فيقال في الجواب : أولا : دعواهم أنهم سمعوا هذا الحديث من النبي (أو عنه كذب عليهم ، فمن الذي نقل عنهم أنهم سمعوا ذلك ؟ وهذا الحديث ليس في شيء من كتب علماء الحديث المعروفة ، ولا رُوي بإسناد معروف . ولو كان النبي (قاله لم يجب أن يكونوا قد سمعوه ، فإنه لم يسمع كلٌّ منهم كل ما قاله الرسول (، فكيف إذا لم يُعلم أن النبي ( قاله ، ولا روي بإسناد معروف ؟ بل كيف إذا عُلم أنه كذب موضوع على النبي ( باتفاق أهل العلم بالحديث ؟.
وعلي ّ( لم يكن قتاله يوم الجمل وصفّين بأمر من النبي (، وإنما كان رأياً رآه .
وقال أبو داوُد في سننه : (( حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم الهذلي ، حدثنا ابن عليّه ، عن يونس ، عن الحسن ، عن قيس بن عبّاد قال : قلت لعليّ( : أخبرنا عن مسيرك هذا : أعهد عهده إليك رسول الله (، أم رأى رأيتَه ؟ قال: ما عهد إليَّ رسول الله ( شيئا ، ولكنه رأى رأيته ))(1).
ولو كان محارب عليّ محارباً لرسول الله ( مرتداً ، لكان عليّ يسير فيهم السيرة في المرتدين . وقد تواتر عن عليّ يوم الجمل لما قاتلهم أنه لم يتّبع مدبرهم ، ولم يُجهّز على جريحهم ، ولم يغنم لهم مالاً ، ولا سبى لهم ذرية ، وأمر مناديه ينادي في عسكره : أن لا يُتّبع لهم مُدبر ولا يُجهز على جريحهم ، ولا تُغنم أموالهم . ولو كانوا عنده مرتدّين لأجهز على جريحهم واتّبع مدبرهم. وكانت عائشة فيهم ، فإن قلتم : إنها ليست أمّنا كفرتم بكتاب الله، وإن قلتم : هي أمنا واستحللتم وطأها كفرتم بكتاب الله .
وإن كان أولئك مرتدين ، وقد نزل الحسن عن أمر المسلمين ، وسلّمه إلى كافر مرتد ، كان المعصوم عندهم قد سلّم أمر المسلمين إلى المرتدين . وليس هذا من فعل المؤمنين ، فضلا عن المعصومين .
وأيضا فإن كان أولئك مرتدّون ، والمؤمنون أصحاب عليّ ، لكان الكفار المرتدّون منتصرين على المؤمنين دائما .
__________
(1) انظر السنن ج4 ص300 .(173/346)
والله تعالى يقول في كتابه : { إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يُقُومُ الأَشْهَاد } (1)،وأيضا فإن الله تعالى يقول في كتابه : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } (2)،فقد جعلهم مؤمنين إخوة مع الاقتتال والبغي .
وأيضا فقد ثبت في الصحيح عن النبي ( أنه قال : (( تمرق مارقة على حين فُرقة من المسلمين تقتلهم أوْلى الطائفتين بالحق )) . وقال:(( إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)). و قال لعمّار: (( تقتلك الفئة الباغية )) لم يقل : الكافرة(3) .
وهذه الأحاديث صحيحة عند أهل العلم بالحديث ، وهي مروية بأسانيد متنوعة ، لم يأخذ بعضهم عن بعض . وهذا مما يوجب العلم بمضمونها . وقد أخبر النبي (أن الطائفتين المفترقتين مسلمتان ، ومدح من أصلح الله به بينهما . وقد أخبر أنه تمرق مارقة وأنه تقتلها أدنى الطائفتين إلى الحق .
ثم يقال لهؤلاء الرافضة : لو قالت لكم النواصب : عليّ قد استحل دماء المسلمين ، وقاتلهم بغير أمر الله ورسوله على رياسته . وقد قال النبي (: ((سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر))(4). وقال : (( لا ترجعوا بعدي كفَّارا يضرب بعضكم رقاب بعض ))(5) فيكون عليّ كافرا لذلك – لم تكن حجتكم أقوى من حجتهم ؛ لأن الأحاديث التي احتجّوا بها صحيحة .
وأيضا فيقولون : قتل النفوس فساد ، فمن قتل النفوس على طاعته كان مريدا للعلو في الأرض والفساد . و هذا حال فرعون والله تعالى يقول :
__________
(1) الآية 51 من سورة غافر .
(2) الآية 9 من سورة الحجرات .
(3) سبقت هذه الأحاديث .
(4) انظر البخاري ج1 ص51 ومسلم ج1 ص 81.
(5) البخاري ج1 ص31 ومسلم ج1 ص 81- 82 .(173/347)
{ تلك الدارُ الآخرةُ نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين } (1)؛ فمن أراد العلو في الأرض والفساد لم يكن من أهل السعادة في الآخرة . وليس هذا كقتال الصدّيق للمرتدين ولمانعي الزكاة ؛ فإن الصدّيق إنما قاتلهم على طاعة الله ورسوله ، لا على طاعته . فإن الزكاة فرضٌ عليهم ، فقاتلهم على الإقرار بها ، وعلى أدائها ، بخلاف من قاتل ليُطاع هو .
قال الرافضي:(( وقد احسن بعض الفضلاء في قوله : شر من ابليس من لم يسبقه في سالف طاعته , وجرى معه في ميدان معصيته. ولا شك بين العلماء ان ابليس كان اعبد من الملائكة , وكان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة, ولما خلق الله آدم وجعله خليفة في الارض , وامره بالسجود فاستكبر فاستحق اللعنة والطرد , ومعاوية لم يزل في الاشراك وعبادة الاصنام الى ان اسلم بعد ظهور النبي ( بمدة طويلة, ثم استكبر عن طاعة الله في نصب امير المؤمنين عليه اماما, وبايعه الكل بعد قتل عثمان وجلس مكانه , فكان شراً من ابليس )) .
فيقال:هذا الكلام فيه من الجهل والضلال والخروج عن دين الاسلام وكل دين بل وعن العقل الذي يكون لكثير من الكفار , ما لا يخفي على من تدبره.
اما اولا: فلأن ابليس اكفر من كل كافر , وكل من دخل النار فمن اتباعه. كما قال تعالى: { لأملأنّ جهنّم منك وممن تبعك منهم أجمعين } (2). وهو الآمر لهم بكل قبيح المزيّن لهم فكيف يكون أحد شراً منه ؟ لا سيما من المسلمين , لا سيما من الصحابة؟
__________
(1) الآية 83 من سورة القصص .
(2) الاية 85 من سورة ص .(173/348)
وقول هذا القائل: ((شر من ابليس من لم يسبقه في سالف طاعة , وجرى معه في ميدان المعصية)) يقتضي ان كل من عصى الله فهو شر من ابليس , لانه لم يسبقه في سالف طاعة, وجرى معه في ميدان المعصية . وحينئذ فيكون آدم وذريته شرا من ابليس , فإن النبي (قال: (( كل بني آدم خطّاء , وخير الخطّائين التوابون))(1).
ثم هل يقول من يؤمن بالله واليوم الاخر : أن من أذنب ذنبا من المسلمين يكون شرا من إبليس ؟ أوليس هذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام؟وقائل هذا كافر كفرا معلوما بالضرورة من الدين . وعلى هذا فالشيعة دائما يذنبون , فيكون كل منهم شرا من إبليس . ثم إذا قالت الخوارج: إن علياّ أذنب فيكون شرا من إبليس –لم يكن للروافض حجة إلا دعوى عصمته. وهم لا يقدرون أن يقيموا حجة على الخوارج بإيمانه وإمامته وعدالته , فكيف يقيمون حجة عليهم بعصمته؟ ولكن أهل السنة تقدر أن تقيم الحجة بإيمانه وإمامته, لأن ما تحتج به الرافضة منقوض ومعارض بمثله , فيبطل الاحتجاج به.
ثم إذا قام الدليل على قول الجمهور الذي دل عليه القرآن كقوله تعالى:
{ وعصى آدم ربّه فغوى } (2), لزم أن يكون آدم شراً من ابليس .
وفي الجملة فلوازم هذا القول وما فيه من الفساد يفوق الحصر والتعداد.
وأما ثانيا: فهذا الكلام كلام بلا حجة , بل هو باطل في نفسه . فلم قلت: إن شرا من إبليس من لم يسبقه في سالف طاعة وجرى معه ميدان معصية؟ وذلك أن احدا لا يجري مع إبليس في ميدان معصيته كلها, فلا يتصور أن يكون في الآدميين من يساوي إبليس في معصيته , بحيث يضل الناس كلهم ويغويهم.
__________
(1) رواه الترمذي ج4 ص 70 وابن ماجه ج2 ص1420 وغيريهما .
(2) الآية 121 من سورة طه .(173/349)
وأما طاعة إبليس المتقدمة فهي حابطة بكفره بعد ذلك , فإن الردة تحبط العمل, فما تقدم من طاعته : إن كان طاعة فهي حابطة بكفره وردته , وما يفعله من المعاصي لا يماثله أحد فيه ,فامتنع أن يكون أحد شرا منه, وصار نظير هذا المرتد الذي يقتل النفوس ويزني ويفعل عامة القبائح بعد سابق طاعاته, فمن جاء بعده ولم يسبقه إلى تلك الطاعات الحابطة , وشاركه في قليل من معاصيه , لا يكون شرا منه , فكيف يكون أحدا شرا من إبليس ؟؟
وهذا ينقض أصول الشيعة : حقها وباطلها , وأقل ما يلزمهم أن يكون أصحاب علي الذين قاتلوا معه, وكانوا أحيانا يعصونه , شرا من الذين امتنعوا عن مبايعته من الصحابة , لأن هؤلاء عبدوا الله قبلهم , وأولئك جروا معهم في ميدان المعصية.
ويقال ثالثا: ما الدليل على أن إبليس كان أعبد الملائكة ؟ وأنه كان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة؟ أو أنه كان من حملة العرش في الجملة؟ أو أنه كان طاووس الملائكة؟ أو أنه ما ترك في السماء رقعة ولا في الأرض بقعة إلا وله فيها سجدة وركعة؟ ونحو ذلك مما يقوله بعض الناس ؟ فإن هذا أمر إنما يعلم بالنقل الصادق , وليس في القرآن شيء من ذلك ولا في ذلك خبر صحيح عن النبي (. وهل يحتج بمثل هذا في أصول الدين إلا من هو من أعظم الجاهلين؟!!
وأعجب من ذلك قوله: (( ولا شك بين العلماء أن إبليس كان أعبد الملائكة)) .(173/350)
فيقال: من الذي قال هذا من علماء الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين ؟ فضلا عن أن يكون هذا متفقا عليه بين العلماء ؟ وهذا شيء لم يقله قط عالم يقبل قوله من علماء المسلمين , وهو أمر لا يعرف إلا بالنقل , ولم ينقل هذا أحد عن النبي (لا بإسناد صحيح ولا ضعيف . فإن كان قاله بعض الوعّاظ أو المصنفين في الرقائق , أو بعض من ينقل في التفسير من الإسرائيليات مالا أسناد له, فمثل هذا لا يحتج به في جرزة بقل , فكيف يحتج به في جعل إبليس خيرا من كل من عصى الله من بني آدم ويجعل الصحابة من هؤلاء الذين إبليس خير منهم؟
وما وصف الله ولا رسوله ( إبليس بخير قط ولا بعبادة متقدمة ولا غيرها , مع أنه لو كان له عبادة لكانت قد حبطت بكفره وردته.
وأعجب من ذلك قوله: (( لا شك بين العلماء أنه كان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة)) فياسبحان الله ! هل قال ذلك أحد من علماء المسلمين المقبولين عند المسلمين؟ وهل يتكلم بذلك إلا مفرط في الجهل ؟ فإن هذا لا يعرف – لو كان حقا- إلا بنقل الأنبياء , وليس عن النبي ( في ذلك شيء .
ويقال : قد ثبت إسلام معاوية ( ، والإسلام يَجُبُّ ما قبله. فمن ادّعى أنه ارتدّ بعد ذلك كان مدّعيا دعوى بلا دليل لولم يُعلم كذب دعواه، فكيف إذا عُلم كذب دعواه ، وأنه ما زال على الإسلام إلى أن مات ، كما علم بقاء غيره على الإسلام ؟ فالطريق الذي يُعلم به بقاء إسلام أكثر الناس من الصحابة وغيرهم ، يُعلم به بقاء إسلام معاوية ( . والمدّعي لارتداد معاوية وعثمان وأبي بكر وعمر رضى الله عنهم ، ليس هو أظهر حجة من المدّعي لارتداد عليّ . فإن المدَّعي كان لارتداد عليّ كاذبا ، فالمدَّعي لارتداد هؤلاء أظهر كذبا ، لأن الحجة على بقاء إيمان هؤلاء أظهر ، وشبهة الخوارج أظهر من شبهة الروافض .(173/351)
ويقال : هذه الدعوى إن كانت صحيحة ،ففيها من القدح والغضاضة بعليّ والحسن وغيرهما ما لا يخفي . وذلك أنه كان مغلوبا مع المرتدّين ، وكان الحسن قد سلَّم أمر المسلمين إلى المرتدّين ، فيكون نصر الله لخالد على الكفار أعظم من نصره لعليّ . والله سبحانه وتعالى عدل لا يظلم واحداً منهما، فيكون ما استحقه خالدا أعظم مما استحقه عليّ ، فيكون أفضل عند الله منه .
ويقال : قوله : (( وبايعه الكل بعد عثمان )) .
إن لم يكن هذا حجة فلا فائدة فيه ، وإن كان حجة فمبايعتهم لعثمان كان اجتماعهم عليها أعظم . وأنتم لا ترون الممتنع عن طاعة عثمان كافراً ، بل مؤمناً تقيّاً .
ويقال : اجتماع الناس على مبايعة أبي بكر كانت على قولكم أكمل ، وأنتم وغيركم تقولون : إن عليًّا تخلف عنها مدة . فيلزم على قولكم أن يكون عليّ مستكبراً عن طاعة الله في نصب أبي بكر عليه إماما ، فيلزم حينئذ كفر عليّ بمقتضى حجتكم ، أو بطلانها في نفسها . وكفر عليّ باطل ، فلزم بطلانها .
ويقال : قولكم : (( بايعه الكل بعد عثمان )) .
من أظهر الكذب ، فإن كثيرا من المسلمين : إما النصف ، وإما أقل أو أكثر لم يبايعوه ،ولم يبايعه سعد بن أبي وقاص ولا ابن عمر ولا غيرهما .
ويقال: قولكم : (( إنه جلس مكانه )) .(173/352)
كذب ؛ فإن معاوية لم يطلب الأمر لنفسه ابتداء ، ولا ذهب إلى عليّ لينزعه عن إمارته ، ولكن امتنع هو وأصحابه عن مبايعته ، وبقي على ما كان عليه والياً على من كان واليا عليه في زمن عمر وعثمان . ولما جرى حكم الحكمين إنما كان متولياً على رعيته فقط .فإن أريد بجلوسه في مكانه أنه استبد بالأمر دونه في تلك البلاد ، فهذا صحيح ، لكن معاوية( يقول : إني لم أنازعه شيئا هو في يده ، ولم يثبت عندي ما يوجب عليّ دخولي في طاعته . وهذا الكلام سواء كان حقا أو باطلا لا يوجب كون صاحبه شرًّا من إبليس ، ومن جعل أصحاب رسول الله ( شرًّا من إبليس ، فما أبقى غاية في الافتراء على الله ورسوله والمؤمنين ، والعدوان على خير القرون في مثل هذا المقام ، والله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، والهوى إذا بلغ بصاحبه إلى هذا الحد فقد أخرج صاحبه عن ربقة العقل ، فضلا عن العلم والدين ، فنسأل الله العافية من كل بليّة ، وإن حقًّا على الله أن يذل أصحاب مثل هذا الكلام ،وينتصر لعباده المؤمنين – من أصحاب نبيه وغيرهم – من هؤلاء المفترين الظالمين .
(فصل )(173/353)
قال الرافضي : (( وتمادى بعضهم في التعصب حتى اعتقد إمامة يزيد بن معاوية مع ما صدر عنه من الأفعال القبيحة من قتل الإمام الحسين ونهب أمواله وسبى نسائه ودورانهم في البلاد على الجمال بغير قتب ، ومولانا زين العابدين مغلول اليدين ، ولم يقنعوا بقتله حتى رضُّوا أضلاعه وصدره بالخيول، وحملوا رؤوسهم على القنا مع أن مشايخهم رووا أن يوم قتل الحسين مطرت السماء دما . وقد ذكر ذلك الرافعي في (( شرح الوجيز )) وذكر ابن سعد في (( الطبقات )) أن الحمرة ظهرت في السماء يوم قتل الحسين ولم تر قبل ذلك . وقال أيضا : ما رفع حجرا في الدنيا إلا وتحته دم عبيط ، ولقد مطرت السماء مطرا بقي أثره في الثياب مدة حتى تقطعت . قال الزهري : ما بقى أحد من قاتلي الحسين إلا وعوقب في الدنيا : إما بالقتل وإما بالعمى أو سواد الوجه أو زوال الملك في مدة يسيرة .
وكان رسول الله ( يكثر الوصية للمسلمين في ولديه الحسن والحسين ويقول لهم : هؤلاءوديعتي عندكم . وأنزل الله تعالى : { قُل لاَّ أسأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجرًا إلاَّ الْمَوَدَّةَ في القُرْبَى } (1).
والجواب : أما قوله : (( وتمادى بعضهم في التعصب حتى اعتقد إمامة يزيد بن معاوية )) .
__________
(1) الآية 23 من سورة الشورى .(173/354)
إن أراد بذلك أنه اعتقد أنه من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين ، كأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ ، فهذا لم يعتقده أحد من علماء المسلمين . وإن اعتقد مثل هذا بعض الجهال ، كما يحكى عن بعض الجهال من الأكراد ونحوهم أنه يعتقد أن يزيد من الصحابة ، وعن بعضهم أنه من الأنبياء ، وبعضهم يعتقد أنه من الخلفاء الراشدين المهديين ، فهؤلاء ليسوا من أهل العلم الذين يحكى قولهم . وهم مع هذا الجهل خير من جهال الشيعة وملا حدتهم الذين يعتقدون إلاهية عليّ ، أو نبوته ، أو يعتقدون أن باطن الشريعة يناقض ظاهرها ، كما تقول الإسماعيلية والنصيرية وغيرهم من أنه يسقط عن خواصهم الصوم والصلاة والحج والزكاة ، وينكرون المعاد .
وأما علماء أهل السنة الذين لهم قول يُحكى فليس فيهم من يعتقد أن يزيد وأمثاله من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين ، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضى الله عنهم ، بل أهل السنة يقولون بالحديث الذي في السنن : (( خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم تصير ملكا ))(1) .
وإن أراد باعتقادهم إمامة يزيد ، أنهم يعتقدون أنه كان ملك جمهور المسلمين وخليفتهم في زمانه صاحب السيف ، كما كان أمثاله من خلفاء بني أمية وبني العباس ، فهذا أمر معلوم لكل أحد ، ومن نازع في هذا كان مكابرا؛ فإن يزيد بويع بعد موت أبيه معاوية ، وصار متوليا على أهل الشام ومصر والعراق وخراسان وغير ذلك من بلاد المسلمين .
وهذا معنى كونه إماما وخليفة وسلطانا ، كما أن إمام الصلاة هو الذي يصلّي بالناس . فإذا رأينا رجلا يصلّي بالناس كان القول بأنه إمام أمرا مشهوداً محسوسا لا يمكن المكابرة فيه . وأما كونه برًّا أو فاجرا ، أو مطيعا أو عاصيا ، فذاك أمر آخر .
__________
(1) تقدمت الإشارة إليه .(173/355)
فأهل السنّة إذا اعتقدوا إمامة الواحد من هؤلاء : يزيد، أو عبد الملك ، أو المنصور ، أو غيرهم – كان بهذا الاعتبار . ومن نازع في هذا فهو شبيه بمن نازع في ولاية أبي بكر وعمر وعثمان ، وفي ملك كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم من الملوك .
وأما كون الواحد من هؤلاء معصوما ، فليس هذا اعتقاد أحد من علماء المسلمين ، وكذلك كونه عادلا في كل أموره ، مطيعا لله في جميع أفعاله ، ليس هذا اعتقاد أحد من أئمة المسلمين .
وأما مقتل الحسين ( فلا ريب أنه قُتل مظلوما شهيدا ، كما قُتل أشباهه من المظلومين الشهداء . وقتل الحسين معصية لله ورسوله ممن قتله أو أعان على قتله أو رضي بذلك ، وهو مصيبة أصيب بها المسلمون من أهله وغير أهله ، وهو في حقِّه شهادة له ، ورفع درجة ، وعلو منزلة ؛ فإنه وأخاه سبقت لهما من الله السعادة ، التي لا تُنال إلا بنوع من البلاء ، ولم يكن لهما من السوابق ما لأهل بيتهما ، فإنهما تربيا في حجر الإسلام ، في عز وأمان ، فمات هذا مسموما وهذا مقتولا ، لينالا بذلك منازل السعداء وعيش الشهداء .
وليس ما وقع من ذلك بأعظم من قتل الأنبياء ؛ فإن الله تعالى قد أخبر أن بني إسرائيل كانوا يقتلون النبيين بغير حق . وقتل النبي أعظم ذنبا ومصيبة، وكذلك قتل عليّ( أعظم ذنبا ومصيبة ،وكذلك قتل عثمان( أعظم ذنبا ومصيبة .إذا كان كذلك فالواجب عند المصائب الصبر والاسترجاع ، كما يحبه الله ورسوله .
( فصل)(173/356)
وصار الشيطان بسبب قتل الحسين ( يُحدث للناس بدعتين : بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء ، من اللطم والصراخ والبكاء والعطش وإنشاد المراثي ، وما يُفضى إليه ذلك من سبّ السلف ولعنتهم ، وإدخال من لا ذنب له مع ذوي الذنوب ، حتى يسب السابقون الأولون ، وتقرأ أخبار مصرعه التي كثير منها كذب . وكان قصد من سنّ ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة ؛ فإن هذا ليس واجبا ولا مستحبا باتفاق المسلمين ، بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة من أعظم ما حرّمه الله ورسوله . وكذلك بدعة السرور والفرح .
وأما ما ذكره من سبي نسائه والذرارى ، والدوران بهم في البلاد ، وحملهم على الجمال بغير أقتاب ، فهذا كذب وباطل : ما سبى المسلمون – ولله الحمد – هاشميةً قط ، ولا استحلت أمة محمد (سبى بني هاشم قط ، ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيرا ، كما تقول طائفة منهم : إن الحجاج قتل الأشراف ، يعنون بني هاشم .
(فصل)
قال الرافضي : (( وتوقف جماعة ممن لا يقول بإمامته في لعنه مع أنه عندهم ظالم بقتل الحسين ونهب حريمه . وقد قال الله تعالى : { أَلا لَعْنَةُ اللهِ على اَلظَّاِلمينَ } (1)
__________
(1) الآية 18 من سورة هود .(173/357)
.وقال أبو الفرج ابن الجوزي من شيوخ الحنابلة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : أوحى الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم: إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا ، وإني قاتل بابن بنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا . وحكى السُدِّي وكان من فضلائهم قال : نزلت بكربلاء ومعي طعام للتجارة ، فنزلنا على رجل فتعشينا عنده ، وتذاكرنا قتل الحسين وقلنا : ما شرك أحد في قتل الحسين إلا ومات أقبح موته . فقال الرجل : ما أ كذبكم، أنا شركت في دمه وكنت ممن قتله فما أصابني شيء . قال : فلما كان من آخر الليل إذا أنا بصائح . قلنا مالخبر ؟ قالوا قام الرجل يصلح المصباح فاحترقت إصبعه ، ثم دب الحريق في جسده فاحترق . قال السدى : فأنا والله رأيته وهو حممة سوداء . وقد سأل مهنا بن يحيى أحمد بن حنبل عن يزيد ، فقال : هو الذي فعل ما فعل . قلت : وما فعل ؟ قال : نهب المدينة . وقال له صالح ولده يوماً : إن قومنا ينسبوننا إلى تولى يزيد . فقال : يا بني وهل يتولى يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر ؟ فقال : لم لا تلعنه . فقال : وكيف لا ألعن من لعنه الله في كتابه ؟ فقلت : وأين لعن يزيد ؟ فقال : في قوله تعالى : { َفهلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمُ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أَوْلئِكَ الَّذينَ لَعَنَهُمْ اللهُ فأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } (1) ،فهل يكون فساد أعظم من القتل ونهب المدينة ثلاثة أيام وسبى أهلها ؟ وَقَتَلَ جمعا من وجوه الناس فيها من قريش والأنصار والمهاجرين من يبلغ عددهم سبعمائة ، وقتل من لم يعرف من عبدٍ أو حرٍ أو امرأة عشرة آلاف ، وخاض الناس في الدماء حتى وصلت الدماء إلى قبر رسول الله (وامتلأت الروضة والمسجد ، ثم ضرب الكعبة بالمنجنيق وهدمها وأحرقها .
__________
(1) الآيتان 22-23 من سورة محمد .(173/358)
وقال رسول الله (: (( إن قاتل الحسين في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل النار وقد شُدَّ يداه ورجلاه بسلاسل من نار ينكس في النار حتى يقع في قعر جهنم ، وله ريح يتعوذ أهل النار إلى ربهم من شدة نتن ريحه ، وهو فيها خالد وذائق العذاب الأليم ، كلما نضجت جلودهم بدَّل الله لهم الجلود حتى يذوقوا العذاب ، لا يفتّر عنهم ساعة ، ويسقى من حميم جهنم ، الويل لهم من عذاب الله عز وجل . وقال عليه الصلاة والسلام : اشتد غضب الله وغضبي على من أراق دم أهلي وآذاني في عترتي)).
والجواب : أن القول في لعنة يزيد كالقول في لعنة أمثاله من الملوك الخلفاء وغيرهم ، ويزيد خير من غيره :خير من المختار بن أبي عبيد الثقفي أمير العراق ، الذي أظهر الانتقام من قتلة الحسين ؛ فإن هذا ادّعى أن جبريل يأتيه . وخير من الحجاج بن يوسف ؛ فإنه أظلم من يزيد باتفاق الناس.
ومع هذا فيُقال : غاية يزيد وأمثاله من الملوك أن يكونوا فسّاقا ، فلعنة الفاسق المعيَّن ليست مأموراً بها ، إنما جاءت السنّة بلعنة الأنواع ، كقول النبي : (( لعن الله السارق ؛ يسرق البيضة فتقطع يده ))(1). وقوله : (( لعن الله من أحدث حَدَثا أو آوى محدثا ))(2).وقوله (( لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه))(3) وقوله : (( لعن الله المحَلِّلَ والمحَلَّلَ له ))(4) ، (( لعن الله الخمر وعاصرها ومعتصرها ، وحاملها والمحمولة إليه ، وساقيها ، وشاربها ، وآكل ثمنها ))(5).
__________
(1) البخاري ج8 ص159 ومسلم ج3 ص 1314 .
(2) مسلم ج3 ص 1567.
(3) البخاري ج7 ص 169 ومسلم ج3 ص 1219 .
(4) سنن أبي داود ج2 ص 307 والترمذي ج2 ص 294 .
(5) سنن أبي داود ج3 ص445 .(173/359)
وأما ما فعله بأهل الحرَّة ، فإنهم لما خلعوه وأخرجوا نوابه وعشيرته ، أرسل إليهم مرة بعد مرة يطلب الطاعة ، فامتنعوا ، فأرسل إليهم مسلم بن عقبة المرّى ، وأمره إذا ظهر عليهم أن يبيح المدينة ثلاثة أيام . وهذا هو الذي عظم إنكار الناس له من فعل يزيد . ولهذا قيل لأحمد : أتكتب الحديث عن يزيد ؟ قال : لا ولا كرامة . أو ليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل ؟
لكن لم يقتل جميع الأشراف ، ولا بلغ عدد القتلى عشرة آلاف ، ولا وصلت الدماء إلى قبر النبي (، ولا إلى الروضة ، ولا كان القتل في المسجد . وأما الكعبة فإن الله شرفها وعظّمها وجعلها محرَّمة ، فلم يمكِّن الله أحدا من إهانتها لا قبل الإسلام ولا بعده ، بل لما قصدها أهل الفيل عاقبهم الله العقوبة المشهورة .
وأما الحديث الذي رواه وقوله : (( إن قاتل الحسين في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل النار ، وقد شُدت يداه ورجلاه بسلاسل من نار ، يُنَكَّس في النار حتى يقع في قعر جهنم ، وله ريح يتعوّذ أهل النار إلى ربهم من شدة نتن ريحه ، وفيها خالد )) إلى آخره .
فهذا من أحاديث الكذّابين الذين لا يستحيون من المجازفة في الكذب على رسول الله (، فهل يكون على واحد نصف عذاب أهل النار ؟ أو يُقدِّر نصف عذاب أهل النار ؟ وأين عذاب آل فرعون وآل المائدة والمنافقين وسائر الكفار ؟ وأين قتلة الأنبياء ، وقتلة السابقين الأوَّلين ؟.
وقاتل عثمان أعظم إثما من قاتل الحسين . فهذا الغلو الزائد يقابل بغلو الناصبة ، اللذين يزعمون أن الحسين كان خارجيا ،وأنه كان يجوز قتله ، لقول النبي (: (( من أتاكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرِّق جماعتكم ، فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان )).رواه مسلم(1) .
__________
(1) انظر مسلم : ج3 ص 1479 .(173/360)
وأهل السنّة والجماعة يردّون غلو هؤلاء وهؤلاء ، ويقولون : إن الحسين قُتل مظلوما شهيدا،وإن الذين قتلوه كانوا ظالمين معتدين .وأحاديث النبي (التي يأمر فيها بقتال المفارق للجماعة لم تتناوله ؛فإنه ( لم يفرّق الجماعة ، ولم يُقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده ، أو إلى الثغر ، أو إلى يزيد ، داخلا في الجماعة ، معرضا عن تفريق الأمة . ولو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك ، فكيف لا تجب إجابة الحسين إلى ذلك ؟ ولو كان الطالب لهذه الأمور من هو دون الحسين لم يجز حبسه ولا إمساكه ، فضلا عن أسره وقتله .
وكذلك قوله : اشتد غضب الله على من أراق دم أهلي وآذاني في عترتي .
كلام لا ينقله عن النبي (ولا ينسبه إليه إلا جاهل . فإن العاصم لدم الحسن والحسين وغيرهما من الإيمان والتقوى أعظم من مجرد القرابة ،ولو كان الرجل من أهل بيت النبي (وأتى بما يبيح قتله أو قطعه ، كان ذلك جائزا بإجماع المسلمين .
كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال : (( إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد . وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ))(1) .فقد أخبر أن أعز الناس عليه من أهله لو أتى بما يوجب الحد لأقامه عليه ، فلو زنى الهاشمي وهو محصن رُجم حتى يموت باتفاق علماء المسلمين ، ولو قتل نفساً عمدا عدوانا محضا لجاز قتله به ، وإن كان المقتول من الحبشة أو الروم أو الترك أو الديلم .
فإن النبي ( قال: (( المسلمون تتكافأ دماؤهم ))(2) فدماء الهاشميين وغير الهاشميين سواء إذا كانوا أحراراً مسلمين باتفاق الأمة ، فلا فرق بين إراقة دم الهاشمي وغير الهاشمي إذا كان بحق ، فكيف يخص النبي (أهله بأن يشتد غضب الله على من أراق دماءهم .
__________
(1) انظر البخاري : ج5 ص 23 ، ومسلم : ج3 ص 1315.
(2) رواه أبو داود ج3 ص107 وابن ماجة ج2 ص 895 وأحمد ج2 ص 199 . أحمد شاكر .(173/361)
فإن الله حرَّم قتل النفس إلا بحق ، فالمقتول بحق لِمَ يشتد غضب الله على من قتله ، سواء كان المقتول هاشميا أو غير هاشمي؟ .
وإن قتل بغير حق ، فمن يَقْتُل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما . فالعاصم للدماء والمبيح لها يشترك فيها بنو هاشم وغيرهم ، فلا يضيف مثل هذا الكلام إلى رسول الله (إلا منافق يقدح في نبوته ، أو جاهل لا يعلم العدل الذي بُعث به (.
وكذلك قوله : (( من آذاني في عترتي )) فإن إيذاء رسول الله (حرام في عترته وأمته وسنته وغير ذلك .
(فصل)
قال الرافضي : (( فلينظر العاقل أي الفريقين أحق بالأمن : الذي نزَّه الله وملائكته وأنبياءه وأئمته ؛ ونزَّه الشرع عن المسائل الردّية ، ومن يبطل الصلاة بإهمال الصلاة على أئمتهم ،ويذكر أئمة غيرهم ، أم الذي فعل ضد ذلك واعتقد خلافه ؟ )).
والجواب أن يقال : ما ذكرتموه من التنزيه إنما هو تعطيل وتنقيض لله ولأنبيائه . بيان ذلك أن قول الجهمية نفاة الصفات يتضمن وصف الله تعالى بسلب صفات الكمال التي يشابه فيها الجمادات والمعدومات ، فإذا قالوا : إنه لا تقوم به حياة ولا علم ولا قدرة ، ولا كلام ولا مشيئة ،ولا حب ولا بغض ، ولا رضا ولا سخط ، ولا يُرى ولا يفعل بنفسه فعلاً ، ولا يقدر أن يتصرف بنفسه ، كانوا قد شبّهوه بالجمادات المنقوصات ، وسلبوه صفات الكمال ، فكان هذا تنقيصا وتعطيلا لا تنزيها ، وإنما التنزيه أن ينزَّه عن النقائص المنافية لصفات الكمال ، فينزَّه عن الموت والسِّنة والنوم ، والعجز والجهل والحاجة ، كما نزَّه نفسه في كتابه ، فيُجمع له بين إثبات صفات الكمال ، ونفي النقائص المنافية للكمال ، وينزّه عن مماثلة شيء من المخلوقات له في شيء من صفاته ، وينزّه عن النقائص مطلقا ، وينزّه في صفات الكمال أن يكون له فيها مثلٌ من الأمثال .(173/362)
وأما الأنبياء فإنكم سلبتموهم ما أعطاهم الله من الكمال وعلو الدرجات، بحقيقة التوبة والاستغفار ، والانتقال من كمال إلى ما هو أكمل منه، وكذّبتم ما أخبر الله به من ذلك وحرَّفتم الكلم عن مواضعه ، وظننتم أن انتقال الآدمي من الجهل إلى العلم ، ومن الضلال إلى الهدى ، ومن الغي إلى الرشاد ،تنقّصا ، ولم تعلموا أن هذا من أعظم نعم الله وأعظم قدرته ، حيث ينقل العباد من النقص إلى الكمال ، وأنه قد يكون الذي يذوق الشر والخير ويعرفهما ، يكون حبه للخير وبغضه للشر أعظم ممن لا يعرف إلا الخير . كما قال عمر بن الخطاب( : (( إنما تُنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية )) .
وأما تنزيه الأئمة فمن الفضائح التي يُستحيا من ذكرها ، لا سيما الإمام المعدوم الذي لا يُنتفع به لا في دين ولا دنيا .
وأما تنزيه الشرع عن المسائل الردّية ، فقد تقدم أن أهل السنّة لم يتفقوا على مسألة ردّية ، بخلاف الرافضة ؛ فإن لهم من المسائل الردّية ما لا يوجد لغيرهم .
وأما قوله : (( ومن يبطل الصلاة بإهمال الصلاة على أئمتهم ، ويذكر أئمة غيرهم )) .
فإما أن يكون المراد بذلك أن تجب الصلاة على الأئمة الاثنى عشر ، أو على واحد معيّن غير النبي (منهم أو من غيرهم .
وإما أن يكون المراد وجوب الصلاة على آل النبي (.فإن أراد الأول فهذا من أعظم ضلالهم وخروجهم عن شريعة محمد (؛ فإنا نحن وهم نعلم بالاضطرار أن النبي (لم يأمر المسلمين أن يصلّوا على الاثنى عشر : لا في الصلاة ، ولا في غير الصلاة ، ولا كان أحد من المسلمين يفعل شيئا من ذلك على عهده ، ولا نقل هذا أحد عن النبي (: لا بإسناد صحيح ولا ضعيف،ولا كان يجب على أحد في حياة رسول الله (أن يتخذ أحداً من الاثنى عشر إماما ،فضلا عن أن تجب الصلاة عليه في الصلاة.(173/363)
وكانت صلاة المسلمين صحيحة في عهده بالضرورة والإجماع . فمن أوجب الصلاة على هؤلاء في الصلاة ، وأبطل الصلاة بإهمال الصلاة عليهم ، فقد غيَّر دين النبي محمد ( وبدَّله ، كما بدَّلت اليهود والنصارى دين الأنبياء.
وإن قيل:المراد أن يصلى على آل محمد،وهم منهم .
قيل:آل محمد يدخل فيهم بنو هاشم وأزواجه،وكذلك بنو المطلب على أحد القولين.وأكثر هؤلاء تذمّهم الإمامية؛ فإنهم يذمون ولد العباس ، لاسيما خلفاؤهم ، وهم من آل محمد (، ويذمّون من يتولى أبا بكر وعمر . وجمهور بني هاشم يتولون أبا بكر وعمر ، ولا يتبرأ منهم صحيح النسب من بني هاشم إلا نفر قليل بالنسبة إلى كثرة بني هاشم . وأهل العلم والدين منهم يتولون أبا بكر وعمر رضى الله عنهما .
ومن العجب من هؤلاء الرافضة أنهم يدَّعون تعظيم آل محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، وهم سعوا في مجيء التتر الكفّار إلى بغداد دار الخلافة ، حتى قتلت الكفار من المسلمين ما لا يحصيه إلا الله تعالى من بني هاشم وغيرهم وقتلوا بجهات بغداد ألف ألف وثمانمئة ألف ونيفا وسبعين ألفا وقتلوا الخليفة العباسي ، وسبوا النساء الهاشميات وصبيان الهاشميين .
فهذا هو البغض لآل محمد ( بلا ريب . وكان ذلك من فعل الكفار بمعاونة الرافضة ، وهم الذي سعوا في سبي الهاشميات ونحوهم إلى يزيد وأمثاله ، فما يعيبون على غيرهم بعيب إلا وهو فيهم أعظم.
(فصل)
قال الرافضي : (( السادس: أن الإمامية لما رأوا فضائل أمير المؤمنين وكمالاته لا تحصى قد رواها المخالف والموافق ، ورأوا الجمهور قد نقلوا عن غيره من الصحابة مطاعن كثيرة ، ولم ينقلوا في عليّ طعنا ألبتة ، اتّبعوا قوله وجعلوه إماماً لهم حيث نزّهه المخالف والموافق ، وتركوا غيره ، حيث روى فيه من يعتقد إمامته من المطاعن ما يطعن في إمامته .ونحن نذكر هنا شيئا يسيرا مما هو صحيح عندهم ونقلوه في المعتمد من قولهم وكتبهم ، ليكون حجة عليهم يوم القيامة .(173/364)
فمن ذلك ما رواه أبو الحسن الأندلسي في (( الجمع بين الصحاح الستة )) موطأ مالك وصحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود وصحيح الترمذي وصحيح النسائي عن أم سلمة زوج النبي (أن قوله تعالى : { إِنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيًرا } (1).أنزلت في بيتها وأنا جالسة عند الباب ، فقلت : يا رسول الله ألست من أهل البيت ؟ فقال (( إنك على خير إنك من أزواج النبي (. قالت: وفي البيت رسول الله (وعليّ وفاطمة والحسن والحسين فجللهم بكساء ، وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا )) .
والجواب أن يقال : إن الفضائل الثابتة في الأحاديث الصحيحة لأبي بكر وعمر أكثر وأعظم من الفضائل الثابتة لعليّ ، والأحاديث التي ذكرها هذا وذكر أنها في الصحيح عند الجمهور ، وأنهم نقلوها في المعتمد من قولهم وكتبهم ، وهو من أبْيَنَ الكذب على علماء الجمهور ؛ فإن هذه الأحادي التي ذكرها أكثرها كذب أو ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، والصحيح الذي فيها ليس فيه ما يدل على إمامة عليّ ولا فضيلته عَلَى أبي بكر وعمر ، بل وليست من خصائصه ، بل هي من فضائل شاركه فيها غيره ، بخلاف ما ثبت من فضائل أبي بكر وعمر ؛ فإن كثيرا منها خصائص لهما ، لا سيما فضائل أبي بكر ، فإن عامتها خصائص لم يشركه فيها غيره .
وأما ما ذكره من المطاعن ، فلا يمكن أن يوجّه على الخلفاء الثلاثة من مطعن إلا وُجه عَلَى عليّ ما هو مثله وأعظم منه .
فتبين أن ما ذكره في هذا الوجه من أعظم الباطل ، ونحن نبيّن ذلك تفصيلا .
وأما قوله :(( إنهم جعلوه إماما لهم حيث نزَّهه المخالف والموافق،وتركوا غيره حيث روى فيه من يعتقد إمامته من المطاعن ما يطعن في إمامته )).
__________
(1) الآية 33 من سورة الأحزاب .(173/365)
فيقال : هذا كذب بيّن ؛ فإن عليًّا ( لم ينزّهه المخالفون ، بل القادحون في عليّ طوائف متعددة ، وهم أفضل من القادحين في أبي بكر وعمر وعثمان ، والقادحون فيه أفضل من الغلاة فيه ، فإن الخوارج متفقون على كفره ، وهم عند المسلمين كلهم خير من الغلاة الذين يعتقدون إلاهيته أو نبوته ، بل هم – والذين قاتلوه من الصحابة والتابعين –خير عند جماهير المسلمين من الرافضة الاثنى عشرية ،الذين اعتقدوه إماما معصوما .
وأبو بكر وعمر وعثمان ليس في الأمة من يقدح فيهم إلا الرافضة ، والخوارج المكفِّرون لعليّ يوالون أبا بكر وعمر ويترضُّون عنهما ، والمروانية الذين يَنْسبون عليًّا إلى الظلم ، ويقولون : إنه لم يكن خليفة يوالون أبا بكر وعمر مع أنهما ليسا من أقاربهم ، فكيف يُقال مع هذا : إن عليًّا نزَّهه المؤالف والمخالف بخلاف الخلفاء الثلاثة ؟
ومن المعلوم أن المنزِّهين لهؤلاء أعظم وأكثر وأفضل ، وأن القادحين في عليّ –حتى بالكفر والفسوق والعصيان – طوائف معروفة ، وهم أعلم من الرافضة وأَدْيَن ، والرافضة عاجزون معهم علما ويداً ، فلا يمكن الرافضة أن تقيم عليهم حجة تقطعهم بها ، ولا كانوا معهم في القتال منصورين عليهم .
والذين قدحوا في علي ّ( وجعلوه كافرا وظالما ليس فيهم طائفة معروفة بالردة عن الإسلام ، بخلاف الذين يمدحونه ويقدحون في الثلاثة ، كالغالية الذين يدّعون إلاهيته من النصيرية وغيرهم ، وكالإسماعيلية الملاحدة الذين هم شر من النصيرية ، وكالغالية الذين يدّعون نبوَّته ؛ فإن هؤلاء كفار مرتدُّون ، كفرهم بالله ورسوله ظاهر لا يخفى على عالم بدين الإسلام ، فمن اعتقد في بشر الإلهية ، أو اعتقد بعد محمد ( نبيا ، أو أنه لم يكن نبيا بل كان عليّ هو النبي دونه وإنما غلط جبريل ؛ فهذه المقالات ونحوها مما يظهر كفر أهلها لمن يعرف الإسلام أدنى معرفة .(173/366)
بخلاف من يكفِّر عليًّا ويلعنه من الخوارج ، وممن قاتله ولعنه من أصحاب معاوية وبني مروان وغيرهم ؛ فإن هؤلاء مقرّين بالإسلام وشرائعه : يقيمون الصلاة ،ويؤتون الزكاة ، ويصومون رمضان ، ويحجون البيت العتيق، ويحرّمون ما حرم الله ورسوله ، وليس فيهم كفر ظاهر ، بل شعائر الإسلام وشرائعه ظاهرة فيهم معظمة عندهم ، وهذا أمر يعرفه كل من عرف أحوال الإسلام،فكيف يدّعى مع هذا أن جميع المخالفين نزّهوه دون الثلاثة؟
(فصل)
وأما حديث الكساء فهو صحيح رواه أحمد والترمذي من حديث أم سلمة،ورواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة.قالت:خرج النبي ( ذات غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود،فجاء الحسن بن علي فأدخله،ثم جاء الحسين فأدخله معه،ثم جاءت فاطمة فأدخلها،ثم جاء علّي فأدخله،ثم قال: { إِنَّمَا يُرِيد ُاللهَ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيراً } (1).
وهذا الحديث قد شركه فيه فاطمة وحسن وحسين رضى الله عنهم،فليس هو من خصائصه.ومعلوم أن المرأة لا تصلح للإمامة ، فعُلم أن هذه الفضيلة لا تختص بالأئمة ، بل يشركهم فيها غيرهم . ثم إن مضمون هذا لحديث أن النبي ( دعا لهم بأن يذهب عنهم الرجس ويطهّرهم تطهيرا . وغاية ذلك أن يكون دعا لهم بأن يكونوا من المتّقين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم ، واجتناب الرجس واجب على المؤمنين ، والطهارة مأمور بها كل مؤمن .
قال الله تعالى: { ماْ يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيد ُلِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمَ } (2).
وقال : { خذْ مِنْ أَمْوَالِهِم صَدَقةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } (3).
__________
(1) الآية 33 من سورة الأحزاب .وانظر مسلم ج4 ص 1883 والمسند ج6ص292 ،
298 ،304 والترمذي ج5 ص30 وتقدم تخريجه أيضاً.
(2) الآية 6 من سورة المائدة .
(3) الآية 103 من سورة التوبة .(173/367)
وقال تعالى : { إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينْ } (1) .
فغاية هذا أن يكون هذا دعاء لهم بفعل المأمور وترك المحظور .
والصدّيق( قد أخبر الله عنه بأنه : { الأَتْقَى . الذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى. وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى . إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى . وَلَسَوْفَ يَرْضَى } (2) .
وأيضا فإن السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه : { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم } (3) .لا بد أن يكونوا قد فعلوا المأمور وتركوا المحظور ، فإن هذا الرضوان وهذا الجزاء إنما يُنال بذلك . وحينئذ فيكون ذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم من الذنوب بعض صفاتهم . فما دعا به النبي (لأهل الكساء هو بعض ما وصف الله به السابقين الأوّلين .والنبي (دعا لغير أهل الكساء بأن يصلّي الله عليهم ، ودعا لأقوام كثيرين بالجنة والمغفرة وغير ذلك ،مما هو أعظم من الدعاء بذلك ، ولم يلزم أن يكون من دعا له بذلك أفضل من السابقين الأوّلين .
ولكن أهل الكساء لما كان قد أوجب عليهم اجتناب الرجس وفعل التطهير ، دعا لهم النبي ( بأن يعينهم على فعل ما أمرهم به لئلا يكونوا مستحقين للذم والعقاب ، ولينالوا المدح والثواب.
(فصل)
قال الرافضي : (( في قوله تعالى : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُول فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } (4). قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( : لم يعمل بهذه الآية غيري ، وبي خفف الله عن هذه الأمة أمر هذه الآية )) .
__________
(1) الآية 222 من سورة البقرة .
(2) الآيات 17 – 21 من سورة الليل .
(3) الآية 100 من سورة التوبة .
(4) الآية 12 من سورة المجادلة .(173/368)
والجواب أن يقال : الأمر بالصدقة لم يكن واجبا على المسلمين حتى يكونوا عصاة بتركه ، وإنما أُمر به من أراد النجوى إذ ذاك إلا عليّ(، فتصدّق لأجل المناجاة .
وهذا كأمره بالهَدْىِ لمن تمتع بالعمرة إلى الحج ، وأمره بالهدي لمن أُحصر .
(فصل)
قال الرافضي : (( وعن محمد بن كعب القرظي قال : افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار وعباس بن عبد المطلب وعليٌّ بن أبي طالب . فقال طلحة بن شيبة : معي مفاتيح البيت ، ولو أشاء بتُّ فيه . وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها ، ولو أشاء بتَّ في المسجد . وقال عليّ : ما أدري ما تقولان ، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد . فأنزل الله تعالى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرَ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين } (1) .
والجواب أن يقال : هذا اللفظ لا يعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة ، بل دلالات الكذب عليه ظاهرة . منها : أن طلحة بن شيبة لا وجود له ، وإنما خادم الكعبة هو شيبة بن عثمان بن طلحة . وهذا مما يبين لك أن الحديث لم يصح . ثم فيه قول العباس : (( لو أشاء بتُّ في المسجد )) فأيّ كبير أمره في مبيته في المسجد حتى يتبجح به ؟.
ثم فيه قول عليّ : (( صليت ستة أشهر قبل الناس )) فهذا مما يُعلم بطلانه بالضرورة ، فإن بين إسلامه وإسلام زيد وأبي بكر وخديجة يوماً أو نحوه ، فكيف يصلّي قبل الناس بستة أشهر ؟!
وأيضا فلا يقول : أنا صاحب الجهاد ،وقد شاركه فيه عدد كثير جداً .
(فصل)
__________
(1) الآية 19 من سورة التوبة .(173/369)
قال الرافضي : (( ومنها ما رواه أحمد بن حنبل عن أنس بن مالك ، قال : قلنا لسلمان : سل النبي ( من وصيه ، فقال له سلمان: يا رسول الله من وصيك ؟ فقال : يا سلمان من كان وصّى موسى ؟ فقال : يوشع بن نون . قال : فإن وصيي ووارثي يقضى ديْني وينجز موعدي عليّ بن أبي طالب)) .
والجواب : أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ليس هو في مسند الإمام أحمد بن حنبل . وأحمد قد صنَّف كتابا في(( فضائل الصحابة )) ذكر فيه فضل أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وجماعة من الصحابة ، وذكر فيه ما رُوي في ذلك من صحيح وضعيف للتعريف بذلك ، وليس كل ما رواه يكون صحيحا . ثم إن في هذا الكتاب زيادات من رواية القطيعي عن شيوخه . وهذه الزيادات التي زادها القطيعي غالبها كذب ، كما سيأتي ذكر بعضها إن شاء الله ، وشيوخ القطيعي يروون عن من في طبقة أحمد .وهؤلاء الرافضة جهَّال إذا رأوا فيه حديثا ظنوا أن القائل لذلك أحمد بن حنبل ، ويكونه القائل لذلك هو القطيعى ، وذاك الرجل من شيوخ القطيعى الذين يروون عن من في طبقة أحمد .و وكذلك في المسند زيادات زادها ابنه عبد الله ، لاسيما في مسند عليّ بن أبي طالب( ، فإنه زاد زيادات كثيرة .
(فصل)
قال الرافضي : (( وعن يزيد بن أبي مريم عن علي ّ( : قال : انطلقت أنا ورسول الله ( حتى أتينا الكعبة ، فقال لي رسول الله (: اجلس ، فصعد على منكبى ، فذهبت لأنهض به ، فرأى مني ضعفا ، فنزل وجلس بي نبي الله ( وقال : اصعد على منكبى ، فصعدت على منكبه . قال : فنهض بي .قال : فإنه تخيل لي أني لو شئت لنلت أفق السماء ، حتى صعدت عَلَى البيت وعليه تمثال صفر أو نحاس ، فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه ، حتى استمكنت منه قال لي رسول الله (: اقذف به فقذفت به فتكسر كما تنكسر القوارير ، ثم نزلت فانطلقت أنا ورسول الله (نستبق حتى توارينا في البيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس )) .(173/370)
والجواب : أن هذا الحديث إن صح فليس فيه شيء من خصائص الأئمة ولا خصائص عليّ ؛ فإن النبي ( كان يصلّي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع على منكبه ، إذا قام حملها ، وإذا سجد وضعها .وكان إذا سجد جاء الحسن فارتحله ، ويقول : (( إن ابني ارتحلني))(1) وكان يقبل زبيبة الحسن . فإذا كان يحمل الطفلة والطفل لم يكن في حمله لعلي ما يوجب أن يكون ذلك من خصائصه ، بل قد أشركه فيه غيره و إنما حمله لعجز عليّ عن حمله ، فهذا يدخل في مناقب رسول الله (، وفضيلة من يحمل النبي (أعظم من فضيلة من يحمله النبي (، كما حمله يوم أحد من حمله من الصحابة ، مثل طلحة بن عبيد الله ، فإن هذا نفع النبي (، وذاك نفعه النبي (، ومعلوم أن نفعه بالنفس والمال أعظم من انتفاع الإنسان بنفس النبي (وماله .
(فصل)
قال الرافضي : (( وعن ابن أبي ليلى قال : قال رسول الله (: الصدّيقون ثلاثة: حبيب النجارمؤمن آل ياسين ، وحزقيل مؤمن آل فرعون ،
وعليّ بن أبي طالب وهو أفضلهم )) .
والجواب: أن هذا كذب على رسول الله (، فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه وصف أبا بكر( بأنه صدّيق . وفي الصحيح عن ابن مسعود( عن النبي (أنه قال : (( عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدِّيقا . وإياكم والكذب ؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يُكتب هند الله كذابا ))(2) .فهذا يبيّن أن الصدِّيقون كثيرون .
وأيضا فقد قال تعالى عن مريم ابنة عمران إنها صدِّيقة ، وهي امرأة. وقال النبي ( :(( كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا أربع))(3).فالصديقون من الرجال كثيرون .
فصل)
__________
(1) رواه النسائي ج2 ص182 وأحمد ج3 ص493 حلبى .
(2) انظر مسلم ج4 ص 2012-2013 .
(3) انظر البخاري : مع الفتح ج6 ص446و471 ،ومسلم : ج4 ص1886.(173/371)
قال الرافضي : (( وعن رسول الله (أنه قال لعلي: (( أنت مني وأنا منك )).
والجواب : أن هذا حديث صحيح أخرجاه في الصحيحين من حديث البراء بن عازب ، لمّا تنازع عليّ وجعفر وزيد في ابنة حمزة ، فقضى بها لخالتها ، وكانت تحت جعفر ، وقال لعليّ : (( أنت مني وأنا منك )) . وقال لجعفر : (( أشبهت خَلْقِي وخُلُقي )).وقال ليزيد : (( أنت أخونا ومولانا ))(1) .
لكن هذا اللفظ قد قاله النبي ( لطائفة من أصحابه ، كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن النبي ( قال : (( إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قلت نفقة عيالهم في المدينة جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد ، ثم قسموه بينهم بالسوية . هم مني وأنا منهم ))(2).
وكذلك قال عن جليبيب : (( هو مني وأنا منه )) فروى مسلم في صحيحه عن أبي برزة قال : كنا مع النبي ( في مغزى له. فأفاء الله عليه ، فقال لأصحابه : (( هل تفقدون من أحد ؟)). قالوا : نعم ، فلانا وفلانا . ثم قال : (( هل تفقدون من أحد ؟ )) قالوا: نعم ، فلانا وفلانا وفلانا . ثم قال : ((هل تفقدون من أحد ؟)) قالوا : لا .قال: ((لكني أفقد جُلَيْبِيبًا ، فاطلبوه)) فطلبوه في القتلى ، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه فأتى النبي ( فوقف عليه فقال (( قتل سبعة ثم قتلوه . هذا مني وأنا منه ، هذا مني وأنا منه )) قال : فوضعه على ساعديه ، ليس له إلا ساعدا النبي (. قال : فحفر له فوضع في قبره ، ولم يذكر غسلا ))(3).
فتبيّن أن قوله لعليّ : (( أنت مني وأنا منك )) ليس من خصائصه ، بل قال ذلك للأشعريين ، وقاله لجليبيب . وإذا لم يكن من خصائصه ، بل قد شاركه في ذلك غيره من دون الخلفاء الثلاثة في الفضيلة ، لم يكن دالاًّ على الأفضلية ولا على الإمامة .
(فصل )
__________
(1) انظر البخاري : ج3 ص 184 وغيره .
(2) انظر البخاري ج3 ص138 ومسلم ج4 ص 1944 – 1945 .
(3) انظر مسلم ج4 ص 1918 – 1919 .(173/372)
قال الرافضي : (( وعن عمرو بن ميمون قال: لعليّ بن أبي طالب عشر فضائل ليست لغيره . قال له النبي ( :((لأبعثن رجلا لا يخزيه الله أبدا، يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، فاستشرف إليها من استشرف . قال : أين عليّ بن أبي طالب ؟ . قالوا : هو أرمد في الرحى يطحن . قال : وما كان أحدهم يطحن . قال : فجاء وهو أرمد لا يكد أن يبصر .قال : فنفثت في عينيه ثم هز الراية ثلاثا وأعطاها إياه ، فجاء بصفية بنت حييّ . قال : ثم بعث أبا بكر بسورة التوبة ، فبعث عليًّا خلفه فأخذها منه وقال : لا يذهب بها إلا رجل هو مني وأنا منه )).
وقال لبني عمه : أيكم يواليني في الدنيا والآخرة ؟ قال : وعليّ معهم جالس فأبَوْا ، فقال عليّ : أنا أواليك في الدنيا والآخرة .قال : فتركه ،ثم أقبل على رجل رجل منهم ، فقال : أيكم يواليني في الدنيا والآخرة ؟ فأَبَوْا ، فقال عليّ : أنا أواليك في الدنيا والآخرة ، فقال : أنت وليي في الدنيا والآخرة .
قال : وكان عليّ أول من أسلم من الناس بعد خديجة . قال : وأخذ رسول الله (ثوبه فوضعه على عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، فقال: { إِنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيًرا } (1).
قال : وشرى عليّ نفسه ولبس ثوب رسول الله (ثم نام مكانه ، وكان المشركون يرمونه بالحجارة .
وخرج النبي ( بالناس في غزاة تبوك ، فقال له عليّ : أخرج معك ؟ قال : لا فبكى عليٌّ ، فقال له : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ ألا أنك لست بنبي ، لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي .
وقال له رسول الله (: أنت وليي في كل مؤمن بعدي .
قال : وسدّ أبواب المسجد إلا باب عليّ . قال : وكان يدخل المسجد جُنبا ، وهو طريقه ليس له طريق غيره .
وقال له : من كنت مولاه فعليّ مولاه .
__________
(1) الآية 33 من سورة الأحزاب .(173/373)
وعن النبي ( مرفوعا أنه بعث أبا بكر في براءة إلى مكة ، فسار بها ثلاثا ثم قال لعليّ : ((الحقه فردّه وبلغها أنت ، ففعل . فلما قدم أبو بكر على النبي ( بكى وقال : يا رسول الله حدث فيّ شيء ؟ قال : لا ، ولكن أمرت أن لا يبلغها إلا أنا أو رجل مني )) .
والجواب : أن هذا ليس مسندا بل هو مرسل لو ثبت عن عمرو بن ميمون ، وفيه ألفاظ هي كذب على رسول الله (، كقوله : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، غير أنك لست بنبي ، لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي . فإن النبي ( ذهب غير مرة وخليفته على المدينة غير عليّ ، كما اعتمر عمرة الحديبية وعليّ معه وخليفته غيره ، وغزا بعد ذلك خيبر ومعه عليّ وخليفته بالمدينة غيره ، وغزا غزوة الفتح وعليّ معه وخليفته في المدينة غيره ، وغزا حُنَيْنا والطائف وعليّ معه وخليفته بالمدينة غيره ، وحج حجة الوداع وعليّ معه وخليفته بالمدينة غيره ، وغزا غزوة بدر ومعه عليّ وخليفته بالمدينة غيره .
وكل هذا معلوم بالأسانيد الصحيحة وباتفاق أهل العلم بالحديث ، وكان عليّ معه في غالب الغزوات وإن لم يكن فيها قتال .
فإن قيل: استخلافه يدل على انه لا يستخلف إلا الأفضل ، لزم أن يكون عليٌّ مفضولا في عامة الغزوات ، وفي عمرته وحجته، لا سيما وكل مرة كان يكون الاستخلاف على رجال مؤمنين ، وعام تبوك ما كان الاستخلاف إلا على النساء والصبيان ومن عَذَرَ الله ، وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا أو مُتَّهم بالنفاق ، وكانت المدينة آمنة لا يُخاف على أهلها ، ولا يحتاج المستخلِف إلى جهاد، كما يحتاج في أكثر الاستخلافات .(173/374)
وكذلك قوله : (( وسد الأبواب كلها إلاَّ باب عليّ )) فإن هذا مما وضعته الشيعة على طريق المقابلة ، فإن الذي في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي (أنه قال في مرضه الذي مات فيه (( إن أمّن الناس علىّ في ماله وصحبته أبو بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربّي لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن أخوة الإسلام ومودّته ، لا يبقين في المسجد خَوْخة إلا سُدت إلا خوخة أبي بكر ))(1) . رواه ابن عباس أيضاً في الصحيحين . ومثل قوله : (( أنت وليي في كل مؤمن بعدي )) فإن هذا موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، والذي فيه من الصحيح ليس هو من خصائص الأئمة ، بل ولا من خصائص عليّ ، بل قد شاركه فيه غيره ، مثل كونه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، ومثل استخلافه وكونه منه بمنزلة هارون من موسى ، ومثل كون عليّ مولى مَن النبي ( مولاه فإن كل مؤمن موالٍ لله ورسوله ، ومثل كون ((براءة )) لا يبلِّغها إلا رجل من بني هاشم ؛ فإن هذا يشترك فيه جميع الهاشميين ، لما رُوى أن العادة كانت جارية بأن لا ينقض العهود ولا يحلّها إلا رجل من قبيلة المطاع .
(فصل)
قال الرافضي : (( ومنها ما رواه أخطب خوارزم عن النبي ( أنه قال : يا عليّ لو أن عبداً عبد الله عز وجل مثل ما قام نوح في قومه ، وكان له مثل أُحُد ذهباً فأنفقه في سبيل الله ، ومدّ في عمره حتى حج ألف عام على قدميه ، ثم قُتل بين الصفا والمروة مظلوما ، ثم لم يوالك يا علي، لم يشم رائحة الجنة ولم يدخلها .
وقال رجل لسلمان : ما أشدّ حبك لعليّ . قال : سمعت رسول الله (يقول : من أحب عليًّا فقد أحبني ، ومن أبغض عليًّا فقد أبغضني . وعن أنس قال : قال رسول الله (: (( خلق الله من نور وجه عليّ سبعين ألف مَلَك يستغفرون له ولمحبيه إلى يوم القيامة)) .
__________
(1) انظر البخاري ج1 ص96 – 97 وج5 ص 4 ص 1855.(173/375)
وعن ابن عمر قال : قال رسول الله (: من أحب عليًّا قبل الله عنه صلاته وصيامه وقيامه واستجاب دعاءه . ألا ومن أحب عليًّا أعطاه الله بكل عرق من بدنه مدينة في الجنة : ألا ومن أحب آل محمد أمن من الحساب والميزان والصراط . ألا ومن مات على حب آل محمد فأنا كفيله في الجنة مع الأنبياء ألا ومن أبغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه : ((آيس من رحمة الله )).
وعن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله ( يقول : من زعم أنه آمن بي وبما جئت به وهو يبغض عليًّا فهو كاذب ليس بمؤمن .
وعن أبي برزة قال: قال رسول الله ( ونحن جلوس ذات يوم : والذي نفسي بيده لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأله الله تبارك وتعالى عن أربع: عن عمره فيمَ أفناه ، وعن جسده فيمَ أبلاه ، وعن ماله ممَّ اكتسبه وفيمَ أنفقه ، وعن حُبنا أهل البيت . فقال له عمر : فما آية حبكم من بعدكم ؟ فوضع يده على رأس عليّ بن أبي طالب وهو إلى جانبه فقال : إن حبي من بعدي حب هذا .
وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( وقد سئل : بأي لغة خاطبك ربك ليلة المعراج ؟ فقال : خاطبني بلغة عليّ ، فألهمني أن قلت : يا رب خاطبتني أم عليّ ؟ فقال : يا محمد أنا شيء لست كالأشياء ، لا أقاس بالناس ولا أوصف بالأشياء ، خلقتك من نوري وخلقت عليًّا من نورك فاطلعت عَلَى سرائر قلبك ، فلم أجد إلى قلبك أحبَّ من عليّ ، فخاطبتك بلسانه كيما يطمئن قلبك .
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله (: لو أن الرياض أقلام ، والبحر مداد ، والجنّ حسّاب ، والإنس كتّاب ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب .(173/376)
وبالإسناد قال :قال رسول الله (: إن الله تعالى جعل الأجر عَلَى فضائل عليّ لا يُحصى كثرة ، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرًّا بها غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، ومن كتب فضيلة من فضائله لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم ، ومن استمع فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع ، ومن نظر إلى كتاب من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر ، ثم قال : النظر إلى وجه أمير المؤمنين عليّ عبادة ، وذكره عبادة ، لا يقبل الله إيمان عبدٍ إلاّ بولايته والبراءة من أعدائه .
وعن حكيم بن حزام عن أبيه عن جده عن النبي (أنه قال : لَمُبارزة عليّ لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة .
وعن سعد بن أبي وقاص قال : أمر معاوية بن أبي سُفيان سعداً بالسبّ فأبى ، فقال : ما منعك أن تسبّ عليّ بن أبي طالب ؟ قال : ثلاث قالهن رسول الله ( فلن أسبّه ، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم : سمعت رسول الله ( يقول لعليّ وقد خلّفه في بعض مغازيه ، فقال له عليٌّ : تخلفني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله (: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ إلا أنه لا نبي بعدي . وسمعته يقول يوم خيبر : لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله . قال : فتطاولنا فقال : ادعوا لي عليًّا ، فأتاه وبه رمد ، فبصق في عينيه و دفع الراية إليه ، ففتح الله عليه . وأنزلت هذه الآية : { فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبنَاءَكُمْ } (1). دعا رسول الله ( عليًّا وفاطمة والحسن والحسين فقال : ((هؤلاء أهلي)).
__________
(1) الآية 61 من سورة آل عمران .(173/377)
والجواب : أن أخطب خوارزم هذا له مصنّف في هذا الباب فيه من الأحاديث المكذوبة ما لا يخفى كذبه على من له أدنى معرفة بالحديث ، فضلاً عن علماء الحديث ، وليس هو من علماء الحديث ولا ممن يُرجع إليه في هذا الشأن البتة . وهذه الأحاديث مما يعلم أهل المعرفة بالحديث أنها من المكذوبات . وهذا الرجل قد ذكر أنه يذكر ما هو صحيح عندهم ، ونقلوه في المعتمد من قولهم وكتبهم ، فكيف يذكر ما أجمعوا على أنه كذب موضوع ، ولم يُرو في شيء من كتب الحديث المعتمدة ، ولا صححه أحد من أئمة الحديث .
فالعشرة الأول كلها كذب إلى آخر حديث : قتله لعمرو بن عبد ودّ . وأما حديث سعد لما أمره معاوية بالسبّ فأبى ، فقال : ما منعك أن تسبّ عليّ بن أبي طالب ؟ فقال : ثلاث قالهن رسول الله ( فلن أسبّه ، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إليَّ من حمر النعم.. الحديث . فهذا صحيح رواه مسلم في صحيحه(1)
__________
(1) انظر مسلم ج4 ص 1871 .(173/378)
وفيه ثلاث فضائل لعليِّ لكن ليست من خصائص الأئمة ولا من خصائص عليّ ، فإن قوله وقد خلّفه في بعض مغازيه فقال له عليّ : يا رسول الله تخلّفني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله (: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ ألا أنه لا نبي بعدي ، ليس من خصائصه ؛ فإنه استخلف عَلَى المدينة غير واحد ، ولم يكن هذا الاستخلاف أكمل من غيره . ولهذا قال له عليّ : أتخلفني مع النساء والصبيان ؟ لأن النبي ( كان في كل غزاة يترك بالمدينة رجالا من المهاجرين والأنصار ، إلا في غزوة تبوك فإنه أمر المسلمين جميعهم بالنفير ، فلم يتخلف بالمدينة إلا عاصٍ أو معذور غير النساء والصبيان . ولهذا كره عليّ الاستخلاف ، وقال : أتخلفني مع النساء والصبيان ؟ يقول تتركني مخلفا لا تستصحبني معك ؟ فبيّن له النبي (أن الاستخلاف ليس نقصا ولا غضاضة ؛ فإن موسى استخلف هارون على قومه لأمانته عنده ، وكذلك أنت استخلفتك لأمانتك عندي ، لكن موسى استخلف نبيًّا وأنا لا نبي بعدي . وهذا تشبيه في أصل الاستخلاف ، فإن موسى استخلف هارون على جميع بني إسرائيل ، والنبي ( استخلف عليًّا على قليل من المسلمين ،وجمهورهم استصحبهم في الغزاة. وتشبيه بهارون ليس بأعظم من تشبيه أبي بكر وعمر : هذا بإبراهيم وعيسى ، وهذا بنوح وموسى ؛ فإن هؤلاء الأربعة أفضل من هارون ، وكل من أبي بكر وعمر شبه باثنين لا بواحد ؛ فكان هذا التشبيه أعظم من تشبيه عليّ ، مع أن استخلاف عليّ له فيه أشباه وأمثال من الصحابة .
(فصل)(173/379)
قال الرافضي : (( وعن عامر بن واثلة قال : كنت مع عليّ عليه السلام يوم الشورى يقول لهم : لأحتجنّ عليكم بما لا يستطيع عربيّكم ولا عجميّكم تغيير ذلك ، ثم قال : أنشدكم بالله أيها النفر جميعا ، أفيكم أحد وحّد الله تعالى قبلي ؟ قالوا اللهم لا . قال : فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له أخ مثل أخي جعفر الطيَّار في الجنة مع الملائكة غيري ؟ قالوا : اللهم لا . قال : فأنشدكم بالله : هل فيكم أحد له عمّ مثل عمي حمزة أسد الله وأسد رسوله سيد الشهداء غيري ؟ قالوا : اللهم لا . قال : فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت محمد سيدة نساء أهل الجنة غيري ؟ قالوا : اللهم لا . قال : فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له سبطان مثل سبطيّ الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة غيري ؟ قالوا : اللهم لا . قال : فأنشدكم بالله هل فيكم أحد ناجى رسول الله (عشر مرات قدّم بين يدي نجواه صدقة غيري ؟ قالوا: اللهم لا . قال : فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله (: من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، ليبلغ الشاهد الغائب غيري ؟ قالوا : اللهم لا . قال : فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله (: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإليّ يأكل معي من هذا الطير ، فأتاه فأكل معه غيري؟ قالوا : اللهم لا . قال : فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله (: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه إذ رجع غيري منهزما غيري؟ قالوا : اللهم لا . قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله (لبني وكيعة : لتنتهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلا نفسه كنفسي وطاعته كطاعتي ، ومعصيته كمعصيتي يفصلكم بالسيف غيري ؟ قالوا : اللهم لا . قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله ( كذب من زعم أنه يحبني ويبغض هذا غيري ؟ قالوا : اللهم لا . قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد سلَّم(173/380)
عليه في ساعة واحدة ثلاثة آلاف من الملائكة : جبرائيل وميكائيل وإسرافيل حيث جئت بالماء إلى رسول الله ( من القليب غيري ؟ قالوا:اللهم لا . قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد نودي به من السماء: لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتى إلا عليّ غيري؟ قالوا : اللهم لا . قال : قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له جبريل هذه هي المواساة ، فقال له رسول الله (: إنه مني وأنا منه . فقال جبريل : وأنا منكما غيري؟ قالوا : اللهم لا . قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، على لسان النبي (غيري ؟ قالوا: اللهم لا . قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله (: إني قاتلت على تنزيل القرآن وأنت تقاتل على تأويله غيري ؟ قالوا : اللهم لا . قال : فأنشدكم بالله هل فيكم أحد رُدّت عليه الشمس حتى صلى العصر في وقتها غيري ؟ قالوا : اللهم لا . قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد أمره رسول الله (أن يأخذ ((براءة )) من أبي بكر، فقال له أبو بكر : يا رسول الله أنزل فيّ شيء ؟ فقال له رسول الله (: إنه لا يؤدّي عني إلا عليّ غيري ؟ قالوا : اللهم لا .
قال:فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق كافر غيري؟ قالوا : اللهم لا .
قال:فأنشدكم بالله هل تعلمون أنه أمر بسدّ أبوابكم وفتح بابي فقلتم في ذلك ، فقال رسول الله (: ما أنا سددت أبوابكم ولا فتحت بابه ، بل الله سد أبوابكم وفتح بابه غيري؟ قالوا : اللهم لا .
قال:فأنشدكم بالله أتعلمون أنه ناجاني يوم الطائف دون الناس فأطال ذلك ، فقلتم : ناجاه دوننا ، فقال : ما أنا انتجيته بل الله انتجاه غيري ؟ قالوا : اللهم نعم .
قال:فأنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله ( قال : الحق مع عليّ وعليّ مع الحق يزول الحق مع عليّ كيفما زال ؟ قالوا : اللهم نعم .(173/381)
قال:فأنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله ( قال : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لن تضلوا ما استمسكتم بهما ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ؟ قالوا : اللهم نعم .
قال:فأنشدكم بالله هل فيكم أحد وقى رسول الله ( بنفسه من المشركين واضطجع في مضجعه غيري ؟ قالوا : اللهم لا .
قال:فأنشدكم بالله هل فيكم أحد بارز عمر بن عبد ودّ العامري حيث دعاكم إلى البراز غيري ؟ قالوا : اللهم لا.
قال:فأنشدكم بالله هل فيكم أحد نزل فيه آية التطهير حيث يقول { إِنّمَا يُريدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيًرا } (1)غيري ؟ قالوا : اللهم لا.
قال:فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت سيد المؤمنين غيري؟ قالوا : اللهم لا .
قال:فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما سألت الله شيئا إلا وسألت لك مثله غيري ؟ قالوا : اللهم لا .
ومنها ما رواه أبو عمرو الزاهد عن ابن عباس قال : لعليّ أربع خصال ليست لأحد من الناس غيره ، هو أوّل عربي وعجمي صلّى مع النبي (، وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحف ، وهو الذي صبر معه يوم حنين، وهو الذي غسَّله وأدخله قبره .
__________
(1) الآية 33 من سورة الأحزاب .(173/382)
وعن النبي ( قال : مررت ليلة المعراج بقوم تُشرشر أشداقهم ، فقلت: يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : قوم يقطعون الناس بالغيبة . قال : ومررت بقوم وقد ضوضؤا ، فقلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الكفار. قال : ثم عدلنا عن الطريق فلما انتهينا إلى السماء الرابعة رأيت عليّا يصلّي ، فقلت : يا جبريل هذا عليّ قد سبقنا . قال : لا ليس هذا عليًّا . قلت : فمن هو ؟ قال : إن الملائكة المقرَّبين والملائكة الكروبيين لما سمعت فضائل عليّ وخاصته وسمعت قولك فيه : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، اشتاقت إلى عليّ ، فخلق الله تعالى مَلَكا على صورة عليّ ، فإذا اشتاقت إلى عليّ جاءت إلى ذلك المكان ، فكأنها قد رأت عليًّا .
وعن ابن عباس قال : إن المصطفى ( قال : ذات يوم وهو نشيط : أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى . قال : فقوله : أنا الفتى ، يعني هو فتى العرب، وقوله ابن الفتى، يعني إبراهيم من قوله تعالى: { سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } (1)، وقوله أخو الفتى ، يعني عليًّا ، وهو معنى قول جبريل في يوم بدر وقد عرج إلى السماء وهو فرح وهو يقول : لا سيف إلا ذو الفقار ولافتى إلا عليّ.
وعن ابن عباس قال: رأيت أبا ذر وهو متعلق بأستار الكعبة وهو يقول من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر ، لو صمتم حتى تكونوا كالأوتار ، وصليتم حتى تكونوا كالحنايا ، ما نفعكم ذلك حتى تحبوا عليًّا )).
والجواب : أما قوله عن عامر بن واثلة وما ذكره يوم الشورى ، فهذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، ولم يقل علي ّ( يوم الشورى شيئا من هذا ولا ما يشابهه ، بل قال له عبد الرحمن بن عوف ( : لئن أمرتك لتعدلنّ ؟ قال : نعم . قال : وإن بايعت عثمان لتسمعن وتطيعن ؟ قال : نعم . وكذلك قال لعثمان . ومكث عبد الرحمن ثلاثة أيام يشاور المسلمين .
__________
(1) الآية 60 من سورة الأنبياء(173/383)
ففي الصحيحين 0 وهذا لفظ البخاري(1) - عن عمرو بن ميمون في مقتل عمر بن الخطاب ( : (( فلما فُرغَ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن : اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم . قال الزبير : قد جعلت أمري إلى عليّ . وقال طلحة : قد جعلت أمري إلى عثمان . وقال سعد : قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن . فقال عبد الرحمن : أيكم تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه ؟ فأُسْكِتَ الشيخان . فقال عبد الرحمن : أتجعلونه إليَّ والله عَلَيَّ أن لا آلو عن أفضلكم . قالا : نعم ، فأخذ بيد أحدهما فقال : لك قرابة من رسول الله ( والقدم في الإسلام ما قد علمت ، فالله عليك لئن أمَّرتك لتعدلن ولئن أمَّرت عليك لتسمعن ولتطيعن . ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك ، فلما أخذ الميثاق قال : ارفع يدك يا عثمان )) .
وفي هذا الحديث الذي ذكره الرافضي أنواع من الأكاذيب التي نزّه الله عليًّا عنها ، مثل احتجاجه بأخيه وعمه وزوجته ، وعليّ( أفضل من هؤلاء ، وهو يعلم أن أكرم الخلق عند الله أتقاهم . ولو قال العباس : هل فيكم مثل أخي حمزة ومثل أولاد إخوتي محمد وعلي وجعفر ؟! لكانت هذه الحجة من جنس تلك ، بل احتجاج الإنسان ببني إخوته أعظم من احتجاجه بعمه . ولو قال عثمان : هل فيكم من تزوج بنتَى نبي لكان من جنس قول القائل : هل فيكم من زوجته كزوجتي ؟ وكانت فاطمة قد ماتت قبل الشورى كما ماتت زوجتا عثمان ، فإنها ماتت بعد موت النبي (
بنحو ستة أشهر .
وكذلك قوله : (( هل فيكم مَنْ له ولد كولدي ؟)) .
وفيه أكاذيب متعددة ، مثل قوله (( ما سألت الله شيئاً إلا وسألت لك مثله )) . وكذلك قوله : (( لا يؤدّي عني إلا عليّ )) من الكذب .
__________
(1) انظر البخاري ج5 ص 15 – 18 .(173/384)
وقال الخطابي في كتاب (( شعار الدين )) : ((وقوله : لا يؤدّي عني إلا رجل من أهل بيتي )) هو شيء جاء به أهل الكوفة عن زيد بن يُثَيْع ، وهو متهم في الرواية منسوب إلى الرفض . وعامة من بلّغ عنه غير أهل بيته ، فقد بعث رسول الله ( أسعد بن زرارة إلى المدينة يدعوا الناس إلى الإسلام ، ويعلّم الأنصار القرآن ، ويفقههم في الدين . وبعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين في مثل ذلك ، وبعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن ، وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة . فأين قول من زعم أنه لا يبلِّغ عنه إلا رجل من أهل بيته ؟!
وأما حديث ابن عباس ففيه أكاذيب : منها قوله : كان لواؤه معه في كل زحف ، فإن هذا من الكذب المعلوم ، إذ لواء النبي (كان يوم أُحد مع مصعب بن عمير باتفاق الناس ، ولواؤه يوم الفتح كان مع الزبير بن العوام ، وأمره رسول الله ( أن يركز رايته بالحجون ، فقال العباس للزبير بن العوام: أهاهنا أمرك رسول الله (أن تركز الراية ؟ أخرجه البخاري في صحيحه(1) .
وكذلك قوله : (( وهو الذي صبر معه يوم حُنين )) .
__________
(1) انظر البخاري ج5 ص 121 .(173/385)
وقد عُلم أنه لم يكن أقرب إليه من العباس بن عبد المطلب ، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، والعباس آخذ بلجام بغلته ، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابه ، وقال له النبي (: (( ناد أصحاب السمرة )) قال : فقلت بأعلى صوتي : أين أصحاب السمرة ؟ فوالله كأن عطفتهم عليّ حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ، فقالوا : يالبيك يالبيك . والنبي (يقول : (( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب )) ونزل عن بغلته وأخذ كفًّا من حصى فرمى بها القوم وقال : (( انهزموا ورب الكعبة )) قال العباس : (( فوالله ما هو إلا أن رماهم فمازلت أرى حدّهم كليلا وأمرهم مدبرا ، حتى هزمهم الله)) أخرجاه في الصحيحين . وفي لفظ البخاري قال : (( وأبو سفيان آخذ بلجام بغلته )) وفيه : (( قال العباس: لزمت أنا وأبو سفيان رسول الله (يوم حُنين فلم نفارقه))(1).
وأما غُسله (وإدخاله قبره ، فاشترك فيه أهل بيته ، كالعباس وأولاده، ومولاه شقران ، وبعض الأنصار، لكن عليٌّ كان يباشر الغسل ، والعباس حاضر لجلالة العباس ، وأن عليًّا أولاهم بمباشرة ذلك .
وكذلك قوله : (( هو أوّل عربي وعجمي صلّى )) يناقض ما هو المعروف عن ابن عباس .
(فصل)
وأما حديث المعراج وقوله فيه : إن الملائكة المقرَّبين والملائكة الكروبيين لما سمعت فضائل عليّ وخاصته وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ )) اشتاقت إلى علي فخلق الله لها مَلَكاً على صورة عليّ )) .
__________
(1) رواه البخاري في أماكن متعددة وانظر المغازى الباب 56 ، ومسلم : ج3 ص 1398 .(173/386)
فالجواب : أن هذا من كذب الجُهّال الذين لا يحسنون أن يكذبوا ، فإن المعراج كان بمكة قبل الهجرة بإجماع الناس ، كما قال تعالى : { ُسبحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير } (1) . وكان الإسراء من المسجد الحرام .
وقال : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم وَمَا غَوَى.وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } (2) إلى قوله : { َ أفتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى .عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } (3)إلى قوله تعالى: { أَفَرَأَيْتُم الَّلات َوَالْعُزَّى } (4).وهذا كله نزل بمكة بإجماع الناس .
وقوله : (( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ )) قاله في غزوة تبوك ، وهي آخر الغزوات عام تسعٍ من الهجرة . فكيف يُقال : إن الملائكة ليلة المعراج سمعوا قوله : (( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟))
(فصل)
وكذلك الحديث المذكور عن ابن عباس : أن المصطفى ( قال ذات يوم وهو نشيط :(( أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى )) قال : فقوله : أنا الفتى: يعني فتى العرب ، وقوله : ابن الفتى ، يعني إبراهيم الخليل صلوات الله عليه ، من قوله : { َ سمعنا فتىً يَذْكُرُهُم يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيم } (5)، وقوله أخو الفتى : يعني عليًّا ، وهو معنى قول جبريل في يوم بدر وقد عرج إلى السماء وهو فرح وهو يقول: لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتى إلا عليّ)) .
__________
(1) الآية 1 من سورة الإسراء .
(2) الآيات من1 – 4 من سورة النجم .
(3) الآيات من 12- 14 من سورة النجم .
(4) الآية 19 من سورة النجم .
(5) الآية 60 من سورة الأنبياء .(173/387)
فإن هذا الحديث من الأحاديث المكذوبة الموضوعة باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، وكذبه معروف من غير جهة الإسناد من وجوه .
منها :أن لفظ ((الفتى )) في الكتاب والسنّة ولغة العرب ليس هو من أسماء المدح ، كما ليس هو من أسماء الذم ، ولكنه بمنزلة اسم الشاب والكهل والشيخ ونحو ذلك ، والذين قالوا عن إبراهيم : سمعنا فتى يذكرهم يُقال له إبراهيم ، هم الكفار ،ولم يقصدوا مدحه بذلك ، وإنما الفتى كالشاب الحَدَث .
ومنها : أن النبي (أجلُّ من أن يفتخر بجده ، وابن عمه .
ومنها: أن النبي (لم يؤاخ عليًّا ولا غيره ، وحديث المؤاخاة لعليّ ، ومؤاخاة أبي بكر لعمر من الأكاذيب . وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار ، ولم يؤاخ بين مهاجريّ ومهاجريّ.
ومنها: أن هذه المناداة يوم بدر كذب .
ومنها : أن ذا الفقار لم يكن لعليّ ، وإنما كان سيفا من سيوف أبي جهل غنمه المسلمون منه يوم بدر ، فلم يكن يوم بدر ذو الفقار من سيوف المسلمين ، بل من سيوف الكفّار ، كما روى ذلك أهل السنن . فروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس أن النبي ( تنفل سيفه ذا الفَقَار يوم بدر(1) .
ومنها : أن النبي ( كان بعد النبوة كهلا قد تعدّى سن الفتيان .
(فصل)
وأما حديث أبي ذر الذي رواه الرافضي فهو موقوف عليه ليس مرفوعا ، فلا يحتج به ، مع أن نقله عن أبي ذر فيه نظر ، ومع هذا فحب عليّ واجب ،وليس ذلك من خصائصه ، بل علينا أن نحبه ، كما علينا أن نحب عثمان وعمر وأبا بكر ، وأن نحب الأنصار .
ففي الصحيح عن النبي (أنه قال : ((آية الإيمان حب الأنصار ، وآية النفاق بغض الأنصار ))(2) وفي صحيح مسلم عن عليّ( أنه قال : (( إنه لعهد النبي الأمّي إليّ أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ))(3).
__________
(1) انظر سنن الترمذي ج3 ص 60-61 وسنن ابن ماجة ج2 ص 939 والمسند ج4 ص146 –147 تحقيق أحمد شاكر .
(2) انظر البخاري ج1 ص9 ومسلم ج1 ص85 .
(3) انظر مسلم ج1 ص86 وتقدم .(173/388)
(فصل)
قال الرافضي : (( ومنها ما نقله صاحب (( الفردوس )) في كتابه عن معاذ بن جبل عن النبي (أنه قال : (( حب عليّ حسنة لا تضر معها سيئة وبغضه سيئة لا ينفع معها حسنة )).
والجواب : أن كتاب ((الفردوس )) فيه من الأحاديث الموضوعات ما شاء الله ، ومصنفه شيرويه بن شهردار الديلمي وإن كان من طلبة الحديث ورواته ، فإن هذه الأحاديث التي جمعها وحذف أسانيدها ، نقلها من غير اعتبار لصحيحها وضعيفها وموضوعها ؛ فلهذا كان فيه من الموضوعات أحاديث كثيرة جداً .
وهذا الحديث مما يشهد المسلم بأن النبي ( لا يقوله؛ فإن حب الله ورسوله أعظم من حب عليّ ، والسيئات تضر مع ذلك . وقد قال النبي (يضرب عبد الله بن حمار في الخمر ، وقال: (( إنه يحب الله ورسوله )).وكل مؤمن فلابد أن يحب الله ورسوله ، والسيئات تضره . وقد أجمع المسلمون وعُلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الشرك يضر صاحبه ولا يغفره الله لصاحبه ، ولو أحب عليّ بن أبي طالب ؛ فإن أباه أبا طالب كان يحبه وقد ضره الشرك حتى دخل النار ، والغالية يقولون إنهم يحبونه وهم كفّار من أهل النار .
وبالجملة فهذا القول كفر ظاهر يُستتاب صاحبه ، ولا يجوز أن يقول هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر.
وكذلك قوله : (( وبغضه سيئة لا ينفع معها حسنة )) فإن من أبغضه إن كان كافرا فكفره هو الذي أشقاه ، وإن كان مؤمنا نفعه إيمانه وإن أبغضه .
وكذلك الحديث الذي ذكره عن ابن مسعود أن النبي ( قال : (( حب آل محمد يوماً خير من عبادة سنة ، ومن مات عليه دخل الجنة . وقوله عن عليّ : أنا وهذا حجة الله على خلقه –هما حديثان موضوعان عند أهل العلم بالحديث . وعبادة سنة فيها الإيمان والصلوات الخمس كل يوم وصوم شهر رمضان ، وقد أجمع المسلمون على أن هذا لا يقوم مقامه حب آل محمد شهراً ، فضلا عن حبهم يوما .(173/389)
وكذلك حجة الله على عباده قامت بالرسل فقط . كما قال تعالى: { لئلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل } (1).ولم يقل : بعد الرسل والأئمة أو الأوصياء أو غير ذلك .
وكذلك قوله: (( لو اجتمع الناس عَلَى حب عليّ لم يخلق الله النار )) من أبين الكذب باتفاق أهل العلم والإيمان ، ولو اجتمعوا على حب عليّ لم ينفعهم ذلك حتى يؤمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويعملوا صالحا ، وإذا فعلوا ذلك دخلوا الجنة ، وإن لم يعرفوا عليًّا بالكلية ، ولم يخطر بقلوبهم لا حبه ولا بغضه .
(فصل)
وكذلك الحديث الذي ذكره في العهد الذي عهده الله في علي، وأنه راية الهدى وإمام الأولياء ، وهو الكلمة التي ألزمها للمتقين … الخ .
فإن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث والعلم . ومجرد رواية صاحب (( الحلية )) ونحوه لا تفيد ولا تدل على الصحة ؛ فإن صاحب ((الحلية )) قد روى في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ والأولياء وغيرهم أحاديث ضعيفة بل موضوعة باتفاق العلماء ، وهو وأمثاله من الحفاظ الثقات أهل الحديث ثقات فيما يروونه عن شيوخهم، لكن الآفة ممن هو فوقهم. ... وكذلك حديث عمَّار وابن عباس كلاهما من الموضوعات .
(فصل)
قال الرافضي : (( وأما المطاعن في الجماعة فقد نقل الجمهور منها أشياء كثيرة : حتى صنَّف الكلبي كتابا ((في مثالب الصحابة )) ولم يذكر فيه منقصة واحدة لأهل البيت )) .
__________
(1) الآية 165 من سورة النساء .(173/390)
والجواب أن يقال : قبل الأجوبة المفصلة عن ما يُذكر من المطاعن أن ما يُنقل عن الصحابة من المثالب فهو نوعان : أحدهما : ما هو كذب : إما كذب كله ، وإما محرَّف قد دخله من الزيادة والنقصان ما يُخرجه إلى الذم والطعن . وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب يرويها الكذّابون المعروفون بالكذب ، مثل أبي مخنف لوط بن يحيى ،ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي وأمثالهما من الكذّابين . ولهذا استشهد هذا الرافضي بما صنّفه هشام الكلبي في ذلك ، وهو من أكذب الناس ، وهو شيعي يروى عن أبيه وعن أبي مخنف ، وكلاهما متروك كذّاب .
النوع الثاني : ما هو صدق . وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوبا ،وتجعلها من موارد الاجتهاد ، التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر . وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب ، وما قُدِّر من هذه الأمور ذنبا محققا فإن ذلك لا يقدح فيما عُلم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الجنة ، لأن الذنب المحقق يرتفع عقابه في الآخرة بأسباب متعددة .
منها : التوبة الماحية . وقد ثبت عن أئمة الإمامية أنهم تابوا من الذنوب المعروفة عنهم .
ومنها : الحسنات الماحية للذنوب ؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات . وقد قال تعالى : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرُ عَنْكُم سَيِّئَاتِكُم } (1).
ومنها : المصائب المكفِّرة .
ومنها : دعاء المؤمنين بعضهم لبعض ، وشفاعة نبيهم ، فما من سبب يسقط به الذم والعقاب عن أحد من الأمة إلا والصحابة أحق بذلك ، فهم أحق بكل مدح ،ونفي كل ذم ممن بعدهم من الأمة .
__________
(1) الآية 31 من سورة النساء .(173/391)
قال الرافضي : (( وقد ذكر غيره منها أشياء كثيرة ، ونحن نذكر منها شيئا يسيرا . منها ما رووه عن أبي بكر أنه قال على المنبر : إن النبي ( كان يعتصم بالوحي ، وإن لي شيطانا يعتريني ، فإن استقمت فأعينوني ، فإن زغت فقوموني ، وكيف يجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه ، مع أن الرعية تحتاج إليه ؟)).
والجواب أن يقال : هذا الحديث من أكبر فضائل الصديق( وأدلها على أنه لم يكن يريد علوًا في الأرض ولا فسادا ، فلم يكن طالب رياسة ،ولا كان ظالما ، وإنه إنما كان يأمر الناس بطاعة الله ورسوله فقال لهم : إن استقمت على طاعة الله فأعينوني عليها ، وإن زغت عنها فقوّموني . كما قال أيضا : أيها الناس … أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم .
والشيطان الذي يعتريه يعتري جميع بني آدم ؛ فإنه ما من أحد إلا وقد وكَّل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن .
ومقصود الصديق بذلك: إني لست معصوماً كالرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا حق. وقول القائل:كيف تجوز إمامة من يستعين على تقويمه بالرعية؟كلام جاهل بحقيقة الإمامة.فإن الإمام ليس هو ربًّا لرعيته حتى يستغني عنهم، ولا هو رسول الله إليهم حتى يكون هو الواسطة بينهم وبين الله. وإنما هو والرعية شركاء يتعاونون هم وهو على مصلحة الدين والدنيا؛ فلا بد له من إعانتهم ، ولا بد لهم من إعانته ، كأمير القافلة الذي يسير بهم في الطريق : إن سلك بهم الطريق اتّبعوه ، وإن أخطأ عن الطريق نبّهوه وأرشدوه، وإن خرج عليهم صائل يصول عليهم تعاون هو وهم على دفعه . لكن إذا كان أكملهم علما وقدرة ورحمة كان ذلك أصلح لأحوالهم .
(فصل)
قال الرافضي : ((وقال : أقيلوني فلست بخيركم ، وعليٌّ فيكم . فإن كانت إمامته حقًّا كانت استقالته منها معصية ، وإن كانت باطلة لزم الطعن )).
والجواب : أن هذا كذب ، ليس فيه شيء من كتب الحديث ، ولا له إسناد معلوم .(173/392)
فإنه لم يقل ((وعليٌّ فيكم ))بل الذي ثبت عنه في الصحيح أنه قال يوم السقيفة : بايعوا أحد هذين الرجلين : عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح . فقال له عمر : بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله (. قال عمر : كنت والله لأن أُقدَّم فتُضرب عنقي ، لا يقرّبني ذلك إلى إثم، أحب إليّ من تأمُّري على قوم فيهم أبو بكر(1) .
ثم لو قال : (( وعليٌّ فيكم )) لاستخلفه مكان عمر ؛ فإن أمره كان مطاعا.
وأما قوله : (( إن كانت إمامته حقًّا كانت استقالته منها معصية )) .
فيقال : إن ثبت أنه قال ذلك ، فإن كونها حقا إما بمعنى كونها جائزة ، والجائز يجوز تركه . وإما بمعنى كونها واجبة إذا لم يولّوا غيره ولم يقيلوه . وأما إذا أقالوه وولُّوا غيره لم تكن واجبة عليه .
والإنسان قد يعقد بيعا أو إجارة ، و يكون العقد حقا ، ثم يطلب الإقالة، وهو لتواضعه و ثقل الحمل عليه قد يطلب الإقالة ، و إن لم يكن هناك من هو أحق بها منه . و تواضع الإنسان لا يسقط حقه .
(فصل)
قال الرافضي : (( وقال عمر : كانت بيعة أبي بكر فَلْتة وقى الله المسلمين شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه . ولو كانت إمامته صحيحة لم يستحق فاعلها القتل ، فيلزم تطرق الطعن إلى عمر . وإن كانت باطلة ، لزم الطعن عليهما معا )) .
والجواب : أن لفظ الحديث سيأتي . قال فيه : (( فلا يغترن امرؤ أن يقول : (( إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت . ألا وإنّها قد كانت كذلك ، ولكن وقى اللهُ شرَّها ، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر )) . ومعناه أن بيعة أبي بكر بودر إليها من غير تريث ولا انتظار ، لكونه كان متعيّنا لهذا الأمر . كما قال عمر : (( ليس فيكم من تُقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر )).
__________
(1) تقدم تخريجه ص93 وسيأتي ص 407 وتخريجه هناك .(173/393)
وكان ظهور فضيلة أبي بكر على من سواه ، وتقديم رسول الله ( له على سائر الصحابة أمراً ظاهرا معلوما . فكانت دلالة النصوص على تعيينه تُغنى عن مشاورة وانتظار وتريث ، بخلاف غيره ؛ فإنه لا تجوز مبايعته إلا بعد المشاورة والانتظار والتريث . فمن بايع غير أبي بكر عن غير انتظار وتشاور لم يكن له ذلك .
(فصل)
قال الرافضي : (( وقال أبو بكر عند موته : ليتني كنت سألت رسول الله ( هل للأنصار في هذا الأمر حق ؛ وهذا يدل على أنه في شكٍ من إمامته ولم تقع صوابا )) .
والجواب : أن هذا كذب على أبي بكر( ، وهو لم يذكر له إسنادا .ومعلوم أن من احتج في أي مسألة كانت بشيء من النقل ، فلابد أن يذكر إسنادا تقوم به الحجة . فكيف بمن يطعن في السابقين الأوّلين بمجرد حكاية لا إسناد لها ؟
ثم يقال : هذا يقدح فيما تدّعونه من النص على عليّ ؛ فإنه لو كان قد نصّ على عليّ لم يكن للأنصار فيه حق ، ولم يكن في ذلك شك .
(فصل)
قال الرافضي : ((وقال عند احتضاره : ليت أمي لم تلدني ! يا ليتني كنت تبنة في لبنة . مع أنهم قد نقلوا عن النبي ( أنه قال : ما من محتضر يحتضر إلا ويرى مقعده من الجنة والنار )).
والجواب : أن تكلمه بهذا عند الموت غير معروف ، بل هو باطل بلا ريب . بل الثابت عنه أنه لما احتُضر ، وتمثلت عنده عائشة بقول الشاعر :
لعُمرك ما يغني الثراءُ عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بهاالصدرُ
فكشف عن وجهه ، وقال : ليس كذلك ، ولكن قولي : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } (1).
__________
(1) الآية 19 من سورة ق.(173/394)
ولكن نقل عنه أنه قال في صحته : ليت أمي لم تلدني ! ونحو هذا قاله خوفاً – إن صح النقل عنه . ومثل هذا الكلام منقول عن جماعة أنهم قالوه خوفاً وهيبة من أهوال يوم القيامة ، حتى قال بعضهم : لو خُيِّرت بين أن أحاسب وأدخل الجنة ، وبين أن أصير ترابا، لاخترت أن أصير ترابا . وروى الإمام أحمد عن أبي ذر أنه قال : والله لوددت أني شجرة تعضد .
(فصل)
قال الرافضي : (( وقال أبو بكر : ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت بيدي على يد أحد الرجلين ، فكان هو الأمير وكنت الوزير )). قال : ((وهو يدل على أنه لم يكن صالحاً يرتضى لنفسه الإمامة )).
والجواب : أن هذا إن كان قاله فهو أدلّ دليل على أن عليًّا لم يكن هو الإمام ؛ وذلك أن قائل هذا إنما يقوله خوفاً من الله أن يضيع حق الولاية ، وأنه إذا ولَّى غيَره ، وكان وزيرا له ، كان أبرأ لذمته . فلو كان عليّ هو الإمام ، لكانت توليته لأحد الرجلين إضاعة للإمامة أيضا ، وكان يكون وزيرا لظالم غيره ، وكان قد باع آخرته بدنيا غيره . وهذا لا يفعله من يخاف الله ، ويطلب براءة ذمته .
(فصل)
قال الرافضي : (( وقال رسول الله (في مرض موته ، مرة بعد أخرى ، مكرراً لذلك : أنفذوا جيش أسامة ، لعن الله المتخلف عن جيش أسامة. وكان الثلاثة معه ، ومنع عمر أبو بكر من ذلك )).(173/395)
والجواب : أن هذا من الكذب المتفق على أنه كذب عند كل من يعرف السيرة ، ولم ينقل أحد من أهل العلم أن النبي (أرسل أبو بكر أو عثمان في جيش أسامة . وإنما رُوى ذلك في عمر . وكيف يرسل أبا بكر في جيش أسامة ، وقد استخلفه يصلّي بالمسلمين مدة مرضه . وكان ابتداء مرضه من يوم الخميس إلى الخميس إلى يوم الاثنين ، اثنى عشر يوما ، ولم يقدّم في الصلاة بالمسلمين إلا أبا بكر بالنقل المتواتر ، ولم تكن الصلاة التي صلاَّها أبو بكر بالمسلمين في مرض النبي ( صلاةً ولا صلاتين ، ولا صلاة يوم ولا يومين ، حتى يُظَنّ ما تدعيه الرافضة من التلبيس ، وأن عائشة قدّمته بغير أمره ، بل كان يصلِّي بهم مدة مرضه ؛ فإن الناس متفقون على أن النبي ( لم يصل بهم في مرض موته ولم يصل بهم إلا أبو بكر ، وعلى أنه صلّى بهم عدة أيام . وأقل ما قيل : أنّه صلّى بهم سبع عشرة صلاة ؛ صلَّى بهم صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة ، وخطب بهم يوم الجمعة . هذا ما تواترت به الأحاديث الصحيحة ، ولم يزل يصلّي بهم إلى فجر يوم الاثنين . صلَّى بهم صلاة الفجر ، وكشف النبي ( الستارة ، فرآهم يصلّون خلف أبي بكر ، فلما رأوه كادوا يفتنون في صلاتهم ، ثُم أرخى الستارة . وكان ذلك آخر عهدهم به، وتوفي يوم الاثنين حين اشتد الضحى قريبا من الزوال .
(فصل)
قال الرافضي : (( وأيضا لمْ يُوَلِّ النبي ( أبا بكر البتة عملا في وقته، بل ولَّى عليه عمرو بن العاص تارة وأسامة أخرى . ولما أنفذه بسورة ((براءة )) ردّه بعد ثلاثة أيام بوحي من الله ، وكيف يرتضي العاقل إمامة من لا يرتضيه النبي ( بوحي من الله لأداء عشر آيات من ((براءة ))؟!)).(173/396)
والجواب : أن هذا من أَبْيَن الكذب ؛ فإنه من المعلوم المتواتر عند أهل التفسير والمغازى والسير والحديث والفقه وغيرهم : أن النبي ( استعمل أبا بكر على الحج عام تسع ، وهو أول حج كان في الإسلام من مدينة رسول الله (، ولم يكن قبله حج في الإسلام ، إلا الحجة التي أقامها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية من مكة ؛ فإن مكة فتحت سنة ثمان ، وأقام الحج ذلك العام عتاب بن أسيد ، الذي استعمله النبي (على أهل مكة ثم أمّر أبا بكر سنة تسع للحج ، بعد رجوع النبي ( من غزوة تبوك ، وفيها أَمَر أبا بكر بالمناداة في الموسم : أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عُريان. ولم يؤمِّر النبي ( غير أبي بكر على مثل هذه الولاية ؛ فولاية أبي بكر كانت من خصائصه ، فإن النبي ( لم يؤمِّر على الحج أحدا كتأمير أبي بكر ، ولم يستخلف على الصلاة أحداً كاستخلاف أبي بكر ، وكان عليٌّ من رعيته في هذه الحجة ؛ فإنه لحقه فقال : أمير أو مأمور ؟ فقال عليّ: بل مأمور . وكان عليّ يصلّي خلف أبي بكر مع سائر المسلمين في هذه الولاية ، ويأتمر لأمره كما يأتمر له سائر من معه ، ونادى عليٌّ مع الناس في هذه الحجة بأمر أبي بكر .
وأما ولاية غير أبي بكر فكان يشاركه فيها غيره ، كولاية عليّ وغيره؛ فلم يكن لعليّ ولاية إلا ولغيره مثلها ، بخلاف ولاية أبي بكر ، فإنها من خصائصه ، ولم يولِّ النبي ( على أبي بكر لا أسامة بن زيد ولا عمرو بن العاص .
فأما تأمير أسامة عليه فمن الكذب المتفق على كذبه .
وأما قصة عمرو بن العاص ، فإن النبي ( كان أرسل عَمْراً في سرية ، وهي غزوة ذات السلاسل ، وكانت إلى بني عذرة ، وهم أخوال عمرو ، فأمَّر عمراً ليكون ذلك سبباً لإسلامهم ، للقرابة التي له منهم . ثم أردفه بأبي عبيدة ، ومعه أبو بكر وعمر و غيرهما من المهاجرين . و قال :(173/397)
(( تطاوعا ولا تختلفا )) فلما لحق عَمْراً قال : أصلّي بأصحابي وتصلّي بأصحابك . قال : بل أنا أصلّي بكم ؛ فإنما أنت مدد لي . فقال له أبو عبيدة : إن رسول الله ( أمرني أن أطاوعك ، فإن عصيتني أطعتك. قال : فإني أعصيك . فأراد عمرو أن ينازعه في ذلك ، فأشار عليه أبو بكر أن لا يفعل . ورأى أبو بكر أن ذلك أصلح للأمر ، فكانوا يصلّون خلف عمرو، مع علم كل أحد أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة أفضل من عمرو .
وأما قول الرافضي : إنه لما أنفذه ببراءة ردّه بعد ثلاثة أيام ؛ فهذا من الكذب المعلوم ؟أنه كذب . فإن النبي (لما أمَّر أبا بكر على الحج ، ذهب كما أمره ، وأقام الحج في ذلك العام ، عام تسع ، للناس ، ولم يرجع إلى المدينة حتى قضى الحج ، وأنفذ فيه ما أمره به النبي (، فإن المشركين كانوا يحجون البيت ، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ، وكان بين النبي ( وبين المشركين عهود مطلقة ، فبعث أبا بكر وأمره أن ينادي : أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عُريان. فنادى بذلك من أمره أبو بكر بالنداء ذلك العام ، وكان عليّ بن أبي طالب من جملة من نادى بذلك في الموسم بأمر أبي بكر ، ولكن لما خرج أبو بكر أردفه النبي ( بعليّ بن أبي طالب لينبذ إلى المشركين العهود .
قالوا : وكان من عادة العرب أن لا يعقد العهود ولا يفسخها إلا المطاع ، أو رجل من أهل بيته . فَبَعَث عليًّا لأجل فسخ العهود التي كانت مع المشركين خاصة ، لم يبعثه لشيء آخر . ولهذا كان عليّ يصلّي خلف أبي بكر ، ويدفع بدفعه في الحج ، كسائر رعية أبي بكر الذين كانوا معه في الموسم.
(فصل)
قال الرافضي: ((وقطع يسار سارق ، ولم يعلم أن القطع لليد اليمنى)).(173/398)
والجواب : أن قول القائل : إن أبا بكر يجهلُ هذا ، من أظهر الكذب . ولوقدِّر أن أبا بكركان يجيز ذلك ، لكان ذلك قولا سائغاً ؛ لأن القرآن ليس في ظاهره ما يعيِّن اليمين ، لكن تعيين اليمين في قراءة ابن مسعود : { فاقطعوا أيمانهما } وبذلك مضت السنة .ولكن أين النقل بذلك عن أبي بكر( أنه قطع اليسرى ؟ وأين الإسناد الثابت بذلك ؟ وهذه كتب أهل العلم بالآثار موجودة ليس فيها ذلك ، ولا نقل أهل العلم بالاختلاف ذلك قولا ، مع تعظيمهم لأبي بكر( .
(فصل)
قال الرافضي : (( وأحرق الفجاءة السلمى بالنار، وقد نهى النبي (عن الإحراق بالنار )).
الجواب : أن الإحراق بالنار عن عليّ أشهر وأظهر منه عن أبي بكر. وأنه قد ثبت في الصحيح أن عليًّا أُتِيَ بقوم زنادقة من غلاة الشيعة ، فحرَّقهم بالنار ، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال : لو كنت أنا لم أحرِّقهم بالنار ، لنهي النبي (أن يُعَذَّب بعذاب الله ، ولضربت أعناقهم ، لقول النبي (: (( من بدَّل دينه فاقتلوه )). فبلغ ذلك عليًّا فقال : ويح ابن أم الفضل ما أسقطه عَلَى الهنات(1) .
فعليّ حرق جماعة بالنار . فإن كان ما فعله أبو بكر منكراً ، ففعل عليّ أنكر منه ، وإن كان فعل عليّ مما لا يُنكر مثله على الأئمة ، فأبو بكر أوْلى أن لا يُنكر عليه .
(فصل)
قال الرافضي : (( وَخَفِيَ عليه أكثر أحكام الشريعة ، فلم يعرف حكم الكلالة ، وقال : أقول فيها برأيي ، فأن يك صوابا فمن الله ، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان . وقضى بالجد بسبعين قضية . وهو يدل على قصوره في العلم )).
والجواب : أن هذا من أعظم البهتان . كيف يخفى عليه أكثر أحكام الشريعة ، ولم يكن بحضرة النبي ( من يقضى ويُفتى إلا هو ؟! ولم يكن النبي ( أكثر مشاورة لأحدٍ من الصحابة منه له ولعمر . ولم يكن أحدٌ أعظم اختصاصاً بالنبي ( منه ثم عمر .
__________
(1) انظر البخاري ج9 ص 15 .(173/399)
وقد ذكر غير واحد ، مثل منصور بن عبد الجبّار السمعاني وغيره ، إجماع أهل العلم على أن الصدّيق أعلم الأمة . وهذا بيِّنٌ ، فإن الأمة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصلَّها هو بعلم يبيِّنه لهم ، وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنة . كما بيَّن لهم موت النبي (، وتثبيتهم على الإيمان ، وقراءته عليهم الآية ، ثم بيَّن لهم موضع دفنه ، وبيَّن لهم قتال مانعي الزكاة لما استراب فيه عمر ، وبيَّن لهم أن الخلافة في قريش في سقيفة بني ساعدة ، لمّا ظن من ظن أنها تكون في غير قريش .
وقد استعمله النبي (على أول حجة حجت من مدينة النبي (. وعِلْمُ المناسك أدقّ ما في العبادات ، لولا سعة علمه بها لم يستعمله . وكذلك الصلاة استخلفه فيها ، ولولا علمه بها لم يستخلفه . ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة .
وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله ( أخذه أنس من أبي بكر . وهو أصح ما رُوى فيها ، وعليه اعتمد الفقهاء .
وفي الجملة لا يُعرف لأبي بكر مسألة من الشريعة غلط فيها ، وقد عُرف لغيره مسائل كثيرة ، كما بسط في موضعه .
وأما قول الرافضي : ((لم يعرف حكم الكلالة حتى قال فيها برأيه )).
فالجواب : أن هذا من أعظم علمه . فإن هذا الرأي الذي رآه في الكلالة قد اتفق عليه جماهير العلماء بعده ؛ فإنهم أخذوا في الكلالة بقول أبي بكر ، وهو من لا ولد له ولا والد ، والقول بالرأي هو معروف عن سائر الصحابة ، كأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل ، لكن الرأي الموافق للحق هو الذي يكون لصاحبه أجران ، كرأي الصدِّيق ، فإن هذا خير من الرأي الذي غاية صاحبه أن يكون له أجر واحد .
وقد قال قيس بن عُبَاد لعليّ : أرأيت مسيرك هذا : ألعهد عهده إليك رسول الله ( أم رأى رأيته ؟ فقال : بل رأى رأيته . رواه أبو داود وغيره(1).
__________
(1) انظر مسلم ج4 ص 2143 وسنن أبي داود ج4 ص 300.(173/400)
فإن كان مثل هذا الرأي الذي حصل به من سفك الدماء ما حصل ، لا يمنع صاحبه أن يكون إماماً ، فكيف بذلك الرأي الذي اتفق جماهير العلماء على حسنه .
وأما ما ذكره من قضائه في الجد بسبعين قضية ، فهذا كذب . وليس هو قول أبي بكر ، ولا نُقل هذا عن أبي بكر بل نقل هذا عن أبى بكر يدل على غاية جهل هؤلاء الروافض وكذبهم .
(فصل)
قال الرافضي : فأي نسبة له بمن قال : (( سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن طرق السماء فإني أعرف بها من طرق الأرض )).
قال أبو البحتري : رأيت عليًّا صعد المنبر بالكوفة ، وعليه مدرعة كانت لرسول الله ( متقلداً لسيف رسول الله ( متعمما بعمامة رسول الله (. وفي أصبعه خاتم رسول الله ( فقعد على المنبر ، وكشف عن بطنه ، فقال : سلوني من قبل أن تفقدوني ، فإنما بين الجوانح منى علم جم ، هذا سفط العلم ، هذا لعاب رسول الله (، هذا ما زقّني رسول الله ( زقًّا من غير وحي إليّ ، فوالله لو ثُنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم ، وأهل الإنجيل بإنجيلهم ، حتى يُنطق الله التوراة والإنجيل فتقول : صدق عليّ ، قد أفتاكم بما أنزل الله فيَّ ، وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون )).
والجواب : أما قول عليّ : (( سلوني )) فإنما كان يخاطب بهذا أهل الكوفة ليعلّمهم العلم والدين ؛ فإن غالبهم كانوا جُهَّالاً لم يدركوا النبي (. وأما أبو بكر فكان الذين حول منبره هم أكابر أصحاب النبي (، الذين تعلَّموا من رسول الله ( العلم والدين ، فكانت رعية أبي بكر أعلم الأمة وأَدْيَنها . وأما الذين كان عليّ يخاطبهم فهم من جملة عوام الناس التابعين ، وكان كثير منهم من شرار التابعين . ولهذا كان علي ّ( يذمّهم ويدعو عليهم ، وكان التابعون بمكة والمدينة والشام والبصرة خيراً منهم .(173/401)
وقد جمع الناس الأقضية والفتاوى المنقولة عن أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ ، فوجدوا أَصْوَبَها وأدلّها على علم صاحبها أمور أبي بكر ثم عمر . ولهذا كان ما يُوجد من الأمور التي وُجد نصٌ يخالفها عن عمر أقل مما وُجد عن عليّ ، وأما أبو بكر فلا يكاد يوجد نصّ يخالفه ، وكان هو الذي يفصل الأمور المشتبهة عليهم، ولم يكن يُعرف منهم اختلاف على عهده.وعامة ما تنازعوا فيه من الأحكام كان بعد أبي بكر .
والحديث المذكور عن عليّ كذب ظاهر لا تجوز نسبة مثله إلى عليّ ؛ فإن عليًّا أعلم بالله وبدين الله من أن يحكم بالتوراة والإنجيل ، إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لمسلم أن يحكم بين أحد إلا بما أنزل الله في القرآن . وإذا تحاكم اليهود والنصارى إلى المسلمين لم يجز لهم أن يحكموا بينهم إلا بما أنزل الله في القرآن .
وإذا كان من المعلوم بالكتاب والسنة والإجماع ، أن الحاكم بين اليهود والنصارى لا يجوز أن يحكم بينهم إلا بما أنزل الله على محمد ، سواء وافق ما بأيديهم من التوراة والإنجيل أو لم يوافقه ، كان من نسب عليًّا إلى أنه يحكم بالتوراة والإنجيل بين اليهود والنصارى ، أو يفتيهم بذلك ، ويمدحه بذلك: إما أن يكون من أجهل الناس بالدين ، وبما يُمدح به صاحبه ، وإما أن يكون زنديقا ملحداً أراد القدح في عليّ بمثل هذا الكلام الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب ، دون المدح والثواب .
( فصل)
قال الرافضي : (( وروى البيهقي بإسناده عن رسول الله (أنه قال : من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في هيبته ، وإلى عيسى في عبادته ، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب ، فأثبت له ما تفرَّق فيهم )).
والجواب أن يقال أولا : أين إسناد هذا الحديث ؟ والبيهقي يروي في الفضائل أحاديث كثيرة ضعيفة ، بل موضوعة ، كما جرت عادة أمثاله من أهل العلم .(173/402)
ويقال ثانيا : هذا الحديث كذب موضوع على رسول الله ( بلا ريب عند أهل العلم بالحديث ، ولهذا لا يذكره أهل العلم بالحديث ، وإن كانوا حراصا على جمع فضائل عليّ ، كالنسائي ؛ فإنه قصد أن يجمع فضائل عليّ في كتاب سماه (( الخصائص )) ، والترمذي قد ذكر أحاديث متعددة في فضائله ، وفيها ما هو ضعيف بل موضوع ، ومع هذا لم يذكروا هذا ونحوه .
(فصل)
قال الرافضي : (( قال أبو عمر الزاهد : قال أبو العباس : لا نعلم أحداً قال بعد نبيه : ((سلوني )) من شيثٍ إلى محمدٍ إلا عليّ ، فسأله الأكابر : أبو بكر وعمر وأشباههما ، حتى انقطع السؤال . ثم قال بعد هذا : يا كُمَيْل بن زياد ، إن ههنا لعلما جما لو أصبت له حملة )).
والجواب : أن هذا النقل إن صح عن ثعلب ؛ فثعلب لم يذكر له إسنادا حتى يُحتج به . وليس ثعلب من أئمة الحديث الذين يعرفون صحيحه من سقيمه ، حتى يُقال : قد صح عنده . كما إذا قال ذلك أحمد أو يحيى بن معين أو البخاري ونحوهم . بل من هو أعلم من ثعلب من الفقهاء يذكرون أحاديث كثيرة لا أصل لها ، فكيف ثعلب ؟! وهو قد سمع هذا من بعض الناس الذين لا يذكرون ما يقولون عن أحد .
وعلي ّ( لم يكن يقول هذا بالمدينة ، لا في خلافة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ، وإنما كان يقول هذا في خلافته في الكوفة ، ليعلم أولئك الذين لم يكونوا يعلمون ما ينبغي لهم علمه . وكان هذا لتقصيرهم في طلب العلم ، وكان علي ّ( يأمرهم بطلب العلم والسؤال .
وحديث كُمَيْل بن زياد يدل على هذا ؛ فإن كميلا من التابعين لم يصحبه إلا بالكوفة ، فدل عَلَى أنه كان يرى تقصيراً من أولئك عن كونهم حملة للعلم ، ولم يكن يقول هذا في المهاجرين والأنصار ، بل كان عظيم الثناء عليهم .
وأما أبو بكر فلم يسأل عليًّا قط عن شيء . وأما عمر فكان يشاور الصحابة : عثمان وعليًّا وعبد الرحمن وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم . فكان عليّ من أهل الشورى .
( فصل)(173/403)
قال الرافضي : (( وأهمل حدود الله فلم يقتص من خالد بن الوليد ولا حدَّه حيث قتل مالك بن نويرة ، وكان مسلما ، وتزوج امرأته في ليلة قتله وضاجعها . وأشار عليه عمر بقتله فلم يفعل )).
والجواب أن يقال أولاً: إن كان ترك قتل قاتل المعصوم مما يُنكر على الأئمة ، كان هذا من أعظم حجة شيعة عثمان عَلَى عليّ ؛ فإن عثمان خير من ملء الأرض من مثل مالك بن نويرة ، وهو خليفة المسلمين ، وقد قُتل مظلوماً شهيداً بلا تأويل مسوِّغ لقتله . وعليّ لم يقتل قَتَلَته ، وكان هذا من أعظم ما امتنعت به شيعة عثمان عن مبايعة عليّ ، فإنْ كان عليّ له عذر شرعي في ترك قتل قتلة عثمان ، فعذر أبي بكر في ترك قتل قاتل مالك بن نويرة أقوى ، وإن لم يكن لأبي بكر عذر في ذلك فعليّ أَوْلى أن لا يكون له عذر في ترك قتل قتلة عثمان .
وأما ما تفعله الرافضة من الإنكار على أبي بكر في هذه القضية الصغيرة ، وترك إنكار ما هو أعظم منها عَلَى عليّ ، فهذا من فرط جهلهم وتناقضهم .
وكذلك إنكارهم عَلَى عثمان كونه لم يقتل عُبيد الله بن عمر بالهرمزان، هو من هذا الباب .
وإذا قال القائل : عليّ كان معذورا في ترك قتل قتلة عثمان ، لأن شروط الاستيفاء لم توجد : إما لعدم العلم بأعيان القَتَلة ، وإما لعجزه عن القوم لكونهم ذوى شوكة ، ونحو ذلك .
قيل : فشروط الاستيفاء لم توجد في قتل قاتل مالك بن نويرة ، وقتل قاتل الهرمزان ، لوجود الشبهة في ذلك .والحدود تُدرأ بالشّبهات .
وإذا قالوا : عمر أشار عَلَى أبي بكر بقتل خالد بن الوليد ، وعليّ أشار عَلَى عثمان بقتل عبيد الله بن عمر .
قيل : وطلحة والزبير وغيرهما أشاروا عَلَى عليّ بقتل قتلة عثمان ، مع أن الذين أشاروا عَلَى أبي بكر بالقَوَد ، أقام عليهم حجّة سلّموا لها : إما لظهور الحق معه ، وإما لكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد.(173/404)
وعليّ لما يوافق الذين أشاروا عليه بالقود ، جرى بينه وبينهم من الحروب ما قد عُلم . وقتل قتلة عثمان أهون مما جرى بالجمل وصفِّين فإذا كان في هذا اجتهاد سائغ ، ففي ذلك أوْلى .
وإن قالوا : عثمان كان مباح الدم .
قيل لهم : فلا يشك أحد في أن إباحة دم مالك بن نُويرة أظهر من إباحة دم عثمان ، بل مالك بن نويرة لا يُعرف أنه كان معصوم الدم ، ولم يثبت ذلك عندنا . وأما عثمان فقد ثبت بالتواتر ونصوص الكتاب والسنة أنه كان معصوم الدم . وبين عثمان ومالك بن نويرة من الفرق ما لا يحصى عدده إلا الله تعالى .
ومن قال : إن عثمان كان مباح الدم ، لم يمكنه أن يجعل عليًّا معصوم الدم ، ولا الحسين ؛ فإن عصمة دم عثمان أظهر من عصمة دم عليّ والحسين. وعثمان أبعد عن موجبات القتل من علي والحسين . وشُبهة قَتَلة عثمان أضعف بكثير من شبهة قَتَلَة عليّ والحسين ؛ فإن عثمان لم يقتل مسلما، ولا قاتل أحداً على ولايته ولم يطلب قتال أحد على ولايته أصلا؛ فإن وجب أن يُقال : من قتل خلقا من المسلمين على ولايته إنه معصوم الدم ، وإنه مجتهد فيما فعله ، فَلأَن يُقال : عثمان معصوم الدم ، وإنه مجتهد فيما فعله من الأموال والولايات بطريق الأوْلى والأحرى .
ثم يُقال : غاية ما يُقال في قصة مالك بن نويرة : إنه كان معصوم الدم وإن خالدا قتله بتأويل ، وهذا لا يبيح قتل خالد ، كما أن أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله . وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (( يا أسامة أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟ يا أسامة أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟يا أسامة أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟))(1) فأنكر عليه قتله ، ولم يوجب عليه قَوَداً ولا دِية ولا كفَّارة .
__________
(1) انظر مسلم ج1 ص96 – 97 وسنن أبي داود ج3 ص61 .(173/405)
وأما ما ذكره من تزوجه بامرأته ليلة قتله , فهذا مما لم يعرف ثبوته . ولو ثبت لكان هناك تأويل يمنع الرجم . والفقهاء مختلفون في عدة الوفاة : هل تجب للكافر ؟ على قولين . وكذلك تنازعوا هل يجب على الذميّة عدة الوفاة ؟ على قولين مشهورين للمسلمين . بخلاف عدة الطلاق , فإن تلك سببها الوطء, فلا بد من براءة الرحم . وأما عدة الوفاة فتجب بمجرد العقد , فإذا مات قبل الدخول بها فهل تعتد من الكافر أم لا ؟ فيه نزاع .و كذلك إن دخل بها , وقد حاضت بعد الدخول حيضة .
هذا إذا كان الكافر أصليا . وأما المرتد إذا قتل , أو مات على ردته . ففي مذهب الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد ليس عليها عدة وفاة بل عدة فرقة بائنة , لأن النكاح بطل بردة الزوج . وهذه الفرقة ليست طلاقاً عند الشافعي وأحمد , وهي طلاق عند مالك وأبي حنيفة , ولهذا لم يوجبوا عليها عدة وفاة , بل عدة فرقة بائنة , فإن كان لم يدخل بها فلا عدة عليها, كما ليس عليها عدة من طلاق .
ومعلوم أن خالداً قتل مالك بن نويرة لأنه رآه مرتدا , فإذا كان لم يدخل بإمرأته فلا عدة عليها عند عامة العلماء , وإن كان قد دخل بها فإنه يجب عليه استبراء بحيضة لا بعدة كاملة في أحد قوليهم , وفي الآخر بثلاث حيض . وإن كان كافراً أصلياً فليس على امرأته عدة وفاة في أحد قوليهم . وإذا كان الواجب استبراء بحيضة فقد تكون حاضت . ومن الفقهاء من يجعل بعض الحيضة استبراء , فإذا كانت في آخر الحيض جعل ذلك استبراءً لدلالته على براءة الرحم.
وبالجملة فنحن لم نعلم أن القضية وقعت على وجه لا يسوغ فيها الاجتهاد والطعن بمثل ذلك من قول من يتكلم بلا علم , وهذا مما حرّمه الله ورسوله.
(فصل)
قال الرافضي : (( وخالف أمر النبي ( في توريث بنت النبي (ومنعها فدكاً , وتسمّى بخليفة رسول الله ( من غير أن يستخلفه)) .(173/406)
الجواب: اما الميراث فجميع المسلمين مع أبي بكر في ذلك , ما خلا بعض الشيعة , وقد تقدم الكلام في ذلك , وبيّنا أن هذا من العلم الثابت عن النبي (, وأن قول الرافضة باطل قطعاً .
وكذلك ما ذكر من فدك , والخلفاء بعد أبي بكر على هذا القول . وأبو بكر وعمر لم يتعلقا من فدك ولا غيرها من العقار بشيء ولا أعطيا أهلهما من ذلك شيئاً . وقد أعطيا بني هاشم أضعاف اضعاف ذلك .
ثم لو احتج محتج بان علياً كان يمنع المال ابن عباس وغيره من بني هاشم , حتى اخذ ابن عباس بعض مال البصرة وذهب به . لم يكن الجواب عن علي إلا بأنه إمام عادل .
وهذا الجواب هو في حق أبي بكر بطريق الأولى والأحرى . وأبو بكر أعظم محبة لفاطمة ومرعاة لها من علي لابن عباس . وابن عباس بعلي أشبه من فاطمة بأبي بكر , فإن فضل أبي بكر على فاطمة أعظم من فضل عليّ على ابن عباس .
(فصل)
وأما تسميته بخليفة رسول الله ؛ فإن المسلمين سمّوه بذلك . فإن كان الخليفة هو المستخلَف ، كما ادّعاه هذا ، كان رسول الله (قد استخلفه ، كما يقول ذلك من يقوله من أهل السنّة . وإن كان الخليفة هو الذي خَلَفَ غيرَه – وإن كان لم يستخلفه ذلك الغير كما يقوله الجمهور – لم يحتج في هذا الاسم إلى الاستخلاف .
والاستعمال الموجود في الكتاب والسنة يدل على أن هذا الاسم يتناول كل من خَلَفَ غيره : سواء استخلفه أو لم يستخلفه ، كقوله تعالى: { ثمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ في الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلونَ } (1).
(فصل)
__________
(1) الآية 14 من سورة يونس .(173/407)
قال الرافضي : (( ومنها ما رووه عن عمر . روى أبو نُعيم الحافظ في كتابه (( حلية الأولياء )) أنه قال لما احتُضر قال : يا ليتني كنت كبشا لقومي فسمنّوني ما بدا لهم ، ثم جاءهم أحب قومهم إليهم فذبحوني ، فجعلوا نصفي شواءً ونصفي قديدا ، فأكلوني ، فأكون عذرة ولا أكون بشرا . وهل هذا إلا مساوٍ لقول الكافر : { يا لَيْتَني كُنْتُ تُرابًا } (1).
قال : (( وقال لابن عباس عند احتضاره : لو أن لي ملء الأرض ذهباومثله معه لافتديت به نفسي من هول المطلع.وهذا مثل قوله: { وَلَوْ أَنَّ للذِّينَ ظَلَمُوا مَا في الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَاب } ِ(2). فلينظر المنصف العاقل قولَ الرجلين عند احتضارهما ، وقول عليّ :
متى ألقى الأحبة ..؟ محمداً وحزبه متى ألقاها ..؟ متى يُبعث أشقاها
وقوله حين قتله ابن ملجم : فزت ورب الكعبة )) .
والجواب : أن في هذا الكلام من الجهالة ما يدل على فرط جهل قائله؛ وذلك أن ما ذكره عن عليّ قد نُقل مثله عمَّن هو دون أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ ، بل نُقل مثله عمَّن يكفِّر عليّ بن أبي طالب من الخوارج . كقول بلال عتيق أبي بكر عند الاحتضار ، وامرأته تقول : واحرباه ، وهو يقول : واطرباه غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه .
وكان عمر قد دعا لما عارضوه في قسمة الأرض فقال : (( اللهم اكفني بلالاً وذويه ))فما حال الحَوْل وفيهم عين تَطْرِفُ.
__________
(1) الآية 40 من سورة النبأ .
(2) الآية 1 من سورة الزمر .(173/408)
وروى أبو نُعيم في (( الحلية )): ((حدثنا القطيعى ، حدثنا الحسن بن عبد الله ، حدثنا عامر بن سيّار ، حدثنا عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن الحارث بن عمير ، قال : طُعن معاذ وأبو عبيدة وشُرحبيل بن حسنة وأبو مالك الأشعري في يوم واحد . فقال معاذ: إنه رحمة ربكم ، ودعوة نبيكم ، وقبض الصالحين قبلكم . اللهم آت آل معاذ النصيب الأوفر من هذه الرحمة . فما أمسى حتى طُعن ابنه عبد الرحمن بِكْرُه الذي كان يُكنَّى به ، وأحب الخلق إليه . فرجع من المسجد فوجده مكروبا . فقال : يا عبد الرحمن كيف أنت ؟ قال : يا أبتِ الحق من ربك فلا تكونن من الممترين .قال : وأنا إن شاء الله ستجدني من الصابرين . فأمسكه لَيْلَهُ ثم دفنه من الغد . وطُعن معاذ ، فقال حين اشتدَّ به النزع ، نزع الموت ، فنزع نزعاً لم ينزعه أحد ، وكان كلما أفاق فتح طرفه ، وقال : رب أخنقني خَنْقَك ، فوعزتك إنك لتعلم أن قلبي يحبك ))(1).
وكذلك قوله : فزت ورب الكعبة . قد قالها من هو دون عليّ ، قالها عامر بن فُهيرة مَوْلَى أبي بكر الصديق لما قُتل يوم بئر معونة . وكان قد بعثه النبي (مع سرية قِبَل نجد .قال العلماء بالسير : طعنه جبّار بن سَلْمى فأنفذه. فقال عامر : فزت والله . فقال جبّار : ما قوله فزت والله ؟ قال عروة بن الزبير: يرون أن الملائكة دفنته(2) .
وشبيب الخارجي لما طُعن دخل في الطعنة ، وجعل يقول : وعجلت إليك ربِ لترضى .
واعرف شخصاً من أصحابنا لما حضرته الوفاة جعل يقول : حبيبي هاقد جئتك ، حتى خرجت نفسه . ومثل هذا كثير .
وأما خوف عمر وخشيته من الله لكمال علمه ؛ فإن الله تعالى يقول : { إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (3).
__________
(1) انظر الحلية ج1 ص240 .
(2) انظر الحلية ج1 ص240 .
(3) انظر الحلية ج1 ص240 .(173/409)
وقد كان النبي ( يصلِّي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء(1).
وأما قول الرافضي : (( وهل هذا إلا مساوٍ لقول الكافر : { يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً } (2).
فهذا جهل منه ؛ فإن الكافر يقول ذلك يوم القيامة ، حين لا تُقبل توبة ، ولا تنفع حسنة . وأما من يقول ذلك في الدنيا ، فهذا يقوله في دار العمل على وجه الخشية لله ، فيُثاب على خوفه من الله .
وقد قالت مريم : { ياَلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } (3).ولم يكن هذا كتمنِّي الموت يوم القيامة .
ولا يُجعل هذا كقول أهل النار ، كما أخبر الله عنهم بقوله : { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } (4). وكذلك قوله : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا في الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنُ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } (5)؛ فهذا إخبار عن حالهم يوم القيامة حين لا ينفع توبة ولا خشية .
وأما في الدنيا ، فالعبد إذا خاف ربَّه كان خوفه مما يثيبه الله عليه ، فمن خاف الله في الدنيا أمّنه يوم القيامة ، ومن جعل خوف المؤمن من ربه في الدنيا كخوف الكافر في الآخرة ، فهو كمن جعل الظلمات كالنور ، والظل كالحرور ، والأحياء كالأموات .
(فصل)
__________
(1) انظر سنن النسائي ج3 ص14 والمسند ج4 ص 25، 26 .
(2) الآية 40 من سورة النبأ .
(3) الآية 23 من سورة مريم .
(4) الآية 77 من سورة الزخرف .
(5) الآية 47 من سورة الزمر .(173/410)
قال الرافضي : (( وروى أصحاب الصحاح الستة من مسند ابن عباس أن رسول الله ( قال في مرض موته:ائتوني بدواة و بياض، أكتب لكم كتابا لا تضلُّون به من بعدي . فقال عمر : إن الرجل لَيَهْجُر، حسبُنا كتاب الله . فكثر اللَّغَط . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخْرُجُوا عني ، لا ينبغي التنازع لديّ . فقال ابن عباس : الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله (. وقال عمر لما مات رسول الله (: ما مات محمد ولا يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم . فلما نهاه أبو بكر وتلا عليه : { إنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } (1)، وقوله : { َأفَإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } (2)قال : كأني ما سمعت هذه الآية )).
والجواب : أن يقال : أما عمر فقد ثبت من علمه وفضله ما لم يثبت لأحد غير أبي يكر . ففي صحيح مسلم عن عائشة عن النبي ( أنه كان يقول: (( قد كان في الأمم قبلكم مُحَدِّثون ، فإن يكن في أمتي أحد فعمر )).قال ابن وهب : تفسير (( محدِّثون )) : ملهمون(3) .
وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي ( قال :
(( إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدِّثون ، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب )) وفي لفظ للبخاري : (( لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلِّمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر ))(4).
وفي الصحيح عن ابن عمر عن النبي ( قال: (( بينا أنا نائم إذ رأيت قدحا أتيت به فيه لبن ، فشربت منه حتى أني لأرى الرِّيَّ يخرج من أظفاري ، ثم أعطيت فضلى عمر بن الخطاب )). قالوا : فما أوَّلته يا رسول الله ؟ قال : (( العلم ))(5) .
__________
(1) الآية 30 من سورة الزمر .
(2) الآية 144 من سورة آل عمران .
(3) انظر البخاري ج5 ص11 وأماكن أُخر وانظر مسلم ج4 ص1864 .
(4) انظر ما تقدم قبل قليل .
(5) انظر البخاري ج1 ص 23-24 وج9 ص35 ومسلم ج4 ص 1859 .(173/411)
... وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال : قال رسول الله (: (( بينا أنا نائم رأيت الناس يُعرضون عليَّ وعليهم قمص ، منها ما يبلغ الثدي ، ومنها ما يبلغ دون ذلك ، ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرُّه)).قالوا:ما أوّلت ذلك يا رسول الله ؟قال: (( الدين ))(1) .
وأما قصة الكتاب الذي كان رسول الله ( يريد أن يكتبه ، فقد جاء مبيَّنا ، كما في الصحيحين عن عائشة(ا قالت : قال رسول الله ( في مرضه:(( ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا ، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل : أنا أوْلَى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ))(2) .
وفي صحيح البخاري عن القاسم بن محمد ، قال : قالت عائشة : ((وارأساه . فقال رسول الله (: (( لو كان وأنا حيّ فاستغفر لك وأدعو لك )) . قالت عائشة : (( واثكلاه ، والله إني لأظنك تحب موتى ، فلو كان ذلك لظللت آخر يومك مُعَرِّساً ببعض أزواجك .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( بل أنا وارأساه . لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد: أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنُّون ، ويدفع الله ويأبى المؤمنون ))(3).
وأما عمر فاشتبه عليه هل كان قول النبي ( من شدة المرض ، أو كان من أقواله المعروفة . والمرض جائز على الأنبياء .ولهذا قال : (( ماله ؟ أهجر ؟ )) فشكَّ في ذلك ولم يجزم بأنه هجر . والشك جائز على عمر ، فإنه لا معصوم إلا النبي (. لا سيما وقد شك بشبهة ؛ فإن النبي ( كان مريضا ، فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض ، كما يعرض للمريض ، أو كان من كلامه المعروف الذي يجب قبوله . وكذلك ظن أنه لم يمت حتى تبين أنه قد مات .
__________
(1) انظر البخاري ج5 ص12 ، ج9 ص 35-36 ومسلم ج4 ص1859 .
(2) انظر البخاري ج7 ص 119 وج9 ص 80 –81 ومسلم ج4 ص 1857.
(3) انظر البخاري ج9 ص 80 –81 .(173/412)
والنبي ( قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة ، فلما رأى أن الشك قد وقع ، علم أن الكتاب لا يرفع الشك ، فلم يبق فيه فائدة ، وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه ، كما قال:(( ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)) .
وقول ابن عباس : (( إن الرزية ما حال بين رسول الله ( وبين أن يكتب الكتاب )) يقتضي أن هذا الحائل كان رزية ، وهو رزية في حق من شك في خلافة الصدِّيق ، أو اشتبه عليه الأمر ؛ فإنه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك . فأما من علم أن خلافته حق فلا رزّية في حقه ، ولله الحمد .
ومن توهّم أن هذا الكتاب كان بخلافة عليّ فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة . أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه . وأما الشيعة القائلون بأن عليًّا كان هو المستحق للإمامة ، فيقولون : إنه قد نصّ على إمامته قبل ذلك نصًّا جليا ظاهرا معروفا ، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب .
وإن قيل: أن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور ، فلأن تكتم كتابا حضره طائفة قليلة أوْلى وأحرى.
وأيضا فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته ، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك ، فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته ، لكان النبي ( يبيّنه ويكتبه ، ولا يلتفت إلى قول أحدٍ ، فإنه أطوع الخلق له ، فعُلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجبا ، ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ ، إذ لو وجب لفعله ، ولو أن عمر( اشتبه عليه أمر ، ثم تبيّن له أوشك في بعض الأمور ، فليس هو أعظم ممن يفتى ويقضى بأمور ويكون النبي ( قد حكم بخلافها، مجتهدا في ذلك ، ولا يكون قد علم حكم النبي صل الله عليه وسلم ؛ فإن الشك في الحق أخف من الجزم بنقيضه .(173/413)
وكل هذا إذا كان باجتهاد سائغ كان غايته أن يكون من الخطأ الذي رفع الله المؤاخذة به . كما قضى عليٌّ في الحامل المتوفّى عنها زوجها أنها تعتدّ أبعد الأجلين ، مع ما ثبت في الصحاح عن النبي ( أنه لما قيل له : إن أبا السنابل بن بعكك أفتى بذلك لسبيعة الأسلمية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((كذب أبو السنابل ، بل حللتِ فانكحي من شئت))(1).فقد كذّب النبي ( هذا الذي أفتى بهذا . وأبو السنابل لم يكن من أهل الاجتهاد ، وما كان له أن يفتِيَ بهذا مع حضور النبي (.
وأما عليّ وابن عباس رضى الله عنهما وإن كانا أفتيا بذلك ، لكن كان ذلك عن اجتهاد ، وكان ذلك بعد موت النبي (، ولم يكن بلغهما قصة سُبَيْعة .
(فصل)
قال الرافضي : (( ولما وعظت فاطمة أبا بكر في فَدَك ، كتب لها كتابا بها ، وردها عليها ، فخرجت من عنده ، فلقيها عمر بن الخطاب فحرق الكتاب ، فدعت عليه بما فعله أبو لؤلؤة به وعطّل حدود الله فلم يحدّ المغيرة بن شعبة ، وكان يعطي أزواج النبي (من بيت المال أكثر مما ينبغي ، وكان يعطي عائشة وحفصة في كل سنة عشرة آلاف درهم . وغيَّر حكم الله في المنفيين ، وكان قليل المعرفة في الأحكام )).
والجواب : أن هذا من الكذب الذي لا يستريب فيه عالم ، ولم يذكر هذا أحد من أهل العلم بالحديث ، ولا يُعرف له إسناد . وأبو بكر لم يكتب فَدَكا قط لأحد : لا لفاطمة ولا غيرها ، ولا دعت فاطمة على عمر .
وما فعله أبو لؤلؤة كرامة في حق عمر( ، وهو أعظم ممّا فعله ابن ملجم بعلي ّ( ، وما فعله قتلة الحسين ( به . فإن أبا لؤلؤة كافرٌ قتل عمر كما يقتل الكافر المؤمن . وهذه الشهادة أعظم من شهادة من يقتله مسلم ؛ فإن قتيل الكافر أعظم درجةً من قتيل المسلمين ، وقتل أبي لؤلؤة لعمر كان بعد موت فاطمة ، بمدة خلافة أبي بكر وعمر إلا ستة أشهر ، فمن أين يُعرف أن قتله كان بسبب دعاء حصل في تلك المدة.
__________
(1) انظر البخاري ج5 ص80 ومسلم ج2 ص1122.(173/414)
والداعي إذا دعا عَلَى مسلم بأن يقتله كافر ، كان ذلك دعاء له لا عليه، كما كان النبي (يدعو لأصحابه بنحو ذلك ، كقوله : (( يغفر الله لفلان )) فيقولون : لو أمتعتنا به ! وكان إذا دعا لأحد بذلك استُشهد(1).
ولو قال قائل أن عليًّا ظلم أهل صفِّين والخوارج حتى دعوا عليه بما فعله ابن ملجم ، لم يكن هذا أبعد عن المعقول من هذا . وكذلك لو قال إن آل سفيان بن حرب دعوا على الحسين بما فُعل به .
وأما قول الرافضي: ((وعطّل حدود الله فلم يحدّ المغيرة بن شعبة)).
فالجواب:أن جماهير العلماء على ما فعله عمر في قصة المغيرة.وأن البيّنة إذا لم تكمل حدّ الشهود.ومن قال بالقول الآخر لم ينازع في أن هذه مسألة اجتهاد. وقد تقدّم أن ما يرد على علي بتعطيل إقامة القصاص والحدود على قتلة عثمان أعظم. فإذا كان القادح في علّي مبطلا،فالقادح في عمر أولى بالبطلان.
وقوله: ((وكان يعطي أزواج النبي ( من بيت المال أكثر مما ينبغي.وكان يعطي عائشة وحفصة من المال في كل سنة عشرة آلاف درهم)).
__________
(1) انظر البخاري ج5 ص130 وغيره ومسلم ج3 ص 1427.(173/415)
فالجواب:أما حفصة فكان ينقصها من العطاء لكونها ابنته،كما نقص عبد الله بن عمر.وهذا من كمال احتياطه في العدل،وخوفه مقام ربه،ونهيه نفسه عن الهوى.وهو كان يرى التفضيل في العطاء بالفضل،فيعطي أزواج النبي ( أعظم مما يعطي غيرهن من النساء،كما كان يعطي بني هاشم من آل أبي طالب وآل العباس أكثر مما يعطي من عداهم من سائر القبائل.فإذا فضّل شخصاً كان لأجل اتصاله برسول الله صلى الله عليه وسلم،أو لسابقته واستحقاقه.وكان يقول:ليس أحد أحق بهذا المال من أحد،وإنما هو الرجل وغناؤه، والرجل وبلاؤه ، والرجل وسابقته ، والرجل وحاجته . فما كان يعطي من يُتهم على إعطائه بمحاباة في صداقة أو قرابة ، بل كان ينقص ابنه وابنته ونحوهما عن نظرائهم في العطاء ، وإنما كان يفضِّل بالأسباب الدينية المحضة ، ويفضِّل أهل بيت النبي ( على جميع البيوتات ويقدِّمهم .
وهذه السيرة لم يسرها بعده مثله لا عثمان ولا عليّ ولا غيرهما . فإن قُدح فيه بتفضيل أزواج النبي (، فليُقدح فيه بتفضيل رجال أهل بيت رسول الله (، بل وتقديمهم على غيرهم .
(فصل)
وأما قوله : (( وغيَّر حكم الله في المنفيين )).
فالجواب : أن التغيير لحكم الله بما يناقض حكم الله ، مثل إسقاط ما أوجبه الله ، وتحريم ما أحلّه الله . والنفي في الخمر كان من باب التعزير الذي يسوغ فيه الاجتهاد . وذلك أن الخمر لم يقدِّر النبي ( حدَّها: لا قَدْرُهُ ولا صفتُهُ ، بل جوّز فيها الضرب بالجريد والنعال ، وأطراف الثياب وعُثْكول النخل . والضرب في حد القذف والزنا إنما يكون بالسوط . وأما العدد في الخمر فقد ضرب الصحابة أربعين ، وضربوا ثمانين . وقد ثبت في الصحيح عن علي ّ( أنه قال : ((وكُلٌّ سُنَّة ))(1).
(فصل)
__________
(1) انظر صحيح مسلم ج3 ص1331 –1332 وسنن أبي داود ج4 ص228 .(173/416)
قال الرافضي: (( وكان قليل المعرفة بالأحكام : أمر برجم حامل . فقال له عليّ: إن كان لك عليها سبيل ، فلا سبيل لك على ما في بطنها . فأمسك . وقال : لولا عليّ لهلك عمر )).
والجواب : أن هذه القصة إن كانت صحيحة ، فلا تخلو من أن يكون عمر لم يعلم أنها حامل ، فأخبره عليٌّ بحملها . ولا ريب أن الأصل عدم العلم، والإمام إذا لم يعلم أن المستحقة للقتل أو الرجم حامل ، فعرَّفه بعض الناس بحالها ، كان هذا من جملة إخباره بأحوال الناس المغيَّبات ،ومن جنس ما يشهد به عنده الشهود . وهذا أمر لا بد منه مع كل أحد من الأنبياء والأئمة وغيرهم ، وليس هذا من الأحكام الكلية الشرعية .
وإما أن يكون عمر قد غاب عنه كون الحامل لا ترجم ، فلما ذكَّره عليّ ذكر ذلك ، ولهذا أمسك . ولو كان رأيه أن الحامل ترجم لرجمها ، ولم يرجع إلى رأي غيره . و قد مضت سنة النبي ( في الغامدية ، لما قالت :
(( إني حبلى من الزنا فقال لها النبي ( (( اذهبي حتى تضعيه ))(1).ولو قدِّر أنه خفى عليه علم هذه المسألة حتى عرفه، لم يقدح ذلك فيه ، لأن عمر ساس المسلمين وأهل الذمّة ، يعطي الحقوق ، ويقيم الحدود ، ويحكم بين الناس كلهم. وفي زمنه انتشر الإسلام ، وظهر ظهورا لم يكن قبله مثله ، وهو دائما يقضى ويُفتى ، ولولا كثرة علمه لم يُطق ذلك . فإذا خفيت عليه قضية من مائة ألف قضية ثم عرفها ،أو كان نسيها فذكرها ، فأي عيب في ذلك ؟!
وعلي ّ( قد خَفِيَ عليه من سنة رسول الله (أضعاف ذلك ، ومنها ما مات ولم يعرفه .
(فصل)
قال الرافضي : (( وأمر برجم مجنونة ، فقال له عليّ(: إن القلم رُفع عن المجنون حتى يفيق ، فأمسك. وقال: لولا عليّ لهلك عمر )).
__________
(1) انظر مسلم ج3 ص1323 وسنن أبي داود ج4 ص212 –213 .(173/417)
والجواب : أن هذه الزيادة ليست معروفة في هذا الحديث . ورجم المجنونة لا يخلو : إما أن يكون لم يعلم بجنونها فلا يقدح ذلك في علمه بالأحكام ، أو كان ذاهلا عن ذلك فذُكِّر بذلك ، أو يظن الظان أن العقوبات لدفع الضرر في الدنيا . والمجنون قد يُعاقب لدفع عدوانه على غيره من العقلاء والمجانين . والزنا هو من العدوان ، فيُعاقب على ذلك حتى يتبين له أن هذا من باب حدود الله تعالى التي لا تقام إلا على المكلف .
والشريعة قد جاءت بعقوبة الصبيان على ترك الصلاة ،كما قال (: ((مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر،وفرِّقوا بينهم في المضاجع))(1).
والمجنون إذا صال ولم يندفع صياله إلا بقتله قُتل ، بل البهيمة إذا صالت ولم يندفع صيالها إلا بقتلها قُتلت ، وإن كانت مملوكة لم يكن على قاتلها ضمان للمالك عند جمهور العلماء ، كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم .
وبالجملة فما ذكره من المطاعن في عمر وغيره يرجع إلى شيئين : إما نقص العلم ، وإما نقص الدين . ونحن الآن في ذكره . فما ذكره من منع فاطمة ومحاباته في القَسْم ودرء الحد ونحو ذلك يرجع إلى أنه لم يكن عادلا بل كان ظالما . ومن المعلوم للخاص والعام أن عدل عمر( ملأ الآفاق ، وصار يُضرب به المثل ، كما قيل : سيرة العمرين ، وأحدهما عمر بن الخطاب ، والآخر قيل : إنه عمر بن عبد العزيز ، وهو قول أحمد بن حنبل وغيره من أهل العلم والحديث وقيل : هو أبو بكر وعمر ، وهو قول أبي عبيدة وطائفة من أهل اللغة والنحو .
فهرس الجزء الأول لمختصر منهاج السنة
الموضوع الصفحة
سبب تأليف الكتاب ...................................................
الرافضة أكذب الناس وأكثرهم تصديقا للكذب واتباعا للباطل ..........
__________
(1) رواه أبو داود ج1 ص193 وأحمد ج10 ص 217-218 تحقيق أحمد شاكر .(173/418)
وجوب إظهار العلم ولا سيما عندما يعلن آخر هذه الأمة أولها
مشابهة الرافضة لليهود من وجوه كثيرة .................................
متى سميت الرافضة بهذا الإسم, وكذا الزيدية وبذلك يعرف كذب
الأحاديث التي فيها لفظ الرافضة ......................................
بعض حماقات الرافضة .................................................
لا ينكر في مسائل الاجتهاد إلا إذا كانت شعاراً لأمر لا يجوز.............
بعض حماقاتهم في إمامهم المنتظر.........................................
بعض حماقاتهم في التمثيل لم يبغضونه وغير ذلك .........................
عبد الرحمن بن مالك بن مغول ومقاتل بن سليمان والواقدي ونحوهم
تصلح رواياتهم للإعتضاد والمتابعة......................................
الرافضة أكذب الناس وهذا فيهم قديم , وليسوا أهل علم ..............
أصول الرافضة التي بنوا عليها دينهم ..................................
الموضوع الصفحة
زعم الرافضة أن الإمامة من أهم أصول الدين . وهذا كفر ..............
وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقا في كل شيء
وعلى كل حال في كل مستطاع .......................................
يلزم الرافضة في قولهم في المنتظر أن الخلق أشقياء جميعا وهم اشقاهم .....
لا وجود للخضر . والقطب والغوث ..................................
شرك بعض الصوفية والرافضة حتى الربوبية ............................
تناقض الرافضة في الإمام بين القول والتطبيق ...........................
لا يحصل بمعرفة الإمام خير إن لم يعمل صالحا ...........................
ليست الإمامة من واجبات الدين ......................................
بطلان دعوى إمامة ابن العسكري , المعدوم ............................(173/419)
هل كان استخلاف أبي بكر بنص أو اجتهاد ؟ ..........................
الأمير والملك لا يصير ملكا إلا بمبايعة أهل الشوكة والقوة ..............
انظر دليل مبايعة سعد بن عبادة للصديق رضي الله عنهما ...............
مقارنة بين قول أهل السنة والرافضة في الإمام المتولى....................
دعوى الرافضي بأن مذهب الإمامية واجب الاتباع ....................
الموضوع الصفحة
بعض النصوص الدالة على أن الصحابة هم أفضل هذه الأمة
وأن الله قد رضي عنهم................................................
من هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ......................
بيان كذب حديث أن عليا تصدق بخاتمه وهو راكع ....................
(( من )) المفيدة لبيان الجنس ..........................................
بيان أن المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم قد
انتهوا عن النفاق......................................................
التقية التي يزعم الرافضة أنها من أصول دينهم هي كذب ...............
قصة أبي الطيب الباقلاني مع ملك النصارى ............................
الملاحدة يتظاهرون بالتشيع لقلة عقل الشيعة ومقصدهم إفساد الدين ...
تقسيم الرافضي الصحابة إلى أصحاب هوى أو جهل ظالم أو مقلد لظالم ..
الرافضة يوالون الكفار ويعادون المؤمنين . ويعاونون الكفار
على المسلمين.........................................................
