ثم توفى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه : فأنا ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبضه أبو بكر يعمل فيه بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم حينئذ ، وأقبل على على والعباس وقال: تذكرانى أن أبا بكر كان فيه كما تقولان ، والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر ، فقلت : أنا ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر ، فقبضته سنتين من إمارتى أعمل فيه بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، والله يعلم أنى فيه لصادق بار راشد تابع للحق ، ثم جئتمانى كلاكما وكلمتكما واحدة وأمركما جميع ، فجئتنى يعنى عباسا ، فقلت لكما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيه بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وما عملت فيه منذ وليت ، وألا فلا تكلمانى ، فقلتما ادفعه إلينا بذلك ، فدفعته إليكما ، أفتلتمسان منى قضاء غير ذلك ، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضى فيه بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنه فادفعاه إلى فأنا أكفيكماه . قال ، فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير ، فقال : صدق مالك بن أوس أنا سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عثمان إلى أبى بكر يسألنه مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فكنت أنا أردهن ، فقلت لهن : ألا تتقين الله ، ألم تعلمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : لا نورث ما تركناه صدقة ، يريد بذلك نفسه ؛ إنما يأكل آل محمد في هذا المال ، فانتهى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما أخبرتهن . قال ، فكانت هذه الصدقة بيد على منعها على عباسا ، فغلبه عليها ، ثم(176/244)
كانت بيد الحسن بن على رضي الله عنهما ، ثم بيد الحسين بن على ، ثم بيد على بن الحسين ، وحسن بن حسن كلاهما كانا يتداولانها ، ثم بيد زيد بن حسن رضي الله عنهم ، وهى صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا . ثم ذكر البخاري بسنده أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما أرضه من فدك وسهمه من خيبر ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا نورث ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال ، والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتى.(176/245)
فتأمل ما في حديث عائشة والذى قبله تعلم حقيقة ما عليه أبو بكر رضي الله عنه ، وذلك أن استباب على والعباس صريح في أنهما متفقان على أنه غير إرث ، وإلا لكان للعباس سهمه ولعلى سهم زوجته ، ولم يكن للخصام بينهما وجه، فخصامهما إنما هو لكونه صدقة وكل منهما يريد أن يتولاها ، فأصلح بينهما عمر رضي الله عنهم وأعطاه لهما بعد أن بين لهما وللحاضرين السابقين ، وهم من أكابر العشرة المبشرين بالجنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة ، وكلهم حتى على والعباس أخبر بأنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ، فحين إذن أثبت عمر أنه غير إرث ثم دفعه إليهما ليعملا فيه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسنة أبى بكر ، فأخذاه على ذلك وبين لهما أن ما فعله أبو بكر فيه كان فيه صادقا باراً راشداً تابعاً للحق ، فصدقاه على ذلك . فهل بقى لمعاند بعد ذلك من شبهة ؟! فإن زعم بقاء شبهة قلنا يلزمك أن تغلب على الجميع وأخذه من العباس ظلم لأنه يلزم على قولكم بالإرث ، أن للعباس فيه حصة ، فكيف مع ذلك ساغ لعلى أن يتغلب على الجميع ويأخذه من العباس ، ثم كان في يد بنيه وبنيهم من بعده ولم يكن منه شئ في يد بنى العباس ، فهل هذا من على وذريته إلا صريح الاعتراف بأنه صدقة ، وليس بإرث ، وإلا لزم عليه عصيان على وبنيه وظلمهم وفسقهم وحاشاهم الله من ذلك بل هم معصومون عند الرافضة ، ونحوهم ، فلا يتصور بهم ذنب ، فإذا استبدوا بذلك جميعه دون العباس وبنيه علمنا أنهم قائلون بأنه صدقة وليس بإرث ، وهذا عين مدعانا ، وتأمل أيضا أن أبا بكر منع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من ثمنهن أيضا ، فلم يخص المنع بفاطمة والعباس ولو كان مداره على محاباة لكان أولى محاباة ولده ، فلما لم يحاب عائشة ولم يعطها شيئا علمنا أنه على الحق المر الذي لا يخشى فيه لومة لائم .(176/246)
وتأمل أيضا تقرير عمر للحاضرين ولعلى وللعباس بحديث لا نورث وتقرير عائشة لأمهات المؤمنين به أيضا وقول كل منهما ألم تعلموا ! يظهر لك من ذلك أن أبا بكر لم ينفرد برواية هذا الحديث ، وأن أمهات المؤمنين وعلياً والعباس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد كلهم كانوا يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ، وأن أبا بكر إنما انفرد باستحضاره أولاً ، ثم استحضره الباقون ، وعلموا أنهم سمعوه منه صلى الله عليه وسلم: فالصحابة رضوان الله عليهم لم يعلموا برواية أبى بكر وحدها. ( ص 57 : 60 ) .
الشبهة الثانية عشرة
زعموا أنه من النص التفصيلى على على قوله صلى الله عليه وسلم له لما خرج إلى تبوك واستخلفه على المدينة : أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدى . قالوا : ففيه دليل على أن جميع المنازل الثابته لهارون من موسى سوى النبوة ثابتة لعلى من النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا لما صح الاستثناء ، ومما ثبت لهارون من موسى استحقاقه الخلافه عنه لو عاش بعده إذ كان خليفة في حياته ، فلو لم يخلفه بعد مماته لو عاش بعده لكان لنقص فيه ، وهو غير جائز على الأنبياء ، وأيضا فمن جملة منازله منه أنه كان شريكاً له في الرسالة ومن لازم ذلك وجوب الطاعة لو بقى بعده ، فوجب ثبوت ذلك لعلى إلا أن الشركة في الرسالة ممتنعة في حق على ، فوجب أن يبقى مفترض الطاعة على الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم عملا بالدليل بأقصى ما يمكن .(176/247)
وجوابها : أن الحديث إن كان غير صحيح كما يقوله الآمدى فظاهر وإن كان صحيحاً كما يقوله أئمة الحديث والمعول في ذلك ليس إلا عليهم ، كيف وهو في الصحيحين فهو من قبيل الآحاد وهم لا يروونه حجة في الإمامة ، وعلى التنزيل فلا عموم له في المنازل بل المراد ما دل عليه ظاهر الحديث أن عليا خليفة عن النبي صلى الله عليه وسلم مدة غيبته بتبوك كما كان هارون خليفة عن موسى في قومه مدة غيبته عنهم للمناجاة . وقوله : اخلفنى في قومى ـ لا عموم له حتى يقتضى الخلافة عنه في كل زمن حياته وزمن موته ، بل المتبادر منه ما مر أنه خليفة مدة غيبته ، وحينئذ فعدم شموله لما بعد وفاة موسى رضي الله عنه ، إنما هو لقصور اللفظ عنه لا لعزله كما لو صرح باستخلافه في زمن معين ، ولو سلمنا تناوله لما بعد الموت، وأن عدم بقاء خلافته بعده عزل له ، لم يستلزم نقصا يلحقه ؛ بل إنما يستلزم كمالاً له أي كمال لأنه يصير بعده مستقلا بالرسالة والتصرف من الله تعالى ، وذلك أعلى من كونه خليفة وشريكاً في الرسالة . سلمنا أن الحديث يعم المنازل كلها لكنه عام مخصوص إذ من منازل هارون كونه أخاً نبياً ، والعام المخصوص غير حجة في الباقى أو حجه ضعيفه على الخلاف فيه ، ثم نفاذ أمر هارون بعد وفاة موسى لو فرض إنما هو للنبوة لا للخلافة عنه ، وقد نفيت النبوة هنا لاستحالة كون على نبيا، فيلزم نفى مسببه الذي هو افتراض الطاعة ونفاذ الأمر، فعلم مما تقرر أنه ليس المراد من الحديث ـ مع كونه آحادا لا يقاوم الإجماع ـ إلا إثبات بعض المنازل الكائنه لهارون من موسى ، والحديث وسببه سياق يبينان ذلك البعض لما مر أنه إنما قاله لعلى حين استخلفه ، فقال على كما في الصحيح : أتخلفنى في النساء والصبيان ؟ كأنه استنقص تركه وراءه فقال له : ألا ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى ؟ يعنى حيث استخلفه عند توجهه إلى الطور ، إذ قال له : اخلفنى في قومى وأصلح ، وأيضاً فاستخلافه على(176/248)
المدينة لا يستلزم أولويته بالخلافة بعده من كل معاصريه افتراضاً ولا ندباً بل كونه أهلاً لها في الجملة ، وبه نقول ، وقد استخلف صلى الله عليه وسلم في مرار أخرى غير على كابن أم مكتوم ، ولم يلزم فيه بسبب ذلك أنه أولى بالخلافة بعده .
الشبهة الثالثة عشرة
زعموا أيضا أن من النصوص التفصيلية الدالة على خلافة على قوله صلى الله عليه وسلم لعلى: أنت أخي ووصيى وخليفتى وقاضى دينى ـ أي بكسر الدال ، وقوله : أنت سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين ، وقوله : سلموا على على بإمرة الناس.(176/249)
وجوابها : مر مبسوطا قبيل الفصل الخامس ومنه أن هذه الأحاديث كذب باطلة موضوعة مفتراة عليه صلى الله عليه وسلم ألا لعنة الله على الكاذبين ، ولم يقل أحد من أئمة الحديث أن شيئا من هذه الأكاذيب بلغ مبلغ الآحاد المطعون فيها بل كلهم مجمعون على أنها محض كذب وافتراء ، فإن زعم هؤلاء الجهلة الكذبه على الله ورسوله وعلى أئمة الإسلام ومصابيح الظلام أن هذه الأحاديث صحت عندهم ، قلنا لهم هذا محال في العادة إذ كيف تتفردون بعلم صحة تلك مع أنكم لم تتصفوا قط برواية ولا صحبة محدث ، ويجهل ذلك مهرة الحديث وسباقه الذين أفنوا أعمارهم في الأسفار البعيدة لتحصيله وبذلوا جهدهم في طلبه وفى السعى إلى كل من ظنوا عنده شيئاً منه حتى جمعوا الأحاديث ونقبوا عنها وعلموا صحيحها من سقيمها ، ودونوها في كتبهم على غاية من الاستيعاب ونهاية من التحرير ، وكيف والأحاديث الموضوعة جاوزت مئات الألوف وهم مع ذلك يعرفون واضع كل حديث منها وسبب وضعه الحامل لواضعه على الكذب والافتراء على نبيه صلى الله عليه وسلم ، فجزاهم الله خير الجزاء وأكمله إذ لولا حسن صنيعهم هذا لاستولى المبطلون والمتمردون المفسدون على الدين وغيروا معالمه وخلطوا الحق بكذبهم حتى لم يتميز عنه ، فضلوا وأضلوا ضلالاً مبيناً ، لكن لما حفظ الله على نبيه صلى الله عليه وسلم شريعته من الزيغ والتبديل بل والتحريف ، وجعل من أكابر أمته في كل عصر طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم لم يبال الدين بهؤلاء الكذبة البطلة الجهلة ، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: تركتكم على الواضحة البيضاء ليلها كنهارها ونهارها كليلها لا يزيغ عنها بعدى إلا هالك ، ومن عجيب أمر هؤلاء الجهلة أنا إذا استدللنا عليهم بالأحاديث الصحيحه الدالة صريحاً على خلافة أبى بكر كخبر : اقتدوا باللذين من بعدى وغيره من الأخبار الناصة على خلافته التي قدمتها مستوفاة في الفصل الثالث قالوا: هذا خبر واحد فلا يغنى فيما يطلب(176/250)
فيه التعيين ، وإذا أرادوا أن يستدلوا على ما زعموه من النص على خلافة على أتوا بأخبار تدل لزعمهم كخبر من كنت مولاه ، وخبر : أنت منى بمنزلة هارون من موسى مع أنها آحاد وإما بأخبار باطلة كاذبة متيقنه البطلان واضحة الوضع والبهتان لا تصل إلى درجة الأحاديث الضعيفة التي هي أدنى مراتب الآحاد ، فتأمل هذا التناقض الصريح والجهل القبيح ، لكنهم لفرط جهلهم وعنادهم وميلهم عن الحق يزعمون التواتر فيما يوافق مذهبهم الفاسد ، وإن أجمع أهل الحديث والأثر على أنه كذب موضوع مختلق ، ويزعمون فيما يخالف مذهبهم أنه آحاد ، وإن اتفق أولئك على صحته وتواتر رواته تحكماً وعناداً وزيغاً عن الحق ، فقاتلهم الله ما أجهلهم وأحمقهم !
الشبهة الرابعة عشرة
زعموا أنه لو كان أهلاً للخلافة لما قال لهم أقيلونى أقيلونى لأن الإنسان لا يستقيل من الشىء إلا إذا لم يكن أهلاً له .
وجوابها : منع الحصر فيما عللوا به ، فهو من مفترياتهم ، وكم وقع للسلف والخلف التورع عن أمورهم لها أهل وزيادة ، بل لا تكمل حقيقة الورع والزهد إلا بالإعراض عما تأهل له المعرض ، وأما مع عدم التأهل فالإعراض واجب لا زهد، ثم سببه هنا أنه إما خشى من وقوع عجز ما منه عن استيفاء الأمور على وجهها الذي يليق بكماله له ، أو أنه قصد بذلك استبانة ما عندهم ، وأنه هل فيهم من يود عزله فأبرز ذلك كذلك ، فرآهم جميعهم لا يودون ذلك لو أنه خشى من لعنه صلى الله عليه وسلم لإمام قوم وهم له كارهون ، فاستعلم أنه هل فيهم أحد يكرهه أو لا ـ والحاصل أن زعم ذلك يدل على عدم أهليته غاية في الجهالة والغباوة والحمق فلا ترفع بذلك رأساً .
الشبهة الخامسة عشرة
زعموا أيضاً أن علياً إنما سكت عن النزاع في أمر الخلافة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه أن لا يوقع بعده فتنة ولا يسل سيفاً ..(176/251)
وجوابها : أن هذا افتراء كذب وحمق وجهالة مع عظيم الغباوة عما يترتب عليه ، إذ كيف يعقل مع هذا الذي زعموه أنه جعله إماماً والياً على الأمة بعده ومنعه من سل السيف على من امتنع من قبول الحق ؟ ولو كان ما زعموه صحيحاً لما سل على السيف في حرب صفين وغيرها ، ولما قاتل بنفسه وأهل بيته وشيعته وجالد وبارز الألوف منهم وحده وأعاذه الله من مخالفة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأيضاً فكيف يتعقلون أنه صلى الله عليه وسلم يوصيه بعدم سل السيف على من يزعمون فيهم أنهم يجاهرون بأقبح أنواع الكفر مع ما أوجبه الله من جهاد مثلهم.(176/252)
قال بعض أئمة أهل البيت النبوي والعترة الطاهرة : وقد تأملت كلماتهم فرأيت قوماً أعمى الهوى بصائرهم ، فلم يبالوا بما ترتب على مقالاتهم من المفاسد . ألا ترى إلى قولهم : إن عمر قاد علياً بحمائل سيفه وحصر فاطمة فهابت ، فأسقطت ولدا اسمه المحسن ، فقصدوا بهذه الفرية القبيحة والغباوة التي أورثتهم العار والبوار والفضيحة وإيغار الصدور على عمر رضي الله عنه ، ولم يبالوا بما يترتب على ذلك من نسبة على رضي الله عنه الى الذل والعجز والخور بل ونسبة جميع بنى هاشم وهم أهل النخوة والنجدة والأنفة إلى ذلك العار اللاحق بهم الذي لا أقبح منه عليهم ، بل ونسبة جميع الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك، وكيف يسع من له أدنى ذوق أن ينسبهم إلى ذلك مع ما استفاض وتواتر عنهم من غيرتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم وشدة غضبهم عند انتهاك حرماته حتى قاتلوا وقتلوا الآباء والأبناء في طلب مرضاته لا يتوهم إلحاق أدنى نقص أو سكوت على باطل بهؤلاء العصابة الكمل الذين طهرهم الله من كل رجس ودنس ونقص على لسان نبيه في الكتاب والسنة ، كما قدمته في المقدمة الأولى أول الكتاب ـ بواسطة صحبتهم له صلى الله عليه وسلم وموته وهو عنهم راض وصدقهم في محبته واتباعه إلا عبداً أضله الله وخذله فباء منه تعالى بعظيم الخسار والبوار ، وأحله الله تعالى نار جهنم وبئس القرار . نسأل الله السلامة آمين . ( ص 73 : 77 ).
وبعد أن دحض شبهات الرافضة انتقل إلى الباب الثانى ( ص 78 ) وجعل عنوانه :
" فيما جاء عن أكابر أهل البيت من مزيد الثناء على الشيخين ليعلم براءتهما مما يقول الشيعة والرافضة من عجائب الكذب والافتراء ، وليعلم بطلان ما زعموه من أن عليا إنما فعل ما أثر عنه تقية ومداراة وخوفاً ، وغير ذلك من قبائحهم ".
ويقع هذا الباب في ثمان صفحات ، يحسن قراءتها ، ولولا الإطالة لنقلتها كاملة، وأكتفى هنا بما ختم به هذا الباب ( ص 85 ) حيث قال :(176/253)
" فهذه أقاويل المعتبرين من أهل البيت رواها عنهم الأئمة الحفاظ الذين عليهم المعول في معرفة الأحاديث والآثار ، وتمييز صحيحها من سقيمها بأسانيدهم المتصلة ، فكيف يسمح المتمسك بحبل أهل البيت ، ويزعم حبهم أن يعدل عما قالوه من تعظيم أبى بكر وعمر واعتقاد حقية خلافتهما ، وما كانا عليه . وصرحوا بتكذيب من نقل عنهم خلافه، ومع ذلك يرى أن ينسب إليهم ما تبرءوا منه ورأوه ذماً في حقهم حتى قال زين العابدين على بن الحسين رضي الله تعالى عنهما : أيها الناس أحبونا حب الإسلام ، فوالله ما برح بنا حبكم حتى صار علينا عاراً ، وفى رواية حتى نقصتمونا إلى الناس . أي بسبب ما نسبوه إليهم مما هم براء منه ، فلعن الله من كذب على هؤلاء الأئمة ورماهم بالزور والبهتان"أهـ
واستمر صاحب الصواعق فجعل الباب الثالث عنوانه :
" في بيان أفضلية أبى بكر على سائر هذه الأمة ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم ، على ، وفى ذكر فضائل أبى بكر الواردة فيه وحده أو مع عمر أو مع الثلاثة أو مع غيرهم . وفيه فصول " .
وجعل عنوان الفصل الأول :
" في ذكر أفضليتهم على هذا الترتيب ، وفى تصريح على بأفضلية الشيخين على سائر الأمة ، وفى بطلان ما زعمه الرافضة الشيعة من أن ذلك منه قهر وتقية " .(176/254)
وقال : " اعلم أن الذي أطبق عليه عظماء الملة وعلماء الأمة أن أفضل هذه الأمة أبو بكر الصديق ، ثم عمر . ثم اختلفوا ، فالأكثرون : ومنهم الشافعى وأحمد وهو المشهور عن مالك أن الأفضل بعدهما عثمان ، ثم على ، وجزم الكوفيون ومنهم سفيان الثوري بتفضيل على على عثمان ، وقيل : بالوقف عن التفاضل بينهما ، وهو رواية عن مالك ، فقد حكى أبو عبد الله المازرى عن المدونة : أن مالكاً رحمه الله سئل أي الناس أفضل بعد نبيهم ؟ فقال : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم قال : أو في ذلك شك ؟ فقيل له : وعلى وعثمان ؟ فقال : ما أدركت أحدا ممن اقتدى به يفضل أحدهما على الآخر . انتهى ، وقوله رضي الله عنه : أو في ذلك شك ؟ يريد ما يأتي عن الأشعرى أن تفضيل أبى بكر ، ثم عمر على بقية الأمة قطعى ، وتوقفه هذا رجع عنه ، فقد حكى القاضى عياض عنه : أنه رجع عن التوقف إلى تفضيل عثمان . قال القرطبى : وهو الأصلح إن شاء الله تعالى ... إلخ" ( ص 286 ) .
واستمر ابن حجر في حديثه بإثبات ما جعله عنواناً لهذا الفصل ، وقال :
" إن أفضلية أبى بكر ثبتت بالقطع حتى عند غير الأشعرى أيضاً بناء على معتقد الشيعة والرافضة ، وذلك لأنه ورد عن على ـ وهو معصوم عندهم والمعصوم لا يجوز عليه الكذب ـ أن أبا بكر وعمر أفضل الأمة . قال الذهبي : وقد تواتر ذلك عنه في خلافته وكرسى مملكته وبين الجم الغفير من شيعته . ثم بسط الأسانيد الصحيحه في ذلك ، قال : ويقال رواه عن على نيف وثمانون نفساً . وعدد منهم جماعة ، ثم قال : فقبح الله الرافضة ما أجهلهم ! انتهى .(176/255)
ومما يعضد ذلك ما في البخاري عنه أنه قال : خير الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما ، ثم رجل آخر . فقال ابنه محمد بن الحنفيه : ثم أنت، فقال : إنما أنا رجل من المسلمين ، وصحح الذهبي وغيره طرقاً أخرى عن على بذلك ، وفى بعضها : ألا وإنه بلغنى أن رجالاً يفضلونى عليهما ، فمن وجدته فضلنى عليهما فهو مفتر ، عليه ما على المفترى . ألا ولو كنت تقدمت في ذلك لعاقبت ، ألا وإنى أكره العقوبة قبل التقدم .
وأخرج الدار قطنى عنه : لا أجد أحداً فضلنى على أبى بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى . وصح عن مالك ، عن جعفر الصادق ، عن أبيه الباقر ، أن عليا رضي الله عنه وقف على عمر بن الخطاب وهو مسجى ، وقال : ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أحداً أحب إلى أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى ( ص 90 ـ 91 ) .(176/256)
ثم قال : ومما يلزم من المفاسد والمساوئ والقبائح العظيمة على ما زعموه من نسبة على إلى التقية أنه كان جباناً ذليلاً مقهوراً . أعاذه الله من ذلك ، وحروبه للبغاة لما صارت الخلافة له ومباشرته ذلك بنفسه ومبارزته للألوف من الأمور المستفيضه والتي تقطع بكذب ما نسبه إليه أولئك الحمقى والغلاة ؛ إذ كانت الشوكة من البغاة قوية جدا ، ولا شك أن بنى أمية كانوا أعظم قبائل قريش شوكة وكثرة جاهلية وإسلاما ، وقد كان أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه هو قائد المشركين يوم أحد ويوم الأحزاب وغيرهما ، وقد قال لعلى لما بويع أبو بكر ما مر آنفا فرد عليه ذلك الرد الفاحش . وأيضا فبنو تميم ثم بنو عدى قوما الشيخين من أضعف قبائل قريش ، فسكوت على لهما مع أنهما كما ذكر وقيامه بالسيف على المخالفين لما انعقدت البيعة له مع قوة شكيمتهم أوضح دليل على أنه كان دائراً مع الحق حيث دار ، وأنه من الشجاعة بالمحل الأسنى ، وأنه لو كان معه وصيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر القيام على الناس لأنفذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان السيف على رأسه مسلطاً ، لا يرتاب في ذلك إلا من اعتقد فيه ـ رضي الله عنه ـ ما هو بريء منه .
ومما يلزم أيضا على تلك التقيه المشؤومة عليهم أنه رضي الله عنه لا يعتمد على قوله قط ؛ لأنه حيث لم يزل في اضطراب من أمره ، فكل ما قاله يحتمل أنه خالف فيه الحق خوفا وتقية . ذكره شيخ الإسلام الغزالى . قال غيره : بل يلزمهم ما هو أشنع من ذلك ، وأقبح ؛ كقولهم : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين الإمامة إلا لعلى ، فمنع من ذلك وقال : مروا أبا بكر تقية ! فيتطرق احتمال ذلك إلى كل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم ، ولا يفيد حينئذ إثبات العصمة شيئاً .(176/257)
وأيضا فقد استفاض عن على ـ رضي الله عنه ـ أنه كان لا يبالى بأحد حتى قيل للشافعى رضي الله عنه ما نفر الناس عن على إلا أنه كان لا يبالى بأحد ، وقال الشافعى : أنه كان زاهداً لا يبالى بالدنيا وأهلها ، وكان عالماً والعالم لا يبالى بأحد ، وكان شجاعاً والشجاع لا يبالى بأحد ، وكان شريفا والشريف لا يبالى بأحد. أخرجه البيهقي .
وعلى تقدير أنه قال ذلك تقية ، فقد أبقى مقتضيها بولايته ، وقد مر عنه من مدح الشيخين فيها وفى الخلوة وعلى منبر الخلافة مع غاية القوة والمنعة ما تلى عليك قريباً فلا تغفل .(176/258)
وأخرج أبو ذر الهروى والدار قطنى من طرق ، إن بعضهم مر بنفر يسبون الشيخين فأخبر عليا ، وقال : لولا أنهم يرون أنك تضمر ما أعلنوا ما اجترءوا على ذلك ، فقال على : أعوذ بالله ، رحمهما الله ، ثم نهض فأخذ بيد ذلك المخبر وأدخله المسجد ، وصعد المنبر ، ثم قبض على لحيته وهى بيضاء ، وجعلت دموعه تتحادر على لحيته ، وجعل ينظر البقاع حتى اجتمع الناس ، ثم خطب خطبة بليغة من جملتها : ما بال أقوام يذكرون أخوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وصاحبيه وسيدى قريش وأبوى المسلمين ، وأنا بريء مما يذكرون وعليه معاقب ، صحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجد والوفاء والجد في أمر الله ، يأمران وينهيان ويقضيان ويعاقبان ، لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم كرأيهما رأيا ولا يحب كحبهما حباً لما يرى من عزمهما في أمر الله ، فقبض وهو عنهما راض ، والمسلمون راضون ، فما تجاوزا في أمرهما وسيرتهما رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره في حياته وبعد موته ، فقبضا على ذلك فرحمهما الله ، فوالذى فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل ، ولا يبغضهما ويخالفهما إلا شقى مارق . حبهما قربة وبغضهما مروق . ثم ذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأبى بكر بالصلاة وهو يرى مكان على ، ثم ذكر أنه بايع أبا بكر ، ثم ذكر استخلاف أبى بكر لعمر ، ثم قال : ألا ولا يبلغنى عن أحد أنه يبغضهما إلا جلدته حد المفترى ، وفى رواية : وما اجترءوا على ذلك أي سب الشيخين ـ إلا وهم يرون أنك موافق لهم منهم عبد الله بن سبأ (1)
__________
(1) 259) ذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق أن " أصله من اليمن وابن أمة سوداء ، وكان يهوديا فأظهر الإسلام وطاف بلاد المسلمين ليلفتهم عن طاعة الأئمة ويدخل بينهم الشر ودخل دمشق لذلك . وأفاض فيه ابن جرير في تاريخه وهو الذي قال بالنص على الخلافة في على وأبنائه وأحدث القول برجعة على ، وأنه فيه الجزء الإلهي وأنه هوالذى يجئ في السحاب ـ قال المقريزى : ومن ابن سبأ تشعبت أصناف الغلاة من الرافضة ـوذكر أنه كان يتنقل من الحجاز إلى أمصار المسلمين يريد إضلالهم ، فلم يطق ذلك فرجع إلى كيد الإسلام وأهله ، ونزل البصرة سنة ثلاث وثلاثين ، فطرده عبد الله بن عامر منها لسوء مقالته ، فخرج إلى الكوفة ، فأخرج منها ، فنزل بمصر واستقر بها وبث دعاته في الأمصار ، وكاتب من مال إليه منهم بالعيب في ولاتهم . انظر " من عبر التاريخ للكوثرى " . وراجع ما سبق عن ابن سبأ في بداية الجزء الأول .(176/259)
[256])، وكان أول من أظهر ذلك ، فقال على : معاذ الله أن أضمر لهما ذلك . لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل ، وسترى ذلك إن شاء الله ، ثم أرسل إلى ابن سبأ فسيره إلى المدائن وقال: لا يساكننى في بلدة أبدا ، قال الأئمة : وكان ابن سبأ هذا يهوديا فأظهر الإسلام وكان كبير طائفة من الروافض وهم الذين أخرجهم على رضي الله عنه لما ادعوا فيه الألوهية .
وأخرج الدارقطنى من طرق أن علياً بلغه أن رجلاً يعيب أبا بكر وعمر فأحضره وعرض له بعيبهما لعله يعترف ففطن ، فقال له : أما والذى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق أن لو سمعت منك الذي بلغنى أو الذي نبئت عنك وثبت عليك ببينة لأفعلن بك كذا وكذا .(176/260)
إذا تقرر ذلك ، فاللائق بأهل البيت النبوي اتباع سلفهم في ذلك ، والإعراض عما يوشيه إليهم الرافضة وغلاة الشيعة من قبيح الجهل والغباوة والعناد ، فالحذر الحذر عما يلقونه إليهم من أن كل من اعتقد تفضيل أبى بكر علَى علِىّ رضي الله عنهما كان كافراً ، لأن مرادهم بذلك أن يقرروا عندهم تكفير الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الدين وعلماء الشريعة وعوامهم ، وأنه لا مؤمن غيرهم ، وهذا مؤد إلى هدم قواعد الشريعة من أصلها، وإلغاء العمل بكتب السنة وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته وأهل بيته ؛ إذ الراوي لجميع آثارهم وأخبارهم وللأحاديث بأسرها بل والناقل للقرآن في كل عصر من عصر النبي صلى الله عليه وسلم وإلى هلم ، هم الصحابة والتابعون وعلماء الدين . إذ ليس لنحو الرافضة رواية ولا دراية يدرون بها فروع الشريعة ، وإنما غاية أمرهم أن يقع في خلال بعض الأسانيد من هو رافضي أو نحوه . والكلام في قبولهم معروف عند أئمة الأثر ونقاد السنة ، فإذا قدحوا فيهم قدحوا في القرآن والسنة وأبطلوا الشريعة رأسا ، وصار الأمر كما في زمن الجاهلية الجهلاء ، فلعنة الله وأليم عقابه وعظائم نقمته على من يفترى على الله وعلى نبيه بما يؤدى إلى إبطال ملته وهدم شريعته … إلخ " .
ويأتى الفصل الثانى من هذا الباب وعنوانه :" في ذكر فضائل أبى بكر الواردة فيه وحده وفيه آيات وأحاديث " ( ص 98 ) . ويذكر اثنتى عشرة آية كريمة( ص 98: 102)، ثم قال:" وأما الأحاديث:فهى كثيرة مشهورة " وأثبت عشرات الأحاديث الشريفة .
ويطول الأمر كثيرا إذا أردنا أن نثبت ما جاء في هذا الكتاب متصلا بموضوعنا ، إذن لنقلناه كله أو جله ، ولهذا أكتفى هنا بإثبات آخر باب جعله قبل خاتمة الكتاب ، وعنوان الباب هو " في التخيير والخلافة " ( 372 ) وتحت العنوان جاء ما يأتي:(176/261)
وكان خير الناس بعده وبعد المرسلين أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وقد تواترت بذلك الأحاديث المستفيضه الصحيحة التي لا تعتل ، المرويةٍ في الأمهات والأصول المستقيمة ، التي ليست بمعلولة ولا سقيمه . قال سبحانه : "وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ " فنعته بالفضل . ولا خلاف أن ذلك فيه رضوان الله عليه ، وقال سبحانه : " ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ" فشهدت له الربوبيه بالصحبة وبشره بالسكينه وحلاه بثانى اثنين . كما قال على كرم الله وجهه: من يكون أفضل من اثنين الله ثالثهما . وقال سبحانه : " وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ " ، لا خلاف وهو قول جعفر الصادق رضوان الله عليه ، وقول على كرم الله وجهه ، إن الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم والذى صدق به أبو بكر . وأي منقبه أبلغ من هذا ، ولما أخبرنا سبحانه وتعالى : أنه لا يستوى السابقون ومن بعدهم بقوله سبحانه وتعالى : " لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى "والخبر في البخاري مسطور : أن عقبة بن أبى معيط وضع رداء رسول الله صلى الله عليه وسلم في عنقه وخنقه به ، فأقبل أبو بكر يعدو حول الكعبة ويقول : أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله ؟ قال : فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبى بكر فضربوه حتى لم يعرف أنفه من وجهه ، فكان أول من جاهد وقاتل ونصر دين الله، وأنه الشخص الذي به قام الدين وظهر ، وهو أول القوم إسلاما ، وذلك ظاهر جلى. وقال جابر بن عبد الله الأنصارى : كنا ذات يوم على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر الفضائل فيما بيننا إذ أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أفيكم أبو بكر ؟ قالوا: لا ، قال :(176/262)
لا يفضلن أحد منكم على أبى بكر ، فإنه أفضلكم في الدنيا والآخرة .
وخبر أبى الدرداء المشهور قال : رآنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أمشى أمام أبى بكر ، وقال : يا أبا الدرداء أتمشى أمام من هو خير منك ؟ ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبى بكر . ومن وجه آخر : أتمشى بين يدى من هو خير منك ؟ فقلت يا رسول الله : أبو بكر خير منى ؟ قال : ومن أهل مكة جميعاً ، قلت يا رسول الله : أبو بكر خير منى ومن أهل مكة جميعاً؟ قال : ومن أهل المدينة جميعاً ، قلت : يا رسول الله : أبو بكر خير منى ومن أهل الحرمين ؟ قال : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء بعد النبيين والمرسلين خيرا وأفضل من أبى بكر .
ونذكر في كثير منها تخيير عمر بعده ثم عثمان ثم على .
فمن ذلك خبر أبى عقال قد رواه مالك ، وقد سأل عليا كرم الله وجهه وهو على المنبر : من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم أنا ، وإلا فصمت أذنأي إن لم أكن سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلا فعميت وأشار إلى عينيه إن لم أكن رأيته ـ يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ما طلعت الشمس ولا غربت على رجلين أعدل ولا أفضل ـ وروى ولا أزكى ولا خيراً ـ من أبى بكر وعمر .
وقد روى محمد بن الحنفية قال : سألت والدى علياً وأنا في حجره ، فقلت: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أبو بكر . قلت : ثم من ؟ قال : عمر ، ثم حملتنى حداثة سنى قلت : ثم أنت يا أبتى ؟ قال : أبوك رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم .(176/263)
وخبر أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو بكر وعمر خير أهل السماء وخير أهل الأرض ، وخير الأولين ، وخير الآخرين إلا النبيين والمرسلين . وقال صلى الله عليه وسلم: على وفاطمة والحسن والحسين أهلي ، وأبو بكر وعمر أهل الله وأهل الله خير من أهلي . وقال صلى الله عليه وسلم : لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان الأمة لرجح .
وخبر عمار بن ياسر رضي الله عنه المشهور قال : قلت يا رسول الله : أخبرني عن فضائل عمر . فقال : يا عمار لقد سألتنى عما سألت عنه جبريل عليه السلام ، فقال لي يا محمد : لو مكثت معك ما مكث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً أحدثك في فضائل عمر ما نفذت ، وإن عمر لحسنة من حسنات أبى بكر ، وقال : قال لي ربى عز وجل : لو كنت متخذا بعد أبيك إبراهيم خليلا لاتخذت أبا بكر خليلًا ، ولو كنت متخذاً بعدك حبيبا لاتخذت عمر حبيباً . نقل ذلك من تفسير القرآن العظيم للبغوى رحمه الله تعالى في آخر سورة الحشر في قوله تعالى :
" وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ " يعنى التابعين ، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ، ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان بالمغفرة فقال : "يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا " -غشاً وحسداً وبغضاً ـ " لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ " فكل من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية ؛ لأن الله رتب المؤمنين على ثلاث منازل : المهاجرين ، والذين تبوءوا الدار والإيمان ، والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد أن لا تكون خارجا من أقسام المؤمنين .(176/264)
قال ابن أبى ليلى : الناس على ثلاثة منازل : الفقراء المهاجرون ، والذين تبوءوا الدار والإيمان ، والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد أن لا تكون خارجا من هذه المنازل .
أخبرنا أبو سعيد الشريحى ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبى ، أنبأنا عبد الله بن جليد ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سليمان ، حدثنا ابن نمير ، حدثنا أبى ، عن إسماعيل ابن إبراهيم عن عبد الملك بن عمير ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : أمرتم بالاستغفار لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسببتموهم ، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها " .
قال مالك بن معرور ، قال عامر بن شراحيل الشعبي : يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة ؛ سئلت اليهود من خير أهل ملتكم ؟ فقالت: أصحاب موسى رضي الله عنه، وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم ؟ فقالت : حوارى عيسى رضي الله عنه ، وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم !! أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة لا تقوم لهم حجة ولا يثبت لهم قدم ولا تجتمع لهم كلمة ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وادحاض حججهم ، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة .
قال مالك بن أنس : من ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو كان في قلبه عليهم غل ، فليس له حق في فىء ، ثم تلا :
" مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ" حتى أتى هذه الآية :
" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ " "وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ " " وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ" إلى قوله " رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ".
نقل البغوى رحمه الله في قوله : " ثَانِيَ اثْنَيْنِ " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر : أنت صاحبى في الغار وصاحبى على الحوض .(176/265)
قال الحسن بن الفضيل : من قال إن أبا بكر رضي الله عنه لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكار نص القرآن ، وفى سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً لا كافراً .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً .
*****
تعقيب
أطلت إلى حد ما في النقل من كتاب الصواعق المحرقة ليستبين منهج الرافضي صاحب المراجعات ، وجرأته على الباطل وتزييف الحقائق ، فصاحب الصواعق إنما أراد أن يحرق أمثاله ، فإذا به يأخذ من الصواعق لإحقاق باطله وإبطال ما أجمعت عليه الأمة ، وثبت بالنصوص القاطعة ، وذلك بمنهج ليس له أدنى صلة بالمنهج العلمى .
ولذلك لسنا في حاجة بعد هذا للوقوف أمام نقوله الكثيرة من هذين الكتابين:
فنهج البلاغة بغير إسناد ولشاعر رافضى جلد هو نفسه غير ثقة لو أسند . فكيف بانقطاع أربعة قرون ؟! ، كما أن في الكتاب ما يتعارض مع النصوص القطعية الثابتة عن على رضي الله تعالى عنه وأرضاه ، ومالا يمكن أن يصدر إلا من الرافضة !
وأما الصواعق المحرقة فصاحب الكتاب أفاض وأسهب في بيان بطلان ما ذهب إليه الشيعه والرافضة ، فهو يبطل إذن ما أراده صاحب كتاب المراجعات بالقرآن المجيد ، والسنة المطهرة الثابتة .
وأثبت في هذا التعقيب ما ذكره ابن حجر في الصواعق ( ص 69 ) ، وهو ما أخرجه البيهقي عن الإمام الشافعى قال :
" ما من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة " .
أما أهل السنة فمنهجهم يوضحه الإمام أحمد بن حنبل بقوله :
" إذا روينا في الحلال والحرام شددنا ، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا " .
وإذا نظرنا في مسند الإمام أحمد نجد تساهله لا ينزل عن درجة الضعيف إلا في الأخبار القليلة المختلف فيها ، حيث عدها ابن الجوزي في الأحاديث الموضوعة، ورد عليه الحافظ ابن حجر العسقلانى .(176/266)
أما ابن حجر الهيتمى في صواعقه فقد أكثر من ذكر أسباب النزول والأحاديث والآثار ، ومنها الصحيح والضعيف والموضوع ومالا أصل له ، ومنها الصريح وغير الصريح في الدلاله . وقد بين أن الأحاديث الصحيحة التي يحتج بها الشيعة والرافضة ليست صريحة ، ويعارضها الصريح من الصحيح ، بل المتواتر أحيانا . أما الروايات الصريحة التي يحتجون بها فليس منها ما يصل إلى درجة الصحيح أو الحسن ، ومعظمها روايات باطلة موضوعة مكذوبة ، وقد نجد فيها ما يصل إلى درجة الضعيف ، وكل هذا يعارضه ما سبق ذكره من المتواتر والصحيح.
ومنهج الشيعي الرافضي في مراجعاته أن يذكر من كتاب الصواعق ما يحتج به الروافض متجاهلا بطلانه ، وتواتر وصحة ما يعارضه كما بين صاحب الصواعق هو نفسه ! ثم ينسب زورا للشيخ البشرى إقراره بل إعجابه بهذا الباطل !
أكرر هنا ما قاله الإمام الشافعى : " ما من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة " .
وجاء في حاشية ص 43 من الصواعق : ذكر الفخر الرازى أنه لم ينقل عن على ذكر النص في شئ من خطبه ، ولا نعرفه إلا عن الكذابين ، ولو كان موجودا لعلمناه ولاشتهر .
الطرق التي يعلم بها كذب المنقول
في مناقشة شيخ الإسلام ابن تيمية للرافضى ابن المطهر الحلى بين بيانا شافيا الطرق التي يعلم بها كذب المنقول ، وذلك في الجزء السابع من كتابه (ص437 : 479 ) وما ذكره شيخ الإسلام في غاية الأهمية ، وعلى الأخص بالنسبة لغير علماء الحديث والمتخصصين ، ولهذا رأيت أن أجعل كلامه القيم ختاما لهذا الفصل . قال رحمه الله تعالى وأنزله الفردوس الأعلى :
فصل
في الطرق التي يعلم بها كذب المنقول .(176/267)
منها : أن يروى خلاف ما علم بالتواتر والاستفاضة ، مثل أن نعلم أن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة ، واتبعه طوائف كثيرة من بنى حنيفة ، فكانوا مرتدين لإيمانهم بهذا المتنبئ الكذاب ، وأن أبا لؤلؤة قاتل عمر كان مجوسيا كافرا ، وأن الهرمزان كان مجوسيا أسلم ، وأن أبا بكر كان يصلى بالناس مدة مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويخلفه في الإمامة بالناس لمرضه ، وأن أبا بكر وعمر دفنا في حجرة عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ومثل ما يعلم من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم التي كان فيها القتال كبدر ثم أحد ثم الخندق ثم خيبر ثم فتح مكة ثم غزوة الطائف ، والتى لم يكن فيها قتال كغزوة تبوك وغيرها ، وما نزل من القرآن في الغزوات ، كنزول الأنفال بسبب بدر ، ونزول آخر آل عمران بسبب أحد ، ونزول أولها بسبب نصارى نجران ، ونزول سورة الحشر بسبب بنى النضير ، ونزول الأحزاب بسبب الخندق ، ونزول سورة الفتح بسبب صلح الحديبية ، ونزول براءة بسبب غزوة تبوك ، وغيرها وأمثال ذلك .(176/268)
فإذا روى في الغزوات ـ وما يتعلق بها ما يعلم أنه خلاف الواقع ، علم أنه كذب ، مثل ما يروى هذا الرافضي ، وأمثاله من الرافضة وغيرهم ، من الأكاذيب الباطلة الظاهرة في الغزوات ، كما تقّدم التنبيه عليه ، ومثل أن يُعلم نزول القرآن في أي وقت كان ، كما يعلم أن سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال وبراءة نزلت بعد الهجرة في المدينة ، وأن الأنعام والأعراف ويونس وهود ويوسف و الكهف وطه ومريم واقتربت الساعة وهل أتى على الإنسان وغير ذلك نزلت قبل الهجرة بمكة ، وأن المعراج كان بمكة ، وأن الصفٌةَّ كانت بالمدينة ، وأن أهل الصفة كانوا من جملة الصحابة الذين لم يقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا ناساً معينين ، بل كانت الصفة منزلا ينزل بها من لا أهل له من الغرباء القادمين ، وممن دخل فيهم سعد بن أبى وقاص وأبو هريرة وغيرهما من صالحى المؤمنين ، وكالعريين الذين ارتدوا عن الإسلام ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، وألقاهم في الحرة يستسقون ، فلا يسقون وأمثال ذلك من الأمور المعلومة .
فإذا روى الجاهل نقيض ذلك علم أنه كذب .
ومن الطرق التي يُعلم بها الكذب أن ينفرد الواحد والاثنان بما يعلم أنه لو كان واقعا لتوفرت الهمم والدواعى على نقله ؛ فإنه من المعلوم أنه لو أخبر الواحد لبلد عظيم بقدر بغداد والشام والعراق لعلمنا كذبه في ذلك ، لأنه لو كان موجودا لأخبر به الناس .(176/269)
وكذلك لو أخبرنا بأنه تولى رجل بين عمر وعثمان ، أو تولّى بين عثمان وعلى ، أو أخبرنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذن له في العيد ، أو في صلاة الكسوف أو الاستسقاء ، أو أنه كان يقام بمدينته يوم الجمعة أكثر من جمعة واحدة ، أو يصلى يوم العيد أكثر من عيد واحد ، أو أنه كان يصلى العيد بمنى يوم العيد ، أو أن أهل مكة كانوا يتمون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى خلفه ، أو أنه كان يجمع بين الصلاتين بمنى كما كان يقصر ، أو أنه فرض صوم شهر آخر غير رمضان ، أو أنه فرض صلاة سادسة وقت الضحى أو نصف الليل ، أو أنه فرض حج بيت آخر غير الكعبة ، أو أن القرآن عارضه طائفة من العرب أو غيرهم بكلام يشابهه ، ونحو هذه الأمور ـ لكنا نعلم كذب هذا الكاذب ، فإنا نعلم انتفاء هذه الأمور بانتفاء لازمها ، فإن هذه لو كانت مما يتوفر الهمم والدواعى على نقلها عامة لبنى آدم ، وخاصة لأمتنا شرعا ، فإذا لم ينقلها أحد من أهل العلم ، فضلا عن أن تتواتر ، علم أنها كذب .
ومن هذا الباب نقل النص على خلافة علىّ ، فإنّا نعلم أنه كذب من طرق كثيرة ؛ فإن هذا النص لم ينقله أحد ( من أهل العلم ) بإسناد صحيح ، فضلا عن أن يكون متواترا ، ولا نقل أن أحدا ذكره على عهد الخلفاء ، مع تنازع الناس في الخلافة وتشاورهم فيها يوم السقيفة ، وحين موت عمر ، وحين جعل الأمر شورى بينهم في ستة ، ثم لما قتل عثمان واختلف الناس على على فمن المعلوم أن مثل هذا النص لو كان كما تقوله الرافضة من أنه نص على على نصا جليا قاطعا للعذر علمه المسلمون ، لكان من المعلوم بالضرورة أنه لابد أن ينقله الناس نقل مثله ، وأنه لابد أن يذكره لكثير من الناس ، بل أكثرهم في مثل هذه المواطن التي تتوفر الهمم على ذكره فيها غاية التوفر ، فانتفاء ما يعلم أنه لازم يقتضى انتفاء ما يعلم أنه ملزوم ، ونظائر ذلك كثيرة .(176/270)
ففي الجملة الكذب هو نقيض الصدق ، وأحد النقيضين يعلم انتفاؤه تارة بثبوت نقيضه ، وتارة بما يدل على انتفائه بخصوصه .
والكلام مع الشيعة أكثره مبنى على النقل ، فمن كان خبيرا بما وقع وبالأخبار الصادقة التي توجب العلم اليقينى علم انتفاء ما يناقض ذلك يقينا ، ولهذا ليس في أهل العلم بالأحاديث النبوية إلا ما يوجب العلم بفضل الشيخين وصحة إماماتهما ، وكذب ما تدعيه الرافضة .
ثم كل من كان أعلم بالرسول وأحواله ، كان أعلم ببطلان مذهب الزيدية وغيرهم ، ممن يدّعى نصاً خفياً ، وأن عليا كان أفضل من الثلاثة ، أو يتوقف في التفضيل ؛ فإن هؤلاء إنما وقعوا في الجهل المركّب أو البسيط لضعف علمهم بما علمه أهل العلم بالأحاديث والآثار .
فصل
واعلم أنه ثم أحاديث أُخر لم يذكرها هذا الرافضي ، لو كانت صحيحة لدلت على مقصوده ، وفيها ما هو أدل من بعض ما ذكره ، لكنها كلها كذب .
والناس قد رووا أحاديث مكذوبة في فضل أبى بكر وعمر وعثمان وعلىّ ومعاوية رضي الله عنهم وغيرهم ، لكن المكذوب في فضل على أكثر ، لأن الشيعة أجرأ على الكذب من النواصب .
قال أبو الفرج ابن الجوزي : " فضائل علىّ الصحيحة كثيرة ، غير أن الرافضة لم تقتنع فوضعت له ما يضع لا ما يرفع ، وحوشيت حاشيته من الاحتياج إلى الباطل " .
قال : " فاعلم أن الرافضة ثلاثة أصناف : صنف منهم سمعوا أشياء من الحديث فوضعوا أحاديث وزادوا ونقصوا . وصنف لم يسمعوا فتراهم يكذبون على جعفر الصادق ، ويقولون : قال جعفر ، وقال فلان . وصنف ثالث عوام جهله يقولون ما يريدون مما يسوغ في العقل ومما لا يسوغ " .(176/271)
فمن أماثل الموضوعات ما رواه ابن الجوزي من طريق النسائي في كتابه الذي وضعه في خصائص على من حديث عبيد الله بن موسى ، حدثنا العلاء ابن صالح ، عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي قال : قال علىّ رضي الله عنه : أنا عبد الله ، وأخو رسول الله ، وأنا الصديقِّ الأكبر ، لا يقولها بعدى إلا كاذب ، صليت قبل الناس سبع سنين " ورواه أحمد في " الفضائل " وفى رواية له : " ولقد أسلمت قبل الناس بسبع سنين " .
ورواه من حديث العلاء بن صالح أيضا عن المنهال عن عباد .
قال أبو الفرج : " هذا حديث موضوع والمتهم به عباد بن عبد الله . قال على بن المديني : كان ضعيف الحديث " . وقال أبو الفرج : " حماد الأزدى : روى أحاديث لا يتابع عليها . وأما المنهال فتركه شعبه . قال أبو بكر الأثرم : سألت أبا عبد الله عن حديث علىّ : " أنا عبد الله وأخو رسول الله " فقال : اضرب عليه فإنه حديث منكر " .
قلت : وعباد يروىُ من طريقه عن علىّ ما يُعلم أنه كذب عليه قطعا ، مثل هذا الحديث ؛ فإنّا نعلم أن عليا كان أبرَّ وأصدق وأتقى لله من أن يكذب ويقول مثل هذا الكلام ، الذي هو كذب ظاهر معلوم بالضروره أنه كذب . وما علمنا أنه كذب ظاهر لا يشتبه ، فقد علمنا أن علياً لم يقله ، لعلمنا بأنه أتقى لله من أن يتعمد هذا الكذب القبيح ، وأنه ليس مما يشتبه حتى يخطئ فيه ، فالناقل عنه إما متعمد الكذب وإما مخطئ غالط ، وليس قدح المبغض لعلى من الخوارج والمتعصبين لبنى مروان وغيرهم مما يشككنا في صدقه وبره وتقواه ، كما أنه ليس قدح الرافضة في أبى بكر وعمر ، بل وقدح الشيعة في عثمان ، لا يشككنا في العلم بصدقهم وبرهم وتقواهم ، بل نحن نجزم بأن واحدا منهم لم يكن ممن يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا هو فيما دون ذلك .
فإذا كان المنقول عنه مما لا يغلط في مثله ، وقد علمنا أنه كذب ، جزمنا بكذب الناقل متعمدا أو مخطئا .(176/272)
مثل ما رواه عبد الله في " المناقب " : حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عباد بن عبد الله ، عن على . وحدثنا أبو خثيمة ، حدثنا الأسود بن عامر ، حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عباد بن عبد الله الأسدي عن على قال : لما نزلت : " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ "? ( سورة الشعراء : 214 ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا من أهل بيته : إن كان الرجل منهم لآكلا جذعة ، وإن كان شاربا فرقا ... إلى آخر الحديث .
وهذا كذب علَى علىّ رضي الله عنه لم يروه قط ، وكذبه ظاهر من وجوه .
وهذا حديث رواه أحمد في " الفضائل " : حدثنا عثمان ، حدثنا أبو عوانة ، عن عثمان بن المغيرة ، عن أبى صادق ، عن ربيعة بن ناجز ، عن على ، وهؤلاء يعلم أنهم يروون الباطل .
وروى أبو الفرج من طريق أجلح عن سلمة بن كهيل ، عن حبة بن جوين ، قال : سمعت عليا يقول : أنا عبدت الله عز وجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يعبده رجل من هذه الأمة خمس سنين أو سبع سنين " قال أبو الفرج : " حبة لا يساوى حبة فإنه كذاب . قال يحيى : ليس بشيء قال السعدى : غير ثقة . وقال ابن حبان : كان غاليا في التشيع واهيا في الحديث . وأما الأجلح فقال أحمد : قد روى غير حديث منكر . قال أبو حاتم الرازى : لا يحتج به . وقال ابن حبان : كان لا يدرى ما يقول "
قال أبو الفرج : " ومما يبطل هذه الأحاديث أنه لا خلاف في تقدم إسلام خديجة وأبى بكر وزيد ، وأن عمر أسلم في سنة ست من النبوة بعد أربعين رجلا ، فكيف يصح هذا ؟ " .
وذكر حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا الصديق الأكبر " " وهو مما عملته يد أحمد ابن نصر الذراع ، فإنه كان كذابا يضع الحديث " .(176/273)
وحديثا فيه : " أنا أولهم إيمانا ، وأوفاهم بعهد الله ، وأقومهم بأمر الله ، وأقسمهم بالسوية ، وأعدلهم في الرعية ، وأبصرهم بالقضية " قال : " وهو موضوع ، والمتهم به بشر بن إبراهيم . قال ابن عدى وابن حبان : كان يضع الحديث على الثقات " . ورواه الأبرازى الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم بن سعيد الجوهرى ، عن مأمون عن الرشيد . قال : وهذا الأبرازى كان كذابا .
وذكر حديثا : " أنت أول من آمن بى ، وأنت أول من يصافحنى يوم القيامة ، وأنت الصديق الأكبر ، وأنت الفاروق تفرق بين الحق والباطل ، وأنت يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الكافرين ، أو يعسوب الظلمة " .
قال : " وهذا حديث موضوع . وفى طريقه الأول : عباد بن يعقوب . قال ابن حبان : يروى المناكير عن المشاهير فاستحق الترك ، وفيه علىّ بن هاشم . قال ابن حبان : كان يروى المناكير عن المشاهير . ، وكان غاليا في التشيع . وفيه محمد بن عبد الله قال يحيى : ليس بشئ . وأما الطريق الثانى ففيه أبو الصلت الهروى كان كذابا رافضيا خبيثا ، فقد اجتمع عباد وأبو الصلت في روايته ، والله أعلم بهما أيهما سرقه من صاحبه " .
قلت : لعل الآفة فيه من محمد بن عبد الله .
وروى عن طريق ابن عباس وفيه عبد الله بن زاهر . قال ابن معين : ليس بشئ لا يكتب عنه إنسان فيه خير . قال أبو الفرج بن الجوزي : " كان غاليا في الرفض " .
فصل
وهنا طرق يمكن سلوكها لمن لم تكن له معرفة بالأخبار من الخاصة ؛فإن كثيرا من الخاصة ـ فضلا عن العامة ـ يتعذر عليه معرفة التمييز بين الصدق والكذب من جهة الإسناد في أكثر ما يروى من الأخبار في هذا الباب وغيره . وإنما يعرف ذلك علماء الحديث ، ولهذا عدل كثير من أهل الكلام والنظر عن معرفة الأخبار بالإسناد وأحوال الرجال لعجزهم عنها ، وسلكوا طريقا آخر .(176/274)
ولكن تلك الطريق هي طريقة أهل العلم بالحديث ، العالمين بما بعث الله به رسوله . ولكن نحن نذكر طريقاً آخر فنقول : نقدِّر أن الأخبار المتنازع فيها لم توجد ، أو لم يُعلم أيها الصحيح ، ونترك الاستدلال بها في الطرفين ، ونرجع إلى ما هو معلوم بغير ذلك من التواتر ، وما يٌعلم من العقول والعادات ، وما دلت عليه النصوص المتفق عليها .
فنقول : من المعلوم المتواتر عند الخاصة والعامة ، الذي لم يختلف فيه أهل العلم بالمنقولات والسير : أن أبا بكر رضي الله عنه لم يطلب الخلافة : لا برغبة ولا برهبة ، لا بذل فيها ما يرغّب الناس به ، ولا شهر عليهم سيفاً يرهبهم به ، ولا كانت له قبيلة ولا موالٍ تنصره وتقيمه في ذلك ، كما جرت عادة الملوك أن أقاربهم ومواليهم يعاونونهم ، ولا طلبها أيضا بلسانه ، ولا قال : بايعونى ، بل أمر بمبايعة عمر وأبى عبيدة ، ومن تخلف عن بيعته كسعد بن عبادة لم يؤذه ، ولا أكرهه على المبايعة ، ولا منعه حقا له ، ولا حرك عليهم ساكنا . وهذا غاية في عدم إكراه الناس على المبايعة . .
ثم إن المسلمين بايعوه ودخلوا في طاعته ، والذين بايعوه هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، وهم السابقون الأّولون من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وهم أهل الإيمان والهجرة والجهاد ، ولم يتخلف عن بيعته إلا سعد بن عبادة .
وأما علىّ وسائر بنى هاشم فلا خلاف بين الناس أنهم بايعوه ، لكن تخلف من كان يريد الإمرة لنفسه ، رضي الله عنهم أجمعين . ثم إنه في مدة ولايته قاتل بهم المرتدين والمشركين ، لم يقاتل مسلمين، بل أعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الردة، وأخذ يزيد الإسلام فتوحا ، وشرع في قتال فارس والروم ، ومات والمسلمون محاصرو دمشق ، وخرج منها أزهد مما دخل فيها : لم يستأثر عنهم بشئ ، ولا أمّر له قرابة .(176/275)
ثم وَلِىَ عمر بن الخطاب ، ففتح الأمصار ، وقهر الكفّار ، وأعزّ أهل الإيمان، وأذلّ أهل النفاق والعدوان ، ونشر الإسلام والدين ، وبسط العدل في العالمين ، ووضع ديوان الخراج والعطاء لأهل الدين ، ومصَّر الأمصار للمسلمين، وخرج منها أزهد مما دخل فيها : لم يتلوث لهم بمال ، ولا ولَّى أحداً من أقاربه ولاية ، فهذا أمر يعرفه كل أحد .
وأما عثمان فإنه بنى على أمر قد استقرّ قبله بسكينة وحلٍ ، وهدى ورحمة وكرم ، ولم يكن فيه قوة عمر ولا سياسته ، ولا فيه كمال عدله وزهده ، فطُمع فيه بعض الطمع ، وتوسّعوا في الدنيا ، وأدخل من أقاربه في الولاية والمال ، ودخلت بسبب أقاربه في الولايات والأموال أمور أنكرت عليه ، فتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا ، وضعف خوفهم من الله ومنه ، ومن ضعفه هو ، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال ـ ما أوجب الفتنة ، حتى قُتل مظلوما شهيداً.
وتولىّ علىُّ علَىَ إثر ذلك ، والفتنة قائمة ، وهو عند كثير منهم متلطّخ بدم عثمان ، والله يعلم براءته مما نسبه إليه الكاذبون عليه ، المبغضون له ، كما نعلم براءته مما نسبه إليه الغالون فيه ، المبغضون لغيره من الصحابة ؛ فإن علياّ لم يُعِن على قتل عثمان ولا رضى به ، كما ثبت عنه ـ وهو الصادق ـ أنه قال ذلك ، فلم تصف له قلوب كثير منهم ، ولا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه ، ولا اقتضى رأيه أن يكف عن القتال حتى ينظر ما يؤول إليه الأمر ، بل اقتضى رأيه القتال ، وظن أنه به تحصل الطاعة والجماعة ، فما زاد الأمر إلا شدة ، وجانبه إلا ضعفا ، وجانب من حاربه إلا قوة ، والأمة إلا افتراقاً ، حتى كان في آخر أمره يطلب هو أن يكف عنه من قاتله ، كما كان في أول الأمر يُطلب منه الكفّ .(176/276)
وضعفت خلافة ( النبوة ) ضعفاً أوجب أن تصير ملكا ، فأقامها معاوية ملكا برحمة وحلم ، كما في الحديث المأثور : " تكون نبوّة ورحمة ، ثم تكون خلافة نبوة ورحمة ، ثم يكون ملك ورحمة ، ثم يكون ملك " ولم يتول أحد من الملوك خيرا من معاوية ، فهو خير ملوك الإسلام ، وسيرته خير من سيرة سائر الملوك بعده ، وعلى آخر الخلفاء الراشدين ، الذين هم ولايتهم خلافة نبوة ورحمة ، وكل من الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يشهد له بأنه من أفضل أولياء الله المتقين ، بل هؤلاء الأربعة أفضل خلق الله بعد النبيين ، لكن إذا جاء القادح فقال في أبى بكر وعمر : إنهما كانا ظالمين متعديين طالبين للرئاسة مانعين للحقوق ، وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة ، وإنهما ـ ومن أعانهما ـ ظلموا الخليفة المستحق المنصوص عليه من جهة الرسول ، وإنهم منعوا أهل البيت ميراثهم ، وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة والولاية الباطلة ، مع ما قد عُرف من سيرتهما ـ كان من المعلوم أن هذا الظن لو كان حقا فهو أولى بمن قاتل عليها حتى غُلب ، وسُفكت الدماء بسبب المنازعة التي بينه وبين منازعه ، ولم يحصل بالقتال لا مصلحة الدين ولا مصلحة الدنيا ، ولا قوتل في خلافته كافر ، ولا فرح مسلم ، فإن علياً لا يفرح بالفتنة بين المسلمين ، وشيعته لم تفرح بها ، لأنها لم تغلب ، والذين قاتلوه لم يزالوا أيضا في كرب وشدة .
وإذا كنا ندفع من يقدح في علىّ من الخوارج ، مع ظهور هذه الشبهة ، فلأن ندفع من يقدح في أبى بكر وعمر بطريق الأولى والأحرى ..
وإن جاز أن يظن بأبى بكر أنه كان قاصداً للرئاسة بالباطل ، مع أنه لم يُعرف منه إلا ضد ذلك ، فالظن بمن قاتل عَلَى الولاية ـ ولم يحصل له مقصودة ـ أولى وأحرى .
فإذا ضرب مثل هذا وهذا بإمامى مسجد ، وشيخى مكان ، أو مدرسى مدرسة ـ كانت العقول كلها تقول : إن هذا أبعد عن طلب الرئاسة ، وأقرب إلى قصد الدين والخير .(176/277)
فإذا كنا نظن بعلىّ أنه كان قاصدا للحق والدين ، وغير مريد علواً في الأرض ولا فسادا ، فظنُّ ذلك بأبى بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ أولى وأحرى.
وإن ظن ظان بأبى بكر أنه كان يريد العلوّ في الأرض والفساد ، فهذا الظن بعلىّ أجدر وأولى .
أما أن يقال : إن أبا بكر كان يريد العلو في الأرض والفساد ، وعلىُّ لم يكن يريد علوّا في الأرض ولا فسادا ، مع ظهور السيرتين ـ فهذا مكابرة ، وليس فيما تواتر من السيرتين ما يدل على ذلك ، بل المتواتر من السيرتين يدل على أن سيرة أبى بكر أفضل .
ولهذا كان الذين ادّعَوْا هذا لعلىّ أحالوا على ما لم يُعرف ، وقالوا : ثَمَّ نص على خلافته كُتم ، وثَمَّ عداوة باطنة لم تظهر ، بسببها مُنع حقه .
ونحن الآن مقصودنا أن نذكر ما عُلم وتيقن وتواتر عن العامة والخاصة ، وأما ما يذكر من منقول يدفعه جمهور الناس ، ومن ظنون سوء لا يقوم عليها دليل بل نعلم فسادها ، فالمحتج بذلك ممن يتبع الظن وما تهوى الأنفس ، وهو من جنس الكفار وأهل الباطل ، وهى مقابلة بالأحاديث من الطرق الأخر .
ونحن لم نحتج بالأخبار التي رُويت من الطرفين ، فكيف بالظن الذي لا يُغنى من الحق شيئا ؟ !
فالمعلوم المتيقَّن المتواتر عند العام والخاص أن أبا بكر كان أبعد عن إرادة العلو والفساد من عمر وعثمان وعلىّ فضلا عن علىّ وحده ، وأنه كان أولى بإرادة وجه الله تعالى وصلاح المسلمين من الثلاثة بعده ، فضلا عن على ، وأنه كان أكمل عقلا ودينا وسياسة من الثلاثة ، وأن ولايته الأمة خير من ولاية على ، وأن منفعته للمسلمين في دينهم ودنياهم أعظم من منفعة على ، رضي الله عنهم .
وإذا كنا نعتقد أنه كان مجتهدا مريدا وجه الله بما فعل ، وأن ما تركه من المصلحة كان عاجزاً عنه ، وما حصل من المفسدة كان عاجزا عن دفعه ، وأنه لم يكن مريداً للعلوّ في الأرض ولا الفساد ـ كان هذا الاعتقاد بأبى بكر وعمر أولى وأخلق وأحرى .(176/278)
فهذا وجه لا يقدر أحد أن يعارضه إلا بما يظن أنه نقل خاص ، كالنقل لفضائل على ، ولما يقتضى أنه أولى بالإمامة ، أو أن إمامته منصوص عليها .وحينئذ فيعارض هذا بنقل الخاصة ـ الذين هم أصدق وأكثر ـ لفضائل الصديق التي تقضى أنه أولى بالإمامة ، وأن النصوص إنما دلت عليه .
فما من حجة يسلكها الشيعي إلا وبإزائها للسنى حجة من جنسها أولى منها ؛ فإن السنة في الإسلام كالإسلام في الملل ، فما من حجة يسلكها كتابى إلا وللمسلم فيها ما هو أحق بالاتباع منها .
قال تعالى : " وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا " ( سورة الفرقان : 33) لكن صاحب الهوى الذي له غرض في جهة ، إذا وجه له المخالف لهواه ثقل عليه سمعه واتباعه .
قال تعالى : "وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ" ( سورة المؤمنون : 71 ) .
وهنا طريق آخر . وهو أن يُقال : دواعى المسلمين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كانت متوجهة إلى اتباع الحق ، وليس لهم ما يصرفهم عنه ، وهم قادرون على ذلك ، فإذا حصل الداعى إلى الحق ، وانتفى الصارف مع القدرة ، وجب الفعل.
فعُلم أن المسلمين اتّبعوا فيما فعلوه الحق . وذلك أنهم خير الأمم ، وقد أكمل الله لهم الدين ، وأتم عليهم النعمة . ولم يكن عند الصديق غرض دنيوى يقدّمونه لأجله ، ولا عند علىّ غرض دنيوى يؤخرونه لأجله ، بل لو فعلوا بموجب الطبع لقدَّموا علياً . وكانت الأنصار لو اتبعت الهوى أن تتّبع رجلا من بنى هاشم أحب إليها من أن تتبع رجلا من بنى تيم . وكذلك عامة قبائل قريش ، لا سيما بنو عبد مناف وبنو مخزوم ؛ فإن طاعتهم لمنافى كانت أحب إليهم من طاعة تيمى لو اتبعوا الهوى . وكان أبو سفيان بن حرب وأمثاله يختارون تقدم علىّ .(176/279)
وقد روى أن أبا سفيان طلب من علىّ أن يتولى لأجل القرابة التي بينهما . وقد قال أبو قحافة ، لما قيل له أن ابنك تولى ، قال : " أو رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو مخزوم ؟ " قالوا : نعم . فعجب من ذلك ، لعلمه بأن بنى تيم كانوا من أضعف القبائل ، وأن أشراف قريش كانت من تلك القبيلتين .
وهذا وأمثاله مما إذا تدبره العاقل علم أنهم لم يقدموا أبا بكر إلا لتقديم الله ورسوله ، لأنه كان خيرهم وسيدهم وأحبهم إلى الله ؛ فإن الإسلام إنما يقدم بالتقوى لا بالنسب ، وأبو بكر كان أتقاهم .
وهنا طريق آخر ، وهو أنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن خير هذه الأمة القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهذه الأمة خير الأمم كما دل عليه الكتاب والسنة .
وأيضا فإنه من تأمّل أحوال المسلمين في خلافة بنى أمية ، فضلا عن زمن الخلفاء الراشدين ، علم أن أهل ذلك الزمان كانوا خيراً وأفضل من أهل هذا الزمان، وأن الإسلام كان في زمنهم أقوى وأظهر . فإن كان القرن الأول قد جحدوا حق الإمام المنصوص عليه المولى عليهم ، ومنعوا أهل بيت نبيهم ميراثهم ، وولوا فاسقا وظالما ، ومنعوا عادلا عالما ، مع علمهم بالحق ، فهؤلاء من شر الخلق ، وهذه الأمة شر الأمم ، لأن هذا فعل خيارها ، فكيف بفعل شرارها ؟ !
وهنا طريق آخر . وهو أنه قد عُرف بالتواتر ، الذي لا يخفى على العامة والخاصة ، أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كان لهم بالنبي صلى الله عليه وسلم اختصاص عظيم ، وكانوا من أعظم الناس اختصاصاً به ، وصحبة له ، وقرباإليه ، واتصالا به ، وقد صاهرهم كلهم ، وما عُرف عنه أنه كان يذمهم ولايلعنهم ، بل المعروف عنه أنه كان يحبهم ويثنى عليهم .(176/280)
وحينئذ : فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهرا وباطنا ، في حياته وبعد موته. وإما أن يكونوا بخلاف ذلك ، في حياته أوبعد موته . فإن كانوا على غير الاستقامة ، مع هذا التقرب ، فأحد الأمرين لازم : إما عدم علمه بأحوالهم ، أو مداهنته لهم . وأيهما كان فهو من أعظم القدح في الرسول صلى الله عليه وسلم كما قيل :
فإن كنت لا تدرى فتلك مصيبة وإن كنت تدر فالمصيبة أعظم
وإن كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله للرسول في خواص أمته وأكابر أصحابه . ومن قد أخبر بما سيكون بعد ذلك ، أين كان عن علم ذلك؟ وأين الاحتياط للأمة حتى لا يولّى مثل هذا أمرها ؟ ومن وعد أن يظهر دينه على الدين كله ، فكيف يكون أكابر خواصه مرتدين ؟ فهذا ونحوه من أعظم ما يقدح به الرافضة في الرسول ، كما قال مالك وغيره : إنما أراد هؤلاء الرافضة الطعن في الرسول ليقول القائل : رجل سوء كان له أصحاب سوء ، ولو كان رجلا صالحاً لكان أصحابه صالحين .
ولهذا قال أهل العلم : إن الرافضة دسيسة الزندقة ، وإنه وضع عليها.وطريق آخر أن يقال : الأسباب الموجبة لعلىّ ـ إن كان هو المستحق ـ قوية ، والصوارف منتفية ، والقدرة حاصلة ، ومع وجود الداعى والقدرة وانتفاء الصارف يجب الفعل ، وذلك أن علياً هو ابن عم نبيهم ، ومن أفضلهم نسبا ، ولم يكن بينه وبين أحدٍ عداوة : لا عداوة نسب ولا إسلام ، بأن يقول القائل : قتل أقاربهم في الجاهلية .(176/281)
وهذا المعنى منتفٍ في الأنصار ؛ فإنهم لم يقتل أحداً من أقاربهم ، ولهم الشوكة ، ولم يقتل من بنى تيم ولا عدى ولا كثير من القبائل أحدا ، والقبائل التي قتل منها ، كبنى عبد مناف ، كانت تواليه ، وتختار ولايته ، لأنه إليها أقرب . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نص على ولايته ، أو كان هو الأفضل المستحق لها ، لم يكن هذا مما يخفى عليهم ، وعلمهم بذلك يوجب انبعاث إرادتهم إلى ولايته ، إذا لم يكن هناك صارف يمنع ، والأسباب كانت مساعدة لهذا الداعى ، ولا معارض لها ولا صارف أصلا .
ولو قُدِّر أن الصارف كان في نفر قليل ، فجمهور المسلمين لم يكن لهم فيها صارف يصرفهم عنه ، بل هو قادرون على ولايته . ولو قالت الأنصار : علىُّ هو أحق بها من سعد ومن أبى بكر ما أمكن أولئك النفر من المهاجرين أن يدافعوهم ، وقام أكثر الناس مع علىّ ، لاسيما وكان جمهور الذين في قلوبهم مرض يبغضون عمر لشدته عليهم ، وبغض الكفار والمنافقين لعمر أعظم من بغضهم لعلى بما لا نسبة بينهما ، بل لم يعرف أن علياً كان يبغضه الكفّار والمنافقون ، إلا كما يبغضون أمثاله . بخلاف عمر ، فإنه كان شديدا عليهم ، وكان من القياس أن ينفروا عن جهة فيها عمر .
ولهذا لما استخلفه أبو بكر ، كره خلافته طائفة ، حتى قال له طلحة : ماذا تقول لربك إذا وليت علينا فظا غليظا ؟ فقال : أبا لله تخوفنى ؟ أقول : وليت عليهم خير أهلك .
فإذا كان أهل الحق مع علىّ ، وأهل الباطل مع علىّ ، فمن الذي يغلبه إذا كان الحق معه ؟ وهب أنهم إذا قاموا لم يغلبوا ، أما كانت الدواعى المعروفة في مثل ذلك توجب أن يجرى في ذلك قيل وقال ونوع من الجدال ؟ أوليس ذلك أولى بالكلام فيه من الكلام في ولاية سعد ؟ فإذا كانت الأنصار بشبهة لا أصل لها طمعوا أن يتأمر سعد ، فمن يكون فيهم المحق ؟(176/282)
ونص الرسول الجلى كيف لا يكون أعوانه أطمع في الحق ؟ فإذا كان لم ينبز متكلم منهم بكلمة واحدة في ذلك ، ولم يّدع داع إلى علىّ : لا هو ولا غيره ، واستمر الأمر على ذلك ، إلى أن بويع له بعد مقتل عثمان ، فحينئذ قام هو وأعوانه فطلبوا وقاتلوا ولم يسكتوا ، حتى كادوا يغلبوا ـ عُلم بالاضطرار أن سكوتهم أولا كان لعدم المقتضى ، لا لوجود المانع ، وأن القوم لم يكن عندهم علم بأن عليا هو الأحق ، فضلا عن نص جلى ، وأنه لما بدا لهم استحقاقه قاموا معه ، مع وجود المانع .
وقد كان أبو بكر رضي الله عنه أبعدهم عن الممانعة من معاوية بكثير كثير ، لو كان لعلىّ حق . فإن أبا بكر لم يدع إلى نفسه ، ولا أرغب ولا أرهب ، ولا كان طالبا للرئاسة بوجه من الوجوه ، ولا كان في أول الأمر يمكن أحداً القدح في علىّ كما أمكن ذلك بعد مقتل عثمان ، فإنه حينئذ نسبه كثير من شيعة عثمان إلى أنه أعان على قتله ، وبعضهم يقول : خذله . وكان قتلة عثمان في عسكره ، وكان هذا من الأمور التي منعت كثيرا من مبايعته .
وهذه الصوارف كانت منتفية في أول الأمر ، فكان جنده أعظم ، وحقه إذ ذاك ـ لو كان مستحقا ـ أظهر ، ومنازعوه أضعف داعياً وأضعف قوة ، وليس هناك داع قوى يدعو إلى منعه ، كما كان بعد مقتل عثمان ، ولا جند يجمع على مقاتلته ، كما كان بعد مقتل عثمان .(176/283)
وهذه الأمور وأمثالها من تأملها تبين له انتفاء استحقاقه إذ ذاك بيانا لا يمكنه دفعه عن نفسه ، فلو تبين أن الحق لعلىّ ، وطلبه علىّ لكان أبو بكر : إما أن يُسلم إليه ، وإما أن يجامله ، وإما أن يعتذر إليه . ولو قام أبو بكر وهو ظالم يدافع عليا وهو محق ، لكانت الشريعة والعادة والعقل توجب أن يكون الناس مع على المحق المعصوم على أبى بكر المعتدى الظلوم ، لو كان الأمر كذلك ، لا سيما والنفوس تنفر عن مبايعة من ليس من بيت الولاية ، أعظم من نفرتها عن مبايعة أهل بيت المطاع ، فالدواعى لعلىّ من كل وجه كانت أعظم وأكثر ، لو كان أحق ، وهى عن أبى بكر من كل وجه كانت أبعد ، لو كان ظالما .
لكن لما كان المقتضى مع أبى بكر ـ وهو دين الله ـ قويا ، والإسلام في جدته وطراوته وإقباله ، كان أتقى لله ألا يصرفوا الحق عمن يعلمون أنه الأحق إلى غيره ، ولو كان لبعضهم هوى مع الغير .
وأما أبو بكر فلم يكن لأحدٍ معه هوى إلا هوى الدين ، الذي يحبه الله ويرضاه.
فهذه الأمور وأمثالها من تدبرها علم بالاضطرار أن القوم علموا أن أبا بكر هو الأحق بخلافة النبوة ، وأن ولايته أرضى لله ورسوله فبايعوه ، وإن لم يكن ذلك لزم أن يعرفوا ويحرفوا ، وكلاهما ممتنع عادة ودينا ، والأسباب متعددة فهذا المعلوم اليقينى لا يندفع بأخبار لا يُعلم صحتها ، فكيف إذا علم كذبها ؟ وألفاظ لا تعلم دلالتها ، فكيف إذا علم انتفاء دلالتها ؟ ومقاييس لا نظام لها ، يعارضها من المعقول والمنقول الثابت الإسناد المعلوم المدلول ما هو أقوى وأولى بالحق وأحرى .(176/284)
وهؤلاء الرافضة الذين يدفعون الحق المعلوم يقينا بطرق كثيرة علماً لا يقبل النقيض بشبه في غاية الضعف ، هم من أعظم الطوائف الذين في قلوبهم الزيغ ، الذين يتبعون المتشابه ويدعون المحكم ، كالنصارى والجهمية وأمثالهم من أهل البدع والأهواء ، الذين يدعون النصوص الصحيحة الصريحة التي توجب العلم ، ويعارضونها بشبه لا تفيد إلا الشك ، لو تعرض لم تثبت . وهذا في المنقولات سفسطة كالسفسطة في العقليات ، وهو القدح فيما علم بالحس والعقل بشبهة تعارض ذلك . فمن أراد أن يدفع العلم اليقينى المستقر في القلوب بالشبه ، فقد سلك مسلك السفسطة ، فإن السفسطة أنواع : أحدها : النفى والجحد والتكذيب : إما بالوجود وإما بالعلم به .
والثانى : الشك والريب ، وهذه طريقة اللاأدرية ، الذين يقولون : لا ندرى ، فلا يثبتون ولا ينفون ، لكنهم في الحقيقة قد نفوا العلم ، وهو نوع من النفس فعادت السفسطة إلى جحد الحق المعلوم أو جحد العلم به .
والثالث : قول من يجعل الحقائق تبعا للعقائد ، فيقول : من اعتقد العالم قديما فهو قديم ، ومن اعتقده محدثا فهو محدث ، وإذا أريد بذلك أنه قديم عنده ومحدث عنده فهذا صحيح ، فإن هذا هو اعتقاده . لكن السفسطة أن يراد أنه كذلك في الخارج .
وإذا كان كذلك فالقدح فيما عُلم من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم مع الخلفاء الثلاثة ، وما علم من سيرتهم بعده بأخبار يرويها الرافضة ، يكذبهم فيها جماهير الأمة من أعظم السفسطة ، ومن روى لمعاوية وأصحابه من الفضائل ما يوجب تقديمه على علىّ وأصحابه ، كان كاذباً مبطلا مسفسطاً .
ومع هذا فكذب الرافضة الذين يروون ما يقدح في إيمان الخلفاء الثلاثة ويوجب عصمة علىّ ، أعظم من كذب من يروى ما يُفضَّل به معاوية على علىّ ، وسفسطتهم أكثر ؛ فإن ظهور إيمان الثلاثة أعظم من ظهور فضل علىّ عَلَىَ معاوية من وجوه كثيرة ، وإثبات عصمة علىّ أبعد عن الحق من إثبات فضل معاوية .(176/285)
ثم خلافة أبى بكر وعمر هي من كمال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته ، ومما يُظهر أنه رسول حق ، ليس ملكا من الملوك ؛ فإن عادة الملوك إيثار أقاربهم بالولايات لوجوه : أحدهما : محبتهم لأقاربهم أكثر من الأجانب , لما في الطباع من ميل الإنسان إلى قرابته . والثانى : لأن أقاربهم يريدون إقامة ملكهم ما لا يريده الأجنبي ، لأن في عز قريب الإنسان عز لنفسه ، ومن لم يكن له أقارب من الملوك استعان بممالكه ومواليه فقربهم واستعان بهم ، وهذا موجود في ملوك المسلمين والكفار .
ولهذا لما كان ملوك بنو أمية وبنو العباس ملوكا ، كانوا يريدون أقاربهم ومواليهم بالولايات أكثر من غيرهم ، وكان ذلك مما يقيمون به ملكهم .
وكذلك ملوك الطوائف ، كبنى بويه ، وبنى سلجق ، وسائر الملوك بالشرق والغرب ، والشام ، واليمن ، وغير ذلك .
وهكذا ملوك الكفار من أهل الكتاب والمشركين ، كما يوجد في ملوك الفرنج وغيرهم ، وكما يوجد في آل جنكشخان بأن الملوك تبقى في أقارب الملك ، ويقولون : هذا من العظم ، وهذا ليس من العظم ، أي من أقارب الملك .
وإذا كان كذلك فتولية أبى بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم دون عمه العباس وبنى عمه على وعقيل وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وأبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وغيرهم ، ودون سائر بنى عبد مناف : كعثمان بن عفان وخالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد بن العاص وغيرهم من بنى عبد مناف ، الذين كانوا أجل قريش قدراً ، وأقرب نسبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ من أعظم الأدلة على أن محمدا عبد الله ورسوله ، وأنه ليس ملكا ؛ حيث لم يقدم في خلافته أحداً : لا بقرب نسب منه ، ولا بشرف بيته ، بل إنما قدّم بالإيمان والتقوى .(176/286)
ودل ذلك على أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده إنما يعبدون الله ويطيعون أمره ، لا يريدون ما يريده غيرهم من العلو في الأرض ، ولا يريدون أيضا ما أبيح لبعض الأنبياء من الملك . فإن الله خير محمداً بين أن يكون عبداً ورسولاً وبين أن يكون ملكا نبيا فاختار أن يكون عبداً رسولاً .
وتولية أبى بكر وعمر بعده من تمام ذلك ؛ فإنه لو قدم أحداً من أهل بيته لكانت شبهة لمن يظن أنه كان ملكا ، كما أنه لو ورث مالا لورثته لكانت شبهة لمن يظن أنه جمع المال لورثته . فلما لم يستخلف أحداً من أهل بيته ولا خلف لهم مالا، كان هذا مما يبين أنه كان من أبعد الناس عن طلب الرياسة والمال ، وإن كان ذلك مباحا ، وأنه لم يكن من الملوك الأنبياء ، بل كان عبد الله ورسوله .
كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " إنى والله لا أعطى أحدا ولا أمنع أحدا ، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت " .
وقال : " إن ربى خيرنى بين أن أكون عبداً رسولا ً أو نبيا ملكا ، فقلت : بل عبدا رسولا " .
وإذا كان هذا مما دل على تنزيهه عن كونه من ملوك الأنبياء ، فدلالة ذلك على نبوته ونزاهته عن الكذب والظلم أعظم وأعظم . ولو تولى بعده على أو واحد من أهل بيته لم تحصل هذه المصالح والإلطافات العظيمة .
وأيضاً فإنه من المعلوم أن الإسلام في زمن علىّ كان أظهر وأكثر مما كان في خلافة أبى بكر وعمر وكان الذين قاتلهم علىّ أبعد عن الكفر من الذين قاتلهم أبو بكر وعمر ؛ فإن أبا بكر قاتل المرتدين وأهل الكتاب ، مع ما حصل للمسلمين بموت النبي صلى الله عليه وسلم من الضعف العظيم ، وما حصل من الارتداد لأكثر البوادى ، وضعف قلوب أهل الأمصار ، وشك كثير منهم في جهاد مانعى الزكاة وغيرهم .(176/287)
ثم عمر تولى قتال أمتين عظيمتين ، لم يكن في العادة المعروفة أن أهل الحجاز واليمن يقهرونهم وهما فارس والروم ، فقهرهم وفتح بلادهم . وتمم عثمان ما تمم من فتح المشرق والمغرب ، ثم فتح بعد ذلك في خلافة بنى أمية ما فتح بالمشرق والمغرب كما وراء النهر والأندلس وغيرهما مما فتح في خلافة عبد الملك .
فمعلوم أنه لو تولى غير أبى بكر وعمر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل علىّ أو عثمان ، لم يمكنه أن يفعل ما فعلا ؛ فإن عثمان لم يفعل ما فعلا ، مع قوة الإسلام في زمانه ، وعلىّ كان أعجز من عثمان ، وكان أعوانه أكثر من أعوانهما ، وعدوه أقل وأقرب إلى الإسلام من عدوهما ، ومع هذا فلم يقهر عدوه ، فكيف كان يمكنه قهر المرتدين وقهر فارس والروم ، مع قلة الأعوان وقوة العدو ؟!
وهذا مما يبين فضل أبى بكر وعمر ، وتمام نعمة الله بهما على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الناس بعده ، وأن من أعظم نعم الله تولية أبى بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه لو تولى غيرهما كان لم يفعل ما فعلا ، إما لعدم القدرة ، وإما لعدم الإرادة.
فإنه إذا قيل : لِمَ لمْ يغلب علىّ معاوية وأصحابة ؟ فلابد أن يكون سبب ذلك : إما عدم كمال القدرة ، وإما عدم كمال الإرادة . وإلا فمع كمال القدرة وكمال الإرادة يجب وجود الفعل ، ومن تمام القدرة طاعة الأتباع له ، ومن تمام الإرادة إرادة ما هو الأصلح الأنفع الأرضى لله ولرسوله .
وأبو بكر وعمر كانت قدرتهما أكمل ، وإرادتهما أفضل . فبهذا نصر الله بهما الإسلام ، وأذل بهما الكفر والنفاق ، وعلى رضي الله عنه لم يؤت من كمال القدرة والإرادة ما أوتيا .(176/288)
والله تعالى كما فضّل بعض النبيين على بعض ، فضّل بعض الخلفاء على بعض . فلما لم يؤت ما أوتيا ، لم يمكنه أن يفعل في خلافته ما فعلا ، وحينئذ فكان عن ذلك بموت النبي صلى الله عليه وسلم أعجز وأعجز ؛ فإنه على أي وجه ُقدر ذلك فإن غاية ما يقول المتشيّع : إن أتباعه لم يكونوا يطيعونه .
فيقال : إذا كان الذين بايعوه لم يطيعوه ، فكيف يطيعه من لم يبايعه ؟ وإذا قيل : لو بايعوه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لفعل بهم أعظم مما فعل أبو بكر وعمر .
فيقال : قد بايعه أكثر ممن بايع أبا بكر وعمر ونحوهما ، وعدوه أضعف وأقرب إلى الإسلام من عدو أبى بكر وعمر ، ولم يفعل ما يشبه فعلهما ، فضلا عن أن يفعل أفضل منه .
وإذا قال القائل : إن أتباع أبى بكر وعمر رضي الله عنهما أعظم إيمانا وتقوى ، فنصرهم الله لذلك .
قيل : هذا يدل على فساد قول الرافضة ؛ فإنهم يقولون : إن أتباع أبى بكر وعمر كانوا مرتدين أو فاسقين ، وإذا كان نصرهم وتأييدهم لإيمانهم وتقواهم ، دل ذلك على أن الذين بايعوهما أفضل من الشيعة الذين بايعوا عليا .
وإذا كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامة على ، دل ذلك على أنهما أفضل منه .
وإن قالوا : إن عليا إنما لم ينتصر لأن أتباعه كانوا يبغضونه ويختلفون عليه.
قيل : هذا أيضا يدل على فساد قول الشيعة : إن الذين بايعوا عليا وأقروا بإمامته أفضل ممن بايع أبا بكر وعمر وأقر بإمامتهما ، فإذا كان أولئك الشيعة الذين بايعوا عليا عصاة للإمام المعصوم ، كانوا من أشر الناس ، فلا يكون في الشيعة طائفة محمودة أصلا ، ولا طائفة ينتصر بها على العدو ، فيمتنع أن يكون على مع الشيعة قادرا على قهر الكفار .
وبالجملة فلابد من كمال حال أبى بكر وعمر وأتباعهما ، فالنقص الذي حصل في خلافة علىّ من إضافة ذلك : إما إلى الإمام ، وإما إلى أتباعه ، وإما إلى المجموع .(176/289)
وعلى كل تقدير فيلزم أن يكون أبو بكر وعمر وأتباعهما أفضل من علىّ وأتباعه ، فإنه إن كان سبب الكمال والنقص من الإمام ظهر فضلهما عليه ، وإن كان من أتباعه كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامته ، فتكون أهل السنة أفضل من الشيعة ، وذلك يستلزم كونهما أفضل منه ، لأن ما امتاز به الأفضل أفضل مما امتاز به المفضول .
وهذا بين لمن تدبره ؛ فإن الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وقاتلوا معهم ، هم أفضل من الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه ؛ فإن أولئك فيهم من عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه .
وعامة السابقين الأولين عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما توفى منهم أو قتل في حياته قليل منهم .
والذين بايعوا عليا كان فيهم من السابقين والتابعين بإحسان بعض من بايع أبا بكر وعمر وعثمان . وأما سائرهم فمنهم من لم يبايعه ولم يقاتل معه ، كسعد بن أبى وقاص ، وأسامة بن زيد ، وبن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، وزيد بن ثابت ، وأبى هريرة ، وأمثال هؤلاء من السابقين ، والذين اتبعوهم بإحسان .
ومنهم من قاتله ، كالذين كانوا مع طلحة والزبير وعائشة ومعاوية من السابقين والتابعين .
وإذا كان الذين بايعوا الثلاثة وقاتلوا معهم أفضل من الذين بايعوا عليا وقاتلو معه ، لزم أن يكون كل من الثلاثة أفضل ، لأن عليا كان موجودا على عهدالثلاثة ، فلو كان هو المستحق للإمامة دون غيره ، كما تقول الرافضة ، أو كان أفضل وأحق بها ، كما يقوله من يقوله من الشيعة ، لكان أفضل الخلق قد عدلوا عما أمرهم الله به ورسوله إلى ما لم يؤمروا به ، بل ما نهوا عنه ، وكان الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه فعلوا ما أمروا به .(176/290)
ومعلوم أن من فعل ما أمر الله به ورسوله كان أفضل ممن تركه وفعل ما نهى الله عنه ورسوله ، فلزم لو كان قول الشيعة حقا أن يكون أتباع على أفضل . وإذا كانوا هم أفضل وإمامهم أفضل من الثلاثة ، لزم أن يكون ما فعلوه من الخير أفضل مما فعله الثلاثة .
وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار ، الذي تواترت به الأخبار ، وعلمته البوادى والحضار ؛ فإنه في عهد الثلاثة جرى من ظهور الإسلام وعلوه ، وانتشاره ونموه وانتصاره وعزه ، وقمع المرتدين ، وقهر الكفار من أهل الكتاب والمجوس وغيرهم ـ ما لم يجر بعدهم مثله .
وعلىّ رضي الله عنه فضّله الله وشرّفه بسوابقه الحميدة وفضائله العديدة ، لا بما جرى في زمن خلافته من الحوادث ، بخلاف أبى بكر وعمر وعثمان فإنهم فضلوا مع السوابق الحميدة والفضائل العديدة ، بما جرى في خلافتهم من الجهاد في سبيل الله ، وإنفاق كنوز كسرى وقيصر ، وغير ذلك من الحوادث المشكورة ، والأعمال المبرورة .
وكان أبو بكر وعمر أفضل سيرة وأشرف سريرة من عثمان وعلى رضي الله عنهم أجمعين . فلهذا كانا أبعد عن الملام وأولى بالثناء العام ، حتى لم يقع في زمنهما شئ من الفتن ؛ فلم يكن للخوارج في زمنهما لا قول مأثور ولا سيف مشهور ، بل كان كل سيوف المسلمين مسلولة على الكفار ، وأهل الإيمان في إقبال، وأهل الكفر في إدبار .
ثم إن الرافضة ـ أو أكثرهم ـ لفرط جهلهم وضلالهم يقولون : إنهم ومن اتبعهم كانوا كفارا مرتدين ، وإن اليهود والنصارى خير منهم ، لأن الكافر الأصلى خير من المرتد . وقد رأيت هذا في عدة من كتبهم ، وهذا القول من أعظم الأقوال افتراء على أولياء الله المتقين ، وحزب الله المفلحين ، وجند الله الغالبين .(176/291)
ومن الدلائل الدالة على فساده أن يقال : من المعلوم بالاضطرار ، والمتواتر من الأخبار ، أن المهاجرين هاجروا من مكة وغيرها إلى المدينة، وهاجر طائفة منهم ، كعمر وعثمان وجعفر بن أبى طالب ، هجرتين : هجرة إلى الحبشة ، وهجرة إلى المدينة ، وكان الإسلام إذ ذاك قليلا ، والكفار مستولون على عامة الأرض ، وكانوا يؤذون بمكة ويلقون من أقاربهم وغيرهم من المشركين من الأذى ما لا يعلمه إلا الله ، وهم صابرون على الأذى ، متجرعون لمرارة البلوى ، وفارقوا الأوطان ، وهجروا الخلان لمحبة الله ورسوله والجهاد في سبيله ، كما وصفهم الله تعالى بقوله :
" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " ( سورة الحشر : 8 ) .
وهذا كله فعلوه طوعا واختيارا من تلقاء أنفسهم ، لم يكرههم عليه مكره ، ولا ألجأهم إليه أحد ؛ فإنه لم يكن للإسلام إذ ذاك من القوة ما يكره به أحد على الإسلام ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ـ هو ومن اتبعه ـ منهيين عن القتال ، مأمورين بالصفح والصبر ، فلم يسلم أحد إلا باختياره ، ولا هاجر أحد إلا باختياره.
ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره من العلماء : إنه لم يكن من المهاجرين من نافق ، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار لما ظهر الإسلام بالمدينة ، ودخل فيه قبائل الأوس والخزرج ، ولما صار للمسلمين دار يمتنعون بها ويقاتلون دخل في الإسلام من أهل المدينة وممن حولهم من الأعراب من دخل خوفا وتقية ، وكانوا منافقين .
كما قال تعالى :(176/292)
" وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ " ( سورة التوبة : 101 )
ولهذا إنما ذكر النفاق في السور المدنية ، وأما السور المكية فلا ذكر فيها للمنافقين ، فإن من أسلم قبل الهجرة بمكة لم يكن فيهم منافق ، والذين هاجروا لم يكن فيهم منافق ، بل كانوا مؤمنين بالله ورسوله ، محبين لله ولرسوله ، وكان الله ورسوله أحب إليهم من أولادهم وأهلهم وأموالهم .
وإذا كان كذلك علم أن رميهم ـ أو رمى أكثرهم أو بعضهم ـ بالنفاق ، كما يقوله من يقوله من الرافضة ، من أعظم البهتان ، الذي هو نعت الرافضة وإخوانهم من اليهود ؛ فإن النفاق كثير ظاهر في الرافضة إخوان اليهود ، ولا يوجد في الطوائف أكثر وأظهر نفاقا منه ، حتى يوجد فيهم النصيرية والإسماعيلية وأمثالهم ، ممن هو من أعظم الطوائف نفاقا وزندقة وعداوة لله ولرسوله .
وكذلك دعواهم عليهم الردة من أعظم الأقوال بهتاناً ؛ فإن المرتد إنما يرتد بشبهة أو شهوة . ومعلوم أن الشبهات والشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى ، فمن كان إيمانهم مثل الجبال في حال ضعف الإسلام ، كيف يكون إيمانهم بعد ظهور آياته وانتشار أعلامه ؟!
وأما الشهوة : فسواء كانت شهوة رياسة أو مال أو نكاح أو غير ذلك ، كانت في أول الإسلام أولى بالاتباع ، فمن خرجوا من ديارهم وأموالهم ، وتركوا ما كانوا عليه من الشرف والعز حبا لله ولرسوله ، طوعا غير إكراه ، كيف يعادون الله ورسوله طلبا للشرف والمال ؟!(176/293)
ثم هم في حال قدرتهم على المعاداة ، وقيام المقتضى للمعاداة ، لم يكونوا معادين لله ورسوله ، بل موالين لله ورسوله ، معادين لمن عادى الله ورسوله ، فحين قوى المقتضى للموالاه ، وضعفت القدرة على المعاداة ، يفعلون نقيض هذا ؟! هل يظن هذا إلا من هو من أعظم الناس ضلالاً ؟
وذلك أن الفعل إذا حصل معه كمال القدرة عليه ، وكمال الإرادة له وجب وجوده ، وهم في أول الإسلام كان المقتضى لإرادة معاداة الرسول أقوى ، لكثرة أعدائه وقلة أوليائه ، وعدم ظهور دينه وكانت قدرة من يعاديه باليد واللسان حينئذ أقوى ، حتى كان يعاديه آحاد الناس ويباشرون أذاه بالأيدي والألسن . ولما ظهر الإسلام وانتشر ، كان المقتضى للمعاداة أضعف ، والقدرة عليها أضعف . ومن المعلوم أن من ترك المعاداة أولا ، ثم عاداه ثانيا لم يكن إلا لتغير إرادته أو قدرته .
ومعلوم أن القدرة على المعاداة كانت أولاً أقوى ، والموجب لإرادة المعاداة كان أولا أولى ، ولم يتجدد عندهم ما يوجب تغير إرادتهم ولا قدرتهم ، فعلم علما يقينيا أن القوم لم يتجدد عندهم ما يوجب الردة عن دينهم ألبتة ، والذين ارتدوا بعد موته إنما كانوا ممن أسلم بالسيف ، كأصحاب مسيلمة وأهل نجد ، فأما المهاجرون الذين أسلموا طوعا فلم يرتد منهم ـ ولله الحمد ـ أحد ، وأهل مكة لما أسلموا بعد فتحها همَّ طائفة منهم بالردة ، ثم ثبتهم الله بسهيل بن عمرو .
وأهل الطائف لما حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ، ثم رأوا ظهور الإسلام ، فأسلموا مغلوبين ، فهموا بالردة ، فثبتهم الله بعثمان بن أبى العاص .(176/294)
فأما أهل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فإنما أسلموا طوعا ، والمهاجرون منهم والأنصار ، وهم قاتلوا الناس على الإسلام ، ولهذا لم يرتد من أهل المدينة أحد ، بل ضعف غالبهم بموت النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلت أنفسهم عن الجهاد على دينه ، حتى ثبتهم الله وقواهم بأبى بكر الصديق رضي الله عنه ، فعادوا إلى ما كانوا عليه من قوة اليقين ، وجهاد الكافرين ، فالحمد لله الذي من على الإسلام وأهله بصديق الأمة ، الذي أيد الله به دينه في حياة رسوله ، وحفظه به بعد وفاته ، فالله يجزيه عن الإسلام وأهله خير الجزاء . انتهى كلام شيخ الإسلام رضي الله تعالى عنه .
الفصل الخامس
عقائد تابعة
رأينا فيما سبق عقيدتهم في الإمامة ، وأثبتنا بطلانها بأدلة صحيحة صريحة، بل قطعية يقينية . وهذه العقيدة الباطلة هي الطامة الكبرى التي دفعتهم إلى كل غلو وضلال ، وقد رأيت هذا واضحاً جليا منذ عشرات السنين عندما كنت أدرس للحصول على درجة الماجستير، وكان عنوان الرسالة " فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة ... " ولذلك جعلت رسالة الدكتوراه تحت عنوان " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله " وإن كنا في غنى عن مناقشة ما تبع عقيدة الإمامة من عقائد أخرى ، فما بنى على باطل فهو باطل ، غير أننا آثرنا توضيح أهم العقائد التابعة ، وستكون المناقشة موجزة كل الإيجاز ، وهذه العقائد أهمها : عصمة الأئمة ، والبداء ، والرجعة ، والتقية.
أولا : عصمة الأئمة
يرى الشيعة الاثنى عشرية وجوب عصمة الإمام " بحيث يحصل للمكلفين القطع بأنه حجة الله ، وأن قوله قول الله تعالى ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم . وحكمه وجوب طاعته والتسليم له ، والرد إليه على جهة القطع. (1) } - - - { )
وأهم أدلتهم على وجوب هذه العصمة ما يأتي :-
__________
(1) 260) جوامع الكلم 1 / 8 .(176/295)
1.وجوب وجود الإمام لطف من الله سبحانه ، فبه يتم ارتفاع القبيح وفعل الواجب ، وفعل القبيح والإخلال بالواجب لا يكونان إلا ممن ليس بمعصوم ، فلابد على هذا من أن يكون الإمام معصوماً ، فهو مكان النبي ، متصف بكل صفاته إلا النبوة .
2.الإمام مقتدى به في جميع الشريعة ، فلو كان غير معصوم لم نأمن في بعض أفعاله مما يدعونا إليه أن يكون قبيحاً ، ويجب علينا موافقته من حيث وجب الاقتداء به ، ولا يجوز من الحكيم تعالى أن يوجب علينا الاقتداء بما هو قبيح ، فإذا لم يجز ذلك عليه تعالى دل على أن من أوجب علينا الاقتداء به لا يصدر منه فعل القبيح ولا يكون كذلك إلا المعصوم .
3.إذا ثبت لنا عصمته في الظاهر ، فلابد من عصمته في الباطن ، إذ لا يحسن من الحكيم تعالى أن يولى الإمامة ـ وهى منصب يقتضي التعظيم والتبجيل ـ من يجوز أن يكون مستحقا للعنة والبراءة في باطنه .
4.لابد أن يكون معصوما قبل حال الإمامة لأنه لو لم يكن كذلك لأدى إلى التنفير عنه، وعدم الاطمئنان إليه(1) } - - - { ) .
وهم يرون كذلك أن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فيهما ما يؤيد اعتقادهم ، فكريمة قوله تعالى : " إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "صريحة في لزوم العصمة في الإمام لمن تدبرها جيدا(2) } - - - { ).
" ومن ذلك مثل قوله تعالى - " أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ"
__________
(1) 261) انظر تلخيص الشافى ص 318 ، وجوامع الكلم جـ 1 صفحات : 7 ، 8 ، 19 ، 20.
(2) 262) انظر أصل الشيعة وأصولها ص 102 .(176/296)
وجه الاستدلال العقلى من دليل الموعظة الحسنة أنه سبحانه أخبرهم بأن من يهدى إلى الحق أولى بالاتباع ، ومن فعل الذنب لا يكون هادياً إلى الحق حال معصيته ولا بفعله ، أما حال معصيته فلا يقبل منه ولا تؤثر موعظته في القلوب ، بل تنكر عليه ، وذلك موجب لخلاف دعوته إلى الحق ، وأما بفعله ففعله ذنب والذنب باطل يدعو إلى الباطل ، وأما في غير تلك الحال فالعقول تجوز عليه حالاً لمعصيته لما فيها من شائبة النفرة ، فلا يتم له هدايته إلى الحق ، ولو فرض أنها لا تجوز عليه حال الطاعة حال المعصية ، لم يستحق أحقية الاتباع المطلقة المستمرة التي هي مراد في الآية الشريفة ، ولو فرض الاستحقاق والحال هذه في الجملة ، أو بقول مطلق ، لم يكن في الاستحقاق للأتباع مثل إن لم يقع منه ذنب مطلقا ، فإذا كان الاتباع إنما هو للهداية للحق والصواب الموجبة للنجاة من عذاب الله وسخطه ، وجب في العقل اتباع من لم يجوز عليه العقل شيئاً من المعاصي بالقطع بحصول النجاة في اتباعه ، دون من وقع منه الذنب ، لعدم القطع بحصول النجاة فياتباعه " (1) } - تمهيد - { ) .
ومعنى هذا أن الإمام غير المعصوم عندما يعصى ويفعل الذنب لا يصلح للدعوة إلى الحق ، وفي غير حال المعصية لا يصلح كذلك ، لأن العقول تجوز وقوع المعصية منه . وإذا فرض أنها لا تجوز ذلك في حال طاعته فإن غير المعصوم ـ مع هذا ـ ليس أهلا لأن يتبع الاتباع المطلق المستمر .
وأما السنة الشريفة فهى ـ في رأيهم ـ مستفيضة في الدلالة على العصمة ، بل إنه " ما نشأ القول بعصمة الأئمة إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله " (2) } - تمهيد - { ).
__________
(1) 263) جوامع الكلم 1 / 20 .
(2) 264) الدعوة الإسلامية ص 253 .(176/297)
وهم يرون كذلك أن ما ورد في القرآن الكريم من العتابات المروية في حق الأنبياء عليهم السلام ليست مقصودة على ما هو المعروف عند سائر الناس ، " فإن المعروف عندهم أن الشخص إذا عاتب آخر ، والسيد إذا عاتب عبده ، فإنه في تلك الحال واجد عليه أو مريد لعقوبته ، لأجل مخالفته لما أمره به أو نهاه عنه ، لأنه عاص له ، قادم على مخالفة أمره ، وأما عتاب الله عز وجل فإنه ليس من هذا القبيل ؛ لأن أنبياءه لا يقدمون على مخالفته ، وإن ما يقع منهم بمقتضى الطبيعة البشرية ليس مما نهى الله عنه نهى تحريم ليقال كيف يرجحون داعي الطبيعة البشرية على داعي أمر الله وداعي الطبيعة البشرية النفس الأمارة بالسوء ، وداعي أمر الله هو العقل . وأصحاب العقول الكاملة لا يطيعون قرين الشيطان . وإنما هو نهى تنزيه وإرشاد " .
والنبي أو الولي " قد يقع منه خلاف الأولى لأنه ينافي الكمال ، ولا يستلزم النقصان ، لأنه بتلك الصفات الحميدة تام قائم في مقامه ومرتبته التي وضعه الله فيها ، فإذا وقع منه خلاف الأولى استوجب العقاب والذم من رب الأرباب لعلم ذلك الولي أنه مرجوح لا ينبغى له أن يفعله ، فإذا فعله مع علمه بذلك عرف من نفسه التقصير واستحقاق العتاب ، لأن الله سبحانه أقامه مقام القدس الذي هو محل الخلافة والسفارة المقتضى لأن يجرى على الحكمة التي هي مقتضى إرادة المولى سبحانه وفعله ، فإذا ورد عليه الذم والعتاب انكسر وأناب ، فاستحق بانكساره وذله واستغفاره وتوبته تلك الدرجة العالية " (1) } - تمهيد - { ).
" فتلك العتابات والتوبيخات دالة على عظم شأنهم ، وجلالة قدرهم عنده لعظيم اعتنائه عز وجل بهم ، فإنه قد يعاتبهم ويلومهم على ما ليس بذنب ، وإنما هو تكميل على تكميل ، وتنزيه لهم عن ملابسة مالا يليق بمقامهم عنده " (2) } - تمهيد - { ).
__________
(1) 265) جوامع الكلم 1 / 18.
(2) 266) المرجع السابق 1 / 19 .(176/298)
ومن أمثلة ذلك قول الله عز وجل : " عَفَا اللّهُ عَنكَ "، فقالوا تفسيرا للعفو: " هذا يستعمل من لطيف المعاتبة ، وإن كان العتاب على فعل جائز مثل المراد في هذه الآية ، وليس للعفو متعلق إلا التلطف في العتاب " (1) } - تمهيد - { ).
وقوله تعالى : " لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ "
خرجوا معنى الآية الكريمة على أنه " محمول على ترك الأولى كما تقدم " . وقيل : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنب أمتك بشفاعتك ، وحسنت إضافة ذنوب أمته إليه للاتصال بينه وبينهم .
وعن الصادق رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال ما كان له ذنب ولا هم بذنب ، ولكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له ..
وفي رواية ابن طاووس عنهم عليهم السلام أن المراد : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر عند أهل مكة وقريش ، يعنى ما تقدم قبل الهجرة وبعدها ، فإنك إذا فتحت مكة بغير قتل لهم ولا استيصال ، ولا أخذهم بما قدموه من العداوة والقتال ، غفروا ما كانوا يعتقدونه ذنبا لك عندهم متقدماً أو متأخراً ، وما كان يظهر من عداوته لهم في مقابلة عداوتهم له . فلما رأوه قد تحكم وتمكن ، وما استقصى ، غفروا ما ظنوه من الذنوب ، ونقل أنه صلى الله عليه وسلم وآله حين كسر الأصنام قالوا: ما كان أحد أعظم ذنباً من محمد ، كسر ثلثمائة وستين إلهاً ، فقال تعالى :" إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ " من عبادتها " وَمَا تَأَخَّرَ"بكسرك إياها ، تهكما بهم واستهزاء (2) } - تمهيد - { ).
__________
(1) 267) المرجع السابق 1 / 24 .
(2) 268) المرجع السابق 1 / 25 ، والمعروف أن الرسول الكريم لم يعبد الأصنام قط ، ولذلك فالمراد بقوله " من عبادتها " أنه ( أذنب ـ من وجهة نظر الكفار ـ لأنه قصر في عبادة الأصنام فلم يتخذها آلهة .(176/299)
وفي واقعة آدم رضي الله عنه " لا يقال إنه عصى من حيث هو معصوم ـ كما هو حال ما نحن بصدده ـ بل إنما عصى حين صرف عنه وجه العصمة ليتم مقادير الله عز وجل " (1) } - تمهيد تمهيد { ).
وتفسير العصيان بأنه راجع إلى ترك الأولى ، وهو ليس بذنب في الحقيقة . نعم يسمى معصية وذنباً وسيئة إذا صدر من أصحاب المراتب العالية في القرب من الله عز وجل كالنبيين ، ولهذا ورد : حسنات الأبرار سيئات المقربين(2) } - تمهيد - { ).
وفي قصة داود رووا عن الرضا أنه قال : " إن داود رضي الله عنه إنما ظن أن ما خلق الله عز وجل خلقا هو أعلم منه ، فبعث الله عز وجل إليه ملكين فتسورا المحراب . فقالا له : خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط ، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة ، فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب . فعجل داود رضي الله عنه على المدعى عليه فقال : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ، ولم يسأل المدعى البينة على ذلك ، ولم يقبل على المدعى عليه فيقول له : ما تقول ؟ فكان هذا خطيئة رسم حكم " (3) } - تمهيد - { ).
هذا هو رأي الإمامية في مسألة العصمة ، والذي دفعهم إلى كل هذا نظرتهم إلى الإمام على أنه مكان النبي تماما بفارق واحد هو مسألة النبوة ! فلولا وجود الإمام لضلت الأمة ، وهذا الذي يعصم الأمة من الضلال لابد أن يكون معصوماً .
__________
(1) 269) جوامع الكلم 1 / 26 .
(2) 270) نفس المرجع 1 / 27 .
(3) 271) جوامع الكلم 1 / 32 .(176/300)
وإن كان هؤلاء الغلاة يقصدون أئمتهم على وجه الخصوص دون غيرهم من سائر أئمة المسلمين ، فإن أي إمام من الأئمة في الإسلام كائنا من كان منفذ للشرع وليس مشرعا ، والذي يعصم الأمة الإسلامية من الضلال هو القرآن الكريم الذي تعهد الله سبحانه بحفظه " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (1) } - تمهيد - { ) ثم من بعد ذلك السنة النبوية الشريفة . وما تحتاج إليه الأمة ولا تجده في هذين المصدرين ، فإنها تعمل عقلها وتجتهر فيما يعرض لها ، فإنها لا تجمع على ضلالة بنص قول الرسول صلى الله عليه وسلم (2) } - - - { ) ، وهى التي تعصم الإمام من الخطأ ، فالإمام فرد يخطئ ويصيب كسائر البشر من لدن آدم عليه السلام ، أما الأمة فهى أحقٍ بأن تصيب .
وعندما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن ، فوضه في أن يجتهد بعد الرجوع إلى الكتاب والسنة ، ومعاذ ليس معصوماً ، فلو وجبت العصمة للإمام لوجبت هنا لنفس الأدلة التي ساقوها : من فعل القبيح وترك الواجب ، واتباع الناس له ، إلى غير ذلك .
ولو وجبت العصمة للإمام ، لوجب نصب إمام معصوم لكل بلد ، لأن الإمام الواحد لا يكفي ، ولوجب استمرار وجود هؤلاء الأئمة المعصومين في كل زمان ومكان وهذا ـ كما يسلم الجميع ـ لم يحدث .
فاللطف من الله سبحانه إذا ليس في وجود الإمام المعصوم ، وإنما في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنزال القرآن الكريم وحفظه لهداية الناس .
__________
(1) 269]) سورة الحجر : الآية التاسعة .
(2) 270]) " لا تجتمع أمتى على ضلالة " : رواه أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجه وغيرهم ، واختلف في إسناده فتحدث السخاوى عن رواياته المختلفة ثم قال : " حديث مشهور المتن ، ذو أسانيد كثيرة ، وشواهد متعددة في المرفوع وغيره " . المقاصد الحسنه للسخاوى ص 460 .(176/301)
ونحن إذا تمسكنا بالقرآن الكريم ، وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم فلن نضل أبدا كما قال نبينا صلوات الله عليه في حجة الوداع : " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا . كتاب الله وسنة نبيه (1) } - - - { ).
ويقول تعالى في سورة النساء :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً"
( فلم يقل : وأطيعوا أولى الأمر ، ليبين أن طاعتهم فيما كان طاعة للرسول أيضا ، إذ اندراج طاعة الرسول في طاعة الله أمر معلوم ، فلم يكن تكرير لفظ الطاعة مؤذنا بالفرق ، بخلاف ما لو قيل : أطيعوا الرسول وأطيعوا أولى الأمر منكم ، فإنه قد يوهم طاعة كل منهما على حياله .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال " إنما الطاعة في المعروف " ، وقال : " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " ، وقال : " على المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " .
ولهذا قال سبحانه بعد ذلك : " فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً"
__________
(1) 271]) راجع الخطبة في السيرة النبوية لابن إسحاق التي جمعها ابن هشام 4 ، 603 ـ 604 . والحديث رواه الإمام مالك في الموطأ ، مرسلا ، ووصله ابن عبد البر . ( انظر تنوير الحوالك 2 / 208 ) ، ورواه الحاكم عن ابن عباس ، وعن أبى هريرة ، وبين صحة الحديث ووافقه الذهبي ـ ( انظر المستدرك وتلخيصه 1 / 93 ) .(176/302)
فلم يأمر عند التنازع إلا بالرد إلى الله والرسول دون الرد إلى أولى الأمر ... ولو كان غير الرسول معصوماً أو محفوظاً فيما يأمر به ويخبر به لكان ممن يرد إليه مواقع النزاع (1) } - - - { ).
فإذا أمر الإمام بالقبيح فليس على الأمة أن تطيعه وتقتدى به ؛ لأن ذلك لا يتفق مع كتاب الله وسنة رسوله ، ولا يعقل أن أمة لا تستطيع أن تميز القبيح من غير القبيح ، في حين يستطيع ذلك الإمام وحده حتى لو كان طفلا !
قال ابن تيمية (2) } - - - { )، معقبا على القول بعصمة الإمام الثانى عشر : أجمع أهل العلم بالشريعة على ما دل عليه الكتاب والسنة : أن هذا لو كان موجودا لكان من أطفال المسلمين الذين يجب الحجر عليهم في أنفسهم وأموالهم حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد ، كما قال تعالى : (3) } - - - { )" وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ "
وليس في القرآن الكريم ، ولا في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على هذه العصمة.
فقوله تعالى : (4) } - - - { )" قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "
__________
(1) 272]) جامع الرسائل 1 / 273 ـ 275 .
(2) 273]) المرجع السابق 1 / 263 .
(3) 274]) سورة النساء : الآية السادسة .
(4) 275]) سورة البقرة : الآية 124 .(176/303)
ليس فيه معنى العصمة ، فهناك فرق كبير بين الظلم وعدم العصمة ، فغير المعصوم إذا أخطأ فلم يصر على هذا الخطأ وتاب وأناب إلى الله تعالى فليس بظالم. ثم أين هذا من السهو والنسيان الذي لا يحاسب عليه الإنسان ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ؟ (1)[276]) وقوله تعالى (2) } - - - { )" أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى "
جزء من آية كريمة جاءت في سياق الاستدلال على إبطال دعوى المشركين فيما أشركوا بالله غيره ، وعبدوا من الأصنام والأنداد . قال تعالى: (3) } - - - { ) " قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُون قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ"
فالله سبحانه يهدى للحق وهو أحق أن يتبع ، والمشركون ضالون فيما أشركوا بالله ، فأين وجوب العصمة للإمام هنا ؟!
وبصفه عامة كل من يدعو للحق أحق أن يتبع سواء أكان إماماً أم غير إمام ، ومن دعا إلى الضلال أحق ألا يتبع .
__________
(1) 276]) وقع بهذا اللفظ في كتب كثيرين من الفقهاء والأصوليين . له شاهد جيد أخرجه أبو القاسم الفضل بن جعفر التميمى المعروف بأخى عاصم في فوائده ، بسنده عن ابن عباس بلفظ : رفع الله . ورواه ابن ماجه وابن أبى عاصم بلفظ : وضع بدل رفع ، ورجاله ثقات ، ولذا صححه ابن حبان والحاكم وغيرهما وقال النووى في الروضة وفى الأربعين أنه حسن ( انظر المقاصد الحسنة للسخاوى ص 228 ـ 230 ) .
(2) 277]) سورة يونس : الآية 35 .
(3) 278]) سورة يونس : الآيتان 34 ، 35.(176/304)
ويقول تعالى في سورة السجدة : (1) } - - - { ) " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ "
فإذا كانت العصمة واجبة للأئمة ، فهل هؤلاء جميعا ـ الذين ذكرتهم الآية الكريمة ـ معصومون ؟!
إن القرآن الكريم يبين أن لا عصمة لبشر ، فهذا آدم رضي الله عنه أبو البشر قد عصى ربه فغوى كما يبين القرآن الكريم ، قال تعالى : (2) } - - - { )" وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ، فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"
وفي سورة الأعراف : (3) } - - - { ). " فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"
__________
(1) 279]) الآيتان 23 ، 24 .
(2) 280]) سورة البقرة : الآيات : 35 ، 36 ، 37 .
(3) 281]) الآيتان : 22 ، 23 .(176/305)
وفي سورة طه (1) } - - - { ) : " فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى"
فهذه الآيات الكريمة تذكر أن آدم رضي الله عنه قد أطاع الشيطان وعصى الله تعالى فغوى ، وظلم نفسه . فلو كان معصوماً كالعصمة التي تدعى للأئمة ما فعل ذلك .
وكونه " إنما عصى حين صرف عنه وجه العصمة " (2) } - - - { ) يمكن أن يقال مثله عن أي إنسان ، فكل إنسان معصوم إذن . وإنما يخطئ عندما يصرف عنه وجه العصمة ! وليس الأمر كذلك ! وإذا لم يكن ذلك ذنبا من آدم ـ كما قيل ـ فلم حاسبه الله تعالى وعاقبه ثم تاب عليه وهداه ؟ ولم عد ذلك الذي فعله ظلماً وخسراناً وغياً ؟
يقول ابن تيمية : " من زعم أن الله ذم أحدا من البشر أو عاقبه على ما فعله ، ولم يكن ذلك ذنبا ، فقد قدح فيما أخبر الله به وما وجب له من حكمته وعدله " . (3) } - - - { )
ويقول فخر الدين الرازى ـ وهو يدافع عن مبدأ عصمة الأنبياء ـ إن ما نسب لآدم رضي الله عنه كان قبل النبوة . وأورد رأي أولئك الذين لم يجوزوا صدور المعصية عن الأنبياء قبل النبوة ولكنه لم يستطع أن يسلم بهذا الرأي ، وانتهى إلى قوله بلزوم أن يكون اطلاق لفظ العصيان على آدم إنما كان لكونه تاركا للواجب (4) } - - - { ) .
إن تلك الآيات الكريمة واضحة الدلالة في عدم العصمة ، ويزيد ذلك وضوحا لا لبس فيه قول الله تعالى :
__________
(1) 282]) الآيتان : 121 ، 122.
(2) 283]) جوامع الكلم 1 / 26 .
(3) 284]) جامع الرسائل 1 / 275 .
(4) 285]) انظر عصمة الأنبياء ص 12 ـ 13 .(176/306)
" وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ . قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "(1) } - - تمهيد { )
فقتل موسى للرجل ، واعتبار ذلك من عمل الشيطان ، واعترافه بظلم نفسه، وطلبه المغفرة من الله تعالى ، واستجابة الله له ، كل هذا لا تتحقق معه عصمة.
وفي أكثر من موضع في القرآن الكريم لم يقر الرسول صلى الله عليه وسلم على أخطاء وقع فيها .
ففي سورة الأنفال : (2) } - - - { )
" مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"
وفي سورة التوبة : (3) } - - - { ) " لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ"
__________
(1) 286]) سورة القصص ، الآيتان : 15 ، 16 .
(2) 287]) الآية : 67.
(3) 288]) الآيتان : 42 ، 43.(176/307)
وفي سورة الأحزاب (1) } - - - { ) "وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ "
وفي سورة عبس : (2) } - - - { ) "عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى "
وفي آيات كريمة أخرى ذكر أن له ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذنوباً : قال تعالى : (3) } - - - { ) "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ"
وقال عز وجل : (4) } - - - { ) "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ"
وقال سبحانه : (5) } - - - { ) " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا"
وقال تعالى : (6) } - - - { ) " وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ"
وتخريج هذه الآيات الكريمة على أنها من باب ترك الأولى لا يتفق مع دعوى العصمة المطلقة .
__________
(1) 289]) الآية 37 .
(2) 290]) الآيات من 1 : 10 .
(3) 291]) سورة غافر الآية : 55 .
(4) 292]) سورة محمد الآية 19 .
(5) 293]) سورة الفتح ، الآيتان 1 ، 2 .
(6) 294]) سورة الانشراح ، الآيتان 2 ، 3 .(176/308)
وما روى عن الصادق في الآية الثانية من سورة الفتح أنه قال : " ما كان له ذنب ولا هم بذنب ولكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له " . (1) } - - - { ) يعد مبدأ خطيرا يتنافي مع مبادئ الإسلام كلية ، فأين هذا من قوله تعالى : (2) } - - تمهيد { )
"وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ"
ومن قوله سبحانه : (3) } - - - { ) " فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"
فالقرآن الكريم إذن ينفي وجوب هذه العصمة المطلقة لخير البشر أجمعين وهم الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم ، وإنما عصمتهم مقيدة محددة ، فمثلا " اتفق المسلمون على أنهم معصومون فيما يبلغونه ، فلا يقرون على سهو فيه ، وبهذا يحصل المقصود من البعثة " . (4) } - - - { )
قال الإمام فخر الدين الرازى بعد نقل الآراء المختلفة في القول بعصمة الأنبياء : " والذى نقول :
إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون في زمان النبوة عن الكبائر والصغائر بالعمد . أما على سبيل السهو فهو جائز . (5) } - - - { )
__________
(1) 295]) جوامع الكلم 1 / 25.
(2) 296]) سورة فاطر ، الآية : 18 .
(3) 297]) سورة الزلزلة ، الآيتان : 7 ، 8 .
(4) 298]) المنتقى ص 84 ـ 85 .
(5) 299]) عصمة الأنبياء ص 4 ، وانظر الآراء المختلفة حول العصمة في الصفحتين الثانية والثالثة .(176/309)
فالرازى وقد كتب رسالته ـ كما يقول (1) } - - - { ) ـ في النضح عن رسل الله وأنبيائه والذب عن خلاصة خلقه وأتقيائه ، لم يدع لهم عصمة كتلك التي ادعيت للأئمة .
وبالطبع لا يمكن أن تتعارض السنة الشريفة مع هذا المبدأ . لكن الإمامية يستدلون على عصمة الأئمة بكثير من الأحاديث ، بعضها صحيح وبعضها لا يمكن الأخذ به ، وقد رأينا فيما سبق نظرة الشيعة إلى الإمام ونحن لا يمكن بحال أن نأخذ بها ، فهى ترفعه فوق الأنبياء والبشر جميعا !
فما وجه الاستدلال في الأحاديث الصحيحة التي استدلوا بها ؟
من الأحاديث التي استدلوا بها قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلى : " أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدى " . وقوله صلى الله عليه وسلم : " لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله " ثم أعطاها علياً .
وهذا الحديثان الشريفان ورد معناهما في البخاري ومسلم .(2) } - - - { )
أما الحديث الأول فقد ذكر مسلم بإسناده عن سعد بن أبى وقاص قال : " خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب في غزوة تبوك ، فقال : يا رسول الله تخلفنى في النساء والصبيان ، فقال : أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى غير انه لا نبي من بعدى " .
__________
(1) 300]) المرجع السابق ص 1 .
(2) 301]) راجع صحيح البخاري : كتاب المناقب . باب مناقب على بن أبى طالب ، وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة . باب من فضائل على بن أبى طالب .(176/310)
فالإمام على كرم الله وجهه يشبه هارون رضي الله عنه في الاستخلاف (1) } - - - { )، وقد استخلف غيره أيضا . وهذا الحديثان الشريفان يبينان مكانة ! على رضي الله عنه ، وما أسماها من مكانة ولكنهما لو كانا يوجبان عصمة لوجبت لكل الصحابة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، فكلهم يحبون الله تعالى ، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ويحبهم الله عز وجل ، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولوجبت العصمة كذلك لكل من استخلف على المدينة ، فهم جميعا بمنزلة هارون من موسى في الاستخلاف ، ولوجبت أيضا لكثيرين غير من ادعيت لهم ، مثال ذلك ما جاء في حق أبى بكر الصديق رضي الله عنه من الأحاديث الصحيحة .
روى البخاري ومسلم بإسنادهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن من أمن الناس على في صحبته ، وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربى لاتخذت أبا بكر ، ولكن أخوة الإسلام ومودته . لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبى بكر " (2) } - - - { ) .
وأكثر من هذا صراحة ما روياه أيضاً بإسنادهما أن أمرأة أتت النبيصلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه . قالت : أرأيت إن جئت ولم أجدك ؟ كأنها تقول الموت . قال عليه الصلاة والسلام : إن لم تجدينى فأتى أبا بكر " (3) } - - - { ) .
__________
(1) 302]) انظر الوشيعة ص م ط وما بعدها ففيه تحليل مفصل لهذا الحديث ، وبيان بطلان استدلال الإمامية ، وانظر الفصل في الملل ص 94 ـ 95 ، ومختصر التحفة ص 162 ـ 164، والمنتقى ص 468 ـ 470 .
(2) 303]) صحيح البخاري : " كتاب المناقب – باب مناقب المهاجرين ، وصحيح مسلم : كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل أبى بكر الصديق ، واللفظ للبخاري .
(3) 304]) المرجعيين السابقين ، وفى مسلم " فإن لم …" بزيادة الفاء .(176/311)
وبمنطق الشيعة نقول : إذا جاءت المرأة ولم تجد النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنها مأمورة بأن تسأل أبا بكر ، وتتبعه فيما يقوله لها ، فإذا لم يكن معصوماً فربما دلها على قبيح فتتابعه عليه ، وهذا غير جائز فلابد إذن أن يكون معصوماً ! أظن هذا أكثر منطقية واستدلالاً من استدلال الإمامية ، ولكن أحدا لم يقل به ، لأن أبا بكر - رضي الله عنه - بشر كسائر البشر ، يصيب ويخطئ ، والمرأة مأمورة بأن تتبعه فيما يوافق كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . وأبو بكر - كغيره - منفذ للشرع وليس مشرعاً . وغير هذا كثير فيما ورد عن فضائل الصحابة رضوان الله عليهم (1) } - - - { ).
نخرج من كل هذا إلى أن عصمة الأنبياء ليست مطلقة ، فهم بشر معرضون للخطأ والسهو والنسيان ، ولكنهم - عليهم السلام - لا يقرون على هذا الخطأ " بل لابد من التوبة والبيان ، والاقتداء إنما يكون بما استقر عليه الأمر ، فأما المنسوخ ، والمنهى عنه ، والمتوب عنه ، فلا قدوة فيه بالاتفاق ، فإذا كانت الأقوال المنسوخة لا قدوة فيها ، فالأفعال التي لم يقر عليها أولى بذلك" (2) } - - تمهيد { ) أما باقي البشر فهى أدنى من هذا بكثير جداً .
ودعوى العصمة للأئمة ليس لها سند من الشريعة والعقل ، فإنها ترفعهم فوق مستوى الأنبياء عليهم السلام . ولا نقول إن الأئمة جميعاً لا يصلون إلى درجة الأنبياء ، فهذا مسلم به ، وإنما نقول : إن جميع الأئمة ليس فيهم من يصل إلى منزلة الصديق والفاروق رضي الله عنهما باعتراف الإمام على نفسه كرم الله وجهه، فقد روى الإمام البخاري رضي الله عنه بسنده عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه قال : " قلت لأبى : أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
__________
(1) 305]) راجع صحيح البخاري في كتاب المناقب ، وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة .
(2) 306]) جامع الرسائل 1/276 .(176/312)
قال : أبو بكر . قلت : ثم من ؟ قال : ثم عمر " . (1) } - - - { )
قال ابن تيمية : " قد روى هذا عن على من نحو ثمانين طريقاً ، وهو متواتر عنه " (2) } - - - { ).
والواقع العملي للأئمة يتنافى مع هذه العصمة ، مثال ذلك أن الحسن رضي الله عنه هادن مع كثرة أنصاره ، والحسين رضي الله عنه حارب مع قلة من أنصاره (3) } - - - { ). فلو كان أحدهما مصيباً ، كان الآخر مخطئاً ، أي غير معصوم ، ولا يمكن أن يكون الاثنان مصيبين . فلعل في هذا كله ما يكفى لدحض دعوىالعصمة ، والله سبحانه يهدينا سواء السبيل .
ثانياً : البداء
البداء : الظهور والانكشاف ، تقول : بدا َبدْوا وُبدُوّا وبَداء وَبدَّا وبداءة ، ويستخدم كذلك بمعنى نشأة الرأي الجديد ، تقول : بدا له في الأمر بدوا وبداء وبداة : نشأ له فيه رأي .(4) } - - - { )
وقد ورد المعنيان في القرآن الكريم ، الأول في مثل قوله تعالى : " وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ " (5) } - - - { ).
وقوله سبحانه وتعالى : (6) } - - - { ) " وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ" .
والثانى في قوله تعالى :(7) } - - - { ) " ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِين " .
__________
(1) 307]) صحيح البخاري ، كتاب المناقب – باب مناقب المهاجرين .
(2) 308]) جامع الرسائل 1/261 .
(3) 309]) ولذلك حارت فرقة من أصحابه وقالت : قد اختلف علينا فعل الحسن وفعل الحسين ، فشكوا في إمامتها ، ورجعوا عنها : انظر فرق الشيعة – ص 25-26.
(4) 313) انظر مادة (بدو ) في القاموس المحيط ولسان العرب .
(5) 314) سورة الزمر : الآية 47 .
(6) 315) سورة البقرة : الآية 284 .
(7) 316) سورة يوسف : الآية 35 .(176/313)
والبداء بمعنييه يستوجب جهل من يبدو له بالأمر قبل بدائه ، ولكن الشيعة ينسبون البداء لله تعالى ، فهل معنى ذلك أنهم ينسبون عدم العلم لله ؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً .
رأي الكثير من المسلمين هذا الرأي ، فرفضوا القول بالبداء ، وسلطوا أقلامهم تعصف بالشيعة عصفها بالكفرة الملحدين ، وأقاموا من البراهين القاطعة ما يثبت العلم الكامل لله عز وجل . (1) } - - - { ) ...
ومما لا جدال فيه أن القول بالبداء بهذا المعنى المرفوض - ُيخرج الشيعة قطعاً من ملة الإسلام ، ولكنني أرى أنهم لا يقصدون على الإطلاق نسبة الجهل إلى الله سبحانه ، فهم يرون أن الله عز وجل يحيط علمه بكل شئ ،وأن اللوح المحفوظ المشار إليه بأم الكتاب فيه كل ما كان وما يكون ، وذكر لما يثبت وما يمحى" يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ"فالمحو والإثبات ليس في أم الكتاب، فنقوشه محفوظة مستمرة .(2) } - - - { )
وقد جاء في باب البداء من كتاب الكافي(3) } - - تمهيد { ) عن أبى عبد الله جعفر الصادق قال: " ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو شيء له ".
__________
(1) 314]) انظر : الوشيعة ص 110 – 120 ، والتحفة الاثنا عشريه ص 315 وما بعدها ، والنسخ في القرآن الكريم لأستاذنا الدكتور مصطفى زيد رحمه الله ص19-26 جـ 1: وشيخنا لم يذكر الإمامية بالذات ، والبداء الذي أنكره لم تقل به الإمامية وإنما ذهبت إليه فرق أخرى من الشيعة كالبدائية ، فقد زعمت أن الله سبحانه قد يريد بعض الأشياء ثم يبدو له ، ويندم لكونه خلاف المصلحة ! وحملت خلافة الثلاثة ومدحهم في الآيات الكريمة على ذلك ! انظر مختصر التحفة ص 16.
(2) 315]) انظر : الدين والإسلام ص 171.
(3) 316]) ص 148 .(176/314)
وقال : " إن الله لم يبد له من جهل "وسئل : هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس ؟ قال : لا ، من قال هذا فأخزاه الله . قيل : أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله ؟ قال : بلى قبل أن يخلق الخلق (1) } - - - { ).
يقول الإمام محمد الحسين آل كاشف الغطاء : " البداء وإن كان جوهر معناه هو ظهور الشىء بعد خفائه ، ولكن ليس المراد به هنا ظهور الشىء لله جل شأنه بعد خفائه عنه ، معاذ الله ، وأي ذى حريجة ومسكة يقول بهذه المضلة ؟
بل المراد ظهور الشيء من الله لمن يشاء من خلقه بعد إخفائه عنهم ، وقولنا ( بدا لله ) أي بدا حكم لله ، أو شأن لله " (2) } - - - { ).
فالبداء بهذا التفسير لا يتعارض وعلم الله التام بكل شيء ، وظهور أحكام لله كانت خافية علينا شيء يسلم به كل المسلمين ، وقد نسب البداء إلى الله سبحانه وتعالى في حديث شريف ورد في صحيح البخاري : فقد روى عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن ثلاثة في بنى إسرائيل ، أبرص وأقرع وأعمى ، بدا لله أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكاً ، فأتى الأبرص... " إلى آخر الحديث الشريف (3) } - - - { ).
__________
(1) 317]) عقب أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة – رحمه الله – على نسبة مثل هذه الأخبار إلى الإمام الصادق بقوله : إن هذه الأخبار في مجموعها تدل على أن البداء في نظر الصادق هو أن يظهر للناس ما أكنه الله تعالى في علمه ، وذلك لا ينافى علم الله تعالى " . ( الإمام الصادق ص 236).
(2) 318]) الدين والإسلام ص 173، وانظر كذلك قول الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه " الشيعة والتشيع " ص 53-54 ففيه بيان أن البداء لا يستدعى الجهل وحدوث العلم لذات الله سبحانه .
(3) 319]) انظر صحيح البخاري – الجزء الرابع – كتاب بدء الخلق : باب ما ذكر عن بنى إسرائيل.(176/315)
فكيف إذن اُعتبر مبدأ خاصا بالشيعة ؟ ينافحون عنه ، ويبالغون في قيمته حتى أنهم قالوا : " ما عبد الله بشئ مثل البداء " ، " ما عظم الله بمثل البداء " (1) } - - - { ).
إن توضيحهم لكيفية البداء تكشف عن هذا ، فهم يقولون : إن الله جلت قدرته قد يخبر ملائكته ، أو رسله المقربين بحادثة ما ، ويخفى عنهم أشياء إذا تحققت تغيرت النتيجة ، وقد يكون في علمه سبحانه أنها ستتحقق وسيتبع ذلك تغير الحال : مثال هذا : أن يخبرهم بأن فلانا سيموت في الثلاثين من عمره ، ويخفى عنهم أن ذلك مقترن بعدم تصدقه ، وأنه سيتصدق وسينسأ له في أجله ، فعندما يظهر ذلك الذي أخفى يقال : بدا لله فيه أن يمد في أجله ، فيكون البداء في التكوين كالنسخ في التشريع (2) } - - - { ).
وإذا كنا نعلم الحكمة من النسخ في التشريع ، فما الحكمة من هذا البداء ؟ وكيف يخبر الله سبحانه وأنبياءه وملائكته بمعلومات ناقصة ؟ وعندما يخبرون الناس بهذه المعلومات فما الفرق بينهم وبين المنجمين الكاذبين الضالين المضلين ؟ (3) } - - - { ).
إن الدافع الحقيقى لهذا المبدأ هو أنهم غالوا في أئمتهم ، وأحلوهم منزلة فوق البشر كما رأينا من ذى قبل ، ونسبوا لهم العصمة وعلم الغيب ، فكان لابد من مخرج إذا حدثوا بمغيب فكذبهم الواقع ، وكان هذا المخرج هو القول بالبداء !
__________
(1) 320]) راجع باب البداء من كتاب الكافى .
(2) 321]) انظر : الدين والإسلام ص 172 وما بعدها ، وانظر كذلك : جوامع الكلم ص 145 من الرسالة القطيفية ، والدعوة الإسلامية ص 35 وما بعدها .
(3) 322]) لهذا وقع الخلاف بين الإمامية في الإخبار : أيجوز أم لا ؟ ( انظر الدعوة الإسلامية ص 37-38) .(176/316)
وأول من نادى به المختار الثقفى ، لأنه كان يدعى علم الغيب ، فإذا حدثت حادثة على خلاف ما أخبر قال : قد بدا لربكم ! (1) } - - - { ).
وروى أن أبا الخطاب محمد بن أبى زينب الأسدي الأجدع عندما حارب والى الكوفة عيسى بن موسى بن محمد بن عبد الله بن العباس جعل القصب مكان الرماح، واستخدم الحجارة والسكاكين ،وقال لقومه : قاتلوهم فإن قصبكم يعمل فيهم عمل الرماح والسيوف . ورماحهم وسيوفهم وسلاحهم لا تضركم ، ولا تخل فيكم : فقدمهم عشرة عشرة للمحاربة ، فلما قتل منهم نحو ثلاثين رجلاً قالوا له : ما ترى ما يحل بنا من القوم ، وما نرى قصبنا يعمل فيهم ولا يؤثر ، وقد عمل سلاحهم فينا ، وقتل من ترى منا ، فقال لهم : إن كان قد بدا لله فيكم فما ذنبي ؟ (2) } - - - { )
ولهذا جاء في الكافى عن أبى عبد الله : " إن لله علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو ، من ذلك يكون البداء ، وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه " (3) } - - - { ).
وفى رواية أخرى في الكافى أيضا (1/369):
" إذا حدثناكم الحديث فجاء على ما حدثناكم به فقالوا : صدق الله ، وإذا حدثناكم الحديث فجاء على خلاف ما حدثناكم به فقولوا : صدق الله تؤجروا مرتين " .
وعلق صاحب الحاشية بقوله : " مرة للتصديق ، وأخرى للقول بالبداء "
فالقول بالبداء ، وإن كان لا يتنافى مع علم الله سبحانه الذي وسع كل شئ ، إلا أنه اتخذ ذريعة للتضليل بأن الأئمة يعلمون الغيب ، فإذا حدث غير ما أخبروا ، فإنما قد بد الله ! ومصدق الكذب يؤجر مرتين !
__________
(1) 323]) انظر : النسخ في القرآن الكريم 1/25 –26 ، وضحى الإسلام 1/354 ، والإمام الصادق ص : 234 ، والملل والنحل للشهرستانى 1/132-133.
(2) 324]) فرق الشيعة ص 70 .
(3) 325]) ص 147 من الكتاب المذكور ج 1.(176/317)
والمسلمون قاطبة - عدا الشيعة - يرفضون هذا القول ، ويكفى لبطلانه مثل قوله تعالى : (1) } - - تمهيد { )
" وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ "
وأمره سبحانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول : (2) } - - - { ) " وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ "
" قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ " (3) } - - - { )
على أن من الشيعة أنفسهم من ينكر علم الأئمة للغيب ، بل ينكر نسبة ذلك إلى الشيعة ! يقول الشيخ محمد جواد مغنية : وكيف ينسب إلى الشيعة الإمامية القول بأن أئمتهم يعلمون الغيب ، وهم يؤمنون بكتاب الله ، ويتلون قوله تعالى حكاية عن نبيه : "وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ " ،وقوله : " إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ"، وقوله : " قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ".
وذكر قول الشيخ الطبرسي المفسر : لقد ظلم الشيعة الإمامية من نسب إليهم القول بأن الأئمة يعلمون الغيب ، ولا نعلم أحداً منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق .
ثم قال : وإن افترض وجود خبر أو قول ينسب علم الغيب إلى الأئمة وجب طرحه باتفاق المسلمين . ثم ذكر عن الشيعة أنهم لا يدعون لأئمتهم علم الغيب ، ولا الإيحاء والإلهام ، وأن من نسب إليهم شيئاً من ذلك فهو جاهل متطفل ، أو مفتر كذاب(4) } - - - { ) .
__________
(1) 326]) سورة آل عمران : الآية 179.
(2) 327]) سورة الأعراف : الآية 188 .
(3) 328]) الأنعام : الآية 50 .
(4) 329]) انظر : الشيعة والتشيع : ص 43، 48 .(176/318)
وفى قول الشيخ مغنية ما يبين افتراء من يستجيز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق ، ولكنه بعد عن الواقع عندما ذكر أن الشيعة لا يستجيزون هذا ، فما أكثر الشيعة القائلين بأن الأئمة يعلمون الغيب ! (1) } - - - { ) ولولا هذا لما قيل بالبداء.
ثالثاً : الرجعة
يعتقد الإمامية الاثنا عشرية أن إمامهم الثانى عشر محمدا المهدى ، سيرجع بعد غيبته الكبرى ، فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. ورأينا أنهم ينتظرون خروجه حتى الآن ، رغم مضى أكثر من ألف عام ! وبسطنا بعض حججهم وأثبتنا بطلانها ، وهذه العقيدة من جوهر الإمامة التي أجمعت عليها هذه الفرقة .
والإمامية ليست أول من قال برجوع الإمام بعد غيبته ، فأكثر فرق الشيعة رأت أن بعض الأئمة سيعودون بعد موتهم أو غيبتهم ، ولهم تفصيلات في ذلك يعحب الباحثون لوجود مثلها بين فرق من المسلمين (2) } - - - { ).
وللإمامية عقيدة أخرى خاصة بالرجعة ، وهى رجعة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته قبل يوم القيامة ، وكذلك رجعة أعدائهم ومن اغتصبوهم حقهم بحسب زعمهم ليقتصوا منهم ، ولهم في ذلك خرافات كثيرة : كظهور جسد أمير المؤمنين على ابن أبى طالب في قرص الشمس ، يعرفه الخلائق ، وينادى مناد باسمه في السماء، وينادى جبريل أن الحق مع على وشيعته (3) } - - - { ).
__________
(1) 330]) في تفسير البداء اعتراف بعلم الغيب ، وكذلك يرى أكثر الشيعة أن الأئمة يعلمون الغيب: انظر مثلا حديث السيد كاظم الكفائى في تعقيبه على الأخبار التي تنسب علم الغيب للأئمة . (الحديث آخر هذه الموسوعة ) ، وراجع رأي عبدالحسين شرف الدين في ردى على مراجعاته .
(2) 334) انظر : جوامع الكلم 1/12 .
(3) 335) انظر : المرجع السابق ص 13 ، 41 ، والشيعة والتشيع ص 55 ، ضحى الإسلام 3/242 ، والإمام الصادق ص 240 .(176/319)
وألف في موضوع الرجعة كثير من الرافضة ، وأطالوا الحديث عنها ، وعن إمكانها ، وعن أدلة إثباتها ، والرد على من ينكرها . كما نرى الحديث عن الرجعة في كتب التفسير والحديث عندهم ، والكتب التي تتناول موضوعات عامة .
ونضرب مثلا هنا بكتاب : " الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة " لمؤلفه محمد بن الحسن الحر العاملي المتوفى سنة 1104 هـ .
نرى في مقدمة الكتاب ذكر تسعة وعشرين كتاباً في موضوع واحد هو إثبات الرجعة !!
وفى مراجع المؤلف نرى كثيراً من كتب التفسير والحديث وغيرها .
والكتاب كله مثل للغلو والضلال ، بل يصل إلى الكفر والزندقة . ولا نرى حاجة للوقوف أمام هذا الكتاب وأمثاله ، ويكفى ما بيناه من قبل من بطلان عقيدتهم في الإمامة ، وإثبات ضلال القائلين بها . والرجعة إنما هي تابعة لعقيدتهم في الإمامة ، وهى من أشد أقوالهم غلواً وضلالاً .
ووجدنا من الشيعة الاثنى عشرية أنفسهم من ينكر هذه العقيدة الخرافية(1) } - - - { ).
فهى إذن ليست من المبادئ المجمع عليها ، ونحن نرى أن الصواب مع أولئك الذين أنكروها ، وأن من قال بها فقد أدخل على الإسلام ما هو منه براء (2) } - - - { ) .
رابعاً : التقية
نقول : اتقيت الشئ وَتقَيْته أتَّقِيته وأتقْيٍةٍ تُقىّ وتقَّية وِتقاء : أي : حِذَرْته(3) } - - - { ) ومنها قوله تعالى (4) } - - تمهيد { ) :
__________
(1) 336) انظر جوامع الكلم 1/13، 41 والشيعة والتشيع ص 55 ، وضحى الإسلام 3/242 ، والإمام الصادق ص 240 .
(2) 334] ) راجع مناقشة هذه العقيدة ، وبيان بطلانها بالأدلة العقلية والنقلية في كتاب : مختصر التحفة الاثنى عشرية ص 200-203
(3) 338) انظر القاموس المحيط ولسان العرب مادة " وقى " .
(4) 339) آل عمران : الآية 28 .(176/320)
" لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً "
وفى قراءة : " تقية " (1)[337])
ومعنى هذا أن الله سبحانه قد أباح للمؤمنين : إذا خافوا شر الكافرين أن يتقوهم بألسنتهم ، فيوافقوهم بأقوالهم وقلوبهم مطمئنة بالإيمان .
وقد اتخذت الشيعة التقية مبدأ من مبادئها ، و" معنى التقية التي قالوا بها أن تقول أو تفعل غير ما تعتقد لتدفع الضرر عن نفسك ، أو مالك ، أو لتحتفظ بكرامتك ، كما لو كنت بين قوم لا يدينون بما تدين ، وقد بلغوا الغاية في التعصب، بحيث إذا لم تجارهم في القول والفعل تعمدوا إضرارك والإساءة إليك . فتماشيهم بقدر ما تصون به نفسك ، وتدفع الأذى عنك ، لأن الضرورة تقدر بقدرها " (2)[338]).
واستدلوا على صحة هذا المبدأ بالآية الكريمة السابقة ، وبقوله تعالى : (3)[339])
" إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ "
وبقصة عمار ، فقد أخذه المشركون ولم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر آلهتهم بخير ، ولم يؤثر ذلك في إيمانه ، إلى غير ذلك من الأدلة التي تبيح للمؤمن أن يظهر غير ما يضمر حفاظاً على حياته أو عرضه (4) } - - - { ).
والتقية في هذه الصورة لا تتعارض ومبادئ الإسلام ، فلا ضرر ولا ضرار ، والضرورات تبيح المحظورات .
ومن يرجع إلى التاريخ ير من الأهوال التي نزلت بالشيعة ما تقشعر منه الأبدان ، وتأباه النفوس المؤمنة .
__________
(1) 340) انظر : تفسير البيضاوى ص 70 ، وإملاء ما من به الرحمن للعكبرى 1/130.
(2) 341) الشيعة والتشيع ص 49.
(3) 342) سورة النحل : الآية 106 .
(4) 343) انظر : الدعوة الإسلامية ص 38 – 39 وأصل الشيعة وأصولها : ص 192 –195، والشيعة والتشيع ص 48-53 .(176/321)
ونذكر على سبيل المثال : كتاب مقاتل الطالبيين لأبى الفرج الأصفهانى ، فقد ترجم فيه لنيف ومائتين من شهداء الطالبين !
فمن العبث إذن أن يعرض الإنسان حياته للهلكة دون أن يكون من وراء ذلك وصول إلى هدف مقدس ، أو غاية شريفة .
ويرى الإمامية أن " العمل بالتقية له أحكامه الثلاثة "
فتارة يجب كما إذا كان تركها يستوجب تلف النفس من غير فائدة ، وأخرى يكون رخصة كما لو كان في تركها والتظاهر بالحق نوع تقوية له ، فله أن يضحى بنفسه ، وله أن يحافظ عليها .
وثالثة يحرم العمل بها كما لو كان ذلك موجبا لرواج الباطل ، وإضلال الخلق، وإحياء الظلم والجور " (1) } - - - { )
والعمل بالتقية في ظل هذه الأحكام لا تنفرد به الإمامية ، فلماذا إذن اختصوا بهذا المبدأ ، وهوجموا من أجله ؟
أرى أن ذلك يرجع إلى الأسباب الآتية :
الأول : أنهم غالوا في قيمة التقية ، مع أنها رخصة لا يقدم عليها المؤمن إلا اضطراراً . من ذلك ما جاء في كتاب الكافى :
عن أبى عبد الله في قوله تعالى : " أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا " قال: بما صبروا على التقية ." وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِئَةَ ". قال : الحسنة التقية، والسيئة الإذاعة . ( فهذا تحريف لمعانى القرآن الكريم ) .
وعن أبى عبد الله : " إن تسعة أعشار الدين التقية ، ولا دين لمن لا تقية له ! ".
وعنه عن أبيه : " لا والله ما على وجه الأرض شىء أحب إلى من التقية(2) } - - - { ) . وعن أبى جعفر : " التقية من دينى ودين آبائى ، ولا إيمان لمن لا تقية له " .
فمثل هذه الأخبار تنزل التقية منزلة غير المنزلة ، فمن ارتآها كذلك فإنما تخلق منه إنساناً جباناً كذوباً، وأين هذا من الإيمان ؟!
__________
(1) 344) أصل الشيعة : ص193.
(2) 345) انظر : الأصول من الكافى ج 2 باب التقية ص 217-221 .(176/322)
والسبب الثانى : أنهم وقد أحلوها هذه المكانة ، فلم يتمسكوا بأحكامها ، وتعلقوا بها تعلق المؤمن بإيمانه ، وطبقوها في غير حالاتها (1) } - - - { )، ولنضرب لذلك الأمثال :
يرون في التيمم مسح الوجه والكفين ، وورد عن أحد أئمتهم أنه سئل عن كيفية التيمم ، فوضع يده على الأرض فمسح بها وجهه وذراعيه إلى المرفقين . وقالوا : إن ذلك محمول على ضرب من التقية (2) } - - - { ). فما الذي يدعو إلى هذه التقية ؟ إن كثيراً من المسلمين يرون رأيهم في التيمم ، فلا ضير عليهم ، ولا ضرورة تلجئهم لترك ما يرون صحته ويطبقونه فيما بينهم ، والتعبد بما يرونه باطلاً
وهم لا يشترطون للجمعة المصر ، وروى نحو ذلك عن ابن عمر وعمر بن عبدالعزيز والأوزاعى والليث ومكحول وعكرمة والشافعى وأحمد (3) } - - - { ).ورووا عن الإمام على أنه قال : لا جمعة إلا في مصر يقام فيه الحدود . وقالوا : إن هذا الخبر قيل تقية (4) } - - تمهيد { ).
ومن الواضح أنه لا حاجة إلى هذه التقية ، ثم من الذي يتقى ؟ أعلى كرم الله وجهه ؟ وهو الشجاع الذي يأبى التقية إباءه للضيم ، واستشهد من أجل مبادئه ، وكان لفتاواه الدينية قيمتها عند المسلمين ، أمن روى عنه ؟ وكيف إذن يتعمدون الكذب على أمير المؤمنين وليست هناك رقاب ستقطع أو أعراض تنتهك بله أدنى ضرر؟!
__________
(1) 346) يقول المؤرخ الهندى سيد أمير على : " إلا أن هذه التقية ، وهى الابن الطبيعى للاضطهاد والخوف ، قد غدت عادة متأصلة في نفوس الفرس الشيعيين إلى درجة أنهم أصبحوا يمارسونها حتى في الظروف التي لا تكون ضرورية فيها " ص 336 من كتابه : روح الإسلام .
(2) 347) انظر : الاستبصار : باب كيفية التيمم : ص 170-171 ج1.
(3) 348) انظر : المغنى : 2/174 .
(4) 349) انظر : الاستبصار : ص 420 ج1.(176/323)
وفى صلاة الجنازة يرون رفع اليدين في كل تكبيرة ، ويوافقون في ذلك ابن عمر وعمر بن عبدالعزيز والشافعى وأحمد وغيرهم(1) } - - - { ).
ولكنهم رووا عن الإمام جعفر عن أبيه قال : كان أمير المؤمنين يرفع يديه في أول التكبير على الجنازة ، ثم لا يعود حتى ينصرف .
ورووا أيضاً عن أبى عبد الله عن أبيه أن الإمام عليا لا يرفع يديه في الجنازة إلا مرة ، يعنى في التكبير .
وعقب شيخ طائفتهم الإمام الطوسي على هاتين الروايتين بقوله : " يمكن أن يكونا وردا مورد التقية لأن ذلك مذهب كثير من العامة " (2) } - - - { ) .
وأشد من هذا عجبا رواياتهم في أكثر أيام النفاس ، فهم يرون أن أيام النفاس مثل أيام الحيض ، ويتعارض ذلك مع روايات لهم كثيرة مثل ما رووه عن الإمام على قال : النفساء تقعد أربعين يوما . وعن أبى عبد الله : سبع عشرة ، وثمانى عشرة ، وتسع عشرة ، وثلاثين أو أربعين إلى الخمسين ، وبين الأربعين إلى الخمسين ! وعن أبى جعفر : ثمانى عشرة .
فجوز إمامهم الطوسي حمل هذه الأخبار على ضرب من التقية ، وقال : لأنها موافقة لمذهب العامة ، ولأجل ذلك اختلفت كاختلاف العامة في أكثر أيام النفاس ، فكأنهم أفتوا كلا منهم بمذهبه الذي يعتقده (3) } - - - { ).
بمثل هذا تكون التقية تضييعاً للعلم ، وإخفاء للحق ، وترويجاً للكذب .
يقول أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة –رحمه الله - : " لا يصح أن تكون التقية لإخفاء الأحكام ومنعها ، فإن ذلك ليس موضوع التقية وليس صالحاً لأن يتسمى بها ، بل له اسم آخر ، وهو كتمان العلم ـ ويوصف معتنقه بوصف لا يوصف به المؤمن " (4)[350])
__________
(1) 350) انظر المغنى 2 / 373 .
(2) 351) الاستبصار ج 1 : ص 479، وانظر ص 498 .
(3) 352) انظر : الاستبصار ج1 : باب أكثر أيام النفاس : ص 151 وما بعدها .
(4) 350]) الإمام الصادق : ص 245.(176/324)
والسبب الثالث : أنهم جعلوا من التقية منفذاً للغلو والانحراف ، مثال هذا أن بعضهم حكم بكفر كثير من الصحابة لعداوتهم للإمام على ، وقالوا بنجاستهم تبعاً لذلك ، وعللوا مخالطة الشيعة لهم بأن طهارتهم مقرونة إما بالتقية ، أو الحاجة ، وحيث ينتفيان فهم كافرون قطعاً ! (1) } - - - { ).
ويرون أن الصلاة لا تصح خلف من ليس إمامياً ، فكيف إذن كان يصلى الإمام على مثلاً خلف الخلفاء الثلاثة ؟ هذا من الأسئلة التي امتنع السيد كاظم الكفائى ان يجيب عنها ، وقال : " أبو بكر وعمر أتريد أن يكفرونا ؟ " ومثل هذا الغلو الذي أجمعوا عليه يجد التقية أسهل مخرج .
فالتقية إذن بهذه الصورة تعد مبدأ ينفرد به الشيعة الاثنا عشرية .
---
الموسوعة الشاملة
مع الاثني عشرية
في الأصول والفروع
دراسة مقارنة في العقائد
تمهيد
إن الحمد كله لله نحمده سبحانه وتعالي ونستهديه ، ونستعينه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ونسأله عز وجل أن يجنبنا الزلل في القول والعمل . ونصلى ونسلم على رسله الكرام ، وعلى أولهم خاتم الأنبياء والمرسلين ، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمنذ نحو أربعين سنة بدأت الاطلاع على كتب الشيعة الجعفرية الاثنى عشرية ، والاتصال ببعض علمائهم . وشجعني على هذا أستاذي المرحوم الشيخ محمد المدني ، أحد دعاة التقريب بين المذاهب الخمسة ، حيث اعتبروا المذهب الشيعي هذا مذهباً خامساً ، ولذلك كانت رسالتي للماجستير في الفقه المقارن بين الشيعة الإمامية – أي الجعفرية الاثنى عشرية – والمذاهب الأربعة .
__________
(1) 351]) انظر : مفتاح الكرامة – كتاب الطهارة : ص 145.(176/325)
غير أنني عندما بدأت الدراسة ، ثم قرأت كثيراً من كتبهم ، وجدت الأمر على خلاف ما تصوره دعاة التقريب ، حيث إن عقيدتهم في الإمامة ، وما ينبنى عليها ، تمنع التقريب وتحول دونه ، فإن هذه العقيدة لا تصح إلا بالطعن في خير أمة أخرجت للناس ، حيث يعتبر باقي الصحابة – وحاشاهم – مقرين للمعصية ، راضين عنها .
وإذا كانت مسألة الإمامة في ذمة التاريخ ، فلا حاجة لإثارتها ، وخلاف الأمس لا يمنع تقريب اليوم ، ومن هنا كانت رسالتي للدكتوراه عن أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله ، وللأسف الشديد أنني وجدت هذه العقيدة الباطلة قد أفسدت الكثير من أصول الفقه . فكيف تكون دعوة التقريب ؟
إن قلنا للشيعة : دعوا مسألة الإمامة في مجال العقيدة ، ولا تجعلوا لها أثراً في التشريع وأصوله حتى تصبحوا كأي مذهب من مذاهب أهل السنة والجماعة ، أفيقبلون ؟
وإذا كانوا لا يقبلون ، بل لم توجه لهم هذه الدعوة ، أفنؤمن نحن بعقيدتهم الباطلة ؟
لهذا يجب أن تكون دعوة التقريب على هدى وبصيرة . ولذا رأيت أن أجعل بين أيدي المسلمين ، ودعاة التقريب منهم ، بعض الكتب التي تبين الفوارق بين السنة والشيعة في مجالات مختلفة ، ليفكروا في هذه الفوارق ، ولنحدد كيف تكون دعوة التقريب ، ومن الذي يجب أن يترك رأيه ويقترب من الآخر .
وكنت جمعت المادة العلمية منذ عدة سنوات ، ثم توقفت بضعة أعوام عندما شغلت بالاقتصاد الإسلامي ، والمعاملات المعاصرة ، وتم بحمد الله تعالي وفضله تأليف بعض الكتب والأبحاث ، غير أن البحث في المعاملات المعاصرة أمر متجدد لا ينتهي ، فرأيت ألا أجعل الوقت كله له ، وأن أعود إلى ما جمعت من مادة للدراسة المقارنة حتى أخرج الكتب التي أريدها ، مستعيناً بالله عز وجل .
وتوطئة لهذه الدراسة صدر كتابى الأول تحت عنوان :(176/326)
" عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية- دراسة في ضوء الكتاب والسنة – هل كان شيخ الأزهر البشرى شيعياً ؟ ! "
وانتهت الدراسة إلي أن عقيدتهم لا تستند إلى كتاب ولا إلى سنة ، بل باطلة تصطدم بالكتاب والسنة ، وأظهرت الدراسة كثيراً من الأخطاء ، وكشفت عن مفتريات وأباطيل ، ونزهت الشيخ البشرى مما نسبه إليه المفترى الكذّاب صاحب كتاب المراجعات .
ورأيت أن تكون الدراسة التالية للكتاب السابق تتعلق بكتاب الله العزيز ، المصدر الأول للعقيدة والشريعة . فكان الكتاب الثانى في التفسير المقارن وأصوله بين أهل السنة والشيعة الاثنى عشرية ، وقسمته قسمين :-
القسم الأول : للحديث عن التفسير وأصوله عند أهل السنة.
القسم الثانى : للتفسير وأصوله عند الشيعة الاثنى عشرية.
ومن يقرأ ما احتواه القسمان يدرك الفوارق البينة الظاهرة بين التفسيرين ، وأصول كل منهما . ويتأكد من أن مسألة الإمامة ليست نظرية بحتة تاريخية ، بل لها أثرها في كتبهم خلال جميع العصور ، ولهذا وجدنا الغالين الضالين من الشيعة يحرفون القرآن نصا ومعنى ، ويطعنون في الصحابة الكرام ، ويجعلون أئمتهم هم المراد من كلمات الله حتى وصل بعضهم إلى تأليه الأئمة ،ووجدنا المعتدلين منهم يقعون في تناقض بين ، وهذه نتيجة حتمية ، فكيف يجمع بين هذه العقيدة والاعتدال ؟! وكيف يجمع بين توثيقهم وإجلالهم لأكبر كبار علمائهم كالقمى والعياشى والكلينى ، وهم رءوس الغلو والضلال ، وحملة لواء التشكيك والتضليل ، وتحريف القرآن المجيد ، وتكفير خير أمة أخرجت للناس ؟! كيف يجمع بين هذا كله وبين شيء من الاعتدال ؟! والمهم أن ما أنسبه إليهم هنا منقول من كتبهم وليس مما كتب عنهم ، وبذلك يكون الحكم دقيقاً غير جائر .(176/327)
وانتهيت من الكتاب الثانى سنة 1409 هـ (1989م) ، وفى أواخر ذلك العام كانت الطامة حيث صدر البيان المشهور عن دار الإفتاء المصرية الذي أحل بعض المعاملات التي أجمعت المجامع الفقهية كلها وجميع دور الإفتاء على أنها من الربا المحرم ، وتبع البيان بعد ذلك تحليل صور أخرى من المعاملات الربوية حتى وصل الأمر إلى القول بأن البنوك في جميع بقاع الأرض تستثمر بالطرق التي أحلها الله تعالي !!
فشغلت بالرد على البيان ، وعلى ما صدر بعد ذلك من الفتاوى الباطلة ، فكتبت عشرات المقالات ، وبضعة كتب وأبحاث ،ووقفت عند الكتاب الثانى بين الشيعة والسنة .
ومنذ سنوات طلبت منى إحدى الجهات العلمية البارزة كتابة رد على كتاب المراجعات لعبدالحسين شرف الدين الموسوي ، ثم تكرر الطلب حتى استحييت ، وكنت كتبت بعض الملاحظات حول الكتاب استعداداً للرد قبل هذا الطلب ، فأعدت النظر فيما كتبت ، واستعنت بالله عز وجل ، وبذلت أقصى ما أستطيع حتى انتهيت بحمد الله عز وجل وفضله وكرمه - من كتاب " المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى " ، حيث أثبت يقينا براءة شيخ الأزهر مما نسب إليه ، وأن عبدالحسين هو وحده صاحب هذه المراجعات المفتراة . والقارئ يجد هذا الأمر واضحاً جلياً ، وسيعجب كل العجب من جرأة هذا الرافضي لا على الكذب والافتراء فقط ، ولكن أيضا على تصوير شيخ الأزهر وشيخ المالكية وقد جاوز الثمانين عاما في صورة جاهل لا يدرى ما في كتب في التفسير والحديث عند أهل السنة أنفسهم ، وما يدرس منها لطلاب الأزهر ، فبدا كأنه أقل علماً من هؤلاء الطلاب ، إلى أن جاء هذا الشاب الرافضي الطريد الذي لجأ إلى مصر ليعلم شيخ الأزهر نفسه ما في هذه الكتب ، ويصور الرافضي نفسه في صورة من أخرج شيخ الأزهر من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، وجعله يسلم بصحة عقيدة الرافضة وشريعتهم وبطلان ما عليه أمة الإسلام منذ الصحابة الكرام البررة إلى عصرنا !!(176/328)
وقد ناقشت الرافضي مناقشة علمية مستفيضة ، نسأل الله تعالى أن يتقبلها منا فهو سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى.
وبعد أن انتهيت من كتاب المراجعات رأيت أن أستكمل الموضوع الذي بدأته بالكتابين اللذين أشرت إليهما من قبل ، ولكن بدا لي أن أقدم للمسلمين موسوعة شاملة في هذا الموضوع تبين حقيقة الشيعة والرافضة في الماضي والحاضر في ضوء الكتاب والسنة ، وكل ما أنسبه إليهم منقول من كتبهم هم أنفسهم ، وليس مما كتب عنهم ، وبذلك يكون الحكم دقيقا غير جائر . وهذه الموسوعة يضمها كتاب في أربعة أجزاء :
الجزء الأول في العقائد .
الجزء الثانى في التفسير وكتبه ورجاله .
الجزء الثالث في الحديث وعلومه وكتبه ورجاله .
والجزء الرابع في أصول الفقه والفقه .
وكل جزء له مقدمة تخصه وتناسبه .
وكتبت بحثا عنوانه " السنة بيان الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم " ، فرأيت من المناسب أن ألحقه بالجزء الثالث الخاص بالسنة المشرفة .
وقبل أن أنتقل إلى مقدمة الجزء الأول أحب أن أذكر بما يأتي :-
أولا: لماذا كثر ما كتبت عن الشيعة ؟
بعد أن تخرجت في كلية دار العلوم سنة 1376 هـ (1957م) ، والتحقت بالدراسات العليا ، كان ممن درس لنا أستاذنا الجليل / محمد المدني - رحمه الله تعالى - وهو من الأعضاء البارزين لدار التقريب بين المذاهب في القاهرة ، وكثيراً ما كان يحدّثنا عن الشيعة ، وفقههم وأنهم لا يختلفون كثيراً عن المذاهب الأربعة ، ويمكن اعتبارهم مذهبا خامسا .
والشيعة يزيدون على سبعين فرقة ، لكنه كان يقصد الشيعة الإمامية الجعفرية الاثنى عشرية بالذات ، فهى صاحبة دار التقريب فكرة وتنفيذا.(176/329)
ونتيجة فهمى لما سمعته منه سجلت رسالة الماجستير تحت عنوان " فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة " وأردت أن أحدد مواضع الخلاف فقط ، أي ما ينفردون به دون أي مذهب من المذاهب الأربعة ، ثم أناقش هذه المواضع باعتبارهم مذهبا خامسا من باب التقريب .
غير أننى عندما بدأت البحث ، واطلعت على مراجعهم الأصلية وجدت الأمر يختلف عما سمعت تماما . ورأيت أن عقيدة الإمامة عندهم ، التي جعلوها أصلا من أصول الدين ، أثرت في مصادر الشريعة ، وجميع أبواب الفقه ، ولذلك جعلت رسالة الدكتوراه عنوانها " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله".
فدراستى إذن بدأت بتوجيه من الشيخ المدني من أجل التقريب . ولكن الدراسة العلمية لها طابعها الذي لا يخضع للأهواء والرغبات .
وكان طبيعيا ألا أقف عند الماجستير والدكتوراه ، وأن يظهر هذا التخصص في دراسات أخرى ، ولهذا قمت بتأليف عدة كتب في سلسلة دراسات في الفرق .
من هذا التوضيح يعرف سبب كثرة ما كتبت في هذا المجال ، وما أكتبه ليس من أهدافه الحوار مع الشيعة والرافضة ، وإنما أوجه كتابتى لأهل السنة والجماعة وجمهور المسلمين في ضوء المصادر المعتمدة التي تلقتها الأمة بالقبول ، والمنهج العلمي الذي اتفق عليه جمهور المسلمين .
ثانيا: الشيعة ليسوا سواء
الشيعة الاثنا عشرية ليسوا سواء ، فمنهم الغلاة الذين نرى فيما كتبوا الكفر والزندقة ، ومنهم من ينشد الاعتدال ، ويتصدى لبعض هؤلاء الغلاة ، ومنهم من يجمع بين الغلو والاعتدال . فعلى سبيل المثال .(176/330)
ظهر في القرن الثالث الهجرى ثلاثة كتب في التفسير هي التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري ، وتفسير العياشى ، وتفسير القمي. وهذه الثلاثة كلها زيغ وضلال وزندقة : تكفر الصحابة رضي الله تعالي عنهم ، وعلى الأخص الخلفاء الراشدين قبل الإمام على ، ومن بايعوهم ، وتحرف القرآن الكريم نصا ومعنى وتغلو في الأئمة الاثنى عشر إلى درجة الشرك بالله عز وجل .
وفى القرن الرابع الهجرى يؤلف الكلينى ـ وهو تلميذ القمي ـ كتابه الكافى ، الكتاب الأول في الحديث عندهم ، وقد ضل ضلالا بعيداً ، ونهج منهج التفاسير الثلاثة وزاد عليها كفراً وضلالا .
وفى القرن الخامس يؤلف الطوسي كتابه التبيان في التفسير ، وينهج منهجا فيه شيء من الاعتدال ، ويتصدى لحركة التشكيك والتضليل التي سبقته ، ويحاول جاهدا صيانة كتاب الله العزيز نصا ومعنى ، وإن تأثر بعقيدته في بعض معانى الآيات الكريمة .
والإمامية الاثنا عشرية بعد هذا منهم من سار في ظلمات الضالين الغلاة ومنهم من اقترب من شيخ الطائفة الطوسي ، ومنهم من أخذ من كل نصيبا . وقد بينت هذا بالتفصيل في كتابى " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله " ، وفى هذا الكتاب بأجزائه الأربعة.
وعبد الحسين في كتابه " المراجعات " الذي أشرت إليه من قبل لم ينقل إلا عن الغلاة الضالين ، وأضاف إليهم ما هو أشد كفرا وضلالا ، ولم ينقل شيئا عن التبيان للطوسى شيخ طائفتهم وصاحب كتابين من كتب الحديث الأربعة .
ولذلك فهو يعد من أشد الروافض غلوا وزندقة وكفرا .
وأرجو أن يكون واضحا أن ما نراه في كتب الغلاة الرافضة ، وما نصمهم به نتيجة ما قدمت أيديهم ، لا ينطبق على المعتدلين من الطائفة .
والذى تعجب له هو موقف المعتدلين الغلاة من الشيعة ، حيث نرى تناقضا واضحا :-(176/331)
فهم يثنون على الصحابة الكرام ، ويقولون بأن القرآن الكريم الذي بين أيدى المسلمين هو كما أنزله الله عز وجل ، وأن أي خبر يتعارض مع هذا سواء أكان في الكافى أو غيره ، يضرب به عرض الحائط ، وكذلك ما يتصل بفرية علم الأئمة للغيب .
والتناقض يأتي في الإشادة بكتب الغلاة كالمراجعات ، وهو الذي يتعارض مع كل ما سبق كما يظهر عند عرضه ومناقشته ، وبيان ما فيه من البلاياوالرزايا .
وكذلك القول بأن كل ما في تفسير على بن إبراهيم القمي صحيح ، وهو الذي كفر الصحابة وقال بالتحريف تنزيلاً وتأويلاً ، وعلم الأئمة لما كان وما يكون إلى يوم القيامة .
تناقض واضح جلى بلا شك !! ولذلك فهم جمعوا بين الاعتدال والغلو !!
ووجدنا طائفة من معتدلي الشيعة لم تقع في مثل هذا التناقض ، وظهرت لهم كتب تفضح وترد على غلاة الشيعة ، وذلك مثل كتاب تحطيم الصنم ، والمقصود بالصنم كتاب الكافى ، وكتاب لله ثم للتاريخ ، وفيه تبرئة الأئمة الأطهار مما نسب إليهم من الغلو ، وما كتبه أحمد الكاتب ، وموسى الموسوي ، وغيرهم .فالشيعة إذن ليسوا سواء .
ثالثا: منهج الرافضة في محاولة هدم الإسلام
عبد الحسين الذي افترى كتاب المراجعات ، أراد أن يبين أن علامة أهل السنة وشيخ أزهرهم ، والذى جاوز الثمانين من عمره ، جاهل بالكتاب والسنة معا ، حتى بالكتب التي تدرس لطلاب الأزهر ، ويسلم بكل ما يقوله هذا الرافضي الشاب الطريد الذي لجأ إلي مصر ، فلا ينتهى الكتاب المفترى حتى ينطق ويشهد شيخ الأزهر- وحاشاه ثم حاشاه - بما ينطق به غلاة الروافض ! وإذا كان هذا هو حال الإمام الأكبر فعلى الباقين جميعا أن يسلموا تسليماً ، وأن يعود الأزهر شيعيا كما بدأ ! هكذا زين الشيطان للرافضى !
وأراد شيطان الرافضة أن يبين أنه صاحب ذلك الكتاب لا ريب فيه ، وبه نور الظلم ، وأنقذ شيخ الأزهر من ظلمات الجهل… هكذا دون أدنى خجل أو حياء من الله عز وجل ، أو من الناس .(176/332)
وما ذكر في مقدمة كتاب المراجعات عن عبد الحسين فهو من باب ما قاله الإمام الشافعى " أشهد الناس بالزور الرافضة " .
وأحب أن أنبه إلى أمر هام وهو منهج الرافضة في هدم الإسلام من الداخل ونشر عقائدهم الباطلة .
رأيت كتابا لعبد الحسين هذا عنوانه " الفصول المهمة في تأليف الأمة " ، ومن الذي لا يريد تأليف أمة الإسلام ؟ فلما نظرت في الكتاب وجدته ينتهى إلى أن التأليف إنما يكون باعتناق عقيدة الرافضة وترك ما عليه أهل السنة والجماعة ، وهذا هو ما انتهى إليه في كتاب المراجعات ، بعد أن بدأه بالتحذير من الفرقة ، ووجوب اجتماع الكلمة ، أي أننا يجب أن نجتمع ، على الكفر والزندقة ، لا على سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده ، التي أمرنا أن نعض عليها بالنواجذ .
فيجب أن نتنبه إلى هذا المنهج الخبيث ، وإلى أنهم في سبيل تصدير الثورة التي نادى بها الخمينى ، أي عقيدة الرافضة وشريعتهم ، يغرون بالمال الوفير ، وبالنساء عن طريق زواج المتعة عندهم .
رابعا : عبد الله بن سبأ
صاحب فكرة الوصي بعد النبي صلى الله عليه وسلم
عبد الله بن سبأ كان يهودياً ثم أعلن إسلامه ، ووالي على بن أبى طالب - رضي الله تعالى عنه - وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بالغلو ، فقال في إسلامه بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أبى الحسن مثل ذلك . وهو صاحب فكرة أن علياً هو وصى النبي - صلى الله عليه وسلم .
جاء في كتاب فرق الشيعة للحسن بن موسى النوبختي ، وسعد بن عبد الله القمي ، وهما من علماء الشيعة في القرن الثالث الهجرى :(176/333)
" عبد الله بن سبأ أول من شهر القول بفرض إمامة على رضي الله عنه ، وأظهر البراءة من أعدائه ، وكاشف مخالفيه وكفرهم ، فمن هاهنا قال من خالف الشيعة: إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية " . ( ص 32:33 وانظر هذا أيضا في ترجمة ابن سبأ في تنقيح المقال للماماقانى 2/184 ، والأنوار النعمانية للسيد نعمة الله الموسوي الجزائري ص 234 . وكلها مراجع شيعية ).
ونتيجة لدور ابن سبأ في تأسيس عقيدة الرافضة ، ولرفع هذه التهمة الثابتة ، ألف مرتضى العسكري الشيعي كتابا عن عبد الله بن سبأ ، وقال: إنه شخصية خرافية لا وجود لها ، وإن قصته وضعها سيف بن عمر ، واشتهرت عن طريق تاريخ الطبري .
وما قاله هذا الشيعي غير صحيح ، بل جرأة عجيبة على إنكار ما هو ثابت مشتهر ، فما أكثر ما جاء عن ابن سبأ من غير طريق سيف بن عمر ، وما نقلته من كتاب فرق الشيعة وغيره ليس فيه سيف بن عمر ، وليس منقولا عن طريق الطبري ، وأضيف إليه بعض المراجع الشيعية الأخرى التي ذكرت ابن سبأ ، وليس في سندها سيف بن عمر :
فانظر على سبيل المثال لأصحاب كتب الحديث الأربعة عند الشيعة :
الكافى للكلينى 1/545 ، وللصدوق : فقيه من لا يحضره الفقيه 1/213 ، وعلل الشرائع ص 344 ، والخصال 638 ، وللطوسى : تهذيب الأحكام 2/322 ، واختيار معرفة الرجال 2/108 ، والأمالى 1/234 .
وراجع أيضا : وسائل الشيعة 18/554 ، ورجال الكشّى ، وغيرها من مراجع الشيعة أنفسهم ، إلى جانب مراجع الجمهور التي يطول ذكرها . ويمكن أن يكون هذا الموضوع بحثا موسعا نثبت به أخطاء مرتضى العسكري وغيره ، ولكن أكتفى بذكر نموذج لأحد الشيعة المشهورين بالاعتدال إلى حد ما وهو السيد أبو القاسم الخوئى ، الذي كان المرجع الأعلى للشيعة في العراق . جاء في كتابه معجم رجال الحديث في ترجمة عبد الله بن سبأ ما نصه :
الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلوّ : من أصحاب على رضي الله عنه رجال الشيخ (76).(176/334)
وقال الكشّى (48) : " حدثني محمد بن قولويه القمي ، قال : حدثني سعد بن عبد الله بن أبى خلف القمي ، قال : حدثني محمد بن عثمان العبدى ، عن يونس بن عبدالرحمان ، عن عبد الله بن سنان ، قال : حدثني أبى عن أبى جعفررضي الله عنه : أنّ عبد الله بن سبأ كان يدعى النبوة ويزعم أن أمير المؤمنين رضي الله عنه هو الله !! تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً فبلغ ذلك أمير المؤمنين رضي الله عنه ، فدعاه وسأله فأقرّ بذلك ، وقال : نعم أنت هو وقد كان ألقى في روعى أنك أنت الله وأنىّ نبي !! فقال له أمير المؤمنين رضي الله عنه : ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أمك وتب ، فأبى فحبسه واستتابه ثلاثة أيام فلم يتب فأحرقه بالنار" . وقال : إنّ الشيطان استهواه فكان يأتيه ويلقى في روعه ذلك .
حدثني محمد بن قولويه ، قال : حدثني سعد بن عبد الله ، قال : حدّثنا يعقوب ابن يزيد ومحمد بن عيسى ، عن ابن أبى عمير ، عن هشام بن سالم ، قال : سمعت أبا عبد الله يقول وهو يحدث أصحابه بحديث عبد الله بن سبأ ، وما ادّعى من الربوبية في أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه ، فقال : إنه لما ادّعى ذلك فيه استتابه أمير المؤمنين رضي الله عنه فأبى أن يتوب فأحرقه بالنار.
حدثني محمد بن قولويه : قال : حدثني سعد بن عبد الله ، قال : حدّثنا يعقوب بن يزيد ، ومحمد بن عيسى ، عن على بن مهزيار ، عن فضالة بن أيوب الأرذى عن أبان بن عثمان ، قال : سمعت أبا عبد الله رضي الله عنه يقول : لعن الله عبد الله بن سبأ إنه ادّعى الربوبية في أمير المؤمنين رضي الله عنه، وكان والله أمير المؤمنين رضي الله عنه عبد الله طائعاً ، الويل لمن كذب علينا وإن قوما يقولون فينا ما لانقوله في أنفسنا ، نبرأ إلى الله منهم . نبرأ إلى الله منهم .(176/335)
وبهذا الإسناد عن يعقوب بن يزيد ، عن ابن أبى عمير ، وأحمد بن محمد بن عيسى ، عن أبيه ، والحسين بن سعيد ، عن ابن أبى عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبى حمزة الثمالى ، قال : قال على بن الحسين صلوات الله عليهما: لعن الله من كذب علينا إنى ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كل شعرة في جسدى ، لقد ادّعى أمراً عظيماً ! ما له لعنه الله ، كان على رضي الله عنه والله عبداً لله صالحاً ، أخا رسول الله ، ما نال الكرامة من الله إلا بطاعته لله ولرسوله ، وما نال رسول الله صلى الله عليه وآله الكرامة من الله إلا بطاعته لله .
وبهذا الإسناد : عن محمد بن خالد الطيالسى ، عن ابن أبى نجران ، عن عبد الله (بن سنان) ، قال : قال أبو عبد الله رضي الله عنه :إنّا أهل بيت صديقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلموآله أصدق الناس لهجة وأصدق البرية كلّها ، وكان مسيلمة يكذب عليه، وكان أمير المؤمنين رضي الله عنه أصدق من برأ الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه ويفترى على الله الكذب عبد الله بن سبأ .
أقول ـ أي الخوئى : وتأتى هذه الرواية الأخيرة في ترجمة محمد بن أبى زينب وفى سندها ابن سنان ، بدل عبد الله .
وقال الكشّى : " ذكر بعض أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى عليا رضي الله عنه، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصى موسى بالغلو ! فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في على رضي الله عنه مثل ذلك ، وكان أول من شهر بالقول بفرض إمامة على !! وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه وأكفرهم ، فمن ها هنا قال من خالف الشيعة : أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية !! " .(176/336)
أقول : بطلان قول من خالف الشيعة واضح ناشئ عن العصبية العمياء ، فإن أصل التشيع والرفض مأخوذ من الله عز وجل حيث قال سبحانه وتعالى:
" إنما وليكم لله ورسوله والذين آمنوا... " والرسول الأعظم صلوات الله عليه وآله حيث قال في الغدير : " من كنتٌ مولاه فهذا على مولاه ، اللهم وال من والاه ..." وأما عبد الله بن سبأ فعلى فرض وجوده فهذه الروايات تدل على أنه كفر وادّعى الألوهيّة في على رضي الله عنه لا أنه قائل بفرض إمامته رضي الله عنه ، مضافاً إلى أن أسطورة عبد الله بن سبأ وقصص مشاغباته الهائلة موضوعة مختلفة اختلقها سيف بن عمر الوضاع الكذّاب ، ولا يسعنا المقام الإطالة في ذلك والتدليل عليه ، وقد أغنانا العلامة الجليل والباحث المحقق السيد مرتضى العسكري في ما قدم من دراسات عميقة دقيقة في هذه القصص الخرافية وعن سيف وموضوعاته في مجلّدين ضخمين طبعا باسم ( عبد الله بن سبأ ) وفى كتابه الآخر (خمسون ومائة صحابي مختلق ) صلى الله عليه وسلم (11/205: 207 ) . انتهت الترجمة.
ونلاحظ هنا أن الخوئى نقل الترجمة من مراجع شيعية فقط ، وذكر الأخبار بأسانيدها وليس في أي منها سيف بن عمر ، ومع ذلك يقول : أسطورة عبد الله بن سبأ ، ويثنى على مرتضى العسكري ! وعلى دراساته ! أين ذهب عقل الخوئى وهو يكتب هذا ؟!
ثم لا يكتفى بالافتراء على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالنسبة لأصل التشيع ، بل يلحق به الرفض الذي يعنى الطعن في أبى بكر وعمر ، خير البشر بعد الرسول صلى الله عليه وسلم . وفى الأمة الإسلامية كلها التي بايعت كلا منهما . والخوئى مشهور بالاعتدال النسبى ، فماذا ننتظر من غلاة الرافضة وزنادقتهم ؟!(1)[1])
__________
(1) استدلال الخوئى هنا على أصل التشيع والرفض يأتي أثناء ذكر الأدلة ومناقشتها في هذا الجزء الأول .(176/337)
أما من عرف بالاعتدال وعدم الغلو والتطرف من الشيعة فقد وجدنا منهم من يكتب عن عبد الله بن سبأ ويثبت وجوده ، ويرد على مرتضى العسكري ومن أيده ، ففي كتاب كشف الأسرار وتبرئة الأئمة الأطهار لعالم شيعي من علماء النجف وهو السيد حسين الموسوي نجد سبعة نصوص تؤيد وجود عبد الله بن سبأ ، ثم يقول المؤلف بعد ذكر هذه النصوص ما يأتي :
فهذه سبعة نصوص من مصادر معتبرة ومتنوعة ، بعضها في الرجال وبعضها في الفقه والفرق، وتركنا النقل عن مصادر كثيرة لئلا نطيل ، كلها تثبت وجود شخصية اسمها عبد الله بن سبأ ، فلا يمكننا بعد نفي وجودها خصوصاً وأن أمير المؤمنين رضي الله عنه قد أنزل بابن سبأ عقاباً على قوله فيه ، بأنه إله ، وهذا يعنى أن أمير المؤمنين رضي الله عنه قد التقى عبد الله بن سبأ ، وكفى بأمير المؤمنين بحجة ، فلا يمكن بعد ذلك إنكار وجوده .
نستفيد من النصوص المتقدمة ما يأتي :-
ـ إثبات وجود شخصية ابن سبأ ، ووجود فرقة تناصره وتنادى بقوله ، وهذه الفرقة تعرف بالسبئية .
ـ أن ابن سبأ هذا كان يهودياً فأظهر الإسلام ، وهو وإن أظهر الإسلام إلا أن الحقيقة أنه بقى على يهوديته وأخذ يبث سمومه من خلال ذلك .
ـ أنه هو الذي أظهر الطعن في أبى بكر وعمر وعثمان والصحابة ، وكان أول من قال بذلك ، وهو أول من قال بإمامة أمير المؤمنين رضي الله عنه ، وهو الذي قال بأنه رضي الله عنه وصى النبي محمد صلى الله عليه وآله ، وأنه نقل هذا القول عن اليهودية ؟ وأنه ما قال هذا إلا محبة لأهل البيت ودعوة لولايتهم ، والتبرؤ من أعدائهم ـ وهم الصحابة ومن والاهم بزعمه .
إذن شخصية عبد الله بن سبأ حقيقة لا يمكن تجاهلها أو إنكارها ، ولهذا ورد التنصيص عليها وعلى وجودها في كتبنا ومصادرنا المعتبرة ، وللاستزادة في معرفة هذه الشخصية ، انظر المصادر التالية :(176/338)
" الغارات للثقفى ، " رجال الطوسي " ، " الرجال " للحلي ، " قاموس الرجال " للتستري ، " دائرة المعارف " المسماة بـ " مقتبس الأثر " للأعلمى الحائري ، " الكنى والألقاب " لعباس القمي ، " حل الإشكال " لأحمد بن طاووس المتوفى سنة (673 هـ ) ، " الرجال " لابن داود ، " التحرير " للطاوسي ، " مجمع الرجال " للقهبانى ، " نقد الرجال " للتفرشى ، " جامع الرواة " للمقدسى الأردبيلى ، " مناقب آل أبى طالب " لابن شهر أشوب ، " مرآة الأنوار " لمحمد بن طاهر العاملي .
فهذه على سبيل المثال لا الحصر ، أكثر من عشرين مصدراً من مصادرنا تنص كلها على وجود ابن سبأ ، فالعجب كل العجب من فقهائنا أمثال المرتضى العسكري ، والسيد محمد جواد مغنية ، وغيرهما ... في نفى وجود هذه الشخصية ، ولا شك أن قولهم ليس فيه شيء من الصحة .
انتهى كلام السبد حسين الموسوي ، العالم الشيعي النجفي ، ومصادره كلها شيعية كما ذكر
مقدمة الجزء الأول
بعد أن انتهينا من التمهيد للكتاب كله بأجزائه الأربعة ننتقل إلى مقدمة هذا الجزء الأول ، فأقول مستعينا بالله سبحانه وتعالى:
لا شك أن الإمامة قد حظيت بكثير من الدراسة والبحث ، ولا غرو فأعظم خلاف وقع بين المسلمين إنما كان بسببها .
والشيعة الإمامية الجعفرية الاثنا عشرية أكبر الفرق الإسلامية المعاصرة وإليها اتجهت دعوة التقريب ، لذا رأيت أن أبين عقيدة الإمامة عندهم كما جاءت في كتبهم هم أنفسهم ، دون اعتماد على شيء مما كتب عنهم ، فبعض من كتبوا عنهم خلطوا بينهم وبين فرق شيعية أخرى .
والإسلام - عقيدة وشريعة - إنما يستمد أصلاً من الوحي الذي أنزله الله عز وجل في كتابه المجيد ، وما بينه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المطهرة.(176/339)
وصحة عقيدة الجعفرية أو بطلانها لا يثبت إذن إلا بالكتاب والسنة. لهذا رأيت أن أحدد أهم أدلتهم التي تستند إلى القرآن الكريم ، وأبين وجهة نظرهم ، وأناقشهم فيما ذهبوا إليه.
وإذا كان من اليسير أن نحدد أدلتهم التي تستند إلى القرآن الكريم ، فمن العسير تعيين أدلتهم التي تستند إلى السنة النبوية الشريفة ، لأن السنة مجال واسع رحب ، ودور الكذّابين والوضاعين معروف . والجعفرية معنيون كل عناية بالحديث عن الإمامة ، ومحاولة إثبات صحة مذهبهم بالأدلة النقلية والعقلية ،ولهم في القديم والحديث مئات المؤلفات ، بل عشرات المئات ، فقلما نجد عالماً من علمائهم لم يدل بدلوه في هذا الميدان . وفى مؤلفاتهم نرى الميل إلى الإكثار الزائد من النقل والجدل ، مثال هذا أنهم يستدلون على صحة الإمامة بأحد الأحاديث ، فجاء كاتب من كتابهم وألف كتاباً في ستة عشر مجلداً ليثبت به صحة هذا الحديث وشهرته ، ومن قبله يقرون كتب غيره كتاب الألفين - أي من الأدلة - في إمامة أمير المؤمنين ؟!
وأمام هذا الفيض الزاخر رأيت أن اعتمد أساساً على ثمانية كتب من كتب السنة هي : الموطأ ومسند الإمام أحمد ، والصحيحان ، وكتب السنن الأربعة ، ثم جمعت كل ما جاء فيها متصلاً بالإمامة سواء أأيد رأيهم أم عارضه ، وناقشت ما جمعت سنداً ومتناً لنتبين دلالة السنة.
أما كتب السنة عند الجعفرية فلم أعتمد عليها لأننى عندما اطلعت عليها رأيت أنها ما وضعت إلا من أجل عقيدتهم وما يتصل بها . على أن كتب الجعفرية التي ينشرونها في الأوساط المختلفة وتتعرض لعقيدتهم في الإمامة ، تذكر أن هذه العقيدة تؤيدها كتب السنة عند جمهور المسلمين ، ويذكرون أخباراً كثيرة ينسبونها لهذه الكتب ويحتجون بها . وجمعنا لما جاء في الكتب الثمانية المذكورة آنفاً ومناقشة ما جمع يغنى عن مناقشة ما جاء في كل كتاب من مئات الكتب الجعفرية .(176/340)
غير أننى لم أكتف بهذا ، بل رأيت تخصيص فصل لأدلتهم التي يذكرونها ، مع مناقشتها ، وهى تعتمد على تحريف القرآن الكريم نصاً ومعنى ، وعلى الأحاديث الموضوعة المفتراة .
وهذه الأدلة نرى معظمها في كتابين من كتبهم .
أولهما : كتاب منهاج الكرامة لابن المطهر الحلى ، ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بكتابة منهاج السنة النبوية .
والكتاب الثانى هو : المراجعات لعبد الحسين شرف الدين الموسوي ، ورددت عليه بكتابي : المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى.
فتناولت في الفصل شيئاً من كتابى ابن المطهر وعبد الحسين ، والرد عليهما ، وبينت بعض ما جاء فيهما من الباطل والضلال .