ولاة الأمور يطاعون في طاعة الله ورسوله, ولا يطاعون في المعصية.......
دعوى الرافضي إبطال القياس , وعيب أهل السنة بالقول به ...........
دعوى الرافضي رجحان مذهب الرافضة وأحقيته, والرد عليه .........
الموضوع الصفحة(173/420)
ذكر بعض ما صنعه هولاكو بالمسلمين بإشارة الطوسي الرافضي..........
استدلال الرافضي بشذوذ مذهبهم على أنهم على الحق والرد عليه .......
دعوى الرافضي أن طائفته هم اهل الحق لأنهم جازمون بنجاتهم ..........
الرافضة اتخذوا أئمتهم ومشايخهم أربابا من دون الله فعبدوهم ...........
أهل السنة أعظم جزما بنجاة أئمتهم كالعشرة وأهل بدر, وأهل بيعة الرضوان..............................................................
مناط السعادة طاعة الله ورسوله , ومناط الشقاوة معصية الله ورسوله ....
دعوى الرافضي انهم أخذوا مذهبهم عن الأئمة المعصومين................
أكاذيب ملفقة في تزيين مذهب الرفض وأئمته...........................
معنى قوله تعالى: (( إلا مودة في القربى )) والرد على الرافضي
في كونها دليلا على إمامة علي .........................................
جهل الرافضي في استدلاله على إمامة عليّ بأنه كان يصلي كل ليلة
الف ركعة وكذبه في ذلك ............................................
جهل الرافضي في قوله جعله الله نفس رسوله – يعني علي ابن أبي طالب..
قول علي بن الحسين للرافضة : ((ما زال حبكم بنا حتى صار
عار علينا ))...........................................................
الموضوع الصفحة
من المصائب التي ابتلي بها ولد الحسين انتساب الرافضة إليهم
فمدحوهم بما يقدح فيهم ...........................................
ذكر الرافضي حكاية امتحان محمد بن علي الجواد وسؤال يحيى بن أكثم
له , وهي حكاية لا يخفى أنها كذب ..................................
ذكر الرافضي حكايات مكذوبة عن عليّ الهادي والرد عليه...........
الحسن بن علي العسكري مات ولم يعقب أحداً فما تدعيه الرافضة في
المهدي باطل لا أصل له .............................................(173/421)
دعوى الرافضي أن أحاديث المهدي يراد بها مهديهم محمد بن
العسكري والرد عليه................................................
غرور الرافضة بما يكذبه علماؤهم على أئمتهم وجهلهم بذلك.........
دعوى الرافضي أن كثيرا من أهل السنة يتدينون بمذهب الرفض باطنا..
شدة تعصب الرافضة ومن أجل ذلك جعلوا للبنت جميع الميراث ليقولوا
إن فاطمة رضي الله عنها ورثت أباها رسول الله صلى الله عليه وسلم..
دعوى الرافضي أن أهل السنة ابتدعوا أشياء لم تكن . مثل ذكر الخلفاء
على المنابر وكذبه ...................................................
دعوى الرافضي أن مسح الرجلين في الوضوء هو الواجب, والرد عليه ..
الموضوع الصفحة
تحريم متعة النساء , وهي من الزنا ....................................
دعوى الرافضي أن أبا بكر منع فاطمة إرثها من أبيها رسول الله عليه السلام..............................................................
تناقض الرافضي ودعواه أن النبي صلى الله عليه وسلم وهب فدك
لفاطمة بعد دعواه انها إرث لها .......................................
كذب الرافضي فيما نسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال :
عليّ مع الحق والحق معه. الخ........................................
دعوى الرافضي أن أبا ذر أولى أن يسمى صديقا , ولم يسموه بل سموا
أبا بكر بذلك فقط...................................................
زعم الرافضي أن ابا بكر لا يستحق أن يسمى خليفة رسول الله والرد
عليه ................................................................
نقمة الرافضي على أهل السنة لأنهم سموا عمرا الفاروق دون علي .....
عيب الرافضي أهل السنة بتعظيمهم عائشة رضي الله عنها والرد عليه
وبيان خزيه........................................................(173/422)
طعن الرافضة في أم المؤمنين مما يخرجهم من الإسلام...................
الموضوع الصفحة
دعوى الرافضي أن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان رضي الله عنه......
قد يرمي الرجل الآخر بالكفر أو النفاق غيرة على الحق ويكون كل
منهما من أهل الجنة..................................................
الرافضة أصحاب جهل وظلم وتناقض ...............................
الرافضة يشتمون الأنبياء برمي زوجاتهم بالزنا.........................
تعجب الرافضي من نصر المسلمين لعائشة وخروجهم معها وعدم
نصرهم لفاطمة على أبي بكر ........................................
زعم الرافضي أن الصحابة ومن تبعهم سموا عائشة فقك أم المؤمنين
وسموا معاوية خال المؤمنين ..........................................
الرافضة يمدحون محمد بن أبي بكر ويلعنون والده لفرط هواهم وظلمهم............................................................
زعم الرافضي أن معاوية رضي الله عنه لم يزل مشركا يهزأ بالشرع
طيلة حياة النبي صلى الله عليه وسلم ................................
إفحام الرافضة بالحجج المقنعة وإبطال دعواهم........................
كذب الرافضي على أهل السنة بأنهم خصوا معاوية بأنه كاتب وحي ..
الموضوع الصفحة
دعوى الرافضي أن معاوية طيلة حياة النبي كان كافرا وأنه هرب إلى
اليمن وأن الرسول صىل الله عليه وسلم قد أهدر دمه ...............
الرافضة تضع الأحاديث عن النبي صلى الله علي وسلم في لعن معاوية
وأنه يموت على الكفر...............................................
قول الرافضة من أفسد الأقوال , وأشدها تناقضا .....................
دعوى الرافضي أن معاوية سم الحسن بن علي رضي الله عنهم ........(173/423)
دعوى الرافضي من أهل السنة خصوا خالد بن الوليد بتسميته سيف
الله مراغمة لعلي.....................................................
دعواه أن علياً قتل بسيفه الكفار , وأنه سيف الله وسهمه .............
زعم الرافضي أن خالدا لم يزل عدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
مكذبا له كعادته في البهت ..........................................
دفاع الرافضي عن مسيلمة الكذاب والمؤمنين به ولومه الصحابة على
قتالهم ..............................................................
تعجيز الرافضة أن يقيموا دليلا على إيمان عليّ رضي الله عنه على أصلهم..............................................................
زعم الرافضي أن معاوية رضي الله عنه – شر من إبليس والرد عليه ...
الموضوع الصفحة
بطلان كون إبليس كان اعبد الملائكة , وإنه كان يحمل العرش , أو من حملته.................................................................
كذب الرافضة وخرافاتهم التي زعموا وقوعها بسبب قتل الحسين رضي
الله عنه...............................................................
أوجه ضلال الرافضة , وإخوانهم الباطنية من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم..............................................................
أهل السنة يقولون بإمامة يزيد بن معاوية ونحوه بمعنى ذو سلطان بغض
النظر عن كونه براً أو فاجراً .........................................
الناس في يزيد طرفان ووسط ........................................
ادخل الشيطان بسبب مقتل الحسين على الناس أموراً شنيعة من سب
السلف والجزع وغير ذلك ..........................................
ما يذكره الرافضة من سبي عيال الحسين والطواف بأهله في الأسواق
كذب مقصود منهم.................................................(173/424)
دعوى الرافضي بأن مذهب الرفض أحق بالاتباع , وأنهم هم الذين
نزهوا الله دون أهل السنة............................................
من هم آل النبي صلى الله عليه وسلم الذين تحرم عليهم الزكاة؟ .......
الموضوع الصفحة
الفضائل الثابتة لعليّ مشتركة بخلاف فضائل أبي بكر وعمر ففضائلهما
خاصة بهما..........................................................
الأحاديث التي يعتمد عليها الرافضي في فضائل علي وأنه الوصي كلها
كذب .............................................................
أنواع من أكاذيب الرافضة , في فضائل عليّ .........................
الرسول صلى الله عليه وسلم شبه أبو بكر بإبراهيم وعيسى , وشبه
عمر بنوح وموسى وذلك أبلغ قوله لعلي: وأنت مني بمنزلة هارون من
موسى إلا أنه لا نبي بعدي...........................................
أكاذيب أخرى من صنع الرافضة....................................
كتاب الفردوس للدليمي فيه أحاديث موضوعة كثيرة ...............
بيان كذب الحديث (( حب عليّ حسنة لا يضر معها سيئة, وهذا
ظاهره كفر)).......................................................
الرافضة عرفوا باستعانتهم بالكفار , وإعانتهم إياهم على المسلمين ....
أصول الرافضة التي تعتمد عليها في إثبات شرعها ....................
مشابهة الرافضة للسامرة الذين هم أخبث اليهود من وجوه كثيرة .....
الموضوع الصفحة
عيب الرافضة على الصديق قوله : (( إن استقمت فأعينوني , وإن
زغت فقوموني )) والرد عليهم .....................................
عيب الرافضة أبا بكر الصديق بقوله : (( أقيلوني فلست بخيركم ,
وجوابه )) .......................................................(173/425)
خطبة عمر في تحذير المسلمين من يريد أن يتوثب على الخلافة بدون مشورة............................................................
قوله: إنه قال عند موته : ليت أمي لم تلدني وبيان بطلانه .............
إذا تكلم الرجل بكلام يتمنى فيه ما لا يكون يعذر إذا كان الحامل
عليه الخوف من الله................................................
عيب الرافضي أبا بكر على قوله : (( ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت
بيدي على يد أحد الرجلين .......................................
زعم الرافضي –وهو مكذوب- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن
من تخلف عن جيش أسامة , ثم ادعى كاذبا أن الخلفاء الثلاثة كانوا
فيه وإبطال دعواه بالبرهان.........................................
زعم الرافضي –وهم مكذوب- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يولّ
ابا بكر عملا قط...................................................
الموضوع الصفحة
الولايات التي ولاها النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر كانت خصائض
كإقامة الحج سنة تسع...............................................
كذب الرافضي في زعمه أن أبا بكر رضي الله عنه قطع يسار سارق ...
بهتان الرافضي في أن أبا بكر جهل أكثر أحكام الشريعة ...............
الدلائل على كمال الصديق رضي الله عنه في العلم والسياسة والتقوى ..
مدح الرافضة لعلي يعود قدحا وذما , وهكذا أئمتهم لأن رأس مالهم الكذب..............................................................
الرافضة يعيبون أبا بكر لأنه لم يقتص من خالد لما قتل مالك بن نويرة ,
ولا يعيبون علياً لما لم يقتص من قتلة عثمان...........................
زعم الرافضي الكذوب أن أبا بكر منع فاطمة إرثها , وعابه بتسمية
خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ...............................(173/426)
دعوى الرافضي أن أبا بكر وعمر تمنيا عدم الوجود أو أنهما بهيمة تؤكل
وخافا هول المطلع بخلاف علي .....................................
اشتبه على عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( ائتوني بكتاب
أكتب لكم )) هل هو من شدة المرض؟ ..............................
الموضوع الصفحة
من قال أن الكتاب الذي هم النبي أن يكتبه في خلافة عليّ , فهو ضال
عن اهل السنة ومخالف لقول الرافضة وبيان ذلك ....................
أنواع من أكاذيب الرافضي على أمير الؤمنين عمر رضي الله عنه وبيان بطلانها...............................................................
زعم الرافضي أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه عطل حدود الله ......
دعوى الرافضي أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قليل المعرفة
بالأحكام.............................................................(173/427)
مخُتْصَرُ
مِنْهَاجِ السُّنَّة
لأبي العباس شيخ الإسلام أحمد بن تيمية
رحمه الله
اختصره
الشيخ عبد الله الغنيمان
المدرس بقسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة
الجزء الثاني 1410هثهه
(فصل )
قال الرافضي: (( وقال في خطبة له : من غالى في مهر امرأة جعلته في بيت المال. فقالت له امرأة : كيف تمنعنا ما أعطانا الله في كتابه حين قال : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } (1) فقال : كل أحد أَفْقه من عمر حتى المخَدَّرات)) .
والجواب : أن هذه القصة دليل على كمال فضل عمر ودينه وتقواه، ورجوعه إلى الحق إذا تبين له، وأنه يقبل الحق حتى من امرأة، ويتواضع له، وأنه معترف بفضل الواحد عليه، ولو في أدنى مسألة. وليس من شرط الأفضل أن لا ينبهه المفضول لأمر من الأمور، فقد قال الهدهد لسليمان : { أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِين } ٍ(2) وقد قال موسى للخضر: { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } (3). والفرق بين موسى والخضر أعظم من الفرق بين عمر وبين أشباهه من الصحابة، ولم يكن هذا بالذي أوجب أن يكون الخضر قريبا من موسى، فضلا عن أن يكون مثله، بل الأنبياء المتّبعون لموسى، كهارون ويوشع وداود وسليمان وغيرهم، أفضل من الخضر.
فالصحابة أعلم الأمة وأفقهها وأدينها. ولهذا أحسن الشافعي رحمه الله في قوله : (( هم فوقنا في كل علم وفقهٍ ودين وهدى، وفي كل سبب يُنال به علم وهدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا )) أو كلاما هذا معناه.
وقال أحمد بن حنبل: (( أصول السنة عندنا التمسك بما عليه أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم -? )).
__________
(1) الآية 20 من سورة النساء.
(2) الآية 22 من سورة النمل.
(3) الآية 66 من سورة الكهف.(174/1)
وما أحسن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال : (( أيها الناس من كان منكم مستنّاً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد كانوا أفضل هذه الأمة : أبرّها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسّكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم )).
وقال حذيفة رضي الله عنه : (( يا معشر القرّاء استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم، فوالله لئن استقمتم قد سبقتم سبقا بعيدا، وإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيداً )).
( فصل )
قال الرافضي : (( ولم يحدّ قدامة في الخمر، لأنه تلا عليه : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا } (1) الآية. فقال له عليٌّ : ليس قدامة من أهل هذه الآية، فلم يدر كم يحدّه. فقال له أمير المؤمنين : حدّه ثمانين. إن شارب الخمر إذا شربها سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى)).
والجواب: أن هذا من الكذب البين الظاهر على عمر رضي الله عنه ؛ فإن علم ابن الخطاب بالحكم في مثل هذه القضية أَبْيَن من أن يحتاج إلى دليل، فإنه قد جَلَدَ في الخمر غير مرة هو وأبو بكر قبله، وكانوا يضربون فيها تارة أربعين وتارة ثمانين، وكان عمر أحيانا يعزِّز فيها بحلق الرأس والنفي، وكانوا يضربون فيها تارة بالجريد، وتارة بالنعال والأيدي وأطراف الثياب.
__________
(1) الآية 93 من سورة المائدة.(174/2)
وأما قصة قدامة، فقد روى أبو إسحاق الجوزجاني وغيره عن ابن عباس أن قدامة بن مظعون شرب الخمر، فقال له عمر ما يحملك على ذلك ؟ فقال:إن الله يقول: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } (1) وإني من المهاجرين الأوَّلين من أهل بدر وأحد. فقال عمر : أجيبوا الرجل. فسكتوا عنه. فقال لابن عباس : أجبه. فقال : إنما أنزلها الله عُذْرًا للماضين لمن شربها قبل أن تُحَرَّم، وأنزل : { إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } (2) حجة على الناس. ثم سأل عمر عن الحد فيها، فقال عليّ بن أبي طالب : إذا شرب هَذَى، وإذا هَذَى افترى، فاجلده ثمانين جلدة، فجلد عمر ثمانين )) ففيه أن علياّ أشار بثمانين، وفيه نظر.
فإن الذي ثبت في الصحيح أن علياًّ جَلَد أربعين عند عثمان بن عفان، لما جلد الوليد بن عقبة، وأنه أضاف الثمانين إلى عمر. وثبت في الصحيح أن عبد الرحمن بن عوف أشار بالثمانين، فلم يكن جلد الثمانين مما استفاد عمر من عليّ. وعليّ قد نُقل عنه أنه جلد في خلافته ثمانين،فدل عَلَى أنه كان يجلد تارة أربعين وتارة ثمانين. ورُوى عن عليّ أنه قال : ما كنت لأقيم حداًّ على أحد فيموت، فأجد في نفسي، إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات لوديته، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسنّه لنا.
وهذا لم يقل به أحد من الصحابة، والفقهاء في الأربعين فما دونها، ولا ينبغي أن يحمل كلام عليّ على ما يخالف الإجماع.
(فصل )
قال الرافضي: (( وأرسل إلى حامل يستدعيها فأسقطت خوفا. فقال له الصحابة : نراك مؤدِّبا ولا شيء عليك. ثم سأل أمير المؤمنين فأوجب الدية على عاقلته )).
__________
(1) الآية 93 من سورة المائدة.
(2) الآية 90 من سورة المائدة.(174/3)
والجواب : أن هذه مسألة اجتهاد تنازع فيها العلماء، وكان عمر بن الخطاب يشاور الصحابة رضي الله عنهم في الحوادث، يشاور عثمان وعلياًّ وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم، حتى يشاور ابن عباس. وهذا كان من كمال فضله وعقله ودينه، ولهذا كان من أسدّ الناس رأياً، وكان يرجع تارة إلى رأي هذا وتارة إلى رأي هذا. وقد أُوتى بامرأة قد أقرّت بالزنا، فاتفقوا على رجمها،وعثمان ساكت. فقال : مالك لا تتكلم ؟ فقال : أراها تستهلُّ به استهلال من لا يعلم أن الزنا محرَّم، فرجع فاسقط الحدَّ عنها لما ذكره له عثمان. ومعنى كلامه أنها تجهر وتبوح به، كما يجهر الإنسان ويبوح بالشيء الذي لا يراه قبيحا، مثل الأكل والشرب والتزوج والتسرّى.
(فصل )
قال الرافضي : (( وتنازعت امرأتان في طفل، ولم يعلم الحكم، وفزع فيه إلى أمير المؤمنين عليّ، فاستدعى أمير المؤمنين المرأتين ووعظهما فلم ترجعا. فقال : ائتوني بمنشار، فقالت المرأتان ما تصنع به ؟ فقال : أقُدُّه بينكما نصفين فتأخذ كل واحدة نصفاً. فرضيت واحدة. وقالت الأخرى : الله الله يا أبا الحسن، إن كان ولا بد من ذلك فقد سمحت لها به. فقال عليّ : الله أكبر هو ابنك دونها، ولو كان ابنها لرقّت عليه. فاعترفت الأخرى أن الحق مع صاحبتها، ففرح عمر، ودعا لأمير المؤمنين )).
والجواب :أن هذه القصة لم يَذكر لها إسناداً ولا يُعرف صحتها، ولا أعلم أحدا من أهل العلم ذكرها، ولو كان لها حقيقة لذكروها، ولا تُعرف عن عُمر وعليّ، ولكن هي معروفة عن سليمان بن داود عليهما السلام.
(فصل)(174/4)
قال الرافضي : (( وأمر برجم امرأة ولدت لستة شهور، فقال له عليّ : إن خَاصَمَتْكَ بكتاب الله تعالى خَصَمَتْك، إن الله يقول : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } (1) ، وقال تعالى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنَ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } (2) .
والجواب : أن عمر كان يستشير الصحابة، فتارة يشير عليه عثمان بما يراه صوابا، وتارة يشير عليه عليّ، وتارة يشير عليه عبد الرحمن بن عوف، وتارة يشير عليه غيرهم. وبهذا مدح الله المؤمنين بقوله تعالى : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } (3) . والناس متنازعون في المرأة إذا ظهر بها حمل ولم يكن لها زوج ولا سيد ولا ادّعت شبهة : هل ترجم ؟ فمذهب مالك وغيره من أهل المدينة والسلف : أنها تُرجم. وهو قول أحمد في إحدى الروايتين. ومذهب أبي حنيفة والشافعي : لا تُرجم، وهي الرواية الثانية عن أحمد. قالوا : لأنها قد تكون مستكرهة على الوطء، أو موطوءة بشبهة، أو حملت بغير وطء.
والقول الأول هو الثابت عن الخلفاء الراشدين. وقد ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب خطب الناس في آخر عمره، وقال : الرجم في كتاب الله حقّ على من زنى من الرجال والنساء، إذا قامت البيِّنة، أو كان الحَبَل، أو الاعتراف(4) . فجعل الحبل دليلا على ثبوت الزنا كالشهود.
(فصل)
قال الرافضي : (( وكان يفضِّل في الغنيمة والعطاء، وأوجب الله تعالى التسوية )).
__________
(1) الآية 15 من سورة الأحقاف.
(2) الآية 233 من سورة البقرة.
(3) الآية 38 من سورة الشورى.
(4) انظر البخاري ج8 ص 168 ومسلم ج3 ص 1317.(174/5)
والجواب : أما الغنيمة لم يكن يقسّمها هو بنفسه، وإنما يقسّمها الجيش الغانمون بعد الخُمس يرسل إليه، كما يرسل إلى غيره، فيقسّمه بين أهله. ولم يقل عمر ولا غيره : إن الغنيمة يجب فيها التفضيل. ولكن تنازع العلماء : هل للإمام أن يفضِّل بعض الغانمين على بعض، إذا تبين له زيادة نفع ؟
وفي الجملة فهذه مسألة اجتهاد. فإذا كان عمر يسوِّغ التفضيل للمصلحة، فهو الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه .
وأما التفضيل في العطاء فلا ريب أن عمر كان يفضّل فيه ويجعل الناس فيه على مراتب. ورُوى عنه أنه قال : لئن عشت إلى قابل لأجعلن الناس بابا واحدا، أي نوعا واحدا.
وأما قول القائل : (( إن الله أوجب التسوية فيه )).
فهو لم يذكر على ذلك دليلا. ولو ذكر دليلا لتكلمنا عليه، كما نتكلم في مسائل الاجتهاد.
(فصل)
قال الرافضي : (( وقال بالرأي والحدس والظن )).
والجواب : أن القول بالرأي لم يختص به عمر رضي الله عنه، بل عليّ كان من أقولهم بالرأي، وكذلك أبو بكر وعثمان وزيد وابن مسعود وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقولون بالرأي. وكان رأي عليّ في دماء أهل القبلة ونحوه من الأمور العظائم. كما في سنن أبي داود وغيره عن الحسن، عن قيس بن عبّاد قال : قلت لعليّ : أخبرنا عن مسيرك هذا، أعهد عهده إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم رأي رأيته ؟ قال : ما عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إليّ شيئا ولكنه رأي رأيته))(1). وهذا أمر ثابت ، ولهذا لم يرو عن عليّ رضي الله عنه في قتال الجمل وصفّين شيئا. كما رواه في قتال الخوارج. ))
__________
(1) انظر سنن أبي داود ج4 ص300.(174/6)
وما يتمارى في كمال سيرة عمر وعلمه وعدله وفضله من له أدنى مُسكة من عقل وإنصاف، ولا يطعن على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا أحد رجلين : إما رجل منافق زنديق ملحد عدو للإسلام، يتوصل بالطعن فيهما إلى الطعن في الرسول ودين الإسلام، وهذا حال المعلِّم الأول للرافضة، أول من ابتدع الرفض، وحال أئمة الباطنية. وإما جاهل مفرط في الجهل والهوى، وهو الغالب على عامة الشيعة، إذا كانوا مسلمين في الباطن.
وإذا قال الرافضي : عليٌّ كان معصوماً لا يقول برأيه، بل كل ما قاله فهو مثل نصّ الرسول، وهو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته من جهة الرسول. قيل له : نظيرك في البدعة الخوارج، كلُّهم يكفّرون علياًّ، مع أنهم أعلم وأصدق وأَدْيَن من الرافضة. لا يستريب في هذا كل من عرف حال هؤلاء وهؤلاء.
(فصل)
قال الرافضي : (( وجعل الأمر شورى بعده، وخالف فيه من تقدَّمه ؛ فإنه لم يفوِّض الأمر فيه إلى اختيار الناس، ولا نصَّ على إمام بعده، بل تأسَّف على سالم مَوْلى أبي حذيفة، وقال : لو كان حياًّ لم يختلجني فيه شك، وأمير المؤمنين عليٌّ حاضر.(174/7)
وجمع فيمن يختار بين الفاضل والمفضول، ومن حق الفاضل التقدّم على المفضول. ثم طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى، وأظهر أنه يكره أن يتقلَّد أمر المسلمين ميّتا كما تقلَّده حياًّ. ثم تقلَّده ميّتا بأن جعل الإمامة في ستة، ثم ناقص فجعلها في أربعة، ثم في ثلاثة، ثم في واحد، فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار، بعد أن وصفه بالضعف والقصور. ثم قال : إن اجتمع أمير المؤمنين وعثمان، فالقول ما قالاه. وإن صاروا ثلاثة فالقول قول الذي صار فيهم عبد الرحمن بن عوف، لعلمه أن علياًّ وعثمان لا يجتمعان على أمر واحد، وأن عبد الرحمن لا يَعْدِل الأمر عن أخيه وهو عثمان وابن عمه، ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام، مع أنهم عندهم من العشرة المبشّرة بالجنة، وأمر بقتل من خالف الأربعة منهم، وأمر بقتل من خالف الثلاثة الذين بينهم عبد الرحمن، وكل ذلك مخالف للدين.
وقال لعليّ : وإن وليتها – وليسوا فاعلين – لتركبنَّهم على المحجّة البيضاء. وفيه إشارة إلى أنهم لا يولّونه إياها. قال لعثمان : إن وليتها لتركبنّ آل أبي معيط على رقاب الناس، وإن فعلت لتُقتلن. وفيه إشارة إلى الأمر بقتله )).
والجواب : أن هذا الكلام كله لا يخرج عن قسمين : إما كذب في النقل، وإما قدح في الحق، فإن منه ما هو كذب معلوم الكذب أو غير معلوم الصدق، وما عُلم أنه صدق فليس فيه ما يوجب الطعن على عمر رضي الله عنه، بل ذلك معدود من فضائله ومحاسنه التي ختم الله بها عمله.(174/8)
ولكن هؤلاء القوم لفرط جهلهم وهواهم يقلبون الحقائق في المنقول والمعقول، فيأتون إلى الأمور التي وقعت وعُلم أنها وقعت، فيقولون : ما وقعت، وإلى أمور ما كانت ويُعلم أنها ما كانت، فيقولون : كانت، ويأتون إلى الأمور التي هي خير وصلاح، فيقولون : هي فساد، وإلى الأمور التي هي فساد، فيقولون: هي خير وصلاح ؛ فليس لهم لا عقل ولا نقل، بل لهم نصيب من قوله : { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } (1).
وأما قول الرافضي : ((وجعل الأمر شورى بعده وخالف فيه من تقدّمه )).
فالجواب : أن الخلاف نوعان : خلاف تضاد، وخلاف تنّوع.فالأول : مثل أن يوجب هذا شيئاً ويحرّمه الآخر. والنوع الثاني : مثل القراءات التي يجوز كل منها، وإن كان هذا يختار قراءة، وهذا يختار قراءة. كما ثبت في الصحاح، بل استفاض عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وروى ابن بطّة بالإسناد الثابت من حديث الزنجي بن خالد عن إسماعيل بن أمية قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر : (( لولا أنكما تختلفان عليَّ ما خالفتكما))(2) . وكان السلف متفقين على تقديمهما حتى شيعة عليّ رضي الله عنهما.
وروى ابن بطّة عن شيخه المعروف بأبي العباس بن مسروق، حدّثنا محمد بن حميد، حدثنا جرير، عن سفيان، عن عبد الله بن زياد بن حُدَير،قال : ((قدم أبو إسحاق السبيعي الكوفة، قال لنا شمر بن عطية : قوموا إليه، فجلسنا إليه، فتحدّثوا، فقال أبو إسحاق : خرجت من الكوفة وليس أحد يشك في فضل أبي بكر وعمر وتقديمهما، وقدمت الآن وهم يقولون ويقولون، ولا والله ما أدري ما يقولون.
__________
(1) الآية 10 من سورة الملك.
(2) قال الهيثمي في مجمع الزوائد ج9 ص 52 ،53 رواه الطبراني في الأوسط وأحمد.(174/9)
وقال : حدثنا النيسابوري، حدثنا أبو أسامة الحلبي، حدثنا أبي ضمرة، عن سعيد بن حسن، قال: سمعت ليث بن أبي سليم يقول : أدركت الشيعة الأولى وما يفضّلون عَلَى أبي بكر وعمر أحداً.
وقال أحمد بن حنبل : ((حدَّثنا ابن عيينة، عن خالد بن سلمة، عن الشعبي، عن مسروق قال : حبُّ أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنّة. ومسروق من أجلّ تابعي الكوفة، وكذلك قال طاووس : (( حبُّ أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة )). وقد رُوى ذلك عن ابن مسعود.
وكيف لا تقدّم الشيعة الأولى أبا بكر وعمر، وقد تواتر عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : (( خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ))(1) وقد روى هذا عنه من طرق كثيرة، قيل : إنها تبلغ ثمانين طريقا.
وقد رواه البخاري عنه في صحيحه من حديث الهمدانيين الذين هم أخص الناس بعليّ حتى كان يقول :
ولو كنت بَّوابا على باب جنَّةٍ لقلتُ لهمدان ادخلي بسلام
وقد رواه البخاري من حديث سفيان الثوري، وهو همداني عن منذر وهو همداني عن محمد بن الحنفية قال : قلت لأبي : يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : يا بُنَيَّ أو ما تعرف ؟ فقلت : لا. قال : أبو بكر. فقلت : ثم من ؟ قال : عمر )) وهذا يقوله لابنه بينه وبينه، ليس هو مما يجوز أن يقوله تقيَّة ويرويه عن أبيه خاصة، وقاله على المنبر. وعنه أنه كان يقول : (( لا أُوتى بأحد يفضِّلنى على أبي بكر وعمر إلا جلدته جلد المفترى )).
وفي السنن عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر))(2) .
__________
(1) انظر البخاري ج5 ص7 وسنن أبي داود ج4 ص 288 وغير ذلك.
(2) انظر سنن الترمذي ج5 ص 271-272 وابن ماجة ج1 ص37 والمسند ج5 ص 382.(174/10)
وعمر رضي الله عنه إمام، وعليه أن يستخلف الأصلح للمسلمين، فاجتهد في ذلك ورأى أن هؤلاء الستة أحقّ من غيرهم، وهو كما رأى ؛ فإنه لم يقل أحد أن غيرهم أحقّ منهم. وَجَعَل التعيين إليهم خوفا أن يعيِّن واحدا منهم ويكون غيره أصلح لهم، فإنه ظهر له رجحان الستة دون رجحان التعيين، وقال : الأمر في التعيين إلى الستة يعيِّنون واحداً منهم.
وهذا أحسن اجتهاد إمام عالم عادل ناصح لا هوى له رضي الله عنه.
وأيضا فقد قال تعالى : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم } (1)، وقال : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } (2) .فكان ما فعله من الشورى مصلحة، وكان ما فعله أبو بكر رضي الله عنه من تعيين عمر هو المصلحة أيضا ؛ فإن أبا بكر تبيَّن له من كمال عمر وفضله واستحقاقه للأمر ما لم يحتج معه إلى الشورى، وظهر أثر هذا الرأي المبارك الميمون على المسلمين. فإن كل عاقل منصف يعلم أن عثمان أو علياًّ أو طلحة أو الزبير أو سعداً أو عبد الرحمن بن عوف لا يقوم مقام عمر، فكان تعيين عمر في الاستحقاق كتعيين أبي بكر في مبايعتهم له.
ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : (( أفرس الناس ثلاثة : بنت صاحب مدين حيث قالت : { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } (3) ، وامرأة العزيز حيث قالت : { عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } (4) وأبو بكر حيث استخلف عمر )).
__________
(1) الآية 38 من سورة الشورى.
(2) الآية 159 من سورة آل عمران.
(3) الآية 26 من سورة القصص.
(4) الآية 9 من سورة القصص.(174/11)
وأما عمر رضي الله عنه فرأى الأمر في الستة متقاربا، فإنهم وإن كان لبعضهم من الفضيلة ما ليس لبعض، فلذلك المفضول مزية أخرى ليست للآخر، ورأى أنه إذا عين واحدا فقد يحصل بولايته نوع من الخلل، فيكون منسوبا إليه، فترك التعيين خوفا من الله تعالى وعلم أنه ليس واحد أحق بهذا الأمر منهم فجمع بين المصلحتين بين تعيينهم إذ لا أحقّ منهم، وترك تعيين واحد منهم لما تخوفه من التقصير.
ولا ريب أن الستة الذين تُوفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهو عنهم راضٍ، الذين عيّنهم عمر، لا يوجد أفضل منهم، وإن كان في كل منهم ما كرهه، فإن غيرهم يكون فيه من المكروه أعظم. ولهذا لم يتولّ بعد عثمان خير منه ولا أحسن سيرة، ولا تولّى بعد عليّ خير منه، ولا تولّى ملك من ملوك المسلمين أحسن سيرة من معاوية رضي الله عنه، كما ذكر الناس سيرته وفضائله.
وإذا كان الواحد من هؤلاء له ذنوب، فغيرهم أعظم ذنوبا، وأقل حسنات. فهذا من الأمور التي ينبغي أن تُعرف، فإن الجاهل بمنزلة الذباب الذي لا يقع إلا على العقير ولا يقع على الصحيح. والعاقل يزن الأمور جميعا : هذا وهذا.
وهؤلاء الرافضة من أجهل الناس، يعيبون على من يذمونه ما يُعاب أعظم منه على من يمدحونه، فإذا سُلك معهم ميزان العدل تبين أن الذي ذموه أَوْلى بالتفضيل ممن مدحوه.
وأما ما يُروى من ذكره لسالم مولى أبي حذيفة ؛ فقد عُلم أن عمر وغيره من الصحابة كانوا يعلمون أن الإمامة في قريش، كما استفاضت بذلك السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي في الناس اثنان )) وفي لفظ : (( ما بقي منهم اثنان ))(1) .
وأما قول الرافضي : (( وجمع بين الفاضل والمفضول، ومن حق الفاضل التقدّم على المفضول )).
__________
(1) انظر البخاري ج4 ص 179 وج9 ص 62 ومسلم ج2 ص 944 وج3 ص 1468.(174/12)
فيقال له : أولا : هؤلاء كانوا متقاربين في الفضيلة، ولم يكن تقدّم بعضهم على بعض ظاهراً، كتقدم أبي بكر وعمر على الباقين. ولهذا كان في الشورى تارة يُؤخذ برأي عثمان، وتارة يؤخذ برأي علي ، وتارة يؤخذ برأي عبد الرحمن. وكل منهم له فضائل لم يشركه فيها الآخر.
ثم يقال له : ثانيا : وإذا كان فيهم فاضل ومفضول، فلم قلت : إن علياًّ هو الفاضل، وعثمان وغيره هم المفضولون ؟ وهذا قول خلاف ما أجمع عليه المهاجرون والأنصار، كما قال غير واحد من الأئمة، منهم أيوب السختياني وغيره : من قدّم علياًّ على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار.
وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال : (( كنّا نفاضل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان )). وفي لفظ : (( ثم ندع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نفاضل بينهم ))(1) .
فهذا إخبار عمّا كان عليه الصحابة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان. وقد رُوى أن ذلك كان يبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره.
وحينئذ فيكون هذا التفضيل ثابتا بالنص. وإلا فيكون ثابتا بما ظهر بين المهاجرين والأنصار على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير نكير، وبما ظهر لمّا تُوفى عمر ؛ فإنهم كلهم بايعوا عثمان بن عفان من غير رغبة ولا رهبة، ولم ينكر هذه الولاية منكر منهم.
قال الإمام أحمد : (( ولم يجتمعوا على بيعة أحد ما اجتمعوا على بيعة عثمان )) وسئل عن خلافة النبوة فقال : (( كل بيعة كانت بالمدينة )). وهو كما قال ؛فإنهم كانوا في آخر ولاية عمر أعزّ ما كانوا وأظهر ما كانوا قبل ذلك.
__________
(1) انظر البخاري ج5 ص4 ، 14 ، 15.(174/13)
وكلهم بايع عثمان بلا رغبة بذلها ولا رهبة ؛ فإنه لم يعط أحداً على ولايته لا مالا ولا ولاية. وعبد الرحمن الذي بايعه لم يولّه ولم يعطه مالا. وكان عبد الرحمن من أبعد الناس عن الأغراض، مع أن عبد الرحمن شاور جميع الناس، ولم يكن لبني أمية شوكة، ولا كان في الشورى منهم أحد غير عثمان.
مع أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا كما وصفهم الله عز وجل : { يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَومَةَ لاَئم } (1). وقد بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يقولوا الحق حيثما كانوا، لا يخافون في الله لومة لائم، ولم ينكر أحد منهم ولاية عثمان، بل كان في الذين بايعوه عمّار بن ياسر وصهيب وأبو ذر وخبّاب والمقداد بن الأسود وابن مسعود. وقال ابن مسعود : ولّينا أعلانا ذا فوق ولم نألُ.
وفيهم العباس بن عبد المطلب، وفيهم من النقباء مثل عبادة بن الصامت وأمثاله، وفيهم مثل أبي أيوب الأنصاري وأمثاله.
فلولا علم القوم أن عثمان أحقهم بالولاية لما ولّوه. وهذا أمر كلما تدبّره الخبير ازداد به خبرة وعلما، ولا يشك فيه إلا من لم يتدبره من أهل العلم بالاستدلال، أو من هو جاهل بالواقع أو بطريق النظر والاستدلال.
وأما قول الرافضي : (( إنه طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى، وأظهر أنه يكره أن يتقلّد أمر المسلمين ميّتا كما تقلّده حياّ، ثم تقلّده بأن جعل الإمامة في ستة )).
__________
(1) الآية 54 من سورة المائدة.(174/14)
فالجواب :أن عمر لم يطعن فيهم طعن من يجعل غيرهم أحق بالإمامة منهم، بل لم يكن عنده أحق بالإمامة منهم، كما نصّ على ذلك. لكن بيَّن عذره المانع له من تعيين واحد منهم، وكره أن يتقلّد ولاية معيّن، ولم يكره أن يتقلد تعيين الستة، لأنه قد علم أنه لا أحداً أحق بالأمر منهم، فالذي علمه وعلم أن الله يثيبه عليه ولا تبعة عليه فيه إن تقلّده هو اختيار الستة، والذي خاف أن يكون عليه فيه تبعة، وهو تعيين واحد منهم، تركه.
وهذا من كمال عقله ودينه رضي الله عنه. ليس كراهته لتقلّده ميّتا كما تقلّده حيّا لطعنه في تقلّده حيا؛ فإنه إنما تقلّد الأمر حيّا باختياره، وبأن تقلده كان خيرا له وللأمة، وإن كان خائفا من تبعة الحساب.
وأما قوله : (( ثم ناقض فجعلها في أربعة، ثم في ثلاثة، ثم في واحد، فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار، بعد أن وصف بالضعف والقصور )).
فالجواب : أولا: أنه ينبغي لمن احتجّ بالمنقول أن يثبته أولا. وإذا قال القائل : هذا غير معلوم الصحة، لم يكن عليه حجة. والنقل الثابت في صحيح البخاري وغيره ليس فيه شيء من هذا، بل هو يدل على نقيض هذا، وأن الستة هم الذين جعلوا الأمر في ثلاثة، ثم الثلاثة جعلوا الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف واحد منهم، ليس لعمر في ذلك أمر.(174/15)
وفي الحديث الثابت عن عمرو بن ميمون أن عمر بن الخطاب لما طُعن قال : (( إن الناس يقولون : استخلف، وإن الأمر إلى هؤلاء الستة الذين توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راضٍ : عليّ وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن مالك، ويشهدهم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء، فإن أصابت الخلافة سعداً،وإلا فليستعن به من وُلِّىَ، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة)).ثم قال: (( أوصى الخليفة من بعدي بتقوى الله تعالى، وأوصيه بالمهاجرين الأوّلين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم : أن يعرف لهم حقّهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار الذين تبوّأوا الدار والإيمان من قبلهم : أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء الإسلام، وغيظ العدو، وجباة الأموال، لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضا منهم، وأوصيه بالأعراب خيرا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام : أن يؤخذ منهم من حواشى أموالهم فترد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله ورسوله أن يوفّى لهم بعهدهم، ويقاتل من وراءهم، ولا يُكلَّفوا إلا طاقتهم ))(1).
وأما قوله : ثم قال : إن اجتمع علي و عثمان فالقول ما قالاه ، وإن صاروا ثلاثة ، فالقول قول الذين صار فيهم عبد الرحمن ، لعلمه أن عليا ًُ وعثمان لايجتمعان على أمر ، و أن عبد الرحمن لا يعدل بالأمر عن أخيه عثمان وابن عمه )) .
__________
(1) انظر البخاري ج5 ص 17.(174/16)
فيقال له : من الذي قال إن عمر قال ذلك ؟ وإن كان قد قال ذلك فلا يجوز أن يُظَنَّ به أنه كان غرضه ولاية عثمان محاباة له، ومنع عليّ معاداة له، فإنه لو كان قصده هذا لولّى عثمان ابتداء، ولم ينتطح فيها عنزان. كيف والذين عاشوا بعده قدّموا عثمان بدون تعيين عمر له ؟ فلو كان عمر عيّنه، لكانوا أعظم متابعة له وطاعة، سواء كانوا كما يقوله المؤمنون : أهل دين وخير وعدل، أو كانوا كما يقوله المنافقون الطاعنون فيهم : إن مقصودهم الظلم والشر. لا سيما وعمر كان في حال الحياة لا يخاف أحدا، والرافضة تسمّيه : فرعون هذه الأمة. فإذا كان في حياته لم يخف من تقديم أبي بكر، والأمر في أوله، والنفوس لم تتوطن على طاعة أحد معيّن بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا صار لعمر أمر، فكيف يخاف من تقديم عثمان عند موته والناس كلهم مطيعوه، وقد تمرّنوا على طاعته ؟
فعُلم أنه لو كان له غرض في تقديم عثمان لقدّمه، ولم يحتج إلى هذه الدورة البعيدة. ثم أي غرض يكون لعمر رضي الله عنه في عثمان دون عليّ؟ وليس بينه وبين عثمان من أسباب الصلة أكثر مما بينه وبين عليّ، لا من جهة القبيلة، ولا من غير جهة القبيلة.
وكذلك قول القائل : إنه عَلِم أن علياًّ وعثمان لا يجتمعان عَلَى أمر، كذب عَلَى عمر رضي الله عنه. ولم يكن بين عثمان وعليّ نزاع في حياة عمر أصلا، بل كان أحدهما أقرب إلى صاحبه من سائر الأربعة إليهما، كلاهما من بني عبد مناف. وما زال بنو عبد مناف يدا واحدة.(174/17)
وقوله: (( إن عمر علم أن عبد الرحمن لا يعدل الأمر عن أخيه وان عمه)). فهذا كذب بين على عمر وعلى أنسابهم ؛ فإن عبد الرحمن ليس أخاً لعثمان ولا ابن عمه ولا من قبيلته أصلا، بل هذا من بني زهرة وهذا من بني أمية. وبنو زهرة إلى بني هاشم أكثر ميلا منهم إلى بني أمية، فإن بني زهرة أخوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم عبد الرحمن بن عوف،وسعد بن أبي وقاص الذي قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( هذا خالي، فليرنى امرؤ خاله ))(1).
ولم يكن أيضا بين عثمان وعبد الرحمن مؤاخاة ولا مخالطة ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري، ولا بين أنصاري وأنصاري، وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وحديثه مشهور ثابت في الصحاح وغيرها، يعرفه أهل العلم بذلك، ولم يؤاخ بين عثمان وعبد الرحمن.
وأما قوله : (( ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام)).
فيقال : أولا: من قال إن هذا صحيح ؟ وأين النقل الثابت بهذا ؟ وإنما المعروف أنه أمر الأنصار أن لا يفارقوهم حتى يبايعوا واحدا منهم.
ثم يقال : ثانيا: هذا من الكذب على عمر، ولم يَنْقُل هذا أحدٌ من أهل العلم بإسناد يعرف، ولا أمر عمر قط بقتل الستة الذين يعلم أنهم خيار الأمة. وكيف يأمر بقتلهم، وإذا قُتلوا كان الأمر بعد قتلهم أشد فسادا ؟ ثم لو أمر بقتلهم لقال ولُّوا بعد قتلهم فلاناً وفلاناً، فكيف يأمر بقتل المستحقِّين للأمر، ولا يولِّي بعدهم أحداً ؟
فهذا من اختلاق مفترٍ لا يدري ما يكتب لا شرعا ولا عادة.
ثم من العجب أن الرافضة يزعمون أن الذين أمر عمر بقتلهم، بتقدير صحة هذا النقل، يستحقِّون القتل إلا علياًّ. فإن عمر أمر بقتلهم، فلماذا ينكرون عليه ذلك، ثم يقولون : إنه كان يحابيهم في الولاية ويأمر بقتلهم ؟ فهذا جمع بين الضدين.
__________
(1) انظر سنن الترمذي ج5 ص 313 وقال : حسن غريب.(174/18)
وإن قلتم : كان مقصوده قتل عليّ.
قيل : لو بايعوا إلا علياًّ لم يكن ذلك يضر الولاية، فإنما يقتل من يخاف. وقد تخلَّف سعد بن عبادة عن بيعة أبي بكر، ولم يضربوه ولم يحبسوه، فضلا عن القتل.
وكذلك من يقول : إن علياًّ وبني هاشم تخلّفوا عن بيعة أبي بكر ستة أشهر، يقول : إنهم لم يضربوا أحدا منهم، ولا أكرهوه على البيعة. فإذا لم يكره أحد عَلَى مبايعة أبي بكر، التي هي عنده متعيّنة، فكيف يأمر بقتل الناس على مبايعة عثمان، وهي عنده غير متعيّنة ؟ وأبو بكر وعمر مدة خلافتهما ما زالا مكرِّمين غاية الإكرام لعليّ وسائر بني هاشم يقدِّمونهم على سائر الناس، ويقول أبو بكر : أيها الناس ارقبوا محمداً في أهل بيته. وأبو بكر يذهب وحده إلى بيت عليّ، وعنده بنو هاشم، فيذكر لهم فضلهم، ويذكرون له فضله، ويعترفون له باستحقاقه الخلافة، ويعتذرون من التأخر، ويبايعونه وهو عندهم وحده.
والآثار المتواترة بما كان بين القوم من المحبة والائتلاف توجب كذب من نقل ما يخالف ذلك. ولو أراد أبو بكر وعمر في ولايتهما إيذاء عليّ بطريق من الطرق، لكانا أقدر عَلَى ذلك من صرف الأمر عنه بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فهؤلاء المفترون يزعمون أنهم ظلموه في حال كان فيها أقدر على دفع الظلم عن نفسه، ومنعهما من ظلمه، وكانا أعجز عن ظلمه لو أراد ذلك، فهلاَّ ظلماه بعد قوّتهما ومطاوعة الناس لهما إن كانا مريدَيْن لظلمه ؟
وكذلك قوله : (( أمر بقتل من خالف الأربعة وأمر بقتل من خالف الثلاثة، منهم عبد الرحمن )).
فيقال : هذا من الكذب المفتَرَى. ولو قدِّر أنه فعل ذلك لم يكن عمر قد خالف الدين، بل يكون قد أمر بقتل من يقصد الفتنة. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرِّق جماعتكم، فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان ))(1).
__________
(1) تقدم تخريجه قبل قليل ص 494.(174/19)
والمعروف عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقتل من أراد أن ينفرد عن المسلمين ببيعة بلا مشاورة لأجل هذا الحديث.
وأما قتل الواحد المتخلف عن البيعة إذا لم تقم فتنة، فلم يأمر عمر بقتل مثل هذا، ولا يجوز قتل مثل هذا.
وكذلك ما ذكره من الإشارة إلى قتل عثمان، ومن الإشارة إلى ترك ولاية عليّ، كذب بيِّن على عمر. فإن قوله : (( لئن فعلت ليقتلنك الناس )) إخبار عما يفعله الناس، ليس فيه أمر لهم بذلك.
وكذلك قوله : (( لا يولّونه إياها )).
إخبار عمّا سيقع، ليس فيه نهي لهم عن الولاية. مع أن هذا اللفظ بهذا السياق ليس بثابت عن عمر. بل هو كذب عليه. والله تعالى أعلم.
( فصل )(174/20)
قال الرافضي : (( وأما عثمان فإنه ولَّى أمور المسلمين من لا يصلح للولاية، حتى ظهر من بعضهم الفسوق، ومن بعضهم الخيانة، وقسَّم الولايات بين أقاربه، وعُوتب على ذلك مراراً فلم يرجع، واستعمل الوليد بن عقبة، حتى ظهر منه شرب الخمر، وصلّى بالناس وهو سكران، واستعمل سعيد بن العاص على الكوفة، وظهر منه ما أدّى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها. وولَّى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر حتى تظلَّم منه أهلها، وكاتبه أن يستمر على ولايته سراًّ، خلاف ما كتب إليه جهراً، وأمر بقتل محمد بن أبي بكر. وولَّى معاوية الشام، فأحدث من الفتن ما أحدث. وولَّى عبد الله بن عامر البصرة ففعل من المناكير ما فعل. وولَّى مروان أمره، وألقى إليه مقاليد أموره، ودفع إليه خاتمه، فحدث من ذلك قتل عثمان، وحدث من الفتنة بين الأمة ما حدث. وكان يُؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال، حتى إنه دفع إلى أربعة نفر من قريش – زوَّجهم بناته – أربعمائة ألف دينار، ودفع إلى مروان ألف ألف دينار. وكان ابن مسعود يطعن عليه ويكفّره، ولما حَكَم ضربه حتى مات. وضرب عمّاراً حتى صار به فتق. وقد قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : عمار جلدة بين عينى تقتله الفئة الباغية، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة. وكان عمَّار يطعن عليه. وطرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة، ومعه ابنه مروان، فلم يزل هو –وابنه- طريداً في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر. فلما وَلِيَ عثمان آواه وردّه إلى المدينة، وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره. مع أن الله تعالى قال : { لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ } (1) ونفى أبا ذر إلى الرَّبذَة، وضربه ضربا وجيعا، مع أن النبي - صلى الله
__________
(1) الآية 22 من سورة المجادلة.(174/21)
عليه وسلم - قال في حقه : ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر. وقال : إن الله أوحى إليَّ أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم. فقيل من هم يا رسول الله ؟ قال سيدهم عليّ وسلمان والمقداد وأبو ذر. وضيّع حدود الله فلم يقتل عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان مولى أمير المؤمنين بعد إسلامه، وكان أمير المؤمنين يطلب عبيد الله لإقامة القصاص عليه، فلحق بمعاوية. وأراد أن يعطِّل حد الشرب في الوليد بن عقبة حتى حدّه أمير المؤمنين، وقال : لا يبطل حد الله وأنا حاضر. وزاد الأذان الثاني يوم الجمعة، وهو بدعة، وصار سنة إلى الآن. وخالفه المسلمون كلهم حتى قُتل، وعابوا أفعاله، وقالوا له : غبتَ عن بدر، وهربت يوم أحد، ولم تشهد بيعة الرضوان. والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى )).
والجواب : أن يقال : نُوَّاب عليّ خانوه وعصوه أكثر مما خان عمّال عثمان له وعصوه. وقد صنَّف الناس كتبا فيمن ولاَّه عليٌّ فاخذ المال وخانه، وفيمن تركه وذهب إلى معاوية. وقد ولَّى عليٌّ رضي الله عنه زياد بن أبي سفيان أبا عبيد الله بن زياد قاتل الحسين، وولَّى الأشتر النخعى، وولَّى محمد بن أبي بكر وأمثال هؤلاء.
ولا يشك عاقل أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كان خيراً من هؤلاء كلهم. ومن العجب أن الشيعة ينكرون عَلَى عثمان ما يدَّعون أن علياًّ كان أبلغ فيه من عثمان. فيقولون : إن عثمان ولَّى أقاربه من بني أمية. ومعلوم أن علياًّ ولَّى أقاربه من قِبَل أبيه وأمه، كعبد الله وعبيد الله ابني العبّاس. فولَّى عبيد الله بن عباس على اليمن، وولَّى على مكة والطائف قثم بن العباس. وأما المدينة فقيل إنه ولَّى عليها سهل بن حُنَيْف. وقيل : ثمامة بن العباس. وأما البصرة فولَّى عليها عبد الله بن عباس. وولَّى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي ربَّاه في حجره.(174/22)
ثم إن الإِمامة تدَّعى أن علياًّ نص على أولاده في الخلافة، أو عَلَى ولده، وولد عَلَى ولده الآخر، وهَلُمَّ جراًّ.
ومن المعلوم أنه إن كان تولية الأقربين منكرا، فتولية الخلافة العظمى أعظم من إمارة بعض الأعمال، وتولية الأولاد أقرب إلى الإنكار من تولية بني العم. ولهذا كان الوكيل والولي الذي لا يشترى لنفسه لا يشترى لابنه أيضا في أحد قولَىْ العلماء، والذي دفع إليه المال ليعطيه لمن يشاء لا يأخذه لنفسه ولا يعطيه لولده في أحد قوليهم.
وكذلك تنازعوا في الخلافة : هل للخليفة أن يوصى بها لولده ؟ على قولين. والشهادة لابنه مردودة عند أكثر العلماء. ولا ترد الشهادة لبني عمه. وهكذا غير ذلك من الأحكام.
وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( أنت ومالك لأبيك ))(1). وقال : (( ليس لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهبه لولده ))(2).
فإن قالوا : إن علياًّ رضي الله عنه فعل ذلك بالنص.
قيل: أولا: نحن نعتقد أن علياًّ خليفة راشد، وكذلك عثمان. لكن قبل أن نعلم حجة كل منهما فيما فعل، فلا ريب أن تطرّق الظنون والتهم إلى ما فعله عليّ أعظم من تطرّق التهم والظنون إلى ما فعله عثمان.
وإذا قال لقائل : لعليّ حجة فيما فعله .
قيل له : وحجة عثمان فيما فعله أعظم. وإذا ادُّعِيَ لعليّ العصمة ونحوها مما يقطع عنه ألسنة الطاعنين، كان ما يدَّعى لعثمان من الاجتهاد الذي يقطع ألسنة الطاعنين أقرب إلى المعقول والمنقول.
__________
(1) رواه ابن ماجة ج2 ص 769.
(2) رواه أبو داود ج3 ص 394 والترمذي ج3 ص 299.(174/23)
فإن الرافضي يجيء إلى أشخاص ظهر بصريح المعقول وصحيح المنقول بأن بعضهم أكمل سيرة من بعض، فيجعل الفاضل مذموماً مستحقاً للقدح، ويجعل المفضول معصوماً مستحقاً للمدح، كما فعلت النصارى : يجيئون إلى الأنبياء صلوات الله عليهم، وقد فضَّل الله بعضهم على بعض، فيجعلون المفضول إلها والفاضل منقوصا دون الحواريين الذين صحبوا المسيح، فيكون ذلك قلبا للحقائق. وأعجب من ذلك أنهم يجعلون الحواريين الذين ليسوا أنبياء معصومين عن الخطأ، ويقدحون في بعض الأنبياء كسليمان وغيره.
ومعلوم أن إبراهيم ومحمداً أفضل من نفس المسيح صلوات الله وسلامه عليهم بالدلائل الكثيرة، بل وكذلك موسى. فكيف يُجعل الذين صحبوا المسيح أفضل من إبراهيم ومحمد ؟
وهذا من الجهل والغلو الذي نهاهم الله عنه. قال تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } (1)
وكذلك الرافضة موصوفون بالغلو عند الأمة، فإن فيهم من ادّعى الإلهية في عليّ. وهؤلاء شرٌّ من النصارى، وفيهم من ادّعى النبوة فيه. ومن أثبت نبياًّ بعد محمد فهو شبيه بأتباع مسيلمة الكذاب وأمثاله من المتنبئين، إلا أن علياًّ رضي الله عنه بريء من هذه الدعوة، بخلاف من ادّعى النبوة لنفسه كمسيلمة وأمثاله.
وهؤلاء الإمامية يدَّعون ثبوت إمامته بالنص، وأنه كان معصوماً هو وكثير من ذريته، وأن القوم ظلموه وغصبوه.
__________
(1) الآية 171 من سورة النساء.(174/24)
ودعوى العصمة تضاهى المشاركة في النبوة. فإن المعصوم يجب اتّباعه في كل ما يقول، لا يجوز أن يخالف في شيء. وهذه خاصة الأنبياء. ولهذا أمرنا أن نؤمن بما أنزل إليهم فقال تعالى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (1) ، فأمرنا أن نقول : آمنا بما أوتي النبيون.
فالإيمان بما جاء به النبيون مما أمرنا أن نقوله ونؤمن به. وهذا مما اتفق عليه المسلمون : أنه يجب الإيمان بكل نبي، ومن كفر بنبي واحد فهو كافر، ومن سبّه وجب قتله باتفاق العلماء.
وليس كذلك من سوى الأنبياء، سواء سمُّوا أولياء أو أئمة أو حكماء أو علماء أو غير ذلك. فمن جعل بعد الرسول معصوما يجب الإيمان بكل ما يقوله فقد أعطاه معنى النبوة، وإن لم يعطه لفظها.
ويقال لهذا : ما الفرق بين هذا وبين أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا مأمورين باتّباع شريعة التوراة ؟
ومعلوم أن كل هذه الأقوال مخالفة لدين الإسلام : للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها. فإن الله تعالى يقول : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأَوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } (2) ، فلم يأمرنا بالرد عند التنازع إلا إلى الله والرسول، فمن أثبت شخصا معصوما غير الرسول، أوجب ردّ ما تنازعوا فيه إليه، لأنه لا يقول عنده إلا الحق كالرسول. وهذا خلاف القرآن.
__________
(1) الآية 136 من سورة البقرة.
(2) الآية 59 من سورة النساء.(174/25)
وأيضا فإن المعصوم تجب طاعته مطلقاً بلا قيد، ومخالفه يستحق الوعيد. والقرآن إنما أثبت هذا في حق الرسول خاصة. قال تعالى : { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُول فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } (1) . وقال : { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً } (2) فدل القرآن في غير موضع على أن من أطاع الرسول كان من أهل السعادة، ولم يشترط في ذلك طاعة معصوم آخر.
ومن عصى الرسول كان من أهل الوعيد، وإن قدِّر أنه أطاع من ظنّ أنه معصوم، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي فرّق الله به بين أهل الجنة وأهل النار، وبين الأبرار والفجّار، وبين الحق والباطل، وبين الغيّ والرشاد، والهدى والضلال، وجعله القسيم الذي قسم الله به عباده إلى شقيّ وسعيد، فمن اتّبعه فهو السعيد، ومن خالفه فهو الشقيّ. وليست هذه المرتبة لغيره.
ولهذا اتفق أهل العلم – أهل الكتاب والسنة – على أن كل شخص سوى الرسول فإنه يؤخذ من قوله ويُترك، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل أمر، فإنه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وهو الذي يُسأل الناس عنه يوم القيامة كما قال تعالى : { فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } (3) .
__________
(1) الآية 69 من سورة النساء.
(2) الآية 23 من سورة الجن.
(3) الآية 6 من سورة الأعراف.(174/26)
وهو الذي يمتحن به الناس في قبورهم، فيُقال لأحدهم : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ ويُقال : ما تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم ؟ فيثبِّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول : هو عبد الله ورسوله، جاءنا بالبيِّنات والهدى فآمنّا به واتّبعناه. ولو ذكر بدل الرسول من ذكره من الصحابة والأئمة والتابعين والعلماء لم ينفعه ذلك، ولا يُمتحن في قبره بشخص غير الرسول.
والمقصود هنا أن ما يُعتذر به عن عليّ فيما أُنكر عليه يُعتذر بأقوى منه عن عثمان، فإن عليًّا قاتل على الولاية، وقُتل بسبب ذلك خلقٌ كثير عظيم، ولم يحصل في ولايته لا قتال للكفار، ولا فتح لبلادهم، ولا كان المسلمون في زيادة خير، وقد ولَّى من أقاربه من ولاّه، فولاية الأقارب مشتركة، ونوَّاب عثمان كانوا أطوع من نوَّاب عليّ وأبعد عن الشر.
وأما الأموال التي تأوَّل فيها عثمان، فكما تأوّل عليّ في الدماء. وأمر الدماء أخطر وأعظم.
ويقال : ثانيا: هذا النصّ الذي تدّعونه، أنتم فيه مختلفون اختلافا يُوجب العلم الضروري بأنه ليس عندكم ما يُعتمد عليه فيه، بل كل قوم منكم يفترون ما شاءوا.
وأيضا فجماهير المسلمين يقولون : إنّا نعلم علماً يقينا، بل ضروريا، كذب هذا النصّ، بطرق كثيرة مبسوطة في مواضعها.(174/27)
ويقال : ثالثا: إذا كان كذلك ظهرت حجة عثمان ؛ فإن عثمان يقول : إن بني أمية كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعملهم في حياته، واستعملهم بعده من لا يُتهم بقرابة : فيهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وعمر رضي الله عنه ، ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمّال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من بني عبد شمس، لأنهم كانوا كثيرين، وكان فيهم شرف وسؤدد، فاستعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - في عزّة الإسلام عَلَى أفضل الأرض مكّة عتّاب بن أثسيد بن أبي العيص بن أمية، واستعمل عَلَى نجران أبا سفيان بن حرب بن أمية، واستعمل أيضا خالد بن سعيد بن العاص على صدقات بني مذحج وعلى صنعاء اليمن، فلم يزل عليها حتى مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستعمل عثمان بن سعيد بن العاص على تيماء وخيبر وقرى عُرَيْنة، واستعمل أبان بن سعيد بن العاص على بعض السرايا، ثم استعمله على البحرين فلم يزل عليها بعد العلاء بن الحضرمي حتى تُوفى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واستعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط حتى أنزل الله فيه : { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } (1).
فيقول عثمان : أنا لم استعمل إلا من استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم ومن جنسهم ومن قبيلتهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده، فقد ولَّى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان بن حرب في فتوح الشام، وأقرَّه عمر، ثم ولَّى عمر بعد أخاه معاوية.
وهذا النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في استعمال هؤلاء ثابت مشهور عنه، بل متواتر عند أهل العلم. ومنه متواتر عند علماء الحديث، ومنه ما يعرفه العلماء منهم، ولا ينكره أحد منهم.
(فصل)
__________
(1) الآية 6 من سورة الحجرات.(174/28)
والقاعدة الكلية في هذا أن لا نعتقد أن أحداً معصوم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل الخلفاء وغير الخلفاء يجوز عليهم الخطأ، والذنوب التي تقع منهم قد يتوبون منها، وقد تُكَفَّر عنهم بحسناتهم الكثيرة، وقد يبتلون أيضا بمصائب يكفّر الله عنهم بها، وقد يكفّر عنهم بغير ذلك.
فكل ما يُنقل عن عثمان غايته أن يكون ذنباً أو خطأً. وعثمان رضي الله عنه قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة، منها سابقته وإيمانه وجهاده وغير ذلك من طاعاته.
وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شهد له، بل بشَّره بالجنة على بلوى تصيبه.
ومنها أنه تاب من عامة ما أنكره عليه، وأنه ابتُلى ببلاء عظيم، فكفّر الله به خطاياه، وصبر حتى قُتل شهيداً مظلوما. وهذا من أعظم ما يكفِّر الله به الخطايا.
وكذلك عليّ رضي الله عنه : ما تنكره الخوارج وغيرهم علي غايته أن يكون ذنباً أو خطأً، وكان قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة. منها سابقته وإيمانه وجهاده، وغير ذلك من طاعته، وشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالجنة. ومنها أنه تاب من أمور كثيرة أُنكرت عليه وندم عليها، ومنها أنه قتل مظلوما شهيدا.
فهذه القاعدة تغنينا أن نجعل كل ما فعل واحد منهم هو الواجب أو المستحب من غير حاجة بنا إلى ذلك.
وحينئذ فقول الرافضي : إن عثمان ولَّى من لا يصلح للولاية. إما أن يكون هذا باطلا، ولم يولّ إلا من يصلح. وإما أن يكون ولَّى من لا يصلح في نفس الأمر، لكنه كان مجتهدا في ذلك، فظن أنه كان يصلح وأخطأ ظنه، وهذا لا يقدح فيه.(174/29)
وهذا الوليد بن عقبة الذي أُنكر عليه ولايته قد اشتهر في التفسير والحديث والسِّيَر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاَّه على صدقات ناسٍ من العرب فلما قرب منهم خرجوا إليه، فظن أنهم يحاربونه، فأرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر محاربتهم له، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرسل إليهم جيشا، فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } (1).
فإذا كان حال هذا خَفِيَ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكيف لا يخفى على عثمان ؟!
وإذا قيل : إن عثمان ولاّه بعد ذلك.
فيقال : باب التوبة مفتوح. وقد كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح ارتد عن الإسلام، ثم جاء تائبا، وقَبِل النبي - صلى الله عليه وسلم - إسلامه وتوبته بعد أن كان أهدر دمه.
وعليّ رضي الله عنه تبين له من عمَّاله ما لم يكن يظنه فيهم. فهذا لا يقدح في عثمان ولا غيره. وغاية ما يُقال : إن عثمان ولَّى من يعلم أن غيره أصلح منه، وهذا من موارد الاجتهاد.
أو يقال : إن محبته لأقاربه ميَّلته إليهم، حتى صار يظنهم أحق من غيرهم، أو أن ما فعله كان ذنبا، وقد تقدّم أن ذنبه لا يُعاقب عليه في الآخرة.
وقوله : حتى ظهر من بعضهم الفسق، ومن بعضهم الخيانة.
فيقال : ظهور ذلك بعد الولاية لا يدل على كونه كان ثابتا حين الولاية، ولا على أن المولِّي علم ذلك. وعثمان رضي الله عنه لما علم أن الوليد بن عقبة شرب الخمر طلبه وأقام عليه الحد. وكان يعزل من يراه مستحقا للعزل، ويقيم الحدّ على من يراه مستحقاً لإقامة الحد عليه.
وأما قوله : وقسَّم المال بين أقاربه.
فهذا غايته أن يكون ذنباً لا يُعاقب عليه في الآخرة، فكيف إذا كان من موارد الاجتهاد ؟
__________
(1) الآية 6 من سورة الحجرات.(174/30)
وبالجملة فعامّة من تولى الأمر بعد عمر كان يخصّ بعض أقاربه : إما بولاية، وإما بمالٍ. وعليّ ولّى أقاربه أيضا.
وأما قوله : استعمل الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر،وصلّى بالناس وهو سكران.
فيقال : لا جرم طَلَبَه وأقام عليه الحد بمشهد من عليّ بن أبي طالب، وقال لعليّ : قم فاضربه. فأمر عليّ الحسن بضربه، فامتنع. وقال لعبد الله بن جعفر : قم فاضربه، فضربه أربعين . ثم قال : أمسك، ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سنة، وهذا أحبّ إليّ. رواه مسلم وغيره(1).
فإذا أقام الحد برأي عليّ وأمره، فقد فعل الواجب.
وكذلك قوله : إنه استعمل سعيد بن العاص على الكوفة، وظهر منه ما أدَّى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها.
فيقال : مجرد إخراج أهل الكوفة لا يدل على ذنب يوجب ذاك، فإن القوم كانوا يقومون عل كل والٍ. قد أقاموا على سعد بن أبي وقاص، وهو الذي فتح البلاد، وكسر جنود كسرى، وهو أحد أهل الشورى، ولم يتول عليهم نائب مثله. وقد شكوا غيره مثل عمَّار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص، والمغيرة بن شعبة، وغيرهم. ودعا عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : اللهم إنهم قد لبَّسوا عليَّ فلبِّس عليهم.
وإذا قدِّر أنه أذنب ذنباً، فمجرد ذلك لا يوجب أن يكون عثمان راضياً بذنبه، ونوّاب عليّ قد أذنبوا ذنوباً كثيرة. بل كان غير واحدٍ من نوّاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يذنبون ذنوباً كثيرة، وإنما يكون الإمام مذنبا إذا ترك ما يجب عليه من إقامة حد، أو استيفاء حق، أو اعتداء ونحو ذلك.
وإذا قُدِّر أن هناك ذنباً، فقد عُلم الكلام فيه.
وأما قوله : وولَّى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر حتى تظلَّم منه أهلها، وكاتبه أن يستمر على ولايته سراًّ، خلاف ما كتب إليه جهرا.
__________
(1) انظر مسلم ج3 ص 1331 – 1332.(174/31)
والجواب : أن هذا كذب عَلَى عثمان وقد حلف عثمان أنه لم يكتب شيئا من ذلك، وهو الصادق البارّ بلا يمين، وغاية ما قيل : إن مروان كتب بغير علمه، وأنهم طلبوا أن يسلِّم إليهم مروان ليقتلوه، فامتنع. فإن كان قَتْلُ مروان لا يجوز، فقد فعل الواجب، وإن كان يجوز ولا يجب، فقد فعل الجائز، وإن كان قتله واجباً، فذاك من موارد الاجتهاد ؛ فإنه لم يثبت لمروان ذنب يُوجب قتله شرعا، فإن مجرد التزوير لا يوجب القتل. وبتقدير أن يكون تَرَكَ الواجب فقد قدَّمنا الجواب العام.
وأما قوله : أمر بقتل محمد بن أبي بكر.
فهذا من الكذب المعلوم عَلَى عثمان. وكل ذي علم بحال عثمان وإنصاف له، يعلم أنه لم يكن ممن يأمر بقتل محمد بن أبي بكر ولا أمثاله، ولا عرف منه قط أنه قتل أحداً من هذا الضرب، وقد سعوا في قتله، ودخل عليه محمد فيمن دخل، وهو لا يأمر بقتالهم دفعاً عن نفسه، فكيف يبتدئ بقتل معصوم الدم ؟
وإن ثبت أن عثمان أمر بقتل محمد بن أبي بكر، لم يُطعن على عثمان. بل عثمان إن كان أمر بقتل محمد بن أبي بكر أَوْلى بالطاعة ممن طلب قتل مروان، لأن عثمان إمام هُدى، وخليفة راشد، يجب عليه سياسة رعيته، وقتل من لا يُدفع شرّه إلا بالقتل. وأما الذين طلبوا قتل مروان فقوم خوارج مفسدون في الأرض، ليس لهم قتل أحدٍ، ولا إقامة حد. وغايتهم أن يكونوا ظُلموا في بعض الأمور، وليس لكل مظلوم أن يقتل بيده كل من ظلمه، بل ولا يقيم الحد.
وليس مروان أَوْلى بالفتنة والشر من محمد بن أبي بكر، ولا هو أشهر بالعلم والدين منه. بل أخرج أهل الصحاح عدة أحاديث عن مروان، وله قول مع أهل الفتيا، واختُلف في صحبته.
وأما قوله : (( ولّى معاوية الشام، فأحدث من الفتن ما أحدثه )).(174/32)
فالجواب : أن معاوية إنما ولاّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. لما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان ولاّه عمر مكان أخيه. واستمر في ولاية عثمان، وزاده عثمان في الولاية. وكانت سيرة معاوية مع رعيته من خيار سير الولاة، وكانت رعيته يحبونه.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( خيار أئمتكم الذين تحبّونهم ويحبونكم، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم ))(1).
وإنما ظهر الأحداث من معاوية في الفتنة لما قُتل عثمان، ولما قُتل عثمان كانت الفتنة شاملة لأكثر الناس، لم يختص بها معاوية، بل كان معاوية أطلب للسلامة من كثيرٍ منهم، وأبعد عن الشر من كثير منهم.
ومعاوية كان خيرا من الأشتر النخعي، ومن محمد بن أبي بكر، ومن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، ومن أبي الأعور السلمي، ومن هاشم بن هاشم بن هاشم المرقال، ومن الأشعث بن قيس الكندي، ومن بُسر بن أبي أرطأة، وغير هؤلاء من الذين كانوا معه ومع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما.
وأما قوله : (( وولَّى عبد الله بن عامر البصرة، ففعل من المناكير ما فعل )).
فالجواب : إن قتل عثمان والفتنة لم يكن سببها مروان وحده، بل اجتمعت أمور متعددة، من جملتها أمور تُنكر من مروان. وعثمان رضي الله عنه كان قد كَبُر، وكانوا يفعلون أشياء لا يُعلمونه بها، فلم يكن آمراً لهم بالأمور التي أنكرتموها عليه، بل كان يأمر بإبعادهم وعزلهم، فتارة يفعل ذلك، وتارة لا يفعل ذلك. وقد تقدم الجواب العام.
__________
(1) انظر صحيح مسلم ج3 ص 1481 ، 1482 والمسند ج6 ص 24 والترمذي ج3 ص 360 والدرامى ج2 ص 324.(174/33)
ولما قدم المفسدون الذين أرادوا قتل عثمان، وشكوا أمورا، أزالها كلها عثمان، حتى أنه أجابهم إلى عزل من يريدون عزله، وإلى أن مفاتيح بيت المال تعطى لمن يرتضونه، وأنه لا يعطى أحداً من المال إلا بمشورة الصحابة ورضاهم، ولم يَبْقَ لهم طلب. ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها:(( مصصتموه كما يُمص الثوب، ثم عمدتم إليه فقتلتموه )).
وقد قيل : إنه زُوِّر عليه كتابٌ بقتلهم، وأنهم أخذوه في الطريق، فأنكر عثمان الكتاب، وهو الصادق. وأنهم اتهموا به مروان، وطلبوا تسليمه إليهم، فلم يسلّمه.
وهذا بتقدير أن يكون صحيحا، لا يبيح شيئا مما فعلوه بعثمان. وغايته أن يكون مروان قد أذنب في إرادته قتلهم، ولكن لم يتم غرضه. ومن سعى في قتل إنسان ولم يقتله، لم يجب قتله. فما كان يجب قتل مروان بمثل هذا. نعم ينبغي الاحتراز ممن يفعل مثل هذا، وتأخيره وتأديبه. ونحو ذلك. أما الدم فأمر عظيم.
وأما قوله : (( وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال، حتى أنه دفع إلى أربعة نفر من قريش، زوَّجهم بناته، أربعمائة ألف دينار، ودفع إلى مروان ألف ألف دينار )).
فالجواب : أولا أن يُقال : أين النقل الثابت بهذا ؟ نعم كان يعطي أقاربه عطاءً كثيرا، ويعطى غير أقاربه أيضا، وكان محسنا إلى جميع المسلمين. وأما هذا القدر الكثير فيحتاج إلى نقل ثابت.
ثم يقال : ثانيا : هذا من الكذب البيّن، فإنه لا عثمان ولا غيره من الخلفاء الراشدين أعطوا أحداً ما يقارب هذا المبلغ. ومن المعلوم أن معاوية كان يعطي من يتألّفه أكثر من عثمان. ومع هذا فغاية ما أعطى الحسن بن عليّ مائة ألف أو ثلاثمائة ألف درهم. وذكروا أنه لم يعط أحدا قدر هذا قط.
نعم كان عثمان يعطي بعض أقاربه ما يعطيهم من العطاء الذي أُنكر عليه، وقد تقدم تأويله في ذلك، والجواب العام يأتي على ذلك.(174/34)
وبالجملة، فلا بد لكل ذوى أمر من أقوام يأتمنهم على نفسه، ويدفعون عنه من يريد ضرره. فإن لم يكن الناس مع إمامهم كما كانوا مع أبي بكر وعمر، احتاج الأمر إلى بطانة يطمئن إليهم، وهم لا بد لهم من كفاية. فهذا أحد التأويلين.
والتأويل الثاني : أنه كان يعمل في المال. وقد قال الله تعالى: { وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } (1). والعامل على الصدقة الغنى له أن يأخذ بعمالته باتفاق المسلمين.
وأما قوله : ((وكان ابن مسعود يطعن عليه ويكفّره )).
فالجواب : أن هذا من الكذب البيّن على ابن مسعود، فإن علماء أهل النقل يعلمون أن ابن مسعود ما كان يكفّر عثمان، بل لما وَلِيَ عثمان وذهب ابن مسعود إلى الكوفة قال : (( ولَّينَا أعلانا ذا فوق ولم نأل )).
وكان عثمان في السنين الأُوَل من ولايته لا ينقمون منه شيئا ولما كانت السنين الآخرة نقموا منه أشياء، بعضها هم معذورون فيه، وكثير منها كان عثمان هو المعذور فيه.
من جملة ذلك أمر ابن مسعود ؛ فإن ابن مسعود بقي في نفسه من أمر المصحف، لما فوَّض كتابته إلى زيد دونه، وأمر الصحابة أن يغسلوا مصاحفهم. وجمهور الصحابة كانوا على ابن مسعود مع عثمان.
وعثمان أفضل من كل من تكلَّم فيه. هو أفضل من ابن مسعود وعمَّار وأبي ذر ومن غيرهم من وجوه كثيرة، كما ثبت ذلك بالدلائل الكثيرة.
فليس جعل كلام المفضول قادحاً في الفاضل بأَوْلى من العكس، بل إن أمكن الكلام بينهما بعلم وعدل، وإلا تكلم بما يُعلم من فضلهما ودينهما، وكان ما شجر بينهما وتنازعا فيه أمره إلى الله.
ولهذا أوصوا بالإمساك عما شجر بينهم، لأنا لا نُسأل عن ذلك.
__________
(1) الآية 60 من سورة التوبة.(174/35)
كما قال عمر بن عبد العزيز : (( تلك دماء طهَّر الله منها يدى، فلا أحب أن أخضّب بها لساني )). وقال آخر : { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (1).
لكن إذا ظهر مبتدع يقدح فيهم بالباطل، فلا بد من الذبّ عنهم، وذكر ما يبطل حجته بعلمٍ وعدل.
وكذلك ما نقل من تكلّم عمّار في عثمان، وقول الحسن فيه، ونقل عنه أنه قال : (( لقد كَفَر عثمان كفرة صلعاء )) وأن الحسن بن عليّ أنكر ذلك عليه، وكذلك عليّ، وقال له : (( يا عمار أتكفر بربٍّ آمن به عثمان ؟ )).
وأما قوله : (( أنه لما حكم ضرب ابن مسعود حتى مات )).
فهذا كذب باتفاق أهل العلم، فإنه لما وَلِيَ أقرّ ابن مسعود على ما كان عليه من الكوفة، إلى أن جرى من ابن مسعود ما جرى. وما مات ابن مسعود من ضرب عثمان أصلا.
وفي الجملة فإذا قيل إن عثمان ضرب ابن مسعود أو عمَّاراً، فهذا لا يقدح في أحد منهم ؛ فإنه نشهد أن الثلاثة في الجنة، وأنهم من أكابر أولياء الله المتقين. وقد قدَّمنا أن ولي الله قد يصدر منه ما يستحق عليه العقوبة الشرعية، فكيف بالتعزير ؟.
وأما قوله : (( وقال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( عمّار جلدة بين عَيْنَيْ، تقتله الفئة الباغية، لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة )).
فيقال : الذي في الصحيح : (( تقتل عمّار الفئة الباغية )) (2)2) وطائفة من العلماء ضعفوا هذا الحديث، منهم الحسين الكرابيسي وغيره، ونقل ذلك عن أحمد أيضا.
وأما قوله : (( لا أنالهم الله شفاعتي )) فكذب مزيد في الحديث، لم يروه أحد من أهل العلم بإسناد معروف.
وكذلك قوله : (( عمّار جلدة بين عيني )) لا يعرف له إسناد.
__________
(1) الآية 134 من سورة البقرة.
(2) انظر البخاري ج1 ص 93 وج4 ص 21 ومسلم ج4 ص 2235 – 2236.(174/36)
ولو قيل مثل ذلك، فقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال : (( إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها ))(1) . وفي الصحيح عنه أنه قال : (( لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ))(2) . وثبت عنه في الصحيح أنه كان يحب أسامة، ثم يقول : (( اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه ))(3) . ومع هذا لما قتل ذلك الرجل أنكر عليه إنكار شديدا وقال : (( يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ؟ أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله )) قال : فما زال يكررها عليّ حتى تمنّيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ))(4) .
كذلك عثمان فيمن أقام عليه حدًّا أو تعزيرا هو أولى بالعلم والعدل منهم. وإذا وجب الذبّ عن عليّ لمن يريد أن يتكلم فيه بمثل ذلك، فالذبّ عن عثمان لمن يريد أن يتكلم فيه بمثل ذلك أَوْلى.
وقوله : (( وطرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة، ومعه ابنه مروان، فلم يزل هو وابنه طريدين في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر، فلما وَليَ عثمان آواه وردّه إلى المدينة، وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره. مع أن الله قال : { لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ باللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } (5) .
__________
(1) البخاري ج3 ص 190 وج5 ص 22-23 ،ومسلم ج4 ص 1902 – 1904.
(2) البخاري ج5 ص 23 ومواضع أُخر ومسلم ج 3 ص 1315 -1316.
(3) انظر البخاري ج5 ص 21.
(4) انظر صحيح مسلم ج1 ص 96- 97 وسنن أبي داود ج3 ص 61.
(5) الآية 22 من سورة المجادلة.(174/37)
والجواب : أن الحكم بن أبي العاص كان من مسلمة الفتح، وكانوا ألفىْ رجل،ومروان ابنه كان صغيرا إذ ذاك، فإنه من أقران ابن الزبير والمسور بن مخرمة، عمره حين الفتح سن التمييز : إما سبع سنين، أو أكثر بقليل، أو أقل بقليل، فلم يكن لمروان ذنب يُطرد عليه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإن كان قد طرده، فإنما طرده من مكة لا من المدينة، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة. وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه، وقالوا : هو ذهب باختياره.
وأما استكتابه مروان، فمروان لم يكن له في ذلك ذنب، لأنه كان صغيرا لم يجر عليه القلم، ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - ومروان لم يبلغ الحُلُم باتفاق أهل العلم، بل غايته أن يكون عشر سنين أو قريب منها، وكان مسلما باطنا وظاهرا، يقرأ القرآن ويتفقه في الدين، ولم يكن قبل الفتنة معروفاً بشيء يُعاب به، فلا ذنب لعثمان في استكتابه.
وأما الفتنة فأصابت من هو أفضل من مروان، ولم يكن مروان ممن يحادّ الله ورسوله. وأما أبوه الحكم فهو من الطلقاء، والطلقاء حسن إسلام أكثرهم، وبعضهم فيه نظر. ومجرد ذنب يعزَّر عليه لا يوجب أن يكون منافقا في الباطن.
وأما قوله : (( إنه نفى أبا ذر إلىالرَّبذَة وضربه ضربا وجيعا، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حقه : ما أقلَّت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذى لهجة أصدق من أبي ذر. وقال : إن الله أوحى إليّ أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم. فقيل له : من هم يا رسول الله ؟ قال : عليّ سيدهم، وسلمان، والمقداد، وأبو ذر )).(174/38)
فالجواب : أن أبا ذر سكن الربذة ومات بها لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس، فإن أبا ذر رضي الله عنه كان رجلا صالحا زاهدا، وكان من مذهبه أن الزهد واجب، وأن ما أمسكه الإنسان فاضلاً عن حاجته فهو كنز يُكوى به في النار، ولما توفى عبد الرحمن بن عوف وخلف مالاً، جعل أبو ذر ذلك من الكنز الذي يُعاقب عليه، وعثمان يناظره في ذلك، حتى دخل كعب ووافق عثمان، فضربه أبو ذر، وكان قد وقع بينه وبين معاوية بالشام بهذا السبب.
وأما الخلفاء الراشدون وجماهير الصحابة والتابعين فعلى خلاف هذا القول.
فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة ))(1) . فنفى الوجوب فيما دون المائتين، ولم يشترط كون صاحبها محتاجا إليها أم لا.
وقال جمهور الصحابة : الكنز هو المال الذي لم تؤدّ حقوقه.
وكان أبو ذر يريد أن يوجب على الناس ما لم يوجب الله عليهم، ويذمهم على ما لم يذمهم الله عليه، مع أنه مجتهد في ذلك، مثاب على طاعته رضي الله عنه، كسائر المجتهدين من أمثاله.
فكان اعتزاز أبي در لهذا السبب، ولم يكن لعثمان مع أبي ذر غرض من الأغراض.
وأما كون أبي ذر من أصدق الناس، فذاك لا يوجب أنه أفضل من غيره، بل كان أبو ذر مؤمنا ضعيفا. كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له : (( يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي. لا تأمّرن على اثنين. ولا تولين مال يتيم ))(2) .
وقد ثبت في الصحيح أنه قال : (( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير ))(3) .
__________
(1) انظر البخاري ج2 ص 107 ومسلم ج2 ص 675.
(2) انظر مسلم ج3 ص 1457.
(3) انظر مسلم ج4 ص 2052.(174/39)
وأهل الشورى مؤمنون أقوياء، وأبو ذر وأمثاله مؤمنون ضعفاء. فالمؤمنون الصالحون لخلافة النبوة، كعثمان وعليّ وعبد الرحمن بن عوف، أفضل من أبي ذر وأمثاله.
والحديث المذكور بهذا اللفظ الذي ذكره الرافضي ضعيف، بل موضوع، وليس له إسناد يقوم به.
وأما قوله : (( إنه ضيّع حدود الله، فلم يقتل عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان مولى أمير المؤمنين بعد إسلامه، وكان أمير المؤمنين يطلب عبيد الله لإقامة القصاص عليه، فلحق بمعاوية. وأراد أن يعطّل حدّ الشرب في الوليد بن عقبة، حتى حدّه أمير المؤمنين. وقال : لا تبطل حدود الله وأنا حاضر )).
فالجواب : أما قوله : (( إن الهرمزان كان مولى عليّ )).
فمن الكذب الواضح، فإن الهرمزان كان من الفرس الذين استنابهم كسرى على قتال المسلمين، فأسره المسلمون وقَدِموا به على عمر، فأظهر الإسلام، فمنّ عليه عمر وأعتقه، ولما قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان الذي قتله أبو لؤلؤة الكافر المجوسي مولى المغيرة بن شعبة، وكان بينه وبين الهرمزان مجانسة، وذُكر لعبيد الله بن عمر أنه رؤى عند الهرمزان حين قتل عمر، فكان ممن اتهم بالمعاونة على قتل عمر.
وقد قال عبد الله بن عباس لما قُتل عمر، وقال له عمر : قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة. فقال : إن شئت أن نقتلهم. فقال : (( كذبت، أما بعد إذ تكلموا بلسانكم، وصلُّوا إلى قبلتكم ))(1).
__________
(1) انظر البخاري ج5 ص 15 – 18.(174/40)
فهذا ابن عباس وهو أفقه من عُبَيْد الله وأَدْيَن وأفْضَل بكثير يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقا الذين كانوا بالمدينة، لما اتهموهم بالفساد اعتقد جواز مثل هذا، فكيف لا يعتقد عبيد الله جواز قتل الهرمزان ؟ فلما استشار عثمان الناس في قتله، فأشار عليه طائفة من الصحابة أن لا تقتله، فإن أباه قتل بالأمس ويُقتل هو اليوم، فيكون في هذا فساد في الإسلام، وكأنهم وقعت لهم شبهة في عصمة الهرمزان، وهل كان من الصائلين الذين كانوا يستحقون الدفع ؟ أو من المشاركين في قتل عمر الذين يستحقون القتل ؟
وإذا كان قتل عمر وعثمان وعليّ ونحوهم من باب المحاربة، فالمحاربة يشترك فيها الردء والمباشر عند الجمهور، فعلى هذا من أعان عَلَى قتل عمر،ولو بكلام، وجب قتله، وكان الهرمزان ممن ذُكر عنه أنه أعان عَلَى قتل عمر بن الخطاب.
وإذا كان الأمر كذلك كان قتله واجبا، ولكن كان قتله إلى الأئمة، فافتات عبيد الله بقتله، وللإمام أن يعفو عمن افتات عليه.
وأما قوله : إن علياًّ كان يريد قتل عبيد الله بن عمر. فهذا لو صح كان قدحاً في عليّ. والرافضة لا عقول لهم، يمدحون بما هو إلى الذم أقرب.
ثم يقال : يا ليت شعرى متى عزم عليٌّ عَلَى قتل عبيد الله ؟ ومتى تمكن عليّ من قتل عبيد الله ؟ أو متى تفرّغ له حتى يظهر في أمره ؟
وعبيد الله كان معه ألوف مؤلفة من المسلمين مع معاوية، وفيهم خير من عبيد الله بكثير. وعليّ لم يمكنه عزل معاوية، وهو عزل مجرد. أفكان يمكنه قتل عبيد الله ؟!(174/41)
ومن العجب أن دم الهرمزان المتهم بالنفاق، والمحاربة لله ورسوله، والسعي في الأرض بالفساد، تُقام فيه القيامة، ودم عثمان يُجعل لا حرمة له، وهو إمام المسلمين المشهود له بالجنة، الذي هو – وإخوانه – أفضل الخلق بعد النبيين. ومن المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكفِّ الناس عن الدماء، وأصبر الناس على من نال من عرضه، وعلى من سعى في دمه فحاصروه وسعوا في قتله، وقد عُرف إرادتهم لقتله، وقد جاء المسلمون من كل ناحية ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم، وهو يأمر الناس بالكف عن القتال، ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم. ورُوى أنه قال لمماليكه : من كفَّ يده فهو حرّ. وقيل له : تذهب إلى مكة ؟ فقال : لا أكون ممن ألحد في الحرم. فقيل له: تذهب إلى الشام ؟ فقال : لا أفارق دار هجرتي. فقيل له : فقاتلهم. فقال : لا أكون أول من خلف محمداً في أمته بالسيف.
فكان صبر عثمان حتى قُتل من أعظم فضائله على المسلمين. فمن قدح في عثمان بأنه كان يستحل إراقة دماء المسلمين بتعطيل الحدود، وكان قد طرَّق من القدح في عليّ ما هو أعظم من هذا، وسوَّغ لمن أبغض عليًّا وعاداه وقاتله أن يقول : إن عليّا عطَّل الحدود الواجبة على قتلة عثمان. وتعطيل تلك الحدود إن كانت واجبة أعظم فسادا من تعطيل حدٍّ وجب بقتل الهرمزان.
وإذا كان من الواجب الدفع عن عليّ بأنه كان معذورا باجتهاد أو عجز، فلأن يُدفع عن عثمان بأنه كان معذورا بطريق الأَوْلى.
وأما قوله : (( أراد عثمان تعطيل حد الشرب في الوليد بن عقبة، حتى حدّه أمير المؤمنين )).
فهذا كذب عليهما، بل عثمان هو الذي أمر عليًّا بإقامة الحد عليه،كما ثبت ذلك في الصحيح(1)، وعليّ خفف عنه وجَلَده أربعين، ولو جلده ثمانين لم ينكر عليه عثمان.
وقول الرافضي : (( إن عليًّا قال : لا يبطُل حدُّ الله وأنا حاضر )).
__________
(1) انظر مسلم ج3 ص 1331 وغيره.(174/42)
فهو كذب. وإن كان صدقا فهو من أعظم المدح لعثمان ؛ فإن عثمان قَبِلَ قول عليّ ولم يمنعه من إقامة الحد، مع قدرة عثمان على منعه لو أراد، فإن عثمان كان إذا أراد شيئا فعله، ولم يقدر عليّ عَلَى منعه. وإلا فلو كان عليّ قادراً على منعه مما فعله من الأمور التي أُنكرت عليه ولم يمنعه مما هو عنده مُنْكَرٌ مع قدرته، كان هذا قدحاً في عليّ. فإذا كان عثمان أطاع عليًّا فيما أمره به من إقامة الحدّ دل ذلك على دِين عثمان وعدله.
وعثمان وليّ الوليد بن عقبة هذا على الكوفة، وعندهم أن هذا لم يكن يجوز. فإن كان حراماً وعليٌّ قادر على منعه، وجب عَلَى عليٍّ منعه، فإذا لم يمنعه دلّ على جوازه عند عليّ، أو عَلَى عجز عليّ. وإذا عجز عن منعه عن الإمارة، فكيف لا يعجز عن ضربه الحد ؟ فعُلم أن عليّا كان عاجزاً عن حدّ الوليد، لولا عثمان أراد ذلك، فإذا أراده عثمان دلّ على دينه.
والرافضة تتكلم بالكلام المتناقض الذي ينقض بعضه بعضا.
وأما قوله : (( إنه زاد الأذان الثاني يوم الجمعة، وهو بدعة، فصار سنة إلى الآن )).
فالجواب : أن عليًّا رضي الله عنه كان ممن يوافق على ذلك في حياة عثمان وبعد مقتله. ولهذا لما صار خليفة لم يأمر بإزالة الأذان، كما أمر بما أنكره من ولاية طائفة من عمّال عثمان، بل أمر بعزل معاوية وغيره. ومعلوم أن إبطال هذه البدعة كان أهون عليه من عزل أولئك ومقاتلتهم التي عجز عنها، فكان على إزالة هذه البدعة، من الكوفة ونحوها من أعماله، أقدر منه على إزالة أولئك، ولو أزال ذلك لعلمه الناس ونقلوه.
فإن قيل : كان الناس لا يوافقونه على إزالتها.(174/43)
قيل : فهذا دليل على أن الناس وافقوا عثمان على استحبابها واستحسانها، حتى الذين قاتلوا مع عليّ، كعمّار وسهل بن حنيف وغيرهما من السابقين الأَوَّلين. ثم من العجب أن الرافضة تنكر شيئاً فعله عثمان بمشهد من الأنصار والمهاجرين، ولم ينكروه عليه، واتبعه المسلمون كلهم عليه في أذان الجمعة، وهم قد زادوا في الأذان شعارا لم يكن يعرف على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا نقل أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك في الأذان، وهو قولهم : (( حيّ على خير العمل )).
ونحن نعلم بالاضطرار أن الأذان، الذي كان يؤذنه بلال وابن أم مكتوم في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وأبو محذورة بمكة، وسعد القرظ في قباء، لم يكن فيه هذا الشعار الرافضي. ولو كان فيه لنقله المسلمون ولم يهملوه، كما نقلوا ما هو أيسر منه. فلما لم يكن في الذين نقلوا الأذان مَنْ ذَكَر هذه الزيادة، عُلم أنها بدعة باطلة.
وأما قوله : (( وخالفه المسلمون كلهم حتى قُتل. وعابوا أفعاله، وقالوا له : غبت عن بدر، وهربت يوم أحد، ولم تشهد بيعة الرضوان. والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى )).
فالجواب :أما قوله : (( وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل )).
فإن أراد أنهم خالفوه خلافا يبيح قتله، أو أنهم كلهم أمَروا بقتله، ورضوا بقتله، وأعانوا على قتله. فهذا مما يَعْلم كل أحد أنه من أظهر الكذب، فإنه لم يقتله إلا طائفة قليلة باغية ظالمة.
قال ابن الزبير : (( لُعنت قتلة عثمان، خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية، فقتلهم الله كل قتلة، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب )) يعني هربوا ليلا، وأكثر المسلمين كانوا غائبين، وكان أهل المدينة الحاضرين لم يكونوا يعلمون أنهم يريدون قتله حتى قتلوه.(174/44)
وإن أراد أن كل المسلمين خالفوه في كل ما فعله، أو في كل ما أُنكر عليه. فهذا أيضا كذب. فما من شيء أُنكر عليه إلا وقد وافقه عليه كثير من المسلمين، بل من علمائهم الذين لا يُتهمون بمداهنة، والذين وافقوا عثمان على ما أُنكر عليه أكثر وأفضل عند المسلمين من الذين وافقوا عليًّا على ما أُنكر عليه : إما في كل الأمور، وإما في غالبها.
وأما الساعون في قتله فكلهم مخطئون، بل ظالمون باغون معتدون. وإن قدِّر أن فيهم من قد يغفر الله له، فهذا لا يمنع كون عثمان قُتل مظلوما.
والذي قال له : غبتَ عن بدر وبيعة الرضوان، وهربتَ يوم أحد، قليل جدا من المسلمين. ولم يعيّن منهم إلا اثنان أو ثلاثة أو نحو ذلك. وقد أجابهم عثمان وابن عمر وغيرهما عن هذا السؤال، وقالوا : يوم بدر غاب بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخلفه عن ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فضرب له النبي - صلى الله عليه وسلم - بسهمه وأجره.
ويوم الحديبية بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عثمان بيده. ويد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير له من يده لنفسه، وكانت البيعة بسببه، فإنه لما أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - رسولا إلى أهل مكة بلغه أنهم قاتلوه، فبايع أصحابه على أن لا يفروا، أو على الموت، فكان عثمان شريكا في البيعة، مختصًّا بإرسال النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأما التولّي يوم أحد، فقد قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } (1) فقد عفا الله عن جميع المتَولِّين يوم أحد، فدخل في العفو من هو دون عثمان، فكيف لا يدخل هو فيه مع فضله وكثرة حسناته ؟!
(فصل)
__________
(1) الآية 155 من سورة آل عمران.(174/45)
قال الرافضي : (( وقد ذكر الشهرستاني وهو من أشد المتعصبين على الإمامية، أن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأول تنازع وقع في مرضه ما رواه البخاري بإسناده إلى ابن عباس قال : (( لما اشتد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مرضه الذي توفى فيه فقال : ائتوني بدواة وقرطاس، أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. فقال عمر : إن الرجل ليهجر، حسبنا كتاب الله. وكثر اللغط. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : قوموا عني، لا ينبغي عندي التنازع )).
الجواب : أن يُقال : ما ينقله الشهرستاني وأمثاله من المصنّفين في الملل والنحل، عامته مما ينقله بعضهم عن بعض، وكثير من ذلك لم يُحرر فيه أقوال المنقول عنهم، ولم يذكر الإسناد في عامة ما ينقله، بل هو يَنقل من كتب من صنّف المقالات قبله، مثل أبي عيسى الورَّاق وهو من المصنّفين للرافضة، المتهمين في كثير مما ينقلونه، ومثل أبي يحيى وغيرهما من الشيعة. ويَنقل أيضا من كتب بعض الزيدية والمعتزلة الطاعنين في كثير من الصحابة.
وصاحب الهوى يقبل ما وافق هواه بلا حجة توجب صدقه، ويرد ما خالف هواه بلا حجة توجب رده.
وليس في الطوائف أكثر تكذيبا بالصدق وتصديقا بالكذب من الرافضة، فإن رؤوس مذهبهم وأئمته الذين ابتدعوه وأسسوه كانوا منافقين زنادقة، كما ذكر ذلك عن غير واحد من أهل العلم. وهذا ظاهر لمن تأمله.
وإذا كان كذلك فنقول : ما علم بالكتاب والسنة والنقل المتواتر، من محاسن الصحابة وفضائلهم، لا يجوز أن يُدفع بنقولٍ بعضها منقطع، وبعضها محرَّف، وبعضها لا يَقْدَح فيما عُلم، فإن اليقين لا يزول بالشك، ونحن قد تيقَّنا ما دلّ عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف قبلنا، وما يصدّق ذلك من المنقولات المتواترة من أدلة العقل، من أن الصحابة رضي الله عنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، فلا يقدح في هذا أمور مشكوك فيها، فكيف إذا علم بطلانها ؟!(174/46)
وأما قوله : (( إن الشهرستاني من أشد المتعصبين على الإمامية )).
فليس كذلك، بل يميل كثيرا إلى أشياء من أمورهم، بل يذكر أحيانا أشياء من كلام الإسماعيلية الباطنية منهم ويوجهه. ولهذا اتهمه بعض الناس بأنه من الإسماعيلية، وإن لم يكن الأمر كذلك. وقد ذكر من اتهمه شواهد من كلامه وسيرته. وقد يُقال : هو مع الشيعة بوجه، ومع أصحاب الأشعري بوجه.
وأما قول القائل : (( إن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - )).
فهذا من أظهر الكذب الباطل، فإنه إن كان قصده أن هذا أول ذنب أُذنب، فهذا باطل ظاهر البطلان.
وإن كان قصده أن هذا أول اختلاف وقع بعد تلك الشبهة، فهو باطل من وجوه :
أحدها : أن شبهة إبليس لم توقع خلافا بين الملائكة، ولا سمعها الآدميون منه حتى يوقع بينهم خلافا.
والثاني : أن الخلاف ما زال بين بني آدم من زمن نوح، واختلاف الناس قبل المسلمين أعظم بكثير من اختلاف المسلمين.
الوجه الثالث : أن الذي وقع في مرضه كان أهون الأشياء وأَبْيَنِها. وقد ثبت في الصحيح أنه قال لعائشة في مرضه : (( ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي )) ثم قال : (( يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر )) فلما كان يوم الخميس همَّ أن يكتب كتاباً، فقال عمر : (( ماله أَهَجَر ؟ ))(1) فشكّ عمر هل هذا القول من هَجْر الحمّى، أو هو مما يقول على عادته. فخاف عمر أن يكون من هَجْر الحمى، فكان هذا مما خفى على عمر، كما خفى عليه موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل أنكره. ثم قال بعضهم : هاتوا كتابا. وقال بعضهم : لا تأتوا بكتاب. فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الكتاب في هذا الوقت لم يبق فيه فائدة، لأنهم يشكون : هل أملاه مع تغيّره بالمرض ؟ أم مع سلامته من ذلك ؟ فلا يرفع النزاع. فتركه.
__________
(1) انظر البخاري ج7 ص 119 ومسلم ج4 ص 1857.(174/47)
ولم تكن كتابة الكتاب مما أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلّغه في ذلك الوقت، إذ لو كان كذلك لما ترك - صلى الله عليه وسلم - ما أمره الله به، لكن ذلك مما رآه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبي بكر.
ومن جهل الرافضة أنهم يزعمون أن ذلك الكتاب كان كتابه بخلافة عليّ، وهذا ليس في القصة ما يدل عليه بوجهٍ من الوجوه. ولا في شيء من الحديث المعروف عند أهل النقل أنه جعل عليًّا خليفة. كما في الأحاديث الصحيحة ما يدل عَلَى خلافة أبي بكر. ثم يدّعون مع هذا أنه كان قد نصّ على خلافة عليّ نصًّا جليًّا قاطعا للعذر، فإن كان قد فعل ذلك فقد أغنى عن الكتاب، وإن كان الذين سمعوا ذلك لا يطيعونه فهم أيضا لا يطيعون الكتاب. فأي فائدة لهم في الكتاب لو كان كما زعموا ؟
وأما قوله : (( الخلاف الثاني : الواقع في مرضه : أنه قال : جهِّزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف عنه. فقال قوم : يجب علينا امتثال أمره، وأسامة قد برز، وقال قوم : قد اشتد مرضه، ولا يسع قلوبنا المفارقة )).
فالجواب : أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالنقل، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل : (( لعن الله من تخلَّف عنه )) ولا نُقل هذا بإسناد ثبت، بل ليس له إسناد في كتب أهل الحديث أصلا، ولا امتنع أحدٌ من أصحاب أسامة من الخروج معه لو خرج، بل كان أسامة هو الذي توقف في الخروج، لما خاف أن يموت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال : كيف أذهب وأنت هكذا، أسأل عنك الركبان ؟ فأذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - في المقام. ولو عزم عَلَى أسامة في الذهاب لأطاعه، ولو ذهب أسامة لم يتخلّف عنه أحد ممن كان معه، وقد ذهبوا جميعهم معه بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يتخلف عنه أحد بغير إذنه.(174/48)
وأبو بكر رضي الله عنه لم يكن في جيش أسامة باتفاق أهل العلم، لكن روى أن عمر كان فيهم، وكان عمر خارجا مع أسامة، لكن طلب منه أبو بكر أن يأذن له في المقام عنده لحاجته إليه، فأذن له، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات كان أحرص الناس على تجهيز أسامة هوأبو بكر. وجمهور الصحابة أشاروا عليه بأن لا يجهّزه خوفاً عليهم من العدو، فقال أبو بكر رضي الله عنه : والله لا أحل راية عقدها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولكن أهل الفرية يزعمون أن الجيش كان فيه أبو بكر وعمر، وأن مقصود الرسول كان إخراجهما لئلا ينازعا عليًّا. وهذا إنما يكذبه ويفتريه من هو من أجهل الناس بأحوال الرسول والصحابة، وأعظم الناس تعمداً للكذب، وإلا فالرسول - صلى الله عليه وسلم - طول مرضه يأمر أبا بكر أن يصلّي بالناس، والناس كلهم حاضرون، ولو وَلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس من ولاّه لأطاعوه، وكان المهاجرون والأنصار يحاربون من نازع أمر الله ورسوله، وهم الذين نصروا دينه أولا وآخرا.
ولو أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستخلف عليًّا في الصلاة : هل كان يمكن أحدا أن يرده ؟ ولو أراد تأميره على الحج على أبي بكر ومن معه هل كان ينازعه أحد ؟ ولو قال لأصحابه : هذا هو الأمير عليكم والإمام بعدي، هل كان يقدر أحد أن يمنعه ذلك ؟
ومعه جماهير المسلمين من المهاجرين والأنصار كلهم مطيعون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليس فيهم من يبغض عليًّا، ولا من قتل عليّ أحداً من أقاربه.
ولو أراد إخراجهما في جيش أسامة خوفاً منهما، لقال للناس : لا تبايعوهما ؟ فيا ليت شعري ممن كان يخاف الرسول ؟ فقد نصره الله وأعزّه، وحوله المهاجرون والأنصار الذين لو أمرهم بقتل آبائهم وأبنائهم لفعلوا.
وقد أنزل الله سورة براءة، وكشف فيها حال المنافقين، وعرّفهم المسلمين، وكانوا مدحوضين مذمومين عند الرسول وأمته.(174/49)
وأبو بكر وعمر كانا أقرب الناس عنده، وأكرم الناس عليه، وأحبهم إليه، وأخصهم به، واكثر الناس له صحبة ليلاً ونهارا، وأعظمهم موافقة له ومحبة له، وأحرص الناس على امتثال أمره وإعلاء دينه. فكيف يُجَوِّز عاقلٌ أن يكون هؤلاء عند الرسول من جنس المنافقين، الذين كان أصحابه قد عرفوا إعراضه عنهم، وإهانته لهم، ولم يكن يقرِّب أحدا منهم بعد سورة براءة.
هذا وأبو بكر عنده أعز الناس وأكرمهم وأحبهم إليه.
وأما قوله : (( الخلاف الثالث في موته )).
فالجواب : لا ريب أن عمر خَفِيَ عليه موته أولا، ثم أقرَّ به من الغد، واعترف بأنه كان مخطئا في إنكار موته، فارتفع الخلاف. وليس لفظ الحديث كما ذكره الشهرستاني. ولكن في الصحيحين عن ابن عبَّاس أن أبا بكر خرج وعمر يكلِّم الناس، فقال : اجلس يا عمر، فأبى أن يجلس، فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر، فقال أبو بكر : (( أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمداً فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ } (1). قال : والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله قد أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها.
فأخبرني ابن المسيب أن عمر قال : (( والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلّني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات ))(2).
__________
(1) الآية 144 من سورة آل عمران.
(2) البخاري ج2 ص 71 – 72 ومواضع أُخر والمسند ج6 ص 219 – 220.(174/50)
وأما قوله : (( الخلاف الرابع : في الإمامة. وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذا ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان )).
فالجواب : أن هذا من أعظم الغلط، فإنه – ولله الحمد – لم يُسلّ سيفٌ على خلافة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان، ولا كان بين المسلمين في زمنهم نزاع في الإمامة، فضلا عن السيف، ولا كان بينهم سيف مسلول على شيء من الدين. والأنصار تكلّم بعضهم بكلام أنكره عليهم أفاضلهم، كأُسَيْد بن حضير وعبَّاد بن بشر وغيرهما ممن هو أفضل من سعد بن عبادة نفساً وبيتاً.
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت عنه في الصحيحين من غير وجه أنه قال : (( خير دور الأنصار دار بني النجَّار، ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني الحارث بن الخزرج، ثم دار بني ساعدة. وفي كل دور الأنصار خير ))(1).
فأهل الدور الثلاثة المفضَّلة : دار بني النجّار، وبني عبد الأشهل، وبني الحارث بن الخزرج لم يُعرف منهم من نازع في الإمامة، بل رجال بني النجّار، كأبي أيوب الأنصاري وأبي طلحة وأبَيّ بن كعب وغيرهم، كلهم لم يختاروا إلا أبا بكر.
وأُسيد بن حضير هو الذي كان مقدّم الأنصار يوم فتح مكة، عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر عن يمينه، وهو كان من بني عبد الأشهل، وهو كان يأمر ببيعة أبي بكر رضي الله عنه، وكذلك غيره من رجال الأنصار.
وإنما نازع سعد بن عبادة والحُبَاب بن المنذر وطائفة قليلة، ثم رجع هؤلاء وبايعوا الصدِّيق، ولم يُعرف أنه تخلّف منهم إلا سعد بن عبادة.
وسعد، وإن كان رجلا صالحا، فليس هو معصوماً، بل له ذنوب يغفرها الله، وقد عرف المسلمون بعضها، وهو من أهل الجنّة السابقين الأوّلين من الأنصار، رضي الله عنهم وأرضاهم.
__________
(1) انظر البخاري ج8 ص 17 ومسلم ج4 ص 1950.(174/51)
فما ذكره الشهرستاني من أن الأنصار اتفقوا على تقديمهم سعد بن عبادة هو باطل باتفاق أهل المعرفة بالنقل، والأحاديث الثابتة بخلاف ذلك. وهو وأمثاله، وإن لم يتعمدوا الكذب، لكن ينقلون من كتب من ينقل عمَّن يتعمد الكذب.
وكذلك قول القائل : إن عليًّا كان مشغولا بما أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - من دفنه وتجهيزه وملازمة قبره، فكذب ظاهر، وهو مناقض لما يدَّعونه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُدفن إلا بالليل، لم يدفن بالنهار. وقيل : إنه إنما دُفن من الليلة المقبلة، ولم يأمر أحدا بملازمة قبره، ولا لازم عليٌّ قبره، بل قُبِرَ في بيت عائشة، وعليٌّ أجنبي منها.
ثم كيف يُأمر بملازمة قبره، وقد أمر– بزعمهم – أن يكون إماما بعده ؟
ولم يشتغل بتجهيزه عليٌّ وحده، بل عليٌّ، والعباس، وبنو العباس، ومولاه شقران، وبعض الأنصار، وأبو بكر وعمر، وغيرهما عَلَى باب البيت، حاضرين غسله وتجهيزه، لم يكونوا حينئذ في بني ساعدة.
لكن السنّة أن يتولّى الميت أهله، فتولّى أهله غسله، وأخّروا دفنه ليصلِّي المسلمون عليه، فإنه صلُّوا عليه أفراداً، واحد بعد واحد، رجالهم ونساؤهم : خلق كثير، فلم يتسع يوم الاثنين لذلك مع تغسيله وتكفينه، بل صلّوا عليه يوم الثلاثاء، ودفن يوم الأربعاء.
وأيضا فالقتال الذي كان في زمن عليّ لم يكن على الإمامة، فإن أهل الجمل وصفّين والنهروان لم يقاتلوا عَلَى نصب إمامٍ غير عليّ، ولا كان معاوية يقول : أنا الإمام دون عليّ، ولا قال ذلك طلحة والزبير.
فلم يكن أحد ممن قاتل عليًّا قبل الحكمَيْن نَصَب إماماً يقاتل عَلَى طاعته، فلم يكن شيء من هذا القتال على قاعدة من قواعد الإمامة المنازع فيها، لم يكن أحد من المقاتلين يقاتل طعناً في خلافة الثلاثة، ولا ادعاء للنص على غيرهم، ولا طعنا في جواز خلافة عليّ.(174/52)
فالأمر الذي تنازع فيه الناس من أمر الإمامة، كنزاع الرافضة والخوارج المعتزلة وغيرهم، ولم يقاتل عليه أحد من الصحابة أصلا، ولا قال أحد منهم : إن الإمام المنصوص عليه هو عليّ، ولا قال : إن الثلاثة كانت إمامتهم باطلة، ولا قال أحد منهم : إن عثمان وعليًّا وكل من والاهما كافر.
فدعوى المدّعى أن أول سيف سُلَّ بين أهل القبلة كان مسلولا على قواعد الإمامة التي تنازع فيها الناس، دعوى كاذبة ظاهرة الكذب، يُعرف كذبها بأدنى تأمل، مع العلم بما وقع.
وإنما كان القتال قتال فتنة عند كثير من العلماء، وعند كثير منهم هو من باب قتال أهل العدل والبغى، وهو القتال بتأويل سائغ لطاعة غير الإمام، لا على قاعدة دينية.
ولو أن عثمان نازعه منازعون في الإمامة وقاتلهم، لكان قتالهم من جنس قتال عليّ، وإن كان ليس بينه وبين أولئك نزاع في القواعد الدينية.
ولكن أول سيف سُلَّ على الخلاف في القواعد الدينية سيف الخوارج، وقتالهم من أعظم القتال،وهم الذين ابتدعوا أقوالاً خالفوا فيها الصحابة وقاتلوا عليها، وهم الذين تواترت النصوص بذكرهم، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( تمرق مارقة على حين فُرقة من المسلمين، تقتلهم أَوْلى الطائفتين بالحق))(1).
وعليّ رضي الله عنه لم يقاتل أحداً على إمامة من قاتله، ولا قاتله أحدٌ على إمامته نفسه، ولا ادّعى أحدٌ قط في زمن خلافته أنه أحقُّ بالإمامة منه : لا عائشة، ولا طلحة، ولا الزبير، ولا معاوية وأصحابه، ولا الخوارج، بل كل الأمة كانوا معترفين بفضل عليّ وسابقته بعد قتل عثمان، وأنه لم يبق في الصحابة من يماثله في زمن خلافته، كما كان عثمان كذلك : لم ينازع قط أحدٌ من المسلمين في إمامته وخلافته، ولا تخاصم اثنان في أن غيره أحق بالإمامة منه، فضلا عن القتال على ذلك. وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
__________
(1) انظر صحيح مسلم ج2 ص 745 – 746 وسنن أبي داود ج4 ص 300.(174/53)
وبالجملة فكل من له خبرة بأحوال القوم يعلم علما ضروريا أنه لم يكن بين المسلمين مخاصمة بين طائفتين في إمامة الثلاثة، فضلا عن قتالٍ.
وكذلك عليٌّ : لم يتخاصم طائفتان في أن غيره أحق بالإمامة منه. وإن كان بعض الناس كارهاً لولاية أحدٍ من الأربعة، فهذا لا بد منه. فإن من الناس من كان كارهاً لنبوّة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكيف من لا يكون فيهم من يكره إمامة بعض الخلفاء ؟
ثم قد تبين أن الصحابة لم يقتتلوا على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان والنزاع بينهم. فتبين أن خلافتهم كانت بلا سيف مسلول أصلا، وإنما كان السيف مسلولا في خلافة عليّ. فإن كان هذا قدحاً، فالقدح يختص بمن كان السيف في زمانه بين الأمة.
وهذه حجة للخوارج. وحجتهم أقوى من حجة الشيعة ، كما أن سيوفهم أقوى من سيوف الشيعة،ودينهم أصح، وهم صادقون لا يكذبون. ومع هذا فقد ثبت بالسنة المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واتفاق أصحابه أنهم مبتدعون مخطئون ضُلاَّل، فكيف بالرافضة، الذين هم أبعد منهم عن العقل والعلم والدين والصدق والشجاعة والورع وعامة خصال الخير؟!
ولم يعرف في الطوائف أعظم من سيف الخوارج، ومع هذا فلم يقاتل القوم على خلافة أبي بكر وعمر، بل هم متفقون على إمامتهما وموالاتهما.
وقوله : (( الخلاف الخامس : في فَدَك والتوارث. رووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( نحن معاشر الأنبياء لا نُورث، ما تركناه صدقة )).
فيقال : هذا أيضا اختلاف في مسألة شرعية، وقد زال الخلاف فيها والخلاف في هذه دون الخلاف في ميراث الإخوة مع الجد، وميراث الجدة مع ابنها، وحجب الأم بالأخوين، وجعل الجد مع الأم كالأب، وأمثال ذلك من مسائل الفرائض التي تنازعوا فيها.
وقد تولّى عليّ بعد ذلك، وصار فدك وغيرها تحت حكمه، ولم يعطها لأولاد فاطمة، ولا أخذ من زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -،ولا ولد العباس شيئا من ميراثه.(174/54)
فلو كان ذلك ظلما وقدر على إزالته، لكان هذا أهون عليه من قتال معاوية وجيوشه. أفتراه يقاتل معاوية، مع ما جرى في ذلك من الشر العظيم، ولا يعطى هؤلاء قليلا من المال، وأمره أهون بكثير ؟
وأما قوله : (( الخلاف السادس : في قتال مانعي الزكاة، قاتلهم أبو بكر، واجتهد عمر في أيام خلافته، فردّ السبايا والأموال إليهم، وأطلق المحبوسين )).
فهذا من الكذب الذي لا يخفى على من عرف أحوال المسلمين ؛ فإن مانعي الزكاة اتفق أبو بكر وعمر على قتالهم، بعد أن راجعه عمر في ذلك.
كما في الصحيحين عن أبي هريرة أن عمر قال لأبي بكر : يا خليفة رسول الله، كيف تقاتل الناس، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله ))؟
فقال أبو بكر : ألم يقل إلا بحقِّها وحسابهم على الله ؟ فإن الزكاة من حقّها. والله لو منعونى عَنَاقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. قال عمر : فو الله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق(1).
فعمر وافق أبا بكر على قتال أهل الردة مانعي الزكاة، وكذلك سائر الصحابة. وأقرّ أولئك بالزكاة بعد امتناعهم منها، ولم تسب لهم ذرية، ولا حبس منهم أحد، ولا كان بالمدينة حَبْس لا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا على عهد أبي بكر. فكيف يموت وهم في حبسه ؟.
وقوله : (( الخلاف السابع : في تنصيص أبي بكر على عمر في الخلافة. فمن الناس من قال : ولّيت علينا فظًّا غليظاً )).
__________
(1) انظر البخاري ج9 ص 15 ، ومسلم ج1 ص 51.(174/55)
والجواب : أن يُقال : من جَعَل مثل هذا خلافا ؟ فقد كان مثل هذا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - : قد طعن بعض الصحابة في إمارة زيد بن حارثة، وبعضهم في إمارة أسامة ابنه. وقد كان غير واحد يطعن فيمن يولّيه أبو بكر وعمر. ثم إن القائل لها : كان طلحة، وقد رجع عن ذلك، وهو من أشد الناس تعظيما لعمر، كما أن الذين طعنوا في إمارة زيد وأسامة رجعوا عن طعنهم طاعة لله ورسوله.
وقوله : (( الخلاف الثامن : في إمرة الشورى، واتفقوا بعد الاختلاف على إمامة عثمان )).
والجواب : أن هذا من الكذب الذي اتفق أهل النقل على أنه كذب ؛ فإنه لم يختلف أحد في خلافة عثمان، ولكن بقي عبد الرحمن يشاور الناس ثلاثة أيام، وأخبر أن الناس لا يعدلون بعثمان، وأنه شاور حتى العذارى في خدورهن. وإن كان في نفس أحد كراهة، لم يَنْقل – أو قال – أحدٌ شيئا ولم ينقل إلينا.
فمثل هذا قد يجري في مثل هذه الأمور. والأمر الذي يتشاور فيه الناس لا بد فيه من كلام، لكن لا يمكن الجزم بذلك بمجرد الحزر.
وأما قوله : ووقعت اختلافات كثيرة منها : ردّه الحَكَم بن أمية إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يُسمَّى طريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بعد أن كان يشفع إلى أبي بكر وعمر أيام خلافتهما، فما أجاباه إلى ذلك، ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخاً )).
فيقال : مثل هذا إن جعله اختلافا جعل كلما حكم خليفة بحكم ونازعه فيه قوم اختلافا. وقد كان ذكرك لما اختلفوا فيه من المواريث والطلاق وغير ذلك أصح وأنفع، فإن الخلاف في ذلك ثابت منقول عند أهل العلم، ينتفع الناس بذكره والمناظرة فيه. وهو خلاف في أمر كلّي يصلح أن تقع فيه المناظرة.
وأما هذه الأمور فغايتها جزئية، ولا تُجعل مسائل خلاف يتناظر فيها الناس.(174/56)
هذا مع أن فيما ذكره كذبا كثيراً، منه ما ذكره من أمر الحَكَم، وأنه طرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يسمى طريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه استشفع إلى أبي بكر وعمر أيام خلافتهما فما أجاباه إلى ذلك، وأن عمر نفاه من مقامه باليمن أربعين فرسخاً. فمن الذي نقل ذلك ؟ وأين إسناده ؟ ومتى ذهب هذا إلى اليمن ؟ وما الموجب لنفيه إلى اليمن وقد أقرَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما يدعونه بالطائف، وهي أقرب إلى مكة والمدينة من اليمن ؟ فإذا كان رسول الله أقرّه قريبا منه، فما الموجب لنفيه بعد ثبوته إلى اليمن ؟
وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن نفي الحَكَم باطل، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينفه إلى الطائف، بل هو ذهب بنفسه. وذكر بعض الناس أنه نفاه، ولم يذكروا إسنادا صحيحاً بكيفية القصة وسببها.
وقوله : (( ومنها نفيه أبا ذر إلى الربذة،وتزويجه ابنته مروان بن الحكم، وتسليمه خمس غنائم إفريقية، وقد بلغت مائتى ألف دينار )).
فيقال : أما قصة أبي ذر فقد تقدم ذكرها، وأما تزويجه مروان ابنته فأي شيء في هذا مما يجعل اختلافا ؟ وأما إعطاؤه خمس غنائم أفريقية. فمن الذي نقل هذا، وتقدم قوله : أعطاه ألف ألف دينار والمعروف أن خمس أفريقية لم يبلغ ذلك.
وقوله : ومنها إيواؤه عبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد أن أهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دمه، وتوليته مصر.(174/57)
فالجواب : إن كان المراد أنه لم يزل مهدر الدم حتى ولاه عثمان، كما يفهم من الكلام. فهذا لا يقوله إلا مفرط في الجهل بأحوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسيرته ؛ فإن الناس كلهم متفقون على أنه في عام فتح مكة، بعد أن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدر دم جماعة منهم عبد الله بن سعد، أتى عثمان به النبي - صلى الله عليه وسلم - وبايعه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد مراجعة عثمان له في ذلك، وحقن دمه، وصار من المسلمين المعصومين، له ما لهم، وعليه ما عليهم.
وأما قوله : (( كان عامل جنوده معاوية بن أبي سفيان عامل الشام، وعامل الكوفة سعيد بن العاص، وبعده عبد الله بن عامر، والوليد بن عقبة عامل البصرة )).
فيقال : أمّا معاوية فولاّه عمر بن الخطاب لما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان مكانه، ثم ولاّه عثمان رضي الله عنه الشام كله، وكانت سيرته في أهل الشام من أحسن السير، وكانت رعيته من أعظم الناس محبةً له.
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبّونكم، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم ))(1).
وكان معاوية تحبه رعيته وتدعو له، وهو يحبها ويدعو لها.
وأما توليته لسعيد بن العاص فأهل الكوفة كانوا دائما يشكون من ولاتهم. وَلِيَ عليهم سعد بن أبي وقاص، وأبو موسى الأشعري، وعمَّار بن ياسر والمغيرة بن شعبة،وهم يشكون منهم، وسيرتهم في هذا مشهورة. ولا شك أنهم كانوا يشكون في زمن عثمان أكثر. وقد عُلم أن عثمان وعليًّا رضي الله عنهما كل منهما ولَّى أقاربه، وحصل له بسبب ذلك من كلام الناس وغير ذلك ما حصل.
__________
(1) تقدم تخريجه ص 515.(174/58)
وأما قوله : (( الخلاف التاسع : في زمن أمير المؤمنين عليه السلام بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له، فأوّلا خروج طلحة والزبير إلى مكة، ثم حمل عائشة إلى البصرة، ثم نصب القتال معه، ويُعرف ذلك بحرب الجمل، والخلاف بينه وبين معاوية وحرب صفين، ومغادرة عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري، وكذا الخلاف بينه وبين الشرارة المارقين بالنهروان. وبالجملة كان عليّ مع الحق والحق معه، وظهر في زمانه الخوارج عليه، مثل الأشعث بن قيس، ومِسْعَر بن فَدَكى التميمي، وزيد بن حصين الطائي وغيرهم، وظهر في زمنه الغلاة كعبد الله بن سبأ. ومن الفرقتين ابتدأت الضلالة والبدع، وصدق فيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : يهلك فيك اثنان : محبٌّ غالٍ، ومبغضٌ قالٍ.
فانظر بعين الإنصاف إلى كلام هذا الرجل، هل خرج موجب الفتنة عن المشايخ أو تعدّاهم ؟)).
والجواب : أن يقال هذا الكلام مما يبين تحامل الشهرستاني في هذا الكتاب مع الشيعة كما تقدم، وإلا فقد ذكر أبا بكر وعثمان، ولم يذكر من أحوالهم أن الحقّ معهم دون من خالفهم، ولما ذكر عليًّا قال : (( وبالجملة كان الحق مع عليّ وعليّ مع الحق )) والناقل الذي لا غرض له : إما أن يحكى الأمور بالأمانة، وإما أن يعطى كل ذي حقٍ حقّه. فأما دعوى المدّعى أن الحق كان مع عليّ وعليّ مع الحق، وتخصيصه بهذا دون أبي بكر وعمر وعثمان، فهذا لا يقوله أحد من المسلمين غير الشيعة.
ومما يبين فساد هذا الكلام قوله : (( إن الاختلاف وقع في زمن عليّ بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له )). ومن المعلوم أن كثيراً من المسلمين لم يكونوا بايعوه، حتى كثير من أهل المدينة ومكة الذين رأوه لم يكونوا بايعوه، دع الذين كانوا بعيدين، كأهل الشام ومصر والمغرب والعراق وخراسان.
وكيف يقال مثل هذا في بيعة عليّ، ولا يقال في بيعة عثمان التي اجتمع عليها المسلمون كلهم ولم يتنازع فيها اثنان ؟(174/59)
وكذلك ما ذكره من التعريض بالطعن على طلحة والزبير وعائشة من غير أن يذكر لهم عذراً ولا رجوعا. وأهل العلم يعلمون أن طلحة والزبير لم يكونا قاصدين قتال عليّ ابتداءً. وكذلك أهل الشام لم يكن قصدهم قتاله، وكذلك عليّ لم يكن قصده قتال هؤلاء ولا هؤلاء.
ولكن حرب الجمل جرى بغير اختياره ولا اختيرهم فإنهم كانوا قد اتفقوا على المصالحة وإقامة الحدود على قتلة عثمان، فتواطأت القتلة على إقامة الفتنة آخرا كما أقاموها أولا، فحملوا على طلحة والزبير وأصحابهما، فحملوا دفعاً عنهم، وأشعروا عليًّا أنهما حملا عليه، فحمل عليٌّ دفعاً عن نفسه، وكان كل منهما قصده دفع الصيال لا ابتداء القتال. هكذا ذكر غير واحد من أهل العلم بالسير. فإن كان الأمر قد جرى على وجه لا ملام فيه فلا كلام، وإن كان قد وقع خطأٌ أو ذنب من أحدهما أو كليهما فقد عرف أن هذا لا يمنع ما دل عليه الكتاب والسنة من أنهم من خيار أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين، وعباده الصالحين، وأنهم من أهل الجنة.
وقول هذا الرافضي : (( انظر بعين الإنصاف إلى كلام هذا الرجل هل خرج موجب الفتنة عن المشايخ أو تعدّاهم ؟)).
فالجواب : أن يُقال : أمّا الفتنة فإنما ظهرت في الإسلام من الشيعة، فإنهم أساس كل فتنة وشر، وهم قطب رحى الفتن، فإن أول فتنة كانت في الإسلام قتل عثمان.
وقد روى الإمام أحمد في مسنده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( ثلاث من نجا منهن فقد نجا : موتى، وقتل خليفة مضطهد بغير حق، والدجَّال)).(1)
__________
(1) المسند ج4 ص 105 ، 109 وج5 ص 33 ، 288.(174/60)
ومن استقرأ أخبار العالم في جميع الفرق تبين له أنه لم يكن قط طائفة أعظم اتفاقا على الهدى والرشد، وأبعد عن الفتنة والتفرق والاختلاف من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذين هم خير الخلق بشهادة الله لهم بذلك، إذ يقول : { كُنتُم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (1) .
وأبعد الناس عن الطائفة المهدية المنصورة هم الرافضة، لأنهم أجهل وأظلم طوائف أهل الأهواء المنتسبين إلى القبلة، وخيار هذه الأمة هم الصحابة، فلم يكن في الأمة أعظم اجتماعا على الهدى ودين الحق ولا أبعد عن التفرق والاختلاف منهم، وكل ما يذكر عنهم مما فيه نقص فهذا إذا قيس إلى ما يوجد في غيرهم من الأمة كان قليلا من كثير.
وأما ما يقترحه كل أحد في نفسه مما لم يُخلق، فهذا لا اعتبار به. فهذا يقترح معصوماً من الأئمة، وهذا يقترح ما هو كالمعصوم وإن لم يسمه معصوما، فيقترح في العالم والشيخ والأمير والملك ونحو ذلك، مع كثرة علمه ودينه ومحاسنه، وكثرة ما فعل الله على يديه من الخير، يقترح مع ذلك أن لا يكون قد خَفِيَ عليه شيء ولا يخطئ في مسألة، وأن يخرج عن حد البشرية فلا يغضب، بل كثير من هؤلاء فيهم مالا يقترح في الأنبياء.
وقد أمر الله تعالى نوحاً ومحمداً أن يقولا : { لاَ أَقُولُ لَكُم عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } (2) فيريد الجهال من المتبوع أن يكون عالماً بكل ما يُسأل عنه، قادراً على كل ما يُطلب منه، غنيًّا عن الحاجات البشرية كالملائكة. وهذا الاقتراح من ولاة الأمر كاقتراح الخوارج في عموم الأمة، أن لا يكون لأحدهم ذنب، ومن كان له ذنب كان عندهم كافراً مخلداً في النار.
وكل هذا باطل خلاف ما خلقه الله، وخلاف ما شرعه الله.
__________
(1) الآية 110 من سورة آل عمران.
(2) الآية 31 من سورة هود.(174/61)
فليس الضلال والغيّ في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في الرافضة، كما أن الهدى والرشاد والرحمة ليس في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في أهل الحديث والسنة المحضة، الذين لا ينتصرون إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم خاصته، وهو إمامهم المطلق الذي لا يتبعون قول غيره إلا إذا اتّبع قوله، ومقصودهم نصر الله ورسوله.
وقد تبين أن هذا الكلام الذي ذكره هذا الرجل فيه من الباطل ما لا يخفى على عاقل، ولا يحتج به إلا من هو جاهل، وأن هذا الرجل كان له بالشيعة إلمام واتصال، وأنه دخل في هواهم بما ذكره في هذا الكتاب، مع أنه ليس من علماء النقل والآثار،وإنما هو من جنس نقلة التواريخ التي لا يعتمد عليها أولو الأبصار.
ومن نظر في كتب الحديث والتفسير والفقه والسير علم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وأن أصل كل فتنة وبَلٍيَّة هم الشيعة ومن انضو إليهم، وكثير من السيوف التي سُلَّت في الإسلام إنما كانت من جهتهم، وعلم أن أصلهم ومادتهم منافقون، اختلقوا أكاذيب، وابتدعوا آراء فاسدة، ليفسدوا بها دين الإسلام، ويستزلّوا بها مَن ليس مِن أُولى الأحلام، فسعوا في قتل عثمان، وهو أول الفتن، ثم أنزووا إلى عليٍّ، لا حباًّ فيه ولا في أهل البيت، لكن ليقيموا سوق الفتنة بين المسلمين.
ولهذا تجد الشيعة ينتصرون لأعداء الإسلام المرتدين، كبني حنيفة أتباع مُسَيْلمة الكذَّاب، ويقولون : إنهم كانوا مظلومين، كما ذكر صاحب هذا الكتاب، وينتصرون لأبي لؤلؤة الكافر المجوسي.
وقد روى أنه طلب من عمر أن يكلِّم مولاه في خراجه، فتوقَّف عمر، وكان من نيَّته أن يكلّمه، فقتل عمر بُغضاً في الإسلام وأهله، وحبًّا للمجوس، وانتقاما للكفَّار، لما فعل بهم عمر حين فَتَحَ بلادهم، وقَتَلَ رؤساءهم، وقسَّم أموالهم.(174/62)
فهل ينتصر لأبي لؤلؤة مع هذا إلا من هو أعظم الناس كفرا بالله ورسوله، وبغضا في الإسلام، أومفرط في الجهل لا يعرف حال أبي لؤلؤة ؟
ودع ما يُسمع ويُنقل عمَّن خلا، فلينظر كل عاقل فيما يحدث في زمانه، وما يقرب من زمانه من الفتن والشرور والفساد في الإسلام، فإنه يجد معظم ذلك من قِبَل الرافضة، وتجدهم أعظم الناس فتنا وشراًّ، وأنهم لا يقعدون عمَّا يمكنهم من الفتن والشر وإيقاع الفساد بين الأمة.
ونحن نعرف بالعيان والتواتر العام وما كان في زماننا، من حين خرج جنكزخان ملك الترك الكفَّار، وما جرى في الإسلام من الشر. فلا يشك عاقل أن استيلاء الكفّار المشركين، على بلاد الإسلام، وعلى أقارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم، كذريَّة العبّاس وغيرهم، بالقتل وسفك الدماء، وسبى النساء واستحلال فروجهن، وسبى الصبيان واستعبادهم وإخراجهم عن دين الله إلى الكفر، وقتل أهل العلم والدين من أهل القرآن والصلاة، وتعظيم بيوت الأصنام – التي يسمُّونها البذخانات والبيَع والكنائس – على المساجد، ورفع المشركين وأهل الكتاب من النصارى وغيرهم على المسلمين، بحيث يكون المشركون وأهل الكتاب أعظم عزّا، وأنفذ كلمة، وأكثر حرمة من المسلمين، إلى أمثال ذلك مما لا يشك عاقل أن هذا أضر على المسلمين من قتال بعضهم بعضا، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى ما جرى على أمته من هذا، كان كراهته له، وغضبه منه، أعظم من كراهته لاثنين مسلمين تقاتلا على الملك، ولم يسب أحدهما حريم الآخر، ولا نفع كافرا، ولا أبطل شيئا من شرائع الإسلام المواترة، وشعائره الظاهرة.(174/63)
ثم مع هذا الرافضة يعاونون أولئك الكفار، وينصرونهم على المسلمين، كما قد شاهده الناس، لمّا دخل هولاكو ملك الكفّار الترك الشام سنة ثمان وخمسين وستمائة، فإن الرافضة الذين كانوا بالشام، بالمدائن والعواصم، من أهل حلب وما حولها، ومن أهل دمشق وما حولها، وغيرهم، كانوا من أعظم الناس أنصاراً وأعوانا على إقامة ملكه، وتنفيذ أمره في زوال ملك المسلمين.
وهكذا يعرف الناس – عامةً وخاصةً – ما كان بالعراق لمّا قَدمَ هولاكو إلى العراق، وقتل الخليفة، وسفك فيها من الدماء ما لا يحصيه إلا الله، فكان وزير الخليفة ابن العلقمى، والرافضة هم بطانته، الذين أعانوه على ذلك بأنواع كثيرة، باطنة وظاهرة، يطول وصفها.
وهكذا ذُكر أنهم كانوا مع جنكزخان، وقد رآهم المسلمون بسواحل الشام وغيرها، إذا اقتتل المسلمون والنصارى هواهم مع النصارى، ينصرونهم بحسب الإمكان، ويكرهون فتح مدائنهم، كما كرهوا فتح عكا وغيرها، ويختارون إدالتهم على المسلمين، حتى أنهم لما انكسر عسكر المسلمين سنة غازان، سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وخلت الشام من جيش المسلمين، عاثوا في البلاد، وسعوا في أنواع من الفساد، من القتل وأخذ الأموال، وحمل راية الصليب، وتفضيل النصارى على المسلمين، وحمل السبى والأموال والسلاح من المسلمين إلى النصارى، أهل الحرب بقبرص وغيرها.
فهذا – وأمثاله – قد عاينه الناس، وتواتر عند من لم يعاينه. ولو ذكرت أنا ما سمعتُه ورأيتُه من آثار ذلك لطال الكتاب ,وعند غيري من أخبار ذلك وتفاصيله ما لا أعلمه.
فهذا أمر مشهود من معاونتهم للكفار على المسلمين، ومن اختيارهم لظهور الكفر وأهله على الإسلام وأهله. ولو قُدِّر أن المسلمين ظلمة فسقة، ومظهرون لأنواع من البدع التي هي أعظم من سبِّ عليٍّ وعثمان، لكان العاقل ينظر في خير الخَيْرين وشر الشَّرين.(174/64)
ألا ترى أن أهل السنة وإن كانوا يقولون في الخوارج والروافض وغيرهما من أهل البدع ما يقولون، لكن لا يعاونون الكفّار على دينهم، ولا يختارون ظهور الكفر وأهله على ظهور بدعةٍ دون ذلك ؟
والرافضة إذ تمكّنوا لا يتّقُون. وانظر ما حصل لهم في دولة السلطان خدابندا، الذي صنَّف له هذا الكتاب، كيف ظهر فيهم من الشرّ، الذي لو دام وقوى أبطلوا به عامة شرائع الإسلام ! لكن يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وأما الخلفاء والصحابة فكل خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة – من الإيمان والإسلام، والقرآن والعلم، والمعارف والعبادات، ودخول الجنة، والنجاة من النار، وانتصارهم على الكفار، وعلو كلمة الله – فإنما ببركة ما فعله الصحابة، الذين بلّغوا الدين، وجاهدوا في سبيل الله.
وكل مؤمن آمن بالله فللصحابة رضي الله عنهم عليه فضل إلى يوم القيامة، وكل خير فيه الشيعة وغيرهم فهو ببركة الصحابة. وخير الصحابة تبع لخير الخلفاء الراشدين، فهم كانوا أَقْوَم بكل خير في الدين والدنيا من سائر الصحابة، فكيف يكون هؤلاء منبع الشر، ويكون أولئك الرافضة منبع الخير ؟!
ومعلوم أن الرافضي يوالي أولئك الرافضة ويعادي الصحابة، فهل هذا إلاّ من شر من أعمى الله بصيرته ؟ فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
(فصل)
قال الرافضي : (( الفصل الثالث : في الأدلة الدالة على إمامة أمير المؤمنين، عليّ بن أبي طالب بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الأدلة في ذلك كثيرة لا تحصى، لكن نذكر المهم منها، وننظم أربعة مناهج : المنهج الأول : في الأدلة العقلية، وهي خمسة :
الأول : أن الإمام يجب أن يكون معصوما، ومتى كان ذلك كان الإمام هو عليًّا عليه السلام.(174/65)
أما المقدمة الأولى : فلأن الإنسان مدنيّ بالطبع، لا يمكن أن يعيش منفردا، لافتقاره في بقائه إلى ما يأكل ويشرب ويلبس ويسكن، ولا يمكن أن يفعلها بنفسه، بل يفتقر إلى مساعدة غيره، بحيث يفزع كل واحد منهم إلى ما يحتاج إليه صَاحبه، حتى يتم قيام النوع. ولما كان الاجتماع في مظنّة التغالب والتغابن، بأن كل واحد من الأشخاص قد يحتاج إلى ما في يد غيره، فتدعوه قوته الشهوانية إلى أخذه وقهره عليه وظلمه فيه، فيؤدي ذلك إلى وقوع الهرج والمرج وإثارة الفتن، فلا بد من نصب إمامٍ معصوم يصدّهم عن الظلم والتعدّي، ويمنعهم عن التغالب والقهر، وينصف المظلوم من الظالم، ويوصِّل الحق إلى مستحقّه، لا يجوز عليه الخطأ ولا السهو ولا المعصية، وإلا افتقر إلى إمام آخر، لأن العلة المُحْوِجة إلى نصب الإمام هي جواز الخطأ على الأمة، فلو جاز الخطأ عليه لاحتاج إلى إمام آخر، فإن كان معصوماً كان هو الإمام، وإلا لزم التسلسل.
أما المقدمة الثانية فظاهرة، لأن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا معصومين اتفاقاً، وعليّ معصوم، فيكون هو الإمام )).
والجواب عن ذلك : أن نقول : كلتا المقدمتين باطلة. أما الأولى: فقوله: (( ولا بد من نصب إمام معصوم يصدّهم عن الظلم والتعدّي، ويمنعهم عن التغالب والقهر، وينصف المظلوم من الظالم، ويوصِّل الحق إلى مستحقِّه، لا يجوز عليه الخطأ ولا السهو ولا المعصية )).(174/66)
فيقال له : نحن نقول بموجب هذا الدليل إن كان صحيحا، فإن الرسول هو المعصوم وطاعته واجبة في كل زمان على كل أحد. وعلم الأمة بأمره ونهيه أتم من علم آحاد الرعية بأمر الإمام الغالب، كالمنتظر ونحوه، بأمره ونهيه. فهذا رسول - صلى الله عليه وسلم - إمام معصوم، والأمة تعرف أمره ونهيه، ومعصومهم ينتهي إلى الغائب المنتظر، الذي لو كان معصوما لم يعرف أحدٌ لا أمره ولا نهيه، بل ولا كانت رعية عليّ تعرف أمره ونهيه، كما تعرف الأمة أمر نبيّها ونهيه، بل عند أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من علم أمره ونهيه ما أغناهم عن كل إمام سواه، بحيث أنهم لا يحتاجون قط إلى المتولّى عليهم في شيء من معرفة دينهم، ولا يحتاجون في العمل إلى ما يحتاجون فيه إلى التعاون. وهم يعلمون أمره ونهيه أعظم من معرفة آحاد رعيّة المعصوم، ولو قُدِّر وجوده بأمره. فإنه لم يتولّ على الناس ظاهراً من ادُّعيت له العصمة إلا عليٌّ.
ونحن نعلم قطعا أنه كان في رعيته باليمن وخراسان وغيرهما من لا يدري بماذا أمر ولا عمَّاذا نهى، بل نوّابه كانوا يتصرفون بما لا يعرفه هو.
وأما الورثة الذين ورثوا علم محمد - صلى الله عليه وسلم - فهم يعرفون أمره ونهيه، ويَصْدُقُون في الإخبار عنه، أعظم من علم نواب عليّ بأمره ونهيه، ومن صِدْقهِم في الإخبار عنه. وهم إنما يريدون أنه لا بد من إمام معصوم حيّ.
فنقول : هذا الكلام باطل من وجوه :
أحدها : أن هذا الإمام الموصوف لم يوجد بهذه الصفة. أما في زماننا فلا يُعرف إمام معروف يُدَّعى فيه هذا، ولا يدعى لنفسه، بل مفقود غائب عند متّبعيه، ومعدوم لا حقيقة له عند العقلاء. ومثل هذا لا يحصل به شيء من مقاصد الإمامة أصلا، بل من وَلِيَ على الناس، ولو كان فيه بعض الجهل وبعض الظلم، كان أنفع لهم ممن لا ينفعهم بوجه من الوجوه.(174/67)
وهؤلاء المنتسبون إلى الإمام المعصوم لا يوجدون مستعينين في أمورهم إلا بغيره، بل هم ينتسبون إلى المعصوم، وإنما يستعينون بكفور أو ظلوم. فإذا كان المصدِّقون لهذا المعصوم المنتظر لم ينتفع به أحد منهم لا في دينه ولا في دنياه، لم يحصل لأحد به شيء من مقاصد الإمامة.
وإذا كان المقصود لا يحصل منه شيء، لم يكن بنا حاجة إلى إثبات الوسيلة لأن الوسائل لا تُراد إلا لمقاصدها. فإذا جزمنا بانتفاء المقاصد كان الكلام في الوسيلة من السعي الفاسد، وكان هذا بمنزلة من يقول: الناس يحتاجون إلى من يطعمهم ويسقيهم، وينبغي أن يكون الطعام صفته كذا، والشراب صفته كذا، وهذا عند الطائفة الفلانية، وتلك الطائفة قد عُلم أنها من أفقر الناس، وأنهم معروفون بالإفلاس.
وأي فائدة في طلب ما يُعلم عدمه، واتباع ما لا ينتفع به أصلا ؟ والإمام يُحتاج إليه في شيئين. إما في العلم لتبليغه وتعليمه، وإما في العمل به ليعين الناس عل ذلك بقوته وسلطانه.
وهذا المنتظر لا ينتفع لا بهذا ولا بهذا. بل ما عندهم من العلم فهو من كلام مَنْ قَبْله، ومن العمل، إن كان ممّا يوافقهم عليه المسلمون استعانوا بهم، وإلا استعانوا بالكفّار والملاحدة ونحوهم، فهم أعجز الناس في العمل، وأجهل الناس في العلم، مع دعوهم ائتمامهم بالمعصوم، الذي مقصوده العلم والقدرة، ولم يحصل لهم لا علم ولا قدرة، فعلم انتفاء هذا مما يدّعونه.
وأيضا فالأئمة الاثنا عشر لم يحصل لأحدٍ من الأمة بأحد منهم جميع مقاصد الإمامة.
أما من دون عليّ فإنما كان يحصل للناس من علمه ودينه مثل ما يحصل من نظرائه. وكان عليّ بن الحسين، وابنه جعفر بن محمد يعلّمون الناس ما علّمهم الله، كما علمه علماء زمانهم، وكان في زمنهم من هو أعلم منهم وأنفع للأمة.(174/68)
وهذا معروف عند أهل العلم. ولو قدِّر أنهم كانوا أعلم وأَدْيَن، فلم يحصل من أهل العلم و الدين ما يحصل من ذوي الولاية والقوة والسلطان، وإلزام الناس بالحق،ومنعهم باليد عن الباطل.
وأما بعد الثلاثة كالعسكريَيْن، فهؤلاء لم يظهر عليهم علم تستفيده الأمة، ولا كان لهم يد تستعين بها الأمة، بل كانوا كأمثالهم من الهاشميين لهم حرمة ومكانة، وفيهم من معرفة ما يحتاجون إليه في الإسلام والدين ما في أمثالهم، وهو ما يعرفه كثير من عوام المسلمين.
وأما ما يختص به أهل العلم، فهذا لم يعرف عنهم. ولهذا لم يأخذ عنهم أهل العلم، كما أخذوا عن أولئك الثلاثة. ولو وجدوا ما يُستفاد لأخذوا، ولكن طالب العلم يعرف مقصوده.
وإذا كان للإنسان نسب شريف، كان ذلك مما يعينه على قبول الناس منه. ألا ترى أن ابن عبّاس لما كان كثير العلم عَرَفت الأمه له ذلك، واستفادت منه، وشاع ذكره بذلك في الخاصة والعامة.
وكذلك الشافعي لما كان عنده من العلم والفقه ما يُستفاد منه، عرف المسلمون له ذلك، واستفادوا ذلك منه، وظهر ذكره بالعلم والفقه.
ولكن إذا لم يجد الإنسان مقصوده في محل لم يطلبه منه. ألا ترى أنه لو قيل عن أحد : أنه طبيب أو نحوي، وعُظِّم حتى جاء إليه الأطباء أو النحاة، فوجدوه لا يعرف من الطب والنحو ما يطلبون، أعرضوا عنه، ولم ينفعه دعوى الجهّال وتعظيمهم ؟
وهؤلاء الإمامية أخذوا عن المعتزلة أن الله يجب عليه الإقدار والتمكين واللطف، بما يكون المكلَّف عنده أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، مع تمكّنه في الحالين.(174/69)
ثم قالوا : والإمامة واجبة، وهي أوجب عندهم من النبوة، لأن بها لطفاً في التكاليف. قالوا : إنّا نعلم يقينا بالعادات واستمرار الأوقات أن الجماعة متى كان لهم رئيس مهيب مطاع متصرّف منبسط اليد كانوا بوجوده أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإذا لم يكن لهم رئيس وقع الهرج والمرج بينهم، وكانوا عن الصلاح أبعد، ومن الفساد أقرب. وهذه الحال مشعرة بقضية العقل معلومة لا ينكرها إلا من جهل العادات ، ولم يعلم استمرار القاعدة المستمرة في العقل. قالوا : وإذا كان هذا لطفا في التكليف لزم وجوبه. ثم ذكروا صفاته من العصمة وغيرها.
ثم أورد طائفة منهم على أنفسهم سؤالا، فقالوا : إذا قلتم : إن الإمام لطف، وهو غائب عنكم، فأين اللطف الحاصل مع غيبته ؟ وإذا لم يكن لطفه حاصلا مع الغيبة، وجاز التكليف، بطل أن يكون الإمام لطفاً في الدين. وحينئذ يفسد القول بإمامة المعصوم.
وقالوا في الجواب عن هذا السؤال : إنَّا نقول : إن لطف الإمام حاصل في حالة الغيبة للعارفين به في حال الظهور. وإنما فات اللطف لمن لم يَقُل بإمامته. كما أن لطف المعرفة لم يحصل لمن لم يعرف الله تعالى، وحصل لمن كان عارفا به. قالوا : وهذا يُسقط هذا السؤال، ويوجب القول بإمامة المعصومين.
فقيل لهم : لو كان اللطف حاصلا في حال الغيبة كحال الظهور، لوجب أن يستغنوا عن ظهوره، ويتبعوه إلى أن يموتوا. وهذا خلاف ما يذهبون إليه.
فأجابوا بأنّا نقول : إن اللطف في غيبته عند العارف به من باب التنفير والتبعيد عن القبائح مثل حال الظهور، ولكن نوجب ظهوره لشيء غير ذلك، وهو رفع أيدي المتغلّبين عن المؤمنين، وأخذ الأموال ووضعها في مواضعها من أيدي الجبابرة، ورفع ممالك الظلم التي لا يمكننا رفعها إلا بطريقه، وجهاد الكفار الذي لا يمكن إلا مع ظهوره.(174/70)
فيقال لهم : هذا كلام ظاهر البطلان. وذلك أن الإمام الذي جعلتموه لطفاً، هو ما شهدت به العقول والعادات، وهو ما ذكرتموه. قلتم : إن الجماعة متى كان لهم رئيس مهيب مطاع متصرِّف منبسط اليد، كانوا بوجوده أقرب إلى الصلاح، وأبد عن الفساد، واشترطتم فيه العصمة. قلتم : لأن مقصود الانزجار لا يحصل إلا بها. ومن المعلوم أن الموجودين الذين كانوا قبل المنتظر، لم يكن أحد منهم بهذه الصفة : لم يكن أحد منهم منبسط اليد ولا متصرفا.
وعليّ رضي الله عنه تولّى الخلافة، ولم يكن تصرفه وانبساطه تصرف من قبله وانبساطهم. وأما الباقون فلم تكن أيديهم منبسطة ولا متصرّفون، بل كان يحصل بأحدهم ما يحصل بنظرائه.
وأما الغائب فلم يحصل به شيء، فإن المعترِف بوجوده إذا عَرَف أنه غاب من أكثر من أربعمائة سنة وستين سنة، وأنه خائف لا يمكنه الظهور، فضلا عن إقامة الحدود، ولا يمكنه أن يأمر أحداً ولا ينهاه – لم يزل الهرج والفساد بهذا.
ولهذا يوجد طوائف الرافضة أكثر الطوائف هرجاً وفساداً، واختلافا بالألسن والأيدي، ويوجد من الاقتتال والاختلاف وظلم بعضهم لبعض، ما لا يوجد فيمن لهم متولٍّ كافر، فضلا عن متولٍّ مسلم، فأي لطف حصل لمتبعيه به ؟
وأما قولهم إن اللطف به يحصل للعارفين به ، كما يحصل في حال الظهور، فهذه مكابرة ظاهرة ؛ فإنه إذا ظهر حصل به من إقامة الحدود والوعظ وغير ذلك، ما يوجب أن يكون في ذلك لطفٌ لا يحصل مع عدم الظهور.
وتشبيههم معرفته بمعرفة الله في باب اللطف، وأن اللطف به يحصل للعارف دون غيره، قياس فاسد. فإن المعرفة بأن الله موجود حيّ قادر، يأمر بالطاعة ويثيب عليا، وينهى عن المعصية ويعاقب عليها، من أعظم الأسباب في الرغبة والرهبة منه، فتكون هذه المعرفة داعية إلى الرغبة في ثوابه، بفعل المأمور وترك المحظور، والرهبة من عقابه إذا عصى، لعلم العبد بأنه عالم قادر، وأنه قد جرت سنته بإثابة المطيعين وعقوبة العاصين.(174/71)
وأما شخص يعرف الناس أنه مفقود من أكثر من أربعمائة سنة، وأنه لم يعاقب أحداً، وأنه لم يثب أحداً، بل هو خائف على نفسه إذا ظهر، فضلا عن أن يأمر وينهى، فكيف تكون المعرفة به داعية إلى فعل ما أمر وترك ما حظر، بل المعرفة بعجزه وخوفه توجب الإقدام على فعل القبائح، لا سيما مع طول الزمان وتوالي الأوقات وقتا بعد وقت، وهو لم يعاقب أحداً ولم يثب أحداً.