وبعد الحديث عن عقيدة الإمامة ، والمناقشة ختمت الجزء بفصل عن العقائد التابعة لعقيدة الإمامة وأهمها : عصمة الأئمة ، والبداء ، والرجعة ، والتقية. فهذا الجزء يقع في خمسة فصول :-
الفصل الأول :- الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة.
الفصل الثانى :- أدلة الإمامة من القرآن العظيم .
الفصل الثالث :- الإمامة في ضوء السنة.
الفصل الرابع :- الاستدلال بالتحريف والوضع .
الفصل الخامس :- عقائد تابعة .
نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعاً سواء السبيل ، إنه نعم المولي ونعم النصير ، وهو المستعان .
" رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ"، " سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ علَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?"
الفصل الأول
الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة
أولا : الإمامة والخلافة
الإمامة لغة التقدم ، نقول : أمّ القوم وبهم : تقدمهم . والإمام : ما ائتم به الناس من رئيس أو غيره : هادياً كان أو ضالاً ، ويطلق لفظ الإمام على الخليفة ، وهو السلطان الأعظم وإمام الرعية ورئيسهم .
وأممت القوم في الصلاة إمامة ، وائتم به أي اقتدى .(176/341)
ويطلق لفظ الإمام كذلك على القرآن الكريم ، فهو إمام المسلمين ، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهو إمام الأئمة بأئمتها ، وعليهم جميعاً الائتمام بسنته التي نص عليها .
ويطلق على قيم الأمر المصلح له ، وعلى قائد الجند ، وقد يذكر ويراد به غير هذه المعاني (1).
ولم يرد لفظ الإمامة في القرآن الكريم ، وإنما ورد لفظ إمام وأئمة ، قال تعالى :-
" قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "(2) أي جاعلك قدوة يؤتم به ، وقال سبحانه :" وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا " (3) وقال عز وجل "فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ "(4) } - { ) أي قاتلوا رؤساء الكفر وقادتهم الذين صار ضعفاؤهم تبعاً لهم . وقال تعالى : "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ " (5)[3]) ، أي من تبعهم فهو في النار يوم القيامة .
ومن المفهوم اللغوى لكلمة إمام نستطيع أن ندرك سبب إطلاق هذا الاسم على حاكم المسلمين ، كما وجدنا ترادفاً بين الإمامة والخلافة . ويفسر هذا أستاذنا الشيخ أبو زهرة رحمه الله فيقول : " سميت خلافة لأن الذي يتولاها ويكون الحاكم الأعظم للمسلمين يخلف النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة شئون المسلمين ، وتسمى الإمامة لأن الخليفة كان يسمى إماماً ، ولأن طاعته واجبة ، ولأن الناس يسيرون وراءه كما يصلون وراء من يؤمهم للصلاة "(6)[4]).
__________
(1) من بينها مثلا : أمة يؤمه إذا قصده كما جاء في الآية الكريمة الثانية من سورة المائدة
{ ولا آمين البيت الحرام } انظر مادة " أمم " في لسان العرب والقاموس المحيط .
(2) البقرة : 124.
(3) الأنبياء : 73.
(4) التوبة 12
(5) القصص :41
(6) تاريخ المذاهب الإسلامية 1/21 . والمعروف أن الخليفة الأول رضي الله عنه خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبعده كل خليفة يخلف من سبقه .(176/342)
وأعظم خلاف بين الأمة - كما يقول الشهر ستانى - خلاف الإمامة ، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان (1)[5])
وبالطبع ما كان الخلاف ليجد مكانا بين المسلمين وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسم الخلاف ، ويصلح النفوس ويهدى إلى صراط مستقيم
"فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" (2)[6])
ثانيا : التفكير في الإمامة وبيعة الصديق
أكان المسلمون يفكرون فيمن يخلف الرسول الكريم في إمامتهم وعلى وجه الخصوص عندما اشتد مرضه الأخير ؟
وردت روايات صحيحة الإسناد تفيد وجود مثل هذا التفكير ، منها ما جاء عن ابن عباس أن على بن أبى طالب خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفى فيه ، فقال الناس : يا أبا حسن ، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئاً ، قال ابن عباس : فأخذ بيده عباس بن عبدالمطلب فقال : ألا ترى أنت ؟ والله إنى أعرف وجوه بنى عبدالمطلب عند الموت ، فاذهب بنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلنسأله فيمن هذا الأمر ؟ فإن كان فينا علمنا ذلك ، وإن كان في غيرنا كلمناه فأوصى بنا ، فقال على : والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس أبداً ، فوالله لا أسأله أبداً (3)[7]).
__________
(1) الملل والنحل 1/24.
(2) - سورة النساء : الآية 65 .
(3) انظر الرواية رقم 2374 بالجزء الرابع من مسند الإمام أحمد تحقيق وتخريج الشيخ أحمد شاكر . وانظر هذه الرواية بسند صحيح آخر رقم 299 ج 5 من المسند .(176/343)
وجاء عن على - كرم الله وجهه - قال : " قيل : يا رسول الله ، من يؤمر بعدك ؟ قال : إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة ، وإن تؤمروا عمر تجدوه أميناً لا يخاف في الله لومة لائم ، وإن تؤمروا علياً ، ولا أراكم فاعلين ، تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الطريق المستقيم " (1)[8])
معنى هذا أن التفكير في الإمامة نبت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن الخلاف لم ينشأ إلا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى حيث كان اجتماع السقيفة المشهور الذي انتهى بالبيعة للخليفة الأول ، وتحدث الخليفة الثانى في إحدى خطبه عن ذلك الاجتماع فقال : " بلغنى أن قائلاً منكم يقول : والله لو مات عمر بايعت فلانا ، فلا يغترن امرؤ أن يقول : إنما كانت بيعة أبى بكر فلتة ، وتمت ، ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها ، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبى بكر. من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا ، وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلا أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بنى ساعدة ، وخالف عنا على والزبير ومن معهما ، واجتمع المهاجرون إلى أبى بكر ، فقلت لأبى بكر : يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نريدهم ، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان ، فذكرا ما تمالى عليه القوم ، فقالا : لا عليكم أن تقربوهم ، اقضوا أمركم ، فقلت : ماله ؟ قالوا : يوعك ، فلما جلسنا قليلاً تشهد خطيبهم ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وأنتم معشر المهاجرين رهط ، وقد دفت دافة من قومكم ، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر ، فلما سكت أردت أن أتكلم ، وكنت زورت مقالة أعجبتنى أريد
__________
(1) المرجع السابق ج3 رواية رقم 859 وهى صحيحة الإسناد.(176/344)
أن أقدمها بين يدى أبى بكر ، وكنت أدارى منه بعض الحد ، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر : على رسلك ، فكرهت أن أغضبه ، فتكلم أبوبكر فكان هو أعلم منى وأوقر . والله ما ترك من كلمة أعجبتنى من تزويرى إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت ، فقال : ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيهما شئتم ، فأخذ بيدى وبيد أبى عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا ، فلم أكره مما قال غيرها ، كان والله أن أقدم فتضرب عنقى ، ولا يقربنى ذلك من إثم ، أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تسول إلى نفسى عند الموت شيئاً لا أجده الآن . فقال قائل من الأنصار : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش . فكثر اللغط ، وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف ، فقلت : أبسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ، ثم بايعته الأنصار ، ونزونا على سعد بن عبادة ، قال عمر : وإنّا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبى بكر ، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا ، فإما بايعناهم على ما لا نرضى ، وإما نخالفهم فيكون فساد ، فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو و لا الذي بايعه تغرة أن يقتلا "(1)
__________
(1) صحيح البخاري – كتاب المحاربين – باب رجم الحبلى ، وراجع المسند تحقيق شاكر ج1 رواية رقم 391 قوله : تغرة أن يقتلا : أي خوف وقوعهما في القتل . يحضوننا : يخرجوننا : زورت : هيأت وحسنت والتزوير : إصلاح الشيء ، وكلام مزور: أي محسن . جذيلها المحكك : الجذيل تصغير جذل ، وهو العود الذي ينصب للإبل الجربى لتحتك به ، وهو تصغير تعظيم ، أي أنا ممن يستشفى برأيه كما تستشفى الإبل الجربى بالاحتكاك بهذا العود ، وقيل : أراد أنه شديد البأس صلب المكسر . المرجب من الترجيب ، وهو أن تعمد النخلة الكريمة ببناء إذا خيف عليها – لطولها وكثرة حملها – أن تقع . ( انظر المسند ففيه المزيد ) .(176/345)
} - { ).
ثالثاً : الإمامة عند الجمهور
مما ذكره الفاروق نلاحظ ما يأتي :-
أولاً : لا خلاف حول وجوب إقامة خليفة ، وإنما كان الخلاف بشأن من يخلف الرسول صلى الله عليه وسلم . وإلى هذا انتهى جمهور السنة ، فلا يستقيم أمر الأمة بغير حاكم .
ثانياً : أن الخلافة في قريش : " لن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش " ولم يأخذ الأنصار بهذا أول الأمر ، ولكن ما أسرع أن بايعوا قريشاً ما عدا سعد عبادة فلم يبايع ، ويؤيد ما ذكره الصديق أحاديث صحيحة : فالبخارى - في كتاب الأحكام من صحيحه -جعل باباً بعنوان " الأمراء من قريش " ، ومما آخرجه هنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين " وقوله صلوات الله عليه : " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقى منهم اثنان " .
وفى كتاب الإمارة من صحيح مسلم نجد " باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش " ، ومما جاء في هذا الباب قول الرسول الكريم " الناس تبع لقريش في هذا الشأن " وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال هذا الأمر في قريش مابقى من الناس اثنان " .
وأخرج أحمد في مسنده روايات كثيرة صحيحة الإسناد تؤيد هذا ، منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " أما بعد ، يا معشر قريش ، فإنكم أهل هذا الأمر ، ما لم تعصوا الله ، فإذا عصيتموه بعث إليكم من يلحاكم كما يلحى هذا القضيب - لقضيب في يده - ثم لحا قضية ، فإذا هو أبيض يصلد " (1) } - - { )
ثالثاً : لا يكون خليفة إلا بالبيعة " قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم " . " فقلت ابسط يدك ياأبا بكر ، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ، ثم بايعته الأنصار " .
__________
(1) 10] ) المسند ج6 رواية رقم 4380 ، وانظر كذلك ج7 رواية رقم 4832 ، ج8 الروايتين 5677 ، 6121 ، ج13 الروايتين 7304 ، 7547.(176/346)
فإذا تمت البيعة وجب الوفاء بها ، ولهذا قال " خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا فإما بايعناهم على مالا نرضى ، وإما نخالفهم فيكون فساد " وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر" (1)2) وقال أيضا: " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد ، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ". (2)[11])
رابعا : ما دام الواجب الوفاء بالبيعة فلا بيعة إلا بمشورة المسلمين " فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا " والشورى مبدأ معروف في الإسلام فمن المقطوع به أن الحكم في الإسلام ينبنى على مبدأين أساسيين هما العدالة والشورى ، قال تعالى:-
__________
(2) 11] ) في فتح البارى بعد الحديث عن الرواية السابقة قال ابن حجر : قد صحح ابن حبان وغيره من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه أن علياً بايع أبا بكر في أول الأمر . وأما ما وقع في مسلم عن الزهرى أن رجلاً قال له : لم يبايع على أبا بكر حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها قال : لا ولا أحد من بنى هاشم . فقد ضعفه البيهقي بأن الزهرى لم يسنده ، وأن الرواية الموصولة عن أبى سعيد أصح . وجمع غيره بأنه بايعه بيعة ثانية مؤكدة للأولى لإزالة ما كان وقع بسبب الميراث . وحينئذ يحمل قول الزهرى لم يبايعه على في تلك الأيام على إرادة الملازمة له والحضور عنده ، وما أشبه ذلك ، فإن في انقطاع مثله عن مثله يوهم من لا يعرف باطن الأمر أنه بسبب عدم الرضا بخلافته ، فأطلق من أطلق ذلك ، وبسبب ذلك أظهر على المبايعة التي بعد موت فاطمة لإزالة هذه الشبهة.(176/347)
" وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ " (1)[12]). وقال جل شأنه:-" وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ " (2)[13]) " وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ"َ (3)[14])
خامساً :-أن البيعة تمت لأبى بكر بهذه السرعة ، بغير تدبير سابق وإنما كانت فلتة نظراً لمكانته . " ليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبى بكر " - ...... " كان والله أن أقوم فتضرب عنقى - لا يقربنى ذلك من إثم - أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر " .
بعد هذه الملاحظات نقول : إنه في ضوء ما سبق وغيره اشترط الجمهور للخلافة الراشدة ، خلافة النبوة ، أن تكون لقرشى عادل عن طريق البيعة والشورى ، على خلاف في بعض الأمور مثل تحديد من تنعقد بهم البيعة(4) } - - { ) .
ورأي الأنصار في أحقيتهم للخلافة انتهى بالبيعة ، ولم يطل على التاريخ من جديد ، ولكن أولئك القرشيين الذي امتنعوا عن البيعة أول الأمر، ثم ما لبثوا أن بايعوا كان لهم شأن آخر في تاريخ الأمة الإسلامية . والمشهور أن هؤلاء لم يبايعوا لأنهم يرون أن الإمامة ليست في قريش بصفة عامة ، وإنما هي في أهل بيت النبوة وللإمام على بصفة خاصة . وهؤلاء قلة يذكر لنا التاريخ منهم بعض الصحابة من غير بنى هاشم كالمقداد بن الأسود ، وسلمان الفارسى ، وأبى ذر الغفارى رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، ولكنهم جميعاً لم يتعرضوا للخليفة بتكفير أو تجريح . وعرض أبوسفيان البيعة على الإمام على ولكنه أبى لقوة دينه وفرط ذكائه .
*****
رابعاً : على وبيعة من سبقه
__________
(1) 12]) سورة النساء – الآية 58.
(2) 13]) سورة الشورى : الآية 38 .
(3) 14]) آل عمران – الآية 159.
(4) 15]) انظر تاريخ المذاهب الإسلامية 1/93: 109 ، والفرق بين الفرق ص 210 –212.(176/348)
إذا كان المشهور يدل غالباً على واقع الأمر . فإن من الأمور ما يشتهر مخالفاً للحقيقة . فمما اشتهر أن الإمام علياً لم يبايع لأنه كان يرى أحقيته بالإمامة من غيره . ولكن الثابت من أقواله يدل على أنه كان يرى ألا يقضى مثل هذا الأمر دون أن يكون له فيه رأي ، مع اعترافه بأفضلية الصديق ، وعدم إنكار أحقيته لإمامة المسلمين : روى البخاري أن الإمام علياً عندما أراد مبايعة الصديق رضي الله عنهما أرسل إليه فجاءه ، فتشهد على فقال : " إنّا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله ، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك ، ولكنك استبددت علينا بالأمر ، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيباً ، حتى فاضت عينا أبى بكر . فلما تكلم أبو بكر قال : والذى نفسى بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتى ، وأما الذي شجر بينى وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيها عن الخير ، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته . فقال على لأبى بكر : موعدك العشية للبيعة . فلما صلى أبو بكر الظهر رقى على المنبر فتشهد ، وذكر شأن على وتخلفه عن البيعة ، وعذره بالذى اعتذر إليه ، ثم استغفر وتشهد على فعظم حق أبى بكر ، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبى بكر ولا إنكارا للذى فضله الله به ،ولكنا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً ، فاستبد علينا ، فوجدنا في أنفسنا ، فسر بذلك المسلمون وقالوا : أصبت . وكان المسلمون إلى على قريباً حين راجع الأمر بالمعروف" ( كتاب المغازي باب غزوة خيبر). وروى مسلم أكثر من رواية تفيد ما سبق ، وفى إحدى رواياته " ثم قام على فعظم من حق أبى بكر ، وذكر فضيلته وسابقته ، ثم مضى إلى أبى بكر فبايعه ، فأقبل الناس إلى على فقالوا : أصبت وأحسنت " (كتاب الجهاد - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا نورث ماتركنا فهو صداقة ) . واستبد بالأمر : إذا(176/349)
انفرد به غير مشارك له فيه ، وقول الإمام : ولكنك استبددت علينا بالأمر : أي لم تشاورنا في أمر الخلافة .
ومن المشهور كذلك أن الإمام علياً لم يبايع إلا بعد وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنهما ، ولكن يوجد ما يدل على أنه لم يتآخر هذه الفترة.
وقبل انتهاء فترة الخلافة الأولى القصيرة - التي بارك الله تعالى فيها أيما بركة - كان الصديق قد استقر رأيه على استخلاف عمر بعد تعرفه على آراء كثير من الصحابة الكرام . على أن بعض هؤلاء قد تخوف من خلافة الفاروق لما اشتهر به من الشدة ، وقالوا لأبى بكر : قد وليت علينا فظاً غليظاً ، فقال : لو سألنى ربى يوم القيامة لقلت : وليت عليهم خيرهم (1)(2) } - تمهيد { ) .
وعندما أخذ رأي المسلمين في البيعة لمن ذكر في كتاب الخليفة الأول قالوا : نسمع ونطيع ، غير أن على بن أبى طالب انفرد بقوله : " لا نرضى إلا أن يكون عمر " (3) } - - { ) .
__________
(2) 16]) انظر الملل والنحل 1/25 ، وجاء في كتاب الاستخلاف " إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب ، فإن بر وعدل فذلك علمى به ورأيى فيه ، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب ، والخير أردت . ولكل امرئ ما اكتسب . وسيعلم الذي ظلموا أي منقلب ينقلبون " ( الكامل للمبرد 1/8) .
(3) 17]) عبقرية الصديق ص 164.(176/350)
ولم يتأخر أحد عن بيعة عمر بن الخطاب إلا سعد بن عبادة . ومرت الخلافة العمرية الراشدة ، وانتهى الأمر إلى الستة (1) } - - { ) ليختاروا واحدا منهم ، ثم انحصرت الخلافة في ثلاثة ، فاثنين هما عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب ، ثم كانت البيعة الجماعية لذى النورين ، فلماذا انتهت إليه ؟
__________
(1) 18]) الستة هم : على وعثمان والزبير وطلحة وسعد بن أبى وقاص وعبدالرحمن بن عوف . قال عبدالرحمن : اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم . فقال الزبير : قد جعلت أمرى إلى على . فقال طلحة : قد جعلت أمرى إلى عثمان . وقال سعد : قد جعلت أمرى إلى عبدالرحمن بن عوف .(176/351)
روى البخاري بسنده عن المسور بن مخرمة " أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا ، قال لهم عبدالرحمن : لست بالذى أنافسكم على هذا الأمر ، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم ، فجعلوا ذلك إلى عبدالرحمن ، فلما ولوا عبدالرحمن أمرهم ، فمال الناس على عبدالرحمن حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه ، ومال الناس على عبدالرحمن يشاورونه تلك الليالى ، حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان قال المسور : طرقنى عبدالرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت ، فقال : أراك نائماً ، فوالله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم ، انطلق فادع الزبير وسعداً ، فدعوتهما له فشاورهما ، ثم دعانى فقال : ادع لي علياً فدعوته ، فناجاه حتى ابهار الليل ، ثم قام على من عنده وهو على طمع ، وقد كان عبدالرحمن يخشى من على شيئاً ، ثم قال : ادع لي عثمان فدعوته ، فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح . فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر ، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار ، وأرسل إلى أمراء الأجناد ، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر ، فلما اجتمعوا تشهد عبدالرحمن ، ثم قال : أما بعد يا على إنى قد نظرت في أمر الناس ، فلم أرهم يعدلون بعثمان ، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً ، فقال : أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده ، فبايعه عبدالرحمن ، وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون(1)[19]).
__________
(1) 19] ) البخاري – كتاب الأحكام – باب كيف يبايع الإمام الناس ، وراجع فتح الباري – كتاب المناقب – باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان رضي الله عنه .(176/352)
وكانت السنوات الأولى في عهد عثمان خيراً وبركة ، ثم بدأت الفتنة التي أدت إلى مقتله . وقد بذل الإمام على كل ما استطاع في سبيل إخمادها ولكن هيهات ! وفى هذه الفترة بدأت الأنظار تتعلق بعلى ، وتذكر ما له من فضل ومكانة . إذا ما انتقل الخليفة الشهيد إلى حيث بشره الرسول صلى الله عليه وسلم تجمع المسلمون حول أبى الحسن علهم يجدون على يديه مخرجاً . وتمت البيعة ولكن لم تنته الفتنة ، بل زاد أوراها ، وسالت دماء طاهرة على أرض الإسلام بسيوف المسلمين! وعلى قتله عثمان الوزر الأكبر لكل ما نتج عن هذه الفتنة ، ولكن " وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً" (1) } - - { ) .
وكان من نتيجة حادثة " التحكيم " الشهيرة أن انسل جماعة من أتباع الإمام وخرجوا على المتحاربين معاً ، على ومعاوية ! وهؤلاء هم الذين سموا " الخوارج " أما الذين ظلوا مع الإمام فهم الذين أطلق عليهم لقب " الشيعة " . (2)
__________
(1) 20]) سورة الأنفال : الآية رقم 25 .
(2) 21]) الشيعة معناها الأتباع والأنصار والفرقة ، ولكن غلب هذا الاسم على كل من يتولى علياً وأهل بيته حتى صار اسماً لهم خاصاً ، وجمعه أشياع وشيع . ( انظر مادة شيع في القاموس المحيط).
وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم بمعناه في عدد من آياته كقوله تعالى :- { وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } ( القصص آية "15" ).وقوله عز وجل في سورة الأنعام (الآية 159 ): { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } . وقيل : إن ظهور هذا اللقب كان عام سبع وثلاثين من الهجرة ، وقيل بل بعد أن قبض معاوية على زمام السلطة (انظر مختصر التحفة ص 5 وروح الإسلام ص 313 ). وقال الدكتور طه حسين : الشيء الذي ليس فيه شك فيما أعتقد هو أن الشيعة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة عند الفقهاء والمتكلمين ومؤرخى الفرق لم توجد في حياة على وإنما وجدت بعد موته بزمن غير طويل . وإنما كان معنى كلمة الشيعة أيام على هو نفس معناها اللغوى القديم الذي جاء في القرآن ( على وبنوه ص 173 ) . وتحدث بعد ذلك (ص 187 - 189) عن عودة الحسن من الكوفة إلى المدينة بعد الصلح مع معاوية ، وعن مجىء وفد من أشراف الكوفة ومعاتبتهم له ، وطلبهم إليه أن يعيد الحرب ، وموقفه منهم . وقال الدكتور طه حسين بعد ذلك : "وأعتقد أن اليوم الذي لقى الحسن فيه هؤلاء الوفد من أهل الكوفه ، فسمع منهم ما سمع وقال لهم ما قال ورسم لهم خطتهم ، هو اليوم الذي أنشئ فيه الحزب السياسى المنظم لشيعة على وبنيه ، نظم الحزب في* *المدينة في ذلك المجلس وأصبح الحسن له رئيساً ، وعاد أشراف أهل الكوفة إلى من وراءهم ينبئونهم بالنظام الجديد والخطة المرسومة " (ص 189-190) .(176/353)
} - - { )
خامساً : الخوارج ورأيهم في الإمامة
الخوارج لا يزال لهم بقية إلى يومنا هذا (1) } - - { ) وقد انقسموا فرقاً على مر التاريخ " ويجمع الخوارج على اختلاف مذاهبها : إكفار على ، وعثمان وأصحاب الجمل ، والحكمين ، ومن رضى بالتحكيم وصوب الحكمين أو أحدهما ، ووجوب الخروج على السلطان الجائر " (2)[23]) .
وللخوارج رأي خاص في الإمامة :
__________
(1) 22]) هذه البقية من الإباضية ، وهم أكثر الخوارج اعتدالا وأقربهم إلى الجماعة الإسلامية تفكيراً ، فهم أبعدهم عن الشطط والغلو ولذلك بقوا ، ولهم فقه جيد ، وفيهم علماء ممتازون ، ويقيم طوائف منهم في بعض واحات الصحراء الغربية ، وبعض آخر في بلاد الزنجبار. ويقولون عن مخالفيهم إنهم كفار نعمة لا كفار في الاعتقاد ، وذلك لأنهم لم يكفروا بالله تعالى ، ولكنهم قصروا في جنب الله عز وجل (انظر ص 91من الجزء الأول من تاريخ المذاهب الإسلامية ) كما يقيم طوائف منهم في عمان والجزائر وتونس.
(2) 23]) الفرق بين الفرق ص 45 ، واقرأه إلى ص 67 للتعرف على الخوارج وآرائهم ، وراجع كذلك : الملل والنحل 1/114 –138 والخطط المقريزية ج4 ص 178-180وفجر الإسلام 1/314 ، 325 ، وتاريخ المذاهب الإسلامية 1/96 –92.(176/354)
فالإمام لا يكون إلا باختيار حر من المسلمين ، وإذا اختير فليس يصح أن يتنازل أو يحكم . ويظل رئيساً للمسلمين ما دام قائماً بالعدل مجتنباً للجور ، ومن خرج عليه يجب نصب القتال معه ، ولكن إذا غير السيرة وعدل عن الحق وجب عزله أو قتله . ولا يشترطون القرشية كما اشترط الجمهور ، فللأمة أن تختار من تشاء ولو كان عبداً حبشياً . كما أن فرقة منهم وهى "النجدات" أجمعت على أنه لا حاجة بالناس إلى إمام وإنما عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم ، فإن رأوا أن ذلك لا يتم إلا بإمام يحملهم عليه فأقاموه جاز ، فإقامة الإمام في نظرهم ليست واجبة بإيجاب الشرع بل جائزة ، وإذا وجبت فإنما تجب بحكم المصلحة والحاجة.وفرقة أخرى منهم وهى " الشبيبية " أتباع شبيب بن يزيد الشيبانى - " أجازوا إمامة المرأة منهم إذا قامت بأمورهم . وخرجت على مخالفيهم ، وزعموا أن غزالة أم شبيب كانت الإمام بعد قتل شبيب إلى أن قتلت " (1) } - - { )
سادساً : الإمامة عند الزيدية
الشيعة على اختلاف فرقهم يرون وجوب إمام ، ولكن رأيهم في الإمامة يخالف ما ذهب إليه جمهور المسلمين .
وأقربهم إلى الجمهور فرقة الزيدية ، أتباع زيد بن على بن الحسين بن علىبن أبى طالب رضي الله عنهم . فبعد استشهاد الإمام الحسين ذهبت فرقة من الشيعة إلى أن الإمامة لا تكون إلا في أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها ، ويستوى في هذا أولاد الحسن وأولاد الحسين ، ورأوا أن كل فاطمى عالم شجاع سخى خرج بالإمامة فهو إمام واجب الطاعة ، وجوزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال ، فلما خرج زيد بن على في عهد هشام بن عبد الملك بايعه هؤلاء.
__________
(1) 24]) الفرق بين الفرق ص 65: 66 .(176/355)
وكان من مذهب الإمام زيد جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل ، فقال : " كان على بن أبى طالب رضي الله عنه أفضل الصحابة ، إلا أن الخلافة فوضت إلى أبى بكر لمصلحة رأوها ، وقاعدة دينية راعوها ، من تسكين نائرة الفتنة ، وتطييب قلوب العامة ، فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريباً ، وسيف أمير المؤمنين على عن دماء المشركين من قريش وغيرهم لم يجف بعد . والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي ، فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل ، ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد ، فكانت المصلحة أن يكون القائم بهذا الشأن من عرفوه باللين والتؤدة والتقدم بالسن ، والسبق في الإسلام ، والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم.... وكذلك يجوز أن يكون المفضول إماماً والأفضل قائم فيرجع إليه في الأحكام ، ويحكم بحكمه في القضايا " (1) } - - { )
ولما سمعت شيعة الكوفه هذه المقالة منه ، وعرفوا أنه لا يتبرأ من الشيخين ، وإنما قال : " إنى لا أقول فيهما إلا خيراً ، وما سمعت أبى يقول فيهما إلا خيراً ، وإنما خرجت على بنى أمية الذين قاتلوا جدى الحسين " عندما سمعوا ذلك فارقوه ، ورفضوا مقالته حتى قال لهم : رفضتمونى ، ومن يومئذ سموا رافضه (2) } - تمهيد { ) .
وفرق الزيدية منهم من يتفق مع ما ذهب إليه الإمام زيد ومنهم من خالفه ، فالجارودية زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على الإمام على بالوصف دون التسمية ، وهو الإمام بعده ، والناس قصروا حيث لم يتعرفوا الوصف ، ولم يطلبوا الموصوف ، وإنما نصبوا أبا بكر باختيارهم فكفروا بذلك (3)[27]).
__________
(1) 25]) الملل والنحل 1/155.
(2) 26]) الفرق بين الفرق ص 25 ، وانظر الملل والنحل 1/155.
(3) 27]) انظر المرجع الأول ص22 ، والملل والنحل 1/157 -158 .(176/356)
ولكن باقي فرق الزيدية ذهبوا إلى أن الإمامة شورى فيما بين الخلق ، وأنها تصح في المفضول مع وجود الأفضل ، وأثبتوا إمامة الشيخين أبى بكر وعمر حقاً باختيار الأمة حقاً اجتهادياً ، واختلفوا في عثمان فمنهم من طعن ، ومنهم من توقف (1)[28]).
سابعاً : الإمامة عند الإسماعيلية
أما الشيعة الإمامية فهم يرون أن الإمامة منصب إلهى يختار له الله بسابق علمه بعباده كما يختار النبي ، ويأمر النبي بأن يدل الأمة عليه ويأمر باتباعه .
ويقولون : إن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه بأن ينص على علىّ وينصبه علماً للناس من بعده ، وقد بلغ الرسول الكريم ربه ، فلما انتقل إلى الرفيق الأعلى لم يتبع المسلمون أمر الله تعالى و لا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتركوا ركناً من أركان الإيمان . ويرون أن النص بعد الإمام على لابنه محمد الباقر ، فابنه جعفر الصادق . وبعد القول بإمامة أبى عبد الله جعفر الصادق نرى منشأ أكبر فرقتين من فرق الشيعة هما الإسماعيلية والجعفرية الاثنا عشرية .
فالإسماعيلية جعلوا الإمامة بعده لابنه إسماعيل ، الابن الأكبر ، وافترق هؤلاء فرقتين :
فرقة منتظرة لإسماعيل بن جعفر ، مع اتفاق أصحاب التواريخ على موت إسماعيل في حياة أبيه . وفرقة قالت : كان الإمام بعد جعفر سبطه محمد بن إسماعيل بن جعفر حيث إن جعفر نصب ابنه إسماعيل للإمامة بعده ، فلما مات إسماعيل في حياة أبيه علمنا أنه إنما نصب ابنه إسماعيل للدلالة على إمامة ابنه محمد بن إسماعيل ، وإلى هذا القول مالت الإسماعيلية الباطنة (2)[29]).
__________
(1) 28]) انظر الملل والنحل 1/159 –162 ، والفرق بين الفرق ص 24، وفرق الشيعة ص 20 –21 ، ص 55 ، والفصل في الملل والأهواء والنحل ص 92-93.
(2) 29] ) الفرق بين الفرق ص39 .(176/357)
والإسماعيلية جعلوا الإمامة بعد إسماعيل لابنه محمد المكتوم ، ومنهم من وقف عليه وقال برجعته بعد غيبته ، ومنهم من ساق الإمامة في أئمة " مستورين" منهم ، ثم في (ظاهرين قائمين ) من بعدهم . وقالوا : لم تخل الأرض قط من إمام حى قائم . إما ظاهر مكشوف ، وإما باطن مستور .
فإذا كان الإمام ظاهراً جاز أن يكون حجته مستوراً ، وإذا كان الإمام مستوراً فلابد أن يكون حجته ودعاته ظاهرين .
ومن مذهبهم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ، وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية (1) } - - { ).
ثامناً : عقيدة الإمامة عند الجعفرية
الجعفرية الاثنا عشرية ـ وهم أكبر الفرق الإسلامية المعاصرة ـ لهم عقيدة خاصة في الإمامة أحب بيانها بشئ من التفصيل ، فأقول :
يعتقد الجعفرية أن الإمامة كالنبوة في كل شئ باستثناء الوحي ، فالقول فيه مخلتف ، ولذلك قالوا (2) } - - { ).
إن الإمامة أصل من أصول الدين :-
__________
(1) 30]) انظر الملل والنحل 1/191-192.
(2) 31]) انظر أقوالهم في المراجع الآتية :
عقائد الأمامية ص 80:65 – أصل الشيعة وأصولها ص 41:33 – كشف المراد شرح تجريد الاعتقاد : المقصد الخامس : الإمامة ص284 وما بعدها – بحار الأنوار : باب جامع في صفات الإمام وشرائط الإمامة 25/115 : 175 وباب أنه جرى لهم ( أي للأئمة ) من الفضل والطاعة مثل ما جرى للرسول - صلى الله عليه وسلم -وأنهم في الفضل سواء .انظر نفس الجزء من ص 352 إلى363 .(176/358)
لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها ، فمن لم يذهب مذهبهم في الإمامة فهم يجمعون على أنه غير مؤمن ، وإن اختلفوا في تفسير غير المؤمن هذا : فمن قائل بكفره ، إلى قائل بالفسق ، وأكثرهم اعتدالا أو أقلهم غلواً يذهب إلى أنه ليس مؤمناً بالمعنى الخاص وإنما هو مسلم بالمعنى العام ، ما لم يكن مبغضاً للأئمة وشيعتهم فضلاً عن حربهم فهو يعد كافراً عند جميع الجعفرية .
ذكر الحلى ـ الملقب عند الجعفرية بالعلامة ـ بأن إنكار الإمامة شر من إنكار النبوة ! حيث قال : " الإمامة لطف عام والنبوة لطف خاص لإمكان خلو الزمان من نبي حى بخلاف الإمام....وإنكار اللطف العام شر من إنكار اللطف الخاص " (الألفين 1/3) .
وعقب أحد علمائهم على هذا بأنه " نعم ما قال " وأضاف : وإلى هذا أشار الصادق بقوله عن منكر الإمامة هو شر الثلاثة ، فعنه أنه قال : الناصبى شر من اليهودى . قيل : وكيف ذلك يا بن رسول الله ؟ فقال : إن اليهودى منع لطف النبوة وهو لطف خاص ، والناصبى منع لطف الإمامة وهو عام ( انظر حاشية ص43 النافع يوم الحشر ) .
وفى مصباح الهداية (ص 61-62 ) ذكر المؤلف أن الإمامة مرتبة فوق النبوة !
وقال ابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق : " اعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين على بن أبى طالب والأئمة من بعده أنه كمن جحد نبوة جميع الأنبياء . واعتقادنا فيمن أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحداً من بعده من الأئمة أنه بمنزلة من أقر بجميع الأنبياء وأنكر نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ( رسالته في الاعتقادات ص 103 ) .
وقال المفيد : " اتفقت الإمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة ، فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار"( بحار الأنوار للمجلسى 23/390، والمجلسى ذكر قول المفيد لتأييد رأيه ) . والمفيد كان رأس الإمامية ، وشيخاً لشيخ طائفتهم أبى جعفر الطوسي .(176/359)
وإلى جانب ضلال هؤلاء القوم وغلوهم نجد غلوهم في جانب آخر ، فهم يرون أن الفاسق منهم يدخل الجنة وإن مات بلا توبة ! (انظر أجوبة المسائل الدينية - العدد الثامن-المجلد التاسع ص 226وراجع كتابى : فقه الشيعة الإمامية 1/15).
الإمام كالنبي في عصمته وصفاته وعلمه :-
فالإمام يجب أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن ، من سن الطفولة إلى الموت ، عمداً وسهواً ، كما يجب أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان !
ويجب أن يكون أفضل الناس في صفات الكمال من شجاعة وكرم وعفة وصدق وعدل ومن تدبير وعقل وحكمة وخلق .
أما علمه فهو يتلقى المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات من طريق النبي أو الإمام من قبله .(176/360)
وإذا استجد شئ فلابد أن يعلمه من طريق الإلهام بالقوة القدسية التي أودعها الله تعالى فيه ، فإن توجه إلى شئ وشاء أن يعلمه على وجهه الحقيقى ، لا يخطئ فيه و لايشتبه عليه ، و لا يحتاج في كل ذلك إلى البراهين العقلية ، ولا إلي تلقينات المعلمين ، وإن كان علمه قابلاً للزيادة والاشتداد . وذهب بعضهم إلى أن أحد الملائكة كان يلازم الرسول صلى الله عليه وسلم ليسدده ويرشده ويعلمه ، فلما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ظل الملك بعده . ولم يصعد ليؤدى نفس وظيفته مع الأئمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم (1)
__________
(1) 32] ) ) انظر أصول الكافى : باب فيه ذكر الأرواح التي في الأئمة (1/271-272) وباب الروح التي يسدد الله بها الأئمة (1/273-274) وهذا الباب فيه ستة أخبار منها عن أبى * *عبد الله { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } قال : خلق من خلق الله عز وجل أعظم من جبرائيل وميكائيل ، كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره ويسدده ، وهو مع الأئمة من بعده. وفى الباب الأسبق ذكر أن روح القدس خاصة بالأنبياء ، فإذا قبض النبي انتقل روح القدس فصار إلى الإمام . وروح القدس لاينام ولا يغفل و لايلهو و لا يزهو والإمام يرى به ، وفيه الحاشية فسر الرؤية بقوله : يعنى ماغاب عنه في أقطار الأرض وما في عنان السماء ! وبالجملة ما دون العرش إلى ما تحت الثرى ! وانظر بحار الأنوار ( 47/25-99 ) باب الأرواح التي فيهم ( أي في الأئمة ) وأنهم مؤيدون بروح القدس . وقال ابن بابويه القمي في رسالته ( ص 108-109 ) : " اعتقادنا في الأخبار الصحيحة عن الأئمة أنها موافقة لكتاب الله ، متفقة المعانى ، غير مختلفة ، لأنها مأخوذة من طريق الوحي عن الله سبحانه وتعالى " وهذا القمي صاحب كتاب " فقيه من لايحضره الفقيه " : أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عند الجعفرية . وقال المجلسى : أصحابنا أجمعوا على عصمة الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم من الذنوب الصغيرة والكبيرة. عمداً وخطأ ونسيانّا قبل النبوة والإمامة وبعهدهما ، بل من وقت ولادتهما إلى أن يلقوا الله تعالى . ولم يخالف في ذلك إلا الصدوق محمد بن بابويه وشيخة ابن الوليد ، فإنهما جوزا الإسهاء من الله تعالى لا السهو الذي يكون من الشيطان في غير ما يتعلق بالتبليغ وبيان الأحكام " ( بحار الأنوار : 25/350-351) .وقال الطوسي: " لا يجوز عليهم- أي على الأئمة - السهو والنسيان فيما يؤدونه عن الله . فأما غير ذلك فإنه يجوز أن ينسوه أو يسهوا عنه ما لم يؤد ذلك إلى الإخلال بكمال العقل .وكيف لا يجوز عليهم ذلك وهم ينامون ويمرضون ويغشى عليهم . والنوم سهو ، وينسون كثيراً من تصرفاتهم أيضاً ، وما جرى لهم فيما مضى من الزمن " (التبيان 4/165-116) . والطوسى يلقبونه بشيخ الطائفة ، وهو صاحب كتابين من كتب الحديث الأربعة .(176/361)
[32]).
لابد أن يكون في كل عصر إمام هاد يخلف النبي في وظائفه من هداية البشر وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين ، وله ما للنبي من الولاية العامة على الناس لتدبير شئونهم ومصالحهم وإقامة العدل بينهم ، ورفع الظلم والعدوان من بينهم ، وعلى هذا فإن الإمامة استمرار للنبوة .
الأئمة هم أولو الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم ، وهم الشهداء على الناس ، وأبواب الله والسبل إليه والأدلاء عليه . فأمرهم أمر الله تعالى ونهيهم نهيه ، وطاعتهم طاعته ، ومعصيتهم معصيته ، ووليهم وليه وعدوهم عدوه . ولا يجوز الرد عليهم ، والراد عليهم كالراد على الرسول ، والراد على الرسول كالراد على الله تعالى ، فيجب التسليم لهم ، والانقياد لأمرهم ، والأخذ بقولهم .
ولذا فالجعفرية يعتقدون أن الأحكام الشرعية الإلهية لا تستقى إلا من نمير ماء أئمتهم ، ولا يصح أخذها إلا منهم ، ولا تفرغ ذمة المكلف بالرجوع إلى ، غيرهم ، و لايطمئن بينه وبين الله تعالى إلى أنه قد أدى ما عليه من التكاليف المفروضة إلا من طريقهم .
مادامت الإمامة كالنبوة فهى لا تكون إلا بنص من الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أو على لسان الإمام المنصوب بالنص إذا أراد أن ينص على الإمام من بعده ، وحكمها في ذلك حكم النبوة بلا فرق ، فليس للناس أن يتحكموا فيمن يعينه هادياً ومرشداً لعامة البشر ، كما ليس لهم حق تعيينه أو ترشيحه أو انتخابه ، لأن الشخص الذي له من نفسه القدسية استعداد لتحمل أعباء الإمامة العامة وهداية البشر قاطبة يجب ألا يعرف إلا بتعريف الله تعالى ، ولا يعين إلا بتعيينه .(176/362)
ويعتقدون كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على خليفته والإمام في البرية من بعده ، فعين ابن عمه على بن أبى طالب أميراً للمؤمنين وأميناً للوحى ،وإماماً للخلق في عدة مواطن ، ونصبه وأخذ البيعة له بإمرة المؤمنين يوم غدير خم . كما أنه صلى الله عليه وسلم بين أن الأئمة من بعده اثنا عشر ، نص عليهم جميعاً بأسمائهم ، ثم نص المتقدم منهم على من بعده .
6-الأئمة الاثنا عشرية الذين نص عليهم الرسول صلى الله عليه وسلمهم :-
1- ابو الحسن على بن أبى طالب ( المرتضى ) الذي ولد قبل البعثة بعشر سنوات ، واستشهد سنة أربعين من الهجرة .
2- أبو محمد الحسن بن على " الزكى "
(3-50)
3- أبو عبد الله الحسين بن على "سيد الشهداء "
(4-61)
4- أبو محمد على بن الحسين " زين العابدين "
(38-95)
5-أبو جعفر محمد بن على " الباقر"
(57-114)
6- أبو عبد الله جعفر بن محمد " الصادق "
(83-148)
7- أبو إبراهيم موسى بن جعفر " الكاظم "
(128-183)
8- أبو الحسن على بن موسى " الرضا "
(148-202 أو 203)
9- ابو جعفر محمد بن على " الجواد "
(195-220)
10-أبو الحسن على بن محمد " الهادى "
(212أو 214-250)
11-أبو محمد الحسن بن على " العسكري"
(232-260)
12-أبو القاسم محمد بن الحسن "المهدى " وهو الحجة في هذا العصر الغائب ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً . قيل ولد سنة 256 هـ ، وغاب غيبة صغرى سنة 260 هـ ، وغيبة كبرى سنة 329
تعقيب
بعد بيان عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية كما جاءت في كتبهم هم أنفسهم أذكر بما يأتي :-(176/363)
جعلهم الإمامة أصلا من أصول الدين فيه طعن في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، فما منهم من أحد يقول بالإمامة التي تقصدها هذه الفرقة ، حتى أن الإمام علياً رضى عنه هو نفسه لم يقل بهذا كما بينت وأثبت فيما جاء تحت عنوان " رابعاً : على وبيعة من سبقه " ، وأول من قال بالوصى بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو عبد الله بن سبأ كما نقلت من المراجع الشيعية نفسها في التمهيد .
إجماعهم على تكفير من حارب أمير المؤمنين على بن طالب رضي الله عنه يعنى تكفير آلاف الصحابة الكرام البررة ، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي شهد لهم بالخيرية ، وبشر بعضهم بالجنة ، بل يصطدم مع كتاب ربنا عز وجل ، فمنهم من شهد الله سبحانه وتعالى بأنه رضى عنهم ، ولم يثبت أنه عاد فسخط عليهم فمن أين إذن جاءوا بهذه الفرية الكبرى ؟!
ما سبق من قول المفيد ـ شيخ طائفتهم الطوسي ، وابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق ، وصاحب أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عندهم ، وابن المطهر الحلى الملقب عندهم بالعلامة ، وغيرهم يدل على أنهم يرون تكفير الأمة كلها ما عدا الرافضة وأتباع عبد الله بن سبأ ، وعلى الأخص خير أمة أخرجت للناس وهم الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه . وهذا ما سنراه عند تناولنا لكتاب الكافى للكلينى ، وهو أول وأعلى كتب الحديث المعتمدة عندهم ، وكتاب شيخه على بن إبراهيم القمي في التفسير .(176/364)
وفى كتابى " المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى " أثبت أن عبد الله الحسين شرف الدين يرى هذا الرأي الفاجر الكافر الضال ، وهذا يقطع بأن مسألة تكفير الأمة والصحابة الكرام ليس مسألة تاريخية جاءت في كتب التراث عندهم كما يحلو لدعاة التقريب عن جهل أو تضليل أن يبرروا هذا الضلال. بل إن عبدالحسين الذي يرى هذا الرأي ذكر أنه من دعاة التقريب !! وقد جاء هذا في أحد مؤتمرات التقريب في طهران ، وعبدالحسين في كتابيه المراجعات والفصول المهمة في تأليف الأمة يعتبر فعلاً من دعاة التقريب ولكن بمفهوم خاص !! فهو يدعو إلى تأليف الأمة كلها وجمعها تحت راية عبد الله بن سبأ ، وجعلها جميعها من الرافضة التي رفضت تبرئة الشيخيين خير البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعت على تكفيرهما وتكفير من بايعهما !!
ويحضرنى هنا ما اشتهر عن أبى زرعة الرازى أنه قال :
" إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق : وذلك أن القرآن حق ، والرسول صلى الله عليه وسلم حق ، وما جاء به حق ، وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة . فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة ، فيكون الجرح به أليق ، والحكم عليه بالزندقة والضلال أقوم وأحق " .
قولهم بوجوب استمرار الإمامة أبداً دون انقطاع أو توقف إلى يوم القيامة بعد الإمام الحسين ـ رضي الله عنه ـ في أحد من نسله ، بحيث يكون الابن خلفا للأب ، هذا القول جعلهم يضطرون إلى تنصيب طفل صغير في السابعة من عمره ، وهو إمامهم محمد الجواد الإمام التاسع ، ولذلك وجدنا فرقتين من شيعة أبيه على الرضا لم يعترفوا بإمامته لأنهم استصبوه واستصغروه . وفى كتاب فرق الشيعة (ص 92) للنوبختى والقمى الشيعيين جاء بيان هذا حيث قالا :(176/365)
" إن أبا الحسن الرضا عليه السلام توفى وابنه محمد ابن سبع سنين ، فاستصبوه واستصغروه ، وقالوا : لا يجوز أن يكون الإمام إلا بالغا ، ولو جاز أن يأمر الله ـ عز وجل ـ بطاعة غير بالغ لجاز أن يكلف الله غير بالغ ، فإنه كما لا يعقل أن يحتمل التكليف غير بالغ ، فكذلك لا يفهم القضاء بين الناس ، دقيقه وجليله، وغامض الأحكام وشرائع الدين ، وجميع ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ، وما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة من أمر دينها ودنياها ، طفل غير بالغ ، ولو جاز أن يفهم ذلك من قد نزل عن حد البلوغ درجة ، لجاز أن يفهم ذلك من قد نزل عن حد البلوغ درجتين وثلاثا وأربعا راجعا إلى الطفولة ، حتى يجوز أن يفهم ذلك طفل في المهد والخرق ، وذلك غير معقول ولا مفهوم ولا متعارف " ا. هـ
وكذلك اعتبروا ابنه عليا الهادى إماما وهو في السادسة من عمره ، وعلى قول آخر في الثامنة ، أي أنه كسابقه في سن الطفولة !
وأعجب من هذا كله قولهم بعد إمامهم الحادي عشر الحسن العسكري : فقد توفى ولم ير له خلف ، ولم يعرف له ولد ظاهر ، فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأمه ، فافترق أصحابه من بعده أكثر من عشر فرق ، فاخترع الاثنا عشرية له ابنا طفلا إماما حيا لا يموت إلى يوم القيامة !! وهو غائب يحج كل عام يرانا و لانراه !!
والإمامية الذين ساروا مع ضلال الاثنى عشرية في أحد عشر إماما ، جميعهم ـ ما عدا فرقة واحدة ـ قالوا وأكدوا أن الحسن العسكري ليس له ولد .(176/366)
من يراجع كتب الفرق يجد ظاهرة عامة وهى افتراق الشيعة إلى فرق مختلفة عند موت كل إمام ، وكل فرقة من هذه الفرق يمكن أن تفترق هي الأخرى إلى عدة فرق . وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان لشىء من هذا في موضوع تدوين السنة عند الشيعة في الجزء الثالث ، ونجد من هذه الفرق من بلغت درجة تأليه بعض البشر ، والشرك بالله عز وجل ، ومن ادعت نبوة فرد من أفرادها ، ومن استباحت اللواط ونكاح المحارم ، وقالت : من عرف الإمام فليصنع ما شاء فلا إثم عليه !
والمهم أن كل فرقة من هذه الفرق الضالة تزعم أنها هي الفرقة الناجية ، وأنها تمثل مذهب أهل البيت ! وأهل البيت الأطهار الأبرار برءاء منهم جميعاً .
وإن تعجب فعجب قول كل فرقة أنها مؤيدة بالكتاب العزيز ، والسنة المطهرة !!
ويأتى لهذا مزيد بيان في الفصل التالي ، وفى التدوين وكتب الحديث عند الاثنى عشرية في الجزء الثالث من هذا الكتاب .
الفصل الثاني
أدلة الإمامة من القرآن العظيم
" بين يدى الفصل "
من المعلوم أن القرآن الكريم ليس فيه نص ظاهر يؤيد المذهب الجعفرى ، فلجأ معتنقوه إلى التأويل ، والاستدلال بروايات ذكرت في أسباب النزول لآيات كريمة . وأهم ما استدل به الجعفرية هو :
قال تعالى :
" إِنمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ " (1) } - - { )
هذه الآية الكريمة يسمونها آية الولاية ، ويقولون : إنها تدل على أن إمام المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل هو على بن أبى طالب ، لأن لفظة " إنما " تفيد الحصر و " وليكم " تفيد من هو أولى بتدبير الأمور ووجوب طاعته ، والآية الكريمة نزلت في على بلا خلاف - كما يقولون - عندما تصدق بخاتمه وهو راكع .
في آية المباهلة
__________
(1) 33] ) سورة المائدة – الآية 55 .(176/367)
" فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ " (1)[34])
3 - قال تعالي :
" وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" (2)[35])
قالوا :إن المراد بأهل البيت هنا على وفاطمة والحسن والحسين ، وهذه الآية الكريمة تدل على عصمتهم ، والإمامة تدور مع العصمة .
4- قال سبحانه وتعالى :"وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (3)[36])
قالوا : إن هذه الآية الكريمة قد أبطلت إمامة كل ظالم ، فصارت في الصفوة من ذرية إبراهيم الخليل . ومن عبد غير الله ولو لحظة فهو ظالم ، وعلى هو الذي لم يعبد صنماً قط . أما غيره من الخلفاء فهم ظالمون لا يستحقون هذه الخلافة .
__________
(1) 34] ) سورة آل عمران – الآية 61 .
(2) 35] ) سورة الأحزاب – الآية 33 .
(3) 36] ) سورة البقرة – الآية 124.(176/368)
ومعنى هذا أن القرآن الكريم - على قولهم - قد أشار في أكثر من موضع أن عليا هو المستحق للإمامة دون غيره ، ولذلك فهم يعتقدون أن الله سبحانه أمر نبيه بأن ينص على علىِّ وينصبه علماً للناس من بعده ، وكان النبي يعلم أن ذلك سوف يثقل على الناس ، وقد يحملونه على المحاباة والمحبة لابن عمه وصهره ، ومن المعلوم أن الناس ذلك اليوم ، وإلى اليوم ليسوا في مستوى واحد من الإيمان واليقين بنزاهة النبي وعصمته عن الهوى والغرض ، ولكن الله سبحانه لم يعذره في ذلك ، فأوحى إليه :
"يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" (1)[37])
فلم يجد بداً من الامتثال بعد هذا الإنذار الشديد ، فخطب الناس عند منصرفه من حجة الوداع في غدير خم ، فنادى وجلهم يسمعون :
" ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : اللهم بلى . فقال : من كنت مولاه فهذا على مولاه ، إلى آخر ما قال ، ثم أكد ذلك في مواطن آخرى تلويحاً وتصريحاً ، وإشارة ونصاً حتى أدى الوظيفة(2)[38]).
وقبل أن ينصرف الرسول صلى الله عليه وسلم من غدير خم وقبل أن يتفرق الجمع نزل قوله تعالى : "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا " (3)[39])
__________
(1) 37] ) سورة المائدة – الآية 67.
(2) 38] ) أصل الشيعة وأصولها ص 134 ، وفيه " يا أيها النبي " و " اللهم نعم " .
(3) 39] ) الآية الثالثة من سورة المائدة .(176/369)
فقال رسول صلى الله عليه وسلم : الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضا الرب برسالتى ، والولاية لعلى من بعدى ، ثم طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين وفى مقدمتهم الشيخان(1)[40]). فشاع ذلك وطار في البلاد ، فبلغ ذلك الحرث بن النعمان الفهري . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة له حتى أتى الأبطح فنزل عن ناقته فأناخها ، فقال : يا محمد ، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا ، وأمرتنا أن نصلى خمساً فقبلناه منك ، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا ، وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلنا ، وأمرتنا بالحج فقبلنا ، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعى ابن عمك ففضلته علينا ، وقلت من كنت مولاه فعلى مولاه ، فهذا شىء منك أم من الله عز وجل ؟ فقال : والذي لا إله إلا هو إن هذا من الله . فولى الحرث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . فما وصل إليها حتى رماه الله تعالى بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله ، وأنزل الله عز وجل : "سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ " (2)[41])الآيات (3)[42])
هذه الآيات الكريمة السبعة السابقة هي أساس ما يستدلون به من القرآن الكريم ، فلنعرض رأيهم ، ونناقشه بالتفصيل .
أولا : الولاية
ننظر في الآية الكريمة الأولى ، آية الولاية كما يسميها الجعفرية والتي يعتبرونها نصاً صريحاً في إمامته ، فنجد أنهم يروون أنها نزلت في على بن أبى طالب رضي الله تعالى عنه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته ، فأومى بخنصره اليمنى إليه فأخذ السائل الخاتم من خنصره .
وقالوا في المعنى : إن الله تعالى بين من له الولاية على الخلق ، والقيام بأمورهم ، وتجب طاعته عليهم فقال :
__________
(1) 40] ) انظر الغدير 1/11 .
(2) 41] ) أول سورة المعارج .
(3) 42] ) الغدير 1/240 .(176/370)
"إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ" أي الذي يتولى مصالحكم ويدبر أموركم هو الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، " وَالَّذِينَ آمَنُواْ " ثم وصف الذين آمنوا فقال:" الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ " بشرائطها "وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ" أي يعطونها في حالة الركوع .
ثم قالوا : هذه الآية من أوضح الدلائل على صحة إمامة على بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل ، والوجه فيه أنه إذا ثبت أن لفظ وليكم تفيد من هو أولى بتدبير أموركم ويجب طاعته ، وثبت أن المراد بالذين آمنوا على ، ثبت النص عليه بالإمامة ، ووضح . الذي يدل على الأول هو الرجوع إلى اللغة ، فمن تأملها علم أن القوم نصوا على ذلك ، ولا يجوز حمل لفظة الولى على الموالاة في الدين والمحبة ، لأنه لا تخصيص في هذا المعنى لمؤمن دون مؤمن آخر ، ولفظة " إنما " تقتضى التخصيص ونفى الحكم عمن عدا المذكور . والذى يدل على أن المراد بالذين آمنوا على الروايات الكثيرة . فهو وحده الذي تصدق في حال الركوع ، كما أن الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية ، وإلا أدى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه (1)[43]).
هذا ما ذهب إليه الجعفرية ، ولكن أهل التأويل - كما يقول الطبري(2) } - - { ).
-اختلفوا في المعنى بقوله تعالى :
"وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ"، فقال بعضهم : عنى به على بن أبى طالب ، وقال بعضهم : عنى به جميع المؤمنين .
__________
(1) 43] ) راجع تأويلات الجعفرية للآية الكريمة ، والروايات التي ذكروها لتأييد ما ذهبوا إليه في المراجع التالية:التبيان 3/558 – 564 . ومجمع البيان 6/126 –130 ، والميزان 6/2 –24 ، وزبدة البيان ص 107 –110 ، وكشف المراد ص 289 ، ومصباح الهداية ص 179 –181 ، وتفسير شبر ص141
(2) 44]) انظر تفسير الطبري ، تحقيق شاكر 10/424 – 425(176/371)
وذكر الطبري الروايات التي تؤيد ما ذهب إليه القائلون بأن المعنى به جميع المؤمنين ، وفى بعضها تعجب ممن سأل عن المراد بالذين آمنوا ، لأنه يسأل عن شيء لا يسأل عن مثله . ثم ذكر روايتين :
الأولى : عن إسماعيل بن إسرائيل قال : حدّثنا أيوب بن سويد قال ، حدّثنا عتبة بن أبى حكيم في هذه الآية " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ " قال : على بن أبى طالب.
الثانية : هي حدثني الحارث قال : حدثني عبدالعزيز قال : حدّثنا غالب بن عبيد الله قال ، سمعت مجاهداً يقول في قوله : " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ " قال : نزلت في على ابن أبى طالب ، تصدق وهو راكع .
والرواية الأولى في سندها أيوب بن سويد ، وعتبة بن أبى الحكيم : فأما أيوب فقد ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما . وقال البخاري في الكبير " يتكلمون فيه " (1) } - - { ) وأما عتبة فقد ضعفه ابن معين ، وكان أحمد يوهنه قليلاً ، ولكن ذكره ابن حبان في الثقات (2)[46]).
فهذه الراوية إذن ضعيفة السند . والرواية الثانية في سندها غالب بن عبيد الله وهو منكر الحديث متروك(3) } - - { ) فراويته لا يؤخذ بها .
والحافظ ابن كثير عند تفسير الآية قال (4) } - - { ) : " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ " أي ليس اليهود بأوليائكم ، بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين، وقوله :
__________
(1) 45]) انظر المرجع السابق ج 5 حاشية ص 224.
(2) 46]) نفس المرجع ج10 حاشية ص 426.
(3) 47]) الموضع السابق من المرجع ذاته .
(4) 48]) انظر تفسيره 2/71 .(176/372)
"الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ " أي المؤمنون المتصفون بهذه الصفات من إقامة الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام ، وهى له وحده لا شريك له ، وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين من الضعفاء والمساكين . وأما قوله "وَهمْ رَاكِعُون"َفقد توهم بعض الناس أ هذه الجملة في موضع الحال في قوله: "وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ " أي في حال ركوعهم ، ولو كان هذا كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح ، وليس الأمر كذلك عند أحد العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى . وحتى أن بعضهم ذكر في هذا أثراً عن على بن أبى طالب أن هذه الآية نزلت فيه ، وذلك أنه مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه .
وذكر ابن كثير الروايات التي تشير إلى هذا ، ثم بين أنها لا يصح شئ منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها . ثم قال : وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - حيث تبرأ من حلف اليهود ، ورضى بولاية الله ورسوله والمؤمنين ، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله : " وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ"
كما قال تعالى : "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أنا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ - ...أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" .
فكل من رضى بولاية الله ورسله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة ، ومنصور في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة . " وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ"
وبعد هذا كله نذكر بعض الملاحظات :(176/373)
بدراسة روايات الطبري ، ومما ذكره الحافظ ابن كثير ، نجد أن رواية التصدق في حالة الركوع لا تصح سنداً ، يضاف إلى هذا أن كتب السنة التي رجعت إليها لم أجد فيها ذكراً لمثل هذه الرواية(1)[49]).
الروايات مرفوضة كذلك من ناحية المتن كما أشار ابن كثير وغيره ، فالفضيلة في الصلاة كونها خالية عما لا يتعلق بها من الحركات ، سواء أكانت كثيرة أو قليلة ، غاية الأمر أن الكثيرة مفسدة للصلاة دون القليلة ، ولكن تؤثر قصوراً في معنى لإقامة الصلاة ألبتة (2)[50]).
قال ثعلب : الركوع الخضوع ، ركع يركع ، ركعاً وركوعاً : طأطأ رأسه . وقال الراغب الأصبهانى : الركوع الانحناء ، فتارة يستعمل في الهيئة المخصوصة في الصلاة كما هي وتارة في التواضع والتذلل : إما في العبادة ، وإما في غيرها . وكانت العرب في الجاهلية تسمى الحنيف راكعاً إذا لم يعبد الأوثان ، ويقولون : ركع إلى الله ، قال الزمخشري : أي اطمأن ، قال النابغة الذيبانى :
سيبلغ عذراً أو نجاحاً من امرئ إلى ربه رب البرية راكع
وتقول : ركع فلان لكذا وكذا إذا خضع له ، ومنه قول الشاعر :
بيعت بكسر لئيم واستغاث بهامن الهزال أبوها بعد ما ركعا
يعنى بعد ما خضع من شدة الجهد والحاجة .
ومنه كذلك : لا تهين الفقير علك أن تركع يوماً والدهر قد رفعه
وقد استعمل بهذا المعنى في القرآن الكريم أيضاً كما قيل في قوله سبحانه:" وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ" ، إذ ليس في صلاة من قبلنا من أهل الشرائع ركوع هو أحد الأركان بالإجماع . وكذا في قوله تعالى " وَخَرَّ رَاكِعًا " إلى غير هذا(3)[51])
__________
(1) 49] ) راجع أيضا ما ذكر عن الإمام على في مفتاح كنوز السنة ، فلا توجد إشارة لمثل هذه الرواية
(2) 50] ) انظر تفسير الآلوسى 2/331 .
(3) 51] ) انظر مادة ركع في لسان العرب ، وتاج العروس ، وأساس البلاغة ، وانظر كذلك تفسير الطبري 1/ 574 –575 ، وتفسير الألوسى 2 / 330 .(176/374)
فقوله تعالى :- " وَهُمْ رَاكِعُونَ " يعنى به وهم خاضعون لربهم منقادون لأمره ، متواضعون متذللون في أدائهم للصلاة وإيتائهم للزكاة ، فهو بمعنى الركوع الذي هو في أصل اللغة بمعنى الخضوع .
وأرى تأييد لهذا المعنى مجئ الآية الكريمة بالفعل المضارع ، فهو يدل على أن الآية الكريمة لا تشير إلى حادثة حدثت وانتهت ، وإنما تدل على الاستمرار والدوام ، أي أن صفات المؤمنين وطبيعتهم الصلاة والزكاة وهم راكعون ، ولا يستقيم المعنى - بغير تكلف - أن يكون من صفاتهم إخراج الزكاة أثناء الصلاة .
ذكر الشيعة أن التصدق أثناء الركوع لم يقتصر على أمير المؤمنين ولكن اقتدى به باقي أئمتهم جميعاً ! وهنا يرد تساؤل : إذا كان هذا العمل من الفضائل التي امتدح بها أبو الأئمة وتبعه جميعهم فكيف لم يحرص على هذه الفضيلة سيد الخلق أجمعين صلوات الله وسلامه عليه ؟وكذلك سائر الأمة ؟
5. قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : " وَهُمْ رَاكِعُونَ" ما يأتي:
" الواو فيه للحال : أي يعملون ذلك في حال الركوع وهو الخشوع والإخبات والتواضع لله إذ صلوا وإذا زكوا . وقيل هو حال من يؤتون الزكاة بمعنى يؤتونها في حال ركوعهم في الصلاة ، وأنها نزلت في على كرم الله وجهه حين سأله سائل وهو راكع فطرح له خاتمه كأنه كان مرجا في خنصره فلم يتكلف لخلعه كثير عمل تفسد بمثله صلاته.
فإن قلت : كيف صح أن يكون لعلى رضي الله عنه واللفظ لفظ جماعة ؟ قلت : جيء به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلاً واحداً ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه ، ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البر والإحسان وتفقد الفقراء ، حتى إن لزهم أمر لا يقبل التأخير في الصلاة لم يؤخروه إلى الفرغ منه " (1)[52])
__________
(1) 52] ) الكشاف : 1/624 ، ولزهم إلى كذا : اضطرهم .(176/375)
والزمخشرى هنا ذكر أولاً المعنى المفهوم من النص ، ثم ما قيل في سبب النزول دون تمحيص ، وقد ظهر أن سبب النزول هذا غير صحيح ، فلا ضرورة للتأويل الذي ذهب إليه . ثم ما هذا الأمر الذي لا يقبل التأخير وهم في الصلاة ؟ ألم يكن الأفضل أن يصلى السائل مع المصلين ؟ أو أن ينتظرهم حتى تنتهى الصلاة ؟ وكيف يذهب لراكع يسأله الصدقة ويشغله عن الصلاة ؟ ولو وجد مثل هذا السائل فكيف نشجعه على ارتكاب خطأ جسيم كهذا ؟
6. سبق قول الإمامة بأن الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية وإلا أدى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه ، وهذا نوع من الجدل العقيم ، لأن المراد ولاية بعض المؤمنين بعضاً لا أن يكون كل واحد منهم ولى نفسه . كما أن الخطاب موجه كذلك إلى أولئك الذي تبرءوا من ولاية اليهود فأولياؤهم المؤمنون ، وهم أيضاً أولياء لغيرهم من المؤمنين ، وفى مثل قوله تعالى :-
" وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ " خطاب للمؤمنين جميعاً أفمعنى هذا أنه نهى لكل مسلم أن يلمز نفسه ؟! قال الألوسى : كيف يتوهم من قولك مثلاً : أيها الناس لا تغتابوا الناس أنه نهى لكل واحد من الناس أن يغتاب نفسه ؟! (1) } - - { )
7. من المعلوم لدى جميع العلماء - شيعة وسنة - أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فلوصح ما ذكر في سبب النزول لا نطبق على كل من يتصف بالإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في حال الركوع كما ذكروا ، أو الحرص على البر والإحسان وتفقد الفقراء كما أوله الزمخشري .
__________
(1) 53]) راجع تفسيره 2/332 .(176/376)
8. كلمة الولى تأتى بمعنى المتولى للأمور والمستحق للتصرف فيها ، وتأتى بمعنى الناصر والخليل ، والسياق يحدد المعنى المراد ، والقرآن الكريم عندما يأمر بموالاة المؤمنين ، أو ينهاهم عن موالاة غير المؤمنين من الكفار وأهل الكتاب تأتى الموالاة بمعنى النصرة والمحبة كقوله تعالى :- " وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا" (1) } - - { )
وقوله عز وجل : " الذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ " (2) } - - { )
وقوله سبحانه : " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ " (3) } - تمهيد { )
ولم يخرج عن هذا المعنى إلا حالات خاصة كولاية الدم وولاية السفيه . ولكن حالة من هذه الحالات لم تأت بمعنى الولاية العامة على المؤمنين (4)[57]) أفآية الولاية شذت عن هذا النسق القرأنى ؟
__________
(1) 54]) سورة النساء – الآية 89 .
(2) 55]) نفس السورة – الآية 139.
(3) 56]) سورة التوبة – الآية 71 .
(4) 57]) راجع الآيات القرآنية التي تبين ما ذكر مستعيناً بما جاء في مادة " ولى " من المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم .(176/377)
وقبل هذه الآية الكريمة جاء قوله سبحانه : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (1) } - - { ) . فهذا نهى عن موالاة من تجب معاداتهم . ثم بينت الآية الكريمة - آية الولاية - من تجب موالاتهم ، ثم جاء النهى مرة أخرى في قوله سبحانه وتعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (2) } - - { )
ولا شك أن الذي جاء قبل الآية الكريمة وبعدها ينهى عن المالاة في الدين والمحبة ، فإذا جاء الأمر بالموالاة بين نهيين فإنه قطعاً لا يخرج عن هذا المعنى إلا بدليل آخر .
فكلمة " وليكم " ليست دليلاً على أن الإمامة العظمى لأبى الحسن - كرم الله وجهه . وإنما هي في حاجة إلى دليل يظهر أنها خرجت على الاستعمال القرآنى العام ، وعلى المفهوم الخاص لتلك الأيات الكريمة المتتابعة في سورة المائدة .
9. لا خلاف في أن لفظة " إنما " تقتضى التخصيص ونفى الحكم عمن عدا المذكور ، ولكن الجعفرية بنوا على هذا عدم جواز حمل لفظة الولى على الموالاة في الدين والمحبة لأنه لا تخصيص في هذا المعنى لمؤمن دون مؤمن آخر .
__________
(1) 58]) سورة المائدة – الآية 51 .
(2) 59]) السورة السابقة – الآية 57 .(176/378)
وهذا الاستدلال أيضاً لا يستقيم ، فالموالاة مختصة بالمؤمنين جميعاً دون غيرهم ممن تجب معاداتهم ، وليست لمؤمن دون مؤمن ، بل إن هذا التخصيص يقتضى عكس ما ذهبوا إليه " لأن الحصر يكون فيما يحتمل اعتقاد الشركة والتردد والنزاع ، ولم يكن بالإجماع وقت نزول هذه الآية تردد ونزاع في الإمامة وولاية التصرف ، بل كان في النصرة والمحبة (1)[60]).
10. أمر الله تعالى للمؤمنين بموالاة أقوام ، ونهيه إياهم عن موالاة آخرين ، كل هذا صدر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ونفذ في حياته ، فكيف يكون إمام المسلمين الأعظم علياً مع وجود الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
هذه بعض الملاحظات ، وأعتقد بعد هذا أن الآية الخامسة والخمسين من سورة المائدة لا تدل بحال على أن إمام المسلمين بعد الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون على بن أبى طالب . على أن هذه الآية الكريمة تعد أهم دليل قرآنى يستندون إليه . فلننظر بعد هذا في باقي الأدلة .
ثانياً : المباهلة
في آية المباهلة قالوا : اتفق المفسرون كافة أن الأبناء إشارة إلى الحسن والحسين ، والنساء إشارة إلى فاطمة ،والأنفس إشارة إلى على رضي الله تعالى عنه . ولا يمكن أن يقال : إن نفسهما واحدة ، فلم يبق المراد من ذلك إلا المساوى ، ولا شك في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الناس فمساويه كذلك أيضاً (2)[61]).
ونلاحظ هنا :
__________
(1) 60] ) تفسير الآلوسى 2/330 .
(2) 61] ) كشف المراد ص 304 ،وانظر مصباح الهداية ص 99-103(176/379)
لو سلمنا بكل ماسبق فإن الآية الكريمة لا تنص على إمامة أحد ، لأن ولاية أمر المسلمين تحتاج إلى قدرات خاصة تتوافر في صاحبها ، حتى يستطيع أن يقود الأمة بسلام ، ويرعى مصالحها على الوجه الأكمل ، والآية الكريمة لا تشير إلى شىء من هذا و لاتتعرض للخلافة على الإطلاق ، وإنما تذكر الأبناء والنساء والأنفس في مجال التضحية لإثبات صحة الدعوى ، وهؤلاء المذكورون من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبهذا يتحقق للمعاندين صحة دعواه لتقديمه للمباهلة أقرب الناس إليه . وفرق شاسع بين مجال التضحية ومجال الإمامة ، ففي التضحية يمكن أن يقدم النساء والصغار ولكنهم لا يقدمون للخلافة .
القول بأن الإمام عليا يساوى الرسول صلى الله عليه وسلم غلو لا يقبله الإمام نفسه كرم الله وجهه ، ويجب ألا يذهب إليه مسلم ، مكانة الرسول المصطفى غير مكانة من اهتدى بهديه واقتبس من نوره .(176/380)
لو قلنا : أن الآية الكريمة تدل على أفضلية الإمام على رضي الله عنه فإن إمامة المفضول مع وجود الأفضل جائزة حتى عند بعض فرق الشيعة أنفسهم كالزيدية ، وهذا لا يمنعه الشرع ولا العقل ، لأن المفضول بصفة عامة قد يكون أفضل بصفة خاصة فيما يتعلق بأمور الخلافة ومصلحة المسلمين ، وكان الرسول الكريم يولى الأنفع على من هو أفضل منه (1) } تمهيد - { ) .
عقب ابن تيمية على قولهم بأن الله تعالى جعل عليا نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :هذا خطأ ، وإنما هذا مثل قوله : "لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُموهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا " (2) } تمهيد - { )
وقوله تعالى :"فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ " (3)[64]) ، " وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيارِكُمْ "(4) } تمهيد - { )
__________
(1) 62]) قال ابن قيم الجوزية تحت عنوان : " تولية الرسّول- صلى الله عليه وسلم - الأنفع على من هو أفضل منه " : وبهذا مضت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه يولى الأنفع للمسلمين عى من هو أفضل منه ، كما ولى خالد بن الوليد من حين أسلم على حروبه لنكايته في العدو ، وقدمه على بعض السابقين من المهاجرين والأنصار . وكان أبو ذر من أسبق السابقين وقال له : ( ياأبا ذر ، إنى أراك ضعيفاً ، وأحب لك ما أحبه لنفسى ، لا تؤمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم ) . وأمر عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل ، لأنه كان يقصد أخواله بنى عذرة ، فعلم أنهم يطيعونه ما لايطيعون غيره للقرابة .... إلخ - انظر أعلام الموقعين 1/114 -115.
(2) 63]) سورة النور – الآية 12.
(3) 64]) سورة البقرة – الآية 54 .
(4) 65]) نفس السورة – الآية 84 .(176/381)
فالمراد بالأنفس: الإخوان نسباً أو ديناً (1) } تمهيد تمهيد { ) .
__________
(1) 66]) المنتقى ص 17 – حاول أحد الجعفرية نقض كلام ابن تيمية فقال : " فلولا إذ سمعتموه ظن كل مؤمن بنفسه خيراً ، وظنت كل مؤمنة بنفسها خيراً ، لا أن كل مؤمن ظن بأخيه خيراً " ( منهاج الشريعة 2/287 ) ويكفى هنا أن نذكر ما قاله الطوسي شيخ الطائفة في تفسيره :
" هلا حين سمعتم هذا الإفك من القائلين ظن المؤمنون بالمؤمنين الذين هم كأنفسهم – خيراً ، لأن المؤمنين كلهم كالنفس الواحدة فيما يجرى عليها من الأمور ، فإذا جرى على أحدهم محنة ،* *فكأنه جرى على جماعتهم وهو كقوله : " فسلموا على أنفسكم " وهو قول مجاهد …. إلخ " ( انظر التبيان 7/416) .(176/382)
قال الزمخشري : " فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه . وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه ، فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟ قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة . وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجل بنفسه حتى يقتل . ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ويسمون الذادة عنهم بأرواحهم حماة الحقائق . وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم . وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها . وفيه دليل لا شىء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام (1) } تمهيد - { ).
وبعد : فمهما اختلفت الأقوال فالآية الكريمة تدل على مكانة أولئك الذين قدموا للمباهلة ، ولكن هذا لا صلة له بالخلافة كما بينا .
ثالثاً : التطهير
__________
(1) 67]) تفسير الكشاف 1/434 – وقال أحد مفسري الجعفرية : " والمباهلة والملاعنة وإن كانت بحسب الظاهر كالمحاجة بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين رجال النصارى ، لكن عممت الدعوة للأبناء والنساء ليكون أدل على اطئنان الداعى بصدق دعواه ، وكونه على الحق ، لما أودعه الله سبحانه في قلب الإنسان من محبتهم والشفقة عليهم ، فتراه يقيهم بنفسه ، ويركب الأهوال والمخاطرات دونهم ، وفى سبيل حمايتهم والغيرة عليهم والذب عنهم . ولذلك بعينه قدم الأبناء على النساء لأن محبة الإنسان بالنسبة إليهم أشد وأدوم " . الميزان (3/244) .(176/383)
قال تعالى : " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًاوَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا "(1) } تمهيد - { ) فخير الرسول صلى الله عليه وسلم زوجاته ، فاخترن جميعاً الله ورسوله والدار الآخرة ، واستحققن بعد هذا الاختيار مخاطبة الله تعالى لهن بقوله :" يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ - - .... " إلى قوله تعالى " لَطِيفًا خَبِيرًا " (2)
__________
(1) 71) سورة الأحزاب – الآيتان 28،29 .
(2) 72) الآيات الخمسة من نفس السورة وهى :
{ يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ? } .(176/384)
} تمهيد - { ) . فهذه الآيات الخمس في نساء النبي كما يبدو ، ولكن جدلاً كثيراً دار حول عجز الآية الثالثة والثلاثين " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا"
وهذا الجزء يطلق عليه اسم آية التطهير ، ويرى الشيعة أنه لا صلة له بما قبله ولا بما بعده ، وإنما هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم والسيدة فاطمة الزهراء والإمام على وبنيهما الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم جميعاً ، وأنه يدل على عصمتهم ، ومن ثم يستدلون به على مذهبهم في الإمامة .
فاستدلالهم ينبنى على ثلاث نقاط هي : تحديد المراد بأهل البيت في الآية الكريمة ، ثم دلالة الآية على عصمتهم ، وأخيراً التلازم بين العصمة والإمامة .
وقد ذهبوا إلى أن المراد بأهل البيت هم هؤلاء الخمسة فقط مستدلين بشيئين:(1) } - - { ) .
الأول : الخطاب في قوله تعالى " عنكم " ، " يطهركم " بالجمع المذكر يدل - كما يقولون - - على أن الآية الشريفة في حق غير زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فسياق الآيات يقتضى التعبير بخطاب الجمع المؤنث ؛ أي " عنكن " و " يطهركن " فالعدول عنهما إلى الخطاب بالجمع المذكر يشهد بأن المراد من أهل البيت غير الزوجات .
الثانى : أخبار تدل على أنها في الخمسة الأطهار .
وبالرجوع إلى كتاب الله تعالى نجد قوله : " قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ"( (2) } - - { ) وهذا خطاب لامرأة إبراهيمرضي الله عنه.
__________
(1) 70]) انظر أدلتهم في : التبيان 8/339 –340 ، ومجمع البيان ط مكتبة الحياة 22/137 –139 ، وجوامع الجامع ص 372 ، والميزان 16/330-331 ، ومصباح الهداية ص 103-109.
(2) 71]) سورة هود ـ الآية 73 .(176/385)
وقوله تعالى:" فَلَمَّا قَضَى مُوسَىالْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ" (1) } - - { ) ومعلوم أن موسى سار بزوجته ابنة شعيب .
وقوله تعالى :" وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ "(2)[73])
وقوله عز وجل :" إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ" (3)[74])
وقوله تعالى : " وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ " (4)[75])
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تبين أن الاستعمال القرآنى لا يمنع أن يكون المراد بأهل البيت في الآية الكريمة نساء النبي مع الخطاب بالجمع المذكر ، بل إن المذكر هو الذي يتمشى مع هذا الاستعمال ، فلم أجد التعبير بالمؤنث مع كلمة الأهل - سواء أأريد بها الزوجات أم غيرهن - في القرآن الكريم كله (5)[76]).
واحتج طائفة من العلماء على أن الآل هم الأزواج والذرية بما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل : كيف نصلى عليك ؟ فقال : " قولوا : اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته ، كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد " . وهذا الحديث متفق عليه .
__________
(1) 72]) سورة القصص – الآية 29 .
(2) 73]) السورة السابقة – الآية 12.
(3) 74]) سورة العنكبوت – الآية 33 .
(4) 75]) سورة يوسف – الآية 29 .
(5) 76]) انظر مادة " أهل " في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ، وارجع إلى الآيات التي اشتملت على هذه الكلمة.(176/386)
وكذلك بما ورى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل : اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته ، كما صليت على آل إبراهيم ، إنك ، حميد مجيد " (1) } - - { ).
وروى الإمام البخاري بسنده عن أنس رضي الله عنه قال : " بنى على النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم ، فأرسلت على الطعام داعياً .... فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله ، فقالت : وعليك السلام ورحمة الله ، كيف وجدت أهلك ؟ بارك الله لك ، فتقرى حجر نسائه كلهن ، يقول لهن كما قال لعائشة ، ويقلن له كما قالت عائشة " (2) } - - { )
كما أن المعنى اللغوى للأهل لا يخرج الزوجات (3) } - - { ).
فالاستعمال القرآنى والنبوي واللغوى لا يخرج الزوجات من آية التطهير، والسياق إن لم يحتم دخولهن فعلى أقل تقدير يعتبر مرجحاً . هذا بالنسبة لأمهات المؤمنين . ولكن سواء أشملتهن الآية أم لم تشملهن ، فإن تخصيص المراد بالخمسة لا يكون إلا إذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك . فلننظر إذن في الروايات .
قال الطبري : حدثني محمد بن المثنى ، قال ثنا بكر بن يحيى بن زياد العنزى ، قال ثنا مندل عن الأعمش عن عطية ، عن أبى سعيد الخدري قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نزلت هذه الآية في خمسة : في وفى على رضي الله عنه وحسن رضي الله عنه وحسين رضي الله عنه ، وفاطمة رضي الله عنها " (4) } - - { ).
__________
(1) 77]) نيل الأوطار 2/ 324 –326 .
(2) 78]) صحيح البخاري – كتاب التفسير – باب " لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم …" .
(3) 79]) انظر المادة في معاجم اللغة .
(4) 83) تفسير الطبري ط الحلبي 22/6 .(176/387)
وذكر الطبري بعد ذلك كثيراً من الروايات التي تبين أن الآية الكريمة تعنى هؤلاء المذكورين أو بعضهم ، ثم ذكر أخيراً ما روى عن عكرمة من أنها نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة (1) } - - { ).
والروايتان الأولى والأخيرة فيهما نظر ، فأما الأولى ففي سندها عطية عن أبى سعيد الخدري ، وعطية هذا كان يأتي الكلبى فيأخذ عنه التفسير وكان يكنيه بأبى سعيد فيقول : قال أبو سعيد ليوهم أنه الخدري . وقد ضعفه أحمد والنسائى وغيرهما (2) } - - { ).
أما الرواية الأخيرة فذكرت أيضاً عن عكرمة عن ابن عباس ، وقال عكرمة : من شاء باهلته أنها نزلت في شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم (3) } - - { ) . فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن فهذا يتفق مع ما ذهب إليه كثير من المفسرين . وراوية عطية المذكورة ظهر ضعفها فلا أثر لمعارضتها ، وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن فهذا معارض بكثير من الروايات ، ولذلك فالرواية لا تقٌبل إلا على الوجه الأول .
وروايات الطبري الأخرى منها رواية عن السيدة عائشة قالت : خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة ، وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجاء الحسن فأدخله معه ، ثم قال : "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" وهذه الرواية تقتصر على الحسن ، ولكنها بلا شك لا تمنع كون غيره من أهل البيت ، وقد روى الإمام مسلم عنها رواية مماثلة وفيها دخول باقي الخمسة الأطهار.
__________
(1) 84) انظر نفس المرجع 22/6 -8 .
(2) 85) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب وميزان الاعتدال ، وسيأتي الحديث عنه مفصلاً في روايات الغدير في بحث قادم إن شاء الله .
(3) 86) انظر تفسير ابن كثير 3/483 .(176/388)
وروى الطبري عن أنمس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلما خرج إلى الصلاة ، فيقول : الصلاة أهل البيت " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ" . وهذه الرواية كذلك لا تمنع شمول الآية لغير من ذكر .
وروى عدة روايات عن أم سلمة : قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم عندي ، وعلى فاطمة والحسن والحسين ، فجعلت لهم خزيرة (1)[84]) ، فأكلوا وناموا ، وغطى عليهم عباءة أو قطيفة ، ثم قال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي ، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً "
وفى رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم أجلسهم على كساء ، ثم أخذ بأطرافه الأربعة بشماله ، فضمه فوق رءوسهم ، وأومأ بيده اليمنى إلى ربه ، فقال : هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً .
وهاتان الروايتان تتفقان مع رواية مسلم عن السيدة عائشة في دخول الخمسة في الآية ، ولكن هذا لا يحتم عدم دخول غيرهم .
وذكر الطبري روايتين عن واثلة بن الأسقع تتفقان مع الروايات الثلاثة السابقة وتدخلانه هو مع أهل البيت ، ففي إحداهما :
__________
(1) 87) الخزيرة : لحم يقطع قطعاً صغاراً ثم يطبخ بماء كثير وملح ، فإذا اكتمل نضجه ذر عليه الدقيق وعصد به ، ثم أٌدم بأي إدام . وتطلق الكلمة أيضاً على الحساء من الدسم والدقيق.(176/389)
عن أبى عمار قال : إنى لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ ذكروا علياً رضي الله عنه ، فشتموه ، فلما قاموا ، قال : اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموا ، إنى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه على وفاطمة وحسن وحسين ، فألقى عليهم كساء له، ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. ( قلت : يا رسول الله وأنا ؟ قال وأنت . قال : فوالله إنها لأوثق عمل عندي . وفى الأخرى : اللهم هؤلاء أهلي ، اللهم أهلي أحق . قال واثلة : فقلت من ناحية البيت : وأنا يا رسول الله من أهلك ؟ قال : وأنت من أهلي . قال واثلة ، إنها لمن أرجى ما أرتجى ) .
ولكن باقي روايات الطبري عن أم سلمة فيها زيادات تشير إلى عدم دخولها مع أهل الكساء . وهذه الروايات هي :-
حدثني أبو كريب قال : ثنا وكيع ، عن عبدالحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبى سعيد الخدري ، عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية "إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فجلل عليهم كساء (1)[85]) خيبرياً ، فقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي ، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، قالت أم سلمة : ألست منهم ؟ قال : أنت إلى خير.
__________
(1) 88) أي جعل الكساء يغطيهم .(176/390)
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا حسن بن عطية ، قال : ثنا فضيل بن مرزوق عن عطية ، عن أبى سعيد ، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نزلت في بيتها "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا" قالت : وأنا جالسة على باب البيت ، فقلت : أنا يا رسول الله ألست من أهل البيت ؟ قال : إنك إلى خير ، أنت من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت ، وفى البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا خالد بن مخلد ، قال : ثنا موسى بن يعقوب ، قال : ثنا هاشم بن هاشم بن عقبة بن أبى وقاص عن عبد الله بن وهب بن زمعة ، قال : أخبرتني أم سلمة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع عليا والحسين ، ثم أدخلهم تحت ثوبه ، ثم جأر إلى الله ثم قال : هؤلاء أهل بيتي . فقالت أم سلمة : يا رسول الله أدخلنى معهم . قال : إنك من أهلي " .
حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، قال : ثنا عبدالرحمن بن صالح ، قال : ثنا محمد بن سليمان الأصبهانى ، عن يحيى بن عبيد المكى ، عن عطاء عن عمر بن أبى سلمة ، قال : " نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" فدعا حسناً وحسيناً وفاطمة ، وأجلسهم بين يديه ، ودعا علياً فأجلسه خلفه . فتجلل هو وهم بالكساء ثم قال : هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطيراً . وقالت أم سلمة أنا معهم مكانك ، وأنت على خير "(176/391)
حدثنا ابن حميد ، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس ، عن الأعمش ، عن حكيم ابن سعد قال : " ذكرنا على بن أبى طالب رضي الله عنه عند أم سلمة ، قالت: فيه نزلت "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" قالت أم سلمة : جاء النبي : صلى الله عليه وسلم إلى بيتي ، فقال : لاتأذنى لأحد ، فجاءت فاطمة ، فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها ، ثم جاء الحسن فلم استطع أن أمنعه أن يدخل على جده وأمه ، وجاء الحسين فلم أستطع أن أحجبه ، فاجتمعوا حول النبي صلى الله عليه وسلم على بساط ، فجللهم نبي الله بكساء كان عليه ، ثم قال : هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط ، قالت : فقلت : يا رسول الله ، وأنا ، قالت : فوالله ما أنعم وقال : إنك إلى خير "
وبالنظر في هذه الروايات نجد ما يأتي :
أولاً: في الروايتين الأولى والثانية ينتهى الإسناد إلى عطية عن أبى سعيد عن أم سلمة ، وقد بينا ضعف عطية ورواياته عن أبى سعيد .(176/392)
ثانياً :- في إسناد الرواية الثالثة " خالد بن مخلد " : وهو متكلم فيه : وثقة عثمان بن أبى شيبة وابن حبان والعجلى ، وقال ابن معين وابن عدى : لا بأس به ، وقال أبو حاتم ، يُكتب حديثه ، وقال الآجري عن أبى داود : صدوق ولكنه يتشيع ، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه : له أحاديث مناكير ، وقال ابن سعد : كان متشيعا منكر الحديث في التشيع مفرطاً ، وكتبوا عنه للضرورة . وقال صالح بن محمد جزرة : ثقة في الحديث إلا أنه كان متهماً بالغلو . وقال الجوزجانى : كان شتاماً معلناً لسوء مذهبه . وقال الأعين : قلت له : عندك أحاديث في مناقب الصحابة ؟ قال : قل في المثالب أو المثاقب ، يعنى بالمثلثة لا بالنون . وحكى أبوالوليد الباجى في رجال البخاري عن أبى حاتم أنه قال : لخالد بن مخلد أحاديث مناكير و‘يكتب حديثه . وقال الأزدى : في حديثه بعض المناكير وهو عندنا في عداد أهل الصدق . وذكره الساجى والعقيلى في الضعفاء (1) } - تمهيد { ) .
من هنا نرى أن ما يرويه خالد عن مخلد متصلاً بمذهبه الشيعي لا يحتج به (2) } - - { ).
__________
(1) 89) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب .
(2) 90) قد يقال : كيف لا يحتج به وهو من شيوخ البخاري ؟ فنقول : من الثابت أن له مناكير كما قال الإمام أحمد بن حنبل ، والإمام البخاري يعرف متى يكتب ومتى يترك ولذا جاء في كتاب توجيه النظر ( ص 103 ) في الحديث عن خالد بن مخلد :
" أما المناكير فقد تتبعها أبو أحمد بن عدى من حديثه وأوردها في كامله ، وليس فيها شىء مما أخرجه له البخاري ، بل أم أر له عنده من أفراده سوى حديث واحد وهو حديث أبى هريرة : من عادى لي وليا – الحديث "
وما ذكره الجزائرى هنا هو قول ابن حجر ( انظر هدى الساري ص 400) .(176/393)
وفى إسناد هذه الرواية كذلك يروى خالد عن موسى بن يعقوب ، وهو متكلم فيه أيضاً : وثقه ابن معين وابن حبان وابن القطان ، وقال الآجري عن أبى داود : هو صالح ، وقال ابن عدى : لابأس به عندي ولا برواياته . وقال على بن المديني : ضعيف الحديث : منكر الحديث .
وقال النسائي: ليس بالقوى - وقال أحمد : لا يعجبني .
ثالثاً: في إسناد الرواية الرابعة عبدالرحمن بن صالح ، وهو من شيعة الكوفة ومتكلم فيه : وثقه أبو حاتم وابن حبان وغيرهما . وقال موسى بن هارون : كان ثقة وكان يحدث بمثالب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الآجري عن أبى داود : لم أر أن أكتب عنه ، وضع كتاب مثالب في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال : وذكروه مرة أخرى فقال : كان رجل سوء . وقال ابن عدى : معروف مشهور في الكوفيين لم يُذكر بالضعف في الحديث ولا اتهم فيه إلا أنه محترق فيما كان فيه من التشيع (1) } - - { ).
وفى الإسناد أيضاً محمد بن سليمان الأصبهانى : ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال أبو حاتم : لا بأس به . يكتب حديثه ولا يحتج به . وقال ابن عدى : مضطرب الحديث ، قليل الحديث ، ومقدار ماله قد أخطأ في غير شىء منه . وضعفه النسائي.
رابعاً: في سند الرواية الأخيرة عبد الله بن عبدالقدوس ، وهو شيعي متكلم فيه :
__________
(1) 91) انظر الترجمة في تهذيب التهذيب .(176/394)
قال البخاري : هو في الأصل صدوق إلا أنه يروى عن أقوام ضعاف . وذكره ابن حبان في الثقات وقال : ربما أغرب . وقال عبد الله بن أحمد : سألت ابن معين عنه قال : ليس بشىء ، رافضى خبيث . وقال محمد بن مهران الحمال : لم يكن بشىء كان يُسخر منه يشبه المجنون يصيح الصبيان في أثره . وقال أبو داود : ضعيف الحديث كان يرمى بالرفض ، قال وبلغنى عن يحيى أنه قال : ليس بشىء . وقال أبو أحمد الحاكم : في حديثه بعض المناكير وضعَّفه النسائي والدار قطنى(1) } - - { ).
وفى سند الرواية كذلك ضعف آخر ، فالأعمش - وهو مدلس - لم يذكر ما يفيد سماعه من حكيم .
بعد النظر في أسانيد هذه الروايات يمكن القول بأنها ليست حجة يرد بها دلالة السياق ، والظاهر من الآيات الكريمة ، فكيف إذن يحتج بمثل هذه الروايات لإثبات أصل من أصول العقيدة ؟(2) } - - { )
وذكر الترمذي رواية عن أم سلمة وفيها : وأنا معهم يا نبي الله ؟ قال:أنت على مكانك وأنت إلى خير . ثم عقب على الحديث بقوله : إنه غريب(3) } - - { ) .
وفى أبواب العلل يتحدث عن الغريب فيقول:" أهل الحديث يستغربون الحديث لمعان : رُب حديث يكون غريباً لا يروى إلا من وجه واحد - - .... ورب حديث إنما يستغرب لزيادة تكون في الحديث ، وإنما تصح إذا كانت الزيادة ممن يعتمد على حفظه .... ، ورب حديث يروى من أوجه كثيرة وإنما يستغرب لحال الإسناد " .
ومعنى الحديث يتفق مع ما ذكره مسلم ، فلعل الترمذي استغربه من أجل هذه الزيادة .
__________
(1) 92) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب .
(2) 93) الشيعة يستندون في استدلالهم على ما روى عن أم سلمة – انظر مراجعهم السابق ذكرها.
(3) 94) كتاب المناقب – باب مناقب أهل بيت النبي ((176/395)
والحافظ ابن كثير ذكر الآية الكريمة وقال : (1)[92]) إنها نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا ؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية ، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً : إما وحده على قول ، أو مع غيره على الصحيح.
وذكر روايات الطبري وروايات أخرى ، ثم ذكر رواية في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً بماء يدُعى خما بين مكة والمدينة ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، ووعظ وذكر ، ثم قال : " أما بعد: " ألا أيها الناس ، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتينى رسول ربى فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين ، أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " فحث على كتاب الله عز وجل ورغب فيه ثم قال : " وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثاً " . فقال له حصين . ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده . قال ومن هم ؟ قال : هم آل على ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس ، رضي الله عنهم .
وذكر رواية مسلم الأخرى عن زيد أيضاً بنحو ما تقدم وفيها : فقلت له : من أهل بيته ؟ نساؤه ؟ قال : لا . وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها ، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده (2) } - - { ).
__________
(1) 95) انظر تفسيره 3/483-486 .
(2) 96) الرواية الأولى ذكرت بطريقين آخرين أيضاً – انظر الرواية في صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل على بن أبى طالب ، رضي الله تعالى عنهم جميعاً.(176/396)
ثم قال ابن كثير : هكذا وقع في هذه الرواية ، والأولى أولى والأخذ بها أحرى . وهذه الثانية تحتمل أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث الذي رواه إنما المراد بهم آله الذين حرموا الصدقة ، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط، بل هم مع آله ، وهذا الاحتمال أرجح جمعاً بينها وبين الرواية التي قبلها ، وجمعاً أيضاً بين القرآن والأحاديث المتقدمة إن صحت ،فإن في بعض أسانيدها نظراً والله أعلم .
ويؤيد هذا الاحتمال الذي ذكره ابن كثير أن السؤال في الحديث الأول فيه من التبعيضية " أليس نساؤه من أهل بيته ؟ وفى رواية مماثلة عن زيد أيضاً في المسند : قال حصين : " ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : إن نساءه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده " (1) } - - { ) . فهنا تأكيد أن نساءه من أهل بيته .
__________
(1) 97) المسند 4/366-367 .(176/397)
وقال ابن كثير بعد ذلك : الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلمداخلات في قوله تعالى : "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا" فإن سياق الكلام معهن ، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله : " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ - - ... ("ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته فقرابته أحق بهذه التسمية كما تقدم في الحديث " وأهل بيتي أحق " ، وهذا يشبه ما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال : " هو مسجدى هذا " ، فهذا من هذا القبيل ، فإن الآية إنما نزلت في مسجد قباء كما ورد في الأحاديث الأخر ، ولكن إذا كان ذلك أسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بتسميته بذلك والله أعلم .وبمثل هذا قال ابن تيمية من قبل (1) } - - { ).
__________
(1) 95]) انظر المنتقى ص 168 - 169.(176/398)
وقال القرطبى (1) } - تمهيد { ) : قوله تعالى:" وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ " . هذه الألفاظ تعطى أن أهل البيت نساؤه ، وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت ، ومن هم ؟ فقال عطاء وعكرمة وابن عباس : هم زوجاته خاصة لا رجل معهن ، وذهبوا إلى أن البيت أريد به مساكن النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ " وقالت فرقة منهم الكلبى : هم على وفاطمة والحسن والحسين خاصة . وفى هذا أحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام . واحتجوا بقوله تعالى " لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ " " بالميم " ولو كان للنساء خاصة لكان " عنكن ويطهركن " ، إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على لفظ الأهل . كما يقول الرجل لصاحبه : كيف أهلك ؟ أي امرأتك ونساؤك ، فيقول هم بخير ، قال تعالى : " قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ" ، الذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيره . وإنما قال " ويطهركم " لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلياً وحسناً وحسيناً كانوا فيهم ، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر ، فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت . لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن ، يدل عليه سياق الكلام والله أعلم .
__________
(1) 96]) راجع تفسيره 14/182-184.(176/399)
ثم قال القرطبى : " فكيف صار في الوسط كلام منفصل لغيرهن ، وإنما هذا جرى في الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين ، فعمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى كساء فلفها عليهم ثم ألوى بيده إلى السماء فقال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " فهذه دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم لهم بعد نزول الآية ، أحب أن يدخلهم في الآية التي خوطب بهاالأزواج ، فذهب الكلبى ومن وافقه فصيرها لهم خاصة ، وهى دعوة لهم خارجة من التنزيل .
وممن صير الآية لأهل الكساء خاصة أبو جعفر الطحاوي ، فقد انتهى إلى هذا في كتابه مشكل الآثار (1) } - - { ) وبنى رأيه على مجرد احتمالات فقال : إن أم سلمة من أهله لأنها من أزواجه ، وأزواجه أهله ، كما قال في حديث الإفك : " من يعذرنى من رجل قد بلغ أذاه في أهلي ؛ والله ما علمت في أهلي إلا خيراً " ليحتمل أن يكون قوله لأم سلمة أنت من أهلي من هذا المعنى أيضاً لا أنها من أهل الآية المتلوة في هذا الباب . واستدل ببعض الروايات المذكورة عنها ، وفى بعضها : وما قال إنك من أهل البيت ، وفى أخرى : أنت من أزواج النبي ، وأنت على خير أو إلى خير .
وفى رواية : قلت يا رسول الله : ألستُ من أهلك ؟ قال : بلى (2) } - - { ).
قالت : فأدخل في الكساء ؟ قلت : فدخلته بعد ما قضى دعاءه لابن عمه على وبنيه وبنته فاطمة رضي الله عنهم .
__________
(1) 100) انظر كتابه 1/332-339.
(2) 101) وذكر القرطبى عن القشيرى قال : قالت أم سلمة : أدخلت رأسى في الكساء وقلت : أنا منهم يا رسول الله ؟ قال : نعم . (انظر تفسيره 14/183) وقال الزمخشري : " أهل البيت" نصب على النداء أو على المدح . وفى هذا دليل بين على أن نساء النبي ( من أهل بيته " . ( انظر الكشاف 3/260) .(176/400)
وأرى أن الرواية الأخيرة تدل على دخولها في الآية لا على خروجهامنها ، فالسؤال متصل بدخولها فيمن شملتهم الآية . والجواب يؤيده . ودخولها في الكساء بعدهم أليق بالأدب النبوي ، فما كان صلى الله عليه وسلم ليدخل زوجته في كسائه مع ابن عمه .
وذكر الطحاوي الاعتراض بأنها في آيات نساء النبي وقال : جوابنا له : أن الذي تلاه إلى آخر ما قبل قوله " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ " الآية خطاب لأزواجه ثم أعقب ذلك بخطاب لأهله بقوله" إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ" فجاء على خطاب الرجال.... فعقلنا أن قوله خطاب لمن أراده من الرجال بذلك ليعلمهم تشريفه لهم ، ورفعه لمقدارهم ، أن جعل نساءهم ممن قد وصفه لما وصفه به مما في الآيات المتلوة قبل الذي خاطبهم به تعالى .
ولكن جواب الطحاوي - لو صح - لاقتصرت الآية على الرسول صلى الله عليه وسلم فقط لأن الآيات في نساء النبي ، فكيف تشمل غيره من الرجال والبنين فضلاً عن النساء ؟ وقد مر من قبل الحديث عن التعبير بالمذكر في الآية الكريمة ، وبيان ضعف الروايات التي تمنع شمول الآية الكريمة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم .
والطحاوي على أية حال حاول ألا يخرج على السياق ولكن الغريب أن نجد من يقول :
" الآية لم تكن بحسب النزول جزءاً من آيات نساء النبي ، ولا متصلة بها ، وإنما وضعت بينها . إما بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم أو عند التأليف بعد الرحلة "(1)[99]).
فكيف أن عجز آية ُيضم إلى صدرها و لا صلة بينهما ؟ ثم كيف يكون الصدر متصلاً بما قبله وما بعده ، والعجز يبعد عن هذا كل البعد ؟ وما الحكمة في وضعه هنا إذن ؟ والأشد غرابة ونكراً أن يوجد احتمال وضعه بدون أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) 99] ) الميزان 16/330(176/401)
وقال الطبرسي : " متى قيل إن صدر الآية وما بعدها في الأزواج ، فالقول فيه أن هذا لا ينكره من عرف عادة الفصحاء في كلامهم ، فإنهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه ، والقرآن من ذلك مملوء ، وكذلك كلام العرب وأشعارهم " (1)[100]).
وهذا القول وإن كان ينقصه الدليل ، وبيان الحكمة المقتضية لمثل هذا ، وبالذات إذا كان الخروج إلى ما ليس له علاقة بالموضوع ، هذا القول لا ينزل إلى مستوى القول السابق .
ونخرج من هذا بأن آية التطهير في نساء النبي وغيرهم من أهل البيت كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن إذا كان لأحد أن يتكلم في شمولها لأمهات المؤمنين فليس هناك دليل على الإطلاق يخرج باقي قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأي دليل يمنع شمولها لباقى بنات النبي ؟ ومفارقتهن للحياة قبل نزول الآية لا يعنى عدم إرادة تطهيرهن في حياتهن ، وما الذي يمنع دخول باقي ذرية الإمام على ؟ وآل جعفر وآل عقيل وآل عباس ؟
وعلى القول بأنها منحصرة في الخمسة كيف تتعداهم إلى غيرهم من باقي الأئمة الاثنى عشر؟ ولماذا لم تشمل أئمة الزيدية مثلاً أو الإسماعيلية أو باقي فرق الشيعة التي جاوزت السبعين ؟
وننتقل بعد هذا إلى دلالة الآية الكريمة على العصمة . قال الطوسي(2)[101]):
__________
(1) 103) مجمع البيان 2/139 ط مكتبة الحياة .
(2) 104) يطلق عليه الجعفرية لقب " شيخ الطائفة " .(176/402)
" استدل أصحبنا بهذه الآية أن في جملة أهل البيت معصوماً لا يجوز عليه الغلط وأن إجماعهم لا يكون إلا صواباً بأن قالوا : ليس يخلو إرادة الله لإذهاب الرجس عن أهل البيت بأن يكون هو ما أراد منهم من فعل الطاعات واجتناب المعاصى ، أو يكون عبارة عن أنه أذهب عنهم الرجس بأن فعل لهم لطفاً اختاروا عنده الامتناع من القبائح ، والأول لا يجوز أن يكون مراداً لأن هذه الإرادة حاصلة مع جميع المكفلين ، فلا اختصاص لأهل البيت في ذلك ، ولا خلاف أن الله تعالى خص بهذه الآية أهل البيت بأمر لم يشركهم فيه غيرهم ، فكيف يحمل على ما يبطل هذا التخصيص ويخرج الآية من أن يكون لهم فيها فضيلة ومزية على غيرهم ؟ على أن لفظة إنما تجرى مجرى ليس ، فيكون تلخيص الكلام (ليس يريد الله إلا إذهاب الرجس على هذا الحد من أهل البيت ) ، فدل ذلك على أن إذهاب الرجس قد حصل فيهم ، وذلك يدل على عصمتهم" (1)[102])
وقد انفرد الجعفرية بهذا القول ، وخالفوا أهل التأويل جميعاً ، وما ذكروه فيه نظر لعدة أمور :
مخالفتهم لأهل التأويل جميعاً يجعل قولهم غير مقبول ما لم يؤيد بأدلة قوية تسنده .
في الأحاديث السابقة ما يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع أهل الكساء ودعا لهم بأن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً ،فإذا كان إذهاب الرجس قد حصل والتطهير قد تم فما الحاجة إلى الدعاء ؟
أية التطهير واقعة بين آيات فيها الأمر والنهى مما يؤيد إرادة فعل الطاعات ، واجتناب المعاصى ليؤدى ذلك إلى إذهاب الرجس وحدوث التطهير ، ويؤيده أيضاً ما روى من قبل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلما خرج إلى الصلاة ، فيقول : الصلاة أهل البيت " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" فهنا يبدو الربط بين الأمر بالصلاة والآية الكريمة.
__________
(1) 105) مجمع البيان 22/139 ط مكتبة الحياة .(176/403)
ويزيد ذلك تأييداً ما روى بسند صحيح عن على بن أبى طالب أنه قال :
" أتانى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم وفاطمة ، وذلك من السحر ، حتى قام على الباب ، فقال : ألا تصلون ؟ فقلت مجيباً له : يا رسول الله ، إنما نفوسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا ، قال : فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرجع إلى الكلام ، فسمعته حين ولى يقول ، وضر ب بيده على فخذه : وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً " (1)[103]) ، وفى رواية أخرى عن الإمام أيضاً قال : " دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى فاطمة من الليل ، فأيقظنا للصلاة ، قال : ثم رجع إلى بيته فصلى هويّاً من الليل ، قال ، فلم يسمع لنا حساً ، قال : فرجع إلينا فأيقظنا ، وقال : قوما فصليا ، قال : جلست وأنا أعرك عينى وأقول : إنا والله ما نصلى إلا ما كتب لنا ، إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا ، قال : فولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول ويضرب بيده على فخذه : ما نصلى إلا ما كتب لنا ! ما نصلى إلا ماكتب لنا ! وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً " (2) } - - - { ).
فهنا يتضح حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إذهاب الرجس عن أهل بيته وتطهيرهم تطهيراً ، وغضبه لما بدر من زوج الزهراء رضي الله تعالى عنهما.
قال ابن تيمية :
أما الآية ( الأحزاب 33) " وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" فليس فيها إخبار بذهاب الرجس وبالطهارة ، بل فيها الأمر لهم بما يوجبها ، وذلك كقوله تعالى :
"مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ علَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ " (3) } - - - { )
__________
(1) 106) حديث رقم 571 ج 2 من المسند ، وانظر في التعليق بيان المرحوم الشيخ أحمد شاكر لصحة الإسناد ، والروايات الأخرى الصحيحة لهذا الحديث .
(2) 107) حديث رقم 705 ج 2 من المسند ، وإسناده صحيح .
(3) 108) سورة المائدة – الآية رقم 6.(176/404)
" يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ " (1) } - - تمهيد { )
" يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ " (2) } - - - { )
فالإرادة هنا متضمنة للأمر والمحبة والرضا ، ليست هي الملتزمة لوقوع المراد ، ولو كان كذلك لتطهر كل من أراد الله طهارته ، ثم أيد رأيه بدعائهصلى الله عليه وسلم لأصحاب الكساء (3) } - - - { ) .
6.انتهينا إلى أن آية التطهير في نساء النبي ، وغيرهن من أهل البيت وهم: آل على وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس . ولا قائل بعصمة هؤلاء ، وتخصيص الخمسة يحتاج إلى دليل ،والأدلة التي وجدناها تمنع هذا التخصيص.
بقى بعد هذا ما ذكره الطوسي من أن حمل الإرادة على هذا المعنى لا يجوز لأن هذه الإرادة حاصلة مع جميع المكلفين . فلا اختصاص لأهل البيت في ذلك ، ولا خلاف أن الله تعالى خص بهذه الآية أهل البيت بأمر لم يشركهم فيه غيره ، فكيف يحمل على ما يبطل هذا التخصيص ويخرج الآية من أن يكون لهم فيه فضيلة ومزية على غيرهم ؟!
هذا هو الدليل الذي استند إليه الطوسي (4) } - - - { ) ، وهو استدلال عقلى ، فهل يرد بمثل هذا الدليل ما ذكرناه من الأدلة ؟!
__________
(1) 109) سورة النساء – الآية 26 .
(2) 107]) سورة النساء – الآية 28 .
(3) 108]) انظر المنتقى ص 168 ، وانظر ص 428.
(4) 109]) وبهذا أيضا استدل العالم المعاصر محمد تقى الحكيم ، وذهب إلى أن الإرادة تكوينية لا تشريعية (انظر الأصول العامة للفقه المقارن ص 150) .(176/405)
ولو صح هذا القول لكانت آية التطير في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، فقد اختصصن بمضاعفة الأجر ، وهذا يجعلهن أقرب إلى التطهير وإذهاب الرجس ، كما اختصصن بنزول الوحي في بيوتهن ، ولكنا نقول : إن إرادة التطهير وإن كانت حاصلة مع المكلفين ، إلا أن أهل البيت بها أخص فهم المقتدى بهم،ولأصحاب الكساء النصيب الأوفى . فهذا التأويل لا يمنع الفضيلة والمزية ، ولكنه لا يثبت العصمة .
والاستدلال بآية التطهير بعد هذا يصبح غير مسلم به ، فتخصيصها بالخمسة الأطهار غير ثابت ، وتأويلها بما يثبت العصمة لا دليل عليه ، وهم يرون ثبوت الإمامة لثبوت العصمة . على أن القول بعصمة الإمام نتحدث عنه عند مناقشة الدليل التالي .
*****
رابعا : عصمة الأئمة
ذكرت من قبل ما ذهب إليه الشيعة من القول بعصمة الأئمة ، فلا يخطئون عمداً ولا سهواً ولا نسياناً طوال حياتهم ، لافرق في ذلك بين سن الطفولة وسن النضج العقلى ، ولا يختص هذا بمرحلة الإمامة .
ومما استدلوا به قوله تعالى :- " إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ " .
قالوا : تدل هذه الآية على أن الإمام لا يكون إلا معصوماً عن القبائح ، لأن الله سبحانه وتعالى نفى أن ينال عهده الذي هو الإمامة ظالم ، ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالماً إما لنفسه وإما لغيره ، فإن قيل : إنما نفى أن يناله ظالم في حال ظلمه ، فإذا تاب لا يسمى ظالماً ، فيصح أن يناله ، فالجواب أن الظالم وإن تاب فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالماً . فإذا نفى أن يناله فقد حكم عليه بأنه لا ينالها . والآية مطلقة غير مقيدة بوقت دون وقت ، فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلها ، فلا ينالها الظالم وإن تاب فيما بعد (1) } - - - { ) .
__________
(1) 113) انظر التبيان 1/449 ، ومجمع البيان 1/202 ، ومصباح الهداية 60-63 .(176/406)
ثم قالوا : إن الله سبحانه وتعالى عصم اثنين فلم يسجدا لصنم قط وهما : محمد بن عبد الله وعلى بن أبى طالب ، فلأحدهما كانت الرسالة ، وللآخر كانت الإمامة ، أما الخلفاء الثلاثة فلم يعصموا ، وهم ظالمون ليسوا أهلاً للإمامة .
ونلاحظ هنا :
1. في تأويل الآية الكريمة (1) } - - - { )" إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا " يحتمل جعله رسولاً ُيقتدي به ، لأن أهل الأديان، مع اختلافهم ، يدينون به ، ويقرون بنبوته . ويحتمل إماماً من الإمامة والخلافة ، أو الإمامة والاقتداء ، فيقتدي به الصالحون . والعهد اختُلف في تأويله : فقيل الرسالة والوحي ، وقيل الإمامة ، وهو واضح من التأويل السابق ، ويؤيده عدة روايات . وعن ابن عباس قال : " لا ينال عهدي الظالمين " قال : ليس للظالمين عهد ، وإن عاهدته أنقضه ، وروى عن مجاهد وعطاء ومقاتل بن حبان نحو ذلك. وقال الثوري عن هارون بن عنترة عن أبيه قال : ليس لظالم عهد . وقال عبدالرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة قال : لا ينال عهد في الآخرة الظالمين ، وأما في الدنيا فقد ناله الظالم فآمن به وأكل وعاش ، وكذا قال إبراهيم النخعى وعطاء والحسن وعكرمة . وقال الربيع بن أنس : عهد الله الذي عهد إلى عباده دينه ، يقول لا ينال الظالمين ، ألا ترى أنه قال :
" وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ " (2) } - - - { )
__________
(1) 111]) نظر تفسير الماتريدى : ص 279 ، والطبرى تحقيق شاكر 3/18- 24 ، وابن كثير1/167 ، والآلوسى 1/306 -308 ، والبحر المحيط 1/374 -379 ، والقرطبى 2/107-109 .
(2) 112]) سورة الصافات – الآية 113.(176/407)
يقول : ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق ، وكذا روى عن أبى العالية وعطاء ومقاتل بن حيان ، وقال جويبر عن الضحاك : لاينال طاعتي عدو لي يعصيني ، ولا أنحلها إلا ولياً يطيعني . وروى عن على بن أبى طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا ينال عهدي الظالمين " قال : " لا طاعة إلا في المعروف . فالآية الكريمة إذا اختلف في تأويلها ، والقطع بأن المراد هو ما ذهب إليه الجعفرية من التأويل ينقصه الدليل ، ورد باقي الأدلة .
2. ولكن مع هذا فلا خلاف بأن الظالم لا يصلح لإمامة المسلمين ، قال الزمخشري : " وكيف يصلح لها من لايجوز حكمه وشهادته ، ولا تجب طاعته ، ولا يقبل خبره ، ولا يقدم للصلاة ؟ وكان أبو حنيفة رحمه الله يفتى سراً بوجوب نصرة زيد بن على رضوان الله عليهما ، وحمل المال إليه ، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة كالدوانيقى(1) } - - - { ) وأشباهه ، وقالت له امرأة : أشرت على بنى بالخروج مع إبراهيم ومحمد بنى عبد الله بن الحسن حتى قتل : فقال ليتنى مكان ابنك وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنما هو لكف الظلمة ، فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه فقد جاء المثل السائر : من استرعى الذئب ظلم "(2) } - - - { )
__________
(1) 116) اللص المتغلب والخليفة الذي ذكره الزمخشري هو هشام بن عبدالملك ، وأما الدوانيقى فهو المنصور أخو السفاح ، سمى بذلك قيل لبخله ، وقد ذكر يعض المصنفين أنه لم يكن بخيلاً ( البحر المحيط 1/378) .
(2) 114]) الكشاف 1/309 وقال القرطبى (2/109) قال بن خويزمنداد : وكل من كان ظالماً لم يكن نبياً ولا خليفة ، ولا حاكماً ، ولا مفتياً ولا إمام صلاة ، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة ، ولا تقبل شهادته في الأحكام .(176/408)
ا 3. لايمكن التسليم بأن غير المعصوم لابد أن يكون ظالماً ، أو أن غير الظالم لابد أن يكون معصوماً ، فبين العصمة وعدم الظلم فرق شاسع ، فالمخطئ قبل التكليف ليس ظالماً ولا يحاسب بالاتفاق ، ومن ندر ارتكابه للصغائر وأتبعها بالتوبة والاستغفار لا يكون ظالماً ، أما الخطأ والنسيان فمما لايحاسب عليه كما قال صلى الله عليه وسلم : " وُضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (1)[115]). وكما يؤخذ من دراسة قوله تعالى :
" رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا " (2) } - - تمهيد { )
__________
(1) 115]) رواه ابن ماجة وابن أبى عاصم ،ورجاله ثقات ، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وقال النووى في الروضة وفى الأربعين أنه حسن . ووقع في كتب كثيرين من الفقهاء والأصوليين بلفظ " رفع " بدل " وضع " ، وحول الحديث كلام يطول ذكره ، انظر المقاصد الحسنة ص 228 – 230 وكشف الخفاء 1/433-434 .
(2) 116]) روى الامام مسلم وغيره ما يفيد استجابة ربنا عز وجل لهذا الدعاء ، وروى كذلك عند الجعفرية : انظر مجمع البيان 2/404 ، وانظر كذلك تفسير بن كثير 1/342-343 ، والقرطبى 3/431-432 والكشاف 1/408.(176/409)
4. في رفض الآلوسى لما ذهب إليه الشيعة قال : استدل بها بعض الشيعة على نفى إمامة الصديق وصاحبيه رضي الله عنهم ، حيث إنهم عاشوا مدة مديدة على الشرك ، وإن الشرك لظلم عظيم ، والظالم بنص الآية لا تناله الإمامة ، وأجيب بأن ( غاية ما يلزم أن الظالم في حال الظلم لايناله ، والإمامة إنما نالتهم رضي الله تعالى عنهم في وقت كمال إيمانهم وغاية عدالتهم ) ، ثم قال : " ومن كفر أو ظلم ثم تاب وأصلح لا يصح أن يطلق عليه أنه كافر ، أو ظالم في لغة وعرف وشرع ، إذ قد تقرر في الأصول أن المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة وفى غيره مجاز ، ولا يكون المجاز أيضاً مطرداً بل حيث يكون متعارفاً وإلا لجاز صبى لشيخ ونائم لمستيقظ وغنى لفقير وجائع لشبعان وحى لميت وبالعكس ، وأيضاً لو اطرد ذلك يلزم من حاف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافراً قبل سنين متطاولة أن يحنث ، ولا قائل به " (1) } - - - { ) .
5. ليس من المقطوع به أن الإمام عليا لم يسجد لصنم قط ، ولم أجد أثراً صحيحاً يؤيد هذا ، ولكن يرجحه أن الإسلام أدركه وهو صبى ، وأنه تربى في بيت النبوة ، واقتدى بابن عمه سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وتخلق بخلقه ، ولهذا كان أول من أسلم بعد خديجة رضي الله تعالى عنهما .
والذين لم يسجدوا للأصنام كثيرون كالصحابة الذين عاشوا في بيئة إسلامية في صغرهم فنشئوا على الإسلام ، ثم الذين ولدوا في هذه البيئة ، فلا اختصاص لأمير المؤمنين هنا .
__________
(1) 117]) انظر تفسير الآلوسى 1/307 - 308 .(176/410)
6. العصمة من الخطأ كبيره وصغيره ، عمداً وسهواً ونسياناً من المولد إلى الممات أمر يتنافى مع الطبيعة البشرية ، فلا يقبله العقل إلا بالدليل قطعى من النقل . وهذه الآية الكريمة لا تثبته للأئمة عموماً فضلاً عن أئمة الجعفرية على وجه الخصوص ، على أن دلالة القرآن الكريم تتنافى مع مثل هذه العصمة حتى بالنسبة لخير البشر جميعاً الذين اصطفاهم الله تعالى للنبوة والرسالة . وقد أثبتُّ هذا من قبل في بحثى الذي نلت به درجة الماجستير (1) } - - - { ) ، وسيأتي الحديث عن العصمة في الفصل الخامس من هذا الجزء .
7. الصحابة الكرام من المهاجرين والأنصار الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه ، والذين مدحهم القرآن الكريم في أكثر من موضع ، ويبين أنهم .
" كُنتُمْ خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ " (2) } - - - { )
كيف يستبيح مسلم لنفسه أن يصفهم بأنهم ظالمون ؟ وكيف يصدر هذا ممن يقول : الظلم اسم ذم ، ولا يجوز أن يطلق إلا على مستحق اللعن لقوله تعالى:
"أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" (3) } - - - { )
وكيف يبين القرآن الكريم أنهم خير أمة أخرجت للناس ثم تؤول آية من آياته بأنهم ملعونون ؟
فعلى الجعفرية إذا أن يعيدوا النظر في تأويلهم ، وما بنوه على هذا التأويل.
والآية الكريمة على كل حال لا تدل على أن إمام المسلمين بعد الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون على بن أبى طالب و لا على إمامة أحد بعينه .
*****
خامسا : الغدير
__________
(1) 118]) انظر فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة ج1 ص 37:18.
(2) 119]) سورة آل عمران – الآية رقم 110 .
(3) 120]) انظر التبيان 1/158 ، والآية المذكورة هي رقم 18 من سورة هود .(176/411)
ذكرت من قبل ما قاله الجعفرية من أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن ينص على على وينصبه علماً للناس ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم امتثل للأمر - بعد تردد! وبلغ المسلمين عند غدير خم بعد منصرفه من حجة الوداع . وبحث ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في الغدير يتعلق بالسنة ، ولكنهم ذكروا أن ثلاث آيات تتصل بهذه الحادثة ، آيتان من سورة المائدة ، وأول سورة المعارج كما بينت عند ذكر أدلتهم من القرآن الكريم . وآية التبليغ هي قوله تعالى :
" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" (1) } - - - { )
ولم يكتف بعضهم بذكر أنها نزلت في على ، ولكن ذكر الأقوال المختلفة في أسباب النزول ، قال الطوسي (2) } - - - { ) :
قيل في سبب نزول هذه الآية أربعة أقوال :
أحدها : قال محمد بن كعب القرظى وغيره : إن أعرابياً هم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فسقط السيف من يده وجعل يضرب برأسه شجرة حتى انتثر دماغه .
الثانى : أن النبي صلى الله عليه وسلم كلن يهاب قريشاً ، فأزال الله عز وجل بالآية تلك الهيبة . وقيل : كان للنبي صلى الله عليه وسلم حراس بين أصحابه ، فلما نزلت الآية قال : ألحقوا بملاحقكم ، فإن الله تعالى عصمنى من الناس .
الثالث : قالت عائشة : إن المراد بذلك إزالة التوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي للتقية .
الرابع : قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام : إن الله تعالى لما أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستخلف علياً كان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعاً له على القيام بما أمره بأدائه .
__________
(1) 124) سورة المائدة – الآية 67.
(2) 125) التبيان 3/587-588 .(176/412)
ولم يناقش الطوسي ما قيل ، ولم يذكر ما يرجح أحد هذه الأقوال ، ولكن كثيراً من طائفته استدلوا بروايات على أنها استخلاف على(1) } - - - { ) ، وظاهر النص لا يدل على هذا ، والروايات كلها أقصى ما تبلغه لا تصل إلى مرتبة السنة ، فليس فيها ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، على أنا لم نجد رواية واحدة صحيحة عن طريق الجمهور تؤيد ما ذهب إليه الجعفرية ، ولننظر إلى ما ذهب إليه المفسرون .
قال الطبري في تفسير الآية الكريمة :-
" هذا أمر من الله تعالى ذكره نبيه محمداً بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قص تعالى ذكره قصصهم في هذه السورة ، وذكر فيها معايبهم وخبث أديانهم واجتراءهم على ربهم وتوثبهم على أنبيائهم ، وتبديلهم كتابه ، وتحريفهم إياه ، ورداءة مطاعمهم ومآكلهم ، وسائر المشركين وغيرهم ، ما أنزل عليه فيهم من معايبهم ، والإزراء عليهم ، والتقصير بهم والتهجين لهم ، وما أمرهم به وما نهاهم عنه ، وأن لا يشعر نفسه حذراً منهم أن يصيبوه في نفسه بمكروه ما قام فيهم بأمر الله ، و لاجزعاً من كثرة عددهم وقلة عدد من معه ، وأن لايتقى أحداً في ذات الله ، فإن الله تعالى ذكره كافيه كل أحد من خلقه ، ودافع عنه مكروه كل من يبغى مكروهه ، وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصر عن إبلاغ شئ مما يبلغ إليه إليهم ، فهو في تركة تبليغ ذلك وإن قل ما لم يبلغ منه فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذنب بمنزلته لو لم يبلغ من تنزيله شيئاً . وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل " (2)[124]) .
__________
(1) 126) انظر البيان ط مكتبة الحياة 6/152 –153 ، والميزان 6/42 –64 وتفسير شبر ص 143 ، والغدير 1/214 –229 ، ومصباح الهداية 190-198.
(2) 127) تفسير الطبري تحقيق شاكر 10/467.(176/413)
والذى ذهب إليه أهل التأويل هو الذي يتفق مع سياق الآيات الكريمة ، ومع تكملة الآية ذاتها . والخروج على السياق وفصل صدر الآية عن عجزها لا يجوز بغير أدلة صحيحة .
والطبرى بعد أن ذكر اتفاق أهل التأويل في المراد من الآية الكريمة ، ذكر أنهم اختلفوا في السبب الذي من أجله نزلت ، فقال بعضهم نزلت بسبب أعرابى كان هُّم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكفاه الله إياه ، وقال آخرون : بل نزلت لأنه كان يخاف قريشاً ، فأومن من ذلك ، وذكر روايات القائلين بهذين القولين (1) } - - - { ).
أما الحافظ ابن كثير فقد توسع في الحديث عن هذه الآية الكريمة ، حيث قال :
" يقول تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة ، وآمراً له بإبلاغ جميع ما أرسله الله بذلك به وقد امتثل عليه أفضل الصلاة والسلام ذلك ، وقام به أتم القيام ، قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب ، وهو يقول :
__________
(1) 128) صاحب كتاب الغدير ذكر أن الطبري يرى أن الآية الكريمة نزلت في الغدير كما يذهب الجعفرية (امظر كتابه 1/214 –216 –223-225 ) وما قاله الطبري يتفق مع أهل التأويل – كما نص هو على هذا – وإن اختلفوا في السبب الذي من أجله نزلت ، ومعنى هذا أن أهل التأويل متفقون على صحة ما ذهب إليه الجعفرية لو صح ما ذكره صاحب الغدير ! قول غريب نعود إليه في الحديث عن الآية التالية .(176/414)
" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ " الآية هكذا رواه ههنا مختصراً ، وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولاً ، وكذا رواه مسلم في كتاب الإيمان ، والتزمذى والنسائى في كتاب التفسير من سننهما ، من طرق عن عامر الشعبي ، عن مسروق بن الأجدع ، عنها رضي الله تعالى عنها . وفى الصحيحين عنها أيضاً أنها قالت : لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية :-
" وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ " (1) } - - تمهيد { )
وقال ابن أبى حاتم :
حدثنا أحمد بن منصور الرمادى ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه قال : كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال له : إن ناساً يأتونا يخبرونا أن عندكم شيئاً لم يبده رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس ، فقال ابن عباس : ألم تعلم أن الله تعالى قال :-
" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ " والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء في بيضاء وهذا إسناد جيد . وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبى جحيفة وهب بن عبد الله السوائى قال : قلت لعلى بن أبى طالب رضي الله عنه : هل عندكم شئ من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال : لا والذى فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل (2) } - - - { ) ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر .
وقال البخاري :
__________
(1) 126]) المائدة الآية- 67 .
(2) 127]) أي الدية .(176/415)
قال الزهرى : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم . وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع ، وقد كان هناك من أصحابه نحو أربعين ألفاً ، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ : " أيها الناس إنكم مسئولون عنى فما أنتم قائلون ؟ " قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت . فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ويقول : " اللهم هل بلغت " . قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير حدثنا فضيل يعنى ابن غزوان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع " يا أيها الناس أي يوم هذا ؟ " قالوا : يوم حرام ، قال : " أي بلد هذا ؟ " قالوا : بلد حرام ، قال : " فأي شهر هذا " قالوا : شهر حرام ، قال : " فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا من شهركم هذا " مراراً قال : يقول ابن عباس : والله لوصية إلى ربه عز وجل ، ثم قال : ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، ولا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " . وقد روى البخاري عن على بن المديني ، عن يحيى بن سعيد ، عن فضيل بن غزوان به نحوه ، وقوله تعالى :
" وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ " يعنى وإن لم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به فما بلغت رسالته ، أي وقد علم ما يترتب على ذلك لو وقع ، " وقال على بن أبى طلحة عن ابن عباس" وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ" يعنى إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته(1) } - - - { ) . ا . هـ .
__________
(1) 128]) تفسير ابن كثير 2/77 –78 .(176/416)
ثم استمر ابن كثير في تفسيره ليبين ما يتعلق بتتمة الآية الكريمة . وأشار إلى كيد المشركين وأهل الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عصمه الله تعالى منهم ، وقال بعد أن ذكر شيئاً من كيدهم : " ولهذا أشباه كثيرة جدا يطول ذكرها . فمن ذلك ما ذكره المفسرون عن هذه الآية الكريمة " (1) } 129 { ) ، وذكر بعض روايات الطبري وغيره .
وهكذا نجد أن تفسير الآية الكريمة لا يتفق مع ما ذهب إليه الجعفرية .
وبالإضافة إلى ما ذكره المفسرون روى الإمام أحمد ، وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً مأموراً بلغ والله ما أرسل به ، وما اختصنا دون الناس بشئ ليس ثلاثا ، أمرنا أن نسبغ الوضوء ، وأن لا نأكل الصدقة ، ولا ننزى حماراً على فرس " (2) } 130 { ).
وهذه رواية صحيحة السند ، ونصها يتعارض مع تأويل الجعفرية .
__________
(1) 129]) المرجع السابق 2/97 .
(2) 130]) انظر الرواية وتخريجها ، وبيان صحة سندها في المسند ج 3 رواية رقم 1977 تحقيق المرحوم الشيخ أحمد شاكر ، وأشار إلى روايات أخرى مؤيدة . وفى التعليق تفسير للجزء الأخير بأن الخيل كانت في بنى هاشم قليلة فأحب ( أن تكثر فيهم .(176/417)
على أن بعض المفسرين ناقش الشيعة فيما ذهبوا إليه ، وبين أنه قول لا يستقيم . قال الآلوسى عند تفسيره للآية الكريمة : ( أخبار الغدير التي فيها الأمر بالاستخلاف غير صحيحة عند أهل السنة ، ولا مسلمة لديهم أصلاً ) (1) } - - - { ) وأيد هذا القول : ثم قال : ومما يبعد دعوى الشيعة من أن الآية نزلت في خصوص خلافة على كرم الله وجهه ، وأن الموصول فيها خاص كقوله تعالى : " وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ" فإن الناس فيه وإن كان عاماً إلا أن المراد بهم الكفار ، ويهديك إليه " إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ " فإنه في موضع التعليل بعصمته عليه الصلاة والسلام (2) } - - - { ): وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر ، أي لأن الله تعالى لا يهديهم إلى أمنيتهم فيك . ومتى كان المراد بهم الكفار بعد إرادة الخلافة : بل لو قيل لم تصح ، لم يبعد ، لأن التخوف الذي تزعمه الشيعة منه صلى الله عليه وسلم - وحاشاه - في تبليغ أمر الخلافة إنما هو من الصحابة. رضي الله تعالى عنهم - حيث إن فيهم - معاذ الله تعالى - من يطمع فيها لنفسه ، ومتى رأي حرمانه منها لم يبعد قصد الإضرار برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتزام القول - والعياذ بالله عز وجل - بكفر من عرضوا بنسبة الطمع في الخلافة إليه ، مما يلزمه محاذير كلية أهونها تفسيق الأمير كرم الله وجهه وهو هو ، أو نسبة الجبن إليه وهو أسد الله تعالى الغالب ، أو الحكم عليه بالتقية وهو الذي لا يأخذه في الله تعالى لومة لائم ، ولا يخشى إلا الله سبحانه (3) } - - - { ).
__________
(1) 131]) تفسير الآلوسى 2/349.
(2) 132]) انظر مثل ما ذكره الآلوسى هنا في الكشاف 1/631 ، والبحر المحيط 3/530 .
(3) 133]) انظر مثل ما ذكره الآلوسى هنا في الكشاف 1/631 ، والبحر المحيط 3/530 .(176/418)
ولقد وفق الآلوسى في الاستدلال عن طريق ربط الآية بعضها ببعض وتأويله الآية كما ذهب إليه جمهور المفسرين لا يحتاج إلى دليل ، لأنه أخذ بظاهر النص وعمومه ، وبدلالة السياق ، ولكن تخصيصها باستخلاف على هو الذي يحتاج إلى أدلة أصح وأكثر قبولاً من أدلة الجمهور المذكورة ، وهذا ما لم نجده . وروايات الغدير تناقش تفصيلاً في بحث متصل بالسنة النبوية الشريفة .
والآية الكريمة الأخرى من سورة المائدة هي " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي " (1) } - - - { ) وإختلف أهل التأويل في المراد بإكمال الدين ، فقال بعضهم : يعنى جل ثناؤه بقوله : " الْيَوْمَ أَكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " اليوم أكملت لكم أيها المؤمنون فرائضى عليكم ، وحدودى وأمرى إياكم ونهى وحلالى وحرامى ، وتنزيلى من ذلك ما أنزلت منه في كتاب ، وتبيانى ما بينت لكم منه بوحيى على لسان رسولى ، والأدلة نصبتها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم ، فأتممت لكم جميع ذلك ، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم.
وقال آخرون : إن الله عز وجل أخبر نبيه -صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، أنه أكمل لهم - يوم أنزل هذه الآية على نبيه - دينهم ، بإفرادهم البلد الحرام ، وإجلائه عنه المشركين ، حتى حجه المسلمون دونهم لا يخالطهم المشركون ، وهذا هو الذي اختاره الطبري وأيده (2) } - - - { ).
__________
(1) 134]) جزء من الآية الثالثة.
(2) 138) انظر تفسير الآية الكريمة في الطبري تحقيق شاكر 9/517 ـ 531 وابن كثير 2/12 ـ 14 والكشاف 1/593 ، و الآلوسى 2/248 ـ 249 والقرطبى 6/61 ـ 63 ، والبحر المحيط 3/426.(176/419)
والجعفرية لا يخرجون في تأويلهم عن القولين ، ولكنهم يزيدون أن الآية الكريمة نزلت بعد أن نصب النبي صلى الله عليه وسلم علياً علماً للأنام يوم غدير خم عند منصرفه من حجة الوداع ، ويروون هذا عن الإمامين الباقر والصادق ، ويرون أن الولاية آخر فريضة أنزلها الله تعالى ، ثم لم ينزل بعدها فريضة (1) } - - تمهيد { ).
وفسر الطبرسي " وأتممت عليكم نعمتي " بولاية على بن أبى طالب ، وذكروا رواية عن أبى سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد نزوله الآية الكريمة:الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضا الرب برسالتي ، وولاية على بن أبى طالب من بعدى .
ولكن الطوسي لا يذكر مثل هذه الرواية ، ويفسر " وأتممت عليكم نعمتي " بقوله : " خاطب الله تعالى جميع المؤمنين بأنه أتم نعمته عليهم ، بإظهارهم على عدوهم المشركين ونفيهم إياهم عن بلادهم ، وقطعه طمعهم من رجوع المؤمنين وعودهم إلى ملة الكفر ، وانفراد المؤمنين بالحج والبلد الحرام ، وبه قال ابن عباس وقتادة والشعبي" .
ولم يشر الطوسي إلى الولاية ، وما ذكره كأنما نقل عن شيخ المفسرين ، فقد قال الطبري في تفسيره : " يعنى جل ثناؤه بذلك : وأتممت نعمتي ، أيها المؤمنون بإظهاركم على عدوى وعدوكم من المشركين ، ونفيي إياهم عن بلادكم ، وقطعي طمعهم من رجوعكم وعودكم إلى ماكنتم عليه من الشرك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وروى عن ابن عباس أنه قال : كان المسلمون والمشركون يحجون جميعاً ، فلما نزلت براءة : فنفُى المشركون عن البيت ، وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين ، فكان ذلك في تمام النعمة : " وأتممت عليكم نعمتي ".
__________
(1) 139) راجع للجعفرية : التبيان 3/435 -436، ومجمع البيان ط مكتبة الحياة 6/25 ـ 26 ، وجوامع الجامع ص 104 ، وتفسير شبر ص 133 ، ومصباح الهداية ص 204 ـ 205 .(176/420)
وعن قتادة : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة يوم جمعة حين نفى الله المشركين عن المسجد الحرام ، وأخلص للمسلمين حجهم .
وعن الشعبي قال : نزلت هذه الآية بعرفات ، حيث هدم منار الجاهلية ، واضمحل الشرك ولم يحج معهم في ذلك العام مشرك .
وعن عامر قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفات ، وقد أطاف به الناس ، وتهدمت منار الجاهلية ومناسكهم واضمحل الشرك ، ولم يطف حول البيت عريان فأنزل الله :" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " . وعن الشعبي بنحوه .
إن روايات قتادة والشعبى التي ذكرها الطبري تعارض ما قيل من أن الآية الكريمة نزلت يوم الغدير . وهناك روايات أخرى صحيحة السند تثبت نزولها يوم عرفة يوم جمعة لا يوم الغدير . وذكر الطبري بعض هذه الروايات ، وروايات أخرى معارضة ، ثم قال : وأولى الأقوال في وقت نزول الآية القول الذي روى عن عمر بن الخطاب : أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة ، لصحة سنده ، ووهى أسانيد غيره .
وقال الحافظ ابن كثير : " قال الإمام أحمد : حدثنا أبى جعفر بن عون ، حدثنا أبو العميس ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين ، إنكم تقرءون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً . قال : وأي آية ؟(176/421)
قال : قوله " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي " فقال عمر : والله إنى لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة (1) } - - - { ) ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون به ، ورواه أيضاً مسلم والترمذى والنسائى أيضاً من طرق عن قيس بن مسلم به . ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية عن طريق سفيان الثوري عن قيس عن طارق قال : قالت اليهود لعمر : إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً . فقال عمر : إنى لأعلم حين أنزلت ، وأين أنزلت ، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت : يوم عرفة وأنا والله بعرفة . قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة أم لا : " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " الآية وشك سفيان رحمه الله إن كان في الرواية فهو تورع حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا ، وإن كان شكاً في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة فهذا ما إخاله يصدر عن الثوري رحمه الله ، فإن هذا أمر مقطوع به لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير ، ولا من الفقهاء ، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها، والله أعلم . وقد روى هذا عن غير وجه من عمر " .
__________
(1) 140) الرواية صحيحة الإسناد ، ورواها الإمام أحمد بسند صحيح أخر ، وانظر الروايتين رقم 188 ، 272 في الجزء الأول من المسند .(176/422)
وبعد هذه الروايات ذكر ابن كثير روايات الطبري التي صح سندها ، وهى تبين - كما سبق - أن الآية نزلت يوم الجمعة . ثم ذكر الروايات المعارضة ، وهى التي استوهاها الطبري ، وبين ضعفها ، ومنها ما روى عن الربيع بن أنس أنها نزلت في المسير في حجة الوداع ، وقال : وقد روى ابن مردويه عن طريق أبى هارون العبدى ، عن أبى سعيد الخدري ، أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم حين قال لعلى : " من كنت مولاه فعلى مولاه " . ثم رواه عن أبى هريرة وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذى الحجة ، يعنى مرجعه عليه السلام من حجة الوداع ، ولايصح هذا ولا هذا ، بل الصواب الذي لا شك فيه و لامرية أنها أنزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة ، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وعلى بن أبى طالب ، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبى سفيان ، (1) } - - - { ) وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ، وسمرة بن جندب رضي الله عنهم ، وأرسله الشعبي وقتادة بن دعامة وشهر بن حوشب ، وغير واحد من الأئمة والعلماء ، واختاره ابن جرير الطبري رحمه الله .
__________
(1) 141) المروى في الصحاح الستة عن طريق معاوية في الأحكام ثلاثون حديثاً ، ذكرها ابن الوزير – من علماء الزيدية – في كتابه الروض الباسم ، وأثبت صحتها ثم صحة باقي الأحاديث المروية عن طريقه في غير الأحكام ، وأشار إلى أنه لم يرد حديث واحد عن طريق معاوية في ذم الإمام على " انظر كتابه 2/114 –119" .(176/423)
ومن هنا يظهر أن الروايات الصحيحة تعارض ما ذهب إليه الجعفرية من نزول الآية الكريمة يوم الغدير ، ولكن أحد كتابهم أيد ما ذهبوا إليه بقوله بأنه " يؤكده النقل الثابت في تفسير الرازى ( 3 ص 529 ) عن أصحاب الآثار أنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لم يعمر بعد نزولها إلا أحداً وثمانين يوماً ، أو اثنين وثمانين ، وعينه أبو السعود في تفسيره بهامش تفسير الرازى (3 ص 523 ) وذكره المؤرخون منهم : إن وفاته صلى الله عليه وسلم في الثانى عشر من ربيع الأول ، وكأن فيه تسامحاً بزيادة يوم واحد على الاثنين والثمانين يوماً بعد إخراج يومى الغدير والوفاة ، وعلى أي فهو أقرب إلى الحقيقة من كون نزولها يوم عرفة كما جاء في صحيحى البخاري ومسلم وغيرهما (1) } - - - { ) . لزيادة الأيام حينئذ ، على أن ذلك معتضد بنصوص كثيرة لا محيص عن الخضوع لمفادها " (2) } - - - { ) .
أما النصوص الكثيرة التي يرى ألا محيص عن الخضوع لمفادها فقد سبق ذكر بعضها وبيان عدم الأخذ بها ، فهى روايات ضعيفة السند متعارضة مع روايات صحيحة بل متواترة كما ذكر الحافظ ابن كثير .
ومن الواضح البين أن رواية الرازى للأيام إذا تعارضت مع هذ الروايات وجب طرح رواية الرازى . وليس من البحث العلمي الصحيح أن رواية تأتى في أحد كتب التفاسير تسقط بها روايات متعددة كثيرة السند ، جاءت عن طريق الأئمة أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم .
__________
(1) 139]) من العجيب الغريب أن الروايات التي ينكرها هنا يستدل بها هي ذاتها في مكان آخر بشيء آخر ، فذكر قول اليهودى " لو نزلت فينا هذه الآية لاتخذنا يوم نزولها عيداً " ثم قال : وصدر من عمر ما يشبه التقرير لكلامه . وانتهى من هذا إلى أن يوم نزولها عيد وهو عيد الغدير ! ولم يشر إلى يوم عرفة ! ( انظر الغدير 1/283) .
(2) 140]) المرجع السابق 1/230 .(176/424)
وأول النصوص الكثيرة التي يرى مؤلف الغدير ألا محيص عن الخضوع لمفادها نص ذكر أن الطبري رواه بإسناده عن زيد بن أرقم في كتاب الولاية ، وأشار إليه هنا حيث أثبته بالكامل عند استدلاله على آية التبليغ السابقة في غديره (1) } - - - { ) ، وبالرجوع إلى النص نجد أمراً عجيباً ! فهو يكاد يجمع ما يتصل بعقيدة الإمامية وغلاتهم في الإمامة ، فهى لعلى بالنص ، ثم في أولاده إلى يوم القيامة إلى القائم المهدى ، وغيرهم أئمة يدعون إلى النار ، وهم وأتباعهم في الدرك الأسفل منها ، والله تعالى ورسوله بريئان منهم .... إلخ .
والمعروف أن شيخ المفسرين الطبري ليس شيعياً فضلاً عن غلاتهم ، ولكن صاحب الغدير بعد ذكر الرواية وروايات أخرى قال (2) } - - - { ) بأن الطبري أول من عرفناه ممن ذكر أن آية التبليغ حول قصة الغدير .
وأخذ يناقش الروايات التي جاءت في تفسير الطبري ليبين أنها لا تتعارض مع الرواية المذكورة في كتابه عن الولاية ، مع أن الطبري متفق مع أهل التأويل كما ذكرنا من قبل عند مناقشة الآية الكريمة ، أفكل أهل التأويل جعفريون ؟!
__________
(1) 141]) انظر المرجع المذكور 1/214-216 .
(2) 142]) راجع قوله في ج1 ص 223-225.(176/425)
وعند الحديث عن آية الإكمال هذه ذكر رواية الطبري وأشار إلى كتابه في الولاية ، ولم يشر إلى تفسيره ، ويتضح سر هذا وقد عرفنا الرأي الذي اختاره الطبري حيث استوهى الروايات المخالفة لرواية عمر بن الخطاب . إذن لسنا في حاجة إلى بيان ضلال الباحث عندما يسيره هواه ، ولكن أحب أن أقول هنا بأن كتاب الولاية في ضوء ما سبق إما أنه ألف ونسب إلى الطبري زورا وانتصارا لمذهب ، وإما أن الطبري جمع ما وجده من الولاية بغير نظر إلى مصادر الروايات : وفى كلتا الحالتين الكتاب لا وزن له ، ولا يبين رأي الطبري (1)
__________
(1) 143]) قد بحثت عن الكتاب المذكور فلم أجده ، وبحثت عن أسماء الكتب المنسوبة للطبرى فوجدت ما يزيد عن مائة كتاب منها كتاب فضائل على بن أبى طالب رضي الله تعالى عنه . قال ياقوت الرومى في كتابه إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب 6/452 بأن الطبري تكلم في أوله بصحة الأخبار الواردة في غدير خم ، ثم تلاه بالفضائل ، ولم يتم ، فالطبرى إذن لم يتم كتابه وهو – مع عشرات الكتب الأخرى – غير موجود ، فلعل أحداً استغل هذا فأخرج كتاباً بعنوان الولاية ونسبه للطبرى . والرواية التي ذكرها صاحب كتاب الغدير عن زيد بن أرقم نقلا عن كتاب الولاية لا تصح بحال ، وقد ذكرنا من قبل الروايات الصحيحة عن زيد بن أرقم كما رواها الإمامان أحمد ومسلم . فإذا كان الطبري قد صحح الأخبار الواردة في غدير خم كما قال ياقوت فإنها لا تزيد عما أخرجه مسلم ، وما صح من مسند أحمد ، أما أن يصح عنده مالا يؤمن به ، بل لا يقول به إلا الغلاة فهذا أمر مرفوض قطعاً .*
*ومن المعاصرين لشيخ المفسرين عالم شيعي اسمه محمد بن جرير بن رستم الطبري ويكنى أبا جعفر ، وله كتاب المسترشد في الإمامة (انظر الفهرست للطوسى ص 158 ـ 159) فلعله صاحب كتاب الولاية ، واستغل التشابه بين الاسمين والكنيتين في نسبة الكتاب لشيخ المفسرين ، وهو بلا أدنى شكل براء مما جاء به .(176/426)
} - - - { ) .
وإذا كانت آية التبليغ السابقة نزلت قبل آية الإكمال هذه - كما قال الجعفرية أنفسهم - فإن الروايات السابقة تدل على أن آية التبليغ نزلت قبل الغدير ، مما يؤيد ما ذهب إليه جمهور المفسرين في تأويلها ، ويعارض ما قاله الجعفرية من أنها خاصة بالاستخلاف يوم الغدير ، وهذا دليل آخر يضاف إلى أدلة الجمهور .
ومما سبق رأينا أن آية الإكمال نزلت يوم عرفة ، ولكن لو فرضنا أنها نزلت يوم الثامن عشر من ذى الحجة يوم الغدير فإنها لا تعتبر دليلاً على استخلاف على ، لأن هذا مبنى على أساس أن آية التبليغ خاصة بالاستخلاف وهذا غير ثابت كما بينت من قبل .
ويبقى بعد هذا ما يتعلق بأول سورة المعارج " سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ " .
والسورة الكريمة " مكية " بالاتفاق ، وما ذكره بعضهم (1) } - - - { ) يستلزم أن تكون مدنية بل من أواخر ما نزل بالمدينة بعد حجة الوداع قبيل الوفاة : وشيخ طائفتهم الطوسي لم يقع في هذا الخطأ ، ولذا قال : سورة المعارج مكية في قول ابن عباس والضحاك وغيرهما . وفسرها بما يتفق مع جمهور المفسرين ، ولم يشر إلى أن التكذيب كان بالولاية ، ولا أن جزءاً من هذه السورة نزل بالمدينة فضلاً عن كونه بعد حجة الوداع (2) } - - - { ).
__________
(1) 147) سبق ذكر روايتهم في بداية الفصل .
(2) 145]) انظر التبيان 10/112 –113 .(176/427)
وفى مجمع البيان ذكر الطبرسي مثل هذا التفسير، ثم زاد رواية عن جعفر ابن محمد عن آبائه ، قال : لما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً عليه السلام يوم غدير خم ، وقال : من كنت مولاه فعلى مولاه ، طار ذلك في البلاد ، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم النعمان بن الحرث الفهرى فقال : أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة ففعلناها ، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت : من كنت مولاه فعلى مولاه : فهذا شىء منك أو أمر من عند الله ؟ فقال : والله الذي لا إله إلا هو إن هذا من الله ، فولى النعمان ابن الحرث وهو يقول : " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء " ، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله ، وأنزل الله تعالى: " سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ" .
ولكن هذه الرواية تتعارض مع ما ذكره الطبرسي نفسه حيث قال: "سورة المعارج مكية ، وقال الحسن : إلا قوله " وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ"(1) } - - تمهيد { ) .
وفى موضع آخر ذكر روايات تبين ترتيب نزول سور القرآن الكريم ، وبحسب هذا الترتيب نجد سورة المعارج مكية ، وبعدها سبع سور مكية أخرى ، ثم ذكر السور المدنية . وفى إحدى هذه الروايات : " وكانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ، ثم يزيد الله فيها ما يشاء بالمدينة " .
__________
(1) 146]) المرجع السابق 10/350 .(176/428)
ومعنى هذا أن سورة المعارج مكية وبالأخص فاتحتها ، والطبرسي في تفسيره الآخر " جوامع الجامع " الذي كتبه بعد أن اطلع على تفسير الكشاف للزمخشرى وأعجب به (1) } - - - { ) ، ذكر أن سورة المعارج مكية ، وفسرها بما يتفق مع مكيتها ، ولم يشر للرواية المنسوبة للإمام الصادق . وفى تفسير الآية الخامسة وهى" فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا " قال : فاصبر يتعلق بسأل سائل لأنهم استعجلوا العذاب استهزاء وتكذيباً بالوحي(2) } - - - { ) .
فالطبرسي هنا لم يأخذ بالرواية المنسوبة للإمام الصادق ، وما ذكره الطوسي موافقاً به جمهور المفسرين فيه ما يكفى لرد ما ذهب إليه بعض الجعفرية.
*****
تعقيب
بعد المناقشة السابقة نقول :-
ظهر أن عقيدة الإمامة عند المذهب الجعفرى لا تستند إلى شىء من القرآن الكريم ، واستدلالاتهم تنبنى على روايات متصلة بأسباب النزول ، وتأويلات انفردوا بها ، ولم يصح شئ من هذا ولا ذاك بما يمكن أن يكون دليلاً يؤيد مذهبهم .
قال أحد مفسرى الجعفرية عن أسباب النزول :
" ما ذكروه من أسباب النزول كلها أو جلها نظرية ، بمعنى أنهم يردون غالباً الحوادث التاريخية ، ثم يشفعونها بما يقبل الانطباق عليها من الآيات الكريمة فيعدونها أسباب النزول ، وربما أدى ذلك إلى تجزئة آية واحدة ،أو آيات ذات سياق واحد ، ثم نسبة كل جزء إلى تنزيل واحد مستقر وإن أوجب ذلك اختلال نظم الآيات وبطلان سياقها . وهذا أحد أسباب الوهن في نوع الروايات الواردة في أسباب النزول (3)[149]).
__________
(1) 147]) انظر مقدمة جوامع الجامع ففيها بيان سبب التأليف ، ومما جاء في هذه المقدمة ص 3 : " وحثني وبعثنى عليه أن خطر ببالى وهجس بضميرى ، بل ألقى في روعى ، محبة الاستمداد من كلام جار الله العلامة ولطائفه ، فإن لألفاظه لذة الجدة ورونق الحداثة " .
(2) 148]) انظر المرجع السابق ص 508-509 .
(3) 152) الميزان 4/76-88 .(176/429)
وما ذكره هذا المفسر الجعفرى يكاد ينطبق على جميع الآيات الكريمة التي استدلوا بها .
ومن قبل قال الإمام أحمد بن حنبل :
ثلاثة أمور ليس لها إسناد : التفسير والملاحم والمغازى (1)[150]).
ويروى " ليس لها أصل " أي إسناد ، لأن الغالب عليه المراسيل .
يرى الجعفرية أن الاعتقاد بإمامة الأئمة الاثنى عشر ركن من أركان الإيمان، والقرآن الكريم – تبيان كل شيء – كيف لا يبين هذا الركن بنصوص ظاهرة من آياته البينات .
غلاة الجعفرية لم يكتفوا بالتأويلات الفاسدة ، ووضع الروايات كأسباب للنزول ، وإنما أقدموا على ما هو أشنع من هذا وأشد جرماً ، ذلك أنهم قالوا بتحريف القرآن الكريم ، وحذف اسم على منه في أكثر من موضع ، وسيأتي لهذا مزيد بيان في بحث التفسير عندهم في الجزء الثانى من هذه الموسوعة ، والذي جرفهم إلى هذه عقيدتهم في الإمامة ، وجعلهم إياها ركناً من أركان الإيمان .
*****
الفصل الثالث
الإمامة في ضوء السنة
أولا : خطبة الغدير والوصية بالكتاب والسنة
أخبار الغدير تعتبر المستند الأول من السنة عند الجعفرية ، فهم يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم عند غدير خم ، بعد منصرفه من حجة الوداع ، بين للمسلمين أن وصيه وخليفته من بعده على بن أبى طالب ، وذكرت من قبل أن كاتباً جعفرياً ألف كتاباً يقع في ستة عشر مجلداً ليثبت به صحة حديث وشهرته ، وهذا الكتاب الذي أشرت إليه عنوانه " الغدير في الكتاب والسنة والأدب" ! فالتأليف إذن كان من أجل واقعة الغدير ، وإذا لم يثبت في القرآن الكريم شئ مما أراده المؤلف لم يبق إلا السنة ، أما الأدب فلا حاجة لنا به في هذا المجال !
__________
(1) 153) مقدمة في أصول التفسير ص 20 .(176/430)
وقبل النظر في كتب السنة الثمانية التي حددت في منهجى الرجوع إليها ، وهى : الموطأ ، والمسند والصحيحان ، وكتب السنن الأربعة ، نسترشد بما جاء في سيرة محمد بن إسحاق (1)[151]) التي جمعها ابن هشام .
تحت عنوان موافاة على في قفوله من اليمن رسول الله في الحج ورد ما قاله ابن إسحاق عما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم علياً من أمور الحج (2) } - - - { ). ثم ورد ما يأتي :
__________
(1) 154) ولد في المدينة سنة 85 هـ ، ثم خرج إلى العراق وأقام ببغداد حتى توفى . ووفاته محصورة بين سنة 150 وبين 153 هـ . قيل إنه كان يتشيع ، ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة ، أخرج له مسلم في المتابعات ، واستشهد به البخاري في مواضع ، وروى له أبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجه . وقال الدارقطنى:اختلف الأئمة فيه وليس بحجة إنما يعتبر به . (انظر ترجمته في السيرة النبوية لابن هشام : مقدمة الناشرين ص 13 : 17 ، وراجع ترجمته كذلك في تهذيب التهذيب ) .
وقال الذهبي في ميزان الاعتدال بعد أن ذكر ترجمته : فالذى يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث ، صالح الحال صدوق . وما انفرد به ففيه نكارة ، فإن في حفظه شيئاً . وقد احتج به الأئمة ، والله أعلم .
(2) 152]) السيرة النبوية 4/602 .(176/431)
" قال ابن اسحاق : وحدثنى يحيى بن عبد الله بن عبدالرحمن بن أبى عمرة ، عن يزيد بن طلحة بن ركانة ، قال : لما أقبل على رضي الله عنه من اليمن ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف على جنده الذي معه رجلاً من أصحابه ، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل من القوم حلة من البز الذي كان مع على رضي الله عنه . فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم ، فإذا عليهم الحلل قال : ويلك ؟ ما هذا ؟ قال : كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس . قال : ويلك ! انزع قبل أن تنتهى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم . قال : فانتزع الحلل من الناس ، فردها في البز ، قال : وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم .
قال ابن اسحاق : فحدثنى عبد الله بن عبدالرحمن معمر بن حزم ، عن سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة ، عن عمته زينب بنت كعب وكانت عند أبى سعيد الخدري ، قال : اشتكى الناس علياً رضوان الله عليه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً ، فسمعته يقول : أيها الناس ، لا تشكوا عليا ، فوالله إنه لأخشن في ذات الله ، أو في سبيل الله ، من أن يشكى .
خطبة الرسول في حجة الوداع
قال ابن اسحاق : ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجه ، فأرى الناس مناسكهم ، وأعلمهم سنن حجهم ، وخطب الناس خطبته التي بيَّن فيها ما بيَّن ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :(176/432)
أيها الناس ، اسمعوا قولى : فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا الموقف أبداً ، أيها الناس ، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا ، وكحرمة شهركم هذا ، وإنكم ستلقون ربكم ، فيسألكم عن أعمالكم ، وقد بلغت ، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من أئتمنه عليها ، وإن كل ربا موضوع ، ولكن لكم رءوس أموالكم ، لا تظَلمون ولا تظُلمون . قضى الله أنه لا ربا ، وإن ربا عباس بن عبدالمطلب موضوع كله ، وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع ، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب ، وكان مسترضعاً في بنى ليث ، فقتلته هذيل فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية . أما بعد أيها الناس ، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم ، فاحذروه على دينكم ، أيها الناس : إن النسىء زيادة في الكفر ، يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله ، فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متوالية ، ورجبمضر (1) } - - - { ) ، الذي بين جمادى وشعبان.
__________
(1) 156) ورجب مضر : إنما قال لأن ربيعة كانت تحرم رمضان ، وتسميه رجباً ، فبين عليه الصلاة والسلام أنه رجب مضر لا رجب ربيعة ، وأنه الذي بين جمادى وشعبان .(176/433)
أما بعد أيها الناس ، فإن لكم على نسائكم حقاً ، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، وعليهن أن لايأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع ، وتضربوهن ضرباً غير مبرح ، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف . واستوصوا بالنساء خيراً ، فإنهن عندكم عوان (1) } - - - { ). لايملكن لأنفسهن شيئاً ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمات الله ، فاعقلوا أيها الناس قولى ، فإنى قد بلغت ، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبداً ، أمراً بيناً كتاب الله وسنة نبيه ، أيها الناس اسمعوا قولى واعقلوه ، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم ، وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه ، فلا تظلمن أنفسكم ، اللهم هل بلغت ؟ فذكر لي أن الناس قالوا : اللهم نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اشهد (2) } - - - { ) .
وغير ما ذكره ابن اسحق من سبب تلك الشكوى ، نجد سبباً آخر يذكر وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً ، واستعمل عليهم على بن أبى طالب ، فمضى في السرية فأصاب جارية ، فأنكروا عليه ، ونجد رواية أخرى أنه أصاب الجارية عندما كان على جيش وخالد بن الوليد على جيش آخر ، فأرسل خالد للرسول صلى الله عليه وسلم يخبره لما فعله أبو الحسن .
والروايات كلها تشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم دافع عن زوج الزهراء عليهما السلام ، والأقوال مختلفة ، وسنبين الصحيح منه إن شاء الله تعالى .
__________
(1) 157) عوان : جمع عانية وهى الأسيرة .
(2) 158) السيرة النبوية 4/603 -604.(176/434)
وخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع التي ذكرها ابن اسحاق ، نرى معناها مبثوثاً في كتب السنة ، ففي صحيح البخاري نجد شيئاً منها في باب الخطبة أيام منى من كتاب الحج ، وفى آخر الباب " فطفق النبي صلى الله عليه وسلم " يقول : اللهم اشهد وودع الناس فقالوا : هذه حجة الوداع " .
ونجد كثيراً منها في باب حجة النبيصلى الله عليه وسلم من كتاب الحج في صحيح مسلم . وهذه الحجة يرويها الإمام الصادق عن أبيه الباقر عن جابر رضي الله تعالى عنهم ، كما أخرجها أيضاً غيرالإمام مسلم (1) } - - تمهيد { ) .
وقد بينت في الفصل السابق أنه في يوم عرفة من حجة الوداع نزل قوله تعالى " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " ومن قبله : " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ " ويرى الجعفرية أن استخلاف الإمام على كان يوم الغدير في الثامن عشر من ذى الحجة ، وهنا يأتي تساؤل وهو : أفيمكن أن يترك ركن من أركان الإيمان لا يذكر ، وقد أكمل الله تعالى دينه ، وخطب رسوله صلى الله عليه وسلم ، وودع الناس في حجة الوداع ؟
أظن هذا مستبعداً ، ولكن ليس مستحيلاً !
ولم يَدُر جدل بين الجمهور والجعفرية حول معنى من معانى الخطبة كما ذكرها ابن إسحاق إلا في قوله صلى الله عليه وسلم : " وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً ، أمراً بينا ، كتاب الله وسنة نبيه ". فالجعفرية يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتمسك بالكتاب والعترة في خطبة الغدير ، وأنه ترك الثقلين كتاب الله تعالى وأهل بيته .
__________
(1) 159) انظر حجة النبي ( لمحمد ناصر الدين الألبانى ص 40-45 ، ص 77-79 .(176/435)
وليس معنى هذا أن الجعفرية يرون عدم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فليس بمسلم من يرى هذا ، ولكنهم يرون أن الأئمة معصومون ، وأقوالهم كأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم فهى تعتبر عندهم من السنة ، فلابد من الرجوع إليهم حتى لا تضل الأمة !
وننظر في مفتاح كنوز السنة فنجده يذكر وصيته صلى الله عليه وسلم بكتاب الله وسنة رسوله عن عشرة مراجع منها : الصحيحان ، والمسند ، والترمذى ، والنسائى ، وابن ماجه (1) } - - - { ) .
وفى صحيح البخاري نجد " كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة " ومما جاء في هذا الكتاب " وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها ، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوا إلى غيره ، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم .
وفى الموطأ يروى الإمام مالك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وسنة نبيه " (2) } - - - { ).
__________
(1) 160) انظر مفتاح كنوز السنة – باب الميم فيما ذكره عن محمد - صلى الله عليه وسلم - .
(2) 158]) كتاب النهى عن القول بالقدر ، وهذا الحديث الشريف وصلة ابن عبدالبر من حديث كثير ابن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده (انظر تنوير الحوالك 2/208) .*
*وقال ابن عبدالبر كذلك : مرسلات مالك كلها صحيحة مسندة (1/38) . وقال جلال الدين السيوطى : " ما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد … فالصواب إطلاق أن الموطأ صحيح لا يستثنى منه شىء " ( نفس المرجع 1/6) .(176/436)
ونجد في بعض هذه المراجع العشرة الوصية بكتاب الله تعالى دون ذكر السنة ، من ذلك ما جاء في سنن الدارمى : حدثنا محمد بن يوسف ، عن مالك بن مغول ، عن طلحة بن مصرف اليامى ، قال : " سألت عبد الله بن أبى أوفى : أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا ، قلت : فكيف كتب على الناس الوصية ، أو أمروا بالوصية ؟ فقال : أوصى بكتاب الله " . (انظر كتاب الوصايا . باب من لم يوص ج 2 ص 290-291)
وفى سنن النسائي رواية أخرى لهذا الحديث ، وقال السيوطى في شرحه: " أوصى بكتاب الله أي بدينه ، أو به وبنحوه ليشمل السنة " . (انظر كتاب الوصايا - باب هل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ج6 ص 240).
وفى غير المراجع العشرة نجد مثلاً في كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك " باب في لزوم السنة " ويحتوى الباب على ثمانية أخبار.
وفى المسند لأبى بكر عبد الله بن الزبير الحميدى حدث المصنف قال : ثنا سفيان قال : ثنا مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف قال : سألت عبد الله بن أبى أوفى : " هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً يوصى فيه . قلت : وكيف أمر الناس بالوصية ولم يوص ؟ قال : أوصى بكتاب الله " . ( انظر المجلد الثانى - حديث رقم 722) .
وفى فيض القدير شرح الجامع الصغير ، نجد رواية عن أبى هريرة رضي الله عنه قال : خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال : " تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله وسنتى ، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض " .
ومما قاله المناوى في شرحه :
إنهما الأصلان اللذان لا عدول عنهما ، ولا هدى إلا منهما ، والعصمة والنجاة لمن تمسك بهما . واعتصم بحبلهما ، وهما الفرقان الواضح ، والبرهان اللائح بين المحق إذا اقتفاهما ، والمبطل إذا خلاهما ، فوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة متعين معلوم من الدين بالضرورة .(176/437)
(راجع الجزء الثالث ص 240-241 ، حديث رقم 3282 وشرحه ، وانظر صحيح الجامع الصغير للشيخ ناصر الدين الألبانى جـ 2 ، حديث رقم 2934) .
ولسنا في حاجة إلى أن نطيل الوقوف هنا ، فلا خلاف بين المسلمين في وجوب التمسك والاعتصام بالقرآن الكريم ، والسنة النبوية المطهرة .
والخلاف حول شىء من السنة مرده إلى الخلاف حول الثبوت أو الدلالة ، أما ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان واضح الدلالة ، فلا خلاف حول الأخذ به ووجوب اتباعه ، فقد نطق بهذا الكتاب المجيد في مثل قوله تعالى : " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا " (1) } - - - { )
وقوله عز وجل : " مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ " (2) } - تمهيد - { )
وقوله سبحانه وتعالى :" فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" (3) } - تمهيد - { )
إلى غير ذلك من آيات الله البينات التي بينت أن من لم يتمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد ابتعد عن الإيمان . وضل ضلالاً بعيداً .
من الواضح إذن أن عصمة الأمة وعدم ضلالها في التمسك بما أنزل الله تعالى في كتابه العزيز ، وبما بينه جل شأنه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المطهرة ، دون حاجة إلى الرجوع إلى أئمة الجعفرية ، أو غيرهم من فرق الشيعة، ولكنا نجد روايات أخرى تذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الكتاب والعترة ، وفى بعضها الأمر بالتمسك بهما حتى لا نضل .
ثانيا : روايات التمسك بالكتاب والعترة
__________
(1) 162) سورة الحشر – آية 7 .
(2) 163) سورة النساء – آية 80 .
(3) 164) سورة النساء – آية 65 .(176/438)
من هذه الروايات ما رواه الإمامان مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم ، وسبق ذكره عند الحديث عن آية التطهير ، وفى تلك الروايات الحث على التمسك بكتاب الله تعالى ، ثم قوله صلى الله عليه وسلم : " أذَّكركم الله في أهل بيتي " ، وقول زيد : " إن نساءه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده " وقال " هم آل على وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس " . وهذه الروايات تحثنا معشر المسلمين على أن نرعى حقوق آل البيت ، بيت نبينا صلى الله عليه وسلم ، فنحبهم ونوقرهم وننزلهم منازلهم ، فحبنا لرسولنا الأعظم يدفعنا لحبنا لآله الأطهار ، وعلينا أن نصلهم ، ورحم الله أبا بكر الصديق حيث قال : " والذى نفسى بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتى"(1) } - تمهيد - { ) ، وقال " ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته " (2) } - تمهيد - { ).
وبالطبع لا تدل هذه الروايات على وجوب الإمامة لآل البيت ، ولا لأحد بعينه ، فلا صلة بين التذكير بأهله والنص على خلافة بعضهم .
وأما باقي الروايات فإنها جاءت في المسند ، وفى سنن الترمذي . وروايات المسند هي :-
1. حدثنا عبد الله ، حدثني أبى ، حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا إسرائيل يعنى إسماعيل بن أبى إسحق الملائى ، عن عطية ، عن أبى سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إنى تارك فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتى أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (3/14).
__________
(1) 165) البخاري – كتاب المناقب – باب مناقب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانظر كذلك الرواية رقم 55 بالجزء الأول من المسند ، وسندها صحيح .
(2) 166) البخاري – كتاب المناقب – باب مناقب الحسن والحسين .(176/439)
2.حدثنا عبد الله ، حدثني أبى ، حدثنا أبو النضر ، حدثنا محمد يعنى ابن طلحة ، عن الأعمش ، عن عطية العوفى ، عن أبى سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنى أوشك أن أدعى فأجيب ، وإنى تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله عز وجل ، وعترتى ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتى أهل بيتي ، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ، فانظرونى بم تخلفونى فيهما ؟ " (3/17) .
3.حدثنا عبد الله ، حدثنا أبى ، ثنا ابن نمير ، ثنا عبدالملك يعنى ابن أبى سليمان ، عن عطية ، عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى قد تركت فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتى أهل بيتي. ألا إنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (3/26).
4.حدثنا عبد الله ، حدثني أبى ، ثنا ابن نمير ، ثنا عبدالملك بن أبى سليمان ، عن عطية العوفى ، عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدى : الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتى أهل بيتي . ألا إنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (3/59) .
5.حدثنا عبد الله ، حدثني أبى ، ثنا الأسود بن عامر ، ثنا شريك ، عن الركين، عن القاسم بن حسان ، عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنى تارك فيكم خليفتين ، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض - أو ما بين السماء إلى الأرض - وعترتى أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يرد ا على الحوض " (5/181/182) .(176/440)
6.حدثنا عبد الله ، حدثني أبى ، ثنا أحمد الزبيرى ، ثنا شريك عن الركين ، عن القاسم بن حسان ، عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى تارك فيكم خليفتين ، كتاب الله وأهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض جميعاً " ( 5/189-190).
والترمذى أخرج روايتين هما (1) } - تمهيد - { ):- حدثنا نصر بن عبدالرحمن الكوفي ، حدثنا زيد بن الحسن هو الأنماطى ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر بن عبد الله قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : " ياأيها الناس ، قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدى ، كتاب الله وعترتى أهل بيتي " (حسن غريب ) .
-حدثنا على بن المنذر كوفى ، حدثنا محمد بن فضيل قال ، حدثنا الأعمش ، عن عطية ، عن أبى سعيد ، والأعمش عن حبيب بن أبى ثابت ، عن زيد بن أرقم رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى ،أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتى أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفونى فيهما " . (حسن غريب) .
مناقشة الروايات
هذه هي روايات التمسك بالكتاب والعترة ، و بالنظر فيها نجد ما يأتي :-
عن أبى سعيد الخدري خمس روايات ، الأربع الأولى من المسند ، والثانية من سنن الترمذي ، وهذه الروايات كلها يرويها عطية عن أبى سعيد .
وعطية هو " عطية بن سعد بن جنادة العوفى " والإمام أحمد نفسه - صاحب المسند - تحدث عن عطية وعن روايته عن أبى سعيد فقال بأنه ضعيف الحديث ، وأن الثوري وهشيما كانا يضعفان حديثه ، وقال : بلغنى أن عطية كان يأتي الكلبى فيأخذ عنه التفسير ، وكان يكنيه بأبى سعيد فيقول : قال أبو سعيد فيوهم أن الخدري .
__________
(1) 167) انظر مناقب أهل بيت النبي ( في أبواب المناقب من سننه .(176/441)
وقال ابن حبان : سمع عطية من أبى سعيد الخدري أحاديث فلما مات جعل يجالس الكلبى ، فإذا قال الكلبى : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ، فيحفظه ، وكناه أبا سعيد ، وروى عنه ، فإذا قيل له : من حدثك بهذا ؟ فيقول : حدثني أبو سعيد ، فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدري ، وإنما أراد الكلبى ، قال : لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب.
وقال البخاري في حديث رواه عطية : أحاديث الكوفيين هذه مناكير ، وقال أيضاً : كان هشيم يتكلم فيه . وقد ضعفه النسائي أيضاً في الضعفاء ، وكذلك أبو حاتم . ومع هذا كله وثقه ابن سعد فقال : " كان ثقه إن شاء الله ، وله أحاديث صالحة ، ومن الناس من لا يحتج به " . وسئل يحيى بن معين : كيف حديث عطية ؟ قال : صالح (1) } - تمهيد - { )
وما ذكره ابن سعد وابن معين لا يثبت أمام ما ذكر من قبل . وقد يقُال هنا : إذا كان الإمام أحمد يرى ضعف حديث عطية فلماذا روى عنه ؟
والجواب أن الإمام إنما روى في مسنده ما اشتهر ، ولم يقصد الصحيح ولا السقيم . ويدل على ذلك أن ابنه عبد الله قال : قلت لأبى : ما تقول في حديث ربعى بن خراش عن حذيفة ؟ قال : الذي يرويه عبدالعزيز بن أبى رواد ؟ قلت : نعم ، قال الأحاديث بخلافه ، قلت : فقد ذكرته في المسند ؟ قال : قصدت في المسند المشهور، فلو أردت أن أقصد ما صح عندي لن أرو من هذا المسند إلا الشئ اليسير . وقد طعن الإمام أحمد في أحاديث كثيرة من المسند ، ورد كثيراً مما روى ، ولم يقل به ، ولم يجعله مذهباً له (2) } - تمهيد تمهيد { ).
__________
(1) 168) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب ، وميزان الاعتدال .
(2) 169) انظر المسند تحقيق شاكر – طلائع الكتاب 1/75 .(176/442)
وعندما عد ابن الجوزي من الأحاديث الموضوعة أحاديث أخرحها الإمام أحمد في مسنده ، وثار عليه من ثار ، ألف ابن حجر العسقلانى كتابه " القول المسدد في الذب عن المسند " ، فذكر الأحاديث التي أوردها ابن الجوزي ، ثم أجاب عنها ، ومما قال : " الأحاديث التي ذكرها ليس فيها شئ من أحاديث الأحكام في الحلال والحرام ، والتساهل في إيرادها مع ترك البيان بحالها شائع ، وقد ثبت عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة أنهم قالوا : إذا روينا في الحلال والحرام شددنا . وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا . وهكذا حال هذه الأحاديث (1) } - تمهيد - { ).
وما ذكره ابن حجر ينطبق على الأحاديث المروية في فضائل أهل البيت والتمسك بالعترة .
الرواية الثانية للترمذى رواها عن على بن المنذر الكوفي ، عن محمد بن فضيل ، ثم انقسم السند إلى طريقين : انتهى الأول إلى عطية عن أبى سعيد ، والثانى إلى زيد بن أرقم ، ولا يظهر هنا أي السندين هو الأصل . وإذا نظرنا إلى الروايات الأربع السابقة التي رواها عطية عن أبى سعيد نجد توافقاً تاماً في المعنى وفى كثير من اللفظ بينها وبين هذه الرواية ، مما يرجح أن هذا الطريق هو الأصل ، وهو المذكور أولاً في الإسناد ، ومن قبل تحدثنا عما رواه الإمامان أحمد ومسلم عن زيد بن أرقم بطرق متعددة وفى تلك الروايات ذكر قوله صلى الله عليه وسلم " وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " فحث على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال : " وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " (2) } - تمهيد - { ).
__________
(1) 170) ص 11 من القول المسدد .
(2) 171) راجع صحيح مسلم – كتاب فضائل الصحابة – باب من من فضائل على بن ابى طالب رضي الله تعالى عنهم ، والمسند 4/366-367 .(176/443)
وهذا يتفق بعض الشئ مع رواية الترمذي ، لكن بينهما اختلاف كبير يستوجب عدم الجمع ، مما يجعلنا نطمئن إلى ضم رواية الترمذي إلى الروايات الأربع التي رواها عطية عن أبى سعيد ، واستبعادها عن روايات زيد بن أرقم إلا في موضع الاتفاق .
والذى جمع بين الطريقين في هذا الإسناد على بن المنذر الكوفي أو محمد بن فضيل ، ولكن الثانى روى عنه مسلم في إحدى رواياته السابقة عن زيد بن أرقم ، فيُستبعد الجمع عن طريقه . فلم يبق إلا على بن المنذر ، وهو من شيعة الكوفة . قال ابن أبى حاتم : سمعت منه مع أبى ، وهو صدوق ثقة . وذكره ابن حبان في الثقات . وقال ابن نمير : هو ثقة صدوق . وقال الدار قطنى : لا بأس به ، وكذا قال مسلمة بن قاسم ، وزاد : كان يتشبع .
وقال الإسماعيلى : في القلب منه شىء لست أخيره . وقال ابن ماجه : سمعته يقول : حججت ثمانياً وخمسين حجة أكثرها راجلاً (1) } - تمهيد - { ).
وما سمعه منه ابن ماجه يجعلنا نتردد كثيراً في الاحتجاج بقوله : فكيف يقطع آلاف الأميال للحج ثمانياً وخمسين مرة أكثرها راجلاً ؟ ليس من المستبعد إذن أن يجمع راوٍ شيعي كهذا روايتين في مناقب أهل البيت تتفقان في شىء وتختلفان في شىء آخر ، وهذا يجعلنا نزداد اطمئناناً إلى ما انتهينا إليه من جعل هذه الرواية مع الروايات الأخرى لعطية عن أبى سعيد ، وفصلها عن روايات زيد بن أرقم .
على أن هذه الرواية فيها ضعف آخر . وهو الانقطاع في موضعين ، فالأعمش وحبيب بن أبى ثابت مدلسان . وهما يرويان بالعنعنة . فلم يثبت سماع كل منهما هنا .
والأعمش وحبيب من الثقات . وثبت سماع الأعمش من حبيب ، وسماع حبيب من زيد بن أرقم . إلا أن في هذه الرواية لم يثبت السماع ، والأعمش فيه تشيع وهو كوفى ، وحبيب كوفى أيضاً ، وفى بيئة الكوفة يمكن أن تشيع مثل هذه الأحاديث دون دقة أو تمحيص .
__________
(1) 172) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب .(176/444)
وحبيب نفسه قال لابن جعفر النحاس : إذا حدثني رجل عنك بحديث ، ثم حدثت به عنك كنت صادقاً (1) } - - - { ).
فحبيب كان صادقاً ليس بكاذب ، إلا أنه أبان عن رأيه ، فليس من الكذب عنه أن يسمع من راوٍ عن آخر ، فيروى عن الآخر مباشرة بما لايفيد السماع منه .
وفى المستدرك روى الحاكم (2) } - - - { ) هذا الحديث بما يفيد سماع الأعمش من حبيب . وهذا ما يحتاج إلى مراجعة الإسناد الذي ذكره ، وما أكثر رجاله . غير أننا لسنا مضطرين إلى بذل هذا الجهد ، فإن ثبت سماع الأعمش بقى أكثر من موطن ضعف . والحاكم ذكر الحديث بروايتين :-
إحداهما في إسنادها الإمام أحمد بن حنبل ، وسيأتي أنه هو نفسه ضعف الحديث كما ذكر ابن تيمية ، والأخرى بين الذهبي وهَىْ إسنادها (3)
__________
(1) 170]) الأعمش هو سليمان بن مهران الأسدي الكاهلى ، مولاهم أبو محمد الكوفي . انظر ترجمته وترجمة حبيب في تهذيب التهذيب . وميزان الاعتدال .
(2) 171]) هو عبد الله بن عبد الله الضبى النيسابورى .ولد سنة 321 هـ وجاوز الثمانين حيث توفى سنة 405 هـ . قال عنه ابن حجر في لسان الميزان : إمام صدوق ولكنه يصحح في مستدركه أحاديث ساقطة فيكثر من ذلك ، فما أدرى هل خفيت عليه ؟ فما هو ممن يجهل ذلك . وإن علم فهو خيانة عظيمة
ثم هو شيعي مشهور بذلك من غير تعرض للشيخين . والحاكم أجل قدراً وأعظم خطراً وأكبر ذكراً من أن يذكر في الضعفاء . ولكن قيل في الاعتذار عنه أنه عند تصنيفه للمستدرك كان في أواخر عمره . وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره ، ويدل على ذلك أنه ذكر جماعة في كتاب الضعفاء له ، وقطع بترك الرواية عنهم ، ومنع من الاحتجاج بهم ، ثم أخرج أحاديث بعضهم في مستدركه وصححها .
(3) 172]) انظر المستدرك 3/109 - 110 .
وهذا الحديث من الأحاديث التي أنكرها عليه أصحاب الحديث ، ولم يلتفتوا إلى تصحيحه . ( راجع ترجمته بشئ من التفصيل في التذكرة التي كتبت في صدر كتابه معرفة علوم الحديث للدكتور السيد معظم حسين ) .(176/445)
} - - - { ).
القاسم بن حسان العامرى الكوفي روى الروايتين الخامسة والسادسة من المسند عن زيد بن ثابت ، ورجح المرحوم الشيخ أحمد شاكر توثيقه وقال :
" وثقة أحمد بن صالح ، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ، وذكر البخاري في الكبير اسمه فقط ، ولم يذكر عنه شيئاً ، وترجمه ابن أبى حاتم في الجرح والتعديل فلم يذكر فيه جرحاً ، ثم نقل عن المنذرى أن البخاري قال : القاسم بن حسان سمع من زيد بن ثابت ، وعن عمه عبدالرحمن بن حرملة ، وروى عنه الركين بن الربيع ، لم يصح حديثه في الكوفيين " .
ثم عقب شاكر على هذا بقوله " والذى نقله المنذرى عن البخاري في شأن القاسم بن حسان لا ادرى من أين جاء به ، فإنه لم يذكر في التاريخ الكبير إلا اسمه فقط كما قلنا ، ثم لم يترجمه في الصغير ، ولم يذكره في الضعفاء ، وأخشى أن يكون المنذرى وهم فأخطأ ، فنقل كلام ابن أبى حاتم بمعناه منسوباً للبخاري ، وأنا أظن أن قول البخاري في عبدالرحمن بن حرملة " لا يصح حديثه " إنما مرده إلى أنه لم يعرف شيئاً عن القاسم بن حسان ، فلم يصح عنده لذلك حديث عمه عبدالرحمن " (1) } - - - { )
وفى توثيق القاسم بن حسلن نظر ، فابن حبان ذكره أيضاً في أتباع التابعين ومقتضاه أنه لم يسمع من زيد بن ثابت ، وقال ابن القطان : لايعرف حاله (2) } - - - { ).
__________
(1) 173]) انظر المسند ج 5 التعليق على الرواية 3605 ، وهذه غير روايات العترة .
(2) 174]) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب .(176/446)
والبخاري ذكر اسمه فقط في التاريخ الكبير ، وليس في هذا توثيق و لا تضعيف . وفى الجرح والتعديل حقيقة لم يذكر فيه جرحاً ،ولكن لم يذكر فيه كذلك تعديلاً . وإذا كان الظن بأن البخاري ضعف عبدالرحمن بن حرملة من أجل القاسم، فمن باب أولى أن يدخل القاسم في الضعفاء ، ويبقى هنا الإشكال وهو أن البخاري لم يذكره في الضعفاء ، ولم يذكر فيه جرحاً في كتبه الأخرى المذكورة ، فمن أين جاء المنذرى بما نقله عن البخاري ؟
لعل المرحوم الشيخ شاكراً كان يتردد فيما كتب لو عرف أن البخاري له كتاب كبير في الضعفاء يقع في تسعة أجزاء ، وهو مخطوط و لا يوجد منه نسخ في مصر ، فلم لا يكون المنذرى نقل منه (1) } - - - { ) ؟ وفاته كذلك أن يقرأ ترجمة القاسم في ميزان الاعتدال ، فقد نقل الذهبي عن البخاري أن القاسم بن حسان حديثه منكر و لا يعرف (2) } - - تمهيد { ) ، وهذا قول لا يحتمل الوهم . فلا شك أن المنذرى والذهبي قد رجعا لما لم يتيسر لنا الرجوع إليه ، وأغلب الظن - إن لم يكن من المؤكد - أنهما نقلا عن كتاب الضعفاء الكبير للبخاري .
__________
(1) 175]) في الحديث عن أحد الرواة قال العلامة المرحوم أحمد شاكر : " نقل الحافظ في التهذيب أن البخاري ذكره في الضعفاء ، ولم أجد فيه " . وهذا يؤيد أنه لم يسمع بكتاب الضعفاء الكبير للبخاري – انظر قوله في الحديث عن الرواية رقم 646 بالجزء الثانى من المسند .
(2) 176]) يطلق البخاري " منكر الحديث " على من لا تحل الرواية عنه ، أما عند غيره فمنكر الحديث في درجة ضعيف الحديث – انظر : قواعد في علوم الحديث للتهانوى ص 258 ، وانظر كذلك تدريب الراوى 1/349 وحاشية ص 347 وميزان الاعتدال 1/6.(176/447)
لم يبق إذن إلا الرواية الأولى للترمذى ، وفى سندها زيد بن الحسن الأنماطى الكوفي ، الذي روى عن الإمام الصادق عن أبيه عن جابر بن عبد الله ، قال أبو حاتم عن زيد هذا : كوفى قدم بغداد ، منكر الحديث ، وذكره ابن حبان في الثقات (1) } - - - { ).
وخطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع رواها مسلم بسند صحيح عن الإمام الصادق عن أبيه عن جابر ، وليس فيها " وعترتى أهل بيتي " (2) } - - - { )، وهذه الخطبة رويت عن جابر بطرق متعددة في مختلف كتب السنة ، وليس فيها جميعاً ذكر لهذه الزيادة (3) } - - - { ) .
الاختلاف حول الحديث
رأينا فيما سبق ما رواه الإمامان مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم ، وهذا لا خلاف حول صحته .
ورأينا الروايات الأخرى لهذا الحديث ، وظهر ما بها من ضعف . وهنا ملحظ هام وهو أن الضعف أساساً جاء من موطن واحد وهو الكوفة . وهذا يذكرنا بقول الإمام البخاري في حديث رواه عطية : أحاديث الكوفيين هذه مناكير .
ومن هنا ندرك لماذا اعتبر ابن الجوزي هذا الحديث من الأحاديث الموضوعة ، وإن كانت الروايات في جملتها كما يبدو لنا لا تجعل الحديث ينزل إلى درجة الموضوع .
وفى فيض القدير شرح الجامع الصغير ذكر الحديث من مسند الإمام أحمد ، ومعجم الطبرانى رواية عن زيد بن ثابت ، وصحح الحديث السيوطى والمناوى ، وقال المناوى : " قال الهيثمى : رجاله موثقون ، ورواه أيضاً أبو يعلى بسند لا بأس به ، والحافظ عبدالعزيز بن الأخضر وزاد أنه قال : في حجة الوداع ، ووهم من زعم وضعه كابن الجوزي . قال السمهودى : وفى الباب ما يزيد على عشرين من الصحابة " ا . هـ .
__________
(1) 177]) نظر ترجمته في تهذيب التهذيب ، وميزان الاعتدال .
(2) 178]) راجع صحيح مسلم – كتاب الحج – باب حجة النبي ( .
(3) 179]) انظر حجة النبي ( كما رواها جابر بن عبد الله ص 40-45 .(176/448)
وتحدثنا من قبل عما رواه الإمام أحمد عن زيد بن ثابت ، وبينا ضعف الإسناد ، وبالنظر فيما رواه الطبرانى نجد موطن الضعف نفسه . فهو من رواية القاسم بن حسان ، فقول الهيثمى يعنى توثيق القاسم .
وما ذكره عن حجة الوداع هنا بيناه من قبل . فالتصحيح إذن غير مقبول ، غير أننا قد نوافق على عدم جعل الحديث من الموضوعات ، ومع هذا فابن الجوزي قد يكون له ما يؤيد رأيه ، فليس من المستبعد أن يكون الحديث كوفى النشأة ، وأن يكون مصنوعاً في دار الضرب التي أشار إليها الإمام مالك ، ومن هنا يمكن أن ينسب إلى عشرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، بل إلى سبعين غير أنه لو صح عن صحابى واحد لكفى إلا أن يكون ممن لا يستحق شرف الصحبة .
ولعل من المهم هنا أن نذكر أن الإمام أحمد بن حنبل ، وهو ممن أخرج الحديث ، ذكر أنه ضعيف لا يصح ، فهو إذن غير صحيح بالنسبة إلى أي من الصحابة الكرام .
وشيخ الإسلام ابن تيمية رفض هذا الحديث وقال : " وقد سئل عنه أحمد ابن حنبل فضعفه ، وضعفه غير واحد من أهل العلم وقالوا : لا يصح " (1) } - - - { ).
وفى عصرنا وجدنا العلامة المحقق الشيخ ناصر الدين الألبانى - رحمهالله - يذهب إلى تصحيح رواية التمسك بالكتاب والسنة التي أشرنا إليها من قبل ، ويوافق السيوطى والمناوى هنا أيضاً فيصحح حديث الثقلين الذي يأمر بالتمسك بالكتاب والعترة ، فيذكره في صحيح الجامع الصغير لا في ضعيفه (2) } - - - { ).
__________
(1) 183) منهاج السنة النبوية 4/105 .
(2) 184) انظر صحيح الجامع الصغير 2/217- حديث رقم 2454 .(176/449)
وعندما سعدت بلقائه في زيارته الأخيرة لدولة قطر ، دار نقاش حول هذا الحديث ، وذكرت مواطن الضعف في الروايات التي جمعتها ، فقال - زاده الله علماً وفضلاً - إن ضعف هذه الروايات لا يعنى ضعف الحديث ، فقد يكون مروياً من طرق أخرى صحيحة لم تصل إليك (1) } - - - { )، ثم أشار إلى كتابين أخرجا الحديث ولم يكونا من المصادر التي اعتمدت عليها قبل هذا البحث .
أحدهما :معجم الطبرانى ، فنظرنا فيه ووجدنا في الإسناد القاسم بن حسان ، فالرواية إذن غير صحيحة .
والثانى :مستدرك الحاكم وفيه ما يفيد سماع الأعمش من حبيب ، ولكن يبقى أيضاً مواطن الضعف الأخرى (2) } - - - { ). ولم يتذكر لماذا صحح الحديث ، ولم يتمكن من الرجوع إلى ما كتب نظراً لإبعاده عن داره ومكتبته ، وبعد سفره قرأت ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ، فلما أبلغ به طلب تصوير الصفحات .
والشيخ الجليل في تصحيحه للحديث أشار إلى تخريج المشكاة ، فرأيت الرجوع إليها عسى أن أقف على حجته في التصحيح .
في الجزء الثالث في مشكاة المصابيح ( ص 1735) جاءت روايتان للحديث هما رقم 6143، 6144.
قرأت الروايتين والتخريج فكانت المفاجأة مذهلة . وأثبت هنا ما جاء في الكتاب بالنص :
الرواية رقم 6143 :
عن جابر ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : " ياأيها الناس : إنى تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا ، كتاب الله ،وعترتي أهل بيتي " (رواه الترمذي ).
والرواية الأخرى نصها كما يلى :
__________
(1) 182]) كلام الشيخ صحيح ، ولذلك فقد جمعت كل ما استطعت جمعه والنظر فيه من الروايات ، وقد أرشدني إلى هذا المنهج ، وساعدني في التطبيق منذ سنوات العلامة الثبت المحقق الأستاذ محمود شاكر – رحمه الله رحمة واسعة .
(2) 183]) راجع ما ذكرناه من قبل عن الحاكم ومستدركه ، وعن روايتيه لهذا الحديث .(176/450)
وعن زيد بن أرقم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض ، فانظروا كيف تخلفونى فيهما " .(رواه الترمذي ) .
هاتان هما الروايتان ، أما التخريج فهو كما يلى :
الرواية الأولى : " وقال - أي الترمذي - : حديث حسن غريب .