بل لو قُدِّر أنه يظهر في كل مائة سنة مرة فيعاقب، لم يكن ما يحصل به من اللطف مثل ما يحصل بآحاد ولاة الأمر، بل لو قيل : إنه يظهر في كل عشر سنين، بل ولو ظهر في السنة مرة، فإنه لا تكون منفعته كمنفعة ولاة الأمور الظاهرين للناس في كل وقت، بل هؤلاء – مع ذنوبهم وظلمهم في بعض الأمور – شرع الله بهم، وما يفعلونه من العقوبات، وما يبذلونه من الرغبات في الطاعات، أضعاف ما يقام بمن يظهر بعد كل مدة، فضلا عمَّن هو مفقود، يعلم جمهور العقلاء أنه لا وجود له،والمقرّون به يعلمون أنه عاجز خائف لم يفعل قط ما يفعله آحاد الناس، فضلا عن ولاة أمرهم.
وأي هيبة لهذا ؟ وأي طاعة، وأي تصرّف، وأي يد منبسطة ؟ حتى إذا كان للناس رئيس مهيب مطاع متصرّف منبسط اليد، كانوا أقرب إلى الصلاح بوجوده.
ومن تدبر هذا علم أن هؤلاء القوم في غاية الجهل والمكابرة والسفسطه، حيث جعلوا اللطف به في حال عجزه وغيبته، مثل اللطف به في حال ظهوره، وأن المعرفة به مع عجزه وخوفه وفقده لطف، كما لو كان ظاهراً قادراً آمنا، وأن مجرد هذه المعرفة لطف، كما أن معرفة الله لطف.
الوجه الثاني : أن يقال : قولكم : لا بد من نصب إمامٍ معصوم يفعل هذه الأمور. أتريدون أنه لا بد أن يخلق الله ويقيم من يكون متصفاً بهذه الصفات ؟ أم يجب على الناس أن يبايعوا من يكون كذلك ؟(174/72)
فإن أردتم الأول، فالله لم يخلق أحداً متصفاً بهذه الصفات ؛ فإن غاية ما عندكم أن تقولوا : إن عليًّا كان معصوما لكن الله لم يمكّنه ولو يؤيّده، لا بنفسه، ولا بجند خلقهم له حتى يفعل ما ذكرتموه.
بل أنتم تقولون : إنه كان عاجزا مقهوراً مظلوما في زمن الثلاثة، ولما صار له جند، قام له جند آخرون قاتلوه، حتى لم يتمكن أن يفعل ما فعل الذين كانوا قبله، الذين هم عندكم ظلمة.
فيكون الله قد أيد أولئك الذين كانوا قبله، حتى تمكنوا من فعل ما فعلوه من المصالح، ولم يؤيّده حتى يفعل ذلك.
وحينئذ فما خلق الله هذا المعصوم المؤيِّد الذي اقترحتموه على الله.
وإن قلتم : إن الناس يجب عليهم أن يبايعوه ويعاونوه.
قلنا : أيضا فالناس لم يفعلوا ذلك، سواء كانوا مطيعين أو عصاة. وعلى كل تقدير فما حصل لأحد من المعصومين عندكم تأييد، لا من الله ولا من الناس. وهذه المصالح التي ذكرتموها لا تحصل إلا بتأييد، فإذا لم يحصل ذلك لم يحصل ما به تحصل المصالح، بل حصل أسباب ذلك، وذلك لا يفيد المقصود.
الوجه الثالث : أن يقال : إذا كان لم يحصل مجموع ما به تحصل هذه المطالب، بل فات كثير من شروطها، فلم لا يجوز أن يكون الفائت هو العصمة ؟ وإذا كان المقصود فائتا : إما بعدم العصمة، وإما بعجز المعصوم، فلا فرق بين عدمها بهذا أو بهذا، فمن أين يُعلم بدليل العقل أنه يجب على الله أن يخلق إماماً معصوما ؟
وهو إنما يخلقه ليحصل به مصالح عباده، وقد خلقه عاجزاً لا يقدر على تلك المصالح، بل حصل به من الفساد ما لم يحصل إلا بوجوده.
وهذا يتبين بالوجه الرابع : وهو أنه لو لم يخلق هذا المعصوم، لم يكن يجري في الدنيا من الشر أكثر مما جرى، إذا كان وجوده لم يدفع شيئاً من الشر، حتى يُقال : وجوده دفع كذا. بل وجوده أوجب أن كذَّب به الجمهور، وعادوا شيعته، وظلموه وظلموا أصحابه، وحصل من الشرور التي لا يعلمها إلا الله، بتقدير أن يكون معصوماً.(174/73)
فإنه بتقدير أن لا يكون عليّ رضي الله عنه معصوما، ولا بقية الاثنى عشر ونحوهم، لا يكون ما وقع من تولية الثلاثة،وبني أمية، وبني العباس، فيه من الظلم والشر ما فيه، بتقدير كونهم أئمة معصومين. وبتقدير كونهم معصومين فما أزالوا من الشر إلا ما يزيله من ليس بمعصوم، فصار كونهم معصومين إنما حصل به الشر لا الخير.
فكيف يجوز على الحكيم أن يخلق شيئا ليحصل به الخير، وهو لم يحصل به إلا الشر لا الخير ؟
وإذا قيل : هذا الشر حصل من ظلم الناس له.
قيل : فالحكيم الذي خلقه إذا كان خلقه لدفع ظلمهم، وهو يعلم أنه إذا خلقه زاد ظلمهم، لم يكن خلقه حكمة بل سفهاً، وصار هذا كتسليم إنسانٍ ولدَه إلى من يأمره بإصلاحه، وهو يعلم أنه لا يطيعه بل يفسده. فهل يفعل هذا حكيم ؟
الوجه الخامس : إذا كان الإنسان مدينا بالطبع، وإنما وجب نصب المعصوم ليزيل الظلم والشر عن أهل المدينة، فهل تقولون : إنه لم يزل في كل مدينة خلقها الله تعالى معصوم يدفع ظلم الناس أم لا ؟
فإن قلتم بالأول، كان هذا مكابرة ظاهرة. فهل في بلاد الكفّار من المشركين وأهل الكتاب معصوم ؟ وهل كان في الشام عند معاوية معصوم ؟
وإن قلتم : بل نقول : هو في كل مدينة واحد،وله نوّاب في سائر المدائن.
قيل : فكل معصوم له نوّاب في جميع مدائن الأرض أم في بعضها ؟
فإن قلتم:في الجميع،كان هذا مكابرة.وإن قلتم:في البعض دون البعض.
قيل : فما الفرق إذا كان ما ذكرتموه واجبا على الله، وجميع المدائن حاجتهم إلى المعصوم واحدة ؟
الوجه السادس : أن يُقال : هذا المعصوم يكون وحده معصوما ؟ أو كلٌّ من نوابه معصوما ؟ وهم لا يقولون بالثاني، والقول به مكابرة. فإن نوّاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا معصومين، ولا نوّاب عليّ، بل كان في بعضهم من الشر والمعصية ما لم يكن مثله في نوّاب معاوية لأميرهم، فأين العصمة ؟
وإن قلت : يشترط فيه وحده.(174/74)
قيل : فالبلاد الغائبة عن الإمام، لا سيما إذا لم يكن المعصوم قادراً على قهر نوابه بل هو عاجز، ماذا ينتفعون بعصمة الإمام، وهم يصلّون خلف غير معصوم، ويحكم بينهم غير معصوم، ويطيعون غير معصوم، ويأخذ أموالهم غير معصوم ؟
فإن قيل : الأمور ترجع إلى المعصومين.
قيل : لو كان المعصوم قادراً ذا سلطان، كما كان عمر وعثمان ومعاوية وغيرهم، لم يتمكن أن يوصّل إلى كل من رعيته العدل الواجب الذي يعلمه هو. وغاية ما يقدر عليه أن يولِّي أفضل من يقدر عليه، لكن إذا لم يجد إلا عاجزاً أو ظالماً، فكيف يمكنه تولية قادر عادل ؟
فإن قالوا : إذا لم يخلق الله إلا هذا سقط عنه التكليف.
قيل : فإذاً لم يجب على الله أن يخلق قادراً عادلاً مطلقا، بل أوجب على الإمام أن يفعل ما يقدر عليه، فكذلك الناس عليهم أن يولّوا أصلح من خلقه الله تعالى، وإن كان فيه نقص :إما من قدرته، وإما من عدله.
وقد كان عمر رضي الله عنه يقول : (( اللهم إليك أشكو جَلَدَ الفاجر وعجز الثقة ))، وما ساس العالم أحدٌ مثل عمر، فكيف الظن بغيره؟
هذا إذا كان المتولّى نفسه قادراً عادلا، فكيف إذا كان المعصوم عاجزاً ؟ ومن الذي يُلْزمها بطاعته حتى تطيعه ؟ وإذا أظهر بعض نوّابه طاعته حتى يولّيه، ثم أخذ ما شاء من الأموال، وسكن في مدائن الملوك، فأي حيلة للمعصوم فيه ؟
فعلم أن المعصوم الواحد لا يحصل به المقصود، إذا كان ذا سلطان، فكيف إذا كان عاجزاً مقهوراً ؟ فكيف إذا كان مفقوداً غائبا لا يمكنه مخاطبة أحد ؟ فكيف إذا كان معدوما لا حقيقة له ؟(174/75)
الوجه السابع : أن يُقال : صَدُّ غيره عن الظلم، وإنصاف المظلوم منه، وإيصال حق غيره إليه فرع على منع ظلمه، واستيفاء حقِّه. فإذا كان عاجزاً مقهوراً لا يمكنه دفع الظلم عن نفسه، ولا استيفاء حقّه من ولايةٍ ومال، ولا حق امرأته من ميراثها، فأي ظلم يَدْفع ؟ وأي حق يُوصِّل ؟ فكيف إذا كان معدوما أو خائفا لا يمكنه أن يظهر في قرية أو مدينة خوفا من الظالمين أن يقتلوه، وهو دائما على هذا الحال أكثر من أربعمائة وستين سنة، والأرض مملوءة من الظلم والفساد، وهو لا يقدر أن يعرّف بنفسه، فكيف يدفع الظلم عن الخلق،أو يُوصِّل الحق إلى المستحق ؟ وما أخلق هؤلاء بقوله تعالى : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَاْلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } (1) !
الوجه الثامن : أن يُقال :حاجة الإنسان إلى تدبير بدنه بنفسه، أعظم من حاجة المدينة إلى رئيسها.وإذا كان الله تعالى لم يخلق نفس الإنسان معصومةً، فكيف يجب عليه أن يخلق رئيساً معصوما؟
مع أن الإنسان يمكنه أن يكفر بباطنه، ويعصي بباطنه، وينفرد بأمور كثيرة من الظلم والفساد، والمعصوم لا يعلمها، وإن علمها لا يقدر على إزالتها، فإذا لم يجب هذا فكيف يجب ذاك ؟
الوجه التاسع : أن يقال : هل المطلوب من الأئمة أن يكون الصلاح بهم أكثر من الفساد، وأن يكون الإنسان معهم أقرب إلى المصلحة وأبعد عن المفسدة، مما لو عدموا ولم يقم مقامهم ؟ أم المقصود بهم وجود صلاحٍ لا فساد معه ؟ أم مقدار معين من الصلاح ؟
__________
(1) الآية 44 من سورة الفرقان.(174/76)
فإذا كان الأول، فهذا المقصود حاصل لغالب ولاة الأمور. وقد حصل هذا المقصود على عهد أبي بكر وعمر وعثمان، أعظم مما حصل على عهد عليّ. وهو حاصل بخلفاء بني أمية وبني العباس، أعظم مما هو حاصل بالاثنى عشر. وهذا حاصل بملوك الروم والترك والهند، أكثر مما هو حاصل بالمنتظر الملقّب صاحب الزمان، فإنه ما من أمير يتولى ثم يُقدَّر عدمه بلا نظير، إلا كان الفساد في عدمه أعظم من الفساد في وجوده، لكن قد يكون الصلاح في غيره أكثر منه، كما قد قيل : (( ستون سنة مع إمام جائر خير من ليلة واحدة بلا إمام )).
وإن قيل : بل المطلوب وجود صلاحٍ لا فساد معه.
قيل : فهذا لم يقع، ولم يخلق الله ذلك، ولا خلق أسبابا توجب ذلك لا محالة. فمن أوجب ذلك، وأوجب ملزوماته على الله، كان إمّا مكابراً لعقله، وإما ذامًّا لربّه. وخَلْقُ ما يمكن معه وجود ذلك، لا يحصل به ذلك، إن لم يخلق ما يكون به ذلك.
ومثل هذا يقال في أفعال العباد، لكن القول في المعصوم أشد،لأن مصلحته تتوقف على أسباب خارجة عن قدرته، بل عن قدرة الله عند هؤلاء. الذين هم معتزلة رافضة، فإيجاب ذلك على الله أفسد من إيجاب خلق مصلحة كل عبد له.
الوجه العاشر : أن يقال : قوله : (( لو لم يكن الإمام معصوما لافتقر إلى إمام آخر، لأن العلة المحوجة إلى إمام هي جواز الخطأ على الأمة، فلو جاز الخطأ عليه لاحتاج إلى إمام آخر )).
فيقال له : لم لا يجوز أن يكون إذا أخطأ الإمام كان في الأمة من ينبهه على الخطأ، بحيث لا يحصل اتفاق المجموع على الخطأ، لكن إذا أخطأ بعض الأمة، نبهه الإمام أو نائبه أو غيره، وإن أخطأ الإمام أو نائبه نبهه آخر كذلك، وتكون العصمة ثابتة للمجموع، لا لكل واحد من الأفراد، كما يقوله أهل الجماعة ؟(174/77)
وهذا كما أن كل واحد من أهل خبر التواتر يجوز عليه الخطأ، وربما جاز عليه تعمد الكذب، لكن المجموع لا يجوز عليهم ذلك في العادة. وكذلك الناظرون إلى الهلال أو غيره من الأشياء الدقيقة، قد يجوز الغلط على الواحد منهم، ولا يجوز على العدد الكثير.
وكذلك الناظرون في الحساب والهندسة، ويجوز على الواحد منهم الغلط في مسألة أو مسألتين، فأما إذا كثر أهل المعرفة بذلك، امتنع في العادة غلطهم.
ومن المعلوم أن ثبوت العصمة لقوم اتفقت كلمتهم، أقرب إلى العقل والوجود من ثبوتها لواحدٍ. فإن كانت العصمة لا تمكن للعدد الكثير، في حال اجتماعهم على الشيء المعيّن، فان لا تمكن للواحد أَولى. وإن أمكنت للواحد مفرداً، فلإن تمكن له ولأمثاله مجتمعين بطريق الأَوْلى والأحرى.
فعُلم أن إثبات العصمة للمجموع أَوْلى من إثباتها للواحد، وبهذه العصمة يَحْصُل المقصود المطلوب من عصمة الإمام، فلا تتعين عصمة الإمام.
ومن جهل الرافضة إنهم يوجبون عصمة واحد من المسلمين، ويجوّزون على مجموع المسلمين الخطأ إذا لم يكن فيهم واحد معصوم. والمعقول الصريح يشهد أن العلماء الكثيرين، مع اختلاف اجتهاداتهم، إذا اتفقوا على قولٍ كان أولى بالصواب من واحد، وأنه إذا أمكن حصول العلم بخبرٍ واحد، فحصوله بالأخبار المتواترة أَوْلى.
ومما يبيّن ذلك أن الإمام شريك الناس في المصالح العامة، إذ كان هو وحده لا يقدر أن يفعلها، إلا أن يشترك هو وهم فيها، فلا يمكنه أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق، ولا يوفّيها، ولا يجاهد عدواً إلا أن يعينوه، بل لا يمكنه أن يصلّي بهم جمعة ولا جماعة إن لم يصلّوا معه، ولا يمكن أن يفعلوا ما يأمرهم به إلا بقواهم وإرادتهم. فإذا كانوا مشاركين له في الفعل والقدرة، لا ينفرد عنهم بذلك، فكذلك العلم والرأي لا يجب أن ينفرد به بل يشاركهم فيه، فيعاونهم ويعاونونه، وكما أن قدرته تعجز إلا بمعاونتهم، فكذلك علمه يعجز إلا بمعاونتهم.(174/78)
الوجه الحادي عشر : أن يُقال : العلم الديني الذي يحتاج إليه الأئمة والأمة نوعان : علم كلّي، كإيجاب الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، والزكاة، والحج، وتحريم الزنا والسرقة والخمر ونحو ذلك. وعلم جزئي، كوجوب الزكاة على هذا، ووجوب إقامة الحد على هذا، ونحو ذلك.
فأما الأول، فالشريعة مستقلة به، لا تحتاج فيه إلى الإمام. فإن النبي إما أن يكون قد نصّ على كليات الشريعة التي لا بد منها، أو ترك منها ما يحتاج إلى القياس. فإن كان الأول ثبت المقصود. وإن كان الثاني، فذلك القدر يحصل بالقياس.
وإن قيل : بل ترك فيها ما لا يُعلم بنصّه ولا بالقياس، بل بمجرد قول المعصوم، كان هذا المعصوم شريكا في النبوّة لم يكن نائبا ؛ فإنه إذا كان يُوجب ويحرّم من غير إسناد إلى نصوص النبي، كان مستقلا، لم يكن متّبعا له، وهذا لا يكون إلا نبيًّا، فأما من لا يكون إلا خليفة لنبيّ، فلا يستقل دونه.
وأيضا فالقياس إن كان حجةً جاز إحالة الناس عليه، وإن لم يكن حجةً وجب أن ينصّ النبي على الكليّات.
وأيضا فقد قال تعالى : { اليَوْمَ أَكْملْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ اْلإِسْلاَمَ دِينًا } (1).
وهذا نصٌ في أن الدين كامل لا يحتاج معه إلى غيره.
وأما الجزئيات فهذه لا يمكن النصّ على أعيانها، بل لا بد فيها من الاجتهاد المسمّى بتحقيق المناط، كما أن الشارع لا يمكن أن ينصَّ لكل مصلٍّ على جهة القبلة في حقِّه، ولكل حاكم على عدالة كل شاهد، وأمثال ذلك.
وإذا كان كذلك، فإن ادّعوا عصمة الإمام في الجزئيات، فهذه مكابرة، ولا يدَّعيها أحد، فإن عليًّا رضي الله عنه كان يولِّي من تبين له خيانته وعجزه وغير ذلك، وقد قطع رجلا بشهادة شاهدين، ثم قالا : أخطأنا. فقال : لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما.
__________
(1) الآية 3 من سورة المائدة.(174/79)
وكذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي الصحيحين عنه أنه قال: (( إنكم تختصمون إلىَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار))(1) 2).
الوجه الثاني عشر : أن يُقال : العصمة الثابتة للإمام : أهي فعل للطاعات باختياره وتركه للمعاصي باختياره، مع أن الله تعالى عندكم لا يخلق اختياره ؟ أم هي خلق الإرادة له ؟ أم سلبه القدرة على المعصية ؟
فإن قلتم بالأول، وعندكم أن الله لا يخلق اختيار الفاعلين، لزمكم أن الله لا يقدر على خلق معصوم.
وإن قلتم بالثاني بطل أصلكم الذي ذهبتم إليه في القدرة.
وإن قلتم : سَلْبُ القدرة على المعصية، كان المعصوم عندكم هو العاجز عن الذنب. كما يعجز الأعمى عن نقط المصاحف، والمُقعد عن المشي.
والعاجز عن الشيء لا يُنهى عنه ولا يؤمر به، وإذا لم يُؤمر وُينه لم يستحق ثواباً على الطاعة، فيكون المعصوم عندكم لا ثواب له على ترك معصية، بل ولا على فعل طاعة. وهذا غاية النقص.
وحينئذ فأيّ مسلم فُرض كان خيراً من هذا المعصوم، إذا أذنب ثم تاب، لأنه بالتوبة محيت سيئاته، بل بُدِّل بكل سيئة حسنة مع حسناته المتقدمة، فكان ثواب المكلَّفين خيراً من المعصوم عند هؤلاء، وهذا يناقض قولهم غاية المناقضة.
وأما المقدمة الثانية : فلو قدر أنه لابد من معصوم، فقولهم ليس بمعصومٍ غير عليٍّ اتفاقاً ممنوع، بل كثير من الناس من عبَّادهم وصوفيتهم وجندهم وعامتهم يعتقدون في كثير من شيوخهم من العصمة، من جنس ما تعتقده الرافضة في الاثنى عشر، وربما عبَّروا عن ذلك بقولهم : (( الشيخ محفوظ )).
وإذا كانوا يعتقدون هذا في شيوخهم، مع اعتقادهم أن الصحابة أفضل منهم، فاعتقادهم ذلك في الخلفاء من الصحابة أَوْلى.
__________
(1) انظر البخاري ج3 ص 180 وج9 ص 25 ومسلم ج3 ص 1337 – 1338.(174/80)
وكثير من الناس فيهم من الغلو في شيوخهم من جنس ما في الشيعة من الغلو في الأئمة.
وأيضا فالإسماعيلية يعتقدون عصمة أئمتهم، وهم غير الاثنى عشر.
وأيضا فكثير من أتباع بني أمية – أو كثرهم – كانوا يعتقدون أن الإمام لا حساب عليه ولا عذاب، وأن الله لا يؤاخذهم على ما يطيعون فيه الإمام، بل تجب عليهم طاعة الإمام في كل شيء، والله أمرهم بذلك. وكلامهم في ذلك معروف كثير.
وقد أراد يزيد بن عبد الملك أن يسير بسيرة عمر بن عبد العزير، فجاء إليه جماعة من شيوخهم، فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو، أنه إذا ولَّى اللّهُ على الناس إماماً تقبل اللََََََََّهُ منه الحسنات وتجاوز عنه السيئات.
ولهذا تجد في كلام كثير من كبارهم الأمر بطاعة وليّ الأمر مطلقا، وأن من أطاعه فقد أطاع الله. ولهذا كان يُضرب بهم المثل، يقال : ((طاعة شاميّة )).
وحينئذ فهؤلاء يقولون : إن إمامهم لا يأمرهم إلا بما أمرهم الله به، وليس فيهم شيعة، بل كثير منهم يبغض عليًّا ويسبُّه.
ومن كان اعتقاده أن كل ما يأمر به فإنما مما أمر الله به، وأنه تجب طاعته، وأن الله يثيبه على ذلك، ويعاقبه على تركه – لم يحتج مع ذلك إلى معصوم غير إمامه.
وحينئذ فالجواب من وجهين : أحدهما : أن يُقال : كلٌّ من هذه الطوائف إذا قيل لها : أنه لا بد لها من إمام معصومٍ. تقول : يكفيني عصمة الإمام الذي ائتممت به، لا أحتاج إلى عصمة الاثنى عشر : لا عليّ ولا غيره. ويقول هذا: شيخي وقدوتي. وهذا يقول : إمامي الأموي والإسماعيلي. بل كثير من الناس يعتقدون أن من يطيع الملوك لا ذنب له في ذلك، كائنا من كان، ويتأوَّلون قوله: { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي اْلأَمْرِ مِنْكُمْ } (1).
فإن قيل : هؤلاء لا يعتدّ بخلافهم.
قيل : هؤلاء خيرٌ من الرافضة والإسماعيلية.
__________
(1) الآية 59 من سورة النساء.(174/81)
وأيضا فإن أئمة هؤلاء وشيوخهم خير من معدوم لا يُنتفع به بحال. فهم بكل حال خير من الرافضة.
وأيضا فبطلت حجة الرافضة بقولهم:لم تدّع العصمة إلا في عليّ وأهل بيته.
فإن قيل:لم يكن في الصحابة من يدّعي العصمة لأبي بكر وعمر وعثمان.
قيل : إن لم يكن فيهم من يدّعي العصمة لعليّ بطل قولكم. وإن كان فيهم من يدّعي العصمة لعليّ، لم يمتنع أن يكون فيهم من يدعي العصمة للثلاثة، بل دعوى العصمة لهؤلاء أَوْلى، فإنّا نعلم يقينا أن جمهور الصحابة كانوا يفضّلون أبا بكر وعمر، بل عليّ نفسه كان يفضلهما عليه، كما تواتر عنه. وحينئذ فدعواهم عصمة هذين أولى من دعوى عصمة عليّ.
فإن قيل : فهذا لم يُنقل عنهم.
قيل لهم : ولا نُقل عن واحدٍ منهم القول بعصمة عليّ. ونحن لا نثبت عصمة لا هذا ولا هذا، لكن نقول : ما يمكن أحداً أن ينفي نقل قول أحدٍ منهم بعصمة أحد الثلاثة ، مع دعواهم أنهم كانوا يقولون بعصمة علي . فهذا الفرق لا يمكن أحدا ًأن يدّعيه، ولا ينقله عن واحد منهم. وحينئذ فلا يُعلم زمان ادّعى فيه العصمة لعليّ أو لأحدٍ من الاثنى عشر، ولم يكن من ذلك الزمان من يدّعي عصمة غيرهم، فبطل أن يحتج بانتفاء عصمة الثلاثة ووقوع النزاع في عصمة عليّ.
الوجه الرابع عشر : أن يقال : إما أن يجب وجود المعصوم في كل زمان، وإما أن لا يجب. فإن لم يجب بطل قولهم. وإن وجب لم نسلّم على هذا التقدير أن عليًّا كان هو المعصوم دون الثلاثة. بل إذا كان هذا القول حقًّا، لزم أن يكون أبو بكر وعمر وعثمان معصومين، فإن أهل السنّة متفقون على تفضيل أبي بكر وعمر، وأنهما أحق بالعصمة من عليّ، فإن كانت العصمة ممكنة، فهي إليهما أقرب، وإن كانت ممتنعة، فهي عنه أبعد.
وليس أحد من أهل السنّة يقول بجواز عصمة عليّ دون أبي بكر وعمر، وهم لا يسلّمون انتفاء العصمة عن الثلاثة، إلا مع انتفائها عن عليّ. فأما انتفاؤها عن الثلاثة دون عليّ، فهذا ليس قول أحدٍ من أهل السنة.(174/82)
وإذا قال : أنتم تعتقدون انتفاء العصمة عن الثلاثة.
قلنا : نعتقد انتفاء العصمة عن عليّ، ونعتقد أن انتفاءها عنه أَوْلى من انتفائها عن غيره، وأنهم أحق بها منه إن كانت ممكنة، فلا يمكن مع هذا أن يحتج علينا بقولنا.
وأيضا فنحن إنما نسلّم انتفاء العصمة عن الثلاثة، لاعتقادنا أن الله لم يخلق إماماً معصوماً. فإن قُدِّر أن الله خلق إماماً معصوما فلا يُشك أنهم أحق بالعصمة من كل من جاء بعدهم، ونفينا لعصمتهم لاعتقادنا هذا التقدير.
وهنا جواب ثالث عن أصل الحجة،وهو أن يُقال : من أين علمتم أن عليًّا معصوم، ومن سواه ليس بمعصوم. فإن قالوا بالإجماع على ثبوت عصمة عليّ وانتفاء عصمة غيره كما ذكروه من حجتهم.
قيل لهم : إن لم يكن الإجماع حجة بطلت هذه الحجة، وإن كان حجة في إثبات عصمة عليّ – التي هي الأصل – أمكن أن يكون حجة في المقصود بعصمة من حفظ الشرع ونقله. وكن هؤلاء يحتجّون بالإجماع، ويردّون كون الإجماع حجة، فمن أين علموا أن عليًّا هو المعصوم دون من سواه ؟
فإن ادّعوا التواتر عندهم عن النبي في عصمته، كان القول في ذلك كالقول في تواتر النص على إمامته، وحينئذ فلا يكون لهم مستند آخر.
الجواب الرابع : أن يُقال : الإجماع عندهم ليس بحجة، إلا أن يكون قول المعصوم فيه، فإن لم يعرفوا ثبوت المعصوم إلا به لزم الدور، فإنه لا يُعرف أنه معصوم إلا بقوله، ولا يُعرف أن قوله حجة إلا إذا عُرف أنه معصوم، فلا يثبت واحد منهما.
فعُلم بطلان حجتهم على إثبات المعصوم. وهذا يبين أن القوم ليس لهم مستند علمي أصلا فيما يقولون.
فإذا قيل لهم : بم عرفتم أنه معصوم، وأن من سواه ليسوا معصومين؟
قالوا : بأنه قال : أنا معصوم، ومن سواي ليس بمعصوم. وهذا مما يمكن كل أحد أن يقوله، فلا يكون حجة.(174/83)
فإذا قدِّر أن الحاجة إلى المعصوم ثابتة، فالكلام في تعيّنه. فإذا طُولب الإسماعيلي بتعيين معصومه، وما الدليل على أن هذا هو المعصوم دون غيره، لم يأت بحجة أصلا، وتناقضت أقواله.
وكذلك الرافضي أخذ من القدرية كلامهم في وجوب رعاية الأصلح، وبنى عليه أنه لا بد من معصوم. وهي أقوال فاسدة، ولكن إذا طُولب بتعيينه، لم يكن له حجة أصلا، إلا مجرد قول من لم تثبت بعد عصمته : إني معصوم.
فإن قيل : إذا ثبت بالعقل أنه لا بد من معصوم، فإذا قال عليّ : إني معصوم، لزم أن يكون هو المعصوم، لأنه لم يدّع هذا غيره.
قيل لهم: لو قُدِّر ثبوت معصوم في الوجود، لم يكن مجرد قول شخص : أنا معصوم، مقبولاً لإمكان كون غيره هو المعصوم، وإن لم نعلم نحن دعواه، وإن لم يُظهر دعواه، بل يجوز أن يسكت عن دعوى العصمة وإظهارها على أصلهم، كما جاز للمنتظر أن يخفي نفسه خوفا من الظَّلَمَة.
ومع هذا كله بتقدير دعوى عليّ العصمة، فإنما يُقبل هذا لو كان عليّ قال ذلك، وحاشاه من ذلك.
وهذا جواب خامس وهو أنه إذا لم تكن الحجة على العصمة إلا قول المعصوم : إني معصوم، فنحن راضون بقول عليٍّ في هذه المسألة، فلا يمكن أحد أن يَنْقٍلَ عنه بإسناد ثابت أنه قال ذلك، بل النقول المتواترة عنه تنفي اعتقاده في نفسه العصمة.
وهذا جواب سادس، فإن إقراره لقضاته على أن يحكموا بخلاف رأيه، دليل على أنه لم يعدّ نفسه معصوما.
(فصل)
قال الرافضي : (( الوجه الثاني : أن الغمام يجب أن يكون منصوصاً عليه، لما بيَّنَّا من بطلان الاختيار، وأنه ليس بعض المختارين لبعض الأمة أَوْلى من البعض المختار الآخر، ولأدائه إلى التنازع والتشاجر، فيؤدّى نصب الإمام إلى أعظم أنواع الفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبنا نصبه. وغير عليٍّ من أئمتهم لم يكن منصوصا عليه بالإجماع فتعيّن أن يكون هو الإمام )).(174/84)
والجواب : عن هذا بمنع المقدمتين أيضا، لكن النزاع هنا في الثانية أظهر وأَبْيَن، فإنه قد ذهب طوائف كثيرة من السلف والخلف، من أهل الحديث والفقه والكلام، إلى النصّ على أبي بكر. وذهبت طائفة من الرافضة إلى النصّ على العباس.
وحينئذ فقوله: (( غير عليّ من أئمتهم لم يكن منصوصاً عليه بالإجماع )) كذب متيقن فإنه لا إجماع على نفي النصّ عن غير عليّ. وهذا الرافضي المصنِّف، وإن كان من أفضل بني جنسه، ومن المبرّزين على طائفته، فلا ريب أن الطائفة كلها جُهَّال. وإلا فمن له معرفة بمقالات الناس كيف يدَّعى مثل هذا الإجماع ؟!
ونجيب هنا بجواب ثالث مركَّب، وهو أن نقول : لا يخلو إما أن يُعتبر النص في الإمامة وإما أن لا يُعتبر. فإن اعتُبر منعنا المقدمة الثانية، إن قلنا : إن النص ثابت لأبي بكر. وإن لم يُعتبر بطلت المقدمة الأولى.
وهنا جواب رابع : وهو أن نقول : الإجماع عندكم ليس بحجة، وإنما الحجة قول المعصوم، فيعود الأمر إلى إثبات النصّ بقول الذي يُدَّعى له العصمة. ولم يثبت بعد لا نص ولا عصمة، بل يكون قول القائل: (( لم يُعرف صحة قوله : أنا المعصوم، وأنا المنصوص على إمامتي )) حجة، وهذا من أبلغ الجهل. وهذه الحجة من جنس التي قبلها.
وجواب خامس : وهو أن يُقال : ما تعني بقولك : (( يجب أن يكون منصوصاً عليه ))؟. لأنه لا بد أن يقول : هذا هو الخليفة من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا، فيكون الخليفة بمجرد هذا النص ؟ أم لا يصير هذا إماما حتى تُعقد له الإمامة مع ذلك ؟
فإن قلت بالأول. قيل : لا نسلّم وجوب النص بهذا الاعتبار. والزيدية مع الجماعة تنكر هذا النص، وهم من الشيعة الذين لا يُتَّهَمون عَلَى عليٍّ.
أما قوله : (( إنه إذا لم يكن كذلك أدّى إلى التنازع والتشاجر )).(174/85)
فيقال : النصوص التي تدل على استحقاقه الإمامة وتُعلم دلالتها بالنظر والاستدلال، يحصل بها المقصود في الأحكام، فليست كل الأحكام منصوصة نصاًّ جليا يستوي في فهمه العام والخاص. فإذا كانت الأمور الكلية التي تجب معرفتها في كل زمان يُكتفى فيها بهذا النص، فَلأَن يكتفى بذلك في القضية الجزئية، وهو تولية إمام معيّن، بطريق الأَوْلى والأحرى. فإنّا قد بينا أن الكليات يمكن نصّ الأنبياء عليها، بخلاف الجزئيات.
وأيضا فيه إذا كانت الأدلة ظاهرة في أن بعض الجماعة أحق بها من غيره استغنى بذلك عن استخلافه.
والدلائل الدالّة على أن أبا بكر كان أحقهم بالإمامة ظاهرة بيّنة، لم ينازع فيها أحد من الصحابة، ومن نازع من الأنصار لم ينازع في أن أبا بكر أفضل المهاجرين، وإنما طلب أن يُولَّى واحدٌ من الأنصار مع واحدٍ من المهاجرين.
فإن قيل : إن كان لهم هوًى مُنٍعوا ذلك بدلالة النصوص.
قيل : وإذا كان لهم هوىً عصوا تلك النصوص وأعرضوا عنها، كما ادعيتم أنتم عليهم. فمع قصدهم الحق يحصل المقصود بهذا وبهذا، ومع العناد لا ينفع هذا لا هذا.
وجواب سادس : أن يقال : النص على الأحكام على وجهين : نص كلي عام يتناول أعيانها، ونص على الجزئيات.
فإن قلتم : لا بد من النصّ على الإمام. إن أردتم النصّ على العام الكلي: عَلَى ما يُشترك للإمام،وما يجب عليه، وما يجب له، كالنص على الحكّام والمفتين والشهود وأئمة الصلاة والمؤذنين وأمراء الجهاد، وغير هؤلاء ممن يتقلّد شيئا من أمور المسلمين – فهذه النصوص ثابتة – ولله الحمد – كثيرة، كما هي ثابتة على سائر الأحكام.
وجواب سابع : وهو أن يقال : أنتم أوجبتم النص، لئلا يفضى إلى التشاجر، المفضى إلى أعظم أنواع الفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبتم نصبه.(174/86)
فيقال : الأمر بالعكس، فإن أبا بكر رضي الله عنه تولّى بدون هذا الفساد. وعمر وعثمان توليا بدون هذا الفساد. فإنما عَظُم هذا الفساد في الإمام الذي ادّعيتم أنه منصوص عليه دون غيره، فوقع في ولايته من أنواع التشاجر والفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبتم نصبه، فكان ما جعلتموه وسيلة إنما حصل معه نقيض المقصود، وحصل المقصود بدون وسيلتكم، فبطل كون ما ذكرتموه وسيلة إلى المقصود.
وهذا لأنهم أوجبوا على الله ما لا يجب عليه،وأخبروا بما لم يكن، فلزم من كذبهم وجهلهم هذا التناقض.
وجواب ثامن : وهو أن يقال : النصّ الذي يزيل هذا الفساد يكون على وجوه :
أحدها : أن يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بولاية الشخص ويثني عليه في ولايته، فحينئذ تعلم الأمة أن هذا إن تولّى كان محموداً مرضيا، فيرتفع النزاع، وإن لم يقل : وَلُّوه.
وهذا النص وقع لأبي بكر وعمر.
الثاني : أن يخبر بأمور تستلزم صلاح الولاة، وهذه النصوص وقعت في خلافة أبي بكر وعمر.
الثالث : أن يأمر من يأتي بعد موته شخصا يقوم مقامه، فيدل على أنه خليفة من بعده. وهذا وقع لأبي بكر.
الرابع : أن يريد كتابة كتاب، ثم يقول : إن الله والمؤمنون لا يولُّون إلا فلاناً، وهذا وقع لأبي بكر.
الخامس : أن يأمر بالاقتداء بعده بشخص، فيكون هو الخليفة بعده.
السادس : أن يأمر باتّباع سنّة خلفائه الراشدين المهديين، ويجعل خلافتهم إلى مدة معينة، فيدل على أن المتولين في تلك المدة هم الخلفاء الراشدون.
السابع : أن يخص بعض الأشخاص بأمر يقضى أنه هو المقدَّم عنده في الاستخلاف، وهذا موجود لأبي بكر.
كما في الصحيحين أنه قال لعائشة : (( ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه الناس من بعدي )) ثم قال : (( يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ))(1).
__________
(1) تقدم تخريجه ص 540.(174/87)
فعلم أن الله لا يولّي إلا أبا بكر والمؤمنون لا يبايعون إلا أبا بكر. وكذلك سائر الأحاديث الصحيحة تدلّ على أنه علم ذلك، وإنما كان ترك الأمر مع علمه أفضل، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن الأمة إذا ولّته طوعاً منها بغير إلزام – وكان هو الذي يرضاه الله ورسوله – كان أفضل للأمة، ودلّ على علمها ودينها.
(فصل )
قال الرافضي : (( الثالث : إن الإمام يجب أن يكون حافظا للشرع، لانقطاع الوحي بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقصور الكتاب والسنة على تفاصيل الأحكام الجزئية الواقعة إلى يوم القيامة، فلا بد من إمام منصوب من الله تعالى، معصوم من الزلل والخطأ، لئلا يترك بعض الأحكام، أو يزيد فيها عمداً أو سهوا. وغير عليّ لم يكن كذلك بالإجماع )).
والجواب من وجوه : أحدها : أنّا لا نسلم أنه يجب أن يكون حافظاً للشرع، بل يجب أن تكون الأمة حافظة للشرع. وحفظ الشرع يحصل بمجموع الأمة كما يحصل بالواحد ن بل الشرع إذا نقله أهل التواتر كان خيراً من أن ينقله واحد منهم. وإذا كان كل طائفة تقوم بهم الحجة تنقل بعضه، حصل المقصود.وعصمة أهل التواتر حصل في نقلهم أعظم عند بني آدم كلهم من عصمة من ليس بنبي، فإن أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا – ولو قيل إنهم معصومون – فما نقله المهاجرون والأنصار أبلغ مما نقله هؤلاء.
وأيضا فإن كان أكثر الناس يطعنون في عصمة الناقل لم يحصل المقصود، فكيف إذا كان كثير من الأمة يكفّره ؟
والتواتر يحصل بأخبار المخبرين الكثيرين وإن لم تعلم عدالتهم.
الوجه الثاني : أن يقال : أتريد به من يكون حافظا للشرع وإن لم يكن معصوما ؟ أو من يكون معصوما ؟ فإن اشترطت العصمة فهذا من الوجه الأول، وقد كررته، وتقدم الجواب عليه. وإن اشترطت مجرد الحفظ، فلا نسلم أن عليًّا كان أحفظ للكتاب والسنة، وأعلم بهما من أبي بكر وعمر، بل هما كانا أعلم بالكتاب والسنة منه، فبطل ما ادّعاه من الإجماع.(174/88)
الوجه الثالث : أن يقال: أتعني بكونه حافظا للشرع معصوما أنه لا يُعلم صحة شيء من الشرع إلا بنقله ؟ أم يمكن أن يُعلم صحة شيء من الشرع بدون نقله ؟
إن قلت بالثاني لم يحتج لا إلى حفظه ولا إلى عصمته، فإنه إذا أمكن حفظ شيء من الشرع بدونه، أمكن حفظ الآخر، حتى يُحفظ الشرع كله من غير حاجة إليه.
وإن قلت : بل معناه أنه لا يمكن معرفة شيء من الشرع إلا بحفظه.
فيقال : حينئذ لا تقوم حجة على أهل الأرض إلا بنقله، ولا يُعلم صحة نقله حتى يُعلم أنه معصوم، ولا يُعلم أنه معصوم إلا بالإجماع على نفي عصمة من سواه، فإن كان الإجماع معصوماً أمكن حفظ الشرع به، وإن لم يكن معصوماً لم تُعلم عصمته.
الوجه الرابع : أن يُقال : لماذا لا يجوز أن تكون العصمة في الحفظ والبلاغ ثابتة لكل طائفة بحسب ما حملته من الشرع. فالقرَّاء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه، والفقهاء معصومون في فهم الكلام والاستدلال على الأحكام.
وهذا هو الواقع المعلوم الذي أغنى الله به عن واحد معدوم.
الوجه الخامس : أنه إذا كان لا يحفظ الشرع ويبلّغه إلا واحدٌ بعد واحد، معصوم عن معصوم،وهذا المنتظر له أكثر من أربعمائة وستين سنة لم يأخذ عنه أحدٌ شيئا من الشرع، فمن أين علمتم القرآن من أكثر من أربعمائة سنة؟ ولم لا يجوز أن يكون هذا القرآن الذي تقرؤونه ليس فيه شيء من كلام الله ؟
وكذلك من أين لكم العلم بشيء من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحكامه، وأنتم لم تسمعوا شيئا من ذلك من معصوم، لأن المعصوم إما مفقود وإما معدوم ؟
فإن قالوا : تواتر ذلك عند أصحابنا بنقلهم عن الأئمة المعصومين.
قيل : فإذا كان تواتر أصحابكم عن الأئمة يوجب حفظ الشرع ونقله، فلماذا لا يجوز أن يكون تواتر الأمة كلها عن نبيها أَوْلى بحفظ الشرع ونقله، من غير احتياج إلى نقل واحد عن واحد ؟(174/89)
الوجه السادس: أن يقال : قولك : (( لانقطاع الوحي وقصور النصوص عن تفاصيل الأحكام )) أتريد به قصورها عن بيان جزئي جزئى بعينه ؟ أو قصورها عن البيان الكليّ المتناول للجزئيات ؟
فإن ادّعيت الأول، قيل لك : وكلام الإمام وكل أحد بهذه المنزلة، فإن الأمير إذا خاطب الناس فلا بد أن يخاطبهم بكلام عام يعمّ الأعيان والأفعال وغير ذلك، فإنه من الممتنع أن يعيّن بخطابه كل فعل من كل فاعل في كل وقت، فإن هذا غير ممكن، فإذاً لا يمكنه إلا الخطاب العام الكليّ، والخطاب العام الكلي ممكن من الرسول.
وإن ادّعيت أن نفس نصوص الرسول ليست عامة كلية.
قيل لك : هذاممنوع، وبتقدير أن يُمنع هذا في نصوص الرسول الذي هو أكمل من الإمام، فمنع ذلك من نصوص الإمام أَوْلى وأحرى، فأنت مضطر في خطاب الإمام إلى أحد أمرين : إما ثبوت عموم الألفاظ، وإما ثبوت عموم المعاني بالاعتبار. وأيّهما كان أمكن إثباته في خطاب الرسول، فلا يحتاج في بيانه الأحكام إلى الإِمام.
الوجه السابع : أن يُقال : وقد قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } (1)، وقال تعالى : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل } (2) ، وقال تعالى : { وَمَا عَلَى الرَّسُول إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبينَ } (3) . وأمثال ذلك.
فيقال : وهل قامت الحجة على الخلق ببيان الرسول أم لا ؟
فإن لم تقم بطلت هذه الآيات وما كان في معناها، وإن قامت الحجة ببيان الرسول عُلم أنه لا يحتاج إلى معيّن آخر يفتقر الناس إلى بيانه، فضلا عن حفظ تبليغه، وأن ما جعل الله في الإنسان من القوة الناقلة لكلام الرسول وبيانه كافية من ذلك. لا سيما وقد ضمن الله حفظ ما أنزله من الذكر، فصار ذلك مأمونا أن يبدَّل أو يغيَّر.
__________
(1) الآية 4 من سورة إبراهيم.
(2) الآية 165 من سورة النساء.
(3) الآية 54 من سورة النور.(174/90)
وبالجملة دعوى هؤلاء المخذولين أن دين الإسلام لا يُحفظ ولا يُفهم إلا بواحدٍ معيّن، من أعظم الإفساد لأصول الدين. وهذا لا يقوله – وهو يعلم لوازمه – إلا زنديق ملحد، قاصد لإبطال الدين، ولا يُروج هذا إلا على مفرط في الجهل والضلال.
الوجه الثامن : أن يُقال قد عُلم بالاضطرار أن أكثر المسلمين بلغهم القرآن والسنة بدون نقل عليّ، فإن عمر رضي الله عنه لما فتح الأمصار بعث إلى الشام والعراق من علماء الصحابة من علَّمهم وفقههم، واتصل العلم من أولئك إلى سائر المسلمين، ولم يكن ما بلّغه عليّ للمسلمين أعظم مما بلّغه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وأمثالهما.
وهذا أمر معلوم. ولو لم يُحفظ الدين إلا بالنقل عن عليّ لبطل عامة الدين؛ فإنه لا يمكن أن يُنقل عن عليّ إلا أمر قليل لا يحصل به المقصود والنقل عنه ليس متواتراً، وليس في زماننا معصوم يمكن الرجوع إليه، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وما أسخف عقول الرافضة!
(فصل )
قال الرافضي : (( الرابع : أن الله تعالى قادر على نصب إمام معصوم، وحاجة العالم داعية إليه، ولا مفسدة فيه، فيجب نصبه. وغير عليّ لم يكن كذلك إجماعاً، فتعيّن أن يكون الإمام هو عليّ. أما القدرة فظاهرة، وأما الحاجة فظاهرة أيضاً لما بّيّنا من وقوع التنازع بين العالم. وأما انتفاء المفسدة فظاهر، لأن المفسدة لازمة لعدمه. وأما وجوب نصبه، فلأن ثبوت القدرة والداعي وانتفاء الصارف يجب الفعل )).
والجواب : أن هذا هو الوجه الأول بعينه ولكن قرّره. وقد تقدمت الأجوبة عنه بمنع المقدمة الأولى وبيان فساد هذا الاستدلال، فإن مبناه على الاحتجاج بالإجماع، فإن كان الإجماع معصوماً أغنى عن عصمة عليّ، وإن لم يكن معصوماً بطلت دلالته على عصمة عليّ، فبطل الدليل على التقديرين.(174/91)
ومن العجب أن الرافضة تثبت أصولها على ما تدَّعيه من النص والإجماع، وهم أبعد الأمة عن معرفة النصوص والإجماعات، والاستدلال بها، بخلاف السنّة والجماعة ؛ فإن السنّة تتضمن النص، والجماعة تتضمن الإجماع. فأهل السنّة والجماعة هم المتّبعون للنص والإجماع.
ونحن نتكلم على هذا التقدير ببيان فساده، وذلك من وجوه :
أحدها : أن يقال : لا نسلم أن الحاجة داعية إلى نصب إمام معصوم، وذلك لأن عصمة الأمة مغنية عن عصمته، وهذا مما ذكره العلماء في حكمة عصمة الأمة.
الثاني : إن أُريد بالحاجة أن حالهم مع وجوده أكمل، فلا ريب أن حالهم مع عصمة نوّاب الإمام أكمل، وحالهم مع عصمة أنفسهم أكمل. وليس كل ما تقدّره الناس أكمل لكل منهم يفعله الله، ولا يجب عليه فعله.
وأيضا فجعل غير النبي مماثلاً للنبي في ذلك، قد يكون من أعظم الشُّبَهْ والقدح في خاصة النبي، فإنه إذا وجب أن يؤمن بجميع ما يقوله هذا، كما يجب الإيمان بجميع ما يقوله النبي، لم تظهر خاصة النبوة، فإن الله أمرنا أن نؤمن بجميع ما أتى به النبيون، فلو كان لنا من يساومهم في العصمة، لوجب الإيمان بجميع ما يقوله، فيبطل الفرق.
الوجه الثاني : أن يقال : المعصوم الذي تدعو الحاجة إليه : أهو القادر على تحصيل المصالح وإزالة المفاسد ؟ أم هوعاجز عن ذلك ؟ الثاني ممنوع ؛ فإن العاجز لا يحصل به وجود المصلحة ولا دفع المفسدة، بل القدرة شرط في ذلك، فإن العصمة تفيد وجود داعية إلى الصلاح،لكن حصول الداعي بدون القدرة لا يوجب حصول المطلوب.
وإن قيل : بل المعصوم القادر.
قيل : فهذا لم يوجد. وإن كان هؤلاء الاثنا عشر قادرين على ذلك ولم يفعلوه، لزم أن يكونوا عصاة لا معصومين، وإن لم يقدروا لزم أن يكونوا عاجزين. فأحد الأمرين لازم قطعا أو كلاهما : العجز وانتفاء العصمة. وإذا كان كذلك، فنحن نعلم بالضرورة انتفاء ما استدل به على وجوده. والضروريات لا تعارض بالاستدلال.(174/92)
ففي الجملة لا مصلحة في وجود معصوم بعد الرسول إلا وهي حاصلة بدونه وفيه من الفساد ما لا يزول إلا بعدمه. فقولهم : (( الحاجة داعية إليه )) ممنوع. وقولهم : (( المفسدة فيه معدومة )) ممنوع.
بل الأمر بالعكس ؛ فالمفسدة معه موجودة، والمصلحة معه منتفية. وإذا كان اعتقاد وجوده قد أوجب من الفساد ما أوجب، فما الظن بتحقيق وجوده ؟
(فصل)
قال الرافضي: ((الخامس : أن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته. وعليّ أفضل أهل زمانه على ما يأتي، فيكون هو الإِمام لقُبْح تقديم المفضول على الفاضل عقلا ونقلا. قال تعالى: { أَفَمَن يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهْدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } (1) .
والجواب من وجوه : أحدها : منع المقدمة الثانية الكبرى، فإنا لا نسلم أن عليًّا أفضل أهل زمانه. بل خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عثمان، كما ثبت ذلك عن عليّ وغيره. وسيأتي الجواب عمَّا ذكروه، وتقرير ما ذكرناه.
الثاني : أن الجمهور من أصحابنا وغيرهم، وإن كانوا يقولون : يجب تولية الأفضل مع الإمكان، لكن هذا الرافضي لم يذكر حجة على هذه المقدمة. وقد نازعه فيها كثير من العلماء. وأما الآية المذكورة فلا حجة فيها له، لأن المذكور في الآية : من يهدي إلى الحق، ومن لا يَهِدِّي إلا أن يهدى. والمفضول لا يجب أن يُهدى إلا أن يهديه الفاضل، بل قد يحصل له هدىً كثير بدون تعلّم من الفاضل،وقد يكون الرجل أعلم ممن هو أفضل منه، وإن كان ذلك الأفضل قد مات، وهذا الحي الذي هو أفضل منه لم يتعلم منه شيئا.
وأيضا فالذي يهدي إلى الحق مطلقا هو الله، والذي لا يَهدِّي إلا أن يُهدى صفة كل مخلوق لا يهدي إلا أن يهديه الله تعالى. وهذا هو المقصود بالآية وهي أن عبادة الله أولى من عبادة خلقه.
__________
(1) الآية 35 من سورة يونس.(174/93)
كما قال في سياقها : { قُلْ َهْل مِنْ شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهْدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى } (1) .
فافتتح الآيات بقوله : { قُلْ مَن يَرْزقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَاْلأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَاْلأَبْصَارَ وَمَن يخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } (2) .إلى قوله : { قُلْ َهْل مِنْ شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } (3) .
وأيضا فكثير من الناس يقول: ولاية الأفضل واجبة، إذا لم تكن في ولاية المفضول مصلحة راجحة، ولم يكن في ولاية الأفضل مفسدة.
وهذه البحوث يبحثها من يرى عليًّا أفضل من أبي بكر وعمر، كالزيدية وبعض المعتزلة، أو من يتوقف في ذلك، كطائفة من المعتزلة.
وأما أهل السنّة فلا يحتاجون إلى منع هذه المقدمة، بل الصدِّيق عندهم أفضل الأمة. لكن المقصود أن نبيّن أن الرافضة، وإن قالوا حقا، فلا يقدرون أن يدلُّوا عليه بدليل صحيح، لأنهم سدُّوا على أنفسهم كثيراً من طرق العلم، فصاروا عاجزين عن بيان الحق، حتى أنهم لا يمكنهم تقرير إيمان عليّ عَلَى الخوارج، ولا تقرير إمامته على المروانية، ومن قاتله فإن ما يستدل به على ذلك فقد أطلق جنسه على أنفسهم، لأنهم لا يدرون ما يلزم أقوالهم الباطلة من التناقض والفساد، لقوة جهلهم،واتباعهم الهوى بغير علم.
قال الرافضي : (( المنهج الثاني : في الأدلة المأخوذة من القرآن، والبراهين الدّالة على إمامة عليّ من الكتاب العزيز كثيرة.
__________
(1) الآية 35 من سورة يونس.
(2) الآية 31 من سورة يونس.
(3) الآية 35 من سورة يونس.(174/94)
الأول : قوله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينّ آمَنُوا الَّذِينَ يقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } (1) وقد أجمعوا أنها نزلت في عليّ. قال الثعلبي في إسناده إلى أبي ذر : قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهاتين وإلا صمتا، ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول : (( عليٌّ قائد البررة، وقاتل الكفرة، فمنصور من نصره، ومخذول من خذله )) أَمَا إِنِّي صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد، فلم يعطه أحدٌ شيئا، فرفع السائل يده إلى السماء، وقال : اللهم إنك تشهد أنّي سألت في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يعطني أحدٌ شيئا، وكان عليٌّ راكعا، فأومأ بخنصره اليمنى، وكان متختماً فيها، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم، وذلك بعين النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال : (( اللهم إن موسى سألك وقال : { رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي*وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي* وَاجْعَل لّي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي } (2) فأنزلت عليه قرآنا ناطقا : { سَنَشُد عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا } (3) .اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك، اللهم فاشرح لي صدري، ويسر لي أمري،واجعل لي وزيراً من أهلي، عليًّا اشدد به ظهري )) قال أبو ذر : فما استتم كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل عليه جبريل من عند الله فقال : يا محمد اقرأ. قال : وما أقرأ ؟ قال : اقرأ : { إِنَّمَا َولِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ
__________
(1) الآية 55 من سورة المائدة.
(2) الآيات 25 – 32 من سورة طه.
(3) الآية 35 من سورة القصص.(174/95)
يُقِيمُونَ الصَّلاَة َوَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } (1) .
ونقل الفقيه ابن المغازلي الواسطي الشافعي أن هذه نزلت في عليّ، والوليّ هو المتصرف، وقد أثبت له الولاية في الآية، كما أثبتها الله تعالى لنفسه ولرسوله )).
والجواب من وجوه : أحدها : أن يقال : ليس فيما ذكره ما يصلح أن يقبل ظنا، بل كل ما ذكره كذب وباطل، من جنس السفسطة. وهو لو أفاد ظنونا كان تسميته براهين تسمية منكرة ؛ فإن البرهان في القرآن وغيره يطلق على ما يفيد العلم واليقين، كقوله تعالى : { وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (2) .
وقال تعالى : { أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَاْلأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (3) .
فالصادق لا بد له من برهان على صدقه، والصدق المجزوم بأنه صدق هو المعلوم.
وهذا الرجل جميع ما ذكره من الحجج فيها كذب، فلا يمكن أن يذكر حجة واحدة جميع مقدماتها صادقة، فإن المقدمات الصادقة يمتنع أن تقوم على باطل. وسنين إن شاء الله تعالى عند كل واحدة منها ما يبين كذبها، فتسمية هذه براهين من أقبح الكذب.
ثم إنه يعتمد في تفسير القرآن على قول يحكى عن بعض الناس، مع أنه قد يكون كذبا عليه، وإن كان صدقا فقد خالفه أكثر الناس. فإن كان قول الواحد الذي لم يُعلم صدقه، وقد خالفه الأكثرون برهاناً، فإنه يقيم براهين كثيرة من هذا الجنس على نقيض ما يقوله، فتتعارض البراهين فتتناقض، والبراهين لا تتناقض.
__________
(1) الآية 55 من سورة المائدة.
(2) الآية 111 من سورة البقرة.
(3) الآية 64 من سورة النمل.(174/96)
بل سنبين إن شاء الله تعالى قيام البراهين الصادقة التي لا تتناقض على كذب ما يدّعيه من البراهين، وأن الكذب في عامتها كذب ظاهر، لا يخفى إلا على من أعمى الله قلبه، وأن البراهين الدالّة على نبوة الرسول حق، وأن القرآن حق، وأن دين الإسلام حق – تناقض ما ذكره من البراهين، فإن غاية ما يدّعيه من البراهين إذا تأمله اللبيب، وتأمل لوازمه وجده يقدح في الإيمان والقرآن والرسول.
ثم نقول : ثانيا: الجواب عن هذه الآية حق من وجوه : الأول : أنّا نطالبه بصحة هذا النقل، أولاً يُذكر هذا الحديث على وجهٍ تقوم به الحجة ؛ فإن مجرد عزوه إلى تفسير الثعلبي، أو نقل الإجماع على ذلك من غير العالمين بالمنقولات، الصادقين في نقلها، ليس بحجة باتفاق أهل العلم، إن لم نعرف ثبوت إسناده. وكذلك إذا روى فضيلة لأبي بكر وعمر، لم يجز اعتقاد ثبوت ذلك بمجرد ثبوت روايته باتفاق أهل العلم.
الثاني : قوله : (( قد أجمعوا أنها نزلت في عليّ)) من أعظم الدعاوى الكاذبة بل أجمع أهل العلم بالنقل، على أنها لم تنزل في عليّ بخصوصه، وأن عليًّا لم يتصدٌّق بخاتمه في الصلاة، وأجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع.
وأما ما نقله من تفسير الثعلبي، فقد أجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبي يروي طائفة من الأحاديث الموضوعات، كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة عن أبي أمامة في فضل تلك السورة، وكأمثال ذلك. ولهذا يقولون : (( هو كحاطب ليل)).
وهكذا الواحدى تلميذه، وامثالهما من المفسرين : ينقلون الصحيح والضعيف.
وإنما المقصود هنا بيان افتراء هذا المصنّف أو كثرة جهله، حيث قال : (( وقد أجمعوا أنها نزلت في عليّ)) فياليت شعري من نقل هذا الإجماع من أهل العلم العالمين بالإجماع في مثل هذه الأمور ؟ فإن نقل الإجماع في مثل هذا لا يُقبل من غير أهل العلم بالمنقولات، وما فيها من إجماع واختلاف.(174/97)
فالمتكلم والمفسّر والمؤرخ ونحوهم، لو ادّعى أحدهم نقلاً مجرداً بلا إسناد ثابت لم يُعتمد عليه، فكيف إذا ادّعى إجماعاً؟!.
الوجه الثالث : أن يقال: هؤلاء المفسرون الذين نَقَل من كتبهم، هم – ومن هم أعلم منهم – قد نقلوا ما يناقض هذا الإجماع المدَّعَى، والثعلبي قد نقل في تفسيره أن ابن عباس يقول : نزلت في أبي بكر. ونقل عن عبد الملك : قال : سألت أبا جعفر، قال : هم المؤمنون. قلت : فإن ناساً يقولون : هو عليّ. قال : فعليٌّ من الذين آمنوا. وعن الضحاك مثله.
الوجه الرابع : أنّا نعفيه من الإجماع، ونطالبه أن ينقل ذلك بإسناد واحد صحيح. وهذا الإسناد الذي ذكره الثعلبي إسناده ضعيف، فيه رجال متهمون. وأما نقل ابن المغازلي الواسطى فأضعف وأضعف، فإن هذا قد اجتمع في كتابه من الأحاديث الموضوعات ما لا يخفى أنه كذب عَلَى من له أدنى معرفة بالحديث، والمطالبة بإسناد يتناول هذا وهذا.
الوجه الخامس : أن يُقال : لو كان المراد بالآية أن يؤتى الزكاة حال ركوعه، كما يزعمون أن عليًّا تصدق بخاتمه في الصلاة، لوجب أن يكون ذلك شرطا في الموالاة، وأن لا يتولى المسلمون إلا عليًّا وحده، فلا يُتَوَلَّى الحسن ولا الحسين ولا سائر بني هاشم. وهذا خلاف إجماع المسلمين.
الوجه السادس : أن قوله : (( الذين )) صيغة الجمع، فلا يصدق عَلَى عليٍّ وحده.
الوجه السابع : أن الله تعالى لا يثني على الإنسان إلا بما هو محمود عنده : إما واجب، وإما مستحب. والصدقة والعتق والهدية والهبة والإجارة والنكاح والطلاق، وغير ذلك من العقود في الصلاة، ليست واجبة ولا مستحبة باتفاق المسلمين، بل كثير منهم يقول : إن ذلك يبطل الصلاة وإن لم يتكلم، بل تبطل بالإشارة المفهمة. وآخرون يقولون : لا يحصل المِلْك بها لعدم الإيجاب الشرعي. ولو كان هذا مستحباًّ، لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله ويحض عليه أصحابه، ولكان عليّ يفعله في غير هذه الواقعة.(174/98)
فلما لم يكن شيء من ذلك، عُلم أن التصدُّق في الصلاة ليس من الأعمال الصالحة، وإعطاء السائل لا يفوت، فيمكن المتصدق إذا سلَّم أن يعطيه، وإن في الصلاة لشغلا.
الوجه الثامن : أنه لو قُدِّر أن هذا مشروع في الصلاة، لم يختص بالركوع، بل يكون في القيام والقعود أَوْلى منه في الركوع، فكيف يُقال : لا وليّ لكم إلا الذين يتصدقون في حال الركوع، فلو تصدّق المتصدّق في حال القيام والقعود : أما كان يستحق هذه الموالاة ؟
الوجه التاسع : أن يُقال : قوله : { وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } (1) على قولهم يقتضى أن يكون آتى الزكاة في حال ركوعه. وعليّ رضي الله عنه لم يكن ممن تجب عليه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان فقيرا، وزكاة الفضة إنما تجب عَلَى من ملك النصاب حولاً، وعليٌّ لم يكن من هؤلاء.
الوجه العاشر : إن إعطاء الخاتم في الزكاة لا يجزئ عند كثير من الفقهاء، إلا إذا قيل بوجوب الزكاة في الحُليّ. وقيل : إنه يخرج من جنس الحلى. ومن جوَّز ذلك بالقيمة، فالتقويم في الصلاة متعذّر، والقيم تختلف باختلاف الأحوال.
الوجه الحادي عشر : أن هذه الآية بمنزلة قوله { وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } (2) ، هذا أمر بالركوع.
وكذلك قوله: { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } (3) ، وهذا أمر بالركوع.
__________
(1) الآية 55 من سورة المائدة.
(2) الآية 43 من سورة البقرة.
(3) الآية 43 من سورة آل عمران.(174/99)
الوجه الثاني عشر : أنه من المعلوم المستفيض عند أهل التفسير، خلفاً عن سلف، أن هذه الآية نزلت في النهي عن موالاة الكفار،والأمر بموالاة المؤمنين، لَّما كان بعض المنافقين، كعبد الله بن أُبَيّ، يوالي اليهود، ويقول: إني أخاف الدوائر. فقال بعض المؤمنين، وهو عبادة بن الصامت : إنّي يا رسول الله أتولّى الله ورسوله، وأبرأ إلى الله ورسوله من حِلف هؤلاء الكفّار وولايتهم.
الوجه الثالث عشر : أن سياق الكلام يدل على ذلك لمن تدبّر القرآن، فإنه قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (1) . فهذا نهي عن موالاة اليهود والنصارى.
ثم قال : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } إلى قوله : { فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ } (2) . فهذا وصف الذين في قلوبهم مرض، الذين يوالون الكفار كالمنافقين.
ثم قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (3) فذكر فعل المرتدّين وأنهم لن يضروا الله شيئا، وذكر من يأتي به بدلهم.
__________
(1) الآية 51 من سورة المائدة.
(2) الآيتان 52 ، 53 من سورة المائدة.
(3) الآية 54 من سورة المائدة.(174/100)
ثم قال : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } (1) .
فتضمن هذا الكلام ذكر أحوال من دخل في الإسلام من المنافقين، وممن يرتد عنه، وحال المؤمنين الثابتين عليه ظاهراً وباطنا.
فهذا السياق، مع إثباته بصيغة الجمع، مما يوجب لمن تدبّر ذلك علماً يقيناً لا يمكنه دفعه عن نفسه : أن الآية عامّة في كل المؤمنين المتصفين بهذه الصفات، لا تختص بواحد بعينه : لا أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا عليّ، ولا غيرهم. لكن هؤلاء أحقّ الأمة بالدخول فيها.
الوجه الرابع عشر : أن الألفاظ المذكورة في الحديث مما يُعلم أنها كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن عليًّا ليس قائدا لكل البررة، بل القائد لهذه الأمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا هو أيضا قاتلا لكل الكفرة، بل قتل بعضهم، كما قتل غيره بعضهم. وما أحد من المجاهدين القاتلين لبعض الكفّار، إلا وهو قاتل لبعض الكفرة.
وكذلك قوله : (( منصور من نصره، مخذول من خذله )) هو خلاف الواقع. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا حقًّا، لا سيما عَلَى قول الشيعة، فإنهم يدَّعون أن الأمة كلها خذلته إلى قتل عثمان.
فمن زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل الله أن يشد أزره بشخص من الناس، كما سأل موسى أن يشد أزره بهارون، فقد افترى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبخسه حقَّه. ولا ريب أن الرفض مشتق من الشرك والإلحاد والنفاق، لكن تارة يظهر لهم ذلك فيه وتارة يخفى.
__________
(1) الآيتان 55 ، 56 من سورة المائدة.(174/101)
الوجه الخامس عشر : أن يُقال : غاية ما في الآية أن المؤمنين عليهم موالاة الله ورسوله والمؤمنين، فيوالون عليًّا. ولا ريب أن موالاة عليّ واجبة عَلَى كل مؤمن، كما يجب على كل مؤمن موالاة أمثاله من المؤمنين.
قال تعالى : { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } } (1). فبيّن الله أن كل صالحٍ من المؤمنين فهو مَوْلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله مولاه، وجبريل مولاه،وليس في شيء من هذه النصوص أن من كان وليًّا للآخر كان أميراً عليه دون غيره، وأنه يتصرف فيه دون سائر الناس.
الوجه السادس عشر :أنه لو أراد الولاية التي هي الإمارة لقال : (( إنما يتولى عليكم الله ورسوله والذين آمنوا ))، ولم يقل : ومن يتولى الله ورسوله، فإنه لا يقال لمن ولى عليهم والٍ : إنهم تولوه. بل يقال : تولى عليهم.
الوجه السابع عشر :أن الله سبحانه لا يُوصف بأنه متولٍ على عباده، وأنه أمير عليهم، جلّ جلاله، وتقدّست أسماؤه، فإنه خالقهم ورازقهم، وربهم ومليكهم، له الخلق والأمر، ولا يُقال : إن الله أمير المؤمنين، كما يسمَّى المتولّى، مثل عليّ وغيره : أمير المؤمنين، بل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً لا يُقال أنه متولٍّ على الناس، وأنه أمير عليهم، فإن قَدْرَهُ أجلّ من هذا. بل أبو بكر الصديق رضي الله عنه لم يكونوا يسمونه إلا خليفة رسول الله. وأول من سمِّي من الخلفاء (( أمير المؤمنين )) هو عمر رضي الله عنه.
الوجه الثامن عشر : أنه ليس كل من تولّى عليه إمام عادل يكون من حزب الله، ويكون غالباً ؛ فإن أئمة العدل يتولُّون على المنافقين والكفّار، كما كان في مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت حكمه ذّميون ومنافقون.
(فصل )
__________
(1) الآية 4 من سورة التحريم.(174/102)
قال الرافضي: (( البرهان الثاني : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } (1)، اتفقوا على نزولها في عليّ. وروى أبو نُعيم الحافظ – من الجمهور – بإسناده عن عطية قال : نزلت هذه الآية عَلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عليّ بن أبي طالب.ومن تفسير الثعلبي قال: معناه : بلِّغ ما أُنزل إليك من ربك في فضل عليّ، فلما نزلت هذه الآية أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيد عليّ، فقال : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - مولى أبي بكر وعمر وباقي الصحابة بالإجماع، فيكون عليٌّ مولاهم، فيكون هو الإمام.
__________
(1) الآية 67 من سورة المائدة.(174/103)
ومن تفسير الثعلبي : لما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغدير خُم نادى الناس فاجتمعوا، فأخذ بيد عليّ، وقال : (( من كنت مولاه فعليً مولاه )) فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهرى، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ناقته، حتى أتى الأبطح، فنزل عن ناقته وأناخها فعقلها، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في ملأٍ من الصحابة، فقال : يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقبلنا منك. وأمرتنا أن نصلّي خمساً فقبلناه منك. وأمرتنا أن نزكّي أموالنا فقبلناه منك. وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلناه منك. وأمرتنا أن نحج البيت فقبلناه منك. ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بِضَبْعَىْ ابن عمك وفضلتَه علينا، وقلتَ : من كنت مولاه فعليّ مولاه. وهذا منك أم من الله ؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : والله الذي لا إله إلا هو هو من أَمْرِ الله، فولّى الحارث يريد راحلته، وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله، وأنزل الله تعالى : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ* لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللَّهِ } (1). وقد روى هذه الرواية النقَّاش من علماء الجمهور في تفسيره )).
والجواب من وجوه : أحدها : أن هذا أعظم كذبا وفرية من الأول، كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى. وقوله : (( اتفقوا على نزولها في عليّ )) أعظم كذباً مما قاله في تلك الآية. فلم يقل لا هذا ولا ذاك أحد من العلماء، الذين يدرون ما يقولون.
__________
(1) الآيات 1 – 3 من سورة المعارج.(174/104)
وأما ما يرويه أبو نُعيم في (( الحلية )) أو في (( فضائل الخلفاء )) والنقَّاش والثعلبي والواحدي ونحوهم في التفسير، فقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن فيما يروونه كثيراً من الكذب الموضوع، واتفقوا على أن هذا الحديث المذكور الذي رواه الثعلبي في تفسيره هو من الموضوع، وسنبين أدلة يُعرف بها أنه موضوع، وليس الثعلبي من أهل العلم بالحديث.
ولكن المقصود هنا أنَّا نذكر قاعدة فنقول : المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب، والمرجع في التمييز بين هذا وهذا إلى أهل علم الحديث، كما نرجع إلى النحاة في الفرق بين نحو العرب ونحو غير العرب، ونرجع إلى علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة، وكذلك علماء الشعر والطب وغير ذلك، فلكل علم رجال يُعرفون به، والعلماء بالحديث أجل هؤلاء قدراً، وأعظمهم صدقا، وأعلاهم منزلة، وأكثرهم دينا.
الوجه الثاني : أن نقول: في نفس هذا الحديث ما يدل على أنه كذب من وجوه كثيرة، فإن فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كان بغدير إلى آخره.
فيقال : أجمع الناس كلهم على أن ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - بغدير خم كان مرجعه من حجة الوداع، والشيعة تسلم بهذا وتجعل ذاك اليوم عيداً وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة والنبي - صلى الله عليه وسلم -. لم يرجع إلى مكة بعد ذلك، بل رجع من حجة الوداع إلى المدينة، وعاش تمام ذي الحجة، والمحرم وصفر وتوفي في أول ربيع الأول.
وفي هذا الحديث يذكر أنه بعد أن قال هذا بغدير خُم وشاع في البلاد، جاءه الحارث وهو بالأبطح،والأبطح بمكة، فهذا كذب جاهل لم يعلم متى كانت قصة غدير خم.
وأيضا فإن هذه السورة – سورة سأل سائل – مكيّة باتفاق أهل العلم، نزلت بمكة قبل الهجرة، فهذه نزلت قبل غدير خُم بعشر سنين أو أكثر من ذلك، فكيف تكون نزلت بعده ؟(174/105)
وأيضا قوله : { وَإِذْ قَالُوا الَّلهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ } (1) ، في سورة الأنفال، وقد نزلت عقيب بدر بالاتفاق قبل غدير خُم بسنين كثيرة، وأهل التفسير متفقون على أنها نزلت بسبب ما قاله المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة، كأبي جهل وأمثاله، وأن الله ذكَّر نبيَّه بما كانوا يقولون بقوله : { وَإِذْ قَالُوا الَّلهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ } . أي اذكر قولهم.
وأيضا فقد ذكر في هذا الحديث أن هذا القائل أُمر بمباني الإسلام الخمس، وعلى هذا فقد كان مسلما فإنه قال : فقبلناه منك. ومن المعلوم بالضرورة أن أحدا من المسلمين على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصبه هذا.
وأيضا فهذا الرجل لا يُعرف في الصحابة، بل هو من جنس الأسماء التي يذكرها الطرقية، من جنس الأحاديث التي في سيرة عنتر ودلهمة.
الوجه الثالث : أن يُقال : أنتم ادّعيتم أنكم أثبتم إمامته بالقرآن، والقرآن ليس في ظاهره ما يدل على ذلك أصلا ؛ فإنه قال : { بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } (2) . وهذا اللفظ عام في جميع ما أُنزل إليه من ربِّه، لا يدل على شيء معيَّن.
فدعوى المدّعى أن إمامة عليّ هي ما بلَّغها، أو مما أمر بتبليغها، لا تثبت بمجرد القرآن ؛ فإن القرآن ليس فيه دلالة على شيء معين، فإن ثبت ذلك بالنقل كان ذلك إثباتا بالخبر لا بالقرآن. فمن ادّعى أن القرآن يدل على أنّ إمامة عليّ مما أُمر بتبليغه، فقد افترى على القرآن، فالقرآن لا يدل على ذلك عموما ولا خصوصا.
__________
(1) الآية 32 من سورة الأنفال.
(2) الآية 67 من سورة المائدة.(174/106)
الوجه الرابع : أن يُقال : هذه الآية، مع ما عُلم من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، تدل على نقيض ما ذكروه، وهو أن الله لم ينزّلها عليه،ولم يأمره بها، فإنها لو كانت مما أمره الله بتبليغه، لبلّغه، فإنه لا يعصى الله في ذلك.
ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها : (( من زعم أن محمداً كتم شيئا من الوحي فقد كذب، والله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } (1) .
لكن أهل العلم يعلمون بالاضطرار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبلِّغ شيئا من إمامة عليّ، ولهم على هذا طرق كثيرة يثبتون بها هذا العلم.
منها : أن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان له أصل لنُقل، كما نُقل أمثاله من حديثه، لا سيما مع كثرة ما يُنقل في فضائل عليّ، من الكذب الذي لا أصل له، فكيف لا يُنقل الحق الصدق الذي قد بُلِّغ للناس ؟!
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أمته بتبليغ ما سمعوا منه، فلا يجوز عليهم كتمان ما أمرهم الله بتبليغه.
ومنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات، وطلب بعض الأنصار أن يكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير، فأُنكِر ذلك عليه، وقالوا : الإمارة لا تكون إلا في قريش، وروى الصحابة في مواطن متفرقة الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن : (( الإمامة في قريش )).
ولم يرو واحد منهم : لا في المجلس ولا في غيره، ما يدل على إمامة عليّ.
وبايع المسلمون أبا بكر، وكان أكثر بني عبد مناف – من بني أمية وبني هاشم وغيرهم – لهم ميل قوي إلى عليّ بن أبي طالب يختارون ولايته، ولم يذكر أحد منهم هذا النص. وهكذا أُجرى الأمر في عهد عمر وعثمان، وفي عهده أيضا لما صارت له ولاية، ولم يذكر هو ولا أحدٌ من أهل بيته ولا من الصحابة المعروفين هذا النص، وإنما ظهر هذا النص بعد ذلك.
__________
(1) الآية 67 من سورة المائدة.(174/107)
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان الثالث : قوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا } (1) .فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الرب برسالتي، وبالولاية لعليٍّ من بعدي. ثم قال : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من ولاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله )).
والجواب من وجوه : أحدها : أن المستدّل عليه بيان صحة الحديث. ومجرد عزوه إلى رواية أبي نُعيم لا تفيد الصحة باتفاق الناس : علماء السنّة والشيعة ؛ فإن أبا نعيم روى كثيراً من الأحاديث التي هي ضعيفة، بل موضوعة، باتفاق علماء أهل الحديث : السنّة والشيعة، وهو وإن كان حافظاً، كثير الحديث، واسع الرواية، لكن روى، كما هي عادة المحدِّثين أمثاله يروون جميع ما في الباب، لأجل المعرفة بذلك.
الوجه الثاني : أن هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالموضوعات. وهذا يعرفه أهل العلم بالحديث، والمرجع إليهم في ذلك. ولذلك لا يوجد هذا في شيء من كتب الحديث التي يرجع إليها.
__________
(1) الآية 3 من سورة المائدة.(174/108)
الوجه الثالث : أنه قد ثبت في الصحاح والمسانيد والتفسير أن هذه الآية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بعرفة، وقال رجل من اليهود لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتَّخذنا ذلك اليوم عيداً. فقال له عمر: أيّ آية هي ؟ قال : قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا } (1) . فقال عمر : إني لأعلم أي يوم نزلت، وفي أي مكان نزلت. نزلت يوم عرفة بعرفة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف بعرفة(2) . وهذا مستفيض من وجوه أخر، وهو منقول في كتب المسلمين : الصحاح والمسانيد والجوامع والسير والتفسير وغير ذلك.
وهذا اليوم كان قبل يوم غدير خُم بتسعة أيام ؛ فإنه كان يوم الجمعة تاسع ذي الحجة، فكيف يُقال : إنها نزلت يوم الغدير ؟!
الوجه الرابع : أن هذه الآية ليس فيها دلالة عَلَى عليٍّ ولا إمامته بوجه من الوجوه، بل فيها إخبار الله بإكمال الدين وإتمام النعمة على المؤمنين، ورضا الإسلام دينا. فدعوى المدَّعى أن القرآن يدل على إمامته من هذا الوجه كذب ظاهر.
الوجه الخامس : أن هذا اللفظ، وهو قوله : (( اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله )) كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
وأما قو له : (( من كنت مولاه فعليٌّ مولاه )) فلهم فيه قولان : وسنذكره إن شاء الله تعالى في موضعه.
__________
(1) الآية 3 من سورة المائدة.
(2) انظر البخاري جذ ص 14 ومواضع أُخر ومسلم ج4 ص 2312 – 2313.(174/109)
الوجه السادس : أن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - مجاب، وهذا الداء ليس بمجابٍ. فعُلم أنه ليس من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه من المعلوم لما تولّى كان الصحابة وسائر المسلمين ثلاثة أصناف : صنف قاتلوا معه، وصنف قاتلوه، وصنف قعدوا عن هذا وهذا. وأكثر السابقين الأوَّلين كانوا من القعود.
ثم إن هؤلاء الذين قاتلوه لم يُخذلوا، بل ما زالوا منصورين يفتحون البلاد، ويقتلون الكفّار.
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق،لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله )) قال معاذ بن جبل : (( وهم بالشام ))(1) .
والعسكر الذين قاتلوا مع معاوية ما خُذِلوا قط، بل ولا في قتال عليّ. فكيف يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( اللهم اخذل من خذله وانصر من نصره )) والذين قاتلوا معه لم يُنصروا على هؤلاء، بل الشيعة الذين تزعمون أنهم مختصّون بعليّ ما زالوا مخذولين مقهورين لا يُنصرون إلا مع غيرهم : إما مسلمين، وإما كفّار،وهم يدّعون أنهم أنصاره، فأين نصر الله لمن نصره ؟! وهذا وغيره مما يبيّن كذب هذا الحديث.
(فصل)
__________
(1) مسلم ج3 ص 1523 والبخاري ج9 ص 82 ومواضع أُخر.(174/110)
قال الرافضي : (( البرهان الرابع :قوله تعالى : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } (1) ، روى الفقيه عليّ بن المغازلي الشافعي بإسناده عن ابن عباس، قال : كنت جالسا مع فتية من بني هاشم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ انقض كوكبٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من انقض هذا الكوكب في منزله، فهو الوصي من بعدي )) فقام فتية من بني هاشم، فنظروا، فإذا الكوكب قد انقضّ في منزل علي ّ، قالوا : يا رسول الله قد غويت في حب عليّ ، فأنزل الله تعالى :? { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } (2) .
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحته، كما تقدم. وذلك أن القول بلا علم حرام بالنص والإجماع.
قال تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } (3) .
وقال : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَاْلإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَالاَ تَعْلَمُونَ } (4).
فما جاءت به الرسل عن الله فهو سلطان، فالقرآن سلطان، والسنّة سلطان، لكن لا يعرف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء به إلا بالنقل الصادق عن الله، فكل من احتج بشيء منقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعليه أن يعلم صحته، قبل أن يعتقد موجبه ويستدل به. وإذا احتج به على غيره، فعليه بيان صحته، وإلا كان قائلا بلا علم، مستدلا بلا علم.
فكيف يحتج في مسائل الأصول، التي يقدح فيها في خيار القرون وجماهير المسلمين وسادات أولياء الله المقرَّبين، بحيث لا يعلم المحتج به صدقه ؟
__________
(1) الآيتان 1،2 من سورة النجم.
(2) الآيتان 1،2 من سورة النجم.
(3) الآية 36 من سورة الإسراء.
(4) الآية 33 من سورة الأعراف.(174/111)
وهو لو قيل له : أتعلم أن هذا وقع ؟ فإن قال : أعلم ذلك، فقد كذب. فمن أين يعلم وقوعه ؟ ويُقال له : من أين علمت صدق ذلك، وذلك مما لا يُعرف إلا بالإسناد ومعرفة أحوال الرواة ؟ وأنت لا تعرفه، ولو أنك عرفته لعرفت أن هذا كذب.
وإن قال : لا أعلم ذلك. فكيف يسوغ لك الاحتجاج بما لا تعلم صحته ؟
الثاني : أن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالحديث. وهذا المغازلي ليس من أهل الحديث، كأبي نعيم وأمثاله، ولا هو أيضا من جامعي العلوم الذين يذكرون ما غالبه حق وبعضه باطل،كالثعلبي وأمثاله، بل هذا لم يكن الحديث من صنعته، فعمد إلى ما وجده من كتب الناس من فضائل عليّ فجمعها، كما فعل أخطب خوارزم، وكلاهما لا يعرف الحديث، وكل منهما يروى فيما جمعه من الأكاذيب الموضوعة، ما لا يخفى أنه كذب على أقل علماء النقل والحديث.
الوجه الثالث : أنه مما يبيّن أنه كذب أن فيه ابن عباس شهد نزول سورة النجم حين انقض الكوكب في منزل عليّ، وسورة النجم باتفاق الناس من أول ما نزل بمكة، وابن عبّاس حين مات النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مراهقاً للبلوغ لم يحتلم بعد، هكذا ثبت عنه في الصحيحين. فعند نزول هذه الآية : إما أن ابن عباس لم يكن وُلد بعد، وإما أنه كان طفلا لا يميّز، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر كان لابن عباس نحو خمس سنين، والأقرب أنه لم يكن ولد عند نزول سورة النجم، فإنها من أوائل ما نزل من القرآن.
الوجه الرابع : أنه لم ينقضّ قط كوكب إلى الأرض بمكة ولا بالمدينة، ولا غيرهما. ولما بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - كثر الرمي بالشهب، ومع هذا فلم ينزل كوكب إلى الأرض. وهذا ليس من الخوارق التي تُعرف في العالم، بل هو من الخوارق التي لا يُعرف مثلها في العالم، ولا يَرْوى مثل هذا إلا من هو أوقح الناس، وأجرئهم على الكذب، وأقلهم حياءً وديناً، ولا يَرُوج إلا عَلَى من هو من أجهل الناس وأحمقهم، وأقلهم معرفة وعلما.(174/112)
الوجه الخامس : أن نزول سورة النجم كان في أول الإسلام،وعليّ إذ ذاك كان صغيراً، والأظهر أنه لم يكن احتلم ولا تزوّج بفاطمة، ولا شُرع بعد فرائض الصلاة أربعا وثلاثا واثنين، ولا فرائض الزكاة، ولا حج البيت، ولا صوم رمضان، ولا عامة قواعد الإسلام.
وأمر الوصية بالإمامة لو كان حقًّا إنما يكون في آخر الأمر كما ادعوه يوم غدير خُم، فكيف يكون قد نزل في ذلك الوقت ؟
الوجه السادس : أن أهل العلم بالتفسير متفقون على خلاف هذا، وأن النجم المقسم به : إما نجوم السماء، وإما نجوم القرآن، ونحو ذلك. ولم يقل أحد : إنه كوكب نزل في دار أحد بمكة.
الوجه السابع : أن من قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( غويت )) فهو كافر، والكفّار لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم بالفروع قبل الشهادتين والدخول في الإسلام.
الوجه الثامن : أن هذا النجم إن كان صاعقة، فليس نزول الصاعقة في بيت شخص كرامة له، وإن كان من نجوم السماء فهذه لا تفارق الفلك، وإن كان من الشُّهب فهذه يُرمى بها رجوما للشياطين، وهي لا تنزل إلى الأرض. ولو قُدِّر أن الشيطان الذي رُمِيَ بها وصل إلى بيت عليّ حتى احترق بها، فليس هذا كرامة له، مع أن هذا لم يقع قط.
(فصل)(174/113)
قال الرافضي : (( البرهان الخامس : قوله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } (1) .فروى أحمد بن حنبل في مسنده عن واثلة بن الأسقع قال : طلبت عليًّا في منزله،فقالت فاطمة رضي الله عنها : ذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال : فجاءا جميعا فدخلا ودخلت معهما، فأجلس عليًّا عن يساره،وفاطمة عن يمينه، والحسن والحسين بين يديه، ثم التفع عليهم بثوبه،وقال : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } (2) اللهم إن هؤلاء أهلي حقًّا.
وعن أم سلمة قالت : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في بيتها، فأتته فاطمة رضي الله عنها ببرمة. فيها حريرة، فدخلت عليه، فقال : ادعي زوجك وابنَيْك. قالت : فجاء عليّ والحسن والحسين فدخلوا وجلسوا يأكلون من تلك الحريرة، وهو وهم على منام له عليٍّ، وكان تحته كساء خَيْبَري. قالت : وأنا في الحجرة أصلّي، فأنزل الله تعالى هذه الآية : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } قالت : فأخذ فضل الكساء وكساهم به، ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء، وقال : هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وكرّر ذلك. قالت : فأدخلت رأسي وقلت : وأنا معهم يا رسول الله قال : إنك إلى خير.
__________
(1) الآية 33 من سورة الأحزاب.
(2) الآية 33 من سورة الأحزاب.(174/114)
وفي هذه الآية دلالة على العصمة، مع التأكيد بلفظة : (( إنما )) وإدخال اللام في الخبر، والاختصاص في الخطاب بقوله : (( أهل البيت )) والتكرير بقوله : (( ويطهّركم )) والتأكيد بقوله (( تطهيرا)) وغيرهم ليس بمعصوم، فتكون الإمامة في عليّ، ولأنه ادّعاها في عدة من أقواله : والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، وهو يعلم أن محلّي منها محل القطب من الرحى. وقد ثبت نفي الرجس عنه، فيكون صادقا، فيكون هو الإمام )).
والجواب : أن هذا الحديث صحيح في الجملة ؛ فإنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعليّ وفاطمة وحسن وحسين : (( اللهم إن هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا)).
وروى ذلك مسلم عن عائشة قالت : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداةً وعليه مرط مرحّل من شعر أسود، فجاء الحسن بن عليّ فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه، ثم جاء عليّ فأدخله، ثم قال: (( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا))(1). وهو مشهور من رواية أم سلمة من رواية أحمد والترمذي، لكن ليس في هذا دلالة على عصمتهم ولا إمامتهم.
__________
(1) انظر مسلم ج4 ص 1883 وانظر المسند ج6 ص 292 ، 298 ، 304 والترمذي ج5 ص 30 ،328.(174/115)
وتحقيق ذلك في مقامين أحدهما : أن قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } ، كقوله : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } (1)، وكقوله : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (2)،وكقوله : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا } (3).
فإن إرادة الله في هذه الآيات متضمنة لمحبة الله لذلك المراد ورضاه به، وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به، ليس في ذلك أنه خلق هذا المراد، ولا أنه قضاه وقدَّره، ولا أنه يكون لا محالة.
والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية قال : (( اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا)) فطلب من الله لهم إذهاب الرجس والتطهير. فلو كانت الآية تتضمن إخبار الله بأنه قد أذهب عنهم الرجس وطهّرهم، لم يحتج إلى الطلب والدعاء.
فإن قيل : فهب أن القرآن لا يدل على وقوع ما أريد من التطهير وإذهاب الرجس، لكن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم بذلك يدل على وقوعه، فإن دعاءه مستجاب.
قيل : المقصود أن القرآن لا يدل على ما ادّعاه من ثبوت الطهارة وإذهاب الرجس فضلا عن أن يدل على العصمة والإمامة.
وأما الاستدلال بالحديث فذاك مقام آخر.
__________
(1) الآية 6 من سورة المائدة.
(2) الآية 185 من سورة البقرة.
(3) الآيتان 26 ، 27 من سورة النساء.(174/116)
ثم نقول في المقام الثاني : هب أن القرآن دل على طهارتهم وإذهاب الرجس عنهم، كما أن الدعاء المستجاب لا بد أن يتحقق معه طهارة المدعو لهم وإذهاب الرجس عنهم، لكن ليس في ذلك ما يدل على العصمة من الخطأ.
والدليل عليه أن الله لم يرد به أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يصدر من واحدة منهن خطأٌ، فإن الخطأ مغفور لهن و لغيرهن. وسياق الآية يقتضي أنه يريد ليذهب عنهم الرجس – الذي هو الخبث كالفواحش – ويطهرهم تطهيرا من الفواحش وغيرها من الذنوب.
ولفظ (( الرجس )) عام يقتضي أن الله يريد أن يذهب جميع الرجس، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا بذلك.
وبالجملة فالتطهير الذي أراده الله، والذي دعا به النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس هو العصمة بالاتفاق، فإن أهل السنّة عندهم لا معصوم إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -. والشيعة يقولون : لا معصوم غير النبي - صلى الله عليه وسلم - والإمام. فقد وقع الاتفاق على انتفاء العصمة المختصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والإمام عن أزواجه وبناته وغيرهن من النساء.
وإذا كان كذلك امتنع أن يكون التطهير المدعو به للأربعة متضمناً للعصمة التي يختص بها النبي - صلى الله عليه وسلم - والإمام عندهم، فلا يكون من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له بهذه العصمة : لا لعليّ ولا لغيره، فإنه دعا له بالطهارة لأربعة مشتركين لم يختص بعضهم بدعوة.
أما قوله : (( إن عليًّا ادّعاها وقد ثبت نفي الرجس عنه فيكون صادقا)).
فجوابه من وجوه : أحدها : أنّا لا نسلم أن عليًّا ادّعاها، بل نحن نعلم بالضرورة علما متيقنا أن عليًّا ما ادّعاها قط حتى قُتل عثمان، وإن كان قد يميل بقلبه إلى أن يُوَلَّى، لكن ما قال : إني أنا الإمام، ولا إني معصوم، ولا : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعلني الإمام بعده، ولا أنه أوجب على الناس متابعتي، ولا نحو هذه الألفاظ.(174/117)
بل نحن نعلم بالاضطرار أن من نقل هذا ونحوه فهو كاذب عليه. ونحن نعلم أن عليًّا كان أتقى لله من أن يدَّعي الكذب الظاهر، الذي تعلم الصحابة كلهم أنه كذب.
وأما نقل الناقل عنه أنه قال : (( لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، وهو يعلم أن محلى منها محل القطب من الرحى )).
فنقول: أولا : أين إسناد هذا النقل، بحيث ينقله ثقة عن ثقة متصلا إليه ؟ وهذا لا يوجد قط، وإنما يُوجد هذا في كتاب (( نهج البلاغة )) وأمثاله، وأهل العلم يعلمون أن أكثر خطب هذا الكتاب مفتراة عَلَى عليّ، ولهذا لا يوجد غالبها في كتاب متقدّم، ولا لها إسناد معروف. فهذا الذي نقلها من أين نقلها ؟
ونحن في هذا المقام ليس علينا أن نبيّن أن هذا كذب، بل يكفينا المطالبة بصحة النقل، فإن الله لم يوجب على الخلق أن يصدّقوا بما لم يقم دليل على صدقه، بل هذا ممتنع بالاتفاق، لا سيما على القول بامتناع تكليف ما لا يطاق؛ فإن هذا من أعظم تكليف ما لا يطاق، فكيف يمكن الإِنسان أن يثبت ادعاء عليّ للخلافة بمثل حكاية ذكرت عنه في أثناء المائة الرابعة، لما كثر الكذّابون عليه، وصار لهم دولة تقبل منهم ما يقولون، سواء كان صدقاً أو كذبا، وليس عندهم من يطالبهم بصحة النقل. وهذا الجواب عمدتنا في نفس الأمر، وفيما بيننا وبين الله تعالى.(174/118)
وأيضاً فنحن نعلم أن عليًّا كان أتقى لله من أن يتعمد الكذب، كما أن أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم كانوا أتقى لله من أن يتعمدوا الكذب. لكن لو قيل لهذا المحتج بالآية : أنت لم تذكر دليلا على أن الكذب من الرجس، وإذا لم تذكر على ذلك دليلا لم يلزم من إذهاب الرجس إذهاب الكذبة الواحدة، إذا قُدِّر أن الرجس ذاهب، فهو فيمن يحتج بالقرآن، وليس في القرآن ما يدل على إذهاب الرجس، ولا ما يدل على أن الكذب والخطأ من الرجس، ولا أن عليًّا قال ذلك. ولكن هذا كله لو صح شيء منه، لم يصح إلا بمقدمات ليست في القرآن، فأين البراهين التي في القرآن على الإمامة ؟ وهل يدّعي هذا إلا من هو من أهل الخزي والندامة ؟
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان السادس : في قوله تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَاْلآصَالِ * رِجَالٌ } إلى قوله : { يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَاْلأَبْصَارُ } (1) قال الثعلبي بإسناده عن أنس وبُريدة قالا : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية، فقام رجل فقال : أي بيوت هذه يا رسول الله ؟ فقال : (( بيوت الأنبياء )). فقام إليه أبو بكر فقال : يا رسول الله هذا البيت منها ؟ يعني بيت عليّ وفاطمة. قال : نعم من أفضلها، وصف فيها الرجال بما يدل على أفضليتهم، فيكون عليّ هو الإمام، وإلا لزم تقديم المفضول على الفاضل )).
__________
(1) الآيتان 36 ، 37 من سورة النور.(174/119)
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة هذا النقل. ومجرد عزو ذلك إلى الثعلبي ليس بحجة باتفاق أهل السنة والشيعة، وليس كل خبر رواه أحدٌ من الجمهور يكون حجة عند الجمهور، بل علماء الجمهور متفقون على أن ما يرويه الثعلبي وأمثاله لا يحتجون به، لا في فضيلة أبي بكر وعمر، ولا في إثبات حكم من الأحكام، إلا أن يُعلم ثبوته بطريق، فليس له أن يقول : إنّا نحتج عليكم بالأحاديث التي يرويها واحد من الجمهور، فإن هذا بمنزلة من يقول : أنا أحكم عليكم بمن يشهد عليكم من الجمهور، فهل يقول أحد من علماء الجمهور : إن كل من شهد منهم فهو عدل، أو قال أحد من علمائهم : إن كل من روى منهم حديثاً كان صحيحا .
ثم علماء الجمهور متفقون على أن الثعلبي وأمثاله يروون الصحيح والضعيف، ومتفقون على أن مجرد روايته لا توجب اتّباع ذلك. ولهذا يقولون في الثعلبي وأمثاله : إنه حاطب ليل يروي ما وجد، سواء كان صحيحاً أو سقيما. فتفسيره وإن كان غالب الأحاديث التي فيه صحيحة، ففيه ما هو كذب موضوع باتفاق أهل العلم.
الثاني : أن هذا الحديث موضوع عند أهل المعرفة بالحديث، ولهذا لم يذكره علماء الحديث في كتبهم التي يعتمد في الحديث عليها، كالصحاح والسنن والمسانيد، مع أن في بعض هذه ما هو ضعيف، بل ما يُعلم أنه كذب، لكن هذا قليل جداً. وأما هذا الحديث وأمثاله فهو أظهر كذبا من أن يذكروه في مثل ذلك.
الثالث : أن يُقال : الآية باتفاق الناس هي في المساجد، كما قال : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَاْلآصَالِ } (1). وبيت عليّ وغيره ليس موصوفا بهذه الصفة.
__________
(1) الآية 36 من سورة النور.(174/120)
الرابع : أن يُقال : بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من بيت عليّ باتفاق المسلمين، ومع هذا لم يدخل في هذه الآية، لأنه ليس في بيته رجال، وإنما فيه هو والواحدة من نسائه، ولما أراد بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : { لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } (1) وقال : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ } (2).
الوجه الخامس : أن قوله : (( هي بيوت الأنبياء )) كذب، فإنه لو كان كذلك لم يكن لسائر المؤمنين فيها نصيب. وقوله : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وِاْلآصَالِ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } (3) متناول لكل من كان بهذه الصفة.
الوجه السادس : أن قوله : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } نكرة موصوفة ليس فيها تعيين. وقوله : { أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } : إن أراد بذلك مالا يختص به المساجد من الذكر في البيوت والصلاة فيها، دخل في ذلك بيوت أكثر المؤمنين المتصفين بهذه الصفة، فلا تختص بيوت الأنبياء بها.
وإن أراد بذلك ما يختص به المساجد من وجود الذكر في الصلوات الخمس ونحو ذلك، كانت مختصة بالمساجد. وأما بيوت الأنبياء فليس فيها خصوصية المساجد، وإن كان لها فضل بسكنى الأنبياء فيها.
الوجه السابع : أن يُقال : إن أريد بيوت الأنبياء ما سكنه النبي - صلى الله عليه وسلم -،فليس في المدينة من بيوت الأنبياء إلا بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يدخل فيها بيت عليّ. وإن أُريد ما دخله الأنبياء، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد دخل بيوت كثير من الصحابة.
__________
(1) الآية 53 من سورة الأحزاب.
(2) الآية 34 من سورة الأحزاب.
(3) الآيتان 36 ، 37 من سورة النور.(174/121)
وأي تقدير قُدِّر في الحديث لا يمكن تخصيص بيت عليّ بأنه من بيوت الأنبياء، دون بيت أبي بكر وعمر وعثمان ونحوهم. وإذا لم يكن له اختصاص، فالرجال مشتركون بينه وبين غيره.
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان السابع :قوله تعالى : { قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } (1).روى أحمد بن حنبل في مسنده عن ابن عباس قال : لما نزلت : { قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } قالوا : يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودّتهم ؟ قال : (( عليّ وفاطمة وابناهما. وكذا في تفسير الثعلبي، ونحوه في الصحيحين. وغير عليّ من الصحابة والثلاثة لا تجب مودته، فيكون عليّ أفضل، فيكون هو الإِمام، ولأن مخالفته تنافي المودة، وبامتثال أوامره تكون مودته، فيكون واجب الطاعة، وهو معنى الإمامة )).
والجواب من وجوه: أحدها : المطالبة بصحة هذا الحديث. وقوله: (( إن أحمد روى هذا في مسنده )) كذب بيّن، فإن هذا مسند أحمد موجود، به من النسخ ما شاء الله، وليس فيه هذا الحديث. وأظهر من ذلك كذبا قوله : إن هذا في الصحيحين، وليس هو في الصحيحين، بل فيهما وفي المسند ما يناقض ذلك.
ولا ريب أن هذا الرجل وأمثاله جهّال بكتب أهل العلم، لا يطالعونها ولا يعلمون ما فيها.
الوجه الثاني : أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، وهم المرجوع إليهم في هذا. وهذا لا يوجد في شيء من كتب الحديث التي يرجع إليها.
__________
(1) الآية 23 من سورة الشورى.(174/122)
الوجه الثالث : إن هذه الآية في سورة الشورى وهي مكيّة باتفاق أهل السنّة، بل جميع آل حم مكيّات، وكذلك آل طس. ومن المعلوم أن عليًّا إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد غزوة بدر، والحسن ولد في السنة الثالثة من الهجرة، والحسين في السنة الرابعة، فتكون هذه الآية قد نزلت قبل وجود الحسن والحسين بسنين متعددة، فكيف يفسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية بوجوب مودة قرابة لا تعرف ولم تخلق بعد ؟!
الوجه الرابع : أن تفسير الآية الذي في الصحيحين عن ابن عباس يناقض ذلك.ففي الصحيحين عن سعيد بن جبير قال : سئل ابن عباس عن قوله تعالى { قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } (1)، فقلت : أن لا تؤذوا محمدا في قرابته. فقال ابن عباس : عجلتَ، إنه لم يكن بطن من قريش إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم قرابة، فقال : لا أسألكم عليه أجراً، لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم.
فهذا ابن عباس ترجمان القرآن، وأعلم أهل البيت بعد عليّ،يقول : ليس معناها مودة ذوى القربى، لكن معناها : لا أسألكم يا معشر العرب ويا معشر قريش عليه أجرا، لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم، فهو سأل الناس الذين أُرسل إليهم أولا أن يصلوا رحمه، فلا يعتدوا عليه حتى يبلّغ رسالة ربه.
الوجه الخامس : أنه قال : لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى، لم يقل : إلا المودة للقربى، ولا المودة لذوى القربى. فلو أراد المودة لذوى القربى لقال : المودة لذوى القربى.
__________
(1) الآية 23 من سورة الشورى.(174/123)
الوجه السادس : أن يُقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يسأل على تبليغ رسالة ربه أجراً ألبتة، بل أجره على الله، كما قال { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } (1) .وقوله : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } (2) ،وقوله : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِن أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ } (3) .
ولكن الاستثناء هنا منقطع، كما قال : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً } (4) .
ولا ريب أن محبة أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - واجبة، لكن لم يثبت وجوبها بهذه الآية، ولا محبتهم أجر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل هو مما أمرنا الله به، كما أمرنا بسائر العبادات.
فمن جعل محبة أهل بيته أجراً له يوفِّيه إياه فقد أخطأ خطأً عظيما، ولو كان أجراً له لم نثب عليه نحن، لأنَّا اعطيناه أجره الذي يستحقّه بالرسالة، فهل يقول مسلم مثل هذا ؟!
الوجه السابع : أن القربى معرّفة باللام، فلا بد أن يكون معروفا عند المخاطبين الذين أُمر أن يقول لهم : { قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا }
وأما قوله : (( والثلاثة لا تجب موالاتهم )) فممنوع، بل يجب أيضا مودتهم وموالاتهم، فإنه قد ثبت أن الله يحبهم، ومن كان الله يحبه وجب علينا أن نحبه، فإن الحب في الله والبغض في الله واجب، وهو أوثق عرى الإيمان. وكذلك هم من أكابر أولياء الله المتقين، وقد أوجب الله موالاتهم، بل قد ثبت أن الله رضي عنهم ورضوا عنه بنصّ القرآن، وكل من رضي الله عنه فإنه يحبه.
__________
(1) الآية 86 من سورة ص.
(2) الآية 40 من سورة الطور.
(3) الآية 47 من سورة سبأ.
(4) الآية 57 من سورة الفرقان.(174/124)
والمقصود أن قوله : (( وغير عليّ من الثلاثة لا تجب مودته )) كلام باطل عند الجمهور، بل مودة هؤلاء أوجب عند أهل السنّة من مودة عليّ، لأن وجوب المودة عَلَى مقدار الفضل.
وأما قوله : (( إن مخالفته تنافي المودة، وامتثال أوامره هو مودته، فيكون واجب الطاعة، وهو معنى الإمامة )).
فجوابه من وجوه : أحدها : إن كان المودة توجب الطاعة فقد وجبت مودة ذوى القربى فتجب طاعتهم، فيجب أن تكون فاطمة أيضا إماماً، وإن كان هذا باطلا فهذا مثله.
الثاني : أن المودة ليست مستلزمة للإمامة في حال وجوب المودة، فليس من وجبت مودته كان إماماً حينئذ، بدليل أن الحسن والحسين تجب مودتهما قبل مصيرهما إمامين، وعليٌّ تجب مودته في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن إماما، بل تجب وإن تأخرت إمامته إلى مقتل عثمان.
وهؤلاء القوم مع أهل السنة بمنزلة النصارى مع المسلمين، فالنصارى يجعلون المسيح إلها، ويجعلون إبراهيم وموسى ومحمداً أقل من الحواريين الذين كانوا مع عيسى. وهؤلاء يجعلون عليًّا هو الإمام المعصوم، أو هو النبي أو إله، والخلفاء الأربعة أقل من مثل الأشتر النخعي وأمثاله الذين قاتلوا معه. ولهذا كان جهلهم وظلمهم أعظم من أن يوصف : ويتمسكون بالمنقولات المكذوبة، والألفاظ المتشابهة، والأقيسة الفاسدة، ويدعون المنقولات الصادقة بل المتواترة، والنصوص البيّنة، والمعقولات الصريحة.
(فصل)(174/125)
قال الرافضي : (( البرهان الثامن : قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ } (1) .قال الثعلبي : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الهجرة خلف عليّ بن أبي طالب لقضاء ديونه ورد الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خرج إلى الغار، وقد أحاط المشركون بالدار، أن ينام على فراشه، فقال له : يا عليّ اتشح ببردى الحضرمى الأخضر، ونم على فراشي، فإنه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله تعالى، ففعل ذلك، فأوحى الله تعالى إلى جبريل وميكائيل أني قد آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة ؟ فاختار كلاهما الحياة، فأوحى الله إليها : ألا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد عليه الصلاة والسلام فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة ؟ اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه. فنزلا، فكان جبريل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، فقال جبريل : بخٍ بخٍ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة ؟ فأنزل الله تعالى عَلَى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوجه إلى المدينة في شأن عليّ : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ } (2) . وقال ابن عباس : إنما نزلت في عليّ لما هرب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المشركين إلى الغار، وهذه فضيلة لم تحصل لغيره تدل على أفضلية عليّ على جميع الصحابة، فيكون هو الإمام )).
الجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة هذا النقل. ومجرد نقل الثعلبي وأمثاله لذلك، بل روايتهم، ليس بحجة باتفاق طوائف أهل السنّة والشيعة، لأن هذا مرسل متأخر، ولم يذكر إسناده، وفي نقله من هذا الجنس للإسرائيليات والإسلاميات أمور يُعلم أنها باطلة، وإن كان هو لم يتعمد الكذب.
__________
(1) الآية 207 من سورة البقرة.
(2) الآية 207 من سورة البقرة.(174/126)
ثانيها : أن هذا الذي نقله من هذا الوجه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث والسيرة، والمرجع إليهم في هذا الباب.
الثالث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر هو وأبو بكر إلى المدينة لم يكن للقوم غرض في طلب عليّ، وإنما كان مطلوبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر، وجعلوا في كل واحد منهما ديته لمن جاء به، كما ثبت ذلك في الصحيح(1) الذي لا يستريب أهل العلم في صحته، وترك عليًّا في فراشه ليظنوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في البيت فلا يطلبوه، فلما أصبحوا وجدوا عليًّا فظهرت خيبتهم، ولم يؤذوا عليًّا، بل سألوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرهم أنه لا علم له به، ولم يكن هناك خوف عَلَى عليّ من أحد، وإنما كان الخوف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وصدِّيقه، ولو كان لهم في عليّ غرض لتعرضوا له لما وجدوه، فلما لم يتعرضوا له دلّ على أنهم لا غرض لهم فيه، فأي ّ فداء هنا بالنفس ؟
والذي كان يفديه بنفسه بلا ريب، ويقصد أن يدفع بنفسه عنه، ويكون الضرر به دونه، هو أبو بكر. كان يذكر الطلبة فيكون خلفه، ويذكر الرصد فيكون أمامه، وكان يذهب فيكشف له الخبر. وإذا كان هناك ما يُخاف أحب أن يكون به لا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
وغير واحد من الصحابة قد فداه بنفسه في مواطن الحروب، فمنهم من قُتل بين يديه، ومنهم من شلّت يده، كطلحة بن عبيد الله. وهذا واجب على المؤمنين كلهم. فلو قدِّر أنه كان هناك فداء بالنفس لكان هذا من الفضائل المشتركة بينه وبين غيره من الصحابة، فكيف إذا لم يكن هناك خوف عَلَى عليٍّ ؟.
وأيضاً فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال : (( اتّشح ببردى هذا الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك منهم رجل بشيء تكرهه )) فوعده، وهو الصادق، أنه لا يخلص إليه مكروه، وكان طمأنينته بوعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) انظر البخاري ج5 ص 58 – 60.(174/127)
الرابع : أن هذا الحديث فيه من الدلائل على كذبه ما لا يخفى، فإن الملائكة لا يقال فيهم مثل هذا الباطل الذي لا يليق بهم، وليس أحدهما جائعاً فيؤثره الآخر بالطعام، ولا هناك خوف فيؤثر أحدهما صاحبه بالامن، فكيف يقول الله لهما : أيّكما يؤثر صاحبه بالحياة ؟ ولا للمؤاخاة بين الملائكة أصل، بل جبريل له عمل يختص به دون ميكائيل، وميكائيل له عمل يختص به دون جبريل، كما جاء في الآثار أن الوحي والنصر لجبريل، وأن الرزق والمطر لميكائيل.
الخامس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخ عليًّا ولا غيره، بل كل ما رُوى في هذا فهو كذب.
وحديث المؤاخاة الذي يُروى في ذلك – مع ضعفه وبطلانه – إنما فيه مؤاخاته له في المدينة، هكذا رواه الترمذي. فأما بمكة فمؤاخاته على التقديرين.
وأيضا فقد عرف أنه لم يكن فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة باتفاق علماء النقل.
السادس : أن هبوط جبريل وميكائيل لحفظ واحد من الناس من أعظم المنكرات ؛ فإن الله يحفظ من يشاء من خلقه بدون هذا. وإنما رُوى هبوطهما يوم بدر للقتال، وفي مثل تلك الأمور العظام، ولو نزلا لحفظ واحد من الناس لنزلا لحفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وصدّيقه، اللذين كان الأعداء يطلبونهما من كل وجه، وقد بذلوا في كل واحد منهما ديته، وهم عليهما غلاظ شداد سود الأكباد.
السابع : أن هذه الآية في سورة البقرة، وهي مدنية بلا خلاف، وإنما نزلت بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، لم تنزل وقت هجرته. وقد قيل : إنها نزلت لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، لم تنزل وقت هجرته ؟ وقد قيل : إنها نزلت لما هاجر صهيب وطلبه المشركون، فأعطاهم ماله، وأتى المدينة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( ربح البيع أبا يحيى )).وهذه القصة مشهورة في التفسير، نقلها غير واحد.
الثامن : أن قوله : (( هذه فضيلة لم تحصل لغيره فدل على أفضليته فيكون هو الإمام )).(174/128)
فيقال : لا ريب أن الفضيلة التي حصلت لأبي بكر في الهجرة لم تحصل لغيره من الصحابة بالكتاب والسنّة والإجماع، فتكون هذه الأفضلية ثابتة له دون عمر وعثمان وعليّ وغيرهم من الصحابة، فيكون هو الإمام.
فهذا هو الدليل الصدق الذي لا كذب فيه. يقول الله : { إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } (1) .
ومثل هذه الفضيلة لم تحصل لغير أبي بكر قطعاً، بخلاف الوقاية بالنفس، فإنها لو كانت صحيحة فغير واحد من الصحابة وقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه. وهذا واجب على كل مؤمن، ليس من الفضائل المختصة بالأكابر من الصحابة.
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان التاسع:قوله تعالى: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِين } (2) . نقل الجمهور كافة أن (( أبناءنا)) إشارة إلى الحسن والحسين، و(( نساءنا)) إشارة إلى فاطمة.و(( أنفسنا)) إشارة إلى عليّ. وهذه الآية دليل على ثبوت الإمامة لعليّ لأنه تعالى قد جعله نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والاتحاد محال، فيبقى المراد بالمساواة له الولاية. وأيضا لو كان غير هؤلاء مساوياً لهم وأفضل منهم في استجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم لأنه في موضع الحاجة، وإذا كانوا هم الأفضل تعيّنت الإمامة فيهم. وهل تخفى دلالة هذه الآية على المطلوب إلا على من استحوذ الشيطان عليه، وأخذ بمجامع قلبه، وحُبّبت إليه الدنيا التي لا ينالها إلا بمنع أهل الحق من حقهم ؟))
__________
(1) الآية 40 من سورة التوبة.
(2) الآية 61 من سورة آل عمران.(174/129)
والجواب أن يقال : أما أخذه عليًّا وفاطمة والحسن والحسين في المباهلة فحديث صحيح، رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص. قال في حديث طويل لما نزلت هذه الآية : { فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِين } (1) دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًّا وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال (( اللهم هؤلاء أهلي ))(2).
ولكن لا دلالة في ذلك على الإمامة ولا على الأفضلية.
وقوله : (( وقد جعله الله نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والاتحاد محال، فبقي المساواة له، وله الولاية العامة. فكذا لمساويه )).
قلنا : لا نسلم أنه لم يبق إلا المساواة، ولا دليل على ذلك، بل حمله على ذلك ممتنع، لأن أحدا لا يساوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا عليًّا ولا غيره.
وهذا اللفظ في لغة العرب لا يقتضي المساواة. قال تعالى في قصة الإفك: { لَّوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا } (3)، ولم يوجب ذلك أن يكون المؤمنون والمؤمنات متساوين.
والمباهلة إنما تحصل بالأقربين إليه، وإلا فلو باهلهم بالأبعدين في النسب، وإن كانوا أفضل عند الله، لم يحصل المقصود ؛ فإن المراد أنهم يدعون الأقربين، كما يدعو هو الأقرب إليه.
وأما قول الرافضي : (( لو كان غير هؤلاء مساويا لهم، أو أفضل منهم في استجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم معه، لأنه في موضع الحاجة )).
__________
(1) الآية 61 من سورة آل عمران.
(2) انظر صحيح مسلم ج4 ص 1871.
(3) الآية 12 من سورة النور.(174/130)
فيقال في الجواب : لم يكن المقصود إجابة الدعاء ؛ فإن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده كافٍ، ولو كان المراد بمن يدعوه معه أن يستجاب دعاؤه، لدعا المؤمنين كلهم ودعا بهم، كما كان يستسقى بهم، وكما كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، وكان يقول : (( وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ؟ بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم ؟ )).
ومن المعلوم أن هؤلاء، وإن كانوا مجابين،فكثرة الدعاء أبلغ في الإجابة. لكن لم يكن المقصود دعوة من دعاه لإجابة دعائه، بل لأجل المقابلة بين الأهل والأهل. ونحن نعلم بالاضطرار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو دعا أبا بكر وعمر وعثمان، وطلحة والزبير، وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وغيرهم للمباهلة، لكانوا من أعظم الناس استجابة لأمره، وكان دعاء هؤلاء وغيرهم أبلغ في إجابة الدعاء، لكن لم يأمره الله سبحانه بأخذهم معه، لأن ذلك لا يحصل به المقصود.
فإن المقصود أن أولئك يأتون بمن يشفقون عليه طبعا، كأبنائهم ونسائهم ورجالهم الذين هم أقرب الناس إليهم. فلو دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - قوماً أجانب لأتى أولئك بأجانب، ولم يكن يشتد عليهم نزول البهلة بأولئك الأجانب، كما يشتد عليهم نزولها بالأقربين إليهم، فإن طبع البشر يخاف على أقربيه ما لا يخاف على الأجانب، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو قرابته، وأن يدعو أولئك قرابتهم.
فقد تبيّن أن الآية لا دلالة فيها أصلا على مطلوب الرافضي، لكنه، وأمثاله ممن في قلبه زيغ، كالنصارى الذين يتعلقون بالألفاظ المجملة ويدعون النصوص الصريحة، ثم قدحه في خيار الأمة بزعمه الكاذب، حيث زعم أن المراد بالأنفس : المساوون، وهو خلاف المستعمل في لغة العرب.
ومما يبين ذلك أن قوله : (( نساءنا )) لا يختص بفاطمة، بل من دعاه من بناته كانت بمنزلتها في ذلك، لكن لم يكن عنده إذ ذاك إلا فاطمة، فإن رقيَّة وأم كلثوم وزينب كن قد توفين قبل ذلك.(174/131)
فكذلك (( أنفسنا )) ليس مختصا بعليّ، بل هذه صيغة جمع، كما أن (( نساءنا )) صيغة جمع وكذلك (( أبناءنا )) صيغة جمع، وإنما دعا حسناً وحسيناً لأنه لم يكن ممن ينسب إليه بالنبوة سواهما.
(فصل )
قال الرافضي : (( البرهان العاشر : قوله تعالى : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } (1) . روى الفقيه ابن المغازلي الشافعي بإسناده عن ابن عباس، قال : سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه. قال : سأله بحق محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين أن يتوب عليه، فتاب عليه. وهذه فضيلة لم يلحقه أحد من الصحابة فيها، فيكون هو الإمام، لمساواته النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوسل به إلى الله تعالى )).
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة هذا النقل، فقد عُرف أن مجرد رواية ابن المغازلى لا يسوغ الاحتجاج بها باتفاق أهل العلم.
الثاني : أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم، وذكره أبو الفرج بن الجوزي في (( الموضوعات )).
الثالث : أن الكلمات التي تلقاها آدم قد جاءت مفسّرة في قوله تعالى : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (2) .
وقد رُوى عن السلف هذا وما يشبهه، وليس في شيء من النقل الثابت عنهم ما ذكره من القسم.
الرابع : أنه معلوم بالاضطرار أن من هو دون آدم من الكفّار والفساق إذا تاب أحدهم إلى الله تاب الله عليه، وإن لم يقسم عليه بأحد. فكيف يحتاج آدم في توبته إلى مالا يحتاج إليه أحد من المذنبين : لا مؤمن ولا كافر ؟
__________
(1) الآية 37 من سورة البقرة.
(2) الآية 23 من سورة الأعراف.(174/132)
الخامس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أحداً بالتوبة بمثل هذا الدعاء، بل ولا أمر أحداً بمثل هذا الدعاء في توبة ولا غيرها، بل ولا شرع لأمته أن يقسموا على الله بمخلوق، ولو كان هذا الدعاء مشروعا لشرعه لأمته.
السادس : أن الإقسام على الله بالملائكة والأنبياء أمر لم يرد به كتاب ولا سنة، بل قد نصّ غير واحد من أهل العلم – كأبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما – على أنه لا يجوز أن يقسم على الله بمخلوق. وقد بسطنا الكلام على ذلك.
السابع : أن هذا لو كان مشروعا فآدم نبيّ كريم، كيف يقسم على الله بمن هو أكرم عليه منه ؟ ولا ريب أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أفضل من آدم، لكن آدم أفضل من عليّ وفاطمة وحسن وحسين.
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان الحادي عشر : قوله تعالى : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي } (1)،روى الفقيه ابن المغازلى الشافعي عن ابن مسعود، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : انتهت الدعوة إليّ وإلى عليّ، لم يسجد أحدنا لصنم قط، فاتخذني نبيا واتخذ عليًّا وصيا. وهذا نص في الباب )).
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة هذا كما تقدّم.
الثاني : أن هذا الحديث كذب موضوع بإجماع أهل العلم بالحديث.
الثالث : أن قوله : (( انتهت الدعوة إلينا )) كلام لا يجوز أن ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه إن أريد : أنها لم تُصب من قبلنا كان ممتنعا، لأن الأنبياء من ذرية إبراهيم دخلوا في الدعوة.
الوجه الرابع : أن كون الشخص لم يسجد لصنم فضيلة يشاركه فيها جميع من ولد على الإسلام، مع أن السابقين الأوَّلين أفضل منه، فكيف يجعل المفضول مستحقا لهذه المرتبة دون الفاضل ؟
__________
(1) الآية 124 من سورة البقرة.(174/133)
الخامس : أنه لو قيل : إنه لم يسجد لصنم لأنه أسلم قبل البلوغ، فلم يسجد بعد إسلامه، فهكذا كل مسلم، والصبّي غير مكلف. وإن قيل : إنه لم يسجد قبل إسلامه. فهذا النفي غير معلوم، ولا قائله ممن يوثق به.
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان الثاني عشر : قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } (1)،روى الحافظ أبو نُعيم الأصبهاني بإسناده إلى ابن عباس، قال : نزلت في عليّ. والوُدُّ محبة في القلوب المؤمنة. وفي تفسير الثعلبي عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعليّ : يا عليّ قل : اللهم اجعل لي عندك عهداً، واجعل لي في صدور المؤمنين مودة. فأنزل الله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } (2)، ولم يثبت لغيره ذلك، فيكون هو الإمام )).
والجواب من وجوه : أحدها : أنه لا بد من إقامة الدليل على صحة المنقول : وإلا فالاستدلال بما لا يثبت مقدماته باطل بالاتفاق، وهو من القول بلا علم، ومن قفو الإنسان ما ليس به علم، ومن المحاجّة بغير علم. والعزو المذكور لا يفيد الثبوت باتفاق أهل السنّة والشيعة.
الوجه الثاني : أن هذين الحديثين من الكذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
الثالث : أن قوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } (3) عامّ في جميع المؤمنين، فلا يجوز تخصيصها بعليّ، بل هي متناولة لعليّ وغيره. والدليل عليه أن الحسن والحسين وغيرهما من المؤمنين الذين تعظّمهم الشيعة داخلون في الآية، فعُلم بذلك الإجماع على عدم اختصاصها بعليّ.
__________
(1) الآية 96 من سورة مريم.
(2) الآية 96 من سورة مريم.
(3) الآية 96 من سورة مريم.(174/134)
وأما قوله : (( ولم يثبت مثل ذلك لغيره من الصحابة )) فممنوع كما تقدم، فإنهم خير القرون، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات فيهم أفضل منهم في سائر القرون، وهم بالنسبة إليهم أكثر منهم في كل قرن بالنسبة إليه.
الرابع : أن الله قد أخبر أنه سيجعل للذين آمنوا وعملوا الصالحات ودّا. وهذا وعد منه صادق. ومعلوم أن الله قد جعل للصحابة مودّة في قلب كل مسلم، لا سيما الخلفاء رضي الله عنهم، لا سيما أبو بكر وعمر، فإن عامّة الصحابة والتابعين كانوا يودُّونهما، وكانوا خير القرون.
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان الثالث عشر : قوله تعالى : { إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } (1) .من كتاب ((الفردوس )) عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنا المنذر وعليّ الهادي، بك يا عليّ يهتدي المهتدون. ونحوه رواه أبو نُعيم، وهو صريح في ثبوت الولاية والإمامة )).
والجواب من وجوه : أحدها : أن هذا لم يقم دليل على صحته، فلا يجوز الاحتجاج به. وكتاب (( الفردوس )) للديلمي فيه موضوعات كثيرة أجمع أهل العلم على أن مجرد كونه رواه لا يدل على صحة الحديث، وكذلك رواية أبي نُعيم لا تدل على الصحة.
الثاني : أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث، فيجب تكذيبه ورده.
الثالث : أن هذا الكلام لا يجوز نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن قوله : أنا المنذر وبك يا عليّ يهتدي المهتدون، ظاهرة أنهم بك يهتدون دوني، وهذا لا يقوله مسلم ؛ فإن ظاهره أن النذارة والهداية مقسومة بينهما، فهذا نذيرٌ لا يهتدى به، وهذا هادٍ وهذا لا يقوله مسلم.
الرابع : أن الله تعالى قد جعل محمداً هادياً فقال : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم * صِرَاطِ اللَّهِ } (2).فكيف يُجعل الهادي من لم يوصف بذلك دون من وصف به ؟!
__________
(1) الآية 7 من سورة الرعد.
(2) الآيتان 52 ، 53 من سورة الشورى.(174/135)
الخامس : أن قوله : (( بك يهتدي المهتدون )) ظاهرة أن كل من اهتدى من أمة محمد فبه اهتدى، وهذا كذب بيّن ؛ فإنه قد آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - خلق كثير، واهتدوا به، ودخلوا الجنة، ولم يسمعوا من عليّ كلمة واحدة، وأكثر الذين آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واهتدوا به لم يهتدوا بعليّ في شيء. وكذلك لما فتحت الأمصار وآمن واهتدى الناس بمن سكنها من الصحابة وغيرهم، كان جماهير المؤمنين لم يسمعوا من عليّ شيئا، فكيف يجوز أن يُقال:بك يهتدي المهتدون؟!
السادس : أنه قد قيل معناه : إنما أنت نذير ولكل قوم هاد، وهو الله تعالى، وهو قول ضعيف. وكذلك قول من قال : أنت نذير وهادٍ لكل قوم، قول ضعيف. والصحيح أن معناها : إنما أنت نذير، كما أُرسل من قبلك نذيرٌ، ولكل أمة نذير يهديهم أي يدعوهم، كما في قوله : { وَإِنْ مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } (1) . وهذا قول جماعة من المفسرين، مثل قتادة وعكرمة وأبي الضحى وعبد الرحمن بن زيد.
وأما تفسيره بعليّ فإنه باطل، لأنه قال : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } ، وهذا يقتضي أن يكون هادي هؤلاء غير هادى هؤلاء، فيتعدد الهداة، فكيف يُجْعل عليّ هاديا لكل قوم من الأوَّلين والآخرين ؟!
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان الرابع عشر : قوله تعالى : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ } (2) من طريق أبي نُعيم عن الشعبي عن ابن عباس قال في قوله تعالى : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ } عن ولاية عليّ. وكذا في كتاب ((الفردوس)) عن أبي سعيد الخدري رضي لله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإذا سئلوا عن الولاية وجب أن تكون ثابتة له، ولم يثبت لغيره من الصحابة ذلك، فيكون هو الإمام)).
__________
(1) الآية 24 من سورة فاطر.
(2) الآية 24 من سورة الصافات.(174/136)
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة النقل، والعزو إلى (( الفردوس )) وإلى أبي نُعيم لا تقوم به حجة باتفاق أهل العلم.
الثاني : أن هذا كذب موضوع بالاتفاق.
الثالث : أن الله تعالى قال : { اَحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ* مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُون } (1) .
فهذا خطاب عن المشركين المكذِّبين بيوم الدين، وهؤلاء يسألون عن توحيد الله والإيمان برسله واليوم الآخر. وأي مدخل لحب عليٍّ في سؤال هؤلاء ؟ تراهم لو أحبّوه مع هذا الكفر والشرك أكان ذلك ينفعهم ؟ أو تراهم لو أبغضوه أين كان بغضهم له في بغضهم لأنبياء الله ولكتابه ودينه ؟
وما يفسر القرآن بهذا، ويقول : النبي - صلى الله عليه وسلم - فسَّره بمثل هذا، إلا زنديق ملحد، متلاعب بالدين، قادح في دين الإسلام، أو مفرط في الجهل، لا يدري ما يقول. وأي فرق بين حب عليّ وطلحة والزبير وسعد وأبي بكر وعمر وعثمان؟!
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان الخامس عشر : قوله تعالى : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } (2). روى أبو نُعيم بإسناده عن أبي سعيد الخدري، في قوله تعالى : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } قال : ببغضهم عليًّا. ولم يثبت لغيره من الصحابة ذلك، فيكون أفضل منهم، فيكون هو الإمام )).
والجواب : المطالبة بصحة النقل أولا.
والثاني : أن هذا من الكذب على أبي سعيد عند أهل المعرفة بالحديث.
__________
(1) الآيات 22 – 26 من سورة الصافات.
(2) ية 30 من سورة محمد.(174/137)
الثالث : أن يُقال : لو ثبت أنه قال : فمجرد قول أبي سعيد قول واحدٍ من الصحابة، وقول الصاحب إذا خالفه صاحبٌ آخر ليس بحجة باتفاق أهل العلم. وقد عُلم قدح كثير من الصحابة في عليٍّ ، وإنما احتج عليهم بالكتاب والسنّة، لا بقول آخر من الصحابة.
الرابع : أنّا نعلم بالاضطرار أن عامة المنافقين لم يكن ما يُعرفون به من لحن القول هو بغض عليّ، فتفسير القرآن بهذا فرية ظاهرة.
(فصل)
قال الرافضي : البرهان السادس عشر : قوله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } (1) . روى أبو نُعيم عن ابن عباس في هذه الآية : سابق هذه الأمة عليّ بن أبي طالب. روى الفقيه ابن المغازلي الشافعي، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } قال : سبق يوشع بن نون إلى موسى، وسبق موسى إلى هارون، وسبق صاحب يَس إلى عيسى، وسبق عليّ إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. وهذه الفضيلة لم تثبت لغيره من الصحابة، فيكون هو الإمام )).
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة النقل، فإن الكذب كثير فيما يرويه هذا وهذا.
الثاني : أن هذا باطل عن ابن عباس، ولو صح عنه، لم يكن حجة إذا خالفه من هو أقوى منه.
الثالث : أن الله تعالى يقول : { وَالسَّابِقُونَ اْلأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَاْلأَنْصَار وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا اْلأَنْهَارُ } (2) . وقال تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِاْلخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } (3) .
__________
(1) الآيتان 10 ، 11 من سورة الواقعة.
(2) الآية 100 من سورة التوبة.
(3) الآية 32 من سورة فاطر.(174/138)
والسابقون الأوّلون هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، الذين هم أفضل ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل. ودخل فيهم أهل بيعة الرضوان، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فكيف يُقال : إن سابق هذه الأمة واحدٌ ؟!
الرابع : قوله : (( وهذه الفضيلة لم تثبت لغيره من الصحابة )) ممنوع ؛ فإن الناس متنازعون في أول من أسلم، فقيل : أبو بكر أول من أسلم، فهو أسبق إسلاما من عليّ. وقيل : إن عليًّا أسلم قبله. لكن عليّ كان صغيراً،وإسلام الصبي فيه نزاع بين العلماء. ولا نزاع في أن إسلام أبي بكر أكمل وأنفع، فيكون هو أكمل سبقاً بالاتفاق، وأسبق على الإطلاق على القول الآخر. فكيف يُقال : عليٌّ أسبق منه بلا حجة تدل على ذلك.
(فصل)
قال الرافضي : البرهان السابع عشر : قوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ } (1).روى رزين بن معاوية في (( الجمع بين الصحاح الستة )) أنها نزلت في عليّ لما افتخر طلحة بن شيبة والعباس. وهذه لم تثبت لغيره من الصحابة، فيكون أفضل، فيكون هو الإمام )).
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة النقل. ورزين قد ذكر في كتابه أشياء ليست في الصحاح.
__________
(1) الآية 20 من سورة التوبة.(174/139)
الثاني :أن الذي في الصحيح ليس كما ذكره عن رزين، بل الذي في الصحيح ما رواه النعمان بن بشير، قال : كنت عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رجل:لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر:لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمّر المسجد الحرم.وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر وقال:لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يوم الجمعة،ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله تعالى: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) أخرجه مسلم(2).
وهذا الحديث يقتضي أن قول عليّ الذي فضَّل به الجهاد على السدانة والسقاية أصح من قول من فضّل السدانة والسقاية، وأن عليًّا كان أعلم بالحق في هذه المسألة ممن نازعه فيها. وهذا صحيح.
وأما التفضيل بالإيمان والهجرة والجهاد، فهذا ثابت لجميع الصحابة الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا، فليس هاهنا فضيلة اختصّ بها عليّ، حتى يقال: إن هذا لم يثبت لغيره.
(فصل)
__________
(1) الآية 19 من سورة التوبة.
(2) انظر مسلم ج3 ص 1449 والمسند ج4 ص 269.(174/140)
قال الرافضي : (( البرهان الثامن عشر : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } (1) من طريق الحافظ أبي نُعيم إلى ابن عباس، قال : إن الله حرّم كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بتقديم الصدقة، وبخلوا أن يتصدّقوا قبل كلامه، وتصدَّق عليٌ، ولم يفعل ذلك أحد من المسلمين غيره. ومن تفسير الثعلبي قال ابن عمر : كان لعليّ ثلاثة(2) لو كانت لي واحدة منهن كانت أحبّ إليّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى. وروى رزين بن معاوية في (( الجمع بين الصحاح الستة )) عن عليّ : ما عمل بهذه الآية غيري، وبي خفف الله عن هذه الأمة. وهذا يدل على فضيلته عليهم، فيكون هو أحق بالإمامة )).
والجواب أن يُقال : أما الذي ثبت فهو أن عليًّا رضي الله عنه تصدَّق وناجى، ثم نُسخت الآية قبل أن يعمل بها غيره، لكن الآية لم توجب الصدقة عليهم، لكن أمرهم إذا ناجوا أن يتصدّقوا، فمن لم يناج لم يكن عليه أن يتصدقٌّ. وإذا لم تكن المناجاة واجبة، لم يكن أحد ملوماً إذا ترك ما ليس بواجب، ومن كان فيهم عاجزاً عن الصدقة، ولكن لو قَدَرَ لناجى فتصدّق، فله نيته وأجره، ومن لم يعرض له سبب يناجى لأجله لم يُجعل ناقصاً، ولكن من عرض له سبب اقتضى المناجاة فتركه بخلاً، فهذا قد ترك المستحب. ولا يمكن أن يُشهد على الخلفاء أنهم كانوا من هذا الضرب، ولا يُعلم أنهم كانوا ثلاثتهم حاضرين عند نزول هذه الآية، بل يمكن غيبة بعضهم، ويمكن حاجة بعضهم، ويمكن عدم الداعي إلى المناجاة.
ولم يطل زمان عدم نسخ الآية، حتى يُعلم أن الزمان الطويل لا بد يعترض فيه حاجة إلى المناجاة.
وبتقدير أن يكون أحدهم ترك المستحب، فقد بيّنا غير مرة أن من فعل مستحباً لم يجب أن يكون أفضل من غيره مطلقا.
__________
(1) الآية 12 من سورة المجادلة.
(2) هكذا في الأصل والصواب ثلاث.(174/141)
وفي الترمذي مرفوعاً:(( لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمَّهم غيره))(1).
وتجهيز عثمان بألف بعير أعظم من صدقة عليّ بكثير كثير ؛ فإن الإنفاق في الجهاد كان فرضاً، بخلاف الصدقة أمام النجوى فإنه مشترط بمن يريد النجوى، فمن لم يردها لم يكن عليه أن يتصدق.
وقد أنزل الله في بعض الأنصار : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (2).
وبالجملة فباب الإنفاق في سبيل الله وغيره، لكثير من المهاجرين والأنصار، فيه من الفضيلة ما ليس لعليّ، فإنه لم يكن له مالٌ عَلَى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان التاسع عشر : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا } (3) . قال ابن عبد البر، وأخرجه أبو نُعيم أيضا : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة أُسرى به جمع الله بينه وبين الأنبياء ثم قال : سلهم يا محمد عَلاَم بُعثتم ؟ قالوا : بعثنا على شهادة أن لا إله إلا الله وعلى الإقرار بنبوّتك والولاية لعليّ بن أبي طالب. وهذا صريح بثبوت الإمامة. لعليّ )).
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة في هذا وأمثاله بالصحة. وقولنا في هذا الكتاب القبيح وأمثاله : المطالبة بالصحة، ليس بشك منا في أن هذا وأمثاله من أسمج الكذب وأقبحه، لكن على طريق التنزل في المناظرة، وأن هذا لو لم يعلم أنه كذب لم يجز أن يُحتج به حتى يثبت صدقه ؛ فإن الاستدلال بما لا تُعلم صحته لا يجوز بالاتفاق، فإنه قول بلا علم ، وهو حرام بالكتاب والسنّة والإجماع.
الوجه الثاني:أن مثل هذا مما اتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع.
__________
(1) انظر سنن الترمذي ج5 ص 276.
(2) الآية 9 من سورة الحشر.
(3) الآية 45 من سورة الزخرف.(174/142)
الوجه الثالث: أن هذا مما يعلم من له علم ودين أنه من الكذب الباطل الذي لا يُصدَّق به من له عقل ودين، وإنما يختلق مثل هذا أهل الوقاحة والجراءة في الكذب، فإن الرسل صلوات الله عليهم كيف يُسئلون عمَّا لا يدخل في أصل الإيمان ؟.
وقد أجمع المسلمون على أن الرجل لو آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأطاعه، ومات في حياته قبل أن يعلم أن الله خلق أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا لم يضره ذلك شيئا، ولم يمنعه ذلك من دخول الجنة. فإذا كان هذا في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكيف يقال : إن الأنبياء يجب عليهم الإيمان بواحد من الصحابة ؟!
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان العشرون : قوله تعالى : { وَتَعِيهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } . في تفسير الثعلبي، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سألت الله عز وجل أن يجعلها أذنك يا عليّ. ومن طريق أبي نُعيم قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا عليّ أن الله أمرني أن أُدْنِيك وأعلّمك، يا عليّ أن الله أمرني أن أدنيك وأعلمك لتعِيَ، وأُنزلت عَلَيَّ هذه الآية : { وَتَعِيهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } فأنت أذن واعية. وهذه الفضيلة لم تحصل لغيره، فيكون هو الإمام )).
والجواب من وجوه : أحدها : بيان صحة الإسناد. والثعلبي وأبو يُعيم يرويان مالا يُحتج به بالإجماع.
الثاني : أن هذا موضوع باتفاق أهل العلم.
الثالث : أن قوله : { لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُم فِي الْجَارِيَةَ - لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيهَا أُذُنٌ وَاعِيَة } (1) لم يرد به أذن واحدٍ من الناس فقط، فإن هذا خطاب لبني آدم.
__________
(1) الآيتان 11 ، 12 من سورة الحاقة.(174/143)
وحملهم على السفينة من أعظم الآيات.قال تعالى: { وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } (1) ،وقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيكُم مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } (2) ، فكيف يكون ذلك كله ليعى ذلك واحد من الناس ؟
نعم أذن عليّ من الآذان الواعية، كأذن أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم. وحينئذ فلا اختصاص لعليّ بذلك. وهذا مما يُعلم بالاضطرار : أن الأذان الواعية ليست أذن عليّ وحدها. أترى أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليست واعية ؟ ولا أذن الحسن والحسين وعمّار وأبي ذر والمقداد وسلمان الفارسي وسهل بن حنيف وغيرهم ممن يوافقون عَلَى فضيلتهم وإيمانهم ؟
وإذا كانت الآذان الواعية له ولغيره، لم يجز أن يُقال : هذه الأفضلية لم تحصل لغيره.
ولا ريب أن هذا الرافضي الجاهل الظالم يبني أمره على مقدمات باطلة؛ فإنه لا يُعلم في طوائف أهل البدع أوْهَى من حجج الرافضة، بخلاف المعتزلة ونحوهم، فإن لهم حججاً وأدلة قد تشتبه على كثير من أهل العلم والعقل. وأما الرافضة فليس لهم حجة قط تنفق إلا على جاهل أو ظالمٍ صاحب هوى، يقبل ما يوافق هواه، سواء كان حقًّا أو باطلا.
(فصل )
__________
(1) الآيتان 41 ، 42 من سورة يَس.
(2) الآية 31 من سورة لقمان.(174/144)
قال الرافضي : (( البرهان الحادي والعشرون : سورة هل أتى. في تفسير الثعلبي من طرق مختلفة قال : مرض الحسن والحسين، فعاداهما جدهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعامة العرب، فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك. فنذر صوم ثلاثة أيام، وكذا نذرت أمهما فاطمة وجاريتهم فضة، فبرئا، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فاستقرض عليّ ثلاثة آصع من شعير، فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته، وخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد منهم قرصاً، وصلّى عليّ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه، إذ أتاهم مسكين، فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد - صلى الله عليه وسلم -، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة. فسمعه عليّ، فأمر بإعطائه، فأعطوه الطعام، ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح.
فلما كان اليوم الثاني قامت فاطمة فخبزت صاعا، وصلّى عليّ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه، فأتاهم يتيم، فوقف بالباب، وقال : السلام عليكم أهل بيت محمد - صلى الله عليه وسلم -، يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي يوم العقبة، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فسمعه عليّ، فأمر بإعطائه، فأعطوه الطعام، ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا إلا الماء القراح.
فلما كان اليوم الثالث قامت فاطمة إلى الصاع الثالث، فطحنته وخبزته، وصلّى عليّ مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم أتى المنزل فوُضع الطعام بين يديه، إذ أتى أسير فقال : أتأسروننا وتشردوننا ولا تطعموننا، أطعموني فإني أسير محمد أطعمكم الله من موائد الجنة. فسمعه عليّ، فأمر بإعطائه، فأعطوه الطعام، ومكثوا ثلاثة أيام بلياليها لم يذوقوا شيئاً إلا الماء القراح.(174/145)
فلما كان اليوم الرابع، وقد وفّوا نذورهم، أخذ عليّ الحسن بيده اليمنى، والحسين بيده اليسرى، وأقبل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، فلما بَصَرَهما النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا أبا الحسن ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم، انطلق بنا إلى منزل ابنتي فاطمة، فانطلقوا إليها، وهي في حجرتها، قد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع، وغارت عيناها، فلما رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : واغوثاه، بالله أهل بيت محمد يموتون جوعا!
فهبط جبريل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال : يا محمد، خذ ما هنَّأك الله في أهل بيتك. فقال ما آخذ يا جبريل ؟ فأقرأه : { هَلْ أَتَى عَلَى اْلإِنْسَانِ حِينٌ } .
وهي تدل على فضائل جمة لم يسبقه إليها أحد، ولا يلحقه أحد، فيكون أفضل من غيره، فيكون هو الإمام )).
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة النقل، كما تقدم. ومجرد رواية الثعلبي والواحدي وأمثالهما لا تدل على أنه صحيح باتفاق أهل السنّة والشيعة. ولو تنازع اثنان في مسألة من مسائل الأحكام والفضائل،واحتج أحدهما بحديث لم يذكر ما يدل على صحته، إلا رواية الواحد من هؤلاء له في تفسيره،لم يكن ذلك دليلا على صحته، ولا حجة على منازعه باتفاق العلماء.
الثاني : أن هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، الذين هم أئمة هذا الشأن وحكامه. وقول هؤلاء هو المنقول في هذا الباب.
الوجه الثالث : أن الدلائل على كذب هذا كثيرة. منها : أن عليًّا إنما تزوج فاطمة بالمدينة، ولم يدخل بها إلا بعد غزوة بدر، كما ثبت ذلك في الصحيح. والحسن والحسين وُلدا بعد ذلك، سنة ثلاث أو أربع. والناس متفقون على أن عليَّا لم يتزوج فاطمة إلا بالمدينة ولم يولد له ولد إلا بالمدينة. وهذا من العلم العام المتواتر، الذي يعرفه كل من عنده طرف من العلم بمثل هذه الأمور.(174/146)
وسورة (( هل أتى )) مكيّة باتفاق أهل التفسير والنقل، لم ينقل أحد منهم : إنها مدنية. وهي على طريقة السور المكيّة في تقرير أصول الدين المشتركة بين الأنبياء، كالإيمان بالله واليوم الآخر، وذكر الخلق والبعث.
وإذا كانت السورة نزلت بمكة قبل أن يتزوج عليّ بفاطمة، تبين أن نقل أنها نزلت بعد مرض الحسن والحسين من الكذب والمين.
الوجه الرابع : أن سياق هذا الحديث وألفاظه من وضع جهّال الكذابين. فمنه قوله : (( فعادهما جدهما وعامة العرب )) فإن عامة العرب لم يكونوا بالمدينة، والعرب الكفّار ما كانوا يأتونهما يعودونهما.
ومنه قوله : (( فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك )). وعليّ لا يأخذ الدّين من أولئك العرب، بل يأخذه من النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإن كان هذا أمراً بطاعة فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن يأمره من أولئك العرب، وإن لم يكن عليّ يفعل ما يأمرون به. ثم كيف يقبل منهم ذلك من غير مراجعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ؟!
الوجه الخامس : أن في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن النذر، وقال (( إنه لا يأتي بخير، وإنما يُستخرج به من البخيل ))(1) .
فإن كان عليّ وفاطمة وسائر أهلهما لم يعلموا مثل هذا، وعلمه عموم الأمة فهذا قدح في علمهم، فأين المدِّعى للعصمة ؟
وإن كانوا علموا ذلك، وفعلوا ما لا طاعة فيه لله ولرسوله، ولا فائدة لهم فيه، بل قد نُهيا عنه : إما نهي تحريم، وإما نهي تنزيه – كان هذا قدحا إما في دينهم وإما في عقلهم وعلمهم.
الوجه السادس : أن عليًّا وفاطمة لم يكن لهما جارية اسمها فضة، بل ولا لأحدٍ من أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا نعرف أنه بالمدينة جارية اسمها فضة، ولا ذكر ذلك أحد من أهل العلم، الذين ذكروا أحوالهم : دقها وجلها.
__________
(1) انظر البخاري ج8 ص 124 – 125 ومسلم ج3 ص 1260 – 1261.(174/147)
الوجه السابع : أنه قد ثبت في الصحيح عن بعض الأنصار أنه آثر ضيفه بعشائهم،ونوم الصبْيّة،وبات هو وامرأته طاويين.فأنزل الله سبحانه وتعالى: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (1) (2) .
وهذا المدح أعظم من المدح بقوله : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا } (3) ، فإن هذا كقوله : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ } (4) .
الثامن : أن في هذه القصة ما لا ينبغي نسبته إلى عليّ وفاطمة رضي الله عنهما ؛ فإنه خلاف المأمور به المشروع، وهو إبقاء الأطفال ثلاثة أيام جياعاً، ووصالهم ثلاثة أيام. ومثل هذا الجوع قد يفسد العقل والبدن والدين.
وليس هذا مثل قصة الأنصاري ؛ فإن ذلك بيَّتهم ليلة واحدة بلا عشاء، وهذا قد يحتمله الصبيان، بخلاف ثلاثة أيام بلياليها.
التاسع : أن في هذه القصة أن اليتيم قال (( استشهد والدي يوم العقبة )). وهذا من الكذب الظاهر، فإن ليلة العقبة لم يكن فيها قتال، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بايع الأنصار ليلة العقبة قبل الهجرة، وقبل أن يُؤمر بالقتال.
وهذا يدل على أن الحديث، مع أنه كذب، فهو من كذب أجهل الناس بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولو قال : (( استشهد والدي يوم أُحد )) لكان أقرب.
العاشر : أن يُقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكفي أولاد من قُتل معه. ولهذا قال لفاطمة لما سألته خادماً : (( لا أدع يتامى بدر وأعطيكِ )).
(فصل)
__________
(1) الآية 9 من سورة الحشر.
(2) انظر البخاري ج5 ص 34 وج6 ص 148 ومسلم ج3 ص 1624 – 1625.
(3) الآية 8 من سورة الإنسان.
(4) الآية 177 من سورة البقرة.(174/148)
قال الرافضي : (( البرهان الثاني والعشرون : قوله تعالى : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون } (1) من طريق أبي نُعيم عن مجاهد في قوله : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ } محمد صلى الله عليه وآله، { وَصَدَّقَ بِهِ } : قال : عليّ بن ابي طالب. ومن طريق الفقيه الشافعي عن مجاهد : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } ِ قال : جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وصَدَّق به عليّ.وهذه فضيلة اختص بها،فيكون هو الإمام )).
والجواب من وجوه : أحدها : أن هذا ليس منقولا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقول مجاهد وحده ليس بحجة يجب اتباعها على كل مسلم، لو كان هذا النقل صحيحا عنه، فكيف إذا لم يكن ثابتا عنه ؟! فإنه قد عُرف بكثرة الكذب(2) .
والثابت عن مجاهد خلاف هذا، وهو أن الصدق هو القرآن، والذي صدَّق به هو المؤمن الذي عمل به، فجعلها عامة.
الوجه الثاني : أن هذا معارض بما هو أشهر منه عند أهل التفسير، وهو أن الذي جاء بالصدق : محمد، والذي صدَّق به : أبو بكر، فإن هذا يقوله طائفة، وذكره الطبري(3) بإسناده إلى عليّ.
الثالث : ان يُقال : لفظ الآية عام مطلق لا يختص بأبي بكر ولا بعليّ، بل كل من دخل في عمومها دخل في حكمها. ولا ريب أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا أحق هذه الأمة بالدخول فيها، لكنها لا تختص بهم.
(فصل)
__________
(1) الآية 33 من سورة الزمر.
(2) يعني الناقل عن مجاهد.
(3) انظر تفسير الطبري ج 24 ص3.(174/149)
قال الرافضي : البرهان الثالث والعشرون : قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ } (1) من طريق أبي نُعيم عن أبي هريرة قال : مكتوب على العرش لا إله إلا الله وحده لا شريك له، محمد عبدي ورسولي أيدته بعليّ بن أبي طالب، وذلك قوله في كتابه : { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ } ،يعني بعليّ. وهذه من أعظم الفضائل التي لم تحصل لغيره من الصحابة، فيكون هو الإمام )).
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة النقل. وأما مجرد العزو إلى رواية أبي نُعيم فليس حجة بالاتفاق . وأبو نُعيم له كتاب مشهور في (( فضائل الصحابة ))، وقد ذكر قطعة من الفضائل في أول (( الحلية ))، فإن كانوا يحتجّون بما رواه، فقد روى في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان ما ينقض بنيانهم ويهدم أركانهم، وإن كانوا لا يحتجون بما رواه فلا يعتمدون على نقله، ونحن نرجع فيما رواه – هو وغيره – إلى أهل العلم بهذا الفن، والطرق التي بها يُعلم صدق الحديث وكذبه، من النظر في إسناده ورجاله، وهل هم ثقات سمع بعضهم من بعض أم لا ؟ وننظر إلى شواهد الحديث وما يدل عليه على أحد الأمرين، لا فرق عندنا بين ما يُرى في فضائل عليّ أو فضائل غيره، فما ثبت أنه صدق صدَّقناه، وما كان كذبا كذََّبناه.
الوجه الثاني : إن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث. وهذا الحديث – وأمثاله – مما جزمنا أنه كذب موضوع نشهد أنه كذب موضوع، فنحن – والله الذي لا إله إلا هو – نعلم علماً ضرورياً في قلوبنا، لا سبيل لنا إلى دفعه، أن هذا الحديث كذب ما حدَّث به أبو هريرة، وهكذا نظائره مما نقول في مثل ذلك.
__________
(1) الآية 62 من سورة الأنفال.(174/150)
الثالث : أن الله تعالى قال : { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } (1) وهذا نص في أن المؤمنين عدد مؤلف بين قلوبهم، وعليّ واحد منهم ليس له قلوب يؤلف بينها والمؤمنون صيغة جمع، فهذا نص صريح لا يحتمل أنه أراد به واحداً معيَّنا، وكيف يجوز أن يُقال : المراد بهذا عليٌّ وحده؟.
الوجه الرابع : أن يُقال : من المعلوم بالضرورة والتواتر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان قيام دينه بمجرد موافقة عليّ، فإن عليًّا كان من أول من أسلم، فكان الإسلام ضعيفا، فلولا أن الله هدى من هداه إلى الإيمان والهجرة والنصر، لم يحصل بعليّ وحده شيء من التأييد، ولم يكن إيمان الناس ولا هجرتهم ولا نصرتهم على يد عليّ، ولم يكن عليّ منتصبا : لا بمكة ولا بالمدينة للدعوة إلى الإيمان، كما كان أبو بكر منتصبا لذلك، ولم يُنقل أنه أسلم عَلَى يد عليّ أحدٌ من السابقين الأوَّلين، لا من المهاجرين ولا الأنصار، بل لا نعرف أنه أسلم على يد عليٍّ أحدٌ من الصحابة، لكن لمّا بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قد يكون أسلم على يديه من أسلم، إن كان وقع ذلك، وليس أولئك من الصحابة، وإنما أسلم أكابر الصحابة على يد أبي بكر، ولا كان يدعو المشركين ويناظرهم، كما كان أبو بكر يدعوهم ويناظرهم، ولا كان المشركون يخافونه، كما يخافون أبا بكر وعمر.