قلت - أي الألبانى - : وإسناده ضعيف "
الرواية الثانية : " وقال : حديث حسن غريب قلت : وإسناده ضعيف أيضاً ، لكنه شاهد للذى قبله " .
هذا ما قرأته ، ونقلته بنصه ، والضعيف الذي يشهد للضعيف لا يرفعه لمرتبة الصحيح ، بل قد لا يزيده إلا ضعفاً ، فمن أين جاء تصحيح الشيخ إذن ؟
وبعد لقائى بالشيخ الجليل تتبعت روايات الطبراني للحديث في المعجم الكبير ، فوجدت خمس عشرة رواية :
تسع منها عن زيد بن أرقم ، وهى الرواية رقم 2681 بالجزء الثالث ، وفى الجزء الخامس الروايات الثمانية وأرقامها : 4980، 4981 ، 4982 ، 5025 ، 5026 ، 5027 ، 5028 ، 5040 وعرفنا ما صح عن زيد بن أرقم ، فلا حاجة للنظر في هذه الروايات .
أما الروايات الستة الباقية فهى كما يلى :
روايتان يرويهما عطية عن أبى سعيد ، وهما رقم 2678 ، 2679 بالجزء الثالث .
وروايتان يرويهما زيد بن الحسن الأنماطى ، وهما رقم 2680 ، 2683 ، وهما بالجزء الثالث أيضاً .
وروايتان يرويهما القاسم بن حسان ، وهما رقم 4922 ، 4923، وهما بالجزء الخامس .(176/451)
ومن هذا التتبع نرى أن الضعف في هذه الروايات لا يخرج عما ذكرته من قبل في مناقشة روايات مسند الإمام أحمد ، وسنن الترمذي ،ويؤكد عدم استبعاد أن يكون الحديث كوفي النشأة ، وأن يكون مصنوعاً في دار الضرب التي أشار إليها الإمام مالك . كما يزيدنا اطمئنانا إلى صحة المنهج الذي بدأت به ، واكتفيت بالرجوع إلى الكتب السبعة والموطأ . فالرجوع إلى غير هذه الكتب لم يضف إلينا جديدا .
فقه الحديث
مما سبق نرى أن حديث الثقلين التي صح سندها صح متنها ، وأن الروايات الثمانية التي تأمر بالتمسك بالعترة إلى جانب الكتاب الكريم لم تخل واحدة منها من ضعف في السند (1) } - - - { )، وفى متن هذه الروايات نجد الإخبار بأن الكتاب وأهل البيت لن يفترقا حتى يردا الحوض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن أجل هذا وجب التمسك بهما . ولكن الواقع يخالف هذا الإخبار ، فمن المتشيعين لأهل البيت من ضل وأضل ، وأكثر الفرق التي كادت للإسلام وأهله وجدت من التشيع لآل البيت ستاراً يحميها ، ووجدت من المنتسبين لآل البيت من يشجعها لمصالح دنيوية ، كأخذ خمس مايغنمه الأتباع ، وفرق الشيعة التي زادت على السبعين كل فرقة ترى أنها على صواب ، وأن غيرها قد ضل إن لم يكن قد كفر! ولسنا في حاجة إلى إثبات هذا القول ، فالكتب التي تبحث في الفرق ، وكتب الفرق ذاتها تبين هذا ، والجعفرية مثلاً عندما يشترطون للإيمان عقيدتهم في الأئمة الاثنى عشر يخرجون الأمة كلها من الإيمان ! وعقيدتهم هذه لا يسندها نص واحد من كتاب الله تعالى كما رأينا ، فإذا أمرنا
__________
(1) 187) ومع هذا الضعف جاء في كتاب المراجعات للموسوي بأنها متواترة ! (ص 51) ونسب للشيخ سليم البشرى أنه تلقى هذا القول بالقبول ! ( ص 54) وأنه طلب المزيد ، وذكر صاحب المراجعات روايات أخرى أشد ضعفاً ، ونسب للشيخ البشرى أنه أعجب بها ، ورآها حججاً ملزمة ! (ص 55-61) وسيأتي الحديث مرة أخرى عن هذا الكتاب .(176/452)
بالتمسك بأهل البيت فبمن نتمسك ؟ أبكل من ينتسب لأهل البيت ! وإن تركوا كتاب الله وسنة نبيه ! بالطبع لا .
إذن عدم الضلال يأتي من التمسك بالكتاب والسنة ، وإذا تمسك أهل البيت بهما كان لهم فضل الانتساب مع فضل التمسك واستحقوا أن يكونوا أئمة هدى يقتدي بهم كما قال تعالى:-
"وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا"أي أئمة نقتدى بمن قبلنا ، ويقتدي بنا من بعدنا(1) } - - - { ) ، ولا يختص هذا بأهل البيت ولكن بكل من يعتصم بالكتاب والسنة .
فالروايات التي ضعف سندها لا يستقيم متنها كذلك ، وهذا ضعف آخر ، ومع هذا كله فلو صحت هذه الروايات فإنها لا تدل على وجوب إمامة الأئمة الاثنى عشر وأحقيتهم للخلافة .
وللننظر في فقه روايات الحديث الكوفية .
قال العلامة المناوى في فيض القدير (3/14): " إن ائتمرتم بأوامر كتابه ، وانتهيتم بنواهيه ، واهتديتم بهدى عترتى ، واقتديتم بسيرتهم ، اهتديتم فلم تضلوا .
قال القرطبى : وهذه الوصية ، وهذا التأكيد العظيم ، يقتضى وجوب احترام أهله ، وإبرازهم وتوقيرهم ومحبتهم ، وجوب الفروض المؤكدة التي لاعذر لأحد في التخلف عنها " .
ثم قال المناوى بعد هذا (3/15): لن يفترقا : أي الكتاب والعترة ، أي يستمرا متلازمين حتى يردا على الحوض : أي الكوثر يوم القيامة .
__________
(1) 188) راجع البخاري – كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب الاقتداء بسنن الرسول ( .(176/453)
زاد في رواية : كهاتين ، وأشار بأصبعيه ، وفى هذا مع قوله أولاً : " إنى تارك " تلويح بل تصريح بأنهما كتوأمين ، خلفهما ووصى أمته بحسن معاملتهما ، وإيثار حقهما على أنفسهما ، واستمساك بهما في الدين ، أما الكتاب فلأنه معدن العلوم الدينية ، والأسرار والحكم الشرعية ، وكنوز الحقائق وخفايا الدقائق . وأما العترة فلأن العنصر إذا طاب أعان على فهم الدين ، فطيب العنصر يؤدى إلى حسن الأخلاق ، ومحاسنها تؤدى إلى صفاء القلب ونزاهته وطهارته . قال الحكيم : " والمراد بعترته هنا العلماء العاملون إذ هم الذين لا يفارقون القرآن . أما نحو جاهل وعالم مخلط فأجنبي من هذا المقام ، وإنما ينظر للأصل والعنصر عند التحلى بالفضائل ، والتخلى عن الرذائل ، فإن كان العلم النافع في غير عنصرهم لزمنا اتباعه كائناً ما كان ، ولا يعارض حثه هنا على اتباع عترته حثه في خبر على اتباع قريش ، لأن الحكم على فرد من أفراد العام بحكم العام لا يوجب قصر العام على ذلك الفرد على الأصح ، بل فائدته مزيد الاهتمام بشأن ذلك الفرد ، والتنويه يرفعه قدره . ثم قال الشريف : هذا الخبر يفهم منه وجود من يكون أهلاً للتمسك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كل زمن إلى قيام الساعة حتى يتوجه الحث المذكور إلى التمسك به ، كما أن الكتاب كذلك ، فلذلك كانوا أماناً لأهل الأرض ، فإن ذهبوا ذهب أهل الأرض " ا . هـ.
وقال ابن تيمية بعد أن بيَّن أن الحديث ضعيف لا يصح : " وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على أن أهل بيته كلهم لا يجتمعون على ضلالة . قالوا : ونحن نقول بذلك كما ذكر ذلك القاضى أبو يعلى وغيره " .
وقال أيضاً : " إجماع الأمة حجة بالكتاب والسنة والإجماع ، والعترة بعض الأمة ، فيلزم من ثبوت إجماع الأمة إجماع العترة " .
بالنظر في هذه الأقوال ، وبتدبر متن الحديث ، نقول :(176/454)
يجب ألا يغيب عن الذهن المراد بأهل البيت ، فكثير من الفرق التي رزئ بها الإسلام والمسلمون ادعت أنها هي التابعة لأهل البيت .
أهل البيت الأطهار لا يجتمعوا على ضلالة ، تلك حقيقة واقعة ، ونلحظ هنا أنهم في تاريخ الإسلام لم يجتمعوا على شىء يخالف باقي الأمة ، فالأخذ بإجماعهم أخذ بإجماع الأمة كما أشار ابن تيمية .
إذا نظرنا إلى أهل البيت كأفراد يتأسى بهم ، فمن يتأسى به منهم ، ونتمسك بسيرته ، لابد أن يكون متمسكاً بالكتاب والسنة ، فإن خالفهما فليس بمستحق أن يكون من أهل البيت .
وكل إنسان يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك فعند الخلاف نطبق قول الله :-
" فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ " (1) } - - تمهيد { )
لو كان ما ذكره الشريف من الفقه اللازم للحديث لكان في هذا ما يكفى لرفض المتن ، فالأيام أثبتت بطلانه ، وإلا فمن الذي نؤمر باتباعه في عصرنا هذا على سبيل المثال ؟
أبإحدى الفرق التي تنتسبب آل ؟ أم بجميع الفرق وكل فرقة ترى ضلال غيرها أو كفره ؟ أم بنسل آل البيت من غير الفرق ؟ !
5. فرق كبير بين التذكير بأهل البيت والتمسك بهم ، فالعطف على الصغير ، ورعاية اليتيم ، والأخذ بيد الجاهل ، غير الأخذ عن العالم العابد العامل بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثالثا : روايات أخرى متصلة بالغدير
هناك روايات أخرى متصلة بالغدير منها في المسند عن الإمام على سبع روايات هي (2) } - - - { ):-
__________
(1) 189) النساء - الآية 59 .
(2) 190) انظر الروايات وتخريج المرحوم شاكر لها في المسند ج 2 ، وأرقامها على التوالى 641 ، 670 ، 950 ، 951 ، 961 ، 964 ، 1310 .(176/455)
حدثنا ابن نمير ، حدثنا عبدالملك ، عن أبى عبدالرحيم الكندى ، عن زاذان أبى عمر قال : سمعت علياً في الرحبة وهو ينشد الناس : من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم وهو يقول ما قال ؟ فقام ثلاثة عشر رجلاً فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : من كنت مولاه فعلى مولاه .
حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا الربيع يعنى ابن أبى صالح الأسلمى ، حدثني زياد بن أبى زياد : سمعت على بن أبى طالب ينشد الناس فقال : أنشد الله رجلاً مسلماً سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم ما قال ؟ فقام اثنا عشر بدرباً فشهدوا .
قال عبد الله بن أحمد ، حدثنا على بن الحكيم الأودى ، أنبأنا شريك ، عن أبى إسحق ، عن سعيد بن وهب ، عن زيد بن يثُيع قالا : نشد على الناس في الرحبة : من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم إلا قام ؟ قال : فقام من قبل سعيد ستة ، ومن قبل زيد ستة ، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلى يوم غدير خم : أليس الله أولى بالمؤمنين ؟ قالوا : بلى ، قال : اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه .
قال عبد الله بن أحمد ، حدثنا على بن حكيم ، أنبأنا شريك ، عن أبى إسحق ، عن عمرو ذى مر ، بمثل حديث أبى إسحق ، يعنى عن سعيد وزيد ، وزاد فيه: وانصر من نصره ، واخذل من خذله .
قال عبد الله بن أحمد : حدثني عبد الله بن عمر القوايرى ، حدثنا يونس بن أرقم ، حدثنا يزيد بن أبى زياد ، عن عبدالرحمن بن أبى ليلى قال : شهدت علياً في الرحبة ينشد الناس :
أنشد الله من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم : من كنت مولاه فعلى مولاه لما قام فشهد ؟(176/456)
قال عبدالرحمن : فقام اثنا عشر بدرياً ، كانى أنظر إلى أحدهم ، فقالوا : نشهد أنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم : ألست أولى بالمؤمنين من انفسهم وأزواجى أمهاتهم ؟ فقلنا : بلى يا رسول الله ، قال : فمن كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه .
قال عبد الله بن أحمد : حدثنا أحمد بن عمر الوكيعى ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا الوليد بن عقبة بن نزار العنسى ، حدثني سماك بن العبيد ابن الوليد العبسى قال : دخلت على عبدالرحمن بن أبى ليلى ، فحدثنى أنه شهد علياً في الرحبة قال : أنشد الله رجلاً سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهده يوم غدير خم إلا قام ، ولا يقوم إلا من قد رآه ؟ فقام اثنا عشر رجلاً فقالوا : قد رأيناه وسمعناه حيث أخذ بيده يقول : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، فقام إلا ثلاثة لم يقوموا ، فدعا عليهم ، فأصابتهم دعوته .
قال عبد الله بن أحمد : حدثني حجاج بن الشاعر ، حدثنا شبابة ، حدثني نعيم بن حكيم ، حدثني أبو مريم ورجل من جلساء على عن على : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم غدير خم : من كنت مولاه فعلى مولاه ، قال : فزاد الناس بعد : وال من والاه ، وعاد من عاداه .
مناقشة الروايات(176/457)
هذه هي الروايات السبع ، والرواية الأولى سندها ضعيف ، إلا أن متنها صحيح وهو : " من كنت مولاه فعلى مولاه " ، والروايات الأخرى تؤيده ، كما أنه روى بطرق مختلفة عن غير الإمام على ، حتى عده بعض رجال الحديث من المتواتر أو المشهور (1) } - - - { ).
وفى الروايتين الثالثة والخامسة نجد زيادة " اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه " . وفى الرابعة " وانصر من نصره ، واخذل من خذله " ولكن نجد في السابعة " فزاد الناس بعد : وال من والاه ، وعاد من عاداه " .
فهذه الرواية تنص على أن الزيادة ليست من قول الرسول صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) 191) انظر كشف الخلفاء 2/274 , والرواية الساسة تتفق مع كثير من الروايات فيما عدا زيادة إنكار بعض الصحابة ودعاء الأمير عليهم ، وهى ضعيفة السند بحمد الله تعالى ، فاتفق هذا الضعف مع هذه الزيادة التي لم تأت في رواية صحيحة على الإطلاق ، والتي لا تستقيم مع ماعرف عن الصحابة الكرام ، فليس بمؤمن من يكتم شهادة حق ، وهذه شهادة معروفة لا ضرر في إظهارها ولا خير في إنكارها ، فلو كان هؤلاء ممن نافقوا لا من المؤمنين فلم يقدمون على هذا الكتمان ؟ وأنى هذا إذا كان الجرم ينسب لأنس بن مالك وزيد بن أرقم وبراء بن عازب وغيرهم من أجلاء الصحابة ! ثم أنى لمن تربى في بيت النبوة وتخلق بخلقها أن يدعو عليهم بدلاً من أن يدعو لهم ! ولكن هذه الاتهامات لخير قرن ـ مع ضعفها ـ تعجب بعض الشيعة فيلتقطونها من أي مصدر لتأييدها وترويجها . ( انظر مثلاً الغدير 1/191-195) .(176/458)
والإشكال هنا أن هذه الروايات الأربع صحيحة السند ، وفى المسند كذلك عن زيد بن أرقم عدة روايات في بعضها زيادة " اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه " ، وفى بعضها إنكار لهذه الزيادة (1) } - - - { ) ، وهذا يجعلنا نتوقف فلا نستطيع الحكم بأن هذا قول النبي الكريم أو زيادة الناس بعد إلا بمزيد من البحث للترجيح .
والمهم هنا دلالة المتن مع الزيادة أو بدونها ، أيعتبر هذا نصاً في أن الخلافة يجب أن تكون للإمام على ؟
سبق بيان أن الولى بمعنى المتولى للأمور والمستحق للتصرف فيها ، وبمعنى الناصر والخليل ، والقرآن الكريم عندما أمر بمولاة أقوام ، أو نهى عن موالاة آخرين جاءت الموالاة بمعنى النصرة والمحبة ، ولم تأت حالة واحدة بمعنى الولاية العامة على المؤمنين ، وهذه الروايات تأمر بموالاة الإمام على ونصرته وتنهى عن معاداته وخذلانه ، وهذا لا يخرج عن الاستعمال القرآنى كما هو واضح ، فإذا كان النهى عن المعاداة والخذلان ، فالأمر بالمحبة وهى الموالاة والنصرة ، ولا مكان للخلافة هنا ، ولو أرادها الرسول صلى الله عليه وسلم لكان التعبير بنص صريح لا يحتمل تأويلاً يخرجه عن معناه ، ولكانت القرائن كذلك تؤيده .
__________
(1) 192) انظر المسند ط الميمنية 4/368 – 373 .(176/459)
ومما يدل على أن المراد بالموالاة المحبة والنصرة لا الخلافة ، أن الإمام نشد الناس في الكوفة بعد أن آلت الخلافة إليه ، وأهل الكوفة - ومن ذهب معه إليها - بايعوه بلا خلاف ، ولكن أكثرهم خذلوه ولم ينصروه كما هو معلوم مشهور(1)
__________
(1) 193) للإمام على خطب كثيرة تبين تخاذل هؤلاء الشيعة ، يمكن الرجوع إليها في نهج البلاغة – وعندما أغار سفيان بن عوف بجنده على الأنبار ، ثم انصرفوا وافرين ، خطب الإمام خطبة منها : " فقبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضاً يرمى ، يغار عليكم ولا تُغيرون ، وتُغزَون ولا تَغزُون ، ويعصى الله وترضون ! فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الصيف قلتم : هذه حمارةّ القيظ ، أمهلنا يُسَّبح عنا الحر ، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارة القر ، أمهلنا ينسلخ عنا البرد ، كل هذا فراراً من الحر والقر ، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون فأنتم والله من السيف أفر !
يا أشباه الرجال و لا رجال ! حلوم الأطفال ، وعقول ربات الحجال ، لوددت أنى لم أركم ولم أعرفكم ! معرفة والله جرت ندماً ، وأعقبت سدماً ، قاتلكم الله ! لقد ملأتم قلبى قيحاً ، وشحنتم صدرى غيظاً ، وجرعتمونى نغب التهمام أنفاساً ، وأفسدتم على رأيى بالعصيان والخذلان ، حتى قالت قريش : إن ابن أبى طالب رجل شجاع ، ولكن لا علم له* *بالحرب " (نهج البلاغة ص 53 –54) (ترحاً : هماً و حزناً أو فقراً - حمارة القيظ : شدة الحر – سبخ عنا الحر : خفف – صبارة الشتاء : شدة برده – القر بالضمة : البرد – ربات الحجال : النساء – السدم : الهم مع أسف أو غيظ - النغب : جمع نغبة كجرعة لفظاً ومعنى – التهمام : الهم – أنفاساً : أي جرعة بعد جرعة ) .(176/460)
} - - - { ) ولو كان المراد بالموالاة الخلافة لاحتج بهذا على الخلفاء الراشدين السابقين وعلى من بايعهم ، وهذا لم يثبت على الإطلاق ، ولم أجد في كتب السنة التي رجعت إليها رواية واحدة تذكر مثل هذا الاحتجاج .
وفى الفصل الأول ذكرت ما رواه البخاري ومسلم عن بيعة أبى الحسن للصديق ، وليس فيها ذكر لشىء عن الغدير ، ولم ينكر الإمام على أحقية الصديق و لا فضله ، وسر المسلمون بذلك الموقف وقالوا لعلى : أصبت وأحسنت ، وكانوا إليه قريباً حين راجع المعروف ، أي حين بايع ، ولو نشد المسلمين هنا لشهد المئات ممن حضر الغدير ، ومنهم من شهد بعد ذلك بالفعل في الكوفة ، ولكنه بين سبب تأخره عن البيعة بقوله لأبى بكر : " إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله ، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك ، ولكنك استبددت علينا بالأمر ، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيباً " . وعند البيعة أمام المسلمين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر وتشهد ، وعظم حق أبى بكر ، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبى بكر ، ولا إنكاراً للذى فضله الله به ، " ولكننا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً ، فاستبد علنا ، فوجدنا في أنفسنا " .(176/461)
فالإمام على قد وجد في نفسه لأنه لم يشرك في أمر الخلافة واستبد بهغيره ، وله ما يؤيد وجهة نظره ، فأمر خطير كهذا لا يُقضى دون مشورة أبى الحسنين ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزوج ابنته فاطمة الزهراء ، إلى جانب فضله وسبقه وعلمه . وعذر أبى بكر وعمر وسائر الصحابة كان واضحاً - كما يقول النووى - لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين ، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتب عليه مفاسد عظيمة ،ولهذا أخروا دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة لأنها كانت أهم الأمور ، كيلا يقع نزاع في مدفنه أو كفنه أو غسله ، أو الصلاة عليه أو غير ذلك ، وليس لهم من يفصل الأمور ، فرأوا تقديم البيعة أهم الأشياء .
فلو كانت الموالاة تعنى الخلافة لاحتج بها على الصديق ومن بايعه ، ولما تمت البيعة أصلاً .
والشكوى التي من أجلها دافع الرسول صلى الله عليه وسلم عن أبى الحسن توضح أن المراد بالموالاه شىء آخر غير الخلافة ، أو على أقل تقدير لا ترجح أن الخلافة هي المراد .
وتبين الشكوى كذلك السبب في أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا في خطبته الجامعة يوم عرفة في حجة الوداع ، فلو كان المراد الخلافة لكان من الأرجح - إن لم يكن من المؤكد - أن يقال هذا في تلك الخطبة لا أن يقال بعد الشكوى(1)
__________
(1) 194) ذكر صاحب كتاب المراجعات أن الشيخ سليم البشرى لم يقتنع فقط بقول الجعفرية في تفسير كلمة المولى التي وردت في روايات الغدير ، بل كتب يخاطبه (ص 220) : " لو كان المراد الناصر أو نحوها ما سأل سائل بعذاب واقع ، فرأيكم في المولى ثابت مسلم ! " .
ولا أدرى أكان علامة زمانه شيخ الجامع الأزهر يجهل ما ذهب إلى جمهور المفسرين بلا خلاف من مكية سورة المعارج ؟ لقد ذكرت من قبل ما ذهب إليه جمهور المفسرين ، وموافقة الطوسي لهم ، وهو شيخ طائفة الجعفرية، وكذلك إمام المفسرين عند الجعفرية ، أكان شيخ الأزهر والمالكية جعفرياً أكثر من شيخ طائفتهم وإمام مفسريهم فاتخذ من السورة الكريمة ما يؤيد رأي صاحب المراجعات ؟ أم أن هذا نُسب كذباً لشيخ الأزهر – ولم يطبع الكتاب إلا بعد وفاته – كدأب كثير من أصحاب الفرق عند البحث عن طريق يسلكونها لتأييد مذهبهم ؟ وقد رأينا من قبل ما نسبه صاحب الغدير لشيخ المفسرين الطبري ! وسبق في ص 137 ما نسب للشيخ البشرى ، المسألة إذن تحتاج إلى نظر ! وقد دعانى هذا إلى تأليف كتاب " المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى " أثبت به يقيناً براءة الشيخ البشرى مما نسب له ، وبينت بالأدلة ضلال عبدالحسين مؤلف المراجعات ، بل كفره وزندقته .(176/462)
} - - - { ).
قال الآلوسى :
" ربما يستدل على أن المراد بالولاية المحبة بأنه لم يقع التقييد بلفظ بعدى ، والظاهر حينئذ اجتماع الولايتين في زمان واحد . ولا يتصور الاجتماع على تقدير أن يكون المراد أولوية التصرف بخلاف ما إذا كان المراد المحبة " (1) } - - - { ).
وإذا كان عدم التقييد بلفظ بعدى في جميع الروايات السابقة يؤيد ما ذهب إليه الآلوسى ، فإنى وجدت روايات فيها التقييد ،وربما يستدل بها على أن المراد بالولاية أولوية التصرف ، ويحمل المطلق على المقيد حينئذ ، وهذه الروايات نجدها في المسند وسنن الترمذي ، ففيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " إن علياً منى وأنا منه ، وهو ولى كل مؤمن بعدى" (2) } - - - { ) وزاد الترمذي : " هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من جعفر بن سليمان " . وجعفر هذا نجده في رواية الإمام أحمد كذلك ، ثم انفرد برواية أخرى عن طريق غير جعفر وفيها : " وإنه منى وأنا منه ، وهو وليكم بعدى " (3)[194]).
وجعفر بن سليمان من شيعة البصرة ، وهو متكلَّم فيه : وثقة ابن معين وعباس وابن حبان والبزار . قال ابن سعد : كان ثقة وبه ضعف ، وكان يتشيع .
وقال أبو طالب عن أحمد : لا بأس به . قيل له : إن سليمان بن حرب يقول لا يكتب حديثه ؟ فقال : إنما كان يتشيع ، وكان يحدث بأحاديث في فضل على ، وأهل البصرة يغلون في على . قلت عامة حديثة رقاق ؟ قال :
نعم ، كان قد جمعها وكان يحيى بن سعيد لا يروى عنه ، وكان يستضعفه . وكان عبدالرحمن بن مهدى يستثقل حديثه .
__________
(1) 192]) تفسير الآلوسى 2/351 .
(2) 193]) المسند ط الميمنية 4/438 ، والترمذى – كتاب المناقب – باب مناقب على بن أبى طالب رضي الله عنه .
(3) 194]) المسند 5 / 365 .(176/463)
وقال البخاري : يقال كان أميّاً ، وقال في الضعفاء ، يخالف في بعض أحاديثه . وقال ابن المديني : هو ثقة عندنا ، وقال أيضاً : أكثر عن ثابت ، وبقية أحاديثه مناكير .
وقال ابن شاهين في المختلف فيهم : إنما تكلم فيه لعلة المذهب ، وما رأيت من طعن في حديثه إلا ابن عمار يقول : جعفر بن سليمان ضعيف .
وبغير ترجيح لتوثيق جعفر بن سليمان أو تضعيفه يمكن القول بأن حديثاً ينفرد به ويتصل بمذهبه لا يرقى إلى مرتبة الاحتجاج .
والرواية الأخرى للإمام أحمد نجد في سندها الأجلح الكندى (1)[195]) ، وهو من شيعة الكوفة ، ومتكلَّم فيه أيضاً ، وثقه ابن معين والعجلى وابن عدى ، وقال يعقوب بن سفيان : ثقة حديثة لين .
وقال أحمد : روى الأجلح غير حديث منكر .
وقال القطان : في نفسى منه شىء . وقال أيضاً : ما كان يفصل بين الحسين ابن على وعلى بن الحسين ، يعنى أنه ما كان بالحافظ . وقال ابن حبان: كان لا يدرى ما يقول ، جعل أبا سفيان أبا الزبير .
وضعفه أبو داود والنسائى وأبو حاتم ، وقال ابن سعيد : كان ضعيفاً جداً ، بل وصمه الجوزجانى بالافتراء . إذن فهذه الرواية التي انفرد بها أحمد عن الأجلح لا يحتج بها ، ولا توجد روايات فيها تقييد بلفظ بعدى ، وبذا يظل ما ذكره الآلوسى صحيحاً .
رابعا : روايات أخرى يرى بعض الجعفرية أنها تؤيد مذهبهم
يرى بعض الجعفرية أنها تؤيد مذهبهم
بعد هذا كله نقول : إن الروايات السابقة هي جميع ما يتصل بالغدير عمدة أدلة الشيعة ، ومن عرضها ومناقشتها تبين لنا أنها لا تؤيد ما ذهب إليه الجعفرية
من القول في الإمامة ، وتوجد روايات أخرى يرى بعض الجعفرية أنها تؤيد مذهبهم ، نعرض أهمها ونناقشها بشىء من الإيجاز .
__________
(1) 198) انظر ترجمة كل منهما في تهذيب التهذيب .(176/464)
1-خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب في غزوة تبوك ، فقال : يا رسول الله تخلفنى في النساء والصبيان ؟ فقال : " أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدى " .
هذا الحديث الشريف رواه الشيخان وغيرهما (1) } - - تمهيد { ) ، وهو بلا شك يدل على فضل الإمام كرم الله وجهه ، وقد استخلف الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة آخرين(2) } - - - { ) ، فهذا الاستخلاف ليس خاصاً بأبى الحسن ، ومثل هذا الاستخلاف في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لايقتضى الخلافة في الأمة بعد مماته ، ولو أراد الرسول صلى الله عليه وسلم الخلافة العظمى لقالها ، فما يمنعه صلى الله عليه وسلم ولقال ذلك للمسلمين ، ووجب عليهم السمع والطاعة وإن ولى عليهم عبد حبشى مجدع الأطراف . وواضح من شكوى الإمام في جعله مع الخوالف من النساء والصبيان أن في قول الرسول صلى الله عليه وسلم ترضية لنفسه وتهدئة لخواطره ، فموسى استخلف هارون عليهما السلام عندما توجه إلى الطور ، ولكن الجعفرية يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم " أنزله منه منزلة هارون من موسى ، ولم يستثن من جميع المنازل إلا النبوة ، واستثناؤها دليل على العموم " (3) } - - - { ).
__________
(1) 199) راجع البخاري – كتاب المناقب – باب مناقب على بن أبى طالب- وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل على بن أبى طالب واللفظ لمسلم ، والمسند ج 3 رواية رقم 1463 وتخريج الشيخ شاكر لها .
(2) 200) استخلف الرسول ( على المدينة ابن أم مكتوم لما خرج لحرب بنى النضير ، وفى غزوة الخندق ، وعثمان بن عفان لما خرج لغزوة ذات الرقاع ، وأبا لبابة بن عبدالمنذر لما سار لغزوة بدر ( انظر المنتقى ص 53، 212) .
(3) 198]) المراجعات ص 152.(176/465)
وقولهم فيه نظر ، فمثلاً كان هارون أخاً لموسى وأفصح منه لساناً ، وهذا ينقض العموم ، لأن هاتين المنزلتين لا تتحققان لعلى . بل إن التطابق لا يتحقق في الاستخلاف ذاته ، فموسى استخلف أخاه على بنى إسرائيل وذهب هو للمناجاة ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم استخلف ابن عمه على المدينةوليس فيها إلا من لم يخرج للقتال من النساء ، والصبيان والعجزة ، أما عامة المسلمين فكانوا الجيش الذي خرج للقتال مع الرسول صلى الله عليه وسلم كما أن " هارون لم يل أمر بنى إسرائيل بعد موسى عليهما السلام ، وإنما ولى الأمر بعد موسى رضي الله عنه يوشع بن نون فتى موسى وصاحبها الذي سافر معه لطلب الخضر عليهما السلام ، كما ولى الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة " (1) } - - - { ).
2-روى الإمام البخاري عن جابر بن سمرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" يكون اثنى عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبى : إنه قال : كلهم من قريش (2) } - - - { ) " .
وروى الإمام مسلم عن جابر بن سمرة قال : دخلت مع أبى على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول : " إن هذا الأمر لا ينقضى حتى يمضى فيهم اثنا عشر خليفة ، قال : ثم تكلم بكلام خفى على قال : فقلت لأبى ما قال ؟ قال : كلهم من قريش " .
__________
(1) 199]) لفصل في الملل والأهواء والنحل ص 94، وانظر المنتقى حاشية ص 213 .
(2) 200]) كتاب الأحكام من صحيحه – باب الاستخلاف .(176/466)
وفى رواية أخرى " لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً " وفى إحدى الروايات كذلك " لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثنى عشر خليفة " (1) } - - - { ) ، وفى رواية لأبى داود " كلهم تجتمع عليه الأمة " (2) } - - - { ).
وتحديد الخلفاء باثنى عشر هو الذي جعل الاثنى عشرية يحتجون بهذه الروايات ، ولكن من الواضح أن هذه الروايات تشير إلى المدة التي يظل فيها عزة الإسلام والدين ، وصلاح حال المسلمين . وعلى قول الجعفرية تظل هذه العزة وهذا الصلاح إلى يوم القيامة كما يظهر من قولهم في الإمام الثانى عشر !
وواقع الأمر ودلالة الروايات يدلان على غير هذا . ومن الواضح كذلك أن الأمة لم تجتمع على أئمة الجعفرية ، بل لم يتولوا الخلافة أصلاً باستثناء الإمام على.
3-أخرج البخاري(3)[203]) عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : لما حضر النبي صلى الله عليه وسلم قال : وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال : هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدى. قال عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله . واختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال ، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال : قوموا عنى .
قال عبيد الله : فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم .
__________
(1) 201]) راجع مسلم – كتب الإمارة – باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش .
(2) 202]) راجع سنن أبى داود – كتاب المهدى .
(3) 203]) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب كراهية الخلاف .(176/467)
وعن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس : يوم الخميس ، وما يوم الخميس ؟ اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال : إئتونى أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً . فتنازعوا ، ولاينبغى عند نبي تنازع ، فقالوا : ماشأنه أهجر؟ استفهموه ، فذهبوا يردون عليه فقال : دعونى فالذى أنا فيه خير مما تدعوننى إليه ، وأوصاهم بثلاث ، قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، وسكت عن الثالثة ، أو قال : فنسيتها (1) } - - - { ).
وفى رواية للإمام أحمد (2)[205]) : حدثنا سفيان عن سليمان بن أبى مسلم خال ابن أبى نجيح ، سمع سعيد جبير يقول : قال ابن عباس : يوم الخميس ، وما يوم الخميس ، ثم بكى حتى بل دمعه - الحصى ، قلنا يا أبا العباس ، وما يوم الخميس ؟ قال : اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال : ائتونى أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً ، فتنازعوا ، ولا ينبغى عند نبي تنازع ، فقالوا ما شأنه ؟ أهجر ؟ قال سفيان : يعنى هذى ، استفهموه ، فذهبوا يعيدون عليه ، فقال : دعونى ، فالذى أنا فيه خير مما تدعونى إليه ، وأمر بثلاث ، وقال سفيان مرة أوصى بثلاث قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، وسكت سعيد عن الثالثة ، فلا أدرى أسكت عنها عمداً ، وقال مرة أو نسيها ؟ وقال سفيان مرة : وإما أن يكون تركها أو نسيها .
__________
(1) 204]) راجع صحيح البخاري – باب مرض النبي ( ووفاته .
(2) 205]) المسند ج 3 رواية رقم 1935 ،وانظر تخريج الشيخ شاكر وشرحه لها .(176/468)
ووردت هذه الروايات كذلك في صحيح مسلم (1)
__________
(1) 206]) كتاب الوصية – باب ترك الوصية ، وفى كتاب الجهاد والسير من صحيح البخاري – باب جوائز الوفد – جاءت رواية أخرى اختلفت النسخ في متنها (انظر طبعة مطابع الشعب سنة 1378 هـ ) ففي إحدى النسخ أسند الهجر إلى الرسول الكريم بغير استفهام ، ولكن في نسختين أخريين أثبتت همزة الاستفهام ، ولعلهما هنا أصح ، وهذا يتفق مع الروايات الأخرى ، وفى صحيح مسلم كانت الروايات بلفظ " أهجر" ولكن رواية جاءت بلفظ " إن رسول الله ( يهجر " هكذا بغير استفهام بل بأداة تأكيد ! وصاحب فتح البارى تحدث عن المراد بقولهم " أهجر " فقال : المراد به هنا ما يقع من كلام المريض الذي لا ينتظم ولا يعتد به لعدم* *فائدته ، ووقوع ذلك من النبي ( مستحيل ، لأنه معصوم في صحته ومرضه لقوله تعالى (3 : النجم ) { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } ، ولقوله ( : " إنى لا أقول في الغضب والرضا إلا حقاً". وإذا عرف ذلك فإنما قاله من قاله منكراً على من توقف في امتثال أمره بإحضار الكتف والدواة، فكأنه قال : كيف تتوقف ؟ أتظن أنه كغيره يقول الهذيان في مرضه ؟ ويحتمل أن بعضهم قال ذلك عن شك عرض له ، ولكن يبعده أن لا ينكره الباقون عليه من كونهم من كبار الصحابة ولو أنكروه عليه لنقل . ويحتمل أن يكون الذي قال ذلك صدر عن دهش وحيرة كما أصاب كثيراً منهم عند موته . ويحتمل أن يكون قائل ذلك أراد أنه اشتد وجعه فأطلق اللازم وأراد الملزوم ، لأن الهذيان الذي يقع للمريض ينشأ من شدة وجعه . وقيل : قال ذلك لإرادة سكوت الذين لغطوا ورفعوا أصواتهم عنده ، فكأنه قال : إن ذلك يؤذيه ويفضى في العادة إلى ما ذكره " .
ثم قال : وأوصاهم بثلاث أي في تلك الحالة ، وهذا يدل على أن الذي أراد أن يكتب لم يكن أمراً متحتماً ، لأنه لو كان مما أمر بتبليغه لم يكن يتركه لوقوع اختلافهم ، ويعاقب الله من حال بينه وبين تبليغه ، ولبلغه لهم لفظاً كما أوصاهم بإخراج المشركين وغير ذلك وقد عاش بعد هذه المقالة أياماً ، وحفظوا عنه أشياء لفظاً ، فيحتمل أن يكون مجموعها ما أراد أن يكتبه والله أعلم . ( انظر باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته ) .(176/469)
} - - تمهيد { ).
ولا تبدو صلة بين هذه الروايات وبين الإمامة ، ولكن الوصية الثالثة - التي نسيت أو تركت - كانت المدخل للجدال ! فوجدنا من الجعفرية من يقول بأن الصحابة " علموا أنه صلى الله عليه وسلم إنما أراد توثيق العهد بالخلافة ، وتأكيد النص بهذا علَى علىّ خاصة ، وعلى الأئمة من عترته عامة ، فصدوه عن ذلك كما اعترف به الخليفة الثانى في كلام دار بينه وبين ابن عباس ، وأنت إذا تأملت في قوله صلى الله عليه وسلم " ائتونى أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده " ، وقوله في حديث الثقلين : " إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ، كتاب الله وعترتى أهل بيتي " ، تعلم أن المرمى في الحديثين واحد ، وأنه صلى الله عليه وسلم أراد في مرضه أن يكتب لهم تفصيل ما أوجبه عليهم في حديث الثقلين " - كتاب المراجعات ص 284 ، وفى ص 255 قال : " ومع ذلك فقد أوصاهم عند موته بوصايا ثلاث : أن يولوا عليهم علياً ، وأن يخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأن يجيزوا الوفد بنحو ما كان يجيزه ، لكن السلطة والسياسة يومئذ ما أباحتا للمحدثين بوصيته الأولى ، فزعموا أنهم نسوها " .
ولسنا في حاجة إلى الحديث عن كبار الصحابة ، رضوان الله عليهم . وعن تنزيههم عن مثل هذه المفتريات ، ولكن يكفى أن نقول : بأن هذه الروايات ليست دليلاً قائماً بذاته وإنما يحتاج إلى أدلة أخرى لترجيح احتمالات الوصية الثالثة وما أريد كتابته ، ولذلك احتج بحديث الثقلين للاستدلال ، وهذا الحديث لم يصح له إسناد كما ثبت من قبل ، والذى صح حديث التمسك بالكتاب والسنة ، فلعله هو المراد من الوصية الثالثة .(176/470)
على أن ذلك من باب الترجيح لا الجزم (1) } - - - { ) . واتهام المحدثين بأنهم زعموا النسيان خوفاً من السلطة وميلاً مع السياسية ، وهم يعلمون أن الوصية خاصة بخلافة على ، هذا الاتهام لو صح فإنه يوجه إلى سعيد بن جبير ، ويكفى لرده أن يعرف تاريخ سعيد ، وشجاعته أمام الحجاج ، وأن نقرأ ما كتب عنه في كتب الجعفرية أنفسهم (2) } - - - { ) .
__________
(1) 207]) جاء في الموضع السابق من فتح البارى : " قال الداودى : الثالثة الوصية بالقرآن ، وبه جزم ابن التين . وقال المهلب : بل هو تجهيز جيش أسامة ، وقواه ابن بطال بأن الصحابة لما اختلفوا على أبى بكر في تنفيذ جيش أسامة قال لهم أبو بكر إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد بذلك عند موته . وقال عياض : يحتمل أن تكون هو قوله ( ولا تتخذوا قبرى وثنا ) فإنها ثبتت في الموطأ مقرونة بالأمر بإخراج اليهود . ويحتمل أن يكون ما وقع في حديث أنس أنها قوله : الصلاة وما ملكت أيمانكم .
(2) 208]) انظر ما كتب عنه في الغدير 1/65.(176/471)
وإن تعجب فعجب قولهم بأن الفاروق اعترف بأن الكتاب أريد به توثيق العهد بالخلافة لعلى والأئمة من عترته ، وأنه هو وكبار الصحابة صدوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك ! (1)
__________
(1) 209]) قال ابن تيمية : " من توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة على فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة ، وأما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبى بكر وتقديمه . وأما الشيعة القائلون بأن علياً كان هو المستحق للإمامة فيقولون أنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصاً جلياً ظاهراً معروفا ، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب ، وإن قيل : إن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور فلأن تكتم كتاباً حضره طائفة قليلة أولى وأحرى , وأيضاً فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته ، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك ، فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته لكان النبي ( يبينه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحد فإنه أطوع الخلق له ( أي للواجب ) . فعلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجباً ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ ، إذ لو وجب لفعله (المنتقى ص 349-350) .
وقال العقاد : " أما القول بأن عمر هو الذي حال بين النبي - صلى الله عليه وسلم - والتوصية باختيار على للخلافة بعده فهو قول من السخف بحيث يسىء إلى كل ذى شأن في هذه المسألة ،ولا تقتصر مساءته على عمر ومن رأي في المسألة مثل رأيه . فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدع بالكتاب الذي طلبه ليوصى بخلافة على أو خلافة غيره ، لأن الوصية بالخلافة لا تحتاج إلى أكثر من كلمة تقال ، أو إشارة كالإشارة التي فهم منها إيثار أبىبكر بالتقديم ، وهى إشارته إليه أن يصلى بالناس ، وقد عاش النبي بعد طلب الكتاب فلم يكرر طلبه ، ولم يكن بين على وبين لقائه حائل ،وكانت السيدة فاطمة زوج على عنده إلى أن فاضت نفسه الشريفة ، فلو شاء لدعى به وعهد إليه . وفضلاً عن هذا السكوت الذي لا إكراه فيه ، نرجع إلى سابقة من سنن النبي في تولية الولاة ، فنرى أنه كان يجنب آله الولاية ويمنع وراثة الأنبياء ، وهذه السنة مع هذا السكوت لا يدلان على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - أراد خلافة على فحيل بينه وبين الجهر بما أراد " . (عبقرية عمر ص 209-210) .(176/472)
} - - - { ) .
وسيأتي بعد قليل رواية الصحيحن عن عمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف .
خامسا : روايات لها صلة بموضوع الإمامة
مما سبق نرى أن السنة النبوية - كما روتها الكتب الثمانية وغيرها أيضاً مما رجعنا إليه - ليس فيها ما يؤيد عقيدة الشيعة الجعفرية في الإمامة ، وفى هذه الكتب وردت روايات أخرى لها صلة بموضوع الإمامة نعرضها ونناقشها فيمتا يأتي :-
من يؤمّر بعدك ؟
1- روى الإمام أحمد بسند صحيح (1) } - - - { ) عن الإمام على رضي الله عنه أنه قال : " قيل : يا رسول الله : من يؤمر بعدك ؟ قال : إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة ، وإن تؤمروا عمر تجدوه قوياً أميناً لا يخاف في الله لومة لائم ، وإن تؤمروا عليّاً ، ولا أراكم فاعلين تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الطريق المستقيم " .
وهذا الحديث الشريف يدل على أن الإمامة بالاختيار لا بالتعيين ، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يعين أحداً ، وإنما جعل هذا للمسلمين ، وذكر ثلاثة يصلحون لخلافته (2) } - - - { ).
الاستخلاف
2- روى الشيخان بسندهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : " قيل لعمر : ألا تستخلف ؟ قال : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى ؛ أبو بكر ، وإن أترك فقد ترك من هو خير منى ، رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأثنوا عليه فقال : راغب راهب ، وددت أنى نجوت منها كفافاً لا لي ولا على ، لا أتحملها حياً وميتاً " (3) } - - - { ) .
__________
(1) 213) انظر ج 2 – رواية رقم " 859" – وراجع بيان الشيخ شاكر لصحة الإسناد.
(2) 214) ذكر صاحب كتاب الغدير (1/12) الجزء الأخير فقط " وإن تؤمروا علياً " ولم يشر إلى الصاحبين ، وبذلك يتغير مدلول الحديث ليتفق مع عقيدته !
(3) 212]) راجع البخاري – كتاب الأحكام : باب الاستخلاف ، ومسلم : كتاب الإمارة باب الاستخلاف وتركه ، واللفظ للبخاري .(176/473)
وفى رواية أخرى لمسلم بسند آخر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : " دخلت على حفصة فقالت : أعلمت أن أباك غير مستخلف ؟ قال : فقلت : ما كان ليفعل . قالت : إنه فاعل . قال : فحلفت أنى أكلمه في ذلك ، فسكت حتى غدوت ولم أكلمه ، قال : فكنت كأنما أحمل بيمينى جبلاً حتى رجعت ، فدخلت عليه ، فسألنى عن حال الناس وأنا أخبره ، قال : ثم قلت : إنى سمعت الناس يقولون فآليت أن أقولها لك ، زعموا أنك غير مستخلف ، وإنه لو كان لك راعى إبل أو راعى غنم ثم جاءك وتركها رأيت أن قد ضيع ، فرعاية الناس أشد . قال : فوافقه قولى فوضع رأسه ساعة ثم رفعه إلىّ فقال : إن الله عز وجل يحفظ دينه ، وإنى لئن لا أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف ، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف . قال : فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فعلمت أنه لم يكن ليعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً ، وأنه غير مستخلف" (1) } - - - { ).
__________
(1) 213]) انظر الموضع السابق من صحيح مسلم ، وروى أبو داود عن ابن عمر أيضاً قال : قال عمر : إنى إن لا أستخلف ، فإن رسول الله ( لم يستخلف ، وإن استخلف فإن أبا بكر قد استخلف ، قال : فوالله إلا أن ذكر رسول الله ( وأبا بكر فعلمت أنه لا يعدل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحداً، وأنه غير مستخلف . ( انظر سنن أبى داود - كتاب الخراج والفىء والإمارة - باب في الخليفة يستخلف ) .
ددد(176/474)
وروى أحمد بسند صحيح عن الإمام على رضي الله عنه أنه قال : " لتخضبن هذه من هذا ، فما ينتظر بى الأشقى ؟ قالوا : ياأمير المؤمنين ، فأخبرنا به نبير عترته ! قال : إذن تالله تقتلون بى غير قاتلى ، قالوا : فاستخلف علينا ، قال : لا ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالوا : فما تقول لربك إذا أتيته ؟ قال : اللهم تركتنى فيهم ما بدا لك ، ثم قبضتنى إليك وأنت فيهم ، فإن شئت أصلحتهم ، وإن شئت أفسدتهم " .
وفى رواية بسند آخر أن الإمام قال : " والذى فلق الحبة وبرأ النسمة لتخضبن هذه من هذه ، قال الناس : فأعلمنا من هو ؟ والله لنبيرن عترته ! قال: أنشدكم بالله أن يقتل غير قاتلى ، قالوا : إن كنت قد علمت ذلك استخلف إذن . قال لا ، ولكن أكلكم إلى ما وكلكم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) } - - - { ).
فهذه الروايات تدل على أن عمر وعلياً رضي الله عنهما لم يستخلفا أحداً تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهى تشترك مع الرواية الأولى في الدلالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعين أحد لخلافته .
__________
(1) 217) انظر المسند ج 2 الروايتين 1078 ، 1339 ، وبالحاشية بيان الشيخ شاكر لصحة الإسناد .(176/475)
ويؤيد هذا أيضاً ما أخرجه أحمد بسند صحيح عن قيس بن عباد قال : " كنا مع على فكان إذا شهد مشهداً أو أشرف على أكمة أو هبط وادياً قال : سبحان الله ! صدق الله ورسوله ، فقلت لرجل من بنى يشكر : انطلق بنا إلى أمير المؤمنين حتى نسأله عن قوله صدق الله ورسوله ، قال : فانطلقنا إليه : فقلنا : يأأمير المؤمنين ، رأيناك إذا شهدت مشهداً ، أو هبطت وادياً ، أو أشرفت على أكمة ، قلت : صدق الله ورسوله ، فهل عهد رسول الله إليك شيئاً في ذلك ؟ قال : فأعرض عنا ، وألححنا عليه ، فلما رأي ذلك قال : والله ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً إلا شيئاً عهده إلى الناس ، ولكن الناس وقعوا على عثمان فقتلوه ، فكان غيرى فيه أسوأ حالاً وفعلاً منى ، ثم إنى رأيت أنى أحقهم بهذا الأمر فوثبت عليه ، فالله أعلم أصبنا أم أخطأنا (1) } - - - { ).
وكذلك يؤيد ما سبق ما رواه الشيخان وأحمد بأسانيد صحيحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم مات ولم يوص ، وقد روى هذا عن ابن عباس ، وعبد الله بن أبى أوفى ، والسيدة عائشة (2) } - - تمهيد { ) .
يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر
3- روى البخاري بسنده عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلوات الله عليه قال : " لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبى بكر وابنه فأعهد ، أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ، ثم قلت : يأبى الله ويدفع المؤمنون أو يدفع الله ويأبى المؤمنون " (3) } - - - { ) .
__________
(1) 218) انظر الرواية وصحة إسنادها بالمسند ج 2 رقم 1206.
(2) 219) راجع صحيح البخاري – باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته ، وكتاب التفسير : باب من قال لم يترك النبي ( إلا ما بين الدفتين ، وباب الوصاة بكتاب الله عز وجل - وراجع كذلك مسلم كتاب الوصية : باب ترك الوصية . والمسند حـ 5 روايات 3189 ، 3355 ،3356 .
(3) 220) البخاري - كتاب الأحكام – باب الاستخلاف.(176/476)
وروى مسلم عنها أيضاً أنها قالت : " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه : ادعى لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً ، فإنى أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " (1) } - - - { ) .
وأخرج أحمد في مسنده هذا الحديث الشريف بسند صحيح كسند مسلم ، وبسندين آخرين (2) } - - - { ).
وهذا الحديث الشريف يدل على أن الخلافة لو كانت بالنص لكانت لأبى بكر الصديق ، فهو الأولى بها ، وتم ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد أبى الله سبحانه والمؤمنون إلا أبا بكر .
__________
(1) 221) مسلم كتاب الفضائل – باب من فضائل أبى بكر الصديق .
(2) 219]) انظر المسند حـ 6 ص 47 ، 106 ، 144 و ذكر استاذ الفلسفة الدكتور أحمد محمود صبحى الرواية الأخيرة لهذا الحديث الشريف ، ولم يذكر مصادره بل اكتفى بنسبته لبعض أهل السنة ، ثم قال " و لا شك أن الوضع ظاهر في هذا الحديث ، وأنه أريد به معارضة حديث الشيعة في أمر كتاب النبي الذي ينسب إلى عمر* *أنه منعه ، ولو صح كتاب النبي إلى أبى بكر لكان نصاً جلياً لأبى بكر ، وهو ما لم يقل به جمهور المسلمين "
ورجل الفلسفة أقحم نفسه هنا فيما لا يعرف ، فحديث يرويه الشيخان والإمام أحمد بسند صحيح كيف يقال أنه موضوع بلا شك ؟ ! ومن المتهم بالوضع إذن ؟
والشيخان والإمام أحمد رووا الحديث الذي ظنه حديث الشيعة في أمر كتاب النبي وقال:بأن هذا وضع لمعارضته ! ورواية البخاري تدل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هم ولكنه لم يرسل ، فلا نصاً جلياً هنا لأبى بكر حتى يرفض الحديث لعدم صحة المتن .
والمؤلف كذلك اعتبر حديث التمسك بالكتاب والعترة من الأحاديث المتفق على صحتها عند أهل السنة ، مع أن رواياته لم تصح منها واحدة كما بينا من قبل . ( انظر كتابه نظرية الإمامة ص 235-236) .(176/477)
وأرى أن الرسول صلوات الله عليه قد مهد لخلافة الصديق بعدة أمور ، منها : جعله أمير الحج في العام التاسع ، ولما أرسل أبا الحسن بسورة براءة لم يرسله أميراً ، بل جعله تحت إمرة الصديق .
ومنها خطبته صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه ، فقد أخرج البخاري بسنده عن أبى سعيد الخدري قال : خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ماعند الله . فبكى أبو بكر رضي الله عنه ، فقلت في نفسى : ما يُبكى هذا الشيخ ، إن يكن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ماعنده فاختار ما عند الله ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد ، وكان أبو بكر أعلمنا .
قال : يا أبا بكر لا تبك ، إن أمنّ الناس على في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتى لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبى بكر " .
وأخرج البخاري أيضاً بسنده عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصباً رأسه بخرقة ، فقعد على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إنه ليس من الناس أحد أمن على في نفسه وماله من أبى بكر بن أبى قحافة ، ولو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن خلة الإسلام أفضل ، سدوا عنى كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبى بكر " (1) } - - - { ).
وروى الخطبة كلُُّ من أحمد والترمذى بسند صحيح (2) } - - - { ).
__________
(1) 223) راجع صحيح البخاري – كتاب الصلاة : باب الخوخة والممر في المسجد .
(2) 224) راجع المسند جـ 4 رواية رقم 2432 . والترمذى : كتاب المناقب : باب مناقب أبى بكر الصديق .(176/478)
ومما مهد كذلك لخلافة الصديق أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤم المسلمين في الصلاة عندما اشتد المرض ولم يستطع صلى الله عليه وسلم أن يؤمهم ، واستمر المسلمون مأمومين خلف أبى بكر إلى أن انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى .
وروى أحمد في مسنده بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود ، وروى النسائي عنه أيضاً (1) } - - - { ) قال : " لما ُقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فأتاهم عمر فقال : يا معشر الأنصار ، ألستهم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس ؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر ؟ فقالت الأنصار : نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر " . فإمامة الصلاة إذن مما مهد للإمامة الكبرى (2)
__________
(1) 225) انظر المسند ج 1 رواية رقم 133 ، وانظر كذلك ج 5 الروايتين 3765 ، 3842 وانظر سنن النسائي – كتاب الإمامة ، واللفظ لأحمد .
(2) 226) ذكر سيدى عبدالقادر الجيلانى –الذي ينتهى نسبه إلى الحسن بن على بن أبى طالب رضي الله عنهم – أن خلافة أبى بكر رضي الله عنه كانت باتفاق المهاجرين والأنصار وفيهم* *الإمام على ، وذكر قول عمر في إمامة الصلاة التي رواها الإمام أحمد ، ثم قال : " قيل في النقل الصحيح : لما بويع أبو بكر الصديق قام ثلاثاً يقبل على الناس يقول : ياأيها الناس أقلتكم بيعتى ، هل من كاره ؟ فيقوم على في أوائل الناس فيقول : لا نقيلك و لا نستقيلك أبداً ، قدمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن يؤخرك ؟ وبلغنا عن الثقات أن علياً - رضي الله عنه - كان أشد الصحابة قولاً في إمامة أبى بكر رضي الله عنه . وروى أن عبد الله بن الكواء دخل على على بعد قتال الجمل وسأله : هل عهد إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر شيئاً ؟ فقال : نظرنا في أمرنا فإذا الصلاة عضد الإسلام ، فرضينا لدنيانا بما رضي الله ورسوله لديننا ، فولينا الأمر أبا بكر ".
انظر الغنية 1/68 ، وراجع كذلك القول في عدم تأخر الإمام على عن المبايعة فيما نقلناه عن فتح البارى في حاشية ص 18 من فصل الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة .(176/479)
} - - - { ).
ومما مهد لهذه الإمامة كذلك ما رواه الشيخان بأسانيدهما عن جبير بن مطعم قال : أتت النبيصلى الله عليه وسلم امرأة فكلمته في شئ فأمرها أن ترجع إليه ، قالت : يا رسول الله ، أرأيت إن جئت ولم أجدك كأنها تريد الموت ، قال : إن لم تجديني فأتي أبا بكر (1) } - - - { ).
المهدى
4-أخرج أحمد في مسنده عن الإمام على قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المهدى منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة ".
وفى رواية أخرى " لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث الله عز وجل رجلاً منا ، يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً " .
وفى المسند أيضاً عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى يلى رجل من أهل بيتي ، يواطئ اسمه اسمى " .
__________
(1) 227) انظر البخاري كتاب الأحكام : باب الاستخلاف ، ومسلم كتاب فضائل الصحابة : باب من فضائل أبى بكر الصديق ، واللفظ للبخاري .(176/480)
وفى رواية ثانية : " لا تذهب الدنيا أو قال : لا تنقضى الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي ويواطئ اسمه اسمى " ، ووردت هذه الرواية بأسانيد أخرى (1) } - - - { ).
__________
(1) 228) سئل أستاذنا العلامة المحقق محمود محمد شاكر عن المهدى قال : الحديث عن المهدى متصل بالمسيح والمسيح الدجال ، فالثلاثة من علامات الساعة ، وسيكونون في وقت واحد ، ومن هنا يظهر خطأ من يجعل المهدى منفصلاً عن غيره . وسيكون المهدى حاكماً كسائر الحكام ، ثم يهديه الله – سبحانه وتعالى – ويصلحه في ليلة . وأشار سيادته إلى خطأ الشيعة وأمثالهم ، وخطأ المنكرين لأحاديث المهدى صحيحة . وفى صحيح مسلم قول الرسول ( : " لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة . قال : فينزل عيسى بن مريم - عليه السلام - فيقول أميرهم : تعال صل لنا ، فيقول : لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمه الله هذه الأمة " .وعقب الشيخ ناصر الدين الألبانى على كلمة " أميرهم " بقوله : " هو المهدى محمد بن عبد الله - عليه السلام - كما تظاهرت بذلك الأحاديث بأسانيد بعضها صحيح ، وبعضها حسن ، وقد خرجت شيئاً منها في ( الأحاديث الضعيفة ) " . انظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم 2061 .(176/481)
وأحاديث المهدى لم يرد منها شىء في الصحيحين ، ولكنها جاءت في المسند وكتب السنن ، وكثر حولها الجدل . والذى يعنينا هنا هو أن الأحاديث منها صحيحة الأسانيد بما لايدع مجالاً لرفضها (1) } - - تمهيد { ) ومع هذا فإنها لا تدل على أنه المهدى الذي قالت به " الجعفرية " وإنما هو رجل من أهل البيت يُبعث قبيل الساعة ، وفى بعض الروايات أنه يحكم خمس سنين أو سبعاً أو تسعاً (2) } - - - { ).
فلابد من أحاديث أخرى تبين أنه الإمام الثانى عشر المعين بالنص ، الذي بقى من القرن الثالث الهجرى إلى قيام الساعة (3) } - - - { ) !
__________
(1) 229) انظر روايات المسند وتخريجها : جـ 2 ، جـ 5 ، جـ 6 ، : روايات 645 ، 773 ، 3571 ، 3572 ، 3573 ، 4098 ، 4279 .
(2) 230) انظر الترمذي - كتاب الفتن : باب ما جاء في المهدى ، وفى سنن ابن ماجة " يكون في أمتى المهدى ، إن قصر فسبع ، وإلا فتسع ". (كتاب الفتن - باب خروج المهدى ، وانظر سنن أبى داود - كتاب المهدى ) .
(3) 231) ذهبت فرقة الشيخية – التي خرجت على الجعفرية – إلى أن المهدى سيوجد بالولادة مما أثار غضب الاثنى عشرية . (انظر المهدية في الإسلام ص 241) .(176/482)
وهاذا ما لم نجده في كتب الحديث الثمانية التي التزمنا الرجوع إليها ، ولا في غيرها من الكتب التي رجعنا إليها ، بل وجدنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعين أحداً للخلافة من بعده كما ذكرنا من قبل ، والإمام الثانى عشر الذي قالت به الجعفرية تبع لقولهم في باقي الأئمة . ووجدنا كذلك في بعض الأحاديث ما ينقض قول الجعفرية ، ففيها " يؤاطئ اسمه اسمى واسم أبيه اسم أبى " . وفيها أن علياً نظر إلى ابنه الحسن رضي الله عنهما فقال : إن ابنى هذا سيد كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم صلى الله عليه وسلم يشبهه في الُخلق ولا يشبهه في الخْلق صلى الله عليه وسلم.... يملأ الأرض عدلاً (1) } - - - { )
وبعد : فتلك سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم تشهد بصحة ما ذهب إليه جمهور المسلمين ، وتشهد بأن الإمامة ما كانت بنص ولا تعيين . فالحمد لله عز وجل الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله .
الفصل الرابع
الاستدلال بالتحريف والوضع
__________
(1) 232) فالمهدى إذن اسمه محمد بن عبد الله وليس محمد بن الحسن ، وينتهى نسبه إلى الحسن لا إلى الحسين رضي الله عنهما .( انظر عون المعبود شرح سنن أبى داود – كتاب المهدى 11 / 370 ، 371 ، 381 ، 382 ) وفى التفسير الكاشف للعالم الجعفرى محمد جواد مغنية أشار إلى المهدى وأحاديثه وقال : وفى هذا المعنى أحاديث كثيرة وصحيحة ، منها ما رواه أبو داود في كتاب السنن – و هو أحد الصحاح السته : " قال رسول الله : لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمى واسم أبيه اسم أبى " … ( 5/302 ) .
ولا ندرى لم ذكر هذا الحديث الشريف واعترف بصحته مع أنه يخالف عقيدته !(176/483)
رأينا في الفصول السابقة أن عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية لا تستند إلى شيء من القرآن الكريم ، واستدلالاتهم تبنى على روايات متصلة بأسباب النزول ، وتأويلات انفردوا بها ، ولم يصح شيء من هذا ولا ذاك بما يمكن أن يكون دليلا يؤيد مذهبهم .كما رأينا أن السنة النبوية المطهرة لا تؤيد هذه العقيدة الباطلة ، بل تعارضها، وتثبت بطلانها بكثير من الأحاديث الصحيحة الصريحة .
والإسلام ـ عقيدة وشريعة ـ إنما يستمد من الكتاب العزيز والسنة المشرفة . وكان إذن يمكن الاكتفاء بما سبق والانتقال إلى موضوع آخر ، غير أننى رأيت أن كتبهم التي يحاولون بها إفساد المجتمع المسلم ، ونشر هذه العقيدة الباطلة ، رأيت هذه الكتب لا تكتفي بما سبق مما ناقشناه من الأدلة ، بل تلجأ إلى تحريف القرآن الكريم نصا ومعنى ، وجمع الروايات المختلفة للأحاديث الموضوعة والباطلة ، وتقدم كل هذا على أنه أدلة ثابتة أو يقينية متواترة تؤيد عقيدتهم . وغير أهل الاختصاص ، وهم الكثرة ، بل عامة الناس ، لا يستطيعون أن يميزوا بين الروايات الصحيحة وغير الصحيحة .
ولذلك كان من المناسب كشف هذا التضليل وبيان هذا الباطل . ومن الكتب القديمة التي حاولت إفساد المجتمع المسلم آنذاك كتاب " منهاج الكرامة في معرفة الإمامة " لابن المطهر الحلي وقد رد عليه بالتفصيل ممن عاصره شيخ الإسلام ابن تيمية بكتابه القيم الفذ " منهاج السنة النبوية " .
وفى عصرنا وجدنا كتابا طبع منه ملايين النسخ ، أو مئات الآلاف على أقل تقدير ، حاول مؤلفه أيضا أن يفسد المجتمع المسلم المعاصر ، وأن يشككه في عقيدته الصحيحة ، ويزين له باطل هذا الرافضي ، وهذا الكتاب المشهور هو كتاب المراجعات لعبد الحسين شرف الدين الموسوي ، وقد رددت عليه بكتابي" المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى " .(176/484)
وفى هذا الفصل أتناول شيئا من كتابى الرافضيين ، والرد عليهما ، وبيان بعض ما جاء فيهما من الباطل والضلال ، كما نبين منهج الرافضة في التضليل، والله عز وجل هو المستعان .
تحريف القرآن الكريم
للاستدلال بالقرآن الكريم على عقيدة الرافضة ، سلكوا كغيرهم من الفرق الضالة مسلك التحريف في النص والمعنى ، وسنرى هذا بوضوح وجلاء عند دراستنا لكتب تفسيرهم ، وبيان موقفهم من القرآن الكريم ، وكذلك عند عرضنا لكتابهم الأول ـ والأعلى عندهم ـ في الحديث ، وهو كتاب الكافى ، وذلك أثناء عرض الأبواب والأخبار المتصلة بالقرآن المجيد .
وعبد الحسين في كتابه نرى المراجعة الثانية عشرة تدور حول ما أسماه " حجج الكتاب " ، وذكر فيها كثيرا من الآيات الكريمة ، وحرف معناها حتى بدا القرآن الكريم كأي كتاب من كتب الفرق الضالة وليس " ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ" ، " وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ " فعلى سبيل المثال جاء في هذه المراجعة أن الرافضة هم مراد الله تعالى فيمن ذكر أنهم أصحاب الجنة ، والمتقون ، وخير البرية ، ... إلى آخره ، أما خير أمة أخرجت للناس من الصحابة الكرام الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه ، فهؤلاء في زعم خليفة ابن سبأ هم أصحاب النار ، والفجار ، والكفار ، وكذلك خير البشر بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم أبو بكر الصديق ، وعمر الفاروق ، حيث خصهما بمزيد من الطعن ؛ فهما في زعمه الجبت والطاغوت وأئمة الضلال . وهكذا يستمر هذا الرافضي اللعين في زندقته وضلاله مما يوجب إقامة الحد عليه .(176/485)
وما ذكره هذا الرافضي يردده غلاة الرافضة في كتبهم واستدلالاتهم . ومعظم ما ذكره هنا سبقه إليه ابن المطهر الحلى ، حيث جاء بأربعين آية كريمة ، وحرف معناها لتتفق مع ضلاله . وقد أثبتها كاملة شيخ الإسلام وأجاب عنها ، وفصل بطلان الاستدلال بها في الجزء السابع من منهاج السنة ( من بدايته إلى ص 297 ) ولولا الإطالة لنقلت تلك الصفحات ، ففيها إقناع وإمتاع ، وفضح للغلاة الرافضة . وسأكتفى هنا بذكر جزء جاء في بداية الرد على البرهان الأول ، وهو نفسه الدليل الأول الذي ذكرته في الفصل الثانى من هذا الباب ، وهو ما يتعلق بقوله تعالى " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ?"( 55 : المائدة ) بعد ذكر كلام الرافضي قال شيخ الإسلام :
والجواب من وجوه : أحدها : أن يقال : ليس فيما ذكره ما يصلح أن يقبل ظنا، بل كل ما ذكره كذب وباطل ، من جنس السفسطة ، وهو لو أفاده ظنونا كان تسميته براهين تسمية منكرة ؛ فإن البرهان في القرآن وغيره يطلق على ما يفيد العلم واليقين ، كقوله تعالى:
" وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " ( سورة البقرة : 111 ) .
وقال تعالى :
" أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " ( سورة النمل : 64 ) .
فالصادق لابد له من برهان على صدقه ، والصدق المجزوم بأنه صدق هو المعلوم .(176/486)
وهذا الرجل جميع ما ذكره من الحجج فيها كذب ، فلا يمكن أن يذكر حجة واحدة جميع مقدماتها صادقة ، فإن المقدمات الصادقة يمتنع أن تقوم على باطل . وسنبين إن شاء الله تعالى عند كل واحدة منها ما يبين كذبها ، فتسمية هذه براهين من أقبح الكذب.
ثم إنه يعتمد في تفسير القرآن على قول يحكى عن بعض الناس ، مع أنه قد يكون كذبا عليه ، وإن كان صدقا فقد خالفه أكثر الناس . فإن كان قول الواحد الذي لم يُعلم صدقه ، وقد خالفه الأكثرون برهانا ، فإنه يقيم براهين كثيرة من هذا الجنس على نقيض ما يقوله فتتعارض البراهين فتتناقض ، والبراهين لا تتناقض .
بل سنبين إن شاء الله تعالى قيام البراهين الصادقة التي لا تتناقض على كذب ما يدعيه من البراهين ، وأن الكذب في عامتها كذب ظاهر ، لا يخفى إلا على من أعمى الله قلبه ، وأن البراهين الدالة على نبوة الرسول حق ، وأن القرآن حق ، وأن دين الإسلام حق ـ تناقض ما ذكره من البراهين ، فإن غاية ما يدّعيه من البراهين إذا تأمله اللبيب ، وتأمل لوازمه وجده يقدح في الإيمان والقرآن والرسول .
وهذا لأن أصل الرفض كان من وضع قوم زنادقة منافقين ، مقصودهم الطعن في القرآن والرسول ودين الإسلام ، فوضعوا من الأحاديث ما يكون التصديق به طعنا في دين الإسلام ، وروجوها على أقوام ، فمنهم من كان صاحب هوى وجهل ، فقبلها لهواه ، ولم ينظر في حقيقتها . ومنهم من كان له نظر فتدبرها فوجدها تقدح في حق الإسلام ، فقال بموجبها ، وقدح بها في دين الإسلام ، إما لفساد اعتقاده في الدين ، وإما لاعتقاده أن هذه صحيحة وقدحت فيما كان يعتقده من دين الإسلام .
ولهذا دخلت عامة الزنادقة من هذا الباب ؛ فإن ما تنقله الرافضة من الأكاذيب تسلَّطوا به على الطعن في الإسلام ، وصارت شبها عند من لم يعلم أنها كذب ، وكان عنده خبرة بحقيقة الإسلام .(176/487)
وضلت طوائف كثيرة من الإسماعيلية والنصيرية ، وغيرهم من الزنادقة الملاحدة المنافقين ، وكان مبدأ ضلالهم تصديق الرافضة في أكاذيبهم التي يذكرونها في تفسير القرآن والحديث ، كأئمة العُبيْديين إنما يقيمون مبدأ دعوتهم بالأكاذيب التي اختلقتها الرافضة ، ليستجيب لهم بذلك الشيعة الضُلاَّل ، ثم ينقلون الرجل من القدح في الصحابة ، إلى القدح في علىّ ، ثم في النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم في الإلهية ، كما رتبه لهم صاحب البلاغ الأكبر ، والناموس الأعظم . ولهذا كان الرفض أعظم باب ودهليز إلى الكفر والإلحاد .
ثم نقول : ثانيا : الجواب عن هذه الآية حق من وجوه : الأول : أنا نطالبه بصحة هذا النقل ، أو لا ُيذكر هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة ؛ فإن مجرد عزوه إلى تفسير الثعلبى ، أو نقل الإجماع على ذلك من غير العالمين بالمنقولات ، الصادقين في نقلها ، ليس بحجة باتفاق أهل العلم ، إن لم نعرف ثبوت إسناده . وكذلك إذا روى فضيلة لأبى بكر وعمر ، لم يجز اعتقاد ثبوت ذلك بمجرد ثبوت روايته باتفاق أهل العلم .
فالجمهور ـ أهل السنة ـ لا يثبتون بمثل هذا شيئا يريدون إثباته : لا حكما، ولا فضيلة ، ولا غير ذلك . وكذلك الشيعة .
وإذا كان هذا بمجرده ليس بحجة باتفاق الطوائف كلها ، بطل الاحتجاج به . وهكذا القول في كل ما نقله وعزاه إلى أبى نُعيم أو الثعلبى أو النقاش أو ابن المغازلى ونحوهم .
الثانى : قوله : " قد أجمعوا أنها نزلت في علىّ " من أعظم الدعاوى الكاذبة ، بل أجمع أهل العلم بالنقل على أنها لم تنزل في علىّ بخصوصه ، وأن عليا لم يتصدق بخاتمه في الصلاة ، وأجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع .(176/488)
وأما ما نقله من تفسير الثعلبى ، فقد أجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبى يروى طائفة من الأحاديث الموضوعات ، كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة عن أبى أمامة في فضل تلك السورة ، وكأمثال ذلك . ولهذا يقولون : " هو كحاطب ليل " .
وهكذا الواحدى تلميذه ، وأمثالهما من المفسرين : ينقلون الصحيح والضعيف .
ولهذا لما كان البغوى عالما بالحديث ، أعلم به من الثعلبى والواحدى ، وكان تفسيره مختصر تفسير الثعلبى ، لم يذكر في تفسيره شيئا من هذه الأحاديث الموضوعة التي يرويها الثعلبى ، ولا ذكر تفاسير أهل البدع التي ذكرها الثعلبى ، مع أن الثعلبى فيه خير ودين ، لكنه لا خبرة له بالصحيح والسقيم من الأحاديث ، ولا يمّيز بين السنة والبدعة في كثير من الأقوال .
وأما أهل العلم الكبار : أهل التفسير ، مثل تفسير محمد بن جرير الطبري، وبقىّ بن مخلد ، وابن أبى حاتم ، وابن المنذر ، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم ، وأمثالهم ـ فلم يذكروا فيها مثل هذه الموضوعات .
دع من هو أعلم منهم ، مثل تفسير أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه . بل ولا ُيذكر مثل هذا عند ابن حُميد ولا عبد الرزاق ، مع أن عبد الرزاق كان يميل إلى التشيع ، ويروى كثيرا من فضائل علىّ ، وإن كانت ضعيفة ، لكنه أجل قدرا من أن يروى مثل هذا الكذب الظاهر .
وقد أجمع أهل العلم بالحديث على أنه لا يجوز الاستدلال بمجرد خبر يرويه الواحد ، من جنس الثعلبى والنقَّاش والواحدى ، وأمثال هؤلاء المفسرين ، لكثرة ما يروونه من الحديث ويكون ضعيفا ، بل موضوعا . فنحن لو لم نعلم كذب هؤلاء من وجوه أخرى ، لم يجز أن نعتمد عليه ، لكون الثعلبى وأمثاله رووه ، فكيف إذا كنا عالمين بأنه كذب ؟ !(176/489)
... وسنذكر إن شاء الله تعالى ما يبيّن كذبه عقلا ونقلا ، وإنما المقصود هنا بيان افتراء هذا المصنف أو كثرة جهله ، حيث قال : " قد أجمعوا أنها نزلت في علىّ " فيا ليت شعرى من نقل هذا الإجماع من أهل العلم العالمين بالإجماع في مثل هذه الأمور ؟ فإن نقل الإجماع في مثل هذا لا يُقبل من غير أهل العلم بالمنقولات ، وما فيها من إجماع واختلاف .
فالمتكلم والمفسّر والمؤرخ ونحوهم ، لو ادّعى أحدهم نقلا مجرداً بلا إسناد ثابت لم يُعتمد عليه ، فكيف إذا ادّعى إجماعا ؟ !
الوجه الثالث : أن يقال : هؤلاء المفسرون الذين نقَلَ من كتبهم ، هم ـ ومن هم أعلم منهم ـ قد نقلوا ما يناقض هذا الإجماع المدَّعَى ، والثعلبى قد نقل في تفسيره أن ابن عباس يقول : نزلت في أبى بكر . ونقل عن عبد الملك : قال : سألت أبا جعفر ، قال : هم المؤمنون . قلت : فإن ناسا يقولون : هو علىّ . قال : فعلىُّ من الذين آمنوا . وعن الضحاك مثله .
وروى ابن أبى حاتم في تفسيره عن أبيه قال : حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثنا معاوية بن صالح ، حدثنا علىّ بن أبى طلحة ، عن ابن عباس في هذه ، قال: " كل من آمن فقد تولَّى الله ورسوله والذين آمنوا " . قال : وحدثنا أبو سعيد الأشجّ عن المحاربىّ ، عن عبد الملك بن أبى سليمان ، قال : سألت أبا جعفر محمد بن علىّ عن هذه الآية ، فقال : " هم الذين آمنوا " . قلت : نزلت في علىّ ؟ قال : علىّ من الذين آمنوا . وعن السدى مثله .
الوجه الرابع : أنّا نعفيه من الإجماع ، ونطالبه أن ينقل ذلك بإسناد واحد صحيح . وهذا الإسناد الذي ذكره الثعلبى إسناده ضعيف ، فيه رجال متهمون . وأما نقل ابن المغازلى الواسطى فأضعف وأضعف ، فإن هذا قد جمع في كتابه من الأحاديث الموضوعات ما لا يخفى أنه كذب عَلىَ من له أدنى معرفه بالحديث ، والمطالبة بإسناد يتناول هذا وهذا .
واستمر شيخ الإسلام إلى أن ذكر تسعة عشر وجها .(176/490)
والملاحظ أن ابن المطهر كان أكثر ترتيبا وتنظيما من خلفه رافضى المراجعات ، وأنه كان ضالا غاليا رافضيا خبيثا ، ومع هذا كله كان أقل فحشا وسوءا من عبد الحسين .
والملاحظ أيضا أن عبد الحسين ذكر المراجع التي رجع إليها ابن المطهر ، غير أنه أضاف إليها مراجع أخرى ، فأكثر من النقل من الصواعق المحرقة ، وسيأتي الحديث عنه لفضح منهج هذا الرافضي في نقله من الكتب ، كما نقل من مراجع تحتاج إلى وقفة خاصة .
من هذه المراجع صحيح البخاري !
ومن المسلم به بين جمهور الأمة أنه أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى ، فكيف يستدل به هذا الرافضي ؟ ! وما عهدناه يستدل بغير الموضوع والباطل . فلننظر ماذا أخذ من صحيح البخاري .
قال الرافضي : وقال ـ أي الله عز وجل فيهم وفى خصومهم :
" هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ" ( 19 : الحج )
وقال في الحاشية : أخرج البخاري في تفسير سورة الحج بالإسناد إلى علي قال : أنا أول من يجثو بين يدى الرحمن للخصومة يوم القيامة . ( قال البخاري ) : قال قيس : وفيهم نزلت : " هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ " ، قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : على وصاحباه حمزة وعبيدة ، وشيبة بن ربيعة وصاحباه عتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة .
قلت : نزول هذه الآية الكريمة في الذين بارزوا يوم بدر من المسلمين وكفار قريش أخرجه الإمام البخاري في التفسير وفى المغازي من صحيحه ، كما أخرجه غيره . والاختصام هنا واضح أنه بين المسلمين وغيرهم وهم الكفار، وبينت الآية الكريمة جزاء الذين كفروا ، وما سيلقونه في جهنم .(176/491)
ومن المعلوم أن الذين خرجوا للمبارزة أولا كانوا من الأنصار ، فرفض المشركون ، فخرج هؤلاء الثلاثة الكرام . وكان خلفهم جيش المسلمين بقيادة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ، ومعه أبو بكر الصديق في العريش ، وهو مركز القيادة ، وليس معه غيره . وممن شهد بدرا عمر وعثمان (1)[230]) رضي الله عنهم جميعا . والرافضى جعل هذه المراجعة لحجج الكتاب التي تثبت ما عليه الرافضة من القول بإمامة على ومن بعده ، وتبطل ما عليه جمهور المسلمين من مبايعة أبى بكر بالخلافة ، ومن بعده من الخلفاء الراشدين . وهذا يعنى أن الرافضي ـ لعنة الله عليه ـ جعل الرافضة وحدهم هم المسلمين ، وجعل الخلفاء الراشدين الثلاثة ومن بايعوهم هم الذين كفروا ، وقطعت لهم ثياب من نار .
أي أن الآية الكريمة ـ بحسب فريته ـ لم تجعل الاختصام بين المسلمين وكفار قريش ، وإنما في أهل بدر أنفسهم ممن كانوا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأولهم من كان معه في العريش حيث كان أول الخلفاء الراشدين بعد ذلك .
فالرافضى أخذ الخبر الصحيح من البخاري ، ثم وضع أهل بدر ـ رضي الله عنهم ورضوا عنه ـ بدلا من كفار قريش ! ! انظر كيف يفترى علىالكذب !( ومع كل هذا الكفر والفجور فسينسب للإمام البشرى إعجابه بحججه ، واتهامه لمن خالف هذا الرافضي ! ولذلك أثبت يقينا أن المراجعات المنسوبة لشيخ الأزهر البشرى ، علامة زمانه ، افتراها عليه الرافضي عبد الحسين )
هذا هو أحد خبرين أخذهما من صحيح البخاري .
وإليك الخبر الثانى :
__________
(1) 233) تخلف عثمان على امرأته رقية بنت رسول الله ـ ( ـ ، وكانت مريضة ، فتوفيت وجاءت البشرى بالفتح حين دفنت ، فضرب له رسول الله ـ ( ـ بسهمه من الغنيمة ، وبأجره من المشهد ، فهو بدرى ـ جوامع السيرة النبوية لابن حزم ص 88.(176/492)
قال تعالى :" إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" (56: الأحزاب )
نقل الرافضي عن البخاري ومسلم أيضا ما يأتي :
" فقالوا : يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ قال : قولوا : اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد ، الحديث " ثم قالالرافضي : " فعلم بذلك أن الصلاة عليهم جزء من الصلاة المأمور بها في هذه الآية " . ا . هـ.
قلت : هذه رواية متفق على صحتها ، ولكن من الآل ؟
ذكرت عند آية التطهير أن طائفة من العلماء احتجوا على أن الآل هم الأزواج والذرية بما جاء في الصحيحين عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما سئل : كيف نصلى عليك ؟ فقال : " قولوا : اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته ، كما صليت على آل ابراهيم ، وبارك على محمد وأزواجه وذريته . . . إلخ " فهذه الرواية مفسرة للرواية الأولى . ونحن نعرف موقف الرافضة من أمهات المؤمنين .
والرافضة يزعمون أن فرقتهم هي مذهب أهل البيت في الأصول والفروع ، وزعمهم يحتاج إلى وقفة من البداية لتجلية هذا الأمر ، وإزالة هذا اللبس والتلبيس ، فقد كان لهذا أثره على السذج من الناس الذين لا يعرفون حقيقةهذه الفرقة .
ومن المعروف أن عشرات الفرق من الشيعة ينازع بعضها بعضا في هذا الزعم ، بل إن عبد الله بن سبأ ـ الذي وضع فكرة الوصي بعد النبي صلى الله عليه وسلم وتبنتها فرق الغلاة ـ يزعم أنه هو نفسه من أتباع أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونحدد أولا المراد بالأهل :
جاء في المعجم الوسيط تحت مادة أهل :
أهل يأهل أهلا وأهولا : تزوج ، وأهل المكان أهولا : عمر بأهله ، وأهل فلانة : تزوجها .
والأهل : الأقارب والعشيرة والزوجة .
وأهل الدار ونحوها : سكانها .(176/493)
وفى معجم ألفاظ القرآن الكريم لمجمع اللغة العربية قال في مادة أهل :أهل : يحدد معناه بما يضاف إليه .
فأهل الرجل : زوجه ، وعشيرته ، وذوو قرباه .
وأهل الدار : سكانها .
وأهل الكتاب ، وأهل الإنجيل ، وأهل القرية ، وأهل المدينة ، ... إلخ : من يجمعهم الكتاب ، أو الإنجيل ... إلخ .
ثم أشار إلى الآيات الكريمة التي ورد فيها كلمة أهل .
وروى الإمام البخاري بسنده عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال :
" بنى على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بزينب بنت جحش بخبز ولحم ، فأرسلت على الطعام داعيا ... فخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فانطلق إلى حجرة عائشة فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله ، فقالت : وعليك السلام ورحمة الله ، كيف وجدت أهلك ؟ بارك الله لك .. فتقرى حجر نسائه كلهن ، يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن له كما قالت عائشة (1)[231]) .
من هذا نرى أن أهل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هم : زوجاته أمهات المؤمنين ـ رضي الله تعالى عنهن ، وذريته وذوو قرباه ـ رضي الله تعالى عنهم : كعلى بن أبى طالب ، وابن عباس وأبيه ، وجعفر ، وغيرهم . وأهل السنة والجماعة يقدرون أهل البيت جميعا حق قدرهم ، وينزلون هؤلاء الأطهار منزلتهم ، ويأخذون بما صح عنهم من الأحاديث و الآثار ، وكتبنا تشهد بذلك : انظر مثلا ما روى عن فضائلهم في كتب السنة المشرفة ، وما روى عنهم من الأحاديث الشريفة والآثار .
والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يختص أحدا بعلم دون غيره ، وإنما علم صحابته الكرام ، وأهل بيته الأطهار ، وعلى الأخص زوجاته أمهات المؤمنين .
__________
(1) حيح البخاري ـ كتاب التفسير ـ باب " لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم .." .(176/494)
والصحابة الكرام جميعا ـ سواء منهم من كان من أهل البيت ومن كان من غيرهم من المهاجرين والأنصار ، هم خير أمة أخرجت للناس ، شهد لهم ربهم عز وجل في كثير من آيات كتابه البينات المحكمات ، وكفى بالله شهيدا ، وشهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما أعظم شهادة من لا ينطق عن الهوى ، المبلغ والمبين عن الله ـ سبحانه وتعالى .
وعن هؤلاء الصحابة الكرام ، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، نقل إلينا كتاب ربنا العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وسنة نبينا المطهرة ، وما يتصل بهما من البيان والأحكام ، فتم علينا نعمة الله ـ تبارك وتعالى .
ولذلك اشتهر قول أبى زرعة الرازى :
" إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاعلم أنه زنديق . وذلك أن القرآن حق ، والرسول حق ، وما جاء به حق . وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة ، فيكون الجرح به أليق ، والحكم عليه بالزندقة والضلال أقوم وأحق " .
هذا موقف جمهور المسلمين من خير القرون ، فما موقف عبد الحسين وفرقته ؟
أما موقفهم من غير أهل البيت من الصحابة الكرام ، فليس موقف انتقاص فقط كما قال أبو زرعة ، وإنما سنجد في كتبهم التي قال عنها عبد الحسين في مراجعات تأتى فيما بعد : بأنها مقدسة ، ومتواترة ـ ما يشيب لهوله الولدان . سنجد الطعن والتفسيق ، بل التكفير والنفاق .. لمن ؟ لخير أمة أخرجت للناس !! وسيأتي هذا مفصلا في موضعه من كتابنا هذا .(176/495)
وما موقفهم من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أمهات المؤمنين ، وهن أول المراد من أهل البيت ، فهن : الصديقة بنت الصديق ، عائشة ـ رضي الله عنهما ـ المعلوم منزلتها عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومنزلتها العلمية وما استدركته على الصحابة ...إلخ ، غير أنها بنت خير البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى متواترا عن على رضي الله تعالى عنه ، وعن غيره ، وهذه الفرقة ترى أنه أول من اغتصب الخلافة ، وموقف أم المؤمنين من أمير المؤمنين على معروف ـ وإن نقل مشوها ، ولذلك فهم لا يأخذون شيئا من علمها الذي علمها إياه زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل يعتبرونها ـ والعياذ بالله ـ كافرة لأنها اشتركت في الحرب ضد الإمام ، وهذا واضح فيما سبق من بيان عقيدة الإمامة عندهم .
وأم المؤمنين حفصة لم تسلم من طعن هذه الفرقة ، لموقفهم من أمير المؤمنين عمر الفاروق ـ رضي الله عنه : ففي قوله تعالى :
" ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا "(1)[232]) نرى الطعن في تفسير هذه الفرقة :
يقول أحد علمائهم ، بل علامتهم المجلسى : " لا يخفى على الناقد البصير والفطن الخبير ما في تلك الآيات من التعريض ، بل التصريح بنفاق عائشة وحفصة وكفرهما !! " (2)[233]) .
كما طعنوا في أمهات المؤمنين : أم حبيبة ، وصفية وسودة رضي الله تعالى عنهن (3)[234]). ( انظر إلى ما ذكره عبد الحسين من الكتب المقدسة التي تحمل علم أهل البيت !! )
__________
(1) 235) التحريم - 01
(2) 233]) بحار الأنوار جـ 22 ص 33 .
(3) 234] ) انظر كتابى : بين الشيعة والسنة . دراسة مقارنة في التفسير وأصوله ، ص 255 .(176/496)
ولم يقف الأمر عند أمهات المؤمنين ، بل طعنوا في غيرهن من أهل البيت : فهذا مثلا عبد الله بن عباس ، حبر الأمة وترجمان القرآن ، وأبوه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ماذا قالوا فيهما ؟
من أهم كتبهم وأقدمها التي يرى عبد الحسين وغيره أن كل ما جاء فيه صحيح : تفسير على بن إبراهيم القمي ، وستأتى دراسة مفصلة لهذا الكتاب ، ونجد القمي يروى أن ابن عباس ، وأباه ، نزل فيهما قوله تعالى : " وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً" (1)[235]) ، وفى أبيه نزل قوله تعالى : " وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " (2)[236])
ولم يقف أمر هؤلاء القوم عند هذا الحد ، بل تجرءوا على بنات النبي صلى الله عليه وسلم غير السيدة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنهن جميعا وأرضاهن ! أي والله بنات النبي نفسه صلى الله عليه وسلم !
فقوم عبد الحسين لا يريدون أن يكون لأحد شرف مصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم غيرعلى رضي الله تعالى عنه ، ولذلك الذين اجترءوا على القرآن الكريم وقالوا بتحريفه ، منهم من ذكر أن سورة الشرح أسقط الصحابة منها : وجعلنا عليا صهرك(3)[237]) .
__________
(1) 238) 72 : الإسراء .
(2) 239) 34 : هود ، وانظر فرية القمي في تفسيره 2 / 23 .
(3) 240) سيأتي الحديث عن موقف هذه الفرقة من القرآن الكريم في الجزء الثانى .(176/497)
فإذا كان علي من أهل البيت ، وله شرف الزواج من إحدى بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن عثمان من أهل البيت أيضا(1)[238]) ، وله شرف الزواج من اثنتين ـ لا واحدة فقط من بنات النبي الطاهرات صلى الله عليه وسلم ، فرقية تزوجها بعد إسلامه ، وهاجر بها إلى الحبشة ، ثم إلى المدينة حيث ماتت بعد بدر بثلاثة أيام . وأصغر بنات الرسول صلى الله عليه وسلم هي أم كلثوم ، كانت لابن عمها عتبة بن أبى لهب ، وطلقها قبل أن يدخل بها ، وكانت هي التي لا تزال بغير زواج بعد أن تزوج على أختها فاطمة الزهراء ، فتزوجها عثمان بعد موت أختها رقية عنده سنة ثلاث من الهجرة .
أما أكبر بنات النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن جميعا ـ فهى زينب ، تزوجها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف . وهو ابن هالة بنت خويلد أخت السيدة خديجة رضي الله عنها ، وهو كما نرى من نسبه يعد من أهل البيت .
هؤلاء هن بنات النبي الأربعة ، والأزواج الثلاثة ، فما موقف هذه الفرقة من هؤلاء السبعة ، وهم جميعا من أهل البيت ؟
رأينا من قبل عند بيان عقيدتهم في الإمامة كيف أنهم جعلوا فاطمة الزهراء وزوجها ـ رضي الله تعالى عنهما ـ فوق الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين ، فيعتبر هذا عندهم من ضروريات المذهب ، أي أن من لم يعتقد هذا فليس مؤمنا ، وواضح أن هذا من مقالات الغلاة وعقائدهم الباطلة وذو النورين بايع الشيخين ، وتولى الخلافة بعدهما ، فهو في زعمهم ممن اغتصب هذا المنصب الإلهي ، ولذلك فإن كتبهم ـ التي أشار إليها عبد الحسين واعتبرها مقدسة متواترة ـ تجعله من الكفار والمنافقين والعياذ بالله .
__________
(1) 241) انظر بيان قرابته من الرسول ( في كتاب " ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه " للشيخ محب الدين الخطيب : ص 5 ، 6 .(176/498)
وأبو العاص ولدت له زينب ابنته أمامه التي جاء في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم حملها وهو يصلى . وتزوج على أمامه هذه بعد موت خالتها فاطمة . ومات أبو العاص في خلافة أبى بكر الصديق في ذى الحجة سنة اثنتى عشرة(1)[239]).
أما أخوات الزهراء الطاهرات فماذا قالوا عنهن ؟
قال أحد علمائهم : " رقية وزينب كانتا ابنتى هالة أخت خديجة ، ولما مات أبوهما ربيتا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسبتا إليه كما كانت عادة العرب في نسبة المربى إلى المربى . وهما اللتان تزوجهما عثمان بعد موت زوجيهما "(2)[240]) . ا . هـ .
ومعلوم أن زينب بنت خير البشر صلى الله عليه وسلم لم يتزوجها عثمان ، ولم يمت زوجها قبلها ، فقد مات في خلافة أبى بكر ـ كما ذكر من قبل ـ زوجها أبو العاص . أما هي فقد ماتت في أول سنة ثمان من الهجرة . وأخرج مسلم في الصحيح بسنده عن أم عطية قالت : لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اغسلنها وترا ، ثلاثا أو خمسا ، واجعلن في الآخرة كافورا " .
وزوجها أبو العاص ابن هالة بنت خويلد أخت السيدة خديجة ، فهل تزوج أخته بنت أمه هالة ؟ !
أفيعتبر هذا المفترى الكذاب من أتباع أهل البيت ؟ ! أم أن أهل البيت الأطهار منه براء ، ومن أمثاله سائر الغلاة الروافض ؟
أما الطاهرتان رقية و أم كلثوم فهما اللتان تزوجهما ذو النورين . وفى كتاب منهاج الشريعة ، الذي ألفه محمد مهدى للرد على منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية ، جاء الحديث عن أختى الزهراء ـ رضي الله عنهن ـ في أكثر من موضع .
__________
(1) 242) انظر ترجمة أبى العاص في باب الكنى من الجزء الرابع من الإصابة لابن حجر ، ص 121 : 123 ترجمة رقم 692 .
(2) 240]) انظر زبدة البيان ـ حاشية ص 575 .(176/499)
ومما قاله : " ما زعمه ـ أي ابن تيمية ـ من أن تزويج بنتيه لعثمان فضيلة له من عجائبه ، من حيث ثبوت المنازعة في أنهما بنتاه " (1)[241]) وقال : " لم يرد شىء من الفضل في حق من زعموهن شقيقاتها بحيث يميزن به ولو عن بعض النسوة " (2)[242]).
وقال : " قد عرفت عدم ثبوت أنهما بنتا خير الرسل ـ صلى الله عليه وسلم وعدم وجود فضل لهما تستحقان به الشرف والتقدم على غيرهما " (3)[243]).
أهؤلاء إذن أتباع مذهب أهل البيت ؟ أم أعداء أهل البيت الأطهار ؟ وما الفرق بينهم وبين دعوى ابن سبأ وحقيقته ؟
ولتأكيد أن الرافضة كاذبون في زعمهم حب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نذكر شيئا من سيرة آل البيت الأطهار يفضح هؤلاء الرافضة :
زوج على ابنته عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما ، وهذا يؤكد معنى طيبا يجمع بين الخليفتين الراشدين يفهمه أي عاقل ، فإذا بالرافضة يقولون : " ذاك فرج غصبناه " !! ويفترون روايات تذكر أن عليا زوج ابنته خوفا من عمر وتهديده له !! ( انظر وسائل الشيعة 14 / 433 ـ 434 ) .
وهذا ليس إساءة إلى عمر وحده كما يظهرون ، وإنما هو إساءة أشد إلى على الذي يسلبه ما عرف عنه من شجاعة وإقدام ، فيبدو ذليلا جبانا !! وسيأتي لهذا مزيد بيان في الجزء الرابع عند الحديث عن النكاح .
ونترك هذا ونأتى إلى ما يبين مدى حب آل البيت الأطهار للخلفاء الراشدين الثلاثة الذين عرفنا موقف الرافضة منهم ، وسأترك كتب جمهور المسلمين وآتى إلى كتاب من كتب الشيعة ألفه السيد أبو القاسم الخوئى الذي كان المرجع الأعلى للشيعة بالعراق ، وهو كتاب معجم رجال الحديث :
ونقرأ في هذا الكتاب الأرقام الآتية للتراجم وهى :
( 7618 ، 8729 ، 8731 ، 8787 ، 8788 ، 14000 ، 14002 ) .
هذه التراجم لسبعة رجال فمن هم ؟
__________
(1) 244) منهاج الشريعة 2 / 289 .
(2) 245) المرجع نفسه 2 / 290 .
(3) 246) منهاج الشريعة 2 / 291 .(176/500)
كلهم من آل البيت الأطهار ، وكلهم أبو بكر أو عمر أو عثمان .. تأمل ! فأما الإمام على فقد اختار أسماء إخوانه الثلاثة جميعا فسمى بهم أبناءه ، منهم أبو بكر و عثمان اللذان قتلا مع أخيهما الحسين في واقعة الطف . وقتل أيضا عمر مع أبيه الحسين ، وأبو بكر بن الحسن مع عمه الحسين ، وعمر بن الحسن مع عمه الحسين.
هؤلاء آل البيت الأطهار : على والحسن والحسين ، وأولادهم أبو بكر وعمر وعثمان ، فاعتبروا يا أولى الأبصار ، وتدبروا سيرة آل البيت الأطهار ، وبراءتهم من الرافضة الفجار .
وفى كتاب كشف الأسرار ( ص 17 ،18) يقول السيد حسين الموسوي تحت عنوان :
الحقيقة في انتساب الشيعة لأهل البيت : "إن من الشائع عندنا معاشر الشيعة ، اختصاصنا بأهل البيت ، فالمذهب الشيعي كله قائم على محبة أهل البيت – حسب رأينا – إذ الولاء والبراء مع العامة – وهم أهل السنّة – بسبب أهل البيت ، والبراءة من الصحابة ، وفى مقدمتهم الخلفاء الثلاثة ، وعائشة بنت أبى بكر بسبب الموقف من أهل البيت ، والراسخ في عقول الشيعة جميعاً صغيرهم وكبيرهم ، عالمهم وجاهلهم ، ذَكَرهم وأنثاهم ، أنّ الصحابة ظلموا أهلّ البيت ، وسفكوا دماءهم واستباحوا حرماتهم .
وإن أهل السنّة ناصبوا أهل البيت العداء ، ولذلك لا يتردد أحدنا في تسميتهم بالنواصب ، ونستذكر دائماً دم الحسين الشهيد رضي الله عنه ولكن كُتبنا المعتبرة عندنا تُبيّن لنا الحقيقة ، إذ تذكر لنا َتذمُّرَ أهلِ البيت صلوات الله عليهم من شيعتهم ، وتذكر لنا ما فعله الشيعة الأوائل بأهل البيت ، وتذكر لنا من الذي سفك دماء أهل البيت عليهم السلام ، ومن الذي تسبب في مقتلهم واستباحة حرماتهم .
قال أمير المؤمنين رضي الله عنه : " لو ميزت شيعتى لما وجدتهم إلا واصفة ، ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين ، ولو تمحّصتهم لما خلص من الألف واحد " " الكافى / الروضة " (8/338)(177/1)
وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه : " ياأشباه الرجال و لا رجال ، حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال ، لّوددت ُ أنّى لم أركم ولم أعرفكم ، معرفةُ جرّت والله ندماً وأعقبت سَدَماً (1) } - - - { )… قاتلكم الله ! لقد ملأتم قلبي قيحاً ، وشحنتم صدري غيظاً ، وجرَّعتمونى نغب التهمام أنفاسا ، وافسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان ، حتى لقد قالت قريش : إن ّ ابن أبى طالب رجل شجاع ولكن لا علم َ له بالحرب ، ولكن ْ لا رأي َ لمن لا يطاع " . " نهج البلاغة " ( ص 70، 71)
وقال لهم موبّخاً : منيت بكم بثلاث ، واثنتين : " صُمُّ ذوو أسماع ، وبكم ذوو كلام ، وعُمْى ذوو أبصار ، لا أحرار وصُدُق‘ عند اللقاء ، ولا إخوان‘ ثقة عند البلاء ... قد انفرجتم عن ابن أبى طالب انفراجَ المرأة عن قُبُلها " . " نهج البلاغةَّ " ( ص 142)
قال لهم ذلك بسبب تخاذلهم وغدرهم بأمير المؤمنين رضي الله عنه ، وله فيهم كلام كثير .
وقال الإمام الحسين رضي الله عنه في دعائه على شيعته : " اللهم إنْ متَّعهم إلى حين ففرقهم فرقاً ، واجعلهم طرائق قدداً ، ولا تُرْضِ الولاة عنهم أبداً ، إنَّهم دَعَوْنا لينصرونا ثم عَدَْوا علينا فقتلونا " . " الإرشاد المفيد " ( ص 241).
وقد خاطبهم مرة أخرى ودعا عليهم ، فكان مما قال :
" لكنكم استسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الدباء ، وتهافتم كتهافت الفراش ، ثم نقضتموها ، سفهاً وبعداً وسحقاً لطواغيت هذه الأمة وبقية الأحزاب ونَبَذَةِ الكتاب ، ثم أنتم هؤلاء تتخاذلون عنا وتقتلوننا ، ألا لعنةُ الله على الظالمين " . " الاحتجاج " (2/24).
وهذه النصوص تبيّن لنا مَنْ هم قتلةُ الحسين الحقيقيون ، إنهم شيعة أهل الكوفة، أي أجدادنا ، فلماذا نُحَمل أهلَ السنة مسؤولية مقتل الحسين رضي الله عنه ؟!
__________
(1) 247) السدم : الهم . والنُّغَب : جمع نغبة كجرعة وجُرع . والتهمام : الهم .(177/2)
ولهذا قال السيد محسن الأمين : " بايع الُحسَيْنَ من أهل العراق عشرون ألفاً غدروا به وخرجوا عليه ، وبيعته في أعناقهم ، وقتلوه " . " أعيان الشيعة " ( القسم الأول)
وقال الحسن رضي الله عنه: " أرى والله معاوية خيراً لي من هؤلاء ، يزعمون أنّهم لي شيعة ، ابتغوا قتلى وأخذوا مالى ، والله لأن آخذ من معاوية ما أحقنُ به من دمى ، وآمن به في أهلي خير من أن يقتلونى ، فيضيع أهل بيتي ، والله لو قاتلتُ معاوية لأخذوا بعنقى حتى يدفعوا بى إليه سلماً ، والله لأن أُسالمه وأنا عزيز خيرُ من أن يقتلنى وأنا أسير " . " الاحتجاج " (2/10).
وقال الإمام زين العابدين رضي الله عنه لأهل الكوفة : " هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبى وخدعتموه ، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق ، ثم قاتلتموه وخذلتموه ... بأي عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله يقول لكم : قاتلتم عترتى ، وانتهكتم حرمتى ؛ فلستم من أمتى " . " الاحتجاج " (2/32)
وقال أيضاً عنهم : " إن هؤلاء يبكون علينا فَمَنْ قتلَنا غيرُهم ؟ " . " الاحتجاج " (2/29).
وقال الباقررضي الله عنه : " لو كان الناس كلّهم لنا شيعة لكان ثلاثة أرباعهم لنا شكاكاً ، والربع الآخر أحمق " . " رجال الكشّي " (ص 79).
وقال الصادق رضي الله عنه" أما والله لو أجد منكم ثلاثة مؤمنين يكتمون حديثى ما استحللت ُ أن أكتمهم حديثاً " . " أصول الكافى " (1/496). انتهى . هذا بعض ما قاله العالم الشيعي .
بعد بيان موقف الرافضة من أهل البيت الأطهار نعود مرة أخرى للنظر في المراجع :
ومن المراجع التي ذكرها عبد الحسين تفسير مجاهد ، ومجاهد كما نعلم تلميذ حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ وذكرت من قبل طعن الرافضة فيهما .
قال الرافضي :
عن تفسير مجاهد ويعقوب بن سفيان عن ابن عباس في قوله تعالى :(177/3)
" وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا "، أن دحية الكلبى جاء يوم الجمعة من الشام بالميرة ، فنزل عند أحجار الزيت ، ثم ضرب بالطبول ليؤذن الناس بقدومه، فنفر الناس إليه ، وتركوا النبي ?صلى الله عليه وسلم قائما يخطب على المنبر إلا عليا والحسن والحسين وفاطمة وسلمان وأباذر والمقداد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد نظر الله إلى مسجدى يوم الجمعة ، فلولا هؤلاء لأضرمت المدينة على أهلها نارا ، وحصبوا بالحجارة كقوم لوط . وأنزل الله فيمن بقى مع رسول الله في المسجد قوله تعالى :
" يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ" الآية .
قلت : نظرت في تفسير مجاهد ، وهو مطبوع ، فلم أجد ما سبق . ثم نظرت في الدر المنثور ( 6 / 220 ـ 221 ) فوجدت الروايات المختلفة التي ذكرت من بقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تنص على أبى بكر وعمر . وأول هذه الروايات هي ما روى عن جابر بن عبد الله ، وفيها : " لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا : أنا فيهم ، وأبو بكر ، وعمر " .
والحافظ ابن حجر في الفتح عند شرحه لحديث جابر الذي أورده البخاري في كتاب الجمعه من صحيحه ، وفيه . " ما بقى مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا " قال ابن حجر :
وأما تسميتهم فوقع في رواية خالد الطحان عند مسلم أن جابرا قال : " أنا فيهم " وله في رواية هشيم " فيهم أبو بكر وعمر " .
ثم قال : وروى العقيلى عن ابن عباس " أن منهم الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأناسا من الأنصار " .
وليس في أي رواية من الروايات كلها ذكر للحسن أو الحسين .
أما الآية الأخيرة وهى رقم 36 من سورة النور فلم يذكر في تفسيرها وأسباب النزول ما ذكره الرافضي من أن الرافضة هم رجال التسبيح !! فقد أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما:-(177/4)
" فِي بُيوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ " الآية قال : هي المساجد تكرم ونهى عن اللغو فيها "وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ" يتلى فيها كتابه " يُسَبِّحُ " يصلى " لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ " صلاة الغداة " وَالْآصَالِ " صلاة العصر، وهما أول ما فرض الله من الصلاة ، وأحب أن يذكرهما ، ويذكرهما عباده. ( الدر المنثور 5 / 50 ) .
وأخرج ابن أبى حاتم عن الضحاك في قوله تعالى:- " رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ " قال : هم في أسواقهم يبيعون ويشترون، فإذا جاء وقت الصلاة لم يلههم البيع والشراء عن الصلاة .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس"? رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ...." قال : عن شهود الصلاة المكتوبة . وأخرج الفريابى عن عطاء مثله .
... وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عمر أنه كان في السوق ، فأقيمت الصلاة ، فأغلقوا حوانيتهم ، ثم دخلوا المسجد . فقال ابن عمر : فيهم نزلت " رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ " ( الدر المنثور 5 /52 ) .
ولم أجد في جميع الروايات أن آية سورة النور نزلت فيمن بقى يوم الجمعة . ولو أنها نزلت فيهم فأولهم بلا ريب الصديق والفاروق كما جاء في الأخبار الصحيحة .
قال الرافضي : أخرج المحدثون والمفسرون وأصحاب الكتب في أسباب النزول بأسانيدهم إلى ابن عباس في قوله تعالى : " الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً " ( 274 : البقرة )
قال : نزلت في على بن أبى طالب .(177/5)
قلت : أصحاب الكتب ذكروا عليا وغيره ، فقالوا : نزلت في أصحاب الخيل، فيمن يربطها في سبيل الله لا رياء ولا سمعة . ولا خيلاء ، وقالوا : نزلت في عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة . ( انظر أصحاب هذه الكتب ورواياتهم في الدر المنثور 1 / 363 ) وما أكثر الصحابة الكرام الذين كانوا ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ! ومثل على ما كان ليبخل لو كان عنده مال ، لكنه لم يكن كثير المال كما هو معلوم ، وأصحاب الأموال الذين كانوا ينفقونها في سبيل الله مشهود لهم ، وأولهم أبو بكر الصديق ، الذي نزل فيه قول الله تعالى :
"وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىوَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىوَلَسَوْفَ يَرْضَى".
والمحدثون والمفسرون وأصحاب الكتب لم يذكروا أحدا آخر غير أبى بكر الصديق . ( انظر جميع الروايات في الدر المنثور 6 / 359 ـ 360 ) ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " إن أمن الناس على في صحبته وماله أبو بكر " وقال : " وواسانى بنفسه وماله " ( راجع صحيح البخاري ـ كتاب فضائل الصحابة تجد الحديثين الشريفين وغيرهما من فضائل الصديق ، وأنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومن شهد له الله ـ عزوجل ، والرسول صلى الله عليه وسلم ، يأتي هذا الرافضي فيقول بكفره ، وأنه الجبت ، وكفر الأمة الإسلامية التي أقرت بيعته ، وبعد هذا العداء للإسلام وأهله ينسب الرافضي اللعين نفسه لأهل البيت الأطهار !! ثم يفترى الكذب على الإمام الأكبر شيخ الأزهر فينسب له أنه وافقه بل أعجب بهذا التكفير !! ) .
قال الرافضي :
وفى جميل بلائهم وجلال عنائهم قال الله تعالى: ?وَمِنَ الناسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَاد ? (1)[245])
__________
(1) 248) البقرة : الآية 207.(177/6)
ثم قال : أخرج الحاكم ( 3 ، 4 ) عن ابن عباس قال : " شرى على نفسه ولبس ثوب النبي " الحديث . وأخرج أيضا عن على بن الحسين قال : " إن أول من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله على بن أبى طالب إذ بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم " . ا . هـ .
قلت : لا شك أن عليا رضي الله تعالى عنه قد شرى نفسه حتى ولو لم يصح الخبر عن ابن عباس ، لكن الروايات كلها لم تخصه بسبب النزول ، لا عند الحاكم ولا عند غيره ، بل إن الحاكم في الجزء نفسه ذكر أن الآية الكريمة نزلت في صهيب ، وصحح الخبر ، ولم يتعقبه الذهبي ( 3 / 398 ) .
وقبل أن أنتقل إلى نقطة أخرى أحب أن أصفع هذا الرافضي وأمثاله بحديث شريف أخرجه الحاكم الذي عرف عنه التشيع وهو ما رواه بسنده عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله تبارك وتعالى اختارنى ، واختار لي أصحابا ، فجعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا . فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل " .
قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي ( جـ 3 ص 632 )
إذن عندما نلعن هذا الرافضي فإننا ننفذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد سب الصحابة الكرام وعلى الأخص خيرهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو أبو بكر الصديق ، فعمر الفاروق ، بل قال بأنهما الجبت والطاغوت ، والصحابة الذين بايعوهما كفار آمنوا بالجبت والطاغوت !
فمن كان عدوا لهؤلاء فهو عدو لله ولرسوله وملائكته ، يستحق ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم من اللعنة والخسران يوم القيامة .(177/7)
إذن يجب أن نضع الأمور في نصابها ، ونزنها بميزان الشرع وحكم الله تعالى ورسوله الكريم ، حتى لا يأتىأحد ويقول : كيف تلعن مسلما ؟ وأين أنت من دعوة التقريب ؟ ! أقول : قد لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف لا نلعنه ؟ أما التقريب فهذا الرافضي له كتاب عنوانه " الفصول المهمة في تأليف الأمة " ، انتهى إلى وجوب أن ترتد الأمة كلها فتصبح رافضة مثله ! !
فالتقريب إذن لا يكون مع مثل هذا الرافضي اللعين ، عدو الإسلام والمسلمين ، وإنما يكون مع الشيعة من غير الرافضة .
الاستدلال بالأحاديث الموضوعة
بعد تحريف القرآن الكريم لجأ الرافضة إلى الأحاديث الموضوعة ، سواء أكانت من وضعهم وأكاذيبهم أم من وضع غيرهم .
وعندما نأتى إلى دراسة كتب السنة عندهم وتدوينها فسيتضح جليا أنها مبنية على الكذب والافتراء ، وموضع هذه الدراسة في الجزء الثالث من هذا الكتاب .
ولكننا نقف هنا عند بعض الأحاديث التي ذكرها الرافضيان : ابن المطهر وعبد الحسين ، أحدهما أو كلاهما ، ونثبت جواب شيخ الإسلام ابن تيمية ، مع إضافة بعض ما كتبته في ردى على المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى، والتى افتراها عبد الحسين . ونبدأ بالدليل الأول الذي ذكره ابن المطهر ، وجواب شيخ الإسلام .
حديث الدار
هذا هو الدليل الأول عن ابن المطهر حيث قال :
" المنهج الثالث في الأدلة المستندة إلى السنة ، المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهى اثنا عشر .
الأول : ما نقله الناس كافة أنه لما نزل قوله تعالى :(177/8)
" وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ "( سورة الشعراء : 214) جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى عبد المطلب في دار أبى طالب ، وهم أربعون رجلا ، وأمر أن يصنع لهم فخذ شاة مع مد من البر ويعد لهم صاعا من اللبن ، وكان الرجل منهم يأكل الجذعة في مقعد واحد ، ويشرب الفرق من الشراب في ذلك المقام ، فأكلت الجماعة كلهم من ذلك الطعام اليسير حتى شبعوا ، ولم يتبين ما أكلوه ، فبهرهم ( النبي صلى الله عليه وآله ) بذلك ، وتبين لهم آية نوبته ، فقال : يا بنى عبد المطلب ، إن الله بعثنى بالحق إلى الخلق كافة ، وبعثنى إليكم خاصة ، فقال : "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان، ثقيلتين في الميزان ، تملكون بهما العرب والعجم ، وتنقاد لكم بهما الأمم ، وتدخلون بهما الجنة ، وتنجون بهما من النار : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأنى رسول الله ، فمن يجيبني إلى هذا الأمر ، ويؤازرنى على القيام به يكن أخي ووزيرى ، ووصيي ووارثي ، وخليفتى من بعدى . فلم يجبه أحد منهم. فقال أمير المؤمنين : أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر . فقال : اجلس. ثم أعاد القول مرة ثانية فصمتوا. فقال على : فقمت فقلت مثل مقالتى الأولى ، فقال : اجلس ثم أعاد القول ثالثة ، فلم ينطق أحد منهم بحرف ، فقمت فقلت : أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر . فقال : اجلس فأنت أخي ووزيرى ، ووصيى ووارثى ، وخليفتى من بعدى. فنهض القوم وهم يقولون لأبى طالب : ليهنئك اليوم أن دخلت في دين ابن أخيك ، فقد جعل ابنك أميرا عليك " . ا. هـ
قال شيخ الإسلام :(177/9)
والجواب من وجوه : الأول : المطالبة بصحة النقل . وما ادعاه من نقل الناس كافة من أظهر الكذب عند أهل العلم بالحديث ، فإن هذا الحديث ليس في شىء من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل : لا في الصحاح ولا في المساند والسنن والمغازى والتفسير التي يذكر فيها الإسناد الذي يحتج به ، وإذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل منها الصحيح والضعيف ، مثل تفسير الثعلبى والواحدى والبغوى ، بل وابن جرير وابن أبى حاتم ، لم يكن مجرد رواية واحد من هؤلاء ، دليلا على صحته باتفاق أهل العلم ؛ فإنه إذا عرف أن تلك المنقولات فيها صحيح وضعيف ، فلابد من بيان أن هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف .
وهذا الحديث غايته أن يوجد في بعض كتب التفسير التي فيها الغث والثمين، وفيها أحاديث كثيرة موضوعة مكذوبة ، مع أن كتب التفسير التي يوجد فيها هذا مثل تفسير ابن جرير وابن أبى حاتم والثعلبى والبغوى ، ينقل فيها بالأسانيد الصحيحة ما يناقض هذا ، مثل بعض المفسرين الذين ذكروا هذا في سبب نزول الآية ، فإنهم ذكروا مع ذلك بالأسانيد الصحيحة الثابتة التي اتفق أهل العلم على صحتها ما يناقض ذلك ، ولكن هؤلاء المفسرين ذكروا ذلك على عادتهم في أنهم ينقلون ما ذكر في سبب نزول الآية من المنقولات الصحيحة . والضعيفة ، ولهذا يذكر أحدهم في سبب نزول الآية عدة أقوال ، ليذكر أقوال الناس وما نقلوه فيها ، وإن كان بعض ذلك هو الصحيح وبعضه كذب ، وإذا احتج بمثل هذا الضعيف وأمثاله واحد بذكر بعض ما نقل في تفسير الآية من المنقولات ، وترك سائر ما ينقل مما يناقض ذلك ـ كان هذا من أفسد الحجج ، كمن احتج بشاهد يشهد له ولم تثبت عدالته بل ثبت جرحه ، وقد ناقضه عدول كثيرون يشهدون بما يناقض شهادته، أو يحتج برواية واحد لم تثبت عدالته بل ثبت جرحه ، ويدع روايات كثيرين عدول ، وقد رووا ما يناقض ذلك .(177/10)
بل لو قدر أن هذا الحديث من رواية أهل الثقة والعدالة ، وقد روى آخرون من أهل الثقة والعدالة ما يناقض ذلك ، لوجب النظر في الروايتين : أيهما أثبت وأرجح ؟ فكيف إذا كان أهل العلم بالنقل متفقين على أن الروايات المناقضة لهذا الحديث هي الثابتة الصحيحة ، بل هذا الحديث مناقض لما علم بالتواتر ، وكثير من أئمة التفسير لم يذكروا هذا بحال لعلمهم أنه باطل .
الثانى :
أنا نرضى منه من هذا النقل العام بأحد شيئين : إما بإسناد يذكره مما يحتج به أهل العلم في مسائل النزاع ، ولو أنه مسألة فرعية ، وإما قول رجل من أهل الحديث الذين يعتمد الناس على تصحيحهم . فإنه لو تناظر فقيهان في فرع من الفروع ، لم تقم الحجة على المناظرة إلا بحديث يعلم أنه مسند إسناداً تقوم به الحجة، أو يصححه من يرجع إليه في ذلك . فأما إذا لم يعلم إسناده ، ولم يثبته أئمة النقل ، فمن أين يعلم ؟ لا سيما في مسائل الأصول التي يبنى عليها الطعن في سلف الأمة وجمهورها ، ويتوسل بذلك إلى هدم قواعد المسألة ، فكيف يقبل في مثل ذلك حديث لا يعرف إسناده ولا يثبته أئمة النقل ولا يعرف أن عالما صححه ؟!
الثالث :
أن هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث ، فما من عالم يعرف الحديث إلا وهو يعلم أنه كذب موضوع ، ولهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات ، لأن أدنى من له معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب .
وقد رواه ابن جرير والبغوى بإسناد فيه عبد الغفار بن القاسم بن فهد ، أبو مريم الكوفي ، وهو مجمع على تركه ، كذبه سماك بن حرب وأبو داود ، وقال أحمد : ليس بثقة ، عامة أحاديث بواطيل . قال يحيى : ليس بشئ . قال ابن المديني: كان يضع الحديث . وقال النسائي وأبو حاتم : متروك الحديث . وقال ابن حبان البستى : كان عبد الغفار بن قاسم يشرب الخمر حتى يسكر ، وهو مع ذلك يقلب الأخبار ، لا يجوز الاحتجاج به ، وتركه أحمد ويحيى .(177/11)
ورواه ابن أبى حاتم ، وفى إسناده عبد الله بن عبد القدوس ، وهو ليس بثقة . وقال فيه يحيى بن معين : ليس بشئ رافضى خبيث . وقال النسائي : ليس بثقة . وقال الدارقطنى : ضعيف .
وإسناد الثعلبى أضعف ، لأن فيه من لا يعرف ، وفيه من الضعفاء والمتهمين من لا يجوز الاحتجاج بمثله في أقل مسألة .
الرابع :
أن بنى عبد المطلب لم يبلغوا أربعين رجلا حين نزلت هذه الآية ؛ فإنها نزلت بمكة في أول الأمر . ثم ولا بلغوا أربعين رجلا في مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإن بنى عبد المطلب لم يعقب منهم باتفاق الناس إلا أربعة : العباس ، وأبو طالب ، والحارث ، وأبو لهب . وجميع ولد عبد المطلب من هؤلاء الأربعة ، وهم بنو هاشم، ولم يدرك النبوة من عمومته إلا أربعة : العباس ، وحمزة ، وأبو طالب ، وأبو لهب ، فآمن اثنان ، وهما حمزة و العباس ، وكفر اثنان ، أحدهما نصره وأعانه ، وهو أبو طالب ، والآخر عاداه وأعان أعداءه ، وهو أبو لهب .
وأما العمومة وبنو العمومة فأبو طالب كان له أربعة بنين : طالب ، وعقيل، وجعفر ، وعلى . وطالب لم يدرك الإسلام ، وأدركه الثلاثة ، فآمن على وجعفر في أول الإسلام ، وهاجر جعفر إلى أرض الحبشة ، ثم إلى المدينة عام خيبر .
وكان عقيل قد استولى على رباع بنى هاشم لما هاجروا وتصرف فيها ، ولهذا لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في حجته : " ننزل غدا في دارك بمكة " قال : " وهل ترك لنا عقيل من دار ؟ "(177/12)
وأما العباس فبنوه كلهم صغار ، إذ لم يكن فيهم بمكة رجل . وهب أنهم كانوا رجالاً فهم : عبد الله ، وعبيد الله ، والفضل . وأما قثم فولد بعدهم ، وأكبرهم الفضل ، وبه كان يكنى . وعبد الله ولد في الشعب بعد نزول قوله : " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ "(سورة الشعراء : 214 ) وكان له في الهجرة نحو ثلاث سنين أو أربع سنين ، ولم يولد للعباس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا الفضل وعبد الله وعبيد الله، وأما سائرهم فولدوا بعده.
وأما الحارث بن عبد المطلب وأبو لهب فبنوهما أقل . والحارث كان له ابنان: أبو سفيان وربيعة ، وكلاهما تأخر إسلامه ، وكان من مسلمة الفتح .
وكذلك بنو أبى لهب تأخر إسلامهم إلى زمن الفتح ، وكان له ثلاثة ذكور ، فأسلم منهم اثنان : عتبة ومغيث ، وشهد الطائف وحنينا ، وعتيبة دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكله الكلب ، فقتله السبع بالزرقاء من الشام كافراً. فهؤلاء بنو عبد المطلب لا يبلغون عشرين رجلا ، فأين الأربعون ؟ !
الخامس :
قوله : " إن الرجل منهم كان يأكل الجذعة ويشرب الفرق من اللبن " فكذب على القوم ، ليس بنو هاشم معروفين بمثل هذه الكثرة في الأكل ، ولا عرف فيهم من كان يأكل جذعة ولا يشرب فرقا .
السادس :
أن قوله للجماعة : " من يجيبنى إلى هذا الأمر ويؤازرنى على القيام به يكن أخي ووزيرى ووصيى وخليفتى من بعدى " كلام مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يجوز نسبته إليه . فإن مجرد الإجابة إلى الشهادتين والمعاونة على ذلك لا يوجب هذا كله ؛ فإن جميع المؤمنين أجابوا إلى هاتين الكلمتين ، وأعانوه على هذا الأمر ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في إقامته وطاعته ، وفارقوا أوطانهم ، وعادوا إخوانهم ، وصبروا على الشتات بعد الألفة ، وعلى الذل بعد العز ، وعلى الفقر بعد الغنى ، وعلى الشدة بعد الرخاء ، وسيرتهم معروفة مشهورة ، ومع هذا فلم يكن أحد منهم بذلك خليفة له .(177/13)
وأيضا فإن كان عرض هذا الأمر على أربعين رجلا أمكن أن يجيبوه ـ أو أكثرهم أو عدد منهم ـ فلو أجابه منهم عدد من كان الذي يكون الخليفة بعده ؟ أيعين واحدا بلا موجب ؟ أم يجعل الجميع خلفاء في وقت واحد ؟ وذلك أنه لم يعلق الوصية والخلافة والأخوة والمؤازرة ، إلا بأمر سهل ، وهو الإجابة إلى الشهادتين، والمعاونة على هذا الأمر . وما من مؤمن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر إلى يوم القيامة ، إلا وله من هذا نصيب وافر ، ومن لم يكن له من ذلك حظ فهو منافق ، فكيف يجوز نسبة مثل هذا الكلام إلى النبي َصلى الله عليه وسلم ؟ !
السابع :
أن حمزة وجعفرا وعبيدة بن الحارث أجابوا إلى ما أجابه على من الشهادتين والمعاونة على هذا الأمر ؛ فإن هؤلاء من السابقين الأولين الذين آمنوا بالله ورسوله في أول الأمر . بل حمزة أسلم قبل أن يصير المؤمنون أربعين رجلا ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبى الأرقم ، وكان اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم به في دار الأرقم ، ولم يكن يجتمع هو وبنو عبد المطلب كلهم في دار واحدة ، فإن أبا لهب كان مظهراً لمعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما حصر بنو هاشم في الشعب لم يدخل معهم أبو لهب .
الثامن :(177/14)
أن الذي في الصحاح من نزول هذه الآية غير هذا . ففي الصحيحين عن ابن عمر وأبى هريرة ـ واللفظ له ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت : " وَأَنذِرْ عَشِيرَتكَ الْأَقْرَبِينَ "(سورة الشعراء : 214 ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا، فاجتمعوا ، فخص وعم فقال : " يابنى كعب بن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار. يا بنى مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار . يا بنى عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار. يا بنى عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار . يا بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النار . يا بنى عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار . يا فاطمة بنت محمد أنقذى نفسك من النار ، فإنى لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها " .
وفى الصحيحين عن أبى هريرة رضي الله عنه أيضا لما نزلت هذه الآية قال: " يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغنى عنكم من الله شيئا . يا بنى عبد المطلب لا أغنى عنكم من الله شيئا . يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا . يا فاطمة بنت محمد لا أغنى عنك من الله شيئا . سلانى ما شئتما من مالى " . وخرجه مسلم من حديث ابن المخارق وزهير بن عمرو ومن حديث عائشة وقال فيه : " قام على الصفا " .
وقال في حديث قبيصة : " انطلق إلى رضمة من جبل ، فعلا أعلاها حجرا ، ثم نادى : يا بنى عبد مناف إنى لكم نذير . إنما مثلى ومثلكم كمثل رجل رأي العدو فانطلق يربأ أهله ، فخشى أن يسبقوه ، فجعل يهتف : يا صباحاه " .(177/15)
وفى الصحيحين من حديث ابن عباس قال : " لما نزلت هذه الآية خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا ، فهتف : يا صباحاه " فقالوا : من هذا الذي يهتف؟ قالوا : محمد . فاجتمعوا إليه ، فجعل ينادى : " يا بنى فلان ، يا بنى عبد مناف ، يا بنى عبد المطلب " وفى رواية : " يا بنى فهر ، يا بنى عدى ، يا بنى فلان " لبطون قريش فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا ينظر ما هو ، فاجتمعوا فقال : " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل ، أكنتم مصدقى ؟ " قالوا : ما جربناعليك كذبا . قال : " فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد " قال : فقال أبو لهب : تبا لك أما جمعتنا إلا لهذا ؟ فقام فنزلت هذه السورة : " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ " ( سورة المسد : 1 ).
وفى رواية: " أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم ويمسيكم أكنتم تصدقونى؟ " قالوا : " بلى ".
فإن قيل : فهذا الحديث قد ذكره طائفة من المفسرين والمصنفين في الفضائل، كالثعلبى والبغوى وأمثالهما والمغازلى .(177/16)
قيل له : مجرد رواية هؤلاء لا توجب ثبوت الحديث باتفاق أهل العلم بالحديث ؛ فإن في كتب هؤلاء من الأحاديث الموضوعة ما اتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع ، وفيها شئ كثير يعلم بالأدلة اليقينية السمعية والعقلية أنها كذب ، بل فيها ما يعلم بالاضطرار أنه كذب . والثعلبى وأمثاله لا يتعمدون الكذب ، بل فيهم من الصلاح والدين ما يمنعهم من ذلك ، لكن ينقلون ما وجدوه في الكتب ، ويروون ما سمعوه ، وليس لأحدهم من الخبرة بالأسانيد ما لأئمة الحديث ، كشعبة، ويحيى بن سعيد القطان ، وعبد الرحمن بن مهدى ، وأحمد بن حنبل ، وعلى بن المديني ، ويحيى بن معين ، وإسحاق ، ومحمد بن يحيى الذهلى ، والبخاري ، ومسلم ، وأبى داود ، والنسائى ، وأبى حاتم وأبى زرعة الرازيين ، وأبى عبد الله ابن منده ، والدار قطنى ، وأمثال هؤلاء من أئمة الحديث ونقاده وحكامه وحفاظه الذين لهم خبرة ومعرفة تامة بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحوال من نقل العلم والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم من نقلة العلم .
وقد صنفوا الكتب الكثيرة في معرفة الرجال الذين نقلوا الآثار وأسماءهم ، وذكروا أخبارهم وأخبار من أخذوا عنه ، ومن أخذ عنهم . مثل كتاب " العلل وأسماء الرجال " عن يحيى القطان ، وابن المديني ، وأحمد ، وابن معين ، والبخاري ، ومسلم ، وأبى زرعة ، وأبى حاتم ، والنسائى ، والترمذى ، وأحمد بن عدى ، وابن حبان ، وأبى الفتح الأزدى ، والدارقطنى وغيرهم .
وتفسير الثعلبى فيه أحاديث موضوعة وأحاديث صحيحة . ومن الموضوع فيه الأحاديث التي في فضائل السور : سورة سورة .
وقد ذكر هذا الحديث الزمخشري والواحدى ، وهو كذب موضوع باتفاق أهل الحديث . وكذلك غير هذا .(177/17)
وكذلك الواحدى تلميذ الثعلبى ، والبغوى اختصر تفسيره من تفسير الثعلبى والواحدى ، لكنهما أخبر بأقوال المفسرين منه ، والواحدى أعلم بالعربية من هذا وهذا ، والبغوى أتبع للسنة منهما .
وليس كون الرجل من الجمهور الذين يعتقدون خلافة الثلاثة يوجب له أن كل ما رواه صدق ، كما أن كونه من الشيعة لا يوجب أن يكون كل ما رواه كذبا ، بل الاعتبار بميزان العدل .
وقد وضع الناس أحاديث كثيرة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم : في الأصول ، والأحكام ، والزهد ، والفضائل . ووضعوا كثيرا من فضائل الخلفاء الأربعة ، وفضائل معاوية .
ومن الناس من يكون قصده رواية كل ما روى في الباب ، من غير تمييز بين صحيح وضعيف ، كما فعله أبو نعيم في فضائل الخلفاء ، وكذلك غيره ممن
صنف في الفضائل . ومثل ما جمعه أبو الفتح بن أبى الفوارس ، وأبو على الأهوازى وغيرهما من فضائل معاوية . ومثل ما جمعه النسائي في فضائل على ، وكذلك ما جمعه أبو القاسم بن عساكر في فضائل على وغيره ، فإن هؤلاء وأمثالهم قصدوا أن يرووا ما سمعوا من غير تمييز بين صحيح ذلك وضعيفه ، فلا يجوز أن يجزم بصدق الخبر بمجرد رواية الواحد من هؤلاء باتفاق أهل العلم .
وأما من يذكر الحديث بلا اسناد من المصنفين في الأصول والفقه والزهد والرقائق ، فهؤلاء يذكرون أحاديث كثيرة صحيحة ، ويذكر بعضهم أحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة ، كما يوجد ذلك في كتب الرقائق والرأي وغير ذلك . ا. هـ.
قلت : وهذا الحديث ذكره بنصه السابق عبد الحسين ، وقال بأن الإمام أحمد أخرجه في المسند ، وذكر اسناده ، ونسب للشيخ سليم البشرى موافقته على ثبوت الحديث وصحته .(177/18)
وما جاء في المسند ( 1 / 111 ) هو ما يأتي : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن عباد ابن عبد الله الأسدي ، عن على ، قال : لما نزلت هذه الآية " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ". قال : جمع النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته ، فاجتمع ثلاثون ، فأكلوا وشربوا . قال : فقال لهم : من يضمن عنى دينى ومواعيدى ، ويكون معى في الجنة ، ويكون خليفتى في أهلي ؟ فقال رجل لم يسمه شريك : يا رسول الله ، أنت كنت بحرا ، من يقوم بهذا ! قال : ثم قاله الآخر ، قال : فعرض ذلك على أهل بيته ، فقال على : أنا .( انتهى الخبر ) .
هذا هو نص المسند الذي ذكر الرافضي إسناده ، وقال : " كل واحد من سلسلة هذا المسند حجة عند الخصم ، وكلهم من رجال الصحاح بلا كلام " .
قلت : لننظر في الاسناد ثم في المتن :
أما الاسناد ففيه ما يأتي :
1- الأعمش ثقة لكنه مدلس ، ولا يقبل حديث المدلس إذا عنعن ، " .... الأعمش ( عن ) المنهال ... "
2 - المنهال هو ابن عمرو الكوفي :
وثقه ابن معين والعجلى والنسائى وقال أحمد بن حنبل : أبو بشر أحب إلى من المنهال وأوثق . وقال الحاكم : غمزه يحيى بن سعيد ، وتكلم فيه ابن حزم ، وكان يضعفه . وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سمعت أبى يقول : ترك شعبة المنهال بن عمرو على عمد .
وقال الحافظ ابن حجر في هدى الساري ( ص 446 ) :
ماله في البخاري سوى حديث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في تعويذ الحسن والحسين من رواية زيد بن أبى أنيسة عنه ، وحديث آخر في تفسير حم فصلت ، اختلف فيه الرواة هل هو موصول أو معلق . ( انظر ترجمته في تهذيب التهذيب ، وميزان الاعتدال ، وهدى الساري ص 445 : 446 ) .
3 - عباد بن عبد الله الأسدي :(177/19)
قال الرافضي : هو عباد بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشى الأسدي ، احتج به البخاري ومسلم في صحيحيهما . سمع أسماء وعائشة بنتى أبى بكر . وروى عنه في الصحيحين ابن أبى مليكة ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وهشام بن عروة .
قلت : هذا من كذب الرافضي وتضليله ! فمن ذكره الرافضي مدني ، وصاحبنا كوفي !
والاثنان مترجم لهما في صفحة واحدة في تهذيب التهذيب ، وكذلك في كتاب الجرح والتعديل ، فهما اثنان : والمدني لا خلاف حول توثيقه ، أما صاحبنا فقال ابن حجر في ترجمته في تهذيب التهذيب : عباد بن عبد الله الأسدي الكوفي . روى عن على . وعنه المنهال بن عمرو . قال البخاري : فيه نظر . وذكره ابن حبان في الثقات . قلت ( أي ابن حجر ) : وقال ابن سعد : له أحاديث . وقال على بن المديني ضعيف الحديث . وقال ابن الجوزي : ضرب ابن حنبل على حديثه عن على : أنا الصديق الأكبر ، وقال : هو منكر . وقال ابن حزم : هو مجهول . ا . هـ
ولم يترجم له ابن حجر في هدى الساري كما ترجم للمنهال وأمثاله ، لأنه ليس من رجال الصحيحين كما ذكر الرافضي ، والبخاري نفسه ضعفه حين قال : فيه نظر .
وفى ميزان الاعتدال نجد ترجمة عباد الكوفي ولا نجد ترجمة عباد المدني . قال الذهبي في الميزان :
عباد بن عبد الله الأسدي . عن على . قال البخاري : سمع منه المنهال بن عمرو . فيه نظر .
قلت ( أي الذهبي ) : روى العلاء بن صالح ، حدثنا المنهال ، عند عباد بن عبد الله ، عن على ، قال : أنا عبد الله ، وأخو رسول الله ، وأنا الصديق الأكبر ، وما قالها أحد قبلى ، ولا يقولها إلا كاذب مفتر ، ولقد أسلمت وصليت قبل الناس بسبع سنين .
قلت ( أي الذهبي ) : هذا كذب علَى علىّ .
قال ابن المديني : ضعيف الحديث . وذكره ابن حبان في الثقات ، له في خصائص على . ا . هـ .
والذهبي ذكره أيضا في كتابه المغنى في الضعفاء .(177/20)
هذه ثلاث علل في الإسناد وليست علة واحدة ، ومع كل هذه العلل ينسب للعلامة شيخ الأزهر أنه قال :
"راجعت الحديث في ص 111 من الجزء الأول من مسند أحمد ، ونقبت عن رجال سنده ، فإذا هم ثقات أثبات حجج " !
وكأن شيخ الأزهر لا يعرف شيئا عن الحديث وعلومه ورجاله !! ولا يفرق بين عباد بن عبد الله الأسدي الكوفي ، وهو من الضعفاء ، وبين عباد بن عبد الله ابن الزبير بن العوام الأسدي المدني ، وهو من الثقات !حاشا لعلامة زمانه أن يكون كذلك !
ونأتى إلى ما هو أوضح ولا يحتاج إلى عالم ليميز كلام الرافضي من حديث المسند ، بل يدركه كل من يحسن القراءة !
فنص المسند :
" ويكون خليفتى في أهلي " ، فأين الإمامة العامة هنا ؟! ونهاية الخبر " فقال على : أنا " ، وليس فيه الزيادة الباطلة المفتراة : " إن هذا أخي ووصيى وخليفتى فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا ...." فكيف تنسب هذه الزيادة للمسند ، وهو موضع الاستدلال ؟ وفى رواية أخرى في المسند أيضا :
".. يابنى عبد المطلب ، إنى بعثت لكم خاصة وإلى الناس بعامة ، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم ، فأيكم يبايعنى على أن يكون أخي وصاحبى ؟ قال : فلم يقم إليه أحد . قال ( أي على ) : فقمت إليه ، وكنت أصغر القوم ، قال : فقال : اجلس، قال : ثلاث مرات ، كل ذلك أقوم إليه فيقول لي : اجلس ، حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدى " . انتهى الخبر .
( انظر المسند بتحقيق شاكر 2 / 352 ـ رواية رقم 1371 ) وواضح من الخبر أن عليا لم يكن هو المقصود ، ولذلك أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالجلوس ، ولما لم ينفذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطر إلى زجره أو تنبيهه بالضرب على يده في المرة الثالثة .(177/21)
فكيف تتخذ مثل هذه الأخبار في هدم الإسلام ، والطعن في نقلة الكتاب والسنة ، وتكفير خير جيل عرفته البشرية لعدم أخذهم بمبدأ ابن سبأ في الوصي بعد النبي ، ومبايعتهم للصديق خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
قال الرافضي في المراجعة ( 20 ) بعد ذكر الخبر :
" أخرجه بهذه الألفاظ كثير من حفظة الآثار النبوية " وقد رأينا كذبه فيما نسبه لمسند الإمام أحمد ، وكان الكذب في الإسناد والمتن .
وأحب أن أبين طريقة أخرى من طرق الرافضي في التضليل :
ذكر الرافضي أن أبا الفداء الحافظ ابن كثير أخرج هذا الخبر بهذه الألفاظ في تاريخه . فنظرت في البداية والنهاية فوجدت الخبر مع إشارة للزيادة : " إن هذا أخي وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا " . قال ( أي على ) : فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبى طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ! ( جـ3 ص40 ) .
فأين التضليل هنا إذن ما دام الخبر يتفق مع ماذكره الرافضي ؟ التضليل ـ أيها المسلمون ـ هو أن الرافضي لم يشر من قريب أو بعيد إلى ما ذكره الحافظ ابن كثير بعد إيراده الخبر مباشرة ، حيث قال ما نصه :
" تفرد به عبد الغفار بن القاسم أبو مريم ، وهو كذاب شيعي ، اتهمه على بن المديني وغيره بوضع الحديث وضعفه الباقون ".
المراجعة الثامنة وأحاديثها
في هذه المراجعة يظهر لنا بوضوح أن عبد الحسين رافضى ، بل من أخبث الروافض ، فهو ينتهى إلى القول بضلال الأمة و كفرها بدءا بخير أمة أخرجت للناس، وخير قرن عرفته البشرية ، خير الناس الصحابة الكرام الذين بايعوا الخلفاء الراشدين الثلاثة فهم في زعم هذا الرافضي خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يجعلوا الوصي بعده مباشرة على بن أبى طالب ، وهو القول الذي اخترعه لأول مرة اليهودى عبد الله بن سبأ.(177/22)
وهذا الطعن يشمل الإمام عليا نفسه لأنه ممن بايع كما بينا من قبل ،وممن فضل الصديق والفاروق على باقي الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت بالتواتر من ثمانين طريقا .
وهذا الرافضي يضيف إلى هذا الطعن العام طعنا خاصاً ، فيصف الخلفاء الراشدين الثلاثة بأنهم " أبناء الوزغ " :
والوزغ دويبة يقال لها سام أبرص ، ويوصف بها الرجل إذا كان ضعيفا جبانا رزلا رديئا لا مروءة له .
( راجع معاجم اللغة : والمجموع المغيث في غريبى القرآن والحديث 409 ـ 410 ) لو كان هذا الرافضي في عهد الإمام على كرم الله وجهه ـ لكان موقفه منه كموقفه من ابن سبأ سواء بسواء .
ولننظر في الأحاديث التي ذكرها في هذه المراجعة لينتهى منها إلى الحكم بضلال وكفر الصحابة الكرام وخير أمة أخرجت للناس .
استند أساسا إلى حديث الثقلين ، وفيما سبق جمعت كل روايات هذا الحديث ، وبينت الصحيح منها وغير الصحيح ، وتحدثت عن فقه الحديث الصحيح وعدم صلته بالخلافة على الإطلاق . أما الروايات غير الصحيحة ، سواء أكانت ضعيفة أم موضوعة مكذوبة ، فإنها ليست حجة في شرع الله تعالى ، ويعارضها ويسقطها الصحيح الصريح من الأحاديث الشريفة .
والملاحظ أنه ترك الروايات الصحيحة ، كرواية صحيح مسلم وغيره ، وذكر الروايات الأخرى .
وأثناء الروايات جاء ذكر " من كنت مولاه فعلى مولاه " ، وقد سبق الحديث عنه . وأكثر هنا من النقل من كتاب " الصواعق المحرقة " ، ومن أجل مثل هذه النقول ستكون الوقفة الطويلة مع هذا الكتاب .
وبعد حديث الثقلين ذكر حديثين آخرين استدل بهما على ضلال وكفر خير أمة أخرجت للناس !! هكذا ظهر خليفة ابن سبأ .
فلننظر إلى هذين الحديثين
الحديث الأول :
" ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق "
وقال الرافضي : أخرجه الحاكم بالإسناد إلى أبى ذر .
وذكر رواية أخرى للحديث ، وهى :(177/23)
" إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بنى إسرائيل من دخله غفر له " .
وقال : أخرجه الطبرانى في الأوسط عن أبى سعيد .
الحديث الثانى :
" النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتى من الاختلاف ( في الدين ) ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب ( يعنى في أحكام الله عز وجل ) اختلفوا فصاروا حزب إبليس " .
وقال الرافضي: أخرجه الحاكم عن ابن عباس ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
قلت : الحديث الأول أخرجه الحاكم في المستدرك ( 3 / 151) ، وتعقبه الذهبي وبين وهى الإسناد ، والحديث الثانى في المستدرك ( 3 / 149 ) ، وصححه الحاكم كما ذكر الرافضي ، ولكنه لم يذكر تعقيب الذهبي حيث قال : بل موضوع .
والحديث الأول في إسناده المفضل بن صالح الكوفي . قال البخاري عنه : منكر الحديث ، وهذا الجرح عند البخاري يعنى أنه لا يحل الرواية عنه . وقال مثل هذا أيضا أبو حاتم ، وغيره (1)[246]) .
والحديث الثانى بين الذهبي أنه موضوع ، وأن الوضع بسبب راويين اثنين وليس راويا واحدا . وذكر الشيخ الألبانى الحديث بلفظ " أهل بيتي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم " ، وبين أنه موضوع ، وقال : وهو في نسخة أحمد بن نبيط الكذاب، وقد وقفت عليها (2)[247]). وذكره أيضا ابن عراق في كتابه " تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة : 1 / 419 " ، وقال بأنه من طريق أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط ، وترجم له من قبل في مقدمة الكتاب ( ص 25 ) ، فقال : " كذاب ، حدث عن أبيه عن جده بنسخة فيها بلايا " .
__________
(1) 249) انظر تهذيب التهذيب لابن حجر 10 / 271 ـ 272 ، والجرح والتعديل لابن أبى حاتم 8 / 316 ـ 317 ، والمغنى في الضعفاء للذهبى 2 / 320 .
(2) 250) انظر : سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1 / 84 ـ 85 .(177/24)
ومن قبل عند مناقشة روايات التمسك بالكتاب والعترة ، وهو حديث الثقلين ، أشرت إلى أن أصحاب الحديث أنكروا على الحاكم كثيرا من الأحاديث ، ولم يلتفتوا إلى تصحيحه . وذكرت قول ابن حجر في لسان الميزان عند ترجمة الحاكم : إمام صدوق ، ولكنه يصحح في مستدركه أحاديث ساقطة فيكثر من ذلك ،فما أدرى هل خفيت عليه ؟ فما هو ممن يجهل ذلك . وإن علم فهو خيانة عظيمة . ثم هو شيعي مشهور بذلك من غير تعرض للشيخين . والحاكم أجل قدرا وأعظم خطرا وأكبر ذكرا من أن يذكر في الضعفاء . ولكن قيل في الاعتذار عنه أنه عند تصنيفه للمستدرك كان في أواخر عمره . وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره ، ويدل على ذلك أنه ذكر جماعة في كتاب الضعفاء له ، وقطع بترك الرواية عنهم ، ومنع من الاحتجاج بهم ، ثم أخرج أحاديث بعضهم في مستدركه وصححها. إذن تصحيح الحاكم ليس بحجة ، مع إمامته وصدقه كما بين الحافظ ابن حجر .
ونأتى بعد هذا إلى رواية الطبرانى في الأوسط التي ذكرها الرافضي ، وبالبحث نجد أن هذه الرواية إضافة إلى ثلاث روايات أخرى أخرجها الطبرانى في المعجم الكبير : في الجزء الثالث ( ص 45 ، 46 ) ثلاث روايات :
الأولى
هي رقم 2636 ، وفى سندها الحسن بن أبى جعفر : وهو متروك ، وعلى بن زيد ابن جدعان : وهو ضعيف .
والثانية
رقم 2637 ، وفى سندها عبد الله بن داهر : وهو متروك . وعبد الله بن عبد القدوس : بينت عدم الاحتجاج به عند الحديث عن آية التطهير ، والأعمش : وهو مدلس ، وهنا عنعن .
والرواية الثالثة
رقم 2638 ، وفى سندها الحسن بن أبى جعفر الموجود في الرواية الأولى . وهو أيضا في الرواية الرابعة ، وهى في الجزء الثانى عشر ص 34 ، ورقمها 12388.
فروايات الطبرانى كلها لم تخل من المتروكين ، فكيف يحتج بمثلها ؟ ! ( انظر تخريج الروايات في المواضع المذكورة من المعجم الكبير ) بقى أن نقول بأن استدلال الرافضي بهذه الأحاديث الثلاثة ليس جديدا !(177/25)
فقد وجدنا ابن المطهر الحلى يستدل بهذه الأحاديث نفسها ، وهو الرافضي الذي رد عليه شيخ الإسلام ، وأبطل احتجاجه بهذه الأحاديث وغيرها . بل إن ابن المطهر استدل بحديث السفينة نقلا عن شيخه نصير الدين الطوسي المتوفى سنة 672 هـ (1)[248]).
والطوسى هذا هو أبو جعفر ـ أو أبو عبد الله ـ محمد بن محمد بن الحسن، ويعرف بالمحقق وبالخواجه . " اتصل بهولاكو وأصبح مقربا عنده ، وأشار عليه بقتل المستعصم وذبح المسلمين في بغداد (2)[249]).
وتحدث ابن القيم عنه فقال :" ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والكفر الملحد ، وزير الملاحدة ، النصير الطوسي وزير هولاكو ، شفا إخوانه نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه ، فعرضهم على السيف ، حتى شفا إخوانه من الملاحدة ، واشتفى هو ، فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين ، واستبقى الفلاسفة ، والمنجمين ، والطبائعيين والسحرة . ونقل أوقاف المدارس والمساجد ، والربط إليهم ، وجعلهم خاصته وأولياءه ، ونصر في كتبه قدم العالم ، وبطلان الميعاد ، وإنكار صفات الرب جل جلاله : من علمه ، وقدرته ، وحياته ، وسمعه وبصره ، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه ، وليس فوق العرش إله يعبد ألبتة ، واتخذ للملاحدة مدارس " (3)[250]) ثم قال :
" وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله ، وملائكته، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر " (4)[251]) .
وقال أيضا :
__________
(1) 248]) انظر الأحاديث الثلاثة ورد شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية : 3 / 444 ، 7 / 142، 7 / 395 ، وما بعد الصفحات المذكورة .
(2) 249]) مقدمة منهاج السنة للدكتور محمد رشاد سالم1 / 95،وانظر قول ابن تيمية في7 / 414 .
(3) 253) ، (254) إغاثة اللهفان ، ص 601 .(177/26)
" وكان هؤلاء زنادقة ، يتسترون بالرفض، ويبطنون الإلحاد المحض ، وينتسبون إلى أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم . وهو وأهل بيته براء منهم نسبا ودينا ، وكانوا يقتلون أهل العلم والإيمان ويدعون أهل الإلحاد والشرك والكفران ، لا يحرمون حراما ، ولا يحلون حلالا (1)[252]) .
وهذا الملحد يلقبه أهل السنة بشيطان الطاق ، ولكن الرافضة يطلقون عليه مؤمن الطاق ! والرافضى في مراجعاته يلقبه بمؤمن الطاق (2)[253]) ، ولا عجب ، فهدفهما واحد . ووجدنا من الرافضة من يعتبر مجدد المائة السابعة الخواجه نصير الدين الطوسي كما صرح شهاب الدين الحسينى المرعشى النجفي في كتابه غاية الآمال ( ص : خ ) الذي جعله مقدمة لكتاب بهجة الآمال لرافضى مثله !!
المراجعة التاسعة
وجرأة الرافضي على الكذب والافتراء
مرت المراجعة الثامنة بما فيها من البلايا والرزايا ، وتكفير خير أمة أخرجت للناس ، وسب الخلفاء الراشدين الثلاثة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأثبتت المراجعة أن صاحبها ليس رافضيا فقط بل من أخبث الروافض أتباع عبد الله بن سبأ .
وتأتى المراجعة التاسعة لتثبت من جديد قول الإمام الشافعى : " ما من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة " . ولتبين أن هذا الرافضي من أكثرهم جرأة على الكذب والافتراء . لو أن شيخ الأزهر والمالكية عرض عليه المراجعة الثامنة لعاقب هذا الرافضي عقوبة تتناسب مع جريرته وجريمته .
ووضوح الكذب بجلاء في المراجعة كلها من بدايتها إلى نهايتها :
فكيف يرحب الشيخ البشرى بتكفير الصحابة وسب الخلفاء الراشدين الثلاثة ، ويطلب المزيد بقوله : أطلق عنان القلم .... ؟ !
يصف ما سبق بأنه من جوامع الكلم ، ونوابغ الحكم ، وضوال الحكمة ؟!
__________
(1) 255) المرجع السابق ، ص 600 .
(2) 253] انظر المراجعة 110 ، ص 342 .(177/27)
والشيخ بمكانته وعلمه وقد بلغ الثانية والثمانين من عمره قبيل وفاته ببضع سنوات لم يستحى هذا الرافضي أن ينسب له منكرا من القول وزورا : " وأنا في أخذ العلم عنك على جمام من نفسى و ..... إلخ " ؟! .........." فزدنى منه لله أبوك زدنى " ؟!
والعلم هنا من كتب أهل السنة والجماعة وليس من كتب الروافض ! فبعد الثمانين جاء رافضى يعلمه ما في كتبنا !!
والأحاديث التي بينا ما فيها ينسب الرافضي للعالم العلامة أنه رحب بها ، وطلب المزيد منها ، ووصفها بأنها أدلة وبينات !! إن الطالب الذي حصل شيئا من العلم يستطيع الرجوع إلى منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، والصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمى ، ليبين بطلان وضلال ما جاء في المراجعة الثامنة.
لكن هذا الرافضي الطريد أراد ـ دون خجل أو استحياء ـ أن يجعل شيخ الأزهر العالم الثبت تلميذا صغيرا جاهلا يتلقى العلم لأول مرة على يديه !
المراجعة العاشرة و أحاديثها
بعد أن جعل المراجعة السابقة تأييدا لباطله ، بل إعجابا بهذا الباطل ، ونسب للشيخ البشرى أنه طلب المزيد من النصوص دون أن يعترض على نص واحد ، أو يشير إلى ضعفه فضلا عن وضعه ، كما لم يعترض على تكفير الصحابة وخير أمة أخرجت للناس ، وسب الخلفاء الراشدين الثلاثة ، وغير ذلك من البلايا والرزايا ، بعد هذا تأتى المراجعة العاشرة بمزيد من الأحاديث الموضوعة المكذوبة ، وكل الأحاديث بلا استثناء أخذت من مراجع يعلم من له أدنى دراية بالحديث وعلومه أنها مراجع لا يكفى نسبة الأحاديث إليها لتكون حجة في الفروع ، فكيف إذا كان يستدل بها على عقيدة الرافضي ، والحكم على الأمة كلها بالضلال ؟! وإذا كان الباحث عادة يبدأ بأقوى الأدلة في نظره ، فإن هذا يعنى أنه يرى أن أحاديث المراجعة الثامنة أقوى من أحاديث هذه المراجعة. فإذا لم يثبت هناك أي حديث فمن باب أولى ألا يثبت هنا حديث واحد .(177/28)
ولننظر في الأحاديث الثلاثة التي بدأ بها مراجعته ، أي أقوى الأحاديث في نظره .
وقد أغنانا عن البيان الشيخ الألبانى حيث ذكر هذه الأحاديث في الجزء الثانى من سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وبين أنها موضوعة وليست ضعيفة فقط، وأشار إلى هذا الرافضي ، ومنهجه في كتابه المراجعات .
ولذلك فإننى أنقل كلامه هنا تاما غير منقوص ، وأرقامها في كتابه هي : 892 ، 893 ، 894 .
وهذه هي الأحاديث بأرقامها في الكتاب
892 ( من أحب أن يحيا حياتى ، ويموت موتتى ، ويسكن جنة الخلد التي وعدنى ربى عزوجل ، غرس قضبانها بيديه ، فليتول على بن أبى طالب ، فإنه لن يخرجكم من هدى ، ولن يدخلكم في ضلالة ) .
موضوع : رواه أبو نعيم في " الحلية " ( 4 / 349 ـ 350 ) والحاكم ( 3 / 128 ) وكذا الطبرانى في " الكبير " وابن شاهين في " شرح السنة " ( 18 / 65 / 2 ) من طرق عن يحيى بن يعلى الأسلمى قال : ثنا عمر بن رزيق عن أبى إسحاق عن زياد بن مطرف عن زيد بن أرقم ـ زاد الطبرانى : وربما لم يذكر زيد بن أرقم ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فذكره . وقال أبو نعيم: " غريب من حديث أبى إسحاق ، تفرد به يحيى " .
قلت : وهو شيعي ضعيف ، قال ابن معين : " ليس بشئ " . وقال البخاري : " مضطرب الحديث " . وقال ابن أبى حاتم ( 4 / 2 / 196 ) عن أبيه : " ليس بالقوى ، ضعيف الحديث " .
والحديث قال الهيثمى في " المجمع" ( 9 / 108 ): " رواه الطبرانى ، وفيه يحيى بن يعلى الأسلمى ، وهو ضعيف " .
" قلت : وأما الحاكم فقال : صحيح الإسناد " ! فرده الذهبي بقوله : " قلت : أنى له الصحة والقاسم متروك . وشيخه ( يعنى الأسلمى ) ضعيف . واللفظ ركيك ، فهو إلى الوضع أقرب " .
وأقول : القاسم ـ وهو ابن شيبة ـ لم يتفرد به ، بل تابعه راويان آخران عند أبى نعيم ، فالحمل فيه على الأسلمى وحده دونه .
نعم للحديث عندي علتان أخريان :(177/29)
الأولى : أبو إسحاق ، وهو السبيعى فقد كان اختلط مع تدليسه ، وقد عنعنه .
الأخرى : الاضطراب في إسناده منه أو من الأسلمى ، فإنه يجعله تارة من مسند زيد بن أرقم ، وتارة من مسند زياد بن مطرف ، وقد رواه عنه مطين والباوردى وابن جرير وابن شاهين في " الصحابة " كما ذكر الحافظ بن حجر في " الإصابة " وقال :" قال ابن منده : " لا يصح " : قلت : في إسناده يحيى بن يعلى المحاربى . وهو واه " .
قلت : و قوله " المحاربى " سبق قلم منه . وإنما هو الأسلمى كما سبق ويأتى .
( تنبيه ) لقد كان الباعث على تخريج هذا الحديث ونقده . والكشف عن علته. أسباب عدة ، منها أنني رأيت الشيخ المدعو بعبد الحسين الموسوي الشيعي قد خرج الحديث في ( مراجعاته ) ( ص 27 ) تخريجا أوهم به القراء أنه صحيح كعادته في أمثاله . واستغل في سبيل ذلك خطأ قلميا وقع للحافظ ابن حجر رحمه الله . فبادرت إلى الكشف عن إسناده ، وبيان ضعفه ، ثم الرد على الإيهام المشار إليه ، وكان ذلك منه على وجهين . فأنا أذكرهما ، معقبا على كل منهما ببيان ما فيه فأقول :
الأول : أنه سابق الحديث من رواية مطين و من ذكرنا معه نقلا عن الحافظ من رواية زياد بن مطرف ، وصدره برقم ( 38 ) . ثم قال :
" ومثله حديث زيد بن أرقم .... " فذكره، و رقم له بـ ( 39 ). ثم علق عليهما مبينا مصادر كل منهما ، فأوهم بذلك أنهما حديثان متغايران إسنادا ! والحقيقة خلاف ذلك ، فإن كل منهما مدار إسناده على الأسلمى ، كما سبق بيانه غاية ما في الأمر أن الراوى كان يرويه تارة عن زياد بن مطرف عن زيد بن أرقم ، وتارة لا يذكر فيه زيد بن أرقم ويوقفه على زياد بن مطرف ، وهو مما يؤكد ضعف الحديث لاضطرابه في إسناده كما سبق .(177/30)
والآخر : أنه حكى تصحيح الحاكم للحديث دون أن يتبعه بيان علته ، أو على الأقل دون أن ينقل كلام الذهبي في نقده . وزاد في إيهام صحته أنه نقل عن الحافظ قوله في " الإصابة " . " قلت في إسناده يحيى بن يعلى المحاربى وهو واه " .
فتعقبه عبد الحسين ( ! ) بقوله : " أقول : هذا غريب من مثل العسقلانى ، فإن يحيى بن يعلى المحاربى ثقة بالاتفاق ، وقد أخرج له البخاري ... ومسلم .... " .
فأقول : أغرب من هذا الغريب أن يدير عبد الحسين كلامه في توهيمه الحافظ في توهينه للمحاربى ، وهو يعلم أن المقصود بهذا التوهين إنما هو الأسلمى وليس المحاربى ، لأن هذا مع كونه من رجال الشيخين ، فقد وثقه الحافظ نفسه في " التقريب " وفى الوقت نفسه ضعف الأسلمى ، فقد قال في الترجمة الأولى :
" يحيى بن يعلى بن الحارث المحاربى الكوفي ثقة ، من صغار التاسعة مات سنة ست عشرة " . وقال بعده بترجمة :
" يحيى بن يعلى الأسلمى الكوفي شيعي ضعيف ، من التاسعة " .
وكيف يعقل أن يقصد الحافظ تضعيف المحاربى المذكور وهو متفق على توثيقه ، ومن رجال " صحيح البخاري " الذي استمر الحافظ في خدمته وشرحه وترجمة رجاله قرابة ربع قرن من الزمان ؟! كل ما في الأمر أن الحافظ في " الإصابة " أراد أن يقول : " …. الأسلمى وهو واه " فقال واهما : " المحاربى وهو واه " .
فاستغل الشيعي هذا الوهم أسوأ الاستغلال . فبدل أن ينبه أن الوهم ليس في التوهين . وإنما في كتب " المحاربى " مكان الأسلمى . أخذ يوهم القراء عكس ذلك وهو أن راوى الحديث إنما هو المحاربى الثقة وليس الأسلمى الواهى ! فهل في صنيعه هذا ما يؤيد من زكاه في ترجمته في أول الكتاب بقوله:
" ومؤلفاته كلها تمتاز بدقة الملاحظة .. و أمانة النقل " .(177/31)
أين أمانة النقل يا هذا وهو ينقل الحديث من " المستدرك " وهو يرى فيه يحيى ابن يعلى موصوفا بأنه " الأسلمى " فيتجاهل ذلك ، ويستغل خطأ الحافظ ليوهم القراء أنه المحاربى الثقة . وأين أمانته أيضا وهو لا ينقل نقد الذهبي والهيثمى للحديث بالأسلمى هذا ؟! فضلا عن أن الذهبي أعله لمن هو أشد ضعفا من هذا كما رأيت ، ولذلك ضعفه السيوطى في " الجامع الكبير " على قلة عنايته فيه بالتضعيف فقال : " وهو واه " .
وكذلك وقع في " كنز العمال " رقم ( 2578 ) ، ومنه نقل الشيعي الحديث دون أن ينقل تضعيفه هذا مع الحديث ، فأين الأمانه المزعومه أين ؟!
( تنبيه ) أورد الحافظ ابن حجر الحديث في ترجمة زياد بن مطرف في القسم الأول من " الصحابة " وهذا القسم خاص كما قال في مقدمته ، " فيمن وردت صحبته بطريق الروايه عنه أو عن غيره ، سواء كانت الطريق صحيحة أو حسنة أو ضعيفة ، أو وقع ذكره بما يدل على الصحبة بأي طريق كان ، وقد كنت أولا رتبت هذا القسم الواحد على ثلاثة أقسام ، ثم بدا لي أن أجعله قسما واحدا ، وأميز ذلك في كل ترجمة " .
قلت : فلا يستفاد إذن من إيراد الحافظ للصحابى في هذا القسم أن صحبتة ثابتة ، ما دام أنه قد نص على ضعف إسناد الحديث الذي صرح فيه بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو هذا الحديث ، ثم لم يتبعه بما يدل على ثبوت صحبته من طريق أخرى ، وهذا ما أفصح بنفيه الذهبي في " التجريد " بقوله : ( 1 / 199 ) : " زياد بن مطرف ، ذكره مطين في الصحابة ، ولم يصح " .
وإذا عرفت هذا فهو بأن يذكر في المجهولين من التابعين أولى من أن يذكر في الصحابة المكرمين وعليه فهو علة ثالثة في الحديث .
ومع هذه العلل كلها في الحديث يريدنا الشيعي أن نؤمن بصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير عابئ بقوله صلى الله عليه وسلم : " من حدث عنى بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " . رواه مسلم في مقدمة " صحيحة " فالله المستعان .(177/32)
وكتاب " المراجعات " للشيعى المذكور محشو بالأحاديث الضعيفة والموضوعة في فضل على رضي الله عنه ، مع كثير من الجهل بهذا العلم الشريف، والتدليس على القراء والتضليل عن الحق الواقع . بل والكذب الصريح. مما لا يكاد القارئى الكريم يخطر في باله أن أحدا من المؤلفين يحترم نفسه يقع في مثله . من أجل ذلك قويت الهمة في تخريج تلك الأحاديث ـ على كثرتها ـ وبيان عللها وضعفها . مع الكشف عما في كلامه عليها من التدليس والتضليل . وذلك ما سيأتي بإذن الله تعالى برقم ( 4881 ـ 4975 ) .
893 ( من سره أن يحيا حياتى ، ويموت ميتتى ، ويتمسك بالقصبة الياقوتة التي خلقها الله بيده ، ثم قال لها " كونى فكانت " فليتول على بن أبى طالب من بعدى).
موضوع : رواه أبو نعيم ( 1 / 86 و 4 / 174 ) من طريق محمد بن زكريا الغلابى : ثنا بشر بن مهران : ثنا شريك عن الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة مرفوعا . وقال : " تفرد به بشر عن شريك "
قلت : هو ابن عبد الله القاضى وهو ضعيف لسوء حفظه .
وبشر بن مهران قال ابن أبى حاتم : " ترك أبى حديثه " . قال الذهبي : " قد روى عنه محمد بن زكريا الغلابى ، لكن الغلابى متهم " . قلت : ثم ساق هذا الحديث . والغلابى قال فيه الدارقطنى : " يضع الحديث " . فهو آفته .
والحديث أورده ابن الجوزي في " الموضوعات"( 1 / 387 ) من طرق أخرى ، وأقره السيوطى في " اللآلئ " ( 1 / 368 ـ 369 ) ، وزاد عليه طريقين آخرين أعلهما ، هذا أحدهما وقال : " الغلابى متهم " .
وقد روى بلفظ أتم منه ، وهو :
894 " من سره أن يحيا حياتى ، ويموت مماتى ، ويسكن جنة عدن غرسها ربى فليوال عليا من بعدى ، وليوال وليه ، وليقتد بالأئمة من بعدى . فإنهم عترتى ، خلقوا من طينتى ، رزقوا فهما وعلما ، وويل للمكذبين بفضلهم من أمتى ، القاطعين فيهم صلتى ، لا أنالهم الله شفاعتى " .(177/33)
موضوع : أخرجه أبو نعيم ( 1 / 86 ) من طريق محمد بن جعفر بن عبد الرحيم : ثنا أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم : ثنا عبد الرحمن بن عمران ابن أبى ليلى ـ أخو محمد بن عمران ـ : ثنا يعقوب بن موسى الهاشمى عن ابن أبى رواد عن إسماعيل بن أمية عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا . وقال:
" وهو غريب " .
قلت : وهذا إسناد مظلم ، كل من دون ابن أبى رواد مجهولون . لم أجد ذكرهم . غير أنه يترجح عندي أن أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم إنما هو ابن مسلم الأنصارى الأطرابلسى المعروف بابن أبى الحناجر ، قال ابن أبى حاتم ( 1 / 1 / 73 ) : " كتبنا عنه وهو صدوق " . وله ترجمة في " تاريخ ابن عساكر" (2 / ق 113 ـ 114 / 1 ) .
وأما سائرهم فلم أعرفهم ، فأحدهم هو الذي اختلق هذا الحديث الظاهر البطلان والتركيب ، وفضل على رضي الله عنه أشهر من أن يستدل عليه بمثل هذه الموضوعات ، التي يتشبث الشيعه بها ، ويسودون كتبهم بالعشرات من أمثالها مجادلين بها في إثبات حقيقة لم يبق اليوم أحد يجحدها ، وهى فضيلة على رضي الله عنه .
ثم الحديث عزاه في " الجامع الكبير " ( 2 / 253 / 1 ) للرافعى أيضا عن ابن عباس ، ثم رأيت ابن عساكر أخرجه في " تاريخ دمشق " ( 12 / 120 / 2 ) من طريق أبى نعيم ثم قال عقبه :
" هذا حديث منكر ، وفيه غير واحد من المجهولين " .
قلت : وكيف لا يكون منكرا ، وفى مثل ذاك الدعاء ! " لا أنالهم الله شفاعتى " الذي لا يعهد مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يتناسب مع خلقه صلى الله عليه وسلم ورأفته ورحمته بأمته ؟
وهذا الحديث من الأحاديث التي أوردها صاحب " المراجعات " عبد الحسين الموسوي نقلا عن كنز العمال ( 6 / 155 و 217 ـ 218 ) موهما أنه في مسند الإمام أحمد ، معرضا عن تضعيف صاحب الكنز إياه تبعا للسيوطى …... .(177/34)
وكم في هذا الكتاب " المراجعات " من أحاديث موضوعات ، يحاول الشيعي أن يوهم القراء صحتها وهو في ذلك لا يكاد يراعى قواعد علم الحديث حتى التي هي على مذهبهم إذ ليست الغاية عنده التثبت مما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في فضل على رضي الله عنه ، بل حشر كل ما روى فيه ! وعلى رضي الله عنه كغيره من الخلفاء الراشدين والصحابة الكاملين أسمي مقاما من أن يمدحوا بما لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولو أن أهل السنة والشيعة اتفقوا على وضع قواعد في " مصطلح الحديث " يكون التحاكم إليها عند الاختلاف في مفردات الروايات ، ثم اعتمدوا جميعا على ما صح منها ، لو أنهم فعلوا ذلك لكان هناك أمل في التقارب والتفاهم فهيهات هيهات أن يمكن التقارب والتفاهم معهم . بل كل محاولة في سبيل ذلك فاشلة . والله المستعان .
انتهى كلام الشيخ العلامة ، حفظه الله تعالى ونفعنا بعلمه .
هذه هي الأحاديث الثلاثة التي بدأ بها مراجعته ، وكلها موضوعة مكذوبة ، وما يأتي بعدها ليس بأحسن حالاً منها ، وعددها ثلاثة عشر ، وبالنظر إلى مراجعه التي جمع منها هذه الأحاديث نجد الآتى :
خمسة أحاديث من كتاب الصواعق المحرقة ، وابن حجر الهيثمى أثبت بطلان عقيدة الرافضة ، ولهذا ألف كتابه الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة . وقد بين في كتابه عدم صحة ما يستدلون به ، وأنه معارض بالمتواتر والصحيح . والرافضى ينقل غير الصحيح الذي يؤيد باطله ، متجاهلا ما يعارضه . ولذلك سأقف وقفة طويلة تغنينا عن الرجوع لما ينقل من كتاب الصواعق .
ونقل ثلاثة أحاديث من كنز العمال لم يصح منها شيء .
وباقى مراجعه هي : إسعاف الراغبين ، والشرف المؤبد ، والشفا ، وإحياء الميت ، والأربعين للنبهانى ، وتفسير الثعلبى ، وتفسير الزمخشري . وأخذ الأحاديث من هذه المراجع يدل على جهل أو تجاهل الرافضي للحديث وعلومه ، والمنهج العلمى في الاستدلال بالسنة المطهرة .(177/35)
فهذه الكتب كلها ليست من الكتب المعتمدة للسنن والآثار ، فضلا عن أن تكون من الصحاح . بل إن هذه الكتب يكثر فيها الأخبار الباطلة مثل هذه الأخبار المنقولة .
*****
باب مدينة العلم
من الأحاديث التي استدل الرافضيان " أنا مدينة العلم وعلى بابها " ، وأثبت هنا رد شيخ الإسلام على ابن المطهر .
قال رحمه الله تعالى :
وحديث : " أنا مدينة العلم وعلى بابها " أضعف وأوهى ، ولهذا إنما يعدّ في الموضوعات ، وإن رواه الترمذي ، وذكره ابن الجوزي وبيّن أن سائر طرقه موضوعة ، والكذب يعرف من نفس متنه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مدينة العلم ، ولم يكن لها إلا باب واحد ، ولم يُبلّغ عنه العلم إلا واحد ، فَسَدَ أمر الإسلام ، ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحدا ، بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر ، الذي يحصل العلم بخبرهم للغائب .
وخبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن ، وتلك قد تكون منتفية أو خفية عن أكثر الناس ، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة .
وإذا قالوا : ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخبره .
قيل لهم : فلابد من العلم بعصمته أولا . وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن يعلم عصمته ، فإنه دَوْر ، ولا تثبت بالإجماع ، فإنه لا إجماع فيها . وعند الإمامية إنما يكون الإجماع حجة ، لأن فيهم الإمام المعصوم ، فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه ، فعُلم أن عصمته لو كانت حقا لابد أن تعلم بطريق آخر غير خبره .
فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلا هو ، لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين ، فعلم أن هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل ظنه مدحا ، وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام ، إذ لم يبلغه إلا واحد .(177/36)
ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر ؛ فإن جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير على . أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهما ظاهر ، وكذلك الشام والبصرة ؛ فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن على إلا شيئا قليلا ، وإنما كان غالب علمه في الكوفة ، ومع هذا فأهل الكوفة كانوا يعلمون القرآن والسنة قبل أن يتولى عثمان ، فضلا عن علىّ .
وفقهاء أهل المدينة تعلموا الدين في خلافة عمر ، وتعليم معاذ لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من على . ولهذا روى أهل اليمن عن مُعاذ بن جبل أكثر مما رووا عن على ، وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على معاذ بن جبل . ولما قدم على الكوفة كان شريح فيها قاضيا . وهو وعبيدة السلمانى تفقها على غيره، فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم على الكوفة .
وقال ابن حزم : " واحتج من احتج من الرافضة بأن عليا كان أكثرهم علما ". قال : " وهذا كذب ، وإنما يعرف علم الصحابى بأحد وجهين لا ثالث لهما : أحدهما: كثرة روايته وفتاويه . والثانى : كثرة استعمال النبي صلى الله عليه وسلم له . فمن المحال الباطل أن يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم من لا علم له . وهذه أكبر شهادة على العلم وسعته ، فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى أبا بكر الصلاة بحضرته طول علته ، وجميع أكابر الصحابة حضور ، فعمر وعلى وابن مسعود وأبى وغيرهم ، فهذا بخلاف استخلافه عليا إذا غزا ، لأن ذلك على النساء وذوى الأعذار فقط ، فوجد ضرورة أن يكون أبو بكر أعلم الناس بالصلاة وشرائعها ، وأعلم المذكورين بها ، وهى عمود الإسلام . ووجدناه أيضا قد استعمله على الصدقات ، فوجب ضرورة أن يكون عنده من علم الصدقات كالذى عند غيره من علماء الصحابة ، لا أقل ، وربما كان أكثر ، إذ قد استعمل غيره ، وهو لا يستعمل إلا عالما بما استعمله فيه ، والزكاة ركن من أركان الدين بعد الصلاة .(177/37)
وبرهان ما قلناه من تمام علم أبى بكر بالصدقات أن الأخبار الواردة في الزكاة أصحها ، والذى يلزم العمل به ولا يجوز خلافه فهو حديث أبى بكر ، ثم الذي من طريق عمر . وأما من طريق على فمضطرب ، وفيه ما قد تركه الفقهاء جملة ، وهو أن في خمس وعشرين من الإبل خمسا من الشياه .
وأيضا فوجدناه صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج ، فصح ضرورة أنه أعلم من جميع الصحابة بالحج . وهذه دعائم الإسلام .
ثم وجدناه قد استعمله على البعوث ، فصح أن عنده من أحكام الجهاد مثل ما عند سائر من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على البعوث ، إذ لا يستعمل إلا عالما بالعمل ، فعند أبى بكر من علم الجهاد كالذى عند على وسائر أمراء البعوث لا أقل .
وإذا صح التقدم لأبى بكر علَى علىّ وغيره في العلم بالصلاة والزكاة والحج ، وساواه في الجهاد ، فهذه عمدة للعلم .
ثم وجدناه صلى الله عليه وسلم قد ألزم نفسه في جلوسه ومسامرته وظعنه وإقامته أبا بكر ، فشاهد أحكامه وفتاويه أكثر من مشاهدة على لها ، فصح ضرورة أنه أعلم بها ، فهل بقيت من العلم بقية إلا وأبو بكر المقدم فيها الذي لا يلحق ؟ أو المشارك الذي لا يسبق ؟ فبطلت دعواهم في العلم ، والحمد لله رب العالمين .(177/38)
وأما الرواية والفتيا ، فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يعش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سنتين وستة أشهر ، ولم يفارق المدينة إلا حاجا أو معتمرا ، ولم يحتج الناس إلى ما عنده من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن كل من حواليه أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك كله فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث واثنين وأربعين حديثا مسندة ، ولم يرو عن على إلا خمسمائة وستة وثمانون حديثا مسندة ، يصح منها نحو خمسين حديثا . وقد عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أزيد من ثلاثين سنة ، فكثر لقاء الناس إياه وحاجتهم إلى ما عنده ، لذهاب جمهور الصحابة ، وكثر سماع أهل الآفاق ، منه مرة بصفين ، وأعواما بالكوفة ، ومرة بالبصرة ، ومرة بالمدينة ، فإذا نسبنا مدة أبى بكر من حياته ، وأضفنا تفرى على البلاد بلدا بلدا ، وكثرة سماع الناس منه ، إلى لزوم أبى بكر موطنه ، وأنه لم تكثر حاجة من حواليه إلى الرواية عنه ، ثم نسبنا عدد حديثه من عدد حديثه ، وفتاويه من فتاويه ، علم كل ذى حظ من علم أن الذي عند أبى بكر من العلم أضعاف ما كان عند على منه .
وبرهان ذلك أن مَنْ عُمّر من الصحابة عُمرا قليلا قلّ النقل عنه ، ومن طال عمره منهم كثر النقل عنه إلا اليسير ممن اكتفى بنيابة غيره عنه في تعليم الناس . وقد عاش على بعد عمر سبعة عشر عاما غير أشهر ، ومسند عمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثا ، يصح منها نحو خمسين ، كالذى عن على سواء ، فكل ما زاد حديث علىّ علَى حديث عمر تسعة و أربعون حديثا في هذه المدة ، ولم يزد عليه في الصحيح إلا حديث أو حديثان .(177/39)
وفتاوى عمر موازية لفتاوى على في أبواب الفقه ، فإذا نسبنا مدة من مدة ، وضربا في البلاد من ضرب فيها ، وأضفنا حديثا إلى حديث ، وفتاوى إلى فتاوى ، علم كل ذى حس علما ضروريا أن الذي كان عند عمر من العلم أضعاف ما كان عند على ، ووجدنا مسند عائشة ألفى مسند ومائتى مسند وعشرة مسانيد ، وحديث أبى هريرة خمسة آلاف مسند ، وثلثمائة مسند ، وأربعة وسبعون مسندا ، ووجدنا مسند ابن عمر وأنس قريبا من مسند عائشة لكل واحد منهما ، ووجدنا مسند جابر وابن عباس لكل واحد منهما ، أزيد من ألف وخمسمائة ، ووجدنا لابن مسعود ثمانمائة مسند ونيفا ، ولكل من ذكرنا ـ حاشا أبى هريرة وأنس ـ من الفتاوى أكثر من فتاوى على أو نحوها ، فبطل قول هذا الجاهل " .
إلى أن قال : " فإن قالوا : قد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم عليا على الأخماس وعلى القضاء باليمن ؟ قلنا : نعم ، لكن مشاهدة أبى بكر لأقضية النبي صلى الله عليه وسلم أقوى في العلم وأثبت مما عند على وهو باليمن ، وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على بعوث فيها الأخماس ، فقد ساوى علمه علم على في حكمها بلا شك ، إذ لا يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم إلا عالما بما يستعمله عليه ، وقد صح أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يفتيان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم ذلك ، ومحال أن يبيح لهما ذلك إلا وهما أعلم من غيرهما ، وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا على القضاء باليمن مع على معاذا وأبا موسى الأشعرى ، فلعلىّ في هذا شركاء كثير ، منهم أبو بكر وعمر ، ثم انفرد أبو بكر بالجمهور والأغلب من العلم " .
نظرة في الكتب التي ينقل منها الرافضيان(177/40)
أشار شيخ الإسلام الى بعض الكتب التي نقل منها الرافضي ابن المطهر الحلى ، وبين خطأ منهجه في النقل . وعبد الحسين كسلفه الرافضي نقل من تلك الكتب بالمنهج الخاطئ هو نفسه ، غير أنه في مراجعاته نقل نقولا كثيرة من كتابين هما : نهج البلاغة ، والصواعق المحرقة ، مما يستدعى أن نقف وقفة أمام كل منهما لنرى القيمة العلمية لما ينقل من نهج البلاغة ، ومنهج التضليل والتلبيس في النقل من الصواعق : وتكفينا وقفة قصيرة بالنسبة للكتاب الأول ، أما الثانى فيحتاج إلى وقفة طويلة تفضح هذا الرافضي وأمثاله .
أولا : نهج البلاغة
كتاب نهج البلاغة كتاب بغير إسناد ، فسواء أكان من تأليف وجمع الشريف الرضى المتوفى سنة 406 هـ ، أم أخيه الشريف المرتضى المتوفى سنة 436 هـ ، فليس متصل الإسناد إلى الإمام على ـ رضي الله عنه ـ بل كان التأليف والجمع بعد ما يقرب من أربعة قرون ، وكما قال عبد الله بن المبارك وابن سيرين وغيرهما : " لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء " .
وروى الإمام الحاكم بسنده عند عبد الله بن المبارك قال : " الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء "، ثم قال بعد هذا ـ وهو شيعي لكنه غير رافضى : " فلولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له ، وكثرة مواظبتهم على حفظه ، لدرس منار الإسلام ، ولتمكن أهل الإلحاد والبدع فيه بوضع الأحاديث ، وقلب الأسانيد ، فإن الأخبار إذا تعرت عن وجود الأسانيد فيها كانت بترا " .
وروى أن ابن أبى فروة ذكر أحاديث بغير إسناد فقال له الزهرى : " قاتلك الله يا بن أبى فروة ، ما أجرأك على الله ! لا تسند حديثك ؟ تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة " ! .
( انظر كتابه معرفة علوم الحديث ص 6 ) .
فكتاب نهج البلاغة إذا بغير خطم ولا أزمة ، ولا وزن له من الناحية العلمية . وفى ضوء المنهج العلمى لا يعتبر حجة في أي فرع من فروع الشريعة فضلا عن أصول العقيدة .(177/41)
وإذا ثبت أن هذا الكتاب للشريف الرضى ـ كما سيأتي ـ فإن هذا الشاعر رافضى جلد لا يحتج بروايته كما هو معلوم من ترجمته ، وهذا يعنى أن نهج البلاغة لو كان مسندا عن طريقه فلا يجوز الإحتجاج بما جاء فيه . فلو كان مسندا فليس بحجة ، فما بالك إذا خلا تماما عن الإسناد ؟ !
وفى عام 1406 هـ ( 1986 م ) ظهرت طبعة جديدة للكتاب ، وجاء تحت العنوان ما يأتي :
نسخة جديدة محققة وموثقة ، تحوى ما ثبت نسبته للإمام على رضي الله عنه وكرم الله وجهه من خطب ورسائل وحكم . تحقيق وتوثيق دكتور صبرى إبراهيم السيد ، تقديم العلامة المحقق الأستاذ عبد السلام محمد هارون .
فلننظر في هذه النسخة لنرى ماذا قال أستاذنا رحمه الله في تقديمه ، ولنرى نتيجة التحقيق والتوثيق . قال أستاذنا في التقديم :
إنها قضية ذات كتاب : أو كتاب ذو قضية . فكتابنا هذا " نهج البلاغة "يعد في طليعة أمهات كتب الأدب العربى . ولا تكاد مكتبة أديب حفى بالتراث العربى تخلو من الظفربه أو اقتنائه .
وكنا إلى الأمس القريب في ريبتين اثنتين منه : أولاهما : من هو صانع هذا الكتاب ؟ أهو الشريف الرضى ، أم هو أخوه المرتضى ؟ والأخرى : مدى صحة هذا الحشد الهائل من الخطب والرسائل والحكم ، أو بعبارة أدق : ما مدى توثيق هذا الكم الضخم ونسبته إلى الإمام على كرم الله وجهه ؟ من ذا الذي يقضى في هذه المسائل ؟ فإن كثيرين من علماء القرن السادس الهجرى يزعمون أن معظم هذه النصوص لا يصح إسناده إلى الخليفة الإمام ، وإنما هو من صناعة قوم من فصحاء الشيعة ، صنعوه ليزيدوا الناس يقينا بما عرفوه من فصاحة الإمام واقتداره، مع أن فصاحة وبلاغة وسمو بيانه لا تحتاج إلى دليل ، أو تفتقر إلى برهان ، وزعموا أيضا أن الشريف الرضى أو غيره من الشيعة نظموا أنفسهم في سلك هؤلاء الأقوام .(177/42)
وقالوا : إنه مما يحير هذا الشك ويقويه ، ما اشتمل عليه هذا الكتاب من تعريض بالصحابة في غير ما موضع : وإن السجع والصناعة اللفظية تظهر في كثير من جوانبه على خلاف المعهود في نتاج هذا العصر النبوي .
قالوا : إن فيه من دقة الوصف ، وغرابة التصوير ما لم يكن معروفا في آثار الصدر الأول الإسلامي ، كما أنه يطوى في جنباته كثيرا من المصطلحات التي لم يتداولها الناس بعد أن شاعت علوم الحكمة ، كالأين والكيف ، إلى ما فيه من لغات علم الكلام وأبحاث الرؤية الإلهية ، والعد ، وكلام الخالق ، ومالم يكن معهودا كذلك من التقسيمات الرياضية ذات النظام .
وقالوا : إن الكتاب مشتمل على ادعاء المعرفة بالغيبيات ، وهو الأمر الذي يجل قدر الإمام على بن أبى طالب وإيمانه الصريح الخالص عن التلبس له أو اصطناعه .
وأن في الكتاب تكرارا للمقاطع بالتطويل تارة ، وبالإيجاز أخرى ، وأن كثيرا من نصوصه لم يظهر فيما أثر من كتب الأدب والتاريخ التي صنعت قبل الشريف الرضى أو أخيه ، وأن فيه تطويلا يتجاوز حد الغلو في بعض نصوصه ، كعهده إلى الأشتر النخعى . دع عنك ما يسرى فيه من مظاهر التشيع المذهبى ، والتعصب الشيعي التي يعلو قدر الإمام عنها .
وأمر آخر يريب : وهو أن جامع هذه النصوص لم يسجل في صدر كتابه أو أثنائه شيئا من مصادر التوثيق والرواية ، كما هو المألوف في أمثال هذه الكتب التي ينظر إليها بعين خاصة ، وهذه كلها شبهات تعلو ، ومسائل تطفو ، تحمل الباحث على كثير من التأمل ، وطويل من الدرس . شبهات ومسائل كانت تحيك في صدر كل دارس لهذا الكتاب الخالد ، ويود لو أن قد تفرغ لدراستها من يزيل عنها تلك الأوضار ، ليظهر من بينها يقين التحقيق .
لهذا كله كانت غبطتى بهذا البحث الذي تولاه باحث أعرف فيه الدقة والصبر، وأعرف فيه خلة التأنى ، فقد استطاع الدكتور صبرى أن يحقق نسبة الكتاب إلى الشريف الرضى بما لا يدع مجالا للشك .(177/43)
ويمكن من تحقيق نسبة النصوص في هذا الكتاب بمختلف ضروبها من خطب ورسائل وحكم إلى أصحابها ، ومن بينها ما صحت نسبته إلى الإمام على في جملتها وتفصيلها ، أو في تفصيلها فقط دور جملتها . وهذا أمر يحدث للمرة الأولى بين الباحثين في هذا الكتاب بهذا الأسلوب المنهجي الفريد " ا . هـ
وبعد هذا التقديم نأتى إلى نتائج التوثيق التي انتهى إليها الدكتور صبرى ، حيث قال :
وهكذا أجد نفسى ـ بعد هذه الجولة التوثيقية ـ أمام مستويات خمسة من النصوص :
1- نصوص ثبتت نسبتها إلى الإمام علي.
2- نصوص رواها الشيعة وحدهم .
3- نصوص لم يروها أحد .
4- نصوص مشكوك في صحة نسبتها لأسباب خاصة .
5- نصوص ثبتت نسبتها لآخرين .
( انظر ص 81 : 97 )
والذى يعنينا هو المستوى الأول فقط . وكيف استطاع المحقق إثبات نسبتها إلى الإمام على ؟
بين المحقق منهجه في التوثيق حيث قال : ( ص 65 )
" وهأنذا أحاول استكشاف ما في بطون الكتب الأدبية والتاريخية من نصوص أوردها صاحب النهج ، ملتزما في ذلك باعتماد أقوال من سبقوا الشريف الرضى ، أو عاصروه ، واستبعاد من جاءوا بعده أو لم يعاصروه " .
وقبل أن ننظر في مراجع المحقق نراه هنا يذكر أنها كتب أدبية وتاريخية،وهذه الكتب كما نعلم ليست حجة في أي فرع من فروع الشريعة ، فما بالك بأصول العقيدة ؟ !
بعد نتائج التوثيق انتقل المحقق إلى تحقيق النصوص وتوثيقها ، وبدأها بتوثيق الخطب :(177/44)
أثبت الخطبة الأولى من أولها إلى قوله : " ولا وقت معدود " ، ومرجعه العقد الفريد لابن عبد ربه . ( انظر ص 101 ) وهى هنا خمسة أسطر فقط ، وفى الأصل أكثر من خمسين ومائة سطر . والثانية نصف سطر ، وقال المحقق ( ص 101 ) : الكلمة موجودة في تاريخ اليعقوبى . والثالثة في الإمامة والسياسة لابن قتيبة ( ص 102 ) ـ قلت : الكتاب غير صحيح النسبة لابن قتيبة . وهكذا نجد مراجع المحقق من هذا النوع من الكتب التي لا تعتبر إطلاقا مراجع معتمدة في مجال الشريعة . وفى ص 297 : 309 ذكر مراجع البحث والتوثيق . وبالنظر فيها نراها كما ذكر المحقق من كتب الأدب والتاريخ ما عدا مسند الإمام أحمد ، وقد سبق جمع ما في المسند ودراسته ، إذن لا يجوز ذكر شىء مما جاء في نهج البلاغة ليحتج به في أي مجال من مجالات الشريعة ، ولسنا بعد هذا في حاجة إلى مناقشة ما يذكره هذا الرافضي ، وبيان أن ما جاء به من طعن في الصحابة الكرام الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وخيرهم الشيخان ، يتعارض مع كتاب الله تعالى ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ثبت متواترا وصحيحا عن الإمام على هو نفسه، رضي الله عنه.
ثانيا : الصواعق المحرقة
كتاب الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة للمحدث الفقيه أحمد بن حجر الهيتمى المكى ، المتوفى سنة 974 هـ .
والكتاب كما يظهر من عنوانه إنما هو للرد على هذه الفرقة وأمثالها ، ولذلك قال في بداية الكتاب :
" سئلت قديما في تأليف كتاب يبين حقية خلافة الصديق ، وإمارة ابن الخطاب، فأجبت إلى ذلك مسارعة في خدمة هذا الجانب ، فجاء بحمد الله أنموذجا لطيفا ، ومنهاجا شريفا ، ومسلكا منيفا . ثم سئلت قديما في إقرائه في رمضان سنة خمسين وتسعمائة بالمسجد الحرام لكثرة الشيعة والرافضة ونحوهما الآن بمكة المشرفة . . إلخ " ( ص 9 ) .(177/45)
فالكتاب إذن لبيان بطلان مذهب الشيعة والرافضة و نحوهما ، فكيف يستدل عبد الحسين بما جاء في هذا الكتاب لبيان صحة مذهبه لا بطلانه ؟
لننظر إلى ما جاء في الصواعق أولا ، ثم نبين مسلك عبد الحسين .
بدأ ابن حجر الهيتمى بثلاث مقدمات ، ومما جاء فيها : بيان وجوب تعظيم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد ما افتراه الرافضة عليهم من الروايات . ثم إجماع الصحابة على وجوب تنصيب الإمام بعد عصر النبوة . وأخيرا طريق ثبوت الخلافة .
وقسم الكتاب إلى أحد عشر بابا :
جعل الباب الأول في بيان كيفية خلافة الصديق ، والاستدلال على حقيتها بالنقل والعقل ، وقسم الباب إلى خمسة فصول :
الأول : في بيان كيفيتها : وبدأه بقول : " روى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما ، اللذين هما أصح الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتد به ، أن عمر رضي الله عنه ـ خطب الناس مرجعه من الحج .. " وذكر ما يتصل ببيعة الصديق، وأثبتها من قبل .
وقال بعد هذا ( ص 20 ) .