__________
(1) الآيتان 62 ، 63 من سورة الأنفاق.(174/151)
الوجه الخامس : أنه لم يكن لعلي في الإسلام أثر حسن، إلا ولغيره من الصحابة مثله، ولبعضهم آثار أعظم من آثاره. وهذا معلوم لمن عرف السيرة الصحيحة الثابتة بالنقل. وأما من يأخذ بنقل الكذَّابين وأحاديث الطرقيّة، فباب الكذب مفتوح، وهذا الكذب يتعلق بالكذب على الله، { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جّاءَهُ } (1) .
فكيف يكون تأييد الرسول بواحدٍ من أصحابه دون سائرهم والحال هذه ؟ وأين تأييده بالمؤمنين كلهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين بايعوه تحت الشجرة والتابعين لهم بإحسان ؟.
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان الرابع والعشرون : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّه وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (2) . من طريق أبي نعيم قال : نزلت في عليّ. وهذه فضيلة لم تحصل لأحدٍ من الصحابة غيره. فيكون هو الإمام )).
والجواب من وجوه : أحدها : منع الصحة.
الثاني : أن هذا القول ليس بحجة.
الثالث : أن يُقال : هذا الكلام من أعظم الفرية على الله ورسوله. وذلك أن قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّه وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (3) معناه : أن الله حسبك وحسب من اتّبعك من المؤمنين، فهو وحده كافيك وكافي من معك من المؤمنين. وهذا كما تقول العرب : حسبك وزيداً درهم.
ومنه قول الشاعر :
فحسبك والضاحك سيف مهند أي يكفيك والضاحك
وقد ظن بعض الغالطين أن معنى الآية : أن الله والمؤمنين حسبك، ويكون : { وَمَنِ اتَّبَعَكَ } رفعاً عطفاً على الله، وهذا خطأ قبيح مستلزم للكفر ؛ فإن الله وحده حسب جميع الخلق.
__________
(1) الآية 68 من سورة العنكبوت.
(2) الآية 64 من سورة الأنفال.
(3) الآية 64 من سورة الأنفال.(174/152)
وإذا تبين هذا، فهؤلاء الرافضة رتّبوا جهلا على جهل، فصاروا في ظلمات بعضها فوق بعض، فظنوا أن قوله : { حَسْبُكَ اللَّه وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } معناه: أن الله ومن اتبعك من المؤمنين حسبك، ثم جعلوا المؤمنين الذين اتّبعوه هم عليّ بن أبي طالب.
وجهلهم في هذا أظهر من جهلهم في الأول ؛ فإن الأول قد يشتبه على بعض الناس، وأما هذا فلا يخفى على عاقل، فإن عليًّا لم يكن وحده من الخلق كافياً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يكن معه إلا عليّ لما أقام دينه. وهذا عليٌّ لم يغن عن نفسه ومعه أكثر جيوش الأرض، بل لمّا حاربه معاوية مع أهل الشام، كان معاوية مقاوماً له أو مستظهراً، سواء كان ذلك بقوة قتال، أو قوة مكرِ واحتيال، فالحرب خدعة.
فإذا لم يغن عن نفسه بعد ظهور الإسلام واتباع أكثر أهل الأرض له، فكيف يغني عن الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأهل الأرض كلهم أعداؤه ؟!
وإذا قيل إن عليًّا إنما لم يغلب معاوية ومن معه لأن جيشه لا يطيعونه، بل كانوا مختلفين عليه.
قيل : فإذا كان من معه من المسلمين لم يطيعوه، فكيف يطيعه الكفّار الذين يكفرون بنبيه وبه ؟!
ومن المعلوم قطعاً أن الناس بعد دخولهم في دين الإسلام أتبع للحق منهم قبل دخولهم فيه، فمن كان مشاركا لله في إقامة دين محمد، حتى قهر الكفّار وأسلم الناس، كيف لا يفعل هذا في قهر طائفة بغوا عليهم، هم أقل من الكفار الموجودين عند بعثة الرسول، وأقل منهم شوكة، وأقرب إلى الحق منهم؟!
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان الخامس والعشرون : قوله تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } (1) قال الثعلبي : إنما نزلت في عليّ، وهذا يدل عَلَى أنه أفضل، فيكون هو الإمام )).
__________
(1) الآية 54 من سورة المائدة.(174/153)
والجواب من وجوه : أحدها : أن هذا كذب على الثعلبي، فإنه قال في تفسيره في هذه الآية : (( قال عليّ وقتادة والحسن : إنهم أبو بكر وأصحابه. وقال مجاهد : هم أهل اليمن )). وذكر حديث عياض بن غنم : إنهم أهل اليمن، وذكر الحديث : (( أتاكم أهل اليمن ))(1) . فقد نقل الثعلبي أن عليًّا فسَّر هذه الآية بأنهم أبو بكر وأصحابه.
الثاني : أن هذا قول بلا حجة، فلا يجب قبوله.
الثالث : أن هذا معارَض بما هو أشهر منه وأظهر، وهو أنها نزلت في أبي بكر وأصحابه، الذين قاتلوا معه أهل الردة. وهذا هو المعروف عند الناس كما تقدم. لكن هؤلاء الكذّابون أرادوا أن يجعلوا الفضائل التي جاءت في أبي بكر يجعلونها لعليّ، وهذا من المكر السيء الذي لا يحيق إلا بأهله.
الرابع : أن يقال : إن الذي تواتر عند الناس أنه قاتل أهل الردّة هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه،الذي قاتل مسيلمة الكذاب المدّعي للنبوة وأتباعه بني حنيفة وأهل اليمامة. وقد قيل : كانوا نحو مائة ألف أو أكثر، وقاتل طليحة الأسدي، وكان قد ادّعى النبوة بنجد، واتّبعه من أسد وتميم وغطفان ما شاء الله، وادّعت النبوة سجاح، امرأة تزوّجها مسيلمة الكذّاب، فتزوج الكذّاب بالكذّابة.
والمقاتلون للمرتدّين هم من الذين يحبهم الله ويحبونه، وهم أحق الناس بالدخول في هذه الآية، وكذلك الذين قاتلوا سائر الكفّار من الروم والفرس. وهؤلاء أبو بكر وعمر ومن اتبعهما من أهل اليمن وغيرهم. ولهذا رُوى أن هذه الآية لمّا نزلت سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هؤلاء، فأشار إلى أبي موسى الأشعري، وقال : (( هم قوم هذا ))(2).
__________
(1) انظر البخاري كتاب المغازي باب قدوم الأشعريين.
(2) انظر تفسير الطبري ج10 ص 414 – 415 تحقيق محمود شاكر.(174/154)
فهذا أمر يعرف بالتواتر والضرورة : أن الذين أقاموا الإسلام وثبتوا عليه حين الردة، وقاتلوا المرتدين والكفّار، هم داخلون في قوله : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ } (1) وأما عليّ رضي الله عنه فلا ريب أنه ممن يحب الله ويحبه الله، لكن ليس بأحق بهذه الصفة من أبي بكر وعمر وعثمان، ولا كان جهاده للكفّار والمرتدّين أعظم من جهاده هؤلاء، ولا حصل به من المصلحة للدين أعظم مما حصل بهؤلاء، بل كل منهم له سعي مشكور وعمل مبرور وآثار صالحة في الإسلام، والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خير جزاء، فهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون، الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون.
وأما أن يأتي إلى أئمة الجماعة الذين كان نفعهم في الدين والدنيا أعظم، فيجعلهم كفَّاراً أو فسَّاقا ظلمة، ويأتي إلى من لم يجر على يديه من الخير مثل ما جرى على يد واحد منهم، فيجعله الله أو شريكا لله، أو شريك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو الإمام المعصوم الذي لا يؤمن إلا من جعله معصوماً منصوصا عليه، ومن خرج عن هذا فهو كافر، ويجعل الكفّار المرتدّين الذي قاتلهم أولئك كانوا مسلمين، ويجعل المسلمين الذين يصلّون الصلوات الخمس، ويصومون شهر رمضان ، ويحجّون البيت، ويؤمنون بالقرآن يجعلهم كفّاراً لأجل قتال هؤلاء.
فهذا عمل أهل الجهل والكذب والظلم والإلحاد في دين الإسلام، عمل من لا عقل له ولا دين ولا إيمان.
__________
(1) الآية 54 من سورة المائدة.(174/155)
الوجه الخامس : أن يقال : هب أن الآية نزلت في عليّ،أيقول القائل : إنها مختصة به، ولفظها يصرح بأنهم جماعة ؟ قال تعالى : { مَن يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } (1) إلى قوله: { لَوْمَةَ لاَئِمٍ } . أفليس هذا صريحا في أن هؤلاء ليسوا رجلاً، فإن الرجل لا يسمّى قوما في لغة العرب : لا حقيقة ولا مجازا.
ولو قال : المراد هو وشيعته.
لقيل : إذا كانت الآية أَدْخَلت مع عليّ غيره، فلا ريب أن الذين قاتلوا الكفّار والمرتدين أحق بالدخول فيها ممن لم يقاتل إلا أهل القبلة، فلا ريب أن أهل اليمن، الذين قاتلوا مع أبي بكر وعمر وعثمان، أحق بالدخول فيها من الرافضة، الذين يوالون اليهود والنصارى والمشركين، ويعادون السابقين الأوَّلين.
الوجه السادس : قوله : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } لفظ مطلق، ليس فيه تعيين. وهو متناول لمن قام بهذه الصفات كائناً ما كان، لا يختص ذلك بأبي بكر ولا بعليّ. وإذا لم يكن مختصاً بأحدهما، لم يكن هذا من خصائصه، فبطل أن يكون بذلك أفضل ممن يشاركه فيه، فضلا عن أن يستوجب بذلك الإمامة.
بل هذه الآية تدلّ على أنه لا يرتدُّ أحد عن الدين إلى يوم القيامة إلا أقام الله قوما يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون هؤلاء المرتدّين.
(فصل)
__________
(1) الآية 54 من سورة المائدة.(174/156)
قال الرافضي : (( البرهان السادس والعشرون : قوله تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } (1).روى أحمد بن حنبل بإسناده عن ابن أبي ليلى عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( الصدِّيقون ثلاثة : حبيب بن موسى النجار مؤمن آل ياسين، الذي قال: يا قوم اتّبعوا المرسلين. وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله. وعليّ بن أبي طالب الثالث، وهو أفضلهم. ونحوه رواه المغازلي الفقيه الشافعي وصاحب كتاب (( الفردوس)). وهذه فضيلة تدل على إمامته )).
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة الحديث، وهذا ليس في مسند أحمد. ومجرد روايته له في الفضائل، لو كان رواه، لا يدل على صحته عنده باتفاق أهل العلم، فإنه يروي ما رواه الناس، وإن لم تثبت صحته. وكل من عرف العلم يعلم أنه ليس كل حديث رواه أحمد في الفضائل ونحوه يقول : إنه صحيح، بل ولا كل حديث رواه في مسنده يقول : إنه صحيح، بل أحاديث مسنده هي التي رواها الناس عمَّن هو معروف عند الناس بالنقل ولم يظهر كذبه، وقد يكون في بعضها علّة تدل على أنه ضعيف، بل باطل. لكن غالبها وجمهورها أحاديث جيدة يحتجّ بها، وهي أجود من أحاديث سنن أبي داود. وأما ما رواه في الفضائل فليس من هذا الباب عنده.
فكيف وهذا الحديث لم يروه أحمد : لا في المسند ولا في كتاب (( الفضائل )) وإنما هو من زيادات القطيعي.
الثاني : أن هذا الحديث موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الثالث : أن في الصحيح من غير وجه تسمية غير عليّ صدّيقاً، كتسمية أبي بكر الصدّيق، فكيف يُقال: الصدّيقون ثلاثة ؟
__________
(1) الآية 19 من سورة الحديد.(174/157)
وفي الصحيحين عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد أُحُداً ، وتبعه أبو بكر وعمر وعثمان، فَرَجَف بهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( اثبت أُحُد فما عليك إلا نبيّ أو صدّيق وشهيدان ))(1).
الوجه الرابع : أن الله تعالى قد سمَّى مريم صدِّيقة، فكيف يُقال :الصديقون ثلاثة ؟!
الوجه الخامس :أن قول القائل : الصديقون ثلاثة، إن أَرَاد به أنه لا صدّيق إلا هؤلاء، فإنه كذب مخالف للكتاب والسنّة وإجماع المسلمين. وإن أراد أن الكامل في الصدِّيقة هم الثلاثة، فهو أيضا خطأ، لأن أمتنا خير أمة أخرجت للناس، فكيف يكون المصدِّق بموسى ورسل عيسى أفضل من المصدِّقين بمحمد ؟!
الوجه السادس : أن الله تعالى قال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } (2). وهذا يقتضي أن كل مؤمن آمن بالله ورسله فهو صدّيق.
السابع : أن يُقال : إن كان الصدّيق هو الذي يستحق الإمامة، فأحق الناس بكونه صدِّيقا أبو بكر ؛ فإنه الذي ثبت له هذا الاسم بالدلائل الكثيرة، وبالتواتر الضروري عند الخاص والعام، حتى أن أعداء الإسلام يعرفون ذلك، فيكون هو المستحق للإمامة. وإن لم يكن كونه صدِّيقا يستلزم الإمامة بطلت الحجة.
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان السابع والعشرون : قوله تعالى : { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً } (3). من طريق أبي نُعيم بإسناده إلى ابن عباس نزلت في عليّ، كان معه أربعة دراهم، فأنفق درهما بالليل، ودرهما بالنهار، ودرهما سراًّ، ودرهما علانية، وروى الثعلبي ذلك. ولم يحصل لغيره، فيكون أفضل، فيكون هو الإمام )).
__________
(1) انظر البخاري كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لو كنت متخذاً خليلاً )) الخ. وانظر مسلم ج4 ص 1855.
(2) الآية 19 من سورة الحديد.
(3) الآية 274 من سورة البقرة.(174/158)
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة النقل. ورواية أبي نُعيم والثعلبي لا تدل على الصحة.
الثاني :أن هذا كذب ليس بثابت.
الثالث : أن الآية عامة في كل ما ينفق بالليل والنهار سراًّ وعلانية، فمن عمل بها دخل فيها، سواء كان عليًّا أو غيره، ويمتنع أن لا يُراد بها إلا واحدٌ معيّن.
الرابع : أن ما ذُكر من الحديث يناقض مدلول الآية ؛ فإن الآية تدل على الإنفاق في الزمانين اللذين لا يخلو الوقت عنهما، وفي الحالين اللذين لا يخلو الفعل منهما. فالفعل لا بد له من زمان، والزمان إما ليل وإما نهار. والفعل إما سرًّا وإما علانية. فالرجل إذا أنفق بالليل سرًّا، كان قد أنفق ليلا سرًّا. وإذا أنفق علانية نهاراً، كان قد أنفق علانية نهاراً.
الخامس : أنّا لو قدرنا أن عليًّا فعل ذلك، ونزلت فيه الآية، فهل هنا إلا إنفاق أربعة دراهم في أحوال ؟! وهذا عمل مفتوح بابه ميسر إلى يوم القيامة. والعاملون بهذا وأضعافه أكثر من أن يُحصوا، وما من أحدٍ فيه خير إلا ولا بد أن ينفق إن شاء الله، تارة بالليل وتارة بالنهار، وتارة في السر وتارة في العلانية. فليس هذا من الخصائص، فلا يدل على فضيلة الإمام.
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان الثامن والعشرون : ما رواه أحمد بن حنبل عن ابن عباس قال : ليس من آية في القرآن : { يا أيها الذين آمنوا } إلا وعليّ رأسها وأميرها، وشريفها وسيدها، ولقد عاتب الله تعالى أصحاب محمد في القرآن، وما ذكر عليًّا إلا بخير. وهذا يدل على أنه أفضل فيكون هو الإمام)).
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة النقل. وليس هذا في مسند أحمد، ولا مجرد روايته له – ولو رواه – في (( الفضائل )) يدل على أنه صدق، فكيف ولم يروه أحمد : لا في المسند، ولا في (( الفضائل )) وإنما هو من زيادات القطيعي(1).
__________
(1) انظر فضائل الصحابة ج2 ص 654.(174/159)
الثاني : أن هذا كذب على ابن عباس،والمتواتر عنه أنه كان يفضّل عليه أبا بكر وعمر، وله معايبات يعيب بها عليًّا، ويأخذ عليه في أشياء من أموره، حتى أنه لما حرق الزنادقة الذين ادّعوا فيه الإلهية قال : لو كنت أنا لم أحرقهم، لنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعذَّب بعذاب الله، ولضربت أعناقهم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( من بدَّل دينه فاقتلوه )). رواه البخاري(1) وغيره. ولما بلغ عليًّا ذلك قال : ويح أم ابن عباس.
الثالث : أن هذا الكلام ليس فيه مدح لعليّ ؛ فإن الله كثيرا ما يخاطب الناس بمثل هذا في مقام عتاب، كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ } (2) ، فإن كان عليّ رأس هذه الآية، فقد وقع منه هذا الفعل الذي أنكره الله وذمه.
الرابع : هو ممن شمله لفظ الخطاب، وإن لم يكن هو سبب الخطاب فلا ريب أن اللفظ شمله كما يشمل غيره. وليس في لفظ الآية تفريق بين مؤمن ومؤمن.
الخامس : أن قول القائل عن بعض الصحابة : أنه رأس الآيات وأميرها وشريفها وسيدها، كلام لا حقيقة له. فإن أُريد أنه أول من خوطب بها، فليس كذلك ؛ فإن الخطاب يتناول المخاطبين تناولاً واحداً، لا يتقدم بعضهم بما تناوله عن بعض.
وغاية ما عندكم أن تذكروا أن ابن عباس كان يفضّل عليًّا، وهذا مع أنه كذب على ابن عباس، وخلاف المعلوم عنه، فلو قُدِّر أنه قال ذلك – مع مخالفة جمهور الصحابة – لم يكن حجّة.
__________
(1) انظر البخاري ج9 ص 15.
(2) الآيتان 3،2 من سورة الصف.(174/160)
السادس : أن قول القائل : لقد عاتب الله أصحاب محمد في القرآن وما ذكر عليًّا إلا بخير كذب معلوم، فإنه لا يُعرف أن الله عاتب أبو بكر في القرآن، بل ولا أنه ساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل رُوى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في خطبته (( أيها الناس اعرفوا لأبي بكر حقَّه، فإنه لم يسؤني يوما قط )).
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان التاسع والعشرون : قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } (1) . من صحيح البخاري عن كعب بن عجرة قال : سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا : يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت، فإن الله علمنا كيف نسلّم ؟. قال : (( قولوا : اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد ))(2) . وفي صحيح مسلم :قلنا: يا رسول الله ، أما السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ فقال : (( قولوا اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد،كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ))(3) . ولا شك أن عليًّا أفضل آل محمد، فيكون أولى بالإمامة )).
__________
(1) الآية 56 من سورة الأحزاب.
(2) انظر البخاري ج4 ص 146 – 147 ومواضع أُخر ومسلم ج1 ص 305 – 306.
(3) انظر البخاري ج 164 ومسلم ج1 ص 306.(174/161)
والجواب : أنه لا ريب أن هذا الحديث صحيح متفق عليه، وأن عليًّا من آل محمد الداخلين في قوله : (( اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد ))، ولكن ليس هذا من خصائصه؛ فإن جميع بني هاشم داخلون في هذا، كالعباس وولده، والحارث بن عبد المطلب وولده، وكبنات النبي - صلى الله عليه وسلم - زوجتى عثمان : رقية وأم كلثوم، وبنته فاطمة. وكذلك أزواجه، كما في الصحيحين عنه قوله (( اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى أزواجه وذريته ))(1) بل يدخل فيه سائر أهل بيته إلى يوم القيامة، ويدخل فيه إخوة عليّ كجعفر وعقيل.
ومعلوم أن دخول كل هؤلاء في الصلاة والتسليم لا يدل على أنه أفضل من كل من لم يدخل في ذلك، ولا أنه يصلح بذلك للإمامة، فضلا عن أن يكون مختصًّا بها.
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان الثلاثون : قوله تعالى : { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ } (2) . من تفسير الثعلبي وطريق أبي نُعيم عن ابن عبّاس في قوله : { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } قال : عليّ وفاطمة { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ } النبي صلى الله عليه وآله: { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } (3) : الحسن والحسين، ولم يحصل لغيره من الصحابة هذه الفضيلة، فيكون أولى بالإمامة )).
والجواب : أن هذا وأمثاله إنما يقوله من لا يعقل ما يقول. وهذا بالهذيان أشبه منه بتفسير القرآن، وهو من جنس تفسير الملاحدة الباطنية للقرآن، بل هو شر من كثير منه. والتفسير بمثل هذا طريق للملاحدة على القرآن والطعن فيه، بل تفسير القرآن بمثل هذا من أعظم القدح فيه والطعن فيه.
__________
(1) انظر البخاري ج4 ص 146 ومسلم ج1 ص 306.
(2) الآيتان 19 ، 20 من سورة الرحمن.
(3) الآية 22 من سورة الرحمن.(174/162)
وهو من إلحادات الرافضة كقولهم : { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } (1) ، على، وكقولهم : { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } (2) : إنه عليّ بن أبي طالب، { وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرَآنِ } (3) : بنو أمية، وأمثال هذا الكلام الذي لا يقوله من يرجو لله وقارا، ولا يقوله من يؤمن بالله وكتابه.
ومما يبيّن كذب ذلك من وجوه : أحدها : أن هذا في سورة الرحمن،وهي مكية بإجماع المسلمين، والحسن إنما ولدا بالمدينة.
الثاني : أن تسمية هذين بحرين، وهذا لؤلؤا، وهذا مرجانا، وجعل النكاح مرجاً- أمر لا تحتمله لغة العرب بوجه، لا حقيقة ولا مجازا، بل كما أنه كذب على الله وعلى القرآن، فهو كذب على اللغة.
الثالث : أنه ليس في هذا شيء زائد على ما يوجد في سائر بني آدم، فإن كل من تزوج امرأة ووُلد لهما ولدان من هذا الجنس.
الرابع : أن الله ذكر أنه مرج البحرين في آية أخرى، فقال في الفرقان: { وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلحٌ أُجَاجٌ } (4) فلو أريد بذلك عليّ وفاطمة لكان ذلك ذما لأحدهما، وهذا باطل بإجماع أهل السنة والشيعة.
الخامس : أنه قال : { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ } فلو أريد بذلك عليّ وفاطمة لكان البرزخ هو النبي - صلى الله عليه وسلم - - بزعمهم – أو غيره هو المانع لأحدهما أن يبغي على الآخر، وهذا بالذم أشبه منه بالمدح.
السادس : أن أئمة التفسير متفقون على خلاف هذا الذي ذكره، كما ذكره ابن جرير وغيره.
( فصل)
__________
(1) الآية 12 من سورة يس.
(2) الآية 4 من سورة الزخرف.
(3) الآية 60 من سورة الإسراء.
(4) الآية 53 من سورة الفرقان.(174/163)
قال الرافضي : (( البرهان الحادي والثلاثون : قوله تعالى : { وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } (1). من طريق أبي نُعيم عن ابن الحنفية قال : هو عليّ بن أبي طالب. وفي تفسير الثعلبي عن عبد الله بن سلام قال : قلت : من هذا الذي عنده علم الكتاب ؟ قال : ذلك عليّ بن أبي طالب. وهذا يدل على أنه أفضل، فيكون هو الإمام )).
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة النقل عن ابن سلام وابن الحنفية.
الثاني : أنه بتقدير ثبوته ليس بحجة مع مخالفة الجمهور لهما.
الثالث : أن هذا كذب عليهما.
الرابع : أن هذا باطل قطعا. وذلك أن الله تعالى قال : { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } (2)، ولو أُريد به عليّ لكان المراد أن محمداً يستشهد على ما قاله بابن عمه عليّ.ومعلوم أن عليًّا لو شهد له بالنبوة وبكل ما قال، لم ينتفع محمد بشهادته له، ولا يكون ذلك حجة له على الناس، ولا يحصل بذلك دليل المستدل، ولا ينقاد بذلك أحد، لأنهم يقولون : من أين لعليّ ذلك ؟ وإنما هو استفاد ذلك من محمد، فيكون محمد هو الشاهد لنفسه.
ومنها أن يُقال : إن هذا ابن عمه ومن أول من آمن به، فيُظن به المحاباة والمداهنة.
فهذا الجاهل الذي جعل هذا فضيلة لعليّ قَدَحَ بها فيه وفي النبيّ الذي صار به عليّ من المؤمنين، وفي الأدلة الدالة على الإسلام. ولا يقول هذا إلا زنديق أو جاهل مفرط في الجهل.
وإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
الخامس : أن الله سبحانه وتعالى قد ذكر الاستشهاد بأهل الكتاب في غير آية، كقوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ } (3) أفترى عليًّا هو من بني إسرائيل ؟!
(فصل)
__________
(1) الآية 43 من سورة الرعد.
(2) الآية 43 من سورة الرعد.
(3) الآية 10 من سورة الأحقاف.(174/164)
قال الرافضي : (( البرهان الثاني والثلاثون : قوله تعالى : { يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ } (1). روى أبو نُعيم مرفوعا إلى ابن عباس قال : أول من يُكسى من حلل الجنة : إبراهيم عليه السلام بخلته من الله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ } قال : عليّ وأصحابه. وهذا يدل على أنه أفضل من غيره، فيكون هو الإمام )).
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة النقل، لا سيما في مثل هذا الذي لا أصل له.
الثاني : أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
الثالث : أن هذا باطل قطعا، لأن هذا يقضي أن يكون عليّ أفضل من إبراهيم ومحمد، لأنه وسط وهما طرفان. وأفضل الخلق إبراهيم ومحمد، فمن فَضَّل عليهما عليًّا كان أكفر من اليهود والنصارى.
الرابع : أنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ))(2) وليس فيه ذكر محمد ولا عليّ. وتقديم إبراهيم بالكسوة لا يقتضي أنه أفضل من محمد مطلقا.
__________
(1) الآية 8 من سورة التحريم.
(2) انظر البخاري ج4 ص 139 ، 168 ومواضع أُخر ، ومسلم ج4 ص 2194 – 2195.(174/165)
الخامس : أن قوله تعالى : { يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (1) وقوله : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا اْلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (2) . نصٌّ عامٌ في المؤمنين الذين مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسياق الكلام يدل على عمومه.
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان الثالث والثلاثون : قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةَ } (3) . روى الحافظ أبو نُعيم بإسناده إلى ابن عباس لما نزلت هذه الآية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعليّ : تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين، ويأتي خصماؤك غضابا مفحمين، وإذا كان خير البريّة، وجب أن يكون هو الإمام )).
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة النقل، وإن كنّا غير مرتابين في كذب ذلك، لكن مطالبة المدعي بصحة النقل لا يأباه إلا معاند. ومجرد رواية أبي نُعيم ليست بحجة باتفاق طوائف المسلمين.
الثاني : أن هذا مما هو كذب موضوع باتفاق العلماء وأهل المعرفة بالمنقولات.
__________
(1) الآية 8 من سورة التحريم.
(2) الآية 12 من سورة الحديد.
(3) الآية 7 من سورة البينة.(174/166)
الثالث : أن يُقال : هذا معارض بمن يقول : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم النواصب، كالخوارج وغيرهم. ويقولون : إن من تولاّه فهو كافر مرتد، فلا يدخل في الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويحتجّون على ذلك بقوله : { وَمَنْ لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } (1) .قالوا : ومن حكَّم الرجال في دين الله فقد حكم بغير ما أنزل الله فيكون كافراً، ومن تولّى الكافر فهو كافر، لقوله : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } (2) وقالوا : إنه هو وعثمان ومن تولاهما مرتدون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، فأقول ؛ أي رب أصحابي أصحابي. فيُقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم))(3) .
قالوا : وهؤلاء هم الذين حكموا في دماء المسلمين وأموالهم بغير ما أنزل الله.
واحتجوا بقوله:((لا ترجعوا بعدي كفَّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))(4) . قالوا : فهذا وأمثاله من حجج الخوارج، وهو وإن كان باطلا بلا ريب فحجج الرافضة أبطل منه، والخوارج أعقل وأصدق وأتبع للحق من الرافضة ؛ فإنهم صادقون لا يكذبون، أهل دين ظاهراً وباطناً، لكنهم ضالون جاهلون مارقون، مرقوا من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة، وأما الرافضة فالجهل والهوى والكذب غالب عليهم، وكثير من أئمتهم وعامتهم زنادقة ملاحدة، ليس لهم غرض في العلم ولا في الدين، بل { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى اْلأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهمُ الْهُدَى } (5) .
__________
(1) الآية 44 من سورة المائدة.
(2) الآية 51 من سورة المائدة.
(3) انظر مسلم ج1 ص 218.
(4) انظر البخاري ج1 ص 31 ومسلم ج1 ص 81 – 82.
(5) الآية 23 من سورة النجم.(174/167)
الوجه الرابع : أن يُقال : قوله: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتَ } (1) عام في كل من اتصف بذلك، فما الذي أوجب تخصيصه بالشيعة.
فإن قيل : لأن من سواهم كافر.
قيل : إن ثبت كفر من سواهم بدليل، كان ذلك مغنيا لكم عن هذا التطويل، وإن لم يثبت لم ينفعكم هذا الدليل، فإنه من جهة النقل لا يثبت، فإن أمكن إثباته بدليل منفصل، فذاك هو الذي يعتمد عليه لا هذه الآية.
الوجه الخامس : أن يُقال : من المعلوم المتواتر أن ابن عباس كان يوالي غير شيعة عليّ أكثر مما يوالي كثيرا من الشيعة، حتى الخوارج كان يجالسهم ويفتيهم ويناظرهم. فلو اعتقد أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الشيعة فقط، وأن من سواهم كفّار، لم يعمل مثل هذا.
الوجه السادس : أنه قال قبل ذلك { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ } (2) . ثم قال : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةَ } (3)
وهذا يبين أن هؤلاء من سوى المشركين وأهل الكتاب. وفي القرآن مواضع كثيرة ذكر فيها الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وكلها عامة. فما الموجب لتخصيص هذه الآية دون نظائرها ؟.
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان الرابع والثلاثون : قوله تعالى : { وَهوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا } (4). في تفسير الثعلبي عن ابن سيرين قال : نزلت في النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليّ بن أبي طالب : زوَّج فاطمة عليًّا، وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسبا وصهرا، ولم يثبت لغيره ذلك، فكان أفضل، فيكون هو الإمام )).
والجواب من وجوه : أولا: المطالبة بصحة النقل.
__________
(1) الآية 7 من سورة البينة.
(2) الآية 6 من سورة البينة.
(3) الآية 7 من سورة البينة.
(4) الآية 54 من سورة الفرقان.(174/168)
وثانيا : أن هذا كذب على ابن سيرين بلا شك.
وثالثا : أن مجرد قول ابن سيرين الذي خالفه فيه الناس ليس بحجة.
الرابع : أن يُقال : هذه الآية في سورة الفرقان، وهي مكية. وهذا من الآيات المكية باتفاق الناس قبل ان يتزوج عليّ بفاطمة، فكيف يكون ذلك قد أُريد به عليّ وفاطمة ؟!
الخامس : أن الآية مطلقة في كل نسب وصهر، لا اختصاص لها بشخص دون شخص.
السادس : أنه لو فرض أنه أُريد بذلك مصاهرة عليّ، فمجرد المصاهرة لا تدل على أنه أفضل من غيره باتفاق أهل السنة والشيعة، فإن المصاهرة ثابتة لكل من الأربعة، مع أن بعضهم أفضل من بعض، فلو كان المصاهرة توجب الأفضلية للزم التناقض.
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان الخامس والثلاثون : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوْا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } (1) أوجب الله علينا الكون مع المعلوم منهم الصدق، وليس إلا المعصوم لتجويز الكذب في غيره، فيكون هو عليًّا، إذ لا معصوم من الأربعة سواه. وفي حديث أبي نُعيم عن ابن عباس أنها نزلت في عليّ )).
والجواب من وجوه : أحدها : أن الصدِّيق مبالغة في الصادق، فكل صدِّيق صادق وليس كل صادق صدّيقا. وأبو بكر رضي الله عنه قد ثبت أنه صدِّيق بالأدلة الكثيرة، فيجب أن تتناوله الآية قطعا وأن تكون معه، بل تناولها له أَوْلى من تناولها لغيره من الصحابة. وإذا كنّا معه مقرّين بخلافته، امتنع بأن نقرَّ بأنَّ عليًّا كان هو الإمام دونه، فالآية تدل على نقيض مطلوبهم.
الثاني : أن يُقال : هذه الآية نزلت في قصة كعب بن مالك لمّا تخلف عن غزوة تبوك، وصَدَقَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في أنه لم يكن له عذر، وتاب الله عليه ببركة الصدق.
__________
(1) الآية 119 من سورة التوبة.(174/169)
الثالث : أن هذه الآية نزلت في هذه القصة، ولم يكن أحد يُقال إنه معصوم، لا علي ّ ولا غيره. فعُلم أن الله أراد { مَعَ الصَّادِقِينَ } ولم يشترط كونه معصوما.
الرابع : أنه قال : { مَعَ الصَّادِقِينَ } وهذه صيغة جمع، وعليٌّ واحد، فلا يكون هو المراد وحده.
الخامس : أن قوله تعالى : { مَعَ الصَّادِقِينَ } إما أن يُراد : كونوا معهم في الصدق وتوابعه، فاصدقوا كما يصدق الصادقون، ولا تكونوا مع الكاذبين. كما في قوله : { وَارْكَعُوْا مَعَ الرَّاكِعِينَ } (1) .
وإما أن يراد به : كونوا مع الصادقين في كل شيء، وإن لم يتعلق بالصدق.
والثاني باطل ؛ فإن الإنسان لا يجب عليه أن يكون مع الصادقين في المباحات، كالأكل والشرب واللباس ونحو ذلك. فإن كان الأول هو الصحيح، فليس في هذا أمر بالكون مع شخص معيّن، بل المقصود : اصدقوا ولا تكذبوا.
الوجه السادس : أن يُقال : إذا أُريد : كونوا مع الصادقين مطلقا، فذلك لأن الصدق مستلزم لسائر البرّ، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر )) الحديث. وحينئذ فهذا وصف ثابت لكل من اتصف به.
الوجه السابع : هب أن المراد : مع المعلوم فيهم الصدق، لكن العلم كالعلم في قوله : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } (2) ، والإيمان أخفى من الصدق. فإذا كان العلم المشروط هناك يمتنع أن يُقال فيه ليس : إلا العلم بالمعصوم، كذلك هنا يمتنع أن يُقال : لا يُعلم إلا صدق المعصوم.
الوجه الثامن : أنه لو قُدِّر أن المراد به : المعصوم لا نسلّم الإجماع على انتفاء العصمة من غير عليّ، كما تقدّم بيان ذلك ؛ فإن كثيرا من الناس الذين هم خير من الرافضة يدَّعون في شيوخهم هذا المعنى، وإن غيَّروا عبارته. وأيضا فنحن لا نسلم انتفاء عصمتهم مع ثبوت عصمته ، بل إما انتفاء الجميع وإما ثبوت الجميع.
__________
(1) الآية 43 من سورة البقرة.
(2) الآية 10 من سورة الممتحنة.(174/170)
( فصل)
قال الرافضي: ((البرهان السادس والثلاثون : قوله تعالى : { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } (1) من طريق أبي نُعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنها نزلت في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليّ خاصة، وهما أول من صلّى وركع. وهذا يدل على فضيلته فيدل على إمامته )).
الجواب من وجوه : أحدها :أنّا لا نسلم صحة هذا، ولم يذكر دليلا على صحته.
الثاني:أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث.
الثالث:أن لو كان المراد الركوع معها لانقطع حكمها بموتهما، فلا يكون أحدٌ مأموراً أن يركع مع الراكعين.
الرابع:أنه لو كان أمراً بالركوع معه، لم يدل ذلك على أن من ركع معه يكون هو الإمام، فإن عليًّا لم يكن إماما مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يركع معه.
(فصل)
قال الرافضي : البرهان السابع والثلاثون : قوله تعالى : { وَاجْعَلْ لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي } (2) من طريق أبي نُعيم عن ابن عباس قال : أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد عليّ وبيدي ونحن بمكة، وصلَّى أربع ركعات، ورفع يده إلى السماء، فقال : اللهم موسى بن عمران سألك، وأنا محمد نبيك أسألك أن تشرح لي صدري، وتحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي،واجعل لي وزيراً من أهلي، عليّ بن أبي طالب أخي، أُشدد به أزري وأشركه في أمري، قال ابن عباس سمعت مناديا ينادي : يا أحمد قد أوتيت ما سألت. وهذا نص في الباب )).
والجواب :المطالبة بالصحة كما تقدّم أولا:
الثاني :أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل العلم والحديث، بل هم يعلمون أن هذا من أسمج الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) الآية 43 من سورة البقرة.
(2) الآية 29 من سورة طه.(174/171)
الثالث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان بمكة في أكثر الأوقات لم يكن ابن عباس قد وُلد، و ابن عباس ولد وبنو هاشم في الشعب محصورون، ولما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ابن عباس بلغ سن التمييز، ولا كان ممن يتوضأ ويصلّي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات وهو لم يحتلم بعد.
الرابع :أنّا قد بيّنا فيما تقدم وجوها متعددة في بطلان مثل هذا، فإن هذا الكلام كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرة، ولكن هنا قد زادوا فيه زيادات كثيرة لم يذكروها هناك، وهي قوله : وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، فصرّحوا هنا بأن عليًّا كان شريكه في أمره، كما كان هارون شريك موسى، وهذا قول من يقول بنبّوته، وهذا كفر صريح، وليس هو قول الإمامية، وإنما هو قول الغالية.
وليس الشريك في الأمر هو الخليفة من بعده، فإنهم يدّعون إمامته بعده، ومشاركته له في أمره في حياته.
وهذا الرافضي الكذّاب يقول : (( وهذا نصٌّ في الباب )).
فيقال له : يا دُبَيْر هذا نص في أن عليًّا شريكه في أمره في حياته، كما كان هارون شريكا ً لموسى. فهل تقول بموجب هذا النص ؟ أم ترجع عن الاحتجاج بأكاذيب المفترين، وترهات إخوانك المبطلين ؟!
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان الثامن والثلاثون : قوله تعالى : { إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } (1). من مسند أحمد بإسناده إلى زيد بن أبي أوفى قال : دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجده، فذكر قصة مؤاخاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عليّ : لقد ذهبت روحي، وانقطع ظهري، حين فعلت بأصحابك، فإن كان هذا من سخط الله عليَّ، فلك العقبى والكرامة.
__________
(1) الآية 47 من سورة الحجر.(174/172)
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والذي بعثني بالحق نبيًّا، ما اخترتك إلا لنفسي، فأنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي، وأنت أخي ووارثي، وأنت معي في قصري في الجنة، ومع ابنتي فاطمة، فأنت أخي ورفيقي. ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :? { إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } ، المتحابين في الله ينظر بعضهم إلى بعض. والمؤاخاة تستدعي المناسبة والمشاكلة، فلما اختص عليّ بمؤاخاة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو الإمام )).
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة هذا الإسناد. وليس هذا الحديث في مسند أحمد، ولا رواه أحمد قط لا في المسند ولا في ((الفضائل )) ولا ابنه. فقول هذا الرافضي : (( من مسند أحمد )) كذب وافتراء على المسند. وإنما هو من زيادات القطيعي التي فيها من الكذب الموضوع ما اتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع، رواه القطيعي عن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثنا حسين بن محمد الذارع، حدثنا عبد المؤمن بن عباد، حدثنا يزيد بن معن، عن عبد الله بن شرحبيل، عن زيد بن أبي أوفى(1).
وهذا الرافضي لم يذكره بتمامه فإن فيه عند قوله : وأنت أخي ووارثي. قال : وما أرث منك يا رسول الله ؟ قال : ما ورَّث الأنبياء من قبلي. قال : وما ورث الأنبياء من قبلك ؟ قال : كتاب الله وسنة نبيهم.
وهذا الإسناد مظلم انفرد به عبد المؤمن بن عباد أحد المجروحين، ضعّفه أبو حاتم عن يزيد بن معن،ولا يدري من هو، فلعله الذي اختلقه عن عبد الله بن شرحبيل،وهو مجهول، عن رجل من قريش، عن زيد بن أبي أوفى.
الوجه الثاني : أن هذا مكذوب مفترى باتفاق أهل المعرفة.
__________
(1) انظر الفضائل ج2 ص 638 – 639.(174/173)
الثالث: أن أحاديث المؤاخاة بين المهاجرين بعضهم مع بعض، والأنصار بعضهم مع بعض، كلها كذب. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخ عليًّا، ولا آخى بين أبي بكر وعمر ولا بين مهاجري ومهاجري، لكن آخى بين المهاجرين والأنصار، كما آخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وبين سلمان الفارسي وأبي الدرداء،وبين عليّ وسهل بن حنيف.
وكانت المؤاخاة في دور بني النجار، كما أخبر بذلك أنس في الحديث الصحيح، لم تكن في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما ذكر في الحديث الموضوع، وإنما كانت في دار كان لبعض بني النجار، وبناه في محلتهم.
الرابع : أن قوله في هذا الحديث : أنت أخي ووارثي، باطل على قول أهل السنة والشيعة، فإنه إن أراد ميراث المال بطل قولهم : إن فاطمة ورثته. وكيف يرث ابن العم مع وجود العم وهو العباس ؟ وما الذي خصّه بالإرث دون سائر بني العم الذين هم في درجة واحدة ؟
الوجه الخامس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أثبت الأخوة لغير عليّ، كما في الصحيحين أنه قال لزيد : (( أنت أخونا ومولانا))(1). وقال له?أبو بكر لما خطب ابنته :ألست أخي ؟ قال: (( أنا أخوك،وبنتك حلالٌ لي ))(2).
لكن المقصود أن هذه لأحاديث الموضوعة تبيّن أن أبا بكر كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عليّ، وأعلى قدراً عنده منه ومن كل من سواه،وشواهد هذه كثيرة.
وقد روى بضعة وثمانون نفسا عن عليّ أنه قال : (( خير هذه الأمة بعد
نبيّها أبو بكر ثم عمر )). رواها البخاري في الصحيح(3) .
(فصل)
__________
(1) تقدم هذا الحديث ص 689.
(2) البخاري ج7 ص 5.
(3) انظر البخاري ج5 ص7.(174/174)
قال الرافضي : (( البرهان التاسع والثلاثون :قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِم وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } (1) . في كتاب ((الفردوس)) لابن شيرويه يرفعه عن حذيفة بن اليمان، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو يعلم الناس متى سُمّى عليٌّ أمير المؤمنين ما أنكروا فضله، سُمِّي أمير المؤمنين وآدم بين الروح والجسد. قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِم وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } (2) قالت الملائكة:بلى، فقال تبارك وتعالى : أنا ربكم، ومحمد نبيّكم، وعليّ أميركم. وهو صريح في الباب )).
والجواب من وجوه : أحدها: منع الصحة، والمطالبة بتقريرها. وقد أجمع أهل العلم بالحديث أن مجرد روية صاحب (( الفردوس )) لا تدل على أن الحديث صحيح، فابن شيرويه الديلمى الهمذانى ذكر في هذا الكتاب أحاديث كثيرة صحيحة وأحاديث حسنة وأحاديث موضوعة،وإن كان من أهل العلم والدين، ولم يكن ممن يكذب هو، لكنه نقل ما في كتب الناس، والكتب فيها الصدق والكذب، ففعل كما فعل كثير من الناس في جمع الأحاديث : إما بالأسانيد، وإما محذوفة الأسانيد.
الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث.
__________
(1) الآية 172 من سورة الأعراف.
(2) الآية 172 من سورة الأعراف.(174/175)
الثالث :أن الذي في القرآن أنه قال { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } ليس فيه ذكر النبي ولا الأمير، وفيه قوله : { أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ } (1) . فدلَّ على أنه ميثاق التوحيد خاصة، ليس فيه ميثاق النبوة، فكيف ما دونها ؟!
الرابع :أن الأحاديث المعروفة في هذا،التي في المسند والسنن والموطأ وكتب التفسير وغيرها، ليس فيها شيء من هذا.ولو كان ذلك مذكورا في الأصل لم يهمله جميع الناس، وينفرد به من لا يُعرف صدقه، بل يُعرف أنه كذب.
الخامس : أن الميثاق أُخذ على جميع الذريّة، فيلزم أن يكون عليٌّ أميراً على الأنبياء كلهم، من نوح إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. وهذا كلام المجانين ؛ فإن أولئك ماتوا قبل أن يخلق الله عليًّا، فكيف يكون أميراً عليهم ؟!
وغاية ما يمكن أن يكون أميراً على أهل زمانه. أما الإمارة على من خُلق قبله، وعلى من يخلق بعده، فهذا من كذب من لا يعقل ما يقول، ولا يستحي فيما يقول.
(فصل)
قال الرافضي : (( البرهان الأربعون : قوله تعالى : { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } (2) . أجمع المفسرون أن صالح المؤمنين هو عليّ. روى أبو نُعيم بإسناده إلى أسماء بنت عميس،قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية :? { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } : قال : صالح المؤمنين عليّ بن أبي طالب، واختصاصه بذلك يدل على أفضليته، فيكون هو الإمام. والآيات في هذا المعنى كثيرة، اقتصرنا على ما ذكرنا للاختصار )).
__________
(1) الآية 173 من سورة الأعراف.
(2) الآية 4 من سورة التحريم.(174/176)
والجواب من وجوه : أحدها :قوله : (( أجمع المفسرون على أن صالح المؤمنين هو عليّ )) كذب مبين، فإنهم لم يجمعوا على هذا، ولا نقل الإجماع عَلَى هذا أحدٌ من علماء التفسير،ولا علماء الحديث ونحوهم. ونحن نطالبهم بهذا النقل، ومن نقل الإجماع عَلَى هذا أحدٌ من علماء التفسير، ولا علماء الحديث ونحوهم. ونحن نطالبهم بهذا النقل، ومن نقل هذا الإجماع ؟
الثاني : أن يُقال : كتب التفسير مملوءة بنقيض هذا. قال ابن مسعود وعكرمة ومجاهد والضحّاك وغيرهم : هو أبو بكر وعمر. وذكر هذا جماعة من المفسرين، كابن جرير الطبري وغيره.
الثالث :أن يُقال : قوله : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } اسم يعم كل صالح من المؤمنين، كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليى الله وصالح المؤمنين ))(1).
الخامس : أن يُقال : إن الله جعل في هذه الآية صالح المؤمنين مولى رسول - صلى الله عليه وسلم -، كما أخبر أن الله مولاه، والمولى يمنع أن يُراد به الموالى عليه، فلم يبق المراد به إلا الموالى.
وأما قوله : (( والآيات في هذا المعنى كثيرة )) فغايته أن يكون المتروك من جنس المذكور، والذي ذكره خلاصة ما عندهم، وباب الكذب لا ينسد. ولهذا كان من الناس من يقابل كذبهم بما يقدر عليه من الكذب، ولكن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق،وللكذّابين الويل مما يصفون.
(فصل)
قال الرافضي : ((المنهج الثالث في الأدلة المستندة إلى السنّة، المنقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي اثنا عشر :
__________
(1) انظر البخاري ج8 ص 6 ومسلم ج1 ص 197.(174/177)
الأول : ما نقله الناس كافة أنه لمّا نزل قوله تعالى : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اْلأَقْرَبِينَ } (1) جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني عبد المطلب في دار أبي طالب، وهم أربعون رجلا وأمر أن يَصْنَع لهم فخذ شاة مع مُدٍّ من البر ويُعِدُّ لهم صاعاً من اللبن، وكان الرجل منهم يأكل الجذعة في مقعد واحد، ويشرب الفَرَق من الشراب في ذلك المقام، فأكلت الجماعة كلهم من ذلك الطعام اليسير حتى شبعوا، ولم يتبين ما أكلوه، فبهرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله بذلك، وتبين لهم آية نبوته، فقال : يا بني عبد المطلب،إن الله بعثني بالحق إلى الخلق كافة، وبعثني إليكم خاصة، فقال : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اْلأَقْرَبِينَ } وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان، ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأمم، وتدخلون بهما الجنة، وتنجون بهما من النار: شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله، فمن يجيبني إلى هذا الأمر، ويؤازرني على القيام به يكن أخي وزيري، ووصيي ووارثي، وخليفتي من بعدي. فلم يجبه أحد منهم. فقال أمير المؤمنين : أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر. فقال : اجلس. ثم أعاد القول على القوم ثانية فصمتوا. فقال عليّ : فقمت فقلت مثل مقالتي الأولى، فقال : اجلس، ثم أعاد القول ثالثة، فلم ينطق أحد منهم بحرف، فقمت فقلت : أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر. فقال : اجلس فأنت أخي ووزيري، ووصيي ووارثي، وخليفتي من بعدي. فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب : ليهنئك اليوم إن دخلت في دين ابن أخيك، فقد جعل ابنك أميراً عليك )).
__________
(1) الآية 214 من سورة الشعراء.(174/178)
والجواب من وجوه : الأول : المطالبة بصحة النقل. وما ادّعاه من نقل الناس كافة فمن أظهر الكذب عند أهل العلم بالحديث، فإن هذا الحديث ليس في شيء من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل : لا في الصحاح ولا في المسانيد والسنن والمغازي والتفسير التي يذكر فيها الإسناد والذي يحتج به، وإذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل منها الصحيح والضعيف، مثل تفسير الثعلبي والواحدي والبغوي،بل وابن جرير وابن أبي حاتم، لم يكن مجرد رواية واحد من هؤلاء دليلا على صحته باتفاق أهل العلم، فإنه إذا عرف أن تلك المنقولات فيها صحيح وضعيف، فلا بد من بيان أن هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف.
الثاني:أنّا نرضى منه من هذا النقل العام بأحد شيئين : إما بإسنادٍ يذكره مما يحتج. به أهل العلم في مسائل النزاع، ولو أنه مسألة فرعية، وإما قول رجل من أهل الحديث الذين يعتمد الناس على تصحيحهم.
فإنه لو تناظر فقيهان في فرع من الفروع، لم تقم الحجة على المناظرة إلا بحديث يُعلم أنه مسند إسناداً تقوم به الحجة، أو يصححه من يُرجع إليه في ذلك. فأما إذا لم يُعلم إسناده، ولم يثبته أئمة النقل، فمن أين يُعلم ؟ لا سيما في مسائل الأصول التي يُبنى عليها الطعن في سلف الأمة وجمهورها، ويُتوسل بذلك إلى هدم قواعد الملة، فكيف يقبل في مثل ذلك حديث لا يُعْرَف إسناده ولا يثبته أئمة النقل ولا يعرف أن عالما صححه.
الثالث : أن هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث، فما من عالم يعرف الحديث إلا وهو يعلم أنه كذب موضوع، ولهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يُرجع إليها في المنقولات، لأن من له أدنى معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب.
الرابع :أن بني عبد المطلب لم يبلغوا أربعين رجلا حين نزلت هذه الآية؛ فإنها نزلت بمكة في أول الأمر. ولا بلغوا أربعين رجلا في مدّة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -.(174/179)
الخامس :قوله : (( إن الرجل منهم كان يأكل الجذعة ويشرب الفَرَق من اللبن )) فكذب على القوم، ليس بنو هاشم معروفين بمثل هذه الكثرة في الأكل، ولا عُرف فيهم من كان يأكل جذعة ولا يشرب فرقا.
السادس : أن قوله للجماعة : (( من يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني على القيام به يكن أخي ووزيري ووصيي وخليفتي من بعدي )) كلامٌ مفترًى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا يجوز نسبته إليه. فإن مجرد الإجابة إلى الشهادتين والمعاونة على ذلك لا يوجب هذا كله ؛ فإن جميع المؤمنين أجابوا إلى هاتين الكلمتين، وأعانوه على هذا الأمر،وبذلوا أنفسهم وأموالهم في إقامته وطاعته، وفارقوا وأوطانهم، وعادوا إخوانهم، وصبروا على الشتات بعد الألفة، وعلى الذل بعد العز، وعلى الفقر بعد الغنى،وعلى الشدة بعد الرخاء، وسيرتهم معروفة مشهورة. ومع هذا فلم يكن أحد منهم بذلك خليفة له.
وأيضا فإن كان عرض هذا الأمر على أربعين رجلا أمكن أن يجيبوه – أو أكثرهم أو عدد منهم – فلو أجابه منهم عدد من كان الذي يكون الخليفة بعده.
السابع : أن حمزة وجعفراً وعبيدة بن الحارث أجابوا إلى ما أجابه عليّ من الشهادتين والمعاونة على هذا الأمر.(174/180)
الثامن : أن الذي في الصحاح من نزول هذه الآية غير هذا. ففي الصحيحين عن ابن عمر وأبي هريرة – واللفظ له – عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اْلأَقْرَبِينَ } (1) دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشاً، فاجتمعوا،فخصَّ وعم فقال : ((يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني مُرَّة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها ))(2)
(فصل)
قال الرافضي :الثاني :الخبر المتواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه لما نزل قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ } (3) خطب الناس في غدير خُم وقال للجمع كله : يا أيها الناس ألست أَوْلى منكم بأنفسكم ؟ قالوا : بلى. قال : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه.
اللهم وال من ولاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله. فقال عمر :بخٍ بخٍ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. والمراد بالمولى هنا الأَوْلى بالتصرف لتقدّم التقرير منه - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ألست أوْلى منكم بأنفسكم ؟
والجواب :عن هذه الآية والحديث المذكور قد تقدّم، وبيَّنا أن هذا كذب، وأن قوله : { بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ } (4) نزل قبل حجة الوداع بمدة طويلة.
ويوم الغدير إنما كان ثامن عشر ذي الحجة بعد رجوعه من الحج، وعاش بعد ذلك شهرين وبعض الثالث.
__________
(1) الآية 214 من سورة الشعراء.
(2) انظر البخاري ج6 ص 111- 112 ومسلم ج1 ص 192.
(3) الآية 67 من سورة المائدة.
(4) الآية 67 من سورة المائدة.(174/181)
فعلم أنه لم يكن في غدير خم أمر يشرع نزل إذ ذاك، لا في حقّ عليّ ولا في غيره، لا إمامته ولا غيرها.
لكن حديث الموالاة قد رواه الترمذي وأحمد في مسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( من كنت مولاه فعليّ مولاه ))(1) . وأما الزيادة وهي قوله : (( اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه … )) الخ، فلاريب أنه كذب.
وكذلك قوله : أنت أَوْلى بكل مؤمن ومؤمنة، كذب أيضا.
وأما قوله : (( من كنت مولاه فعليّ مولاه )) فليس في الصحاح، لكن هو مما رواه العلماء، وتنازع الناس في صحته، فنُقل عن البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم بالحديث إنهم طعنوا فيه وضعَّفوه، ونُقل عن أحمد بن حنبل أنه حسَّنه كما حسَّنه الترمذي. وقد صنَّف أبو العباس بن عُقْدَة مصنَّفا في جمع طرقه.
ونحن نجيب بالجواب المركّب فنقول : إن لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله فلا كلام، وإن كان قاله فلم يرد به قطعا الخلافة بعده، إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه. ومثل هذا الأمر العظيم يجب أن يبلَّغ بلاغا مبينا.
وليس في الكلام ما يدل دلالة بيّنة على أن المراد به الخلافة. وذلك أن المولى كالولي. والله تعالى قال : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا } (2) ، وقال : { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } (3) فبيّن أن الرسول وليَّ المؤمنين، وأنهم مواليه أيضا، كما بيّن أن الله وليّ المؤمنين، وأنهم أولياؤه، وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض.
__________
(1) انظر سنن الترمذي ج5 ص 297 والمسند ج4 ص 281 وأماكن أخرى منه.
(2) الآية 55 من سورة المائدة.
(3) الآية 4 من سورة التحريم.(174/182)
فالموالاة ضد المعاداة، وهي تثبت من الطرفين، وإن كان أحد المتواليين أعظم قدرا، وولايته إحسان وتفضل، وولاية الآخر طاعة وعبادة، كما أن الله يحب المؤمنين، والمؤمنون يحبونه.
وهو وليّ المؤمنين وهو مولاهم يخرجهم من الظلمات إلى النور. وإذا كان كذلك فمعنى كون الله وليّ المؤمنين ومولاهم، وكون الرسول وليهم ومولاهم، وكون عليّ مولاهم، هي الموالاة التي هي ضد المعاداة.
والمؤمنون يتولون الله ورسوله الموالاة المضادة للمعاداة، وهذا حكم ثابت لكل مؤمن. فعليٌّ رضي الله عنه من المؤمنين الذين يتولون المؤمنين ويتولونه.
وفي الجملة فرق بين الوليّ والمولى ونحو ذلك وبين الوالي. فباب الولاية – التي هي ضدّ العداوة – شيء، وباب الولاية – التي هي الإمارة – شيء.
والحديث إنما هو في الأولى دون الثانية. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل : من كنت واليه فعليّ واليه. وإنما اللفظ ((من كنت مولاه فعليّ مولاه )).
وأما كون المولى بمعنى الوالي، فهذا باطل. فإن الولاية تثبت من الطرفين ؛ فإن المؤمنين أولياء الله،وهو مولاهم.
وأما كونه أَوْلى بهم من أنفسهم، فلا يثبت إلا من طرفه - صلى الله عليه وسلم -. وكونه أَوْلى بكل مؤمن من نفسه من خصائص نبوته.
(فصل)
قال الرافضي : الثالث: قوله : أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي. أثبت له (( عليه السلام )) جميع منازل هارون من موسى عليه السلام للاستثناء. ومن جملة منازل هارون أنه كان خليفة لموسى، ولو عاش بعده لكان خليفة أيضا، وإلا لزم تطرّق النقض إليه، ولأنه خليفته مع وجوده وغيبته مدة يسيرة، فبعد موته وطول مدة الغَيْبَة، أَوْلى بأن يكون خليفته)).(174/183)
والجواب : أن هذا الحديث ثبت في الصحيحين بلا ريب وغيرهما، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له ذلك في غزوة تبوك. وكان - صلى الله عليه وسلم - كلما سافر في غزوة أو عُمرة أو حج يستخلف على المدينة بعض الصحابة، كما استخلف على المدينة في غزوة ذى أمَّر عثمان، وفي غزوة بني قَيْنُقاع بشير بن عبد المنذر، ولما غزا قريشا ووصل إلى الفُرْع استعمل ابن أم مكتوم، وذكر ذلك محمد بن سعد وغيره.
وبالجملة فمن المعلوم انه كان لا يخرج من المدينة حتى يستخلف. وقد ذكر المسلمون من كان يستخلفه، فقد سافر من المدينة في عُمرتين : عُمرة الحديبية وعُمرة القضاء. وفي حجة الوداع، وفي مغازيه – أكثر من عشرين غزاة – وفيها كلها استخلف، وكان يكون بالمدينة رجال كثيرون يستخلف عليهم من يستخلفه،فلما كان في غزوة تبوك لم يأذن لأحد في التخلف عنها، وهي آخر مغازيه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يجتمع معه أحد كما اجتمع معه فيها، فلم يتخلف عنه إلا النساء والصبيان، أو من هو معذور لعجزه عن الخروج، أو هو منافق، وتخلّف الثلاثة الذين تِيب عليهم، ولم يكن في المدينة رجال من المؤمنين يستخلف عليهم، كما كان يستخلف عليهم في كل مرة، بل كان هذا الاستخلاف أضعف من الاستخلافات المعتادة منه.
وفي كل مرة يكون بالمدينة أفضل ممن بقي في غزوة تبوك، فكان كل استخلاف قبل هذه يكون على أفضل ممن استخلف عليه عليًّا. فلهذا خرج إليه عليٌّ رضي الله عنه يبكي،وقال : أتخلّفني مع النساء والصبيان ؟
ولم يكن هذا الاستخلاف كاستخلاف هارون، لأن العسكر كان مع هارون، وإنما ذهب موسى وحده.
وأما استخلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - فجميع العسكر كان معه، ولم يُخَلَّف بالمدينة – غير النساء والصبيان إلا معذورٌ أو عاصٍ.(174/184)
وقول القائل : (( هذا بمنزلة هذا، وهذا مثل هذا )) هو كتشبيه الشيء بالشيء. وتشبيه الشيء بالشيء يكون بحسب ما دلَّ عليه السياق، لا يقتضي المساواة في كل شيء. ألا ترى إلى ما ثبت في الصحيحين من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأسارى لمّا استشار أبا بكر،وأشار بالفداء، واستشار عمر، فأشار بالقتل. قال : (( سأخبركم عن صاحبيكم. مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم إذ قال: { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (1) ،ومثل عيسى إذ قال: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (2) . ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اْلأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } (3) ، ومثل موسى إذ قال : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ اْلأَلِيمَ } (4)(5) .
فقوله هذا: مثلك مثل إبراهيم وعيسى، ولهذا : مثل نوح وموسى – أعظم من قوله – أنت مني بمنزلة هارون من موسى ؛ فإن نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى أعظم من هارون، وقد جعل هذين مثلهم، ولم يرد أنهما مثلهم في كل شيء، لكن فيما دلّ عليه السياق من الشدة في الله واللين في الله.
وكذلك هنا إنما هو بمنزلة هارون فيما دلّ عليه السياق، وهو استخلافه في مغيبه، كما استخلف موسى هارون. وهذا الاستخلاف ليس من خصائص عليّ، بل ولا هو مثل استخلافاته، فضلا عن أن يكون أفضل منها.
__________
(1) الآية 36 من سورة إبراهيم.
(2) الآية 118 من سورة المائدة.
(3) الآية 26 من سورة نوح.
(4) الآية 88 من سورة يونس.
(5) انظر صحيح مسلم ج3 ص 1383 – 1385.(174/185)
وأما إذا كان التخصيص لسبب يقتضيه، فلا يُحتج به باتفاق الناس. فهذا من ذلك ؛ فإنه إنما خصَّ عليًّا بالذكر لأنه خرج إليه يبكي ويشتكي تخليفه مع النساء والصبيان.
ومن استخلفه سوى عليّ، لما لم يتوهموا أن في الاستخلاف نقصا، لم يحتج أن يخبرهم بمثل هذا الكلام. والتخصيص بالذكر إذا كان لسبب يقتضي ذاك لم يقتض الاختصاص بالحكم، فليس في الحديث دلالة على أن غيره لم يكن منه بمنزلة هارون من موسى.
وقول القائل : إنه جعله بمنزلة هارون في كل الأشياء إلا في النبوة باطل ؛ فإن قوله : (( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟)) دليل على أنه يسترضيه بذلك ويطيّب قلبه لِمَا توهم من وهن الاستخلاف ونقص درجته، فقال هذا على سبيل الجبر له.
وقوله : (( بمنزلة هارون من موسى )) أي مثل منزلة هارون، فإن نفس منزلته من موسى بعينها لا تكون لغيره، وإنما يكون له ما يشابهها، فصار هذا كقوله : هذا مثل هذا، وقوله عن أبي بكر : مثله مثل نوح وموسى.
ومما يبين ذلك أن هذا كان عام تبوك، ثم بعد رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا بكر أميراً على الموسم، وأردفه بعليّ، فقال لعليّ : أمير أم مأمور ؟ فقال : بل مأمور، فكان أبو بكر أميراً عليه، وعليّ معه كالمأمور مع أميره : يصلّي خلفه، ويطيع أمره وينادي خلفه مع الناس بالموسم : ألا َ لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان.
وأما قوله : ((لأنه خليفته مع وجوده وغيبته مدة يسيرة، فبعد موته وطول مدة الغيبة أَوْلى بأن يكون خليفته )).(174/186)
فالجواب : أنه مع وجوده وغيبته قد استخلف غير عليّ استخلافاً أعظم من استخلاف عليّ، واستخلف أولئك عَلَى أفضل من الذين استخلف عليهم عليًّا، وقد استخلف بعد تبوك على المدينة غير عليّ في حجة الوداع، فليس جعل عليّ هو الخليفة بعده لكونه استخلفه على المدينة بأَوْلى من هؤلاء الذين استخلفهم على المدينة كما استخلفه، وأعظم مما استخلفه، وآخر الاستخلاف كان عَلَى المدينة كان عام حجة الوداع، وكان عليّ باليمن، وشهد معه الموسم، لكن استخلف عليها في حجة الوداع غير عليّ.
فإن الأصل بقاء الاستخلاف، فبقاء من استخلفه في حجة الوداع أولى من بقاء استخلاف من استخلفه قبل ذلك.
وبالجملة فالاستخلافات على المدينة ليست من خصائص عليّ، ولا تدل على الأفضلية ولا على الإمامة، فقد استخلف عدداً غيره. ولكن هؤلاء جهَال يجعلون الفضائل العامة المشتركة بين عليّ وغيره خاصة بعليّ وإن كان غيره أكمل منه فيها، كما فعلوا في النصوص والوقائع.
(فصل)
قال الرافضي : (( الرابع : أنه - صلى الله عليه وسلم - استخلفه عَلَى المدينة مع قصر مدة الغَيْبَة، فيجب أن يكون خليفة له بعد موته. وليس غير عليّ إجماعاً، ولأنه لم يعزله عن المدينة، فيكون خليفة له بعد موته فيها، وإذا كان خليفة فيها كان خليفة في غيرها إجماعاً )).
والجواب : أن هذه الحجة وأمثالها من الحجج الداحضة، التي هي من جنس بيت العنكبوت. والجواب عنها من وجوه :(174/187)
أحدها : أن نقول على أحد القولين : إنه استخلف أبا بكر بعد موته كما تقدم. وإذا قالت الرافضة : بل استخلف عليًّا. قيل : الرواندية من جنسكم قالوا: استخلف العبّاس، وكل من كان له علم بالمنقولات الثابتة يعلم أن الأحاديث الدالّة على استخلاف أحدٍ بعد موته إنما تدل على استخلاف أبي بكر، ليس فيها شيء يدل على استخلاف عليّ ولا العباس، بل كلها تدل على أنه لم يستخلف واحداً منهما. فيقال حينئذ : إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف أحداً فلم يستخلف إلا أبا بكر، وإن لم يستخلف أحداً فلا هذا ولا هذا.
الوجه الثاني : أن نقول : أنتم لا تقولون بالقياس، وهذا احتجاج بالقياس، حيث قستم الاستخلاف في الممات على الاستخلاف في المغيب. وأما نحن إذا فرضنا على أحد القولين فنقول : الفرق بينهما ما نبّهنا عليه في استخلاف عمر في حياته، وتوقفه في الاستخلاف بعد موته، لأن الرسول في حياته شاهد على الأمة، مأمور بسياستها بنفسه أو نائبه، وبعد موته انقطع عنه التكليف.
كما قال المسيح : { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } (1). الآية، لم يقل : كان خليفتي الشهيد عليهم. وهذا دليل على أن المسيح لم يستخلف، فدل على أن الأنبياء لا يجب عليهم الاستخلاف بعد الموت.
وكذلك ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( فأقول كما قال العبد الصالح: { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } (2).
__________
(1) الآية 117 من سورة المائدة.
(2) انظر البخاري ج4 ص168 ومواضع أُخر.(174/188)
الوجه الثالث : أن يُقال : الاستخلاف في الحياة واجبٌ على كل وليّ أمر ؛ فإن كل ولي أمر – رسولا كان أو إماما – عليه أن يستخلف فيما غاب عنه من الأمور، فلا بد له من إقامة الأمر : إما بنفسه ، وإما بنائبه. فما شهده من الأمر أمكنه أن يقيمه بنفسه، وأما ما غاب عنه فلا يمكنه إقامته إلا بخليفة يستخلفه عليه، فيولّي عَلَى مَنْ غاب عنه مِن رعيته مَنْ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويأخذ منهم الحقوق، ويقيم فيهم الحدود، ويعدل بينهم في الأحكام، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستخلف في حياته على كل ما غاب عنه، فيولِّي الأمراء على السرايا : يصلّون بهم، ويجاهدون بهم، ويسوسونهم، ويؤمِّر أمراء على الأمصار، بخلاف الاستخلاف بعد الموت، فإنه قد بلَّغ الأمة، وهو الذي يجب عليهم طاعته بعد موته، فيمكنهم أن يعينوا من يؤمِّرونه عليهم، كما يمكن ذلك في كل فروض الكفاية التي تحتاج إلى واحد معيّن – عُلم أنه لا يلزم من وجوب الاستخلاف في الحياة بعد الموت.
الرابع : أن الاستخلاف في الحياة واجبٌ في أصناف الولايات، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستخلف على من غاب عنهم من يقيم فيهم الواجب.
ومعلوم أن هذا الاستخلاف لا يجب بعد الموت باتفاق العقلاء، بل ولا يمكن، فإنه لا يمكن أن يعيِّن للأمة بعد موته من يتولّى كل أمر جزئي، فإنهم يحتاجون إلى واحدٍ بعد واحد، وتعيين ذلك متعذر.
الوجه الخامس : أن ترك الاستخلاف بعد مماته كان أَوْلى من الاستخلاف كما اختاره الله لنبيه، فإنه لا يختار له إلا أفضل الأمور.
فعُلم أن ترك الاستخلاف من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الموت أكمل في حق الرسول من الاستخلاف، وأن من قاس وجوب الاستخلاف بعد الممات على وجوبه في الحياة كان من أجهل الناس.(174/189)
وأبو بكر لم يكن يعلم أن الأمة يولُّون عمر إذا لم يستخلفه أبو بكر. فكان ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - هو اللائق به لفضل علمه، وما فعله صدِّيق الأمة هو اللائق به إذ لم يعلم ما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الوجه السادس : أن يُقال : هب أن الاستخلاف واجب، فقد استخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر على قول من يقول : إنه استخلفه، ودلّ على استخلافه على القول الآخر.
وقوله : ((لأنه لم يعزله عن المدينة )).
قلنا : هذا باطل، فإنه لمّا رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - انعزل عليٌّ بنفس رجوعه، كما كان غيره ينعزل إذا رجع. وقد أرسله بعد هذا إلى اليمن، حتى وافاه الموسم في حجة الوداع، واستخلف عَلَى المدينة في حجة الوداع غيره.
أفترى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها مقيماً وعليّ باليمن، وهو خليفة بالمدينة ؟!
ولا ريب أن كلام هؤلاء كلام جاهل بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، كأنهم ظنّوا أن عليًّا ما زال خليفة عَلَى المدينة حتى مات النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعلموا أن عليًّا بعد ذلك أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع مع أبي بكر لنبذ العهود، وأمَّر عليه أبا بكر. ثم بعد رجوعه مع أبي بكر أرسله إلى اليمن، كما أرسل معاذاً وأبا موسى.
(فصل)
قال الرافضي : (( الخامس : ما رواه الجمهور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأمير المؤمنين : أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي دَيْني، وهو نصٌّ في الباب )).
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة هذا الحديث، فإن هذا الحديث ليس في شيء من الكتب التي تقوم الحجة بمجرد إسناده إليها، ولا صححه إمام من أئمة الحديث.(174/190)
وقوله : ((رواه الجمهور)) : إن أراد بذلك أن علماء الحديث رووه في الكتب التي يُحتج بما فيها، مثل كتاب البخاري ومسلم ونحوهما،وقالوا : إنه صحيح – فهذا كذب عليهم. وإن أراد بذلك أن هذا يرويه مثل أبي نُعيم في (( الفضائل )) والمغازلي وخطيب خوارزم ونحوهم، أو يُروى في كتب الفضائل، فمجرد هذا ليس بحجة باتفاق أهل العلم في مسألة فروع، فكيف في مسألة الإمامة، التي قد أقمتم عليها القيامة ؟!
الثاني : أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث. وقد تقدّم كلام ابن حزم أن سائر هذه الأحاديث موضوعة ، يعلم ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلتها. وقد صدق في ذلك ؛ فإن من له أدنى معرفة بصحيح الحديث وضعيفه، ليعلم أن هذا الحديث ومثله ضعيف، بل كذب موضوع.
الوجه الثالث : أن دَيْنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقضه عليّ بل في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقا من شعير ابتاعها لأهله(1) . فهذا الدين الذي كان عليه يقضى من الرهن الذي رهنه، ولم يعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دَيْن آخر.
وفي الصحيح عنه أنه قال : (( لا يقتسم ورثتي ديناراً ولا درهماً، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة ))(2) . فلو كان عليه دَيْن قُضِيَ مما تركه، وكان ذلك مقدَّماً على الصدقة، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح.
(فصل)
__________
(1) انظر البخاري ج4 ص 141 وغيره.
(2) انظر البخاري ج4 ص 12 ومسلم ج3 ص 1382.(174/191)
قال الرافضي : (( السادس : حديث المؤاخاة.روى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان يوم المباهلة، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وعليٌّ واقف يراه ويعرفه، ولم يؤاخ بينه وبين أحد، فانصرف باكيا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فعل أبو الحسن ؟ قالوا : انصرف باكي العين، قال : يا بلال اذهب فائتني به، فمضى إليه، ودخل منزله باكي العين فقالت له فاطمة ما يبكيك ؟ قال : آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار، ولم يؤاخ بيني وبين أحد. قالت : لا يخزيك الله،لعله إنما ادخرك لنفسه، فقال بلال : يا عليّ أجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتى فقال : ما يبكيك يا أبا الحسن ؟ فأخبره، فقال : إنما ادَّخرك لنفسي، ألا يسرك أن تكون أخا نبيك ؟ قال : بلى، فأخذ بيده، فأتى المنبر، فقال : اللهم هذا مني وأنا منه، ألا إنه مني بمنزلة هارون من موسى، ألا من كنت مولاه فعليّ مولاه، فانصرف فاتبعه عمر، فقال : بخٍ بخٍ يا أبا الحسن، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم. فالمؤاخاة تدل على الأفضلية، فيكون هو الإمام )).
والجواب : أولا : المطالبة بتصحيح النقل، فإنه لم يعز هذا الحديث إلى كتاب أصلا، كما عادته يعزو، وإن كان عادته يعزو إلى كتبٍ لا تقوم بها الحجة، وهنا أرسله إرسالاً على عادة أسلافه شيوخ الرافضة، يكذبون ويروون الكذب بلا إسناد. وقد قال ابن المبارك : الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، فإذا سُئل : وقف وتحيّر.
الثاني : أن هذا الحديث موضوع عند أهل الحديث، لا يرتاب أحد من أهل المعرفة بالحديث أنه موضوع، وواضعه جاهل، كذب كذبا ظاهرا مكشوفا، يعرف أنه كذب من له أدنى معرفة بالحديث، كما سيأتي بيانه.(174/192)
الثالث : أن أحاديث المؤاخاة كلها موضوعة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخ أحداً، ولا آخى بين مهاجري ومهاجري، ولا بين أبي بكر وعمر، ولا بين أنصاري وأنصاري، ولكن آخى بين المهاجرين والأنصار في أول قدومه المدينة.
وأما المباهلة فكانت لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر من الهجرة.
الرابع : أن دلائل الكذب على هذا الحديث بيّنة، منها : أنه قال : (( لما كان يوم المباهلة وآخى بين المهاجرين والأنصار )). والمباهلة كانت لما قدم وفد نجران النصارى، وأنزل الله سورة آل عمران، وكان ذلك في آخر الأمر سنة عشر أو سنة تسع.
الخامس : أن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار كانت في السنة الأولى من الهجرة في دار بني النجار،وبين المباهلة وذلك عدة سنين.
السادس : أنه قد آخى بين المهاجرين والأنصار. والنبي - صلى الله عليه وسلم - وعليٌّ كلاهما من المهاجرين، فلم يكن بينهما مؤاخاة، بل آخى بين عليّ وسهل بن حنيف.
السابع : أن قوله : (( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى )) إنما قاله في غزوة تبوك مرة واحدة، لم يقل ذلك في غير ذلك المجلس أصلا باتفاق أهل العلم بالحديث.
(فصل)(174/193)
قال الرافضي : السابع : ما رواه الجمهور كافة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حاصر خيبر تسعا وعشرين ليلة،وكانت الراية لأمير المؤمنين عليّ، فلحقه رمد أعجزه عن الحرب، وخرج مرحب يتعرض للحرب، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر، فقال له: خذ الراية، فأخذها في جمع من المهاجرين، فاجتهد ولم يغن شيئا، ورجع منهزما، فلما كان من الغد تعرَّض لها عمر، فسار غير بعيد، ثم رجع يخبر أصحابه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : جيئوني بعليّ، فقيل : إنه أرمد، فقال : أرونيه أروني رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ليس بفرَّار، فجاءوا بعليّ، فتفل في يده ومسحها على عينيه ورأسه فبرِئ، فأعطاه الراية،ففتح الله على يديه، وقتل مرحباً . وَوَصْفُهُ عليه السلام بهذا الوصف يدل على انتفائه عن غيره، وهو يدل على أفضليته فيكون هو الإمام)).
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بتصحيح النقل . وأما قوله : (( رواه الجمهور فإن الثقات الذين رووه لم يرووه هكذا، بل الذي في الصحيح أن عليًّا كان غائباً عن خيبر، لم يكن حاضراً فيها، تخلَّف عن الغزاة لأنه كان أرمد . ثم إنه شقَّ عليه التخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلحقه،فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل قدومه : ((لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله،يفتح الله على يديه ))(1). ولم تكن الراية قبل ذلك لأبي بكر ولا لعمر، ولا قربها واحدٌ منهما، بل هذا من الأكاذيب . ولهذا قال عمر : (( فما أحببت الإمارة إلا يومئذ، وبات الناس كلهم يرجون أن يعطاها، فلما أصبح دعا عليًّا، فقيل له : إنه أرمد، فجاء فتفل في عينيه حتى برأ، فأعطاه الراية )) .
__________
(1) انظر البخاري ج5 ص 18 ومسلم ج4 ص 1871- 1872.(174/194)
وكان هذا التخصيص جزاء مجيء عليّ مع الرمد، وكان إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وعليّ ليس بحاضر لا يرجونه من كراماته - صلى الله عليه وسلم -، فليس في الحديث تنقيص بأبي بكر وعمر أصلاً .
الثاني : أن إخباره أن عليّا كان يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله حق، وفيه رد على النواصب . لكن الرافضة الذين يقولون : إن الصحابة ارتدُّوا بعد موته لا يمكنهم الاستدلال بهذا، لأن الخوارج تقول لهم : هو ممن ارتد أيضا، كما قالوا لمَّا حكم الحكمين : إنك قد ارتددت عن الإسلام فعد إليه.
وقول القائل : (( إن هذا يدل على انتفاء هذا الوصف عن غيره )) .
فيه جوابان : أحدهما : أنه إن سلَّم ذلك، فإنه قال: (( لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه ))، فهذا المجموع اختصّ به، وهو أن ذلك الفتح كان على يديه، ولا يلزم إذا كان ذلك الفتح المعيّن على يديه أن يكون أفضل من غيره، فضلا عن أن يكون مختصًّا بالإمامة .
الثاني : أن يُقال : لا نسلِّم أن هذا يوجب التخصيص . كما لو قيل : لأعطين هذا المال رجلاً فقيرا، أو رجلا صالحا، أو لأعودن اليوم رجلا مريضاً صالحاً، أو لأعطين هذه الراية رجلا شجاعا، ونحو ذلك – لم يكن في هذه الألفاظ ما يوجب أن تلك الصفة لا توجد إلا في واحد، بل هذا يدل على أن ذلك الواحد موصوف بذلك .
الثالث : أنه لو قُدِّر ثبوت أفضليته في ذلك الوقت، فلا يدل ذلك على أن غيره لم يكن أفضل منه بعد ذلك .
الرابع : أنه لو قدَّرنا أفضليته، لم يدل ذلك على أنه إمام معصوم منصوص عليه، بل كثير من الشيعة الزيدية ومتأخري المعتزلة وغيرهم يعتقدون أفضليته، وأن الإمام هو أبو بكر، وتجوز عندهم ولاية المفضول .
(فصل)(174/195)
قال الرافضي : (( الثامن : خبر الطائر . روى الجمهور كافة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بطائر، فقال : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإليّ يأكل معي من هذا الطائر، فجاء عليّ، فدق الباب، فقال أنس : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - على حاجة، فرجع . ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال أولاً، فدق الباب،فقال أنس : ألم أقل لك إنه على حاجة ؟ فانصرف، فعاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعاد عليّ فدق الباب أشد من الأولين، فسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأذن له بالدخول، وقال : ما أبطأك عني ؟ قال : جئتك فردني أنس، ثم جئت فردني أنس، ثم جئت فردني الثالثة، فقال : يا أنس ما حملك على هذا ؟ فقال : رجوت أن يكون الدعاء لرجل من الأنصار، فقال : يا أنس أوفي الأنصار خير من عليّ ؟ أو في الأنصار أفضل من عليّ ؟ فإذا كان أحب الخلق إلى الله، وجب أن يكون هو الإمام )) .
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بتصحيح النقل . وقوله : ((روى الجمهور كافة )) كذب عليهم ؛ فإن حديث الطير لم يروه أحد من أصحاب الصحيح، ولا صححه أئمة الحديث، ولكن هو مما رواه بعض الناس، كما رووا أمثاله في فضل غير عليّ، بل قد رُوى في فضائل معاوية أحاديث كثيرة، وصُنِّف في ذلك مصنفات . وأهل العلم بالحديث لا يصححون هذا ولا هذا .
الثاني : أن حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل . قال أبو موسى المديني : (( قد جمع غير واحد من الحفاظ طرق أحاديث الطير للاعتبار والمعرفة كالحاكم النيسابوري، وأبي نعيم، وابن مردويه، وسئل الحاكم عن حديث الطير فقال لا يصح ، هذا مع أن الحاكم منسوب إلى التشيع .(174/196)
الثالث : أن أكل الطير ليس فيه أمر عظيم يناسب أن يجيء أحب الخلق إلى الله ليأكل منه، فإن إطعام الطعام مشروع للبرّ والفاجر، وليس في ذلك زيادة وقربة عند الله لهذا الأكل، ولا معونة على مصلحة دين ولا دنيا، فأي أمر عظيم هنا يناسب جعل أحب الخلق إلى الله يفعله ؟!
الرابع : أن هذا الحديث يناقض مذهب الرافضة ؛ فإنهم يقولون : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أن عليًّا أحب الخلق إلى الله، وأنه جعله خليفة من بعده . وهذا الحديث يدل على أنه ما كان يعرف أحب الخلق إلى الله .
الخامس : أن يُقال : إما أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعرف أن عليًّا أحب الخلق إلى الله، أو ما كان يعرف . فإن كان يعرف ذلك، كان يمكنه أن يرسل بطلبه،كما كان يطلب الواحد من الصحابة، أو يقول:اللهم ائتنى بعليّ فإنه أحب الخلق إليك.فأي حاجة إلى الدعاء والإِبهام في ذلك؟!ولو سَمَّى عليًّا لاستراح أنس من الرجاء الباطل،ولم يغلق الباب في وجه عليّ.
وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعرف ذلك، بطل ما يدَّعونه من كونه كان يعرف ذلك . ثم إن في لفظه : (( أحب الخلق إليك وإليّ )) فكيف لا يعرف أحب الخلق إليه ؟!
السادس : أن الأحاديث الثابتة في الصحاح، التي أجمع أهل الحديث على صحتها وتلقّيها بالقبول، تناقض هذا، فكيف تعارض بهذا الحديث المكذوب الموضوع الذي لم يصححوه ؟!
(فصل)
قال الرافضي : (( التاسع :ما رواه الجمهور أنه أمر الصحابة بأن يسلّموا عَلَى عليّ بإمرة المؤمنين، وقال : إنه سيد المسلمين، وإمام المتٌّقين، وقائد الغرّ المحجّلين . وقال : هذا وليّ كل مؤمن بعدي . وقال في حقّه : إنَّ عليًّا مني وأنا منه، أولى بكل مؤمن ومؤمنة، فيكون عليّ وحده هو الإمام لذلك . وهذه نصوص في الباب )) .(174/197)
والجواب من وجوه: أحدها : المطالبة بإسناد وبيان صحته، وهو لم يعزه إلى كتاب على عادته . فأما قوله : (( رواه الجمهور )) فكذب، فليس هذا في كتب الأحاديث المعروفة : لا الصحاح، ولا المسانيد، ولا السنن وغير ذلك. فإن كان رواه بعض حاطبي الليل كما يُروى أمثاله، فعِلْم مثل هذا ليس بحجة يجب اتباعها باتفاق المسلمين .
والله تعالى قد حرّم علينا الكذب، وأن نقول عليه ما لا نعلم . وقد تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( من كَذَبَ عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار))(1) .
الوجه الثاني : أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، وكل من له أدنى معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب موضوع لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث في كتاب يعتمد عليه : لا الصحاح، ولا السنن، ولا المسانيد المقبولة .
الثالث : أن هذا مما لا يجوز نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -،فإن قائل هذا كاذب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - منزّه عن الكذب . وذلك أن سيد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغرّ المحجلين هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتفاق المسلمين .
فإن قيل : عليّ هو سيدهم بعده .
قيل : ليس في لفظ الحديث ما يدل على هذا التأويل، بل هو مناقض لهذا، لأن أفضل المسلمين المتّقين المحجّلين هم القرن الأول، ولم يكن لهم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد ولا إمام ولا قائد ولا غيره، فكيف يخبر عن شيء لم يحضر، ويترك الخبر عما هو أحوج إليه، وهو حكمهم في الحال ؟
ثم القائد يوم القيامة هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن يقود عليّ ؟
وأيضا فعند الشيعة جمهور المسلمين المحجّلين كفّار أو فسّاق، فلمن يقود؟
__________
(1) انظر البخاري ج1 ص 33 ومسلم ج4 ص 2298 – 2299 .(174/198)
ثم كون عليّ سيدهم وإمامهم وقائدهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يُعلم بالاضطرار أنه كذب، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل شيئا من ذلك، بل كان يفضّل عليه أبا بكر وعمر تفضيلاً بيِّناً ظاهرا عرفه الخاصة والعامة، حتى أن المشركين كانوا يعرفون منه ذلك .
وكذلك قوله : (( هو وليّ كل مؤمن بعدي )) كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل هو في حياته وبعد مماته وليّ كل مؤمن، وكل مؤمن وليّه في المحيا والممات . فالولاية التي هي ضد العداوة لا تختص بزمان .
وأما قوله لعليّ : (( أنت مني وأنا منك )) فصحيح في غير هذا الحديث.
فقال للأشعريين : (( هم مني وأنا منهم )) كما قال لعليّ : (( أنت مني وأنا منك ))وقال لجليبيب : (( هذا مني وأنا منه ))(1) فعُلم أن هذه اللفظة لا تدل على الإمامة، ولا على أن من قيلت له كان هو أفضل الصحابة .
(فصل)
قال الرافضي : (( العاشر : ما رواه الجمهور من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض .
وقال : أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح : من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق، وهذا يدل على وجوب التمسك بقول أهل بيته، وعليٌّ سيدهم، فيكون واجب الطاعة على الكل، فيكون هو الإمام )) .
__________
(1) انظر صحيح مسلم ج4 ص 1918 – 1919.(174/199)
والجواب من وجوه : أحدها : أن لفظ الحديث الذي في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم : (( قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيباً بماءٍ يدعى خُمًّا بين مكة والمدينة، فقال : ((أما بعد : أيها الناس إنما أنا بشر فيكم يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ربي، وإني تارك فيكم ثقلين : أولهما : كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به )) فحثّ على كتاب الله، ورغّب فيه . ثم قال : (( وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ))(1) . وهذا اللفظ يدل على أن الذي أُمرنا بالتمسك وجُعل المتمسك به لا يضل هو كتاب الله .
وهكذا جاء في غير هذا الحديث، كما في صحيح مسلم عن جابر في حجّة الوداع لما خطب يوم عرفة وقال : (( قد تركت فيكم ما لن تضلّوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب الله، وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون؟ )) قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت وأدّيت ونصحت . فقال بإصبعه السَّبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس : (( اللهم اشهد)) ثلاث مرات(2) .
وأما قوله : (( وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض(3) فهذا رواه الترمذي . وقد سئل عنه أحمد بن حنبل فضعّفه، وضعفّه غير واحد من أهل العلم، وقالوا : لا يصح . وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على أن أهل بيته كلهم لا يجتمعون على ضلالة .
قالوا : ونحن نقول بذلك، كما ذكر الناس القاضي أبو يعلى وغيره .
لكن أهل البيت لم يتفقوا – ولله الحمد – على شيء من خصائص مذهب الرافضة، بل هم المبرّؤون المنزّهون عن التدنس بشيء منه .
وأما قوله : (( مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح )) فهذا لا يعرف له إسناد صحيح، ولا هو في شيء من كتب الحديث التي يُعتمد عليها، فإن كان قد رواه مثل من يروي أمثاله من حطّاب الليل الذين يروون الموضوعات فهذا مما يزيده وَهْناً .
__________
(1) تقدم تخريجه ص 651 .
(2) تقدم تخريجه ص 742.
(3) تقدم تخريجه ص 743 .(174/200)
الوجه الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن عترته : إنها والكتاب لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض، وهو الصادق المصدوق، فيدل على إجماع العترة حجة . وهذا قول طائفة من أصحابنا، وذكره القاضي في (( المعتمد )) . لكن العترة هم بنو هاشم كلهم : ولد العباس، وولد عليّ، وولد الحارث بن عبد المطلب، وسائر بني أبي طالب وغيرهم . وعليٌّ وحده ليس هو العترة، وسيد العترة هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الوجه الثالث : أن العترة لم تجتمع على إمامته ولا أفضليته، بل أئمة العترة كابن عباس وغيره يقدّمون أبا بكر وعمر في الإمامة والأفضلية.
الوجه الرابع : أن هذا معارض بما هو أقوى منه، وهو أن إجماع الأمة حجة بالكتاب والسنّة والإجماع . والعترة بعض الأمة، فيلزم من ثبوت إجماع الأمة إجماع العترة . وأفضل الأمة أبو بكر كما تقدم ذكره ويأتي .
(فصل)
قال الرافضي : (( الحادي عشر : ما رواه الجمهور من وجوب محبته وموالاته . روى أحمد بن حنبل في مسنده : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد حسن وحسين، فقال : من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما فهو معي في درجتي يوم القيامة .(174/201)
وروى ابن خالويه عن حذيفة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أحب أن يتمسك بقصبة الياقوت التي خلقها الله بيده ثم قال لها، كوني، فكانت، فليتولّ عليّ بن أبي طالب من بعدي . وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعليّ : حبك إيمان وبغضك نفاق، وأول من يدخل الجنة محبّك، وأول من يدخل النار مبغضك، وقد جعلك الله أهلاً لذلك، فأنت مني وأنا منك، ولا نبي بعدي . وعن شقيق بن سلمة عن عبد الله قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو آخذ بيد عليّ وهو يقول : هذا وليّي وأنا وليّه، عاديت من عادى، وسالمت من سالم .وروى أخطب خوارزم عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : جاءني جبريل من عند الله بورقة خضراء مكتوب فيها بياض : إني قد افترضت محبة عليّ على خلقي فبلّغهم ذلك عني . والأحاديث في ذلك لا تحصى كثرة من طرق المخالفين، وهي تدل على أفضليته واستحقاقه للإمامة )) .
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بتصحيح النقل، وهيهات له بذلك. وأما قوله : (( رواه أحمد )) فيقال : أولا : أحمد له المسند المشهور، وله كتاب مشهور في فضائل الصحابة )) روى فيه أحاديث، لا يرويها في المسند لما فيها من الضعف، لكونها لا تصلح أن تُروى في المسند، لكونها من مراسيل أو ضعافاً بغير الإرسال . ثم إن هذا الكتاب زاد فيه ابنه عبد الله زيادات، ثم إن القطيعي – الذي رواه عن ابنه عبد الله – زاد عن شيوخه زيادات، وفيها أحاديث موضوعة باتفاق أهل المعرفة .
وهذا الرافضي وأمثاله من شيوخ الرافضة الجهّال، فهم ينقلون من هذا المصنّف، فيظنون أن كل ما رواه القطيعي أو عبد الله قد رواه أحمد نفسه، ولا يميّزون بين شيوخ أحمد وشيوخ القطيعي .(174/202)
مع أن هذا الحديث الأول من زيادات القطيعي ، رواه عن نصر بن علي الجهضمي عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر . والحديث الثاني ذكره ابن الجوزي في (( الموضوعات )) وبيّن أنه موضوع . وأما رواية ابن خالويه فلا تدل على أن هذا الحديث صحيح باتفاق أهل العلم . وكذلك رواية خطيب خوارزم ؛ فإن في روايته من الأكاذيب المختلفة ما هو أقبح الموضوعات باتفاق أهل العلم .
الوجه الثاني : أن هذه الأحاديث التي رواها ابن خالويه كذب موضوعة عند أهل الحديث .
وكذلك قوله : أول من يدخل النار مبغضك . فهل يقول مسلم : إن الخوارج يدخلون النار قبل أبي جهل بن هشام وفرعون وأبي لهب وأمثالهم من المشركين ؟!
وكذلك قوله : أول من يدخل الجنة محبّك . فهل يقول عاقل : إن الأنبياء والمرسلين سبب دخولهم الجنة أولا هو حبّ عليّ دون حبّ الله ورسوله وسائر الأنبياء والرسل، وحب الله ورسله ليس هو السبب في ذلك ؟
(فصل)
قال الرافضي :الثاني عشر : روى أخطب خوارزم بإسناده عن أبي ذر الغفاري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من ناصب عليًّا الخلافة فهو كافر، وقد حارب الله ورسوله، ومن شكَّ في عليّ فهو كافر . وعن أنس قال : كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأى عليًّا مقبلاً فقال : أنا وهذا حجة الله على أمتي يوم القيامة . وعن معاوية بن حَيْدة القشيري قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لعليّ : من مات وهو يبغضك مات يهودياًّ أو نصرانياً )) .
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بتصحيح النقل . وهذا على سبيل التنزل،فإن مجرد رواية الموفق خطيب خوارزم لا تدل على أن الحديث ثابت قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا لو لم يُعلم ما في الذي جمعه من الأحاديث من الكذب والفِرية، فأما من تأمَّل ما في جمع هذا الخطيب فإنه يقول : سبحانك هذا بهتان عظيم !(174/203)
الثاني : أن كل من له معرفة بالحديث يشهد أن هذه الأحاديث كذب مفتراة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الثالث : أن هذه الأحاديث إن كانت مما رواه الصحابة والتابعون فأين ذكرها بينهم ؟ ومن الذي نقلها عنهم ؟ وفي أي كتاب وُجد أنهم رووها ؟ ومن كان خبيرا بما جرى بينهم علم بالاضطرار أن هذه الأحاديث مما ولّدها الكذّابون بعدهم، وأنها مما عملت أيديهم .
الوجه الرابع : أن يُقال : علمنا بأن المهاجرين والأنصار كانوا مسلمين يحبون الله ورسوله، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحبّهم ويتولاهم، وأن أبا بكر الإمام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أعظم من علمنا بصحة شيء من هذه الأحاديث، فكيف يجوز أن يُرد ما علمناه بالتواتر المتيقن بأخبار هي أقل وأحقر من أن يُقال لها: أخبار آحاد لا يُعلم لها ناقل صادق، بل أهل العلم بالحديث متفقون على أنها من أعظم المكذوبات، ولهذا لا يوجد منها شيء في كتب الأحاديث المعتمدة، بل أئمة الحديث كلهم يجزمون لكذبها .
الوجه الخامس : أن القرآن يشهد في غير موضع برضا الله عنهم وثنائه عليهم، كقوله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } (1) .
__________
(1) الآية 100 من سورة التوبة .(174/204)
الوجه السادس : أن هذه الأحاديث تقدح في عليّ، وتوجب أنه كان مكذّبا بالله ورسوله، فيلزم من صحتها كفر الصحابة كلهم : هو وغيره . أما الذين ناصبوه الخلاف فإنهم في هذا الحديث المفترى كفّار . وأما عليّ فإنه لم يعمل بموجب هذه النصوص، بل كان يجعلهم مؤمنين مسلمين . وشر من قاتلهم عليّ هم الخوارج، ومع هذا فلم يحكم فيهم بحكم الكفّار، بل حرّم أموالم وسبيهم، وكان يقول لهم قبل قتالهم : إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ولا حقكم فينا . ولما قتله ابن ملجم قال : إن عشت فأنا وليّ دمى، ولم يجعله مرتداً بقتله .
وأما أهل الجمل فقد تواتر عنه أنه نهى عن أن يتّبع مدبرهم، وأن يجهز على جريحهم، وأن يقتل أسيرهم وأن تغنم أموالهم، وأن تسبى ذراريهم . فإن كان هؤلاء كفّارا بهذه النصوص، فعليّ أول من كذّب بها، فيلزمهم أن يكون عليّ كافرا .
وكذلك أهل صفّين كان يصلّي على قتلاهم، ويقول : إخواننا بَغَوْا علينا طهّرهم السيف . ولو كان عنده كفّارا لما صلّى عليهم، ولا جعلهم إخوانه، ولا جعل السيف طُهراً لهم .
وليس المقصود هنا الكلام في التكفير، بل التنبيه على أن هذه الأحاديث مما يُعلم بالاضطرار أنها كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنها مناقضة لدين الإسلام، وأنها تستلزم تكفير عليّ وتكفير من خالفه، وأنه لم يقلها من يؤمن بالله واليوم الآخر، فضلا عن أن تكون من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل إضافتها – والعياذ بالله – إلى رسول الله من أعظم القدح والطعن فيه.
ولا شك أن هذا فعل زنديق ملحد لقصد إفساد دين الإسلام، فلعن الله من افتراها، وحسبه ما وعده به الرسول حيث قال : (( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار )) .
(فصل)
قال الرافضي : (( قالت الإمامية : إذا رأينا المخالف لنا يورد مثل هذه الأحاديث، ونقلنا نحن أضعافها عن رجالنا الثقات، وجب علينا المصير إليها، وحرم العدول عنها )) .(174/205)
والجواب أن يقال : لا ريب أن رجالكم الذين وثّقتموهم غايتهم أن يكونوا من جنس من يروي هذه الأحاديث من الجمهور، فإذا كان أهل العلم يعلمون بالاضطرار أن هؤلاء كذّابون، وأنتم أكذب منهم وأجهل، حَرُم عليكم العمل بها والقضاء بموجبها . والاعتراض على هذا الكلام من وجوه .
أحدها : أن يقال لهؤلاء الشيعة : من أين لكم أن الذين نقلوا هذه الأحاديث في الزمان القديم ثقات، وأنتم لم تدركوهم ولم تعلموا أحوالهم ولا لكم كتب مصنَّفة تعتمدون عليها في أخبارهم التي يُميّز بها بين الثقة وغيره، ولا لكم أسانيد تعرفون رجالها ؟ بل علمكم بكثير مما في أيديكم شر من علم كثير من اليهود والنصارى بما في أيديهم، بل أولئك معهم كتب وضعها لهم هلال وشماس وليس عند جمهورهم ما يعارضها.
وأما أنتم فجمهور المسلمين دائما يقدحون في روايتكم، ويبينون كذبكم، وأنتم ليس لكم علم بحالهم . ثم قد عُلم بالتواتر الذي لا يمكن حجبه كثرة الكذب وظهوره في الشيعة من زمن عليّ وإلى اليوم . وأنتم تعلمون أن أهل الحديث يبغضون الخوارج، ويروون فيهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة صحيحة، وقد روى البخاري بعضها، وروى مسلم عشرة منها، وأهل الحديث متدينون بما صح عندهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع هذا فلم يحملهم بغضهم للخوارج على الكذب عليهم، بل جرّبوهم فوجدوهم صادقين . وأنتم يشهد عليكم أهل الحديث والفقهاء والمسلمون والتجّار والعامة والجند، وكل من عاشركم وجربكم قديما وحديثا،أن طائفتكم أكذب الطوائف، وإذا وُجد فيها صادق، فالصادق في غيرها أكثر، وإذا وجد في غيرها كاذب، فالكاذب فيها أكثر .
ولا يخفى هذا على عاقل منصف، وأما من اتّبع هواه فقد أعمى الله قلبه، ومن يضلل الله فلن تجد له وليا مرشدا .
(فصل)
قال الرافضي : (( المنهج الرابع : في الأدلة الدالّة على إمامته المستنبطة من أحواله وهي اثنا عشر )) .(174/206)
ثم ذكر : كان أزهد الناس وأعبدهم وأعلمهم وأشجعهم، وذكر أنواعاً من خوارق العادات له ، واجتماع الفضائل على أوجه تقدّم بها عليهم ، فقال :
(( الأول : أنه كان أزهد الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) .
والجواب : المنع ؛ فإن أهل العلم بحالهما يقولون : أزهد الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزهد الشرعي : أبو بكر وعمر . وذلك أن أبا بكر كان له مال يكتسبه فأنفقه كله في سبيل الله،وتولّى الخلافة، فذهب إلى السوق يبيع ويكتسب، فلقيه عمر وعلى يده أبراد، فقال له : أين تذهب ؟ فقال: أظننت أنّي تارك طلب المعيشة لعيالي ؟ فأخبر بذلك أبا عبيدة والمهاجرين، ففرضوا له شيئا، فاستخلف عمر وأبا عبيدة، فحلفا لهُ أنه يُباح له أخذ درهمين كل يوم، ثم ترك ماله في بيت المال، ثم لما حضرته الوفاة أمر عائشة أن تردّ إلى بيت المال ما كان قد دخل في ماله من مال المسلمين، فوجدت جرد قطيفة لا يساوي خمس دراهم، وحبشية ترضع ابنه، أو عبداً حبشياً وبعيراً ناضحا، فأرسلت بذلك إلى عمر . فقال عبد الرحمن بن عوف له : أتسلب هذا عيال أبي بكر ؟ فقال : كلا ورب الكعبة، لا يتأثّم منه أبو بكر في حياته، وأتحمله أنا بعد موته .
وقال بعض العلماء : عليّ كان زاهداً، ولكن الصدّيق أزهد منه ؛ لأن أبا بكر كان له المال الكثير في أول الإسلام والتجارة الواسعة، فأنفقه في سبيل الله، وكان حاله في الخلافة ما ذُكر، ثم ردّ ما تركه لبيت المال .
فصح بالبرهان الضروري أن أبا بكر رضي الله عنه أزهد من جميع الصحابة، ثم عمر رضي الله تعالى عنه )) .
(فصل)
قال الرافضي : علي قد طلق الدنيا ثلاثا، وكان قوته جريش الشعير، وكان يختمه لئلا يضع الإمامان فيه أُدْماُ، وكان يلبس خشن الثياب وقصيرها، ورقّع مدرعته حتى استحى من رقعها،وكان حمائل سيفه ليفا وكذا نعله .(174/207)
وروى أخطب خوارزم عن عمّار قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( يا عليّ إنَّ الله زيّنك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب إلى الله منها : زَّهَدك في الدنيا، وبغَّضها إليك، وحبَّب إليك الفقراء، فرضيت بهم أتباعاً، ورضوا بك إماماً . يا عليّ طوبى لمن أحبك وصدق عليك، والويل لمن أبغضك وكذب عليك . أما من أحبّك وصدق عليك فإخوانك في دينك، وشركاؤك في جنتك . وأما من أبغضك وكذب عليك فحقيق على الله أن يقيمهم مقام الكذّابين .(174/208)
قال سويد بن غفلة : دخلت على عليّ العصر، فوجدته جالساً بين يديه صفحة فيها لبن حار، وأجد ريحه من شدة حموضته، وفي يده رغيف أرى قشار الشعير في وجهه وهو يكسر بيده أحيانا، فإذا غلبه كسره بركبته، فطرحه فيه، فقال : ادن فأَصِب من طعامنا هذا . فقلت : إني صائم . فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من منعه الصيام عن طعام يشتهيه كان حقًّا على الله أن يطعمه من طعام الجنة ويسقيه من شرابها . قال : قلت لجاريته وهي قائمة : ويحك يا فضة، ألا تتقين الله في هذا الشيخ ؟ ألا تنخلين طعامه مما أرى فيه من النخال ؟ فقالت : لقد عهد إلينا أن لا ننخل له طعاما . قال : ما قُلْتَ لها ؟ فَأَخْبَرْتُهُ . قال : بأبي وأمي من لم يُنخل له طعام، ولم يشبع من خبز البُرّ ثلاثة أيام حتى قبضه الله عز وجل، واشترى يوما ثوبين غليظين، فخيّر قنبرا فيهما فأخذ واحداً ولبس هو الآخر، ورأى في كمّه طولا عن أصابعه فقطعه. وقال ضرار بن ضمرة : دخلت على معاوية بعد قتل أمير المؤمنين عليّ، فقال : صف لي عليًّا . فقلت : أعفني . فقال : لا بد من ذلك . فقلت : أما إذ لا بد، فإنه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزينتها، ويستأنس بالليل ووحشته . وكان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما قشب، وكان فينا كأحدنا : يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن – والله – مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلّمه هيبة له، يعظّم أهل الدين، ويقرّب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله . فأشهد بالله لقد رَأَيْتُه وهو يقول : يا دنيا غرِّي غيري . أَلِيَ تعرضت ؟ أم إليّ تشوفت ؟ هيهات ! قد أبنتك ثلاثا، لا رجعة فيك، عمرك قصير، وخطرك كثير، وعيشك حقير .(174/209)
آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق ! فبكى معاوية، وقال : رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك، فما حزنك عليه يا ضرار ؟ قال : حزن من ذُبح ولدها في حجرها، فلا ترقأ عبرتها، ولا يسكن حزنها)).
والجواب : أما زهد عليّ رضي الله عنه في المال فلا ريب فيه، لكن الشأن أنه كان أزهد من أبي بكر وعمر، وليس فيما ذكره ما يدل على ذلك، بل ما كان فيه حقًّا فلا دليل فيه على ذلك، والباقي : إما كذب، وإما ما لا مدح فيه .
أما كونه طلٌّق الدنيا ثلاثا : فمن المشهور عنه أنه قال : (( يا صفراء، يا بيضاء، قد طلقتك ثلاثا، غُرِّي غيري، لا رجعة لي فيك )) لكن هذا لا يدل على أنه أزهد ممن لم يقل هذا ؛ فإن نبينا عيسى ابن مريم وغيرهما كانوا أزهد منه، ولم يقولوا هذا . ولأن الإنسان إذا زهد لم يجب أن يقول بلسانه : قد زهدت، وليس كل من قال : زهدت، يكون قد زهد، فلا عدم هذا الكلام يدل على عدم الزهد، ولا وجوده يدل على وجوده، فلا دلالة فيه .
وأما قوله : إنه كان دائماً يقتات جريش الشعير بلا أُدم .
فلا دلالة في هذا لوجهين : أحدهما : أنه كذب . والثاني : أنه لا مدح فيه . فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمام الزهّاد كان لا يردّ موجوداً، ولا يتكلف مفقوداً، بل إن حضر لحم دجاج أكله، أو لحم غنم أكله، أو حلواء أو عسل أو فاكهة أكله، وإن لم يجد شيئا لم يتكلّفه، وكان إذا حضر طعاما : فإن اشتهاه أكله وإلا تركه، ولا يتكلف ما لا يحضر، وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع، وقد كان يقيم الشهر والشهرين لا يُوقد في بيته نارٌ .
وأما قوله : (( كان حمائل سيفه ليفا، ونعله ليفا )) .
فهذا أيضا كذب ولا مدح فيه ؛ فقد رُوى أن نعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان من الجلود، وحمائل سيف النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت ذهبا وفضة . والله قد يسَّر الرزق عليهم، فأي مدح في أن يعدلوا عن الجلود مع تيسيرها ؟ وإنما يمدح هذا عند العدم .(174/210)
كما قال أبو أمامة الباهلي : (( لقد فتح البلاد أقوام كانت خُطُم خيلهم ليفاً، وركْبِهم العَلاَبِيّ )) رواه البخاري(1).
وحديث عمّار عن الموضوعات، وكذلك حديث سويد بن غفلة ليس مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(فصل)
قال الرافضي : (( وبالجملة زهده لم يلحقه أحد فيه، ولا سبقه أحد إليه . وإذا كان أزهد كان هو الإمام، لامتناع تقدم المفضول عليه )) .
والجواب : أن كلتا القضيتين باطلة : لم يكن أزهد من أبي بكر وعمر، ولا كل من كان أزهد كان أحقَّ بالإمامة . وذلك أن عليًّا كان له من المال والسرارى ولأهله ما لم يكن لأبي بكر وعمر .
(فصل)
قال الرافضي : (( الثاني : أنه كان أعبد الناس : يصوم النهار، ويقوم الليل، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل ونوافل النهار، وأكثر العبادات والأدعية المأثورة عنه تستوعب الوقت، وكان يصلّي في ليله ونهاره ألف ركعة، ولم يخل في صلاة الليل – حتى في ليلة الهرير .
وقال ابن عباس : رأيته في حربه وهو يرقب الشمس، فقلت : يا أمير المؤمنين ماذا تصنع ؟ قال : انظر إلى الزوال لأصلّي . فقلت : في هذا الوقت؟ فقال : إنما نقاتلهم على الصلاة .
فلم يغفل عن فعل العبادات في أول وقتها في أصعب الأوقات .
وكان إذا أُريد إخراج الحديد من جسده يترك إلى أن يدخل في الصلاة، فيبقى متوجها إلى الله غافلا عمَّا سواه، غير مدرك للآلام التي تفعل به.
وجمع بين الصلاة والزكاة، وتصدٌّق وهو راكع، فأنزل الله تعالى فيه قرآنا يُتلى .
__________
(1) انظر البخاري ج4 ص 39 .(174/211)
وتصدّق بقوته وقوت عياله ثلاثة أيام، حتى أنزل الله فيهم : { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ } (1) وتصدق ليلاً ونهاراً، وسراًّ وعلانية، وناجى الرسول فقدَّم بين يدي نجواه صدقة، فأنزل الله فيه قرآناً وأعتق ألف عبدٍ من كسب يده، وكان يؤجر نفسه وينفق على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشعب . وإذا كان أعبد الناس كان أفضل، فيكون هو الإمام )) .
والجواب : أن يُقال : هذا الكلام فيه من الأكاذيب المختلفة ما لا يخفى إلا على أجهل الناس بأحوال القوم . ومع أنه كذب ولا مدح فيه ولا في عامة الأكاذيب، فقوله : إنه كان يصوم النهار ويقوم الليل كذب عليه . وقد تقدّم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )) .
وفي الصحيحين عن علي، قال : طرقني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفاطمة، فقال : ((ألا تقومان فتصليان ؟ فقلت : يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله، إذا شاء أن يبعثنا بعثنا : قال فولى . وهو يضرب فخذه ويقول : { وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } (2) . فهذا الحديث دليل على نومه في الليل مع إيقاظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومجادلته حتى ولّى وهو يقول : { وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } .
وقول القائل : (( ومنه تعلم الناس صلاة الليل ونوافل النهار)).
إن أراد بذلك : أن بعض المسلمين تعلّم ذلك منه، فهكذا كلٌّ من الصحابة علّم بعض الناس .
__________
(1) الآية 1 من سورة الإنسان .
(2) انظر البخاري ج6 ص 88 ومواضع أُخر .(174/212)
وإن أراد أن المسلمون تعلّموا ذلك منه، فهذا من الكذب البارد . فأكثر المسلمين ما رأَوْه، وقد كانوا يقومون الليل ويتطوعون بالنهار، فأكثر بلاد المسلمين التي فُتحت في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما، كالشام ومصر والمغرب وخُراسان ما رَأوْه، فكيف يتعلّمون منه ؟ والصحابة كانوا كذلك في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنه تعلّموا ذلك، ولا يمكن أن يُدَّعى ذلك إلا في أهل الكوفة .
ومعلوم أنهم كانوا تعلّموا ذلك من ابن مسعود رضي الله عنه وغيره قبل أن يقدم إليهم، وكانوا من أكمل الناس علماً ودينا قبل قدوم عليّ رضي الله عنه إليهم، والصحابة كانوا كذلك،وأصحاب ابن مسعود كانوا كذلك قبل أن يقدم إليهم العراق .
وأما قوله : (( الأدعية المأثورة عنه تستوعب الوقت )) .
فعامتها كذب عليه . وهو كان أجلّ قدراً من أن يدعو بهذه الأدعية التي لا تليق بحاله وحال الصحابة، وليس لشيء من هذه إسناد . والأدعية الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي أفضل ما دعا به أحد، وبها يدعو خيار هذه الأمة من الأوّلين والآخرين .
وكذلك قوله : (( إنه كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة )) .
من الكذب الذي لا مدح فيه ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مجموع صلاته في اليوم والليلة أربعين ركعة : فرضاً ونفلا. والزمان لا يتسع لألف ركعة لمن وَلِيَ أمر المسلمين، مع سياسة الناس وأهله، إلا أن تكون صلاته نقراً كنقر الغراب، وهي صلاة المنافقين التي نزّه الله عنها عليًّا .
وأما ليالي صفّين، فالذي ثبت في الصحيح أنه قال الذكر الذي علّمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة : قال : ما تركته منذ سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم -. قيل : ولا ليلة صفّين ؟ قال : ولا ليلة صفين، ذكرته من السحر فقلته(1) .
__________
(1) انظر الحديث في المسند تحقيق أحمد شاكر الأرقام 838، 1228، 1249 .(174/213)
وما ذَكَرَ من إخراج الحديد من جسده فكذب . فإن عليًّا لم يُعرف أنه دخل فيه حديد . وما ذَكَرًه من جمعه بين الصلاة والزكاة، فهذا كذب كما تقدّم ولا مدح فيه، فإن هذا لو كان مستحبًّا لشُرع للمسلمين، ولو كان يستحب للمسلمين أن يتصدّقوا وهم في الصلاة لتصدّقوا، فلما لم يستحب هذا أحدٌ من المسلمين علمنا أنه ليس عبادة بل مكروه .
وكذلك ما ذَكَره من أمر النذر والدراهم الأربعة قد تقدّم أن هذا كله كذب،وليس فيه كبير مدح .
وقوله : (( أعتق ألف عبد من كسب يده )) .
من الكذب الذي لا يروج إلا على أجهل الناس ؛ فإن عليًّا لم يعتق ألف عبد، بل ولا مائة، ولم يكن له كسب بيده يقوم بعُشْر هذا ؛ فإنه لم تكن له صناعة يعملها، وكان مشغولا : إما بجهاد وإما بغيره .
وكذلك قوله : (( كان يؤجر نفسه وينفق على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشعب )) .
كذب بيِّنٌ من وجوه :
أحدها : أنهم لم يكونوا يخرجون من الشعب، ولم يكن في الشعب من يستأجره .
والثاني : أن أباه أبا طالب كان معهم في الشعب، وكان ينفق عليه .
والثالث : أن خديجة كانت موسرة تنفق من مالها .
والرابع : أن عليًّا لم يؤجر نفسه بمكة قط، وكان صغيراً حين كان في الشعب : إما مراهقا، وإما محتلما، فكان عليٌّ في الشعب ممن يُنفِق عليه : إما النبي - صلى الله عليه وسلم - وإما أبوه، لم يكن ممن يمكنه أن ينفق على نفسه، فكيف ينفق على غيره ؟
(فصل)
قال الرافضي : (( الثالث : أنه كان أعلم الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) .(174/214)
والجواب : أن أهل السنّة يمنعون ذلك ويقولون ما أتفق عليه علماؤهم : إن أعلم الناس بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر . وقد ذكر غير واحد الإجماع على أن أبا بكر أعلم الصحابة كلهم، ودلائل ذلك مبسوطة في موضعها ؛ فإنه لم يكن أحدٌ يقضي ويخطب ويُفتى بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أبو بكر رضي الله عنه، ولم يشتبه على الناس شيء من أمر دينهم إلا فصّله أبو بكر ؛ فإنهم شكّوا في موت النبي - صلى الله عليه وسلم - فبيّنه أبو بكر، ثم شكّوا في مدفنه فبيّنه، ثم شكّوا في قتال مانعي الزكاة فبيّنه أبو بكر، وبيّن لهم النص في قوله تعالى : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } (1) ، وبيّن لهم أن عبداً خيّره الله بين الدنيا والآخرة،ونحو ذلك .
وفسَّر الكلالة فلم يختلفوا عليه .
وكان عليٌّ وغيره يروون عن أبي بكر، كما في السنن عن عليّ قال : كنت إذا سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثاً نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، فإذا حدّثني غيره استحلفته فإذا حلف لي صدّقته، وحدثني أبو بكر – وصدق أبو بكر – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما من مسلم يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلّي ركعتين يستغفر الله تعالى إلا غفر له ))(2) .
__________
(1) الآية 27 من سورة الفتح .
(2) انظرسنن أبي داود ج2 ص 114 – 115 والترمذي ج4 ص 296 وابن ماجة ج1 ص 446 .(174/215)
وقد نقل غير واحد الإجماع على أن أبا بكر أعلم من عليّ، منهم الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني المروزى أحد أئمة الشافعية . وذكر في كتابه (( تقويم الأدلة )) الإجماع من علماء السنة : أن أبا بكر أعلم من عليّ، كيف وأبو بكر كان بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - يُفتى ويأمر وينهى ويخطب، كما كان يفعل ذلك إذا خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - - هو وإياه – يدعو الناس إلى الإسلام، ولما هاجر، ويوم حنين، وغير ذلك من المشاهد، وهو ساكت يقرّه، ولم تكن هذه المرتبة لغيره .
وأما قو له : (( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أقضاكم عليّ . والقضاء يستلزم العلم والدين )) .
فهذا الحديث لم يثبت، وليس له إسناد تقوم به الحجة .
وقوله : (( أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل )) أقوى إسناداً منه،والعلم بالحلال والحرام ينتظم للقضا أعظم مما ينتظم للحلال والحرام .
وهذا الثاني قد رواه الترمذي(1) وأحمد، والأول لم يروه أحد في السنن المشهورة، ولا المسانيد المعروفة، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف، وإنما يروى من طريق من هو معروف بالكذب .
وحديث : (( أنا مدينة العلم وعليّ بابها )) أضعف وأوهى، ولهذا إنما يعدّ في الموضوعات، وإن رواه الترمذي(2) ، وذكره ابن الجوزي وبيّن أن سائر طرقه موضوعة، والكذب يعرف من نفس متنه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان مدينة العلم، ولم يكن لها إلا باب واحد، فسد أمر الإسلام . ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلّغ عنه العلم واحداً، بل يجب أن يكون المبلّغون أهل التواتر، الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب .
وإذا قالوا : ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخبره .
__________
(1) انظر الترمذي ج5 ص 330 والمسند ج3 ص 154، 281 .
(2) انظر سنن الترمذي ج5 ص 301 .(174/216)
قيل لهم : فلا بد من العلم بعصمته أولا . وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن يُعلم عصمته، فإنه دَوْر، ولاتثبت بالإجماع، فإنه لا إجماع فيها . وعند الإمامية إنما يكون الإجماع حجة، لأن فيهم الإمام المعصوم، فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه، فعُلم أن عصمته لو كانت حقًّا لا بد أن تُعلم بطريق آخر غير خبره .
فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلا هو، لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين، فعُلم أن هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل ظنّه مدحا، وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام ؛ إذ لم يبلّغه إلا واحد.
ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر ؛ فإن جميع مدائن الإسلام بَلَغَهم العلم عن الرسول من غير عليّ .
(فصل)
قال الرافضي : وفيه نزل قوله تعالى : { وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } .
والجواب : أنه حديث موضوع باتفاق أهل العلم، ومعلوم بالاضطرار أن الله تعالى لم يرد بذلك أن لا تعيها إلا أُذن واعية واحدة من الآذان، ولا أُذن شخص معين، لكن المقصود النوع، فيدخل في ذلك كل أُذن واعية .
(فصل)
قال الرافضي : ((وكان في غاية الذكاء، شديد الحرص على التعلم، ولازم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أكمل الناس ملازمة ليلا ونهارا،ومن صغره إلى وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) .
والجواب : أن يُقال : من أين علم أنه أذكى من عمر، ومن أبي بكر وأنه كان أرغب في العلم منهما ؟.
وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إنه كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر ))(1) والمحدث الملهم يلهمه الله،وهذا قدر زائد على تعليم البشر .
__________
(1) تقدم تخريجه ص 476 .(174/217)
ولا ريب أن أبا بكر كان ملازما للنبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من عليّ، ومن كل أحد، وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أكثر اجتماعا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من عليّ بكثير. فكان يسمر معهما في أمر المسلمين . والمسائل التي تنازع فيها عمر وعليّ في الغالب يكون فيها قول عمر أرجح، كمسألة الحامل المتوفى عنها زوجها، ومسألة الحرام . كما تقدم .
(فصل)
قال الرافضي : ((وقال - صلى الله عليه وسلم - : العلم في الصغر كالنقش في الحجر . فتكون علومه أكثر من علوم غيره، لحصول القابل الكامل، والفاعل التام )) .
والجواب : أن هذا من عدم علم الرافضي بالحديث ؛ فإن هذا مَثَلٌ سائر، ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - . وأصحابه أيّدهم الله تعالى، فتعلموا الإيمان والقرآن والسنن، ويسَّر الله ذلك عليهم . وكذلك عليّ ؛ فإن القرآن لم يكمل حتى صار لعليّ نحواً من ثلاثين سنة، فإنما حفظ أكثر ذلك في كبره لا في صغره . وقد اختُلف في حفظه لجميع القرآن على قولين .
والأنبياء أعلم الخلق، ولم يبعث الله نبيًّا إلا بعد الأربعين، إلا عيسى - صلى الله عليه وسلم -. وتعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مطلقاً، لم يكن يخص به أحداً، ولكن بحسب استعداد الطالب . ولهذا حفظ عنه أبو هريرة في ثلاث سنين أخرى ما لم يحفظ غيره . وكان اجتماع أبي بكر به أكثر من سائر الصحابة .
وأما قوله : (( إن الناس منه استفادوا العلوم )) .
فهذا باطل ؛ فإن أهل الكوفة – التي كانت داره – كانوا قد تعلّموا الإيمان، والقرآن وتفسيره، والفقه، والسنّة من ابن مسعود وغيره، قبل أن يقدم عليٌّ الكوفة .
وإذا قيل : إن أبا عبد الرحمن قرأ عليه،فمعناه : عرض عليه . وإلا فأبو عبد الرحمن كان قد حفظ القرآن قبل أن يقدم عليّ الكوفة .
(فصل)(174/218)
قال الرافضي : (( وأما النحو فهو واضعه . قال لأبي الأسود : الكلام كله ثلاثة أشياء : اسم، وفعل، وحرف . وعلَّمه وجوه الإعراب )) .
والجواب : أن يُقال :أوّلا : هذا ليس من علوم النبوة، وإنما هو علم مستنبط، وهو وسيلة في حفظ قوانين اللسان، الذي نَزَل به القرآن، ولم يكن في زمن الخلفاء الثلاثة لحنٌ، فلم يُحتَج إليه . فلما سكن عليٌّ الكوفة، وبها الأنباط، رُوى أنه قال لأبي الأسود الدؤلي:(( الكلام اسم وفعل وحرف)). وقال : (( انح هذا النحو )) ففعل هذا للحاجة . كما أن من بعد عليّ أيضا استخرج للخط النقط والشكل، وعلامة المد والشد، ونحوه للحاجة .
ثم بعد ذلك بَسَط النحو نحاة الكوفة والبصرة، والخليل استخرج علم العروض .
(فصل)
قال الرافضي : (( وفي الفقه : الفقهاء يرجعون إليه )) .
والجواب : أن هذا كذب بيِّن ؛ فليس في الأئمة الأربعة – ولا غيرهم من أئمة الفقهاء – من يرجع إليه في فقهه .
(فصل)
قال الرافضي : (( الرابع : أنه كان أشجع الناس، وبسيفه ثبتت قواعد الإسلام، وتشيَّدت أركان الإيمان، ما انهزم في مواطن قطّ، ولا ضرب بسيفٍ إلاّ قطّ، طالما كشف الكرب عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يفرّ كما فرّ غيره، ووقاه بنفسه لما بات على فراشه، مستترا بإزاره، فظنّه المشركون إيَّاه، وقد اتفق المشركون على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأحدقوا به وعليهم السلاح، يرصدون طلوع الفجر ليقتلوه ظاهرا، فيذهب دمه، لمشاهدة بني هاشم قاتليه من جميع القبائل، ولا يتم لهم الأخذ بثأره لاشتراك الجماعة في دمه، ويعود كل قبيل عن قتال رهطه . وكان ذلك سبب حفظ دم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتمَّت السلامة، وانتظم به الغرض في الدعاء إلى الملة، فلما أصبح القوم، ورأوا الفتك به، ثار إليهم، فتفرَّقوا عنه حين عرفوه، وانصرفوا وقد ضلت حيلتهم، وانتقض تدبيرهم )) .(174/219)
والجواب : أنه لا رَيْب أن عليًّا رضي الله عنه كان من شجعان الصحابة، وممن نصر الله الإسلام بجهاده، ومن كبار السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار، ومن سادات من آمن بالله واليوم الآخر و جاهد في سبيل الله، وممن قتل بسيفه عدداً من الكفّار . لكن لم يكن هذا من خصائصه، بل غير واحد من الصحابة شاركه في ذلك، فلا يثبت بهذا فضله في الجهاد على كثير من الصحابة، فضلاً عن أفضليته على الخلفاء، فضلاً عن تعيينه للإمامة .
وأما قوله : (( إنه كان أشجع الناس )) .
فهذا كذب، بل كان أشجع الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . كما في الصحيحين عن أنس قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس. ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق ناس قِبَل الصوت،فتلقّاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عرى، في عنقه السيف، وهو يقول : (( لن تراعوا)) .
قال البخاري :استقبلهم وقد استبرأ الخبر(1) .
وفي المسند عن عليّ رضي الله عنه قال : (( كان إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو كان أقرب إلى العدوّ منا ))(2) .
وكان عليّ وغيره – يتّقون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه أشجع منهم، وإن كان أحدهم قد قتل بيده أكثر مما قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) البخاري ج4 ص 39، 52 وج 8 ص 13، ومسلم ج4 ص 1802 – 1803 .
(2) البخاري ج4 ص 39 وأماكن أُخر ومسلم ج4 ص 1082.(174/220)
والمقصود هنا أن أبا بكر كان أشجع الناس، ولم يكن بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أشجع منه .ولهذا لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزلت بالمسلمين أعظم نازلة نزلت بهم، حتى أوهنت العقول، وطيّشت الألباب، واضطربوا اضطراب الأرشية في الطَّوَيِّ البعيدة القعر، فهذا ينكر موته، وهذا قد أُقعد، وهذا قد دُهش فلا يعرف من يمر عليه ومن يسلّم عليه، وهؤلاء يضجون بالبكاء، وقد وقعوا في نُسْخَة القيامة، وكأنها قيامة صغرى مأخوذة من القيامة الكبرى، وأكثر البوادي قد ارتدوا عن الدين، وذلّت كُمَاتُهُ، فقام الصدِّيق رضي الله عنه بقلب ثابت، وفؤاد شجاع، فلم يجزع، ولم ينكل، قد جُمع له بين الصبر واليقين، فأخبرهم بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن الله اختار له ما عنده، وقال لهم : (( من كان يعبد محمداً فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت)) .
فالشجاعة المطلوبة من الإمام لم تكن في أحدٍ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكمل منها في أبي بكر، ثم عمر . وأما القتل فلا ريب أن غير عليّ من الصحابة قتل من الكفّار أكثر مما قتل عليّ، فإن كان من قتل أكثر يكون أشجع، فكثير من الصحابة أشجع من عليّ، فالبراء بن مالك – أخو أنس – قتل مائة رجل مبارزةً، غير من شورك في دمه . وأما خالد بن الوليد فلا يُحْصِي عدد من قتله إلا الله، وقد انكسر في يده في غزوة مؤتة تسعة أسياف، ولا ريب أنه قتل أضعاف ما قتله عليّ .
(فصل)
قلت : وأما قوله : (( بسيفه ثبت قواعد الإسلام وتشيدت أركان الدين)).
فهذا كذب ظاهر لكل من عرف الإسلام، بل سيفه جزء من أجزاء كثيرة، جزء من أجزاء أسباب تثبيت قواعد الإسلام، وكثير من الوقائع التي ثبت بها الإسلام لم يكن لسيفه فيها تأثير، كيوم بدر : كان سيفا من سيوف كثيرة .
(فصل)
وأما قوله : (( ما انهزم قط)) .(174/221)
فهو في ذلك كأبي بكر وعمر وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم . فالقول في أنه ما انهزم، كالقول في أن هؤلاء ما انهزموا قط . ولم يعرف لأحدٍ من هؤلاء هزيمة، وإن كان قد وقع شيء في الباطن ولم يُنقل، فيمكن أن عليًّا وقع منه ما لم يُنقل .
والمسلمون كانت لهم هزيمتان : يوم أحد، ويوم حنين . ولم يُنقل أن أحداً من هؤلاء انهزم، بل المذكور في السِّيَر والمغازي أن أبا بكر وعمر ثبتا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ويوم حنين، ولم ينهزما مع من انهزم . ومن نَقَلَ أنهما انهزما يوم حُنين فكذبه معلوم . وإنما الذي انهزم يوم أُحد عثمان . وقد عفا الله عنه . وما نقل من انهزام أبي بكر وعمر بالراية يوم حُنين فمن الأكاذيب المختلفة التي افتراها المفترون .
وقوله : (( ما ضرب بسيفه إلا قط )) .
فهذا لا يعلم ثبوته ولا انتفاؤه، وليس معنا في ذلك نقل يعتمد عليه . ولو قال قائل في خالد والزبير والبراء بن مالك وأبي دجانة وأبي طلحة ونحوهم : إنه ما ضرب بسيفه إلا قط، كان القول في ذلك كالقول في عليّ، بل صدق هذا في مثل خالد والبراء بن مالك أَوْلى.
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( خالد سيف من سيوف الله سلَّه الله على المشركين)). فإذا قيل فيمن جعله الله من سيوفه : إنه ما ضرب إلا قطّ، كان أقرب إلى الصدق، مع كثرة ما عُلم من قتل خالد في الحروب، وأنه لم يزل منصورا .
وأما قوله : (( وطالما كشف الكروب عن وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - )) .
فهذا كذب بيّن، من جنس أكاذيب الطرقيّة ؛ فإنه لا يعرف أن عليًّا كشف كربة عن وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - قط، بل ولا يُعرف ذلك عن أبي بكر وعمر، وهما كانا أكثر جهادا منه، بل هو - صلى الله عليه وسلم - الذي طالما كشف عن وجوههم الكرب .(174/222)
لكن أبو بكر د فع عنه لما أراد المشركون أن يضربوه ويقتلوه بمكة، جعل يقول : (( أتقتلون رجلاً أن يقول : رَبِّيَ الله )) حتى ضربوا أبا بكر . ولم يعرف أن عليًّا فَعَل مثل هذا .
وأمّا كون المشركين أحاطوا به حتى خلّصه أبو بكر أو عليّ بسيفه، فهذا لم ينقله أحد من أهل العلم ولا حقيقة له .
وما ذكره من مبيته على فراشه، فقد قدمنا أنه لم يكن هناك خوف عَلَى عليّ أصلاً .
(فصل)
قال الرافضي : (( وفي غزاة بدر، وهي أول الغزوات، كانت على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدمه إلى المدينة، وعمره سبع وعشرون سنة، قتل منهم ستة وثلاثين رجلا بانفراده، وهم أعظم من نصف المقتولين، وشَرَك في الباقين )) .
والجواب : أن هذا من الكذب البيِّن المفترى باتفاق أهل العلم، العالمين بالسير والمغازي . ولم يذكر هذا أحدٌ يعتمد عليه في النقل، وإنما هو من وضع جهَّال الكذَّابين .
وغاية ما ذكره ابن هشام، وقبله موسى بن عقبة، وكذلك الأموي، جميع ما ذكروه أحد عشر نفسا، واختُلف في ستة أنفس، هل قتلهم هو أو غيره، وشارك في ثلاثة . هذا جميع ما نقله هؤلاء الصادقون .
(فصل)
قال الرافضي : (( وفي غَزاة أُحد لمّا انهزم الناس كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاّ علي بن أبي طالب، ورجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفرٌ يسير، أولهم عاصم بن ثابت، وأبو دجانة، وسهل بن حنيف، وجاء عثمان بعد ثلاثة أيام، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : لقد ذهبت فيها عريضة . وتعجبت الملائكة من شأن عليّ، فقال جبريل وهو يعرج إلى السماء .
لا سيف إلا ذو الفقا ر ولا فتى إلا عليّ(174/223)
وقتل أكثر المشركين في هذه الغزاة، وكان الفتح فيها على يده . وروى قيس بن سعد قال : سمعت عليّا يقول : أصابني يوم أحد ستة عشر ضربة، سقطت إلى الأرض في أربع منهن، فجاءني رجلٌ حسن الوجه حسن اللَّمة طيّب الريح، فأخذ بضبعيّ، فأقامني، ثم قال : أقبل عليهم فقاتل في طاعة الله وطاعة رسوله، فهما عنك راضيان . قال عليّ : فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبرته . فقال : يا عليّ أما تعرف الرجل ؟ قلت : لا، ولكن شبّهته بدِحْيَة الكلبي. فقال : يا عليّ أقر الله عينيك، كان ذاك جبريل )) .
والجواب : أن يُقال : قد ذكر في هذه من الأكاذيب العظام التي لا تنفق إلا على من لا يعرف الإسلام، وكأنه يخاطب بهذه الخرافات من لا يعرف ما جرى في الغزوات .
كقوله : (( إن عليًّا قتل أكثر المشركين في هذه الغزاة، وكان الفتح فيها على يده )).
فيقال : آفة الكذب الجهل . وهل كان في هذه الغزاة فتح ؟ بل كان المسلمون قد هزموا العدو أولا، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وكَّل بثغرة الجبل الرماة، وأمرهم بحفظ ذلك المكان، وأن لا يأتوهم سواء غلبوا أو غُلبوا . فلما انهزم المشركون صاح بعضهم : أي قوم الغنيمة ! فنهاهم أميرهم عبد الله بن جبير، ورجع العدو عليهم، وأمير المشركين إذ ذاك خالد بن الوليد، فاتاهم من ظهورهم، فصاح الشيطان : قُتل محمد . واستشهد في ذلك اليوم نحو سبعين، ولم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك اليوم إلا اثنا عشر رجلا، فيهم أبو بكر وعمر .
وأشرف أبو سفيان فقال : أفي القوم محمد ؟ أفي القوم محمد ؟ والحديث في الصحيحين، وقد تقدّم لفظه . وكان يوم بلاء وفتنة وتمحيص، وانصرف العدوّ عنهم منتصرا، حتى هم بالعَوْد إليهم، فندب النبي - صلى الله عليه وسلم -المسلمين لِلِحَاقِهِ .(174/224)
وقيل إن في هؤلاء نزل قوله تعالى : { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ } (1) وكان في هؤلاء المنتَدبين : أبو بكر والزبير . قالت عائشة لابن الزبير : أبوك وجدُّك ممن قال الله فيهم : { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ } ، ولم يقتل يومئذ من المشركين إلا نفرٌ قليل، وقصد العدو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واجتهدوا في قتله، وكان ممن ذبَّ عنه يومئذ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وجعل يرمى عنه،والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول له : (( ارم فداك أبي وأمي )) .
وفي الصحيحين عن سعد قال : جمع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أبويه يوم أحد . وكان سعد مجاب الدعوة مسدّد الرمية .
وكان فيهم أبو طلحة رامياً، وكان شديد النزع، وطلحة بن عبيد الله : وقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده فشُلّت يده . وظاهر النبي - صلى الله عليه وسلم - بين درعين، وقُتل دونه نفر .
قال ابن إسحاق في (( السيرة )) في النفر الذين قاموا دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ترّس دون النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو دجانة بنفسه : يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه، حتى كثر فيه النبل. ورمى سعد بن أبي وقاص دون النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال سعد : فلقد رأيته يناولني النبل، ويقول : (( ارم فداك أبي وأمي ))، حتى إنه ليناولني السهم ما له نصل، فيقول (( ارم )) .
__________
(1) الآية 172 من سورة آل عمران .(174/225)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين غشيه القوم : (( من رجل يشري لنا نفسه ؟ )) … فقام زياد بن السكن في نفر : خمسة من الأنصار – وبعض الناس يقول : إنما هو عمارة بن زيد بن السكن – فقاتلوا دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً، ثم رجلا، يُقتلون دونه، حتى كان آخرهم زياد أو عمارة فقاتل حتى أثبتته الجراحة، ثم فاءت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه .
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((أدنوه مني)) فأدنوه منه، فوسَّده قدمه، فمات وخدَّه على قدم النبي))(1) .
قال : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمى عن قوسه حتى اندقت سِيَتُها، فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده، وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان،حتى وقعت على وجنته . وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردّها بيده وكانت أحسن عينيه وأحدّهما )) .
ولم يكن عليّ ولا أبو بكر ولا عمر من الذين كانوا يدفعون عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل كانوا مشغولين بقتال آخرين، وجرح النبي - صلى الله عليه وسلم - في جبينه، ولم يجرح عليّ .
فقوله : ((إن عليًّا قال أصابني يوم أحد ست عشرة ضربة، سقطت إلى الأرض في أربع منهن )) .
كذب عَلَى عليّ، وليس هذا الحديث في شيء من الكتب المعروفة عند أهل العلم . فأين إسناد هذا ؟ ومن الذي صححه من أهل العلم ؟ وفي أي كتاب من الكتب التي يُعتمد على نقلها ذكر هذا ؟ بل الذي جُرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكثير من الصحابة .
__________
(1) انظر مختصر السيرة لابن هشام ج3 ص 87 – 91 .(174/226)
قال ابن إسحاق : فلما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فَم الشِّعب خرج عليّ بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس فجاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشرب منه، فوجد له ريحاً، فعافه فلم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول : (( اشتد غضب الله على من أدمى وجه نبيه )) .
وقوله : (( إن عثمان جاء بعد ثلاثة أيام )) كذب آخر .
وقوله : (( إن جبريل قال وهو يعرج :
لا سيف إلا ذو الفقا ر ولا فتى إلا عليّ
كذب باتفاق الناس ؛ فإن ذا الفقار لم يكن لعليّ، ولكن كان سيفاً لأبي جهل غنمه المسلمون يوم بدر، فروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس قال : تنفّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيفه ذا الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد . قال : (( رأيت في سيفي ذى الفقار فلاًّ فأوَّلتُه فلاًّ يكون فيكم، ورأيت أنى مُردفُ كبشا ً، فأولته كبش الكتيبة، ورأيت أنّي في درع حصينة . فأوّلتها المدينة، ورأيت بقراً تذبح، فبقر والله خير ))(1) . فكان الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وهذا الكذب المذكور في ذي الفقار من جنس كذب بعض الجهّال . أنه كان له سيف يمتدّ إذا ضرب به كذا وكذا ذراعاً، فإن هذا ما يعلم العلماء أنه لم يكن قط : لا سيف عليّ ولا غيره . ولو كان سيفه يمتدُّ لمدَّه يوم قاتل معاوية.
(فصل)
__________
(1) انظر سنن ابن ماجة ج2 ص 939 والمسند ج3 ص 66 – 67، 351 ومختصر السيرة ج3 ص 66 – 67 .(174/227)
قال الرافضي : (( وفي غزاة الأحزاب، وهي غزاة الخندق لما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من عمل الخندق فأقبلت قريش يقدمها أبو سفيان وكنانة وأهل تهامة في عشرة آلاف، وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد، ونزلوا من فوق المسلمين ومن تحتهم، كما قال تعالى : { إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ } (1) ، فخرج عليه الصلاة والسلام بالمسلمين مع ثلاثة آلاف، وجعلوا الخندق بينهم، واتفق المشركون مع اليهود، وطمع المشركون بكثرتهم وموافقة اليهود، وركب عمرو بن عبد ودّ وعكرمة بن أبي جهل، ودخلا من مضيق في الخندق إلى المسلمين، وطلبا المبارزة، فقام عليّ وأجابه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنه عمرو، فسكت : ثم طلب المبارزة ثانيا وثالثا، وكل ذلك يقوم عليّ، ويقول له النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنه عمرو، فأَذِن له في الرابعة، فقال له عمرو : ارجع يا ابن أخي فما أحب أن أقتلك . فقال له عليّ : كنت عاهدت الله أن لا يدعوك رجلٌ من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه، وأنا أدعوك إلى الإسلام . قال عمرو : لا حاجة لي بذلك . قال : أدعوك إلى البراز . قال : ما أحب أن أقتلك . قال عليّ : بل أنا أحب أن أقتلك فحَمِيَ عمرو، ونزل عن فرسه، وتجاولا، فقتله عليّ، وانهزم عكرمة، ثم انهزم باقي المشركين واليهود . وفيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قتل عليّ لعمرو بن عبد ودّ أفضل من عبادة الثقلين )) .
والجواب : أن يقال : أولا : أين إسناد هذا النقل وبيان صحته ؟
__________
(1) الآية 10 من سورة الأحزاب .(174/228)
ثم يقال : ثانيا : قد ذكر في هذه الغزوة أيضا عدة أكاذيب . منها قوله : إن قريشا وكنانة وتهامة كانوا في عشرة آلاف، فالأحزاب كلهم من هؤلاء، ومن أهل نجد : تميم وأسد وغطفان، ومن اليهود : كانوا قريبا من عشرة آلاف . والأحزاب كانوا ثلاثة أصناف : قريش وحلفاؤها، وهم أهل مكة ومن حولها . وأهل نجد : تميم وأسد وغطفان ومن دخل معهم . واليهود بنو قريظة.
وقوله : إن عمرو بن عبد ودّ وعكرمة بن أبي جهل ركبا، ودخلا من مضيق في الخندق .
وقوله : إن عمراً لما قتل وانهزم المشركون واليهود .
هذا من الكذب البارد، فإن المشركين بقوا محاصرين للمسلمين بعد ذلك هم واليهود، حتى خبّب بينهم نعيم بن مسعود، وأرسل الله عليهم الريح الشديدة: ريح الصبا، والملائكة من السماء .
كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا* إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظَّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا } (1) . إلى قوله : { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } (2) .
ولهذا بيّن أن المؤمنين لم يقاتلوا فيها، وأن المشركين ما ردّهم الله بقتال. وهذا هو المعلوم المتواتر عند أهل العلم بالحديث والتفسير والمغازي والسير والتاريخ .
__________
(1) الآيات 9 – 12 من سورة الأحزاب.
(2) الآية 25 من سورة الأحزاب.(174/229)
والحديث الذي ذكره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : قتل عليّ لعمرو بن عبد ودّ أفضل من عبادة الثقلين . من الأحاديث الموضوعة، ولهذا لم يروه أحد من علماء المسلمين في شيء من الكتب التي يُعتمد عليها، بل ولا يعرف له إسناد صحيح ولا ضعيف .
وهو كذب لا يجوز نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإنه لا يجوز أن يكون قتل كافر أفضل من عبادة الجن والإنس .
(فصل)
قال الرافضي : (( وفي غزاة بني النضير قتل عليّ رامي ثنيّة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقتل بعده عشرة، وانهزم الباقون )) .
والجواب : أن يُقال : ما تذكره في هذه الغزاة وغيرها من الغزوات من المنقولات لا بد من ذكر إسناده أولا، وإلا فلو أراد إنسان أن يحتج بنقل لا يُعرف إسناده في جزرة بقل لا يقبل منه، فكيف يحتج به في مسائل الأصول؟!
ثم يقال : ثانيا : هذا من الكذب الواضح، فإن بني النضير هم الذين أنزل الله فيهم سورة الحشر باتفاق الناس، وكانوا من اليهود، وكانت قصتهم قبل الخندق وأُحد، ولم يذكر فيها مصافة ولا هزيمة ولا رمى أحد ثنية النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، وإنما أصيبت ثنيته يوم أُحد، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في غزاة بني النضير قد حاصرهم حصاراً شديداً، وقطعوا نخيلهم .
(فصل)(174/230)
قال الرافضي : (( وفي غزوة السلسلة جاء أعرابي فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جماعة من العرب قصدوا أن يكبسوا عليه بالمدينة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من للوائي؟ فقال أبو بكر : أنه له، فدفع إليه اللواء، وضم إليه سبعمائة، فلما وصل إليهم، قالوا : ارجع إلى صاحبك فإنّا في جمع كثير، فرجع، فقال في اليوم الثاني : من للوائي ؟ فقال عمر : أنا، فدفع إليه الراية، ففعل كالأول، فقال في اليوم الثالث أين عليّ ؟ فقال عليّ : أنا ذا يا رسول الله . فدفع إليه الراية، ومضى إلى القوم، ولقيهم بعد صلاة الصبح فقتل منهم ستة أو سبعة، وانهزم الباقون، وأقسم الله تعالى بفعل أمير المؤمنين فقال : { وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا } (1).
فالجواب : أن يُقال له : أجهل الناس يقول لك : بيّن لنا سند هذا، حتى نثبت أن هذا نقل صحيح. والعالم يقول له : إن هذه الغزاة – وما ذكر فيها – من جنس الكذب الذي يحكيه الطرقيّة، الذين يحكون الأكاذيب الكثيرة من سيرة عنترة، والبطّال، وإن كان عنترة له سيرة مختصرة، والبطّال له سيرة يسيرة، وهي ما جرى له في دولة بني أمية وغزوة الروم، لكن ولّدها الكذّابون حتى صارت مجلدات، وحكايات الشطّار، كأحمد الدنف، والزيبق المصري، وصاروا يحكون حكايات يختلقونها عن الرشيد وجعفر، فهذه الغزاة من جنس هذه الحكايات، لم يعرف في شيء من كتب المغازي والسير المعروفة عند أهل العلم ذكر هذه الغزاة، ولم يذكرها أئمة هذا الفن فيه، كموسى بن عقبة، وعُروة بن الزبير، والزهري، وابن إسحاق وشيوخه، ويحيى بن سعيد الأموي، والوليد بن مسلم، ومحمد بن عائذ، وغيرهم، ولا لها ذكر في الحديث، ولا نزل فيها شيء من القرآن .
__________
(1) الآية 1 من سورة العاديات .(174/231)
وبالجملة مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - لا سيما غزوات القتال – معروفة ومشهورة، مضبوطة متواترة عند أهل العلم بأحواله، مذكورة في كتب أهل الحديث والفقه والتفسير والمغازي والسير ونحو ذلك، وهي مما تتوفر الدواعي على نقلها، فيمتنع عادة وشرعا أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - غزاة يجري فيها مثل هذه الأمور لا ينقلها أحد من أهل العلم بذلك، كما يمتنع أن يكون قد فرض في اليوم والليلة أكثر من خمس صلوات، أو فرض في العام أكثر من صوم شهر رمضان ولم ينقل ذلك، وكما يمتنع أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غزا الفرس بالعراق، وذهب إلى اليمن، ولم ينقل ذلك أحد، وكما يمتنع أمثال ذلك مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله لو كان ذلك موجودا .
(فصل)
قال الرافضي : وقتل من بني المصطلق مالكا وابنه وسبى كثيرا، من جملتهم جويرة بنت الحارث بن أبي ضرار، فأصطفاها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاءها أبوها في ذلك اليوم، فقال : يا رسول الله : ابنتي كريمة لا تسبى، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يخيّرها، فقال : أحسنت وأجملت،ثم قال : يا بنيّة لا تفضحي قومك، قالت اخترت الله ورسوله )) .
والجواب أن يقال : أولا: لا بد من بيان إسناد كل ما يحتج به من المنقول، أو عزوه إلى كتاب تقوم به الحجة . وإلا فمن أين يُعلم أن هذا وقع ؟ ثم يقول من يعرف السيرة : هذا كله من الكذب، من أخبار الرافضة التي يختلقونها ؛ فإنه لم ينقل أَحَدٌ أن عليًّا فعل هذا في غزوة بني المصطلق، ولا سبى جُوَيْرية بنت الحارث، وهي لما سُبيت كاتبت على نفسها، فأدَّى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعُتقت من الكتابة، وأعتق الناس السبى لأجلها،وقالوا : أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقدم أبوها أصلاً ولا خيّرها .
(فصل)(174/232)
قال الرافضي : (( وفي غزوة خيبر كان الفتح فيها على يد أمير المؤمنين، ودفع الراية إلى أبي بكر فانهزم، ثم إلى عمر فانهزم، ثم إلى عليّ وكان أرمد، فتفل في عينيه، وخرج فقتل مرحبا،فانهزم الباقون، وغلقوا عليهم الباب، فعالجه أمير المؤمنين فعلقه ، وجعله جسراً على الخندق، وكان الباب يغلقه عشرون رجلا، ودخل المسلمون الحصن ونالوا الغنائم، وقال عليه السلام : والله ما قلعه بقوة خمسمائة رجل ولكن بقوة ربانية، وكان فتح مكة بواسطته)) .
والجواب : بعد أن يُقال : لعنة الله على الكاذبين، أن يُقال : من ذكر هذا من علماء النقل ؟ وأين إسناده وصحته ؟ وهو من الكذب ؛ فإن خيبر لم تُفتح كلها في يوم واحد، بل كانت حصوناً متفرقة، بعضها فُتح عنوة، وبعضها فُتح صلحا، ثم كتموا ما صالحهم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصاروا محاربين، ولم ينهزم فيها أبو بكر ولا عمر .
وقد رُوى أن عليًّا اقتلع باب الحصن، وأما جعله جسراً فلا .
وقوله : ((كان فتح مكة بواسطته )) .
من الكذب أيضاً ؛ فإن عليًّا ليس له في فتح مكة أثر أصلا، إلا كما لغيره ممن شهد الفتح .
والأحاديث الكثيرة المشهورة في غزوة الفتح تتضمن هذا . وقد عزم عليّ عَلَى قتل حموين لأخته أجارتهما أخته أم هانئ، فأجار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجارت . وقد هم بتزوج بنت أبي جهل، حتى غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - فتركه .
(فصل)
قال الرافضي : ((وفي غزاة حنين خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوجها في عشرة آلاف من المسلمين فعانهم أبو بكر، وقال لن نغلب اليوم من كثرة، فانهزموا، ولم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا تسعة من بني هاشم، وأيمن ابن أم أيمن، وكان أمير المؤمنين يضرب بين يديه بالسيف، وقتل من المشركين أربعين نفساً فانهزموا )) .
والجواب : بعد المطالبة بصحة النقل .(174/233)
أما قوله : ((فعانهم أبو بكر )) فكذب مفترى، وهذه كتب الحديث والسير والمغازي والتفسير لم يذكر أحد قوله : إن أبا بكر عانهم . واللفظ المأثور : لن نغلب اليوم من قلة . فإنه قد قيل : إنه قاله بعض المسلمين .
وكذلك قوله : (( لم يبق معه إلا تسعة من بني هاشم )) وهو كذب أيضا.
وقوله : ((إن عليًّا كان يضرب بالسيف، وإنه قتل أربعين نفساً )) .
فكل هذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث والمغازي والسير .
(فصل)
قال الرافضي : (( الخامس: إخباره بالغائب والكائن قبل كونه، فأخبر أن طلحة والزبير لما استأذناه في الخروج إلى العمرة قال : لا والله ما تريدان العمرة وإنما تريدان البصرة . وكان كما قال .
وأخبر هو بذي قار جالس لأخذ البيعة يأتيكم من قِبَل الكوفة ألف رجل لا يزيدون ولا ينقصون، يبايعونني على الموت، وكان كذلك، وكان آخرهم أُوَيْس القرني .
وأخبر بقتل ذي الثدية، وكان كذلك .
وأخبر شخص بعبور القوم في قصة النهروان، فقال : لن يعبروا، ثم أخبره آخر بذلك، فقال : لم يعبروا، وإنه – والله – لمصرعهم، فكان كذلك .
وأخبر بقتل نفسه الشريفة .
وأخبر شهربان بأن اللعين يقطع يديه ورجليه ويصلبه، ففعل به معاوية ذلك . وأخبر مِيثَم التَّمار بأنه يُصلب على باب دار عمرو بن حريث عاشر عاشرة، وهو أقصرهم خشبة، وأراه النخلة التي يُصلب عليها، فوقع كذلك .
وأخبر رُشَيْد الهجري بقطع يديه ورجليه، وصلبه، وقطع لسانه، فوقع.
وأخبر كُمَيْل بن زياد أن الحجاج يقتله، وأن قنبراً يذبحه الحجاج فوقع .