" وأخرج النسائي ، وأبو يعلى ، والحاكم وصححه : عن ابن مسعود قال : لما قبض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فأتاهم عمر ابن الخطاب ، فقال : يا معشر الأنصار : ألستم تعلمون أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس ، وأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر ؟ فقالت الأنصار : نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر " . ثم قال بعد هذا ( ص 21 ) :(177/46)
وأخرج موسى بن عقبة في مغازيه ، والحاكم ، وصححه عن عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه قال : خطب أبو بكر فقال : والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط ، ولا كنت راغبا فيها ولا سألتها الله في سر ولا علانية ، ولكننى أشفقت من الفتنة ، ومالي في الإمارة من راحة ، لقد قلدت أمرا عظيما مالى به من طاقة ، ولا يد إلا بتقوية الله . فقال على والزبير : ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة ، وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها ؛ إنه لصاحب الغار ، وإنا لنعرف شرفه وخيره ، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بين الناس وهو حى " .
وقال أيضا :
وأخرج أحمد أن أبا بكر لما خطب يوم السقيفة لم يترك شيئا أنزل في الأنصار ، وذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم إلا ذكره ، وقال : لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار واديا لسلكت وادى الأنصار ، وقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وأنت قاعد : قريش ولاة هذا الأمر ، فبر الناس تابع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم . فقال له سعد : صدقت ، نحن الوزراء وأنتم الأمراء . ويؤخذ منه ضعف ما حكاه ابن عبد البر أن سعدا أبى أن يبايع أبا بكر حتى لقى الله ـ ( انظر ص 21 : 22 ) .
وجعل الفصل الثانى في بيان انعقاد الإجماع على ولاية أبى بكر ، فقال :
قد علم مما قدمناه أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على ذلك ، وأن ما حكى من تخلف سعد بن عبادة عن البيعة مردود .(177/47)
ومما يصرح بذلك أيضا ما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: ما رآه المسلمون حسنا ، فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون سيئا ، فهو عند الله سيئ . وقد رأي الصحابة جميعا أن يستخلف أبو بكر ، فانظر إلى ما صح عن ابن مسعود ، وهو من أكابر الصحابة ، وفقهائهم ومتقدميهم من حكاية الإجماع من الصحابة جميعا على خلافة أبى بكر ، ولذا كان هو الأحق بالخلافة عند جميع أهل السنة والجماعة في كل عصر منا إلى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، وكذلك عند جميع المعتزلة ، وأكثر الفرق ، وإجماعهم على خلافته قاض بإجماعهم على أنه أهل لها مع أنها من الظهور بحيث لا تخفى . فلا يقال إنها واقعة يحتمل أنها لم تبلغ بعضهم ، ولو بلغت الكل لربما أظهر بعضهم خلافا . على أن هذا إنما يتوهم أن لو لم يصح عن بعض الصحابة المشاهدين بذلك الأمر من أوله إلى آخره حكاية الإجماع ، وأما بعد أن صح عن مثل ابن مسعود حكاية إجماعهم كلهم ، فلا يتوهم ذلك أصلا، سيما وعلى كرم الله وجهه ممن حكى الإجماع على ذلك أيضا ، كما سيأتي عنه أنه لما قدم البصرة سئل عن مسيره هل هو بعهد من النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مبايعته هو وبقية الصحابة لأبى بكر ، وأنه لم يختلف عليه منهم اثنان .(177/48)
وأخرج البيهقي عن الزعفرانى قال سمعت الشافعى يقول : أجمع الناس على خلافة أبى بكر ، وذلك أنه اضطرب الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجدوا تحت أديم السماء خيرا من أبى بكر فولوه رقابهم . وأخرج أسد السنة عن معاوية بن قرة قال: ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون أن أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما كانوا يسمونه إلا خليفة رسول الله ، وما كانوا يجتمعون على خطأ ولا ضلالة . وأيضا فالأمة اجتمعت على حقية إمامة أحد الثلاثة أبى بكر وعلى والعباس ، ثم إنهما لم ينازعاه بل بايعاه ، فتم بذلك الإجماع له على إمامته دونهما . إذ لو لم يكن على حق لنازعاه كما نازع على معاوية مع قوة شوكة معاوية عدة وعددا على شوكة أبى بكر ، فإذا لم يبال على بها ، ونازعه ، فكانت منازعته لأبى بكر أولى وأحرى ، فحيث لم ينازعه دل على اعترافه بحق خلافته ، ولقد سأله العباس في أن يبايعه ، فلم يقبل ، ولو علم نصا عليه لقبل سيما ومعه الزبير مع شجاعته وبنو هاشم وغيرهم . ومر أن الأنصار كرهوا بيعة أبى بكر وقالوا منا أمير ومنكم أمير ، فدفعهم أبو بكر بخبر : الأئمة من قريش ، فانقادوا له وأطاعوه ، وعلى أقوى منهم شوكة وعدة وعددا وشجاعة، فلو كان معه نص لكان أحرى بالمنازعة ، وأحق بالإجابة ، ولا يقدح في حكاية الإجماع تأخر على والزبير والعباس وطلحة مدة لأمور منها أنهم رأوا أن الأمر تم بمن تيسر حضوره حينئذ من أهل الحل والعقد ، ومنها أنهم لما جاءوا وبايعوا اعتذروا كما مر عن الأولين من طرق بأنهم أخروا عن المشورة مع أن لهم فيها حقا ، لا للقدح في خلافة الصديق. هذا مع الاحتياج في هذا الأمر لخطره إلى الشورى التامة ، ولهذا مر عن عمر بسند صحيح أن تلك البيعة كانت فلتة ، ولكن وقى الله شرها .(177/49)
ويوافق ما مر عن الأولين من الاعتذار ، ما أخرجه الدار قطنى من طرق كثيرة أنهما قالا عند مبايعتهما لأبى بكر : إلا أنا أخرنا عن المشورة ، وإنا لنرى أن أبا بكر أحق الناس بها . إنه لصاحب الغار وثانى اثنين ، وإنا لنعرف له شرفه وكبره ، وفى آخرها أنه اعتذر إليهم ، فقال " والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما قط ولا ليلة ، ولا كنت فيها راغبا ، ولا سألتها الله عزوجل في سر ولا علانية، ولكننى أشفقت من الفتنة ، ومالي في الإمارة من راحة ، ولقد قلدت أمرا عظيما " ، إلى آخر ما مر ، فقبلوا منه ذلك ، وما اعتذر به . ( انظر ص 23 : 25 ) .
وعقب على ما سبق وعلى رواية للبخاري ، بقوله :
فتأمل عذره وقوله : لم ننفس على أبى بكر خيرا ساقه الله إليه ، وأنه لا ينكر ما فضله الله به ، وغير ذلك مما اشتمل عليه هذا الحديث تجده بريئا مما نسبه إليه الرافضة ونحوهم ، فقاتلهم الله ما أجهلهم وأحمقهم ! ( ص 26 ) .
أما الفصل الثالث ففي النصوص السمعية الدالة على خلافة أبى بكر من القرآن والسنة ، وبدأ بالنصوص القرآنية فقال :
فمنها قوله تعالى :
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"(177/50)
أخرج البيهقي عن الحسن البصري أنه قال : هو والله أبو بكر ، لما ارتدت العرب جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردهم إلى الإسلام , وأخرج يونس بن بكير عن قتادة قال : لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب ، فذكر قتال أبى بكر لهم إلى أن قال : فكنا نتحدث أن هذه الآية نزلت في أبى بكر وأصحابه . " فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ "وشرح ثم قال :
وأخرج الدار قطنى عن ابن عمر قال : لما برز أبو بكر واستوى على راحلته أخذ على بزمامها وقال : إلى أين يا خليفة رسول الله ، أقول لك ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد : شمر سيفك ولا تفجعنا بنفسك ، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدا . ( انظر 27 : 28 ) .
واستمر في ذكر الآيات الكريمة ، ومما قاله :
ومن الآيات الدالة على خلافته أيضا قوله تعالى :" قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ".(177/51)
أخرج ابن أبى حاتم عن جويبر أن هؤلاء القوم هم بنو حنيفة ، ومن ثم قال ابن أبى حاتم وابن قتيبة وغيرهما : هذه الآية حجة على خلافة الصديق لأنه الذي دعا إلى قتالهم ، فقال الشيخ أبو الحسن الأشعرى ـ رحمه الله ـ إمام أهل السنة : سمعت الإمام أبا العباس بن سريج يقول : الصديق في القرآن في هذه الآية . قال : لأن أهل العلم أجمعوا على أنه لم يكن بعد نزولها قتال دعوا إليه إلا دعاء أبى بكر لهم وللناس إلى قتال أهل الردة ومن منع الزكاة . قال : فدل ذلك على وجوب خلافة أبى بكر ، وافتراض طاعته إذ أخبر الله أن المتولى عن ذلك يعذب عذابا أليما . قال ابن كثير : ومن فسر القوم بأنهم فارس والروم ، فالصديق هو الذي جهز الجيوش إليهم ، وتمام أمرهم كان على يد عمر وعثمان وهما فرعا الصديق .
فإن قلت : يمكن أن يراد بالداعى في الآية النبي صلى الله عليه وسلم أو على قلت : لا يمكن ذلك مع قوله تعالى : " قُل لَّن تَتَّبِعُونَا " ومن ثم لم يدعوا إلى محاربة في حياته صلى الله عليه وسلم إجماعا كما مر ، وأما على فلم يتفق له في خلافته قتال لطلب الإسلام أصلا بل لطلب الإمامة ، ورعاية حقوقها ، وأما من بعده فهم عندنا ظلمة ، وعندهم كفار ، فتعين أن ذلك الداعى الذي يجب باتباعه الأجر الحسن وبعصيانه العذاب الأليم أحد الخلفاء الثلاثة ، وحينئذ فالألزم عليه حقية أبى بكر على كل تقدير؛ لأن حقية خلافة الآخرين فرع عن حقية خلافته إذ هما فرعاها الناشئان عنها والمترتبان عليها .(177/52)
ومن تلك الآيات أيضا قوله تعالى : "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ "
قال ابن كثير : هذه الآية منطبقة على خلافة الصديق ، وأخرج ابن أبى حاتم في تفسيره عن عبد الرحمن بن عبد الحميد المهرى قال : إن ولاية أبى بكر وعمر في كتاب الله . يقول الله تعالى :" وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ".
ومنها قوله تعالى :" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ".
وجه الدلاله : أن الله تعالى سماهم صادقين ، ومن شهد له سبحانه وتعالى بالصدق لا يكذب ، فلزم أن ما أطبقوا عليه من قولهم لأبى بكر خليفة رسول الله صادقون فيه ، فحينئذ كانت الآية ناصة على خلافته . أخرجه الخطيب عن أبى بكر ابن عياش وهو استنباط حسن ، كما قاله ابن كثير ، ( انظر ص 31 : 32 ) .
وبعد أن انتهى صاحب الصواعق من ذكر الآيات الكريمة ، وبيان دلالتها على خلافة أبى بكر ، انتقل إلى السنة المطهرة . فقد جمع كثيرا من الأحاديث التي تدل على خلافتة ، والأحاديث التي تدل على فضله ، وهى تزيد على المائة ، وذكرها في أبواب متفرقة .
وأثبت هنا بعض الأحاديث التي بين أنها تدل على خلافة أبى بكر .(177/53)
1 ـ أخرج أحمد وحسنه ، وابن ماجه ، والحاكم وصححه ، عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر ، وأخرجه الطبرانى من حديث أبى الدرداء والحاكم من حديث ابن مسعود . وروى أحمد والترمذى وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن حذيفه : إنى لا أدرى ما قدر بقائى فيكم فاقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر ، وتمسكوا بهدى عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوا . والترمذى عن ابن مسعود والرويانى عن حذيفة وابن عدى عن أنس :
اقتدوا باللذين من بعدى من أصحابى أبى بكر وعمر ، واهتدوا بهدى عمار ، وتمسكوا بعهد ابن مسعود .(177/54)
2 ـ أخرج الشيخان عن أبى سعيد الخدري قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: إن الله تبارك وتعالى خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله ، فبكى أبو بكر وقال : بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا ، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير ، وكان أبو بكر أعلمنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من أمنّ الناس علَىَّ في صحبته وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذا خليلا غير ربى لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقين باب إلا سد إلا باب أبى بكر ، وفى لفظ لهما : لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبى بكر ، وفى آخر لعبد الله بن أحمد : أبو بكر صاحبى ومؤنسى في الغار سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبى بكر . وفى آخر للبخاري : ليس في الناس أحد أمنّ على في نفسى ومالي من أبى بكر بن أبى قحافة، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن خلة الإسلام أفضل . سدوا عنى كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبى بكر . وفى آخر لابن عدى : سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبى بكر . وطرقه كثيرة منها عن حذيفة وأنس وعائشة وابن عباس ومعاوية بن أبى سفيان رضي الله تعالى عنهم .
قال العلماء : في هذه الأحاديث إشارة إلى خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه ؛ لأن الخليفة يحتاج إلى القرب من المسجد لشدة احتياج الناس إلى ملازمته له في الصلاة بهم وغيرها .
3 ـ أخرج الحاكم وصححه عن أنس قال : بعثنى بنو المصطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سله إلى من ندفع صدقاتنا بعدك ، فأتيته فسألته ، فقال : إلى أبى بكر . ومن لازم دفع الصدقة إليه كونه خليفة إذ هو المتولى قبض الصدقات .(177/55)
4 ـ أخرج مسلم عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا ، فإنى أخاف أن يتمنى متمن ، ويقول قائل أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر. وأخرجه أحمد وغيره من طرق عنها . وفى بعضها قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: ادعى لي عبد الرحمن بن أبى بكر أكتب لأبى بكر كتابا لا يختلف عليه أحد ، ثم قال : دعيه معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبى بكر ، وفى رواية عن عبد الله بن أحمد : أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر .
5 ـ أخرج الشيخان عن أبى موسى الأشعرى قال : مرض النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه، فقال : مروا أبا بكر فليصل بالناس . قالت عائشة ؛ يا رسول الله إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلى بالناس ، فقال : مرى أبا بكر فليصل بالناس ، فعادت ، فقال : مرى أبا بكر فليصل بالناس ، فإنكن صواحب يوسف ! فأتاه الرسول فصلى بالناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفى رواية أنها لما راجعته فلم يرجع لها قالت لحفصة : قولى له يأمر عمر ، فقالت له ، فأبى حتى غضب وقال: أنتن أو إنكن أو لأنتن صواحب يوسف ! مروا أبا بكر .(177/56)
واعلم أن هذا الحديث متواتر ، فإنه ورد من حديث عائشة وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن زمعة وأبى سعيد وعلى بن أبى طالب وحفصة. وفى بعض طرقه عن عائشة : لقد راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وما حملنى على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبى أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا، ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به ، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبى بكر . وفى حديث ابن زمعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصلاة ، وكان أبو بكر غائبا ، فتقدم عمر ، فصلى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا، لا، لا ، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، فيصلى بالناس أبو بكر ، وفى رواية عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال له : اخرج وقل لأبى بكر يصلى بالناس ، فخرج فلم يجد على الباب إلا عمر في جماعة ليس فيهم أبو بكر ، فقال يا عمر : صل بالناس ، فلما كبر وكان صيتا وسمع صلى الله عليه وسلم صوته قال : يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر . وفى حديث ابن عمر : كبر عمر فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيره فأطلع رأسه مغضبا ، فقال : أين ابن أبى قحافة ؟ قال العلماء : في هذا الحديث أوضح دلالة على أن الصديق أفضل الصحابة على الإطلاق ، وأحقهم بالخلافة ، وأولاهم بالإمامة .
قال الأشعرى :(177/57)
قد علم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الصديق أن يصلى بالناس مع حضور المهاجرين والأنصار مع قوله : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ) . فدل على أنه كان أقرأهم أي أعلمهم بالقرآن . انتهى . وقد استدل الصحابة أنفسهم بهذا على أنه أحق بالخلافة ، منهم عمر، ومر كلامه في فضل المبايعة . ومنهم على، فقد أخرج ابن عساكر عنه : لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلى بالناس ، وإنى لشاهد وما أنا بغائب ، وما بى مرض ، فرضينا لدنيانا ما رضيه النبي صلى الله عليه وسلم لديننا .
قال العلماء : وقد كان معروفا بأهلية الإمامة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم .
وأخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن سهل بن سعد قال : كان قتال بين بنى عمرو بن عوف ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم ، فقال يابلال: إن حضرت الصلاة ولم آت فمر أبا بكر فليصل بالناس ، فلما حضرت صلاة العصر أقام بلال الصلاة . ثم أمر أبا بكر فصلى . ووجه ما تقرر من أن الأمر بتقديمه للصلاة كما ذكر فيه الإشارة أو التصريح بأحقيته بالخلافة ؛ لأن القصد الذاتى من نصب الإمام العالم إقامة شعائر الدين على الوجه المأمور به من أداء الواجبات وترك المحرمات وإحياء السنن ، وإماتة البدع ، وأما الأمور الدنيوية وتدبيرها كاستيفاء الأموال من وجوهها وإيصالها لمستحقها ودفع الظلم ، ونحو ذلك فليس مقصودا بالذات ، بل ليتفرغ الناس لأمور دينهم إذ لا يتم تفرغهم له إلا إذا انتظمت أمور معاشهم بنحو الأمن على الأنفس ، والأموال ، ووصول كل ذى حق إلى حقه ، فلذلك رضى النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الدين ، وهو الإمامة العظمى ، أبا بكر بتقديمه للإمامة في الصلاة ، كما ذكرنا ومن ثم أجمعوا على ذلك كما مر .(177/58)
وأخرج ابن عدى عن أبى بكر بن عياش قال : قال لي الرشيد : يا أبا بكر كيف استخلف الناس أبا بكر الصديق ؟ قلت : يا أمير المؤمنين : سكت الله وسكت رسوله وسكت المؤمنون . قال والله وما زدتنى إلا عماء ، قلت : يا أمير المؤمنين مرض النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أيام ، فدخل عليه بلال ، فقال يا رسول الله : من يصلى بالناس ؟ قال : مر أبا بكر يصلى بالناس ، فصلى أبو بكر بالناس ثمانية أيام والوحي ينزل عليه (1)[254])، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسكوت الله ، وسكت المؤمنون لسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعجبه فقال : بارك الله فيك .
6 ـ أخرج ابن حبان عن سفينة : لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وضع في البناء حجرا ، قال لأبى بكر : ضع حجرك إلى جنب حجرى ، ثم قال لعمر : ضع حجرك إلى جنب حجر أبى بكر ، ثم قال لعثمان : ضع حجرك إلى جنب حجر عمر ، ثم قال : هؤلاء الخلفاء بعدى . قال أبو زرعة : إسناده لا بأس به ، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك ، وصححه ، والبيهقى في الدلائل ، وغيرهما . وقوله لعثمان ما ذكر يرد على من زعم أن هذا إشارة إلى قبورهم . على أن قوله آخر الحديث : هؤلاء الخلفاء بعدى صريح فيما أفاده الترتيب الأول أن المراد به ترتيب الخلافة (2)[255]).
هذه بعض الأحاديث التي ذكر أنها تنص على إمامة أبى بكر . وأراد بعد هذا أن يبين أن الموضوع محل خلاف ، ولذلك جعل عنوان الفصل الرابع " في بيان أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم هل نص على خلافة أبى بكر ؟
وقال ( ص 42 وما بعدها ) :
__________
(1) 254]) أي على الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
(2) 255]) انظر كتاب الصواعق ص 35 : 39 .(177/59)
اعلم أنهم اختلفوا في ذلك . ومن تأمل الأحاديث التي قدمناهاعلم من أكثرها أنه نص عليها نصا ظاهرا . وعلى ذلك جماعة من المحدثين وهو الحق ، وقال جمهور أهل السنة والمعتزلة والخوارج : لم ينص على أحد ، ويؤيدهم ما أخرجه البزار في مسنده عن حذيفة قال : قالوا يا رسول الله : ألا تستخلف علينا ؟ قال : إنى إن أستخلف عليكم فتعصون خليفتى ينزل عليكم العذاب . وأخرجه الحاكم في المستدرك لكن في سنده ضعف . وما أخرجه الشيخان عن عمر أنه قال حين طعن: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى ( يعنى أبا بكر ) ، وإن أترككم فقد ترككم من هو خير منى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وما أخرجه أحمد والبيهقى بسند حسن عن على أنه لما ظهر على يوم الجمل قال : أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر ، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله ، ثم إن أبا بكر رأي من الرأي أن نستخلف عمر ، فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه ، ثم إن أقواما طلبوا الدنيا فكانت أمور يقضى الله فيها . والجران بكسر الجيم باطن عنق البعير يقال ضرب بجرانه الشئ أي استقر وثبت .(177/60)
وأخرج الحاكم وصححه أنه قيل لعلى : ألا تستخلف علينا ؟ فقال : ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف ، ولكن إن يرد الله الناس خيرا فسيجمعهم بعدى على خيرهم . وما أخرجه ابن سعد عن على أيضا قال : قال على : لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قدم أبا بكر في الصلاة، فرضينا لدنيانا ما رضيه النبي صلى الله عليه وسلم لديننا فقدمنا أبا بكر . وقول البخاري في تاريخه : روى عن ابن جمهان عن سفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر وعمر وعثمان : هؤلاء الخلفاء بعدى . قال البخاري : ولم يتابع على هذا لأن عمر وعليا وعثمان قالوا لم يستخلف النبي صلى الله عليه وسلم . انتهى ، ومر أن هذا الحديث ، أعنى قوله هؤلاء الخلفاء بعدى ، صحيح ولا منافاة بين القول بالاستخلاف والقول بعدمه لأن مراد من نفاه أنه لم ينص عند الموت على استخلاف أحد بعينه ، ومراد من أثبته أنه صلى الله عليه وسلم نص عليه وأشار إليه قبل ذلك . ولا شك أن النص على ذلك قبل قرب الوفاة يتطرق إليه الاحتمال ، وإن بعد بخلافه عند الموت ، فلذلك نفى الجمهور كعلى وعمر وعثمان الاستخلاف ، ويؤيد ذلك قول بعض المحققين من متأخرى الأصوليين : معنى لم ينص عليها لأحد لم يأمر بها لأحد . على أنه قد يأخذ مما في البخاري عن عثمان أن خلافة أبى بكر منصوص عليها ، والذى فيه في هجرة الحبشة عنه من جملة حديث أنه قال : وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته ووالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله ، ثم استخلف الله أبا بكر ، فوالله ما عصيته ولا غششته ، ثم استخلف عمر فو الله ما عصيته ولا غششته . الحديث . فتأمل قوله في أبى بكر : ثم استخلف الله أبا بكر ، وفى عمر : ثم استخلف عمر ، تعلم دلالته على ما ذكرته من النص على خلافة أبى بكر ، وإذا أفهم كلامه هذا ذلك مع ما مر عنه من أنها غير منصوص عليها تعين الجمع بين كلاميه(177/61)
بما ذكرناه . وكان اشتمال كلاميه على ذلك مؤيدا للجمع الذي قدمناه ، وعلى كل فهو صلى الله عليه وسلم كان يعلم لمن هي بعده بإعلام الله له ، ومع ذلك فلم يؤمر بتبليغ الأمة النص على واحد بعينه عند الموت ، وإنما وردت عنه ظواهر تدل على أنه علم بإعلام الله له أنها لأبى بكر ، فأخبر بذلك كما مر ، وإذا أعلمها فإما أن يعلمها علما واقعا موافقا للحق في نفس الأمر أو أمرا واقعا مخالفا له ، وعلى كل حال لو وجب على الأمة مبايعة غير أبى بكر لبالغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ ذلك الواجب إليهم بأن ينص عليه نصا جليا ينقل مشتهرا حتى يبلغ الأمة ما لزمهم ، ولما لم ينقل كذلك مع توفر الدواعى على نقله دل على أنه لا نص . . وتوهم أن عدم تبليغه لعلمه بأنهم لا يأتمرون بأمره فلا فائدة فيه باطل ، فإن ذلك غير مسقط لوجوب التبليغ عليه ، ألا ترى أنه بلغ سائر التكاليف للآحاد مع الذين علم منهم أنهم لا يأتمرون فلم يسقط العلم بعدم ائتمارهم التبليغ عليه ؟ واحتمال أنه بلغ أمر الإمامة سرا ـ واحدا واثنين ـ ونقل كذلك لا يفيد ؛ لأن سبيل مثله الشهرة لصيرورته بتعدد التبليغ وكثرة المبلغين أمرا مشهورا ، إذ هو من أهم الأمور لما يتعلق به من مصالح الدين والدنيا كما مر ، مع ما فيه من دفع ما قد يتوهم من إثارة فتنة . واحتمال أنه بلغه مشتهرا ولم ينقل أو نقل ولم يشتهر فيما بعد عصره باطل أيضا، إذ لو اشتهر لكان سبيله أن ينقل نقل الفرائض لتوفر الدواعى على نقل مهمات الدين ، فالشهرة هنا لازمة لوجود النص ، فحيث لا شهرة لا نص بالمعنى المتقدم لا لعلى ولا لغيره ، فلزم من ذلك بطلان ما نقله الشيعة وغيرهم من الأكاذيب وسودوا به أوراقهم من نحو خبر : أنت الخليفة من بعدى وخبر سلموا على على بإمرة المؤمنين ، وغير ذلك مما يأتي . إذ لا وجود لما نقلوه فضلا عن اشتهاره ، كيف وما نقلوه لم يبلغ مبلغ الآحاد المطعون فيها ، إذ لم يصل علمه لأئمة(177/62)
الحديث المثابرين على التنقيب عنه كما اتصل لهم كثير مما ضعفوه . وكيف يجوز في العادة أن ينفرد هؤلاء بعلم صحة تلك الآحاد مع أنهم لم يتصفوا قط برواية ولا بصحبة محدث ؟ ويجهل تلك الآحاد مهرة الحديث وسباقه الذي أفنوا أعمارهم في الرحلات والأسفار البعيدة وبذلوا جهدهم في طلبه وفى السعى إلى كل من ظنوا عنده قليلا منه ؟ فلذلك قضت العادة المطردة القطعية بكذبهم واختلاقهم فيما زعموه من نص علَى علِىّ صح آحادا عندهم مع عدم اتصافهم برواية حديث ولا صحبة لمحدث كما تقرر . نعم روى آحادا خبر : أنت منى بمنزلة هارون من موسى . وخبر : من كنت مولاه فعلى مولاه . وسيأتي الجواب عنهما واضحا مبسوطا ، وأنه لا دلالة لواحد منهما على خلافة على لا نصا ولا إشارة ، وإلا لزم نسبة جميع الصحابة إلى الخطأ وهو باطل لعصمتهم من أن يجتمعوا على ضلالة ،فإجماعهم على خلاف ما زعمه أولئك المبتدعة الجهال قاطع بأن ما توهموه من هذين الحديثين غير مراد . أن لو فرض احتمالهم لما قالوه فكيف وهما لا يحتملانه كما يأتي . فظهر أن ما سودوا به أوراقهم من تلك الآحاد لا تدل لما زعموه ، واحتمال أن ثم نصا غير ما زعموه يعلمه على أو أحد المهاجرين أو الأنصار باطل أيضا . وإلا لأورده العالم به يوم السقيفة حين تكلموا في الخلافة أو فيما بعده لوجوب إيراده حينئذ .(177/63)
وقولهم : ترك على إيراده مع علمه تقية باطل إذ لا خوف يتوهمه من له أدنى مسكة وإحاطة بعلم أحوالهم في مجرد ذكره لهم ومنازعته في الإمامة به كيف وقد نازع من هو أضعف منه وأقل شوكة ومنعة من غير أن يقيم دليلا على ما يقوله ومع ذلك فلم يؤذ بكلمة فضلا عن أن يقتل . فبان بطلان هذه التقية المشؤومة عليهم سيما وعلى قد علم بواقعة الحباب وبعدم إيذائه بقول أو فعل مع أن دعواه لا دليل عليها ، ومع ضعفه وضعف قومه بالنسبه لعلى وقومه ، وأيضا فيمتنع عادة من مثلهم أنه يذكره لهم ولا يرجعون إليه كيف وهم أطوع الله وأعمالهم بالوقوف عند حدوده وأبعد عن اتباع حظوظ النفس لعصمتهم السابقة وللخبر الصحيح : خير القرون قرنى ، ثم الذين يلونهم . وأيضا ففيهم العشرة المبشرون بالجنة . ومنهم أبو عبيدة أمين هذه الأمة كما صح من طرق ، فلا يتوهم فيهم وهم بهذه الأوصاف الجليلة أنهم يتركون العمل بما يرويه لهم من تقبل روايته بلا دليل أرجح يعولون عليه . معاذ الله أن يجوز ذلك عليهم شرعا أو عادة إذ هو خيانة في الدين وإلا لارتفع الأمان في كل ما نقوله عنه من القرآن والأحكام . ولم يجزم بشئ من أمور الدين مع أنه بجميع أصوله وفروعه إنما أخذ منهم ، على أن في نسبة على إلى الكتم غاية نقص له لما يلزم عليه من نسبته ، وهو أشجع الناس، إلى الجبن والظلم . ولهذا التوهم كفره بعض الملحدين كما يأتي فعلم مما تقرر جميعه أنه لا نص على إمامة على حتى ولا بالإشارة ، وأما أبو بكر فقد علمت النصوص السابقة المصرحة بخلافته ، وعلى فرض أن لا نص عليه أيضا ففي إجماع الصحابة عليها غنى عن النص إذ هو أقوى منه ؛ لأن مدلوله قطعى ومدلول خبر الواحد ظنى ، وأما تخلف جمع كعلى والعباس والزبير والمقداد عن البيعة وقت عقدها فمر الجواب عنه مستوفى . وحاصله مع الزيادة : أن أبا بكر أرسل إليهم بعد فجاءوا فقال للصحابة : هذا على ولا بيعة لي في عنقه وهو بالخيار في أمره . ألا فأنتم(177/64)
بالخيار جميعا في بيعتكم إيأي ، فإن رأيتم لها غيرى فأنا أول من يبايعه ، فقال على : لا نرى لها أحدا غيرك ، فبايعه هو وسائر المتخلفين .
ونرى صاحب الصواعق بعد هذا يذكر الشبه التي أثارها الروافض ويدحضها، وهذه الشبه كرر ذكرها صاحب المراجعات ، فهى إذن في صلب موضوعنا ، غير أننا إذا أثبتناها كاملة يطول النقل كثيرا ، ولذلك أكتفى بذكر بعضها :
الشبهة السابعة
زعموا أنه ظالم لفاطمة لمنعه إياها مخلف أبيها ، وأنه لا دليل له في الخبر الذي رواه : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ؛ لأن فيه احتجاجا بخبر الواحد مع معارضته لآية المواريث ، وفيه ما هو مشهور عند الأصوليين . وزعموا أيضا أن فاطمة معصومة بنص " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت " . وخبر : " فاطمة بضعة منى " وهو معصوم ، فتكون معصومة ، وحينئذ فيلزم صدق دعواها الإرث .(177/65)
وجوابها : أما عن الأول ، فهو لم يحكم بخبر الواحد الذي هو محل الخلاف، وإنما حكم بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنده قطعى فساوى آية المواريث في قطعية المتن ، وأما حمله على ما فهمه منه فلانتفاء الاحتمالات التي يمكن تطرقها إليه عنه بقرينة الحال ، فصار عنده دليلا قطعيا مخصصا لعموم تلك الآيات . وأما عن الثانى ، فمن أهل البيت أزواجه على ما يأتي في فضائل أهل البيت ، ولسن بمعصومات اتفاقا ، فكذلك بقية أهل البيت . وأما بضعة منى : فمجاز قطعا فلم يستلزم عصمتها وأيضا فلا يلزم مساواة البعض للجملة في جميع الأحكام بل الظاهر أن المراد أنها كبضعة منى : فيما يرجع للخير والشفقة ، ودعواها أنه صلى الله عليه وسلم نحلها فدك لم تأت عليها إلا بعلى وأم أيمن ، فلم يكمل نصاب البينة ، على أن في قبول شهادة الزوج لزوجته خلافا بين العلماء ، وعدم حكمه بشاهد ويمين ، إما لعلة كونه ممن لا يراه ككثيرين من العلماء ، أو أنها لم تطلب الحلف مع من شهد لها ، وزعمهم أن الحسن والحسين وأم كلثوم شهدوا لها باطل ، على أن شهادة الفرع والصغير غير مقبولة ، وسيأتي عن الإمام زيد بن الحسن بن على بن الحسين رضي الله عنهم ، أنه صوب ما فعله أبو بكر ، وقال : لو كنت مكانه لحكمت بمثل ما حكم به . وفى رواية تأتى في الباب الثانى أن أبا بكر كان رحيما وكان يكره أن يغير شيئا تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما قالت : أعطانى فدك ، فقال : هل لك بينة ، فشهد لها على وأم أيمن ، فقال لها : فبرجل وأمرأة تستحقينها . ثم قال زيد : والله ، لو رفع الأمر فيها إلى لقضيت بقضاء أبى بكر رضي الله عنه . وعن أخيه الباقر أنه قيل له : أظلمكم الشيخان من حقكم شيئا ؟ فقال : لا ومنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، ما ظلمنا من حقنا ما يزن حبة خردلة .(177/66)
وأخرج الدارقطنى ، أنه سئل ما كان يعمل على في سهم ذوى القربى ؟ قال: عمل فيه بما عمل أبو بكر وعمر ، وكان يكره أن يخالفهما .
وأما عذر فاطمة في طلبها روايته لها الحديث ، فيحتمل أنه لكونها رأت أن خبر الواحد لا يخصص القرآن كما قيل به . فاتضح عذره في المنع وعذرها في الطلب ، فلا يشكل عليك ذلك ، وتأمله فإنه مهم . ويوضح ما قررناه في هذا المحل حديث البخاري ، فإنه مشتمل على نفائس تزيل ما في نفوس القاصرين من شبه وهو : عن الزهرى ، قال : أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان النضرى ، أن عمر بن الخطاب دعاه إذ جاءه حاجبه يرفا فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد يستأذنون ؟ قال : نعم ، فأدخلهم فلبث قليلا ، ثم جاء فقال : هل لك في عباس وعلى يستأذنان ؟ قال : نعم ، فلما دخلا قال عباس : يا أمير المؤمنين ، اقض بينى وبين هذا ، وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله من بنى النضير ، فاستب على وعباس ، فقال الرهط : يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر . فقال عمر : اتئدوا أنشدكم بالله الذي بإذنه تكون السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نورث ما تركناه صدقة ، يريد بذلك نفسه ، قالوا : قد قال ذلك . فأقبل عمر على على وعباس ، فقال : أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك ؟ قالا : نعم . قال : فإنى أحدثكم عن هذا الأمر ، إن الله كان خص رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره فقال : " وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ" إلى قوله "قَدِيرٌ"، فكانت هذه خالصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم والله ما اختارها دونكم ولا استأثر بها عليكم لقد أعطاكموها ، وقسمها فيكم حتى بقى هذا المال منها ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقى(177/67)
فيجعله مجعل مال الله فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته ، ثم توفى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه : فأنا ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبضه أبو بكر يعمل فيه بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم حينئذ ، وأقبل على على والعباس وقال: تذكرانى أن أبا بكر كان فيه كما تقولان ، والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر ، فقلت : أنا ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر ، فقبضته سنتين من إمارتى أعمل فيه بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، والله يعلم أنى فيه لصادق بار راشد تابع للحق ، ثم جئتمانى كلاكما وكلمتكما واحدة وأمركما جميع ، فجئتنى يعنى عباسا ، فقلت لكما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيه بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وما عملت فيه منذ وليت ، وألا فلا تكلمانى ، فقلتما ادفعه إلينا بذلك ، فدفعته إليكما ، أفتلتمسان منى قضاء غير ذلك ، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضى فيه بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما عنه فادفعاه إلى فأنا أكفيكماه . قال ، فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير ، فقال : صدق مالك بن أوس أنا سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عثمان إلى أبى بكر يسألنه مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فكنت أنا أردهن ، فقلت لهن : ألا تتقين الله ، ألم تعلمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : لا نورث ما تركناه صدقة ، يريد بذلك نفسه ؛ إنما يأكل آل محمد في هذا المال ، فانتهى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما أخبرتهن . قال ، فكانت هذه الصدقة بيد على منعها على عباسا ، فغلبه عليها ، ثم(177/68)
كانت بيد الحسن بن على رضي الله عنهما ، ثم بيد الحسين بن على ، ثم بيد على بن الحسين ، وحسن بن حسن كلاهما كانا يتداولانها ، ثم بيد زيد بن حسن رضي الله عنهم ، وهى صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا . ثم ذكر البخاري بسنده أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما أرضه من فدك وسهمه من خيبر ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا نورث ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال ، والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتى.(177/69)
فتأمل ما في حديث عائشة والذى قبله تعلم حقيقة ما عليه أبو بكر رضي الله عنه ، وذلك أن استباب على والعباس صريح في أنهما متفقان على أنه غير إرث ، وإلا لكان للعباس سهمه ولعلى سهم زوجته ، ولم يكن للخصام بينهما وجه، فخصامهما إنما هو لكونه صدقة وكل منهما يريد أن يتولاها ، فأصلح بينهما عمر رضي الله عنهم وأعطاه لهما بعد أن بين لهما وللحاضرين السابقين ، وهم من أكابر العشرة المبشرين بالجنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث ما تركناه صدقة ، وكلهم حتى على والعباس أخبر بأنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ، فحين إذن أثبت عمر أنه غير إرث ثم دفعه إليهما ليعملا فيه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسنة أبى بكر ، فأخذاه على ذلك وبين لهما أن ما فعله أبو بكر فيه كان فيه صادقا باراً راشداً تابعاً للحق ، فصدقاه على ذلك . فهل بقى لمعاند بعد ذلك من شبهة ؟! فإن زعم بقاء شبهة قلنا يلزمك أن تغلب على الجميع وأخذه من العباس ظلم لأنه يلزم على قولكم بالإرث ، أن للعباس فيه حصة ، فكيف مع ذلك ساغ لعلى أن يتغلب على الجميع ويأخذه من العباس ، ثم كان في يد بنيه وبنيهم من بعده ولم يكن منه شئ في يد بنى العباس ، فهل هذا من على وذريته إلا صريح الاعتراف بأنه صدقة ، وليس بإرث ، وإلا لزم عليه عصيان على وبنيه وظلمهم وفسقهم وحاشاهم الله من ذلك بل هم معصومون عند الرافضة ، ونحوهم ، فلا يتصور بهم ذنب ، فإذا استبدوا بذلك جميعه دون العباس وبنيه علمنا أنهم قائلون بأنه صدقة وليس بإرث ، وهذا عين مدعانا ، وتأمل أيضا أن أبا بكر منع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من ثمنهن أيضا ، فلم يخص المنع بفاطمة والعباس ولو كان مداره على محاباة لكان أولى محاباة ولده ، فلما لم يحاب عائشة ولم يعطها شيئا علمنا أنه على الحق المر الذي لا يخشى فيه لومة لائم .(177/70)
وتأمل أيضا تقرير عمر للحاضرين ولعلى وللعباس بحديث لا نورث وتقرير عائشة لأمهات المؤمنين به أيضا وقول كل منهما ألم تعلموا ! يظهر لك من ذلك أن أبا بكر لم ينفرد برواية هذا الحديث ، وأن أمهات المؤمنين وعلياً والعباس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد كلهم كانوا يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك ، وأن أبا بكر إنما انفرد باستحضاره أولاً ، ثم استحضره الباقون ، وعلموا أنهم سمعوه منه صلى الله عليه وسلم: فالصحابة رضوان الله عليهم لم يعلموا برواية أبى بكر وحدها. ( ص 57 : 60 ) .
الشبهة الثانية عشرة
زعموا أنه من النص التفصيلى على على قوله صلى الله عليه وسلم له لما خرج إلى تبوك واستخلفه على المدينة : أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدى . قالوا : ففيه دليل على أن جميع المنازل الثابته لهارون من موسى سوى النبوة ثابتة لعلى من النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا لما صح الاستثناء ، ومما ثبت لهارون من موسى استحقاقه الخلافه عنه لو عاش بعده إذ كان خليفة في حياته ، فلو لم يخلفه بعد مماته لو عاش بعده لكان لنقص فيه ، وهو غير جائز على الأنبياء ، وأيضا فمن جملة منازله منه أنه كان شريكاً له في الرسالة ومن لازم ذلك وجوب الطاعة لو بقى بعده ، فوجب ثبوت ذلك لعلى إلا أن الشركة في الرسالة ممتنعة في حق على ، فوجب أن يبقى مفترض الطاعة على الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم عملا بالدليل بأقصى ما يمكن .(177/71)
وجوابها : أن الحديث إن كان غير صحيح كما يقوله الآمدى فظاهر وإن كان صحيحاً كما يقوله أئمة الحديث والمعول في ذلك ليس إلا عليهم ، كيف وهو في الصحيحين فهو من قبيل الآحاد وهم لا يروونه حجة في الإمامة ، وعلى التنزيل فلا عموم له في المنازل بل المراد ما دل عليه ظاهر الحديث أن عليا خليفة عن النبي صلى الله عليه وسلم مدة غيبته بتبوك كما كان هارون خليفة عن موسى في قومه مدة غيبته عنهم للمناجاة . وقوله : اخلفنى في قومى ـ لا عموم له حتى يقتضى الخلافة عنه في كل زمن حياته وزمن موته ، بل المتبادر منه ما مر أنه خليفة مدة غيبته ، وحينئذ فعدم شموله لما بعد وفاة موسى رضي الله عنه ، إنما هو لقصور اللفظ عنه لا لعزله كما لو صرح باستخلافه في زمن معين ، ولو سلمنا تناوله لما بعد الموت، وأن عدم بقاء خلافته بعده عزل له ، لم يستلزم نقصا يلحقه ؛ بل إنما يستلزم كمالاً له أي كمال لأنه يصير بعده مستقلا بالرسالة والتصرف من الله تعالى ، وذلك أعلى من كونه خليفة وشريكاً في الرسالة . سلمنا أن الحديث يعم المنازل كلها لكنه عام مخصوص إذ من منازل هارون كونه أخاً نبياً ، والعام المخصوص غير حجة في الباقى أو حجه ضعيفه على الخلاف فيه ، ثم نفاذ أمر هارون بعد وفاة موسى لو فرض إنما هو للنبوة لا للخلافة عنه ، وقد نفيت النبوة هنا لاستحالة كون على نبيا، فيلزم نفى مسببه الذي هو افتراض الطاعة ونفاذ الأمر، فعلم مما تقرر أنه ليس المراد من الحديث ـ مع كونه آحادا لا يقاوم الإجماع ـ إلا إثبات بعض المنازل الكائنه لهارون من موسى ، والحديث وسببه سياق يبينان ذلك البعض لما مر أنه إنما قاله لعلى حين استخلفه ، فقال على كما في الصحيح : أتخلفنى في النساء والصبيان ؟ كأنه استنقص تركه وراءه فقال له : ألا ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى ؟ يعنى حيث استخلفه عند توجهه إلى الطور ، إذ قال له : اخلفنى في قومى وأصلح ، وأيضاً فاستخلافه على(177/72)
المدينة لا يستلزم أولويته بالخلافة بعده من كل معاصريه افتراضاً ولا ندباً بل كونه أهلاً لها في الجملة ، وبه نقول ، وقد استخلف صلى الله عليه وسلم في مرار أخرى غير على كابن أم مكتوم ، ولم يلزم فيه بسبب ذلك أنه أولى بالخلافة بعده .
الشبهة الثالثة عشرة
زعموا أيضا أن من النصوص التفصيلية الدالة على خلافة على قوله صلى الله عليه وسلم لعلى: أنت أخي ووصيى وخليفتى وقاضى دينى ـ أي بكسر الدال ، وقوله : أنت سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين ، وقوله : سلموا على على بإمرة الناس.(177/73)
وجوابها : مر مبسوطا قبيل الفصل الخامس ومنه أن هذه الأحاديث كذب باطلة موضوعة مفتراة عليه صلى الله عليه وسلم ألا لعنة الله على الكاذبين ، ولم يقل أحد من أئمة الحديث أن شيئا من هذه الأكاذيب بلغ مبلغ الآحاد المطعون فيها بل كلهم مجمعون على أنها محض كذب وافتراء ، فإن زعم هؤلاء الجهلة الكذبه على الله ورسوله وعلى أئمة الإسلام ومصابيح الظلام أن هذه الأحاديث صحت عندهم ، قلنا لهم هذا محال في العادة إذ كيف تتفردون بعلم صحة تلك مع أنكم لم تتصفوا قط برواية ولا صحبة محدث ، ويجهل ذلك مهرة الحديث وسباقه الذين أفنوا أعمارهم في الأسفار البعيدة لتحصيله وبذلوا جهدهم في طلبه وفى السعى إلى كل من ظنوا عنده شيئاً منه حتى جمعوا الأحاديث ونقبوا عنها وعلموا صحيحها من سقيمها ، ودونوها في كتبهم على غاية من الاستيعاب ونهاية من التحرير ، وكيف والأحاديث الموضوعة جاوزت مئات الألوف وهم مع ذلك يعرفون واضع كل حديث منها وسبب وضعه الحامل لواضعه على الكذب والافتراء على نبيه صلى الله عليه وسلم ، فجزاهم الله خير الجزاء وأكمله إذ لولا حسن صنيعهم هذا لاستولى المبطلون والمتمردون المفسدون على الدين وغيروا معالمه وخلطوا الحق بكذبهم حتى لم يتميز عنه ، فضلوا وأضلوا ضلالاً مبيناً ، لكن لما حفظ الله على نبيه صلى الله عليه وسلم شريعته من الزيغ والتبديل بل والتحريف ، وجعل من أكابر أمته في كل عصر طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم لم يبال الدين بهؤلاء الكذبة البطلة الجهلة ، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: تركتكم على الواضحة البيضاء ليلها كنهارها ونهارها كليلها لا يزيغ عنها بعدى إلا هالك ، ومن عجيب أمر هؤلاء الجهلة أنا إذا استدللنا عليهم بالأحاديث الصحيحه الدالة صريحاً على خلافة أبى بكر كخبر : اقتدوا باللذين من بعدى وغيره من الأخبار الناصة على خلافته التي قدمتها مستوفاة في الفصل الثالث قالوا: هذا خبر واحد فلا يغنى فيما يطلب(177/74)
فيه التعيين ، وإذا أرادوا أن يستدلوا على ما زعموه من النص على خلافة على أتوا بأخبار تدل لزعمهم كخبر من كنت مولاه ، وخبر : أنت منى بمنزلة هارون من موسى مع أنها آحاد وإما بأخبار باطلة كاذبة متيقنه البطلان واضحة الوضع والبهتان لا تصل إلى درجة الأحاديث الضعيفة التي هي أدنى مراتب الآحاد ، فتأمل هذا التناقض الصريح والجهل القبيح ، لكنهم لفرط جهلهم وعنادهم وميلهم عن الحق يزعمون التواتر فيما يوافق مذهبهم الفاسد ، وإن أجمع أهل الحديث والأثر على أنه كذب موضوع مختلق ، ويزعمون فيما يخالف مذهبهم أنه آحاد ، وإن اتفق أولئك على صحته وتواتر رواته تحكماً وعناداً وزيغاً عن الحق ، فقاتلهم الله ما أجهلهم وأحمقهم !
الشبهة الرابعة عشرة
زعموا أنه لو كان أهلاً للخلافة لما قال لهم أقيلونى أقيلونى لأن الإنسان لا يستقيل من الشىء إلا إذا لم يكن أهلاً له .
وجوابها : منع الحصر فيما عللوا به ، فهو من مفترياتهم ، وكم وقع للسلف والخلف التورع عن أمورهم لها أهل وزيادة ، بل لا تكمل حقيقة الورع والزهد إلا بالإعراض عما تأهل له المعرض ، وأما مع عدم التأهل فالإعراض واجب لا زهد، ثم سببه هنا أنه إما خشى من وقوع عجز ما منه عن استيفاء الأمور على وجهها الذي يليق بكماله له ، أو أنه قصد بذلك استبانة ما عندهم ، وأنه هل فيهم من يود عزله فأبرز ذلك كذلك ، فرآهم جميعهم لا يودون ذلك لو أنه خشى من لعنه صلى الله عليه وسلم لإمام قوم وهم له كارهون ، فاستعلم أنه هل فيهم أحد يكرهه أو لا ـ والحاصل أن زعم ذلك يدل على عدم أهليته غاية في الجهالة والغباوة والحمق فلا ترفع بذلك رأساً .
الشبهة الخامسة عشرة
زعموا أيضاً أن علياً إنما سكت عن النزاع في أمر الخلافة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه أن لا يوقع بعده فتنة ولا يسل سيفاً ..(177/75)
وجوابها : أن هذا افتراء كذب وحمق وجهالة مع عظيم الغباوة عما يترتب عليه ، إذ كيف يعقل مع هذا الذي زعموه أنه جعله إماماً والياً على الأمة بعده ومنعه من سل السيف على من امتنع من قبول الحق ؟ ولو كان ما زعموه صحيحاً لما سل على السيف في حرب صفين وغيرها ، ولما قاتل بنفسه وأهل بيته وشيعته وجالد وبارز الألوف منهم وحده وأعاذه الله من مخالفة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأيضاً فكيف يتعقلون أنه صلى الله عليه وسلم يوصيه بعدم سل السيف على من يزعمون فيهم أنهم يجاهرون بأقبح أنواع الكفر مع ما أوجبه الله من جهاد مثلهم.(177/76)
قال بعض أئمة أهل البيت النبوي والعترة الطاهرة : وقد تأملت كلماتهم فرأيت قوماً أعمى الهوى بصائرهم ، فلم يبالوا بما ترتب على مقالاتهم من المفاسد . ألا ترى إلى قولهم : إن عمر قاد علياً بحمائل سيفه وحصر فاطمة فهابت ، فأسقطت ولدا اسمه المحسن ، فقصدوا بهذه الفرية القبيحة والغباوة التي أورثتهم العار والبوار والفضيحة وإيغار الصدور على عمر رضي الله عنه ، ولم يبالوا بما يترتب على ذلك من نسبة على رضي الله عنه الى الذل والعجز والخور بل ونسبة جميع بنى هاشم وهم أهل النخوة والنجدة والأنفة إلى ذلك العار اللاحق بهم الذي لا أقبح منه عليهم ، بل ونسبة جميع الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك، وكيف يسع من له أدنى ذوق أن ينسبهم إلى ذلك مع ما استفاض وتواتر عنهم من غيرتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم وشدة غضبهم عند انتهاك حرماته حتى قاتلوا وقتلوا الآباء والأبناء في طلب مرضاته لا يتوهم إلحاق أدنى نقص أو سكوت على باطل بهؤلاء العصابة الكمل الذين طهرهم الله من كل رجس ودنس ونقص على لسان نبيه في الكتاب والسنة ، كما قدمته في المقدمة الأولى أول الكتاب ـ بواسطة صحبتهم له صلى الله عليه وسلم وموته وهو عنهم راض وصدقهم في محبته واتباعه إلا عبداً أضله الله وخذله فباء منه تعالى بعظيم الخسار والبوار ، وأحله الله تعالى نار جهنم وبئس القرار . نسأل الله السلامة آمين . ( ص 73 : 77 ).
وبعد أن دحض شبهات الرافضة انتقل إلى الباب الثانى ( ص 78 ) وجعل عنوانه :
" فيما جاء عن أكابر أهل البيت من مزيد الثناء على الشيخين ليعلم براءتهما مما يقول الشيعة والرافضة من عجائب الكذب والافتراء ، وليعلم بطلان ما زعموه من أن عليا إنما فعل ما أثر عنه تقية ومداراة وخوفاً ، وغير ذلك من قبائحهم ".
ويقع هذا الباب في ثمان صفحات ، يحسن قراءتها ، ولولا الإطالة لنقلتها كاملة، وأكتفى هنا بما ختم به هذا الباب ( ص 85 ) حيث قال :(177/77)
" فهذه أقاويل المعتبرين من أهل البيت رواها عنهم الأئمة الحفاظ الذين عليهم المعول في معرفة الأحاديث والآثار ، وتمييز صحيحها من سقيمها بأسانيدهم المتصلة ، فكيف يسمح المتمسك بحبل أهل البيت ، ويزعم حبهم أن يعدل عما قالوه من تعظيم أبى بكر وعمر واعتقاد حقية خلافتهما ، وما كانا عليه . وصرحوا بتكذيب من نقل عنهم خلافه، ومع ذلك يرى أن ينسب إليهم ما تبرءوا منه ورأوه ذماً في حقهم حتى قال زين العابدين على بن الحسين رضي الله تعالى عنهما : أيها الناس أحبونا حب الإسلام ، فوالله ما برح بنا حبكم حتى صار علينا عاراً ، وفى رواية حتى نقصتمونا إلى الناس . أي بسبب ما نسبوه إليهم مما هم براء منه ، فلعن الله من كذب على هؤلاء الأئمة ورماهم بالزور والبهتان"أهـ
واستمر صاحب الصواعق فجعل الباب الثالث عنوانه :
" في بيان أفضلية أبى بكر على سائر هذه الأمة ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم ، على ، وفى ذكر فضائل أبى بكر الواردة فيه وحده أو مع عمر أو مع الثلاثة أو مع غيرهم . وفيه فصول " .
وجعل عنوان الفصل الأول :
" في ذكر أفضليتهم على هذا الترتيب ، وفى تصريح على بأفضلية الشيخين على سائر الأمة ، وفى بطلان ما زعمه الرافضة الشيعة من أن ذلك منه قهر وتقية " .(177/78)
وقال : " اعلم أن الذي أطبق عليه عظماء الملة وعلماء الأمة أن أفضل هذه الأمة أبو بكر الصديق ، ثم عمر . ثم اختلفوا ، فالأكثرون : ومنهم الشافعى وأحمد وهو المشهور عن مالك أن الأفضل بعدهما عثمان ، ثم على ، وجزم الكوفيون ومنهم سفيان الثوري بتفضيل على على عثمان ، وقيل : بالوقف عن التفاضل بينهما ، وهو رواية عن مالك ، فقد حكى أبو عبد الله المازرى عن المدونة : أن مالكاً رحمه الله سئل أي الناس أفضل بعد نبيهم ؟ فقال : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم قال : أو في ذلك شك ؟ فقيل له : وعلى وعثمان ؟ فقال : ما أدركت أحدا ممن اقتدى به يفضل أحدهما على الآخر . انتهى ، وقوله رضي الله عنه : أو في ذلك شك ؟ يريد ما يأتي عن الأشعرى أن تفضيل أبى بكر ، ثم عمر على بقية الأمة قطعى ، وتوقفه هذا رجع عنه ، فقد حكى القاضى عياض عنه : أنه رجع عن التوقف إلى تفضيل عثمان . قال القرطبى : وهو الأصلح إن شاء الله تعالى ... إلخ" ( ص 286 ) .
واستمر ابن حجر في حديثه بإثبات ما جعله عنواناً لهذا الفصل ، وقال :
" إن أفضلية أبى بكر ثبتت بالقطع حتى عند غير الأشعرى أيضاً بناء على معتقد الشيعة والرافضة ، وذلك لأنه ورد عن على ـ وهو معصوم عندهم والمعصوم لا يجوز عليه الكذب ـ أن أبا بكر وعمر أفضل الأمة . قال الذهبي : وقد تواتر ذلك عنه في خلافته وكرسى مملكته وبين الجم الغفير من شيعته . ثم بسط الأسانيد الصحيحه في ذلك ، قال : ويقال رواه عن على نيف وثمانون نفساً . وعدد منهم جماعة ، ثم قال : فقبح الله الرافضة ما أجهلهم ! انتهى .(177/79)
ومما يعضد ذلك ما في البخاري عنه أنه قال : خير الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما ، ثم رجل آخر . فقال ابنه محمد بن الحنفيه : ثم أنت، فقال : إنما أنا رجل من المسلمين ، وصحح الذهبي وغيره طرقاً أخرى عن على بذلك ، وفى بعضها : ألا وإنه بلغنى أن رجالاً يفضلونى عليهما ، فمن وجدته فضلنى عليهما فهو مفتر ، عليه ما على المفترى . ألا ولو كنت تقدمت في ذلك لعاقبت ، ألا وإنى أكره العقوبة قبل التقدم .
وأخرج الدار قطنى عنه : لا أجد أحداً فضلنى على أبى بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى . وصح عن مالك ، عن جعفر الصادق ، عن أبيه الباقر ، أن عليا رضي الله عنه وقف على عمر بن الخطاب وهو مسجى ، وقال : ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أحداً أحب إلى أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى ( ص 90 ـ 91 ) .(177/80)
ثم قال : ومما يلزم من المفاسد والمساوئ والقبائح العظيمة على ما زعموه من نسبة على إلى التقية أنه كان جباناً ذليلاً مقهوراً . أعاذه الله من ذلك ، وحروبه للبغاة لما صارت الخلافة له ومباشرته ذلك بنفسه ومبارزته للألوف من الأمور المستفيضه والتي تقطع بكذب ما نسبه إليه أولئك الحمقى والغلاة ؛ إذ كانت الشوكة من البغاة قوية جدا ، ولا شك أن بنى أمية كانوا أعظم قبائل قريش شوكة وكثرة جاهلية وإسلاما ، وقد كان أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه هو قائد المشركين يوم أحد ويوم الأحزاب وغيرهما ، وقد قال لعلى لما بويع أبو بكر ما مر آنفا فرد عليه ذلك الرد الفاحش . وأيضا فبنو تميم ثم بنو عدى قوما الشيخين من أضعف قبائل قريش ، فسكوت على لهما مع أنهما كما ذكر وقيامه بالسيف على المخالفين لما انعقدت البيعة له مع قوة شكيمتهم أوضح دليل على أنه كان دائراً مع الحق حيث دار ، وأنه من الشجاعة بالمحل الأسنى ، وأنه لو كان معه وصيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر القيام على الناس لأنفذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان السيف على رأسه مسلطاً ، لا يرتاب في ذلك إلا من اعتقد فيه ـ رضي الله عنه ـ ما هو بريء منه .
ومما يلزم أيضا على تلك التقيه المشؤومة عليهم أنه رضي الله عنه لا يعتمد على قوله قط ؛ لأنه حيث لم يزل في اضطراب من أمره ، فكل ما قاله يحتمل أنه خالف فيه الحق خوفا وتقية . ذكره شيخ الإسلام الغزالى . قال غيره : بل يلزمهم ما هو أشنع من ذلك ، وأقبح ؛ كقولهم : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين الإمامة إلا لعلى ، فمنع من ذلك وقال : مروا أبا بكر تقية ! فيتطرق احتمال ذلك إلى كل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم ، ولا يفيد حينئذ إثبات العصمة شيئاً .(177/81)
وأيضا فقد استفاض عن على ـ رضي الله عنه ـ أنه كان لا يبالى بأحد حتى قيل للشافعى رضي الله عنه ما نفر الناس عن على إلا أنه كان لا يبالى بأحد ، وقال الشافعى : أنه كان زاهداً لا يبالى بالدنيا وأهلها ، وكان عالماً والعالم لا يبالى بأحد ، وكان شجاعاً والشجاع لا يبالى بأحد ، وكان شريفا والشريف لا يبالى بأحد. أخرجه البيهقي .
وعلى تقدير أنه قال ذلك تقية ، فقد أبقى مقتضيها بولايته ، وقد مر عنه من مدح الشيخين فيها وفى الخلوة وعلى منبر الخلافة مع غاية القوة والمنعة ما تلى عليك قريباً فلا تغفل .(177/82)
وأخرج أبو ذر الهروى والدار قطنى من طرق ، إن بعضهم مر بنفر يسبون الشيخين فأخبر عليا ، وقال : لولا أنهم يرون أنك تضمر ما أعلنوا ما اجترءوا على ذلك ، فقال على : أعوذ بالله ، رحمهما الله ، ثم نهض فأخذ بيد ذلك المخبر وأدخله المسجد ، وصعد المنبر ، ثم قبض على لحيته وهى بيضاء ، وجعلت دموعه تتحادر على لحيته ، وجعل ينظر البقاع حتى اجتمع الناس ، ثم خطب خطبة بليغة من جملتها : ما بال أقوام يذكرون أخوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وصاحبيه وسيدى قريش وأبوى المسلمين ، وأنا بريء مما يذكرون وعليه معاقب ، صحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجد والوفاء والجد في أمر الله ، يأمران وينهيان ويقضيان ويعاقبان ، لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم كرأيهما رأيا ولا يحب كحبهما حباً لما يرى من عزمهما في أمر الله ، فقبض وهو عنهما راض ، والمسلمون راضون ، فما تجاوزا في أمرهما وسيرتهما رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره في حياته وبعد موته ، فقبضا على ذلك فرحمهما الله ، فوالذى فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل ، ولا يبغضهما ويخالفهما إلا شقى مارق . حبهما قربة وبغضهما مروق . ثم ذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأبى بكر بالصلاة وهو يرى مكان على ، ثم ذكر أنه بايع أبا بكر ، ثم ذكر استخلاف أبى بكر لعمر ، ثم قال : ألا ولا يبلغنى عن أحد أنه يبغضهما إلا جلدته حد المفترى ، وفى رواية : وما اجترءوا على ذلك أي سب الشيخين ـ إلا وهم يرون أنك موافق لهم منهم عبد الله بن سبأ (1)
__________
(1) 259) ذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق أن " أصله من اليمن وابن أمة سوداء ، وكان يهوديا فأظهر الإسلام وطاف بلاد المسلمين ليلفتهم عن طاعة الأئمة ويدخل بينهم الشر ودخل دمشق لذلك . وأفاض فيه ابن جرير في تاريخه وهو الذي قال بالنص على الخلافة في على وأبنائه وأحدث القول برجعة على ، وأنه فيه الجزء الإلهي وأنه هوالذى يجئ في السحاب ـ قال المقريزى : ومن ابن سبأ تشعبت أصناف الغلاة من الرافضة ـوذكر أنه كان يتنقل من الحجاز إلى أمصار المسلمين يريد إضلالهم ، فلم يطق ذلك فرجع إلى كيد الإسلام وأهله ، ونزل البصرة سنة ثلاث وثلاثين ، فطرده عبد الله بن عامر منها لسوء مقالته ، فخرج إلى الكوفة ، فأخرج منها ، فنزل بمصر واستقر بها وبث دعاته في الأمصار ، وكاتب من مال إليه منهم بالعيب في ولاتهم . انظر " من عبر التاريخ للكوثرى " . وراجع ما سبق عن ابن سبأ في بداية الجزء الأول .(177/83)
[256])، وكان أول من أظهر ذلك ، فقال على : معاذ الله أن أضمر لهما ذلك . لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل ، وسترى ذلك إن شاء الله ، ثم أرسل إلى ابن سبأ فسيره إلى المدائن وقال: لا يساكننى في بلدة أبدا ، قال الأئمة : وكان ابن سبأ هذا يهوديا فأظهر الإسلام وكان كبير طائفة من الروافض وهم الذين أخرجهم على رضي الله عنه لما ادعوا فيه الألوهية .
وأخرج الدارقطنى من طرق أن علياً بلغه أن رجلاً يعيب أبا بكر وعمر فأحضره وعرض له بعيبهما لعله يعترف ففطن ، فقال له : أما والذى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق أن لو سمعت منك الذي بلغنى أو الذي نبئت عنك وثبت عليك ببينة لأفعلن بك كذا وكذا .(177/84)
إذا تقرر ذلك ، فاللائق بأهل البيت النبوي اتباع سلفهم في ذلك ، والإعراض عما يوشيه إليهم الرافضة وغلاة الشيعة من قبيح الجهل والغباوة والعناد ، فالحذر الحذر عما يلقونه إليهم من أن كل من اعتقد تفضيل أبى بكر علَى علِىّ رضي الله عنهما كان كافراً ، لأن مرادهم بذلك أن يقرروا عندهم تكفير الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الدين وعلماء الشريعة وعوامهم ، وأنه لا مؤمن غيرهم ، وهذا مؤد إلى هدم قواعد الشريعة من أصلها، وإلغاء العمل بكتب السنة وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته وأهل بيته ؛ إذ الراوي لجميع آثارهم وأخبارهم وللأحاديث بأسرها بل والناقل للقرآن في كل عصر من عصر النبي صلى الله عليه وسلم وإلى هلم ، هم الصحابة والتابعون وعلماء الدين . إذ ليس لنحو الرافضة رواية ولا دراية يدرون بها فروع الشريعة ، وإنما غاية أمرهم أن يقع في خلال بعض الأسانيد من هو رافضي أو نحوه . والكلام في قبولهم معروف عند أئمة الأثر ونقاد السنة ، فإذا قدحوا فيهم قدحوا في القرآن والسنة وأبطلوا الشريعة رأسا ، وصار الأمر كما في زمن الجاهلية الجهلاء ، فلعنة الله وأليم عقابه وعظائم نقمته على من يفترى على الله وعلى نبيه بما يؤدى إلى إبطال ملته وهدم شريعته … إلخ " .
ويأتى الفصل الثانى من هذا الباب وعنوانه :" في ذكر فضائل أبى بكر الواردة فيه وحده وفيه آيات وأحاديث " ( ص 98 ) . ويذكر اثنتى عشرة آية كريمة( ص 98: 102)، ثم قال:" وأما الأحاديث:فهى كثيرة مشهورة " وأثبت عشرات الأحاديث الشريفة .
ويطول الأمر كثيرا إذا أردنا أن نثبت ما جاء في هذا الكتاب متصلا بموضوعنا ، إذن لنقلناه كله أو جله ، ولهذا أكتفى هنا بإثبات آخر باب جعله قبل خاتمة الكتاب ، وعنوان الباب هو " في التخيير والخلافة " ( 372 ) وتحت العنوان جاء ما يأتي:(177/85)
وكان خير الناس بعده وبعد المرسلين أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وقد تواترت بذلك الأحاديث المستفيضه الصحيحة التي لا تعتل ، المرويةٍ في الأمهات والأصول المستقيمة ، التي ليست بمعلولة ولا سقيمه . قال سبحانه : "وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ " فنعته بالفضل . ولا خلاف أن ذلك فيه رضوان الله عليه ، وقال سبحانه : " ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ" فشهدت له الربوبيه بالصحبة وبشره بالسكينه وحلاه بثانى اثنين . كما قال على كرم الله وجهه: من يكون أفضل من اثنين الله ثالثهما . وقال سبحانه : " وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ " ، لا خلاف وهو قول جعفر الصادق رضوان الله عليه ، وقول على كرم الله وجهه ، إن الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم والذى صدق به أبو بكر . وأي منقبه أبلغ من هذا ، ولما أخبرنا سبحانه وتعالى : أنه لا يستوى السابقون ومن بعدهم بقوله سبحانه وتعالى : " لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى "والخبر في البخاري مسطور : أن عقبة بن أبى معيط وضع رداء رسول الله صلى الله عليه وسلم في عنقه وخنقه به ، فأقبل أبو بكر يعدو حول الكعبة ويقول : أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله ؟ قال : فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبى بكر فضربوه حتى لم يعرف أنفه من وجهه ، فكان أول من جاهد وقاتل ونصر دين الله، وأنه الشخص الذي به قام الدين وظهر ، وهو أول القوم إسلاما ، وذلك ظاهر جلى. وقال جابر بن عبد الله الأنصارى : كنا ذات يوم على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر الفضائل فيما بيننا إذ أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أفيكم أبو بكر ؟ قالوا: لا ، قال :(177/86)
لا يفضلن أحد منكم على أبى بكر ، فإنه أفضلكم في الدنيا والآخرة .
وخبر أبى الدرداء المشهور قال : رآنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أمشى أمام أبى بكر ، وقال : يا أبا الدرداء أتمشى أمام من هو خير منك ؟ ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبى بكر . ومن وجه آخر : أتمشى بين يدى من هو خير منك ؟ فقلت يا رسول الله : أبو بكر خير منى ؟ قال : ومن أهل مكة جميعاً ، قلت يا رسول الله : أبو بكر خير منى ومن أهل مكة جميعاً؟ قال : ومن أهل المدينة جميعاً ، قلت : يا رسول الله : أبو بكر خير منى ومن أهل الحرمين ؟ قال : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء بعد النبيين والمرسلين خيرا وأفضل من أبى بكر .
ونذكر في كثير منها تخيير عمر بعده ثم عثمان ثم على .
فمن ذلك خبر أبى عقال قد رواه مالك ، وقد سأل عليا كرم الله وجهه وهو على المنبر : من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم أنا ، وإلا فصمت أذنأي إن لم أكن سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلا فعميت وأشار إلى عينيه إن لم أكن رأيته ـ يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ما طلعت الشمس ولا غربت على رجلين أعدل ولا أفضل ـ وروى ولا أزكى ولا خيراً ـ من أبى بكر وعمر .
وقد روى محمد بن الحنفية قال : سألت والدى علياً وأنا في حجره ، فقلت: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أبو بكر . قلت : ثم من ؟ قال : عمر ، ثم حملتنى حداثة سنى قلت : ثم أنت يا أبتى ؟ قال : أبوك رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم .(177/87)
وخبر أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو بكر وعمر خير أهل السماء وخير أهل الأرض ، وخير الأولين ، وخير الآخرين إلا النبيين والمرسلين . وقال صلى الله عليه وسلم: على وفاطمة والحسن والحسين أهلي ، وأبو بكر وعمر أهل الله وأهل الله خير من أهلي . وقال صلى الله عليه وسلم : لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان الأمة لرجح .
وخبر عمار بن ياسر رضي الله عنه المشهور قال : قلت يا رسول الله : أخبرني عن فضائل عمر . فقال : يا عمار لقد سألتنى عما سألت عنه جبريل عليه السلام ، فقال لي يا محمد : لو مكثت معك ما مكث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً أحدثك في فضائل عمر ما نفذت ، وإن عمر لحسنة من حسنات أبى بكر ، وقال : قال لي ربى عز وجل : لو كنت متخذا بعد أبيك إبراهيم خليلا لاتخذت أبا بكر خليلًا ، ولو كنت متخذاً بعدك حبيبا لاتخذت عمر حبيباً . نقل ذلك من تفسير القرآن العظيم للبغوى رحمه الله تعالى في آخر سورة الحشر في قوله تعالى :
" وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ " يعنى التابعين ، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ، ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان بالمغفرة فقال : "يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا " -غشاً وحسداً وبغضاً ـ " لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ " فكل من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية ؛ لأن الله رتب المؤمنين على ثلاث منازل : المهاجرين ، والذين تبوءوا الدار والإيمان ، والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد أن لا تكون خارجا من أقسام المؤمنين .(177/88)
قال ابن أبى ليلى : الناس على ثلاثة منازل : الفقراء المهاجرون ، والذين تبوءوا الدار والإيمان ، والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد أن لا تكون خارجا من هذه المنازل .
أخبرنا أبو سعيد الشريحى ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبى ، أنبأنا عبد الله بن جليد ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سليمان ، حدثنا ابن نمير ، حدثنا أبى ، عن إسماعيل ابن إبراهيم عن عبد الملك بن عمير ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : أمرتم بالاستغفار لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسببتموهم ، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها " .
قال مالك بن معرور ، قال عامر بن شراحيل الشعبي : يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة ؛ سئلت اليهود من خير أهل ملتكم ؟ فقالت: أصحاب موسى رضي الله عنه، وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم ؟ فقالت : حوارى عيسى رضي الله عنه ، وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم !! أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة لا تقوم لهم حجة ولا يثبت لهم قدم ولا تجتمع لهم كلمة ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وادحاض حججهم ، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة .
قال مالك بن أنس : من ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو كان في قلبه عليهم غل ، فليس له حق في فىء ، ثم تلا :
" مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ" حتى أتى هذه الآية :
" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ " "وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ " " وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ" إلى قوله " رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ".
نقل البغوى رحمه الله في قوله : " ثَانِيَ اثْنَيْنِ " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر : أنت صاحبى في الغار وصاحبى على الحوض .(177/89)
قال الحسن بن الفضيل : من قال إن أبا بكر رضي الله عنه لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكار نص القرآن ، وفى سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً لا كافراً .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً .
*****
تعقيب
أطلت إلى حد ما في النقل من كتاب الصواعق المحرقة ليستبين منهج الرافضي صاحب المراجعات ، وجرأته على الباطل وتزييف الحقائق ، فصاحب الصواعق إنما أراد أن يحرق أمثاله ، فإذا به يأخذ من الصواعق لإحقاق باطله وإبطال ما أجمعت عليه الأمة ، وثبت بالنصوص القاطعة ، وذلك بمنهج ليس له أدنى صلة بالمنهج العلمى .
ولذلك لسنا في حاجة بعد هذا للوقوف أمام نقوله الكثيرة من هذين الكتابين:
فنهج البلاغة بغير إسناد ولشاعر رافضى جلد هو نفسه غير ثقة لو أسند . فكيف بانقطاع أربعة قرون ؟! ، كما أن في الكتاب ما يتعارض مع النصوص القطعية الثابتة عن على رضي الله تعالى عنه وأرضاه ، ومالا يمكن أن يصدر إلا من الرافضة !
وأما الصواعق المحرقة فصاحب الكتاب أفاض وأسهب في بيان بطلان ما ذهب إليه الشيعه والرافضة ، فهو يبطل إذن ما أراده صاحب كتاب المراجعات بالقرآن المجيد ، والسنة المطهرة الثابتة .
وأثبت في هذا التعقيب ما ذكره ابن حجر في الصواعق ( ص 69 ) ، وهو ما أخرجه البيهقي عن الإمام الشافعى قال :
" ما من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة " .
أما أهل السنة فمنهجهم يوضحه الإمام أحمد بن حنبل بقوله :
" إذا روينا في الحلال والحرام شددنا ، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا " .
وإذا نظرنا في مسند الإمام أحمد نجد تساهله لا ينزل عن درجة الضعيف إلا في الأخبار القليلة المختلف فيها ، حيث عدها ابن الجوزي في الأحاديث الموضوعة، ورد عليه الحافظ ابن حجر العسقلانى .(177/90)
أما ابن حجر الهيتمى في صواعقه فقد أكثر من ذكر أسباب النزول والأحاديث والآثار ، ومنها الصحيح والضعيف والموضوع ومالا أصل له ، ومنها الصريح وغير الصريح في الدلاله . وقد بين أن الأحاديث الصحيحة التي يحتج بها الشيعة والرافضة ليست صريحة ، ويعارضها الصريح من الصحيح ، بل المتواتر أحيانا . أما الروايات الصريحة التي يحتجون بها فليس منها ما يصل إلى درجة الصحيح أو الحسن ، ومعظمها روايات باطلة موضوعة مكذوبة ، وقد نجد فيها ما يصل إلى درجة الضعيف ، وكل هذا يعارضه ما سبق ذكره من المتواتر والصحيح.
ومنهج الشيعي الرافضي في مراجعاته أن يذكر من كتاب الصواعق ما يحتج به الروافض متجاهلا بطلانه ، وتواتر وصحة ما يعارضه كما بين صاحب الصواعق هو نفسه ! ثم ينسب زورا للشيخ البشرى إقراره بل إعجابه بهذا الباطل !
أكرر هنا ما قاله الإمام الشافعى : " ما من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة " .
وجاء في حاشية ص 43 من الصواعق : ذكر الفخر الرازى أنه لم ينقل عن على ذكر النص في شئ من خطبه ، ولا نعرفه إلا عن الكذابين ، ولو كان موجودا لعلمناه ولاشتهر .
الطرق التي يعلم بها كذب المنقول
في مناقشة شيخ الإسلام ابن تيمية للرافضى ابن المطهر الحلى بين بيانا شافيا الطرق التي يعلم بها كذب المنقول ، وذلك في الجزء السابع من كتابه (ص437 : 479 ) وما ذكره شيخ الإسلام في غاية الأهمية ، وعلى الأخص بالنسبة لغير علماء الحديث والمتخصصين ، ولهذا رأيت أن أجعل كلامه القيم ختاما لهذا الفصل . قال رحمه الله تعالى وأنزله الفردوس الأعلى :
فصل
في الطرق التي يعلم بها كذب المنقول .(177/91)
منها : أن يروى خلاف ما علم بالتواتر والاستفاضة ، مثل أن نعلم أن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة ، واتبعه طوائف كثيرة من بنى حنيفة ، فكانوا مرتدين لإيمانهم بهذا المتنبئ الكذاب ، وأن أبا لؤلؤة قاتل عمر كان مجوسيا كافرا ، وأن الهرمزان كان مجوسيا أسلم ، وأن أبا بكر كان يصلى بالناس مدة مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويخلفه في الإمامة بالناس لمرضه ، وأن أبا بكر وعمر دفنا في حجرة عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ومثل ما يعلم من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم التي كان فيها القتال كبدر ثم أحد ثم الخندق ثم خيبر ثم فتح مكة ثم غزوة الطائف ، والتى لم يكن فيها قتال كغزوة تبوك وغيرها ، وما نزل من القرآن في الغزوات ، كنزول الأنفال بسبب بدر ، ونزول آخر آل عمران بسبب أحد ، ونزول أولها بسبب نصارى نجران ، ونزول سورة الحشر بسبب بنى النضير ، ونزول الأحزاب بسبب الخندق ، ونزول سورة الفتح بسبب صلح الحديبية ، ونزول براءة بسبب غزوة تبوك ، وغيرها وأمثال ذلك .(177/92)
فإذا روى في الغزوات ـ وما يتعلق بها ما يعلم أنه خلاف الواقع ، علم أنه كذب ، مثل ما يروى هذا الرافضي ، وأمثاله من الرافضة وغيرهم ، من الأكاذيب الباطلة الظاهرة في الغزوات ، كما تقّدم التنبيه عليه ، ومثل أن يُعلم نزول القرآن في أي وقت كان ، كما يعلم أن سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال وبراءة نزلت بعد الهجرة في المدينة ، وأن الأنعام والأعراف ويونس وهود ويوسف و الكهف وطه ومريم واقتربت الساعة وهل أتى على الإنسان وغير ذلك نزلت قبل الهجرة بمكة ، وأن المعراج كان بمكة ، وأن الصفٌةَّ كانت بالمدينة ، وأن أهل الصفة كانوا من جملة الصحابة الذين لم يقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا ناساً معينين ، بل كانت الصفة منزلا ينزل بها من لا أهل له من الغرباء القادمين ، وممن دخل فيهم سعد بن أبى وقاص وأبو هريرة وغيرهما من صالحى المؤمنين ، وكالعريين الذين ارتدوا عن الإسلام ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، وألقاهم في الحرة يستسقون ، فلا يسقون وأمثال ذلك من الأمور المعلومة .
فإذا روى الجاهل نقيض ذلك علم أنه كذب .
ومن الطرق التي يُعلم بها الكذب أن ينفرد الواحد والاثنان بما يعلم أنه لو كان واقعا لتوفرت الهمم والدواعى على نقله ؛ فإنه من المعلوم أنه لو أخبر الواحد لبلد عظيم بقدر بغداد والشام والعراق لعلمنا كذبه في ذلك ، لأنه لو كان موجودا لأخبر به الناس .(177/93)
وكذلك لو أخبرنا بأنه تولى رجل بين عمر وعثمان ، أو تولّى بين عثمان وعلى ، أو أخبرنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذن له في العيد ، أو في صلاة الكسوف أو الاستسقاء ، أو أنه كان يقام بمدينته يوم الجمعة أكثر من جمعة واحدة ، أو يصلى يوم العيد أكثر من عيد واحد ، أو أنه كان يصلى العيد بمنى يوم العيد ، أو أن أهل مكة كانوا يتمون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى خلفه ، أو أنه كان يجمع بين الصلاتين بمنى كما كان يقصر ، أو أنه فرض صوم شهر آخر غير رمضان ، أو أنه فرض صلاة سادسة وقت الضحى أو نصف الليل ، أو أنه فرض حج بيت آخر غير الكعبة ، أو أن القرآن عارضه طائفة من العرب أو غيرهم بكلام يشابهه ، ونحو هذه الأمور ـ لكنا نعلم كذب هذا الكاذب ، فإنا نعلم انتفاء هذه الأمور بانتفاء لازمها ، فإن هذه لو كانت مما يتوفر الهمم والدواعى على نقلها عامة لبنى آدم ، وخاصة لأمتنا شرعا ، فإذا لم ينقلها أحد من أهل العلم ، فضلا عن أن تتواتر ، علم أنها كذب .
ومن هذا الباب نقل النص على خلافة علىّ ، فإنّا نعلم أنه كذب من طرق كثيرة ؛ فإن هذا النص لم ينقله أحد ( من أهل العلم ) بإسناد صحيح ، فضلا عن أن يكون متواترا ، ولا نقل أن أحدا ذكره على عهد الخلفاء ، مع تنازع الناس في الخلافة وتشاورهم فيها يوم السقيفة ، وحين موت عمر ، وحين جعل الأمر شورى بينهم في ستة ، ثم لما قتل عثمان واختلف الناس على على فمن المعلوم أن مثل هذا النص لو كان كما تقوله الرافضة من أنه نص على على نصا جليا قاطعا للعذر علمه المسلمون ، لكان من المعلوم بالضرورة أنه لابد أن ينقله الناس نقل مثله ، وأنه لابد أن يذكره لكثير من الناس ، بل أكثرهم في مثل هذه المواطن التي تتوفر الهمم على ذكره فيها غاية التوفر ، فانتفاء ما يعلم أنه لازم يقتضى انتفاء ما يعلم أنه ملزوم ، ونظائر ذلك كثيرة .(177/94)
ففي الجملة الكذب هو نقيض الصدق ، وأحد النقيضين يعلم انتفاؤه تارة بثبوت نقيضه ، وتارة بما يدل على انتفائه بخصوصه .
والكلام مع الشيعة أكثره مبنى على النقل ، فمن كان خبيرا بما وقع وبالأخبار الصادقة التي توجب العلم اليقينى علم انتفاء ما يناقض ذلك يقينا ، ولهذا ليس في أهل العلم بالأحاديث النبوية إلا ما يوجب العلم بفضل الشيخين وصحة إماماتهما ، وكذب ما تدعيه الرافضة .
ثم كل من كان أعلم بالرسول وأحواله ، كان أعلم ببطلان مذهب الزيدية وغيرهم ، ممن يدّعى نصاً خفياً ، وأن عليا كان أفضل من الثلاثة ، أو يتوقف في التفضيل ؛ فإن هؤلاء إنما وقعوا في الجهل المركّب أو البسيط لضعف علمهم بما علمه أهل العلم بالأحاديث والآثار .
فصل
واعلم أنه ثم أحاديث أُخر لم يذكرها هذا الرافضي ، لو كانت صحيحة لدلت على مقصوده ، وفيها ما هو أدل من بعض ما ذكره ، لكنها كلها كذب .
والناس قد رووا أحاديث مكذوبة في فضل أبى بكر وعمر وعثمان وعلىّ ومعاوية رضي الله عنهم وغيرهم ، لكن المكذوب في فضل على أكثر ، لأن الشيعة أجرأ على الكذب من النواصب .
قال أبو الفرج ابن الجوزي : " فضائل علىّ الصحيحة كثيرة ، غير أن الرافضة لم تقتنع فوضعت له ما يضع لا ما يرفع ، وحوشيت حاشيته من الاحتياج إلى الباطل " .
قال : " فاعلم أن الرافضة ثلاثة أصناف : صنف منهم سمعوا أشياء من الحديث فوضعوا أحاديث وزادوا ونقصوا . وصنف لم يسمعوا فتراهم يكذبون على جعفر الصادق ، ويقولون : قال جعفر ، وقال فلان . وصنف ثالث عوام جهله يقولون ما يريدون مما يسوغ في العقل ومما لا يسوغ " .(177/95)
فمن أماثل الموضوعات ما رواه ابن الجوزي من طريق النسائي في كتابه الذي وضعه في خصائص على من حديث عبيد الله بن موسى ، حدثنا العلاء ابن صالح ، عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي قال : قال علىّ رضي الله عنه : أنا عبد الله ، وأخو رسول الله ، وأنا الصديقِّ الأكبر ، لا يقولها بعدى إلا كاذب ، صليت قبل الناس سبع سنين " ورواه أحمد في " الفضائل " وفى رواية له : " ولقد أسلمت قبل الناس بسبع سنين " .
ورواه من حديث العلاء بن صالح أيضا عن المنهال عن عباد .
قال أبو الفرج : " هذا حديث موضوع والمتهم به عباد بن عبد الله . قال على بن المديني : كان ضعيف الحديث " . وقال أبو الفرج : " حماد الأزدى : روى أحاديث لا يتابع عليها . وأما المنهال فتركه شعبه . قال أبو بكر الأثرم : سألت أبا عبد الله عن حديث علىّ : " أنا عبد الله وأخو رسول الله " فقال : اضرب عليه فإنه حديث منكر " .
قلت : وعباد يروىُ من طريقه عن علىّ ما يُعلم أنه كذب عليه قطعا ، مثل هذا الحديث ؛ فإنّا نعلم أن عليا كان أبرَّ وأصدق وأتقى لله من أن يكذب ويقول مثل هذا الكلام ، الذي هو كذب ظاهر معلوم بالضروره أنه كذب . وما علمنا أنه كذب ظاهر لا يشتبه ، فقد علمنا أن علياً لم يقله ، لعلمنا بأنه أتقى لله من أن يتعمد هذا الكذب القبيح ، وأنه ليس مما يشتبه حتى يخطئ فيه ، فالناقل عنه إما متعمد الكذب وإما مخطئ غالط ، وليس قدح المبغض لعلى من الخوارج والمتعصبين لبنى مروان وغيرهم مما يشككنا في صدقه وبره وتقواه ، كما أنه ليس قدح الرافضة في أبى بكر وعمر ، بل وقدح الشيعة في عثمان ، لا يشككنا في العلم بصدقهم وبرهم وتقواهم ، بل نحن نجزم بأن واحدا منهم لم يكن ممن يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا هو فيما دون ذلك .
فإذا كان المنقول عنه مما لا يغلط في مثله ، وقد علمنا أنه كذب ، جزمنا بكذب الناقل متعمدا أو مخطئا .(177/96)
مثل ما رواه عبد الله في " المناقب " : حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عباد بن عبد الله ، عن على . وحدثنا أبو خثيمة ، حدثنا الأسود بن عامر ، حدثنا شريك ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عباد بن عبد الله الأسدي عن على قال : لما نزلت : " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ "? ( سورة الشعراء : 214 ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا من أهل بيته : إن كان الرجل منهم لآكلا جذعة ، وإن كان شاربا فرقا ... إلى آخر الحديث .
وهذا كذب علَى علىّ رضي الله عنه لم يروه قط ، وكذبه ظاهر من وجوه .
وهذا حديث رواه أحمد في " الفضائل " : حدثنا عثمان ، حدثنا أبو عوانة ، عن عثمان بن المغيرة ، عن أبى صادق ، عن ربيعة بن ناجز ، عن على ، وهؤلاء يعلم أنهم يروون الباطل .
وروى أبو الفرج من طريق أجلح عن سلمة بن كهيل ، عن حبة بن جوين ، قال : سمعت عليا يقول : أنا عبدت الله عز وجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يعبده رجل من هذه الأمة خمس سنين أو سبع سنين " قال أبو الفرج : " حبة لا يساوى حبة فإنه كذاب . قال يحيى : ليس بشيء قال السعدى : غير ثقة . وقال ابن حبان : كان غاليا في التشيع واهيا في الحديث . وأما الأجلح فقال أحمد : قد روى غير حديث منكر . قال أبو حاتم الرازى : لا يحتج به . وقال ابن حبان : كان لا يدرى ما يقول "
قال أبو الفرج : " ومما يبطل هذه الأحاديث أنه لا خلاف في تقدم إسلام خديجة وأبى بكر وزيد ، وأن عمر أسلم في سنة ست من النبوة بعد أربعين رجلا ، فكيف يصح هذا ؟ " .
وذكر حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا الصديق الأكبر " " وهو مما عملته يد أحمد ابن نصر الذراع ، فإنه كان كذابا يضع الحديث " .(177/97)
وحديثا فيه : " أنا أولهم إيمانا ، وأوفاهم بعهد الله ، وأقومهم بأمر الله ، وأقسمهم بالسوية ، وأعدلهم في الرعية ، وأبصرهم بالقضية " قال : " وهو موضوع ، والمتهم به بشر بن إبراهيم . قال ابن عدى وابن حبان : كان يضع الحديث على الثقات " . ورواه الأبرازى الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم بن سعيد الجوهرى ، عن مأمون عن الرشيد . قال : وهذا الأبرازى كان كذابا .
وذكر حديثا : " أنت أول من آمن بى ، وأنت أول من يصافحنى يوم القيامة ، وأنت الصديق الأكبر ، وأنت الفاروق تفرق بين الحق والباطل ، وأنت يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الكافرين ، أو يعسوب الظلمة " .
قال : " وهذا حديث موضوع . وفى طريقه الأول : عباد بن يعقوب . قال ابن حبان : يروى المناكير عن المشاهير فاستحق الترك ، وفيه علىّ بن هاشم . قال ابن حبان : كان يروى المناكير عن المشاهير . ، وكان غاليا في التشيع . وفيه محمد بن عبد الله قال يحيى : ليس بشئ . وأما الطريق الثانى ففيه أبو الصلت الهروى كان كذابا رافضيا خبيثا ، فقد اجتمع عباد وأبو الصلت في روايته ، والله أعلم بهما أيهما سرقه من صاحبه " .
قلت : لعل الآفة فيه من محمد بن عبد الله .
وروى عن طريق ابن عباس وفيه عبد الله بن زاهر . قال ابن معين : ليس بشئ لا يكتب عنه إنسان فيه خير . قال أبو الفرج بن الجوزي : " كان غاليا في الرفض " .
فصل
وهنا طرق يمكن سلوكها لمن لم تكن له معرفة بالأخبار من الخاصة ؛فإن كثيرا من الخاصة ـ فضلا عن العامة ـ يتعذر عليه معرفة التمييز بين الصدق والكذب من جهة الإسناد في أكثر ما يروى من الأخبار في هذا الباب وغيره . وإنما يعرف ذلك علماء الحديث ، ولهذا عدل كثير من أهل الكلام والنظر عن معرفة الأخبار بالإسناد وأحوال الرجال لعجزهم عنها ، وسلكوا طريقا آخر .(177/98)
ولكن تلك الطريق هي طريقة أهل العلم بالحديث ، العالمين بما بعث الله به رسوله . ولكن نحن نذكر طريقاً آخر فنقول : نقدِّر أن الأخبار المتنازع فيها لم توجد ، أو لم يُعلم أيها الصحيح ، ونترك الاستدلال بها في الطرفين ، ونرجع إلى ما هو معلوم بغير ذلك من التواتر ، وما يٌعلم من العقول والعادات ، وما دلت عليه النصوص المتفق عليها .
فنقول : من المعلوم المتواتر عند الخاصة والعامة ، الذي لم يختلف فيه أهل العلم بالمنقولات والسير : أن أبا بكر رضي الله عنه لم يطلب الخلافة : لا برغبة ولا برهبة ، لا بذل فيها ما يرغّب الناس به ، ولا شهر عليهم سيفاً يرهبهم به ، ولا كانت له قبيلة ولا موالٍ تنصره وتقيمه في ذلك ، كما جرت عادة الملوك أن أقاربهم ومواليهم يعاونونهم ، ولا طلبها أيضا بلسانه ، ولا قال : بايعونى ، بل أمر بمبايعة عمر وأبى عبيدة ، ومن تخلف عن بيعته كسعد بن عبادة لم يؤذه ، ولا أكرهه على المبايعة ، ولا منعه حقا له ، ولا حرك عليهم ساكنا . وهذا غاية في عدم إكراه الناس على المبايعة . .
ثم إن المسلمين بايعوه ودخلوا في طاعته ، والذين بايعوه هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، وهم السابقون الأّولون من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وهم أهل الإيمان والهجرة والجهاد ، ولم يتخلف عن بيعته إلا سعد بن عبادة .
وأما علىّ وسائر بنى هاشم فلا خلاف بين الناس أنهم بايعوه ، لكن تخلف من كان يريد الإمرة لنفسه ، رضي الله عنهم أجمعين . ثم إنه في مدة ولايته قاتل بهم المرتدين والمشركين ، لم يقاتل مسلمين، بل أعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الردة، وأخذ يزيد الإسلام فتوحا ، وشرع في قتال فارس والروم ، ومات والمسلمون محاصرو دمشق ، وخرج منها أزهد مما دخل فيها : لم يستأثر عنهم بشئ ، ولا أمّر له قرابة .(177/99)
ثم وَلِىَ عمر بن الخطاب ، ففتح الأمصار ، وقهر الكفّار ، وأعزّ أهل الإيمان، وأذلّ أهل النفاق والعدوان ، ونشر الإسلام والدين ، وبسط العدل في العالمين ، ووضع ديوان الخراج والعطاء لأهل الدين ، ومصَّر الأمصار للمسلمين، وخرج منها أزهد مما دخل فيها : لم يتلوث لهم بمال ، ولا ولَّى أحداً من أقاربه ولاية ، فهذا أمر يعرفه كل أحد .
وأما عثمان فإنه بنى على أمر قد استقرّ قبله بسكينة وحلٍ ، وهدى ورحمة وكرم ، ولم يكن فيه قوة عمر ولا سياسته ، ولا فيه كمال عدله وزهده ، فطُمع فيه بعض الطمع ، وتوسّعوا في الدنيا ، وأدخل من أقاربه في الولاية والمال ، ودخلت بسبب أقاربه في الولايات والأموال أمور أنكرت عليه ، فتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا ، وضعف خوفهم من الله ومنه ، ومن ضعفه هو ، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال ـ ما أوجب الفتنة ، حتى قُتل مظلوما شهيداً.
وتولىّ علىُّ علَىَ إثر ذلك ، والفتنة قائمة ، وهو عند كثير منهم متلطّخ بدم عثمان ، والله يعلم براءته مما نسبه إليه الكاذبون عليه ، المبغضون له ، كما نعلم براءته مما نسبه إليه الغالون فيه ، المبغضون لغيره من الصحابة ؛ فإن علياّ لم يُعِن على قتل عثمان ولا رضى به ، كما ثبت عنه ـ وهو الصادق ـ أنه قال ذلك ، فلم تصف له قلوب كثير منهم ، ولا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه ، ولا اقتضى رأيه أن يكف عن القتال حتى ينظر ما يؤول إليه الأمر ، بل اقتضى رأيه القتال ، وظن أنه به تحصل الطاعة والجماعة ، فما زاد الأمر إلا شدة ، وجانبه إلا ضعفا ، وجانب من حاربه إلا قوة ، والأمة إلا افتراقاً ، حتى كان في آخر أمره يطلب هو أن يكف عنه من قاتله ، كما كان في أول الأمر يُطلب منه الكفّ .(177/100)
وضعفت خلافة ( النبوة ) ضعفاً أوجب أن تصير ملكا ، فأقامها معاوية ملكا برحمة وحلم ، كما في الحديث المأثور : " تكون نبوّة ورحمة ، ثم تكون خلافة نبوة ورحمة ، ثم يكون ملك ورحمة ، ثم يكون ملك " ولم يتول أحد من الملوك خيرا من معاوية ، فهو خير ملوك الإسلام ، وسيرته خير من سيرة سائر الملوك بعده ، وعلى آخر الخلفاء الراشدين ، الذين هم ولايتهم خلافة نبوة ورحمة ، وكل من الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يشهد له بأنه من أفضل أولياء الله المتقين ، بل هؤلاء الأربعة أفضل خلق الله بعد النبيين ، لكن إذا جاء القادح فقال في أبى بكر وعمر : إنهما كانا ظالمين متعديين طالبين للرئاسة مانعين للحقوق ، وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة ، وإنهما ـ ومن أعانهما ـ ظلموا الخليفة المستحق المنصوص عليه من جهة الرسول ، وإنهم منعوا أهل البيت ميراثهم ، وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة والولاية الباطلة ، مع ما قد عُرف من سيرتهما ـ كان من المعلوم أن هذا الظن لو كان حقا فهو أولى بمن قاتل عليها حتى غُلب ، وسُفكت الدماء بسبب المنازعة التي بينه وبين منازعه ، ولم يحصل بالقتال لا مصلحة الدين ولا مصلحة الدنيا ، ولا قوتل في خلافته كافر ، ولا فرح مسلم ، فإن علياً لا يفرح بالفتنة بين المسلمين ، وشيعته لم تفرح بها ، لأنها لم تغلب ، والذين قاتلوه لم يزالوا أيضا في كرب وشدة .