وقال للبراء بن عازب : إن ابنى الحُسَيْن يقتل ولا تنصره فكان كما قال، وأخبره .(174/234)
وأخبر بملك بني العباس، وأخذ الترك الملك منهم، فقال : ملك بني العباس يسير لا عسر فيه، لو اجتمع عليهم الترك والديلم والهند والبربر والطيلسان على أن يزيلوا ملكهم ما قدروا أن يزيلوه حتى يشذ عنهم مواليهم وأرباب دولتهم، ويُسلط عليهم مَلِكٌ من الترك يأتي عليهم من حيث بدأ ملكهم، لا يمر بمدينة إلا فتحها، ولا يُرفع له راية إلا نكَّسها، الويل ثم الويل لمن ناوأه، فلا يزال كذلك حتى يظفر بهم، ثم يدفع ظفره إلى رجل من عترتي يقول بالحق ويعمل به،ألا وإن الأمر كذلك حيث ظهر هولاكو من ناحية خُراسان، ومنه ابتدأ ملك بني العباس حتى بايع لهم أبو مسلم الخراساني )) .
والجواب : أن يُقال : أما الإخبار ببعض الأمور الغائبة فمن هو دون عليّ يخبر بمثل ذلك، فعليٌّ أجلُّ قدراً من ذلك . وفي أتباع أبي بكر وعمر وعثمان من يخبر بأضعاف ذلك، وليسوا ممن يصلح للإمامة، ولا هم أفضل أهل زمانهم، ومثل هذا موجود في زماننا وغير زماننا .
وحذيفة بن اليمان، وأبو هريرة، وغيرهما من الصحابة كانوا يحدّثون الناس بأضعاف ذلك . وأبو هريرة يسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحذيفة تارة يسنده وتارة لا يسنده، وإن كان في حكم المسند .
وما أخبر به هو وغيره قد يكون مما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد يكون مما كُوشف هو به . وعمر رضي الله عنه قد أخبر بأنواع من ذلك .
والكتب المصنّفة في كرامات الأولياء وأخبارهم، مثل ما في كتاب (( الزهد )) للإمام أحمد و(( حلية الأولياء)) و((صفوة الصفوة )) و((كرامات الأولياء )) لأبي محمد الخلاّل وابن أبي الدنيا واللالكائي فيها من الكرامات عن بعض أتباع أبي بكر وعمر، كالعلاء بن الحضرمي نائب أبي بكر، وأبي مسلم الخولاني بعض أتباعهما، وأبي الصهباء، وعامر بن عبد قيس، وغير هؤلاء ممن عَلِيٌّ أعظم منه، وليس في ذلك ما يدل على أنه يكون هو الأفضل من أحدٍ من الصحابة، فضلا عن الخلفاء .(174/235)
وهذه الحكايات التي ذكرها عن عليّ لم يذكر لشيء منها إسناداً، وفيها ما يعرف صحته، وفيها ما يعرف كذبه، وفيها ما لا يُعرف : هل هو صدق أم كذب ؟
فالخبر الذي ذكره عن مَلِك الترك كذب عَلَى عليّ ؛ فإنه لم يدفع ظفره إلى رجل من العترة، وهذا مما وضعه متأخروهم .
ودعوى الغلاة الذين كانوا يدعون علم عليّ بالمستقبلات مطلقا كذب ظاهر فالعلم ببعضها ليس من خصائصه، والعلم بها كلها لم يحصل له، ولا لغيره .
(فصل)
قال الرافضي : (( السادس : أنه كان مستجاب الدعاء . دعا على بُسر بن أرطأة بأن يسلبه الله عقله فخُولط فيه، ودعا على العَيْزَار بالعمى فعمى، ودعا على أنس لما كتم شهادته بالبَرَص فأصابه، وعلى زيد بن أرقم بالعمى فعمى )) .
والجواب : أن هذا موجود في الصحابة أكثر منه، وممن بعد الصحابة، مادام في الأرض مؤمن . وكان سعد بن أبي وقاص لا تخطئ له دعوة . وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((اللهم سدد رميته وأجب دعوته ))(1) . وفي صحيح مسلم أن عمر لما أرسل إلى الكوفة من يسأل عن سعد، فكان الناس يثنون خيراً، حتى سُئل عنه رجل من بني عبس فقال : أما إذ أنشدتمونا سعدا، فكان لا يخرج في السريّة، ولا يعدل في الرعيّة، ولا يقسم بالسويّة . فقال سعد: (( اللهم إن كان كاذباً، قام رياء وسمعة، فأطل عمره، وعظّم فقره، وعرضه للفتن )) فكان يرى وهو شيخ كبير، تدلّى حاجباه من الكبر، يتعرض للجواري يغمزهن في الطرقات، ويقول : (( شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد ))(2) .
مع أن هذه القصص المذكورة عن عليّ لم يذكر لها إسنادا، فتتوقف على معرفة الصحة، مع أن فيها ما هو كذب لا ريب فيه، كدعائه على أنس بالبَرَص، ودعائه على زيد بن أرقم بالعمى .
(فصل)
__________
(1) قال المحب الطبري أخرجه أبو عمر وأبو الفرج في الصفوة انظر الرياض ج4 ص 324 . رواه الحاكم في المستدرك ج3 ص500 .
(2) مسلم ج1 ص 334 .(174/236)
قال الرافضي : (( السابع : إنه لما توجّه إلى صفِّين لحق أصحابه عَطَشٌ، فعَدَل بهم قليلا، فلاح لهم دير، فصاحوا بساكنه، فسألوه عن الماء، فقال : بيني وبينه أكثر من فرسخين، ولولا أني أوتى ما يكفيني كل شهر على التقتير لتلفت عطشا، فأشار أمير المؤمنين إلى مكان قريب من الدير، وأمر بكشفه، فوجدوا صخرة عظيمة، فعجزوا عن إزالتها، فقلعها وحده، ثم شربوا الماء، فنزل إليهم الراهب، فقال : أنت نبي مرسل أو مَلَك مقرب ؟ فقال : لا، ولكني وصيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلم على يده، وقال : إن هذا الدير بُنى على طالب هذه الصخرة، ومخرج الماء من تحتها، وقد مضى جماعة قبلي لم يدركوه. وكان الراهب من جملة من استشهد معه، ونظم القصة السيد الحميري في قصيدته )) .
والجواب : أن هذا من جنس أمثاله من الأكاذيب التي يظنها الجهّال من أعظم مناقب عليّ، وليست كذلك . بل الذي وضع هذه كان جاهلا بفضل عليّ، وبما يستحقه من الممادح ؛ فإن الذي فيه من المنقبة أنه أشار إلى صخرةٍ فوجدوا تحتها الماء، وأنه قلعها .
ومثل هذا يجري لخلق كثير، عليّ رضي الله عنه أفضل منهم، بل في المحبّين لأبي بكر وعمر وعثمان من يجري لهم أضعاف هذا، وأفضل من هذا وهذا، وإن كان جرى على يد بعض الصالحين كان نعمة من الله وكرامة له، فقد يقع في مثل ذلك لمن ليس من الصالحين كثيراً .
وأما سائر ما فيها، مثل قوله : (( إن هذا الدير بني على طالب هذه الصخرة، ومخرج الماء من تحتها )) .
فليس هذا من دين المسلمين، وإنما تُبنى الكنائس والديّارات والصوامع على أسماء المقتدية بسير النصارى، فأما المسلمون فلا يبنون معابدهم – وهي المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه – إلا على اسم الله، لا على اسم مخلوق .(174/237)
وما فيه من قول علي : (( ولكنى وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) هو مما يبين أنه كذب عَلَى علي، وأن علياً لم يدع هذا قط لا في خلافة الثلاثة و لالا ليالي صفين .
(فصل)
قال الرافضي : (( الثامن : ما رواه الجمهور : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى بني المصطلق، حيث خرجوا عن الطريق، وأدركه الليل، بقرب وادٍ وعر، فهبط جبريل وأخبره أن طائفة من كفّار الجن قد استنبطوا الوادي يريدون كيده وإيقاع الشر بأصحابه، فدعا بعليّ وعوَّذه، وأمره بنزول الوادي، فقتلهم )) .
والجواب : أن يقال : أولا : عليّ أجلّ قدرا من هذا، وإهلاك الجن موجود لمن هو دون عليّ، لكن هذا الحديث من الأحاديث المكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى عليّ عند أهل المعرفة بالحديث، ولم يجر في غزوة بني المصطلق شيء من هذا .
وقوله : (( إن هذا رواه الجمهور)) إن أُريد بذلك أنه مروى بإسناد ثابت، أو في كتاب يُعتمد على مجرد نقله، أو صححه من يرجع إلى تصحيحه فليس كذلك .
و إن أراد أن جمهور العلماء رووه، فهذا كذب . وإن أراد أنه رواه من لا يقوم بروايته حجة ؛ فهذا لا يفيد .
(فصل)
قال الرافضي : (( التاسع : رجوع الشمس له مرتين : إحداهما : في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - . والثانية : بعده . أما الأولى فروى جابر وأبو سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل عليه جبريل يوماً يناجيه من عند الله، فلما تغشّاه الوحي توسّد فخذ أمير المؤمنين ، فلم يرفع رأسه حتى غابت الشمس، فصلّى عليّ العصر بالإيماء، فلما استيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : سل الله تعالى يرد عليك الشمس لتصلي العصر قائما، فدعا، فرُدت الشمس، فصلّى العصر قائما .(174/238)
وأما الثانية : فلما أراد أن يعبر الفرات ببابل اشتغل كثير من أصحابه بتعبير دوابهم، وصلَّى لنفسه في طائفة من أصحابه العصر، وفات كثير منهم، فتكلّموا في ذلك، فسأل الله رد الشمس فردت . ونظمه الحميري فقال :
رُدت عليه الشمس لما فاتَهُ وقتُ الصلاةِ وقد دنت للمَغْربِ
حتى تبلَّجَ نورُهَا في وقتِها للعصر ثم هَوَتْ هُوِيَّ الكوكبِ
وعليه قد رُدَّت ببابل مرةً أُخرى وما رُدت لخَلْقٍ مُعْرِبِ
والجواب : أن يُقال : فضل عليّ وولايته لله وعلو منزلته عند الله معلوم، ولله الحمد، من طرق ثابتة أفادتنا العلم اليقيني، لا يُحتاج معها إلى كذب ولا إلى ما لا يُعلم صدقه . وحديث رد الشمس له قد ذكره طائفة، كالطحاوي والقاضي عياض وغيرهما، وعدُّوا ذلك من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - . لكنْ المحققون من أهل العلم والمعرفة بالحديث يعلمون أن هذا الحديث كذب موضوع، كما ذكره ابن الجوزي في كتاب (( الموضوعات)) .
قال أبو الفرج هذا حديث موضوع بلا شك وقد اضطرب الرواة فيه .
وأما الثاني ببابل فلا ريب أن هذا كذب وإنشاد الحميري لا حجة فيه لأنه لم يشهد ذلك والكذب قديم وقد سمعه فنظمه وأهل الغلو في المدح والذم ينظمون ما لا تتحقق صحته لا سيما والحميري معروف بالغلو فإن الذي فاتته العصر . إن كان مفرّطاً لم يسقط ذنبه إلا بالتوبة ومع التوبة لا يحتاج إلى ردّ وإن لم يكن مفرطاً كالنائم والناسي فلا ملام عليه في الصلاة بعد الغروب .
وأيضاً فمثل هذه القضية من الأمور العظام الخارجة عن العادة التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها فإذا لم ينقلها إلا الواحد والاثنان علم بيان كذبهم في ذلك .
(فصل)(174/239)
قال الرافضي : (( العاشر : ما رواه أهل السير : أن الماء زاد بالكوفة، وخافوا الغرق، ففزعوا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فركب بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخرج الناس معه، فنزل على شاطئ الفرات فصلّى، ثم دعا وضرب صفحة الماء بقضيب كان في يده، فغاص الماء، فسلم عليه كثير من الحيتان، ولم ينطق الجرِّيُّ ولا المرماهى، فسئل عن ذلك، فقال : أنطق الله ما طهّره من السمك، وأسكت ما أنجسه وأبعده )) .
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بأن يقال : أين إسناد هذه الحكاية الذي يدل على صحتها وعلى ثبوتها ؟ وإلا فمجرد الحكايات المرسلة بلا إسناد، يقدر عليه كل أحد، لكن لا يفيد شيئاً .
الثاني :أن بغلة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن عنده .
الثالث :أن هذا لم ينقله أحد من أهل الكتب المعتمد عليهم . ومثل هذه القصة لو كانت صحيحة لكانت مما تتوفر الهمم والدواعي على نقلها . وهذا الناقل لم يذكر لها إسناداً فكيف يُقبل ذلك بمجرد حكاية لا إسناد لها؟!
الرابع : أن السمك كله مباح، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في البحر : (( هو الطهور ماؤه، الحلّ ميتته )) .
وقد قال تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وِللسَّيَّارَةِ } (1).
وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على حلّ السمك كله . وعليٌّ مع سائر الصحابة يحلّون هذه الأنواع، فكيف يقولون : إن الله أنجسه ؟!
ولكن الرافضة جهّال يحرّمون ما أحل الله بمثل هذه الحكاية المكذوبة .
(فصل)
__________
(1) الآية 96 من سورة المائدة .(174/240)
قال الرافضي : (( الحادي عشر: روى جماعة أهل السير أن عليًّا كان يخطب على منبر الكوفة، فظهر ثعبان فرقى المنبر، وخاف الناس، وأرادوا قتله، فمنعهم، فخاطبه، ثم نزل . فسأل الناس عنه، فقال : إنه حاكم الجن، التبست عليه قصة، فأوضحتها له . وكان أهل الكوفة يسمّون الباب الذي دخل منه الثعبان : (( باب الثعبان )) فأراد بنو أمية إطفاء هذه الفضيلة، فنصبوا على ذلك الباب قتلى مدة حتى سمى باب القتل )) .
والجواب : أنه لا ريب أن من دون عليّ بكثير تحتاج الجن إليه وتستفتيه وتسأله، وهذا معلوم قديماً وحديثاً، فإن كان هذا قد وقع، فقدره أجلّ من ذلك . وهذا من أدنى فضائل من هو دونه . وإن لم يكن وقع، لم ينقص فضله بذلك .
وإنما يحتاج أن يثبت فضيلة عليّ بمثل هذه الأمور من يكون مجدبا منها، فأمّا من باشر أهل الخير والدين، الذين لهم أعظم من هذه الخوارق، أو رأى في نفسه ما هو أعظم من هذه الخوارق، لم يكن هذا مما يوجب أن يُفضَّل بها عليّ .
(فصل)
قال الرافضي: (( الفصل الرابع في إمامة باقي الأئمة الاثنى عشر . لنا في ذلك طرق : أحدها : النصّ . وقد توارثته الشيعة في البلاد المتباعدة، خلفاً عن سلف، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال للحسين : (( هذا إمام ابن إمام أخو إمام، أبو أئمة تسعة، تاسعهم قائمهم، اسمه كاسمي، وكنيته كنيتي، يملأ الأرض عدلا وقسطاً، كما ملئت جوراً وظلماً )) .
والجواب من وجوه : أحدها : أن يُقال : أولا : هذا كذب على الشيعة ؛ فإن هذا لا ينقله إلا طائفة من طوائف الشيعة، وسائر طوائف الشيعة تكذّب هذا . والزيدية بأسرها تكذّب هذا، وهم أعقل الشيعة وأعلمهم وخيارهم . والإسماعيلية كلهم يكذّبون بهذا، وسائر فرق الشيعة تكذب بهذا، إلا الأثنى عشرية، وهم فرقة من نحو سبعين فرقة من طوائف الشيعة .(174/241)
وبالجملة فالشيعة فرق متعددة جدا، وفرقهم الكبار أكثر من عشرين فرقة، كلهم تكذّب هذا إلا فرقة واحدة، فأين تواتر الشيعة ؟!
الثاني : أن يُقال : هذا معارض بما نقله غير الاثنى عشرية من الشيعة من نصّ آخر يناقض هذا، كالقائلين بإمامة غير الاثنى عشر، وبما نقله الرواندية أيضا ؛ فإن كلا من هؤلاء يدّعي من النص غير ما تدعيه الاثنا عشرية .
الثالث : أن يُقال : علماء الشيعة متقدمون ليس فيهم من نقل هذا النص، ولا ذكره في كتاب، ولا احتج به في خطاب . وأخبارهم مشهورة متواترة، فعلم أن هذا من اختلاق المتأخرين، وإنما اختُلق هذا لما مات الحسن بن عليّ العسكري، وقيل : إن ابنه محمداً غائب، فحينئذ ظهر هذا النص، بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأكثر من مائتين وخمسين سنة .
الرابع : أن يُقال : أهل السنة وعلماؤهم أضعاف أضعاف الشيعة، كلهم يعلمون أن هذا كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علماً يقينياً لا يخالطه الريب، ويباهلون الشيعة على ذلك، كعوام الشيعة مع عليّ . فإن ادّعى علماء الشيعة أنهم يعلمون تواتر هذا، لم يكن هذا أقرب من دعوى علماء السنة بكذب هذا .
الخامس : أن يُقال : إن من شرط التواتر حصول من يقع به العلم من الطرفين والوسط . وقبل موت الحسن بن عليّ العسكري لم يكن أحد يقول بإمامة هذا المنتظر، ولا عُرف من زمن عليّ ودولة بني أميّة أحدٌ ادّعى إمامة الاثنى عشر وهذا القائم . وإنما كان المدَّعون يدَّعون النصّ على عليّ، أو على ناسٍ بعده . وأما دعوى النص على الاثنى عشر وهذا القائم فلا يُعرف أحد قاله متقدماً، فضلاً عن أن يكون نقله متقدماً .
الوجه السادس : أن يُقال : قد علم أهل العلم أن أول ما ظهرت الشيعة الإمامية المدّعية للنص في أواخر أيام الخلفاء الراشدين . وافترى ذلك عبد الله بن سبأ وطائفته الكذّابون، فلم يكونوا موجودين قبل ذلك . فأي تواتر لهم ؟!(174/242)
السابع : أن الأحاديث التي نقلها الصحابة في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان أعظم تماماً عند العامة والخاصة من نقل هذا النص . فإن جاز أن يُقدح في نقل جماهير الصحابة لتلك الفضائل، فالقدح في هذا أَوْلى . وإن كان القدح في هذا معتذراً ففي تلك أَوْلى . وإذا ثبتت فضائل الصحابة التي دلّت عليها تلك النصوص الكثيرة المتواترة، امتنع اتفاقهم على مخالفة هذا النصّ، فإن مخالفته – لو كان حقاًّ – من أعظم الإثم والعدوان .
الثامن : أنه ليس أحد من الإمامية ينقل هذا النص بإسناد متصل، فضلا عن أن يكون متواترا . وهذه الألفاظ تحتاج إلى تكرير، فإن لم يدرس ناقلوها عليها لم يحفظوها، وأين العدد الكبير الذين حفظوا هذه الألفاظ كحفظ ألفاظ القرآن، وحفظ التشهد والأذان، جيلا بعد جيل إلى الرسول ؟
ونحن إذا ادّعينا التواتر في فضائل الصحابة : ندّعى تارة التواتر من جهة المعنى، كتواتر خلافة الخلفاء الأربعة، ووقعة الجمل وصفّين، وتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعائشة وعليّ بفاطمة، ونحو ذلك مما لا يحتاج فيه إلى نقل لفظ معين يحتاج إلى درس، كتواتر ما للصحابة من السابقة والأعمال وغير ذلك . وتارة التواتر في نقل ألفاظ حفظها من يحصل العلم بنقله .
الوجه التاسع : أن المنقول بالنقل المتواتر عن أهل البيت يكذّب مثل هذا النقل، وأنهم لم يكونوا يدّعون أنهم منصوص عليهم، بل يكذّبون من يقول ذلك، فضلا عن أن يثبتوا النص على اثنى عشر .
(فصل)
وأما الحديث الذي رواه : عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( يخرج في آخر الزمان رجلٌ من ولدي اسمه كاسمي، وكنيته كنيتي، يملأ الأرض عدلا كما ملئت جوراً، وذلك هو المهدي )) .
فالجواب : أن الأحاديث التي يحتجّ بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة، رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم، من حديث ابن مسعود وغيره .(174/243)
كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه ابن مسعود : (( لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم لطوّل الله ذلك اليوم، حتى يخرج فيه رجل منّي، أو من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً )) . رواه الترمذي وأبو داود من رواية أم سلمة(1) .
وأيضا فيه : (( المهدي من عترتي من ولد فاطمة )) . رواه أبو داود من طريق أبي سعيد، وفيه : (( يملك الأرض سبع سنين )) .
ورواه عن عليّ رضي الله عنه أنه نظر إلى الحسن وقال : (( إن ابني هذا سيد، كما سمّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسيخرج من صلبه رجل يُسمَّى باسم نبيكم، يشبهه في الخُلُق ولا يشبهه في الخَلْق، يملأ الأرض قسطا(2) .
وهذه الأحاديث غلط فيها طوائف : طائفة أنكروها، واحتجّوا بحديث ابن ماجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا مهدي إلا عيسى بن مريم ))(3) وهذا الحديث ضعيف، وقد اعتمد محمد بن الوليد البغدادي وغيره عليه وليس مما يعتمد عليه، ورواه ابن ماجة عن يونس عن الشافعي، والشافعي رواه عن رجل من أهل اليمن، يُقال له : محمد بن خالد الجَنَدِيّ، وهو ممن لا يحتج به . وليس هذا في مسند الشافعي، وقد قيل : إن الشافعي لم يسمعه من الجَنَدي، وأن يونس لم يسمعه من الشافعي .
الثاني : أن الاثنى عشرية الذين ادّعوا أن هذا هو مهديهم، مهديهم اسمه محمد بن الحسن . والمهدي المنعوت الذي وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - اسمه محمد بن عبد الله .
(فصل)
قال الرافضي : (( الثاني : أنّا قد بينّا أنه يجب في كل زمان إمام معصوم، ولا معصوم غير هؤلاء إجماعا )) .
والجواب من وجوه : أحدها : منع المقدمة الأولى كما تقدّم .
__________
(1) انظر السنن لأبي داود 4/151 – 153 وانظر ابن ماجة ج2 ص 1368 والترمذي ج4 ص 505 الحديث رقم 2230 .
(2) انظر سنن أبي داود ج4 ص 153 .
(3) انظر سنن ابن ماجة ج2 ص 1340 – 1341 .(174/244)
والثاني : منع طوائف لهم المقدمة الثانية .
الثالث : أن هذا المعصوم الذي يدّعونه في وقتٍ ما، له مُذ وُلد عندهم أكثر من أربعمائة وخمسين سنة ؛ فإنه دخل السرداب عندهم سنة ستين ومائتين، وله خمس سنين عند بعضهم، وأقل من ذلك عند آخرين، ولم يظهر عنه شيء مما يفعله أقل الناس تأثيراً، مما يفعله آحاد الولاة والقضاة والعلماء، فضلا عمّا يفعله الإمام المعصوم . فأي منفعة للوجود في مثل هذا لو كان موجوداً ؟ فكيف إذا كان معدوماً ؟!
(فصل)
قال الرافضي : (( الثالث : الفضائل التي اشتمل كل واحد منهم عليها الموجبة لكونه إماما )) .
والجواب من وجوه : أحدها : أن تلك الفضائل غايتها أن يكون صاحبها أهلاً أن تُعقد له الإمامه، لكنه لا يصير إماما بمجرد كونه أهلا، كما أنه لا يصير الرجل قاضيا بمجرد كونه أهلا لذلك .
الثاني : أن أهليّة الإمامة ثابتة لآخرين من قريش كثبوتها لهؤلاء، وهم أهل أن يتولّوا الإمامة، فلا موجب للتخصيص، ولم يصيروا بذلك أئمة.
الثالث : أن الثاني عشر منهم معدوم عند جمهور العقلاء، فامتنع أن يكون إماما .
الرابع : أن العسكريّين ونحوهما من طبقة أمثالهما لم يُعلم لهما تبريز في علمٍ أو دين كما عرف لعليّ بن الحسين، وأبي جعفر، وجعفر بن محمد .
(فصل)
قال الرافضي : (( الفصل الخامس : أن من تقدّمه(1) لم يكن إماما . ويدل عليه وجوه )) .
قلت : والجواب : أنّه إن أريد بذلك أنهم لم يتولّوا على المسلمين، ولم يبايعهم المسلمون، ولم يكن لهم سلطان يقيمون به الحدود، ويوفون به الحقوق، ويجاهدون به العدو، ويصلّون بالمسلمين الجمع والأعياد، وغير ذلك مما هو داخل في معنى الإمامة – فهذا بُهت ومكابرة . فإن هذا أمر معلوم بالتواتر، والرافضة وغيرهم يعلمون ذلك، ولو لم يتولوا الإمامة لم تقدح فيهم الرافضة .
__________
(1) يعني عليّ بن أبي طالب .(174/245)
لكن هم يطلقون ثبوت الإمامة وانتفاءها ولا يفصِّلون : هل المراد ثبوت نفس الإمامة ومباشرتها ؟ أو نفس استحقاق ولاية الإمامة ؟
ويطلقون لفظ (( الإمام )) على الثاني، ويوهمون أنه يتناول النوعين . وإن أُريد بذلك أنهم لم يكونوا يصلحون للإمامة، وأن عليًّا كان يصلح لها دونهم، أو أنه كان أصلح لها منهم – فهذا كذب، وهو مورد النزاع.
ونحن نجيب في ذلك جواباً عامّا كلياّ، ثم نجيب بالتفصيل .
أما الجواب العام الكلّي، فنقول : نحن عالمون بكونهم أئمة صالحين للإمامة علماً يقينيا قطعيا، وهذا لا يتنازع فيه اثنان من طوائف المسلمين غير الرافضة، بل أئمة الأمة وجمهورها يقولون : إنّا نعلم أنهم كانوا أحق بالإمامة، بل يقولون : إنّا نعلم أنهم كانوا أفضل الأمة .
وهذا الذي نعلمه ونقطع به ونجزم به لا يمكن أن يُعارض بدليل قطعي ولا ظنّي .
أما القطعيّ : فلأن القطعيات لا يتناقض موجبها ومقتضاها . وأما الظنيّات : فلأن الظنّي لا يُعارض القطعي .
وجملة ذلك أن كل ما يورده القادح فلا يخلو من أمرين : إما نقلٌ لا نعلم صحته، أو لا نعلم دلالته على بطلان إمامتهم، وأي المقدمتين لم يكن معلوما لم يصلح لمعارضة ما عُلم قطعا .
وإذا قام الدليل القطعيّ على ثبوت إمامتهم، لم يكن علينا أن نجيب عن الشُّبَه المفصِّلة، كما أن ما علمناه قطعا لم يكن علينا أن نجيب عمّا يعارضه من الشبه السوفسطائية .
وليس لأحد أن يدفع ما عُلم يقيناً بالظن، سواء كان ناظراً أو مناظراً . بل إن تبيّن له وجه فساد الشبهة وبيّنه لغيره، كان ذلك زيادة علم ومعرفة وتأييد للحق في النظر والمناظرة، وإن لم يتبين ذلك لم يكن له أن يدفع اليقين بالشك . وسنبين إن شاء الله تعالى الأدلة الكثيرة على استحقاقهم للإمامة، وأنهم كانوا أحقَّ بها من غيرهم .
(فصل)(174/246)
قال الرافضي : الأول : (( قول أبي بكر : إن لي شيطاناً يعتريني، فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوّموني . ومن شأن الإمام تكميل الرعية، فكيف يُطلب منهم الكمال ؟ )) .
والجواب من وجوه : أحدها : أن المأثور عنه أنه قال : (( إن لي شيطاناً يعتريني )) يعني عند الغضب (( فإذا اعتراني فاجتنبوني لا أؤثر في أبشاركم )) . وقال : (( أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم )) وهذا الذي قاله أبو بكر رضي الله عنه من أعظم ما يُمدح به، كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى .
الثاني : أن الشيطان الذي يعتريه قد فُسِّر بأنه يعرض لابن آدم عند الغضب، فخاف عند الغضب أن يعتدي على أحدٍ من الرعيّة، فأمرهم بمجانبته عند الغضب .
كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان ))(1) فنهى عن الحكم عند الغضب، وهذا هو الذي أراده أبو بكر : أراد أن لا يحكم وقت الغضب، وأمرهم أن لا يطلبوا منه حكماً، أو يَحْمِلوه على حكمٍ في هذه الحال . وهذا من طاعته لله ورسوله .
الثالث : أن يُقال : الغضب يعتري بني آدم كلهم، حتى قال سيد ولد آدم: (( اللهم أنا بشر أغضب كما يغضب البشر، وإني اتخذت عندك عهداً لن تخلفنيه :أيّما مؤمن آذيته أو سَبَبْتُه أو جلدته فاجعلها له كفّارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة )) . أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة(2) .
__________
(1) انظر البخاري ج9 ص65 ومسلم ج3 ص 1342- 1343 .
(2) البخاري ج8 ص 77 – ومسلم ج4 ص 2008 .(174/247)
وأما قوله(( فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوّموني )) فهذا من كمال عدله وتقواه، وواجب على كل إمام أن يُقتدى به في ذلك، وواجب على الرعيّة أن تعامل الأئمة بذلك . فإن استقام الإمام أعانوه على طاعة الله تعالى، وإن زاغ وأخطأ بيّنوا له الصّواب ودلّوه عليه، وإن تعمّد ظلماً منعوه منه بحسب الإمكان، فإذا كان منقاداً للحق، كأبي بكر فلا عذر لهم في ترك ذلك، وإن كان لا يمكن دفع الظلم إلا بما هو أعظم فساداً منه، لم يدفعوا الشر القليل بالشر الكثير .
وأما قول الرافضي : (( ومن شأن الإمام تكميل الرعية، فكيف يطلب منهم التكميل ؟ )) .
عنه أجوبة : أحدها : أنّا لا نسلّم أن الإمام يكمّلهم وهم لا يكمّلونه أيضا، بل الإمام والرعية يتعاونون على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان، بمنزلة أمير الجيش والقافلة والصلاة والحج، والدين قد عرف بالرسول، فلم يبق عند الإمام دين ينفرد به، ولكن لا بد من الاجتهاد في الجزئيات، فإن كان الحق فيها بيِّنًا أمر به، وإن كان متبيِّناً للإمام دونهم بيّنه لهم، وإن تبيَّن لأحد من الرعية دون الإمام بيّنه له، وإن اختلف الاجتهاد فالإمام هو المتَّبَع في اجتهاده، إذ لا بد من الترجيح، والعكس ممتنع .
الثاني : أن هذا الكلام من أبي بكر ما زاده عنده الأمة إلا شرفا وتعظيما، ولم تعظِّم الأمة أحداً بعد نبيِّها كما عظَّمت الصديق، ولا أطاعت أحداً كما أطاعته، من غير رغبة أعطاهم إياها، ولا رهبة أخافهم بها، بل الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة بايعوه طوعاً، مقرِّين بفضيلته واستحقاقه . ثم مع هذا لم نعلم أنهم اختلفوا في عهده في مسألة واحدة في دينهم إلا وأزال الاختلاف ببيانه لهم، ومراجعتهم له . وهذا أمر لا يشركه فيه غيره .
وكان عمر أقرب إليه في ذلك، ثم عثمان .(174/248)
وأما عليّ فقاتلهم وقاتلوه، فلا قوّمهم ولا قوّموه، فأي الإمامين حصل به مقصود الإمامة أكثر ؟ وأي الإمامين أقام الدين، ورد المرتدين، وقاتل الكافرين، واتفقت عليه الكلمة، كلمة المؤمنين ؟ هل يشبِّه هذا بهذا إلا من هو في غاية النقص من العقل والدين ؟!
(فصل)
قال الرافضي : (( الثاني : قول عمر : كانت بيعة أبي بكر فلتة، وَقَى الله المسلمين شرّها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه . وكونها فلتة يدلّ على أنها لم تقع عن رأي صحيح، ثم سأل الله وقاية شرّها، ثم أمر بقتل من يعود إلى مثلها، وكان ذلك يوجب الطعن فيه )) .
والجواب : أن لفظ عمر ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس، من خطبة عمر التي قال فيها : (( ثم إنه قد بلغني أن قائلا منكم يقول : (( والله لو مات عمر بايعت فلانا )) فلا يغترنَّ امرؤٌ أن يقول : إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن قد وَقَى الله شرّها، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر،ومن بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرَّة أن يقتلا، وإنه كان من خبرنا حين توفّى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الحديث وفيه : أن الصديق قال : (( وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم . فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها، كان – والله – أن أقدّم فيُضرب عنقي لا يقرِّبني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمّر على قومٍ فيهم أبو بكر، اللهم إلاّ أن تسول لي نفسي شيئا عند الموت لا أجده الآن )) وقد تقدّم الحديث بكماله(1) .
__________
(1) تقدم تخريجه ص 473 .(174/249)
ومعنى ذلك أنها وقعت فجأة لم تكن قد استعددنا لها وتهيأنا، لأن أبا بكر كان متعيّنا لذلك، فلم يكن يحتاج في ذلك إلى أن يجتمع لها الناس، إذ كلهم يعلمون أنه أحق بها، وليس بعد أبي بكر من يجتمع الناس على تفضيله واستحقاقه كما اجتمعوا على ذلك في أبي بكر، فمن أراد أن ينفرد ببيعة رجل دون ملأ من المسلمين فاقتلوه . وهو لم يسأل وقاية شرّها، بل أخبر أن الله وَقَى شر الفتنة بالاجتماع .
(فصل)
قال الرافضي : (( الثالث : قصورهم في العلم والتجاؤهم في أكثر الأحكام إلى عليّ )) .
والجواب : أن هذا من أعظم البهتان . أما أبو بكر فما عُرف أنه استفاد من عليّ شيئا أصلا . وعليٌّ قد رَوَى عنه واحتذى حذوه واقتدى بسيرته . وأما عمر فقد استفاد عليٌّ منه أكثر مما استفاد عمر منه . وأما عثمان فقد كان أقل علماً من أبي بكر وعمر، ومع هذا فما كان يحتاج إلى عليّ، حتى أن بعض الناس شكا إلى عليّ بعض سعاة عمّال عثمان، فأرسل إليه بكتاب الصدقة، فقال عثمان : لا حاجة لنا به .
وصدَق عثمان ؛ وهذه فرائض الصدقة ونصبها التي لا تعلم إلا بالتوقيف فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي من أربع طرق : أصحها عند علماء المسلمين كتاب أبي بكر الذي كتبه لأنس بن مالك . وهذا هو الذي رواه البخاري(1) ، وعمل به أكثر الأئمة . وبعده كتاب عمر(2) .
وأما الكتاب المنقول عن عليّ ففيه أشياء لم يأخذ بها أحد من العلماء، مثل قوله : (( في خمس وعشرين خُمس شاة )) فإن هذا خلاف النصوص المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولهذا كان ما رُوى عن عليّ : إما منسوخ، وإما خطأ في النقل .
__________
(1) انظر البخاري 2/116 وغيره .
(2) انظر سنن أبي داود 2/132 .(174/250)
والرابع كتاب عمرو بن حزم، كان قد كتبه لمّا بعثه إلى نجران . وكتاب أبي بكر هو آخر الكتب، فكيف يقول عاقل : إنهم كانوا يلجأون إليه في أكثر الأحكام، وقضاته لم يكونوا يلجؤون إليه، بل كان شريح القاضي وعبيدة السلماني ونحوهما من القضاة الذين كانوا في زمن عليّ يقضون بما تعلّموه من غير عليّ .
(فصل)
قال الرافضي : (( الرابع : الوقائع الصادرة عنهم، وقد تقدّم أكثرها )).
قلنا : الجواب قد تقدّم عنها مجملا ومفصلا . وبيان الجواب عمّا يُنكر عليهم أيسر من الجواب عمّا ينكر عَلَى عليّ، وأنه لا يمكن أحد له علمٌ وعدل أن يحرّجهم ويزكّي عليًّا، بل متى زكّى عليًّا كانوا أوْلى بالتزكية، وإن جرَّحهم كان قد طرق الجرح إلى عليّ بطريق الأَوْلى .
والرافضة إن طردت قولها لزمها جرح عليّ أعظم من جرح الثلاثة، وإن لم تطرده تبيّن فساده وتناقضه، وهو الصواب .
(فصل)
قال الرافضي : (( الخامس: قوله تعالى : { { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } (1) أخبر بأن عهد الإمامة لا يصل إلى الظالم . والكافر ظالم لقوله : { وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (2) . ولا شك في أن الثلاثة كانوا كفَّارا يعبدون الأصنام، إلى أن ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - )) .
والجواب من وجوه : أحدها : أن يُقال : الكفر الذي يعقبه الإيمان الصحيح لم يبق على صاحبه منه ذم . هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، بل من دين الرسل كلهم .
__________
(1) الآية 124 من سورة البقرة .
(2) الآية 254 من سورة البقرة .(174/251)
كما قال تعالى : { { قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } } (1) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : (( إن الإسلام َيجُبُّ ما قبله )) – وفي لفظ: (( يهدم ما كان قبله، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن الحج يهدم ما كان قبله ))(2) .
الثاني : أنه ليس كل من وُلِد على الإسلام بأفضل ممن أسلم بنفسه، بل قد ثبت بالنصوص المستفيضة أن خير القرون القرن الأول، وعامتهم أسلموا بأنفسهم بعد الكفر، وهم أفضل من القرن الثاني الذين وُلدوا على الإسلام .
والرافضة لهم في هذا الباب قولٌ فارقوا به الكتاب والسنّة وإجماع السلف ودلائل العقول، والتزموا لأجل ذلك ما يُعلم بطلانه بالضرورة، كدعواهم إيمان آزر، وأبوى النبي وأجداده وعمّه أبي طالب وغير ذلك .
الثالث : أن يُقال : قبل أن يبعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يكن أحدٌ مؤمنا من قريش : لا رجل ولا صبيّ ولا امرأة، ولا الثلاثة، ولا عليّ . وإذا قيل عن الرجال : إنهم كانوا يعبدون الأصنام، فالصبيان كذلك : عليّ وغيره .
الرابع : أن من قال : إن المسلم بعد إيمانه كافر، فهو كافر بإجماع المسلمين . فكيف يقال عن أفضل الخلق إيماناً : إنهم كفّار لأجل ما تقدم.
(فصل)
قال الرافضي : (( السادس : قول أبي بكر : (( أقيلوني فلست بخيركم، ولو كان إماما لم يجز له طلب الإقالة )) .
والجواب : أن هذا : أولا : كان ينبغي أن يبيّن صحته، وإلا فما كل منقول صحيح . والقدح بغير الصحيح لا يصح .
__________
(1) الآية 38 من سورة الأنفال .
(2) انظر المسند ج4 ص 199،204، 205 .(174/252)
وثانيا : إن صح عن أبي بكر لم تجز معارضته بقول القائل : الإمام لا يجوز له طلب الإقالة ؛ فإن هذه دعوى مجردة لا دليل عليها، فلم لا يجوز له طلب الإقالة إن كان قال ذلك ؟ بل إن كان قاله لم يكن معنا إجماع على نقيض ذلك ولا نصّ، فلا يجب الجزم بأنه باطل . وإن لم يكن قاله فلا يضرّ تحريم هذا القول .
(فصل)
قال الرافضي : (( السابع : قول أبي بكر عند موته : ليتني كنت سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل للأنصار في هذا الأمر حق ؟ وهذا يدلّ على شكّه في صحة بيعة نفسه، مع أنه الذي دفع الأنصار يوم السقيفة لما قالوا : منا أمير ومنكم أمير، بما رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : الأئمة من قريش )) .
والجواب : أما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( الأئمة من قريش ))(1) فهو حق، ومن قال : إن الصدّيق شك في هذا، أو في صحة إمامته فقد كذب .
ومن قال : إن الصديق قال : ليتني كنت سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - : هل للأنصار في الخلافة نصيب ؟ فقد كذب، فإن المسألة عنده وعند الصحابة أظهر من أن يُشَكَّ فيها، لكثرة النصوص فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يدل على بطلان هذا النقل.
(فصل)
قال الرافضي : (( العاشر : أنه لم يول أبا بكر شيئا من الأعمال، وولّى عليه )) .
والجواب من وجوه : أحدها : أن هذا باطل . بل الولاية التي ولاّها أبا بكر لم يشركه فيها أحد، وهي ولاية الحج . وقد ولاّه غير ذلك .
الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ولّى من هو بإجماع أهل السنّة والشيعة من كان عنده دون أبي بكر، مثل عمرو بن العاص، والوليد بن عقبة، وخالد بن الوليد . فعُلم أنه لم يترك ولايته لكونه ناقصا عن هؤلاء .
__________
(1) تقدم ذكره ص 484 .(174/253)
الثالث : أن عدم ولايته لا يدل على نقصه، بل قد يترك ولايته لأنه عنده أنفع له منه في تلك الولاية، وحاجته إليه في المقام عنده وغنائه عن المسلمين أعظم من حاجته إليه في تلك الولاية، فإنه هو وعمر كانا مثل الوزيرَيْن له .
(فصل)
قال الرافضي : (( الحادي عشر : أنه - صلى الله عليه وسلم - أنفذه لأداء سورة براءة، ثم أنفذ عليًّا، وأمره بردّه، وأن يتولى هو ذلك، ومن لا يصلح لأداء سورة أو بعضها، فكيف يصلح للإمامة العامة، المتضمنة لأداء الأحكام إلى جميع الأمة ؟! ))
والجواب من وجوه : أحدها : أن هذا من كذب باتفاق أهل العلم وبالتواتر العام ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل أبا بكر على الحج سنة تسع، ولم يردّه ولا رجع، بل هو الذي أقام للناس الحج ذلك العام، وعليٌّ من جملة رعيته : يصلي خلفه، ويدفع بدفعه، ويأتمر بأمره كسائر من معه .
وهذا من العلم المتواتر عند أهل العلم : لم يختلف اثنان في أن أبا بكر هو الذي أقام الحج ذلك العام بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - . فكيف يُقال : إنه أمره بردّه ؟!
ولكن أردفه بعليّ لينبذ إلى المشركين عهدهم، لأن عادتهم كانت جاريةً أن لا يعقد العقود ولا يحلّها إلا المُطاع، أو رجل من أهل بيته، فلم يكونوا يقبلون ذلك من أحد .
ولا ريب أن هذا الرافضي ونحوه من شيوخ الرافضة من أجهل الناس بأحوال الرسول وسيرته وأموره ووقائعه، يجهلون من ذلك ما هو متواتر معلوم لمن له أدنى معرفة بالسيرة، ويجيئون إلى ما وقع فيقلبونه، ويزيدون فيه وينقصون .
وهذا القدر، وإن كان الرافضي لم يفعله، فهو فعل شيوخه وسلفه الذين قلّدهم،ولم يحقق ما قالوه، ويراجع ما هو المعلوم عند أهل العلم المتواتر عندهم، المعلوم لعامتهم وخاصتهم .
الثاني أن قوله : (( الإمامة العامة متضمنة لأداء جميع الأحكام إلى الأمة )) .(174/254)
قول باطل ؛ فالأحكام كلها قد تلقتها الأمة عن نبيّها، لا تحتاج فيها إلى الإمام إلا كما تحتاج إلى نظائره من العلماء .
الثالث : أن القرآن بلّغه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلُّ أحدٍ من المسلمين، فيمتنع أن يقال : إن أبا بكر لم يكن يصلح لتبليغه .
الرابع : أنه لا يجوز أن يظن أن تبليغ القرآن يختص بعليّ، فإن القرآن لا يثبت بخبر الآحاد، بل لا بد أن يكون منقولاً بالتواتر .
(فصل)
قال الرافضي : (( الثاني عشر : قول عمر : إن محمداً لم يمت، وهذا يدل على قلة علمه، وأمر برجم حامل، فنهاه عليّ، فقال : لولا عليّ لهلك عمر. وغير ذلك من الأحكام التي غلط فيها وتلوَّن فيها )) .
والجواب أن يقال: أولا: ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( قد كان قبلكم من الأمم محدِّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر))(1) ومثل هذا لم يقله لعليّ .
وأنه قال : (( رأيت أنّي أُتيت بقدح فيه لبن، فشربت حتى أني لأرى الرِّيَّ يخرج من أظفاري، ثم ناولت فضلى عمر )) قالوا : فما أوّلته يا رسول الله ؟ قال : (( العلم))(2).
فعمر كان أعلم الصحابة بعد أبي بكر .
وأما كونه ظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت، فهذا كان ساعةً، ثم تبيّن له موته. ومثل هذا يقع كثيراً : قد يشكّ الإنسان في موت ميّتٍ ساعة أو أكثر، ثم يتبيّن له موته . وعليّ قد تبيّن له أمورٌ بخلاف ما كان يعتقده فيها أضعاف ذلك، بل ظنّ كثيراً من الأحكام على خلاف ما هي عليه، ومات على ذلك، ولم يقدح ذلك في إمامته، كفُتياه في المفوّضة التي ماتت ولم يُفرض لها، وأمثال ذلك مما هو معروف عند أهل العلم .
__________
(1) انظر البخاري ج4 ص 174 وج5 ص 12 .
(2) انظر البخاري ج1 ص 23 – 24 ومواضع أُخر ومسلم ج4 ص 1859 – 1860 .(174/255)
وأما الحامل، فإن كان لم يَعْلَم أنها حامل، فهو من هذا الباب ؛ فإنه قد يكون أمر برجمها ولم يعلم أنها حامل، فأخبره عليّ أنها حامل . فقال : لولا أن عليًّا أخبرني بها لرجمتُها، فقتلت الجنين . فهذا هو الذي خاف منه .
وصاحب العلم العظيم إذا رجع إلى من هو دونه في بعض الأمور، لم يقدح هذا في كونه أعلم منه، فقد تعلّم موسى من الخضر ثلاث مسائل، وتعلّم سليمان من الهدهد خبر بلقيس .
(فصل)
قال الرافضي : (( الثالث عشر : أنه ابتدع التراويح، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أيها الناس إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة جماعة بدعة، وصلاة الضحى بدعة، فإن قليلا في سُنَّةٍ خيرٌ من كثير في بدعة، ألا وإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة سبيلها إلى النار . وخرج عمر في شهر رمضان ليلا، فرأى المصابيح في المساجد، فقال : ما هذا ؟ فقيل له : إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع . فقال : بدعة ونعمت البدعة، فاعترف بأنها بدعة )) .
فيقال : ما رؤى في طوائف أهل البدع والضلال أجرأ من هذه الطائفة الرافضة على الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقولها عليه ما لم يقله، والوقاحة المفرطة في الكذب، وإن كان فيهم من لا يعرف أنها كذب، فهو مفرط في الجهل كما قال :
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة . فيقال : ما الدليل على صحة هذا الحديث ؟ وأين إسناده ؟ وفي أي كتاب من كتب المسلمين روى هذا ؟ ومن قال من أهل العلم بالحديث : إن هذا صحيح ؟(174/256)
الثاني : أن جميع أهل المعرفة بالحديث يعلمون علماً ضروريا أن هذا من الكذب الموضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن له أدنى معرفة بالحديث يعلم أنه كذب، لم يروه أحدٌ من المسلمين في شيء من كتبه : لا كتب الصحيح، ولا السنن، ولا المسانيد، ولا المعجمات، ولا الأجزاء، ولا يعرف له إسناد : لا صحيح، ولا ضعيف، بل هو كذب بيّن .
الثالث : أنه قد ثبت أن الناس كانوا يصلّون بالليل في رمضان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - . وثبت أنه صلّى بالمسلمين جماعةً ليلتين أو ثلاثا .
وهذا الاجتماع العام لما لم يكن قد فعل سماه بدعة لأن ما فعل ابتداءً يسمى بدعة في اللغة، وليس ذلك بدعة شرعية، فإن البدعة الشرعية التي هي ضلالة هي ما فعل بغير دليل شرعي .
الرابع : أن هذا لو كان قبيحاً منهياً عنه لكان عليّ أبطله لما صار أمير المؤمنين وهو بالكوفة . فلما كان جاريا في ذلك مجرى عمر دل على استحباب ذلك، بل رُوى عن عليّ أنه قال : نور الله على عمر قبرَه كما نور علينا مساجدنا .
(فصل)
قال الرافضي : (( الرابع عشر : أن عثمان فعل أموراً لا يجوز فعلها، حتى أنكر عليه المسلمون كافة، واجتمعوا على قتله أكثر من اجتماعهم على إمامته، وإمامة صاحبيه .
والجواب من وجوه : أحدها : أن هذا من أظهر الكذب ؛ فإن الناس كلهم بايعوا عثمان في المدينة وفي جميع الأمصار، لم يختلف في إمامته اثنان، ولا تخلّف عنها أحد . ولهذا قال الإمام أحمد وغيره . إنها كانت أوكد من غيرها باتفاقهم عليها .
وأما الذين قتلوه فنفر قليل. قال ابن الزبَيْر يعيب قتلة عثمان : (( خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية، فقتلهم الله كل قتلة، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب )) يعني هربوا ليلا .(174/257)
الثاني : أن يُقال : الذين أنكروا عَلَى عليّ وقاتلوه أكثر بكثير من الذين أنكروا على عثمان وقتلوه ؛ فإن عليًّا قاتله بقدر الذين قتلوا عثمان أضعافاً مضاعفة، وقطعة كبيرةٌ من عسكره : خرجوا عليه وكفّروه، وقالوا : أنت ارتددت عن الإسلام، لا نرجع إلى طاعتك حتى تعود إلى الإسلام .
الثالث : أن يُقال : قد عُلم بالتواتر أن المسلمين كلهم اتفقوا على مبايعة عثمان، لم يتخلف عن بيعته أحد، مع أن بيعة الصدِّيق تخلَّف عنها سعد بن عبادة، ومات ولم يبايعه ولا بايع عمر، ومات في خلافة عمر . ولم يكن تخلّف سعد عنها قادحاً فيها، لأن سعداً لم يقدح في الصديق، ولا في أنه أفضل المهاجرين، بل كان هذا معلوماً عندهم، لكن طلب أن يكون من الأنصار أمير.
وقد ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( الأئمة من قريش ))(1) فكان ما ظنّه سعد خطأً مخالفاً للنص المعلوم . فعُلم أن تخلّفه خطأٌ بالنصّ، وإذا علم الخطأ بالنص لم يُحتج فيه إلى الإجماع .
وأما بيعة عثمان فلم يتخلّف عنها أحد، مع كثرة المسلمين وانتشارهم . وأما عليّ فمن حين تولّى تخلّف عن بَيعته قريبٌ من نصف المسلمين من السابقين الأوَّلين، من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ممن قعد عنه فلم يقاتل معه ولا قاتله، مثل أُسامة بن زيد، وابن عمر، ومحمد بن سلمة، ومنهم من قاتله .
ثم كثير من الذين بايعوه ورجعوا عنه : منهم من كفّره واستحلّ دمه، ومنهم من ذهب إلى معاوية، كعقيل أخيه وأمثاله .
ولم تزل شيعة عثمان القادحين في عليّ تحتج بهذا عَلَى أن عليًّا لم يكن خليفة راشداً، وما كانت حجتهم أعظم من حجة الرافضة، فإذا كانت حجتهم داحضة، وعليٌّ قتل مظلوما، فعثمان أَوْلى بذلك .
(فصل)
__________
(1) انظر البخاري ج9 ص 52 ومسلم ج3 ص 1452 – 1454 .(174/258)
قال الرافضي : (( الفصل السادس : في فسخ حججهم على إمامة أبي بكر . احتجوا بوجوه : الإجماع . والجواب منع الإجماع ؛ فإن جماعة من بني هاشم لم يوافقوا على ذلك، وجماعة من أكابر الصحابة، كسلمان وأبي ذر والمقداد وعمّار وحُذيفة وسعد بن عبادة وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد وخالد بن سعيد بن العاص وابن عباس .
حتى أن أباه أنكر ذلك، وقال : من استُخلف عليّ الناس ؟ فقالوا: ابنك . قال : وما فعل المستضعفان ؟ إشارة إلى عليّ والعبّاس . قالوا : اشتغلوا بتجهيز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأوا أن ابنك أكبر الصحابة سنًّا، فقال : أنا أكبر منه .
وبنو حنيفة كافة لم يحملوا الزكاة إليه، حتى سمّاهم أهل الردة، وقتلهم وسباهم، فأنكر عمر عليه، وردَّ السبايا أيام خلافته )).
والجواب : بعد أن يقال : الحمد لله الذي أظهر من أمر هؤلاء إخوان المرتدّين ما تحقق به عند الخاص والعام أنهم إخوان المرتدّين حقًّا، وكشف أسرارهم، وهتك أستارهم بألسنتهم ؛ فإن الله لا يزال يطلع على خائنة منهم، تبيّن عداوتهم لله ورسوله، والخيار عباد الله وأوليائه المتّقين، ومن يُرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا .
فنقول : من كان له أدنى علم بالسيرة، وسمع مثل هذا الكلام، جزم بأحد أمرين : إما بأن قاتله من أجهل الناس بأخبار الصحابة، وإما أنه من أجرأ الناس على الكذب . فظنّى أن هذا المصنف وأمثاله من شيوخ الرافضة ينقلون ما في كتب سلفهم، من غير اعتبار منهم لذلك ، ولا نظر في أخبار الإسلام، وفي الكتب المصنفة في ذلك، حتى يعرف أحوال الإسلام، فيبقى هذا وأمثاله في ظلمة الجهل بالمنقول والمعقول .(174/259)
ولا ريب أن المفترين للكذب من شيوخ الرافضة كثيرون جدا وغالب القوم ذوو هوىً أو جهل، فمن حدَّثهم بما يوافق هواهم صدّقوه، ولم يبحثوا عن صدقه وكذبه، ومن حدّثهم بما يخالف أهواءهم كذّبوه، ولم يبحثوا عن صدقه وكذبه . ولهم نصيب وافر من قوله تعالى : { { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } } (1)، كما أن أهل العلم والدين لهم نصيب وافر من قوله تعالى : { { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } } (2) .
ومن أعظم ما في هذا الكلام من الجهل والضلال جعله بني حنيفة من أهل الإجماع ؛ فإنهم لمّا امتنعوا عن بيعته ولم يحملوا إليه الزكاة سمَّاهم أهل الردة، وقتلهم وسباهم . وقد تقدَّم مثل هذا في كلامه .
وبنو حنيفة قد علم الخاص والعام أنهم آمنوا بمسَيْلمة الكذّاب، الذي ادّعى النبوة باليمامة، وادّعى أنه شريك النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرسالة، وادّعى النبوة في آخر حياة النبي- صلى الله عليه وسلم - .
وأمر مسَيْلمة وادّعاؤه النبوة واتّباع بني حنيفة له أشهر وأظهر من أن يخفى، إلا على من هو أبعد الناس عن المعرفة والعلم .
ومن أعظم فضائل أبي بكر عند الأمة – أولهم وآخرهم – أنه قاتل المرتدّين . وأعظم الناس ردّة كان أبو حنيفة، ولم يكن قتاله لهم على منع الزكاة، بل قاتلهم على أنهم آمنوا بمسَيْلمة الكذاب . وكانوا فيما يُقال نحو مائة ألف .
والحنفِية أم محمد بن الحنفية سَرِّيةُ عليّ كانت من بني حنيفة، وبهذا احتجّ من جَوَّز سبي المرتدّات إذا كانت المرتدّون محاربين، فإذا كانوا مسلمين معصومين، فكيف استجاز عليّ أن يسبى نساءهم، ويطأ من ذلك السبي ؟
وأما قول الرافضي : أن عمر أنكر قتال أهل الردة .
__________
(1) الآية 32 من سورة الزمر.
(2) الآية 33 من سورة الزمر .(174/260)
فمن أعظم الكذب والافتراء على عمر، بل الصحابة كانوا متفقين على قتال مسيلمة وأصحابه ولكن كانت طائفة أخرى مقرين بالإسلام، وامتنعوا عن أداء الزكاة، فهؤلاء حصل لعمر أولاً شبهة في قتالهم حتى ناظره الصدِّيق، وبيّن وجوب قتالهم، فرجع إليه والقصة في ذلك مشهورة .
فإن جاز أن يطعن في الصديق والفاروق أنهما قاتلا لأخذ المال فالطعن في غيرهما أوجه، فإذا وجب الذب عن عثمان وعليّ فهو عن أبي بكر وعمر أوجب .
وعليّ يقاتل ليطاع ويتصرف في النفوس والأموال فكيف يجعل هذا قتالا على الدِّين ؟ وأبو بكر يقاتل من ارتدّ عن الإسلام ومن ترك ما فرض الله، ليطيع الله ورسوله فقط، ولا يكون هذا قتالاً على الدين ؟
وأما الذين عدّهم هذا الرافضي أنهم تخلّفوا عن بيعة الصدّيق من أكابر الصحابة، فذلك كذب عليهم، إلاّ على سعد بن عبادة، فإن مبايعة هؤلاء لأبي بكر وعمر أشهر من أن تنكر، وهذا مما اتفق عليه أهل العلم بالحديث والسير والمقولات، وسائر أصناف أهل العلم، خلفاً عن سلف .
وأسامة بن زيد ما خرج في السريّة حتى بايعه، ولهذا يقول له : (( يا خليفة رسول الله )) .
وكذلك جميع من ذكره بايعه . لكن خالد بن سعيد كان نائباً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا أكون نائباً لغيره )) فترك الولاية، وإلا فهو من المقرِّين بخلافة الصدِّيق . وقد عُلم بالتواتر أنه لم يتخلّف عن بيعته إلا سعد بن عبادة .
وأما عليّ وبنو هاشم فكلهم بايعه باتفاق الناس، لم يمت أحدٌ منهم إلا وهو مبايعٌ له .
لكن قيل : عليٌّ تأخرت بيعته ستة أشهر . وقيل : بل بايعه ثاني يوم . وبكل حال فقد بايعوه من غير إكراه .
ثم جميع الناس بايعوا عمر، إلاّ سعداً، ولم يتخلّّف عن بيعة عمر أحدٌ : لا بنو هاشم ولا غيرهم .
وأما بيعة عثمان فاتفق الناس كلهم عليها .(174/261)
وما ذكره عن أبي قحافة فمن الكذب المتفق عليه، ولكن أبو قحافة كان بمكة، وكان شيخاً كبيراً أسلم عام الفتح . أَتَى به أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ورأسه ولحيته مثل الثغامة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( لو أقررت الشيخ مكانه لأتيناه ))(1) إكراما لأبي بكر .
وقوله : (( إنهم قالوا لأبي قحافة : إن ابنك أكبر الصحابة سنًّا )) كذب ظاهر . وفي الصحابة خلق كثير أسنُّ من أبي بكر، مثل العبّاس، فإن العبّاس كان أسنّ من النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث سنين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان أسنَّ من أبي بكر .
وحينئذ فالجواب عن منعه الإجماع من وجوه :
أحدها : أن هؤلاء الذين ذكرهم لم يتخلّف منهم إلا سعد بن عبادة ، وإلاّ فالبقية كلهم بايعوه باتفاق أهل النقل . وطائفة من بني هاشم قد قيل : إنها تخلّفت عن مبايعته أولا، ثم بايعته بعد ستة أشهر، من غير رهبة ولا رغبة .
ولا ريب أن الإجماع المعتبر في الإمامة لا يضرّ فيه تخلف الواحد والاثنين والطائفة القليلة، فإنه لو اعتبر ذلك لم يكد ينعقد إجماع عَلَى إمامة، فإن الإمامة أمر معيّن، فقد يتخلّف الرجل لهوىً لا يُعلم، كتخلّف سعد، فإنه كان قد استشرف إلى أن يكون هو أميراً من جهة الأنصار، فلم يحصل له ذلك، فبقي في نفسه بقية هوىً . ومن ترك الشيء لهوىً، لم يؤثر تركه .
الثاني : أنه لو فرض خلاف هؤلاء الذين ذكرهم، وبقدرهم مرتين لم يقدح في ثبوت الخلافة، فإنه لا يشترط في الخلافة إلا اتفاق أهل الشوكة والجمهور الذين يقام بهم الأمر، بحيث يمكن أن يقام بهم مقاصد الإمامة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة ))(2) .
__________
(1) انظر المسند ج3 ص 160 .
(2) انظر سنن الترمذي ج3 ص 316 .(174/262)
الثالث : أن يُقال : إجماع الأمة على خلافة أبي بكر كان أعظم من اجتماعهم على مبايعة عليّ ؛ فإن ثلث الأمة – أو أقل أو أكثر – لم يبايعوا عليًّا ؛ بل قاتلوه . والثلث الآخر لم يقاتلوا معه، وفيهم من لم يبايعه أيضا . والذين لم يبايعوه منهم من قاتلهم، ومنهم من لم يقاتلهم . فإن جاز القدح في الإمامة بتخلّف بعض الأمة عن البيعة، كان القدح في إمامة عليّ أولى بكثير .
فلا طريق يثبت بها كون عليّ مستحقاً للإمامة، إلا وتلك الطريق يثبت بها أن أبا بكر مستحق للإمامة، وأنه أحق للإمامة من عليّ وغيره . وحينئذ فالإجماع لا يُحتاج إليه في الأولى(1) ولا في الثانية،وإن كان الإجماع حاصلاً .
(فصل)
قال الرافضي : ((وأيضاً الإجماع ليس أصلا في الدلالة، بل لا بد أن يستند المجمعون إلى دليل على الحكم حتى يجتمعوا عليه، وإلا كان خطأً، وذلك الدليل إما عقلي، وليس في العقل دلالة على إمامته، وإما نقلي، وعندهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات من غير وصية، ولا نصّ على إمام، والقرآن خالٍ منه، فلو كان الإجماع متحققا كان خطأً فتنتفى دلالته )).
والجواب من وجوه : أحدها : أن قوله : (( الإجماع ليس أصلاً في الدلالة )) .
إن أراد به أن أمر المجتمعين لا تجب طاعته لنفسه، وإنما تجب لكونه دليلا على أمر الله ورسوله، فهذا صحيح . ولكن هذا لا يضر ؛ فإن أمر الرسول كذلك لم تجب طاعته لذاته، بل لأن من أطاع الرسول فقد أطاع الله . ففي الحقيقة لا يطاع أحد لذاته إلا الله . له الخلق والأمر، وله الحكم، وليس الحكم إلا لله . وإنما وجبت طاعة الرسول لأن طاعته طاعة الله، ووجبت طاعة المؤمنين المجتمعين، لأن طاعتهم طاعة الله والرسول، ووجب تحكيم الرسول ، لأن حكمه حكم الله . وكذلك تحكيم الأمة، لأن حكمها حكم الله .
__________
(1) يعني وجود خلافته ووقوعها .(174/263)
وإن أراد به أنه قد يكون موافقاً للحق،وقد يكون مخالفا له، وهذا هو الذي أراده . فهذا قدح في كون الإجماع حجة، ودعوى أن الأمة قد تجتمع على الضلالة والخطأ . كما يقول ذلك من يقوله من الرافضة الموافقين للنّظام.
وحينئذ فيُقال : كون عليّ إماما ومعصوما وغير ذلك من الأصول، الإمامية أثبتوه بالإجماع، إذ عمدتهم في أصول دينهم علَى ما يذكرونه من العقليات وعلى الإجماع، وعلى ما ينقلونه . فهم يقولون : عُلم بالعقل لأنه لا بد للناس من إمام معصوم وإمام منصوص عليه، وغير عليّ ليس معصوما ولا منصوصا عليه بالإجماع، فيكون المعصوم هو عليًّا، وغير ذلك من مقدمات حججهم .
فيقال لهم : إن لم يكن الإجماع حجة، فقد بطلت تلك الحجج، فبطل ما بنوه على الإجماع من أصولهم، فبطل قولهم . وإذا بطل ثبت مذهب أهل السنّة.
وإن كان الإجماع حقًّا، فقد ثبت أيضا مذهب أهل السنّة، فقد تبين بطلان قولهم سواء قالوا : الإجماع حجة أم لم يقولوا، وإذا بطل قولهم ثبت مذهب أهل السنّة وهو المطلوب .
وإن قالوا: نحن لم ندع الإجماع ولا نحتج به في شيء من أصولنا، وإنما عمدتنا العقل والنقل عن الأئمة المعصومين .(174/264)
قيل لهم : إذا لم تحتجوا بالإجماع لم يبق معكم حجة سمعية غير النقل المعلوم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإن ما ينقلونه عن عليّ وغيره من الأئمة لا يكون حجة حتى نعلم عصمة الواحد من هؤلاء، وعصمة الواحد من هؤلاء لا تثبت إلا بنقل عمّن عُلم عصمته، والمعلوم عصمته هو الرسول، فما لم يثبت نقل معلوم عن الرسول بما يقولونه، لم يكن معهم حجة سمعية أصلا : لا في أصول الدين ولا في فروعه، وحينئذ فيرجع الأمر إلى دعوى خلافة عليّ بالنص، فإن أثبتم النصّ بالإجماع فهو باطل، لنفيكم كون الإجماع حجة، وإن لم تثبتوه إلا بالنقل الخاص الذي يذكره بعضكم، فقد تبيّن بطلانه من وجوه، وتبين أن ما ينقله الجمهور وأكثر الشيعة مما يناقض هذا القول يُوجب علماً يقينيا بأن هذا كذب .
(فصل)
قال الرافضي : (( وأيضا الإجماع إما أن يُعتبر فيه قول كل الأمة، ومعلوم أنه لم يحصل، بل ولا أجماع أهل المدينة أو بعضهم . وقد أجمع أكثر الناس على قتل عثمان )) .
والجواب : أن يُقال : أما الإجماع على الإمامة : فإن أريد به الإجماع الذي تنعقد به الإمامة، فهذا يعتبر فيه موافقة أهل الشوكة، بحيث يكون متمكنا بهم من تنفيذ مقاصد الإمامة، حتى إذا كان رؤوس الشوكة عدداً قليلاً، ومن سواهم موافق لهم، حصلت الإمامة بمبايعتهم له . هذا هو الصواب الذي عليه أهل السنّة، وهو مذهب الأئمة، كأحمد وغيره .
وأما أهل الكلام فقدّرها كل منهم بعدد، وهي تقديرات باطلة .
وإن أريد به الإجماع على الاستحقاق والأولوية، فهذا يُعتبر فيه : إما الجميع، وإما الجمهور . وهذه الثلاثة حاصلة في خلافة أبي بكر .
وأما عثمان فلم يتفق على قتله إلا طائفة قليلة، لا يبلغون نصف عُشر عُشر عشر الأمة .
(فصل)
قال الرافضي : (( وأيضا كل واحد من الأمة يجوز عليه الخطأ، فأي عاصم لهم عن الكذب عند الإجماع ؟ )) .(174/265)
والجواب : أن يُقال : من المعلوم أن الإجماع إذا حصَل، حصل له من الصفات ما ليس للآحاد، لم يجز أن يُجعل حكم الواحد حكم الاجتماع ؛ فإن كل واحد من المخبرين يجوز عليه الغلط والكذب، فإذا انتهى المخبرون إلى حد التواتر امتنع عليهم الكذب والغلط .
وأيضا فإن كان الإجماع قد يكون خطأً، لم يثبت أن عليًّا معصوم كما زعموا ؛ فإنه إنما عُلمت عصمته بالإجماع على أنه لا معصوم سواه، فإذا جاز كون الإجماع أخطأ، أمكن أن يكون في الأمة معصوم غيره، وحينئذ فلا يُعلم أنه هو المعصوم .
فتبين أن قدحهم في الإجماع يُبطل الأصل الذي اعتمدوا عليه في إمامة المعصوم، وإذا بطل أنه معصوم بطل أصل مذهب الرافضة . فتبين أنهم إن قدحوا في الإجماع بطل أصل مذهبهم، وإن سلّموا أنه حجة بطل مذهبهم، فتبين بطلان مذهبهم على التقديرين .
(فصل)
قال الرافضي : ((وقد بيّنا ثبوت النصّ الدالّ على إمامة أمير المؤمنين، فلو أجمعوا على خلافه لكان خطأ، لأن الإجماع الواقع على خلاف النص يكون عندهم خطأ )) .
والجواب من وجوه : أحدها : أنه قد تقدّم بيان بطلان كل ما دل على أنه إمام قبل الثلاثة .
الثاني : أن النصوص إنما دلت على خلافة الثلاثة قبله .
الثالث : أن يُقال : الإجماع المعلوم حجة قطعية لا سمعية، لا سيما مع النصوص الكثيرة الموافقة له . فلو قدِّر ورود خبر يخالف الإجماع كان باطلا: إما لكون الرسول لم يقله، وإما لكونه لا دلالة فيه .
الرابع : أنه يمتنع تعارض النص المعلوم والإجماع المعلوم، فإن كليهما حجة قطعية، والقطعيات لا يجوز تعارضها، لوجوب وجود مدلولاتها، فلو تعارضت لزم الجمع بين النقيضين .
وقد دل الإجماع المعلوم والنص المعلوم على خلافة الصدّيق رضي الله عنه وبطلان غيرهما . ونصّ الرافضة مما نحن نعلم كذبه بالاضطرار، وعلى كذبه أدلة كثيرة .
(فصل)(174/266)
قال الرافضي : (( الثاني : ما رووه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر . والجواب : المنع من الرواية، ومن دلالتها على الإمامة ؛ فإن الاقتداء بالفقهاء لا يستلزم كونهم أئمة . وأيضا فإن أبا بكر وعمر قد اختلفا في كثير من الأحكام فلا يمكن الاقتداء بهما . وأيضا فإنه معارض لما رووه من قوله : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، مع إجماعهم على انتفاء إمامتهم )) .
والجواب من وجوه : أحدها : أن يُقال : هذا الحديث بإجماع أهل العلم بالحديث أقوى من النص الذي يروونه في إمامة عليّ ؛ فإن هذا أمر معروف في كتب أهل الحديث المعتمدة، ورواه أبو داود في سننه، والترمذي في جامعه(1) .
وأما النص على عليّ فليس في شيء من كتب أهل الحديث المعتمدة، وأجمع أهل الحديث على بطلانه، حتى قال أبو محمد بن حزم :(( ما وجدنا قط رواية عن أحدٍ في هذا النصّ المدّعى إلا رواية واهية عن مجهول إلى مجهول يكنى أبا الحمراء،لا نعرف من هو في الخلق ))(2).
فيمتنع أن يُقدح في هذا الحديث مع تصحيح النص عَلَى عليّ .
وأما الدلالة، فالحجة في قوله : (( باللذين من بعدي )) أخبر أنهما من بعده، وأمر بالاقتداء بهما . فلو كانا ظالمَيْن أو كافرين في كونهما بعده لم يأمر بالاقتداء بهما، فإنه لا يأمر بالاقتداء بالظالم، فإن الظالم لا يكون قدوة يؤتم به. بدليل قوله : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } (3)، فدل على أن الظالم لا يؤتم به، والائتمام هو الاقتداء، فلما أمر بالاقتداء بمن بعده، والاقتداء هو الائتمام، مع إخبراره أنهما يكونان بعده، دلّ على أنهما إمامان قد أمر بالائتمام بهما بعده، وهذا هو المطلوب .
__________
(1) انظر سنن الترمذي ج5 ص 271 – 272 وابن ماجة ج1 ص 37 ومسند الإمام أحمد ج5 ص 382 – 399 – 402 .
(2) انظر المفصل ج4 ص 161 – 162 .
(3) الآية 124 من سورة البقرة .(174/267)
وأما قوله: (( اختلفا في كثير من الأحكام)) فليس الأمر كذلك، بل لا يكاد يعرف اختلاف أبي بكر وعمر إلا في الشيء اليسير، والغالب أن يكون عن أحدهما فيه روايتان، كالجد مع الإخوة، فإن عمر عنه فيه روايتان أحداهما كقول أبي بكر .
وأما قوله : أصحابي كالنجوم . الخ .. فهذا الحديث ضعيف، ضعفه أهل الحديث، قال البزار : هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس هو في كتب الحديث المعتمدة، وأيضا فليس فيه لفظ بعدي، والحجة هناك قوله : بعدي، وأيضا ليس فيه الأمر بالاقتداء بهم، وهذا فيه الأمر بالاقتداء بهم .
(فصل)
قال الرافضي : (( الثالث : ما ورد فيه من الفضائل كآية الغار، وقوله تعالى : { { وَسَيُجَنَّبُهَا اْلأَتْقَى } } (1) ، وقوله : { { قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ اْلأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } } (2) . والداعي هو أبو بكر : كان أنيس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العريش يوم بدر، وانفق على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقدم في الصلاة)) .
قال : ((والجواب أنه لا فضيلة له في الغار، لجواز أن يستصحبه حذراً منه لئلا يظهر أمره .
وأيضا فإن الآية تدل على نقيضه لقوله : { لاَ تَحْزَنْ } فإنه يدل على خوره وقلة صبره، وعدم يقينه بالله تعالى، وعدم رضاه بمساواته النبي - صلى الله عليه وسلم -، و بقضاء الله وقدره ،ولأن الحزن إن كان طاعة استحال أن ينهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان معصية كان ما ادعوه من الفضيلة رذيلة .
وأيضا فإن القرآن حيث ذكر إنزال السكينة على رسول الله شرك معه المؤمنين إلا في هذا الموضوع، ولا نقص أعظم منه .
__________
(1) الآية 17 من سورة الليل .
(2) الآية17 من سورة الفتح .(174/268)
وأما : { { وَسَيُجَنَّبُهَا اْلأَتْقَى } } فإن المراد أبو الدحداح، حيث اشترى نخلة شخص لأجل جاره، وقد عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - على صاحب النخلة نخلة في الجنة، فأبى، فسمع أبو الدحداح فاشتراها ببستان له، ووهبها الجار، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عوضها له بستانا في الجنة .
وأما قوله تعالى : { ? { قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ اْلأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } } (1) . يريد سندعوكم إلى قوم، فإن أراد الذين تخلفوا عن الحديبية. والتمس هؤلاء أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر، فمنعهم الله تعالى بقوله : { { قُل لَّن تَتَّبِعُونَا } } (2) ،لأنه تعالى جعل غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، ثم قال : { { قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ اْلأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ } } . يريد :سندعوكم فيما بعد إلى قتال قوم أولي بأسٍ شديد، وقد دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوات كثيرة : كمؤتة، وحنين، وتبوك، وغيرها، فكان الداعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وأيضا جاز أن يكون عليّ هو الداعي، حيث قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وكان رجوعهم إلى طاعته إسلاما لقوله عليه الصلاة والسلام : يا عليّ حربك حربي وحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفر .
وأما كونه أنيسه في العريش يوم بدر فلا فضل فيه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أنسه بالله تعالى مغنيا له عن كل أنيس، لكن لما عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمره لأبي بكر بالقتال يؤدي إلى فساد الحال، حيث هرب عدة مرات في غزواته،وأيّما أفضل : القاعد عن القتال، أو المجاهد بنفسه في سبيل الله ؟ .
__________
(1) الآية17 من سورة الفتح .
(2) الآية15 من سورة الفتح .(174/269)
وأما إنفاقه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكذب لأنه لم يكن ذا مال ؛ فإن أباه كان فقيرا في الغاية، وكان يُنادى على مائدة عبد الله بن جدعان بمدٍّ كل يوم يقتات له، فلو كان أبو بكر غنيا لكفى أباه . وكان أبو بكر في الجاهلية معلّما للصبيان، وفي الإسلام كان خيّاطا، ولما ولى أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة فقال : إني محتاج إلى القوت، فجعلوا له كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان قبل الهجرة غنياًّ بمال خديجة، ولم يحتج إلى الحرب وتجهيز الجيوش، وبعد الهجرة لم يكن لأبي بكر ألبتة شيء، ثم لو أنفق لوجب أن ينزل فيه قرآن، كما نزل في عليّ : { { هَلْ أَتَى } (1) .
ومن المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرف من الذين تصدّق عليهم أمير المؤمنين، والمال الذي يدّعون إنفاقه أكثر، فحيث لم ينزل فيه قرآن دل على كذب النقل .
وأما تقديمه في الصلاة فخطأ، لأن بلالا لما أذن بالصلاة أمرته عائشة أن يقدم أبا بكر، ولما أفاق النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع التكبير فقال : من يصلي بالناس ؟ فقالوا : أبو بكر، فقال : أخرجوني، فخرج بين عليّ والعباس فنحاه عن القبلة وعزله عن الصلاة وتولّى هو الصلاة )) .
قال الرافضي : (( فهذه حال أدلة القوم، فلينظر العاقل بعين الإنصاف وليقصد اتّباع الحق دون اتّباع الهوى، ويترك تقليد الآباء والأجداد، فقد نهى الله تعالى في كتابه عن ذلك، ولا تلهيه الدنيا عن إيصال الحق إلى مستحقه، ولا يمنع المستحق عن حقه، فهذا آخر ما أردنا إثباته في هذه المقدمة )) .
والجواب : أن يُقال : في هذا الكلام من الأكاذيب والبُهت والفرية ما لا يُعرف مثله لطائفة من طوائف المسلمين . ولا ريب أن الرافضة فيهم شبه قوي من اليهود، فإنهم قومٌ بُهتٌ، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .
__________
(1) الآية1 من سورة الإنسان .(174/270)
وظهور فضائل شيخى الإسلام : أبي بكر وعمر، أظهر بكثير عند كل عاقل من فضل غيرهما، فيريد هؤلاء الرافضة قلب الحقائق . ولهم نصيب من قوله تعالى : { { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ } } (1)، وقوله : { { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ } } (2)، ونحو هذه الآيات .
فإن القوم من أعظم الفرق تكذيبا بالحق، وتصديقا بالكذب، وليس في الأمة من يماثلهم في ذلك .
أما قوله : (( لا فضيلة له في الغار )) .
فالجواب : أن الفضيلة في الغار ظاهرة بنصّ القرآن، لقوله تعالى : { { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } } (3)، فأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الله معه ومع صاحبه . كما قال لموسى وهارون : { { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } } (4) .
وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث أنس عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت : يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا . فقال : (( يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما ))(5).
وهذا الحديث مع كونه مما اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقّيه بالقبول والتصديق، فلم يختلف في ذلك اثنان منهم، فهو مما دل القرآن على معناه ، يقول : { { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } } (6) .
__________
(1) الآية 32 من سورة الزمر.
(2) الآية 17 من سورة يونس .
(3) الآية40 من سورة التوبة .
(4) الآية 46 من سورة طه .
(5) انظر البخاري 5/4 وغيره، ومسلم ج4 ص 1854 .
(6) الآية40 من سورة التوبة .(174/271)
وهذا غاية المدح لأبي بكر إذ دل على أنه ممن شهد له الرسول بالإيمان، المقتضى نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي بيّن الله فيها غناه عن الخلق، فقال : { { إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ } } (1)، ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره : إن الله عاتب الخلق جميعهم في نبيه إلا أبا بكر . وقال : من أنكر صحبته أبي بكر فهو كافر لأنه كذب القرآن، وقال طائفة من أهل العلم كأبي القاسم السهيلي وغيره . هذه المعية لم تثبت لغير أبي بكر .
وكذلك قوله : (( ما ظنّك باثنين الله ثالثهما )) . بل ظهر اختصاصهما في اللفظ كما ظهر في المعنى، فكان يقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : (( محمد رسول الله )) فلما تولى أبو بكر بعده صاروا يقولون : ((خليفة رسول الله )) فيضيفون الخليفة إلى رسول الله، المضاف إلى الله، والمضاف إلى المضاف، إلى الله مضاف إلى الله تحقيقا لقوله : (( إن الله معنا ))، ما ظنك باثنين الله ثالثهما . ثم لما تولى عمر بعده صاروا يقولون : (( أمير المؤمنين )) فانقطع الاختصاص الذي امتاز به أبو بكر عن سائر الصحابة .
__________
(1) الآية40 من سورة التوبة .(174/272)
ومن تأمّل هذا وَجَد فضائل الصدِّيق التي في الصحاح كثيرة، وهي خصائص . مثل حديث المخالّة، وحديث : إن الله معنا، وحديث : إنه أحب الرجال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحديث الإتيان إليه بعده، وحديث كتابة العهد إليه بعده، وحديث تخصيصه بالتصديق ابتداءً والصحبة، وتركه له، وهو قوله: (( فهل أنتم تاركو لي صاحبي ؟ ))، وحديث دفعه عنه عقبة بن أبي معيط لمّا وضع الرداء في عنقه حتى خلّصه أبو بكر،وقال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟! وحديث استخلافه في الصلاة وفي الحج،وصبره وثباته بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -وانقياد الأمة له، وحديث الخصال التي اجتمعت فيه في يومٍ، وما اجتمعت في رجل إلا وجبت له الجنة، وأمثال ذلك(1) .
والمقصود هنا بيان اختصاصه في الصحبة الإيمانية بما لم يشركه مخلوق، لا في قدرها ولا في صفتها ولا في نفعها، فإنه لو أحصى الزمان الذي كان يجتمع فيه أبو بكر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والزمان الذي كان يجتمع به فيه عثمان أو عليّ أو غيرهما من الصحابة، لوُجد ما يختص به أبو بكر أضعاف ما اختص به واحد منهم، لا أقول ضعفه .
وأما المشترك بينهم فلا يختص به واحد .
وأما كمال معرفته ومحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتصديقه له، فهو مبرّز في ذلك على سائرهم تبريزاً باينهم فيه مباينة لا تخفى على من كان له معرفة بأحوال القوم، ومن لا معرفة له بذلك لم تُقبل شهادته .
وأما نفعه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاونته له على الدين فكذلك .
فهذه الأمور التي هي مقاصد الصحبة ومحامدها، التي بها يستحق الصحابة أن يُفضَّلوا بها على غيرهم، لأبي بكر فيها من الاختصاص بقدرها ونوعها وصفتها وفائدتها ما لا يشركه فيه أحد .
__________
(1) تقدمت هذه كلها .(174/273)
كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس على المنبر فقال : (( إنَّ عبداً خيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده )) فبكى أبو بكر، وقال : فديناك بآبائنا وأمهاتنا . قال : فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا به. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن من أمنّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته))(1) .
وروى البخاري من حديث ابن عباس قال : خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه عاصباً رأسه بخرقة ، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال : (( إنه ليس أحدٌ من الناس أمنّ على في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذاً من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام أفضل،سدّوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر))(2) .
وفي رواية : (( لو كنت متخذاً من هذه الأمة خليلا لاتخذته، ولكن أخوة الإسلام أفضل )) .
وفي رواية : (( ولكن أخي وصاحبي )) .
فهذه النصوص كلها مما تبيّن اختصاص أبي بكر من فضائل الصحبة ومناقبها والقيام بها وبحقوقها بما لم يشركه فيه أحد، حتى استوجب أن يكون خليله دون الخلق، لو كانت المخالّة ممكنة .
__________
(1) انظر البخاري – الجمعة – الباب الثامن والعشرون (( من قال في الخطبة أما بعد ))، انظر الفتح ج2 ص 404 .
(2) انظر البخاري – الجمعة – الباب الثامن والعشرون (( من قال في الخطبة أما بعد ))، انظر الفتح ج2 ص 404 .(174/274)
وهذه النصوص صريحة بأنه أحب الخلق إليه، وأفضلهم عنده . كما صرّح بذلك في حديث عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السلاسل، قال : (( فأتيته فقلت : أي الناس أحب إليك ؟ قال : (( عائشة )). قلت: فمن الرجال ؟ قال : (( أبوها )). قلت : ثم من ؟ قال: عمر وعدّ رجالً ))، وفي رواية للبخاري (( قال : فَسكَتُّ مخافة أن يجعلني آخرهم ))(1)
(فصل)
ومما يبيّن من القرآن فضيلة أبي بكر في الغار أن الله تعالى ذكر نصره لرسوله في هذه الحال التي يُخذل فيها عامة الخلق إلا من نصره الله : { { إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ } } (2) . أي أخرجوه في هذه القلة من العدد، لم يصحبه إلا الواحد، فإن الواحد أقل ما يوجد . فإذا لم يصحبه إلا واحدٌ دلّ على أنه في غاية القلّة .
ثم قال : { { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } } (3) . وهذا يدلّ على أن صاحبه كان مشفقا عليه محبًّا له ناصراً له حيث حزن، وإنما يحزن الإنسان حال الخوف على من يحبّه، وأما عدوه فلا يحزن إذا انعقد سبب هلاكه .
فلو كان أبو بكر مبغِضا كما يقول المفترون لم يحزن ولم ينه عن الحزن، بل كان يضمر الفرح والسرور، ولا كان الرسول يقول له : (( لا تحزن إن الله معنا )) .
فإن قال المفترى : إنه خَفِيَ على الرسول حاله لمّا أظهر له الحزن، وكان في الباطن مبغضا .
قيل له : فقد قال : { إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } فهذا إخبار بأن الله معهما جميعا بنصره، ولا يجوز للرسول أن يخبر بنصر الله لرسوله وللمؤمنين وأن الله معهم، ويجعل ذلك في الباطن منافقا، فإنه معصوم في خبره عن الله، لا يقول عليه إلا الحق .
__________
(1) انظر البخاري ج5 ص 5 و136 ومسلم ج4 ص 1856 .
(2) الآية40 من سورة التوبة .
(3) الآية40 من سورة التوبة .(174/275)
وأيضا فمعلوم أن أضعف الناس عقلاً لا يخف عليه حال من يصحبه في مثل هذا السفر، الذي يعاديه فيه الملأ الذين هو بين أظهرهم، ويطلبون قتله، وأولياؤه هناك لا يستطيعون نصره، فكيف يصحب واحداً ممن يظهر له موالاته دون غيره، وقد أظهر له هذا حزنه، وهو مع ذلك عدوّ في الباطن، والمصحوب يعتقد أنه وليه، وهذا لا يفعله إلا أحمق الناس وأجهلهم .
فقبَّح الله من نَسَبَ رسوله، الذي هو أكمل الخلق عقلا وعلما وخبرة، إلى مثل هذه الجهالة والغباوة .
(فصل)
وأما قول الرافضي : يجوز أن يستصحبه لئلا يظهر أمره حذرا منه .
والجواب : أن هذا باطل من وجوه كثيرة لا يمكن استتقصاؤها .
أحدها : أنه قد علم بدلالة القرآن موالاته له ومحبته، لا عداوته، فبطل ادعاؤه .
الثاني : أنه قد علم بالتواتر المعنوي أن أبا بكر كان محبا للنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به، ومن أعظم الخلق اختصاصا به، أعظم مما تواتر من شجاعة عنترة، ومن سخاء حاتم ومن موالاة عليّ ومحبته به، ونحو ذلك من التواترات المعنوية التي اتفق فيها الأخبار الكثيرة على مقصود واحد، والشك في محبة أبي بكر كالشك في غيره وأشد، ومن الرافضة من ينكر كون أبي بكر وعمر مدفونين في الحجرة النبوية، وبعض غلاتهم ينكر أن يكون هو صاحبه الذي معه في الغار، وليس هذا من بهتانهم ببعيد، فإن القوم قوم بهت، يجحدون المعلوم ثبوته بالاضطرار ويدعون ثبوت ما يعلم انتفاؤه بالاضطرار في العقليات والنقليات .
الوجه الثالث : أن قوله : (( استصحبه حذراً من أن يظهر أمره )) .(174/276)
كلام من هو أجهل الناس بما وقع ؛ فإن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في خروجه من مكة ظاهر، عرفه أهل مكة، وأرسلوا الطلب، فإنه في الليلة التي خرج فيها عرفوا في صبيحتها أنه خرج، وانتشر ذلك، وأرسلوا إلى أهل الطرق يبذلون الدِّية لمن يأتي بأبي بكر، دليل على أنهم كانوا يعلمون موالاته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كان عدوهم في الباطن، ولو كان معهم في الباطن لم يفعلوا ذلك .
الرابع : أنه إذا خرج ليلا، كان وقت الخروج لم يعلم به أحد، فما يصنع بأبي بكر واستصحابه معه ؟
فإن قيل : فلعله علم خروجه دون غيره ؟
قيل : أولا : قد كان يمكنه أن يخرج في وقت لا يشعر به، كما خرج في وقت لم يشعر به المشركون، وكان يمكنه أن لا يعينه، فكيف وقد ثبت في الصحيحين أن أبا بكر استأذنه في الهجرة فلم يأذن له حتى هاجر معه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمه بالهجرة في خلوة(1) .
الوجه الخامس : أنه لما كان في الغار كان يأتيه بالأخبار عبد الله بن أبي بكر وكان معهما عامر بن أبي فهيرة كما تقدم ذلك، فكان يمكنه أن يعلمهم بخبره .
السادس : أنه إذا كان كذلك، والعدو قد جاء إلى الغار،ومشوا فوقه، كان يمكنه حينئذ أن يخرج من الغار، وينذر العدو به،وهو وحده ليس معه أحد يحميه منه ومن العدو، فمن يكون مبغضا لشخص، طالباً لإهلاكه، ينتهز الفرصة في مثل هذه الحال، التي لا يظفر فيها عدوٌ بعدوه إلا أخذه، فإنه وحده في الغار .
(فصل)
وأما قول الرافضي : (( الآية تدل على نقصه، لقوله تعالى : { { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } } (2) فإنه يدل على خوره، وقلة صبره، وعدم يقينه وعدم رضاه بمساواته للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وبقضاء الله وقدره )) .
__________
(1) انظر البخاري ج5 ص 49 – مطبعة النهضة .
(2) الآية 40 من سورة التوبة .(174/277)
فالجواب : أولا : أن هذا يناقض قولكم : (( إنه استصحبه حذراً منه لئلا يظهر أمره )) فإنه إذا كان عدوه، وكان مبطناً لعِداه الذين يطلبونه، كان ينبغي أن يفرح ويسرّ ويطمئن إذا جاءه العدو . وأيضا فالعدو قد جاءوا ومشوا فوق الغار، فكان ينبغي أن ينذرهم به .
وأيضا فكان الذي يأتيه بأخبار قريش ابنه عبد الله، فكان يمكنه أن يأمر ابنه أن يخبر بهم قريشا .
وأيضا فغلامه عامر بن فهيرة هو الذي كان معه رواحلهما، فكان يمكنه أن يقول لغلامه : أخبرهم به .
فكلامهم في هذا يبطل قولهم : إنه كان منافقا، ويثبت أنه كان مؤمنا به.
وأعلم أنه ليس في المهاجرين منافق، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار، لأن أحداً لم يهاجر إلا باختياره، والكافر بمكة لم يكن يختار الهجرة، ومفارقة وطنه وأهله بنصر عدوه .
وإذا كان هذا الإيمان يستلزم إيمانه، فمعلوم أن الرسول لا يختار لمصاحبته في سفر هجرته، الذي هو أعظم الأسفار خوفاً، وهو السفر الذي جُعل مبدأ التاريخ لجلالة قدره في النفوس، ولظهور أمره ؛ فإن التاريخ لا يكون إلا بأمر ظاهر معلوم لعامة الناس – لا يستصحب الرسول فيه من يختص بصحبته، إلا وهو من أعظم الناس طمأنينة إليه، ووثوقا به .
ويكفي هذا في فضائل الصدِّيق، وتمييزه على غيره، وهذا من فضائل الصدّيق التي لم يشركه فيها غيره، ومما يدل على أنه أفضل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنده .
(فصل)
وأما قوله : (( إنه يدل على نقصه )) .
فنقول :أولاً : النقص نوعان : نقص ينافي إيمانه، ونقصٌ عمَّن هو أكمل منه .
فإن أراد الأول، فهو باطل . فإن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } } (1) .
وقال للمؤمنين عامة : { { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَنْتُمُ اْلأَعْلَوْنَ } (2) .
__________
(1) الآية 127 من سورة النحل .
(2) الآية 139 من سورة آل عمران .(174/278)
وقال : { { وَلَقَدْ أَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمُ * لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } } (1) . فقد نهى نبيه عن الحزن في غير موضع، ونهى المؤمنين جملة، فعُلم أن ذلك لا ينافي الإيمان .
وإن أراد بذلك أنه ناقص عمَّن هو أكمل منه، فلا ريب أن حال النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل من حال أبي بكر . وهذا لا ينازع فيه أحدٌ من أهل السنّة . ولكن ليس في هذا ما يدل على أن عليًّا أو عثمان أو عمر أو غيرهم أفضل منه، لأنهم لم يكونوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحال، ولو كانوا معه لم يُعلم حالهم يكون أكمل من حال الصدِّيق، بل المعروف من حالهم دائماً وحاله، أنهم وقت المخاوف يكون الصدِّيق أكمل منهم كلهم يقيناً وصبرا، وعند وجود أسباب الريب يكون الصديق أعظم يقينا وطمأنينة، وعندما يتأذّى منه النبي- صلى الله عليه وسلم - يكون الصديق أتبعهم لمرضاته، وأبعدهم عما يؤذيه .
هذا هو المعلوم لكل من استقرأ أحوالهم في محيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته .
وأيضا فقصة يوم بدر في العريش، ويوم الحديبية في طمأنينته وسكينته معروفة، برز ذلك على سائر الصحابة، فكيف ينسب إلى الجزع ؟!
وأيضا فقيامه بقتال المرتدّين ومانعي الزكاة، وتثبيت المؤمنين، مع تجهيز أسامة، مما يبيّن أنه أعظم الناس طمأنينة ويقينا .
__________
(1) الآيتان 87، 88 من سورة الحجر .(174/279)
والسنُّى لا ينازع في فضله عَلَى عمر وعثمان، ولكن الرافضي الذي ادّعى أن عليًّا كان أكمل من الثلاثة في هذه الصفات دعواهُ بُهت وكذب وفرية؛ فإن من تدبّر سيرة عمر وعثمان علم أنهما كانا في الصبر والثابت وقلة الجزع في المصائب أكمل من عليّ،فعثمان حاصروه وطلبوا خلعه من الخلافة أو قتله، ولم يزالوا به حتى قتلوه، وهو يمنع الناس من مقاتلتهم، إلى أن قُتل شهيداً، وما دافع عن نفسه . فهل هذا إلا من أعظم الصبر على المصائب ؟!
ومعلوم أن عليًّا لم يكن صبره كصبر عثمان، بل كان يحصل له من إظهار التأذّي من عسكره الذين يقاتلون معه، ومن العسكر الذين يقاتلهم، ما لم يكن يظهر مثله، لا من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان .
(فصل)
قال الرافضي : (( إن الآية تدل على خَوَرِهِ وقلة صبره، وعدم يقينه بالله، وعدم رضاه بمساواته للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وبقضاء الله وقدره )) .
فهذا كله : كذب منه ظاهر، ليس في الآية ما يدل على هذا . وذلك من وجهين :
أحدهما : أن النهي عن الشيء لا يدل على وقوعه، بل يدل على أنه ممنوع منه، لئلا يقع فيما بعد، كقوله تعالى : { { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } } (1)، فهذا لا يدل على أنه كان يطيعهم .
الثاني : أنه بتقدير أن يكون حزن، فكان حزنه على النبي - صلى الله عليه وسلم - لئلا يُقتل فيذهب الإسلام، وكان يوّد أن يفدي النبي- صلى الله عليه وسلم - . ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة، كان يمشي أمامه تارة، وراءه تارة، فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال : (( أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون وراءك )) رواه أحمد .
__________
(1) الآية 1 من سورة الأحزاب .(174/280)
وحينئذ لم يكن يرضى بمساواة النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا بالمعنى الذي أراده الكاذب المفترى عليه : أنه لم يرض بأن يموتا جميعاً، بل كان لا يرضى بأن يُقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعيش هو، بل كان يختار أن يفديه بنفسه وأهله وماله .
وهذا واجب على كل مؤمن، والصدّيق أَقْوَم المؤمنين بذلك . قال تعالى: { { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } } (1) . وفي الصحيحين عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين))(2) وحزنه على النبي- صلى الله عليه وسلم - يدل على كمال موالاته ومحبته، ونصحه له، واحتراسه عليه، وذبّه عنه،ودفع الأذى عنه . وهذا من أعظم الإيمان .
(فصل)
وأما قوله : ((إنه يدل على قلة صبره )) .
فباطل، بل ولا يدل على انعدام شيء من الصبر المأمور به، فإن الصبر على المصائب واجب بالكتاب والسنّة، ومع هذا فحزن القلب لا ينافي ذلك .
كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله لا يؤاخذ على دمع العين، ولا على حزن القلب، ولكن يؤاخذ على هذا – يعني اللسان – أو يرحم ))(3) .
وقوله: ((إنه يدل على عدم يقينه بالله )) .
كذب وبهت ؛ فإن الأنبياء قد حزنوا، ولم يكن ذلك دليلا على عدم يقينهم بالله، كما ذكر الله عن يعقوب . وثبت في الصحيح أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لما مات ابنه إبراهيم قال : (( تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون ))(4) .
__________
(1) الآية 6 من سورة الأحزاب .
(2) انظر البخاري ج1 – ص9 – مطبعة النهضة – ومسلم ج1 ص 67 .
(3) انظر البخاري ج2 ص 84 ومسلم ج2 ص 636 .
(4) انظر البخاري ج2 ص 83 – 84 ومسلم ج4 ص 1807 – 1808 .(174/281)
وقد نهى الله عن الحزن نبيه- صلى الله عليه وسلم - بقوله : { { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } } (1) .
وكذلك قوله : (( يدل على الخور وعدم الرضا بقضاء الله وقدره )) . هو باطل، كما تقدم نظائره .
(فصل)
وقو له : (( وإن كان الحزن طاعة استحال نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه، وإن كان معصية كان ما ادّعوه فضيلةً رذيلة )) .
والجواب : أولا : أنه لم يدع أحد أن مجرد الحزن كان هو الفضيلة، بل الفضيلة ما دلّ عليه قوله تعالى : { { إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } } (2) .
فالفضيلة كونه هو الذي خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحال، واختصّ بصحبته، وكان له كمال الصحبة مطلقا، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - له : (( إن الله معنا )) وما يتضمنه ذلك من كمال موافقته للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومحبته وطمأنينته، وكمال معونته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وموالاته، ففي هذه الحال من كمال إيمانه وتقواه ما هو الفضيلة .
وكمال محبته ونصره للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الموجب لحزنه، إن كان حَزِنَ، مع أن القرآن لم يدل على أنه حَزِنَ كما تقدم .
__________
(1) الآية 127 من سورة النحل .
(2) الآية40 من سورة التوبة .(174/282)
ويقال : ثانياً : هذا بعينه موجود في قوله عز وجل لنبيّه : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } } (1) ، وقوله : { { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } } (2) ونحو ذلك، بل في قوله تعالى لموسى : { { خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى } } (3) .
فيقال : إنه أثمر أن يطمئن ويثبت، لأن الخوف يحصل بغير اختيار العبد، إذا لم يكن له ما يوجب الأمن، فإذا حصل ما يوجب الأمن زال الخوف.
وكذلك قول النبي- صلى الله عليه وسلم - لصدِّيقه : { { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } نهى عن الحزن مقرون بما يوجب زواله، وهو قوله : { إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } وإذا حصل الخبر بما يوجب زوال الحزن والخوف زال، وإلا فهو يهجم على الإنسان بغير اختياره.
ويقال : ثالثا : ليس في نهيه عن الحزن ما يدل على وجوده كما تقدم، بل قد ينهى عنه لئلا يوجد إذا وجد مقتضيه، وحينئذ فلا يضرنا كونه معصية لو وجد، وإن وجد، فالنهي . قد يكون نهي تسلية وتعزية وتثبيت وإن لم يكن المنهي عنه معصية بل قد يكون مما يحصل بغير اختيار المنهي، وقد يكون الحزن من هذا الباب .
ويقال : رابعاً : عامة عقلاء بني آدم إذا عاشر أحدهم الآخر مدة يتبين له صداقته من عداوته،فالرسول يصحب أبا بكر بمكة بضع عشرة سنة، ولا يتبين له هل هو صديقه أو عدوه، وهو يجتمع معه في دار الخوف ؟! وهل هذا إلا قدح في الرسول ؟
__________
(1) الآية 127 من سورة النحل .
(2) الآية 88 من سورة الحجر .
(3) الآية 21 من سورة طه .(174/283)
ثم يقال : جميع الناس كانوا يعرفون أنه أعظم أوليائه من حسن المبعث إلى الموت فإنه أول من آمن به من الرجال الأحرار،ودعا غيره إلى الإيمان به حتى آمنوا، وبذل أمواله في تخليص من كان آمن به من المستضعفين، مثل بلال وغيره، وكان يخرج معه إلى الموسم فيدعو القبائل إلى الإيمان به، ويأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - كل يوم إلى بيته : إما غدوة وإما عشية، وقد آذاه الكفّار على إيمانه، حتى خرج من مكة فلقيه ابن الدغنة أمير من أمراء العرب – سيد القارة – وقال إلى أين ؟ وقد تقدم حديثه، فهل يشك من له أدنى مسكة من عقل أن مثل هذا لا يفعله إلا من هو في غاية الموالاة والمحبة للرسول ولما جاء به وأن موالاته ومحبته بلغت به إلى أن يعادي قومه، ويصبر على أذاهم، وينفق أمواله على من يحتاج إليه من إخوانه المؤمنين .
ولم يكن يحصل للنبي- صلى الله عليه وسلم - أذى قط من أبي بكر مع خلوته به واجتماعه به ليلا ونهاراً، وتمكنه مما يريد المخادع من إطعام سم، أو قتل أو غير ذلك .
وأيضا فكان حفظ الله لرسوله وحمايته له يوجب أن يطلعه على ضميره السيئ، لو كان مضمراً له سوءاً، وهو قد أطلعه الله على ما في نفس أبي عزة لما جاء مظهرا للإيمان بنية الفتك به، وكان ذلك في قعدة واحدة، وكذلك أطلعه على ما في نفس عُمير بن وهب لما جاء من مكة مظهرا للإسلام يريد الفتك به، وأطلعه الله على المنافقين في غزوة تبوك، لما أرادوا أن يحلوا حزام ناقته.(174/284)
وأبو بكر معه دائما ليلا ونهارا، حضرا وسفرا، في خلوته وظهوره . ويوم بدر يكون معه وحده في العريش، ويكون في قلبه ضمير سيئ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم ضمير ذلك قط، ومن له أدنى نوع فطنة يعلم ذلك في أقل من هذا الاجتماع، فهل يَظُن ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصدِّيقه إلا من هو – مع فرط جهله وكمال نقص عقله – من أعظم الناس تنقّصاً للرسول، وطعنا فيه، وقدحا في معرفته ؟ّ فإن كان هذا الجاهل – مع ذلك – محباً للرسول، فمن له أدنى خبرة بدين الإسلام يعلم أن مذهب الرافضة مناقض له(1) .
(فصل)
وأما قول الرافضي :إن القرآن حيث ذكر إنزال السكينة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرك معه المؤمنين إلا في هذا الموضع، ولا نقص أعظم منه .
فالجواب : أولا : أن هذا يوهم أنه ذَكَر ذلك في مواضع متعددة، وليس كذلك، بل لم يذكر ذلك إلا في قصة حُنين .
كما قال تعالى : { { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضَ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا } } (2) فذكر إنزال السكينة على الرسول والمؤمنين، بعد أن ذكر توليتهم مدبرين .
__________
(1) أي مناقض للإسلام كما هو الواقع لمن عرف مذهبهم ونظر أحوالهم .
(2) الآيتان 25، 26 من سورة التوبة .(174/285)
وقد ذكر إنزال السكينة على المؤمنين وليس معهم الرسول في قوله: { ? { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا } } (1) إلى قوله : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ } } (2) الآية، وقوله : { { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ } } (3) .
ويقال : ثانيا : الناس قد تنازعوا في عَوْد الضمير في قوله تعالى : { فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } } (4) . فمنهم من قال : إنه عائد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . ومنهم من قال : إنه عائد إلى أبي بكر، لأنه أقرب المذكورين، ولأنه كان محتاجا إلى إنزال السكينة، فأنزل السكينة عليه، كما أنزلها على المؤمنين الذين بايعوه تحت الشجرة .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان مستغنيا عنها في هذه الحال لكمال طمأنينته، بخلاف إنزالها يوم حنين، فإنه كان محتاجا إليها لانهزام جمهور أصحابه، وإقبال العدو نحوه، وسوقه ببغلته إلى العدو .
وعلى القول الأول فيكون الضمير عائداً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما عاد الضمير إليه في قوله : { { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } } (5) . ولأن سياق الكلام كان في ذكره، وإنما ذكر صاحبه ضمنا وتبعا .
__________
(1) الآية 1 من سورة الفتح .
(2) الآية 4 من سورة الفتح.
(3) الآية 18 من سورة الفتح .
(4) الآية 40 من سورة التوبة .
(5) الآية40 من سورة التوبة .(174/286)
لكن يقال : على هذا لما قال لصاحبه : { إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو المتبوع المطاع، وأبو بكر تابع مطيع، وهو صاحبه، والله معهما، فإذا حصل للمتبوع في هذه الحال سكينة وتأييد، كان ذلك للتابع أيضا بحكم الحال، فإنه صاحب تابع لازم، ولم يحتج أن يذكر هنا أبو بكر لكمال الملازمة والمصاحبة، التي توجب مشاركة النبي - صلى الله عليه وسلم - في التأييد .
(فصل)
قال الرافضي : (( وأما قوله : { { وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى } (1) ، فإن المراد به أبو الدحداح حيث اشترى نخلة لشخص لأجل جاره، وقد عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - على صاحب النخلة نخلة في الجنة، فسمع أبو الدحداح، فاشتراها ببستان له ووهبها له الجار، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له بستانا عوضا في الجنة)) .
والجواب : أن يُقال : لا يجوز أن تكون هذه الآية مختصة بأبي الدحداح دون أبي بكر باتفاق أهل العلم بالقرآن وتفسيره وأسباب نزوله، وذلك أن هذه السورة مكيَّة باتفاق العلماء . وقصة أبي الدحداح كانت بالمدينة باتفاق العلماء ؛ فإنه من الأنصار، والأنصار إنما صحبوه بالمدينة، ولم تكن البساتين – وهي الحدائق التي تسمى بالحيطان – إلا بالمدينة، فمن الممتنع أن تكون الآية لم تنزل إلا بعد قصة أبي الدحداح، بل إن كان قد قال بعض العلماء : إنها نزلت فيه، فمعناه أنه ممن دخل في الآية في كذا )) ويكون المراد بذلك أنها دلّت على هذا الحكم وتناولته، وأريد بها هذا الحكم .
ومنهم من يقول : بل قد تنزل الآية مرتين : مرة لهذا السبب، ومرة لهذا السبب .
فعلى قول هؤلاء يمكن أنها نزلت مرة ثانية في قصة أبي الدحداح، وإلا فلا خلاف بين أهل العلم أنها نزلت بمكة قبل أن يسلم أبو الدحداح، وقبل أن يهاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) الآية 17 من سورة الليل .(174/287)
وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أنها نزلت في قصة أبي بكر . فذكر ابن جرير في تفسيره بإسناده عن عبد الله بن الزبير وغيره أنها نزلت في أبي بكر .
وكذلك ذكره ابن أبي حاتم – والثعلبي – أنها نزلت في أبي بكر عن عبد الله وعن سعيد بن المسيب .
ويدل على أنها نزلت في أبي بكر وجوه :
أحدها : أنه قال : { { وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى } (1) ، وقال : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (2) . فلا بد أن يكون أتقى الأمة داخلاً في هذه الآية، وهو أكرمهم عند الله، ولم يقل أحد : إن أبا الدحداح ونحوه أفضل وأكرم من السابقين الأوّلين من المهاجرين .
الوجه الثاني : أنه إذا كان الأتقى هو الذي يؤتي ماله يتزكى، وأكرم الخلق أتقاهم، كان هذا أفضل الناس . والقولان المشهوران في هذه الآية : قول أهل السنة أن أفضل الخلق أبو بكر، وقول الشيعة عليّ، فلم يجز أن يكون الأتقى الذي هو أكرم الخلق على الله واحداً غيرهما، وليس منهما واحد يدخل في الأتقى، وإذا ثبت أنه لا بد من دخول أحدهما في (( الأتقى )) وجب أن يكون أبا بكر داخلا في الآية، ويكون أوْلى بذلك من عليّ لأسباب :
أحدها : أنه قال : { { الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } (3) . وقد ثبت في النقل المتواتر – في الصحاح وغيرها – أن أبا بكر أنفق ماله، وأنه مقدَّم في ذلك على جميع الصحابة .
وأما عليّ فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمونه لما أخذه من أبي طالب لمجاعة حصلت في بمكة، وما زال عليّ فقيراً حتى تزوّج بفاطمة وهو فقير .وهذا مشهور معروف عند أهل السنة والشيعة، وكان في عيال النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يكن له ما ينفقه، ولو كان له مال لأنفقه، لكنه كان منفقا عليه لا منفِقا.
__________
(1) الآية 17 من سورة الليل .
(2) الآية 13 من سورة الحجرات .
(3) الآية 18 من سورة الليل .(174/288)
السبب الثاني : قوله : { وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِعْمَةٍ تُجْزَى } (1) . وهذه لأبي بكر دون عليّ، لأن أبا بكر كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - عنده نعمة الإيمان أن هداه الله به، وتلك النعمة لا يجزى بها الخلق، بل أجر الرسول فيها على الله، كما قال تعالى : { قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } (2) ، وقال : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ } (3) .
وأما النعمة التي يُجزى بها الخلق فهي نعمة الدنيا، وأبو بكر لم تكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - عنده نعمة الدنيا، بل نعمة دين، بخلاف عليّ، فإنه كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - عنده نعمة دنيا يمكن أن تُجزى .
الثالث : أن الصدِّيق لم يكن بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - سبب يواليه لأجله، ويخرج ماله، إلا الإيمان، ولم ينصره كما نصره أبو طالب لأجل القرابة، وكان عمله كاملاً في إخلاصه لله تعالى، كما قال : { { إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ اْلأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى } }
(فصل)
__________
(1) الآية 19 من سورة الليل .
(2) الآية 86 من سورة سبأ .
(3) الآية 47 من سورة سبأ .(174/289)
قال الرافضي :((وأما قوله تعالى : { قُلْ لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ } (1) .فإنه أراد الذين تخلّفوا عن الحديبية . والتمس هؤلاء أن يخرجوا إلى غنيمة خيْبَر، فمنعهم الله تعالى بقوله : { ? { قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا } } (2) ، لأنه تعالى جعل غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية . ثم قال تعالى : { ?? { قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ اْلأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } } (3) . وقد دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوات كثيرة كمؤتة وحُنين وتبوك وغيرها، وكان الداعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وأيضا جاز أن يكون عليًّا قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وكان رجوعهم إلى طاعته إسلاما، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( يا عليّ حربك حربي، وحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفر )) .
فالجواب : أما الاستدلال بهذه الآية على خلافة الصديق ووجوب طاعته، فقد استدل بها طائفة من أهل العلم، منهم الشافعي والأشعري وابن حزم وغيرهم . واحتجّوا بأن الله تعالى قال: { { فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا } } (4) قالوا : فقد أمر الله رسوله أن يقول لهؤلاء : لن تخرجوا معي أبدا، ولن تقاتلوا معي عدوا، فعُلم أن الداعي لهم إلى القتال ليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجب أن يكون من بعده، وليس إلا أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، الذين دعوا الناس إلى قتال فارس والروم وغيرهم أو يسلمون، حيث قال: { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } .
__________
(1) الآية 16 من سورة الفتح .
(2) الآية 15 من سورة الفتح .
(3) الآية16 من سورة الفتح .
(4) الآية83 من سورة التوبة .(174/290)
فوجه الاستدلال من الآية أن يقال قوله تعالى : { { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } } (1) يدل على أنهم متصفون بأنهم أولو بأس شديد، وبأنهم يقاتلون أو يسلمون . قالوا : فلا يجوز أن يكون دَعَاهُم إلى قتال أهل مكة وهوازن عقيب عام الفتح، لأن هؤلاء هم الذين دعوا إليهم عام الحديبية، ومن لم يكن منهم فهو من جنسهم، ليس هو أشد بأسا منهم، كلهم عربٌ من أهل الحجاز، وقتالهم من جنس واحد، وأهل مكة ومن حولها كانوا أشد بأسا وقتالا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يوم بدر وأحد والخندق من أولئك، وكذلك في غير ذلك من السرايا .
وما ذكره في الحديث من قوله (( حربك حربي )) لم يذكر له إسناداً، فلا يقوم به حجة، فكيف وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث.
وأما قول الرافضي : (( إن الداعي جاز أن يكون عليًّا – دون من قبله من الخلفاء – لمّا قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين )) يعني : أهل الجمل وصفين والحرورية والخوارج .
فيقال له : هذا باطل قطعا من وجوه :
أحدها : أن هؤلاء لم يكونوا أشد بأساً من بني جنسهم، بل معلوم أن الذين قاتلوه يوم الجمل كانوا أقل من عسكره، وجيشه كانوا أكثر منهم.
وكذلك الخوارج كان جيشه أضعافهم ، وكذلك أهل صفّين كان جيشه أكثر منهم، وكانوا من جنسهم، فلم يكن في وصفهم بأنهم أولو بأسٍ شديد ما يوجب امتيازهم عن غيرهم .
__________
(1) الآية16 من سورة الفتح .(174/291)
ومعلوم أن بني حنيفة وفارس والروم كانوا في القتال أشدُّ بأساً من هؤلاء بكثير، ولم يحصل في أصحاب عليّ من الخوارج من استحرار القتل ما حصل في جيش الصدِّيق، الذين قاتلوا أصحاب مسيلمة . وأما فارس والروم فلا يشك عاقل أن قتالهم كان أشد من قتال المسلمين العرب بعضهم بعضا، وإن كان قتال العرب للكفّار في أول الإسلام كان أفضل وأعظم، فذاك لقلة المؤمنين وضعفهم في أول الأمر، لا أن عدوهم كان أشدّ بأساً من فارس والروم .
الوجه الثاني : أن عليًّا لم يدع ناسا بعيدين منه إلى قتال أهل الجمل وقتال الخوارج، ولما قدم البصرة لم يكن في نيّته قتال أحدٍ، بل وقع القتال بغير اختيار منه ومن طلحة والزبير . وأما الخوارج فكان بعض عسكره يكفيهم، لم يدع أحداً إليهم من أعراب الحجاز .
الثالث : أنه لو قُدِّر أن عليًّا تجب طاعته في قتال هؤلاء، فمن الممتنع أن يأمر الله بطاعة من يقاتل أهل الصلاة لردهم إلى طاعة وليّ الأمر، ولا يأمر بطاعة من يقاتل الكفار ليؤمنوا بالله ورسوله .
ومعلوم أن من خرج من طاعة عليّ ليس بأبعد عن الإيمان بالله ورسوله ممن كذّب الرسول والقرآن، ولم يقرّ بشيء مما جاء به الرسول، بل هؤلاء أعظم ذنبا، ودعاؤهم إلى الإسلام أفضل، وقتالهم أفضل، وإن قُدِّر أن الذين قاتلوا عليًّا كفّار .
وإن قيل : هم مرتدّون، كما تقوله الرافضة .
فمعلوم أن من كانت ردّته إلى أن يؤمن برسولٍ آخر غير محمد، كأتباع مسيلمة الكذّاب، فهو أعظم ردة ممن لم يقرّ بطاعة الإمام،مع إيمانه بالرسول .
فبكل حال لا يُذكر ذنبٌ لمن قاتله عليٌّ إلا وذنب من قاتله الثلاثة أعظم، ولا يُذكر فضلٌ ولا ثواب لمن قاتل مع عليّ إلا والفضل والثواب لمن قاتل مع الثلاثة أعظم .(174/292)
هذا بتقدير أن يكون من قاتله عليّ كافراً . ومعلوم أن هذا قول باطل، لا يقوله إلا حثالة الشيعة، وإلا فعقلاؤهم لا يقولون ذلك . وقد علم بالتواتر عن عليّ وأهل بيته أنهم لم يكونوا يكفّرون من قاتل عليًّا. وهذا كله إذا سُلِّم أن ذلك القتال كان مأموراً به . كيف وقد عُرف نزاع الصحابة والعلماء بعدهم في هذا القتال : هل كان من باب قتال البغاة الذي وجد في شرط وجوبه القتال فيه، أم لم يكن من ذلك لانتفاء الشرط الموجب للقتال ؟!
والذي عليه أكابر الصحابة والتابعين أن قتال الجمل وصفّين لم يكن من القتال المأمور به، وإن تركه أفضل من الدخول فيه، بل عدُّوه قتال فتنة .
وعلى هذا جمهور أهل الحديث، وجمهور أئمة الفقهاء .
الوجه الرابع : أن الآية لا تتناول القتال مع علي قطعا ً لأنه قال : { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } فوصفهم بأنهم لا بد فيهم من أحد أمرين : المقاتلة، أو الإسلام، ومعلوم أن الذين دعا إليهم عليّ فيهم خلق لم يقاتلوه ألبتة، بل تركوا قتاله فلم يقاتلوه ولم يقاتلوا معه، فكانوا صنفاً ثالثاً : لا قاتلوه ولا قاتلوا معه ولا أطاعوه، وكلهم مسلمون، وقد دل على إسلامهم القرآن والسنة وإجماع الصحابة : عليٌّ وغيره .
قال تعالى : { { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } } (1)، فوصفهم بالإيمان مع الاقتتال والبغي، وأخبَر أنهم إخوة وأن الأُخوّة لا تكون إلا بين المؤمنين، لا بين مؤمن وكافر .
وأما تكفير هذا الرافضي وأمثاله لهم، وجعل رجوعهم إلى طاعة عليّ إسلاما، لقوله - صلى الله عليه وسلم -- فيما زعمه – يا عليّ حربك حربي .
__________
(1) الآية9 من سورة الحجرات .(174/293)
فيقال : من العجائب وأعظم المصائب على هؤلاء المخذولين أن يثبتوا مثل هذا الأصل العظيم، بمثل هذا الحديث الذي لا يوجد في شيء من دواوين أهل الحديث التي يعتمدون عليها، لا هو في الصحاح ولا في السنن ولا المسانيد ولا الفوائد، ولا غير ذلك مما يتناقله أهل العلم بالحديث ويتداولونه بينهم، ولا هو عندهم لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف، بل هو أخسّ من ذلك، وهو من أظهر الموضوعات كذبا، فإنه خلاف المعلوم المتواتر من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أنه جعل الطائفتين مسلمين، وأنه جعل ترك القتال في تلك الفتنة خيرا من القتال فيها، وأنه أثنى على من أصلح به بين الطائفتين .
(فصل)
قال الرافضي : (( وأما كونه أنيسه في العريش يوم بدر فلا فضل فيه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أنسه بالله مغنيا له عن كل أنيس، لكن لما عرف النبي- صلى الله عليه وسلم - أن أمره لأبي بكر بالقتال يؤدي إلى فساد الحال، حيث هرب عدة مرار في غزواته، وأيّما أفضل : القاعد عن القتال، أو المجاهد بنفسه في سبيل الله ؟ )) .
الجواب : أن يُقال : لهذا المفترى الكذّاب ما ذكرته من أظهر الباطل من وجوه .
أحدها : أن قوله : (( هرب عدة مرار في غزواته )) . يقال له : هذا الكلام يدل على أن قائله من أجهل الناس بمغازى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحواله، والجهل بذلك غير منكر من الرافضة ؛ فإنهم من أجهل الناس بأحوال الرسول، وأعظمهم تصديقا بالكذب فيها، وتكذيبا بالصدق منها .
وذلك أن غزوة بدر هي أوّل مغازي القتال، لم يكن قبلها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا لأبي بكر غزاة مع الكفّار أصلا .(174/294)
الثاني : أن أبا بكر رضي الله عنه لم يهرب قط، حتى يوم أُحد لم ينهزم لا هو ولا عمر، وإنما عثمان تولّى، وكان من عفا الله عنه . وأما أبو بكر وعمر فلم يقل أحد قط : إنهما انهزما مع من انهزم، بل ثبتا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حُنين، كما تقدّم ذلك عن أهل السيرة، لكن بعض الكذّابين ذكر أنهما أخذا الراية يوم حُنين، فرجعا ولم يُفتح عليهما . ومنهم من يزيد في الكذب ويقول: إنهما انهزما مع من انهزم، وهذا كذب كله .
الثالث : أنه لو كان في الجبن بهذه الحال لم يخصّه النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أصحابه بأن يكون معه في العريش، بل لا يجوز استصحاب مثل هذا في الغزو، فإنه لا ينبغي للإمام أن يستصحب مخذلاً ولا مرجفاً، فضلا عن أن يقدِّم على سائر أصحابه، ويجعله معه في عريشه .
الرابع : أن يُقال : قد علم كل من علم السيرة أن أبا بكر كان أقوى قلباً من جميع الصحابة، لا يقاربه في ذلك أحد منهم، فإنه من حين بعث الله رسوله إلى أن مات أبو بكر لم يزل مجاهداً ثابتاً مقداماً شجاعا، لم يُعرف قط أنه جبن عن قتال عدوّ، بل لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعفت قلوب أكثر الصحابة، وكان هو الذي يثبّتهم، حتى قال أنس : (( خطبنا أبو بكر ونحن كالثعالب، فما زال يشجّعنا حتى صرنا كالأسود)).
ورُوى أن عمر قال : يا خليفة رسول الله تألّف الناس : فأخذ بلحيته وقال : يا ابن الخطاب : أجبّار في الجاهلية خوّار في الإسلام ؟!علام أتألفهم : على حديث مفترى أم على شعر مفتعل ؟!
السادس : قوله : (( أيّما افضل : القاعد عن القتال أو المجاهد بنفسه في سبيل الله ؟)) .
فيقال : بل كونه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحال هو من أفضل الجهاد ؛ فإنه هو الذي كان العدو يقصده، فكان ثُلُثُ العسكر حوله يحفظونه من العدو، وثلثه اتّبع المنهزمين، وثلثه أخذوا الغنائم . ثم إن الله قسمها بينهم كلهم .(174/295)
السابع : قوله: (( إن أنس النبي - صلى الله عليه وسلم - بربّه كان مُغنيا له عن كل أنيس)).
فيقال : قول القائل : إنه كان أنيسه في العريش، ليس هو من ألفاظ القرآن والحديث . ومن قاله، وهو يدري ما يقول، لم يُرد به أنه يؤنسه لئلا يستوحش، بل المراد أنه كان يعاونه على القتال، كما كان من هو دونه يعاونه على القتال .
ففضيلة الصدِّيق مختصة به لم يشركه فيها غيره، وفضيلة عليّ مشتركة بينه وبين سائر الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين .
الوجه الثامن : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - - هو وأبو بكر – خرجا بعد ذلك من العريش، ورماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الرمية التي قال الله فيها : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } (1) والصدِّيق قاتلهم حتى قال له ابنه عبد الرحمن : قد رأيتك يوم بدر فصدفت عنك . فقال : لكنّي لو رأيتك لقتلتك .
(فصل)
قال الرافضي : (( وأما إنفاقه على النبي - صلى الله عليه وسلم - فكذب، لأنه لم يكن ذا مال، فإن أباه كان فقيراً في الغاية، وكان يُنادى على مائدة عبد الله بن جُدعان كل يوم بمدّ يقتات به، ولو كان أبو بكر غنيا لكفى أباه . وكان أبو بكر معلما للصبيان في الجاهلية، وفي الإسلام كان خيّاطا، ولما وَلِيَ أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة،فقال : إني محتاج إلى القوت، فجعلوا له كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال )) .
__________
(1) الآية 17 من سورة الأنفال .(174/296)
والجواب : أن يقال : أولا : من أعظم الظلم والبهتان أن ينكر الرجل ما تواتر به النقل، وشاع بين الخاص والعام، وامتلأت به الكتب : كتب الحديث الصحاح، والمسانيد والتفسير، والفقه، والكتب المصنّفة في أخبار القوم وفضائلهم، ثم يدَّعي شيئاً من المنقولات التي لا تُعلم إلا بمجرد قوله، ولا ينقله بإسناد معروف ولا أضافه إلى كتاب يعرف يوثق به، ولا يذكر ما قاله . فلو قدَّرنا أنه ناظر أجهل الخلق لأمكنه أن يقول له : بل الذي ذكرت هو الكذب، والذي قاله منازعوك هو الصدق، فكيف تخبر عن أمر كان بلا حجة أصلا، ولا نقل يُعرف به ذلك ؟ ومن الذي نقل من الثقات ما ذكره عن أبي بكر ؟
ثم يُقال : أما إنفاق أبي بكر ماله، فمتواتر منقول في الحديث الصحيح من وجوه كثيرة . حتى قال : (( ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر ))(1) . وقال : (( إن أمّن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر))(2) . وثبت عنه انه اشترى المعذَّبين من ماله : بلالا، وعامر بن فهيرة، اشترى سبعة أنفس .
وأما قول القائل : (( إن أباه كان يُنادى على مائدة عبد الله بن جُدعان)).
فهذا لم يذكر له إسناداً يُعرف به صحته، ولو ثبت لم يضر ؛ فإن هذا كان في الجاهلية قبل الإسلام، فإن ابن جدعان مات قبل الإسلام . وأما في الإسلام فكان لأبي قحافة ما يغنيه، ولم يُعرف قط أن أبا قحافة كان يسأل الناس، وقد عاش أبو قحافة إلى أن مات أبو بكر، وورث السدس، فردَّه على أولاده لِغِنَاه عنه .
وقوله : إن أبا بكر كان معلّما للصبيان في الجاهلية .
فهذا : من المنقول الذي لو كان صدقاً لم يقدح فيه، بل يدلّ على أنه كان عنده علم ومعرفة .
__________
(1) تقدم مراراً ص 618 .
(2) تقدم تخريجه ص 620 .(174/297)
ولكن كلام الرافضة من جنس كلام المشركين الجاهلية، يتعصبون للنسب والآباء، لا للدين، ويعيبون الإنسان بما لا ينقص إيمانه وتقواه . وكل هذا من فعل الجاهلية، ولهذا كانت الجاهلية ظاهرة عليهم، فهم يشبهون الكفّار من وجوه خالفوا بها أهل الإيمان والإسلام .
وقوله : (( إن الصديق كان خيّاطا في الإسلام، ولما وَلِيَ أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة )) .
كذب ظاهر، يعرف كل أحد أنه كذب، وإن كان لا غضاضة فيه لو كان حقًّا ؛ فإن أبا بكر لم يكن خيَّاطا، وإنما كان تاجراً، تارة يسافر في تجارته، وتارة لا يسافر . وقد سافر إلى الشام في تجارته في الإسلام . والتجارة كانت أفضل مكاسب قريش، وكان خيار أهل الأموال منهم أهل التجارة، وكانت العرب تعرفهم بالتجارة . ولما ولى أراد أن يتّجر لعياله، فمنعه المسلمون، وقالوا : هذا يشغلك عن مصالح المسلمين .
(فصل)
وقوله : (( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة غنيا بمال خديجة، ولم يحتج إلى الحرب )) .
والجواب : أن إنفاق أبي بكر لم يكن نفقة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في طعامه وكسوته ؛ فإن الله قد أغنى رسوله عن مال الخلق أجمعين، بل كان معونةً له على إقامة الإيمان، فكان إنفاقه فيما يحبه الله ورسوله، لا نفقة على نفس الرسول، فاشترى المعذَّبين، مثل بلال، وعامر بن فهيرة،وزنّيرة، وجماعة .
(فصل)
وقوله : (( وبعد الهجرة لم يكن لأبي بكر شيء ألبتة )) .(174/298)
فهذا . كذب ظاهر، بل كان يعين النبي - صلى الله عليه وسلم - بماله، وقد حثّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة، فجاء بماله كله، وأصحاب الصُّفة كانوا فقراء، فحث النبي- صلى الله عليه وسلم - على طعمتهم، فذهب بثلاثة، كما في الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال : إن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال مرة : (( من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس وسادس – أو كما قال – وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بعشرة، وذكر الحديث(1) .
(فصل)
وأما قو له :(( ثم لو أنفق لوجب أن ينزل فيه قرآن، كما أنزَلَ في عليّ: { هَلْ أَتَى } }
والجواب : أما نزول : { هَلْ أَتى } في عليّ، فمما اتفق أهل العلم بالحديث عَلَى أنه كذب موضوع، وإنما يذكره من المفسّرين من جرت عادته بذكر أشياء من الموضوعات .
والدليل الظاهر على أنه كذب : أن سورة { هَلْ أَتى } مكيّة باتفاق الناس، نزلت قبل الهجرة، وقبل أن يتزوج عليّ بفاطمة، ويولد الحسن والحسين، وقد بُسط الكلام على هذه القضية في غير موضع،ولم ينزل قط قرآن في إنفاق عليّ بخصوصه، لأنه لم يكن له مال، بل كان قبل الهجرة في عيال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعد الهجرة كان أحياناً يؤجّر نفسه : كل دلو بتمرة، ولما تزوّج بفاطمة لم يكن له مهر إلا درعه، وإنما أنفق على العرس ما حصل له من غزوة بدر .
وأما الصدِّيق رضي الله عنه فكل آية نزلت في مدح المنفقين في سبيل الله فهو أول المرادين بها من الأمة، مثل قوله تعالى : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا } (2)، وأبو بكر أفضل هؤلاء وأولهم .
__________
(1) انظر البخاري ج1 ص 120 وج4 ص 194 .
(2) الآية 10 من سورة الحديد .(174/299)
وكذلك قوله : { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِم وَأَنْفُسِهِم } (1) .
وقوله : { { وَسَيُجَنَّبُهُا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } (2)، فذكر المفسِّرون، مثل ابن جرير الطبري، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وغيرهما، بالأسانيد عن عروة بن الزبير وعبد الله بن الزبيد وسعيد بن المسيب وغيرهم، أنها نزلت في أبي بكر(3) .
(فصل)
قال الرافضي : (( وأما تقديمه في الصلاة فخطأ، لأن بلالاً لمّا أذن بالصلاة، أمرت عائشة أن يُقدِّم أبا بكر، فلما أفاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع التكبير، فقال : من يصلِّي بالناس، فقالوا : أبو بكر . فقال : أخرجوني، فخرج بين عليّ والعباس، فنحّاه عن القبلة، وعزله عن الصلاة، وتولى هو الصلاة )) .
والجواب : أن هذا من الكذب المعلوم عند جميع أهل العلم بالحديث .
ويقال له : أولاً : من ذكر ما نقله بإسناد يوثق به وهل هذا إلا في كتب من نقله مرسلا من الرافضة، الذين هم من أكذب الناس وأجهلهم بأحوال الرسول ؟ مثل المفيد بن النعمان، والكراجكي، وأمثالهما من الذين هم من أبعد الناس عن معرفة حال الرسول وأقواله وأعماله .
ويقال : ثانيا : هذا كلام جاهل يظن أن أبا بكر لم يصّل بهم إلا صلاةً واحدة، وأهل العلم يعلمون أنه لم يزل يصلّي بهم حتى مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإذنه واستخلافه له في الصلاة، بعد أن راجعته عائشة وحفصة في ذلك، وصلّى بهم أياماً متعددة .
وفي أول الأمر أرسل إليه رسلا فأمروه بذلك، ولم تكن عائشة هي المبلّغة لأمره، ولا قالت لأبيها : إنه أمره، كما زعم هؤلاء الرافضة المفترون.
__________
(1) الآية 20 من سورة التوبة .
(2) الآية 18 من سورة الليل .
(3) انظر تفسير الطبري ج30 ص 228 .(174/300)
فقول هؤلاء الكذّابين : إن بلالا لما أذّن أمرته عائشة أن يقدّم أبا بكر، كذب واضح: لم تأمره عائشة أن يقدّم أبا بكر، ولم تأمره بشيء ولا أخذ بلال ذلك عنها، بل هو الذي آذنه بالصلاة . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل من حضره : لبلال وغيره : (( مروا أبا بكر فليصلّ بالناس )) فلم يخصّ عائشة بالخطاب، ولا سمع ذلك بلال منها .
وقوله : (( فلما أفاق سمع التكبير فقال : من يصلي بالناس ؟ فقالوا : أبو بكر . فقال : أخرجوني )) .
فهو كذب ظاهر؛ فإنه قد ثبت بالنصوص المستفيضة التي اتفق أهل العلم بالحديث على صحتها أن أبا بكر صلّى بهم أياما قبل خروجه، كما صلّى بهم أياماً بعد خروجه، وأنه لم يصلّ بهم في مرضه غيره .
ثم يقال : من المعلوم المتواتر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرض أياما متعددة، عجز فيها عن الصلاة بالناس أياماً، فمن الذي كان يصلّي بهم تلك الأيام غير أبي بكر ؟ ولم ينقل أحد قط : لا صادق ولا كاذب : أنه صلّى بهم غير أبي بكر، لا عمر ولا عليّ ولا غيرهما . وقد صلُّوا جماعة، فعُلم أن المصلّي بهم كان أبا بكر .
ومن الممتنع أن يكون الرسول لم يعلم ذلك، ولم يستأذنه المسلمون فيه ؛ فإن مثل هذا ممتنع عادةً وشرعاً، فعُلم أن ذلك كان بإذنه والله أعلم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وأزواجه ورضي الله عن أبي بكر وعمر وجميع أصحاب نبيه أتم تسليم وأزكى صلاة وحشرنا الله في زمرتهم .
فهرس الجزء الثاني لمختصر منهاج السنة
الموضوع الصفحة
عيب الرافضي على أمير المؤمنين عمر رضي
الله عنه همه بمنع الزيادة في المهور وجوابه …...............……
دعوى الرافضي أن عمر رضي الله عنه لا يعرف حد الخمر،
ولهذا لم يجلد قدامة إلا بعد ما أمره عليّ بذلك ....…….............
كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة في(174/301)
الحوادث كلها، وكان من أشد الناس رأيا ……….................…
زعم الرافضي أن امرأتين تنازعتا عند عمر بابن لإحداهما
كل واحدة تدعيه فلم يدر ما يقول حتى أعلمه علي……..............
دعوى الرافضي أن عمر رضي الله عنه كان يفضل في الغنيمة
وهو كذب ……………………………………...................
عيب الرافضي على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه القول
بالرأي…………………………………………..................
قيل لبعض شيوخ الرافضة : إذا جاء الكفار إلى بلادنا فقتلوا
النفوس وسبوا الحريم تقاتلهم ؟ قال : لا حتى يخرج المعصوم ........
عيب الرافضي على أمير المؤمنين عمر بجعله الأمر شورى
بين ستة …………………………………........................
الرافضة لفرط جهلهم وهواهم يقبلون الحقائق ويكذبون بالحق
ويقبلون الباطل ……………………………….....................
الشيعة الأولى متفقون على فضل أبي بكر وعمر و تقديمهما …….....
عمر تعين للخلافة إذ لا نظير له، وأما الستة فلكل واحد مزية
على الآخر، ولهذا جعل عمر الأمر بينهم…….........................
بعث الله الرسل وأنزل الكتب ليكون الناس على غاية ما يمكن من
الصلاح، وأما رفع الفساد جملة فغير ممكن….........................
لا يصح ما يروى أن عمر قال : لو كان سالم مولى أبي حذيفة
حيا لوليته ………………………………….....................
تفضيل أبي بكر وعمر وعثمان ثابت بالنص، وبما ظهر من فعل
الصحابة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -………………….......................
خلافة عثمان اتفق عليها الصحابة، وحصل فيها من المصالح
والخيرات ما لا يعلمه إلا الله تعالى………….........................
كذب الرافضي على عمر أنه جعل الخلافة في ستة ثم جعلها في
ثلاثة، ثم جعلها بيد عبد الرحمن…………….........................
زعم الرافضي أن عمر رضي الله عنه حابى عثمان في الولاية،
فقال : إن اجتمع عليّ وعثمان فقولهما. وإلا فقول من فيهم عبد(174/302)
الرحمن ……….....................................……………...
لكم يكن بين عليّ وعثمان خلاف في حياة عمر أصلا، بل بينهما
وفاق، كما أن بني هاشم وبني أمية كانوا متفقين ..………………...
كذب الرافضي بدعواه أن عمر علم أن عبد الرحمن بن عوف لا
يعدل بالخلافة عن أخيه وابن عمه يعني عثمان…......................
من كذب الرافضي زعمه أن عمر أمر بقتل أهل الشورى الستة
بعد ثلاثة أيام …………………………………....................
بيان كذب الرافضة في زعمهم أن أبا بكر وعمر ظلما علياً مذهب
الرافضة لا يروج إلا على أهل الجهل بدين الإسلام ذكر الرافضي
أكاذيب ملفقة على أمير المؤمنين عثمان….............................
الرافضة ينكرون على الأئمة أشياء يثنون بها على عليّ….............
دعوى العصمة تضاهي المشاركة في النبوة، وبعض الغلاة
الصوفية يشبهون الرافضة ………………………...................
ما يعتذر به عن عليّ فيما أنكر عليه يتعذر بأقوى منه عن عثمان
وغيره …………………………………………..................
لا يجوز اعتقاد أن أحداً معصوم غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وغاية ما ينكر
الصحابة أنها ذنوب تابوا منها أو كفرت بما لهم من الحسنات،
والذنب لمغفرته عدة أسباب وبيانها………….........................
عدل أمير المؤمنين معاوية بالنسبة لمن بعده ……………............
الجواب عن زعمه أن عثمان رضي الله عنه كتب إلى ابن أبي
سرح سرا أن يستمر وأن يقتل المتظلمين …………..................
وجه أخذ أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه من بيت المال
وإعطاء قرابته كذب الرافضي في زعمه أن ابن مسعود يطعن
على عثمان ويكفره رضي الله عنهما ……………………...........
بيان كذب الرافضي في أن عثمان ضرب ابن مسعود حتى مات لا
ينافي كون الرجل وليا لله أن يقام عليه حد أو يؤدب المصائب
والحدود، وما ينزل بالعبد من أذى الخلق كل ذلك يكفر به من
سيئاته……………………………………………………........(174/303)
زعم الرافضي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طرد الحكم بن أبي العاص هو وابنه
مروان واستمر ذلك في عهد أبي بكر وعمر،وأرجعهما عثمان،
وهذا من الكذب المشهور……………………………...............
زعم الرافضي أن عثمان رضي لله عنه ضرب أبا ذر ونفاه إلى
الربذة، و جوابه ……………………………………………......
مذهب أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن الزهد واجب، ووافقه
على ذلك طائفة من النساك ………………………………….......
الرد على الرافضي في قوله أن عثمان رضي الله عنه ضيع حدود
الله فلن يقتل عبيد الله بن عمر …………………………….........
الرافضة تعظم قتل الهرمزان المتهم بالنفاق والفساد، وتجعل دم أمير
المؤمنين عثمان لا حرمة له ……………………....................
زعم الرافضي أن عثمان رضي الله عنه ابتدع في الدين بزيادة
الأذان الأول يوم الجمعة ……………………………..............
فرية الرافضي بأن المسلمين كلهم خالفوا عثمان، وعابوا عليه
ما ذكره الشهرستاني وغيره من أسباب الاختلاف كذب وباطل
الشهرستاني يظهر الميل إلى الرافضة، وهذا ظاهر في كتبه
بيان بطلان ما ذكره الشهرستاني من أول خلاف وقع في الأمة
في مرض النبي - صلى الله عليه وسلم -……………………………………….........
زعم الرافضة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر وعمر أن يخرجا مع
أسامة حتى لا ينازعا عليًّا الخلافة، وقد علم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان
يأمر أبا بكر بالصلاة بالناس طوال مرضه ……………..............
بطلان قول الشهرستاني وغيره : أعظم خلاف في الإسلام الخلاف
في الإمامة …………………………………………………......
بطلان قوله : (( الأنصار اتفقوا على تقديم سعد بن عبادة …….........
لم يحصل بين الصحابة خلاف لا في الإمامة ولا في مسائل العقيدة
ولا في غير ذلك …………………………………………….....
بيان أن السيف لم يسل على الخلافة إلا في عهد علي بن أبي طالب،
وأن الخوارج أقرب إلى الخير من الرافضة مع أن الخوارج ضلال،(174/304)
فكيف بالرافضة ………………………………....................
بطلان ما قاله الشهرستاني من أن الخلاف في فدك من أسباب
التفرق …………………………………….......................
من الكذب الظاهر ما ذكره الشهرستاني من أن قتال مانعي الزكاة
من أسباب التفرق ………………………………...................
من الكذب أن ما ذكره الشهرستاني من أن الشورى التي جعلها
عمر في ستة من أسباب التفرق …………………………...........
بطلان دعوى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى الحكم بن أمية وابنه مروان حجة
الخوارج الذين خرجوا على عثمان وإيواء عبد الله بن سعد
بن أبي سرح أن ذلك سوغ الخروج عليه ……………...............
زعم الشهرستاني خروج طلحة والزبير رضي الله عنهما على
عليّ أنه من أسباب التفرق وجوابه ………………...................
كثير من الضلال يقترح في الأئمة والعلماء والأمراء ما لم يخلقه
الله من العصمة والكمال …………………………..................
الرافضة أصل كل فتنة وبلاء في الإسلام وأهله، والصحابة أصل
كل خير ………………………………………….................
قال الرافضي : الفصل الثالث في الأدلة على إمامة عليّ بعد رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، وبيان تهافت ما زعم أنها أدلة، كزعمه أن علياً معصوم .…….
عصمة الرسول معلومة ويكفي معرفة أمره ونهيه عن وجود
إمام معصوم فضلا عن المعدوم ……………….....................
بيان بطلان ما زعموه دليلا عقليا على وجود إمام معصوم هل
المراد بالمعصوم أن الله يخلقه ؟ أو أن الناس يتبعونه؟ فالأول
لم يخلقه الله، والثاني لم يقع وبذلك تبطل دعواهم. قول الرافضة
من جنس قول النصارى في تجسيد الإله، أو أنه أنزل ابنه ليصلب
لتكفير ذنب آدم…………………….................................
إذا وجب وجود المعصوم فهل يكون في كل بلد حتى يزيل الفساد؟
أو في بعضها ؟ وماذا عن نوّابه ؟ ………………..................
إثبات العصمة لمجموع الأمة يحصل به المقصود من حفظ الدين،(174/305)
ويغني عن دعوى الرافضة ………………….......................
من جهل الرافضة أنهم يوجبون عصمة شخص واحد، ويجوزون
خطأ جميع الأمة ……………………………......................
العلم نوعان كلي مثل إيجاب الصلوات والزكاة وتحريم الزنى،
وجزئي كوجوب الزكاة على فلان، وإقامة الحد على فلان،
فالأول تكفلت به الشريعة لا يحتاج فيه إلى إمام، فالنبي نص
على كليات الشريعة، أو ترك منها ما يحتاج إلى القياس،
فبالأول يحصل المقصود، وإن كان الثاني فيحصل بالقياس،
وإن قيل : ترك ما لا يعلم إلا بنص الإمام صار الإمام شريكا
في النبوة …………………………………........................
كل نفع يدعى في عصمة الإمام قد حصل بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وذلك باق
في الأمة فلا حاجة إلى إمام معصوم ……….........................
مشابهة الرافضة لليهود من بعض الوجوه ……………...............
بنو عبيد استدلوا على مصر مئتي سنة وعى الحجاز مائة سنة .........
رأس مال الرافضة (( التقية )) وهي الكذب والنفاق، وهم من أبعد
الناس عن العمل بالآية………………………......................
التقية ليست هي الكذب والنفاق، فلا يجوز إظهار الكفر إلا لمن
أكره بشركه ……………………………………..................
بعض الصوفية وغيهم يعتقد في شيوخهم مثل ما تدعيه الرافضة
من عصمة الإمام …………………………….....................
لم يقل أحد بعصمة علي إلا الرافضة الغلاة …………….............
الرافضة والإسماعيلية كل منهما يدعى الحاجة إلى المعصوم،
ودينهم مبني على الزندقة ……………………………..............
عليّ رضي الله عنه نفى أن يكون معصوما، وبهذا بطلت حجتهم …….
قول الرافضي : الإمام يجب أن يكون حافظا للشرع، معصوما
لقصور الكتاب والسنة عن تفاصيل الأحكام …………................
دعوى الرافضي أن الإمام حافظ للشرع يبطلها الواقع فأبو بكر
وعمر أحفظ للشرع من عليّ، وعليّ فاته أشياء من الشرع ما(174/306)
علمها، وما بعده من أئمتهم غير حافظين للشرع، بل بعضهم ليسوا
من العلماء ………………..........................................
ودعوى الرافضة أن الدين لا يحفظ إلا برجل واحد معصوم من
أعظم ما يهدم أصول الإسلام ………………………..............
زعم الرافضي أن الدليل على نصب الإمام المعصوم قدرة الله
على ذلك، وانتفاء المانع، وحاجة الناس…………….................
بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - اغنت عن ما يدعيه الرافضة من المعصومين ........
الدليل الخامس للرافضي على وجوب نصب الإمام المعصوم أن
عليًّا أفضل أهل زمانه، وهو دليل أعمى أصم كقائله….................
المنهج الثاني للرافضي على إمامة عليّ الأدلة من القرآن. وكل ما
ذكره دليل على جهله …………………………....................
البرهان لا يطلق على ما أفاد ظنا، وإنما على ما يفيد العلم
واليقين................................................................
أدلة الرافضي كلها تقدح في القرآن، والإسلام والرسول، مما
يدل على أنهم يريدون هدم الإسلام ………………………..........
الثعلبي حاطب ليل يروى في تفسيره الموضوع والضعيف،
ويذكر تفسير أهل البدع، ومثله الواحدى، والنقاش والمغازلي،
وكذا أبو نعيم يروي الاحاديث الموضوعة…..........................
إبطال دعوى الرافضي أن قوله تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله
والذين آمنوا } الآية نزلت في عليّ من تسعة عشر وجها ...............
لا يجوز أن يوصف الله تعالى بأنه (( متولٍ عن عباده)) بل هو
مولاهم ……………………………………......................
زعم الرافضي أن قوله تعالى :? { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك }
يعني في فضل عليّ ………………….............................
المرجع في بيان صدق الحديث من كذبه إلى أهل الحديث الذين
يميزون بين ذلك ………………………………....................
الآية التي استدل بها الرافضي تدل على نقيض قصده، وبيان(174/307)
ذلك ……………………………………………..................
استدل الرافضي على باطله بقوله تعالى :? { اليوم أكملت لكم دينكم
الآية. وهي تدل على خلاف ما قال………..........................
قال الرافضي البرهان على إمامة عليّ قوله تعالى { والنجم إذا
هوى } وهذا من اللعب بالقرآن ……………………..................
استدل الرافضي بقوله تعالى : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
} وبيان بطلان قوله ………………………..........................
من هم آل محمد - صلى الله عليه وسلم -………………………………..................
ذهاب الرجس، والتطهير لا يلزم منه العصمة كما توهمه
الرافضي …………………………………………................
أصل الرجس القذر، ويراد به الشرك، ويراد به الخبائث من
المطعومات والمشروبات ………………………....................
ليس من شرط المتقين أن لا يقع منهم ذنب، والمطهر من الذنوب
لا يلزم أن يكون معصوما ……………………......................
كذب الرافضي على عليّ بأنه ادعى العصمة لنفسه، وغالب ما في
نهج البلاغة من الخطب كذب علي عليّ…………....................
زعم الرافضي وهو مكذوب أن قوله تعالى { في بيوت أذن الله أن
ترفع } أن أفضلها بيت عليّ …………………….....................
من الرافضة من جمع أحاديث مكذوبة ونسبها إلى كتب أهل السنة
تعزيرا وتزويرا، مثل كتاب (( الطرائف في الرد على الطوائف ))
و(( العمدة )) لابن البطريق ونحوهما ………..........................
زعم الرافضي أن قوله تعالى : { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا
المودة في القربى } تدل على إمامة عليّ، مع أنهم مكيّة ومعناه
: أسألكم أن تصلوا القربى التي بيني وبينكم …………….............
الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يسأل عن تبليغ الرسالة أجراً، لا مودة قرابته
ولا غير ذلك ………………………………………...............
الرافضي لا يمكنه إثبات إيمان عليّ بن أبي طالب على أصله فضلا(174/308)
عن إمامته ……………………………............................
زعم الرافضي أن قوله : { ومن الناس من يشري نفسه } الآية:
نزلت في عليّ لما نام على فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيان كذبه ................
استدل الرافضي على إمامة عليٍّ بقوله تعالى : { فقل تعالوا
ندعوا أبناءنا } الآية . وبيان بطلان قوله ………………..............
زعم الرافضي أن قوله تعالى : { فتلقى آدم من ربه كلمات الآية.
دليل على إمامة عليٍّ، وهذا من العجائب …………...................
زعم الرافضي أن قوله تعالى : { إني جاعلك للناس إماما دليل على
إمامة عليّ، وبيان بطلانه ……………………......................
زعم أن قوله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل
لهم الرحمن ودا } برهان على إمامة عليّ …………...................
جعل قوله تعالى : { إنما أنت منذر ولكل قوم هاد } برهانا على
إمامة عليٍّ، وهذا هوس، وقلة حيا………………………............
جعل قوله تعالى : { وقفوهم إنهم مسئولون } برهانا على إمامة عليّ،
وهذا أشبه بالجنون وهو دليل على أن الرافضة ملاحدة زنادقة
يتلاعبون بكتاب الله ……………………………….................
قال البرهان على إمامة عليّ قوله تعالى : { ولتعرفنهم في لحن القول
وهو من جنس ما قبله …………………............................
زعم الرافضي أن قوله تعالى : { والسابقون السابقون برهان على
إمامة عليّ، وهذا من بهت الرافضة …….............................
زعم الرافضي أن قوله تعالى : { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا }
برهان على إمامة عليّ وهو كاذب في ذلك…..........................
زعم أن آية النجوى للرسول - صلى الله عليه وسلم - برهان على إمامة عليّ لأنه تصدق
قبل النجوى……………………………….........................
زعم أن قوله تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } أنه(174/309)
برهان على إمامة عليّ لأن الرسل أرسلوا بولاية عليّ، وهذا
وأمثاله كثير كقول اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه، وأن الجنة خاصة
بهم …………………………......................................
قال الرافضي : إن قوله تعالى: { وتعيها أذن واعية } برهان على
إمامة عليّ، وهذا مما يضحك العقلاء ………………................
الرافضة يبنون حججهم على مقدمات باطلة،ولا يعلم في أهل
البدع أوهى حججا من الرافضة …………………………..........
زعم الرافضي أن سورة { هل أتى على الإنسان } برهان على
إمامة عليّ وبنى ذلك على حديث مكذوب ………………….........
زعم الرافضي أن قوله تعالى : { والذي جاء بالصدق وصدق به
} برهان على إمامة عليّ والرد عليه………...........................
قوله تعالى : { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين } زعم الرافضي
أن نصره هو عليّ، فيكون برهانا على إمامته زعم الرافضي أن
قوله تعالى : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين }
نزلت في عليّ فتكون برهانا على إمامته ..............................
زعم أن قوله تعالى :? { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } أنها
نزلت في عليّ فهو برهان على إمامته….............................
أصل مذهب الرافضة مع وضع الزنادقة الذين أرادوا إفساد
الدين الإسلامي ……………………………….....................
قال الرافضي : قوله تعالى : { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم
الصديقون } برهان على إمامة عليّ، وذكر حديثا كذبا ..................
الأحاديث التي رواها الغمام أحمد في المسند أجود من أحاديث
سنن أبي داود …………………………………………...........
قال الرافضي قوله تعالى : { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار
} برهان على إمامة عليّ وذكر حديث موضوعا…………..........
زعم الرافضي أن كل آية فيها خطاب المؤمنين فعليّ رأسها،
وهذا برهان عنده على إمامته …………………………..........(174/310)
زعم الرافضي أن قوله تعالى : { إن الله وملائكته يصلون على
النبي } الآية . برهان على إمامة عليّ ………….....................
تفضيل الجملة على الجملة لا يلزم منه تفضيل الأفراد على
الأفراد، فإن في القرن الثالث والرابع من هو أفضل من كثير
ممن أدرك الصحابة ……………………………………..........
قال الرافضي قوله تعالى : { مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ
لا يبغيان } عليّ وفاطمة والنبي، وهذا برهان عنده على إمامة عليّ،
مع أن هذا بهذيان المجانين أشبه، أو هو من صنع الزنادقة
المفسدين …………………………….............................
زعم الرافضي أن قوله تعالى : { ومن عنده علم الكتاب هو عليّ بن
أبي طالب وهذا برهان على إمامته ………….......................
زعم الرافضي أن قوله تعالى : { يوم لا يخزي الله النبي والذين
آمنوا معه } برهان على إمامة عليّ وهو عجيب …………............
ومثله قوله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم
خير البرية } جعله الله برهانا على إمامته…………………….........
حجة النواصب أقرب إلى العقل، والشرع من حجة الروافض،
فلهذا لا تستطيع الرافضة جوابهم …………………………........
زعم الرافضي أن قوله تعالى : { وهو الذي خلق من الماء بشراً
فجعله نسبا وصهرا } نزلت في عليّ فيكون برهانا على إمامته
وهو من جنس تفسير الملاحدة ………………......................
زعم الرافضي أن قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله
وكونوا مع الصادقين } برهان على إمامة عليّ لأنه معصوم،
وغيره يجوز أن يكون كاذبا . وبيان أن الآية تدل على
نقيض قوله ………………………….............................
زعم الرافضي أن قوله تعالى : { واركعوا مع الراكعين } برهان على
إمامة عليّ ……………………………...........................
قوله تعالى : { واجعل لي وزيرا من أهلي } زعم الرافضي أنه(174/311)
برهان على إمامة عليّ ……………………………...............
قوله تعالى : { إخوانا على سرر متقابلين } زعم أنه برهان على
إمامة عليّ ……………………………………….................
إجماع السلف على تفضيل أبي بكر وعمر على من سواهما
من الصحابة …………………………………………............
زعم الرافضي أن قوله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من
ظهورهم ذريتهم } برهان على إمامة عليّ، وهي تقول على الله،
وقلة حيا من العقلاء، ولمثل هذا صار مذهب الرافضة وصمة
عار على المسلمين …………………..............................
زعم الرافضي أن قوله تعالى : { فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح
المؤمنين } برهان على إمامة عليّ …………….......................
حكاية قاسم بن زكريا المطرز مع الرافضي الذي سأله من حفر
البحر ؟ ……………………………...............................
قال الرافضي : المنهج الثالث في إثبات إمامة عليّ بالأدلة من
السنّة …………………………………............................
زعم الرافضي أن قوله تعالى : { يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل
إليك } خلافة عليّ وأنه الوصي ……………….......................
ضعف حديث من كنت مولاه، فعليّ مولاه ………….................
استدلال الرافضي بحديث: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى))
على إمامة عليّ.......................................................
معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى, إلا أنه لا
نبي بعدي))............................................................
قال الرافضي الرابع أنه - صلى الله عليه وسلم - استخلفه على المدينة مع قصر مدة
الغيبة, فيجب أن يكون خليفته مع طول المدة...........................
اعتماد الرافضي في استدلاله على الأحاديث الموضوعة نحو
((أنت أخي ووصيي وخليفتي)).........................................
استدل الرافضي بحديث مؤآخاته لعليّ, وهو موضوع, وليس(174/312)
لدى الرافضة إلا الكذب................................................
كذب الرافضي في قصة فتح خيبر, ودفع الراية إلى عليّ بن
أبي طالب, وبيان كذبه................................................
استدل بخبر الطائر وهو موضوع, وبيان أنه كذب اختلقه أحد
زنادقة الرافضة.......................................................
تشيع الحاكم والنسائي وابن عبد البر وأمثالهم لا يبلغ بهم تفضيل
عليّ على الشيخين....................................................
ما يروى عن الإمام أحمد أنه قال: ((صح لعليّ من الفضائل ما
لم يصح لغيره)) كذب عليه.............................................
كذب الرافضي على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه أمر الصحابة بأن يسلموا على
عليّ بأمرة المؤمنين...................................................
استدل الرافضي بحديث ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن
تضلوا أبداً)) الخ والجواب على ذلك....................................
ضعف الزيادة في الحديث ((وعترتي أهل بيتي, وأنهما لن يفترقا
حتى يردا عليّ الحوض))..............................................
من عترته - صلى الله عليه وسلم -؟ هم بنو هاشم كلهم ولد العباس, وولد عليّ وغيرهم......
قال الرافضي: الدليل الحادي عشر وجوب موالاته ومحبته,
وجوابه................................................................
استدل الرافضي بأحاديث مكذوبة كعادته, وبيان ذلك...................
الرافضة من أعظم الناس قدحاً في آل البيت, وفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .......
ضلال الرافضي بتمسكه بالكذب الذي يروجه زنادقة الرافضة
والملاحدة الرافضة اشتهروا عند جميع أهل العلم وغيرهم بالكذب......
الرافضة يعاونون الكفار على المسلمين, وهم من أعظم
الأسباب في دخول التتار بلاد المسلمين................................(174/313)
بعض حماقات الرافضة التي اختصوا بها ما بين بني آدم...............
بيان بطلان مذهب الرافضة بالضرورة, وبطرق متعددة, ودليلهم
إما حديث كذب أو دلالة مجملة مشتبهة, أو قياس فاسد, لا يخرج
عن ذلك منهج الرافضي الرابع في استدلاله على إمامة عليّ, وهي
الأمور المستنبطة من أحواله كما زعم.................................
ذكر الرافضي أن علياً كان أعبد الناس, وهذا يوجب أن يكون
هو الإمام, وجوابه.....................................................
زعم الرافضي أن علياً كان أعلم الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيان
كذبه في ذلك..........................................................
الأدلة على أن أبا بكر أعلم الصحابة ويليه في ذلك عمر, وأنهما
أعلم من علي رضي الله عنهم.........................................
حديث: ((أنا مدينة العلم, وعليّ بابها)) موضوع وبيان ذلك..............
زعم الرافضي أن قوله تعالى: (وتعيها أذن واعية) أنها أذن علي,
وهذا يليق بحمق الرافضة..............................................
زعم الرافضي أن علياً رضي الله عنه هو أعلم الصحابة وبيان
جهله في ذلك..........................................................
استدل الرافضي على وجوب إمامته بأنه أشجع الناس, وأفقههم,
وجواب دعواه الكاذبة..................................................
معنى الشجاعة وأنواعها, وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشجع الناس وبعده أبو
بكر ثم عمر ..........................................................
قول الرافضي: أن علياً ما انهزم قط, يقال له: وكذلك أبو بكر
وعمر وسعد وطلحة والزبير وغيرهم..................................
زعم الرافضي أن علياً قتل يوم بدر وحده ستة وثلاثين من
المشركين. وهذا كذب معلوم...........................................(174/314)
زعم الرافضي الكذوب أن جميع الصحابة فروا يوم أحد وتركوا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا علياً..................................................
زعم الرافضي أن قتل عليّ لعمرو بن عبدود هو سبب هزيمة
الأحزاب, وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قتل عليّ لعمرو أفضل من
عبادة الثقلين)). وما أكثر فضائح الرافضة..............................
الرافضي ينقل عن وقائع متخيلة لا حقيقة لها كسائر أدلته
المكذوبة الرافضة يرون أن الذي أقام الإسلام, وقتل كل من
ناواه علي بن أبي طالب, ونصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - توقف عليه فهو
الذي كشف الكروب عن الرسول فهزم الكفار يوم أحد ويوم
الخندق ويوم بني المصطلق. الخ.......................................
يقول الرافضي: لما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين في عشرة آلاف
عانهم أبو بكر فانهزموا فكان علياً أمام رسول الله فقتل من
المشركين أربعين فانهزموا, وهكذا تدعي الرافضة الكذب
المخالف لما علمه الناس بدون حياء....................................
الرافضي يزعم أن علياً يعلم المستقبل, فهو عنده يوحى إليه,
وهذا ليس استدلال يليق بهم............................................
كذبة شهباء للرافضي بأن علياً هو وصي النبي - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك
من الكذب الصريح....................................................
زعم الرافضي أن علياً قاتل كفار الجن الذين أرادوا الفتك
بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا أحد أدلته على إمامته...................................
حديث رجوع الشمس لعليّ مرتين وبيان أنه موضوع..................
زعم الرافضي أن السمك يخاطب علياً إلا الجريّ, والمرماهي,
ولذلك حرمهما الرافضة...............................................
زعم الرافضي أن الثعابين تأتي إلى عليّ تستفتيه عما يشكل(174/315)
عليها إثبات إمامة بقية أئمتهم عن طريق التوارث كل واجد
ورث علم من قبله, فدين الرافضة مبني على خرافة....................
أحاديث المهدي الذي يواطىء اسمه اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكنيته كنيته
صحيحة, وهي تكذيب دعوى الرافضة أن لهم مهدي يخرج ...........
غلط في أحاديث المهدي طوائف منهم من أنكرها مستدلاً
بحديث ((لا مهدي إلا عيسى)) وهو ضعيف.............................
القرامطة الباطنية ادعوا أن المهدي هو ميمون القداح الملحد,
وهذا كدعوى الرافضة.................................................
استدل الرافضي على إثبات إمامة أئمته بدعوى أنهم معصومون,
فبني كذباً على كذب...................................................
زعم الرافضي أن من دليل إثبات إمامة أئمتهم فضائلهم, وأن من
تقدم علياً ليس بإمام....................................................
دعوى الرافضي أن قول أبي بكر: ((أن لي شيطاناً يعتريني)) الخ.
يدل على أنه لا يصلح للإمامة, وجوابه................................
قدح الرافضي بإمامة أبي بكر رضي الله عنه بقول عمر: ((كانت
بيعة أبي بكر فلتة)) وجوابه............................................
زعم الرافضي أن الخلفاء قبل عليّ قاصري العلم, وأنهم يلجؤون
إلى عليّ يعلمهم ما يحتاجونه..........................................
لا يمكن أن يزكي عليّ بشيء إلا والخلفاء قبله أولى بذلك ولا يقدح
عليهم بشيء إلا والقدح في عليّ أظهر.................................
زعم الرافضي أن قوله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) يدل على
بطلان خلافة ما عداء عليّ, وبيان ضلاله في ذلك.....................
زعم الرافضي أن قول أبي بكر: ((أقيلوني فلست بخيركم)) يدل
على عدم إمامته, وجواب ذلك.........................................
كذب الرافضة على أبي بكر بأنه كبس على بيت فاطمة وأنه(174/316)
ضرب بطنها عليهم ما يستحقون.......................................
من كذب الرافضة قولهم: أن الرسول أمر بتجهيز جيش أسامة
وفيه الشيخان لصرفهما عن عليّ ليتم أمره.............................
زعم الرافضي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يول أبا بكر شيئاً من الأعمال,
وهذا من بهت الرافضة................................................
تكذيب الرافضة للنقل الصحيح وتعمدهم الكذب فيما يوافق أهواءهم
مثل قولهم: إن الرسول رد أبا بكر لما أمره على الحج وولى عليه
علياً...................................................................
استدلال الرافضي بقول عمر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم
يمت بأنه لا يصلح للخلافة.............................................
عيب الرافضي على عمر جمع الناس على إمام في التراويح,
وزعم أن هذا بدعة, وهم يفعلون الشرك...............................
دعوى الرافضي أن المسلمين اجتمعوا على قتل أمير المؤمنين
عثمان, فهم لا يستحون من الكذب على جميع المسلمين.................
إجماع المسلمين على مبايعة عثمان أكثر من غيره, واجتماعهم
عليه, وسبب التكلم فيه, من مثيري الفتن...............................
مدافعة الرافضي عن مسيلمة وأتباعه من أهل الردة مما يدل على
أن الرافضة هم أعداء الإسلام حقاً وإنما يتسترون بالانحياز إلى
أهل البيت والانتصار لهم وفي الحقيقة هم أعداؤهم.....................
طعن الرافضي بالإجماع على مبايعة أبي بكر بالخلافة, وجوابه
زعم الرافضي أن خلافة عليّ دل عليها النص, فلو أجمعت الأمة
على عدم إمامته لكان الإجماع باطلاً...................................
طعن الرافضي بالحديث: ((اقتدوا بالذين من بعدي)). وجوابه
زعم الرافضي أن قول الله تعالى: (إذ هما في الغار) تدل على
منقصة أبي بكر, وكذا الآيات التي استدل بها أهل السنة على(174/317)
فضيلته تدل على نقيض ذلك وبذلك يظهر جلياً مكابرة الرافضة........
عند الرافضة من الكذب والبهت والفرية مالا يعرف لغيرهم
من سائر بني آدم......................................................
المعية في كتاب الله خاصة وعامة, وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: ((إن
الله معنا)) معية الاختصاص............................................
فضائل أبي بكر أكثرها خصائص, وهو أخص الصحابة
بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأعلمهم به, وأنفعهم له......................................
بعض ما يبين فضائل أبي بكر من القرآن..............................
قال الرافضي: ((يجوز ان الرسول استصحب أبا بكر لئلا يظهر
أمره, حذراً منه)), فلعنة الله على قائل ذلك.............................
رد فرية الرافضي على كتاب الله في قوله: أن قوله تعالى: (لا
تحزن إن الله معنا) يدل على نقصه....................................
لم يكن في المهاجرين منافق, وإنما كان النفاق في المدينة في
الأنصار لما قوى الإسلام..............................................
أبو بكر أكمل الصحابة صبراً ويقيناً, وعمر وعثمان أكمل في
ذلك من عليّ رضي الله عنهم اجمعين..................................
زعم بعض الرافضة أن قوله تعالى: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن
إن الله معنا) لا يدل على إيمان أبي بكر ...............................
إيمان المؤمن وكفر الكافر, ومحبة الصديق وعداوة العدو لا
تخفى على من خالطهم................................................
جواب الرافضي في قوله: ((إن إنزال السكينة على الرسول
شرك معه المؤمنين إلا في قصة الغار))................................
زعم الرافضي أن المراد بقوله تعالى: (سيجنلها الأتقى) هو أبو
الدحداح وبيان بهتانه..................................................
زعم الرافضي أن قوله تعالى: (ستدعون إلى قوم أولي بأس) لا(174/318)
يتناول أبا بكر ولا عمر ولا عثمان....................................
زعم الرافضي أن النبي جعل أبا بكر معه في العريش يوم بدر
لئلا يخذل المسلمين, ورد بهتانه.......................................
مكابرة الرافضي في تكذيبه إنفاق أبي بكر في سبيل الله, وزعم
أنه لا مال لهو وبيان بهتانه............................................
ما كان إنفاق أبي بكر على النبي - صلى الله عليه وسلم - في طعامه وكسوته, وإنما
كان إنفاقاً على الدعوة إلى الله.........................................
دعوى أن (هل أتى على الإنسان) نزلت في عليّ كذب مفترى
باتفاق أهل العلم.......................................................
زعم الرافضي أن تقديم أبي بكر في الصلاة لم يكن بأمر الرسول,
وإنما أمرت عائشة بلالاً أن يقدمه......................................
صلاة أبي بكر بالناس أيام مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمره مما تواتر
عند أهل الإسلام.......................................................
قد وهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب عهداً لأبي بكر بالخلافة, وقد أرشد
الأمة إلى خلافته بعدة أمور............................................(174/319)
للشيخ
عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخمصباح الظلام في الرد
على من كذب على الشيخ الإمام
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال شيخنا وقدوتنا الشيخ عبداللطيف بن شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ، أحسن الله لهم المآب ، وأجزل لهم الثواب ، بمنه وكرمه :
الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً ، أما بعد :(175/1)
فإن الله تعالى قد اصطفى لنبوته ، وأكرم برسالته ، أفضل خلقه ، وأقربهم إليه منزلة ، وأحقهم بمواهب كرامته ، ومنشور ولايته و { الله أعلم حيث يجعل رسالته } ويهب كرامته وولايته ، واصطفى من أنبيائه ورسله ساداتهم وأكابرهم وأولي العزم منهم ، وجعلهم في الذروة العليا والمقام الأسنى الذي تقاصر عنه المتطاولون ، ووقف دون درجته المرسلون { ومامنا إلا له مقام معلوم } فقاموا من أعباء الرسالة ، وأثقال الجهاد ، ومكابدة الجبارين ، ومراغمة رؤوس الكفرة والمستكبرين ، بما لم يقم به سواهم ، ولم يصل إليه من عداهم ، وقيض لهم من أعدائه أئمة الكفر وصناديده المكذبين لرسله ، العادلين به غيره ، الجاعلين معه الآلهة والأنداد ، الواصفين ربهم بما يتنزه عنه ولا يليق بجلاله وكمال وحدانيته وصمديته ـ كالصاحبة والشركاء والأولاد ـ لتظهر عجائب الحكمة وبدائع الاتقان ، ولطائف الصنع وعظمة السلطان { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً . ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون . ولتصغى اليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون } .
فسبحان من فتح لمعرفته كل باب ، وكشف عن قلوب أوليائه كل غي وحجاب { وما يتذكر إلا أولو الألباب } .
واقتضت حكمته الإلهية ، ومشيئته الربانية ، أن يبتلي ورثة رسله وأنبيائه بحسب ميراثهم عن صفوته وأوليائه ، فأكثرهم ميراثا أشدهم متابعة ، وأعظمهم اقتداء هو أكبرهم محنة ، وأعظمهم بلية وأصعبهم أضداداً ، لا سيما ورثة هذا النبي الكريم ذي الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود والتعظيم فإن الله ابتلاهم بجهال هذه الأمة ومنافقيها ، كما ابتلى مؤمنيها بكفارها ، وخيارها بشرارها ، وأبرارها بفجارها ، وأهل سنتها بمبتدعيها { وكان ربك بصيراً } .(175/2)
ومن سبر أحوال الناس واستقرأها ، ونظر فيما أصيب به أهل العلم وابتلى به أئمة الهدى ، عرف سنة الله التي قد خلت من قبل ، واستبانت له حكمة الترجيح والفضل ، وأكثر الناس في خفارة جهله ، وغباوة فهمه .
وفي أثناء القرن الثاني عشر ظهر بنجد من أحبار الأمة وساداتها من يدعو إلى توحيد الله بالعمل والعبادة ، وإفراده بالقصد والإرادة ، ويجدد ما اندرس من أصول الملة وقواعد الدين ، ودعا إلى مذهب السلف والأئمة السابقين : في إثبات صفات الله رب العالمين ، ونفى عن آيات الصفات وأحاديثها تأويل الجاهلين ، وإلحاد المحرفين وزيغ المبطلين . قرر ذلك بأدلته وقوانينه الشرعيه ، وحكى نصوص الأئمة وإجماع الأمة ، بالنقل عن العدول الأثبات الذين عليهم مدار أحكام الدين في نقل أصوله وفروعه وأجمعت الأمة على هدايتهم ودرايتهم ، حتى ظهر المذهب وانتشر ، وعرفه كثير من أهل الفقه وحذاق البشر ، ومن له نهمة في طلب العلم والأثر وقد كان قبل ذلك مهجورا بين الناس ، لا يعرفه منهم إلا النزاع من الأكياس ، وقرر توحيد العبادة بأدلته القرآنية وبراهينه النبوية ، ونهى عن التعلق على غير الله محبةً وإنابةً وتعظيماً وخوفاً ورجاءً وتوكلاً ونحو ذلك من أنواع التعلقات . وقرر أن هذا حق الله لا يصلح لسواه من نبي أو ملك أو صالح أو غيرهم ، وبسط القول في ذلك وأطنب وعلل ، ومثَّل وجادل وناضل حتى ظهرت الحجة واستبانت المحجة ، فاستجاب له من أراد الله هدايته ، وسبقت له السعادة ، وصد عنه آخرون وعارضوه بشبهات ترجع إلى شبهات إخوانهم وأشباههم الذين كفروا من قبل ، وعارضوا الرسل بجهلهم { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم } .(175/3)
وقد رأيت لبعض المعاصرين كتابا يعارض به ما قرر شيخنا من أصول الملة والدين ، ويجادل بمنع تضليل عبَّاد الأولياء والصالحين ، ويناضل عن غلاة الرافضة والمشركين ، الذين أنزلوا العباد بمنزلة الله رب العالمين . وأكثر التشبيه بأنهم من الأمة ، وأنهم يقولون لا إله إلا الله ، وأنهم يصلون ويصومون . ونسي في ذلك عهود الحمى ، وما قرره كافة الراسخين من العلماء وأجمع عليه الموافق والمخالف من الجمهور والدهماء ، ونص عليه الأكابر والخواص من اشتراط العلم والعمل في الاتيان بكلمة الإخلاص ، والحكم بموجب الردة على فاعل ذلك من سائر العبيد والأشخاص ، وسمى كتابه ( جلاء الغمة عن تكفير هذه الأمة ) ومراده بالأمة هنا من عبد آل البيت وغلا فيهم وعبد الصالحين ودعاهم واستغاث بهم ، وجعلهم وسائط بينه وبين الله يدعوهم ويتوكل عليهم . هذا مراده ولكنه أوقع عليهم لفظ الأمة ترويجا على الأغمار والجهال ، ولبساً للحق بالباطل ، وهو يعلم ذلك وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المفترين ، قال تعالى : { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنياوكذلك نجزي المفترين } فلكل مفتر نصيب منها بحسب جرمه وعلى قدر ذنبه . وقد رأيت على هذا الرجل من الذلة والمهانة مدة حياته ما هو ظاهر بين يعرفه من عرفه .
فصل
قال المعترض : قد ابتلى الله أهل نجد بل جزيرة العرب بمن خرج عليهم ، ولم يتخرج على العلماء الأمناء كما صح عندنا وثبت عن مشايخنا الأمجاد النقاد ، وسعى بالتكفير للأمة خاصها وعامها وقاتلها على ذلك جملة إلا من وافقه على قوله ، لما وجد من يعينه على ذلك بجهله .(175/4)
والجواب أن يقال : إنه من المعلوم عند كل عاقل خبر الناس وعرف أحوالهم وسمع شيئاً من أخبارهم وتواريخهم أن أهل نجد وغيرهم ممن تبع الشيخ واستجاب لدعوته من سكان جزيرة العرب كانوا على غاية من الجهالة والضلالة ، والفقر والعالة ، لا يستريب في ذلك عاقل ، ولا يجادل فيه عارف ، كانوا من أمر دينهم في جاهلية : يدعون الصالحين ويعتقدون في الأشجار والأحجار والغيران ، يطوفون بقبور الأولياء ويرجون الخير والنصر من جهتها . وفيهم من كفر الاتحادية والحلولية وجهالة الصوفية ما يرون أنه من الشعب الايمانية والطريقة المحمدية . وفيهم من إضاعة الصلوات ومنع الزكاة وشرب المسكرات ما هو معروف مشهور . فمحا الله بدعوته شعار الشرك ومشاهده ، وهدم بيوت الكفر والشرك ومعابده وكبت الطواغيت والملحدين . وألزم من ظهر عليه من البوادي وسكان القرى بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من التوحيد والهدى . وكفر من أنكر البعث واستراب فيه من أهل الجهالة والجفاء ، وأمر باقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وترك المنكرات والمسكرات ، ونهى عن الابتداع في الدين ، وأمر بمتابعة سيد المرسلين والسلف الماضي . في الأصول والفروع من مسائل الدين ، حتى ظهر دين الله واستعلن . واستبان بدعوته منهاج الشريعة والسنن . وقام قائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وحدت الحدود الشرعية ، وعزرت التعازير الدينية ، وانتصب علم الجهاد ، وقاتل لإعلاء كلمة الله أهل الشرك والعناد حتى سارت دعوته وثبت نصحه لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم وجمع الله به القلوب بعد شتاتها ، وتألفت بعد عداوتها ، وصاروا بنعمة الله اخوانا ، فأعطاهم الله بذلك من النصر والعز والظهور ، ما لا يعرف مثله لسكان تلك الفيافي والصخور ، وفتح عليهم الاحساء والقطيف ، وقهروا سائر العرب من عمان إلى عقبة مصر ، ومن اليمن إلى العراق والشام . دانت لهم عربها وأعطوا الزكاة ، فأصبحت نجد تضرب إليها(175/5)
أكباد الإبل في طلب الدنيا والدين ، وتفتخر بما نالها من العز والنصر والإقبال والسنا ، كما قال عالم صنعاء وشيخها في ذلك :
قفي واسألي عن عالم حل سوحها
*
به يهتدي من ضل عن منهج الرشد
محمد الهادي لسنة أحد
*
فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي
لقد سرني ما جاءني من طريقة
*
وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي
وقال عالم الاحساء وشيخها :
لقد رفع المولى به رتبة الهدى
*
بوقت به يعلو الضلال ويرفع
وجرت به نجد ذيول افتخارها
*
وحق لها بالألمعي ترفُّع
وهذا في أبيات لا نطيل بذكرها ، وقد شهد غيرهما بمثل ذلك ، واعترفوا بعلمه وفضله وهدايته ، وقد قال تعالى : { قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } .
وما أحسن ما قال قتادة عن حال أول هذه الأمة من المسلمين : لما قالوا لا إله إلا الله ، أنكر ذلك المشركون ، وكبرت عليهم ، فأبى الله إلا أن يمضيها وينصرها ، ويظهرها على من ناوأها . إنها كلمة من خاصم بها فلج ومن قاتل بها نصر . إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين التي يقطعها الراكب في ليال قلائل . ويسير الراكب في فئام لا يعرفونها . ولا يقرون بها .
وهذا المعترض عاش في ظل ذلك ، وتولى القضاء ، وصارت له الرياسة عند أهل محلته بانتسابه إلى هذا الدين ، ودعواه محبة الشيخ ، وانه شرح بعض كتبه ومع ذلك تجرد لمسبته ومعاداته ، وجحد ما جاء به وقرره من الهدى ودين الحق ، قال تعالى : { وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون } وقال بعضهم :
وما ضر نور الشمس إن كان ناظراً
*
إليها عيون لم تزل دهرها عميا(175/6)
ولا ينكر ما قررناه إلا مكابر في الحسيات ، ومباهت في الضروريات ، ويرى أن عبادة الصالحين ودعاءهم والتوكل عليهم ، وجعلهم وسائط بينهم وبين الله مما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب ، وأنه هو الاسلام وأهله هم الأمة المحمدية ، ومن أنكر عليهم وضللهم فهو خارج مارج كما قال هذا الرجل وصاحبه ابن سند في منظومته التي أنشدها لما استولت العساكر المصريه على بلاد الدرعية :
لقد فتحت للدين أعينه الرمد
ثم أخذ في مسبة المسلمين وتضليلهم والشماتة بهم ، ومدح من عبد الصالحين ودعاهم مع الله ، وجعلهم انداداً تعبد ، وقد أجابه الذكي الأديب الشيخ أحمد بن مشرف بمنظومة ذكر فيها حال العساكر المصرية وما اشتهر عنهم من اللواط والشركيات والزنا وشرب المسكرات وإضاعة الصلوات ، ثم قال بعده في أثناء رده :
فإن كان هذا عندك الدين والهدى
*
لقد فتحت للدين أعينه الرمد
وبالجملة فلا يقول مثل هذا في الشيخ رحمه الله إلا رجل مكابر ، لا يتحاشى من البهت والافتراء ، وإلى الله ترجع الأمور وعنده تنكشف السرائر .
وأما قوله : ( ولم يتخرج على العلماء الأمناء ) .
فهذه الدعوى الضالة نشأت من سوء المعتقد وخبث الطوية ، وهذا الرجل لا زمام ولا خطام لأكاذيبه وأباطيله يرسلها حيث شاء ويكابر أهل العلم ولا يتحاشى ، وقد عرف طلب الشيخ للعلم ورحلته في تحصيله كما ذكره صاحب التاريخ الشيخ حسين بن غنام الاحسائي ، وقد اجتمع بأشياخ الحرمين في وقته ومحدثيها ، وأجازه بعضهم ورحل إلى البصرة وسمع وناظر ، وإلى الاحساء وهي إذ ذاك آهلة بالعلماء ، فسمع من أشياخها ، وباحث في أصول الدين ومقالات الناس في الإيمان وغيره ، وسمع من والده ومن فقهاء نجد في وقته ، واشتهر عندهم بالعلم والذكاء وعرف به على صغر سنه .(175/7)
وأيضا فقد كان أهل العلم سلفا وخلفا يسمعون الأحاديث ويروونها ، ويحفظون السنن ويستنبطون منها الأحكام . وهذا عندهم هو الغاية التي يرحل إليها المحدثون وينتهي إليها الطالبون ، وليس من عادتهم القراءة في كتب الرأي والفروع كما هو معروف عند الناس . رحل الشافعي إلى المدينة وسمع الموطأ ، وتصدى للفتيا ، وأنكر على من لم يطمئن في صلاته لما دخل مسجد محمد بن الحسن بالكوفة ، ولم يسمع من مالك ولا غيره كتابا في الرأي والمذهب ، وهكذا غيره من أهل العلم والفتوى .
وأما قوله : ( كما صح وثبت عن مشايخنا الأمجاد النقاد ) .
فجوابه : أن هذه الدعوى في مشايخة كل يدعيها . فالقدرية والرافضة والجهمية والمعتزلة وغلاة عباد القبور يرون أن مشايخهم أمجاد نقاد ، يؤخذ عنهم ويحفظ عنهم ، ويسمون أهل السنة والجماعة وأهل الحديث حشوية مجسمة وناصبة ومجردة ، وعباد القبور يسمون الموحدين متنقصين للأنبياء والصالحين ويقرر ذلك أشياخ كل طائفة ، وأتباعهم يرون أنهم بذلك أمجاد نقاد ، ولو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم ، قال تعالى : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } .
إذا عرفت هذا فمشايخ هذا الرجل الذين أثنى عليهم من أكابر المعادين للدين ، ومن رؤوس المخالفين ، وقد عرف ذلك عن ابن سند وابن سلوم وأمثالهما من أشياخه الذين كثر في هذا الباب سبابهم ، وغلظ عن معرفة الله ومعرفة حقه حجابهم .
وأما قوله : ( فسعى بالتكفير للأمة وخاصها وعامها ، وقاتلها على ذلك جملة إلا من وافقه على قوله ) .
فهذه العبارة تدل على تهور في الكذب ، ووقاحة تامة ، وفي الحديث : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : اذا لم تستح فاصنع ما شئت ) .(175/8)
وصريح هذه العبارة أن الشيخ كفر جميع هذه الأمة من المبعث النبوي الى قيام الساعة إلا من وافقه على قوله الذي اختص به . وهل يتصور هذا عاقل عرف حال الشيخ وما جاء به ودعا اليه ؟! بل أهل البدع كالقدرية والجهمية والرافضة والخوارج لا يكفرون جميع من خالفهم ، بل لهم أقوال وتفاصيل يعرفها أهل العلم . والشيخ رحمه الله لا يُعرف له قول انفرد به عن سائر الأمة ، بل ولا عن أهل السنة والجماعة منهم . وجميع أقواله في هذا الباب ـ اعني ما دعا اليه من توحيد الأسماء والصفات وتوحيد العمل والعبادات ـ مجمع عليه عند المسلمين ، لا يخالف فيه إلا من خرج عن سبيلهم ، وعدل عن منهاجهم ، كالجهمية والمعتزلة وغلاة عباد القبور ، بل قوله مما أجمعت عليه الرسل واتفقت عليه الكتب ، كما يعلم ذلك بالضرورة من عرف ما جاءوا به وتصوره . ولا يكفر إلا على هذا الأصل بعد قيام الحجة المعتبرة ، فهو في ذلك على صراط مستقيم متبع لا مبتدع .
وهذا كتاب الله وسنة رسوله ، وكلام أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم من أهل العلم والفتوى معروف مشهور مقرر في محله في حكم من عدل بالله وأشرك به ، وتقسيمهم للشرك إلى أكبر وأصغر ، والحكم على المشرك الشرك الأكبر بالكفر مشهور عند الأمة لا يكابر فيه إلا جاهل لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم ، وما جاءت به الرسل . وقد أفرد هذه المسألة بالتصنيف غير واحد من أهل العلم وحكى الإجماع عليها ، وأنها من ضروريات الإسلام كما ذكره تقي الدين ابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن عقيل وصاحب الفتوى البزازية وصنع الله الحلبي والمقريزي الشافعي ومحمد بن حسين النعمي الزبيدي ومحمد بن إسماعيل الصنعاني ومحمد بن علي الشوكاني وغيرهم من أهل العلم .
وأما قوله : ( وجعل بلاد المسلمين كفاراً أصليين ) .(175/9)
فهذا كذب وبهت ، ما صدر ولا قيل ، ولا أعرفه عن أحد من المسلمين فضلا عن أهل العلم والدين ، بل كلهم مجمعون على أن بلاد المسلمين لها حكم الإسلام في كل زمان ومكان .
وإنما تكلم الناس في بلاد المشركين الذين يعبدون الأنبياء والملائكة والصالحين ويجعلونهم أنداداً لله رب العالمين ، أو يسندون إليهم التصرف والتدبير كغلاة القبوريين ، فهؤلاء تكلم الناس في كفرهم وشركهم وضلالهم ، والمعروف المتفق عليه عند أهل العلم أن من فعل ذلك ممن يأتي بالشهادتين يحكم عليه بعد بلوغ الحجة بالكفر والردة ولم يجعلوه كافراً أصلياً . وما رأيت ذلك لأحد سوى محمد بن إسماعيل في رسالته تجريد التوحيد المسمى بـ( تطهير الاعتقاد ) وعلل هذا القول بأنهم لم يعرفوا ما دلت عليه كلمة الإخلاص ، فلم يدخلوا بها في الإسلام مع عدم العلم بمدلولها . وشيخنا لا يوافقه على ذلك .
ولكن هذا المعترض لا يتحاشى من الكذب ولو كان من الميتة والموقوذة والمتردية ، وما رأيت شيخ الإسلام أطلق على بلد من بلاد المنتسبين إلى الإسلام أنها بلد كفر ، ولكنه قرر أن دعاء الصالحين وعبادتهم بالاستعانة والاستغاثة والذبح والنذر والتوكل ، على أنهم وسائط بين العباد وبين الله في الحاجات والمهمات ، هو دين المشركين وفعل الجاهليين الضالين من الأميين والكتابيين ، فظن هذا أن لازم قوله أنه يحكم على هذه البلاد أنها بلاد كفر ، وليس هذا بلازم ، ولو لزم فلازم المذهب ليس بمذهب . ونحن نطالب الناقل بتصحيح نقله .
نعم ، ذكر الحنابلة وغيرهم أن البلدة التي تجرى عليها أحكام الكفر ، ولا تظهر فيها أحكام الإسلام بلدة كفر ، وما ظهر فيها هذا وهذا فقد أفتى فيها شيخ الاسلام ابن تيمية بأنه يراعى فيها الجانبان فلا تعطى حكم الإسلام من كل وجه ولا حكم الكفر من كل وجه كما نقله عن ابن مفلح وغيره .
وقوله : ( فلا تؤكل ذبائحهم عنده ولا تحل نساؤهم ) .(175/10)
فهذا من نمط ما قبله ، والشيخ لا يمنع من ذبيحة الشخص المعين إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ودخل في الإسلام ، ما لم يأت بمانع يمنع من حل ذبحه . وكذا حكم النساء ، فكيف يقول ذلك في أهل بلد وأهل قرية لا يعلم تفاصيل أحوالهم وما يجري منهم من النواقض إلا الله عالم الغيب والشهادة .
وأما القتال فلم يقاتل إلا على أصل الإسلام ، والتزام مبانيه العظام ، ومن نقل عنه أنه قاتل على غير ذلك فقد كذب وافترى ، على أن بعض العلماء يرى القتال على ترك بعض الواجبات فكيف بما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها ؟.
وأما قوله : ( ولا يجوّز السفر إليهم حتى منع السفر إلى جميع بلاد الإسلام ) .
فيطالب أولا بتصحيح هذا ؛ فإن صح فللسلف كلام معروف في السفر إلى بلد ظهر فيه من شعار الكفر والفسوق لمن لم يقدر على إظهار دينه وللقادر أيضا كما يعرفه أهل العلم والفقه . وقد منعوا من السفر إلى بلد تظهر فيها البدع لمن خشى الفتنة ، فكيف ببلد يدعى فيها غير الله ويستغاث بسواه ، ويتوكل على ما عبد معه من الآلهة ؟! بل لقد صرح غلاة عباد القبور بأن لمشايخهم شركة في التدبير والتصريف وبعضهم يقول : وكل إليهم تدبير العالم . كما رأيناه وسمعناه من طوائف كثيرين ؛ وقد حكاه عنهم شيخ الإسلام في منهاجه .
فماذا على شيخنا رحمه الله تعالى لو حمى الحمى وسد الذريعة وقطع الوسيلة ؟! .(175/11)
لا سيما في زمن فشا فيه الجهل وقبض العلم ، وبعُد العهد بآثار النبوة ؛ وجاءت قرون لا يعرفون أصل الإسلام ومبانيه العظام ، وأكثرهم يظن أن الاسلام هو التوسل بدعاء الصالحين وقصدهم في الملمات والحوائج ، وأن من أنكره جاء بمذهب خامس لا يعرف قبله . فإذا كان الحال هكذا فأي مانع من قوله ؟ وأي دليل يجيز السفر إليهم ويبيحه مطلقاً ؟ هذا لا يقوله إلا جاهل بأصول الشريعة ومدارك الأحكام ومن القواعد المهمة سد الذريعة وقطع الوسيلة المفضية إلى محظورات الشريعة . فكيف بالكفر الذي لا ساحل له ؟! وقد ابتلينا بهؤلاء المعترضين الجهال الذين لا يعرفون قواعد الملة والشريعة ، ولا يستصحبون الأصول فيما يبدونه أو يحكونه من النقول :
وهذا اغتراب الدين من لك بالتي
*
كقبض على جمر فتنجو من البلا
وأما قوله : ( فإذا تولى بلداً قهراً من بلاد محاربيه جعلها بزعمه فيئا بيت مال له ولعياله وأتباعه ؛ يزعم بذلك أنه يفعل فعل الصحابة رضي الله عنهم بالشام والعراق وغيرها من بلاد المسلمين ) .
والجواب أن يقال : هذه العبارة عبارة جاهل بالحال والواقع ، جاهل بالأحكام الشرعية . والشيخ رحمه الله ما اختص بشيء من ذلك له ولا لعياله ، بل هم كسائر المسلمين ، يأكل أحدهم من الزكاة بفقره وحاجته وجهاده ؛ ومن الفيء بحسب غناه في الإسلام ونفعه لأهله ومقامه فيه ، وغيرهم أحظى وأكثر . وأمر هذا المال إلى ولاة الأمور والأئمة . هذا حقيقة الحال .(175/12)
وأما الحكم الشرعي فمعلوم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فتح خيبر وقسمها بين الغانمين واختص منها بفدك يأكل منها هو وأهله ، ثم صارت صدقة بعده بنص الحديث ؛ بيد أبي بكر ثم عمر ، ثم دفعها عمر إلى علي والعباس . وهذا أطيب المكاسب وأحلها ، قال الله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } وقال تعالى : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول } وقد أخذ الجزية من مجوس هجر وأهل نجران وقسمها بين أصحابه ، وسيرته - صلى الله عليه وسلم - في المغانم معروفة مشهورة عند أهل العلم . والبحث في حال من أخذت منه وفي دينه : هل هذا الأخذ على الوجه الشرعي والقانون المرضي أو لا ؟ هذا محل البحث وأما التشنيع بمجرد أخذها فهو حرفة الجاهلين ، وطريقة غير المحصلين .
وحينئذ فيقال : إن كان ما صدر من رؤساء الاحساء والقطيف وغيرهم ممن أخذ ماله فيئا وغنيمة هو الشرك الأكبر وعبادة الصالحين ، وهو صريح الرد على الله وعلى رسله وعلى أئمة الدين . وما قرره الشيخ وبينه هو توحيد رب العالمين الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وأنهم قاموا أشد القيام في رده وإطفائه ، وقاتلوه على ذلك بعد قيام الحجة ، واعترف كثير من علمائهم بأنه الحق وأنه دين الله ، فلا حرج حينئذ ولا إثم في أخذ تلك الأموال فيئا وغنيمة اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعملا بدينه وشرعه ؛ وإن كان ما عليه من أخذت أموالهم من عبادة الصالحين والشرك بالله والاعراض عن دينه وقتال أهله ومعاداة من قام به ، هو الإسلام وهو الحق ، وهم مصيبون في ذلك على بينة من الله فالذم لمن حكم على أموالهم بهذا الحكم والعيب له وتجهيله يتجه ولا يعاب .(175/13)
فالكلام في الأصل الذي تفرع عنه أخذ الأموال وجعلها فيئا وغنائم ، والمعترض لا يرى أن عبادة الصالحين ودعائهم والتوكل عليهم والذبح لهم وتسويتهم بالله في الحب والخوف والرجاء والتعظيم شرك وضلال يبيح الأموال والدماء بعد قيام الحجة ، فلذلك اعترض بأخذ الأموال وجعلها فيئا ؛ بل ولا يرى ما كانت عليه البوادي من ترك دين الله والاعراض عما جاءت به الرسل ، وإنكار البعث والرجوع في الدماء والأموال إلى ماحكمت به أسلافهم وعشائرهم ، مع الاستهزاء الصريح بدين الله ورسله ، مكفراً مبيحاً للقتال والمال . وشبهة هذا الضال وإخوانه من قبل أنهم يقولون : لا إله الا الله .
والعلماء يكفرون بدون هذا من المكفرات ، ويرون أن أموال هؤلاء المرتدين فيئا ، لا يختلفون في ذلك .
وأما قول المعترض : ( لما رأى في هذه الأمة من الأحداث التي لا تزال موجودة فيها تقل وتكثر ولا تزال علماؤها تجدد لها دينها من الباب الواسع وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتتحاشى عن الدخول عليها من الباب الضيق وهو تكفيرها الذي حذر عنه نبيها .. ) إلى آخر عبارته .
فالجواب أن يقال : قضية هذا الكلام أن الشيخ إنما كفر وقاتل وأخذ الأموال بأحداث لا تزال موجودة في الأمة تقل وتكثر ، وأنها لا يكفر بها أحد ، وأن تكفير الصحابة لمن كفروه من أهل الردة على اختلافهم ، وتكفير علي للغلاة ، وتكفيرهم للسحرة وقتلهم ، وتكفير من بعدهم للقدرية ونحوهم ، وتكفير من بعد أولئك للجهمية وقتلهم للجعد بن درهم وجهم بن صفوان ومن على رأيهم ؛ وقتلهم للزنادقة ، وهكذا في كل قرن وعصر من أهل العلم والفقه والحديث طائفة قائمة تكفر من كفره الله ورسوله ، وقام الدليل على كفره لا يتحاشون عن ذلك بل يرونه من واجبات الدين وقواعد الإسلام وفي الحديث : ( من بدل دينه فاقتلوه ) وبعض العلماء يرى أن هذا والجهاد عليه ركن لا يتم الإسلام بدونه .(175/14)
وقد سلك سبيلهم الأئمة الأربعة المُقَلَّدون وأتباعهم في كل عصر ومصر ، وكفروا طوائف من أهل الأحداث ؛ كالقرامطة والباطنية ، وكفروا العبيديين ملوك مصر وقاتلوهم ، وهم يبنون المساجد ، ويصلون ويؤذنون ؛ ويدعون نصرة أهل البيت ؛ وصنف ابن الجوزى كتابا سماه : ( النصر على مصر ) ذكر فيه وجوب قتالهم وردتهم . وقد عقد الفقهاء في كل كتاب من كتب الفقه المصنفة على مذاهبهم بابا مستقلا في حكم أهل الأحداث التي توجب الردة وسماه أكثرهم ( باب الردة ) وعرفوا المرتد بأنه الذي يكفر بعد إسلامه ، وذكروا أشياء دون ما نحن فيه من المكفرات حكموا بكفر فاعلها ، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم .
وقال الشيخ عثمان الحنبلي صاحب حاشية المنتهى في عقيدته :
تتمة : الإسلام الاتيان بالشهادتين مع اعتقادهما والتزام الأركان الخمسة إذا تعينت وتصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به ومن جحد ما لا يتم الإسلام بدونه أو جحد حكما ظاهراً أو أجمع على تحريمه أو حله إجماعا قطعيا أو ثبت جزما كتحريم لحم الخنزير أو حل خمر ونحوهما كفر ، أو فعل كبيرة وهي ما فيها حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة أو دوام على صغيرة ، وهي ما عدا ذلك فسق . انتهى .
وهذا يعرفه صغار الطلبة فضلاً عن العلماء الممارسين .
وهذا الأحمق يعد هذا بابا ضيقاً ويسفه رأي الأئمة وعلماء الأمة ويجهلهم ، وهو يزعم أنه ينصرهم . وما أحسن ما قيل : لأن يعادي المرء عاقلاً خير له من أن يكون له صديق أحمق .
والباب الذي يسع كل أحد هو الباب الشرعي الذي عليه الداعي النبوي .(175/15)
وأما إهمال الجهاد وعدم تكفير المرتدين ومن عدل بربه واتخذ معه الأنداد والآلهة ، فهذا إنما يسلكه من لم يؤمن بالله ورسوله ، ولم يعظم أمره ، ولم يسلك صراطه ولم يقدر الله ولا رسوله حق قدره ، بل ولا قدر علماء الأمة وأئمتها حق قدرهم . وهذا هو الحرج والضيق ، قال تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } والجهاد للمارقين والمرتدين وتكفيرهم داخل في مسمى الإسلام ، بل هو من أركانه العشرة كما نص عليه بعض المحققين . وفي الحديث : ( وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ) فلا ينشرح له ويراه حقاً وواسعاً إلا صدر من أراد الله هدايته وتوفيقه ، ويراه ضيقا حرجا من أراد الله أن يضله ويخزيه بين عباده المؤمنين . هكذا يقرر الكلام هنا والقول في هذا الموضع ، لا ما زعمه من خسف الله قلبه فعكس القضية وراغم الأدلة الشرعية والقوانين المحمدية ؛ فبعداً لقوم لا يؤمنون .
وأما قوله : ( أن تكفيرها حذر منه نبيها - صلى الله عليه وسلم - غاية التحذير ) .(175/16)
فيقال : إن زعمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حذر عن تكفير من أتى ما يوجب الكفر ويقتضيه ممن بدل دينه ، فهذا مكابرة وجحد للضروريات والحسيات ، وقائله إلى أن يعالج عقله أحوج منه إلى تلاوة الآيات والأحاديث وحكاية الاجماع وفعل الأمة طبقة طبقة وقرنا قرنا . وإن أراد النهي عن تكفير عموم الأمة وجميعها فهذا لم يقله أحد ولم نسمع به عن مارق ولا مبتدع . وهل يقول هذا من له عقل يدرك به ويعرف ما في الأمة من العلم والإيمان والدين ؟! وأما بعض الأمة فلا مانع من تكفير من قام الدليل على كفره كبني حنيفة وسائر أهل الردة في زمن أبي بكر ، وغلاة القدرية والمارقين الذين مرقوا في زمن علي رضي الله عنه وغلوا فيه . وهكذا الحال في كل وقت وزمان ، ولولا ذلك لبطل الجهاد وترك الكلام في أهل الردة وأحكامهم . وفي ضمن هذا القول ما تقدم من تسفيه جميع الأمة ، وتجهيل علمائها الذين كفروا بكثير من الأحداث والمكفرات . وفيه أنهم لم يسلكوا الطريق الواسع ، ولم يفهموا الحديث عن نبيهم .
وبالجملة فهذا المعترض مموه بلفظ الأمة ملبس ، قال تعالى في ذم هذا الصنف من الناس : { ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون } وهذا من أعظم اللبس والخلط والتمويه ؛ والأمة تطلق ويراد بها عموم أهل الدعوة ويدخل فيها من لم يستجب لله ورسوله . وتطلق أيضا ويراد بها أهل الاستجابة المنقادين لما جاءت به الرسل ، ومن لم يفصل ويضع النصوص مواضعها فهو من الجاهلين الملبسين بل هو ممن صد عن سبيل الله وصدف عن آياته ، قال تعالى : { سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون } .
وأما قوله : ( قد بسطنا القول في كتابنا [ غسل الدرن عما ركبه هذا الرجل من المحن ] وفي كتابنا [ تبصرة أولى الألباب ] ) .
فكأن المعترض يتمدح وينوه بأن له كتباً في الرد على شيخنا رحمه الله .(175/17)
فيقال : كل مبتدع وضال من سائر الطوائف على اختلاف نحلهم وتباين مذاهبهم يصنفون الكتب في نصر أقوالهم ونحلهم ، فالرافضة والجهمية والخوارج وعباد القبور ومن يقول إن الأولياء يتصرفون في العالم ، والقائلون بأن الله ثالث ثلاثة وأمثالهم من المبتدعة والمشركين والمعطلة يصنفون الكتب في نصر مذاهبهم ، ويسمونها بأسماء مستحسنة تمويهاً على الجهال ، وفيها الداء الدفين ؛ والكفر الواضح المستبين ، فالنصارى سموا ما أحدثوه في هذه الأعصار من التبديل والتغيير ( العهد الجديد ) وسموا ( الأمانة الكبرى ) وسمى بعض من صنف في الفلسفة ومخالفة النصوص كتابه ( رسائل إخوان الصفا ) وسموا ما صنف في عبادة النجوم بـ( السر المكتوم ) وبعض غلاة القبوريين يسمى ما صنف في إسناد تدبير العالم ( إلى الأولياء بكرامات أولياء الله ) وسمى ابن عربي كتابه في الاتحاد ( الفتوحات المكية ) وآخر سماه بـ( الفصوص ) وصنف أبو حامد الغزالي كتابه المعروف وسماه ( إحياء علوم الدين ) وقد أمات به من أصول الدين ودعائمه ما يعرفه من عرفه ، وصنف محمد بن زكريا المتطبب كتابه في الطعن على الأنبياء ، ورد عليه أبو حاتم الرازي المتكلم . وهذا التلبيس لا يروج على من عرف الحقائق ، وهذا الرجل يتمدح بما لا يجدي ؛ وقد رد أمثال من الضالين على شيخ الإسلام وإخوانه الموحدين ، فما زادهم ذلك إلا شرفا وعزاً ، وشهادة بصحة ماهم عليه .
والضد يظهر حسنه الضد
وبضدها تتبين الأشياء
وللشيخ أسوة بأئمة الهدى وسادات الأولياء . وما أحسن ما قال شيخ الاسلام ابن تيمية :
لو لم تكن لي في القلوب مهابة
*
لم تكثر الأعداء فيّ وتقدح
كالليث لما هيب خط له الزبى
*
وعوت لهيبته الكلاب النبح
يرمونني شزر العيون لأنني
*
غلّست في طلب العلا وتصبحوا
وقال أبو الطيب :
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
*
فهي الشهادة لي بأني كامل(175/18)
وقال حسان رضي الله عنه :
أتهجوه ولست له بكفء ؟!
*
فشرُّكما لخيركما الفداء
وأحسن من هذا كله قوله تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون } والآية بعدها . فكيف يفتخر هذا الجاهل بالرد على شيخ الإسلام ؟! .
فصل
قال المعترض : ( والمقصود هنا ذكر عبارات لهذا المكفر بعينها ؛ مما نقلناه من خطه بيده وجدناه عند أكابر دعاته ممن أدركناه ؛ وذلك أبعد عن دعوى الافتراء عليه ممن ينتمي إليه ، وجعلت على نفسي عهداً وميثاقا محققا أني لا أذكر عنه إلا ما تحقق كتحقيق الشمس عن الفيء ، إذ المقصود من ذلك طلب الحق ودفع الباطل ، حيث بقي على هذا التكفير أتباعه ونصروه ، توضيحاً منا للحق ، لأن الدين النصيحه ) .
فالجواب أن يقال : قد صنع في أكثر العبارات التي نقلها ما صنعت اليهود من التحريف لألفاظها ، وإسقاط بعضها وتغييره ، فسرى هذا الداء اليه ، كما ستقف إن شاء الله عليه . وإذا اجتمع الجهل والهوى ، فقد استحكمت أسباب الهلاك والردى ، وأحاطت بصاحبهما موجبات الضلال والشقاء .
وهذا العهد الذي جعله على نفسه ، نقضه وغدر في أول عبارة وما بعدها ، ولكل غادر لواء يوم القيامة ، وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المعادين لأوليائه ، الطالبين العنت للبراء .(175/19)
قال المعترض نقلا عن الشيخ : ( قال في المواضع التي تكلم بها على السيرة بعد كلام له سبق : ـ فإذا عرفت هذا عرفت أن الانسان لا يستقيم له إسلام ولو وحد الله تعالى وترك الشرك إلا بعداوة المشركين ؛ والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء ، كما قال تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } قال : فإذا فهمت ذلك فهماً جيداً عرفت أن كثيراً ممن يدعون الدين لا يعرفونها ، وإلا فما الذي حمل المسلمين على الصبر على ذلك العذاب والأسر والضرب والهجرة إلى الحبشة إلى آخر كلامه ) .
قال المعترض : ( فنقول أولا : ينظر في هذا الكلام وتأصيله فيقال : من هم هؤلاء الكفار أهل الشرك الذين هم ككفار قريش والحبشة الذين يجعلون الله ثالث ثلاثة وأشباههم كأهل الكتاب وعبدة الأوثان الذين نهيت عن موادتهم وكفرت بها ، وأنزلت عليهم الآية الكريمة لديك : أتراهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - المتقدم ذكرهم الذين قد عمروا المدارس في أقطارهم وأمصارهم ، ونصبوا القضاة وشيدوا المنائر على مساجدهم لداعي الفلاح آناء الليل وأطراف النهار ظاهرين مظهرين لذلك ، قد بذلوا عليه الأموال والأنفس ، يجاهدون عليه من أنكره من أهل الكتاب وغيرهم حتى بنجد قد شيدوا منارها بعلمائها ، ولا والله نعلم إلا ما شاء الله على مساجدها وأئمتها ومدارسها وقرائها ومساقيها وسرجها أوقافا إلا من هؤلاء الذين كفرهم هذا الرجل ، ويسميهم بالكفار أهل الجاهلية .
والجواب أن يقال : لابد من ذكر كلام الشيخ ليتبين مراده ، ويعرف ما في كلام هذا المعترض من التحريف والحذف لما يبين مراد الشيخ وموضوع كلامه .(175/20)
قال الشيخ : الموضع الثاني : أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قام ينذرهم عن الشرك ويأمرهم بضده وهو التوحيد ؛ لم يكرهوا ذلك واستحسنوه وحدثوا أنفسهم بالدخول فيه ؛ إلى أن صرح بسب دينهم وتجهيل علمائهم ؛ فحينئذ شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة وقالوا سفه أحلامنا ، وعاب ديننا ، وشتم آلهتنا ؛ ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يشتم عيسى وأمه ولا الملائكة ولا الصالحين ؛ لكن لما ذكر أنهم لا يسمعون ولا ينفعون ولا يضرون ؛ جعلوا ذلك شتما فإذا عرفت هذا عرفت أن الإنسان لا يستقيم له إسلام ولو وحد الله وترك الشرك إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء كما قال تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر } فإذا فهمت هذا فهما جيداً عرفت أن كثيراً من الذين يدعون الدين لا يعرفونها ولا يفهمونها ، وإلا فما الذي حمل المسلمين على الصبر على ذلك العذاب والأسر والضرب والهجرة إلى الحبشة مع أنه - صلى الله عليه وسلم - أرحم الناس ولو يجد لهم رخصة لأرخص لهم ، كيف وقد أنزل الله عليه : { ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله } فإذا كانت هذه الآية فيمن وافقهم بلسانه إذا أوذي فكيف بغير ذلك ؟! .(175/21)
انتهى كلام الشيخ رحمه الله وقد حذف منه المعترض أوله لأن فيه التصريح بأن العداوة المطلوبة ذكر آلهتهم بأنهم لا يسمعون ، ولا ينفعون ولا يضرون ، وأن من لم يصرح بذلك ويعاديهم ويتبرأ منهم ويبغضهم ويعتقده ويدين به لا يستقيم له إسلام وهذا هو الحق بل هو من مدلول كلمة الإخلاص ؛ وهو حقيقة التوحيد ، فلو وحد الله بعبادته ولم يشرك به ، لكنه لم يأت بهذا ولم يعتقده ، لم ينتفع بتوحيده وعدم شركه . وهذا حق لا شك فيه ، والآيات تدل عليه ، وتشهد له ، وهذا المعنى دلت عليه كلمة الإخلاص تضمنا ؛ وهو ظاهر بحمد الله . والمعترض حذفه عمداً وأخذ وسط العبارة وقصده الترويج والتمويه ، وقد ورد حديث مرفوع : ( لا يستقيم إيمان عبد حتى تستقيم جوارحه ) وكذلك قول الشيخ في آخر كلامه : ( فإذا كانت هذه الآية فيمن وافقهم بلسانه إذا أوذي فكيف بغير ذلك ) وأن هذا يدل على أن الكلام فيمن لم يصرح بعيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم والتصريح لهم بذلك ، وهو غاية العداوة والبغضاء ، فحذف هذا المعترض أول الكلام وآخره ليروج ويلبس ، وهذا من نوع التحريف والإلحاد وليَّ الألسن ، وهو حرفة يهودية ورثها ، وقد قال تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } والإكراه له صور خاصة قولية لا فعلية وما عداها فلا رخصة فيه والآية عامة يدخل فيها دخولا أوليا من لم يعب دين المشركين وأن آلهتهم لا تنفع ولا تضر ، لأنه إذا لم يصرح بذلك فهو كاتم لما تضمنته كلمة الإخلاص من النفي ، ولا رخصة في الكتمان إلا بشرطه المتقدم ؛ وهذا لا خلاف فيه بين الأمة . والمعترض من الغافلين عن هذه المباحث الدينية ، أو ممن أضله الله على علم ، وقد غدر بميثاقه الذي جعله على نفسه بحذف أول العبارة وآخرها ، لأنه تبديل وتغيير لكلام الشيخ . وسيأتيك من أخواتها ما هو من أعجب العجاب ، فالحمد لله على معرفة الحق والصواب .(175/22)
واعلم أن هذا المعترض لم يتصور حقيقة الإسلام والتوحيد بل ظن أنه مجرد قول بلا معرفة ولا اعتقاد ، وإلا فالتصريح بالشهادتين والاتيان بهما ظاهراً هو نفس التصريح بالعداوة والبغضاء .
وما أحسن ما قيل :
وكم من عائب قولا صحيحاً
*
وآفته من الفهم السقيم
ولأجل عدم تصوره أنكر هذا وردّ إلحاق المشركين في هذه الأزمان بالمشركين الأولين ، ومنع إعطاء النظير حكم نظيره ، وإجراء الحكم مع علته ، واعتقد أن من عبد الصالحين ودعاهم وتوكل عليهم وقرب لهم القرابين مسلم من هذه الأمة ، لأنه يشهد أن لا إله إلا الله ويبني المساجد ويصلي ، وأن ذلك يكفي في الحكم بالإسلام ولو فعل ما فعل من الشركيات ـ وحينئذ فالكلام مع هذا وأمثاله في بيان الشرك الذي حرمه الله ورسوله وحكم بأنه لا يغفر وأن الجنة حرام على أهله ، وفي بيان الإيمان والتوحيد الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وحرم أهله على النار . فإذا عرف هذا وتصوره تبين له أن الحكم يدور مع علته . وبطل اعتراضه من أصله ، وانهدم بناؤه ، قال تعالى : { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار } وقال تعالى : { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين } وقال تعالى : { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه } وقال تعالى حاكيا عن أهل النار أنهم يقولون لآلهتهم التي عبدت مع الله : { تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين } .
ومعلوم أنهم ما سووهم بالله في الخلق والرزق والتدبير وإنما هو في المحبة والخضوع والتعظيم والخوف والرجاء ونحو ذلك من العبادات ، وقال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله } وهذا حب عبادة وتأله وتعظيم . ولهذا ونحوه كفرهم الله تعالى وأباح دماءهم وأموالهم ونساءهم لعباده المؤمنين حتى يسلموا ويكون الدين كله لله . فالنزاع في هذا .(175/23)
فمن عرف هذا الشرك وحقيقته ، وعرف مسمى الدعاء لغة وشرعاً وعرف أن تعليق الحكم في هذه الآيات على الشرك والدعاء يؤذن بالعلة ، تبين له الأمر ، وزال عنه الأشكال . ومن يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
فمن عبد غير الله ، وعدل بربه ، وسوّى بينه وبين غيره في خالص حقه ، صدق عليه أنه مشرك ضال غير مسلم ، وإن عمر المدارس ، ونصب القضاة ، وشيد المنار ودعا بداعي الفلاح ، لأنه لا يلتزمه ، وبذل الأموال ، والمنافسة على صورة العمل ، مع ترك حقيقته لا تقتضي الإسلام . ولأهل الكتاب في عمارة البيع والكنائس والصوامع اجتهاد عظيم ، ومحبة شديدة ، وقد قال تعالى : { قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل } وقد قال تعالى : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر } .
وقد أجمع العلماء أن الإيمان الذي دلت عليه شهادة أن لا إله إلا الله شرط في كل عمل . فالاحتجاج بهذه الأفعال ـ أعني بناء المساجد والمدارس ونصب القضاة ـ لا يصدر إلا عن جاهل أو ملبس . قال تعالى : { والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد } .
وأما يمينه الفاجرة على أنه لا يعلم على المساجد والمدارس والمساقي والسرج أوقافا بنجد إلا من هؤلاء الذين كفرهم هذا الرجل يعني الشيخ .
فيقال له : أنت جعلت على نفسك عهداً وميثاقا أنك لا تحكي إلا ما ثبت عن هذا الرجل وتحقق كتحقق الشمس عن الفيء فأين تكفيره واحداً من أهل الأوقاف فضلا عن سائرهم ؟! وإذا انتزع الحياء والدين فلا تعجب مما صدر عن عادمهما من الكذب ونقض العهود وموت القلوب .(175/24)
ثم كيف يتصور أن عاقلا يكّفر جميع أهل الأوقاف بنجد ، وأعصارهم وأزمانهم متطاولة متعاقبة ؟! فمنهم من وقفه متقدم على الشيخ بخمسة قرون أو ستة ، كالوقف الذي ببلد أُشيقر ، وهكذا بعده في كل عصر تحدث الأوقاف وتتجدد ، فهل يقول إن الشيخ كفّر أولئك وجزم بكفرهم من في قلبه أدنى خشية ، أو له أدنى عقل ومعرفة ؟ وقد صان الله الشيخ عن مثل هذه الجهالات والخرافات ، ومن عرف الرجال بالعلم عرف حال الشيخ ورسوخه ومتانة علمه ودينه ، وأنه يلحق بأكابر السلف وعلمائهم وإن تأخر عصره . ومثل هذا الاعتراض حكايته تكفي عن رده .
فصل
قال المعترض : ( بل لما جاء أتباعه أكلت الأوقاف رؤساؤهم ولم يحترموا أوقاف البر وهدموا المنار ولم يروها شيئا وخربت المساجد فلم تجد من يعمرها إلا من لم يدخل ريبه في قلبه وعطلوا المدارس . والويل ثم الويل لمن استغفر من أتباعه لوالديه أو ضحى لهم ) .
والجواب أن يقال : لما فرغ من سب الشيخ وبهته ، أخذ في سب أتباعه وبهتهم ؛ وبهذا تعلم أنه ذو غيظ عظيم ، وحقد وخيم ، وفي المثل : ( لكل نعمة حاسد ؛ ولكل حق جاحد ) ثم لو تكلم غير هذا الرجل بمثل هذا لكان أخف ، وأما هذا الرجل فمعاشه وملبسه ومنكحه ومدخله ومخرجه من الأموال التي بأيدي رؤسائهم ، وله في المزاحمة على ما بأيديهم نهمة وشح ليس لغيره . وقد مكث بالجبيل مدة سنين يأكل مما بأيديهم . وكذلك الحال مدة عمره في سدير ، وله منافسة ومعاداة في تحصيل هذا لا تعرف لغيره . وأتباع الشيخ من أعظم الناس احتراما للأوقاف ، ومن أكثر الناس تحبيساً وتوقيفا على المساجد والأضاحى والأقارب ووجوه البر . لكن الهوى يعمي ويصم .
وأما قوله : ( وهدموا المنار ) .(175/25)
فهذا أيضاً من البهت ، فإن المنار موجود مشيد بنجد إلى الآن ، وليس وجود المنار شرطا في الإسلام ولا واجباً . وفي استحبابه نزاع ، لعدم وجوده في عهده - صلى الله عليه وسلم - . وكان المؤذن يتحرى أعلا المسجد وسطحه ليحصل الاسماع . وهذا الرجل تمكنت عداوته ، واشتدت جهالته ، فصرنا منه في عناء وتعب . ولولا غربة الدين وندرة من يعرف الحقائق من المدعين لما صرفت أوقاتا فاضلة وساعات مباركة ، في رد أباطيله ، وكشف تساجيله . والله أسأل أن يكون كلامنا في هذه المواضع من الجهاد في سبيله ، والدعوة إلى صراطه بدليله .
وقوله : ( فلم نجد من يعمرها إلا من لم يدخل ريبه في قلبه ) .
فيقال : شهادة الحال والحس كافية في بيان كذبه ، وإبطال قوله ، لأنه جحد للحسيات ، ومكابرة في الضروريات . فأهل التوحيد هم أهل المساجد وعمارها ، قال تعالى : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } وفي حديث وفد عبد القيس ( أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ شهادة أن لا إله إلا الله ) الحديث . فأهل كلمة الإخلاص الداعون إليها هم أهل الإيمان عمار المساجد . وكل من يرتاب في هذا أو يشك فيه لا يألف المساجد ولا يعمرها ، وسل خبيرا بحال هذا الرجل ينبيك عنه وعن قلة عمارته للمساجد .
وأما قوله : ( والويل ثم الويل لمن استغفر من أتباعه لوالديه أو ضحى لهم ) .(175/26)
فهذه القولة الضالة كأخواتها السابقة ، فيها من نقض عهده الذي جعله على نفسه وفيها من البهت والكذب وطلب العنت للبراء ما يقضي بفسوق القائل . فنعوذ بالله من استحكام الهوى ، والضلال بعد الهدى : ( فمن قال في مؤمن ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال ) ولا نعلم أن أحداً من أهل العلم والدين نهى عن الاستغفار والتضحية إلا إذا استبان أن الشخص الذي يستغفر له من أصحاب الجحيم بأن مات يدعو لله ندا ، وهذا نص القرآن قال تعالى : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } هذا مذهب الشيخ وأهل العلم من أتباعه . وأما التخليط والحكم بالظن والهذيان فذاك من طوائف الشيطان يصدهم به عن سبيل العلم والايمان .
وفي قول المعترض : ( الذين لم يدركوا دعوته ) .
أن من تقادم عهده وتطاول عصره داخل في عموم كلامه ، وأن الشيخ ينهى عن الاستغفار له وإطلاق هذا يتناول القرون المفضلة ومن بعدهم . وليس هذا ببدع من كذبه وبهته وحسابه على الله وأمره اليه . قال تعالى : { إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون }.
لي حيلة فيمن ينم
*
وليس في الكذاب حيلة
ومن كان يخلق ما يقو
*
ل فحيلتي فيه قليلة
أين ميثاقه وعهده ؟ قال تعالى : { وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين }.
حلفت لنا أن لا تخون عهودها
*
فكأنها حلفت لنا أن لا تفي
وأما قوله : ( حتى ما نجد من الأوقاف على الحرمين صرفوها لجهادهم ومساجدهم ) .(175/27)
يقال : قد تقدم أنه قال : ( وخربت المساجد فلم نجد من يعمرها ) اهـ . فما هذا التناقض ؟! تارة يزعم أنهم يأكلون أوقاف المساجد ويخربونها ثم يقول : أنهم صرفوا أوقاف الحرمين لمساجدهم . ثم انظر : ما نكتة إضافة المساجد إليهم أتظنه لا يرى صرف الأوقاف لها ولا يرى لها من الحرمة ما لسائر المساجد فأضافها إليهم استهانة بها لا تشريفا . فما أشد تعصبه ، وما أبعد عن الحق مذهبه .
ثم يقال : أي وقف أخذه الشيخ من أوقاف الحرمين في أي بلد وأي مكان ؟! هذه الدعوى من أكذب الدعاوى وأضلها . قد استولوا على الإحساء وفيه وقف للحرمين لم يتعرض له أحد بل هو يصرف إلى الآن في مصرفه . ثم في المسألة بحث في صرف أوقاف المساجد ـ ولو مسجدي الحرمين ـ على غيرها إذا اقتضاه مقتض أو أوجبه مصلحة شرعية ، والبحث معروف عند أهل العلم من الحنابلة وغيرهم . فلو فرضنا وقوعه فليس فيه مطعن بوجه من الوجوه ومن ترك صناعة العلم وتكلم بمجرد الرأي والهوى فليس بمستنكر عليه هذا الخلط والضلال .
فصل
قال المعترض : ( وذلك لجعله بلاد الحرمين من بلاد الكفار ، يوضح ما قلنا عمن سمعنا ورأينا وأدركنا أن من جاءهم من الحرمين سموه مهاجراً جاء رجل من مكة يقال له عبد الرزاق فسموه مهاجراً ، ومن المدينة جعفر سموه مهاجراً ، ومن العراق كذلك . ومن كل ناحية من بلاد الإسلام . فهذا الكلام على تأصيل كلامه على الكفار والمشركين الذي أسند حكمه إليهم بالتكفير بموادتهم حتى تعلم أنه كما قيل ( أحصد هوى وغمر ماش ) هذا لفظه .
والجواب أن يقال : هذه كتب الشيخ وهذه تصانيفه ورسائله : أي كتاب وأي فتوى وأي ناقل يعتد به نقل عنه أن بلاد الحرمين بلاد كفر ؟! .(175/28)
قال الشيخ رحمه الله تعالى في رسالته إلى السويدي البغدادي : وما ذكرت أنى أكفر جميع الناس إلا من اتبعني وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة ، فيا عجبا كيف يدخل هذا في عقل عاقل ؟! هل يقول هذا مسلم أو كافر أو عارف أو مجنون ؟! ... إلى أن قال : وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسل ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله . فهذا هو الذي أكفره . وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك .
وقال رحمه الله في رسالته للشريف : وأما الكذب والبهتان مثل قولهم : أنا نكفر بالعموم ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ، وأنا نكفر من لم يكفر ومن لم يقاتل ، ومثل هذا وأضعاف أضعافه ، وكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله .
وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا ولم يكفر ويقاتل ؟! سبحانك هذا بهتان عظيم .
فإذا كان هذا كلام الشيخ رحمه الله فيمن عبد الصنم الذي على القبور إذا لم يتيسر له من يعلمه ويبلغه الحجة ، فكيف يطلق على الحرمين أنها بلاد كفر ؛ والشيخ على منهاج نبوي وصراط مستقيم ، يعطي كل مقام ما يناسبه من الإجمال والتفصيل .
وأما تسمية عبد الرزاق وجعفر مهاجرين فقدوم هذين الرجلين بعد الشيخ بعدة سنوات فلا يجوز نسبة هذا إليه ؛ بل هو كذب ونقض لعهده الذي جعل على نفسه ، ويل أمه ، ما أكثر غدره ، وما أقل وفاءه .(175/29)
على أن هذا لا يعاب به الشيخ وهو جار على قانون العلم وأصوله . فمن ترك بلداً يظهر فيها الشرك أو البدع أو الفسوق وهجرها لذلك فهو مهاجر ، شاء الشيطان أم أبى ، وقد خرج من المدينة خلق لما حصر عثمان ووقعت الفتنة ، والفقهاء ذكروا وجوب الهجرة على من لم يقدر على إظهار دينه أو خاف الفتنة . وقد سئل بعض الصحابة فقيل له أين أنت أيام الفتنة ؛ يعني فتنة مقتل عثمان وما بعده ، فأنشد :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
*
وصوَّت إنسان فكدت أطير
وأما قوله كما قيل : أحصد هوى وغمر ماش . فهذا الأحمق قد بحث عن حتفه بظلفه ؛ وفتح على نفسه باب المناقشة ، وصاحب الهوى هو الذي يرتكب ما يهواه ولا يرده عن القبائح راد ؛ ولا يمنعه عن شهواته مانع من عقل أو دين ، فحينا ينتسب إلى المسلمين ؛ ويدعي أنه على الملة موافق لهم في العقيدة ويتزين بشرح بعض مصنفات الشيخ ، وتارة يرجع عن هذا كله ، وينقلب على وجهه ؛ ويأخذ في سب الشيخ وأتباعه ، ويجمع من الخرافات والخزعبلات ما لا يصدر عن عاقل . ولو كان عدوا ، وهذا هو الهوى المعمي ؛ والداء العضال القاتل . وقد رأيت له رسالة أرسلها إلى بعض الأعيان من أولاد الشيخ يتمدح فيها بذكر الشيخ ومحبته وموالاته ، ويستشهد على متابعة المخاطب بقوله تعالى عن بلقيس : { رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } فلما أعرض عنه المخاطب بهذه الرسالة رجع إلى ثلبه وعيبه ، وكتب رسالة إلى بعض أمراء الوقت يعيب من أسلم معه لله رب العالمين بزعمه ، وكم لها من نظائر ، ومتابعة هذا المعترض لهواه يشهد لها ما عليه من الظلمة وعلى أقواله وتأليفه ومدخله ومخرجه . ومن اجتمع فيه ظلمة الجهل وظلمة الهوى وظلمة الشك والريب فقد أحاطت به الظلمات وحلت بداره الهلكات .
فصل(175/30)
قال المعترض : ( فإذا تنزلنا معه على مذهبه من تكفير الأمة حتى يظهر لك جهله حيث قال في كلام له يأتي : من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله الذي أظهرناه للناس اهـ ) .
فيقال لهذا المعترض وإخوانه : قد تقدم أن الشيخ برئ مما نسب إليه من تكفير الأمة ، ولا يلزم من قوله ( أن التوحيد دين الله ورسوله الذي أظهرناه للناس ) أنه يعتقد كفر الأمة ، أو أن الأمة جميعها لا تعرف التوحيد . هذا لا يتحمله كلامه ، ولا يدل عليه ولا يلزمه ، وإظهاره التوحيد للناس حق وصدق ، فلم يظهر في وقته وقبله بأزمنة ظهوراً جلياً لأهل تلك البلاد إلا بعد دعوته إلى الله ، وبيانه للناس ما جاء به نبيهم من الهدى ودين الحق ، ولا يمنع أن يكون من الأمة من يعرفه ويدين به ؛ لكن له في الدعوة والبيان والإظهار منزلة ومرتبة ليست لغيره من أهل وقته ، ولذلك كثر أعداؤه وخصماؤه واشتغل الجاهلون بالصد عما جاء به ، وعظم ذلك في نفوسهم ، وخصوه بالعداوة ، وسالموا كل كافر ومشرك وجهمي ورافضي ومبتدع ، وهل ذلك إلا لحنق في صدورهم وغيظ في نفوسهم ؛ واستكباراً عن إجابته ؟ ولو سلموا من ذلك لوجدوا من أعداء دين الله ورسوله المكذبين لرسله من يردون عليه ، ويصنفون في عيبه وثلبه ، والعالم يظهر للناس ما خفى من أصول الدين وفروعه ، ولا يقتضي حصر العلم فيه وإن اشتهر بالدعوة والبيان .(175/31)
وقد خفى التوحيد على طوائف من هذه الأمة في القرن السادس وقبله كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ، وذكروا من غلط في مسماه من المتكلمين وأتباعهم ومن جهال الصوفيه كذلك أهل الاتحاد والحلولية إذ يرون مذاهبهم هي التوحيد ؛ وتوحيد المعتزلة هو الاتيان بأصولهم الخمسة واعتقادها ، وقد خاطب شيخ الإسلام بعض الشيوخ في مسألة التوحيد ، وبيّن له توحيد المرسلين وأصل الإسلام ، وأن ما يحصل من التأله والاستغاثة بالشيوخ والصالحين يخالف ما جاءت به الرسل من التوحيد وإسلام الوجوه لله ، فعظّم أمر هذه المسألة ، وقال لشيخ الإسلام : هذا أعظم ما بينته لنا ـ أو كما قال ـ . فكيف والحالة هذه يعترض على شيخنا في قوله : إن التوحيد دين الله ورسوله الذي أظهرناه للناس . أيظن هذا المعترض أنه على تطاول الأعصار ، وممر الدهور ، يزداد الدين ظهوراً ، وقد أخبر نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه يعود غريبا كما بدأ ، فلا بد من غربته وغربة من يعرفه ويدين به ، وهذا من أعلام النبوة كما يشهد له الحس والواقع .(175/32)
قال ابن القيم رحمه الله في الكلام على قوله تعالى : { فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض } الآية : الغرباء في هذا العالم هم أهل هذه الصفة المذكورة في هذه الآية ، وهم الذين أشار إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء ) قيل : ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : ( الذين يصلحون إذا فسد الناس ) وفي حديث عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ونحن عنده : ( طوبى للغرباء ) قيل : ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : ( ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير ، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ) فأهل الإسلام بين أكثر الناس غرباء ؛ وأهل الإيمان بين أهل الإسلام غرباء ، وأهل العلم في المؤمنين غرباء ، وأهل السنة الذين تميزوا بها عن أهل الأهواء والبدع فيهم غرباء ، والداعون إليها ، الصابرون على أذى المخالفين لهم أشد غربة ، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقا فلا غربة عليهم ، وإنما غربتهم بين الأكثرين ، قال الله تعالى فيهم : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } فأولئك هم الغرباء عن الله ورسوله ودينه ، وغربتهم هي الغربة الموحشة ، وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم .
فالغربة ثلاثة أنواع : غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق ، وهي الغربة التي مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه : ( بدأ غريباً وأنه سيعود غريباً ) وأن أهله يصيرون غرباء .
وقال الحسن : ( المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها ولا ينافس في عزها للناس حال وله حال ) .(175/33)
ومن صفات هؤلاء الغرباء الذي غبطهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم ؛ وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس ، وترك الإنتساب إلى أحد غير الله ورسوله ، لا طريق ولا مذهب ولا طائفة ، بل هؤلاء الغرباء ينتسبون إلى الله بالعبودية له وحده ، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده ، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا ، فلغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إنهم النزّاع من القبائل ) . انتهى .
وأما قول المعترض : ( ونحن لا نقول بذلك من تكفير الأمة ، ولا أنه الذي أظهر دين الله ورسوله ، بل هو قبله ظاهر قاهر لا يضره من خذله إلى يوم القيامة ، كما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين وغيرهما .
فيقال : تكفير الشيخ للأمة قد تقدم البيان في أنه من أوضاعكم وأكاذيبكم وتقدم نصه بنقل العدول في البراءة منه .
وأما عدم قولك بأنه الذي أظهر دين الله ورسوله فنعم ، أنت لا تقول به ولا يقول به من أعمى الله بصيرته وتحير في ظلمة الجهل والطبع والهوى ، فشك في واضحات العلم وضروريات الهدى ، وهذا الضرب من الناس لا يلتفت إليهم ، ولا يعدون إذا عُدّ أهلُ العلم والإيمان ، بل هم همج رِعاع لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا الى رُكن وثيق ، أقرب شبهاً بهم الأنعام السارحة ، وإنما يعرف الحق والفضل ذووه من أهل العلم بالله ودينه ، الذين ينظرون بنور الله ، ويعرفون الرجال بالعلم ، فلهم بصيرة بالحق ومعرفة له أينما كان ، ومع من كان ، قال الله تعالى : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين } وفي الحديث : ( ما جعل الله من نبوة إلا كانت بعدها فترة ) .(175/34)
وقال الإمام أحمد في خطبته : ( الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله الموتى ، ويبصرون بنور الله أهل العمى ؛ فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، ومن ضال تائه قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس ، وما أقبح أثر الناس عليهم ) إلى آخر كلامه رحمه الله .
وقد شهد أهل الفضل والعلم من أهل عصره أنه أظهر توحيد الله وجدد دينه ، ودعا إليه . قال العلامة حسين بن غنام رحمه الله :
لقد رفع المولى به رتبة الهدى
*
بوقت به يعلو الضلال ويرفع
وذكر ابن غنام في تاريخه عن أكابر أهل عصره أنهم شهدوا له بالعلم والدين ، وأنه من جملة المجددين لما جاء به سيد المرسلين . وكذلك أهل مصر والشام والعراق والحرمين تواتر عن فضلائهم وأذكيائهم مدحه والثناء عليه والشهادة له أنه جدد هذا الدين ، كما قال شيخنا محمد بن محمود الجزائري رحمه الله تعالى . وأما استدلال هذا المعترض بحديث : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ) .
فلم يفقه معناه فإن الظهور يراد به هنا ظهور القهر والغلبة للأعداء والمخالفين ، وعلو الشأن لأن الحق والإسلام يزداد بياناً ووضوحا إلى يوم القيامة . فإن هذا الفهم يرد بحديث : ( بدأ الاسلام غريباً ، وسيعود غريباً كما بدأ ) وبحديث : ( لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم ) وأحاديث رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن وكثرة الهرج كلها ترد فهم هذا المعترض وتبطله ، ولا يقبل ريبه وتفسيره إلا جهال جلسائه وأصحابه الذي لا يفرقون بين الدر والبعر ؛ والخبيث والطيب ، والميتة والمذكاة { فبعداً للقوم الظالمين } فقول المعترض هو المارج الخارج لا قول شيخ الإسلام .
فصل(175/35)
قال المعترض : ( فظاهر كلامه أن النجاشي ملك الحبشة الذي صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه رضي الله عنهم حين أخبره جبريل عليه السلام بموته أنه بكلامه هذا كافر ليس بمسلم ، حيث لم يصرح بعداوة قومه الذين يجعلون الله ثالث ثلاثة ، وكذلك إمرأة فرعون التي قالت : { رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين } ومؤمن آل فرعون الذي يكتم إيمانه فهو والنجاشي والصحابة جعفر وأصحابه الذي هاجروا إلى الحبشة رضي الله عنهم كفار بهذه العبارة ، كما ترى عند هذا الرجل ، إذ لم يصح إسلامهم على قوله ، حيث لم يصرح بعداوة الحبشة .
فيقال : الله أكبر ، ما أكثر ما في هذه الكلمات اليسيرة من الكذب والظلم والتحريف والجهل .
وجوابها من وجوه :
الأول أن يقال : ليس ظاهر كلامه أن النجاشي ومن ذكر بعده لم يصح إسلامهم . هذا كذب بحت ، وافتراء ظاهر ؛ لأنه قد ثبت أن النجاشي قد صرح بعداوتهم والبراءة من مذهبهم وراغمهم ، زيادة على التصريح بالعداوة . وقد قال : ( وإن نخرتم ) لما صرح بعبودية عيسى عليه السلام حين قرأ جعفر صدر سورة مريم وما فيها من ذكر عيسى ، فقال النجاشي : ( والله ما زاد عيسى على هذا ) . فنخرت بطارقته ، فقال : ( وإن نخرتم ) فأي جهاد وتصريح وعداوة أبلغ من هذا ؟! ومع ذلك نصر المهاجرين ومكنهم من بلاده ؛ وقال : ( أنتم سيوم بأرضي ) ـ أي آمنون ـ ( من سبكم ندم ، ومن ظلمكم غرم ) فقد صرح بأنه يعاقب من سب دينهم وسفه رأيهم فيه ، وهذا قدر زائد على التصريح بعداوتهم .(175/36)
ولا يقول إن جعفراً وأصحابه يكتمون دينهم ببلاد الحبشة ولا يصرحون بعداوة الكفار والمشركين إلا أجهل الورى ، وأعظم كذبا وافتراء ، وهل ترك جعفر وأصحابه بلادهم وأرض قومهم واختاروا بلاد الحبشة ومجاورة الأباعد والأجانب وغير الشكل في المذهب والنسب واللسان ، إلا لأجل التصريح بعداوة المشركين والبراءة منهم جهارا في المذهب والدين ؟ ولولا ذلك لما احتاجوا إلى هجرة ، ولا اختاروا الغربة ، ولكن ذلك في ذات الإله ، والمعاداة لأجله ، وهذا ظاهر لا يحتاج لتقرير لولا غلبة الجهل .
وامرأة فرعون قصتها وما جرى عليها من المحنة مشهورة في كتب التفسير لا يجهله من له أدنى ممارسة . وقد حكى الله في سورة التحريم قولها المشتمل على التصريح والبراءة من فرعون وعمله ومن القوم الظالمين . والظلم هنا هو الكفر الجلي .
ومؤمن آل فرعون قام خطيبا في قومه ، عائبا لدينهم ، مفنّداً لقيلهم ماقتاً لهم ؛ داعياً إلى الحق وإلى صراط مستقيم . كما ذكر الله قصته وقررها في سورة ( حم المؤمن ) .
ومن طبع الله على قلبه وحقت عليه كلمة العذاب لم تفد فيه الواضحات ، ولم ينتفع بالآيات البينات .
الوجه الثاني : أنه قد تقدم عن الشيخ أنه قرر في أول كلامه وآخره أن هذه العداوة التي لا يستقيم الإسلام بدونها : هي التصريح بأن آلهتهم لا تضر ولا تنفع ، وأن عبادتها من أبطل الباطل وأضل الضلال . وهذا هو سب آلهتهم الذي أنكروه وعابوا الرسول به .
فالكلام في نوع خاص ، قد حصل من النجاشي وامرأة فرعون ومؤمن آل فرعون ما هو أبلغ منه وأصرح .
الوجه الثالث : أنه لو فرض العموم في كلام الشيخ فأصل العداوة : البغضاء والكراهة . وأصل الموالاة : المحبة والمودة . ومعلوم أن الذين ذكرهم هذا الرجل قد صرحوا بمحبة الحق وكراهة الباطل ، كيف وقد امتحن عليه من امتحن ، وهاجر فيه من هاجر ؟! .(175/37)
الوجه الرابع : أن الشيخ قال : إذا عرفت هذا عرفت أن الإنسان لا يستقيم له إسلام ولو وحّد الله إلا بعداوة المشركين .
فإن أريد أصلُ العداوة فقد تقدم جوابه ، وإن أريد عموم العداوة من كل وجه فالكلام في استقامته ، لا في حصول أصله . فالذي يفهم تكفير من لم يصرح بالعداوة من كلام الشيخ فهمه باطل ، ورأيه ضال ، لأنه محتمل . وقد دلت الآيات والأحاديث على أنه لا استقامة للدين ، بل ولا يطلق الإيمان إلا على من عادى المشركين في الله وتبرأ منهم ، ومقتهم لأجله قال تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } وقال تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وقال تعالى : { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون . ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون } .
قرر شيخ الإسلام في هذه الآيات أنها دالة على انتفاء الإيمان بموادة من حاد الله وأن معاداتهم من واجبات الدين ، والإيمان والإسلام لا يستقيم إلا بها . ذكره في كتاب الإيمان وقرره في مواضع منه .
وليس مراد الشيخ بقوله : ( لا يستقيم له إسلام ) أنه يكفر كما فهمه هذا الضال وكما فهمته الخوارج من نفي الإيمان عمن ترك واجبا . وهذا بين بحمد الله .(175/38)
الوجه الخامس : أنا لو تنزلنا مع هذا الضال وجاريناه في فهمه الفاسد لما لزم دخول مؤمن آل فرعون وامرأة فرعون ـ قال تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } ولا يلزم أن يكون شرعنا شرعا لمن قبلنا .
الوجه السادس : أن مهاجرة الحبشة والنجاشي وقصته مع جعفر كانت في أول الإسلام قبل إكمال الواجبات والآية التي استدل بها الشيخ مدنية ، وكل عالم يعرف أن القرآن نزل منجما والأحكامُ لا تلزم إلا بعد البلوغ . هذا لو تنزلنا مع المعترض .
الوجه السابع : أن عموم الآية مخصوص بما أبيح للمفتون في نفسه أن يتوقى بإظهار الموافقة وقلبه مطمئن بالإيمان فلا يلزم عمومها لمثل امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون لو سلمنا عدم التصريح .
الوجه الثامن : أن ( الإنسان ) يطلق ويراد به خاص ومعين ؛ كما في قوله تعالى : { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه } وقوله : { وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه } وقوله : { ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا } فهذا ونحوه عام أريد به الخصوص . وهذا معروف في اللغة والاصطلاح الشرعي ، مشهور عند أهل العلم مقرر في كتب أصول الفقه ، فما الذي أخرج كلام الشيخ عن هذا وأوجب إدخال من ذكر في كلامه لو فرض عدم تصريحهم ؟ فالله المستعان .
فصل(175/39)
قال المعترض : ( فيالله العجب ، ما أعمى عين الهوى عن الهدى ، فإن جعفراً وأصحابه لو سلموا من أذى المشركين ومنعهم إياهم عن عبادة ربهم لم يهاجروا للحبشة الذين يجعلون الله ثالث ثلاثة ، فلم تضر إقامتهم عندهم ؛ بل نفعتهم وصارت هجرة ثانية ، وذلك كما قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه بين أظهر المشركين في جوار ابن الدغنة حين أمن من أذاهم ؛ ولم تضره إقامته بين أظهرهم ، ولم يكلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كلف هذا المتكلم ، لو كان كلامه وتأصيله صحيحا ، فكيف بما ذكرنا ؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، كيف يتكلم الرجلُ بما لا يدري ما تحت كلامه على الله وعلى رسوله وعلى كتاب الله المجيد ؟! إذ أي بلد من بلاد الإسلام من أهل القبلة المحمدية الذي جعلهم هذا الرجل بكلامه كفاراً ، يمنعون الإنسان من شهادتي الإخلاص ؛ وأداء الفرائض وتلاوة القرآن وذكر الله وتوحيده ؟! بل من فعل ذلك عندهم يكون له الإكرام والإحترام ؛ إذ هذا خلاصة كلمة التقوى ، وهم أحق بها وأهلها ) .
فيقال لهذا المفتري : عماية عين الهوى عن معرفة مواقع الخطاب والهدى هي التي أوقعتك في مهالك العطب والردى ، وأوجبت لك مسبة أهل العلم من سادات الورى وسدت عليك أبواب الرشد والفلاح في الآخرة والأولى .(175/40)
لو علقت كلام الشيخ وعرفت مواقع الخطاب ، وسلمت من الأشر والبطر والاعجاب ، لعرفت أن كلامه ليس في المخالطة والمقام بين ظهرانيهم ، بل هذه المسألة ليس في كلام تعرُّض لها أصلا ، والهجرة إلى الحبشة ، ومُقام أبي بكر الصديق يتلو القرآن بمكة ويظهر دينه ، كل هذا يؤيد كلام الشيخ وينصره في وجوب التصريح بالعداوة ، وأنه لا رخصة مع الإستطاعة ، ولولا ذلك لما احتاجوا إلى الهجرة ، ولو تركوهما في بلد النجاشي لم يحتاجوا إلى نصرته ، وأن يقول : ( أنتم سيوم بأرضي ) ولكان كل مؤمن يخفي إيمانه ولا يبادي المشركين بشيء من العداوة فلا يحتاج حينئذ إلى هجرة ، بل تمشي الحال على أي حال ، كما هي طريقة كثير ممن لم يعرف ما أوجب الله من عداوة المشركين وإظهار دين المرسلين ، ولولا التصريح بالعداوة من المهاجرين الأولين ، ومباداة قومهم بإظهار الإسلام وعيب ما هم عليه من الشرك وتكذيب الرسول ، وجحد ما جاء به من البينات والهدى لما حصل من قومهم من الأذية والابتلاء والامتحان ما يوجب الهجرة واختيار بلد النجاشي وأمثالها من البلاد التي تؤمن فيها الفتنة والأذية .
فالسبب والمقتضي لهذا كله ما أوجبه الله من إظهار الإسلام ومباداة الشرك بالعداوة والبراءة ؛ بل هذا مقتضى كلمة الإخلاص ، فإن نفي الإلهية عما سوى الله صريح في البراء منه والكفر بالطاغوت ، وعيب عبّاده وعداوتهم ومقتهم ، ولو سكت المسلم ولم ينكر ، كما يظنه هذا الرجل ، لألقت الحرب عصاها ، ولم تدُرْ بينهم رحاها ، كما هو الواقع ممن يدعي الإسلام وهو مصاحب ومعاشر لعباد الصالحين والأوثان والأصنام . فسحقا للقوم الظالمين .(175/41)
وفي قصة أبي بكر حين منع من قراءة القرآن في مسجده ، الذي اتخذه على حافة الطريق يتلو فيه القرآن ظاهراً ، وكان رجلا بكاء عند تلاوة القرآن ، والناس يستمعون إلى قراءته ، وفيها ما فيها من تكفيرهم وعيبهم ووعيدهم وسب آلهتهم والبراءة منهم ، ومن عبادة ما عبدوه ، فنهوه عن ذلك فلم ينتهِ ، وثبت على إظهار دينه ؛ فأمروه بالخروج فلقيه ابن الدغنة فقال : ( ارجع ؛ فمثلك لا يخرج أنت في جواري ) فمضى على ما كان يصنع من الجهر بالقراءة وإظهار دينه ، وهذا هو مراد الشيخ ، وهو الدليل على وجوب التصريح بعداوتهم ، فترك المعترض هذا كله ، وظن أن إجارة ابن الدغنة تقتضي عدم العداوة من أبي بكر وأنه يوالي ابن الدغنة ، فما أضل هذا الفهم ، وقد دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - في جوار المطعم بن عدي أترى هذا يقتضي موالاة النبي - صلى الله عليه وسلم - له ، وعدم التصريح بعداوته ؟ فكأن الرجل المعترض نبطي لا يفهم موضوع الكلام ولا يحسن الاستدلال ، فيستدل بالشيء على ضد ما يدل عليه .
ولقد أنسانا بجهله ما سمعناه عن إخوانه الجاهلين ، وما أحسن ما قال مجاهد رضي الله عنه في قوله تعالى : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } قال : ( حتى يتركه لا يعقل ) .
وأما قوله : ( أي بلد من بلاد المسلمين من أهل القبلة المحمدية الذي جعلهم هذا الرجل كفاراً يمنعون الانسان من شهادتي الإخلاص وأداء الفرائض وتلاوة القرآن وذكر الله وتوحيده ؟ ) .
فالجواب أن يقال : في عبارته هنا تحريف ظاهر فإنه أوقع الموصول المفرد على الجمع ، ولم يفرق على عادته في اللحن الفاحش .(175/42)
ويقال أيضا لهذا الظالم : إن الخوارج وغلاة القدرية والجهمية والقرامطة وغلاة الرافضة من الاسماعيلية والنصيرية وغلاة عباد القبور الذين يرون أن مشايخهم يتصرفون في الكون . كل هؤلاء لا يمنعون من لفظ الشهادتين ؛ وأداء الفرائض وتلاوة القرآن ، بل اليهود والنصارى لا يمنعون من ذلك من دخل بلادهم من المسلمين ؛ وبنو حنيفة لا يمنعون من ذلك ، وعلى زعم هذا الرجل لا مانع من الاقامة بين أظهرهم ، ولا هجرة من ديارهم وأماكنهم ؛ وهذا القول لا يقوله من يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويعرف مراد الله ورسوله في الهجرة ويدري سر ذلك .
وهذا الرجل كما ترى في الجهل والسفاهة ، ومع ذلك يترشح للرد ويرى نفسه بهذا من طلبة العلم ومن علماء المسلمين ، وهو معدود عند العارفين من الأغبياء الجاهلين .
والأعاجم والفرس الذين يعبدون عليا والحسن والحسين يكتبون المصاحف ويطبعونها ويشترونها بغالي الأثمان ، ويبنون المساجد ، ويؤذنون . وأما توحيد الله بالعقيدة والعمل فأكثرهم لا يراه . وينكره أشد الانكار ، ويمنع منه . وإنما حدث الشرك بأمرهم ورأيهم وسلطانهم في هذه الأمة ، وهم أول من بنى المساجد على القبور وعظموها حتى صارت أوثاناً تعبد ، وبيوتاً تحج وتقصد ، بل جعلوا لأهلها التصريف والتدبير والنفع والضر ، زعماً منهم أن هذا كرامة . وهذا مشهور عنهم سرى في أكثر الأمصار ، وعمت به البلوى ، حتى رأينا وسمعنا بمصر وغيرها من ذلك ما لا يبقى معه للإسلام أصل يرجع إليه ، وصنفوا في ذلك مصنفات يعرفها من له نهمة في طلب العلم وأخبار الناس .(175/43)
أفيقال : هؤلاء لا يمنعون من توحيد الله وذكره ؟ ولولا حجاب الجهل والهوى لما خفى حالهم على هذا المتكلم ، ولما قال : هذا خلاصة كلمة التقوى ، وهم أحق بها وأهلها والله سائله عن ذلك ومجازيه عليه ؛ لئن كان أهل الشرك بالله ومعاداة أولياءه ومعصية رسوله من المعطلة وعباد القبور هم أهل كلمة التقوى وهم أحق بها وأهلها فلقد ضل حينئذ من أنكر ذلك ومنعه ، وكفر أهله من السابقين الأولين إلى أن تقوم الساعة . وهذا لازم لقوله لا محيص عنه .
وبه تعرف أنه هو الذي لا يدري ما تحت كلامه وما خرج من بين شفتيه ، قال تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } هذا هو الحكم العدل والقول الفصل والحق المبين ، لا من جعل أهل الشرك بالله ومعاداة أوليائه أهل كلمة التقوى والأحقين بها . وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون .
ثم ساق المعترض حديث أبي موسى في قصة أسماء بنت عميس مع عمر ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لعمر وأصحابه هجرة ولكم هجرتان ) .
ثم قال المعترض : ( إذا علمت هذا تبين لك خطاّ هذا الرجل بأتم بيان وأوضح برهان ، كيف وقد قال تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وذكر قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وحديث : ( ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ) الحديث . وذكر حديث ابن عمر : ( إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم وكانوا هكذا ـ وشبك بين أنامله ـ فالزم بيتك ، واملك عليك لسانك وخذ ما تعرف ، ودع ما تنكر ، وعليك بخاصة أمر نفسك ، ودع عنك أمر العامة ) .
ثم قال : ( فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هو واجب مع القدرة على الكفاية حسب مراتبه ودرجاته ) .(175/44)
فيقال في جواب هذا : هذه الأحاديث والآيات الكريمات تؤيد ما قاله الشيخ وتنصره ، فإن فضل الهجرة الأولى وما جاء فيها يدل على وجوب التصريح بعداوة المشركين وإن لم يكن للمسلمين دولة وشوكة ، كحالهم في بدء الاسلام ، ولذلك احتاجوا إلى الهجرة ، ولو تركوا التصريح بالعداوة وعيب دين المشركين لما احتاجوا إلى ترك أوطانهم ، ولكنهم فعلوا ذلك لحاجة المؤمن إلى إظهار دينه ، وخوفه من الفتنة .
وبهذا تبين صواب كلام الشيخ وخطأ المعترض ، وأنه قد عكس القضية في تخطئة الشيخ . والقلب إذا خسف به تصور الحقائق على غير ما هي عليه . وقد تقدم هذا الجواب .
وليس في كلام الشيخ أن المؤمن يؤاخذ بوزر غيره ، حتى يرد عليه بقوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } بل في كلام الشيخ أن عداوة المشركين وبغضهم من واجبات الدين ، وتاركه ما استقام إسلامه ، فأين هذه من هذه ؟! لقد أبعدت المرمى واستحكم عليك الجهل والعمى .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } فسرها حديث أبي ثعلبة وحديث أبي بكر ، وفيهما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإذا فعل ذلك المؤمن فلا يضره ضلال من ضل إذا اهتدى ، وقام هو بالواجب .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( حتى إذا رأيتم شحا مطاعا ) غاية للأمر والنهي ، ولا أنه لا يجب ابتداء . فافهمه يستبن لك جهل المعترض .
وكذلك حديث عبد الله بن عمر هو من هذا الباب ، ليس فيه أنه لا يأمر ولا ينهى ، ولا يظهر دينه . ومن فهم هذا من الأحاديث فهو من الأغبياء الضالين .
وأما قوله : ( فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي كفر به هذا الرجل الأمة ... إلخ ) في عبارته خلل ، وهي خطه بيده وكان الصواب أن يقول : الذي كفر بتركه ، لا به . فتأمل .(175/45)
ويقال في جوابه : خرجت عن محل النزاع ، فالنزاع في التصريح بالعداوة ، وأما الأمر والنهي فهو أمر آخر ، وطور ثان . وليس في كلام الشيخ تعرض له ، فنسبة التكفير إليه به مع أنه خروج عن موضوع الكلام وحيدة عن تحرير محل النزاع فهو أيضا كذب ظاهر وبهت جلي . من قال : إن الشيخ كفّر بهذا ؟ ومن نقله وفي أي كتاب ؟ وفي أي رسالة ؟ وقد خاب من افترى .
فمن أين أو أنى وكيف ضلالهم
*
هدى ، والهوى شتى بهم متشعب
وإنما أدرج مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مسألة وجوب المعاداة والتصريح بها ليلبس على الجهال ، ويتكثر بما ساقه من كلام العلماء ، وهو عليه لا له كما ذكر هو عن القاضي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا لم يخف ، وهو كذلك لكن هذا يؤيد كلام الشيخ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرع عن التصريح بالدين .
وأيضا فتارك الفرض لا يستقيم له إسلام . والشيخ رحمه الله لم يقل إنه يكفر بترك التصريح بالعداوة ، بل قال : لا يستقيم له إسلام . فيصدق بحصول الإسلام مع عدم استقامته ، وهذا يجري في كل من ترك واجبا أو فعل محرما ، كما قرره تقي الدين ابن تيمية في كتاب الايمان .
فجميع نقوله عن الفقهاء تؤيد كلام الشيخ ، و ترد دعوى المعترض ، لكنه جاهل لا يفهم مراد الله ورسوله ، ولم يعان ويمارس صناعة العلم والبحث مع المحصلين بل وجد أشياخا ضالين ، وكتبا شتتت فكره ، وضيعت فهمه حتى صار من الخاسرين .
ثم أطال النقل عن ابن عقيل وابن مفلح وذكر ما يروى عن حذيفه رضي الله عنه مرفوعا : ( لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ) قيل : كيف يذل نفسه ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : ( يتعرض من البلاء ما لا يطيق ) .
ومراد هذا الغبي : أن الخوف يسقط إظهار الإسلام والتصريح بعداوة المشركين والبراءة منهم ، حتى التصريح بشهادة الإخلاص .(175/46)
فجعل كلام ابن عقيل وابن مفلح وما أتيح له من كلام الفقهاء في عدم وجوب الأمر والنهي على الخائف والعاجز حجة على كتمان الإسلام ومداهنة المشركين ، وإظهار موادتهم وصحبتهم ، هذا مفهوم كلام المعترض ، فبعداً بعدا وسحقا سحقا .
وأعجب من هذا أنه جعل الحديث حجة له على موادة المشركين ، فجعل معاداتهم ذلا وموادتهم عزا : فلا أدري على أي شيء أحسده ؟ على هذا الفهم الذكي أو على ما جمعه من الأكاذيب المفتراة ، وما كنت أظن غباوته تبلغ إلى هذا الحد . فالحمد لله على ظهور الحق والتوفيق للصدق .
ثم استدل المعترض بكلام شيخ الإسلام على حديث أبي سعيد : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ) إلى آخره . وأن الشيخ ذكر في معناه : أن الإنكار بالقلب آخر حدود الإيمان ، وليس المراد أن من لم ينكر لم يكن معه من الإيمان حبة خردل .
يريد الرجل المعترض أن كلام الشيخ يدل على أنه يكفي في الإيمان المطلق ، إنكار القلب ولا يحتاج للتصريح بشيء من واجباته . وهذا رجوع إلى مذهب الجهمية القائلين بأن الإيمان هو التصديق ولم يدخل التلفظ والعمل في مسماه . وبعضهم قال : هي شرائط وليس من المسمى . وكلام أهل السنة في تبديعهم وتضليلهم وتفسيقهم معروف مشهور .
فقول المعترض : فالانكار بالقلب فقط واقف على أضعف الإيمان في حق القادر قول باطل . فإن الحديث يدل على أنه في حق العاجز يكون أدنى الإيمان الخاص . وأما القادر فليس في الحديث نص على حكمه . وإنما يفهم من أدلة أخرى .
وكلام الشيخ على الحديث إنما يدل على انتهاء مراتب هذا الإيمان ، وليس مراده أن تاركه يكفر ، وهذا المعترض لم يفهم مراد الشيخ ولا حام حول قصده .(175/47)
ومراد الشيخ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إيمان ، وأنه ينقسم بحسب الاستطاعة ، وأدناه الإنكار بالقلب ، وأعلاه الإنكار باليد . وقوله : ( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) أي هذا الإيمان الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتغيير ، هذا مراده .
وحينئذ فهو من أدلة الشيخ على وجوب التصريح بالعداوة ، وأنه لا يستقيم للانسان إسلام وإيمان إلا بالاتيان بالواجبات ، فلو اقتصر على أدنى رتب الإيمان مع القدرة على سواها فليس إيمانه بمستقيم ، وإن كان مع عدم الاستطاعة والعجز حصل على أضعف الايمان . فقد فاتته الاستقامة الكاملة ، لأن الأدنى فيه نقص وضعف ، والمؤاخذة وعدمها بحثها الاستطاعة وعدمها .
فانظر وتأمل هذا التقرير يطلعك على جهالة المعترض ، وأنه بمعزل عن العلم والفهم أولئك ينادون من مكان بعيد .
وكلام شيخنا رحمه الله محله فيمن استطاع وقدر ، وأما مع عدم القدرة ومع الاكراه فيباح للرجل أن يتوقى عن نفسه ، كما قال تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } على أن الصابر مع الاكراه الباذل نفسه لله أفضل ممن فعل ما يباح وتوقى عن نفسه .
إذا عرفت مراد الشيخ رحمه الله فهو يطلق الكلام حيث أطلقه الكتاب والسنة ويقيده حيث قيداه . فالمعترض لم يفهم كلام الشيخ ، ولا عرف معاني النصوص ومن وقف على كلامه من أهل العلم عرف ما قلناه ، وأنه حيران لا يدري السبيل ، قال تعالى : { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون } .
واستدل المعترض بقول الإمام أحمد لمن سأله عن السنة تذكر في المجلس لا يعرفها غيره أيتكلم بها ؟ فقال : ( أخبر بالسنة ولا تخاصم عليها ) إلى آخره . وبقول مالك : ( أخبر بالسنة ، فإن لم تقبل منك فاسكت ) .
ومراده : أن السكوت سائغ في أصول الإيمان وفروعه ، حتى ما دلت عليه كلمة الإخلاص ، ولم يفرق بين ما يسوغ السكوت فيه وما لا يسوغ السكوت فيه .(175/48)
وقول أحمد ومالك صريح في أنه لا يسوغ السكوت وإنما يترك الخصام بعد التعريف والبيان . وهذا يشهد لكلام الشيخ ويؤيده ، فإن الشيخ رحمه الله يأمر بالتصريح والبيان ؛ وينهى عن الخصام والمراء والهذيان .
والرسل عليهم الصلاة والسلام لم يسكتوا عن الدعوة والابلاغ لما أرسلوا به حيث لم يقبل منهم ، بل استمروا على ذلك حتى أتاهم أمر الله ، قال تعالى : { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين . وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين } .
وأصل الاسلام ومبانيه : لها حال وشأن ليس لغيرها من السنن ؛ ولذلك يكفر جاحدها ، ويقاتل عليها ، بل يكفر تاركها عند جمهور السلف بمجرد الترك ، أفيسوغ السكوت للعالم عن إبلاغ الجهال وتعليمهم ؟ قال الله تعالى : {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } وقال : { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } وقال تعالى : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة } وقال تعالى: { وجاهدهم به جهاداً كبيراً } وفي الحديث : ( أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ) سبحان الله ! ما أقبح ما تلاعب الشيطان بابن آدم .
ألا هل عم في رأيه متأمل ؟
*
وهل مدبر بعد الاساءة مقبل ؟
وهل أمة مستيقظون لرشدهم
*
فيكشف عنه النعمة المتزمل
فقد طال هذا الغي واستخرج الكرى
*
مساويهموا لو أن ذا الميل يعدل
فصل(175/49)
قال المعترض : ( وهذا الرجل خرج في بلد قد غلب عليها أحكام الإسلام ، وشيدوا منارهم لداعي الفلاح ، وعمروا مساجدهم ومدارسهم بالأوقاف ، مظهرين لشعائر الإسلام بعلمائهم ، فكفرهم وحكموا على من لم يصرح بعداوتهم بالكفر ، كما تراه من كلامه صريحاً ، فلو قدّر أنهم فعلوا منكراً من الشرك فما دونه كيف يكفر من لم يصرح بعداوتهم ؟ إذ لا يكون التصريح إلا باليد واللسان ، ولم يفعل ذلك جعفر وأصحابه رضي الله عنه مع الذين جعلوا الله ثالث ثلاثة ، وكذلك النجاشي ، وهذا ظاهر بحمد الله من الكتاب والسنة ظهوراً لا خفاء به ، ضد ما كفّر به هذا الرجل الأمة لو كان تأصيله صحيحاً ، كيف وهو أفسد الفاسد وأبطل الباطل ؟ .
والجواب أن يقال : تقدم مضمون هذا الكلام مكرراً ، فما وجه إيراده وتكريره ؟ وقد مر جوابه بحمد الله مفصلاً . ومن أفلس من الحجج والبينات ، أكثر من الترداد والهذيان ، ولم يذكر هنا من أدلة إسلامهم إلا تشييد المنار وعمارة المساجد والمدارس بالأوقاف . وقد تقدم الجواب عن هذا ، وأن بني حنيفة وبني عبيد القداح والمختار بن أبي عبيد ، بل والتتار عندهم مساجد ومدارس ، ولهم صدقات وأوقاف ، والإيمان بالله ورسوله ، والكفر بالطاغوت ، أمر وراء ذلك كله ، لا يدركه إلا من سبقت له السعادة وعقل عن الله خطابه ومراده ، مع أن هذا الشيخ لم يكفر من أهل نجد إلا من قام وجدّ في إطفاء نور الله ، وإنكاره توحيده ، ومن جحد البعث من بواديهم وأعرابهم ، ولم يكفر إلا بعد قيام الحجة وظهور الدليل على الإيمان بالله ورسله ، ووجوب الكفر بما عبد من دونه ، فالخصومة في الأصل الأصيل ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
وأما قوله : مظهرين لشعائر الإسلام بعلمائهم .(175/50)
فهي عبارة الجاهل فإن العلماء لا يلزم من وجودهم وجود الإسلام في الناس ، ولا يلزم من عدمهم عدمه ، والأنبياء وجدوا في الأمم السابقة الذين لم يستجيبوا لهم ولم يؤمنوا ووجد من العلماء المؤمنين كثير بين أظهر المشركين وهم معدودون من المستضعفين المعذورين .
وإن أراد أن الباء سببية وان المراد أظهروه بسبب العلماء فأي مزية في هذا لو فرضت صحته ؟ مع أن الخصم يمنعه ؟ وأحكام الإسلام إنما تؤخذ عن العلماء .
وأما قوله : وحكم على من لم يصرح بعداوتهم بالكفر .
فهو كذب لم يقل هذا في أهل نجد كافة ولا في أهل بلد خاصة بل هو مستمسك بأصل عظيم وسلطان مبين وكلامه وتقريره في وجوب عداوة المشركين الذين يحادون الله ورسوله وليس فى كلامه تعرض لأهل البلد التي ظهر فيها لا تصريحا ولا إشارة بل كلامه عام كما أن دليله الذي استدل به عام فهو يحمد الله من الراسخين لا من المتهوكين الجاهلين .
وقوله : ( فلو قدر أنهم فعلوا منكرا من الشرك فما دونه كيف يكفر من لم يصرح بعداوتهم ؟ ) .
يقال : قد تقدم مرارا أن الشيخ رحمه الله لم يكفر وإنما قال : " لا يستقيم إسلام إلا بالتصريح بعداوة المشركين " فأين في هذا تكفيرهم لولا حجاب الجهل والهوى الذي أورد المعترض موارد الخسار والردى .
وقوله : ولم يفعل ذلك جعفر وأصحابه .
تقدم ما فيه ، وأنه كذب على المهاجرين الأولين ، ونسبهم إلى مداهنة المشركين : { وَسَيَعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } .
وقوله : ( لو كان تأصيله صحيحاً كيف وهو أفسد الفاسد وأبطل الباطل ؟ ) .
جوابه أن يقال : إن معرفة الفاسد وإدراك بطلان الباطل يتوقف على أمرين أحدهما : حياة القلب . والثاني : معرفته وعلمه بالحق والباطل ، والصحيح والفاسد ، والصواب والخطأ .(175/51)
ومن نظر في كلام هذا الرجل من أهل العلم والإيمان تيقن موت قلبه ، وأنه لا يدرك الحسيات والضروريات من أمر دينه ، قال تعالى : { وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور } وقال تعالى : { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب } والآيات في المعنى كثيرة . وإذا عدم العلم والنور ، وأضيفت إلى ذلك العداوة والبهت ونحوهما من الشرور ، فمن أي باب يأتي العلم والتوفيق والتمييز بين الطيب والخبيث ، والصالح والفاسد والباطل والحق ، والخطأ والصواب ؟ قال تعالى : { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون } .
ثم ساق المعترض كلاما لشيخ الإسلام فيمن بلغته دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دار الكفر ، فآمن به واتقى الله ما استطاع ، وأنه مؤمن من أهل الجنة ، وكلام تقي الدين أبي العباس يؤيد ما ذكره شيخنا رحمه الله ، فإنه قال : إذا اتقى الله ما استطاع ، كما فعل النجاشي وغيره ممن لم يهاجر ولم تبلغه جميع شرائع الإسلام . وهذا حق ، والشيخ يقول به ، ولا يكلف العبد فوق طاقته ، ولا بما لم يبلغه من الشرائع . فهذا إذا لم يكن عنده من يعلمه .
وفي كلام الشيخ : أن يوسف عليه السلام دعاهم فلم يجيبوه . وكذلك النجاشي لم يطيعوه في الدخول في الإسلام ، وهذا كله يؤيد كلام شيخنا ويشهد بكذب المعترض على النجاشي وعلى مؤمن آل فرعون وامرأة فرعون وعلى المهاجرين إلى الحبشة .
وشيخنا لم يقل إنه لا يستقيم إسلام النجاشي وأمثاله ، وليس لهم ذكر في كلامه والكلام في قاعدة أصلية كلية وهي استقامة الإسلام بالتزام الواجبات وعدمها بعدم بعضها . هذا كلامه رحمه الله .(175/52)
وقول الشيخ تقي الدين في النجاشي إنه لم يهاجر ولم يجاهد ولا حج بل قد روى ولم يكن يصلي الصلوات الخمس إلى آخر كلام الشيخ رحمه الله ، فسياقه في أن الإنسان لا يكلف إلا ما يستطيع لا بما لا يعلم أو بما يعجز عنه ، قال تعالى : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } والوسع دون الطاقة ، هذا مراد الشيخ .
فأين فيه أن عداوة المشركين لا يجب التصريح بها أو أن الإسلام يستقيم بدون ذلك ؟ غايته أن يعذر بالعجز عن التصريح . وشيخنا رحمه الله كلامه في حال القدرة والاستطاعة لا في حال العجز وعدم العلم .
وقد مر البيان أن شيخنا يطلق حيث أطلق القرآن ، قال تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } وقوله : { قوماً } نكرة في سياق النفي فتعم ، وهذا من فقه الشيخ رحمه الله ، حيث يطلق ما أطلقه القرآن ويقيد ما يقيده ، والعاجز له حال غير حال القادر ، وحكم سوى حكمه .
فإن كان يلزم من الآية ونصها الذي هو أشد وأبلغ من كلام الشيخ وقوله لا يستقيم إسلام إلا بالتصريح بعداوة المشركين فإن كانت الآية تدل على كفر النجاشي ومهاجرته الحبشة ومن ذكر هذا المعترض فكلام الشيخ يدل على ذلك ، وإن لم تدل على نفي الإيمان عمن وادّ المحادين لله ورسوله فكلام الشيخ أولى لأن الآية فيها نفي وكلام الشيخ غاية ما فيه عدم استقامة الإسلام ، وما أجيب به عن الآية يجاب به عن كلام الشيخ . فتأمله فإنه مفيد جداً.
ومثل هذا قول الشيخ : وكثيراً ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضياً ، بل وإماما وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ، بل هناك ما يمنعه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها . فإن هذا الكلام غايته أن يدل على أن التكاليف بحسب الوسع ، وليس في كلام شيخنا ما يخالف هذا .(175/53)
وأيضاً فكلام تقي الدين فرضه ومحله في الواجبات التي هي دون أصل الدين ، ودون عيب الشرك والتنديد . وليس في كلامه أن الرجل يخفي إسلامه ويتولى قاضياً ، وبأي شيء حينئذ يحكم ؟ فالمحتج به على كتمان أصل الإسلام ملبوس عليه لا يفرق بين الأحكام ولا يدري معنى الكلام .
وأما قول المعترض : ( وكفر بترك الهجرة إليه ) .
فقد تقدم كلام الشيخ بنقل العدول الثقات أنه بريئ من هذا وأن نسبته إليه من البهت .
والشيخ لا يرى أن الهجرة شرط في الإسلام ، وإن قال به بعض الأعلام ، فالشيخ لا يخرج عن قول جمهور الأمة وأئمتها ، والمعترض يخترع أقوالا كاذبة وآراء فاسدة وينسبها إلى الشيخ ، ثم يأخذ في التفريع عليها وأن القول بها قول الخوارج . وقد صنف رسالة في أن أتباع الشيخ خوارج كما صرح به هنا .
وهكذا حال كل مبتدع ومبطل يخوض بغير علم ولا عدل ، ومن أمعن النظر في كلامه وجده كسراب بقيعة ، يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً .(175/54)
وقد ذكر ابن القيم وغيره أن عباد القبور والمشائخ نسبوا أهل التوحيد والسنة إلى بدعة الخوارج وطريقهم . فالداء قديم ورثه هذا وأمثاله عن الغلاة في عبادة الصالحين وعبادة الشياطين { كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}والخوارج كفّرت بأمور ظنتها ذنوباً وليست كذلك ، وبذنوب محققة دون الشرك والتنديد . وأما الرسل وأتباع الرسل فكفروا من لم يؤمن بالله ، أي بربوبيته وإلهيته وتوحيده وإفراده بالعبادة . ومن جعل له ندا يدعوه ويعبده ، ويستغيث به ويتوكل عليه ويعظمه ، كما فعلت الجاهلية من العرب ومشركي أهل الكتاب ، فتكفير هؤلاء ومن ضاهاهم وشابههم ممن أتى بقول أو فعل يتضمن العدل بالله وعدم الإيمان بتوحيده وربوبيته وإلهيته وصفات كماله والإيمان برسله وملائكته وكتبه ، والإيمان بالبعث بعد الموت وكل ما شابه هذا من الذنوب المكفرة كما نص عليه علماء الأمة وبسطوا القول فيه ، حتى كفروا من أنكر فرعاً مجمعا عليه إجماعاً قطعياً ، كما مرت حكايته عن الحنابلة .
وأما الخوارج فلم يفصلوا ولم يفقهوا مراد الله ورسوله ، فكفروا بكل ذنب ارتكبه المسلم . فمن جعل التكفير بالشرك الأكبر من هذا الباب فقد طعن على الرسل وعلى الأمة ولم يميز بين دينهم ومذهب الخوارج ، وقد نبذ نصوص التنزيل واتبع غير سبيل المؤمنين .
وأما استدلاله بقول لقمان على أن التصريح بالعداوة لا يجب .(175/55)
فهذا من غرائب جهله ونوادر حمقه ، أين في قوله : { إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير } أين فيه أن الإيمان يكمل ويستقيم بغير تصريح بعداوة المشركين ؟ فنص الآية : أن جميع الأعمال يأت بها الله لا يغادر شيئاً منها حسنها وسيئها ، ثم إذا أتى بها اللطيف الخبير أي المدرك لدقائق الأشياء وخفياتها الخبير بما فيها وما لها وعليها فيقبل عمل من اتقاه وأراد وجهه ولم يجعل له عدلاً يدعوه ويحبه كما يدعو الله ويحبه ، ويرد عمل المشرك بربه المسوي بينه وبين خلقه ، كما دلت على ذلك النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ، قال تعالى : { ومن يكفر بالإيمان فقط حبط عمله } وقال تعالى : { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } الآية وقال تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً }
فصل
قال المعترض : ( ومن خطئه الواضح الفاضح أنه استدل للآية الكريمة ، وإنما فيها المودة لمن حاد الله ورسوله . فهو بهذه العبارة أنزل نفسه بمنزلة فوق منزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، بحيث من وادّ من حادّه من الأمة فهو كافر بذلك ، والصحابة رضي الله عنهم يجعلون من واد من حاد الله ورسوله منافقاً معصوم الدم والمال ، كما نهى الله تبارك وتعالى المؤمنين عن موادتهم في السورة بعدها . لأن ذلك من خلق المنافقين الذين دخلوا في الإسلام بشهادتي الإخلاص ) .(175/56)
فيقال في جوابه : قف يا من له نور يمشي به في الناس على ما في هذا الكلام من الكذب والبهت وقول الزور . وقد تقدم نص كلام الشيخ ، وأنه قال : ( لا يستقيم للإنسان إسلام إلا بالتصريح بعداوة المشركين ) ولم يقل بعداوة من عاداني أو عادى أتباعي ، أو لم يطعني ، حتى يقال : إنه أنزل نفسه بمنزلة فوق الرسول . وسائر علماء الأمة من عهد أبي بكر إلى وقتنا هذا يلزمون الناس بما في كتاب الله تعالى وما في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، من أصول الدين وفروعه ، ويثبتون من الأحكام ما أثبت الكتاب والسنة ، وينفون ما نفاه الكتاب والسنة ، لا يختلفون في ذلك ، وحكمهم وإلزامهم إنما هو طاعة الله ورسوله ، وليس إلزاماً بطاعتهم ورأيهم واجتهادهم . ومن نسب أحداً منهم إلى أنه يدعو بذلك إلى نفسه وينزل نفسه منزلة الرسول فقد خاب وافترى ، وبهت أهل العلم وخلاصة الورى .
ومن المعلوم أن طاعة العلماء فيما أمروا به من دين الله وشرعه طاعة لله ورسوله ، لأنها المقصودة بالاصالة ، وطاعة أولي العلم تقع تبعاً وضمناً لا استقلالاً . فلا يترك الحق والدين والتزام ذلك لما فيه من طاعة الآمر والناهي ، ومن تركه لذلك فقد استكبر على الله ورد الحق استصغاراً واحتقاراً لقائله والداعي إليه . وهذه العلة هي التي أوجبت لكثير من الناس تكذيب الرسل ورد ما جاءوا به ، قال تعالى عن آل فرعون : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا } وقال تعالى عمن كذب عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - من أشراف قومه ورؤسائهم : { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } والآيات في هذا المعنى كثيرة . وليس قولهم : أن من حاد الرسول من الأمة يكون منافقاً ، بل قد يكون بذلك كافرا او منافقا أو فاسقاً . فالكلام والحكم فيه تفصيل يطلب من محله .(175/57)
وبهذا يستبين كذب المعترض على الصحابة وعدم معرفته لأقوالهم وجهله بأحوالهم ، والثابت المحفوظ عنهم ـ بنقل العدول الثقات ـ يوافق كلام الشيخ ، ولا يجعلونه منافقاً معصوم الدم والمال ، بل يفصلون كما تقدم ، والنفاق إذا ظهر يجري على صاحبه ما اقتضاه الدليل من كفر وقتل ، ولا عصمة للمال والدم مع الظهور .
هذا الرجل جاهل بالأحكام والأقوال ، وقد سلك وادياً مهلكاً ، وطريقاً ضالة عن طرق أهل الهدى ، فاضطره الحال إلى ما ترى . وقد قاتل أبو بكر مانعي الزكاة ، واستباح دماءهم وأموالهم لما عصوا ما رآه ، وثبت عنده من أدلة الشرع وأحكامه . أفتراه داعياً إلى نفسه ، مقاتلاً على طاعته من دون الله ورسوله ؟ .
والشيخ لم يتعد أمر الله ورسوله فيما دعا إليه ، فلأي شيء خص بهذا البهت ؟ وأنه يدعو إلى نفسه ، وأنه أنزلها بمنزلة فوق الرسول ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم . وتكفير المسلم كقتله بنص الحديث . وهذا القول الذي نسبه إلى الشيخ كفر لا شك فيه . فإن من أنزل نفسه منزلة الرسول وكفّر المسلمين بموادة أعدائه يكفر بذلك . وهذا الرجل لا يتحاشى من نسبة الشيخ إلى الكفر والضلال والفساد .
فالحمدلله على ما منَّ به من خزي أعداء دينه ورد كيدهم ، وظهور عباده المؤمنين عليهم ، قال تعالى : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } وفي الحديث : ( من دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ) .(175/58)
والمعترض لضلاله وخبث طويته يلمز الداعي إلى الهدى بأنه يدعو إلى نفسه قال تعالى : { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم } فإذا كان هذا فيمن سخر بالمتصدقين ، فكيف بمن يلمز ويسخر بأئمة الدين ، الدعاة إلى توحيد رب العالمين ؟ وقال تعالى لنبيه : { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين } .
وقول المعترض : ( إن ذلك من خلق المنافقين الذين دخلوا في الإسلام بشهادتي الإخلاص ـ يطلعك على جهله ، وعدم ممارسته لصناعة العلم .
ويقال له : إن جنس الموادة للمشركين قد يقع من مسلم قد برئ من النفاق الأكبر ، وآية سورة الممتحنة نزلت في حال حاطب بن أبي بلتعة وهو بريء من النفاق بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه لما اعتذر إليه وقال : أني لم أفعل هذا رغبة عن الإسلام ولا شكاً فيه وإنما أردت أن تكون لي عند القوم يد تحمي أقاربي ومن لي بمكة . أو نحو هذا الكلام . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( صدق ) فكيف يجعله هذا المعترض منافقاً وقد شهد بدراً .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر : ( ما يدريك أن الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم ) . قال الشاعر :
فليصنع الركب ما شاؤا لأنفسهم ...
*
هم أهل بدر فلا يخشون من حرج
وأول السورة يدل على إيمانه ، وأن المشركين من أعدائه ، قال تعالى : { ياأيها الذين آمنو لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } فهذا المعترض يسب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويرميهم بالنفاق لكثافة جهله ، وعدم فهمه . وقد قال في هذه الآية بما لا يعلم ، وفي الحديث : ( من قال في القرآن بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار ) وفي رواية : ( برأيه ) .(175/59)
ثم احتج المعترض بحديث عتبان وما قيل في مالك بن الدخشم ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا تراه قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ) وقول الرجل : أما نحن والله لا نرى ودّه ولا حديثه إلا إلى المنافقين . الحديث وقد ساقه المعترض مستدلاً به على أن موادة المنافقين لا تضر ، وأن التصريح بعداوتهم لا يجب .
وهذا القول في الحقيقة وهذا الفهم الضال فيه الرد والاعتراض على قوله تعالى : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } وشيخنا رحمه الله تعالى لم يأت بشيء من كيسه ، إنما هو القرآن والسنة ، قال تعالى : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها } وهذا الحديث لا يدل على ما قاله المعترض أصلاً ، ولا يفهم منه أن المودة غير محرمة إلا أضل وأبلد الحيوان ، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما أقر القائل : أنه منافق لا يحب الله ورسوله . وما أقره على قوله : أما نحن والله لا نرى وده ولا حديثه إلا إلى المنافقين . بل أنكر ذلك ورده - صلى الله عليه وسلم - منبهاً على أن قوله : ( لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ) براءة له مما نسب إليه ، ومانع يمنعه مما قيل فيه .
ومن عرف الإخلاص واليقين ومنزلتهما من الإيمان ، عرف أن من أعطيهما ووفق لهما لا يقع منه موادة للمنافقين والمشركين ، ومن ذاق طعم الإيمان فالله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وإنما تقع الموادة لأعداء الله من خلل في الإخلاص واليقين ، ونقص في التوحيد ، والتزام التوحيد الواجب يمنع من ترك واجب أو فعل محرم ، وإنما يقع الخلط من عدم العلم بحدود ما أنزل الله على رسوله .
فمن عرف الإيمان والتوحيد ، وعرف حدودها الجامعة المانعة انفتح له باب عظيم في الفهم عن الله ورسوله لا يفهمه إلا خواص العارفين ، فتأمله يطلعك على أسرار غفل عنها الأكثرون .(175/60)
ولما حُجب هذا المعترض عن معرفة حدود ما أنزل الله، وصار معه من الهوى والإعجاب ما أقتضى جهله بنفسه ، وخوضه في أمر يقصر عنه فهمه وإدراكه ، فلا جرم حيل بينه وبين رشده ، وخُلي بينه وبين نفسه . فنعوذ بالله من جهد البلاء ، ودرك الشقاء ، وشماتة الأعداء .
فصل
قال المعترض : ( وقد قال العلماء كلاماً معناه قاله ابن القيم في الأعلام : لا يجوز لأحد أن يأخذ من الكتاب والسنة ما لم تجتمع فيه شروط الاجتهاد من جميع العلوم . قال : ولو اجتمعت شروط الإجتهاد في رجل لم يجب الأخذ بقوله دون نظرائه ) .
والجواب أن يقال : هذا لسان جاهل ، وتركيب نبطي ، لا يدري شيئاً من صناعة العلم . وابن القيم ينزه عن هذا اللفظ ، وهذا التركيب ، ولا يقول : ما لم تجتمع فيه شروط الاجتهاد من جميع العلوم . فإن البحث ما هكذا إيراده ولا تقريره ، والعلوم فيها ما لا دخل له هنا ولا اعتبار ، كعلم الطب والهندسة والإنشاء ، وقريض الشعر وميزانه ، والعلم بالرسم وإتقانه ، ومعرفة التاريخ .
وأما بالنظر للمعنى فابن القيم رحمه الله قد شن الغارة على من قال : لا يجوز لأحد أن يأخذ من الكتاب والسنة ما لم تجتمع فيه شروط الاجتهاد ، وأوسع قائله تجهيلاً وتخطئه ، وقال : هذا سد لباب أخذ العلم والهدى من كتاب الله وسنة رسوله . وذكر في هذا المبحث من النصوص والآثار والمناظرة بين المجتهد والمقلد ما لا تتسع له هذه الرسالة ، وذكر هذه العبارة راداً لها مجهلاً لقائلها .
والقصد : أن المعترض كذب على ابن القيم كما كذب على شيخنا ، وحكى عكس ما قاله ابن القيم . فنعوذ بالله من زيغ القلوب ورين الذنوب .
ومراد المعترض : القدح في شيخنا ، حيث استدل بآية سورة ( قد سمع ) على تحريم موادة المشركين ، ووجوب التصريح بعداوتهم .(175/61)
وحاصل قوله : أن الكتاب والسنة لا يأخذ منهما أحد إلا من اجتمعت فيه شروط قلّ أن توجد ولو في آحاد الأئمة المقلدين ، فكيف بغيرهم ؟ وهل هناك نبذ للكتاب وراء الظهر فوق هذا الصنيع لو كانوا يعلمون ؟ .
والاستدلال بالنصوص القرآنية والظواهر الجلية من الكتاب والسنة ليس من مسائل الاجتهاد التي تكلم ابن القيم مع خصومه فيها وجهلهم بقولهم : لا يجتهد إلا من اجتمعت فيه الشروط . فإن المسائل الاجتهادية ما كان للاجتهاد والنظر مساغ فيها وأما النصوص والظواهر فلا تسوغ مخالفتها اجتهاداً ، وذلك كمعرفة الله وإثبات توحيده وصفات كماله ، ووجوب الصلوات ، والأركان الإسلامية ، والأصول الإيمانية ونحو ذلك من النصوص التي لا تسوغ مخالفتها والعدول عنها . والمعترض جاهل لا يفرق بين مسائل الاجتهاد وغيرها .
وقد رأيت لخدنه داود بن جرجيس كلاماً في هذا المبحث يزعم أن المجتهد إذا اجتهد في عبادة غير الله وأداه اجتهاده إليها يكون مأجوراً ، فأوردنا عليه إجتهاد النصارى المثلثة ، والصابئة المتفلسفة ، والمجوس المشركة ونحوهم ، ومن اجتهد وقال بحل ما قتله الله من الميتة وقاسه على المذكاة قياس الأولى . ومن رأى باجتهاده من غلاة الرافضة والشيعة والنصيرية جواز إسناد التدبير والتصريف في العالم إلى الأولياء وأئمة الشيعة ورأى باجتهاده أن هذا من الكرامة التي تجوز للأولياء ، وهكذا يقال في دفع شبه أهل البغي والضلال .
ثم استدل المعترض بحديث : ( إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ) الحديث . على أن ما صدر من الشيخ من الكلام في المباحث العلمية والأصول الدينية من تكفير مشرك أو أخذ ماله ، والكلام في قبيح أفعاله يدخل في النهي عن الأعراض والدماء والأموال .
ولا أدري هل هذا المعترض يرى كلام جميع العلماء في أهل الشرك وعبادة غير الله من هذا الباب أو هو يخص الشيخ رحمه الله بهذا العظيم من عداوته وغليظ غباوته ؟ .(175/62)
وكأنه فهم من هذا الحديث أنه عام تدخل فيه وفيما دل عليه من التحريم دماء المشركين والمرتدين وأموالهم وأعراضهم .
ولو سلمنا له هذا الفهم الفاسد لكان نسخاً لجميع ما في الكتاب والسنة من الأمر بقتال المشركين وسبي نسائهم ، وغنيمة أموالهم ، واستباحة أعراضهم ، فينسخ من القرآن والسنة ما يعز استقصاؤه وحصره ، وتضع الحرب أوزارها بين الناس إلى يوم القيامة ، وما أظن جهال أهل الكتاب ينتهون إلى هذه الغاية .
فإن زعم أنه لم يرد هذا ، وأن استحلال دماء المشركين وأموالهم باق إلى يوم القيامة . قيل له : ما وجه استدلالك على الشيخ بالحديث الخاص بالمؤمنين وعباد الله الموحدين ؟ والشيخ لم يقاتل إلا على رأس الأمر وهو شهادة أن لا إله إلا الله ، لم يقاتل على غيرها وعلى غير التزامها .
والرجل المعترض آفته وعلته ما تقدم تصريحه به من عباد القبور ومن يدعو الأولياء والصالحين ليسوا بمشركين ، بل هم من عباد الله المؤمنين الذين تحرم دماؤهم وأموالهم . والله المستعان .
وقوله : قال حجة الإسلام الغزالي : لترك ألف كافر ولا قتل مسلم واحد .
فيقال : قتل المسلم عظيم وأي مسلم قتله الشيخ ؟ وقد سبق أن النزاع مع هذا في أصل الإسلام والتوحيد .
ثم قوله : ( قال حجة الإسلام ) إن كان المعترض يعتقد هذا وأنه حجة للإسلام وقوله يُرجع إليه بين الأنام ، فقد رد هذا المعترض على جمهور الأمة ، ولا سيما الحنابلة وقد شنّعوا عليه في كتابه الإحياء وأمثاله من تآليفه ، وجزموا بأنه مخالف لأهل السنة والجماعة في كثير من السمعيات والعقليات ، وقوله لا يحتج به عند أهل مذهبه في مسائل الذيول والتفريعات ، فكيف بأصول الإسلام ؟ قال تلميذه أبو بكر ابن العربي المالكي : شيخنا أبو حامد دخل في جوف الفلسفة ثم أراد أن يخرج فلم يحسن اهـ .(175/63)
وأما قول شيخ الإسلام فيمن أوجب تقليد إمام بعينه فهو كلام ظاهر وجيه ، لكن المعترض وضعه في غير موضعه وأزال بهجته لأنه استدل به على رد ما يورده العلماء من نصوص الكتاب والسنة ولم يفرق بين مسائل التقليد والاجتهاد ، وبين النصوص الظاهرة وما يعلم من الدين بالضرورة ، وما أجمع عليه بين الأمة فخلط البحثين ، ولم يفرق بين المقامين . ولو قال هذا أحد على الوجه الذي أراده المعترض لوجب رد قوله كائناً من كان .
ثم قال المعترض : ( فهذا الرجل بقوله وفعله قد أوجب متابعته في كل ما يقول وكفر مخالفيه في ذلك ، وهو لم يوافقه على ذلك أحد من علماء الأمة من جميع أقطارها بل أنكروا عليه فبإنكارهم عليه جعلهم بذلك كفاراً حلالي الدم والمال . وضمن لم تبعه على ذلك من قوله : الجنة بتكفير الأمة وقتالها ، ونهب أموالها وأطال الكلام بما حاصله : أن شاعرهم سبَّ علماء نجد ـ ابن فيروز وأبا الخيل ـ وأن هذا الرجل يذكر في درسه مسبتهم وما قيل فيهم . وأكثر من هذا الهذيان ) .
والجواب أن يقال : ليس بعجيب صدور هذا البهت والسب عن هذا المعترض . وفي المثل : إذا ظهر السبب بطل العجب. كيف وقد تعددت أسباب عداوته وبهته وزوره ؟ ويكفي في هذه الدعوى ردها ومنعها واطراحها .
ومعاذ الله أن يوجب الشيخ على أحد متابعته أو متابعة غيره إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه رسائل الشيخ ومصنفاته ينهى عن ذلك ويشدد فيه ، ويأمر بتجريد المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينكر ما اعتاده الناس من الغلو في رأي العلماء واجتهادهم ، وتنزيل ذلك منزلة النصوص النبوية ، وقد عقد بابا في كتاب التوحيد لهذه المسألة .
قال رحمه الله : باب من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله .(175/64)
واستدل بقوله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } وذكر حديث عدي بن حاتم . وذكر من الآثار عن أهل العلم ما يقضي ببراءته ويشهد بعلمه ، وأن هذا المعترض لا يتحاشى عن قول الزور وشهادته ، وقد قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شاهد الزور أن يسود وجهه ويطاف به ، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون .
وقوله : ( ولم يوافقه على ذلك أحد من علماء الأمة ) .
إن أراد أنهم لم يوافقوه في وجوب طاعته في كل ما يقوله فهو لم يدع هذا ولا قاله ، ونبرأ إلى الله من قائله ، وقد قال مالك بن أنس وبقوله نقول ويقول شيخنا : كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر . يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وأما قوله : ( بل أنكروا عليه ، وبإنكارهم جعلهم كفاراً حلالى الدم والمال ) فقد كذب وافترى ولم يكفر أحداً خالفه في رأيه وهواه وجميع ما يقوله ، وإنما كفر بالشرك بالله وعبادة غيره ، واتخذ الوسائط والأنداد في المسألة والتوكيل والإنابة ، والتكفير بهذا لا يضاف إليه ، بل هو حكم يضاف إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وما جاءت به الرسل عن الله .
وأما قوله : ( وضمن لمن تبعه على ذلك الجنة بتكفير الأمة وقتالها ونهب أموالها ) .
فقد تكرر الجواب عن مسألة التكفير للأمة وقتالها .
... ... وأما ضمان الجنة فهذه الكلمة العوراء لا تصدر إلا عن غبي قد تمادى في الوقاحة والسفاهة ، والله ورسوله قد وعد المؤمنين الجنة والمغفرة والرضوان ، ورتب على أصول الإيمان وشعبه من الثواب والجزاء والمغفرة ما لا يخفى على من آمن بالله ورسوله وأجاب المرسلين .(175/65)
... ... وأما الشهادة لمعين من أهل القبلة بجنة أو نار فلا يشهد أحد بذلك إلا من شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا ذكره العلماء في كتب العقائد . والمعترض قد التحق بأكذب الخلق الذين يكذبون على الله ورسوله ، وعلى علماء أمته ، وقد كنا في غنية عن رد أكاذيبه لسقوطها وظهور هجنتها ، لولا ما قيل : لكل ساقطة لاقطة . وخوفاً أن تصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة .
... ... وأما قوله : ( ويقول شاعره في أشعار كثيرة ) .
... ... فنسبة هذا الشاعر إلى الشيخ معدودة من زور هذا المعترض ، والكلام نبطي لا يعتبر وزناً .
... ... ثم لو فرض صحة هذا وأن الشيخ قرره واستحسنه لم يكن في ذلك ما يعاب به الشيخ ويذم به ، وقد شاع عن ابن فيروز وأبي الخيل ما لا يخفى على من عرف دعوة الشيخ ، وما جرى من أهل عصره وقد هجا شعراء الإسلام كثيراً ممن صد عن سبيل الله وصدف عن آياته .
... ... ويذكر عن ابن فيروز أنه قال : لو دعاني ابن عبدالوهاب إلى شهادة أن لا إله إلا الله ما تبعته ، والواقع يشهد بذلك .
... ... وقوله عن الشيخ : ( أنه يحلف في رسالة من رسائله أن كفر الشيخ محمد بن فيروز أعظم من كفر فرعون إذ هو قد أنزل نفسه منزلة الكليم موسى عليه الصلاة والسلام ، والشيخ ابن فيروز منزلة فرعون فابن فيروز مكث علمه بالأرض ونفع الله به العباد والبلاد ، وهو كما ترى تسفك به الدماء وتنهب به الأموال حتى قاد على أهل نجد الدواهي العظام التي لا تطاق ولا ترام ) .(175/66)
... ... فيقال لهذا المعترض : أنت مطالب أولاً بتصحيح نقلك عن الشيخ وأنه صدر منه هذا الكلام ، والناقل يطالب بالصحة ، والمدعي يطالب بالدليل . فلا تعطى بمجرد دعواك ، ولا يسلم لك ما دون هذا ، ولو في حق آحاد العوام . وقد تقدم البرهان على جهلك وكثرة كذبك ، وشهادتك الزور ، وثبتت عداوتك للشيخ في أول أمرك وآخره ، فأي عاقل وأي حاكم يقبل منك هذا النقل وهذا الكلام الذي لا سند له ، بل هو من جنس أوضاع اليهود والنصارى فيما ينسبونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأكاذيب والأباطيل التي يصدون بها الناس عما جاء به من الهدى ودين الحق ، ويقولون هو يسفك الدماء ، ويأخذ الأموال ويسبي الذراري وفي الإنجيل : ( من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ) ونحو هذا الكلام ، فما أكثر وراثة هذا الرجل لأولئك الأقوام ، وما أسرع ما نسى أصل الملة والإسلام ؟ .
... ... فالحمد لله الذي أخزى هذا الرجل ونشر له في الناس ما يليق بأمثاله مما اقتضته الحكمة الإلهية والمشيئة الربانية ، ولقد تفوه بعض أقاربه بذمه وتكفيره بمجرد الاطلاع على كلامه .(175/67)
... ... ولو فرضنا أن الشيخ صدر منه هذا الكلام ، نظراً إلى أن ابن فيروز عرف ثم أنكر ، وأقبل ثم أدبر ، وصد عن سبيل الله بشبهات ينسبها إلى شرعه المطهر ، وإلى ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - صاحب الناموس الأكبر ، ويظهر للناس في ثياب العلماء ورسم الفقهاء ووظيفة المعلمين ، وهو في الحقيقة يصد عن دين الله ويدعو إلى عبادة الصالحين ودعائهم مع الله ، وصرف الوجوه إلى غير باريها وفاطرها . فبهذه الاعتبارات هو أغلط ممن أتى الأمر وصد عن السبيل من غير نسبة لذلك إلى دين الله وما جاءت به رسله . وفي القرآن العزيز من الكشف عن حال هذا الضرب من الناس ، وأنهم من أبعد الخلق عن الله ، وأغلظهم حجاباً وأشدهم كفراً ما يعرفه من فقه عن الله ، قال تعالى : { كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين } والآيات في هذا المعنى كثيرة .
... ... وقول المعترض : ( ابن فيروز مكث علمه في الأرض ونفع الله به العباد والبلاد ) .
... ... فيقال : هذه الدعوى لا تحتاج لدليل يبطلها ، وبرهان يردها غير شهادة الحس والواقع ، وما يعرفه سائر الناس من الخاصة والعامة ، بل آثار ابن فيروز في الصد عن سبيل الله ومسبة أئمة الإسلام وجعل شيخ الإسلام طاغوتاً يجب الكفر به معروف مشهور عند أهل الاحساء وغيرهم كما قال في منظومته التي أولها :
أنامل خط السعد قد أثبتت خط ...
*
بأقلام أشياخ لنا حررت ضبطاً(175/68)
... ... فإنه أقذع فيها وأتى من نصرة عبادة القبور وأهل الغلو في الأنبياء والصالحين وتسمية من أنكر هذا طاغوتاً بما يدل على آثاره ونفعه في البلاد والعباد ، فإن كان هذا عند المعترض هو العلم ونفع العباد والبلاد فنعم هذا صار منه ومدحه به وأثنى عليه كل مشرك بالله رب العالمين ، يسوي بين الله وبين خلقه في خالص حقه ، وقد اتخذ أعداء الدين منظومته نزهة لمجالسهم وتحفة لأشياعهم .
... ... وقد رد عليه الشيخ حسين بن غنام الاحسائي رحمه الله تعالى بمنظومة أجاد فيها وأفاد ، وأولها :
على وجهها الموسوم بالشؤم قد خطا
عروس هوى ممقوتة زارت الشطا
تخطت ، فأخطت في المساعي مرامها
ومرسلها عن نيل مقصوده أخطا
وثارت لنار الشرك تذكى ضرامها
وسارت فبارت والإله لها قطا
لقد شوهت ما زخرفته بزورها
كما أنها بالمين قد أحكمت ربطا
وقد جاء منشيها بزور ومنكر
وفحش وبهتان يعط به عطا
وحان به داعي العناد لمهيع
تنكب عن سبل الهداية واشتطا
وضل عن الارشاد والحق واعتدى
وغط أناساً في طريقته غطاً
وجاوز منهاج الهداية راضياً
عن الدين بالدنيا فما نالها بسطا
يحاول تشييدا ورفعاً لما وهت
قواعده فوق البسيطة وانحطا
... في أبيات له رحمه الله تعالى .
... ... ولابن فيروز رسائل ومصنفات في الصد عن سبيل الله ورد ما جاء به شيخنا من الدعوة إلى الله ، وتجريد المتابعة لرسوله ، وهي باقية يتداولها كل زائغ مرتاب ، كهذا المعترض ، ولو كلف أن يأتي عن ابن فيروز بمسألة واحدة انتفع بها الناس في بيان التوحيد وأصل دين المرسلين وإبطال ما عليه أكثر الناس من عبادة الصالحين لما وجد إلى ذلك سبيلاً .(175/69)
... وقول المعترض في شيخنا : ( وهو كما ترى تسفك به الدماء وتنهب به الأموال ، حتى قاد على أهل نجد الدواهي العظام التي لا تطاق ولا ترام ) .
... ... فهذا الكلام لا يعترض به إلا جاهل بأيام الله وأخبار الناس ، وما قصّ الله على رسله وأكابر أوليائه ، والناس مذ كانت الدنيا فريقان قال تعالى : { ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون } وقال تعالى : { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير } وقال تعالى : { لتبلون في أموالكم وأنفسكم } وقال تعالى : { ألم . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } وقال تعالى : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ماجاءتهم البينة } وقال تعالى : { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } وفي الحديث : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده ) وفي السيرة من أخباره ومغازيه وما جرى بسبب مبعثه - صلى الله عليه وسلم - من القتال بين العرب وقبائلها وبين الفرس والعرب والروم والقبط وأهل الكتاب وما جرى بين مؤمن هؤلاء الناس والأمم وبين كافرهم من النزاع والاختلاف والقتال على تعاقب الدهور والأعصار ، ما تستبين به سنة الله التي قد خلت في عباده . وفي الحديث : ( إن من كان قبلكم كان يوضع المنشار على رأس الرجل منهم حتى يخلص إلى قدمه ، ما يصده ذلك عن دينه ) .(175/70)
... ... وهذا الغبي ارتاع مما لا نسبة بينه وبين ذلك من الامتحان ، ولم ينظر إلى ما حصل من اللطف لأهل الإيمان عند نزول المحن والافتتان ، وما أعطوا بذلك من حسن العاقبة والعز والظهور ، وأنهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم . ولم يدر ما في ذلك من الحكم والمصالح التي لا يحيط بها إلا الله الذي قدرها ودبرها ولو لم يكن في ذلك إلا قيام حجج الله وآياته ، وتمييز الخبيث من الطيب لكان كافياً . فالمؤمن يراه من أدلة الإيمان وبرهان صدق الرسول ، والمنافق والمرتاب يراه من الدواهي العظام التي لا تطاق ولا ترام . كما أخبر الله تعالى عن قوم فرعون أنهم إذا أصابتهم سيئة اطيروا بموسى ومن معه ، قال الله تعالى : { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تُصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون } فانظر إلى هذه الوراثة القبطية تطلعك على حكمته ، تعالى في إبقاء ورثة لأعداء الرسل .
... ... فسبحان من بهرت حكمته العقول ، وصدقت أقضيته ما جاءت به رسله من النصوص والنقول ، ليس كمثله شيء في أفعاله كما أنه لا مثيل له في ذاته وصفاته ، وهب بعض عباده من الفهم عنه والإيمان به ما دلهم على معرفته عند كل حادث وحركة وسكون ، وخذل من شاء عن ذلك فباء عند المحن والاختبار بصفقة المغبون ، وتشاءم بما جاء به أئمة الهدى وما قاله الصالحون .
فصل
... ... قال المعترض : ولما قيل له لم لا تسبون إذا كانوا كفاراً كما تسبي الصحابة رضي الله عنهم ؟ قال لهم أن السبي حق كما أن قتلهم حق وجعل أموالهم فيئاً وغنائم ، ولكن الناس لا يحتملون ذلك في نسائهم وأولادهم ، فقيل له كيف يترك الحق ؟ قال يترك الشيء لشيء أكبر منه والنبي - صلى الله عليه وسلم - ترك نقض الكعبة وجعلها على قواعد إبراهيم عليه السلام ، لأن قريشا حدثاء عهد بكفر .(175/71)
... ... فالجواب أن يقال : قد تقدم أن هذا الرجل لا يُقبل له قول ، ولا يحتج بخبره بل يجب اطراحه وتركه .
... ... ولو فرضنا أن الشيخ قال هذا فكلام السلف وخلافهم في سبي نساء المرتدين معروف عند أهل العلم ، وقد أفتى به أبو بكر وعمل به مدة خلافته ، والناس تبع له في ذلك ، ثم إن عمر رأى خلاف هذا وأن المرتدات لا تسبى ، ووافقه جمهور الناس ، والبحث معروف في محله ، وكلام أبي حنيفة وأصحابه في هذه المسألة معروف مشهور .
... ... فلو قاله الشيخ في المرتدات اللاتي يعبدن طواغيت الحسين وعبدالقادر والبدوي وأمثالها ممن قامت عليهم الحجة فأبوا وأصروا على عبادة غير الله واتخاذ الآلهة والأنداد كما فعلت قريش وغيرها من مشركي العرب وكما يفعله كثير من مشركي الأمم وأهل الكتاب ، فأي عار على الشيخ في هذا ؟ وأي دليل يمنع منه ؟ وقد قال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } وما أظن هذا الغبي يحسن الاحتجاج على منع سبى المرتدات بل ولا يعرف .
... ... وقوله : يترك الشيء لشيء أكبر منه . هذا مما يدل على علم الشيخ وفقهه . ومن القواعد المشهورة : أنه يرتكب أخف الضررين لدفع أعلاهما ، وتترك إحدى المصلحتين لتحصيل أولاهما. والحديث حجة على ذلك فإن كان صدر من الشيخ هذا فلا ضير فيه ولا عيب به .
وعيرها الواشون أني أحبها
*
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
... ... وأما قوله : ( وهو يعطي الشعراء على سب علماء المسلمين وأعيانهم ) . فهذا كذب وزور ، ليس من عادة الشيخ أن يعطي الشعراء ولم يعط شاعراً قط فيما نعلم . ولا سب مسلماً قط ولا عالماً من علماء المسلمين بل هو أعظم الناس رعاية لحق الإسلام وحفظاً لعهده وحماية لأهله ونصره لهم وهذا مشهور من أخلاقه الإسلامية وشيمته العربية ، خلاف ما عليه كثير ممن يدعي الدين وهو مشغول بأعراض المسلمين وهتك حرماتهم .(175/72)
... ... وأما قوله : ( وهل هذا إلا مكفراً للأمة مضللاً لعلمائها ، والسالم من علماء نجد من القتل جلا عن كل بلد تحت أيديهم ، فراراً منهم عن القتل ، لأنه لم يوافقه أحد من العلماء على ذلك ، وأتلفوا كتب العلم التي فيها حتى لا يرى في نجد إلا رسائله ، والويل لمن يستعمل غيرها وقت قوتهم .
... ... فيقال لهذا المعترض : قد تقدم القدح في تأصيلك وبيان كذب دليلك ، وأن جميع ما ذكرته لا تجوز نسبته إلى الشيخ ، وأنت في ذلك أكذب من سَجَاح وإذا انهدم الأصل بطل التفريع ، وما جلا عن نجد إلا من عرف بعداوة دين الرسول والصد عنه ، والاشتهار بمسبته ، والأكثر استجاب لداعي الحق واعترف به وأمن في سربه وعُوفي في نفسه وماله وأهله ، وهم الأكثر .
... ... وأما إتلاف كتب العلم التي في نجد ، فهذه القولة وأمثالها يستبين بها تهور هذا الرجل في الكذب والزور، ومكابرة الحس والضروريات ، ومعرفة حال الشيخ وأهل نجد وما عندهم من الكتب في أصول الدين وفروعه ودواوين الإسلام وتفاسير الأئمة وكتب العقائد والسير والتواريخ والعربية لا يجهله الموافق والمخالف ، وهذا الرجل لا يحسن سبك الكذب والزور ، بل يأتي بها طامة شوهاء لم تنتقب ولم تختضب .
فهلا عكست الأمر إن كنت حازماً
ولكن أضعت الحزم لو كنت تعقل
... ... وآحاد الطلبة من أهل نجد لا يقولون : وهل صاحب هذا إلا مكفراً للأمة مضللاً لعلمائها ، لمعرفتهم بأن ( هل ) تهمل ولا تعمل ، وقد أعملها في خطه بيده فنصب بها وأعملها إعمال ( ما ) الحجازية .