وإذا كنا ندفع من يقدح في علىّ من الخوارج ، مع ظهور هذه الشبهة ، فلأن ندفع من يقدح في أبى بكر وعمر بطريق الأولى والأحرى ..
وإن جاز أن يظن بأبى بكر أنه كان قاصداً للرئاسة بالباطل ، مع أنه لم يُعرف منه إلا ضد ذلك ، فالظن بمن قاتل عَلَى الولاية ـ ولم يحصل له مقصودة ـ أولى وأحرى .
فإذا ضرب مثل هذا وهذا بإمامى مسجد ، وشيخى مكان ، أو مدرسى مدرسة ـ كانت العقول كلها تقول : إن هذا أبعد عن طلب الرئاسة ، وأقرب إلى قصد الدين والخير .(177/101)
فإذا كنا نظن بعلىّ أنه كان قاصدا للحق والدين ، وغير مريد علواً في الأرض ولا فسادا ، فظنُّ ذلك بأبى بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ أولى وأحرى.
وإن ظن ظان بأبى بكر أنه كان يريد العلوّ في الأرض والفساد ، فهذا الظن بعلىّ أجدر وأولى .
أما أن يقال : إن أبا بكر كان يريد العلو في الأرض والفساد ، وعلىُّ لم يكن يريد علوّا في الأرض ولا فسادا ، مع ظهور السيرتين ـ فهذا مكابرة ، وليس فيما تواتر من السيرتين ما يدل على ذلك ، بل المتواتر من السيرتين يدل على أن سيرة أبى بكر أفضل .
ولهذا كان الذين ادّعَوْا هذا لعلىّ أحالوا على ما لم يُعرف ، وقالوا : ثَمَّ نص على خلافته كُتم ، وثَمَّ عداوة باطنة لم تظهر ، بسببها مُنع حقه .
ونحن الآن مقصودنا أن نذكر ما عُلم وتيقن وتواتر عن العامة والخاصة ، وأما ما يذكر من منقول يدفعه جمهور الناس ، ومن ظنون سوء لا يقوم عليها دليل بل نعلم فسادها ، فالمحتج بذلك ممن يتبع الظن وما تهوى الأنفس ، وهو من جنس الكفار وأهل الباطل ، وهى مقابلة بالأحاديث من الطرق الأخر .
ونحن لم نحتج بالأخبار التي رُويت من الطرفين ، فكيف بالظن الذي لا يُغنى من الحق شيئا ؟ !
فالمعلوم المتيقَّن المتواتر عند العام والخاص أن أبا بكر كان أبعد عن إرادة العلو والفساد من عمر وعثمان وعلىّ فضلا عن علىّ وحده ، وأنه كان أولى بإرادة وجه الله تعالى وصلاح المسلمين من الثلاثة بعده ، فضلا عن على ، وأنه كان أكمل عقلا ودينا وسياسة من الثلاثة ، وأن ولايته الأمة خير من ولاية على ، وأن منفعته للمسلمين في دينهم ودنياهم أعظم من منفعة على ، رضي الله عنهم .
وإذا كنا نعتقد أنه كان مجتهدا مريدا وجه الله بما فعل ، وأن ما تركه من المصلحة كان عاجزاً عنه ، وما حصل من المفسدة كان عاجزا عن دفعه ، وأنه لم يكن مريداً للعلوّ في الأرض ولا الفساد ـ كان هذا الاعتقاد بأبى بكر وعمر أولى وأخلق وأحرى .(177/102)
فهذا وجه لا يقدر أحد أن يعارضه إلا بما يظن أنه نقل خاص ، كالنقل لفضائل على ، ولما يقتضى أنه أولى بالإمامة ، أو أن إمامته منصوص عليها .وحينئذ فيعارض هذا بنقل الخاصة ـ الذين هم أصدق وأكثر ـ لفضائل الصديق التي تقضى أنه أولى بالإمامة ، وأن النصوص إنما دلت عليه .
فما من حجة يسلكها الشيعي إلا وبإزائها للسنى حجة من جنسها أولى منها ؛ فإن السنة في الإسلام كالإسلام في الملل ، فما من حجة يسلكها كتابى إلا وللمسلم فيها ما هو أحق بالاتباع منها .
قال تعالى : " وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا " ( سورة الفرقان : 33) لكن صاحب الهوى الذي له غرض في جهة ، إذا وجه له المخالف لهواه ثقل عليه سمعه واتباعه .
قال تعالى : "وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ" ( سورة المؤمنون : 71 ) .
وهنا طريق آخر . وهو أن يُقال : دواعى المسلمين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كانت متوجهة إلى اتباع الحق ، وليس لهم ما يصرفهم عنه ، وهم قادرون على ذلك ، فإذا حصل الداعى إلى الحق ، وانتفى الصارف مع القدرة ، وجب الفعل.
فعُلم أن المسلمين اتّبعوا فيما فعلوه الحق . وذلك أنهم خير الأمم ، وقد أكمل الله لهم الدين ، وأتم عليهم النعمة . ولم يكن عند الصديق غرض دنيوى يقدّمونه لأجله ، ولا عند علىّ غرض دنيوى يؤخرونه لأجله ، بل لو فعلوا بموجب الطبع لقدَّموا علياً . وكانت الأنصار لو اتبعت الهوى أن تتّبع رجلا من بنى هاشم أحب إليها من أن تتبع رجلا من بنى تيم . وكذلك عامة قبائل قريش ، لا سيما بنو عبد مناف وبنو مخزوم ؛ فإن طاعتهم لمنافى كانت أحب إليهم من طاعة تيمى لو اتبعوا الهوى . وكان أبو سفيان بن حرب وأمثاله يختارون تقدم علىّ .(177/103)
وقد روى أن أبا سفيان طلب من علىّ أن يتولى لأجل القرابة التي بينهما . وقد قال أبو قحافة ، لما قيل له أن ابنك تولى ، قال : " أو رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو مخزوم ؟ " قالوا : نعم . فعجب من ذلك ، لعلمه بأن بنى تيم كانوا من أضعف القبائل ، وأن أشراف قريش كانت من تلك القبيلتين .
وهذا وأمثاله مما إذا تدبره العاقل علم أنهم لم يقدموا أبا بكر إلا لتقديم الله ورسوله ، لأنه كان خيرهم وسيدهم وأحبهم إلى الله ؛ فإن الإسلام إنما يقدم بالتقوى لا بالنسب ، وأبو بكر كان أتقاهم .
وهنا طريق آخر ، وهو أنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن خير هذه الأمة القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهذه الأمة خير الأمم كما دل عليه الكتاب والسنة .
وأيضا فإنه من تأمّل أحوال المسلمين في خلافة بنى أمية ، فضلا عن زمن الخلفاء الراشدين ، علم أن أهل ذلك الزمان كانوا خيراً وأفضل من أهل هذا الزمان، وأن الإسلام كان في زمنهم أقوى وأظهر . فإن كان القرن الأول قد جحدوا حق الإمام المنصوص عليه المولى عليهم ، ومنعوا أهل بيت نبيهم ميراثهم ، وولوا فاسقا وظالما ، ومنعوا عادلا عالما ، مع علمهم بالحق ، فهؤلاء من شر الخلق ، وهذه الأمة شر الأمم ، لأن هذا فعل خيارها ، فكيف بفعل شرارها ؟ !
وهنا طريق آخر . وهو أنه قد عُرف بالتواتر ، الذي لا يخفى على العامة والخاصة ، أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كان لهم بالنبي صلى الله عليه وسلم اختصاص عظيم ، وكانوا من أعظم الناس اختصاصاً به ، وصحبة له ، وقرباإليه ، واتصالا به ، وقد صاهرهم كلهم ، وما عُرف عنه أنه كان يذمهم ولايلعنهم ، بل المعروف عنه أنه كان يحبهم ويثنى عليهم .(177/104)
وحينئذ : فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهرا وباطنا ، في حياته وبعد موته. وإما أن يكونوا بخلاف ذلك ، في حياته أوبعد موته . فإن كانوا على غير الاستقامة ، مع هذا التقرب ، فأحد الأمرين لازم : إما عدم علمه بأحوالهم ، أو مداهنته لهم . وأيهما كان فهو من أعظم القدح في الرسول صلى الله عليه وسلم كما قيل :
فإن كنت لا تدرى فتلك مصيبة وإن كنت تدر فالمصيبة أعظم
وإن كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله للرسول في خواص أمته وأكابر أصحابه . ومن قد أخبر بما سيكون بعد ذلك ، أين كان عن علم ذلك؟ وأين الاحتياط للأمة حتى لا يولّى مثل هذا أمرها ؟ ومن وعد أن يظهر دينه على الدين كله ، فكيف يكون أكابر خواصه مرتدين ؟ فهذا ونحوه من أعظم ما يقدح به الرافضة في الرسول ، كما قال مالك وغيره : إنما أراد هؤلاء الرافضة الطعن في الرسول ليقول القائل : رجل سوء كان له أصحاب سوء ، ولو كان رجلا صالحاً لكان أصحابه صالحين .
ولهذا قال أهل العلم : إن الرافضة دسيسة الزندقة ، وإنه وضع عليها.وطريق آخر أن يقال : الأسباب الموجبة لعلىّ ـ إن كان هو المستحق ـ قوية ، والصوارف منتفية ، والقدرة حاصلة ، ومع وجود الداعى والقدرة وانتفاء الصارف يجب الفعل ، وذلك أن علياً هو ابن عم نبيهم ، ومن أفضلهم نسبا ، ولم يكن بينه وبين أحدٍ عداوة : لا عداوة نسب ولا إسلام ، بأن يقول القائل : قتل أقاربهم في الجاهلية .(177/105)
وهذا المعنى منتفٍ في الأنصار ؛ فإنهم لم يقتل أحداً من أقاربهم ، ولهم الشوكة ، ولم يقتل من بنى تيم ولا عدى ولا كثير من القبائل أحدا ، والقبائل التي قتل منها ، كبنى عبد مناف ، كانت تواليه ، وتختار ولايته ، لأنه إليها أقرب . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نص على ولايته ، أو كان هو الأفضل المستحق لها ، لم يكن هذا مما يخفى عليهم ، وعلمهم بذلك يوجب انبعاث إرادتهم إلى ولايته ، إذا لم يكن هناك صارف يمنع ، والأسباب كانت مساعدة لهذا الداعى ، ولا معارض لها ولا صارف أصلا .
ولو قُدِّر أن الصارف كان في نفر قليل ، فجمهور المسلمين لم يكن لهم فيها صارف يصرفهم عنه ، بل هو قادرون على ولايته . ولو قالت الأنصار : علىُّ هو أحق بها من سعد ومن أبى بكر ما أمكن أولئك النفر من المهاجرين أن يدافعوهم ، وقام أكثر الناس مع علىّ ، لاسيما وكان جمهور الذين في قلوبهم مرض يبغضون عمر لشدته عليهم ، وبغض الكفار والمنافقين لعمر أعظم من بغضهم لعلى بما لا نسبة بينهما ، بل لم يعرف أن علياً كان يبغضه الكفّار والمنافقون ، إلا كما يبغضون أمثاله . بخلاف عمر ، فإنه كان شديدا عليهم ، وكان من القياس أن ينفروا عن جهة فيها عمر .
ولهذا لما استخلفه أبو بكر ، كره خلافته طائفة ، حتى قال له طلحة : ماذا تقول لربك إذا وليت علينا فظا غليظا ؟ فقال : أبا لله تخوفنى ؟ أقول : وليت عليهم خير أهلك .
فإذا كان أهل الحق مع علىّ ، وأهل الباطل مع علىّ ، فمن الذي يغلبه إذا كان الحق معه ؟ وهب أنهم إذا قاموا لم يغلبوا ، أما كانت الدواعى المعروفة في مثل ذلك توجب أن يجرى في ذلك قيل وقال ونوع من الجدال ؟ أوليس ذلك أولى بالكلام فيه من الكلام في ولاية سعد ؟ فإذا كانت الأنصار بشبهة لا أصل لها طمعوا أن يتأمر سعد ، فمن يكون فيهم المحق ؟(177/106)
ونص الرسول الجلى كيف لا يكون أعوانه أطمع في الحق ؟ فإذا كان لم ينبز متكلم منهم بكلمة واحدة في ذلك ، ولم يّدع داع إلى علىّ : لا هو ولا غيره ، واستمر الأمر على ذلك ، إلى أن بويع له بعد مقتل عثمان ، فحينئذ قام هو وأعوانه فطلبوا وقاتلوا ولم يسكتوا ، حتى كادوا يغلبوا ـ عُلم بالاضطرار أن سكوتهم أولا كان لعدم المقتضى ، لا لوجود المانع ، وأن القوم لم يكن عندهم علم بأن عليا هو الأحق ، فضلا عن نص جلى ، وأنه لما بدا لهم استحقاقه قاموا معه ، مع وجود المانع .
وقد كان أبو بكر رضي الله عنه أبعدهم عن الممانعة من معاوية بكثير كثير ، لو كان لعلىّ حق . فإن أبا بكر لم يدع إلى نفسه ، ولا أرغب ولا أرهب ، ولا كان طالبا للرئاسة بوجه من الوجوه ، ولا كان في أول الأمر يمكن أحداً القدح في علىّ كما أمكن ذلك بعد مقتل عثمان ، فإنه حينئذ نسبه كثير من شيعة عثمان إلى أنه أعان على قتله ، وبعضهم يقول : خذله . وكان قتلة عثمان في عسكره ، وكان هذا من الأمور التي منعت كثيرا من مبايعته .
وهذه الصوارف كانت منتفية في أول الأمر ، فكان جنده أعظم ، وحقه إذ ذاك ـ لو كان مستحقا ـ أظهر ، ومنازعوه أضعف داعياً وأضعف قوة ، وليس هناك داع قوى يدعو إلى منعه ، كما كان بعد مقتل عثمان ، ولا جند يجمع على مقاتلته ، كما كان بعد مقتل عثمان .(177/107)
وهذه الأمور وأمثالها من تأملها تبين له انتفاء استحقاقه إذ ذاك بيانا لا يمكنه دفعه عن نفسه ، فلو تبين أن الحق لعلىّ ، وطلبه علىّ لكان أبو بكر : إما أن يُسلم إليه ، وإما أن يجامله ، وإما أن يعتذر إليه . ولو قام أبو بكر وهو ظالم يدافع عليا وهو محق ، لكانت الشريعة والعادة والعقل توجب أن يكون الناس مع على المحق المعصوم على أبى بكر المعتدى الظلوم ، لو كان الأمر كذلك ، لا سيما والنفوس تنفر عن مبايعة من ليس من بيت الولاية ، أعظم من نفرتها عن مبايعة أهل بيت المطاع ، فالدواعى لعلىّ من كل وجه كانت أعظم وأكثر ، لو كان أحق ، وهى عن أبى بكر من كل وجه كانت أبعد ، لو كان ظالما .
لكن لما كان المقتضى مع أبى بكر ـ وهو دين الله ـ قويا ، والإسلام في جدته وطراوته وإقباله ، كان أتقى لله ألا يصرفوا الحق عمن يعلمون أنه الأحق إلى غيره ، ولو كان لبعضهم هوى مع الغير .
وأما أبو بكر فلم يكن لأحدٍ معه هوى إلا هوى الدين ، الذي يحبه الله ويرضاه.
فهذه الأمور وأمثالها من تدبرها علم بالاضطرار أن القوم علموا أن أبا بكر هو الأحق بخلافة النبوة ، وأن ولايته أرضى لله ورسوله فبايعوه ، وإن لم يكن ذلك لزم أن يعرفوا ويحرفوا ، وكلاهما ممتنع عادة ودينا ، والأسباب متعددة فهذا المعلوم اليقينى لا يندفع بأخبار لا يُعلم صحتها ، فكيف إذا علم كذبها ؟ وألفاظ لا تعلم دلالتها ، فكيف إذا علم انتفاء دلالتها ؟ ومقاييس لا نظام لها ، يعارضها من المعقول والمنقول الثابت الإسناد المعلوم المدلول ما هو أقوى وأولى بالحق وأحرى .(177/108)
وهؤلاء الرافضة الذين يدفعون الحق المعلوم يقينا بطرق كثيرة علماً لا يقبل النقيض بشبه في غاية الضعف ، هم من أعظم الطوائف الذين في قلوبهم الزيغ ، الذين يتبعون المتشابه ويدعون المحكم ، كالنصارى والجهمية وأمثالهم من أهل البدع والأهواء ، الذين يدعون النصوص الصحيحة الصريحة التي توجب العلم ، ويعارضونها بشبه لا تفيد إلا الشك ، لو تعرض لم تثبت . وهذا في المنقولات سفسطة كالسفسطة في العقليات ، وهو القدح فيما علم بالحس والعقل بشبهة تعارض ذلك . فمن أراد أن يدفع العلم اليقينى المستقر في القلوب بالشبه ، فقد سلك مسلك السفسطة ، فإن السفسطة أنواع : أحدها : النفى والجحد والتكذيب : إما بالوجود وإما بالعلم به .
والثانى : الشك والريب ، وهذه طريقة اللاأدرية ، الذين يقولون : لا ندرى ، فلا يثبتون ولا ينفون ، لكنهم في الحقيقة قد نفوا العلم ، وهو نوع من النفس فعادت السفسطة إلى جحد الحق المعلوم أو جحد العلم به .
والثالث : قول من يجعل الحقائق تبعا للعقائد ، فيقول : من اعتقد العالم قديما فهو قديم ، ومن اعتقده محدثا فهو محدث ، وإذا أريد بذلك أنه قديم عنده ومحدث عنده فهذا صحيح ، فإن هذا هو اعتقاده . لكن السفسطة أن يراد أنه كذلك في الخارج .
وإذا كان كذلك فالقدح فيما عُلم من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم مع الخلفاء الثلاثة ، وما علم من سيرتهم بعده بأخبار يرويها الرافضة ، يكذبهم فيها جماهير الأمة من أعظم السفسطة ، ومن روى لمعاوية وأصحابه من الفضائل ما يوجب تقديمه على علىّ وأصحابه ، كان كاذباً مبطلا مسفسطاً .
ومع هذا فكذب الرافضة الذين يروون ما يقدح في إيمان الخلفاء الثلاثة ويوجب عصمة علىّ ، أعظم من كذب من يروى ما يُفضَّل به معاوية على علىّ ، وسفسطتهم أكثر ؛ فإن ظهور إيمان الثلاثة أعظم من ظهور فضل علىّ عَلَىَ معاوية من وجوه كثيرة ، وإثبات عصمة علىّ أبعد عن الحق من إثبات فضل معاوية .(177/109)
ثم خلافة أبى بكر وعمر هي من كمال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته ، ومما يُظهر أنه رسول حق ، ليس ملكا من الملوك ؛ فإن عادة الملوك إيثار أقاربهم بالولايات لوجوه : أحدهما : محبتهم لأقاربهم أكثر من الأجانب , لما في الطباع من ميل الإنسان إلى قرابته . والثانى : لأن أقاربهم يريدون إقامة ملكهم ما لا يريده الأجنبي ، لأن في عز قريب الإنسان عز لنفسه ، ومن لم يكن له أقارب من الملوك استعان بممالكه ومواليه فقربهم واستعان بهم ، وهذا موجود في ملوك المسلمين والكفار .
ولهذا لما كان ملوك بنو أمية وبنو العباس ملوكا ، كانوا يريدون أقاربهم ومواليهم بالولايات أكثر من غيرهم ، وكان ذلك مما يقيمون به ملكهم .
وكذلك ملوك الطوائف ، كبنى بويه ، وبنى سلجق ، وسائر الملوك بالشرق والغرب ، والشام ، واليمن ، وغير ذلك .
وهكذا ملوك الكفار من أهل الكتاب والمشركين ، كما يوجد في ملوك الفرنج وغيرهم ، وكما يوجد في آل جنكشخان بأن الملوك تبقى في أقارب الملك ، ويقولون : هذا من العظم ، وهذا ليس من العظم ، أي من أقارب الملك .
وإذا كان كذلك فتولية أبى بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم دون عمه العباس وبنى عمه على وعقيل وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وأبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وغيرهم ، ودون سائر بنى عبد مناف : كعثمان بن عفان وخالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد بن العاص وغيرهم من بنى عبد مناف ، الذين كانوا أجل قريش قدراً ، وأقرب نسبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ من أعظم الأدلة على أن محمدا عبد الله ورسوله ، وأنه ليس ملكا ؛ حيث لم يقدم في خلافته أحداً : لا بقرب نسب منه ، ولا بشرف بيته ، بل إنما قدّم بالإيمان والتقوى .(177/110)
ودل ذلك على أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده إنما يعبدون الله ويطيعون أمره ، لا يريدون ما يريده غيرهم من العلو في الأرض ، ولا يريدون أيضا ما أبيح لبعض الأنبياء من الملك . فإن الله خير محمداً بين أن يكون عبداً ورسولاً وبين أن يكون ملكا نبيا فاختار أن يكون عبداً رسولاً .
وتولية أبى بكر وعمر بعده من تمام ذلك ؛ فإنه لو قدم أحداً من أهل بيته لكانت شبهة لمن يظن أنه كان ملكا ، كما أنه لو ورث مالا لورثته لكانت شبهة لمن يظن أنه جمع المال لورثته . فلما لم يستخلف أحداً من أهل بيته ولا خلف لهم مالا، كان هذا مما يبين أنه كان من أبعد الناس عن طلب الرياسة والمال ، وإن كان ذلك مباحا ، وأنه لم يكن من الملوك الأنبياء ، بل كان عبد الله ورسوله .
كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " إنى والله لا أعطى أحدا ولا أمنع أحدا ، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت " .
وقال : " إن ربى خيرنى بين أن أكون عبداً رسولا ً أو نبيا ملكا ، فقلت : بل عبدا رسولا " .
وإذا كان هذا مما دل على تنزيهه عن كونه من ملوك الأنبياء ، فدلالة ذلك على نبوته ونزاهته عن الكذب والظلم أعظم وأعظم . ولو تولى بعده على أو واحد من أهل بيته لم تحصل هذه المصالح والإلطافات العظيمة .
وأيضاً فإنه من المعلوم أن الإسلام في زمن علىّ كان أظهر وأكثر مما كان في خلافة أبى بكر وعمر وكان الذين قاتلهم علىّ أبعد عن الكفر من الذين قاتلهم أبو بكر وعمر ؛ فإن أبا بكر قاتل المرتدين وأهل الكتاب ، مع ما حصل للمسلمين بموت النبي صلى الله عليه وسلم من الضعف العظيم ، وما حصل من الارتداد لأكثر البوادى ، وضعف قلوب أهل الأمصار ، وشك كثير منهم في جهاد مانعى الزكاة وغيرهم .(177/111)
ثم عمر تولى قتال أمتين عظيمتين ، لم يكن في العادة المعروفة أن أهل الحجاز واليمن يقهرونهم وهما فارس والروم ، فقهرهم وفتح بلادهم . وتمم عثمان ما تمم من فتح المشرق والمغرب ، ثم فتح بعد ذلك في خلافة بنى أمية ما فتح بالمشرق والمغرب كما وراء النهر والأندلس وغيرهما مما فتح في خلافة عبد الملك .
فمعلوم أنه لو تولى غير أبى بكر وعمر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل علىّ أو عثمان ، لم يمكنه أن يفعل ما فعلا ؛ فإن عثمان لم يفعل ما فعلا ، مع قوة الإسلام في زمانه ، وعلىّ كان أعجز من عثمان ، وكان أعوانه أكثر من أعوانهما ، وعدوه أقل وأقرب إلى الإسلام من عدوهما ، ومع هذا فلم يقهر عدوه ، فكيف كان يمكنه قهر المرتدين وقهر فارس والروم ، مع قلة الأعوان وقوة العدو ؟!
وهذا مما يبين فضل أبى بكر وعمر ، وتمام نعمة الله بهما على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الناس بعده ، وأن من أعظم نعم الله تولية أبى بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه لو تولى غيرهما كان لم يفعل ما فعلا ، إما لعدم القدرة ، وإما لعدم الإرادة.
فإنه إذا قيل : لِمَ لمْ يغلب علىّ معاوية وأصحابة ؟ فلابد أن يكون سبب ذلك : إما عدم كمال القدرة ، وإما عدم كمال الإرادة . وإلا فمع كمال القدرة وكمال الإرادة يجب وجود الفعل ، ومن تمام القدرة طاعة الأتباع له ، ومن تمام الإرادة إرادة ما هو الأصلح الأنفع الأرضى لله ولرسوله .
وأبو بكر وعمر كانت قدرتهما أكمل ، وإرادتهما أفضل . فبهذا نصر الله بهما الإسلام ، وأذل بهما الكفر والنفاق ، وعلى رضي الله عنه لم يؤت من كمال القدرة والإرادة ما أوتيا .(177/112)
والله تعالى كما فضّل بعض النبيين على بعض ، فضّل بعض الخلفاء على بعض . فلما لم يؤت ما أوتيا ، لم يمكنه أن يفعل في خلافته ما فعلا ، وحينئذ فكان عن ذلك بموت النبي صلى الله عليه وسلم أعجز وأعجز ؛ فإنه على أي وجه ُقدر ذلك فإن غاية ما يقول المتشيّع : إن أتباعه لم يكونوا يطيعونه .
فيقال : إذا كان الذين بايعوه لم يطيعوه ، فكيف يطيعه من لم يبايعه ؟ وإذا قيل : لو بايعوه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لفعل بهم أعظم مما فعل أبو بكر وعمر .
فيقال : قد بايعه أكثر ممن بايع أبا بكر وعمر ونحوهما ، وعدوه أضعف وأقرب إلى الإسلام من عدو أبى بكر وعمر ، ولم يفعل ما يشبه فعلهما ، فضلا عن أن يفعل أفضل منه .
وإذا قال القائل : إن أتباع أبى بكر وعمر رضي الله عنهما أعظم إيمانا وتقوى ، فنصرهم الله لذلك .
قيل : هذا يدل على فساد قول الرافضة ؛ فإنهم يقولون : إن أتباع أبى بكر وعمر كانوا مرتدين أو فاسقين ، وإذا كان نصرهم وتأييدهم لإيمانهم وتقواهم ، دل ذلك على أن الذين بايعوهما أفضل من الشيعة الذين بايعوا عليا .
وإذا كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامة على ، دل ذلك على أنهما أفضل منه .
وإن قالوا : إن عليا إنما لم ينتصر لأن أتباعه كانوا يبغضونه ويختلفون عليه.
قيل : هذا أيضا يدل على فساد قول الشيعة : إن الذين بايعوا عليا وأقروا بإمامته أفضل ممن بايع أبا بكر وعمر وأقر بإمامتهما ، فإذا كان أولئك الشيعة الذين بايعوا عليا عصاة للإمام المعصوم ، كانوا من أشر الناس ، فلا يكون في الشيعة طائفة محمودة أصلا ، ولا طائفة ينتصر بها على العدو ، فيمتنع أن يكون على مع الشيعة قادرا على قهر الكفار .
وبالجملة فلابد من كمال حال أبى بكر وعمر وأتباعهما ، فالنقص الذي حصل في خلافة علىّ من إضافة ذلك : إما إلى الإمام ، وإما إلى أتباعه ، وإما إلى المجموع .(177/113)
وعلى كل تقدير فيلزم أن يكون أبو بكر وعمر وأتباعهما أفضل من علىّ وأتباعه ، فإنه إن كان سبب الكمال والنقص من الإمام ظهر فضلهما عليه ، وإن كان من أتباعه كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامته ، فتكون أهل السنة أفضل من الشيعة ، وذلك يستلزم كونهما أفضل منه ، لأن ما امتاز به الأفضل أفضل مما امتاز به المفضول .
وهذا بين لمن تدبره ؛ فإن الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وقاتلوا معهم ، هم أفضل من الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه ؛ فإن أولئك فيهم من عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه .
وعامة السابقين الأولين عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما توفى منهم أو قتل في حياته قليل منهم .
والذين بايعوا عليا كان فيهم من السابقين والتابعين بإحسان بعض من بايع أبا بكر وعمر وعثمان . وأما سائرهم فمنهم من لم يبايعه ولم يقاتل معه ، كسعد بن أبى وقاص ، وأسامة بن زيد ، وبن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، وزيد بن ثابت ، وأبى هريرة ، وأمثال هؤلاء من السابقين ، والذين اتبعوهم بإحسان .
ومنهم من قاتله ، كالذين كانوا مع طلحة والزبير وعائشة ومعاوية من السابقين والتابعين .
وإذا كان الذين بايعوا الثلاثة وقاتلوا معهم أفضل من الذين بايعوا عليا وقاتلو معه ، لزم أن يكون كل من الثلاثة أفضل ، لأن عليا كان موجودا على عهدالثلاثة ، فلو كان هو المستحق للإمامة دون غيره ، كما تقول الرافضة ، أو كان أفضل وأحق بها ، كما يقوله من يقوله من الشيعة ، لكان أفضل الخلق قد عدلوا عما أمرهم الله به ورسوله إلى ما لم يؤمروا به ، بل ما نهوا عنه ، وكان الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه فعلوا ما أمروا به .(177/114)
ومعلوم أن من فعل ما أمر الله به ورسوله كان أفضل ممن تركه وفعل ما نهى الله عنه ورسوله ، فلزم لو كان قول الشيعة حقا أن يكون أتباع على أفضل . وإذا كانوا هم أفضل وإمامهم أفضل من الثلاثة ، لزم أن يكون ما فعلوه من الخير أفضل مما فعله الثلاثة .
وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار ، الذي تواترت به الأخبار ، وعلمته البوادى والحضار ؛ فإنه في عهد الثلاثة جرى من ظهور الإسلام وعلوه ، وانتشاره ونموه وانتصاره وعزه ، وقمع المرتدين ، وقهر الكفار من أهل الكتاب والمجوس وغيرهم ـ ما لم يجر بعدهم مثله .
وعلىّ رضي الله عنه فضّله الله وشرّفه بسوابقه الحميدة وفضائله العديدة ، لا بما جرى في زمن خلافته من الحوادث ، بخلاف أبى بكر وعمر وعثمان فإنهم فضلوا مع السوابق الحميدة والفضائل العديدة ، بما جرى في خلافتهم من الجهاد في سبيل الله ، وإنفاق كنوز كسرى وقيصر ، وغير ذلك من الحوادث المشكورة ، والأعمال المبرورة .
وكان أبو بكر وعمر أفضل سيرة وأشرف سريرة من عثمان وعلى رضي الله عنهم أجمعين . فلهذا كانا أبعد عن الملام وأولى بالثناء العام ، حتى لم يقع في زمنهما شئ من الفتن ؛ فلم يكن للخوارج في زمنهما لا قول مأثور ولا سيف مشهور ، بل كان كل سيوف المسلمين مسلولة على الكفار ، وأهل الإيمان في إقبال، وأهل الكفر في إدبار .
ثم إن الرافضة ـ أو أكثرهم ـ لفرط جهلهم وضلالهم يقولون : إنهم ومن اتبعهم كانوا كفارا مرتدين ، وإن اليهود والنصارى خير منهم ، لأن الكافر الأصلى خير من المرتد . وقد رأيت هذا في عدة من كتبهم ، وهذا القول من أعظم الأقوال افتراء على أولياء الله المتقين ، وحزب الله المفلحين ، وجند الله الغالبين .(177/115)
ومن الدلائل الدالة على فساده أن يقال : من المعلوم بالاضطرار ، والمتواتر من الأخبار ، أن المهاجرين هاجروا من مكة وغيرها إلى المدينة، وهاجر طائفة منهم ، كعمر وعثمان وجعفر بن أبى طالب ، هجرتين : هجرة إلى الحبشة ، وهجرة إلى المدينة ، وكان الإسلام إذ ذاك قليلا ، والكفار مستولون على عامة الأرض ، وكانوا يؤذون بمكة ويلقون من أقاربهم وغيرهم من المشركين من الأذى ما لا يعلمه إلا الله ، وهم صابرون على الأذى ، متجرعون لمرارة البلوى ، وفارقوا الأوطان ، وهجروا الخلان لمحبة الله ورسوله والجهاد في سبيله ، كما وصفهم الله تعالى بقوله :
" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " ( سورة الحشر : 8 ) .
وهذا كله فعلوه طوعا واختيارا من تلقاء أنفسهم ، لم يكرههم عليه مكره ، ولا ألجأهم إليه أحد ؛ فإنه لم يكن للإسلام إذ ذاك من القوة ما يكره به أحد على الإسلام ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ـ هو ومن اتبعه ـ منهيين عن القتال ، مأمورين بالصفح والصبر ، فلم يسلم أحد إلا باختياره ، ولا هاجر أحد إلا باختياره.
ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره من العلماء : إنه لم يكن من المهاجرين من نافق ، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار لما ظهر الإسلام بالمدينة ، ودخل فيه قبائل الأوس والخزرج ، ولما صار للمسلمين دار يمتنعون بها ويقاتلون دخل في الإسلام من أهل المدينة وممن حولهم من الأعراب من دخل خوفا وتقية ، وكانوا منافقين .
كما قال تعالى :(177/116)
" وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ " ( سورة التوبة : 101 )
ولهذا إنما ذكر النفاق في السور المدنية ، وأما السور المكية فلا ذكر فيها للمنافقين ، فإن من أسلم قبل الهجرة بمكة لم يكن فيهم منافق ، والذين هاجروا لم يكن فيهم منافق ، بل كانوا مؤمنين بالله ورسوله ، محبين لله ولرسوله ، وكان الله ورسوله أحب إليهم من أولادهم وأهلهم وأموالهم .
وإذا كان كذلك علم أن رميهم ـ أو رمى أكثرهم أو بعضهم ـ بالنفاق ، كما يقوله من يقوله من الرافضة ، من أعظم البهتان ، الذي هو نعت الرافضة وإخوانهم من اليهود ؛ فإن النفاق كثير ظاهر في الرافضة إخوان اليهود ، ولا يوجد في الطوائف أكثر وأظهر نفاقا منه ، حتى يوجد فيهم النصيرية والإسماعيلية وأمثالهم ، ممن هو من أعظم الطوائف نفاقا وزندقة وعداوة لله ولرسوله .
وكذلك دعواهم عليهم الردة من أعظم الأقوال بهتاناً ؛ فإن المرتد إنما يرتد بشبهة أو شهوة . ومعلوم أن الشبهات والشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى ، فمن كان إيمانهم مثل الجبال في حال ضعف الإسلام ، كيف يكون إيمانهم بعد ظهور آياته وانتشار أعلامه ؟!
وأما الشهوة : فسواء كانت شهوة رياسة أو مال أو نكاح أو غير ذلك ، كانت في أول الإسلام أولى بالاتباع ، فمن خرجوا من ديارهم وأموالهم ، وتركوا ما كانوا عليه من الشرف والعز حبا لله ولرسوله ، طوعا غير إكراه ، كيف يعادون الله ورسوله طلبا للشرف والمال ؟!(177/117)
ثم هم في حال قدرتهم على المعاداة ، وقيام المقتضى للمعاداة ، لم يكونوا معادين لله ورسوله ، بل موالين لله ورسوله ، معادين لمن عادى الله ورسوله ، فحين قوى المقتضى للموالاه ، وضعفت القدرة على المعاداة ، يفعلون نقيض هذا ؟! هل يظن هذا إلا من هو من أعظم الناس ضلالاً ؟
وذلك أن الفعل إذا حصل معه كمال القدرة عليه ، وكمال الإرادة له وجب وجوده ، وهم في أول الإسلام كان المقتضى لإرادة معاداة الرسول أقوى ، لكثرة أعدائه وقلة أوليائه ، وعدم ظهور دينه وكانت قدرة من يعاديه باليد واللسان حينئذ أقوى ، حتى كان يعاديه آحاد الناس ويباشرون أذاه بالأيدي والألسن . ولما ظهر الإسلام وانتشر ، كان المقتضى للمعاداة أضعف ، والقدرة عليها أضعف . ومن المعلوم أن من ترك المعاداة أولا ، ثم عاداه ثانيا لم يكن إلا لتغير إرادته أو قدرته .
ومعلوم أن القدرة على المعاداة كانت أولاً أقوى ، والموجب لإرادة المعاداة كان أولا أولى ، ولم يتجدد عندهم ما يوجب تغير إرادتهم ولا قدرتهم ، فعلم علما يقينيا أن القوم لم يتجدد عندهم ما يوجب الردة عن دينهم ألبتة ، والذين ارتدوا بعد موته إنما كانوا ممن أسلم بالسيف ، كأصحاب مسيلمة وأهل نجد ، فأما المهاجرون الذين أسلموا طوعا فلم يرتد منهم ـ ولله الحمد ـ أحد ، وأهل مكة لما أسلموا بعد فتحها همَّ طائفة منهم بالردة ، ثم ثبتهم الله بسهيل بن عمرو .
وأهل الطائف لما حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ، ثم رأوا ظهور الإسلام ، فأسلموا مغلوبين ، فهموا بالردة ، فثبتهم الله بعثمان بن أبى العاص .(177/118)
فأما أهل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فإنما أسلموا طوعا ، والمهاجرون منهم والأنصار ، وهم قاتلوا الناس على الإسلام ، ولهذا لم يرتد من أهل المدينة أحد ، بل ضعف غالبهم بموت النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلت أنفسهم عن الجهاد على دينه ، حتى ثبتهم الله وقواهم بأبى بكر الصديق رضي الله عنه ، فعادوا إلى ما كانوا عليه من قوة اليقين ، وجهاد الكافرين ، فالحمد لله الذي من على الإسلام وأهله بصديق الأمة ، الذي أيد الله به دينه في حياة رسوله ، وحفظه به بعد وفاته ، فالله يجزيه عن الإسلام وأهله خير الجزاء . انتهى كلام شيخ الإسلام رضي الله تعالى عنه .
الفصل الخامس
عقائد تابعة
رأينا فيما سبق عقيدتهم في الإمامة ، وأثبتنا بطلانها بأدلة صحيحة صريحة، بل قطعية يقينية . وهذه العقيدة الباطلة هي الطامة الكبرى التي دفعتهم إلى كل غلو وضلال ، وقد رأيت هذا واضحاً جليا منذ عشرات السنين عندما كنت أدرس للحصول على درجة الماجستير، وكان عنوان الرسالة " فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة ... " ولذلك جعلت رسالة الدكتوراه تحت عنوان " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله " وإن كنا في غنى عن مناقشة ما تبع عقيدة الإمامة من عقائد أخرى ، فما بنى على باطل فهو باطل ، غير أننا آثرنا توضيح أهم العقائد التابعة ، وستكون المناقشة موجزة كل الإيجاز ، وهذه العقائد أهمها : عصمة الأئمة ، والبداء ، والرجعة ، والتقية.
أولا : عصمة الأئمة
يرى الشيعة الاثنى عشرية وجوب عصمة الإمام " بحيث يحصل للمكلفين القطع بأنه حجة الله ، وأن قوله قول الله تعالى ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم . وحكمه وجوب طاعته والتسليم له ، والرد إليه على جهة القطع. (1) } - - - { )
وأهم أدلتهم على وجوب هذه العصمة ما يأتي :-
__________
(1) 260) جوامع الكلم 1 / 8 .(177/119)
1.وجوب وجود الإمام لطف من الله سبحانه ، فبه يتم ارتفاع القبيح وفعل الواجب ، وفعل القبيح والإخلال بالواجب لا يكونان إلا ممن ليس بمعصوم ، فلابد على هذا من أن يكون الإمام معصوماً ، فهو مكان النبي ، متصف بكل صفاته إلا النبوة .
2.الإمام مقتدى به في جميع الشريعة ، فلو كان غير معصوم لم نأمن في بعض أفعاله مما يدعونا إليه أن يكون قبيحاً ، ويجب علينا موافقته من حيث وجب الاقتداء به ، ولا يجوز من الحكيم تعالى أن يوجب علينا الاقتداء بما هو قبيح ، فإذا لم يجز ذلك عليه تعالى دل على أن من أوجب علينا الاقتداء به لا يصدر منه فعل القبيح ولا يكون كذلك إلا المعصوم .
3.إذا ثبت لنا عصمته في الظاهر ، فلابد من عصمته في الباطن ، إذ لا يحسن من الحكيم تعالى أن يولى الإمامة ـ وهى منصب يقتضي التعظيم والتبجيل ـ من يجوز أن يكون مستحقا للعنة والبراءة في باطنه .
4.لابد أن يكون معصوما قبل حال الإمامة لأنه لو لم يكن كذلك لأدى إلى التنفير عنه، وعدم الاطمئنان إليه(1) } - - - { ) .
وهم يرون كذلك أن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فيهما ما يؤيد اعتقادهم ، فكريمة قوله تعالى : " إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "صريحة في لزوم العصمة في الإمام لمن تدبرها جيدا(2) } - - - { ).
" ومن ذلك مثل قوله تعالى - " أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ"
__________
(1) 261) انظر تلخيص الشافى ص 318 ، وجوامع الكلم جـ 1 صفحات : 7 ، 8 ، 19 ، 20.
(2) 262) انظر أصل الشيعة وأصولها ص 102 .(177/120)
وجه الاستدلال العقلى من دليل الموعظة الحسنة أنه سبحانه أخبرهم بأن من يهدى إلى الحق أولى بالاتباع ، ومن فعل الذنب لا يكون هادياً إلى الحق حال معصيته ولا بفعله ، أما حال معصيته فلا يقبل منه ولا تؤثر موعظته في القلوب ، بل تنكر عليه ، وذلك موجب لخلاف دعوته إلى الحق ، وأما بفعله ففعله ذنب والذنب باطل يدعو إلى الباطل ، وأما في غير تلك الحال فالعقول تجوز عليه حالاً لمعصيته لما فيها من شائبة النفرة ، فلا يتم له هدايته إلى الحق ، ولو فرض أنها لا تجوز عليه حال الطاعة حال المعصية ، لم يستحق أحقية الاتباع المطلقة المستمرة التي هي مراد في الآية الشريفة ، ولو فرض الاستحقاق والحال هذه في الجملة ، أو بقول مطلق ، لم يكن في الاستحقاق للأتباع مثل إن لم يقع منه ذنب مطلقا ، فإذا كان الاتباع إنما هو للهداية للحق والصواب الموجبة للنجاة من عذاب الله وسخطه ، وجب في العقل اتباع من لم يجوز عليه العقل شيئاً من المعاصي بالقطع بحصول النجاة في اتباعه ، دون من وقع منه الذنب ، لعدم القطع بحصول النجاة فياتباعه " (1) } - تمهيد - { ) .
ومعنى هذا أن الإمام غير المعصوم عندما يعصى ويفعل الذنب لا يصلح للدعوة إلى الحق ، وفي غير حال المعصية لا يصلح كذلك ، لأن العقول تجوز وقوع المعصية منه . وإذا فرض أنها لا تجوز ذلك في حال طاعته فإن غير المعصوم ـ مع هذا ـ ليس أهلا لأن يتبع الاتباع المطلق المستمر .
وأما السنة الشريفة فهى ـ في رأيهم ـ مستفيضة في الدلالة على العصمة ، بل إنه " ما نشأ القول بعصمة الأئمة إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله " (2) } - تمهيد - { ).
__________
(1) 263) جوامع الكلم 1 / 20 .
(2) 264) الدعوة الإسلامية ص 253 .(177/121)
وهم يرون كذلك أن ما ورد في القرآن الكريم من العتابات المروية في حق الأنبياء عليهم السلام ليست مقصودة على ما هو المعروف عند سائر الناس ، " فإن المعروف عندهم أن الشخص إذا عاتب آخر ، والسيد إذا عاتب عبده ، فإنه في تلك الحال واجد عليه أو مريد لعقوبته ، لأجل مخالفته لما أمره به أو نهاه عنه ، لأنه عاص له ، قادم على مخالفة أمره ، وأما عتاب الله عز وجل فإنه ليس من هذا القبيل ؛ لأن أنبياءه لا يقدمون على مخالفته ، وإن ما يقع منهم بمقتضى الطبيعة البشرية ليس مما نهى الله عنه نهى تحريم ليقال كيف يرجحون داعي الطبيعة البشرية على داعي أمر الله وداعي الطبيعة البشرية النفس الأمارة بالسوء ، وداعي أمر الله هو العقل . وأصحاب العقول الكاملة لا يطيعون قرين الشيطان . وإنما هو نهى تنزيه وإرشاد " .
والنبي أو الولي " قد يقع منه خلاف الأولى لأنه ينافي الكمال ، ولا يستلزم النقصان ، لأنه بتلك الصفات الحميدة تام قائم في مقامه ومرتبته التي وضعه الله فيها ، فإذا وقع منه خلاف الأولى استوجب العقاب والذم من رب الأرباب لعلم ذلك الولي أنه مرجوح لا ينبغى له أن يفعله ، فإذا فعله مع علمه بذلك عرف من نفسه التقصير واستحقاق العتاب ، لأن الله سبحانه أقامه مقام القدس الذي هو محل الخلافة والسفارة المقتضى لأن يجرى على الحكمة التي هي مقتضى إرادة المولى سبحانه وفعله ، فإذا ورد عليه الذم والعتاب انكسر وأناب ، فاستحق بانكساره وذله واستغفاره وتوبته تلك الدرجة العالية " (1) } - تمهيد - { ).
" فتلك العتابات والتوبيخات دالة على عظم شأنهم ، وجلالة قدرهم عنده لعظيم اعتنائه عز وجل بهم ، فإنه قد يعاتبهم ويلومهم على ما ليس بذنب ، وإنما هو تكميل على تكميل ، وتنزيه لهم عن ملابسة مالا يليق بمقامهم عنده " (2) } - تمهيد - { ).
__________
(1) 265) جوامع الكلم 1 / 18.
(2) 266) المرجع السابق 1 / 19 .(177/122)
ومن أمثلة ذلك قول الله عز وجل : " عَفَا اللّهُ عَنكَ "، فقالوا تفسيرا للعفو: " هذا يستعمل من لطيف المعاتبة ، وإن كان العتاب على فعل جائز مثل المراد في هذه الآية ، وليس للعفو متعلق إلا التلطف في العتاب " (1) } - تمهيد - { ).
وقوله تعالى : " لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ "
خرجوا معنى الآية الكريمة على أنه " محمول على ترك الأولى كما تقدم " . وقيل : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنب أمتك بشفاعتك ، وحسنت إضافة ذنوب أمته إليه للاتصال بينه وبينهم .
وعن الصادق رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال ما كان له ذنب ولا هم بذنب ، ولكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له ..
وفي رواية ابن طاووس عنهم عليهم السلام أن المراد : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر عند أهل مكة وقريش ، يعنى ما تقدم قبل الهجرة وبعدها ، فإنك إذا فتحت مكة بغير قتل لهم ولا استيصال ، ولا أخذهم بما قدموه من العداوة والقتال ، غفروا ما كانوا يعتقدونه ذنبا لك عندهم متقدماً أو متأخراً ، وما كان يظهر من عداوته لهم في مقابلة عداوتهم له . فلما رأوه قد تحكم وتمكن ، وما استقصى ، غفروا ما ظنوه من الذنوب ، ونقل أنه صلى الله عليه وسلم وآله حين كسر الأصنام قالوا: ما كان أحد أعظم ذنباً من محمد ، كسر ثلثمائة وستين إلهاً ، فقال تعالى :" إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ " من عبادتها " وَمَا تَأَخَّرَ"بكسرك إياها ، تهكما بهم واستهزاء (2) } - تمهيد - { ).
__________
(1) 267) المرجع السابق 1 / 24 .
(2) 268) المرجع السابق 1 / 25 ، والمعروف أن الرسول الكريم لم يعبد الأصنام قط ، ولذلك فالمراد بقوله " من عبادتها " أنه ( أذنب ـ من وجهة نظر الكفار ـ لأنه قصر في عبادة الأصنام فلم يتخذها آلهة .(177/123)
وفي واقعة آدم رضي الله عنه " لا يقال إنه عصى من حيث هو معصوم ـ كما هو حال ما نحن بصدده ـ بل إنما عصى حين صرف عنه وجه العصمة ليتم مقادير الله عز وجل " (1) } - تمهيد تمهيد { ).
وتفسير العصيان بأنه راجع إلى ترك الأولى ، وهو ليس بذنب في الحقيقة . نعم يسمى معصية وذنباً وسيئة إذا صدر من أصحاب المراتب العالية في القرب من الله عز وجل كالنبيين ، ولهذا ورد : حسنات الأبرار سيئات المقربين(2) } - تمهيد - { ).
وفي قصة داود رووا عن الرضا أنه قال : " إن داود رضي الله عنه إنما ظن أن ما خلق الله عز وجل خلقا هو أعلم منه ، فبعث الله عز وجل إليه ملكين فتسورا المحراب . فقالا له : خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط ، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة ، فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب . فعجل داود رضي الله عنه على المدعى عليه فقال : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ، ولم يسأل المدعى البينة على ذلك ، ولم يقبل على المدعى عليه فيقول له : ما تقول ؟ فكان هذا خطيئة رسم حكم " (3) } - تمهيد - { ).
هذا هو رأي الإمامية في مسألة العصمة ، والذي دفعهم إلى كل هذا نظرتهم إلى الإمام على أنه مكان النبي تماما بفارق واحد هو مسألة النبوة ! فلولا وجود الإمام لضلت الأمة ، وهذا الذي يعصم الأمة من الضلال لابد أن يكون معصوماً .
__________
(1) 269) جوامع الكلم 1 / 26 .
(2) 270) نفس المرجع 1 / 27 .
(3) 271) جوامع الكلم 1 / 32 .(177/124)
وإن كان هؤلاء الغلاة يقصدون أئمتهم على وجه الخصوص دون غيرهم من سائر أئمة المسلمين ، فإن أي إمام من الأئمة في الإسلام كائنا من كان منفذ للشرع وليس مشرعا ، والذي يعصم الأمة الإسلامية من الضلال هو القرآن الكريم الذي تعهد الله سبحانه بحفظه " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (1) } - تمهيد - { ) ثم من بعد ذلك السنة النبوية الشريفة . وما تحتاج إليه الأمة ولا تجده في هذين المصدرين ، فإنها تعمل عقلها وتجتهر فيما يعرض لها ، فإنها لا تجمع على ضلالة بنص قول الرسول صلى الله عليه وسلم (2) } - - - { ) ، وهى التي تعصم الإمام من الخطأ ، فالإمام فرد يخطئ ويصيب كسائر البشر من لدن آدم عليه السلام ، أما الأمة فهى أحقٍ بأن تصيب .
وعندما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن ، فوضه في أن يجتهد بعد الرجوع إلى الكتاب والسنة ، ومعاذ ليس معصوماً ، فلو وجبت العصمة للإمام لوجبت هنا لنفس الأدلة التي ساقوها : من فعل القبيح وترك الواجب ، واتباع الناس له ، إلى غير ذلك .
ولو وجبت العصمة للإمام ، لوجب نصب إمام معصوم لكل بلد ، لأن الإمام الواحد لا يكفي ، ولوجب استمرار وجود هؤلاء الأئمة المعصومين في كل زمان ومكان وهذا ـ كما يسلم الجميع ـ لم يحدث .
فاللطف من الله سبحانه إذا ليس في وجود الإمام المعصوم ، وإنما في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنزال القرآن الكريم وحفظه لهداية الناس .
__________
(1) 269]) سورة الحجر : الآية التاسعة .
(2) 270]) " لا تجتمع أمتى على ضلالة " : رواه أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجه وغيرهم ، واختلف في إسناده فتحدث السخاوى عن رواياته المختلفة ثم قال : " حديث مشهور المتن ، ذو أسانيد كثيرة ، وشواهد متعددة في المرفوع وغيره " . المقاصد الحسنه للسخاوى ص 460 .(177/125)
ونحن إذا تمسكنا بالقرآن الكريم ، وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم فلن نضل أبدا كما قال نبينا صلوات الله عليه في حجة الوداع : " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا . كتاب الله وسنة نبيه (1) } - - - { ).
ويقول تعالى في سورة النساء :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً"
( فلم يقل : وأطيعوا أولى الأمر ، ليبين أن طاعتهم فيما كان طاعة للرسول أيضا ، إذ اندراج طاعة الرسول في طاعة الله أمر معلوم ، فلم يكن تكرير لفظ الطاعة مؤذنا بالفرق ، بخلاف ما لو قيل : أطيعوا الرسول وأطيعوا أولى الأمر منكم ، فإنه قد يوهم طاعة كل منهما على حياله .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال " إنما الطاعة في المعروف " ، وقال : " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " ، وقال : " على المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " .
ولهذا قال سبحانه بعد ذلك : " فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً"
__________
(1) 271]) راجع الخطبة في السيرة النبوية لابن إسحاق التي جمعها ابن هشام 4 ، 603 ـ 604 . والحديث رواه الإمام مالك في الموطأ ، مرسلا ، ووصله ابن عبد البر . ( انظر تنوير الحوالك 2 / 208 ) ، ورواه الحاكم عن ابن عباس ، وعن أبى هريرة ، وبين صحة الحديث ووافقه الذهبي ـ ( انظر المستدرك وتلخيصه 1 / 93 ) .(177/126)
فلم يأمر عند التنازع إلا بالرد إلى الله والرسول دون الرد إلى أولى الأمر ... ولو كان غير الرسول معصوماً أو محفوظاً فيما يأمر به ويخبر به لكان ممن يرد إليه مواقع النزاع (1) } - - - { ).
فإذا أمر الإمام بالقبيح فليس على الأمة أن تطيعه وتقتدى به ؛ لأن ذلك لا يتفق مع كتاب الله وسنة رسوله ، ولا يعقل أن أمة لا تستطيع أن تميز القبيح من غير القبيح ، في حين يستطيع ذلك الإمام وحده حتى لو كان طفلا !
قال ابن تيمية (2) } - - - { )، معقبا على القول بعصمة الإمام الثانى عشر : أجمع أهل العلم بالشريعة على ما دل عليه الكتاب والسنة : أن هذا لو كان موجودا لكان من أطفال المسلمين الذين يجب الحجر عليهم في أنفسهم وأموالهم حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد ، كما قال تعالى : (3) } - - - { )" وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ "
وليس في القرآن الكريم ، ولا في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على هذه العصمة.
فقوله تعالى : (4) } - - - { )" قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "
__________
(1) 272]) جامع الرسائل 1 / 273 ـ 275 .
(2) 273]) المرجع السابق 1 / 263 .
(3) 274]) سورة النساء : الآية السادسة .
(4) 275]) سورة البقرة : الآية 124 .(177/127)
ليس فيه معنى العصمة ، فهناك فرق كبير بين الظلم وعدم العصمة ، فغير المعصوم إذا أخطأ فلم يصر على هذا الخطأ وتاب وأناب إلى الله تعالى فليس بظالم. ثم أين هذا من السهو والنسيان الذي لا يحاسب عليه الإنسان ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ؟ (1)[276]) وقوله تعالى (2) } - - - { )" أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى "
جزء من آية كريمة جاءت في سياق الاستدلال على إبطال دعوى المشركين فيما أشركوا بالله غيره ، وعبدوا من الأصنام والأنداد . قال تعالى: (3) } - - - { ) " قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُون قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ"
فالله سبحانه يهدى للحق وهو أحق أن يتبع ، والمشركون ضالون فيما أشركوا بالله ، فأين وجوب العصمة للإمام هنا ؟!
وبصفه عامة كل من يدعو للحق أحق أن يتبع سواء أكان إماماً أم غير إمام ، ومن دعا إلى الضلال أحق ألا يتبع .
__________
(1) 276]) وقع بهذا اللفظ في كتب كثيرين من الفقهاء والأصوليين . له شاهد جيد أخرجه أبو القاسم الفضل بن جعفر التميمى المعروف بأخى عاصم في فوائده ، بسنده عن ابن عباس بلفظ : رفع الله . ورواه ابن ماجه وابن أبى عاصم بلفظ : وضع بدل رفع ، ورجاله ثقات ، ولذا صححه ابن حبان والحاكم وغيرهما وقال النووى في الروضة وفى الأربعين أنه حسن ( انظر المقاصد الحسنة للسخاوى ص 228 ـ 230 ) .
(2) 277]) سورة يونس : الآية 35 .
(3) 278]) سورة يونس : الآيتان 34 ، 35.(177/128)
ويقول تعالى في سورة السجدة : (1) } - - - { ) " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ "
فإذا كانت العصمة واجبة للأئمة ، فهل هؤلاء جميعا ـ الذين ذكرتهم الآية الكريمة ـ معصومون ؟!
إن القرآن الكريم يبين أن لا عصمة لبشر ، فهذا آدم رضي الله عنه أبو البشر قد عصى ربه فغوى كما يبين القرآن الكريم ، قال تعالى : (2) } - - - { )" وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ، فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"
وفي سورة الأعراف : (3) } - - - { ). " فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"
__________
(1) 279]) الآيتان 23 ، 24 .
(2) 280]) سورة البقرة : الآيات : 35 ، 36 ، 37 .
(3) 281]) الآيتان : 22 ، 23 .(177/129)
وفي سورة طه (1) } - - - { ) : " فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى"
فهذه الآيات الكريمة تذكر أن آدم رضي الله عنه قد أطاع الشيطان وعصى الله تعالى فغوى ، وظلم نفسه . فلو كان معصوماً كالعصمة التي تدعى للأئمة ما فعل ذلك .
وكونه " إنما عصى حين صرف عنه وجه العصمة " (2) } - - - { ) يمكن أن يقال مثله عن أي إنسان ، فكل إنسان معصوم إذن . وإنما يخطئ عندما يصرف عنه وجه العصمة ! وليس الأمر كذلك ! وإذا لم يكن ذلك ذنبا من آدم ـ كما قيل ـ فلم حاسبه الله تعالى وعاقبه ثم تاب عليه وهداه ؟ ولم عد ذلك الذي فعله ظلماً وخسراناً وغياً ؟
يقول ابن تيمية : " من زعم أن الله ذم أحدا من البشر أو عاقبه على ما فعله ، ولم يكن ذلك ذنبا ، فقد قدح فيما أخبر الله به وما وجب له من حكمته وعدله " . (3) } - - - { )
ويقول فخر الدين الرازى ـ وهو يدافع عن مبدأ عصمة الأنبياء ـ إن ما نسب لآدم رضي الله عنه كان قبل النبوة . وأورد رأي أولئك الذين لم يجوزوا صدور المعصية عن الأنبياء قبل النبوة ولكنه لم يستطع أن يسلم بهذا الرأي ، وانتهى إلى قوله بلزوم أن يكون اطلاق لفظ العصيان على آدم إنما كان لكونه تاركا للواجب (4) } - - - { ) .
إن تلك الآيات الكريمة واضحة الدلالة في عدم العصمة ، ويزيد ذلك وضوحا لا لبس فيه قول الله تعالى :
__________
(1) 282]) الآيتان : 121 ، 122.
(2) 283]) جوامع الكلم 1 / 26 .
(3) 284]) جامع الرسائل 1 / 275 .
(4) 285]) انظر عصمة الأنبياء ص 12 ـ 13 .(177/130)
" وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ . قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "(1) } - - تمهيد { )
فقتل موسى للرجل ، واعتبار ذلك من عمل الشيطان ، واعترافه بظلم نفسه، وطلبه المغفرة من الله تعالى ، واستجابة الله له ، كل هذا لا تتحقق معه عصمة.
وفي أكثر من موضع في القرآن الكريم لم يقر الرسول صلى الله عليه وسلم على أخطاء وقع فيها .
ففي سورة الأنفال : (2) } - - - { )
" مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"
وفي سورة التوبة : (3) } - - - { ) " لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ"
__________
(1) 286]) سورة القصص ، الآيتان : 15 ، 16 .
(2) 287]) الآية : 67.
(3) 288]) الآيتان : 42 ، 43.(177/131)
وفي سورة الأحزاب (1) } - - - { ) "وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ "
وفي سورة عبس : (2) } - - - { ) "عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى "
وفي آيات كريمة أخرى ذكر أن له ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذنوباً : قال تعالى : (3) } - - - { ) "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ"
وقال عز وجل : (4) } - - - { ) "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ"
وقال سبحانه : (5) } - - - { ) " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا"
وقال تعالى : (6) } - - - { ) " وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ"
وتخريج هذه الآيات الكريمة على أنها من باب ترك الأولى لا يتفق مع دعوى العصمة المطلقة .
__________
(1) 289]) الآية 37 .
(2) 290]) الآيات من 1 : 10 .
(3) 291]) سورة غافر الآية : 55 .
(4) 292]) سورة محمد الآية 19 .
(5) 293]) سورة الفتح ، الآيتان 1 ، 2 .
(6) 294]) سورة الانشراح ، الآيتان 2 ، 3 .(177/132)
وما روى عن الصادق في الآية الثانية من سورة الفتح أنه قال : " ما كان له ذنب ولا هم بذنب ولكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له " . (1) } - - - { ) يعد مبدأ خطيرا يتنافي مع مبادئ الإسلام كلية ، فأين هذا من قوله تعالى : (2) } - - تمهيد { )
"وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ"
ومن قوله سبحانه : (3) } - - - { ) " فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"
فالقرآن الكريم إذن ينفي وجوب هذه العصمة المطلقة لخير البشر أجمعين وهم الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم ، وإنما عصمتهم مقيدة محددة ، فمثلا " اتفق المسلمون على أنهم معصومون فيما يبلغونه ، فلا يقرون على سهو فيه ، وبهذا يحصل المقصود من البعثة " . (4) } - - - { )
قال الإمام فخر الدين الرازى بعد نقل الآراء المختلفة في القول بعصمة الأنبياء : " والذى نقول :
إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون في زمان النبوة عن الكبائر والصغائر بالعمد . أما على سبيل السهو فهو جائز . (5) } - - - { )
__________
(1) 295]) جوامع الكلم 1 / 25.
(2) 296]) سورة فاطر ، الآية : 18 .
(3) 297]) سورة الزلزلة ، الآيتان : 7 ، 8 .
(4) 298]) المنتقى ص 84 ـ 85 .
(5) 299]) عصمة الأنبياء ص 4 ، وانظر الآراء المختلفة حول العصمة في الصفحتين الثانية والثالثة .(177/133)
فالرازى وقد كتب رسالته ـ كما يقول (1) } - - - { ) ـ في النضح عن رسل الله وأنبيائه والذب عن خلاصة خلقه وأتقيائه ، لم يدع لهم عصمة كتلك التي ادعيت للأئمة .
وبالطبع لا يمكن أن تتعارض السنة الشريفة مع هذا المبدأ . لكن الإمامية يستدلون على عصمة الأئمة بكثير من الأحاديث ، بعضها صحيح وبعضها لا يمكن الأخذ به ، وقد رأينا فيما سبق نظرة الشيعة إلى الإمام ونحن لا يمكن بحال أن نأخذ بها ، فهى ترفعه فوق الأنبياء والبشر جميعا !
فما وجه الاستدلال في الأحاديث الصحيحة التي استدلوا بها ؟
من الأحاديث التي استدلوا بها قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلى : " أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدى " . وقوله صلى الله عليه وسلم : " لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله " ثم أعطاها علياً .
وهذا الحديثان الشريفان ورد معناهما في البخاري ومسلم .(2) } - - - { )
أما الحديث الأول فقد ذكر مسلم بإسناده عن سعد بن أبى وقاص قال : " خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب في غزوة تبوك ، فقال : يا رسول الله تخلفنى في النساء والصبيان ، فقال : أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى غير انه لا نبي من بعدى " .
__________
(1) 300]) المرجع السابق ص 1 .
(2) 301]) راجع صحيح البخاري : كتاب المناقب . باب مناقب على بن أبى طالب ، وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة . باب من فضائل على بن أبى طالب .(177/134)
فالإمام على كرم الله وجهه يشبه هارون رضي الله عنه في الاستخلاف (1) } - - - { )، وقد استخلف غيره أيضا . وهذا الحديثان الشريفان يبينان مكانة ! على رضي الله عنه ، وما أسماها من مكانة ولكنهما لو كانا يوجبان عصمة لوجبت لكل الصحابة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، فكلهم يحبون الله تعالى ، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ويحبهم الله عز وجل ، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولوجبت العصمة كذلك لكل من استخلف على المدينة ، فهم جميعا بمنزلة هارون من موسى في الاستخلاف ، ولوجبت أيضا لكثيرين غير من ادعيت لهم ، مثال ذلك ما جاء في حق أبى بكر الصديق رضي الله عنه من الأحاديث الصحيحة .
روى البخاري ومسلم بإسنادهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن من أمن الناس على في صحبته ، وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربى لاتخذت أبا بكر ، ولكن أخوة الإسلام ومودته . لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبى بكر " (2) } - - - { ) .
وأكثر من هذا صراحة ما روياه أيضاً بإسنادهما أن أمرأة أتت النبيصلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه . قالت : أرأيت إن جئت ولم أجدك ؟ كأنها تقول الموت . قال عليه الصلاة والسلام : إن لم تجدينى فأتى أبا بكر " (3) } - - - { ) .
__________
(1) 302]) انظر الوشيعة ص م ط وما بعدها ففيه تحليل مفصل لهذا الحديث ، وبيان بطلان استدلال الإمامية ، وانظر الفصل في الملل ص 94 ـ 95 ، ومختصر التحفة ص 162 ـ 164، والمنتقى ص 468 ـ 470 .
(2) 303]) صحيح البخاري : " كتاب المناقب – باب مناقب المهاجرين ، وصحيح مسلم : كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل أبى بكر الصديق ، واللفظ للبخاري .
(3) 304]) المرجعيين السابقين ، وفى مسلم " فإن لم …" بزيادة الفاء .(177/135)
وبمنطق الشيعة نقول : إذا جاءت المرأة ولم تجد النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنها مأمورة بأن تسأل أبا بكر ، وتتبعه فيما يقوله لها ، فإذا لم يكن معصوماً فربما دلها على قبيح فتتابعه عليه ، وهذا غير جائز فلابد إذن أن يكون معصوماً ! أظن هذا أكثر منطقية واستدلالاً من استدلال الإمامية ، ولكن أحدا لم يقل به ، لأن أبا بكر - رضي الله عنه - بشر كسائر البشر ، يصيب ويخطئ ، والمرأة مأمورة بأن تتبعه فيما يوافق كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . وأبو بكر - كغيره - منفذ للشرع وليس مشرعاً . وغير هذا كثير فيما ورد عن فضائل الصحابة رضوان الله عليهم (1) } - - - { ).
نخرج من كل هذا إلى أن عصمة الأنبياء ليست مطلقة ، فهم بشر معرضون للخطأ والسهو والنسيان ، ولكنهم - عليهم السلام - لا يقرون على هذا الخطأ " بل لابد من التوبة والبيان ، والاقتداء إنما يكون بما استقر عليه الأمر ، فأما المنسوخ ، والمنهى عنه ، والمتوب عنه ، فلا قدوة فيه بالاتفاق ، فإذا كانت الأقوال المنسوخة لا قدوة فيها ، فالأفعال التي لم يقر عليها أولى بذلك" (2) } - - تمهيد { ) أما باقي البشر فهى أدنى من هذا بكثير جداً .
ودعوى العصمة للأئمة ليس لها سند من الشريعة والعقل ، فإنها ترفعهم فوق مستوى الأنبياء عليهم السلام . ولا نقول إن الأئمة جميعاً لا يصلون إلى درجة الأنبياء ، فهذا مسلم به ، وإنما نقول : إن جميع الأئمة ليس فيهم من يصل إلى منزلة الصديق والفاروق رضي الله عنهما باعتراف الإمام على نفسه كرم الله وجهه، فقد روى الإمام البخاري رضي الله عنه بسنده عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه قال : " قلت لأبى : أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
__________
(1) 305]) راجع صحيح البخاري في كتاب المناقب ، وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة .
(2) 306]) جامع الرسائل 1/276 .(177/136)
قال : أبو بكر . قلت : ثم من ؟ قال : ثم عمر " . (1) } - - - { )
قال ابن تيمية : " قد روى هذا عن على من نحو ثمانين طريقاً ، وهو متواتر عنه " (2) } - - - { ).
والواقع العملي للأئمة يتنافى مع هذه العصمة ، مثال ذلك أن الحسن رضي الله عنه هادن مع كثرة أنصاره ، والحسين رضي الله عنه حارب مع قلة من أنصاره (3) } - - - { ). فلو كان أحدهما مصيباً ، كان الآخر مخطئاً ، أي غير معصوم ، ولا يمكن أن يكون الاثنان مصيبين . فلعل في هذا كله ما يكفى لدحض دعوىالعصمة ، والله سبحانه يهدينا سواء السبيل .
ثانياً : البداء
البداء : الظهور والانكشاف ، تقول : بدا َبدْوا وُبدُوّا وبَداء وَبدَّا وبداءة ، ويستخدم كذلك بمعنى نشأة الرأي الجديد ، تقول : بدا له في الأمر بدوا وبداء وبداة : نشأ له فيه رأي .(4) } - - - { )
وقد ورد المعنيان في القرآن الكريم ، الأول في مثل قوله تعالى : " وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ " (5) } - - - { ).
وقوله سبحانه وتعالى : (6) } - - - { ) " وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ" .
والثانى في قوله تعالى :(7) } - - - { ) " ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِين " .
__________
(1) 307]) صحيح البخاري ، كتاب المناقب – باب مناقب المهاجرين .
(2) 308]) جامع الرسائل 1/261 .
(3) 309]) ولذلك حارت فرقة من أصحابه وقالت : قد اختلف علينا فعل الحسن وفعل الحسين ، فشكوا في إمامتها ، ورجعوا عنها : انظر فرق الشيعة – ص 25-26.
(4) 313) انظر مادة (بدو ) في القاموس المحيط ولسان العرب .
(5) 314) سورة الزمر : الآية 47 .
(6) 315) سورة البقرة : الآية 284 .
(7) 316) سورة يوسف : الآية 35 .(177/137)
والبداء بمعنييه يستوجب جهل من يبدو له بالأمر قبل بدائه ، ولكن الشيعة ينسبون البداء لله تعالى ، فهل معنى ذلك أنهم ينسبون عدم العلم لله ؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً .
رأي الكثير من المسلمين هذا الرأي ، فرفضوا القول بالبداء ، وسلطوا أقلامهم تعصف بالشيعة عصفها بالكفرة الملحدين ، وأقاموا من البراهين القاطعة ما يثبت العلم الكامل لله عز وجل . (1) } - - - { ) ...
ومما لا جدال فيه أن القول بالبداء بهذا المعنى المرفوض - ُيخرج الشيعة قطعاً من ملة الإسلام ، ولكنني أرى أنهم لا يقصدون على الإطلاق نسبة الجهل إلى الله سبحانه ، فهم يرون أن الله عز وجل يحيط علمه بكل شئ ،وأن اللوح المحفوظ المشار إليه بأم الكتاب فيه كل ما كان وما يكون ، وذكر لما يثبت وما يمحى" يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ"فالمحو والإثبات ليس في أم الكتاب، فنقوشه محفوظة مستمرة .(2) } - - - { )
وقد جاء في باب البداء من كتاب الكافي(3) } - - تمهيد { ) عن أبى عبد الله جعفر الصادق قال: " ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو شيء له ".
__________
(1) 314]) انظر : الوشيعة ص 110 – 120 ، والتحفة الاثنا عشريه ص 315 وما بعدها ، والنسخ في القرآن الكريم لأستاذنا الدكتور مصطفى زيد رحمه الله ص19-26 جـ 1: وشيخنا لم يذكر الإمامية بالذات ، والبداء الذي أنكره لم تقل به الإمامية وإنما ذهبت إليه فرق أخرى من الشيعة كالبدائية ، فقد زعمت أن الله سبحانه قد يريد بعض الأشياء ثم يبدو له ، ويندم لكونه خلاف المصلحة ! وحملت خلافة الثلاثة ومدحهم في الآيات الكريمة على ذلك ! انظر مختصر التحفة ص 16.
(2) 315]) انظر : الدين والإسلام ص 171.
(3) 316]) ص 148 .(177/138)
وقال : " إن الله لم يبد له من جهل "وسئل : هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس ؟ قال : لا ، من قال هذا فأخزاه الله . قيل : أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله ؟ قال : بلى قبل أن يخلق الخلق (1) } - - - { ).
يقول الإمام محمد الحسين آل كاشف الغطاء : " البداء وإن كان جوهر معناه هو ظهور الشىء بعد خفائه ، ولكن ليس المراد به هنا ظهور الشىء لله جل شأنه بعد خفائه عنه ، معاذ الله ، وأي ذى حريجة ومسكة يقول بهذه المضلة ؟
بل المراد ظهور الشيء من الله لمن يشاء من خلقه بعد إخفائه عنهم ، وقولنا ( بدا لله ) أي بدا حكم لله ، أو شأن لله " (2) } - - - { ).
فالبداء بهذا التفسير لا يتعارض وعلم الله التام بكل شيء ، وظهور أحكام لله كانت خافية علينا شيء يسلم به كل المسلمين ، وقد نسب البداء إلى الله سبحانه وتعالى في حديث شريف ورد في صحيح البخاري : فقد روى عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن ثلاثة في بنى إسرائيل ، أبرص وأقرع وأعمى ، بدا لله أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكاً ، فأتى الأبرص... " إلى آخر الحديث الشريف (3) } - - - { ).
__________
(1) 317]) عقب أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة – رحمه الله – على نسبة مثل هذه الأخبار إلى الإمام الصادق بقوله : إن هذه الأخبار في مجموعها تدل على أن البداء في نظر الصادق هو أن يظهر للناس ما أكنه الله تعالى في علمه ، وذلك لا ينافى علم الله تعالى " . ( الإمام الصادق ص 236).
(2) 318]) الدين والإسلام ص 173، وانظر كذلك قول الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه " الشيعة والتشيع " ص 53-54 ففيه بيان أن البداء لا يستدعى الجهل وحدوث العلم لذات الله سبحانه .
(3) 319]) انظر صحيح البخاري – الجزء الرابع – كتاب بدء الخلق : باب ما ذكر عن بنى إسرائيل.(177/139)
فكيف إذن اُعتبر مبدأ خاصا بالشيعة ؟ ينافحون عنه ، ويبالغون في قيمته حتى أنهم قالوا : " ما عبد الله بشئ مثل البداء " ، " ما عظم الله بمثل البداء " (1) } - - - { ).
إن توضيحهم لكيفية البداء تكشف عن هذا ، فهم يقولون : إن الله جلت قدرته قد يخبر ملائكته ، أو رسله المقربين بحادثة ما ، ويخفى عنهم أشياء إذا تحققت تغيرت النتيجة ، وقد يكون في علمه سبحانه أنها ستتحقق وسيتبع ذلك تغير الحال : مثال هذا : أن يخبرهم بأن فلانا سيموت في الثلاثين من عمره ، ويخفى عنهم أن ذلك مقترن بعدم تصدقه ، وأنه سيتصدق وسينسأ له في أجله ، فعندما يظهر ذلك الذي أخفى يقال : بدا لله فيه أن يمد في أجله ، فيكون البداء في التكوين كالنسخ في التشريع (2) } - - - { ).
وإذا كنا نعلم الحكمة من النسخ في التشريع ، فما الحكمة من هذا البداء ؟ وكيف يخبر الله سبحانه وأنبياءه وملائكته بمعلومات ناقصة ؟ وعندما يخبرون الناس بهذه المعلومات فما الفرق بينهم وبين المنجمين الكاذبين الضالين المضلين ؟ (3) } - - - { ).
إن الدافع الحقيقى لهذا المبدأ هو أنهم غالوا في أئمتهم ، وأحلوهم منزلة فوق البشر كما رأينا من ذى قبل ، ونسبوا لهم العصمة وعلم الغيب ، فكان لابد من مخرج إذا حدثوا بمغيب فكذبهم الواقع ، وكان هذا المخرج هو القول بالبداء !
__________
(1) 320]) راجع باب البداء من كتاب الكافى .
(2) 321]) انظر : الدين والإسلام ص 172 وما بعدها ، وانظر كذلك : جوامع الكلم ص 145 من الرسالة القطيفية ، والدعوة الإسلامية ص 35 وما بعدها .
(3) 322]) لهذا وقع الخلاف بين الإمامية في الإخبار : أيجوز أم لا ؟ ( انظر الدعوة الإسلامية ص 37-38) .(177/140)
وأول من نادى به المختار الثقفى ، لأنه كان يدعى علم الغيب ، فإذا حدثت حادثة على خلاف ما أخبر قال : قد بدا لربكم ! (1) } - - - { ).
وروى أن أبا الخطاب محمد بن أبى زينب الأسدي الأجدع عندما حارب والى الكوفة عيسى بن موسى بن محمد بن عبد الله بن العباس جعل القصب مكان الرماح، واستخدم الحجارة والسكاكين ،وقال لقومه : قاتلوهم فإن قصبكم يعمل فيهم عمل الرماح والسيوف . ورماحهم وسيوفهم وسلاحهم لا تضركم ، ولا تخل فيكم : فقدمهم عشرة عشرة للمحاربة ، فلما قتل منهم نحو ثلاثين رجلاً قالوا له : ما ترى ما يحل بنا من القوم ، وما نرى قصبنا يعمل فيهم ولا يؤثر ، وقد عمل سلاحهم فينا ، وقتل من ترى منا ، فقال لهم : إن كان قد بدا لله فيكم فما ذنبي ؟ (2) } - - - { )
ولهذا جاء في الكافى عن أبى عبد الله : " إن لله علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو ، من ذلك يكون البداء ، وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه " (3) } - - - { ).
وفى رواية أخرى في الكافى أيضا (1/369):
" إذا حدثناكم الحديث فجاء على ما حدثناكم به فقالوا : صدق الله ، وإذا حدثناكم الحديث فجاء على خلاف ما حدثناكم به فقولوا : صدق الله تؤجروا مرتين " .
وعلق صاحب الحاشية بقوله : " مرة للتصديق ، وأخرى للقول بالبداء "
فالقول بالبداء ، وإن كان لا يتنافى مع علم الله سبحانه الذي وسع كل شئ ، إلا أنه اتخذ ذريعة للتضليل بأن الأئمة يعلمون الغيب ، فإذا حدث غير ما أخبروا ، فإنما قد بد الله ! ومصدق الكذب يؤجر مرتين !
__________
(1) 323]) انظر : النسخ في القرآن الكريم 1/25 –26 ، وضحى الإسلام 1/354 ، والإمام الصادق ص : 234 ، والملل والنحل للشهرستانى 1/132-133.
(2) 324]) فرق الشيعة ص 70 .
(3) 325]) ص 147 من الكتاب المذكور ج 1.(177/141)
والمسلمون قاطبة - عدا الشيعة - يرفضون هذا القول ، ويكفى لبطلانه مثل قوله تعالى : (1) } - - تمهيد { )
" وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ "
وأمره سبحانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول : (2) } - - - { ) " وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ "
" قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ " (3) } - - - { )
على أن من الشيعة أنفسهم من ينكر علم الأئمة للغيب ، بل ينكر نسبة ذلك إلى الشيعة ! يقول الشيخ محمد جواد مغنية : وكيف ينسب إلى الشيعة الإمامية القول بأن أئمتهم يعلمون الغيب ، وهم يؤمنون بكتاب الله ، ويتلون قوله تعالى حكاية عن نبيه : "وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ " ،وقوله : " إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ"، وقوله : " قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ".
وذكر قول الشيخ الطبرسي المفسر : لقد ظلم الشيعة الإمامية من نسب إليهم القول بأن الأئمة يعلمون الغيب ، ولا نعلم أحداً منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق .
ثم قال : وإن افترض وجود خبر أو قول ينسب علم الغيب إلى الأئمة وجب طرحه باتفاق المسلمين . ثم ذكر عن الشيعة أنهم لا يدعون لأئمتهم علم الغيب ، ولا الإيحاء والإلهام ، وأن من نسب إليهم شيئاً من ذلك فهو جاهل متطفل ، أو مفتر كذاب(4) } - - - { ) .
__________
(1) 326]) سورة آل عمران : الآية 179.
(2) 327]) سورة الأعراف : الآية 188 .
(3) 328]) الأنعام : الآية 50 .
(4) 329]) انظر : الشيعة والتشيع : ص 43، 48 .(177/142)
وفى قول الشيخ مغنية ما يبين افتراء من يستجيز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق ، ولكنه بعد عن الواقع عندما ذكر أن الشيعة لا يستجيزون هذا ، فما أكثر الشيعة القائلين بأن الأئمة يعلمون الغيب ! (1) } - - - { ) ولولا هذا لما قيل بالبداء.
ثالثاً : الرجعة
يعتقد الإمامية الاثنا عشرية أن إمامهم الثانى عشر محمدا المهدى ، سيرجع بعد غيبته الكبرى ، فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. ورأينا أنهم ينتظرون خروجه حتى الآن ، رغم مضى أكثر من ألف عام ! وبسطنا بعض حججهم وأثبتنا بطلانها ، وهذه العقيدة من جوهر الإمامة التي أجمعت عليها هذه الفرقة .
والإمامية ليست أول من قال برجوع الإمام بعد غيبته ، فأكثر فرق الشيعة رأت أن بعض الأئمة سيعودون بعد موتهم أو غيبتهم ، ولهم تفصيلات في ذلك يعحب الباحثون لوجود مثلها بين فرق من المسلمين (2) } - - - { ).
وللإمامية عقيدة أخرى خاصة بالرجعة ، وهى رجعة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته قبل يوم القيامة ، وكذلك رجعة أعدائهم ومن اغتصبوهم حقهم بحسب زعمهم ليقتصوا منهم ، ولهم في ذلك خرافات كثيرة : كظهور جسد أمير المؤمنين على ابن أبى طالب في قرص الشمس ، يعرفه الخلائق ، وينادى مناد باسمه في السماء، وينادى جبريل أن الحق مع على وشيعته (3) } - - - { ).
__________
(1) 330]) في تفسير البداء اعتراف بعلم الغيب ، وكذلك يرى أكثر الشيعة أن الأئمة يعلمون الغيب: انظر مثلا حديث السيد كاظم الكفائى في تعقيبه على الأخبار التي تنسب علم الغيب للأئمة . (الحديث آخر هذه الموسوعة ) ، وراجع رأي عبدالحسين شرف الدين في ردى على مراجعاته .
(2) 334) انظر : جوامع الكلم 1/12 .
(3) 335) انظر : المرجع السابق ص 13 ، 41 ، والشيعة والتشيع ص 55 ، ضحى الإسلام 3/242 ، والإمام الصادق ص 240 .(177/143)
وألف في موضوع الرجعة كثير من الرافضة ، وأطالوا الحديث عنها ، وعن إمكانها ، وعن أدلة إثباتها ، والرد على من ينكرها . كما نرى الحديث عن الرجعة في كتب التفسير والحديث عندهم ، والكتب التي تتناول موضوعات عامة .
ونضرب مثلا هنا بكتاب : " الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة " لمؤلفه محمد بن الحسن الحر العاملي المتوفى سنة 1104 هـ .
نرى في مقدمة الكتاب ذكر تسعة وعشرين كتاباً في موضوع واحد هو إثبات الرجعة !!
وفى مراجع المؤلف نرى كثيراً من كتب التفسير والحديث وغيرها .
والكتاب كله مثل للغلو والضلال ، بل يصل إلى الكفر والزندقة . ولا نرى حاجة للوقوف أمام هذا الكتاب وأمثاله ، ويكفى ما بيناه من قبل من بطلان عقيدتهم في الإمامة ، وإثبات ضلال القائلين بها . والرجعة إنما هي تابعة لعقيدتهم في الإمامة ، وهى من أشد أقوالهم غلواً وضلالاً .
ووجدنا من الشيعة الاثنى عشرية أنفسهم من ينكر هذه العقيدة الخرافية(1) } - - - { ).
فهى إذن ليست من المبادئ المجمع عليها ، ونحن نرى أن الصواب مع أولئك الذين أنكروها ، وأن من قال بها فقد أدخل على الإسلام ما هو منه براء (2) } - - - { ) .
رابعاً : التقية
نقول : اتقيت الشئ وَتقَيْته أتَّقِيته وأتقْيٍةٍ تُقىّ وتقَّية وِتقاء : أي : حِذَرْته(3) } - - - { ) ومنها قوله تعالى (4) } - - تمهيد { ) :
__________
(1) 336) انظر جوامع الكلم 1/13، 41 والشيعة والتشيع ص 55 ، وضحى الإسلام 3/242 ، والإمام الصادق ص 240 .
(2) 334] ) راجع مناقشة هذه العقيدة ، وبيان بطلانها بالأدلة العقلية والنقلية في كتاب : مختصر التحفة الاثنى عشرية ص 200-203
(3) 338) انظر القاموس المحيط ولسان العرب مادة " وقى " .
(4) 339) آل عمران : الآية 28 .(177/144)
" لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً "
وفى قراءة : " تقية " (1)[337])
ومعنى هذا أن الله سبحانه قد أباح للمؤمنين : إذا خافوا شر الكافرين أن يتقوهم بألسنتهم ، فيوافقوهم بأقوالهم وقلوبهم مطمئنة بالإيمان .
وقد اتخذت الشيعة التقية مبدأ من مبادئها ، و" معنى التقية التي قالوا بها أن تقول أو تفعل غير ما تعتقد لتدفع الضرر عن نفسك ، أو مالك ، أو لتحتفظ بكرامتك ، كما لو كنت بين قوم لا يدينون بما تدين ، وقد بلغوا الغاية في التعصب، بحيث إذا لم تجارهم في القول والفعل تعمدوا إضرارك والإساءة إليك . فتماشيهم بقدر ما تصون به نفسك ، وتدفع الأذى عنك ، لأن الضرورة تقدر بقدرها " (2)[338]).
واستدلوا على صحة هذا المبدأ بالآية الكريمة السابقة ، وبقوله تعالى : (3)[339])
" إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ "
وبقصة عمار ، فقد أخذه المشركون ولم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر آلهتهم بخير ، ولم يؤثر ذلك في إيمانه ، إلى غير ذلك من الأدلة التي تبيح للمؤمن أن يظهر غير ما يضمر حفاظاً على حياته أو عرضه (4) } - - - { ).
والتقية في هذه الصورة لا تتعارض ومبادئ الإسلام ، فلا ضرر ولا ضرار ، والضرورات تبيح المحظورات .
ومن يرجع إلى التاريخ ير من الأهوال التي نزلت بالشيعة ما تقشعر منه الأبدان ، وتأباه النفوس المؤمنة .
__________
(1) 340) انظر : تفسير البيضاوى ص 70 ، وإملاء ما من به الرحمن للعكبرى 1/130.
(2) 341) الشيعة والتشيع ص 49.
(3) 342) سورة النحل : الآية 106 .
(4) 343) انظر : الدعوة الإسلامية ص 38 – 39 وأصل الشيعة وأصولها : ص 192 –195، والشيعة والتشيع ص 48-53 .(177/145)
ونذكر على سبيل المثال : كتاب مقاتل الطالبيين لأبى الفرج الأصفهانى ، فقد ترجم فيه لنيف ومائتين من شهداء الطالبين !
فمن العبث إذن أن يعرض الإنسان حياته للهلكة دون أن يكون من وراء ذلك وصول إلى هدف مقدس ، أو غاية شريفة .
ويرى الإمامية أن " العمل بالتقية له أحكامه الثلاثة "
فتارة يجب كما إذا كان تركها يستوجب تلف النفس من غير فائدة ، وأخرى يكون رخصة كما لو كان في تركها والتظاهر بالحق نوع تقوية له ، فله أن يضحى بنفسه ، وله أن يحافظ عليها .
وثالثة يحرم العمل بها كما لو كان ذلك موجبا لرواج الباطل ، وإضلال الخلق، وإحياء الظلم والجور " (1) } - - - { )
والعمل بالتقية في ظل هذه الأحكام لا تنفرد به الإمامية ، فلماذا إذن اختصوا بهذا المبدأ ، وهوجموا من أجله ؟
أرى أن ذلك يرجع إلى الأسباب الآتية :
الأول : أنهم غالوا في قيمة التقية ، مع أنها رخصة لا يقدم عليها المؤمن إلا اضطراراً . من ذلك ما جاء في كتاب الكافى :
عن أبى عبد الله في قوله تعالى : " أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا " قال: بما صبروا على التقية ." وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِئَةَ ". قال : الحسنة التقية، والسيئة الإذاعة . ( فهذا تحريف لمعانى القرآن الكريم ) .
وعن أبى عبد الله : " إن تسعة أعشار الدين التقية ، ولا دين لمن لا تقية له ! ".
وعنه عن أبيه : " لا والله ما على وجه الأرض شىء أحب إلى من التقية(2) } - - - { ) . وعن أبى جعفر : " التقية من دينى ودين آبائى ، ولا إيمان لمن لا تقية له " .
فمثل هذه الأخبار تنزل التقية منزلة غير المنزلة ، فمن ارتآها كذلك فإنما تخلق منه إنساناً جباناً كذوباً، وأين هذا من الإيمان ؟!
__________
(1) 344) أصل الشيعة : ص193.
(2) 345) انظر : الأصول من الكافى ج 2 باب التقية ص 217-221 .(177/146)
والسبب الثانى : أنهم وقد أحلوها هذه المكانة ، فلم يتمسكوا بأحكامها ، وتعلقوا بها تعلق المؤمن بإيمانه ، وطبقوها في غير حالاتها (1) } - - - { )، ولنضرب لذلك الأمثال :
يرون في التيمم مسح الوجه والكفين ، وورد عن أحد أئمتهم أنه سئل عن كيفية التيمم ، فوضع يده على الأرض فمسح بها وجهه وذراعيه إلى المرفقين . وقالوا : إن ذلك محمول على ضرب من التقية (2) } - - - { ). فما الذي يدعو إلى هذه التقية ؟ إن كثيراً من المسلمين يرون رأيهم في التيمم ، فلا ضير عليهم ، ولا ضرورة تلجئهم لترك ما يرون صحته ويطبقونه فيما بينهم ، والتعبد بما يرونه باطلاً
وهم لا يشترطون للجمعة المصر ، وروى نحو ذلك عن ابن عمر وعمر بن عبدالعزيز والأوزاعى والليث ومكحول وعكرمة والشافعى وأحمد (3) } - - - { ).ورووا عن الإمام على أنه قال : لا جمعة إلا في مصر يقام فيه الحدود . وقالوا : إن هذا الخبر قيل تقية (4) } - - تمهيد { ).
ومن الواضح أنه لا حاجة إلى هذه التقية ، ثم من الذي يتقى ؟ أعلى كرم الله وجهه ؟ وهو الشجاع الذي يأبى التقية إباءه للضيم ، واستشهد من أجل مبادئه ، وكان لفتاواه الدينية قيمتها عند المسلمين ، أمن روى عنه ؟ وكيف إذن يتعمدون الكذب على أمير المؤمنين وليست هناك رقاب ستقطع أو أعراض تنتهك بله أدنى ضرر؟!
__________
(1) 346) يقول المؤرخ الهندى سيد أمير على : " إلا أن هذه التقية ، وهى الابن الطبيعى للاضطهاد والخوف ، قد غدت عادة متأصلة في نفوس الفرس الشيعيين إلى درجة أنهم أصبحوا يمارسونها حتى في الظروف التي لا تكون ضرورية فيها " ص 336 من كتابه : روح الإسلام .
(2) 347) انظر : الاستبصار : باب كيفية التيمم : ص 170-171 ج1.
(3) 348) انظر : المغنى : 2/174 .
(4) 349) انظر : الاستبصار : ص 420 ج1.(177/147)
وفى صلاة الجنازة يرون رفع اليدين في كل تكبيرة ، ويوافقون في ذلك ابن عمر وعمر بن عبدالعزيز والشافعى وأحمد وغيرهم(1) } - - - { ).
ولكنهم رووا عن الإمام جعفر عن أبيه قال : كان أمير المؤمنين يرفع يديه في أول التكبير على الجنازة ، ثم لا يعود حتى ينصرف .
ورووا أيضاً عن أبى عبد الله عن أبيه أن الإمام عليا لا يرفع يديه في الجنازة إلا مرة ، يعنى في التكبير .
وعقب شيخ طائفتهم الإمام الطوسي على هاتين الروايتين بقوله : " يمكن أن يكونا وردا مورد التقية لأن ذلك مذهب كثير من العامة " (2) } - - - { ) .
وأشد من هذا عجبا رواياتهم في أكثر أيام النفاس ، فهم يرون أن أيام النفاس مثل أيام الحيض ، ويتعارض ذلك مع روايات لهم كثيرة مثل ما رووه عن الإمام على قال : النفساء تقعد أربعين يوما . وعن أبى عبد الله : سبع عشرة ، وثمانى عشرة ، وتسع عشرة ، وثلاثين أو أربعين إلى الخمسين ، وبين الأربعين إلى الخمسين ! وعن أبى جعفر : ثمانى عشرة .
فجوز إمامهم الطوسي حمل هذه الأخبار على ضرب من التقية ، وقال : لأنها موافقة لمذهب العامة ، ولأجل ذلك اختلفت كاختلاف العامة في أكثر أيام النفاس ، فكأنهم أفتوا كلا منهم بمذهبه الذي يعتقده (3) } - - - { ).
بمثل هذا تكون التقية تضييعاً للعلم ، وإخفاء للحق ، وترويجاً للكذب .
يقول أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة –رحمه الله - : " لا يصح أن تكون التقية لإخفاء الأحكام ومنعها ، فإن ذلك ليس موضوع التقية وليس صالحاً لأن يتسمى بها ، بل له اسم آخر ، وهو كتمان العلم ـ ويوصف معتنقه بوصف لا يوصف به المؤمن " (4)[350])
__________
(1) 350) انظر المغنى 2 / 373 .
(2) 351) الاستبصار ج 1 : ص 479، وانظر ص 498 .
(3) 352) انظر : الاستبصار ج1 : باب أكثر أيام النفاس : ص 151 وما بعدها .
(4) 350]) الإمام الصادق : ص 245.(177/148)
والسبب الثالث : أنهم جعلوا من التقية منفذاً للغلو والانحراف ، مثال هذا أن بعضهم حكم بكفر كثير من الصحابة لعداوتهم للإمام على ، وقالوا بنجاستهم تبعاً لذلك ، وعللوا مخالطة الشيعة لهم بأن طهارتهم مقرونة إما بالتقية ، أو الحاجة ، وحيث ينتفيان فهم كافرون قطعاً ! (1) } - - - { ).
ويرون أن الصلاة لا تصح خلف من ليس إمامياً ، فكيف إذن كان يصلى الإمام على مثلاً خلف الخلفاء الثلاثة ؟ هذا من الأسئلة التي امتنع السيد كاظم الكفائى ان يجيب عنها ، وقال : " أبو بكر وعمر أتريد أن يكفرونا ؟ " ومثل هذا الغلو الذي أجمعوا عليه يجد التقية أسهل مخرج .
فالتقية إذن بهذه الصورة تعد مبدأ ينفرد به الشيعة الاثنا عشرية .
---
الجزء الثالث
دراسة مقارنة في الحديث وعلومه وكتبه
ملحق الجزء الثالث
السنة بيان الله تعالي علي لسان رسوله صلى الله عليه وسلم
بحث نشر في مجلة مركز السيرة والسنة بجامعة قطر
القسم الأول
الحديث وعلومه عند الجمهور
القسم الثاني
الحديث وعلومه وكتبه عند الشيعة
مقدمة
الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ، والحمد لله الذى لا يؤَّدى شكرُ نعمة من نعمه إلا بنعمة منه توجب على مؤدِّى ماضي نعمه بأدائها : نعمة حادثة يجب عليه شكره بها . ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته الذى هو كما وصف نفسه وفوق ما يصفه به خلقه .
__________
(1) 351]) انظر : مفتاح الكرامة – كتاب الطهارة : ص 145.(177/149)