... ... وكذلك قوله : ( والسالم من علماء نجد جلا عن كل بلد تحت أيديهم ) . وهذا تركيب نبطي يقتضي أن السالم من القتل استوعب بلاد نجد في السكنى والجلاء .(175/73)
... ... وسيأتيك عنه ذم الشيخ وأتباعه بأنهم لا يعرفون العلوم العربية ، وإذا تأملت تراكيبه في هذا الكتاب وعباراته عرفت أنه من أبعد خلق الله عن العلم وممارسته والشعور بشيء من الفنون ، وإنما هو وقح ، صال وقال وأمن السيف فاستطال .
... ... قال المعترض : ( وقال أيضاً لما سئل عما يقاتل الناس عليه وعما يكفر به فقال عن خطه بيده : لا نقاتل إلا على ما أجمع عليه العلماء كلهم وهو الشهادتان ) انتهى نقل المعترض .
... ... ثم قال بعده : ( فهذا شأنه يحكي الاجماع من نفسه لنفسه ، ومن هو الذي أنكر الشهادتين شهادتي الإخلاص من هذه الأمة حتى يقاتل عليهما ، فإذا كانت الأمة من حيث الجملة حين يعرب مولودها أول ما تلقنه شهادتي الإخلاص قبل أن يلقنوه بأمه وأبيه . وإذا احتضر ميتهم أجلسوا عنده أعقل أهله وأبرهم به يلقنه بذلك بسهالة لأنهم قد علموا من علم نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أن من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة وأيضاً يلقنوه في قبره حتى جاءهم فنهاهم ، وعد ذلك من الشرك . وقال : فكيف يدعى الميت وينادى في قبره وهو لا يسمع ولا يبصر ؟ ويقول الله : { إنك لا تسمع الموتى } حتى منعوا الناس عن ذلك وعن الدعاء بعد الصلاة بالأدب المبرح ، وعن القراءة على القبر . ولسنا بصدد هذا في هذا الموضع . وقد أوفينا عليه في التبصرة وغسل الدرن بما فيه كفاية من الأحاديث والآيات وأقوال العلماء الأعلام ، وإنما صددنا هنا لتكفيراته ، فإذا كان أمر الأمة جميعها كذلك فماذا يقاتل عليه من إنكار شهادتي الإخلاص ؟ وأطال بما حاصله : أنهم لا ينكرون شهادتي الاخلاص .(175/74)
... ... فالجواب أن يقال : هذا الرجل من أبعد الخلق عن الفقه عن الله ورسوله ومعرفة مراده ، وحقائق أحكامه ، ومن أجهل خلق الله بأقوال أهل العلم ومدارك الأحكام ، وكل من عقل عن الله يعلم علماً ضرورياً أن المقصود من الشهادتين ما دلتا عليه من الحقيقة والمعنى ، وما اشتملتا عليه من العلم والعمل . وأما مجرد اللفظ من غير علم بمعناهما ولا اعتقاد لحقيقتهما فهذا لا يفيد العبد شيئاً ، ولا يخلصه من شعب الشرك وفروعه ، قال تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله } وقال : { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } فالإيمان بمعناها والانقياد له لا يتصور ولا يتحقق إلا بعد العلم ، والحكم على الشيء فرع عن تصوره ، فإذا لم يعلم ولم يتصور فهو كالهاذي وكالنائم وأمثالهما ممن لا يعقل ما يقول ، بل لو حصل له العلم وفاته الصدق لم يكن شاهداً بل هو كاذب ، وإن أتى بهما صورة ، قال الله تعالى : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } فكذبهم في قيلهم ، ورد شهادتهم وشهد على كذبهم ، وأكد الحكم بإن المؤكدة ولام التعليق ، فهل يقول عاقل أنهم يشهدون بكلمتي الإخلاص ، ويعترفون بها ؟ وهل هذا القول إلا رد لكتاب الله وخروج عن سبيل المؤمنين ؟ فإنهم مجمعون على اعتبار ما دلت عليه الشهادتان من المعنى المراد ، وأنه هو المقصود ، ولم يقل أحد أن الإيمان مجرد اللفظ من غير عقيدة القلب وعلمه وتصديقه ، ومن غير عمل بمدلول الشهادتين ، وما سمعت أن أحداً قاله إلا طائفة من المتكلمين من الكرامية نازعوا الجهمية في قولهم إن الإيمان هو التصديق فقط ، وقابلوا قولهم بأنه مجرد الإقرار فقط . والقولان مردودان عند الأمة ولكنهما أحسن وأقرب إلى قول أهل العلم مما أتى به هذا المفتري : من عدم اعتبار العلم والمعنى . ومن قرأ القرآن أو سمعه وهو عربي اللسان فإنه يعلم أن قتل المشركين معلل بنفس الشرك معلق عليه(175/75)
، قال تعالى : { وقاتلوا المشركين كافة } وقال تعالى : { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار } وقال تعالى : { براءة من الله ورسوله ... فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } ونحو ذلك من الآيات الدالة على تعليق الحكم على نفس الشرك ، وفي الحديث : ( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه ) وفي الحديث الآخر : ( من بدل دينه فاقتلوه ) وكلام الفقهاء في باب حكم المرتد وقولهم : فمن أشرك بالله إلى آخر كلامهم .
... ... وحكى شيخ الإسلام ابن تيمية الاجماع على كفر من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويعبدهم ويتوكل عليهم وقد مر ذلك ، فكل ما ذكر من الإتيان بلفظ الشهادة والتلقين لا يفيد شيئاً مع عدم العلم .
... ... ويقال أما قوله : ( فهذا شأنه يحكي الاجماع من نفسه لنفسه ) فجميع أهل العلم والأئمة الراسخين يحكون الإجماع ويحتجون به لأنفسهم وينصرون به أقوالهم . وقد جمع ابن هبيرة وابن حزم مسائل الإجماع مرتبة على أبواب الفقه وحكوها من أنفسهم لأنفسهم . وفي كتب الفقه كالإقناع والمغنى والفروع والمقنع من ذكر الإجماع والاحتجاج به ما لا يخفى على صغار الطلبة . والطرق التي يعرف بها الإجماع القطعي معروفة عند أهل العلم ، مقررة في محلها لا تخفى على مثل شيخنا . فإذا احتج بالإجماع قبل منه وأخذ عنه . فإن القول ما قالت حذام .
... ... ومن الطرق التي يعرف بها الاجماع : كون الحكم معلوماً بالضرورة من دين الإسلام ، فمن تصور الإسلام وعرف حقيقته ومعناه علم علماً ضرورياً أن القتال على التزام الشهادتين مع القدرة فرض كفاية ، وفرض عين في بعض المواضع . هذا لا يخفى على عوام المسلمين .(175/76)
... ... وهذا الرجل خفى عليه ذلك لاستحكام الشقاء وغلبة العداوة والهوى ، قال تعالى : { أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } .
... ... وقد استفاض الإجماع على وجوب قتال من جحد ركنا من الأركان الخمسة وما لا يتم الإسلام إلا به . وما أجمع على تحريمه أو حله إجماعاً قطعياً أو ثبت جزماً كتحريم لحم الخنزير ، وقد نص على ذلك من يحكي الإجماع كابن هبيرة وابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية ، وقد ذكره ابن رجب وابن عبد البر وابن المنذر وأمثالهم من أهل العلم .(175/77)
... ... قال شيخ الإسلام لما سئل عن قتال التتار : كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه ، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه ، كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة . وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما . فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام ، عملاً بالكتاب والسنة . وكذلك ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج ، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة مع قوله : ( تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم ) نعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال ، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله ، وحتى لاتكون فتنة . فمتى كان الدين لغير الله ، فالقتال واجب ، فأيما طائفة ممتنعة عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء والأموال أو الخمر أو الزنا أو الميسر أو عن نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار ، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها التي يكفر الجاحد لوجوبها فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها ، وإن كانت مقرة بها . وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء . وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن كركعتي الفجر والأذان والإقامة عند من لا يقول بوجوبهما ، ونحو ذلك من الشعائر ، هل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أو لا ؟ .(175/78)
... ... فأما الواجبات والمحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف في القتال عليها ، وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام والخارجين عن طاعته كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ، فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين أو خارجون عليه لإزالة ولايته . وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولهذا افترقت سيرة علي رضي الله عنه في قتاله لأهل البصرة وأهل الشام وفي قتاله لأهل النهروان ، فكانت سيرته مع أهل البصرة والشاميين سيرة الأخ مع أخيه ، ومع الخوارج بخلاف ذلك . انتهى المقصود منه .
... ... وأما مسألة التلقين في القبر فلمن منعه سلف صالح يقتدي بهم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان وأئمة الهدى من أهل المذاهب وغيرهم ، وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم الجوزية وأمثالهما لا يرون ذلك ، وإن قال به جمع كثير وهذه مسألة فرعية خلافية فالتشنيع بها خروج عن محل النزاع .
... ... وأما قوله : ( وعدّ ذلك من الشرك ) فهذا بهت ظاهر ، أين التلقين من الشرك ؟ فالتلقين تذكير وتعليم ، والشرك إعطاء المخلوق ما يستحقه الخالق وحده من دعاء وتوكل ومحبة ونحو ذلك من العبادات والطاعات . هذا هو الشرك . والشيخ أجل وأعلم من أن يجعل التلقين من الشرك ، وتآليفه وبحثه يدل على أنه من الراسخين ، وتهور هذا ومجازفته فيما يدعيه دليل على أنه من المفترين الظالمين . ويكفي المنع والرد في الجواب عما يدعيه والدعوى إذا تجردت عن دليل اكتفى بردها والدفع في صدها .(175/79)
... ... وقول المعترض : ( انه يقول كيف يدعى الميت وينادى في قبره ؟ وهو لا يسمع ولا يبصر . ويقول الله : { إنك لا تسمع الموتى } حتى منعوا الناس عن ذلك وعن الدعاء بعد الصلاة بالأدب المبرح وعن القراءة على القبر ) هذا لفظه .
... ... والرجل أدخل الآية في جملة ما حكى ، ولم يتعقب حكايته بتفصيل ، بل أطلق المنع والتشنيع والرد فلا أدري ماذا يرى في الآية ؟ وبماذا يتخلص ، أهو على صراط مستقيم في السمع المنفي في مثل هذه الآية والمثبت فيما صح عن السنة ، أو هو كما هو ظاهر عبارته غبي مرتبك مرتاب لا يدري ما نفى مما أثبت ؟ وشيخنا رحمه الله لم يصدر منه هذا ولا قاله ، ولا جعل هذا من الدعاء الممنوع منه ، لكنه يدري ما يراد بالنفي في مثل هذه الآية ، وما يراد بالإثبات في مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في أهل قليب بدر : ( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ) وقوله : ( إن الميت ليسمع قرع نعال أهله ) ونحو ذلك من الأحاديث الواردة في السماع . فمن عرف هذا تبين له ما في عبارة المعترض من الكذب والجهل والخلل .
... ... وكذلك قوله : ( إنهم منعوا الناس عن الدعاء بعد الصلاة بالأدب المبرح ) كذب بحت من جنس ما قبله ، غاية ما قيل : إن الدعاء لم يشرع من حين التسليم وإنما شرع التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد ، ومحل الدعاء قبل السلام وبعد الفراغ من الأذكار المشروعة بعد السلام . وذهب إلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وقرره أحسن تقرير وأما الأدب على الدعاء فليس بصحيح ، بل هو جرى على العادة في أكاذيبه وأوضاعه .(175/80)
... ... ثم قال المعترض : ( ولسنا بصدد هذا ، وإنما صددنا هنا لتكفيراته ، فإذا كان أمر الأمة كذلك فماذا يقاتل عليه من إنكار شهادتي الإخلاص اللتين يدخل بهما الإسلام ، ويعصم بهما دمه وماله ، وأنت لو قلت لأفجر الأمة : أريد منك إنكار شهادتي الإخلاص أو إحداهما وإلا قتلتك لاختار القتل ولا إنكارهما أو إحداهما إلا أن يعمل برخصة الله وقلبه مطمئن بالإيمان ) .
... ... والجواب أن يقال : يُسال هذا الجاهل عمن أتى بالشهادتين ثم صدر منه ما يوجب الردة من عبادة صنم أو وثن أو إنكار ركن من الأركان ، أو أصل من أصول الإيمان الستة ، أو أنكر حرفاً من القرآن أو أنكر تحريم الخنزير أو تحريم امرأة من محارمه المذكورة في سورة النساء أو فرعا مجمعاً عليه أو سحر أو شك في البعث ، أو في كذب مسيلمة ونحو ذلك . فإن قال شهادتي الاخلاص عصمت دمه وماله وإن فعل ذلك فقد جهّل الأمة وفسق الصحابة والأئمة وأضحك العقلاء من جهله ، وخرق الإجماع وشاقّ الله ورسوله ، واتبع غير سبيل المؤمنين . وإن اعترف بإباحة الدم والمال لصدور شيء من ذلك بطل كلامه ، وفسد تأصيله ، واستبان أنه من أكابر الضالين ورؤساء الملحدين مذ جرى قلمه وتفوه فمه بالخوض في هذه المسائل التي لا يعرفها إلا رجال آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين .
... ... فنعوذ بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء ، وأكثر سعي العالمين ضلال .
... ... أين هذا من قول الله تعالى : { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا } وقوله تعالى : { ولا تدعُ من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين } وأين هذا من قوله تعالى : { ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان لهُ به } وقوله تعالى : { ولقد أُوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكوننَّ من الخاسرين } ونحو ذلك من الآيات . وفي السنة من ذلك مالا يمكن حصره .(175/81)
... ... ويكفي المؤمن قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ) .
... ... وقد استدل الصديق بهذا الحديث على قتال مانعي الزكاة ، فكيف لا يستدل به على مناقضة ( لا إله إلا الله ) وقتال من نقضها وهدمها ، وأبطلها بعبادة الأنبياء والصالحين ، والجن ، والشياطين ، واتخذ آلهة مع الله يحبهم ويدعوهم ، ويسألهم ويتوكل عليهم ، ويزعم أنهم باب حاجته إلى الله والواسطة بينه وبين ربه في قضاء حاجته ، وتفريج مهماته ، ومغفرة ذنبه ، وتكفير سيئاته ، وقد اتسع الخرق بذلك حتى وصلوا إلى دعوى الربوبية في آلهتهم ، وأنهم يدبرون ويتصرفون ، ويعطون ويمنعون ، وأن ذلك على سبيل الكرامة ، فألّهوهم وعبدوهم عبادة ما صدرت من كفار قريش ، ولا ادعاها أحد منهم لوثنه ومعبوده . هذا ، وهم يقولون ( لا إله إلا الله ) وفيهم من يصلي ويزكي ويأتي بشيء من العبادات البدنية والمالية ، ومع ذلك هم من أكابر المشركين ورؤساء الضالين . وقد قيد الله سبحانه الانتفاع بالشهادة بقيد ليس عندهم منه خبر ، ولم يقفوا منه على عين ولا أثر ، قال تعالى : { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } وقال تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله } وفي حديث أبي هريرة : ( أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه ) .
فصل(175/82)
قال المعترض : ( ولكن هذا الرجل جعل طاعته ركناً سادساً للأركان الخمسة ، كما قال ذلك أخوه لأمه وأبيه الشيخ سليمان بن عبدالوهاب ، حين خطّاه ، فلم يقبل منه ، ونهاه عن سفك الدماء ، ونهب الأموال ، فلم يفعل ، وكان يقول في رسائله ولدعاته : إن علماء نجد كعقداء البدو في أخذهم العقبات على أهل الغارات ، فوصى له رجل عاقل من أهل نجد أن قولوا له : إن أهل نجد قبلك يأخذون على الخط لأجل أنه لا يحصل لهم كفاية على القضاء ، وقد نص العلماء على الرخصة في ذلك على هذا الحال وعقداء البدو في الغارات يأخذون فيما بينهم أبيض الظهر وليسوا يأخذونه قهراً عليهم . وإنما هو عن تراض منهم على ذلك ، لا ينكره منهم منكر ، وأنت تأخذ الكسب كله ، أبيض الظهر وأسوده بغير رضى ولا حق ولا مستحق عليهم ، بل اجترأت على الله ، وعلى كتابه ورسوله وعباده المؤمنين فكفرتهم وسفكت دماءهم ، وأخذت أموالهم واستبحت بلدانهم ، وجعلتها بأجمعها لعيالك وأتباعك ، وأخذت فريضة الله التي فرض من فوق سبع سموات ولم تعطها أهلها ، بل استعنت بها على سفك دماء المسلمين واستباحة حرمتهم ، وتأخذ زكاة الثمار ، ولو أن ثمرة الإنسان ما تكفي عشير ما عليه من الدين إذ هو بحالة يستحق لدفع الزكاة إليه ، بل قد تدينها لهم . فخالفت العلماء وخالفت الرسول - صلى الله عليه وسلم - جهاراً حيث بعث معاذاً إلى اليمن في وصيته بأن تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم ، وأنت عكست ذلك كما هو المشاهد . فلم يرعو . وجعل ذلك بعده سنة سيئة متبعة ، عليه غرمها ووزرها ، رآها بذلك حقاً واجباً وديناً لازماً . والمنكر لذلك يكون كافراً فاجراً ، والويل ثم الويل له إن لم يكن تائباً عن ذلك راجعاً . ويكون له على ذلك تابعاً داعياً . ويستدل بفعل الصديق رضي الله عنه . وهيهات هيهات ما بعد ما بينهما ، وإنه لكما قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي يعرّض برجل وامرأة :
أيها المنكح الثريا سهيلا
*(175/83)
عمرك الله ، كيف يجتمعان ؟
هي شامية إذا ما استقلت
*
وسهيل إذا استقل يماني
...
... والجواب أن يقال : قد علم أهل العلم والإيمان براءة الشيخ من هذا ، وأن دعوته إلى طاعة الله ورسوله ، يأمر بتوحيده وينهى عن الشرك به وعن معصيته ومعصية رسوله . ويصرح بأن من عرف الإسلام ودان به فهو المسلم في أي زمان وأي مكان ، ويشهد الله كثيراً في رسائله ، ويشهد أولي العلم من خلقه أن أعداءه إن جاؤه عن الله أو عن رسوله بدليل يرد شيئاً من قوله ، ويحكم بخطئه فيه ليقبلنه على الرأس والعين ، ويترك ما خالفه أو عارضه . وهذا معروف بحمد الله .
وإنما يرميه بمثل هذا البهت وينسبه إليه من جعل زوره وقدحه في أهل العلم والإيمان جسراً يتوصل منه ، ويعبر إلى ما انطوى عليه ، وزينه له الشيطان من عبادة الصالحين والتوسل بهم ، وعدم الدخول تحت أمر أولي العلم ، وترك القبول منهم ، والاستغناء بما نشأ عليه أهل الضلال واعتادوه ، من العقائد الضالة ، والمذاهب الجائرة . قال تعالى حاكياً عن فرعون وقومه فيما رموا به كليمه موسى ونبيه هارون عليهما السلام من قصد العلو والدعوة إلى أنفسهما : { قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين } وقال : { ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين . إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوماً عالين . فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون . فكذبوهما فكانوا من المهلكين } .
فانظر ما أفادته اللام إن كنت من ذوي الألباب والأفهام . وقال تعالى عن قوم نوح أنهم قالوا لنبيهم : { ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } .(175/84)
فانظر يا من نور الله قلبه ، ما زعم هذا المعترض ونزِّله على هذه الآيات الكريمات تعرف أن آل فرعون وقوم نوح لهم ورثة وأتباع وعصابة وأشياع يصدون عن سبيل الله ، ويبغونها عوجاً ، ويستكبرون على ورثة الرسل وأعلام الهدى ، تعظماً وحرجاً ولا بد من الحساب يوم يقوم الناس لرب العالمين . وقد رأيت رسالة لشيخنا رحمه الله تعالى تشهد لما قررناه . ونصها :
من محمد بن عبدالوهاب إلى الأخ حمد التويجري ، ألهمه الله رشده . وبعد . وصل الخط أوصلك الله إلى ما يرضيه ، وأشرفنا على الرسالة المذكورة وصاحبها ينتسب إلى مذهب الأمام أحمد رحمه الله ، وما تضمنته الرسالة من الكلام في الصفات مخالف لعقيدة الأمام أحمد . وما تضمنته من الشبه الباطلة في تهوين أمر الشرك بل في إباحته ، فمن أبين الأمور بطلاناً لمن سلم من الهوى والتعصب ، وكذلك تمويهه على الطغام بأن ابن عبدالوهاب يقول : الذي ما يدخل تحت طاعتي كافر . ونقول : سبحانك هذا بهتان عظيم . بل نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا بأن من عمل بالتوحيد وتبرأ من الشرك وأهله ، فهو المسلم في أي زمان وأي مكان ، وإنما نكفر من أشرك بالله في إلهيته بعد ما تبين له الحجة على بطلان الشرك . وكذلك نكفر من حسّنه للناس أو أقام الشبه الباطلة على إباحته . وكذلك من قام بسيفه دون هذه المشاهد التي يشرك بالله عندها وقاتل من أنكرها وسعى في إزالتها والله المستعان اهـ المقصود منه .
وأما نسبة ذلك إلى أخيه سليمان فلا مانع من ذلك لولا وجوب رد خبر هذا الفاسق وعدم قبوله إلا بعد التبين .(175/85)
ثم لو فرضت صحته ، فمن سليمان ؟ وما سليمان ؟ هذه دلائل السنة والقرآن تدفع في صدره وتدرأ في نحره . وقد أشتهر ضلاله ومخالفته لأخيه مع جهله وعدم إدراكه لشيء من فنون العلم . وقد رأيت له رسالة يعترض فيها على الشيخ وتأملتها فإذا هي رسالة جاهل بالعلم والصناعة ، مزجى التحصيل والبضاعة ، لا يدري ما طحاها ولا يحسن الاستدلال بذلك على من فطرها وسواها .
هذا وقد من الله وقت تسويد هذا بالوقوف على رسالة لسليمان فيها البشارة برجوعه عن مذهبه الأول ، وأنه قد استبان له التوحيد والايمان ، وندم على ما فرط من الضلال والطغيان . وهذا نصها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من سليمان بن عبدالوهاب إلى الاخوان : حمد بن محمد التويجري وأحمد ومحمد ابنا عثمان بن شبانة .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ( وبعد ) فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، وأذكركم ما منَّ الله به علينا وعليكم من معرفة دينه ، ومعرفة ما جاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من عنده ، وبصّرنا به من العمى ، وأنقذنا من الضلالة . وأذكركم بعد أن جيتونا في الدرعية من معرفتكم الحق على وجهه ، وابتهاجكم به ، وثنائكم على الله الذي أنقذكم وهذا دأبكم في سائر مجالسكم عندنا ، وكل من جاءنا بحمد الله يثني عليكم . والحمدلله على ذلك . وكتبت لكم بعد ذلك كتابين غير هذا أذكركم وأحضكم ، ولكن يا اخواني معلومكم ما جرى منا من مخالفة الحق ، واتباعاً سبل الشيطان ، ومجاهدتنا في الصد عن اتباع سبل الهدى .
والآن معلومكم لم يبقى من أعمارنا إلا اليسير والأيام معدودة ، والأنفاس محسوبة والمأمول منا أن نقوم لله ونفعل مع الهدى أكثر مما فعلنا مع الضلال ، وأن يكون ذلك لله وحده لا شريك له ، لا لما سواه ، لعل الله يمحو عنا سيئات ما مضى سيئات ما بقي .(175/86)
ومعلومكم عظم الجهاد في سبيل الله ، وما يكفر من الذنوب ، وأن الجهاد باليد واللسان والقلب والمال ، وتفهمون أجر من هدى الله به رجلاً واحداً .
والمطلوب منكم أكثر مما تفعلون الآن ، وأن تقوموا لله قيام صدق ، وأن تبينوا للناس الحق على وجهه ، وأن تصرحوا لهم تصريحاً بيناً بما كنتم عليه أولاً من الغي والضلال .
فيا إخواني الله الله . فالأمر أعظم من ذلك فلو خرجنا نجأر إلى الله في الفلوات وعدَّنا الناس من السفهاء والمجانين في ذلك لما كان ذلك بكثير منا .
وأنتم رؤساء الدين والدنيا في مكانكم أعز من الشيوخ . والعوام كلهم تبع لكم . فاحمدوا الله على ذلك ولا تعتلوا بشيء من الموانع .
وتفهمون أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يرى ما يكره ، ولكن أرشدكم في ذلك إلى الصبر ، كما حكي عن العبد الصالح لقمان في وصيته لابنه ، فلا أحق من أن تحبوا لله وتبغضوا لله ، وتوالوا الله وتعادوا لله .
وترى يعرض في هذا أمور شيطانية . وهي أن من الناس من ينتسب لهذا الدين وربما يلقي الشيطان لكم أن هذا ما هو بصادق ، وأن له ملحظ دنيوي ، وهذ أمر ما يطلع عليه إلا الله . فاذا أظهر أحد الخير فاقبلوا منه ووالوه . فإذا ظهر من أحد شر وادبار عن الدين فعادوه واكرهوه ، ولو أحب حبيب .
وجامع الأمر في هذا : أن الله خلقنا لعبادته وحده لا شريك له ، ومن رحمته بعث لنا رسولاً يأمرنا بما خلقنا له ، ويبين لنا طريقه ، وأعظم ما نهانا عنه الشرك بالله وعداوة أهله ، وأمرنا بتبيين الحق وتبيين الباطل . فمن التزم ما جاء به الرسل فهو أخوك ولو أبغض بغيض . ومن نكب عن الصراط المستقيم فهو عدوك ولو هو ولدك أو أخوك .(175/87)
وهذا شيء أذكركموه مع أني بحمد الله أعلم أنكم تعلمون ما ذكرت لكم ، ومع هذا فلا عذر لكم عن التبيين الكامل الذي لم يبق معه لبس ، وان تذاكروا دائماً في مجالسكم ما جرى منا ومنكم أولاً ، وأن تقوموا مع الحق أكثر من قيامكم مع الباطل فلا أحق من ذلك ولا لكم عذر ، لأن اليوم الدين والدنيا ولله الحمد مجتمعة في ذلك فتذاكروا ما كنتم فيه أولاً في أمور الدنيا من الخوف والأذى واعتلاء الظلمة والفسقة عليكم . ثم رفع الله ذلك كله بالدين وجعلكم السادة والقادة ، وذلك من آثار دعوة شيخ الإسلام وعلم الهداة الاعلام .
ثم أيضاً ما منّ الله به عليكم من الدين ، انظروا إلى مسألة واحدة مما نحن فيه من الجهالة قبل انتشار هذه الدعوة الاسلامية كون البدو نجري عليهم أحكام الإسلام مع معرفتنا أن الصحابة قاتلوا أهل الردة وأكثرهم متكلمون بالإسلام ، ومنهم من أتى بأركانه ومع معرفتنا أنه من كذب بحرف من القرآن كفر ولو كان عابداً ، وأن من استهزأ بالدين أو بشيء منه فهو كافر وأن من جحد حكماً مجمعاً عليه فهو كافر ، إلى غير ذلك من الأحكام المكفرات ، وهذا كله مجتمع في البدو وأزيد ونجري عليهم أحكام الإسلام اتباعاً لتقليد من قبلنا بلا برهان .
فيا إخواني تأملوا وتذاكروا في هذا الأصل يدلكم على ما هو أكثر من ذلك . وأنا أكثرت عليكم الكلام ، لوثوقي بكم أنكم ما تشكون في شيء فيما تحاذرون .
ونصيحتي لكم ولنفسي ، والعمدة في هذا أن يصير دأبكم في الليل والنهار أن تجأروا إلى الله تعالى أن يعيذكم من شرور أنفسكم وسيئات أعمالكم ، وأن يهديكم إلى الصراط المستقيم الذي عليه رسله وأنبياؤه وعباده الصالحين ، وأن يعيذكم من مضلات الفتن ، فالحق وضح وابلولج ، وماذا بعد الحق إلا الضلال .(175/88)
فالله الله ترى الناس الذين في جهاتكم تبع لكم في الخير والشر ، فإن فعلتم ما ذكرت لكم ما قدر أحد من الناس يرميكم بشرّ ، وصرتم كالأعلام هداية للحيران ، فإن الله سبحانه وتعالى هو المسئول أن يهدينا واياكم سبل السلام .
والشيخ وعياله وعيالنا طيبين ولله الحمد ، ويسلمون عليكم . وسلموا لنا على من يعز عليكم والسلام .
وصلى الله على محمد وآله وصحبه . اللهم اغفر لكاتبها ولوالديه ولذريته ولمن نظر فيه فدعا له بالمغفرة وللمسلمين وللمسلمات أجمعين .
فأجابوه برسالة ينبغي أن تذكر ونصها :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين .
من كاتبه الفقير حمد التويجري وأحمد بن عثمان وأخيه محمد ، إلى من منّ الله علينا وعليه باتباع دينه واقتفاء هدى محمد نبيه وأمينه - صلى الله عليه وسلم - : الأخ سليمان بن عبدالوهاب ، زادنا واياه من التقوى والايمان ، وأعاذنا من نزغات الشيطان .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته . بعد إبلاغ الشيخ وعياله وعبدالله وأخوانه السلام .
وبعد فوصل إلينا نصيحتكم جعلكم الله من الأئمة الذين يهدون بأمره ، الداعين إليه وإلى دين نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فنحمد الله الذي فتح علينا وهدانا لدينه وعدلنا عن الشرك والضلال ، وأنقذنا من الباطل والبدع المضلة ، وبصّرنا بالإسلام الصرف الخالي من شوائب الشرك . فلقد منّ الله علينا وعليكم وله الفضل والمنة بما نوّر قلوبنا من اتباع كتابه وسنة نبيه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وعدلنا عن سبيل من ضل وأضل بلا برهان ، ونسأله أن يتوب علينا ويزيدنا من الايمان .
فلقد خصنا فيما مضى بالعدول عن الحق ودحضناه ، وارتكبنا الباطل ونصرناه جهلاً منا وتقليداً لمن قبلنا . فحق علينا أن نقوم مع الحق قيام صدق أكثر مما قمنا مع الباطل على جهلنا وضلالنا .(175/89)
فالمأمول والمبغى منا ومنكم ومن جميع إخواننا التبيين الكامل الواضح ، لئلا يغتر بأفعالنا الماضية من يقتدي بجهلنا ، وأن نتمسك بما اتضح وابلولج من نور الإسلام ، وما بين الشيخ محمد رحمه الله من شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلقد حاربنا الله ورسوله واتبعنا سبيل الغي والضلال ، ودعونا إلى سبيل الشيطان وتنكبنا كتاب الله وراء ظهورنا ، جهلا منا وعداوة وجاهدنا في الصد عن دين الله ورسوله . واتبعنا كل شيطان تقليداً وجهلاً بالله . فلا حول ولا قوة إلا بالله ، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين .
فالواجب منا لما رزقنا الله معرفة الحق أن نقوم معه أكثر وأكثر من قيامنا مع الباطل ، ونصرح بالتبيين للناس بأننا كنا على باطل فيما فات ، ونقوم له مثنى وفرادى ونتوكل على الله عسى أن يتوب علينا ويعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأن يهدينا سبل السلام ، وأن يجعلنا من الداعين إلى الهدى ، لا من الدعاة إلى النار .(175/90)
فنحمد الله الذي لا إله إلا هو حيث منّ علينا بهذا الشيخ في آخر هذا الزمان ودعا إلى الله وإلى توحيده في السر والاعلان ، وجعله الله بفضله وإذنه هادياً للتائه الحيران ، نسأل الله العظيم أن يمتع المسلمين به ويعيذه من شر كل حاسد وباغ ويبارك في أيامه وأن يجعل جنة الفردوس مأواه وإيانا ، وأن ينفعنا بما بينه من الأدلة الساطعة والبراهين القاطعة . فلقد بين دين نبيه - صلى الله عليه وسلم - على رغم أنف كل جاحد وصار علماً للحق حين طمس ، ومصباحاً للهدى حين درست أعلامه ونكس ، وأطفأ الله به الشرك بعد ظهوره حين عُبدت الأوثان صرفاً بلا رمس ، ولم يزل من الله عليه برضاه ينادى : أيها الناس ، هلموا إلى دين نبيكم الذي بعث به إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . ثم لم ينقم منه وعليه إلا أنه يقول : أيها الناس اعبدوا ربكم وأعطوه حقه الذي خلقكم لأجله ، وخلق لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه إن الله تعالى يقول : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقال : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقال تعالى : { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله احدا } وقال تعالى : { فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن } وفسر إسلام الوجه بالقصد في العبادة فإن دعا العبد غير الله أو قصد غير الله أو نذر لغير الله أو استغاث بغير الله أو توكل على غير الله أو التجأ إلى غير الله . فهذه عبادة لمن قصد بذلك وهذا والله الشرك الأكبر .
وإنا نشهد بذلك وقمنا مع أهله ثلاثين سنة وعادينا من أمر بتجريد التوحيد العداوة البينة التي ما بعدها عداوة .
فالواجب علينا اليوم نصر الله ودينه وكتابه ورسوله والتبري من الشرك وأهله وعداوتهم ، وجهادهم باليد واللسان . لعل الله أن يتوب علينا ويرحمنا ويستر مخازينا .(175/91)
وأكبر من هذا البدو ، الذين لا يدينون دين الحق لا يصلون ولا يزكون ولا يورثون ، ولا لهم نكاح صحيح ، ولا حكم عن الله ورسوله يدينون به صريح ولا يحللون ما أحل الله ولا يحرمون ما حرم الله ، نقول هم إخواننا في الإسلام ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم ومكابرة لما جاء به رسول رب العالمين .
ونقول أيضاً : لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل . فإن اختل من هذا شيء لم يكن الرجل مسلماً ، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما ، وإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق شر من الكافر . أعاذنا الله وإياكم من الخزي يوم تبلى السرائر .
فالواجب علينا وعلى من نصح نفسه أن يعمل العمل الذي يحصل به فكاك نفسه من النار ، وأن يعبد الله ولا يعبد غيره .
فالعبادة حق الله على العبيد ، ليس لأحد فيها شرك ، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل . فضلاً عن السفلة والشياطين .
وحق الله علينا أن نجأر اليه بالليل والنهار والسر والعلانية في الخلوات والفلوات عسى أن يتوب علينا ويعفو عما فات ، ويعيذنا من مضلات الفتن . فالحق بحمد الله وضح وابلولج . وماذا بعد الحق إلا الضلال ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين اهـ .
وأما قول المعترض : ( أن الشيخ كان يقول في رسائله : إن علماء نجد كعقداء البدو في أخذهم العقبات على أهل الغارات ) .
فيقال لهذا الغبي : إن كان الشيخ قال هذا أو نحوه ، فله وجه ظاهر ، يعرفه من عرف حال رؤسائهم في أكل الرشا ووضع الجعل على الفتاوى والأحكام .
وقد صنف الشيخ رحمه الله تعالى رسالة في إبطال هذا ، وأنه من السحت . وناظر على ذلك من ناظر ، وأقام الحجج والرسالة عندي لولا خشية التطويل لسقتها .(175/92)
وإذا كان الحال هكذا فما المانع من تشبيههم بعقداء البدو ؟ إذا أكلو السحت وارتشوا في الحكم والقضاء ، بل ربما كانت العقداء أخف منهم ضرراً لوجوه : منها أن العقداء يعترفون بالتحريم وهؤلاء يعتقدون الحل . ومنها أن عقداء البدو لا ينسبون ذلك ويضيفونه إلى دين الله . وهؤلاء يجعلونه من المباحات الشرعية التي دل الكتاب على إباحتها .
إذا عرفت هذا فهذه العبارات لا تصدر من مثل الشيخ ، ومن مارس كلامه عرف أن هذه القولة ليست منه ، فإن قوله ( علماء نجد ) يدخل تحته كل عالم ، والشيخ لا يقول هذا في جميعهم . لأن منهم من يتورع .
وأيضا فاطلاق اسم العلم عليهم لا يحسن في مقام الذم . والشيخ أفقه من أن يطلق هذا الاسم هنا .
وقول هذا الرجل : أن رجلاً عاقلاً وصى للشيخ بأن أهل نجد يأخذون على الخط ، وقد نص العلماء على الرخصة فقائل هذا سفيه لا عاقل .
كيف يأخذ ثلاثة حمران أو أربعة أو عشرة على خط ما يساوي فلساً ، ولا يجيز هذا إلا سفيه لا يدري أحكام الله ، وأسفه منه من يحتج بقوله ، ويسود به القرطاس ، فيا ضيعة الأعمار تمشي سبهللا . وليت هذا كان حظه السبهلل ، كيف وقد صار على نصيب وافر من معاداة دين الله وأوليائه والصد عن سبيله ، ومدح من عبد غيره وتعلق على سواه من الآلهة . نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا .
وقول المعترض فيما نقل عن هذا السفيه : أن البدو يأخذون أبيض الظهر ، والشيخ يأخذه كله ، أبيضه وأسوده بغير رضى ولا حق ، وعقداء البدو يأخذونه عن تراض لا ينكره منكر .(175/93)
فيقال لهذ المعترض وأمثاله من الجاهلين : أن أبيض الظهر وأسوده وأحمره وأصفره يؤخذ قهراً من الحربيين ، مذ أحل الله الغنائم لعبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والحكم باقي إلى يوم القيامة في جميع الغنائم والفيء والجزية والعشور المأخوذة من أعداء الله فإن كان ذلك عندك لا يباح منه الا أبيض الظهر برضى أهل الكسب ، فهو اللائق بعقلك وعلمك ودينك ، وكل إناء بالذي فيه ينضح . لو شعرت أن مقتضى هذا الكلام تفضيل عقداء البدو على أئمة الهدى لعرفت أنك من أضل من أقلته الغبراء وأظلته الخضراء ولكن لا تشعر بما تحت هذا الكلام .
وأما قوله : ( واستبحت بلدانهم وجعلتها بأجمعها لعيالك وأتباعك ) .
فيقال : لو فرض أن عياله صاروا من جند التوحيد ، ومن المجاهدين في سبيل الله ، ومن الدعاة إلى توحيده كما هو الواقع من حالهم وسيرتهم وجهادهم أعداء الله وأعداء رسوله بالحجة واللسان والسيف والسنان ، فما المانع من أكلهم أموال من صد عن سبيل الله وأشرك به ، وقاتل ليعبد غيره ، ويدعي سواه ، ويعظم ويرجى من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ؟ وأما أكل أموال المسلمين فيبرأ إلى الله من ذلك ومن فاعله . وقد تقدم أن الشيخ من أعظم الناس قياماً بحق الإسلام ورعاية له .
وجميع ما تقدم من الاعتراضات بناء على معتقد باطل ، وهو أن من تفوّه بالشهادتين لا يضره ذنب ، ولا يخل بإيمانه ولا ينقض إسلامه شرك ، ولا تجهّم ولا القول بالاتحاد والحلول . ولا غير ذلك من المكفرات ، حتى المباني لا تعتبر عند هؤلاء الضلال في الحقيقة كما هو نص قولهم . ومعرفة هذا القول وتصوره يكفي في بطلانه عند من عرف الإسلام .(175/94)
وأما وضع الفريضة والزكاة في موضعها ، وإعطاؤها أهلها ، فلا يعرفه ويعرف مستحقها وحكم الله فيها ، إلا من عرف دينه وما جاءت به رسله ، وأما من لم يعرف الإسلام والتوحيد ، ولا يعرف إلا الشرك والتنديد، ولم يتصور حق الله على العبيد فماله والكلام فيما لا يعنيه وما لا يعرفه ولا يدريه ؟ .
تمنيت أن تمسى فقيها مناظراً
*
بغير عناء ، والجنون فنون
وقد ظهر جهلك في قولك ( وتأخذ زكاة الثمار ولو أن ثمرة الانسان ما تكفي عشير ما عليه من الدين ) ولم تعلم أن جمهور العلماء قالوا بأخذها من المدين في الأموال الظاهرة كما هو إحدى الروايتين عن الامام أحمد وهو قول مالك والشافعي .
وروى عن الامام أحمد أنه قال : قد اختلف ابن عمر وابن عباس ، وقال ابن عمر : يخرج ما أنفق واستدان على ثمرته وأهله ، ويزكي ما بقي ، وقال ابن عباس : يخرج ما استدان على ثمرته ويزكي ما بقي ، وإليه أذهب ، لأن المصدق إذا جاء فوجد إبلاً أو غنماً لم يسأل : أي شيء على صاحبها من الدين ؟ .
وظاهر هذا : أن هذه رواية ثالثة تخص ما أنفق على الزرع والثمرة . وسبب اختلافهم : هل الزكاة عبادة أو حق مرتب في المال للمساكين . فمن رأى أنها حق لهم قال : لا زكاة على الذي عليه الدين ، لأن حق صاحب الدين مقدم على حق المساكين بالزمان ، وهو في الحقيقة مال صاحب الدين . ومن قال : أنها عبادة ، قال تجب على من بيده مال ، لأن ذلك هو شرط التكليف وعلامته المقتضية للوجوب على المكلف ، سواء كان عليه دين أم لم يكن . وأيضاً فقد تعارض حق الله وحق آدمي ، فحق الله أحق أن يقضى .
وأما الفرق بين الثمار وغيرها فحجته ترك عماله - صلى الله عليه وسلم - وعمال خلفائه البحث والاستفصال ، وعدم النص المقتضي لذلك .
وسلك أبو عبيد القاسم بن سلام مسلكاً آخر فقال : إن كان لا يعلم دينه إلا بقوله لم يصدق ، وإن علمه من غيره لم تؤخذ منه . كذا قال .(175/95)
إذا عرفت هذا فمخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما تصدق وتتحقق فيمن خالفه في الحكم على من عبد الأولياء والصالحين بأنه مسلم ، وأن ماله ودمه معصوم ، مع الشرك بالله وعبادة الأوثان ، ومسبة ورثة دينه وأهل الدعوة إلى سبيله ، ونسبتهم وتسميتهم خوارج ضلال ، وأن من عبد القباب ، وأشرك برب الأرباب ، هم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم . وخالفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما سودت به الأوراق من المسبه والشقاق . والله لم يتعبدنا بالسب ، ولم يجعله شرعاً وديناً ينسب إليه وإلى رسله ، وإنما هو حرفة الجاهلين المفلسين من العلم والإيمان ، كالنساء والصبيان . وأما أنت فهو حاصل ردك ، وغاية قدح زندك .
وأما قوله : ( والمنكر لذلك يكون كافراً فاجراً ) .
هذه الجملة كأخواتها السابقة واللاحقة من الكذب وشهادة الزور .
وأما قوله : ( أن الشيخ يستدل بفعل الصديق ) . فنعم ونعم الإمام هو .
وأما قوله : ( وهيهات هيهات ما بُعد ما بينهما ، وأنه لكما قال عمر ابن أبي ربيعة :
أيها المنكح الثريا سهيلاً – الخ .
فجوابه أن يقال : قرب المشابهة وبُعدها يعرفها أولوا العلم الذين زكاهم وعدّلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( يحمل هذا العلم من كل خلف عُدوله ) وقد قام الدليل والبرهان على جهلك بأصل الدين والايمان ، وأنك لا تفرق بين الكفر والإسلام ، والشرك والتوحيد ، والعدل والجور ، فمن يقبل حكمك القاسط ، ومن يلتفت إلى قولك الساقط ؟ .
ما أنت بالحكم الترضى حكومته
*
ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
وقد شهد أهل العلم والدين لهذا الشيخ بأنه من المتبعين لآثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآثار أئمة الدين في أصل دعوته وأحكامه في الأموال وغيرها .(175/96)
وأما قوله : فطالع كلام العلماء في الاقناع وغيره من كتب الأصحاب ، فمن طالعها وعرف سيرة الشيخ وصنيعه في جبايتها وإخراجها علم أنه من أحق الناس أن ينسب إليه العدل وموافقة أهل العلم ، وأنه أولى الناس بهم ، وأقربهم إلى دين الله ورسوله ، ولكن لا حيلة في المتكبر عن قبول الحق والاعتراف به ، ولولا حجاب الكبر ودائه القاتل لما اختلف على الرسل اثنان ، ولما عبدت الأصنام والأوثان ، والله المستعان .
فصل
قال المعترض : ( ثم قال في الجواب المذكور : ونكفره بعد التعريف إذا عرفناه وأنكر . فنقول ( أولاً ) هذا الذي عرفه به من تأويلاته يطالب أولاً بصحتها ، وهل وافقه عليه علماء الأمة الذين لا يصلح هو أن يكون من نظرائهم كما مر ، فإن أنكروا عليه ولم يوافقوه كما هو الواقع فلا كلام ، إذ لا قبول لقول على هذه الحالة بنص علماء الأمة رضي الله عنهم . وقد قال تعالى فيمن لم يتبع سبيل المؤمنين ما قال . فإن وافقوه على ذلك وقد علم عدم موافقتهم له ، فعلى تقدير موافقتهم له لو فرضنا ذلك فلا يقوم بتعريفه حجة حتى يتبين للجاهل ويعلم أن ما يقوله حق كما نص على ذلك العلماء ، إذ هو بهذه العبارة جعل تعريفه له حجة بمجردها بمنزلة تعريف الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي قامت به الحجة بالآيات الباهرات التي تعجز قوى البشر عنها : من انشقاق القمر وتسليم الحجر وانقياد الشجر ، ونزول العذق ، وكلام الظبي والضب ، وتظليل الغمام ، ونبوع الماء بين أصابعه ريا ، وتسبيح الطعام وحنين الجذع ، وسجود الجمل ، والإسراء وتكثير الطعام ، وأعظم من ذلك القرآن المجيد ، وما لا يحصى من المعجزات بالاستقصاء والتعديد ، وأما هذا فليس تعريفه بحجة حتى يعلم المعرف أن ما عرف به هو الحق ثم يعاند ) اهـ .(175/97)
والجواب أن يقال : عن هذا الكلام من الظلمة والوحشة ، واضطراب التركيب ما يقضي بسقوطه وجهل قائله ، وعدم معرفته لمواقع الخطاب . وقول شيخنا رحمه الله في جوابه للشريف : ( ونكفره بعد التعريف إذا عرفناه وأنكر ) قول صحيح ، فإن العلماء رحمهم الله تعالى ذكروا أن المرتد يستتاب ويعرف ، فإن أصر وأنكر يكفر بذلك ، ولو كان المستتيب له من آحاد أمراء المسلمين أو عامتهم ، فكيف بقضاتهم وعلمائهم ؟ .
وأما قول المعترض : ( فنقول : أولاً. هذا الذي عرفه به من تأويلاته يطالب أولاً بصحتها ) .
فيقال لهذا الملحد : إن الذي يشير إليه الشيخ ويعرف به هو نصوص القرآن والسنة ، وإجماع علماء الأمة ، وما ذكره الفقهاء في كتبهم في تكفير من أشرك بالله، وجعل له نداً يعبده ويدعوه ويستجير بحماه . وأدلة هذا في كتاب الله وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من أن تحصر . قال تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } وقال : { يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل } وقال تعالى : { فإن تابوا واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون } وقال : { قل تعالوا أتلُ ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً } وقال : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } وقال : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } وقال : { ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً } وقال : { يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } والآية بعدها . وقال تعالى : { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } وقال : { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به } وقال : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضُر عنكم ولا تحويلا } وقال : { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً } .(175/98)
وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده ) وفي حديث عمرو بن عبسة لما قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول المبعث قال : فقلت له بأي شيء أرسلك ؟ قال : ( بأن يوحد الله ولا يشرك به شيء ، وتكسر الأوثان وتصل الرحم ) وقوله : ( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) .
ومعلوم أن المراد هنا قولها على وجه يحصل به إفراد الله بالعبادة وترك ما يعبد معه ، والبراءة منه . وأما مجرد اللفظ مع المخالفة للحقيقة فليس مراداً بإجماع أهل العلم . ولذلك جاء في حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن : ( فليكن أول ما تدعوهم إليه : شهادة أن لا إله إلا الله ) وفي رواية : ( إلى أن يوحدوا الله ، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات ) .
والمقصود منه : أنه جعل الغاية توحيد الله بالعبادة والاستجابة لذلك والتزامه هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله ، وأما مجرد القول والتلفظ فليس هو عين المراد .
وأما العلماء فقد وافقوا على ذلك وقرروه وذكروا الاجماع عليه ، وأن الايمان لابد فيه من اعتقاد الجنان وإقرار اللسان وعمل الأركان . وجهلوا من اقتصر في تعريف مسماه على أحد هذه الثلاثة .
وأما كون الشيخ لا يصلح أن يكون من نظرائهم ، فالذي يصلح أن يكون من نظرائهم عند هذا الملحد هو ابن سلوم وابن فيروز وأمثالهما ممن صرح بعداوة الدين ومسبة شيخ المسلمين ، وكل أحد يميل إلى جنسه ويصبوا إلى ما يشاكله ، والأرواح جنود مجندة ، فلأرواح أهل الايمان واليقين من الألفة والمشاكلة ما يوجب المودة والألفة ولو تباعدت الديار وتناءت الأشباح ، بخلاف أهل الشرك والفجور . فإن بينهم وبين الأرواح الطيبة من الوحشة والنفور والبغضاء ما يزداد بقرب الديار ورؤية الأبصار . وبين أرواح بعضهم من بعض من ذلك ما هو مشاهد محسوس .
وقوله : فإن أنكروا عليه ولم يوافقوه كما هو الواقع فلا كلام .(175/99)
يقال في جوابه : وافقه على وجوب توحيد الله والبراءة مما عبد معه جميع الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة ، ووافقوه على تكفير من أبى ذلك ورده إذا قامت عليه الحجة ، ودليلنا قوله تعالى : { ولقد بعثنا في كُل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقوله : { وما أرسلنا قبلك من رسول إلا نُوحي إليه أنهُ لا إله إلا أنا فاعُبُدُونِ } وقال تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رُسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يُعبدون } وأما أعداء شيخنا المحادون لله ورسوله من ضلال المنتسبين إلى الملة فليسوا من أهل العلم بل ولا من أهل الايمان ، فلا يغتر بقولهم ولا يلتفت اليهم لأنهم الأئمة في عبادة القبور وجعلها أوثاناً تعبد ، كما لا يلتفت إلى خلان القدرية والمجبرة والجهمية الذين جحدوا صفات الله ، وأنكروا علوه واستواءه على عرشه وأنه يتكلم بحرف وصوت ، وجعلوا نفيهم وتعطيلهم أصولاً دينية يجب على الناس اعتقادها . فهؤلاء وأمثالهم لا يعتبر إنكارهم ، ولا يستشهد بوفاقهم .
وأما قوله : وقد قال تعالى فيمن لم يتبع سبيل المؤمنين ما قال .
فكأن الرجل لا يعرف التلاوة ولا يحفظ الآية ، ونقول قال تعالى : { ومن يُشاقق الرسول من بعد ما تبين لهُ الهُدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولّى ونُصله جهنم وساءت مصيراً } وسبيل المؤمنين هو الصراط المستقيم ، وهو ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الإسلام والتوحيد فسره بهذا أهل العلم .(175/100)
وأنت عكست الأمر وجعلت من شاق الله ورسوله بمدح الشرك وأهله والدعوة إليه ، وخرج عن سبيل المؤمنين ، واتبع غيره هم العلماء الأمجاد النقاد الذين يعتد بوفاقهم وخلافهم . وهذا عين المشاقّة والمحادة لله ورسوله . وقد ولاك ما توليت ، وأتاح لك ما اخترت وتمنيت ، وصار أعداء دين الله هم أولياؤك وأشياخك وحزبك وأشياعك الذين تدين بأقوالهم ، وترجع إلى آرائهم ، وتحتج بها في موارد النزاع ، فتحقق هذا الوصف فيك ، وأما إصلاء جهنم فأمره إلى الله الذي بيده الملك وإليه يرجع الأمر كله فيقضي بين عباده بعلمه ، وهو أسرع الحاسبين .
وأما قوله : فعلى تقدير موافقتهم لا يقوم بتعريفه حجة حتى يتبين للجاهل ويعلم أن ما يقوله حق .
أقول في جوابه : هذا الرجل من المحن على الدين ، ومن أكابر المحرفين للكلم عن مواضعه ، أي عالم وأي فقيه اشترط في قيام الحجة والبيان معرفة علم المخاطب بالحق ؟ ، قال تعالى : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً } وقال تعالى : { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً } وقال تعالى : { قُل هل نُنبئُكم بالأخسرين أعمالاً . الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً } وقال تعالى : { قُل هو للذين آمنوا هُدى وشفاء والذين لا يُؤمنون في آذانهم وقرٌ وهو عليهم عمىً } وأمثال هذه الآيات التي تدل على عمايتهم وعدم معرفتهم للحق كثير ، ولم يقل هذا أحد قبل هذا الغبي ، وإنما يشترط فهم المراد للمتكلم والمقصود من الخطاب ، لا أنه حق . فذاك طور ثان . هذ هو المستفاد من نص الكتاب والسنة . وكلام أهل العلم لا ما قاله هذا المخلط الملبس .(175/101)
وفي كتاب السنة لعبدالله بن الامام أحمد : حدثني أبو سعيد ابن يعقوب الطالقاني أنبأنا المؤمل بن اسماعيل سمعت عمارة بن زازان قال : بلغني أن القدرية يحشرون يوم القيامة مع المشركين ، فيقولون : والله ما كنا مشركين ، فيقال لهم : إنكم أشركتم من حيث لا تعلمون . قال وبلغني أنه يقال لهم يوم القيامة : أنتم خصماء الله . انتهى . فهولاء ما عرفوا الحق ولا عقلوه .
وأما قوله : إذ هو قد جعل تعريفه حجة بمجردها بمنزلة تعريف الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي قامت به الحجة بالآيات الباهرات . إلى آخر عبارته .
فيقال لهذا المخلط : تعريف أهل العلم للجهال بمباني الإسلام ، وأصول الإيمان والنصوص القطعية والمسائل الإجماعية حجة عند أهل العلم ، تقوم بها الحجة ، وتترتب عليها الأحكام ، أحكام الردة وغيرها . والرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتبليغ عنه ، وحث على ذلك ، وقال الله في الاحتجاج والنذارة في كتابه : { لانُذركم بهِ ومن بلغ } ومن الذي يبلغ وينقل نصوص الكتاب والسنة غير أهل العلم وورثة الرسل ؟ فإن كانت الحجة لا تقوم بهم وببيانهم أن هذا من عند الله ، وهذا كلام رسوله . فلا حجة بالوحيين ، إذ النقل والتعريف يتوقف على أهل العلم ، كما أن بيان المعاني المقصودة والتأويلات المرادة يتوقف على أهل العلم ، وتقوم الحجة بهم ، وهم نواب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الإبلاغ عنه وقيام الحجة بهم كما قال علي بن أبي طالب في حديث كميل بن زياد : بلى ، لن تخلو الأرض من قائم لله بحججه ، كي لا تبطل حجج الله وبيناته . إلى آخر كلامه ، وفي الحديث : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله ) وبالجملة فالحجة في كل زمان إنما تقوم بأهل العلم ورثة الأنبياء .(175/102)
وما ذكر هذا المعترض من الآيات التي تعجز قوى البشر عنها هي آيات ومعجزات دالة على رسالته ونبوته - صلى الله عليه وسلم - . وليست دالة على أنه لا يقبل من علماء أمته بيان ودعوة إلى الله إلا إذا حصل لهم مثل ما حصل له ، كما يشير إليه كلام هذا الضال . وهي أيضاً براهين لأتباعه وعلماء أمته لأنهم يبلغون عنه .
وفي عبارة المعترض : أن الجمل سجد له . وهذا مما لا أصل له ، بل جاء الجمل يشتكي كثرة العمل ، وحن إليه . وأما السجود فلا سجود . لأن حديث سجود الجمل رواه الدارمي من حديث اسماعيل بن عبدالملك ابن أبي الصغير الأسدي المكي . قال يحيى القطان ليس بالقوى . وكذلك قال النسائي ، وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم : ليس بقوي في الحديث ، وليس حده الترك . قلت يكون مثل أشعث بن سواد في الضعف ؟ قال نعم . وقال عمرو بن علي الفلاس : كان يحيى وعبدالرحمن لا يحدثان عنه ، وقال في موضع آخر : رأيت عبدالرحمن بن مهدي ، وذكر اسماعيل بن عبدالمللك وكان قد حمل عن سفيان عنه ، وكان عبدالرحمن يحدث عنه ، ثم أمسك عنه . فما حدث عنه . وقال البخاري : يكتب حديثه . وقال ابن حيان : يقلب ما يروي . انتهى .
وقوله : ونبوع الماء بين أصابعه ريا . عبارة نبطية ، فيها من اللحن موضعان تعرف بهما أنه أجنبي عن سائر العلوم ، الأولى : في قوله ( نبوع ) فإن المصدر ( نبع ) من باب ضرب يضرب ضرباً ، ولا يجوز ضرب يضرب ضروبا ، وجواز هذا الوزن في جمع فعل قليل جداً . والذي ذكره المعترض يريد به المصدر لا الجمع بخلاف فعل ساكن العين ، فإنه يجمع على فعول ككرم وكروم ، وصقر وصقور .
واللحنة الأخرى قوله ( ريّا ) فالحال لا تصلح هنا . إذ صاحبها لا يصلح أن يكون المصدر ولا الجمع على نُدرته ، فالكلام نبطي ساقط .
وأما قوله : أما هذا فليس تعريفه بحجة حتى يعلم المعرف أن ما عرف به هو الحق ثم يعاند . فقد تقدم ما فيه ، وهذا محض تكرير وإسهاب مفلس ، لا يدري ما يقول .(175/103)
فدع عنك الكتابة لست منها
*
ولو سودت وجهك بالمداد
... ...
فصل
قال المعترض : ثم قال في جوابه المذكور ، فنقول : أعداؤنا معنا على أنواع .
النوع الأول : من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي أظهرناه للناس، وأقر أيضاً أن هذه الاعتقادات في الحجر والشجر الذي هو دين غالب الناس أنه الشرك بالله الذي بعث الله ورسوله ينهى عنه ، ويقاتل أهله ليكون الدين كله لله . ومع ذلك لم يلتفت إلى التوحيد ولا تعلمه ولا دخل فيه . فهذا كافر نقاتله بكفره ، لأنه عرف التوحيد فلم يتبعه ، مع أنه لا يبغض دين الرسول ولا من دخل فيه ، ولا يمدح الشرك ولا يزينه للناس .
ثم قال المعترض : فنقول : يا غوثاه إلى الله تعالى ، كيف يقول : إنه عرف التوحيد والشرك ومع ذلك انه لا يبغض دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا من دخل فيه ، ولا يمدح الشرك ولا يزينه للناس ، ثم يقول : ولا تعلمه ولا دخل فيه ، ما هذا التناقض الباهر ، الذي يعرفه البليد دون الماهر ؟ .
والجواب أن يقال : آفتك الفهم السقيم ، والمعتقد الذميم ، الخارج عن الصراط المستقيم ، قال تعالى : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون } لو عرفت حدود ما أنزل الله على رسوله ، وعرفت الإيمان بحده الشرعي ، والتوحيد بحده ، لظهر لك أن المعرفة لا تقتضي الايمان والتوحيد ، وأكثر أعداء الرسل عرفوا الحق والصدق ، ولكنهم لم يلتفتوا إليه ولم يعبأوا به ولا تعلموه ، كحال هذا الذي ذكره الشيخ ، قال تعالى : { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } وقال تعالى : { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } وقال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } .(175/104)
قال شيخ الإسلام في كتاب الايمان في بيان غلط المرجئة : الثاني : ظنهم أن كل من حكم الشارع بأنه كافر مخلد في النار ، فإنما ذلك لأنه لم يكن في قلبه شيء من العلم والتصديق ، وهذا أمر خالفوا به الحس والعقل والشرع وما أجمع عليه طوائف بني آدم السليمي الفطرة وجماهير النظار . فإن الانسان قد يعرف أن الحق مع غيره ، ومع هذا يجحد ذلك لحسده إياه أو لطلب علوه عليه أو لهوى النفوس، ويحمله ذلك الهوى على أن يتعدى عليه ويرد ما يقول بكل طريق ، وهو في قلبه يعلم أن الحق معه ، وعامة من كذب الرسل علموا أن الحق معهم ، وأنهم صادقون لكن إما لحسدهم وإما لإرادتهم العلو والرياسة وإما لحبهم دينهم الذي كانوا عليه وما يحصل لهم به من الأغراض ، كالأموال والرياسة وصداقة أقوام وغير ذلك فيرون في اتباع الرسل ترك الأهواء المحبوبة اليهم ، وحصول أمور مكروهة إليهم فيكذبونهم ويعادونهم ، فيكونون من أكفر الناس ، كإبليس وفرعون مع علمهم بأنهم على الباطل ، والرسل على الحق ، ولهذا لا يذكر الكفار حجة صحيحة تقدح في صدق الرسل وإنما يعتمدون على مخالفة أهوائهم ، كقولهم لنوح : { أنؤمن لك واتبعك الأرذلون } ومعلوم أن اتباع الأرذلين لا يقدح في صدقه . انتهى المقصود .
وفي قصة أبي طالب وأمره لابنه على بن أبي طالب رضي الله عنه بأن يلزم ما دعاهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، مع محبته للرسول - صلى الله عليه وسلم - وعدم بغض دينه ومن دخل فيه ونصرته ومدحه ، ومع ذلك لم يرغب عن ملة عبدالمطلب ، وحكم الله بكفره ونهى رسوله عن الاستغفار له ، وهذا في أول السيرة يفهمه صغار الطلبة ، وقد خفى على ضخم العمامة واسع الأردان . قال أبو طالب في منظومته المشهورة :
لقد علموا أن ابننا لا مكذب
*
لدينا، ولا يعني بقول الأباطل
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه
*
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
... ...
... وقال :
ودعوتني وعلمت أنك ناصحي
*(175/105)
فلقد صدقت وكنت قبل أميناً
وعرضت ديناً قد عرفت بأنه
*
من خير أديان البرية ديناً
ولقد علمت بأن دين محمد
*
من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبة
*
لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
ومع ذلك كله لا تعلم الدين ولا دخل فيه ، فهو من النوع الذي مثل به الشيخ .
وأصل الإشكال على هذا المعترض الجاهل : أنه لم يفرق بين المعرفة وبين التعلم والدخول في الدين ، فلذلك استغرب وصاح وناح ، وبجهله أعلن وباح ، وزعم أن العبارة فيها تناقض باهر ظاهر ، يعرفه البليد دون الماهر ، وأهل العلم عرفوا التوحيد والإيمان بأنه قبول ما جاء به الرسول من الهدى ودين الحق باطناً وظاهراً ، وإيثاره على غيره . وهذا يدخل فيه علم اللب وعمله ، وقول اللسان وعمل الأركان ، فأين هذا من مجرد المعرفة وعدم البغض ؟ وقد قيل فيمن لم يأخذ بالحق ويلتزمه مع معرفته له :
فإن كنت لا تدري ، فتلك مصيبة
*
وإن كنت تدري، فالمصيبة أعظم
... وقد تقدم عن هذا أنه قال فيمن قال ( لا إله إلا الله ) إنه من أهل التوحيد والإيمان ومن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يضره عنده عبادة الصالحين والأوثان . ولا يحول بينه وبين ذلك . وهنا زعم أن المعرفة هي الإيمان والدخول فيه . هذا هو التناقض والتدافع والاضطراب الذي لا يرتضيه أولو الأحلام والألباب .
وفي قول هذا من المؤاخذة اللفظية : أن ( البليد ) لا يختص بمعرفة دون الماهر . فكيف يقول : يعرف البليد دون الماهر ؟ وأظنه يريد : فكيف الماهر ، ولكنه ارتبك على عادته في العجمة ، ولسنا بصدد هذا ! وإنما المقصود بيان كذب هذا في دعوى التناقض ، وأن هذا وصفه . وقد شنع سلف الأمة وأئمتها على من قال : إن الإيمان هو التصديق وبدّعوه وضللوه وذكروا لقوله من اللوازم المكفرة مالا يتسع له هذا الجواب .
فسبحان من صد عن معرفة الهدى والرشاد كل من صدف عن دينه وتوحيده ، وسعى في الأرض بالفساد .(175/106)
تنبيه : حرف المعترض كلام الشيخ ، فحذف منه ما يبين مراد الشيخ .
وأول كلامه رحمه الله : سألني الشريف عما نقاتل عليه وعما نكفر الرجل به ؟ فأخبرته بالصدق ، وبينت له أيضاً الكذب الذي بهتنا به الأعداء ، فسألني أن أكتب له فأقول :
أركان الإسلام الخمسة أولها الشهادتان . ثم الأركان الأربعة . فالأربعة إذا أقر بها وتركها تهاوناً فنحن وإن قاتلناه على فعلها فلا نكفره بتركها . والعلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود . ولا نقاتل إلا على ما أجمع عليه العلماء كلهم وهو الشهادتان . انتهى .
فصل
قال المعترض : ثم كيف يكفر هذا ويقتل ويؤخذ ماله وييتم أولاده بهذا الهذيان البارد ؟ ويجعل هذا الصنيع المارج دين الله ورسوله المرتب للمجاهدين فيه جنة المأوى والرضوان من الرحمن ، وأنه الذي أرسل به رسوله وأنزل به كتابه ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم ، وافتراء على الله في عباده وبلاده ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
ثم قال : والاعتقاد في الشجر والحجر ليس هو دين غالب الناس .
وزعم أن هذا افتراء واجتراء وأن الغالب قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أمته التي هي خير أمة أخرجت للناس : ( لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة ) وحديث : ( لن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ) .(175/107)
ثم قال : وأهل البدع طريقهم الجهل والافتراء . فإن وجد في الأمة من يريد التبرك بشجر أو حجر فلا أوسع من طريقة خاتم الرسل - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم يوم حُنين . وكذا طريقة كليم الرحمن موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام مع أصحابه . فيقال لمن أراد ذلك ما قالوا ، ويقف حيث وقف رسل الله تعالى ، وهذا الرجل يطلب طريقاً غير طريقهم ، ولازم قوله هذا تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، حيث لم يجعل دينه قائماً مستقيماً ظاهراً ، وأنه الذي أظهره للناس ، فأي ذلك يصدق : هذا الرجل ، أم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟ والعيان بالبيان ما أغوى صاحب الهوى . انتهى.
والجواب أن يقال : هذا القول الذي قاله شيخنا وقرره في تكفير من عرف أن التوحيد دين الله ، وأن الاعتقاد في الشجر والحجر هو الشرك الذي قاتل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ومع هذه المعرفة أعرض عنه ولم يقبله تعلماً وعملاً : هو الذي دل عليه الكتاب العزيز والسنة النبوية . قال تعالى : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } ولم يقل فإن لم يعرفوا . بل رتب ذلك على نفس الإعراض ، وقال تعالى : { قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدُو فإما يأتينكم مني هُدى فمن اتبع هُداي فلا يضل ولا يشقى . ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً } وقال تعالى : { فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا } وقال تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلموا تسليماً } وقال تعالى : { ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة } وقال تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حُنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } .(175/108)
فدلت هذه الآية على أن المعرض عما جاء به الرسول من الهدى ودين الحق يكفر إن عرف ولم ينكر ، وأن الإيمان بالله ورسوله لا بد فيه من الانقياد والاعتقاد والعمل باطناً وظاهراً ، وذكر السلف في ردهم على المرجئة والجهمية أن الإيمان قول وعمل ونية ، ودلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في غير ما حديث ، كحديث : ( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) وحديث : ( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله ) وحديث عمرو بن عبسة وقد تقدم قريباً ، وغير ذلك مما لو أفرد لاحتمل مجلدات .
فمن قال فيمن ذهب إلى مدلول هذا وقرر : أنه هذيان بارد فهو كفور جاحد ، ومكابر معاند ، ولئيم حاسد ، والجهاد لم يشرع إلا لالزام المكلفين بما جاء من توحيد الله والتزام دين المرسلين لا لمجرد المعرفة فقط ، وقد جاهد - صلى الله عليه وسلم - هذا الضرب من الناس ، واستباح دماءهم وأموالهم ، واليهود يعرفون الرسول كما يعرفون أبناءهم ، وقد قال تعالى في شأنهم : { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } فمن جعل مجرد المعرفة هي الإيمان والقتال لأهلها الذين لم يلتزموا ما جاءت به الرسل ، بل أعرضوا عنه قتال مفتر ظالم وصنيع مارج فهو من أعظم الخلق صداً عن سبيل الله ، وهدماً لقواعد دينه ، وكذباً على شريعته وتلبيساً على عباده ، ورداً لما جاءت به رسله ؟ وجهلاً بالإيمان وحقائقه .
ولازم قوله هذا : الطعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتاله من عرف أنه على الحق ، وأنه رسول الله ، وكذلك فيه طعن على من قاتل على الشهادتين أو على ركن من أركان الإسلام ، كقتال الصديق على الزكاة ، وجهاد من منعها ، وفيه طعن على جميع أهل العلم الذين أباحوا القتال على الامتناع عن فعل بعض شرائع الإسلام الظاهرة .(175/109)
وكذلك من نفى وردَّ ما قاله الشيخ وقرره من أن الاعتقاد في الحجر والشجر هو دين غالب الناس في هذه الأوقات . فمن أنكر هذا وجادل فيه فهو مكابر معاند ، لأن هذا قد اشتهر ، وعرفه جمهور البشر . فليس في أرض فارس وما وراء النهر إلا عبادة الأئمة وأهل البيت وغيرهم ، والاعتقاد فيهم النفع والضر والعطاء والمنع والنصر والقهر . وغير ذلك من أفعال الربوبية . وكذلك العراق باديته وحاضرته ، إلا أفراداً قليلا . والأكثر لهم فيمن يعتقدونه من الأولياء وغيرهم كعبد القادر والكاظم وغيرهما ما لا يجهله أبلد الناس وأشدهم تغفيلاً . وهكذا كل بلد وكل مصر وكل بادية ، لهم من الولائج والمعبودات والاعتقادات في القبور والأشجار التي يرجون منها البركة ما لا يخفى على أحد .
فمن جحد هذا كله وزعم أن الأكثر هم خير أمة أُخرجت للناس وأن دين الإسلام لا يزال قائما بهم ، وأن أمر أكثر الناس لا يزال مستقيماً حتى تقوم الساعة ، فهو من أكذب الناس وأظلهم ، وأجهلهم بالنصوص ومعانيها .(175/110)
وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ) . قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : ( النزاع من القبائل ) وقد تقدم ذلك . وتقدم حديث : ( لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه ) وفي الحديث : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقُذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) وعن ابن مسعود : ( يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من النقد ) وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دَوس حول ذي الخلصة ) وفي الحديث ثوبان : ( ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ، وحتى يعبد فئام من أمتي الأوثان ) وهذا لا يخالف قوله في حديث معاوية : ( لا تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة ) لأن المراد بالأمة أهل الاستقامة والمتابعة والإجابة لا جميع أمة الدعوة ، فإن ( الأمة ) تطلق ويدخل فيها من بلغته الدعوة كما في حديث : ( ما من رجل من هذه الأمة يهودي أو نصراني يسمع بي ثم لا يؤمن إلا كان من أهل النار ) وغربة الدين قررها أهل العلم وأفردوها بالتأليف وهي أكثر وأشهر من حديث معاوية وحديث جابر رضي الله عنهما .
وما زعم المعترض من أن حديث معاوية متواتر ، قول لا أصل له ، لأن المتواتر ما رواه عدد كثير يستحيل تواطؤهم على الكذب .
وأما قوله : وأهل البدع طريقتهم الجهل والافتراء . فنعم والله ، وهو الذي سودت به أوراقك واعتراضاتك من أولها إلى آخرها . ولأهل العلم من النقد والتمييز ما يكفي عن بيان جهلك والإطناب في ذلك .
وأما قوله : فان وجد في الأمة من يريد التبرك بشجر أو حجر فلا أوسع من طريقة خاتم الرسل . إلى آخر عبارته .(175/111)
فشيخنا رحمه الله ما خرج عن طريقتهم ، ولا فارق منهاجهم ، وقد قام أحسن قيام على من أراد ذلك ونصح وبلّغ ، وقرر واستدل . فمن قبل وأطاع الله ورسوله سار فيه بسيرة المؤمن مع أخيه ، وأكرمه وأحبه لله وفيه . كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي واقد الليثي وأصحابه . وكما فعل موسى بن عمران عليه السلام مع بني إسرائيل .
والنزاع فيمن رد على الأنبياء ، ولم يقبل منهم وتبرك بالشجر والحجر وعاند وقاتل على هذا . وهذا المعترض خلط المسألتين ، وجعل من عبد الأشجار وعاند وأصر بمنزلة من استفتى ثم تاب واستغفر . وزعم أن طريقة رسول الله ترك المصر المعاند ، وعدم تكفيره ، كما هي سيرتهم في المنيب التائب . فكذب على رسول الله ، ولبس على خلق الله ، واستباح لحوم العلماء وبهرج على الجهال . وقد صار إلى الله وقدم عليه ، وهو أحكم الحاكمين وإله العالمين .
وكل مسلم وعاقل يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتل من تأله بالأشجار والأحجار ، واستكبر عن توحيد الملك الغفار . قال تعالى : { أفرأيتم اللاَّت والعُزى . ومناة الثالثة الأُخرى . ألكم الذَّكرُ ولهُ الأُنثى } فهل هذه المذكورات في الآية الكريمة إلا أحجار وأشجار ؟ وهل قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عظمها وتأله بها وتبرك ؟ وهل استباح دماءهم وأموالهم ونساءهم ؟ أو كيف الحال يا معشر الضلال ؟ وهل قال موسى لبني إسرائيل لما : { قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قومٌ تجهلون . إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون . قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين } .(175/112)
فصح أن هذا المعترض الملحد إنما صاح وأنكر ما ثبت من طريقة رسل الله وأوليائه فيمن عبد الشجر والحجر ، وأن طريقة رسل الله ضاقت بهذا الرجل ، وخرج عن رق العبودية إلى أودية الجهالة والضلالة يزعم أنها أوسع ، وينسبها إلى الرسل فبعداً للقوم الظالمين وبؤساً للملحدين والمحرفين .
والشيخ رحمه الله وقف حيث وقف الرسل ، وأنكر ما أنكروا ، وقاتل على ما عليه قاتلوا . وأنت وأمثالك من الضالين وقفتم في طريقهم . فمن أنكر ما أنكروه وقاتل ما قاتلوه ، تصديتم للرد عليه والذب عنهم ودفعتم في صدر نصوص الكتاب والسنة بشبهات ساقطة وأقوال ضالة لا تروج على من عرف الإسلام وحقيقته . فأنتم جند محضرون لمن عبد الشجر والحجر .
وأما قوله : ولازم قوله هذا تكذيب الرسول ، حيث لم يجعل دينه قائماً مستقيماً ظاهراً ، وأنه الذي أظهره للناس .
فيقال لهذا المعترض : إن كان إظهار العلماء والأئمة لدين الإسلام وبيانه للناس ، وذكر حدوده يلزم منه تكذيب الرسول ، فأي عالم وأي صحابي وأي خليفة هدى لم يقع منه بيان وإظهار وكشف لحقيقة الإسلام وحدود الإيمان ؟ بل آحاد المؤمنين لابد أن يقع منه هذا ولو لأهل بيته وأولاده . ومعلموا الصبيان أظهروا لهم من كتاب الله وعلموهم ما لم يكونوا يعلمونه . فإن كان الدين لا يحتاج لإظهار وتبيين ، أو كان الإظهار يستلزم تكذيب الرسول ، فليس على وجه الأرض مؤمن إلا من سكت عن ذكر دين الإسلام وتعليمه للناس والدعوة إليه ، ولم يسلك سبيل الرسول وسبيل من اتبعه في الدعوة إلى الله على بصيرة ، ومن دعا وأظهر للناس شيئاً من الدين فلازم قوله تكذيب الرسول ! .(175/113)
فلا إله إلا الله !! ما أشد ما تلاعب الشيطان بهذا المغرور وأمثاله حتى جعلوا متابعة الرسول وسلوك سبيله تكذيباً له أو لازمه التكذيب ؟ . وهذا الضرب من الناس هم من شر الدواب المذكورين في قوله تعالى : { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون . ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } .
وأول الناس بيّن حقيقة الإسلام وما يدخل فيه بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فإن عمر قال له : أتقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ) ؟ فقال الصديق رضي الله عنهما : ألم يقل إلا بحقها ؟ فإن الزكاة من حقها . والله لو منعوني عناقاُ كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها . قال عمر رضي الله عنه : فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق .
وأجمع العلماء على تصويب أبي بكر وقتال من منعها ، أفيلزم من بيان أبي بكر لعمر تكذيب الرسل ؟ سبحانك ، نبرأ إليك مما أتى به هذا المفتري .
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : إن للإسلام شرائع وفرائض وحدوداً وسنناً . فإن أعش فسأبينها لكم ، وإن أمت فلست على صحبتكم بحريص .
فيلزم من هذا عند المعترض خطأ عمر وتجهيله . وهذا الرجل يسب أئمة الإسلام وهو لا يشعر .
فصل
قال المعترض : ثم قال في جوابه : النوع الثاني من عرف ذلك ولكنه تبين في سب دين الرسول مع ادعائه أنه عامل به ، وتبين في مدح دين أهل الكويت وفضلهم على من وحد الله . فهذا أعظم من الأول كفراً . وفيه قوله تعالى : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } وهو ممن قال الله فيهم : { وإن نَّكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر } .(175/114)
قال المعترض : انتهى كلامه بحروفه . فاستيقظ أرشدك الله لسبيله المستقيم ، وانظر إلى هذا الكلام السقيم ، بقلب واع فهيم . كيف هذا الذي وصف بما يذكر يسب ديناً قد عرفه وهو عامل به ، ثم ينزل عليه هذا الرجل هذه الآية التي نزلت في أهل الكتاب من بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفته ، فأنزل هذا الرجل نفسه بمنزلته ، وكابر بذلك على الغوغاء وسفك الدماء ، فنهب بذلك الأموال على ذلك . والآية الأخرى نزلت في صناديد قريش على الصحيح من قول المفسرين كابن عباس رضي الله عنهما ، وهم الذين هموا بإخراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - باجتماعهم على ذلك في دار الندوة ، ثم قال تعالى : { وهم بدءوكم أول مرة } بقتالهم يوم بدر ، وقيل قضية خزاعة فهؤلاء هموا بإخراج الرسول بنطق القرآن المجيد ، والذين وصفهم هذا الرجل وعظم كفرهم لو رأوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لوقوه بأنفسهم ، ولم يرفعوا أبصارهم إليه تعظيماً له بأبي هو وأمي ونفسي ، ولبذلوا له ما بأيديهم . ثم إن هذا الرجل جعل أهل الكويت الذين شيدوا المساجد والمنار لداعي الفلاح ، وأظهروا شعائر الإسلام ، وبذلوا أموالهم على ذلك ، واجتهدوا في المحافظة على أعمال الخير ، طلباً لما عند الله تعالى ، كالذين نزلت فيهم هذه الآيات بل كفّر من ودهم وأثنى عليهم ، فضلاً عن تكفيرهم . فأي تكفير للأمة المحمدية أبلغ من هذا ؟ إذ أهل الكويت من عرض هذه الأمة أهل القبلة المحمدية الإبراهيمية ، ويا سبحان الله ، فأين الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس ؟ أيراها هذا الرجل هو وأتباعه الذين حجروا الواسع ، وأين دين الله الظاهر المستقيم قبل هذا الرجل الذي يزعم أنه أظهره للناس ؟ أفلا يستحي القابل لهذا الكلام دون القائل ؟ . انتهى كلام المعترض بحروفه .(175/115)
والجواب أن يقال : هذا النقل اعتراه من التحريف والكذب ما اعترى غيره ، والمحفوظ عن الشيخ رحمه الله أنه قال : وتبين في مدح من عبد يوسف والأشقر ، ومن عبد أبا علي والخضر من أهل الكويت ، وفضلهم على من وحد الله تعالى ، وترك الشرك . والمعترض غير هذا وقال : " وتبين في مدح دين أهل الكويت " وفرق بين العبارتين فإن من عبد يوسف ، ومن عبد أبا علي والخضر من أهل الكويت أو غيرهم مع معرفته لدين الرسول ومسبته له لا يستريب مسلم في كفره وردته ، بخلاف ما لو قال ما زعمه المعترض .
وهذا الحذف والتحريف موروث عن اليهود ، كما فعل ابن صوريا لما أخفى آية الرجم وكتمها وقد ذكر الله تعالى أنه جعلهم كذلك محرفين ولعنهم وجعل قلوبهم قاسية بنقضهم الميثاق والعهد الذي أخذ عليهم على أيدي رسله وأنبيائه ، قال تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم } .
إذا عرفت ذلك فكلام شيخنا في غاية الوضوح والظهور ، ودليله دال على هذا ، فإن قوله تعالى : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } نص على تكفير هذا النوع الذي ذكره الشيخ ، وهو من عرف ثم تبين في السبب والعداوة وتفضيل أهل الشرك فهذا بعينه هو الذي دلت عليه الآيتان .
وأما قول المعترض : كيف هذا الذي وصف يسب ديناً قد عرفه وهو عامل به .(175/116)
فيقال له : أما معرفته له مع مسبته فلا يستغرب ذلك ، ولا يمتنع وجوده . وهو نص الآية في اليهود ونحوهم ، ممن عرف ولم يلتزم ، بل أصر وعاند . وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم ) فلا يستغرب ذلك ويرده على الشيخ إلا من هو أجهل الناس بكتاب الله ودينه وشرعه ، ومن أجهلهم بحال أعدائه في كل زمان ومكان ، ولكن هذا الرجل حرف وزاد قوله : " وهو عامل به " ومعلوم أن العامل به لا يسبه ولا يعاديه إذا عمل به حقيقة العمل ، ولكن هذه من كيسه زادها لسبك التلبيس . و الشيخ رحمه الله مثل بمن عرف ثم سب ، ومدح دين المشركين ولم يقل : وهو عامل به .
وأما قوله : ثم ينزل عليه هذا الرجل هذه الآية التي نزلت في أهل الكتاب من بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفته .
فيقال لهذا المغرور : إن من منع تنزيل القرآن وما دل عليه من الأحكام على الأشخاص والحوادث التي تدخل تحت العموم اللفظي ، فهو من أضل الخلق وأجهلهم بما عليه أهل الإسلام وعلماؤهم ، قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل . ومن أعظم الناس تعطيلا للقرآن وهجراً له ، وعزلا عن الاستدلال به في مورد النزاع ، وقد قال تعالى : { فإن تنازعتم في شئ فردوه الى الله والرسول } والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه ، وإلى الرسول الرد إلى سنته . وقد قال تعالى : { وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله } وقال تعالى : { لأنذركم به ومن بلغ } فنصوصه وأحكامه عامة ، لا خاصة بخصوص السبب .
وما المانع من تكفير من فعل ما فعلت اليهود من الصد عن سبيل الله والكفر به ، مع معرفته ؟ .
وهذا الرجل لا يبدي قوله في اعتراضه وتلبيسه إلا هي أكبر من أختها في الجهالة والضلالة . ولو كنت تعرف الكتاب العزيز وما دل عليه من الحدود والأحكام والاعتبار لأحجمت عن هذه العبارات التي لا يقولها إلا أفلس الخلق من العلم والإيمان .
يا خاسراً هانت عليه نفسه
*
إذ باعها بالغبن من أعدائه(175/117)
لو كنت تعلم قدر ما قد بعته
*
لفسخت هذا البيع قبل وفائه
أو كنت كفؤا للرشاد وللهدى
*
أبصرت لكن لست من أكفائه
... وأما قوله : فأنزل هذا الرجل نفسه بمنزلته وكابر بذلك على الغوغاء وسفك الدماء . الخ .
فيقال : إن كلام الشيخ رحمه الله فيمن كفر بدين الرسول ، وسبه مع معرفته له : كائنا من كان : عرف الشيخ أو لم يعرفه . وليس في الكلام تصريح على ذكر الشيخ وطاعته ، بل هو حكم شرعي عام ، فنسبة من قاله ورميه بأنه نزل نفسه منزلة الرسول من أعظم البهت والفرية على أهل العلم والدين . والعلماء في قديم الزمان وحديثه هم الموقعون عن الله ورسوله ، المترجمون لوحيه وتنزيله ، فمن رد عليهم ولم يقبل منهم ـ زعماً منه أنهم يدعون الى أنفسهم ـ ففيه مشابهة بمن رمي الرسل بذلك من قوم نوح وقوم فرعون ، وقد تقدم ما قالوه لأنبيائهم .
وقال تعالى فيمن استكبر عن متابعة الرسل ولم يرضهم في التبليغ عن الله واتهمهم في ذلك : { وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً } فوصفهم بالكبر والعتو الكبير لما اقترحوا هذه الاقتراحات ، ولم يسلموا لما جاءت به الرسل من الوحي والآيات ، وهكذا كل مستكبر وعات عما جاءت به الرسل ، وما قرره أهل العلم : يرده ولا يقبله قدحا فيهم وزعماً منه أنهم يدعون إلي أنفسهم ، وأنه لا يصلح أن يكون تابعاً ، فما أقرب المشابهة بين هؤلاء الضلال وإخوانهم الأولين : أتواصوا به ؟ بل هم قوم طاغون .
وأما قوله : والآية الأخرى نزلت في صناديد قريش على الصحيح من قول المفسرين كإبن عباس ، وهم الذين هموا بإخراج الرسول بإجتماعهم على ذلك في دار الندوة .(175/118)
فالجواب أن يقال : اللسان لسان جاهل ، والقول غير مستقيم ولا عادل ، والآية نزلت فيمن عاهد الرسول على مدة معينة من المشركين يوم صلح الحديبية . وقد شهده وعاهده على الصلح كثير ممن لم يحضر دار الندوة ، ولم يشهد رأيهم فيها . والآية عامة الحكم عند أهل العلم ، وإن كان سببها خاصا . ولهذا استدل بها من قال : لا تقبل توبة من سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو من طعن في دين الإسلام ، أو ذكره بتنقص كما ذكره ابن كثير وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما من أهل العلم . وهو الذي قاله شيخنا رحمه الله واستدل بالآية عليه .
وأي مانع يمنع من تكفير هذا النوع وإن كان سبب نزول الآية قوما مضوا وانقرضوا ؟ فالحكم بحمد الله باق ، والدليل واضح ، والمنار يلوح وقد أنزل الله القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . ولم يخص به قوما دون قوم ، وان مضى أمس بأهل عرفانه فنحن من أبناء هذا اليوم . وقوله تعالى في وصف هؤلاء في الآية التي بعدها يراد به التحريض والإغراء بهم . وكل وصف على حدته مبيح لقتالهم ودمائهم . ولذلك قاتلهم رسول الله كافة ، ولم يخص أهل دار الندوة كما ظنه هذا الغبي ، فعلى عقله العفاء ، والسلام على عباد الله الذين اصطفى .
وأعجب شيء أنه استدل على إيمان من سب دين الرسول ومدح الشرك بأنه لو رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لوقاه بنفسه ولم يرفع إليه بصره تعظيما له .(175/119)
فيقال لهذا المفتري : وما يشعرك أنه لو رآه لكفر به كما كفر بدينه ، قال تعالى : { وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون . ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون } ثم لو وقى الرسول بنفسه ولم يرفع إليه بصره ، وبذل له ماله كما فعل أبو طالب أي شيء يغني عنه ذلك مع مسبة التوحيد وعدم التزامه ، ومدح الشرك والثناء على أهله ؟ والإسلام والإيمان وراء ذلك كله ، لا بد فيه من معرفة الحق وإرادته والانقياد له وإيثاره على ما عداه ، والجهل بحدود ما أنزل الله أوجب لهؤلاء الفجار أن تلاعبوا بدين الله وقاموا في نصر الكفر والكفار ، فالحمد لله على ردع هؤلاء وكبتهم ، وإظهار خزيهم وكشف جهلهم .
وأما قوله : ثم إن هذا الرجل جعل أهل الكويت الذين شيدوا المساجد والمنار لداعي الفلاح ، وأظهروا شعائر الإسلام وبذلوا أموالهم على ذلك واجتهدوا في المحافظة على أعمال الخير طلباً لما عند الله كالذين نزلت فيهم هذه الآيات ـ الخ قوله فيهم .
فقد تقدم أن الشيخ لم يذكر أهل الكويت ولا مثل بهم ، وإنما هو تحريف من هذا المعترض ، وتنفير وصد عن سبيل الله .
ثم لو فرض أنهم كما ذكر في بناء المساجد والمنار ، وبذل الأموال في ذلك : فما الفرق بينهم وبين أهل خرا سان وطبرستان والري وغيرها من بلاد فارس ؟ وقد نص العلماء على أن الشخص لا يدخل في الإسلام إلا بعبادة الله وحده لا شريك له ، والبراءة مما عبد من دونه والكفر بالطواغيت ، مع التزام بقية الأركان والعمل بها .
وهذا الغبي لم يحسن ولم يعرف ما يمدح به أهل الكويت إلا بأمر شاركهم فيه من عبد عليا والحسين والعباس ، وشاركهم فيه الجهمية والباطنية والزنادقة ، وهذا هو اللائق بحال هذا الرجل وعلمه ، وهو غاية ما عنده .(175/120)
وكذلك قوله : إنهم من أهل القبلة المحمدية الإبراهيمية . هو من هذا القبيل ، وفيه إشعار بأنه لم يعرف مراد العلماء بقولهم " أهل القبلة لا يكفرون بالذنوب " ولم يعرف مراد العلماء ولا أصل هذه الكلمة وما تساق له .
فكلامه ظلمات بعضها فوق بعض ، وقد أنكر الإمام أحمد قول الناس : لا نكفر أهل القبلة بذنب . مع أن مراد من قاله : مراد صحيح ، لا يمنعه أحمد . لكن الشأن في الألفاظ والعمومات ، وما يسلم منها وما يمنع . وأما قوله : فأين الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس ؟ .
فيقال له ؟ قد ضيقت واسعا إن كانت الأمة عندك خصوص أهل الكويت ، فهذا الكلام بهذيان المجانين أقرب منه إلى لسان المتشرعين . ثم قال ما المانع أن يكون الشيخ وأتباعه من خير أمة أخرجت للناس ؟ { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما } وقال تعالى : { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم . أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا } وقد روى الطبراني في الكبير بسنده الى ابن عباس { كنتم خير أمة أخرجت للناس } قال : هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار .
فصل
قال المعترض : ثم قال : النوع الثالث من عرف التوحيد وأحبه واتبعه ، وعرف الشرك وتركه ، ولكنه يكره من دخل في التوحيد . فهذا كافر فيه قوله تعالى : { ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم } اهـ .
ثم قال المعترض : فنقول حينئذ فيالله العجب ! كيف يقول : من عرف التوحيد وأحبه واتبعه ، وعرف دين المشركين وتركه ، ثم يقول : ولكنه يكره من دخل في التوحيد . فهل هذا توحيد من غير دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى يكره هذا ؟ .(175/121)
فهذا من كلامه من الهذيان ، وهو من الجمع بين الأضداد الممتنع عقلا وشرعا : أفلا يستحي قابل هذا الكلام دون القائل له ، وهو يري تناقضه وهذيانه ؟ ولكن لو قال : إن هذا النوع الذي يحب التوحيد ويعمل به ، ويكره الشرك وينكره ، قد كره قول هذا الرجل بتكفيره الأمة المحمدية ؛ لصدق ، إذ هذا هو الحقيقة ، وهو الواقع لأن هذا الرجل جعل طاعته ركنا سادسا لأركان الإسلام .
والجواب أن يقال : في هذا من التحريف والبهت قسطه ، فإن الذي في النسخ المتداولة المحفوظة " ويحب من بقي على الشرك " .
ومعلوم أن معرفة التوحيد ومحبته واتباعه قد يعتريه ناقض ينقضه ومبطل يبطله ، أو محبط يحبطه . وذلك يحصل بأمور :
منها : كراهة من يدخل في التوحيد ويلتزمه ، ومحبة من يبقى على الشرك ولا يدخل في التوحيد لغرض له في ذلك رياسه وتحصيل مال ، ونحو ذلك من الأغراض الفاسدة .
وقد ذكر الفقهاء كثيرا من هذا النوع في باب حكم المرتد ـ تجري ممن يظهر محبة التوحيد ، وجهل المعترض أوجب له الحيرة والشك ، وقد قال تعالى : { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا . أولئك هم الكافرون حقا } فهؤلاء آمنوا ببعض وأحبوه وتابعوه ، ولم يلتزموا الإيمان بجميع الرسل وما جاء به الرسل ولم يحبوه كله ، بل فرقوا بين شعب الإيمان وأصوله ، وأرادوا أن يتخذوا سبيلا بين الإيمان بالكل ورد الكل .
فهذا عين ما قرره شيخنا . فإن كراهة إيمان بعض الخلق كراهة لما أنزل الله فافهمه .
قال في الإقناع في باب حكم المرتد : أو كان مبغضا لما جاء به الرسول . يعني فيكفر وإذا أبغض دخول الناس في دين الله والتزامه . فهو مبغض لما جاء به الرسول بلا ريب . ويكفي المؤمن في تكفير من كره بعض ما أنزل الله هذه الآية التي ذكرها المصنف .(175/122)
ومعلوم أن المتابعة لم تحصل من هذا الصنف على وجه الكمال ، وكذا الحب ، لكن معه من الحب والمتابعة ما لا يحصل به نجاته وإسلامه .
يوضح هذا : أن من أحب الإسلام والتزمه واتبعه ، ولكن جوز نبوة مسيلمة أو غيره ممن يدعي النبوة ، يكفر بذلك ، ولا ينجيه ما معه من الإسلام والمتابعة . وهكذا غلاة القدرية ونحوهم ، ممن له تعبد ومتابعة في كثير من الأركان والشعب .
فإن قيل : إنما كفر من جوز نبوة مسيلمة أو غيره لرده الكتاب والسنة والإجماع .
قيل : وكذلك من كره دخول الناس في التوحيد وأحب بقاءهم على الشرك فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع .
وبهذا تعلم أن المحبة ذات مراتب ، لا يلزم من وجود بعضها وجود غيره ، وكذلك المتابعة ، ومن لم يستكمل الإيمان الواجب في الحب والمتابعة قد يقع منه ما ينافيهما فيجتمع الضدان ، ولا يستحيل ذلك لا عقلا ولا شرعا أما العقل فقد جوز اجتماع الأضداد كافة النظار والمتكلمين ، ومثلوا لذلك .
وأما الشرع فإجماع السلف والأئمة على أن الشخص يجتمع فيه مادتان متضادتان : كفر وإسلام ، توحيد وشرك ، طاعة وفسق ، إيمان ونفاق . وهو لأيهما غلب ولو عقل المعترض لعرف المراد ، لكنه جهل فاعترض ، وجعل جهله وعقله الضال ميزانا يزن به ، فلا أحكم ممن قضي له بالخذلان وعدم العلم بحقائق الإسلام والإيمان .
ثم لا يمكن أن يقع تصويره الذي صور ، ورأيه الذي ارتضى وقرر ، من أن الذي يحب التوحيد ويكره الشرك قد كره قول الشيخ . وما قرره وأبداه من معرفة دين الله وتوحيده وتكفير من رده وصد عنه وأباه . وتكفير الأمة لم يقع من الشيخ محمد بحمد الله .(175/123)
وتقدم الجواب عنه ، وتقدم أن الأمة في رأي هذا الرجل ودعواه هم عباد القبور ومن عبد عليا والحسين وأمثالهما ، أو جعل لهم تدبيراً وتصريفاً مع الله هؤلاء هم الأمة عند هذا الضال . وشبهته أنهم يقولون لا إله إلا الله ، ولم يدر أيضا نصوص الفقهاء على أن من أتى بمكفر من فعل أو قول أو اعتقاد لا يدخل في الإسلام إلا بتركه والتوبة منه . وإن قال لا إله إلا الله .
والحمد لله حمدا كثيراً لا نحصي ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما أثنى به عباده الذين اصطفى .
فصل(175/124)
قال المعترض : ثم قال في جوابه : النوع الرابع : من سلم من هذا كله ، ولكن أهل بلده يصرحون بعداوة أهل التوحيد واتباع الشرك وساعين في قتالهم ، ويعتذر أن ترك وطنه يشق عليه ، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده ، ويجاهد بماله ونفسه طوعاً واختياراً . فهذا أيضاً كافر . فإنهم لو يأمرونه بترك الصوم ولا يمكنه الصيام إلا بفراقهم فعل . ولو يأمرونه بتزوج امرأة أبيه ولا يمكنه ذلك إلا بمخالفتهم فعل . فهذا أيضاً كافر ، وهو ممن قال الله فيه : { ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم } قال المعترض : انتهى كلامه . فتأمل رحمك الله هذا الكلام فقد كفّر فيه وفيما قبله بالطاعة بأن من لم يطعه فيما قال ، ويهاجر إليه فهو كافر بذلك حلال الدم والمال وليس له عنده غفران . وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقاً على الله أن يدخله الجنة هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها ) فصح بهذا الحديث الصحيح أن ترك الهجرة إذا وجبت ليس بكفر كما يقوله هذا الرجل . ونحن نستيقن أن هذا الرجل الذي هو وصفه بالكفر أن أهل بلده لو يأمرونه بألا يقول شهادتي الإخلاص ولا يمكنه ذلك إلا بفراقهم لفعل . فأين الكفر الذي حكم عليه هذا الرجل به ؟ ثم ماذا لو ترك الهجرة الواجبة لو فرضنا صحة قوله ؟ إنما هي تكون معصية وقد يعذر كما عذر النجاشي وامرأة فرعون ، وكذا جعفر وأصحابه بعد أن استقر النبي - صلى الله عليه وسلم - بدار الهجرة . فجعل هذا الرجل الهجرة على فرض صحة قوله شرطاً لصحة الإيمان ، وأنت ترى قول الله تعالى ورسول - صلى الله عليه وسلم - .(175/125)
والجواب أن يقال : من زعم أن هذا الكلام الذي ساقه الشيخ وقرره يدل على تكفير من ترك طاعته ولم يهاجر إليه : فهو من أضل الخلق وأعظمهم جرأة على البهت والكذب ، وأشدهم مكابرة على شهادة الزور. وفي الحديث : ( عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ) قالها ثلاثاً .
وصريح كلام الشيخ رحمه الله في رجل تبع أهل بلده في قتال أهل التوحيد إيثاراً لبلده ووطنه ، فبذل نفسه وماله في قتال أهل التوحيد .
هذا نص الشيخ وصريح كلامه ، فمن أين أخذ هذا الثور الأعجم أنه يكفر بترك طاعته ؟ .
واستدل الشيخ على هذا بقوله تعالى : { ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم } والآية ظاهرة الدلالة على هذه المسألة ، فإن من تكلم بالإسلام ولم يعتزل أهل الكفر بل صار معهم ، وقاتل أهل التوحيد لغرض من أغراضه الدنيوية تناولته الآية ، وشمله نصها الصريح ، وقد جعل الله لحقن دمه حداً وفعلاً يتميز به إسلامه ، وهو اعتزال قتال المسلمين ، وإلقاء السلم إليهم بالانقياد ، وكف اليد عن قتالهم ، ومتى لم يحصل ذلك منهم ولم ينقادوا له فقتالهم واجب أينما ثقفهم المؤمنون . وقد جعل الله عليهم حجة ظاهرة . هذا صريح الآية ونصها .
فأتى هذا المعترض المخلط ببهت لا يدل عليه كلام الشيخ لا تصريحاً ولا تلويحاً ، واستدل بحديث أبي هريرة على إيمان من قاتل المسلمين مع المشركين وآثر وطنه على التزام الإسلام ، وترك القتال : والحديث إنما هو في شأن الهجرة . وقد حمله كثير من أهل العلم على من أظهر دينه ، فلم تجب عليه الهجرة . وبعضهم حمله على الأعراب الذين أسلموا ولم يهاجروا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجاهدوا معه كما يدل عليه آخر الحديث .
فلم يعرف هذا المعترض معنى الحديث ولا موضوعه ، واستدل به على مسألة أجنبية عنه ، ليس لها دخل فيه . فإن الكلام هنا فيمن قاتل المسلمين تحت راية المشركين ، وسعى في الصد عن سبيل الله ، لا فيمن ترك الهجرة فقط .(175/126)
وأما عذره عن هذا الرجل الذي مثَّل به الشيخ بأن أهل بلده لو يأمرونه بألا يقول شهادتي الإخلاص ولا يمكنه ذلك إلا بفراقهم لفعل فهذه مبنية على أن مجرد القول يكفي في الإيمان ، مع التلبيس بالمنافى والمعارض . وهذا ليس من أقوال علماء الأمة وأئمتها ، بل هو من أقوال أهل الجهل والضلال ، المخالفين للكتاب والسنة ـ وذكر النجاشي ـ وهذا شأن الجاهل إذا أورده أهل العلم المضائق تكثر بما ليس له ، وحاد عن جواب المسألة ، وفي المثل ( الأقرع يفتخر بجمة ابن عمه ، والأحمق يذكر خالته إذا عيب بأمه ) .
ومن العجب تكراره أن الشيخ يكفر بالعموم ، وقوله : أي تكفير بالعموم وإيجاب للهجرة أبلغ من هذا .
وهو كما ترى في نوع خاص من الأمة ، وقسم من أقسام لا يحصيها إلا الله .
ثم أخذ المعترض في تجهيل الشيخ ونسبته في الهوى ، وأنه لم يأخذ ما ذهب إليه عن العلماء ، ولم يجلس عند عالم يتعلم منه بعد تعليم أبيه ، وأن أباه نهاه عما بدر منه من ترهاته . وقال : ويل للناس منك . وأن أهل البصرة أخرجوه ، ثم نهاه أخوه وأن أتباعه لو طلبت منهم طريقاً يتصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تجدها ، وأنهم لا يعرفون ذلك ، وأنهم يأخذون عن حدثني قلبي عن ربي ، وأنه لا يحسن الفرائض فضلاً عن العول والحساب والمناسخات . وأطال بخرافات كقوله : سموا الإقناع المقلاع ، والدليل الميتة ، وجعل له مختصراً من الشرح الكبير والمغنى والإنصاف ، حل فيه قيوده وكدر وروده . وقصر أتباعه عليه ، وقال : اجتهدوا ، وحاشا أني سمعت عندهم لأصول الفقه ذكراً أو النحو والعربية ، بل يتهكمون بمن يطريها دون من يتليها .
وأطال بهذيان بهذا الضرب يتنزه العاقل عن ذكره .(175/127)
وجوابه أن يقال : أما ما صدر من مسبته الشيخ وتجهيله ونسبته إلى الهوى فالحكم بينك وبينه إلى الله الذي إليه تصير الأمور ، ويحكم بعدله بين المؤمن والكافر والبر والفاجر ، وشهادة الحال والمصنفات والدعوة الإسلامية ، وما أورده من الأدلة والبراهين هي الشاهد المصدق ، والبرهان المحقق . ولا عبره بقدح أمثالك وإنكار فضائله ، كما أنه لا عبرة بقدح جميع من كذب الرسل وسفههم ، ونسبهم إلى الجهل والافتراء والجنون والسحر وغير ذلك مما هو مذكور في كتاب الله ، وفي الأخبار والسير ، ومشابهة حالك وأقوالك بأقوال أسلافك وأشباهك تكفي المؤمن في رد أباطيلك ، وعَدها من الزور البين .
وقد اشتهرت رحلة الشيخ للعلم وطلبه وسماعه ، كما ذكره صاحب التاريخ حسين بن غنام وغيره . وقد تقدم ذلك .
وأما كون أبيه نهاه ، فهذا لم يثبت . ومثل هذا المعترض أخباره تلحق بأخبار الوضاعين المفترين ، الذين أجمع أهل العلم على رد أخبارهم وعدها من الزور البين .
ثم لو سلمنا هذا النقل فأي حجة وأي دليل فيه على أن الحق مع أبيه في ذلك ؟ ومتابعة الآباء لا تحمد مطلقاً . وقد ذم الله تعالى من تمسك بدين آبائه ، ولم يقبل ما جاء به الرسل من الهدى ودين الحق الذي يخالف عادة الآباء وما نشأوا عليه ، قال تعالى : { وكذلك ما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أَمة وإنا على آثارهم مَقتدون } وقال محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله :
كذلك أهل للكتاب تتابعوا
*
على ملة الآباء فرداً على فرد
وهيهات كل في الديانة تابع
*
أباه ، كأن الحق في الأب والجد
وقد قال هذا قبلهم كل مشرك
*
فهل قدحوا هذي العقيدة عن زند
...
وأما كون أهل البصرة أخرجوه ، فهذا من جنس ما قبله ، لم ينقله أحد يعتد به .(175/128)
ولو قدر وقوعه لكان من أدلة فضل الشيخ وعلمه ، وأنه على طريقة مستقيمة ودعوة نبوية ، قال تعالى عن قوم شعيب : { قال الملأَ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا } وقال تعالى عن قوم لوط : { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون } وقد أخرج نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وقال له ورقة بن نوفل لما ذكر له ما يرى في مبدأ النبوة وما ينزل عليه : هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعاً . يا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أو مخرجيّ هم ؟ ) . قال : نعم ، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدر كني يومك أنصرك نصراً مؤزراً .
وقد عرف عن حال أهل الكويت وأهل البصرة في ذلك الوقت أنهم يدعون الأشقر وأبا علي وأمثالهم ممن يعتقدون صلاحه ، فلا عجب من رد الحق وإخراج أهله :
والحق منصور وممتحن فلا
*
تعجب ، فهذى سنة الرحمن
... ...
وأما قوله : إن أتباعه لو طلبت منهم طريقاً يتصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلم لم تجدها من جهته ، ولا يعرفون ذلك ، وإنما هو حدثني قلبي عن ربي .
فيقال لهذا الملحد : جميع ما بأيديهم من كتب العلوم إنما أخذوها عن أشياخ ثقات ، يؤخذ عنهم حفظاً وأمانة ، وطرق الأخذ متعددة ولو إجازة عامة وإن بعدت الديار وتناءت الأقطار ، كما يعرفه أهل فن المصطلح . وقد وسعوا في ذلك لما دُونت الدواوين وجمعت العلوم ، وميز الصحيح والحسن والضعيف والمرفوع، والموقوف والمتصل والمنقطع والغريب المشتهر ، واشتهرت رحلة شيخنا رحمه الله وسماعه للعلوم واجتماعه بأعيان وقته .
وقد أخذ الفقه عن أبيه عن جده سليمان بن علي مفتي الديار النجدية في وقته وسنده المتصل بأئمة المذهب إلى الإمام أحمد معروف مقرر عندهم .(175/129)
وسمع الحديث عن أشياخ الحرمين في وقته وأجازه الكثير منهم ومن أعلامهم محدث الحرمين الشيخ محمد حياة السندي وكان له أكبر الأثر في توجيهه إلى إخلاص توحيد عبادة الله ، والتخلص من رق التقليد الأعمى ، والاشتغال بالكتاب والسنة .
ورحل إلى البصرة وسمع من أشياخها ورحل إلى الاحساء وهي إذ ذاك آهلة بالعلماء ، فسمع منهم وأخذ عنهم ، وعرف قدره أهل العلم والنهى ، وإنما أنكر هذا المفتري ما منّ الله به عليه من الفهم في كتاب الله وسنة رسول الله، ومعرفة الحدود الشرعية ، وما دلت عليه النصوص ، وأهل العلم تفاوتوا في هذا تفاوتاً عظيماً .
ولم يقل أحد من أهل العلم : إن الاستدلال بكتاب الله وسنة رسوله وأخذ الأحكام منها واستنباطها موقوف على سماع ذلك عن أحد ، وإنما هو فهم يمن به تعالى على من يشاء من عباده ، كما في حديث علي رضي الله عنه : ( ما خصنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء إلا ما في هذه الصحيفة أو فهم يؤتيه الله من شاء من عباده ) وفي حديث : ( مثل ما بعثني الله به من الهدى ودين الحق كمثل غيث أصاب أرضاً ، فكان منها طائفة قبلت الماء وأنبتت العشب والمرعى ، وكان منها طائفة إنما هي قيعان لا تنبت الكلأ ولا تمسك الماء ) .
فقد مثل - صلى الله عليه وسلم - هذا الوحي بالغيث وقلوب الناس بالأرض ، وقسمها هذا التقسيم البديع المطابق للحال والواقع .
ومثل هذا المعترض ينكر على أهل العلم ما يبدونه من الأحكام والأسرار ، والحدود المأخوذة من كتاب الله وإن كان المستند نصاً ظاهراً زعماً منه أن هذا يتلقى عن الأشياخ .
وينبغي أن يسأل هذا وأمثاله عما استنبطه الأئمة ودونوه من المسائل الأصولية والفروعية ، أسمعوها وأخذوها عن أشياخهم ، مسألة مسألة وحكما حكما وفرعا فرعا حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويقال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : المياه ثلاثة . إلى آخر كتاب الإقرار ؟ .(175/130)
فإن زعم ذلك أضحك من جهله كافة العقلاء ، وإن سلم أن أكثره وغالبه فهوم واستنباطات أخذت من نصوص الكتاب والسنة وكلام الأئمة في المسائل الاجتهادية غيرها . فما الموجب لهذا الصياح والإنكار على فرد من أفراد الأمة دون سائرهم ، لولا الشك في أصل الإيمان ، وعد معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله ؟ .
وهذا كله تنزل مع هذا المعترض ، وإلا فما جاء به الشيخ من الدعوة إلى توحيد الله وإخلاص الدين له يعرف بالضرورة من دين الإسلام ، ولا يحتاج لنظر ولا استدلال :
وليس يصح في الأذهان شيء
*
إذا احتاج النهار إلى دليل
ولا يقال لمن مستنده الكتاب والسنة : إنه يأخذ عن قلبه عن ربه ، وإنما يأخذ عن كلام الله وسنة نبيه .
وهذه الكلمة قالها بعض مشايخ القوم فيمن أحدث طريقة أو عبادة وخلوة أو رياضة لم يدل عليها كتاب ولا سنة . وقد صرح بهذا زنادقة الصوفية . كما نقل عن بعضهم : كيف يأخذ عن عبد الرزاق من يأخذ عن الملك الخلاق ؟ ويسمون أهل العلم والأثر : أهل القشور ، ويقولون : نحن نأخذ عن الله بلا واسطة ؟ .
وهؤلاء هم المعنيون بهذا وقد وضعه هذا الملحد فيمن تمسك بالكتاب والسنة ودعا الى ما دعت إليه الرسل ، وأخرج الكلام عن موضوعه ومحله . وهذا من جنس التحريف ولي الألسن الذي وصف الله به اليهود .
وأما قوله : لا يحسن الفرائض ، فضلا عن العول والمناسخات والحساب .
فهذا من القحة والبهت . ومن طالع كتاب التوحيد وغيره من مصنفاته عرف فضل الشيخ وعلمه وأنه من أدق الناس فهما . وأغزرهم علما ، وإنما يرجع أهل نجد في وقته إليه في سائر العلوم الشرعية ، والفرائض وغيرها . وهذه كتبه وفتاويه ومصنفاته تشهد بذلك .(175/131)
ثم لو قدر أن غيره أفرض منه وأحسب هل يقتضي ذلك التفضيل مطلقا ، ويوجب أن يرد ما جاء به من الحق والهدى ؟ وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أفرضكم زيد ) ومع ذلك فالسابقون الأولون أفضل منه وأعلم وأفقه عن الله ورسوله . وقد يحسن الحساب بعض أهل الذمة من أهل الكتاب .
وهذا شيخك ابن سلوم له مصنف في الحساب وهو من أضل الناس في معرفة دين الله وشرعه في غالب الأبواب .
وقد كان في سكوت هذا الرجل ستر لجهله ، وعنز السوء تبحث عن حتفها بظلفها قال الشاعر :
فكان كعنز السوء قامت بظلفها
*
إلى مدية تحت التراب تثيرها
... وأما قوله : سموا الإقناع المقلاع .
فيقال : نسبة هذا الى الشيخ من أوضح الكذب وأظهره ، وان أخطأ بعض أتباعه فخطأ التابع فيما يختص به لا يقدح في متبوعه ، وكم أخطأ مخطئ من هذه الأمة وغيرها من أتباع المشايخ والأئمة ، بل وأتباع الرسل .
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( اللهم إني أبرأ اليك مما صنع خالد ) لما بلغه ما فعل مع بني جذيمة .
وأما قوله : وجعل له مختصرا من الشرح الكبير والمغنى والانصاف .
فيقال : هذا يكذب ما قبله ، إذا كان الرجل له عناية بكلام الفقهاء وأهل العلم وتآليفهم ، كيف ينسب اليه ما تقدم ؟ .
وأما قوله : حل فيه قيوده وكدر وروده .
فهي جملة كاذبة خاطئة . بل هذب أحكامه وقرب مقاصده ومرامه ، وأحسن في تهذيبه ، وأجاد في اختصاره وتقريبه ، و هذا مما يدل على كثافة حجاب هذا المعترض وأنه لا يدري شيئا من العلوم .
وأما قوله : انه لم يسمع عندهم لأصول الفقه والنحو والعربية ذكراً بل يتهكمون بمن يطريها دون من يتليها .(175/132)
فيقال : أنت وأمثالك من أشد الناس نفورا عنهم وبعدا ، ومرباك ومأواك ساحل العراق ، وما يلي مشهد علي والحسين من تلك البلاد ، فما يدريك عنهم ؟وقد اعترفت أن بعض الناس نصحك عن الأخذ عنهم ففعلت ، ولم تقدم الدرعية ولم تر من فيها من الجهابذة الذين شاع فضلهم واشتهر علمهم ، ونقله العدول وشهدت به الآثار والمؤلفات ، ورجع إليهم أهل اليمن وأهل صنعاء في كثير من المسائل والمشكلات ، فوجدوا عندهم من العلوم ما يثلج الصدر ، ويكشف العمى ، وقد كثر الاقراء في الدراعية في علوم العربية حتى حضر درس الشيخ حسين بن غنام الجم الغفير ، والخلق الكثير .
ثم أنت أيها الرجل قد كشف الله عن سوأتك وأبدا خزيك . فقل جملة تمر بنا من كلامك إلا وفيها من اللحن أو بشاعة التركيب أو تعقيد العبارة أو هجنتها ما يشهد وينادي بأنك من أبلد الخلق وأضلهم عن حسن التعبير ومعرفة العربية .
وهذه الجملة بعينها التي الكلام بصددها قد لحنت فيها لحنا فاحشا وذلك في قولك " يتهكمون بمن يطريها دون من يتليها " وهي من أفحش اللحن لأن تلا بابه يتلو قال تعالى : { إن الذين يتلون كتاب الله } ولم يقل ( يتلي ) وقال تعالى : { أتل ما أوحى إليك من الكتاب } ولم يقل ( اتلي ) وأمثال هذا كثير ، ولو تتبعت ما في كتابه من هذا لطال الكلام .
فصل(175/133)
قال المعترض : فصل : وقال في مسائله على توحيده في حديث طارق ابن أشيم رضي الله عنه الذي في صحيح مسلم : ( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل ) فقال عليه : وهذا من أعظم ما يبين لك معنى " لا إله إلا الله " فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال ، بل ولا معرفة معناها مع لفظها ، بل ولا الإقرار بذلك ، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له ، بل لا يحرم دمه وماله حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله . هذا كلامه .
ثم قال : فيالها من مسألة ما أجلها . وياله من بيان ما أوضحه ، وحجة ما أقطعها للمنازع . انتهى كلامه .(175/134)
ثم قال المعترض : فتفكر بعقلك هذا الكلام ، وتفهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله : ( من قال لا إله إلا الله ) ثم اعرض عليه كلام هذا الرجل وما حكم عليه به ، حتى ترى مخالفته له أوضح من الشمس حيث حمله مالا يحتمله عقلا ولا شرعا ولا لغة سواء جعلناه من عطف الخاص على العام . كقوله تعالى : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } وقوله : { قل من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال } أو جعلنا الواو واو الحال ، أو جعلنا الواو شرطا . فيكون تأكيدا وتحقيقا لم يلزم باللفظ بشهادة الإخلاص ، لأنها المطلوبة بما تضمنته في جميع الأحاديث . وهي المنجية من الخلود في النار . وفي مسند البزار عن عياض الأنصاري قال : قال رسول لله - صلى الله عليه وسلم - : ( أن لا إله إلا الله كلمة على الله كريمة ، لها عند الله مكان ، وهي كلمة من قالها صادقا أدخله الله الجنة ، ومن قالها كاذبا حقنت دمه ، وهو إلى الله تعالى غدا فمحاسبه ) وعند البيهقي وصححه البزار والطبراني في معجميه وأبى نعيم في الحلية عن أبى هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من قال لا إله إلا الله نفعته يوما من دهر ، يصيبه قبل ذلك ما أصابه ) وعند أبي داود بسند حسن من حديث أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ثلاث من أصل الإيمان : الكف عمن قال لا إله إلا الله ولا نكفره بذنب ، ولا نخرجه من الإسلام بعمل . والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال . لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل . والإيمان بالأقدار ) .(175/135)
فهذا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وهذا الرجل يقول : لا ينفعه التلفظ بها ، بل ولا معرفة معناها . إلى آخر كلامه . فإذا كان التلفظ بها مع معرفة معناها والإقرار بها وكونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له لا يعصم دمه وماله بذلك فما العاصم له حينئذ من هذا الرجل على كلامه على هذا ؟ فلا أكبر حينئذ من ذلك لله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - محادة ومحاربة ومكابرة ومضادة . فإن هذا الرجل بهذا الكلام لم يجعل الكفر بالطاغوت داخلا في كلمة الإخلاص ، كما تراه واضحا فاضحا من قوله ، ولو كان فقيها لعلم أن هذا كما لو شرط في عقد ما يقتضيه العقد زيادة تحقيق إذا جعلنا الواو شرطا . وهو بكلامه هذا جعلها شرطا زائدا عليها . فما فائدة إذا تسميتها بكلمة الإخلاص ؟ فأين المسلم حينئذ عنده ؟ وهذا من جملة خزعبلاته ، وجهلة بلغة العرب وتحكيمه لعقله على دقله وجهله . فأبو جهل حيئنذ وناديه أعلم منه بلا إله إلا الله فإنها تنفي جميع ما عبد من دون الله تعالى ، حين دعاهم - صلى الله عليه وسلم - إليها فصفقوا بأيديهم وقالوا : { أجعل الآلهة إلها واحدا } أفيقول قول هذا الرجل عاقل ؟ فهذا الرجل ينطق لسانه بما لا يحكم جنانه ، أو ما علم في حديث طارق بعينه أنه متضمن شهادة أن محمداً رسول الله ؟ ومن لوازمها ، كما نص عليه العلماء الأمناء والعجب ممن يعظم هذا الكلام كما عظمه صاحبه ، ولا يري ظهور غائلته . فهلا قال - صلى الله عليه وسلم - لأسامة بن زيد حين قتل الرجل بعد أن قال لا إله إلا الله : اكفر بما يعبد من دون الله ، بعد أن شهد أن لا إله إلا الله ؟ بل قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟ ) حين قال أسامة : إنما قالها تعوذا من القتل . فجعل - صلى الله عليه وسلم - يردد عليه : ( كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ) وهو يقول : يا رسول الله استغفر لي ،(175/136)
حتى تمنى أسامة رضي الله عنه أن لم يكن أسلم يومئذ . والحديث جمعية في الصحيين وكذلك حديث أبي هريرة في الشفاعة وقصة النعلين . وحديث عبادة بن الصامت . و حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه والكل في الصحيحين . لا نطيل بذكرها وقد ذكرناها في غسل الدرن مستوفاة .
والجواب أن يقال : في نسبة التوحيد إليه أعني إلى شيخنا : ما يشعر ببراء هذا الرجل منه ، والكتاب الذي يشير إليه ليس فيه إلا كلام الله وكلام رسوله ، أورده المصنف رحمه الله مستدلا به على ما وضع من الأبواب والتراجم . فالبراءة منه براءة من كتاب الله وسنة نبيه ولا شك في كفر من قصد ذلك ، ولا أرى لقول المعترض في عبارته : أن الشيخ ذكره في مسائله على توحيده إلا ما يشعر بهذا والله أعلم بقصده ومراده .
وتقرير الشيخ على هذا الحديث من أحسن التقارير وأدلها وأبينها . فإنه استدل بالجملة المعطوفة الثانية على ظان الكفر بالطاغوت وما عبد من دون الله شرط في تحريم الدم والمال ، وأن لا عصمة بمجرد القول والمعرفة ولا الله بمجرد ترك عبادة ما عبد من دون الله ، بل لا بد من الكفر بما عبد من دون الله ، والكفر به وبغضه وتركه ورده والبراءة منه ومعرفة بطلانه ، وهذا لا بد منه في الإسلام . قال تعالى : { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقي } فجمع بين الإيمان بالله والكفر بالطاغوت في هذه الآية ولها نظائر في كتاب الله ، كقوله تعالي عن إبراهيم : { وإذ قال إبراهيم لأبية وقومه إنني براء مما تعبدون . إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } فدلت هذه الآية وما قبلها على أن الكفر بالطاغوت شرط لا يحصل الإسلام بدونه ، وهكذا هذا الحديث مثل هذه الآيات . فإن الإيمان بالله هو شهادة أن لا إله إلا الله . ومع ذلك ذكر الكفر بالطاغوت معه في حصول الاستمساك بالعروة الوثقى .(175/137)
وقد يفرد الإيمان ويخص بالذكر ، فيدخل فيه الكفر بالطاغوت ، كشهادة أن لا إلا الله ، فإنها دالة على الإيمان بالله المتضمن للكفر بالطاغوت وعبادة الله وحده لا شريك له .
وقد يجمع بينهما كما في حديث طارق . فيستفاد معني زائد وحكم آخر ، سواء كانت الجملة الثانية مؤكدة أو مؤسسة وأيضا فإن دلالة الألفاظ والأسماء تختلف في حال اقترانها وانفرادها ، ومعلوم أن الجملة المعطوفة أفادت فائدة أخري وحصل بها حكم لم يحصل بالجملة الأولى ، عل القول بأنها مؤسسة ، وكذا القول بأنها مؤكدة . فإن النفي في الجملة الأولي يتضمن الكفر بما عبد من دون الله على وجه العموم المستفاد من النفي ، وفي الجملة الأخرى خصت أحد المعاني المستفادة من الجملة الأولى ، تنبيها على أنه أجل معانيها وأهمها وهذا مشهور في كلام الله وكلام رسوله وكلام العرب .
وقول الشيخ : إنه لا يحرم دمه وماله حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله ، هو نص الحديث ومنطوقه وصريحه .
وهذا المفتري يقول : حمله ما لم يحتمل ، وخالفه خلافا أوضح من الشمس . فأي جهل وكذب ومكابرة ورد للنصوص أعظم من هذا ؟ فنعوذ بالله من الجهل والعمي ، والضلال بعد الهوى ، وإنكار ما قاله شيخنا مما دل عليه النص هو الباطل شرعا وعقلا ولغة .
ولو جعلناه من عطف المرادف أو عطف الخاص على العام فهو دال على كل تقدير بمنطوقه على أن الكفر بالطاغوت وما عبد من دون الله لابد منه في الإيمان والإسلام ، ولا عصمة للدم والمال إلا بذلك ، وإنكار هذا مكابرة ظاهرة .
فإن الكفر بما عبد من دون الله إن كان من مدلول الجملة الأولى والثانية مؤكدة فالحكم الذي قرره الشيخ ثابت بالأولى مؤكد بالثانية ، وهذا أقوى في الدلالة على ما قاله وما قرره ، وليس فيه ما يستريح به هذا المعترض . لكنه لا يأتي على قواعد العربية ، لأن الحال وصف فضلة مفهم للحالية ، ويشترط في كون الجملة حالا شروط لا تتأتى هنا .(175/138)
فقوله : أو جعلنا الواو شرطا أ والحال . كلام جاهل بقواعد العربية لا يدريها فالواو لا تقع شرطا وإنما تقع للعطف والتشريك . والجملة بعدها لا تصح أن تكون للحال . فإنها جملة فعليه ماضوية لا تفهم حالا. ولغير ذلك من موانع الحالية كما يعلم من باب الحال في الخلاصة وغيرها من كتب العربية .
وهذا الغمر يرمي أتباع الشيخ بعدم العلم بالعربية وهو فيها أشد لحنا وأفسد تركيبا من البربر والديلم . وأين أنت ومعرفة معاني الحروف والتراكيب ؟ ليس ذا عشك أدرجي .
وقوله : لما يلزم باللفظ بشهادة الإخلاص . فيه جهل عظيم . لأن شهادة أن لا إله إلا الله دلت على الكفر بما عبد من دون الله تضمناً لا التزاما ، ولم يقل أحدا من المسلمين والعرب : إنها دلت على ذلك التزاما إلا علة قول طائفة ضالة من المتكلمين ، يزعمون أن معناها : لا قادر على الاختراع إلا الله ، وأما كون شهادة الإخلاص هي المنجية من الخلود في النار فنعم ، ولكن لابد من العم واليقين ، وحصوله ما دلت عليه من النفي والإثبات ، وهذا لنا لا علينا ، وهو يشهد لهذا الحديث الذي فيه زيادة : ( وكفر بما يعبد من دون الله ) .
وقد قدمنا أن شهادة الإخلاص دالة على الكفر بالطاغوت في حال في حال إفرادها ن وكذلك في حال اقترانها بغيرها .
فهذه الأحاديث التي ساق المعترض كلها لنا بحمد الله ، دالة على ما قرره شيخنا ونص عليه في حديث طارق شاهدة له مقررة لمعناه ، كحديث عياض ، وحديث أبي هريرة ، وكذلك حديث أنس . كل هذا يدل على أن الكفر بالطاغوت لابد منه في عصمة المال والدم .(175/139)
والمعترض أوردها محتاجا بها على دعواه أن اشتراط الكفر بما يعبد من دون الله من زيادات شيخنا ، وأنه مخالف للأحاديث ، وأنها لا تحتمله عقلا ولا شرعا ولا لغة وإنما المراد مجرد لفظها والوعد بالجنة والانتفاع بها وعدم تكفير قائلها وإخراجه من الإسلام . كل هذا عند المعترض لا يشترط فيه الكفر بما يعبد من دون الله المذكور في حديث طارق ، وجعل نص الحديث ومنطوقه مما لا يدل عليه حديث طارق ولا هذه الأحاديث فلا يشترط الكفر بالطاغوت عنده ، بل هو من زيادات شيخنا ومن الخزعبلات عند هذا المعترض وعلى زعمه ، والحديث مشهور عند أهل العلم فجعله من الخزعبلات مع العلم بأن الرسول قد قاله ردة صريحة عند كافة أهل الفقه والفتوى . فسبحان من طبع على قلبه بحكمته ، وجعل ثيران المدار أهدى منه لمعرفة ما يدل على توحيد العزيز الغفار .
وأما قوله في حديث أنس : ( ثلاث من أصل الإيمان ـ إلى قوله ـ ولا نخرجه من الإسلام بعمل ) فالصحيح وقفه ، وليس من المرفوع والجملة الأخيرة وهي قوله : ( والجهاد ماض منذ بعثنى الله ) فهي تروى .
وأما قوله : " وهذا الرجل يقول لا ينفعه التلفظ بها ولا معرفة معناها " .
فهذا كذب لم يقل : لا ينفعه . وإنما قال شيخنا : فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال ، بل ولا معرفة معناها ـ فحرف هذا المفتري وبهت الشيخ بقول لم يصدر منه أنه حكي قوله بنفسه . فنعوذ بالله من جهد البلاء .
وأما قوله : " فإذا كان التلفظ بها مع معرفة معناها والإقرار بها وكونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له لا يعصم ماله ودمه بذلك فما العاصم له حيئنذ من هذا الرجل على كلامه " .(175/140)
فنقول : الكلام كلام رسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي جاء بهذا من عند الله تعالى وتقدس واشترط الكفر بما عبد من دون الله في عصمة المال والدم مع المعرفة والتلفظ ، وكونه لا يدعو إلا الله ، فمن رد ذلك فقد رد على عبد الله ورسوله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم النبي العربي الأمي الذي بشرت به الأنبياء وقامت الأدلة القطعة والبراهين الساطعة على رسالته وصدق مقالته . فمن رد ذلك فهو المحاد لله ورسوله ، المحارب له ، المكابر لنصوصه . لا من آمن به وأخذ بقوله ودعا إليه الناس وبلغه الأمة .
إذا عرفت هذا فقول المعترض : " فهذا الرجل بهذا الكلام لم يجعل الكفر بالطاغوت داخلا فى كلمة الإخلاص " فيه رجوع عن قوله الأول وهدم لساه وقاعدته ، وقد تقدم حكاية قوله الصريح في رد اشتراط هذا في عصمة المال والدم . ثم رجع القهقري وانحط الى وراء ، وزعم أن الشيخ لم يدخل الكفر بالطاغوت في كلمة الإخلاص . فأين هذا من تقريره الأول ؟ والشيخ لم ينف دخوله ، وإنما اشترطه في عصمة المال والدم . وذكر أنه نص الحديث ، وأن حديث طارق أفاد أن هذه الجملة بخصوصها لا بد منها ، ولم يتعرض لنفي دلالة كلمة الإخلاص عليها ، ولا في كلامه ما يفهم منه ذلك . بل فيه ما يؤيده .
ويقال لهذا : إن رجعت عن دعواك الأولى وأقررت أن الكفر بما يعبد من دون الله لا بد منه في العصمة ، فما هذا الاعتراض والطعن والذم لمن اشترطه وقال به ؟ .(175/141)
وما أحسن قوله تعالى : { والسماء ذات الحبك . إنكم لفي قول مختلف . يؤفك عنه من أفك . قتل الخراصون . الذين هم غمرة ساهون } فنزل هذه الآيات وأمثالها على هذا المعترض وأشباهه تجد فيها من وصفهم وعيبهم وذمهم بالاختلاف وتدافع الأقوال ونفي العلم واليقين . وأنه لم يحصل لهم إلا مجرد خرص وحدس ، ليس من العلم في شئ وأنهم في غمرة السهو والجهل ، وعدم الإيمان ، فمتي تتفق أقوالهم ؟ وتسلم عقولهم وتعلم قلوبهم ؟ وتنشرح صدورهم لآيات الحق وداعية ؟ .
فيالك من آيات حق لو اهتدي
*
بهن مريد الحق كن هواديا
ولكن على تلك القلوب أكنه
*
فليست وإن أصغت تجيب المناديا
...
... ومن تناقضه وتدافع أقواله ، قوله : " ولو كان فقيها لعلم أن هذا كما لو شرط في عقد ما يقتضيه العقد زيادة تحقيق " .
فإن هذا يهدم ما قبله إن كانت كلمة الإخلاص تقتضي هذا وتدل على أن الكفر بما يعبد من دون الله لا بد منه ، فما هذه الخصومة ؟ وكيف تقول فيما قبل : إن مخالفته للحديث أوضح من الشمس ، وأنه حمله مالا يحتمله عقلا ولا شرعا ولا لغة ؟ فما هذا التناقص ؟ تذكر المخالفة وتزعم أنها واضحة ، وأن الحديث ما دل على ما قاله الخصم ثم ترجع وتقول : هذا كما لو شرط في عقد ما يقتضيه العقد زيادة تحقيق ؟ .
فتبا لك آخر الدهر . أين الفقه الذي تدعيه ؟ لو صحت العقول لعدك السامع لهذا من صنف المعتوهين ، ومن أهل الهذيان لا من أهل الفقه والبيان .
وإذا دلت عليها الجملة الأولى فالمعني حيئنذ واحد ، والشيخ ما نفى دلالة الأولي على المعنى المراد . وإنما قرر أن الجملة الثانية فيها مزيد بيان وتوضيح يستفيده الذكي والبليد ، والضعيف والشديد . وهذا محض الفقه ، ومن أنكره فهو الجاهل بلغة العرب واصطلاح الشرع ، المحرف للكلم عن مواضعه المصادم للأحاديث النبوية بالحرفة اليهودية .(175/142)
وكلامه ومسبته للشيخ عنوان على علم الشيخ وفضلة ومخالفة عقلة لعقلة ولو أثنى عليه هذا الملحد شك بعض الناس في فضل الشيخ وقال : أي جامعة بينهما ؟ كما أن سفهاء الجاهلية وسقطهم بينهم وبين الرسل والصديقين أشد منافرة وأعظم مباينة وبين المؤمنين والمنافقين كذلك . قال تعالى : { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } ووصفهم بالاستهزاء بأوليائه وعبادة ، ثم قال : { الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون } وكذلك هذا الرجل صرح بالاستهزاء بتوحيد الله وبمن قاله . ووصفه بدقل العقل والجهل .
فسبحان من اقتضت حكمته وجود ورثة وأتباع لأعدائه وأعداء رسله كما اقتضت وجود أوليائه وأتباع رسله ، ومضت إرادته تعالى ومشيئته بوجود الضدين واجتماع الجنسين إلى أن يأتي أمر الله وهم في خصومة يختصمون في ربهم ، وسيحكم بينهم بعدله ويزيد أولياءه من رحمته وفضله .
وأما قوله : " فأبو جهل حينئذ ونادية أعلم منه بلا إله إلا الله " .
أقول جوابه : أن من تفكر في قوله تعالى : { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين . إنا كفيناك المستهزئين . الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون . ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون . فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين . واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } لم يبق في صدره حرج ولا ضيق من سفاهة الجاهلين واستهزاء المستهزئين ، وإلحاد الضالين .(175/143)
والله سبحانه يعلم من الذي أبو جهل وناديه أعلم منه بلا إله إلا الله أهو من يدعو الناس إلى عبادة الله وإسلام الوجوه له ، وترك التعلق على الأنداد والشفعاء والشركاء ، أو هو من قام يدعو إلى عبادة الصالحين ، والجن والشياطين ، ويجهل من أنكر عليهم ويعاديه ، ويرميه بأنه كفر الأمة أهل لا إله إلا الله ، وأن من عبد عليا والحسين والعباس وعبد القادر وأمثالهم هم خير أمه أخرجت للناس ، وهم الذين عمروا المساجد ، وهم وهم وهم ؟ .
وسيعلم هذا إذا انكشف الغطاء وآن الرحيل واللقاء ماذا جنى على نفسه ؟ وفي أي الموارد أوردها ؟ وأي المهالك ساقها إليه وأنزلها ؟ .
وفي الحديث ( يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر ) .
ومن قف على ما قالته الرافضة في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وأكبارهم وسادتهم كأبي بكر وعمر وعثمان لم يستغرب ما يجري من أهل المعاندة والفجور المعروفين بالقحة وشهادة الزور .
اللهم إنا فارقناهم في مرضاتك ، وعاديناهم لجلال ذاتك فحل بيننا وبين من أشرك بك وصد عن سبيلك وجحد توحيدك وعادي أولياءك .
اللهم إنا نتوسل إليك بتوحيد الذي أنكره المشركون ألا تجمع بيننا وبينهم في دار الهوان والشقاء اللهم إن عبدك ورسولك الصادق المصدوق قال فيما صح عنه : المرء من أحب ) .
اللهم إنا نشهدك ونشهد ملائكتك وأولي العلم من خلقك على محبتك ومحبة رسلك وأوليائك وعبادك الصالحين .
اللهم فاجعلنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
اللهم رحمتك نرجو ومغفرتك نأمل . فلا تخيب رجاءنا وحقق فيك آمالنا .
وما أحسن ما قال الشافعي رضي الله عنه : ما رأى الناس ابتلوا بشتم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك ثوابا عند انقطاع أعمالهم .
وأما قول المعترض : إن حديث طارق بعينه متضمن شهادة أن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ومن لوازمها .(175/144)
فيقال : ومن نفى ذلك ومن الذي رده ؟ وإذا تضمن الشهادة بالرسالة فتضمنه للكفر بما عبد من دون الله أولى . فما هذا الإنكار والجهل الجهار ؟ .
وأما حديث أسامة ففيه وفي أمثاله من الأحاديث التي دلت على الكف عمن قال لا إله إلا الله دلالة على أن الكفر بما يعبد من دون الله لابد منه وإنما اختلفت دلالة الألفاظ ، ومعانيها في حالة الإفراد والاقتران كما تقدم . وأيضا يقال لهذا : إن أنكرت دلالة " لا إله إلا الله " على الكفر بما يعبد من دون الله أبطلت كلامك الذي قبل هذا بأسطر ورجعت إلى بنائك بالهدم . وإن أثبتها وجعلت كلمة الإخلاص دالة عليه بطل اعتراضك على الشيخ . لأن حاصل تقريره وكلامه : أن هذا لابد منه في عصمة المال والدم . فلا ندري ما هذا الروغان ؟ ! .
جهد المغفل في الزمان مضيع
*
وإن ارتضى أستاذه وزمانه
كالثور في الدولاب يسعي وهو لا
*
يدري الطريق فلا يزال مكانه
وأما حديث أبي هريرة في الشفاعة وحديث عبادة وحديث عثمان فكلها دالة على وجوب الكفر بما عبد من دون الله إما تضمنا أو مطابقة . وهذا المعترض لا يعقلها وإن أوردها ، وكيف يعقلها من عادي أهلها وعابهم ، ونصر من خالفها ، ونقضها وردها ؟ قال تعالى : { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا } وقال تعالى : { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد الى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون } .
فصل(175/145)
وقال المعترض : ومن ذلك قوله في شبهة قال فيها : وأما الجواب المفصل فإن أعداء الله لهم اعتراضات وشبه كثيرة على دين الرسل ، يصدون بها الناس عنه ، منها قولهم : نحن لا نشرك بالله شيئا . بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له ، فضلا عن عبد القادر وغيره . ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عن الله وأطلب من الله تعالى بهم فجاوبه بما تقدم واقرأ عليهم ما ذكر الله في كتابه ، إلى أن ذكر قوله تعالى : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب } إلى أن قال : فإن قال الكفار يريدون منهم وإن شهد أن الله هو النافع الضار المدبر ، لا أريد إلا منه والصالحون ليس لهم من الأمر شيء ، ولكن أقصدهم أرجو الله بشفاعتهم .
فالجواب : إن هذا قول المشركين سواء بسواء ، فاقرأ عليه قوله تعالي : { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } انتهي كلامه .(175/146)
ثم قال المعترض : فجعل بكلامه هذا كما ترى التوسل بذات الصالحين والرسل عليهم الصلاة والسلام وطلبه جل وعلا بأوليائه من دين المشركين الشرك الأكبر المخرج من الملة ، وكفر به كما ترى صريحا من قوله ، فصار حينئذ كلامه عن الرد عليه مريحا . فإذا علمت أن أهل الغار الذين حديثهم في الصحيحين كنطق القرآن لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، وقد توسلوا الى الله تعالي بصالح أعمالهم فأنجهم الله تعالى بذلك ، وأزاح عنهم الصخرة بقدرته الكاملة التي خلق الصخرة بها وأوجدها وجبلها التي هي منه ، حتى خرجوا وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث السنن في الدعاء للقاصد للصلاة : ( أسألك بحق السائلين علبك وبحق ممشاي هذا ) وقد قال تعالى : { والله خلقكم وما تعملون } وقد قرن ذلك بلفظ واحد جل ذكره ، وتقرر عندك ، وتقرر عندك ، فهل ترى أعمال بني آدم أفضل عند الله تعالى من ذات سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - ؟ مع أن في حديث الأعمى الذي في السنن وصححه الترمذي من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه ورواه الطبراني والحاكم والبيهقي عن عثمان بن حنيف أنه علمه رجلا له عند عثمان بن عفان حاجة فتعسر قضاؤها في خلافته رضي الله عنه فقال الرجل : فتيسرت حين توسل إلى الله تعالي بنبيه - صلى الله عليه وسلم - فهل ترى الصحابة رضي الله عنهم يعلمون الناس الشرك الأصغر ، فضلا عن الأكبر كما يقوله هذا الرجل صريحا ؟ أو ترى سلف الأمة الصالح وعلماءها يروون وينقلون لأمته أفعال الشرك وأقواله ليعلموا به أو يجيزون ذلك أو روايته ؟ سبحان الله ما أعمى عين الهوى عن الهدى .(175/147)
والجواب أن يقال : أما تسميته مصنف شيخنا في رد ما احتج به المشركون " شبها " مع أنه استدل بالكتاب والسنة وتمسك بها فهذا من أعظم الجراءة على ما يوجب ردة قائله وكفره ، فإن من قال في القرآن ما دون هذا مما يشعر برده أو نقصه ، فهو مجمع على كفره وردته ، ولا خلاف بين أهل العلم والحق في ذلك .
وما ذكره الشيخ من أن أعداء الله لهم اعتراضات وشبه كثيرة على دين الرسل يصدون بها الناس فهو حق ، ومصداقه في كتاب الله قوله تعالى : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون . ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون } وقال تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } وقول الشيخ منها قوله : نحن لا نشرك بالله شيئا بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له ، فضلا عن عبد القادر وغيره ، ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله تعالى بهم فجاوبه بما تقدم . وأقرأ عليه ما ذكر الله في كتابه . فهذا الكلام الذي حكاه الشيخ عنهم قد حكاه شيخ الإسلام عن كثير ممن يدعي الإسلام ، ومن الصوفية . وذكر أنهم ظنوا أن الفناء في هذا التوحيد الذي هو توحيد الربوبية ، وهو الغاية التي ينتهي إليها السالكون . وقرر أن هذا لا يدخل به العبد في الإسلام ، بل لابد أن يكون الله وحده محبوبة الذي يألهه ويخضع له ، وينيب إليه ، ويسلم له وجهه ، ويتوكل عليه ، ويستغيث به ، ويفزع إليه فى حاجاته ومهماته ولا يكون له في عباداته شريك . وقرر أن هذا هو حقيقة الإسلام وهو مدلول ( لا إله ألا الله ) وهو الذي دعت إليه الرسل ، وصار النزاع والخصومة فيه . كما قال تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } فنفي سبحانه جعل آلهة(175/148)
يعبدهم الناس ، ويفزعون إليهم ، وأن الرسل كلهم نافون مبطلون لما ادعته المشركون من شرع اتخاذ الآلهة ، وجعلها أندادا . والمقصود بالنفي هو الجعل الديني الشرعي ، لا القضائي القدري الكوني . وأما الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المدبر ، فهذا قد أقر به المشركون كما ذكر الله ذلك عنهم في غير آية ، كما في سورة يونس ( 10: 18-31-36) والمؤمنون ( 23 : 78– 92) وسورة النمل (37 : 59 –66 ) والزمر (39 : 36-46 ) والزخرف (43 : 9- 16) وغيرها من سور القرآن : وقول من يدعو الصالحين : أنا مذنب ، والصالحون لهم جاه ، هو بعينه قول المشركين . كما ذكره غير واحد ، أنهم عللوا إباحة شركهم واستحسانه : بأن العبد المذنب لا يصلح لمخاطبة الرب والدخول عليه إلا بواسطة من العبد الصالح المقرب ، وأنه إذا علق أمله بالصالحين أو الملائكة فاض عليه من الإفاضات التي تحصل لهم ، ومثلوا ذلك بانعكاس الشعاع من الأجسام الصقيلة ، كما ذكره الفارابي وغيرهم دعاة المشركين .
ومثل هذا يجاب عليه بما ذكره شيخنا رحمه الله من أن هذا بعينه هو قصد المشركين ومرادهم ، وهو الذي دعاهم إلى عبادة الأنبياء والصالحين والتعلق عليهم لأجل الجاه والشفاعة . قال تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون } وأخبر تعالى عن قصدهم ومقالتهم ، وأنكرها عليهم ، وأخبر أنه لا يعلم وجود شفيع يشفع عنده لا في السماوات ولا في الأرض ، وما لا يعلمه فهو مستحيل الوجود ، فنزه نفسه عن هذا الشرك المنافي للعبودية التي هي الحكمة في إيجاد البرية ، وقال تعالى : { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } وقال تعالى : { فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون } .(175/149)
إذا ظهر هذا وعرفت أن كلام الشيخ متجه ، لا غبار عليه .
فاعلم أن قول هذا الملحد : فجعل بكلامه هذا كما ترى التوسل بذات الصالحين والرسل عليهم الصلاة والسلام وطلبه جل وعلا بأوليائه من دين المشركين الشرك الأكبر المخرج من الملة وكفر به كما ترى صريحا من قوله : هو تمويه وتلبيس ، أدخل فيه طلبه جل وعلا بأوليائه ليوهم الجهال ومن لا يعلم عندهم وبحقيقة الحال .
وموضوع الكلام إن مراد الشيخ مسألة التوسل في دعاء الله بجاه الصالحين .وهذه مسألة أخرى ، فخلطها ليروج باطله . فقبحا قبحا ، وسحقا سحقا لمن ورث اليهود وحرف الكلم عن مواضعه .
وكلام الشيخ صريح فيمن دعا مع الله إلها آخر في حاجاته وملماته ، وقصده بعبادته فيما لا يقدر عليه إلا الله ، كحال من عبد عبدالقادر وأحمد البدوي أو العيدروس أو عليا والحسين ، وقول هذا المشرك : وأطلب من الله بهم ، أي بواسطتهم : بمعنى أن هذا المشرك يدعوهم ويتوجه إليهم بالعبادات ، وهم يدعون الله له . كما أخبر الله عن المشركين بقوله : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } .
فظن المعترض أن الشيخ أراد مسألة الله بجاه الصالحين ، فاعترض على ذلك وآفته الفهم السقيم ، والمعتقد الذميم . فنعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
ومع هذا الصنيع الفظيع والشرك الجلي يقول : أنا لا أشرك بالله شيئا . وأشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله ، ظنا منه أن ذلك هو الإسلام فقط وأنه ينجو من الشرك ، وما رتب عليه .
فكشف الشيخ شبهته وأدحض حجته بما تقدم من الآيات { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } .(175/150)
وأما مسألة الله تعالى بحق أنبيائه وأوليائه أو بجاههم ، بأن يقول السائل : اللهم إني أسألك بحق أنبيائك ، أو بجاه أوليائك ، أو نحو هذا فليس الكلام فيه . ولم يقل الشيخ أنه شرك ، ولا له ذكر في كلامه وحكمه عند أهل العلم معروف وقد نص على المنع منه جمهور أهل العلم ، بل ذكر الشيخ في رده على ابن البكري أنه لا يعلم قائلاً بجوازه إلا ابن عبد السلام في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يجزم بذلك ، بل علق القول به على ثبوت حديث الأعمى وصحته ، وفيه من لا يحتج به عند أهل الحديث . وعلى تسليم صحته فليس الكلام فيه . وفي المثل : أريها السهى وتريني القمر .
وأما استدلاله بحديث أهل الغار على مسألته التي لبس بها فهو من نوادر جهله التي يضحك منها العقلاء ، أين التوسل بالأعمال الصالحة ، من البر والعفة والأمانة ، من التوسل بذوات المخلوقين ؟ .
نزلوا بمكة في قبائل هاشم
*
ونزلت بالبيداء أبعد منزل
... ...
قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } والوسيلة : ما شرعه الله ورضيه من الأعمال والأقوال الصالحة . وأين في شرعه أن يسأل العبد ربه بعبد من عبيده ، مخلوق من خلقه ؟ .
ومن قاس هذا على ما صح من التوسل بالأعمال الصالحة فقد أبعد المرمى ، ولم يعرف مناط الأحكام .
والتوسل صار مشتركاً في عرف كثير . فبعض الناس يطلقه على قصد الصالحين ودعائهم وعبادتهم مع الله ، وهذا هو المراد بالتوسل في عرف عباد القبور وأنصارهم ، وهو عند الله ورسوله وعند أولي العلم من خلقه : الشرك الأكبر والكفر البواح . والأسماء لا تغير الحقائق .
ويطلق أيضاً على مسألة الله بجاه الصالحين والأنبياء ، وحقهم على الله .(175/151)
ويطلق أيضاً في عرف السنة والقرآن وعرف أهل العلم بالله ودينه ، على التوسل والتقرب إلى الله بما شرعه : من الإيمان به وتوحيده وتصديق رسله ، وفعل ما شرعه من الأعمال الصالحة التي يحبها الرب ويرضاها . كما توسل أهل الغار الثلاثة بالبر والعفة وأداء الأمانة .
فإذا أطلق التوسل في كتاب الله وسنة رسوله وكلام أهل العلم من خلقه فهذا هو المراد ، لا ما اصطلح عليه المشركون الجاهلون بحدود ما أنزل الله على رسوله . فلبس هذا المعترض بكلمة مشتركة ، ترويجاً لباطله .
وأما ما ورد في السنن : ( بحق السائلين عليك وبحق ممشى الذاهب إلى المسجد) ونحو ذلك . فالله سبحانه وتعالى جعل على نفسه حقاً تفضلاً منه وإحسانا إلى عباده ، فهو توسل إليه بوعده وإحسانه ، وما جعله لعباده المؤمنين على نفسه . فليس من هذا الباب ، أعني باب مسألة الله بخلقه ، وقد منع ذلك فقهاء الحنفية كما حدثني به محمد بن محمود الجزائري الحنفي رحمه الله تعالى بداره بالإسكندرية وذكر أنهم قالوا : لا حق لمخلوق على الخالق .
ويشهد لهذا ما يروى أن داود قال : ( اللهم إني أسألك بحق آبائي عليك ، فأوحى الله إليه : أي حق لآبائك علي ؟ ) أو نحو هذا . والحق المشار إليه بالنفي هنا غير ما تقدم إثباته ، فإن المثبت بمعنى الوعد الصادق ، وما جعله الله للماشي إلى الصلاة ، وللسائلين من الإجابة والإثابة ، فضلاً منه وإحساناً . والمنفي هنا هو الحق الثابت بالمعاوضة والمقابلة على الإيمان والأعمال الصالحة . فالأول يعود ويرجع إلى التوسل بصفاته الفعلية والذاتية . والثاني يرجع إلى التوسل بذوات المخلوقين ، فتأمله فإنه نفيس جداً .(175/152)
وأما استدلاله بقوله تعالى : { والله خلقكم وما تعملون } واستدلال هذا الغبي بعطف الأعمال على ما قبله فهو يريد أن الأعمال والمخلوق مستويان في التوسل بهما ، بدليل العطف فإن كان العطف يفيد ذلك فقد عطف تعالى ذكره الملائكة والنبيين وأولي العلم من خلقه على اسمه المقدس .
فإن قلت : يدعون كما يدعى ، لأنه قرن ذلك بلفظ واحد ، فقد أتيت بكفر لم تسبق إليه ويستحي من إبدائه كفار قريش وأمثالهم .
فنعوذ بالله من هذا الفهم الضال ، والإلحاد في كتاب الله ، والكذب على الله .
وفي الحديث : ( من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ) وهذا الفهم الضال يستحي العاقل من حكايته ، لولا الحاجة إلى رده . وفي قوله " وقد قرن ذلك " من سوء التعبير ما يطلعك على جهل هذا المتكلم .
والعطف إنما يقتضي التشريك في الفاعلية ، أو المفعولية والمجاورة ونحو ذلك . وأما اشتراك المتعاطفين في جميع الأحكام الخارجة عما سيق له الكلام فهذا إنما يقوله من هو أضل من الأنعام ، ولو طردناه لاتسع الخرق في المكفرات ، وخرجنا عن الموضوعات والمعقولات . إلى جهالات وعمليات لا يمكن حصرها .
وأما قوله : فهل ترى أعمال بني آدم أفضل عند الله من ذات سيد البشر .
فهذا الكلام كلام جاهل ، فإن ذات سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - داخلة في عموم بني آدم وفضلها لما خصة به من الرسالة والإيمان الكامل الذي لا أكمل منه وغير ذلك من المواهب والتوفيق للأعمال الصالحة .
ثم التوسل بذاته يتوقف على المشروع ، كالإيمان به ونصرته ومتابعته . فهذا هو الوسيلة العظمى . قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } .(175/153)
وأما سؤال الله به وترك متابعته ، والخروج عن شريعته . فهذا حال المعرضين عن الإيمان به وبما جاء به ، والعبادات مبناها على الاتباع . ولذلك صار عمدة من أجازه حديث الأعمى ، ولم يتجاوزه إلى غيره من الأقيسة والخوض بلا علم . وحديث الأعمى قد تكلم فيه أهل الحديث ولم يصححوه كما تقدم . لأن فيه من لا يحتج به . ولذلك توقف ابن عبدالسلام في صحته وقال : إن صح الحديث فيجوز ذلك بالنبي خاصة . وغيره يقول : إن صح الحديث فليس فيه ما ذهب إليه من أجاز سؤال الله بجاه خلقه وبحقهم لأن نص الحديث يفيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له وسأله الله أن يرد بصره ، فهذا توسل بدعائه كما في حديث عمر : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا . وإنا نتوسل إليك بعم نبيك .
فدعاء الأنبياء وأقاربهم المؤمنين وأهل الفضل والصلاح من أعظم الوسائل إلى الله ، وما المانع أن يكون هذا هو المراد .
وعلى كل تقدير فالنزاع ليس في هذا وكلام شيخنا ليس فيه . وإنما أورده المعترض لبساً ومغالطة .
والمعترض ظن أن قول شيخنا فيما حكاه من شبه المشرك وأنه يقول : وأطلب من الله بهم ، أي بجاههم وحقهم . وليس كذلك ، لأن سياق الكلام وموضوعه فيمن يدعوهم مع الله ويجعلهم وسائط بينه وبين ربه في شأنه وأمره وحاجاته وملماته . فالمعنى حينئذ أطلب من الله بواسطتهم ، بمعنى أنه يدعوهم لتحصيل مراده ومطلوبة من الله . فالغبي لم يفهم أو لبس وموّه كما تقدم .
وأما ما فعله عثمان بن حنيف من تعليم هذا الحديث فليس فيه حجة لهذا المبطل ، والشيخ لم يقل : إن هذا النوع شرك لا أصغر ولا أكبر ، حتى يعترض بأن الصحابة علموه الناس .(175/154)
وأما احتجاجه بما عزاه للطبراني في الكبير من أنه - صلى الله عليه وسلم - : ( دخل قبر فاطمة بنت أسد ودعا لها فقال : بحق نبيك والأنبياء الذين قبلي ) إلى آخر الحديث فيقال في لهذا : كم في الطبراني من حديث يخالف هذا ويدل على وجوب التوسل بأسماء الله وصفاته ، وإنابة الوجوه إليه ؟ فما أعمى عينك عنها ؟ هل هناك شيء أعماها سوى الجهل والهوى ؟ .
وقد تكلم في هذا الحديث غير واحد .
وقال شيخ الإسلام : قد بالغت في البحث والاستقصاء فما وجدت أحداً قال بجوازه إلا ابن عبد السلام في حق نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام .
أترى هذا الحديث خفي على علماء الأمة ولم يعلموا ما دل عليه ؟ ثم لو سلمنا صحته أو حسنه ففيه ما مر في حديث الأعمى أن المراد : بدعاء نبيك إلى آخره ، لا بذوات أنبيائك ، فأي وسيلة بذوات الأنبياء لمن عصى أمرهم وخرج عما جاءوا به من التوحيد والشرع .
وفي الحديث : ( يا صفية عمة رسول الله ، ويا فاطمة بنت محمد اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً ) وقال تعالى : { وضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين } .
قال شيخ الإسلام : فإذا قال الداعي : أسألك بحق فلان وفلان ، لم يدع له ، وهو لم يسأله باتباعه لذلك الشخص ، أو محبته وطاعته ، بل بنفس ذاته وما جعله له ربه من الكرامة : لم يكن قد سأله بسبب يوجب المطلوب .
وأما استدلاله على جواز ذلك بما ذكر أبو الفرج في كتاب ( الوفا ) من قول عائشة رضي الله عنها : انظروا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - واجعلوا منه كوة إلى السماء ، حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف . ففعلوا فمطروا . إلى آخره .
فالاستدلال بهذا من نوادر جهل المعترض .
وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا لم يثبت .(175/155)
وقال الحافظ المزى في الكلام على أوس بن عبد الله الربعي أبو الجوزاء البصري : قال البخاري : في إسناده نظر ويختلفون فيه . قال الحافظ المزى : وقول البخاري في إسناده نظر ويختلفون فيه إنما قاله عقب حديث رواه له في التاريخ من رواية عمرو بن مالك النكري ، والنكري ضعيف عنده . وقال ابن عدي : حدث عنه عمرو بن مالك قدر عشرة أحاديث غير محفوظة ، وأبو الجوزاء روى عن الصحابة ، وأرجو أنه لا بأس به ولا يصح روايته عنهم أنه سمع منهم وقول البخاري في إسناده نظر ، يريد أنه لم يسمع منهم .
قلت : فعمرو بن مالك النكري قد ضعفه البخاري ولم يذكر الحافظ المزى أحداً وثقه . وقد انفرد برواية هذا الحديث ، فلذلك توقف فيه البخاري ونظر فيه وجزم بضعفه . ولو سلم هذا الحديث فيه حجة للمبطل ، لما تقدم من أنه أثبت أن دانيال النبي عليه السلام وجد على سرير في بيت مال الهرمزان ، وأخبر الفرس أنهم يستسقون به فيسقون ، مع أنهم عباد نيران ليسوا بأهل كتاب ، وبركة نبينا - صلى الله عليه وسلم - أعظم مما ذكر ، وأجل مما وصف . لكن لا دليل فيه على أنه يدعى ويقصد للاستسقاء ولا لغيره بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، وقد كان جسد دانيال النبي عليه السلام عند أهل تستر على سرير في بيت مال الهرمزان وكان عنده مصحفه ، وكان إذا قحطوا أخرجوه فأمطروا ، فكتب عامل عمر إليه يخبره بذلك فأمره أن يحفر بضعة عشر قبراً ويدفن ليلاً في إحداها ليعفى أثره ويخفى خبره . والقصة مشهورة ذكرها ابن اسحق في مغازيه .
وقد خاف عمر من أن يشرك به ويجعل ندا لله ، كما جعل عيسى وأمه ، فاجتهدوا في إخفاء قبره وعدم إظهاره .(175/156)
فهذا هو فعل المهاجرين والأنصار الذين هم من أعلم الناس بحقه وأعظمهم توقيراً له ، وليس في إنزال المطر إذا كشفت أجساد الأنبياء أو قبورهم ما يستدل به على جواز التوسل الشركي بهم . فإن الأمر الشرعي والعبادات الدينية توقيفية لا يجوز إحداثها نظراً إلى الأسباب القدرية الكونية فإن أسباب الكائنات لا يحصيها إلا الله أعياناً وأنواعاً ، وليس كل سبب منها دينياً شرعياً محمدياً عليه رسم المدينة .
هذا وما يحصل ببركته - صلى الله عليه وسلم - أضعاف ما ذكر ، ولكن الشأن كل الشأن في السير على منهاجه ، والأخذ بأمره ، والانتهاء عن زجره ونهيه . وقد حمى حِمى التوحيد وسدّ طرائق الشرك ووسائله ، حتى قال للوفد الذين قالوا له : أنت سيدنا وابن سيدنا خيرنا وابن خيرنا . ( السيد الله تعالى . قولوا بقولكم ، أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان . إنما أنا عبد الله ورسوله ) هذا وقد قال في مقام الأخبار والأعلام : ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) .
وأما قوله : وهل هذا إلا توسل منهم بالمصطفى - صلى الله عليه وسلم - ؟ إلى آخر عباراته .
فيقال : أما التوسل بذاته الشريفة - صلى الله عليه وسلم - فليس من محل النزاع ، ولا يدل على مشروعية سؤال الله بحقه أو بحق غيره من الأنبياء ، وقد يحصل بدعائهم - صلى الله عليه وسلم - أو بذاته ما لا يحصل بالدعاء به ، والقياس هنا لا يسوغ ، وأما كون الدال على ذلك أم المؤمنين ففيه نظر ظاهر ، والقبة التي فيها الكوة إنما بنيت في ولاية السلطان قلاوون من سلاطين مصر في القرن السادس ، ولعل المعترض أراد ذكر ما وضع في سقف بيته الشريف - صلى الله عليه وسلم - وقد مر ما فيه .(175/157)
قال المعترض : وليس المراد في هذا تقرير جوازه أو عدمه ، وإنما الغرض بيان خطأ هذا الرجل بتكفيره الأمة القائمة الظاهرة القاهرة لعدوهم بما لا حاصل تحته ، غايته أن يكون جائزاً أو مستحباً . قد فعله السلف والخلف ، ليس بكفر كما يزعم هذا . بل ولا محذور فيه ، ولو لم يكن مندوباً لما أرشد عثمان بن حنيف رضي الله عنه إليه بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فيقال في جوابه : الله أكبر ، ما أعظم ما تجارى بهذا الهوى إلى أن بلغ غايته القصوى في الكذب والتمويه ، ويحه أين تكفير الأمة القائمة الظاهرة في كلام شيخنا رحمه الله ؟ وأين التكفير بسؤال الله بحق أوليائه ؟ هل هو إلا شيء اختلقه وزوّره ولفقه . ثم أخذ يرده وينسبه إلى الشيخ ويبهته بأكاذيبه وزوره ليصد عن سبيل الله ، ويلبس على الجهال . قال تعالى عن اليهود : { وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون . لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون } .
وقد جرى للرافضة والجهمية والمعطلة من هذا النوع شيء كثير ، يبهتون به أهل السنة والجماعة المثبتين لصفات الله ونعوت جلاله ، وقد أخزاهم الله وكبتهم ، وكشف لعباده المؤمنين زورهم وبهتهم : { يريدون أن يُطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون . هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } .
وقد عرف كل أحد حتى العذارى في خدورهن أن شيخنا رحمه الله إنما يريد عباد القبور الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى ، ويسألونهم قضاء حاجاتهم ، وتفريج كرباتهم ويفزعون إليهم في الشدائد والمهمات ، وهذا المفتري يجعلهم الأمة الظاهرة القائمة .
فويل لمن نصر هذا الشرك وأثني على أهله ، وضلل من أنكر عليهم أو كفرهم كما فعل هذا الضال والله سبحانه هو الموعد ، وإليه المنتهى .(175/158)
وأما قوله : غايته أن يكون جائزا أو مستحبا قد فعله السلف والخلف .
فيقال لهذا الملحد : أين عن السلف والخلف فعل عبادة القبور ودعائها والاستغاثه بها وندائها بالحوائج ، وكتب الرقاع بذلك ودسها في القبور ؟ أوجدنا حرفا عن أحد من السلف والخلف ( خواصهم وعوامهم ) يحقق ما زعمت ، ويدل عليه . فإن لم تفعل ـ ولن تفعل ـ فهذى نصوصهم ظاهرة مشتهرة في المنع من ذلك والتغليظ فيه ، وتكفير فاعله .
وقد مر من النصوص ما يثلج الصدور ويدرأ في نحور أهل الكذب والزور .
وقد نص ابن القيم في إغاثته على أن أصل شرك العالم هو دعاء الموتى والاستغاثة بهم ، وسيأتي لهذا مزيد بسط .
وأما قوله : وليس بكفر ولا محذور فيه ، ولو لم يكن مندوباً لما أرشد عثمان بن حنيف إليه بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - .(175/159)
فصريح هذا الكلام من المعترض أن ما ذكره الشيخ من دعاء الموتى والغائبين وجعلهم وسائط بين الله وبين خلقة لا محذور فيه ، وليس بشرك ، وأنه مندوب . فنعوذ بالله من الضلال بعد الهدى ، والكفر بعد الإيمان . إن لم يكن هذا هو الشرك الأكبر فليس في الأرض شرك ، بل هذا دين الصابئة والمشركين ، فمن أعرض عن الرسل ولم يؤمن بآيات ربه وأقوالهم وأوضاعهم واصطلاحاتهم في عبادة هذه الوسائط ودعائها وجعل البيوت والسدنه والهياكل لها معروف مشهور لا يخفى . قال تعالى عن خليله إبراهيم : { ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين . إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون . قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين . قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين . قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين . قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين . وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين . فجعلهم جذاذا إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون . قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين . قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم . قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون . قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم . قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون . فرجعوا الى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون . ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون . قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم ولا يضركم . أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون } ونحو ذلك من الآيات الدالة على أن النزاع والخصومة بين الرسل وقومهم إنما هي في عبادة الله ، وترك عبادة ما سواه .
وأما توحيد الربوبية فأكثر الأمم قد أقرت به لله وحده .(175/160)
قال المعترض : وأكثر من هذا وأدهى وأمر ، تنزيله هذه الآيات السابقة على غير مواضعها . فبكلامه هذا يكون أهل الغار عنده من أعداء الله كفارا بذلك . وكذلك من قال : بحق السائلين عليك ، وما الفرق بين العمل الصالح والذات الصالحة وقد قرنهما الله تعالى في لفظ واحد ؟ حيث يقول { والله خلقكم وما تعملون } هذا كلامه بحروفه .
فيقال له : إنما الداهية الدهياء والمصيبة الصماء والجهالة العمياء ما أنت بصدده من الصد عن سبيل الله ومعارضة أهل العلم ورد ما استدلوا به من الآيات المحكمات فيما نزلت فيه من الشرك الظاهر والكفر البواح ، وأنت فعارضتهم بجهالة وضلالة وعمى عن معرفة السبيل وما يراد من المقالة ، وتعرضت لأمر لست من أكفائه { كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } هذا حاصله على أي حالة ، ما أنت ومعرفة الآيات ، وما أنت والخوض في تلك المقاصد والغايات ؟ وأنت أجهل من خط بالقلم وأفسد ، ويكفي العاقل من جهلك وضلاك قولك : وقد قرنهما في لفظ واحد ، حيث يقول { والله خلقكم وما تعملون } وقد تقدم أن قولك الضال ، وجهلك الواضح صريح في أن العطف يقتضي المشاركة في الخصائص والأحكام ، وقد تقدم أن إطلاق هذا والقول به كفر . لا يبقي من الإيمان شيئا ولا يذر . وجهل لم يقله أحد ممن سبق من أهل اللسان وغيرهم . أترى قوله تعالى : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } وقوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم } وقوله : { ولكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون } وأمثال هذه الآيات تقتضي المشاركة في خصائص الإلهية والربوبية والذات والصفات .
وهل أفادت غير حصول ما سيقت له من الصلاة والشهادة ؟ وقولك " وقد تقدم هذا " لو عرف هذا قدر نفسه ، لعلم أن الأنعام أهدى منه في العقل وحدسه .(175/161)
قال المعترض : هب أن بعض العلماء رحمهم الله تعالى منعه أو كرهه كأبي العباس وقد يكون له قصدا في ذلك حسنا ومع ذلك لم يكفر به ولم يفسق به كما يقوله هذا الرجل ، بل لم يكفر من سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبرة واستشفع به ، كما سنذكر قوله في ذلك بحروفه ، حتى إنه رحمه الله حاول الفرق بين ما جمعهما الله في لفظ واحد : الذات الصالحة والعمل الصالح . فلم يستطع على اخراج ذلك ببرهان بين ، بل لآثار والنظر والقياس الصحيح يعطي رفعة الذات على العمل ، والاعتبار بما عند الله من الكرامة والإكرام ومع ذلك قوله مع الجماعة أحب إلينا كما ذكرناه ونذكره عنه .
والجواب أن يقال : المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور ، أين أنت ومعرفة الآثار والنظر والقياس ، وقد التبس عليك الإيمان بالشرك وخفي عليك أشد خفاء والتباس ، ولفظك من الأدلة على جهلك ، وقد أبقيناه برمته وما فيه من اللحن في اسم كان وتثنية ضمير الموصول المفرد وتعدية الاستطاعة بعلى وغير ذلك مما يدل على جهلك وإفلاسك :
لا يعرف الشوق إلا من يكابده
*
ولا الصبابة إلا من يعانيها
والشيخ لم يكفر به ولم يفسق ، وقد خاب من افتري .
وأما قولك : أن الشيخ تقي الدين لم يكفر من سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبره واستشفع به فسيأتيك جوابه ، وبيان جهلك وخطأك في فهم كلام الشيخ عند ذكر ما نقلته عنه .(175/162)
وأما كون أبي العباس ابن تيمية حاول الفرق بين ما جمعه الله في لفظ واحد . فهذا كلام خب لئيم ، ما عرف أين الصراط المستقيم ، والشيخ أعقل من أن يفرق بين ما جمعه الله . ثم أين الجمع ؟ إنما هو العطف ، والشيخ أعلم من أن يفهم كفهم الضالين وقد نزهه الله عن ذلك ولم يقل أحد من أهل العلم والإيمان أن الله جمع بينهما ولا قاس الذات على الإيمان ، والعمل الصالح بل ولا فضل أحد ذاتا مجردة على الإيمان والرسالة ، والعمل الصالح . وهل يتصور وجود ذات رفعت وفضلت على الإيمان والأعمال بلا عمل ولا إيمان ؟ هذا الكلام من قسم اللغو والهذيان ، تصان عن ذكره أسماع أهل الإيمان .
وقوله : ومع ذلك قوله مع الجماعة أحب إلينا ـ هذا تمويه ـ كأن هناك جماعة قالوا بتفضيل الذات على الأعمال ، والشيخ له قولان هذا ظاهر العبارة ، وكل هذا كذب وبهت وتمويه صرف ، لا قال هذا جماعة ولا جرى نزاع فيه ، وأهل العقول بل والعوام منهم ينزهون عن هذا ، فكيف يقوله جماعة ويكون لأبي العباس قول معهم ؟ وهذا الضال يختار ويحب ويرجح افتراء وكذبا بهواه ، وقول السوء يزرى بأهله لا بورك في لسان أورد صاحبه هذه الموارد .
ثم قال المعترض : وقد رأيت لابن الجوزي في تبصرته في مجلس منها متوسلا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وفي كلام يحي الصرصري رحمه الله من ذلك ما لا يحصي ، وسماه أبو العباس حسان الأمة ، وأثنى عليه ولم ينكر عليه فكيف ينحلون قوله هذا الزائغ لأبي العباس حاشاه عن ذلك . فكيف وهو قد أثبت التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في منسكه الكبير .
والجواب أن يقال : ما تقدم ، وهو أن التوسل بهذا المعنى ما صدر من شيخنا فيه في هذا الموضع بحث البتة ولا تعرض ، وإنما هذا الرجل كذب وبهت ، ثم أطال الرد .
إذا عرفت هذا فقد مر فيها كتبناه على هذه المسألة ما يكفي المنصف .(175/163)
وأما كون الشيخ أبي العباس أثبته في مسكنه فهذا النقل ليس بصحيح وقد عرف حال هذا الرجل في التهور في الكذب والخيانة ، والمبالغة في التحريف ، فكيف ينقل عنه ويؤخذ قوله ؟ وقد قال الشيخ في مسكنة المعروف الذي هو آخر ما صنف في المناسك " قد صنفت منسكا في أول عمري على ما ذكره بعض الفقهاء ثم تبين لي خلافه " وذكر أنه صنف هذا الأخير معتمدا عليه راجعا إليه . فليس بحمد الله هناك للمبطل حجة ولا دليل .
وأما ما ذكره عن ابن الجوزي وعن الصرصري فقد تقدم مرارا أن التوسل على ما ذكر ليس من محل النزاع ، وإنما النزاع في توسل المشركين الذي هو دعاء غير الله والتسوية برب العالمين في خالص حقه وما يجب له على خلقة ، والمعترض جمع بين الجهل بالحقائق والمغالطة عند المحاقة والمنازعة .
نعم قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - : وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء لكنه موجود في كلام بعض الناس ، مثل الشيخ يحي الصرصري ومحمد بن النعمان وكتاب المستغيثين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - باليقظة والمنام ، وهؤلاء لهم صلاح ودين لكن ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام ، الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام ومعرفة الحلال والحرام ، وليس لهم دليل شرعي ولا نقل عن عالم مرضي بل جروا على عادة كما جرت عادة كثير من الناس بأن يستغيث بشيخه في الشدائد ، ويدعوه ـ إلى أن قال : ولهذا لما نُبِّه من نبه من فضلائهم تنبهوا وعلموا أن ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام بل هو مشابهة لعباد الأصنام ونحن نعلم بالإضطرار من دين الإسلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع لأمته أن يدعو أحدا من الأموات ، لا الأنبياء ولا غيرهم ، ولا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها . كما أنه لم شرع لأمته السجود لميت ، ولا الى ميت .(175/164)
قال المعترض : وقال في رده على ابن البكري في قوله : إن الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته ثابتة ثبوتها في حياته بأنه عند الله تعالى في قرب دائم لا ينقص جاهه قال أبو العباس عند ذلك : وهذا اللفظ صحيح لو كان معنى الاستغاثة الإقسام به والتوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - فإن ذاته بعد الموت لم تنقص بل هو في مزيد دائم ، بأبي هو وأمي ونفسي - صلى الله عليه وسلم - هذا عين كلامه .
والجواب أن يقال : إن الله تعالي لم يزل ينصر دينه ويعلي كلمته ، ويؤيد عباده المؤمنين ، ولو بإجراء ذلك على ألسن أعدائه ، من غير قصد منهم للحق ولا إدارة له ، وهذه العبارة تهدم ما قبلها . فإن أبا العباس نفى كلام ابن البكري في التسوية بين الإقسام به والتوسل بذاته ، ورد على ابن البكري بأن هذا اللفظ لا يستقيم ولا يصح إلا إذا كان معنى الإقسام هو التوسل بذاته . ففرق الشيخ بين الإقسام والتوسل بالذات ، وأخبر أنهما لا يستويان في الحكم .
والمعترض حرف عبارة الشيخ وأسقط الواو العاطفة للإقسام على ما قبله ، و جعله هو خبر كان ، وزاد واوا بعده تفيد عطف لتوسل بالذات على الإقسام وهذا تحريف غريب غير المعنى ، وجعل الإقسام الذي هو من تتمة الإسم خبرا ومحط فائدة ، وعطف عليه التوسل فنعوذ بالله من تحريف الضالين ، وزيغ الزائغين .
إذا عرفت هذا عرفت أن كلام الشيخ يهدم قول المعترض : أن الشيخ أثبت التوسل .
وقوله : إنهم ينحلون قولهم هذا الزائغ لأبي العباس .
حاشاه من ذلك فقد ردت عبارة الشيخ عليه . وهدمت أصله ، لكن بعد تصحيحها وإزالة تحريفه . فالحمد الله على التوفيق والسداد .(175/165)
وأعجب من هذا : أنه زعم أن الإمام أحمد رحمه الله كتب ذلك للمروذي في منسكه . وهذه نصوص الإمام أحمد ، وهذا مذهبه المقرر ، وكلام الشيخ في نفي ذلك موجود متواتر ، وقد أفرد هذه المسألة بالتأليف في رده على ابن البكري وغيره . وكلامه متفق لا مختلف وحكى المنع عنها عن كافة الأئمة سوي ابن عبد السلام وسيأتي لهذا مزيد إن شاء الله تعالى .
فصل
قال المعترض : ومن قول هذا الرجل في موضع آخر من كلامه : قال : إعلم أرشدك الله أن من أنواع الشرك الأكبر ما قد يقع فيه بعض المصنفين الأولين على جهالة منه كقوله في البردة :
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
*
سواك عند حلول الحادث العمم
قال : وفي الهمزية من جنس هذا وهذا من الدعاء الذي هو العبادة التي لا تصلح إلا لله وحده انتهى مع كلام لا يؤبه له .(175/166)
وله كلام عليها غير هذا أشنع منه تركناه ولأتباعه كذلك ، وسنشير إلى شيء من قوله ، ويكفي في هذا قوله : من الشرك الأكبر ، وعند هذا الكلام محط الرحل ، فغائلته تنقص سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - والحط من رتبته . وغايته إبطال رحمه الله شفاعته بالكلية . فنقول الأول أن شرف الدين محمد بن سعيد البوصيري رحمه الله لم يقصد ما قصده هذا الرجل وليس هو بجهول عن عبادة الله ودعاء غيره من دونه الذي يكون شركا قد نهى الله عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - إذ ذاك لا يصلح إلا لله عز وجل ، إذ كل رسول يقول لقومه : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وقال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا إنا فاعبدون } وقال تعالى : { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } والآيات على الحض على توحيد الله والنهي عن الشرك لا تعد ولا تحصر ، وحاشا لعالم من علماء الأمة المعتبرين أن يقول الشرك الأكبر أو يقره ، لأنه رحمه الله من العلماء الأمناء ، ولو قاله أحد لأنكر عليه . وإنما هو رحمه الله تعالى يشير إلى يوم القيامة لاستحضار ذلك اليوم العظيم الذي تفزع إليه الخلائق للشفاعة العظمى لفصل القضاء حين تدنى الشمس منهم ، وتزفر النار ، ويغضي الجبار ، ويجاء بالنار تقاد بسبعين الف زمام مع كل زمام سبعون الف ملك ، وتجثو الخلائق على الركب ، وهو الحادث العمم الذي يعم جميع الخلائق ، بحيث لم يبق نبي ولا ملك إلا جثا على ركبته يقول : نفسي نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي ، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - يقول : أمتي أمتي .(175/167)
والجواب أن يقال : قول الشيخ : إن أشياء من أنواع الشرك الأكبر قد يقع فيها بعض المصنفين الأولين : قول صحيح يدل عليه الكتاب والسنة ووالواقع والاستقراء . وقد خفى على قوم موسى عليه السلام وعلى أبي واقد الليثي وأصحابه ما طلبوه من أنبياء الله . فكيف لا يخفى أو لا يقع ممن لا نسبة بينه وبينهم ؟ قال تعالى عن قوم موسى : { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون } وقال أبو واقد الليثي وأصحابه للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات انواط . فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) فإذا وقع ذلك من أولئك الأخيار ورسلهم بين ظهرانيهم ، فكيف يستبعد أو ينكر وقوعه ممن هو دونهم في كل فضيلة وكل علم وكل دين ؟ بل يستحي العاقل من طلب المقابلة ، فكيف بالمماثلة والمقاربة ؟ وفي الحديث : ( اتقوا زلة العالم وفتنة العابد ) وعنه - صلى الله عليه وسلم - : ( أخوف ما أخاف على أمتي ثلاث : زلة العالم ، وجدال المنافق ، والأئمة المضلون ) وفيه أيضا : ( أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ) فإذا خافه - صلى الله عليه وسلم - على خيار أمته ، وأمر باتقائه ، فكيف يتسغرب وقوعه ، وينكر من الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون ؟ .
وقد تقدم ما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية من شعر ابن النعمان وغيرة من هذا الضرب وأنكره أشد الإنكار ، وأخبر أنه من أنواع الشرك ودعاء المخلوق بما لا يصلح إلا لله .(175/168)
قال رحمه الله في أثناء كلام له : ونحن نعلم بالضرورة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع لأمته أن يدعو أحدا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ، ولا غيرهم ، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها . كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك ، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور ، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن لها وقال : هذا أصل دين الإسلام . وكان بعض أكابر الشيوخ من أصحابنا يقول : هذا أعظم ما بينت لنا ، لعلمه أن هذا أصل دين الإسلام ، وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات ، ويسألونهم ويستجيرون بهم ، ويتضرعون إليهم ، وربما كان ما يفعلونه أعظم لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم فيدعون دعاء المضطرين ، راجين قضاء حاجاتهم بدعائه أو الدعاء عند قبره بخلاف عبادتهم لله تعالى فإنهم يفعلونها في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف ، حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف الضر . وقال بعض الشعراء :
يا خائفين من التتر
*
لوذوا بقبر أبي عمر
أو قال :
عوذوا بقبر أبي عمر
*
ينجيكموا من الضرر(175/169)
فقلت لهم : إن هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد . ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة ، لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله تعالى به ورسوله . فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين والاستغاثة بالله وأنهم لا يستغيثون إلا إياه لا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل . فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثه بربهم نصرهم على عدوهم نصرا عزيزا لم يتقدم نظيره . انتهى كلامه .(175/170)
وقول صاحب البردة أبلغ مما أنكره شيخ الإسلام ، فإن صريحه دعاء مضطر محتاج ذي فاقة وفقر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه ليس له ملجأ وملاذ ومفزع عند حلول الحادث العام العظيم سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وإذا حرم مجرد سؤاله مالا يقدر عليه إلا الله وسؤاله بعد مماته ما دون ذلك من الأسباب العادية فكيف بهذا الدعاء الذي هو من أبلغ الأدعية في إظهار الفقر والفاقة ، واستعطاف المسؤول بتوحيده وإفراده لهذا المطلوب العظيم ، والخطب الجسيم ؟ . وإذا كان الدعاء حرم لتضمنه التسوية بين الله وبين غيره في القصد والرجاء والذل والمحبة ، فكيف بما دل على ما هو أبلغ من ذلك مما ذكره في البردة والهمزية ونحوها . وفي حديث النعمان ابن بشير رضي الله عنه : ( الدعاء هو العبادة ) وحصر أحد الجزئين في الآخر يفيد ما قاله بعض الشراح من أن الدعاء لب العبادة وخالصها وركنها الأعظم وفي حديث أنس رضي الله عنه : ( الدعاء مخ العبادة )وبه يظهر معنى الحصر في حديث النعمان ، وفي الحديث : ( من لم يسأل الله يغضب عليه ) مفهومه أم من سأله رضى الله عليه ، وهل هذا الرضا وهذا الغضب إلا لحصول عبادة يحبها ويرضاها أو لفقدها الموجب لغضبه وسخطه . فإذا صرف ذلك لغير الله في الأمور العامة الكلية التي مصدرها عن قدرة كاملة ليست في قوى البشر ، وليست من جنس الأسباب العادية . فهذا عين الشرك .
قال أبو العباس ابن تيمية فيمن سأل الأموات ما لا يطلب إلا من الله كمغفرة الذنوب وهداية القلوب وإنزال لمطر : انه يستتاب فإن تاب وإلا قتل لأن هذا عين الشرك الذي نهت عنه الرسل ، ونزلت الكتب بتحريمه وتكفير فاعله . انتهى .(175/171)
وقد نفى الله عن غيره مالك الشفاعة ، ونفى فعلها بغير إذنه . وأن تكون فيمن لا يرضى قوله وعمله . وقد ذكر جل ذكره أنه المنفرد والمختص بملك ذلك اليوم ، وتمدح بذلك فى غير آية من كتابه ، وثبت من غير وجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن الله يقبض السماوات بيمينه ويقبض الأرض فيقول : أنا الملك ، أنا الديان ، أين ملوك الأرض ) وقال تعالى : { وما أدراك ما يوم الذين . ثم ما أدراك ما يوم الدين . يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يؤمئذ لله } وهذه نكرة في سياق النفي وهي عامة . وكذلك قوله تعالى : { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئاً } في موضعين من سورة البقرة ( آية 48 وآية 128) .
ولا ينافي هذا ما ورد من إثبات شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعة غيره لأن المراد بالنفي اختصاصه بالملك ، وعدم مشاركة أحد له تعالى في ملك ذلك اليوم ، وما ورد من حصول الشفاعة فهو عن أمره وأذنه ورضاه تعالى وتقدس . فالشافع عبد مأمور لا ملك له ولا يبتدئ بالشفاعة ، بل هو مدبر مأمور ، فكيف يطلب منه ما لا يملك ، وما لا يحصل إلا بأذن من ربه تبارك وتعالى ؟ وهذا هو المراد بالاستثناء في مثل قوله تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } فتعليقها على الإذن والرضى يراد به هذا المعنى الذي هو صرف القلوب إلى باريها وفاطرها ، وإسلام الوجوه له عكس ما يفهمه المشرك من أن الاستثناء يفيد طلب ذلك من غير الله ، وسؤال ذلك الغير هذا المطلوب العظيم .
وإذا كان الحال هكذا فمن سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا مما لا يطلب إلا من الله كمغفرة الذنوب وهداية القلوب ، ودخول الجنة والنجاة من النار وإنزال المطر ، والنصر على الأعداء ودفع السوء والردى ، ونحو ذلك مما يختص به الله تعالى ، ولا يشاركه فيه مشارك فقد أشرك بربه وجعل له ندا وشريكا في خالص حقه .(175/172)
ولا ريب أن هذا الدعاء الذي دعاه البوصيري واستغاث فيه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقتضي إثبات قدرة عامة وعلم عام ، وسمع محيط لا سيما إن كان من يدعو الصالحين ويسألهم جعل ذلك ديدنه في كل زمان ومكان وإن بعدت الديار وتناءت الأقطار وإن زعم أنه لم يثبت قدرة ولا علما ولا سمعا عاما محيطا لا يليق بالمخلوق . فهو مكابر ملبوس عليه ثم في ذلك من الخضوع والذل والمحبة والانابة ما هو من خالص العبادة ولبها فكيف جاز صرفه لغير الله ؟ .
إذا عرفت هذا فهذه الأبيات التي قالها صاحب البردة فيها من الغلو والإطراء والدعاء والالتجاء ما لا يليق ولا ينبغي صرفه لمخلوق نبي أو ملك ولو كان أفضل الأنبياء وأقربهم إلى الله نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأين قوله :
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
*
سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي
*
فضلا وإلا فقل : يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها
*
ومن علومك علم اللوح والقلم(175/173)
مما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من وجوب إسلام الوجوه له تعالى والإنابة إليه ، ووجوب اتخاذه تعالى وحده ملجأ ومفزعا ومعاذا وملاذا عند الشدائد والمهمات وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخوانه الأنبياء من قبله ما جاءوا كلهم إلا لتخليص هذا الحق لله وحده ، وابعاد كل شبهة يقيمها الشيطان حوله ، قال تعالى : { قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين } ففي هذه الآية أنهم يلجأون إليه ويفردونه بالدعاء إن أتاهم العذاب أو أتتهم الساعة ، واحتج بذلك على وجوب أفراده بالدعاء في حال الرخاء وفي جميع الحالات . فكيف ترى بمن أعد غير الله لشدته ، ولهول الساعة وكربها ؟ كما في أبيات البوصيري ، واذا اقترن بذلك نفي التعلق والرجاء والتوكل في ذلك عن غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأضاف المتكلم إلى هذا إثبات عموم العلم وإحاطته بالكليات والجزئيات ، وأن الدنيا والآخرة حصلتا وكانتا عن جوده وإحسانه ، بل بعض جوده . كما تدل عليه ( من ) الموضوعة فى اللغة العربية للتبعيض ، ومعلوم أن هذا يدخل فيه كل تدبير وتأثير وتقدير وتيسير . فأي فرد يبقى لله ؟ وأي شيء اختص به ؟ فافهم ما في هذه الأبيات من منافاة مقتضى الرسالة وصريح الآيات .
وإذا عرفت ذلك عرفت أن المعترض قصرت رتبته عن درجة العلم بأصل الإيمان ، وعن معرفة الحكمة في حلق الجن والإنس والسماوات والأرض وما فيهما ، فلذلك اعترض ، ورأى أن كلام الشيخ على هذه الأبيات شنع بشع فإنه تعاظم عد ذلك من الشرك الأكبر .
وأبلغ من هذا أنه يفهم من التوحيد وإخلاص الدعاء لله والنهي عن دعاء نبينا - صلى الله عليه وسلم - تنقصا له وحطا من رتبته وإبطالا لشفاعته بالكلية ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود .(175/174)
وهذا بعينه قول من غلا في المسيح وأمه أو غلا فى أحد من الأنبياء والملائكة وقد قال عمرو بن العاص وأصحابه للنجاشي لما قدموا عليه يريدون جعفر بن أبى طالب وأصحابه : إنهم يقولون في المسيح قولا عظيما ـ يعني عبد رسول ، ليس بإله ـ وكذلك قالت قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما دعاهم إلى توحيد الله قالوا : عبت ديننا وسببت آلهتنا . وكذا قال قوم نوح كما يدل عليه قوله جل ذكره : { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا } وقال تعالى : { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون . وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون . إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل } .
فالأمر بتوحيد الله وإخلاص الدعاء له والنهي عن دعاء الأنبياء والصالحين ليس بتنقص لهم ، بل هو الكمال والعز والسيادة ، وهل نال الأنبياء وغيرهم من الملائكة المقربين ما نالوه من المقامات التي يتقاصر عنها المتطاولون إلا بتجريد التوحيد وتحقيقه ومعرفة الله والعلم به ، والدعوة الى سبيله ، والبراءة مما نسبه إليه أعداؤه المشركون .
وأما صرف حق الله وما يجب له من الدعاء والعبادة إلى غيره فهذا محض التنقص لله ولعباده المخلصين ، ولهذا نزه الله تعالى نفسه عما يشركون في غير موضع من القرآن وكذلك في السنة .
وفيه أيضا تنقص بالأنبياء والصالحين ، إذ يظن من فعل ذلك أنهم يرضون به ، ويقرونه عليه ، وأنهم ما نهو عن هذا الجنس من الشرك وإنما جاءوا بتحريم الشرك في الربوبية ووجوب اعتقاد اختصاصه تعالى بالملك والتدبير كما صرح به كثير من عباد القبور ، وأنكروا توحيد العبادة غاية الإنكار ، وجعلوا معني كلمة الإخلاص يرجع إلى توحيد الربوبية فقط ، ومن نهاهم عن عبادة غير الله قابلوه بأشد الإنكار ، وقالوا : تنقصت المشايخ والكبار ، وهم قد تنقصوا الملك الحق العزيز الغفار .(175/175)
فما أشد غربة هذا الدين ، وما أقل من يعرفه من المدعين للعلم والمنتسبين إليه .
وأما إبطال الشفاعة : فالشفاعة التي يشير إليها هذا الرجل وإخوانه من المشركين قد نفاها الله تعالى وأبطلها فى كتابه العزيز فى غير موضع وأخبر تعالى أنه لا يعلم وجود شفيع يشفع هذه الشفاعة التي قصدها المشركون لا في السماوات ولا في الأرض ، وما لا يعلمه سبحانه فهو مستحيل الوجود .
والشفاعة المثبتة نوع آخر ، وجنس ثان لا يعقلها المشركون ، وما يعقلها إلا العالمون ، والإشارة إلى سببها ومقتضيها وموجبها جاء صريحا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك ؟ . قال : ( أسعد الناس بشفاعتي : من قال : لا إله إلا الله خالصاً من قلبه ) .
إذا عرفت هذا عرفت أن هذا المعترض أجنبي عن علوم أهل الإسلام لا يعقل منها شيئا . فلا جرم اعترض على شيخنا وصاح لما سمع بتجريد التوحيد . والحمد لله العزيز الحميد .
وأما قوله : أن البوصيري لم يقصد ما قصده شيخنا وأنه ليس بجهول فجوابه : أن البحث هنا في الألفاظ وما دلت عليه صريحا . وأما القصد والنية فليس هذا مبحثه . والسرائر إلى الله يحاسب العباد عليها بعمله وصريح اللفظ دال على ما قرره شيخنا .
وأما قوله : وليس بجهول عن عبادة الله تعالي ودعاء غيره من دونه الذي يكون شركا قد نهى الله عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - . إذ ذاك لا يصلح إلا الله .
فالجواب : إن العقلاء نصوا أن من الحمق المتناهي تكذيب العين وتصديق الظن والحدس . فكيف تقبل منك هذه الدعوى ونحن نرى قوله ونسمعه ؟ ويكفي الحس في إبطال دعواك أنه ليس بجهول ، وهل هذا الذي صدر منه إلا غاية الجهل ومنتهى الضلال ؟ .(175/176)
وأما كون الرسل يقولون لقومهم : اعبدوا الله ، والله يقول : { وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا } فنعم هذا حق وهو دين الرسل ، والنزاع بيننا وبينكم في التزامه والعمل به ، فكيف تحتج علينا بأن الله تعالى قال هذا وقد خالفتم مقتضاه ، وخرجتم عما دل عليه ، وكيف ننهاك عن دعاء غير الله وتحتج علينا بأنك تعلم أنه لا يدعى إلا الله ؟ هذا ولو عقلتم المعنى والمقصود من هذه الآيات وأنصفتم لاستراح الخصم . والآفة كل الآفة في مخالفة هذا ومناقضته ممن يتلوه ويؤمن بألفاظه ويكفر بمعناه .
وأما كونه عالماً من علماء الأمة ، فهذا من الجهل بالعلم والعلماء ، أين العنقاء لتطلب ، وأين السمندل ليجلب ؟ قال تعالى : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين . بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } هؤلاء هم أهل العلم ورثة الجنة ، وسادات الأمة ، لو سلم عقلك لعرفت أن من يدعو العباد إلى الله ويردهم إليه وينهاهم عن الالتفات والتعلق على غيره وصرف الوجوه لسواه هو العالم الآمين . لكن أعماك الهوى عن معرفة الرشاد والهدى .
وما كون الناظم يشير إلى يوم القيامة ؛ فنعم ، ولكن لا يدعى لذلك اليوم إلا الله وحده وكون الخلائق تفزع إليه في ذلك اليوم لا يوجب ذلك ويقتضي دعاءه وقصده من دون الله في دار التكليف والعمل . والملائكة والمؤمنون والأطفال يشفعون فى ذلك اليوم . وهل يقول مسلم بقصدهم ودعائهم والتعلق عليهم من دون الله في هذه الدار لما يرجى في الدار الآخرة ويؤمل فيها ؟ ومن قال بقصدهم ورجائهم ودعائهم لذلك وشرعه فقد فتح باب الشرك وسوغه ، ودخل فيما دخل فيه الصابئة المشركون من التعلق على الأنفس المفارقة وعبادتها ودعائهما مع الله .
وقولك : حين تدنى الشمس . هذا خطك بيدك ، فهو لحن فاحش يدل على أنك أمي لا تحسن شيئا من العلم .(175/177)
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أمتي أمتي ) ليس فيه أنه يدعى ويقصد لذلك قبل يوم القيامة .
فصل
قال المعترض : فشرف الدين يخاطبه - صلى الله عليه وسلم - كما خاطبه حسان بن ثابت رضي الله عنه بكاف الخطاب بعد موته ، وكما خاطبه صديق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه بعد موته ، وطلب منه كما يأتي ذلك ، وكما خاطبه الأعمى في غيبته ، وكما خاطبه الذي علمه عثمان بن حنيف زمن الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه بعد موته - صلى الله عليه وسلم - وغير الصحابة كثير من التابعين وسلف الأمة . إذ مخاطبته - صلى الله عليه وسلم - بعد موته أبلغ لأن أعمال أمته تعرض عليه في قبره ، وشرف الدين يقول : يا أكرم الخلق . وهل ينكر أحد أنه ليس بأكرم الخلق بذلا ونائلا وعند ربه جل وعلا ثم قال : مالي من ألوذ به من الخلق سواك . واغوثاه من الجهل وطمس القلوب ثم قال : عند حلول الحادث العمم ، وهذا ذاك اليوم ومطلوبه شفاعته - صلى الله عليه وسلم - .(175/178)
والجواب أن يقال : هذا الخطاب الذي خاطبه البوصيري في بردته خطاب سائل داع لائذ مضطر محتاج بما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، وخطاب حسان خطاب متوجد متمن أن يقي وجهه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التراب ، وهذا من باب الوجد والأسف على فراقه ، وذاك من باب الدعاء والطلب منه فأين هذا من هذا ؟ هل قال حسان : أعطني وأنا عائذ أو لائذ بك في الحوادث والملمات ؟ وقد جاء في السلام عليه والتشهد في الصلاة ما يفيد الفرق بين خطاب المسلم وخطاب الداعي الراجي ، بل جاء في خطاب الموتى بالسلام ما يستبين به الفرق عند أولي الألباب والأفهام ، وعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقولوا : ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين ) عند زيارتهم . ولو خاطبهم بغير ذلك من المطالب والدعاء وقال : جئتكم مستجيراً عائذاً بكم مستغيثا لائذا بحماكم طالباً لبركم ونعماكم ، ومالي عند الحوادث والمهمات سواكم . لكان ذلك من الشرك الأكبر الذي اتفقت الرسل ونزلت الكتب بتحريمه وتكفير فاعله . أفيقال : هذا خطاب وما قبله خطاب ، ويسوي بينهما للاشتراك في الخطاب ؟ هذا لا يقوله إلا أضل الخلق وأجهلهم . وقد جبل الله الخلق على الفرق بين دعاء الميت والدعاء له ، واتفقت الفطر والشرائع على الفرق بين ذلك ، وأكثر الناس اجتالتهم الشياطين وأحدثوا من الدين ما لم يأذن به الله وحللوا وحرموا بمجرد أهوائهم وآرائهم الضالة .(175/179)
وأما حديث أبى بكر فسيأتي الكلام عليه ، وأنه غير ثابت وأن الإجماع المستند إلى الكتاب والسنة والاعتبار يخالفه وينافيه . وأين هذا من هدي السلف والصحابة رضوان الله عليهم في المبالغة في صيانة قبره الشريف ، وتثليث جداره كي لا يصل إليه ، ولا يتمكن من دعائه وسؤاله ، عملا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ) وقد بالغ السلف في حماية حمى التوحيد ، والتباعد عن الشرك ، وسد ذرائعه ، وقطع وسائله ، حتى منعوا من استقبال القبر عند دعاء الله ، كما هو نص أحمد ومالك وأبى حنيفة رحمهم الله في أشرف القبور على الإطلاق ، فأين هذا من سؤاله - صلى الله عليه وسلم - وطلب ما لا يقدر عليه إلا الله ؟ .
وأما حديث الأعمى فليس فيه ما يدل على غيبته - صلى الله عليه وسلم - وهو توسل بدعائه كما كان الصحابة يتوسلون بذلك ويسألون الاستغفار والدعاء . وقد قال تعالى : { وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } وقال تعالى حاكيا عن المنافقين : { واذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون } فذم هذا الصنف بالصد عن ذلك .
فهذا كان هديهم وفعلهم في حياته - صلى الله عليه وسلم - . وأما بعد موته - صلى الله عليه وسلم - فلم يفعله أحد منهم ولا من أهل العلم والإيمان بعدهم ، بل قد ثبت النهي عن الدعاء عند القبر . فكيف بدعائه وقد تقدم ذلك قريبا : ( وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ) .
وسيأتيك أن أصل الشرك وسبب حدوثه دعاء الموتى وخطابهم بالحوائج .
وأما الذي حدثه عثمان بن حنيف فلم يخاطبه ، ولم يثبت ذلك في حديث الأعمى ، أعني مخاطبته - صلى الله عليه وسلم - والذي رواه من أهل السنن المعتبرة لم يثبت مخاطبته الرسول بل هي ساقطة فى الأصول المحررة . ومسألة السؤال به أو بحقه غير مسألته نفسه ودعائه .(175/180)
وأما كون أعمال أمته تعرض عليه فليس فيه ما يستدل به على سؤاله ودعائه مع الله وطلب الحوائج منه . ومن زعم ذلك فقد قال بتجهيل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن بعدهم من التابعين وعلماء المدينة كالفقهاء السبعة ومن بعدهم كابن شهاب الزهري وربيعة بن عبد الرحمن ويحي بن سعيد ومالك بن أنس وأهل المذاهب المقلدة كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وسفيان وداود ابن علي وأمثالهم ونظرائهم من أهل العلم الذين منعوا من دعائه والدعاء عنده .
وقد ثبت أن عمل المسلم يعرض على والديه ولا قائل بدعائهما وطلبهما .
وأما قول المعترض : أن أعمال أمته تعرض عليه في قبره فقد روي أن أعمال أمته تعرض على أقاربهم ، ولم يأت ما يدل على أن العرض في القبر بل الجزم بهذا والقول به يحتاج لدليل . وقد ثبت أن نسمة المؤمن طائر يعلق بشجر الجنة . والواجب أن يؤمن المؤمن بما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يتعدى ذلك إلا بتوقيف .
وأعجب منه قول المعترض : وهل ينكر أحد أنه ليس بأكرم الخلق بذلا ونائلا اهـ . فهذه العبارة تطلعك على قطرة من بحر جهالته وذرة من قناطير غباوته . كل المسلمين والمؤمنين ينكرون القول أنه ليس بأكرم الخلق ، والذي لا ينكر هو كونه أكرم الخلق ، لا أنه ليس بأكرم الخلق ، فتأمله فإنه نص خطه بيده .
وأما قوله : واغوثاه من الجهل وطمس القلوب .(175/181)
فأقول : يا لله للمسلمين من ضال جاهل يسمي تجريد التوحيد وإفراد الله بالدعاء جهلا وطمسا للقلوب ، ويستغيث استغاثة محق مغلوب . وكون المطلوب شفاعته - صلى الله عليه وسلم - لا يبيح ذلك دعاءه وإفراده باللياذ والعياذ والقول بأنه يعلم الغيب ، وأن الدنيا والآخرة بعض جوده ، بل هذا يشبه غلو أهل الكتاب في أنبيائهم . وقد قال تعالى : { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق } فرحم الله امرأ وقف عند حدود الله ، ولم يتعداها ، ولم يتجاوزها إلى سواها .
فصل
قال المعترض : ثم ماذا ، والمحذور الذي كفر به هذا الرجل وما يضر النداء في هذا ، وهل هذا عباده من دون الله ؟ ما أبعد الجهل وأهله من الفرقان .
ثم ذكر المعترض قول حسان في مرثيته مستدلا به على أن الرسول يدعى ويخاطب .
والجواب أن يقال : لا ريب أن جمهور من دعا معبودا مع الله وانتحل طريقة أو دينا لم يأذن به الله يرى أنه لا محذور ، ولا إنكار . ويحسب أنه مهتد وإن كان من أضل الخلق وأبعدهم عن مناهج الإيمان والهدى ، ويكفي المؤمن ماتقدم من الآيات التي زعم ان الناظم يعرفها ولا يجهلها . كقوله تعالى : { وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا } وهل يحيل هذا الدعاء عن حقيقته ، ويسوغه لغير الله تسمية الجاهلين له نداء لا دعاء ، وهل العبادة إلا هذا الدعاء ونحوه ؟ فأي جهل في تحريم ما حرم الله من دعاء غيره ومسألة سواه ما لا يقدر عليه إلا الله ؟ .
وهذا المعترض وأمثاله من أجهل الناس بمسمى العبادة ومعرفة أفرادها .
ومعلوم أن قول النصارى : يا والدة المسيح إشفعي لنا إلى الإله نداء إذا جهر به المنادي ، ولا يخرجه ذلك عن كونه دعاء وعبادة بإجماع المسلمين ، ولو كان المطلوب مجرد شفاعتها فإباحة هذا النوع وجعله لا محذور فيه هو عين الجهل ، ونفس الضلال .(175/182)
وأما رثاء حسان فليس فيه دعاء وإنما هو توجع وتحزن وتألم لفقده - صلى الله عليه وسلم - ، وفرق بين الخطاب بهذا والخطاب بالدعاء والمسألة ، وقد تقدم التنبيه على ذلك .
فصل
قال المعترض : وأبلغ من هذا وادحض كلام صديق هذه الأمة أبي بكر رضي الله عنه ، حين وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ميتا . فقد قال سيف بن عمر التميمي في فتوحه الذي قال أبو العباس ابن تيمية أنها أصح ما وضع في ذلك ، وهو من تابعي التابعين ، ومن كبار شيوخه : هشام بن عروة بن الزبير رضي الله عنه . فقال حدثنا عمرو بن محمد عن تمام بن العاص عن القعقاع ابن عمرو التميمي رضي الله عنه ـ وكان من خواص أبي بكر الصديق رضي الله عنه ـ قال : جاء الخبر بثقل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر وواتر أهل البيت إليه الرسل . فجاء فلقيه آخرهم بعد ما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ودخل أبو بكر البيت وهو يسترجع ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - . فأكب عليه وكشف عن وجهه ، وقبل جبينه وخديه ، ومسح وجهه ، وجعل يبكي ويقول : بأبي أنت وأمي ونفسي وأهلي ، طبت حيا وميتاً ، انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد قبلك من الأنبياء : النبوة ، فعظمت عن الصفة ، وجللت عن البكاء وخصصت حتى صرت مسلاة وعممت حتى صرنا فيك سواء ، فلولا موتك كان اختيارا منك لجدنا بالنفوس لحزنك ، ولولا أنك نهيت عن البكاء لأنفدنا عليك الشؤون . فأما ما لا نستطيع نتقيه عنا فكمد وادكار متحالفان لا يبرحان . اللهم فأبلغه عنا اذكرنا يا محمد عند ربك ، ولنكن من بالك . فلولا ما خلفت من السكينة لم نقم لما خلفت من الوحشة اللهم أبلغ نبيك عنا واحفظه فينا .(175/183)
ثم قال المعترض : وكان القعقاع قد شهد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه سيف أنه قال : شهدت وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - . وذكر قصة السقيفة . فهل ترى الصديق عند هذا الرجل كافرا بقوله يخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - : اذكرنا يا محمد عند ربك ، ولنكن من بالك ؟ والنثر أوسع من النظم .
والجواب أن يقال : آفة هؤلاء الجهال عدم التمسك بأصول أهل العلم والهدى التي إليها المرجع في الاستدلال والمنتهى . وقد وضع أهل العلم والحديث من القوانين الشرعية ما يميز به الآثار الصحيحة والمكذوبة والموضوعة والضعيفة التي لا تثبت بها أحكام دينية .
فمن ذلك : ردهم ما انفرد به أحد الرواة عن أصحابه الثقاة الأثبات كما رد على معمر ما انفرد به عن أصحاب الزهري ، وكما رد على ابن اسحق ما انفرد به في حديث أبى مسعود البدري فى صفة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكما رد على ابن عيينة مع جلالته وحفظه ما انفرد به عن أصحاب الزهري : من ذكر دبغ الإهاب في حديث ميمونة .
وقد روي كلام أبي بكر ومقالته حين دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلم عدد كثير وجم غفير ، وذكرها أصحاب السير عمن هو اعدل من القعقاع ، وأوثق وأشهر ، فما وجه الأخذ بها لو سلمنا صحتها ؟ وقد خالفت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ، بل والإجماع . كما حكاه شيخ الإسلام وغيره ؟ وهل يدع هذا كله ويرميه وراء ظهره إلا من غلب عليه متابعة الهوى وعدم الوقوف مع الكتاب والسنة والإجماع ؟ وهل ضل أهل الكتاب إلا بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم ، واتباع ما لم يثبت عن أنبيائهم وعلمائهم ، بل هو مما أحدثه خلوفهم وجهالهم .(175/184)
وهذه الكلمة وهي قوله : اذكرنا عند ربك . لو جاء بسندها المذكور كلمة تخالف الثابت من المرفوع والمأثور في حكم من أحكام الفروع وجزئيات المسائل كآداب التخلي ونحوه لم يسغ الأخذ بها وترك ما هو أصح وأثبت وأدل ، فكيف بالطلب من الموتى ودعاء الأنبياء والتوجه إليهم ، الذي تظاهرت النصوص والآثار على تحريمه والمنع منه .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : فإن طلب الحوائج من الموتى هو أصل شرك العالم اهـ .
وقد حمى - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد وسد ذرائع الشرك حتى نهى عن قول ( ما شاء الله وشاء فلان ) ونهى عن الحلف بغير الله ، ونهى عن الصلاة عند القبور واستقبالها ، ونهى عن عبادة الله بالذبح في مكان يذبح فيه لغير الله ، ونهى عن قول الرجل ( عبدي وأمتي ) وقد بالغ أصحابه رضي الله عنهم في صيانة قبره الشريف عن أن يصل إليه أهل الغلو والإطراء ، فجعلوا جداره مثلثا ، وكره مالك رحمه الله للرجل كلما دخل المسجد إتيان القبر للسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : لم يكن أهل العلم من أهل بلدنا يفعلونه اهـ . فكيف ترى بسؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - والطلب منه ، والتوجه إليه فى الحوائج والملمات فبين هدي الصحابة وأهل العلم ، وفعل هؤلاء الضلال كما بين المشرق والمغرب . شتان بين مشرق ومغرب .
هذا لو فرضنا صحة هذه الكلمة ، فكيف والأمر بخلاف ذلك ، وفي نفس هذا الأثر الذي أورده ، ما يرد عليه من وجوه .(175/185)
منها قوله : اللهم فأبلغه عنا . فإذا سأل الله أن يبلغ نبيه عنهم فكيف يقول بعدها ( اذكرنا يا محمد عند ربك ) وهل هذا إلا عكس ما قبله ، ومن دون أبي بكر يتحاشى العاقل من نسبته إليه ، فكيف بصديق الأمة ؟ وقد ثبت في الصحيح وغيره أن الشهداء قالوا : ( ألا بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا ، فرضي عنا وأرضانا ) ولم يأت أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شهيد من الشهداء يطلب منه أن يبلغ عنه ربه ، وهم أجل وأفقه من ذلك . فكيف بالصديق رضي الله عنه ؟ فإذا جاءت السنة بأن الله هو الذي يبلغ عمن عنده من الشهداء ، فكيف تعكس القضية ويجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يبلغ ربه ؟ .
والمشهور والمعروف في اللغة أن الإبلاغ إنما يستعمل في من رفع إليه وبلغ ما ليس عنده . قال تعالى : { لأنذركم به ومن بلغ } وفي الحديث : ( ليبلغ الشاهد منكم الغائب ) .
هذا لو صح سنده . فكيف وهو عمن لا يحتج به ؟ قال ابن السكن : سيف بن عمر ضعيف . وقال أبو حاتم : قعقاع بن عمرو قال : شهدت وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . هذا فيما رواه سيف بن عمر عن عمرو بن تمام عن أبيه عنه . وسيف متروك . فبطل الحديث ، وإنما ذكرناه للمعرفة ، وقال الحافظ أخرجه ابن السكن من طريق إبراهيم بن سعد عن سيف بن عمر عن عمرو عن أبيه عن القعقاع بن عمرو قال : شهدت وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما صلينا الظهر جاء رجل حتى قام بالمسجد وأخبر بعضهم أن الأنصار اجمعوا أن يولوا سعدا . قال ابن السكن : سيف بن عمر ضعيف ، واختلف في صحبة القعقاع ولم يجزم بذلك ابن عساكر ، بل قال : يقال : إن له صحبه .
قلت : وهذان الطريقان ليس فيهما عمرو بن محمد ، بل هو عمرو ابن تمام عن أبيه تمام ، فلا أدري أذكر عمرو بن محمد المعترض بقصد التدليس أو جاء التدليس من غيره .(175/186)
إذا عرفت هذا بطل هذا الحديث ، وأبطل منه الاحتجاج به ، والثابت عند أهل العلم ما رواه محمد بن شهاب الزهري إمام الحجازيين عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة رضي الله عنه قال : لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام عمر رضي الله عنه فقال : إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما مات ، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة . ثم رجع بعد أن قيل مات . والله ليرجعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات . قال : وأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر ، وعمر يكلم الناس ، فلم يلتفت حتى دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة رضي الله عنها ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجى ببرد حبره ، فأقبل حتى كشف عن وجهه ، ثم أكب عليه وقبله . ثم قال : بأبي أنت وأمي أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها ، ثم لم تصبك بعدها موتة أبداً ، ثم رد الثوب على وجهه ، وخرج وعمر يكلم الناس ، فقال على رسلك يا عمر ، فأنصت . قال : فأبى إلا أن يتكلم . فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس ، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر ، فحمد الله وأثنى عليه . ثم قال : أيها الناس ، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت . ثم تلا هذه الآية : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } قال فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تلاها أبو بكر يومئذ . قال فأخذها الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم .(175/187)
هذا هو الثابت عند أهل العلم بالحديث وهو الذي ذكره الأئمة في كتبهم التي إليها المرجع عند أهل الإسلام في سائر الأبواب والأحكام . وقد علم أن القعقاع لم يدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحالة ولا يمكن من هو أفضل منه ، ولم يدع أن أبا بكر أخبره بذلك ، ولا غير أبي بكر . فصار الأثر منقطعاً . وهذه علة رابعة .
وأظن هذا المعترض رأى هذا الأثر في مصنف ابن فيروز أو غيره ممن تعرض لرد هذا الدين والتوحيد الذي منَّ الله بتجديده على يد شيخنا رحمه الله ، والغالب على من تعرض لرد ذلك هو الجهل وعدم العلم ، مع غلبة الهوى وشدة العداوة ، فاجلبوا بذكر ما يظنون أن لهم تعلقاً به ، وأنه من الحجج التي تدفع الخصم . وليست لهم عناية بصناعة العلم ، ومدارك الأحكام ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .
تعرض قوم للغرام ، فأعرضوا
بجانبهم عن صحبتي فيه واعتلوا
رضوا بالأماني ، وابتلوا بحظوظهم
وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا
فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم
وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا
وعن مذهبي لما استحبوا الهوى على الهـ
ـدى حسدا من عند أنفسهم ضلوا
... ...
فصل
قال المعترض : فشرف الدين إنما قصد الشفاعة مستحضرا يوم القيامة : { يوم يفر المرء من أخيه . وأمه وأبيه . وصاحبته وبنيه . لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } وهو يقول - صلى الله عليه وسلم - : ( أمتي أمتي ) إلى أن قال : ولأنه قد أعطي - صلى الله عليه وسلم - الشفاعة بوعد الله الصادق له في حياته من المقام المحمود وشفاعته لأمته وهي من ذلك قال تعالى : { عسي أن يبعثك ربك مقاماً محمودا } وقال : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } قال ابن عباس : هو الشفاعة لأمته . وقاله غيره من السلف .(175/188)
ثم ساق أحاديث في هذا المعنى . ثم قال : فإذا كان هذا قول الله تعالى ، فما ظنك به - صلى الله عليه وسلم - وهو أجود بالخير من الريح المرسلة ؟ وقال - صلى الله عليه وسلم - في حق المنافقين : ( لو أعلم أني لو زدت على السبعين لغفر لزدت ) كما عند البخاري ، واستغفاره شفاعته لأمته قد أخبر أنه في البرزخ إذا عرضت عليه أعمال أمته يستغفر لمن رأى في عمله شراً ، وهل استغفاره إلا شفاعته ؟ ثم ذكر حديث أنس وأنه - صلى الله عليه وسلم - يخرج من النار حتى لا يبقي إلا من حبسه القرآن .
والجواب أن يقال : قد أجاب شيخنا رحمه الله عن هذه المسألة في كشف الشبهات .
قال رحمه الله : فإن قال ـ يعني المشرك الذي يدعو الصالحين ـ إن الله أعطاه الشفاعة ، وأنا أطلبه مما أعطاه الله ، فقل له : أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن دعائه وساق رحمه الله من الآيات ما يستدل به على تحريم دعاء الأنبياء وغيرهم .
وهذا هو جوابنا عما احتج به المعترض هنا وهو الجواب السديد . وقد وكل الله بما يقضيه ويقدره من الموت والحياة وإنزال المطر وإنبات النبات وحفظ بني آدم وغير ذلك ملائكة يدبرون ذلك . ويباشرونه بحكمته ، ودعائهم مع ذلك مجمع على تحريمه وأنه من الشرك الأكبر فأي فرق بين هذا وهذا لو كانوا يعلمون ؟ .(175/189)
ثم قد تقدم أن الشفاعة التي ظنها المشركون حاصلة بدعاء الأنبياء والصالحين قد نفاها القرآن ، وأخبر تعالى أنها بيده وملكه كما أن له ملك السماوات والأرض ، وأن الشفاعة المثبتة في مثل هذه الأحاديث لم يفهمها هؤلاء الجهال ، ولم يعرفوا حقيقتها ، فهم في عماية الجهالة ، وأودية الضلالة ، لا تميز عندهم بين النوعين ، ولا فرق بين القسمين . ولو عرف هذا أن جمهور المشركين يحتجون بالشفاعة والجاه على شركهم ، ويقررون ما للملائكة والأنبياء والصالحين من الجاه والمنزلة والشفاعة لعرف أنه إلى الآن في سلكهم وعلى طريقتهم في هذا البحث . وكثير من المباحث التي هي أصل دينهم وقاعدته . وأي مسلم أنكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع غير المعتزلة والخوارج ؟ فإنهم أنكروا الشفاعة لأهل الكبائر . وهل قال شيخنا رحمه الله حرفا يدل على هذا ؟ والنزاع معكم في التوجه إلى غير الله وسؤال ما لا يطلب الا من الله ولا يقصد له سواه .
وهذا الكلام مغالطة وحيده عن المقصود فهات دليلا شرعيا على أن الشفاعة أو غيرها تطلب من الأموات والغائبين ، كالأنبياء والملائكة والصالحين ؟ ودع عنك الآثار الموضوعة والحكايات المكذوبه ، والنقل عمن لا يحتج به وأبرز لأهل العلم والإيمان إن كنت من أهل التحقيق والعرفان ودع عنك التلبيس والروغان .
وما يجري في ذلك اليوم من الهول والكرب والشدة وفرار المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ، كل هذا مما يوجب التوحيد والالتجاء الى الله ، والاعتصام بحبله والتوكل عليه ، والتوسل إليه بالإيمان به وبرسله وبما شرعه من الأعمال الصالحة .
قال بعض السلف : أن ملكا بيده الدنيا والآخرة يكفيك هذا كله إذا عاملته .
وليس فيه ما يدل على الالتجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلب النجدة والآخذ باليد منه .(175/190)
فتقريرك وكلامك في هذا البحث معاكسة لهذا أي معاكسة ، ومشاقة لله ورسوله واتباع لغير سبيل المؤمنين . فما أنت والاحتجاج والفهم عن الله ورسوله .
فأعط القوس باريها
*
ودع العيس وحاديها
وأما الاستدلال بجوده - صلى الله عليه وسلم - على أنه ينقذ ويجيب من دعاه وقصده من دون الله فهذا من نوادر هؤلاء الجهال الذين لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق ، ولم يقم بقلوبهم من وقار الله وعظمته ما يمنع من الإشراك به ومن طلب العباد ما يختص به من المطالب العالية التي لا يملكها سواه .
وأما قوله : قد أخبر أنه في البرزخ إذا عرضت عليه أعمال أمته يتسغفر لمن رأى في عمله شرا . فقد تقدم ما في هذه العبارة من الجهالة .
فصل
ثم ذكر المعترض أحاديث في الشفاعة ولكنه حرفها وساقها سياق أجنبي لا يعرف البضاعة .
وحاصلها إثبات شفاعته ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أول شافع ، ثم قال : وقول البوصيري كقول سواد بن قارب :
وإنك أدنى المرسلين وسيلة
*
إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة
*
سواك بمغن عن سواد بن قارب
وكل هذا ليس فيه حجة لأن النزاع في غيره .
وأما الشفاعة فلم تنكر وقول سواد بن قارب هذا من جنس طلب دعائه واستغفاره - صلى الله عليه وسلم - في حياته ، والنزاع ليس في ذلك ، والمطلوب هنا دعاؤه الذي يستطيعه كل أحد ممن ترجى إجابة دعائه ، ويجوز التماس الدعاء منه وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر : ( لا تنسنا يا أخي من دعائك ) وهذا باب واسع .
وأما عرض الأعمال فقد تقدم أنه لا يبيح الدعاء والطلب ، وعلى أبوي الإنسان يعرض سعيه كما قد روي ولا يجوز له دعاؤهما في حياته وملماته ثم استدل المعترض بقوله تعالى : { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } قال : ونبينا أفضل أهل السماوات والأرض فقد ملك الشفاعة .(175/191)
والجواب أن يقال : هذا المعترض أورد الآية على غير وجهها بل حرفها وقال : لا يملكون الشفاعة . فهو من أجهل خلق الله بالتلاوة ومثله لا يجوز له أن يورد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية . لأنه لا يحسن النقل ولا يعرف التلاوة ، بل هو في غاية الغباوة والجهالة .
ثم يقال : هذه الآية لأهل العلم والتأويل فيها قولان .
أحدهما : أن المستثنى من تقع عليه الشفاعة ويشفع فيه الشافعون ، فهو استثناء من محذوف دل عليه السياق والتقدير : لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة لأحد الا من شهد بالحق .
والقول الثاني : أن الاستثناء واقع على الشافعين الذين يملكون الشفاعة . فالاستثناء من الموصول الذي هو الفاعل . وعلى كل فليس المراد الملك المتعارف بين أهل الدنيا بل المراد حصول ذلك ووقوعه وتمكينهم منه ، وذلك مقيد بالإذن والرضى عن المشفوع فيه ، فليس من جنس الأملاك الدنيوية . ثم العبد كل العبد لايتصرف في ملكه إلا بما يحب الرب ويرضاه من التصرفات ، فأين محبته تعالى وأذنه ورضاه في الشفاعة لمن يدعو غيره ، ويلوذ بسواه ويعتمد على الشفعاء ويعدهم لشدائده وكرباته ؟ .
واحتج المعترض بما في بعض الأحاديث من قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( والمفاتيح يومئذ بيدي ) .(175/192)
وأظن هذا الغبي يظن أن الملك والتدبير والسعادة والشقاوة والعذاب والنعيم ، كل هذا بيده - صلى الله عليه وسلم - لقد أبعد المرمى وكذب بقوله تعالى : { وما أدراك ما يوم الدين . ثم ما أدراك ما يوم الدين . يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله } وقوله : { الملك يومئذ الحق للرحمن } وقوله تعالى : { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } وقوله : { وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا . يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا . يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما } فالمعترض لم يعرف معنى هذا كله ، ولم يدر ما سبق له فخبط خبط عشواء ، ورتع في مجهلة ظلماء .
واحتج المعترض بحديث العباس في أبي طالب وقول نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وجدته في غمرات من النار ، فأخرجته إلي ضحضاح من النار ) وزعم المعترض أن هذا يفيد أنه ملك الشفاعة ، ويتصرف فيها بملكه لها .كما تتصرف الملاك في أملاكهم .
وفي التحقيق يرجع قول هذا المعترض إلى ما ذهب إليه غلاة القبوريين من أن الأولياء قد أعطوا التصرف والتدبير ، ووكل ذلك إليهم ، والشافع لا ملك له ، لكن ما دل عليه الكتاب والسنة من أنه لا يشفع إلا بإذن الله فيمن رضي الله قوله وعمله ، وأراد الله رحمته ونجاته . فهي مقيدة بالإذن والرضى ، ليست كما فهمه هذا الغبي وأمثاله من أن الشفعاء يتصرفون تصرف الملاك بمشيئتهم وإرادتهم . وكذا كل ما ساقه من أحاديث الشفاعة مستدلا به لا يفيد ما ذهب إليه المعترض .
وأما استدلاله بقوله تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } فهو من الأدلة على جهله بمعنى الآية وما سيقت له . والآية عامة للعالمين ليست خاصة بالمسلمين . وقد قال تعالى فيمن لم يستجب لرسله ، ولم يلتفت إلى ما جاءوا به من الإيمان والهدى : { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } وقال : { ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع } .(175/193)
ثم قال المعترض : فإذا كان هذا فعله مع أبي طالب ونصرته لقرابته حمية وقد نالته شفاعته ، فكيف بغيره من أمته وأهل بيته التي أزواجه أمهاتهم وهو بمنزلة الوالد لهم ، وهو فرطهم وسلفهم ، وهو - صلى الله عليه وسلم - ومن أرسله إليهم أرأف بهم من الوالدة بولدها ، وهو - صلى الله عليه وسلم - أحب إليهم من أنفسهم وهم يرجون شفاعته - صلى الله عليه وسلم - التي هي فضل الله وكرامته . لأنه تبارك وتعالى أعطاه إياها لهم . فما بالهم لا يسألونه من عطائه لهم ؟ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما صح ذلك عنه : أترونها للمتقين ؟ بل هي للمذنبين المخلطين المتلوثين . إذ ليسوا كالكفار الذين أخبر الله عنهم ، أنها لا تنفعهم شفاعة الشافعين . فما فائدة الكرامة إذا لم يسأل صاحبها منها ويطلب ، وإذا منع من ذلك فلا كرامة ولا شفاعة ولا فضل لصاحبها ولا تفضل ، وهو أعلم بأمته - صلى الله عليه وسلم - مثلوا له في حياته كما صح ذلك وتعرض إليه أعمالهم بعد وفاته ، ويعرف المستحق من غيره . انتهى . هذا كلامه بحروفه . وفيه من العبر والأدلة على جهله ما يكفي المؤمن في معرفة ضلاله وخلطه .
وحاصل هذا الكلام : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم حال أمته فردا فردا مطيعها وعاصيها مؤمنها وكافرها ، وأنه أعطي الشفاعة كما يعطى أحد الناس ما يملكه ، ويتصرف فيه بمشيئته وإرادته ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يدعى لذلك ويسأل كما يسأل سائر الملاك ، وأنه إذ لم يسأل فلا كرامة له ولا شفاعة ولا فضل ولا تفضل . هذا حاصل كلام المعترض ، وهو بكلام الجاهلية الأولى أشبه منه بكلام أهل العلم والهدى .(175/194)
وقد دل القرآن والسنة وإجماع علماء الأمة على أن الشفاعة بيده سبحانه ، ملكا له خاصة ، لا يتقدم أحد فيها إلا بأذنه ، ولا تنال إلا من رضي قوله وعمله من أهل الايمان والتوحيد ، والأحاديث صريحة في أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يشفع ابتداء ، وأنه يحد له حد ويعين له من أراد الله رحمته ، وإكرام نبيه بالشفاعة فيه فهو عبد مأمور مدبر لا مالك متصرف .
وقوله تعالى : { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } وقوله : { لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً } قد تقدم الجواب عنه . وبعض المفسرين قرر أن الاستثناء منقطع ليس فيه إثبات للملك ، فهو بمعنى الاستدراك من مضمون الجملة ، ويدل على هذا نصوص الكتاب والسنة .
قال شيخ الإسلام : وقوله تعالى : { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله } فيه قولان ، قيل : هو استثناء متصل ، وأنه يملك من ذلك ما ملكه الله إياه ، وقيل : هو منقطع ، والمخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرا بحال . فقوله { إلا ما شاء الله } استثناء منقطع : أي لكن يكون من ذلك ما شاء الله ، كقول الخليل : { ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا } أي لا أخاف أن تفعلوا شيئا ، لكن إن شاء ربي شيئا كان ، وإلا لم يكن ، وإلا فهم لا يفعلون شيئا . وكذلك قوله : { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } ثم قال { إلا من شهد بالحق } فتنفعه الشهادة كقوله : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } وقال تعالى : { قل لله الشفاعة جميعا } وبسط هذا له موضع آخر انتهى .
وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يؤخذ بأناس من أمتي ذات الشمال فأقول . أصحابي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) .
وقد تكلم بعض أهل العلم على هذا الحديث بما يخالف ما قاله هذا المفتري ويرده وقرروا أن فيه ما دل عليه حديث أنس في الشفاعة من أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يشفع الا بعد الإذن فيمن عين له وحدد وخصص .(175/195)
وفيه أنه لا يعلم ما يحدث بعده وما يجري في أمته إلا ما إخبر به من بعض الجزئيات والحوادث وأن من قام به سبب يمنع الشفاعة ، كالشرك بالله واتخاذ الأنداد معه فلن تنفعه شفاعة الشافعين .
وفي كلام المعترض من المؤاخذة والجهالات قوله " فإذا كان هذا فعله حمية " وقد صانه الله عن أن تقع أفعاله وشفاعته من باب الحمية ، بل هي من باب الإيمان والطاعة والعبد كل العبد من كانت أفعاله وحركاته لله وبالله . قال تعالى : { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له } فهذا الرجل من أجهل الناس بمقام سيد ولد آدم وتحقيقه للتوحيد .
وفي قوله " وأهل بيته التي أزواجه أمهاتهم " لحن فاحش . فإن " التي" للأنثى . كما قال ابن مالك : موصول الأسماء الذي الأنثى التي .
وهذا الغبي لا يفرق بين المذكر والمؤنث ، ومع ذلك يزعم أن الشيخ واتباعه لا يعرفون العربية ، والصواب أن يقال : وأهل بيته الذين .
ومنها ظنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرط وسلف لعباد القبور الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى ، ولم يعرف معنى الحديث ومن خوطب به .
ومنها قوله : كيف وهو ومن أرسله أرأف بهم من الوالدة بولدها .
فظاهر هذا فيه من سوء الأدب مع الله وعدم الثناء عليه بما اختص به من الرأفة والرحمة والاقتصار على ما شاركه فيه عبده ورسوله ، وتقديم ذكر عبده ورسوله على ذكره تعالى وتقدس في هذا المقام . وهذا لا يصدر إلا من أجلاف الناس وأشدهم غباوة . وكذلك التعبير بالموصول والعدول عن الاسم الأقدس يطلعك على مخبآت جهله ومناقشة هذا تطول .
ومنها قوله : فلا كرامة ولا شفاعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا فضل ولا تفضل إذا لم يدع ويسأل ويطلب .(175/196)
فالشفاعة التي نفاها القرآن على زعم هذا الرجل يلزم من نفيها نفي الكرامة والفضل والتفضل ، ولا كرامة ولا فضل ولا تفضل إلا بدعائه وقصده من دون الله . وهذا هو مفهوم كل مشرك يرى أن نفي الشفاعة التي نفاها القرآن وأن النهي عن دعاء الأنبياء والصالحين ، والقول بأنهم لا يقصدون ولا يدعون للشفاعة ولا لغيرها من المطالب : تنقص لهم وإبطال لفضلهم وكرامتهم ، وذلك لظنهم أن الفضل والكرامة ليس إلا في قصدهم ودعائهم والتعلق عليهم ، وكونهم مفزعا وملجأ عند الشدائد والمهمات ، ولو عقلوا لعرفوا أن الفضل والكرامة كل الكرامة في عبودية الله والخضوع له ، والدعوة إلى سبيله ، وإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة ، وتحقيق التوحيد وإسلام الوجوه لبارئها وفاطرها وإلهها الحق .
وقد ذكر الله في كتابه عن خواص عباده ما يوجب العلم بأن أفضل الرتب وأجل الكرامات تحقيق العبودية ، وإخلاص العبادة ووصف رسوله بذلك في مقام الإسراء وفي مقام التحدي ، وفي مقام الدعوة ، ومن توهم أن فرق العبادة وتحقيقها وإخلاصها رتبة وفضل لأحد من العباد فهو من أضل الخلق وأجهلهم بالله وبحقه وما يجب له ، ومن أجهل الناس بحق الأنبياء والصالحين وما يجب لهم وما يستحيل .
وقد عفت آثار العلم واشتدت غربة الإسلام حتى خاض في هذه المباحث ، وتصدى للرد على علماء الأمة من لا يعرف حقيقة الإسلام ، ولم يميز بين حق الله وحق عباده وأوليائه من الأنام .
ثم ذكر المعترض بعد هذا أنه روى البردة والهمزية واتصل سنده بهما إلى الناظم ، وذكر أنه رواها عن محمد بن سلوم ، ولا يستبعد ذلك على ابن سلوم . وذكر أنه رواها عن أحمد بن رشيد الحنبلي ، وهذا بعيد جداً . ودعوى هذا المعترض لا تسمع ، ولا يلتفت إليها . لأن شهادة الحال وما يعرف من دين الشيخ أحمد بن رشيد يخالف هذا اللهم إلا أن يكون قبل أن يفتح عليه ويدخل فيما دعا إليه شيخنا من التوحيد وإفراد الله بالعبادة .(175/197)
ثم ساق سند ابن فيروز في روايتها وزعم أن بعض الحنابلة رواها وسمعها . ثم جعل أهل روايتها هم أهل الصراط المستقيم ، وهم القدوة الذين لا تصح صلاة أحد إلا بطلب الهداية لطريقهم ، وهم الذين استشهد الله بهم على وحدانيته بقوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم } قال حتى قوله : { إن الدين عند الله الإسلام } على قراءة الفتح من الهمزة وهم الذين قال فيهم نبينا - صلى الله عليه وسلم - : ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ) .
ثم قال : أفهولاء الضالون وهذا الرجل الذي خالفهم المهتدي ؟ وقد أجمعت الأمة أنها لا تجمع ولا تجتمع على ضلالة .
والجواب أن يقال : ليس فيما ذكر المعترض من رواية بعض الناس للبردة ما يدل على استحسانها ، وأنها حق لا باطل فيه . وقد روى الناس من الأحاديث المكذوبة والحكايات الموضوعة ومقالات الجهمية ، وكتب الاتحادية مالا يخفى ضلاله وبعده عما جاءت به الرسل . فإن كانت الروايات والنقل يدل على الصحة والصواب فلتكن هنا وإلا بطل الاحتجاج برواية من ذكر لهذه المنظومة وتلقيهم لها وما المانع أن يخفى على من ذكر ما فيها وقد خفى على من هو أجل منهم وأفضل بإجماع الأمة أن اتخاذ الأشجار للتبرك والعكوف من التأله بغير الله ، فقالوا لنبيهم - صلى الله عليه وسلم - : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات انواط . وقد تقدم قول شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس في ابن النعمان وأمثاله من الشعراء وقول بعضهم :
يا خائفين من التتر
لوذوا بقبر أبي عمر
ينجيكموا من الضرر
وهذا قاله أناس ممن يدعي الإسلام ويرى جواز مثل هذا ، وأنه لا ينافي ما جاءت به الرسل من توحيد الله وإخلاص الدين له ، وأبيات البرده أبلغ وأعظم شركا من هذا الذي ذكره الشيخ .(175/198)
ثم ما الحجة في طائفة محصورة قليلة لو سلمنا لهذا ما ادعاه من علمهم ؟ وما المانع من أن يغلط العالم ويزل ؟ ثم أي أحد قال بأن فعل بعض الناس يكون حجة في مسائل النزاع ؟ ولو قيل بهذا لمدت الاتحادية ، والحلولية والجهمية والمعتزلة أعناقهم وقالوا : من يروي مقالتنا ويحكيها ويقررها أكثر عددا وأشهر سندا ، ولم يسبق هذا الجاهل إلى الاحتجاج بمثل من روى البرده ، وأي رجل من هؤلاء الذين ذكر ، له قول أو وجه يرجع إليه في جزئيات الأحكام ومسائل الفروع ؟ .
فكيف يحتج به في نسبة علم الغيب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الدنيا والآخرة من جوده ، وأنه لا عياذ ولا ملاذ سواه ، وأنه يدعى ويقصد لذلك ؟ .
وأبلغ من هذا كله أن المعترض جعل أهل روايتها هم أهل الصراط المستقيم ، وهم أهل الهداية المشار إليهم في قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } وأن الصلاة لا تصح إلا بسؤال الهداية إلى سبيلهم ، يعني سبيل أهل البرده ، وهذه هي الطامة الكبرى ، والقولة الضالة العمياء . أين الأنبياء والمرسلون ، أين الصديقون والشهداء والصالحون ؟ أين من جرد التوحيد لله العزيز المجيد ، ولم يتخذ وليا من دونه ، ولم يجعل له مفزعا وموئلا يرجع إليه في مهماته وحاجاته غير فاطر السماوات والأرض ؟ أين من أخذ بقوله تعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } ولم يلتفت إلى غير إلهه السميع المجيب ؟ أي من عض بالنواجذ على ما دل عليه حديث ابن عباس : ( إذا سألت فاسأل الله وذا استعنت فاستعن بالله ) أين من بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ألا يسأل الناس شيئا ؟ أين من أخذ بقوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } وبقوله : { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } أين من يقول : ما خلقت السماوات والأرض والدنيا والآخرة إلا بالحق ، الذي هو معرفة الله واسلام الوجوه له ، ولتجزى كل نفس بما كسبت ؟ .(175/199)
سبحان الله !! ما أغلظ حجاب هذا المعترض عن معرفة ما جاءت به الرسل : كأنه من جهال الجاهلية الأولى بل هو من صميمهم ، إذ لم يأنس بشيء مما جاءت به الأنبياء .
وأما قوله : وهم الذي استشهد الله بهم ـ إلى آخره ـ .
فهذه المقالة الكاذبة فيها من الكذب والفرية على الله وعلى كتابه ما لا يصدر ممن يؤمن بالله واليوم الآخر . أين العلم وأين الهدى في أبيات البردة ومعتقدها ومنشدها ؟ وأين هذا المعترض من معرفة العلم والعلماء ، ومناهج الايمان والهدى ، ونهمته وحرفته دعوة الناس إلى دعاء الصالحين ، والاعتقاد المخالف لأصول الملة والدين . ومن ارتاب في الإسلام ومعرفته كيف يعرف العلم والعلماء ، ويدري مناهج الإيمان والهدى ؟ هذه الشهادة شهادة زور فإن من شهد بما لا يعلم فهو شاهد زور ، وأهل العلم هم الرسل والأنبياء واتباعهم على تحقيق التوحيد ، وإخلاص الدين لله رب العالمين ، الذين عرفوا الله بأفعاله وآياته ، وأخلصوا له العمل والدين بأفعالهم ، ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة . واستدلوا بجميع ما شاهدوه أو سمعوه من الآيات والمخلوقات وأنواع الكائنات على وحدانية خالقها ومقدرها ومدبرها وعلى حكمته وعموم قدرته وشمول علمه .
وقول المعترض : حتى قوله : { إن الدين عند الله الإسلام } على قراءة الفتح من الهمزة . عبارة جاهل لا يدري ما يقول . فإن الفتحه للهمزة لا من الهمزة وفتحها على قراءة الكسائي ، والقراءة على كسرها ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ) والإشارة فيه إلى ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والحكمة وأين هو مما دل عليه قول الناظم في أبياته السابقة ؟ .(175/200)
فأهل العلم في الحقيقة كل من عقل عن الله مراده ، وعرف ما جاءت به الرسل من تحقيق التوحيد ووجوب إسلام الوجوه للذي فطر السماوات والأرض ، مع الإقبال على الله والإعراض عن عبادة ما سواه ، والبراءة من الشرك وأهله ، والسير إليه تعالى على منهاج أنبيائه ورسله ، وعبادة الصالحين ، ففي هذا العلم والعمل والمتابعة . وأما الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون فهم من أقل الناس حظا ونصيبا من العلم الذي جاءت به الرسل .
وأما قوله : وقد أجمعت الأمة أنها لا تجمع ولا تجتمع على ضلالة . فإجماع الأمة حجة ولا يكون على ضلالة ، ولكن أي الأمة ؟ أيظن هذا أن الأمة من روى البردة سائر الأمة ؟ وأين من قبل صاحب البردة بنحو ستة قرون ؟ .
أليسوا من الأمة ؟ عافانا الله وإخواننا المسلمين من هذا الهذيان الذي يهدم أصل التوحيد والإيمان .
فصل
قال المعترض : والمقصود أن هؤلاء العلماء الأمناء الأمجاد النقاد من جميع نواحي الإسلام تلقوها ونقلوها ورضوها ولم ينتقدها واحد منهم ، ولا من غيرهم من علماء الأمة فهل تراهم أجمعوا على إقرار الشرك الأكبر ، المخرج من الملة وما يقوله هذا الرجل ، وأنهم جهلوا كما جهل صاحبها بزعمه ، حتى خرج فأخرج لهم التوحيد كما يزعم في الأرض التي سفكت فيها دماء الصحابة حتى أشفق صديق الأمة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه على ذهاب القرآن حتى قال علي رضي الله عنه أنه ذهب منه آيات منها آية الرجم .(175/201)
والجواب أن يقال : القول بأن العلماء الأمناء من نواحي الأرض قبلوها ورضوها ولم ينتقدها أحد منهم ، قول باطل : وفرية ظاهرة ، وكذب على أهل العلم والإيمان ، وهذا العدد اليسير الذين ذكرهم في سنده لا يُعرف أحد منهم بالعلم والفقه إلا رجل أو رجلان ، ولهم من الأقوال ما انتقدها عليهم فحول الرجال ، والعصمة لا تدعى ولا تثبت لغير الرسل ، فكيف ينسب إلى جميع العلماء من نواحي الأرض أنهم قبلوها ورضوها ، وجل بضاعة هذا الرجل هو الكذب على الله وعلى رسله وعلي علماء الأمة وساداتها . فمن كانت هذه بضاعته فهو أكثر الناس غبناً ، وأعظهم خسراناً ، وهذا العدد الذي ذكره ليس فيهم من ذكر بالعلم إلا نحو ثلاثة أشخاص من المقلدين الذين لا يرجع إليهم في التصحيح والترجيح ، وما المانع أن يخفى عليهم هذا ، وقد خفى على من هو أجل منهم وأفضل بالاتفاق ؟ .
اللهم إلا أن يقول هذا المعترض بعصمة من روى هذا النظم كما قالت ذلك غلاة الرافضة والإسماعيلية في أئمتهم الاثني عشر ، وقد مر أن شيخ الإسلام ابن تيمية انتقد على من هو أجل من صاحب البردة كابن النعمان ما هو دون ما في هذه الأبيات .
ثم ما يدري هذا المغفل أن الأئمة لم ينتقدوها ولم يردوها أيكون الجهل وعدم العلم دليلا في موارد النزاع ؟ وما المانع من أن يكون علماء الأمة أنكروا ما فيها من الغلو والإطراء بل لا مانع من أن يكون رواتها قد أنكر ما فيها حذاقهم ، وأهل البصيرة منهم ، وقد يروي الرجل بعض الأحاديث والأخبار ويتعقبها مع ذلك ويذكر ما فيها ، وينبغي إحسان الظن بأهل العلم وحملهم في ذلك على أحسن المحامل وأكمل الوجوه .
وأما تعريضه بذكر الأرض التي سفكت فيها دماء الصحابة حتى أشفق صديق الأمة على ذهاب القرآن .(175/202)
فيقال : قد سفكت دماء أناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كثير من البقاع التي وقع فيها القتال كأحد وحنين وبدر والشام والعراق ، ودمائهم أصيبت في الله ولله وأشرف البقاع ما اشتمل على أجسادهم ودمائهم ولا يؤثر ذلك في الأرض إلا طيباً وتطهيراً ، وقد صح الحديث : ( أن الشهيد يبعث يوم القيامة وجرحه يسيل دما اللون لون الدم والريح ريح المسك ) وأما من بعدهم ممن سكن تلك الأرض فالأرض لا تطهر ولا تقدس أحداً ، كما قال سلمان لما كتب إليه أبو الدرداء أن يقدم إلى الأرض المقدسة فكتب إليه : أن الأرض لا تقدس أحداً . وكذلك الأرض لا تؤثر في الإضلال والشقاوة قد سكن الحرمين والأرض المقدسة من هو أضل خلق الله وأكفرهم وأشدهم عداوة لله ، بل سكن الأرض المقدسة من قتل الأنبياء وعبد العجل ، وفعل ما قص الله عن بني إسرائيل ولم تزل مقدسة مع ذلك تبعث فيها الأنبياء وتسكنها ، ومصر دار الفراعنة والجبارين قد فتحت زمن عمر وبنيت فيها المساجد وسكنها الصحابة والتابعون وجملة من أكابر العلماء كالليث بن سعد ومحمد بن إدريس ، وأكابر أصحابه ، وأشهب صاحب مالك ، وخلق لا يحصيهم إلا الله من أهل العلم والدين ، ولم يقل أحد منهم : هذه دار فرعون الذي قتل بني إسرائيل وكذب الرسل ، وادعى الربوبية ، واتبعه قومه على ذلك ، وما من حرم للمسلمين ولا بلدة من بلادهم ومساكن الأنبياء إلا وقد وقع فيها من الكفر والفسوق والقتال ما هو مشهور .
ولا يعيب المسلمين ويتنقص المؤمنين بمن سكن ديارهم من الفراعنة الجبارين والكفرة الماضين إلا من هو معدود من جملة الحمقى الضالين ، وما أحسن ما قيل :
العلم للرجل اللبيب زيادة
*
ونقيصة للأحمق الطياش
مثل النهار يزيد إبصار الورى
*
نوراً ، ويعمي أعين الخفاش
فصل(175/203)
قال المعترض : وقد امتنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدعاء لها لما دعا للشام ولليمن والمدينة ، لما علم بعلم الله ما يحدث فيها ومنها ، وقال فيها : ( أولئك منها الزلازل والفتن ، ومنها يظهر قرن الشيطان ) ثم ذكر مسيلمة وقوله : يا ضفدع بنت ضفدعين . وأطال الكلام السمج الذي يتنزه العاقل عن حكايته .
ثم قال : وقد نصت العرب أن لغة أهل اليمامة أرك اللغات ، فأين تأتي لهم الفصاحة والمعرفة ، وقال فيهم الصديق رضي الله عنه : لا يزالون في فتنة من كذابهم . وقد وجد منهم بالكوفة مائة وستون رجلا يقرأون كلام مسيلمة ، فأتي بهم لابن مسعود وقتل إمامهم وفرقهم في القبائل ، وأجلى من أجلى منهم إلى الشام .
ثم قال : ومن أين يظهر لهؤلاء البيان ولم يميزوا بين القرآن وسجع الشيطان ، بل أجملوا على ذلك ، ولم يتنبه منهم اثنان فصار بذلك موضعهم قابلا للبهتان وزخارف الهذيان ، ومن أنكر عليهم من أهل نجد وعلمائهم قتلوه ونهبوه . فصح بهذا أنهم من الذين وصفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( بأنهم سفهاء الأحلام ) الحديث .
والجواب أن يقال : أما اليمن والشام فقد ثبت في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا بالبركة فيهما ، ولا يلزم من هذا تفضيلهما على سائر البلاد الإسلامية . وقد دعا لأناس من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم من السابقين الأولين أفضل منهم عند كافة المسلمين . ومكة أخرج منها النبي - صلى الله عليه وسلم - وعبدت فيها الأصنام ، وعلق على الكعبة من ذلك ، ووضع عليها ما لم يوضع في بيت المقدس ولا غيره من مساجد المسلمين ، ومكة أفضل البلاد ومسجدها أفضل المساجد علىالاطلاق .(175/204)
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له : وفي نجدنا : ( ههنا موضع الزلازل والفتن ومنها يطلع قرن الشيطان ) فالمقصود بها نجد العراق وشرق المدينة . وقد ورد ذلك صريحا في حديث ابن عمر ونص عليه الخطابي وغيره ، وقد ترك الدعاء للعراق جملة بل وذمها .
وقد روى الطبراني من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( دخل إبليس العراق فقضى فيها حاجته ، ثم دخل الشام فطردوه ثم دخل مصر فباض فيها وفرخ وبسط عليها عبقريه ) ولا يقول مسلم بذم علماء العراق لما ورد فيها وأكابر أهل الحديث وفقهاء الأمة وأهل الجرح والتعديل أكثرهم من أهل العراق وإمام السنة أحمد بن حنبل وشيخ الطريقة الجنيد بن محمد وعلم الزهاد الحسن وابن سيرين ، وأبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري وأصحابه ، واسحق بن إبراهيم بن راهويه ومحمد ابن إسماعيل ، ومسلم بن الحجاج ، وأبو داود وأصحاب السنن ، وأصحاب الدواوين الإسلامية . كلهم عراقيو الدار مولدا وسكنى ، والليث بن سعد ، ومحمد بن إدريس وأشهب ، ومن قبل هؤلاء كلهم سكن العراق ومصر جملة من أكابر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن التابعين بعدهم .
ومن عاب الساكن بالسكنى والإقامة في مثل تلك البلاد فقد عاب جمهور الأمة وسبهم وآذاهم بغير ما اكتسبوا وقد داول الله الأيام بين البقاع والبلاد ، كما داولها بين الناس والعباد قال تعالى : { وتلك الأيام نداولها بين الناس } وكم من بلد فتحت وصارت من خير بلاد المسلمين بعد أن كانت في أيدي الفراعنة والمشركين ، والفلاسفة والصابئين ، والكفرة من المجوس والكتابيين ، بل الخربة التي كانت بها قبور المشركين صارت مسجداً هو أفضل مساجد المسلمين بعد المسجد الحرام ، ودفن بها أفضل المرسلين وسادات المؤمنين .(175/205)
ولا يعيب شيخنا بدار مسيلمة إلا من عاب أئمة الهدى ومصابيح الدجى بما سبق في بلادهم من الشرك والكفر المبين . وطرد هذا القول جراءة على النبيين وأكابر المؤمنين .
وهذا المعترض كعنز السوء يبحث عن حتفه بظلفه ، ولا يدري ، وقد قال لي بعض الأزهريين : مسيلمة الكذاب من خير نجدكم . فقلت : وفرعون اللعين رئيس مصركم فبهت . وأين كفر فرعون من كفر مسيلمة لو كانوا يعلمون ؟ .
وأما قوله في كلام مسيلمة " يا ضفدع بنت ضفدعيين " فإن كان هذا ينسبه إلينا ويرى أننا آمنا بكلام مسيلمة فهو لا يفرق بين دين محمد ابن عبد الله الرسول الصادق الأمين ودين مسيلمة الكذاب المهين . وإن كان هذا المعترض يعلم أننا كفرنا بمسيلمة وآمنا بالله ورسوله فما وجه ذكر مسيلمة وكذبه ؟ لولا الحماقة والسفاهة ، والجهالة والوقاحة ؟ .
وقد تقدم أن طرد هذا الكلام يوجب ذم كل من سكن بلدة من بلاد المسلمين التي سكنها قبله أعيان المشركين ، ورؤوس الكافرين . فأي أحد يبقى لو طرد هذا ؟ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لو كان الإيمان معلقا بالثريا لناله رجال من فارس ) مع أن بلادهم من شر البلاد ، عبدت فيها الأوثان والنيران ، وكفر فيها بالله الذي لا إله إلا هو الرحمن .
وكذلك ما ذكر من قصتهم مع ما فيها من الكذب إنما هو مجرد تمويه وهذيان ليس من محل النزاع في شيء .
وأما قوله : وقد نصت العرب وصح عنها بأجمعها أن لغة أهل اليمامة أرك اللغات قال : فأين تأتي لهم الفصاحة والمعرفة وقد أثبت فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الجفا . وقال الصديق رضي الله عنه فيهم : لا يزالون في فتنة من كذابهم . وهو رضي الله عنه صادق الفراسة وبعد هذا وجد منهم مائة وستون رجلا بمسجدهم بالكوفة يقرؤون كلام مسيلمة الكذاب فأتى بهم لابن مسعود وهو عليها هو وعمار أمير فقتل إمامهم ابن النواحه وفرقهم في القبائل وأجلى من أجلى منهم إلى الشام .(175/206)
والجواب أن يقال لهذا الغبي : إن شيخنا رحمه الله تعالى من رؤوس تميم وأعيانهم ، وليس من بني حنيفة ، وتميم قبل الإسلام وبعده هم رؤوس نجد وسادته ، ولغتهم أفصح اللغات وأفضلها بعد لغة قريش ، ولا يذكر مع لغة قريش ، غالبا إلا لغة تميم كما يذكره النحاة وغيرهم . وهم ممن قاتل بني حنيفة مع خالد وأبلوا بلاء حسناً . وأقطع خالد بن الوليد أفخاذاً منهم أودية معروفة بنجد من اليمامة وغيرها . فلو فرضنا أن بني حنيفة فيهم ما ذكر من جهة لغتهم وعدم فصاحتهم . فأين الشيخ منهم ؟ وسكنى الدار لا تؤثر . فإن الصحابة سكنوا مصر وبلاد الفرس ، وفضلهم لا يزال في مزيد ، وإيمانهم قهر أهل الكفر والشرك والتنديد ، وعادت تلك البقاع والأماكن من أفضل مساكن أهل التوحيد .
وأما قوله : إن العرب نصت على أن لغة أهل اليمامة أرك اللغات فأين تأتي لهم الفصاحة ؟ .
فبنو حنيفة من أعيان العرب ورؤوسهم ، ولغتهم من أفصح اللغات ، ولا أصل لقول هذا المعترض . ما قال أحد بعيب لغتهم وذمها .
وقوله : نصت العرب : دليل على كذبه وجهله بمعاني الكلام . فإن العرب يدخل فيهم من ليس بأعجمي النسب واللسان . فيقع على من سكن الجزيرة بأجمعها إلى حدود مصر والشام ، ومن ساحل اليمن إلى ساحل العراق وأين نص هؤلاء ؟ ومن الذي قاله منهم ؟ وهذا أبلغ من حكاية الإجماع .
وأما قوله : فأين تأتي لهم الفصاحة ؟ .
فهذا تركيب ركيك . فإن ( أتى يأتي ) يتعدى بنفسه فالركيك تركيب المعترض وكلامه .
وقوله : وقد أثبت فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الجفا .(175/207)
فيقال : عيب بني حنيفة أكبر من الجفاء وأغلظ . وأما الجفاء فلم يرد فيهم لفظة واحدة . وإنما ورد في أهل الوبر والشعر . كقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الغلظة في الفدادين أهل الوبر والشعر ) وقال تعالى : { الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله . والله عليم حكيم } ومع هذا فقد أثنى الله تعالى على من آمن بالله واليوم الآخر منهم واستثناهم من العموم . قال تعالى : { ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول } فمن آمن بالله ورسوله وكذب مسيلمة ولم يؤمن به فهو من المؤمنين . وقد : { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم } .(175/208)
وأما قول الصديق فالمراد به من آمن بمسيلمة وأدركه منهم ، كما وقع من ابن النواحه . وأما من بعدهم من نسلهم وذراريهم المؤمنين فلا يتوجه إليهم ذم ولا عيب . والصديق أجل من أن يعيب من لم يؤمن بمسيلمة ولم يشهد عصره ، وآباء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسلافهم كانوا على جاهلية وشرك وعبادة للأصنام والأحجار ، وغيرها . ولا يتوجه عيب أحد منهم بأسلافه . وقد يخرج الله من أصلاب المشركين والكفار من هو من خواص أوليائه وأصفيائه . ولما استأذن ملك الجبال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطبق عليهم الاخشبين ـ لما رجمه أهل الطائف ـ ودعا بدعائه المشهور وهو قوله : ( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي ، وهواني على الناس . أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ؟ أو إلى قريب ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك سخط علي فلا أبالي . غير أن عافيتك هي أوسع لي . لك العتبى حتى ترضى أعوذ بنور وجهك أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك ) فاستأذنه الملك عند ذلك أن يطبق عليهم الاخشبين . فقال : ( بل أتأنى بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئاً ) .
إذا عرفت هذا فشيخنا ليس من بني حنيفة أصلا . والقصد بيان كلام الصديق وما أريد به .
وأما قوله : وقد وجد منهم مائة وستون رجلا بمسجدهم بالكوفة يقرؤون كلام مسيلمة .
فهذا كذب . القصة ليست كذلك ، بل هم بضعة عشر رجلا . لم يقرأوا قرآنه وإنما تكلموا في نبوتة وجوزوها . وهذا الرجل بضاعته الكذب على الله وعلى خلقه فنعوذ بالله من درك الشقاء وسوء القضاء .(175/209)
ثم لو فرض أن من بني حنيفة عالماً يدعو إلى الله فما وجه عيبه وذمه بقومه ، وقد خالفهم في الإيمان والدين ؟ وسلمان الفارسي وصهيب الرومي ، وبلال بن رباح رضي الله عنهم من أفضل الناس . وأسلافهم من شر الناس بل والرسل أفضل الخلق وأكرمهم على الله والمكذبون لهم من قومهم أكثر من المستجيبين . وابن نوح على أبيه السلام لم ينتفع بإيمان أبيه ورسالته . ولم ينل بذلك ما يوجب سعادته وفلاحه . وهذا المعترض جاهلي الدين والمعرفة والمذهب .
فصل
قال المعترض : فصار بذلك موضعهم قابلا للبهتان إلى هذا الزمان . ومن أنكر عليهم من أهل نجد قتلوه ونهبوه والباقي أجلوه . فصح بهذا أنهم من الذين وصفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم سفهاء الأحلام .
والجواب أن يقال : هذا كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يصف أهل نجد وأهل اليمامة بهذا ، ولا دخل في وصفه من يؤمن بالله ورسوله منهم ولا من غيرهم ، بل الموصوف بإجماع المسلمين هم الحرورية الخارجون على علي رضي الله عنه الذين قاتلهم علي بالكوفة والبصرة وما يليها ، وفيهم من بني يشكر ومن طي وتميم وغيرهم من قبائل العرب ، ودارهم ومسكنهم بالعراق . ولا يختلف في هذا . فدارهم دار أشياخك ومحل إقامتك الذي نشأت به ، وأثنيت على أهله ، وهي دار سفهاء الأحلام بنص الحديث وبإجماع الأمة . ودولتهم وشوكتهم كانت هناك دون النهر ، ولذلك نسبوا إليها فقيل : أهل النهروان . وحروراء هناك بلدة نسبوا إليها فقيل : الحرورية . فأين في الحديث أن أهل اليمامة منهم ؟ ما أقبح الكذب ، وما أعظم خزي مبديه وفي هجنة كلام المعترض واستقباح مذهبه ما يقضي بسفاهة رأيه وعظيم عطبه .
ما يبلغ الأعداء من جاهل
*
ما يبلغ الجاهل من نفسه(175/210)
ثم في زعمه أن الموضع قابل للبهتان إن قصد به المحل كما هو ظاهر عبارته . فقد سب الأرض ، والموضع المطيع لله الشاهد بوحدانيته بما أودع فيه من الآيات ، وذرأ من البريات . وهو انتقال من مسبة الساكن إلى مسبة المسكن . وأن أراد أهله وسكانه ففيه عيب كل مسلم ووصفه بقبول البهتان والشك من عهد مسيلمة إلى هذا الزمان . فسبحان الله الذي طبع على قلبه ، وحال بينه وبين العلم والفهم .
فصل
قال المعترض : ومع ما ذكرناه جعل هذا الرجل مواضع دعوته - صلى الله عليه وسلم - ومنبع النبوات بلاد كفر لا يجوز السفر إليها ومن جاءه منها راغباً لدنياه سماه مهاجراً . قد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح : ( أن الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ) وأنها آخر بلاد المسلمين خراباً في آخر الزمان . فصح أن الإسلام ملازم لها . وأرشد - صلى الله عليه وسلم - إلى الشام أيام الفتن وأنها عقر الإسلام ومعقل الإيمان . ومع ذلك صوب هذا الرجل نفسه على خطأه وخطأ علماء الأمة وكفرهم بخطأه وقد قدمنا استشهاد الله تعالى بهم وما رواه ابن عدي والبيهقي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ) .
والجواب أن يقال : قد تقدم أن هذه الدعوى التي ادعاها المعترض على شيخنا من جعله الحرمين بلاد كفر دعوى كاذبة ضالة . وأن الشيخ رحمه الله تعالى من أعلم الناس وأعدلهم في قوله وفعله ، على منهاج مستقيم . ولا يمكن أحد إثبات هذه الدعوى وتصحيحها بوجه من الوجوه والكلام في هذه المواضع يجب أن يكون بعلم وعدل . ومن فقد ذلك فقد ضل عن سواء السبيل وأضل .(175/211)
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ) فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصادق المصدوق والذي لا ينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحى والشأن كل الشأن في الفقه عن الله ورسوله ومعرفة مواقع خطابه .
وأما الكلام في هذه المباحث من الأغمار والجهال الذين لا عناية لهم بمعاني الكتاب والسنة ، ولا دراية لهم بتقارير علماء الأمة فالمحنة بهم عظيمة ، وطريقتهم غير عادلة ولا مستقيمة . ليس في الحديث ما يفيد أنه لا يتعداها إلي غيرها من البلاد والمواضع ، وليس فيه مما يفيد إيمان جميع من سكنها واستوطنها . وقد وجد في زمانه من أهل النفاق كثير في المدينة ، وسكنها بعده - صلى الله عليه وسلم - كثير من أهل البدع والمارقين . وفي هذه الأزمان جمهور أهل العوالي وما يليها رافضة من غلاة الرافضة ، وكلامهم في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومسبتهم لأم المؤمنين معروفة مشهورة ، والحكم الكلي الأغلبي لا يلزم اطراده .
ثم يقال لهذا الغبي : أخبرنا ما الفرق بين هذا وبين قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( الإيمان يمان والحكمة يمانية ) ؟ إن قلت إن الإيمان لا يفارق اليمن في كل وقت وزمان ، ورد عليك الأسود العنسي وأمثاله من المرتدين والمارقين في كل وقت وحين .
وقوله : وأرشدهم - صلى الله عليه وسلم - إلى الشام أيام الفتن إلى آخره .(175/212)
فيقال له : إذا كان الشام عقر الإسلام ومعقل الإيمان فهذا من الأدلة على أن الإسلام والإيمان لا تختص به المدينة ولا غيرها من البلاد الإسلامية ، وأن الله يداول الأيام بين البلاد والعباد ، فحيناً تكون الشوكة والدولة الإسلامية بالحجاز والحرمين ، كما كان في عهد النبوة وفي الخلافة الصديقية التيمية والخلافة الفاروقية العدوية والخلافة الأموية والخلافة العلوية ، وحيناً في الشام كالولاية المروانية ، وحينا في العراق كالدولة العباسية وحينا في غيرها من البلاد ، كما يشهد بذلك الواقع . فإن الإفرنج ملكوا بيت المقدس واستولوا على خير بلاد الشام وأفضلها دهراً طويلاً حتى استنقذها من أيديهم الملك الصالح من السلاطين الأكراد المصرية . واستولى على ساحل الشام طوائف من النصارى بعد ما سبق فيه من القوة والصولة الإسلامية ، ثم استحال جبل النصيرية إلى الإسماعيلية والكفر العظيم والغلو في أئمتهم وترك التزام أحكام الإسلام . وبهذا تعرف أن العموم مخصوص ، والإطلاق مقيد ، والعبرة بالغالب الأكثر . وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أن الإيمان يكون بالشام حين تكون الفتن .
وأما حديث : ( يحمل هذا العلم من كل حلف عدوله ) فقد ثبت وصح عن أحمد وغيره من الأئمة أن المراد به علم الحديث المشتمل على بيان الكتاب وتفسيره وتقرير الأحكام الدينية الأصولية والفروعية . وهذا بحمد الله لنا لا علينا . فإن شيخنا قد شهد له الجم الغفير والخلق الكثير بأنه من حملة هذا العلم . ومن أئمته المقتدى بهم فيه ولولا خشية الإطالة لبسطنا القول في ذلك . وفيما كتبناه كفاية .
فصل(175/213)
قال المعترض : وقد أجمعت الأمة أنها لا تجمع على ضلالة . وهذا يقول : اجتمعت وأجمعت . فهذه البردة لها قدر ستمائة سنة تداولها علماء الأمة وتشرحها هي والهمزية . ويتهادون شرحها بينهم بغالي الأثمان . وأبلغ من هذا كتبها بماء الذهب دائر الحجرة الشريفة . فلما دخل هؤلاء المدينة المنورة أيام توليهم عليها أرادوا حكها فلم يستطيعوا ذلك . فلزقوا عليها الورق .
ولست أحكي هذا عن غيري فهل أنكرها عالم من علماء المسلمين ، وما من علماء الأمة إلا من شاء الله من لا دخل المدينة المنورة ورآها وليست خفية ، بل هي أشهر من ( قفا نبك ) وقد علم الله من حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما علم : أليس هم أعلى من الشهداء حالا بعد الموت ؟ وقد أخبر الله أنهم : { أحياء عند ربهم يرزقون . فرحين بما آتاهم الله من فضله } .
ألم يعلم هذا الرجل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في معراجة مر بكليم الرحمن موسى بن عمران وهو يصلي في قبره ومرة كما في الصحيحين من حديث مالك ابن صعصعة رضي الله عنه في السماء السادسة . ونصحه واستنصحه وسلم عليه وعلىالانبياء في السماوات فردوا عليه ورحبوا به . وقد صلى بهم قبل في بيت المقدس من عند الصخرة عليهم أفضل الصلاة والسلام : أفيظنهم هذا الرجل أمواتا في عالم العدم أم يريد أن يمنع عنهم ما أعطاهم الله من الكرامة ، ويقيسهم على نفسه التي تراكمت عليها ظلمات الزيغ والأهواء بعضها فوق بعض ، حيث يرى الحق في صورة الباطل ؟ أو ليس هو - صلى الله عليه وسلم - أفضل أولو العزم من الرسل؟ أليس الله قد أعطى من هو دونه في الفضل عيسي بن مريم عليه الصلاة والسلام إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ؟ أليس هو يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بأذن الله ؟ أفيظن هذا الرجل أن هذه الأمور من عيسى عليه السلام من دون الله ؟ بل قال تعالى : { إن مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } .(175/214)
والجواب أن يقال : أما قوله : أن الشيخ يقول اجتمعت الأمة واجمعت على ضلالة .
فهذا من أبلغ الكذب وأعظم الإفك والافتراء . وقد نزه الله الشيخ وأمثاله من أهل العلم عن قول الزور وشهادته . وأظن هذا الغبي يشير إلى أن الأمة من روى البردة واستحسنها واعتقدها ، مع أن الشيخ لم يتكلم فيهم ، ولا بحث في حال من رواها وقررها وإنما الكلام في نفس القول الذي اشتمل على الغلو والإطراء ، ولم يتجاوز شيخنا هذا ولم يبلغا عنه حرف في تضليل من قرأها وقد يقرؤها الإنسان ويتصفحها وهو منكر لما يجب إنكاره فيها . ثم لو فرض أن الشيخ ضلل هؤلاء أيقال : هم الأمة ، أين أهل القرون الستة الأول ؟ أين من بعدهم من الأمة إلى عصر الشيخ ؟ وغاية ما عندكم عد رجال قليلين رووها أفتحصر الأمة في هذا العدد اليسير الذي لا يعرف أحد منهم بعلم سوى رجلين أو ثلاثة ، وهم دون نظرائهم ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم . وهل شرحها من الأمة من يعرف له لسان صدق في المسلمين ؟ ما أقبح الفرية وما أشد جنايتها .
وأما كتبها بماء الذهب فمن كتبها ومن وضعها ؟ أهم أهل العلم وسادات الورى ؟ أم الملوك والسلاطين والوزراء إن كان فعلهم حجة فقد وضعوا القباب والمكوس . وبعضهم وضع مهور البغايا . ليت هذا خرس وستر على نفسه هذه الخزية الشنعاء ، والقولة العمياء ما أقبح الحور بعد الكور .
قال رجل من أهل البيت عند ربيعة بن عبد الرحمن : أرأيت إن غلب الجهال حتى صار الأمر إليهم ، أهم الحكام على السنة ؟ فقال ربيعة : أشهد أن هذا كلام أولاد الأنبياء .
وأما قوله : فلما دخل هؤلاء المدينة المنورة أرادوا حكها فلم يستطيعوا ذلك فألزقوا عليها الورق .(175/215)
فيقال له : هذا من مناقبهم وأدلة علمهم ، فإن أهل العلم لا يختلفون أن هذا من البدع المنكرة التي لم يدل عليها كتاب ولا سنة . بل قد ثبت بالكتاب والسنة النهي عن ذلك أشد النهي وقرر الفقهاء المنع من الكتابة على القبور والقباب وعلى جدران المساجد ونحوها . ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفائه الراشدين ، ولا أهل القرون المفضلة يفعل ذلك ، لا في حياته ولا بعد مماته بأبي هو وأمي . والخير في أتباع من سلف ، والشر في ابتداع من خلف وما تركه أهل العلم من القرون المفضلة وأئمة الهدى فلا شك في ذمه وإلحاقه بشر المحدثات ، وطرائق أهل الضلالات ، ولولا خوف الإطالة لذكرت من الأدلة والبراهين ما يقضي أن هذا من المحرمات والمنكرات التي تجب إزالتها . ولو خلت عن الإطراء والغلو . فكيف وقد اشتملت من ذلك على الكفر البواح والتكذيب الصارخ لكتاب الله ورسوله ؟ .
وأما رؤية العلماء لها فليست دليلا على إقرارهم والأمر في هذا كان إلى الملوك لا إليهم . وقد تأخر وضعها إلى القرن الحادي عشر الذي عفت آثار العلم فيه ، وقل من يعرفه ويدريه .
وأما قوله : وقد علم الله من حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما علم . الخ كلامه .(175/216)
فحاصل هذه الدعوى أن الأنبياء أحياء وأنهم أعلى من الشهداء حالا بعد الموت وهذا حق لا ريب فيه ، ولا ينازع فيه مسلم ، والأمر ابلغ من ذلك وأرفع ، ولكن هذا لا يدل على صحة دعوى هذا الرجل : من انهم يقصدون للدعاء والاستعانة والاستغاثة ، فإن فضلهم وحياتهم وكرامتهم ونبوتهم ورسالتهم لا تقتضي صرف حق الله إليهم ، وتنزيلهم منزلته تعالى في القصد والدعاء ، والخوف والرجاء والرغبة والرهبة ولا يوجب ذلك صرف الوجوه إليهم بشيء من المطالب والمقاصد التي بيده تعالى ، ومنه عطاؤها وقسمها ومنعها ، وتدبيرها وتيسيرها ، وقد قال تعالى لأكرم خلقه وأفضل رسله : { ليس لك من الأمر شيء } وقال تعالى : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } قال بعض الأفاضل : نزل استعظام موته منزلة جعله إلها ولذلك قال : { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } وقال تعالى : {قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشداً } وقال تعالى : { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } وقد قال لبنته وبضعته : ( يا فاطمة بنت محمد اعملي ، فلن أغني عنك من الله شيئا ) أفيظن هذا الغبي أن الرسالة والنبوة والكرامة والحياة البرزخية أو الدنيوية توجب صرف القلوب إلى غير الله ، وقصد من سواه ، واتخاذ الأنداد والشفعاء من دونه ؟ وقد ذكر الله هذا عن المشركين وقرر كفر فاعله ، وأخبر أنهم : { لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا } وقال تعالى : { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } فأخبر تعالى أن قصد أنبيائه ورسله بالعبادات والالتفات إليهم بالتألهات اتخاذ لهم أربابا ، وأنه كفر بعد الإسلام .(175/217)
وشنشنة هذا المعترض بذكر الحياة ونفي الموت عنهم ، وأن عيسى أعطي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير ، وأن نبينا أفضل منه ، كل هذا شنشنة حول دعائهم مع الله وأنهم يقصدون لتلك المطالب ، وقد علم أن النزاع بيننا وبينه في دعائهم للشدائد ، ونسبة علم الغيب إليهم ، وأن الدنيا والآخرة من جوده - صلى الله عليه وسلم - ومن فيض كرمه ، هذا محل النزاع ، فأخذ الغبي يستدل على ذلك بما لهم من الكرامة والحياة التي هي فوق حياة الشهداء ، وأن عيسى يحي الموتى ونبينا - صلى الله عليه وسلم - أفضل منه ، وقصده أنه يدعى لمثل ذلك ، وما هو أبلغ منه ، والنصارى احتجوا على دعاء عيسى وعبادته وإلهيته بهذه الحجج الداحضة وأمثالها . فنعوذ بالله من الخسران .
صار قصارى أمر هذا الرجل وغاية دينه أن يحتج بالمعجزات والكرامات على دعاء غير الله . اللهم يا مقلب القلوب ومصرفها صرف قلوبنا إلى طاعتك وتوحيدك والايمان بك وبرسلك .
وأما قوله : أفيظنهم هذا الرجل أمواتاً .
فعبارة جاهل لا يفرق بين حياة الأنبياء والشهداء بعد الموت ، وحياتهم في الدنيا فظن الغبي أنها هي الحياة الدنيوية ولذلك نفى الموت . والله تعالى يقول : { إنك ميت وانهم ميتون } والحياة البرزخية تجامع الموت ولا تنافيه كحال الشهداء .
وقد تقدم أن هذا الرجل الصق الناس بالجاهلية الأولى ، ولم يأنس بشيء مما جاءت به الأنبياء ، بل ويحاول بظلماتة أن ينقض ما جاء به الأنبياء . ويريد أن يطفئ نور الله والله متم نوره ولو كره هذا الكافر وشيعته الخاسرون .
وأما ما وصف به الشيخ وحكم عليه به من تراكم الزيغ والأهواء ورؤية الحق في صورة الباطل .(175/218)
فالحكم بينه وبينه في هذا ونحوه إلى الله تعالى : { إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين } وإنما أردنا بيان ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، من التوحيد والهدى وكشف ضلال أهل الزيغ والردى ، وأما المقاصة فلسنا بصددها ، وإن كان قد أذن لمن شاء أن ينتصر فيها .
... ... ... ...
فصل
قال المعترض : وهل طلب شرف الدين إلا مما أعطيه ، قيل من سأل عيسى عليه الصلاة والسلام خلق الطير الذي أعطيه يكون كافراً مشركا عند هذا الرجل ؟ أو يقول إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - غير موجود أو أنه في عالم العدم ؟ أو يقول : إن جاهه عند ربه انقطع بموته ؟ فما بال صديق هذه الأمة رضي الله عنه يقول لخاتم المرسلين بعد موته يخاطبه : اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن من بالك . ولم يقل له ذلك في حياته إلا لعلمه بقربه من ربه بعد موته ، وعظم جاهه عنده أعظم من كونه في الحياة . وهذا الرجل يجعل هذا من الشرك الأكبر . فهو أعظم من الصديق وأقرب الى الله تعالى ورسوله منه ، وهل هذا من عبادة غير الله تعالى جل ذكره في شيء ؟ بل الكل من عند الله : الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما أعطيه لأمته ، فما لهؤلاء القوم لا يفقهون حديثاً . وإنما الشرك قاتلهم الله أنى يؤفكون : طلب ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، ولم يعط أحدا من خلقه كهداية القلوب وشفاء المريض ، وانبات النبات وطلب الذرية ونحو ذلك وكذلك قصد غيره بالعبادة من دونه تبارك وتعالى ، كما قال تعالى : { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له وبذلك أمرت } .
والجواب أن يقال : قاتل الله من أفك عن دينه وتوحيده ، وصده عن سبيله وما جاءت به الرسل من عنده من الإيمان والإسلام وإفراده بالطاعة والعبادة . ورضي الله عمن دعا الى توحيده وأمر بطاعته ونهى عن الشرك به ، واتخاذ الأنداد له . وأن تصرف الوجوه الى غيره عبادة واستغاثة وتوكلا ورجاء .(175/219)
وحاصل كلام هذا الرجل تقريره : أن الطلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو غيره ممن له شفاعة أو قرب وجاه يسوغ ولا يكره ولا يحرم . لأنه ليس بشرك بل هو من جنس سؤال الأحياء من الآدميين ما يستطيعونه من الأسباب العادية . وهذا هو المقصود له من رده واعتراضه من أول رسالته ، ولم ينكر على شيخنا سوى تجريد التوحيد ، وأفراد الله بالقصد والعبادة، والخصومة في هذا قديمة ليس هذا أول قائل بدعاء الموتى والاستغاثه بهم ، وطلب الحوائج والمهمات من جهتهم . ومن قال بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته أولى بالمسألة والطلب منه في حال حياته الدنيوية ، وأن ما جاز طلبه في الحياة يطلب منه بعد الممات ، فقد فتح باب الشرك والتنديد ، وصدف عن توحيد الله العزيز الحميد ، لأن هذا هو قول الصابئة المشركين ، ومذهب الجاهلية الأميين ، بل صريح كلام هذا المعترض : أن الميت يسأل مما أعطيه ، وأنه بيده يفعل ما يشاء من عطاء ومنع ، وجمهور المشركين لم يقولوا هذا ، وإنما قالوا إن الميت المعظم يقربهم إلى الله زلفى ، ويشفع لهم عنده فهو واسطة على زعمهم . وأما المعترض فجعل ذلك من جنس ما يسأله الميت ويطلب منه في حال حياته ، لا على سبيل الوساطة ، بل كما يسأل الملاك ما بأيديهم .
فالرجل وصل إلى حد أحجم دونه أكثر المشركين ، ولم يقتحموه خوف الشناعة والضلالة .(175/220)
وحينئذ فيقال : هذه الدعوى ـ وهي الطلب من الأموات ما يطلب منهم في الحياة ـ دعوى كبيرة غليظة . ليست كغيرها من الدعاوى . فيحتاج مدعيها إلى ما يثبتها من الأدلة الشرعية ، والقوانين المرضية ، والسيرة السلفية . وأما المقاييس الفاسدة فلا تفيد هنا ، وقد قال بعض السلف : ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس . وهذا كتاب الله من أوله الى آخره ، وهذه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين وأهل القرون المفضلة ، أي آية وأية سنة ، وأي عالم من أهل القرون المفضلة قال بهذا أو ذهب إليه ؟ بل الأدلة والنصوص متواترة متظاهرة على أن طلب الحوائج من الموتى والتوجه إليه شرك محرم ، وأن فاعله من أسفه السفهاء ، وأضل الخلق ، وأنه ممن عدل بربه وجعل له أنداداً وشركاء في العبادة التي لا تصلح لسواه ، ولا تنبغي لغيرة ، وأنه أصل شرك العالم . وقد حكى الإجماع على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كلامه ، وكذلك ابن قيم الجوزية قرر تحريمه ، وأنه من الشرك الأكبر وأنه أصل شرك العالم في كتابه إغاثة اللهفان وغيره ، وابن عقيل كفر بطلب الحوائج من الموتى ودس الرقاع فيها : يا مولاي ، إفعل بي كذا وكذا . ولم يخالف في ذلك أحد من أهل العلم ، واستدلوا بقول الله تعالى : { وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا } و {أحداً } نكره في سياق النهي فتعم الرسل وغيرهم . وقوله : { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين } وقوله تعالى : { ومن يدع مع الله إلهاُ آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون } وقال تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين } وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا . أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن(175/221)
عذاب ربك كان محذورا } قال طائفة من السلف : نزلت فيمن يعبد المسيح وأمه وعزيرا . وقالت طائفة : نزلت فيمن يعبد رجالا من الجن أسلم المعبودون وبقي من يعبدهم من العرب على شركه ، وقيل نزلت في الملائكة . قال شيخ الإسلام تقي الدين : والآية تعم هذا كله وكل من دعا معبودا من دون الله ومعبوده يبتغي الوسيلة إلى ربه بالإيمان به وطاعته . فإنه داخل في عمومها .
وآية الأنعام صريحة في أن المشركين المخاطبين يخلصون الدعاء عند الشدة ، وأنهم إن أتاهم العذاب ، أو أتتهم الساعة ـ وهي الحادث العمم ـ لا يدعون غير الله ، ولا يلتفتون لسواه . ولذلك استدل الله تعالى عليهم بذلك في معرض الأمر بتوحيده ، وأفراده بالعبادة على كل حال في الرخاء والشدة ، وأين هذا من الاستغاثه بالأنبياء ودعائهم للحادث العمم أو غيره ؟ والآيات قبلها دالة على تحريم دعاء الموتى مطلقا . لأنه ليس من جنس الأسباب العادية ، بل من دعاهم فهو يرى ويعتقد أن لأرواحهم قدرة وعلماً بحاله ، وسمعا ليس من جنس قدرة العباد وعلمهم وسمعهم ، والدعاء في هذه الآيات يشمل نوعي الدعاء : دعاء العبادة ودعاء المسألة ، فما تقدم من الآيات دال على تحريم دعاء الأنبياء والصالحين دعاء عبادة أو دعاء مسألة .(175/222)
قال ابن عبد الهادي في الصارم المنكي : وليس أحد من البشر ، بل ولا من الخلق ، يسمع أصوات العباد كلهم ، ومن قال هذا في بشر فقوله من جنس قول النصارى الذين يقولون : إن المسيح هو الله ، وأنه يعلم ما يفعله العباد ، ويسمع أصواتهم ، ويجيب دعاءهم . قال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم ـ إلى قوله ـ وهو السميع العليم } فلا المسيح ولا غيره من البشر ، ولا أحد من الخلق يملك لأحد من الخلق ضراً ولا نفعاً بل ولا لنفسه ، وإن كان أفضل الخلق : قال تعالى له : { قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً } وقال تعالى له : { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب } وقال تعالى : { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضراً إلا ما شاء الله } .
وقول المعترض : هل طلب شرف الدين إلا مما أعطيه ؟ فهل من سأل عيسى عليه الصلاة والسلام خلق الطير الذي أعطيه يكون كافراً مشركاً .
فهذه شبهة واهية ، فإن من سأل عيسى خلق الطير أو غيره ، بعد رفعه إلى السماء كافر مشرك بإجماع المسلمين ، بل ولا يجوز مطلقا قبل رفعه . والرسول - صلى الله عليه وسلم - أعطي الشفاعة بمعنى أن الله يشفعه ، ويحد له حدا يدخلهم الجنة ، ويريح الخلق من هول الموقف وكربه . وقد دلت الآيات والأحاديث أن المالك للشفاعة هو الله وحده ، وأنها لا تنال إلا بما ربطها الله به من الأسباب وهي التوحيد والإيمان والإخلاص ، كما دلت عليه الآيات الكريمات ، وكما دل عليه حديث أبي هريرة ، وأنها متوقفة على الإذن والرضى منه تعالى . وليس طلب الرسول سببا لنيلها وتحصيلها . لاسيما بعد موته - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يدل على مشروعية ذلك ولا فعله احد يحتج به ، فهو من أضل البدع وأبعدها عن هديه - صلى الله عليه وسلم - وهدي من قبله من الأنبياء .(175/223)
وليس قولهم : أنه أعطي الشفاعة بمعنى ملكها وحازها كسائر العطايا والأملاك التي يعطاها البشر .
وأيضا فإن الله يعطي رسله وأولياءه مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، أفيقال أن الله أعطاهم ذلك ، وملكهم إياه فيطلب منهم ، ويرغب إليهم فيه ؟ فإن كان ذلك مشروعا وسائغا فالشفاعة من جنسه ، مع أن الشفاعة قيدت بقيود لم تقيد بها هذه العطايا والمواهب السنية ، وقد قال تعالى : { قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض } وقال : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } وقال تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وأما غير الشفاعة مما أعطيه أهل الجنة فقد ذكر تعالى أنه حرمه على الكافرين . وكذلك الشفاعة ، لأنها وسيلة إليه قال تعالى : { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين } فمن آتى بمانع يمنع من الشفاعة أو دخول الجنة كالشرك والكفر فلا سبيل للشفعاء إلى الشفاعة فيه .
وأيضا فمحلها ووقتها يوم يقوم الناس لرب العالمين ، ويشتد هول الموقف وكربه هذا هو المراد ، وبه تعرف بطلان هذه الشبهة . وأن الباب مسدود على من طلبها من غير الله .
وأما قول المعترض : أو يقول أن الرسول غير موجود ، أو أن أنه في عالم العدم ، أو يقول إن جاهه عند ربه انقطع بموته .(175/224)
فيقال : هذا كلام معتوه لا يدري ما يقول . فإن كلام الشيخ ، والقول بأن دعاء غير الله شرك لا يلزم منه القول بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - غير موجود ، بمعنى أنه كسائر المعدومات . بل هو حي في قبره يبلغ صلاة أمته وسلامهم عليه - صلى الله عليه وسلم - وقد حرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ومع ذلك فهو - صلى الله عليه وسلم - في الرفيق الأعلى . وهو أقرب الرسل من ربه . وأرفعهم درجة لديه ، ولروحه اتصال بجسده الشريف ، لا يعلم كنهه وحقيقته ومقداره إلا الذي خلق ووهب وتفضل وأعطى . وهو اللطيف الخبير .
وأما القول : بأن هذه الحياة الدنيوية ، يطلب منه ما كان يطلب منه قبل موته ، ويسأل ويستفتى ، ويرجع إليه .
فهذا قول ضال ، مخالف للكتاب والسنة وحقائق المعقول والمنقول . فافهم هذا المبحث فكم زل فيه من قدم . وكم ضل بالخرص فيه من أمم .
وأما قوله : أو أنه في عالم العدم ؟ .
فالعدم ليس له عالم . والعوالم إنما تطلق على الموجودات ، لا على المعدومات ولا يقول إن جاهه - صلى الله عليه وسلم - عند ربه انقطع بعد موته إلا ضال لا يؤمن بيوم الحساب ، بل هو دائما في مزيد ، وما من مؤمن يؤمن بما جاء به ، ويهتدي بهديه الى يوم القيامة إلا كان ذلك زيادة في أجره وكماله ، والكامل يقبل الكمال .
وأما قول الصديق : اذكرنا يا محمد عند ربك . فقد تقدم البيان بأنه من الموضوعات والمكذوبات ، التي لا يلتفت أليها .
ثم عظم الجاه وإن تناهى فلا ينتفع به إلا أهل الإيمان والمتابعة ومن قام به سبب شرعي يقتضي انتفاعه بدعاء الداعين ، وشفاعة الشافعين .
وأما تشبيهه بأن الكل من عند الله : الرسول ، وما أعطيه الرسول .
فهذا لا نزاع فيه ، وذكره هنا تشبيه على السامعين ، والنزاع إنما هو في مشروعية طلبه وسؤاله والاستعانة به بعد موته - صلى الله عليه وسلم - .
وأما القول : بأن الكل من عند الله .(175/225)
فلا نزاع فيه : وليس فيه دليل على أنه يطلب من الرسل أو غيرهم شيء مما أعطوه في الدار الآخرة ، ولا يحصل لكل من طلب شيئا بمطلوبه وفي الحديث الذي رواه البخاري وغيره : ( يذاد أناس من أصحابي عن الحوض فأقول : أصحابي أصحابي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول سحقا سحقا ) .
وأما قوله : وإنما الشرك طلب ما لا يقدر عليه إلا الله ولم يعطه أحدا من خلقه .
فيقال : قد تقدم أن الشفاعة وغيرها لا يقدر على إعطائها وتيسيرها إلا الله وإنها مملوكة له وحده ، وأنه هو الذي يأذن ويعين من رضي قوله وعمله من أهل التوحيد فيشفع فيه الشافعون وأن الشفاعة لا تملك ، كما ظنه المشركون ، وان الاستثناء في الآيتين ( 2 : 255 و 21 : 28 ) لا يوجب إثبات الملك لغير الله ، وأكثر المفسرين يرون أن الاستثناء منقطع كما تقدم ذكره عن شيخ الإسلام ابن تيمية ، وسائر المطالب كذلك لا تطلب من الموتى ، وسيأتي لهذا مزيد بحث في محله إن شاء الله تعالى .
وفي الحديث : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ) الحديث .
وأما تخصيص المعترض هداية القلوب وشفاء المريض ، وإنبات النبات وطلب الذرية ونحو ذلك بالمنع ، فهذا من جهله ، فإن الأسباب العادية التي يستطيعها الإنسان في حياته تنقطع بموته ، كما في الحديث ، وبذلك تصير ملحقة في الحكم والشرع بما لا يستطيع في حياته كهداية القلوب ، وشفاء المريض ، وانبات النبات ، وطلب الذرية ، فلا فرق بين قول الرجل للمسيح بعد رفعه : اعطني كذا وكذا من القوت ونحوه ، وقوله اهد قلبي ، اغفر ذنبي ، وقد تقدم أن قول النصارى : يا والدة المسيح اشفعي لنا عند الإله ، شرك بإجماع المسلمين ، ولو طلب منها في حياتها أن تشفع بالدعاء والاستغفار كما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه لم يمنع من ذلك .(175/226)
وأيضا فالمعترض لم يلتزم هذا ، وسيأتيك له عند حكاية العتبى أنه يجوز طلب الاستغفار من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته .
ثم في قول البوصيري في الاستعاذة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونفي الإعاذه عمن سواه وأنه هالك إن لم يأخذ بيده ، ما هو من أبلغ الصيغ في طلب النجاة من النار وإدخال الجنة . وهذا كهداية القلوب وشفاء المريض ، وانبات النبات وطلب الذرية فإن من طلب هذا من الأنبياء والأولياء يتأول كتأويلهم كلام البوصيري فيقولون : إن الله أعطاهم جاها ومنزله وشفاعة ، وإجابة لدعائهم فنحن نطلب الهداية والشفاء ونحو ذلك مما أعطاهم الله وملكهم إياه .
وليس قولكم : إن الله ملكه الشفاعة بأحق من قول هؤلاء . فإن الشفاعة طلب ودعاء ، فعادت المسألة على تقرير هذا المعترض إلى عبادة الأنبياء والملائكة والمؤمنين والأطفال ، وسائر من يشفع ويستجاب دعاؤه ، وهذا عين قول الصابئة في عبادة الأرواح المفارقة ودعائها أرواح الأنبياء والصالحين فنعود بالله من الحور بعد الكور والضلال بعد الهدى ، والكفر بعد الإيمان .
والآية التي استدل بها دليل على إبطال دعواه فإن قوله تعالى : { إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت } من أوضح الأدلة على تحريم دعاء الموتى . فإن الصلاة دعاء صريح قولا وعملا ، وقد دلت الآية على إن ذلك لله وحده لا شريك له ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بذلك ، وهو أول المسلمين من هذه الأمة بالتزام هذا وسائر الأحكام الإسلامية ، فأين هذا من دعاء غير الله وطلب الشفاعة من سواه ؟ .
فصل(175/227)
قال المعترض : وقد قال هذا الرجل في موضع آخر تكلم به على قوله تعالى : { مالك يوم الدين } قال فمن عرف تفسير هذه الآية وعرف تخصيص الملك ذلك اليوم لله عرف تخصيص هذه المسألة وأن معناه عند جميع المفسرين كلهم ما فسره الله به في قوله : { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله } ثم قال فأين هذا المعنى والإيمان بما صرح به القرآن مع قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا ) من قول صاحب البردة :
ولن يضيق رسول الله جاهك بي
*
إذا الكريم تجلى باسم منتقم
فإن لي ذمة منه بتسميتي
*
محمد ، وهو أوفى الخلق بالذمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي
*
فضلا ، وإلا فقل : يا زلة القدم
ثم قال : فليتأمل من نصح نفسه هذه الأبيات ومعناها ، ومن فتن بها من العلماء والعباد ، وهل يجتمع في قلب عبد التصديق بهذه الأبيات والتصديق بقوله تعالى : { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله }. وقوله : ( يا فاطمة بنت محمد لا أملك لك من الله شيئا ) والله لا والله إلا كما يجتمع في قلبه أن موسى صادق وأن فرعون صادق ، وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - صادق على الحق وأن أبا جهل صادق على الحق .
والله ما استويا ولن يتلاقيا
*
حتى تشيب مفارق الغربان
فمن عرف هذه المسألة وعرف البردة ومن فتن بها من العلماء والعباد والزهاد عرف غربة الإسلام . انتهى كلامه .
ثم ذكر عند ذلك قوله تعالى : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب } وقوله : { له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء } قال : فهذا بعض معاني قوله : { مالك يوم الدين } بإجماع المفسرين . وهذا قوله لا قول المفسرين كما يزعم ، بل سترى قول المفسرين . فبهذا الكلام ضرب كتاب الله بعضه ببعض .(175/228)
وكذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبطل بهذا الكلام جميع الشفاعات التي ورد بها الكتاب والسنة المتواترة من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ، والشهداء والأولياء والصالحين ، والأطفال وغيرهم . فنفى بذلك جميع الشفاعات بما لا علم له به ولا دراية . أولا نظر إلى مخارج كلام الله وكلام العرب المنزل بلغتهم ، حيث يقول جل وعلا : { إن تنصروا الله ينصركم } وقال في الآية الأخرى : { وما النصر إلا من عند الله } فكذلك الشفاعة إنما هي من عطائه لأوليائه ليمتازوا بها عن غيرهم ، إكراما لهم بها ليغبطوا بها ذلك اليوم الذي ذكر هذا الرجل حيث يقول صاحب البردة : إذا الكريم تجلى باسم منتقم . إذ الشفاعة منه تبارك وتعالى من الجزاء الجزيل ، والفضل العميم الذي لا تملك نفس لنفس شيئا ذلك اليوم استقلالا ، بل الكل من عند الله : الشافع والمشفع والشفاعة .
وأطال الكلام بهذا المعنى وأن الشفاعة لا تكون بيد أحد من دون الله . إذ الكل خلق الله وأسباب ، وأن الشيخ لا يدري كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنه جاهل بكلام العرب وبلاغتها التي نزل القرآن بلغتها . ولا يميز بين الكلام الإضافي من المطلق والاستقلالي . وأنشد قول جرير الخطفي :
يقضي الكتاب على الصليب وتغلب
*
ولكل منزل آية تأويل
وزعم أن هذا خاص بالكافرين كقوله : { الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا } .
ثم قال : فمن قضائه تبارك وتعالى ، تمليك أنبيائه ورسله وأوليائه من الشهداء والصالحين والأطفال ، وتمكينهم من الشفاعة ، وهذا مما يجب الإيمان به . كما صرح به علماء الأمة دون أهل الأهواء والبدع .(175/229)
ثم ذكر عن البغوي في قوله : { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق } قال : وهم عيسى وعزير والملائكة فإنهم عبدوا من دون الله تعالى ولهم الشفاعة . وصحح هذا القول . فإذا كان كذلك كما وصفنا فهل ترى صاحب البردة طلب ذلك استقلالا من دون الله تعالى ؟ بل ولم يقصد طلبه في الحال ، وإنما استحضر كما قدمنا يوم القيامة حين تطلبه - صلى الله عليه وسلم - جميع الخلائق ، حيث علموا قربه من ربه جل وعلا وما أعطاه من الكرامة والمقام المحمود .
والجواب : أن يقال لهذا الجهول المفتري المخلط .
إنما يضرب كتاب الله بعضه ببعض من رد بعضه ببعض واحتج ببعضه على خلاف ما دل عليه البعض الآخر ، كما يفعله أهل البدع والضلال ، ومن رد ما دل عليه قوله تعالى : { مالك يوم الدين } وقوله : { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا } ونحو هذه الآيات بقوله تعالى : { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة } ونحوها ، وزعم أن ملك الشفاعة مثبت ، وأنه يقضي على هذا الآيات ويرد به ما دلت عليه ، هذا ضرب كتاب الله تعالى بعضه ببعض ، وفي المثل : رمتني بدائها وانسلَّت .
وأما من رد بكتاب الله كلام أهل الغلو والإطراء ، واستدل بكتاب الله على بطلان غلو الغالين ، وزيغ الزائغين ، وتحريف المبطلين . فهذا هو المؤمن المهتدي ، المحتج بكتاب الله على ما أنزل لأجله ، المستضيء بنوره ، المهتدي بهداه ، المعتصم بحبله .
وأما جحده أن يكون ما ذكر الشيخ هو كلام المفسرين ، فهذا دليل على عدم علمه بكلام المفسرين ، وقصور رتبته عن الاطلاع على معاني التنزيل . وكتب المفسرين موجودة بأيدي أهل العلم ، وهم لا يختلفون أن المعنى : أنه المنفرد بالملك والتدبير ذلك اليوم . فلا تملك نفس لنفس شيئا بخلاف حالهم في الدنيا . فإن أكثر الخلق نازع الرسل وعصى الأمر ، واتبع السبل ، فتفرقت بهم عن سبيل الله . وهذا المعنى دل عليه القرآن في غير موضع .(175/230)
وأما قوله : وأبطل بهذا الكلام جميع الشفاعات .
فهذا أيضا صدر عن جهل عظيم ، واعتقاد ذميم . فإن الشفاعة التي ظنها المشركون حاصلة بالتعلق على الأنبياء والصالحين ومسألتهم مع الله : منفية بالكتاب والسنة ، وإجماع الأمة . وهذه هي التي نفاها الشيخ وأهل العلم قبله وأما الشفاعة التي جاءت بها السنة وقال بها الأئمة فهي مقيدة بقيود تمنع مسألة غير الله للشفاعة وطلبها من سواه . ولا تحصل إلا بتجريد التوحيد لله العزيز الحميد ، كما تقدم في حديث أبي هريرة : ( من أسعد الناس بشفاعتك ) والمعترض جاهلي لا يفرق بين النوعين . فظهر أنه هو العديم العلم والدراية ، الجاهل بأحكام الرواية والرعاية لكلام الله وكلام رسوله وكلام العرب فإن العربي سليم الفطرة يعرف بلغته أن القيد في قوله تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } يفيد صرف الوجوه إلى من بيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله ، ولا يتقدم أحد بين يديه إلا بإذن ورضى لما يقول ، وأنه لا يرضى الشفاعة فيمن أشرك به وسوى بينه وبين عباده في خالص حقه .
وقد نص بعضهم على أن هذا هو نكتة القيد في آيات الشفاعة .
وأما ما استدل به المعترض من أن الله جل وعلا قال : { إن تنصروا الله ينصركم } وقال في الموضع الآخر : { وما النصر إلا من عند الله } .
فهذا أيضا يدل على كثافة فهمه وانسلاخه من العلم . فإن النصر المثبت لهم غير المنفي عنهم ، فنصرهم لله قيامهم بما افترض عليهم من الدعوة إلى سبيله ، وجهاد أعدائه باليد واللسان والجنان ، وأما النصر المنفي عنهم فهو الظهور على العدو ، وقتله وهزيمته وفشله ، واضمحلال كيده ، قال تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } فأثبت الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - من الرمي ما يليق بحال البشر ، وأما التأثير والإصابه والهزيمة بذلك الرمي وإيصاله إليهم فالله تعالى هو الفاعل له ، الرامي في الحقيقة .(175/231)
فإذا تبين هذا فذلك دليل على أن الشفاعة التي تحصل بها النجاة والسعادة بيد الله ، وأن الشافع ليس بيده إلا مجرد الطلب والمسألة ، بعد الإذن والرضى عمن شفع فيه ، وأما القبول وتوفيق الشافع وإلهامه فكل هذا إلى الله وحده .
وأما قوله : فكذلك الشفاعة .
فيقال : إن كانت الشفاعة كذلك فهي منفية عن غير الله ، كما أن النصر منفي عن غيره ، والمثبت منها ومن النصر لا يوجب أن يطلب من الغائبين والأموات شيء البتة .
وقد ذكر شيخ الإسلام في رده على النصارى : أن النبوات متفقه على المنع من دعاء الغائبين والأموات . فلا يدعون لشفاعة ولا غيرها .
فقول المعترض : إن الشفاعة من عطائه ومن الجزاء والفضل ونحو هذا لا يفيد طلبها من غير الله كالأموات والغائبين ، وليس كل ما أعطى العبد يجوز أن يطلب منه ، فإن هذا لا يقوله عاقل .
وأما قوله : إن المراد من قوله : { لا تملك نفس لنفس شيئا } ذلك اليوم استقلالا .
فهذا لا يفيد لو سلمناه ، فإن من لا يستقل بفعل أصلا ، ولا طاقة له على الاستقلال ليس بمالك ولا متصرف بمجرد مشيئته وإرادته ، مع أن المعنى المراد الذي نص عليه أعيان المفسرين : نفي الملك مطلقا استقلالا وغيره .
وأما نسبة الشيخ الى الجهل وعدم العلم ببلاغة العرب التي نزل بها القرآن وأنه لا يعرف الكلام الإضافي من المطلق .(175/232)
فيقال : كل ضال ومفتر ينحو هذا النحو ، ولا يتحاشى من الفجور في الخصام . والمنافقون نسبوا المؤمنين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السفاهة وعدم العقل ، وقال فرعون وقومه في موسى وهارون عليهما السلام ما قالوا ، فالعاقل لا يلتفت إلى هذا الكلام ، لأنه معدود من اللغو والآثام ، والنظر في كلام شيخنا وكلامك يقضي له عند من وقف عليه بالعلم والدراية ومعرفة الحقائق ومعاني التنزيل ، وأنه يورد تقريره مطابقا للحال . وهذا عين البلاغة كما عرفوها وحدوها في كتب المعاني ، فإن البلاغة يوصف بها الكلام والمتكلم .
وأما كلام هذا المعترض وهذيانه المكرر ، وتكراره لألفاظه المستهجنة ، ولحنه وتنافر تركيبه فهو من أدلة جهله وتفاهته ، وأنه لا صناعة ولا عناية ولا أدب ، ولا فضيلة وأن حججه كما قيل :
تخرصا وأحاديثا ملفقة
*
ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
وانظر الى قوله : أولا نظر إلى مخارج كلام الله وكلام العرب المنزل بلغتهم ، فإن في استعماله المخارج في المعاني والمقاصد ما يقضي بجهله ، وفي قوله : وكلام العرب المنزل بلغتهم ، ما يقضي بتفاهته وعدم معرفته للتراكيب ، فإنه فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي ، ولا يجوز الفصل هنا لإيهامه اللبس .
فلا تقول جاء زيد وجاء عمر القائم أبوه ، تريد نعت زيد ، بل يتعين ترك الفصل هنا . فهذه الغلطات في نصف سطر . ولو تتبعت ما في كلامه من الخلل لطال الكلام ، والقصد كشف شبهته ودحض حجته .
وأما قوله : إن هذا خاص بالكافرين كقوله تعالى : { الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا } فليس الأمر كما زعم ، فإن نفي الملك عام ، فلا يملك أحد ولو الأنبياء والملائكة ، بل هو سبحانه المنفرد بالملك المختص به ، وأما العسر فنعم خاص بالكافرين .(175/233)
ثم في قوله : { وكان يوما على الكافرين عسيرا } وفي تخصيص العسر بهم ما يفيد أن العسر المطلق هو المختص ، وما المقيد فلا مانع من أن ينال المذنب من الموحدين منه ما يكفر به من سيئاته .
وأما قول المعترض : فمن قضائه تبارك وتعالى تمليك أنبيائه ورسله وأوليائه من الشهداء والصالحين والأطفال وتمكينهم من الشفاعة ، وهذا مما يجب الإيمان به كما صرح به علماء الأمة .
فيقال في جوابه : لم يرد لفظ التمليك في الكتاب والسنة إلا في معرض النفي والاستثناء ليس بنص ولا ظاهر في التمليك ، بل هو كقوله : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } { لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } .
وقد نص شيخ الإسلام رحمه الله أن هذا لا يفيد إثبات التكليف ، ولا سلف لهذا المعترض وأمثاله في هذا القول ، ولم يعرف إطلاقه عن أحد من أهل العلم ، ولو سأل أحد طفلا من أطفال المؤمنين أن يشفع له لعده الناس من أجهل الخلق وأضلهم ، وقد قال تعالى : { قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون } وقال تعالى في يوم القيامة : { يوم يأت لا تكلم نفس إلا بأذنه فمنهم شقي وسعيد } وهذا يدل على عدم الملك للمؤمن والكافر لقوله : { فمنهم شقي وسعيد } .
وقوله : وهذا مما يجب الإيمان به .
يقال : إنما الإيمان بما أخبر به الرسول ودل عليه الكتاب العزيز من إثبات الشفاعة بإذن الله لمن شاء من الموحدين ، هذا الذي يجب الإيمان به ، وأما الإيمان بأنهم ملكوا الشفاعة وأنهم يدعون لها بعد الممات وفي المغيب فهذا قول باطل لا أصل له ، ولا يؤمن به إلا أهل الشرك الذين يدعون الأموات والغائبين مع الله .
فهذا المعترض خلط الشركيات بالشرعيات ، ولبس الحق بالباطل ، والذي أنكره أهل البدع وعابه عليهم سلف الأمة وأئمتها هي الشفاعة التي جاءت بها الأخبار وصحت بها الآثار .(175/234)
وأما القول بأن علماء الأمة أنكروا على من أبطل الشفاعة الشركية ، وصرحوا بثبوتها فهو قول باطل ، بل علماء الأمة أشد الناس انكاراً لها كما دلت عليه الآيات البينات قال تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون } فنفي هذه الشفاعة التي أثبتها المشركون وظنوها حاصلة ممن قصدوه وتوجهوا إليه ، وسألوه رغباً ورهباً ، كما يشفع المخلوق عند مثله من الملوك والأمراء والأكابر ، هذه هي التي قامت بقلوب المشركين وتعلقوا على الأنبياء والملائكة والصالحين لأجلها وهذه منفية كما مر في آية يونس ، وكما في آية الزمر ، وكما في سورة الأحقاف في قوله : { فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم } وكما في سورة سبأ : { ولا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له } وهي التي قصد هذا المعترض بقوله ، أن الله ملكهم الشفاعة ، وأنه يجب الإيمان بها . والسنة جاءت بإثبات شفاعة غير هذه ، تنال بتجريد التوحيد وإخلاصه ،كما في حديث أبي هريرة ، وهي مملوكة لله وحده هو الذي يأذن ويعين للشافع ويحد له حدا معينا مخصوصا ،كما جاء صريحا في حديث الشفاعة ، وهذا النوع من الشفاعة أنكره المعتزلة ، وهم محجوجون بالكتاب والسنة ولكن المعترض خلط ولم يميز بين ما نفاه القرآن وما نفته المعتزلة . ولم يعرف هذا النوع الثابت .
وأما قوله : { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } هم عيسى وعزير والملائكة فانهم عبدوا من دون الله .(175/235)
فقول البغوي هو أحد القولين في الآية ، وقد تقدم الكلام في ذلك ، وليس في هذا ما يستريح إليه المبطل ، فإنهم يشفعون لمن شاء الله ، وملك الشفاعة ليس بأيدهم ، بل هو بيد الله الذي له ملك السماوات والأرض ، فأي حجة في هذا على أنهم يدعون مع الله للشفاعة أو غيرها ؟ ولكن هذا الملبس قصده إيهام السامع أن شيخنا ينكر الشفاعة التي قالها البغوي وأمثاله ، وإنما إنكار الشيخ لعبادتهم ودعائهم وأنهم يسألون الشفاعة كما تسأل سائر الملاك أملاكهم .
وهذه الآيه حجة للشيخ وإخوانه المؤمنين على أن الشفعاء لا يدعون ولا يقصدون ولا يعبدون ، لأن الله أنكر ذلك على من قصد المسيح وعزيرا لأجله ، وهيأهم له ، والتجأ إليهم في تحصيله ونيله .
فالآيات القرآنية وكلام المفسرين من أهل العلم حجة لنا وشاهد للأمر بتجريد التوحيد وإخلاص الدين ، والنزاع بيننا ليس في إثبات الشفاعة ، وإنما هو في طلبها من الأموات والغائبين ، والمعترض ملبس مموه ، فنعوذ بالله من التلبيس المفضي بصاحبه إلى مرضاة إبليس .
ثم قول المعترض : فهل ترى صاحب البردة طلب ذلك استقلالا بل ولم يقصد طلبه في الحال وإنما استحضر يوم القيامة .(175/236)
فجوابه : أن النزاع في نفس الطلب والدعاء لأجل الشفاعة ، وأما الاستقلال وعدمه فليس من محل النزاع . ومشركو العرب لا يدعون الاستقلال لآلهتهم ولا يرونه . وإنما أتوا من حيث الوساطة والشفاعة . والشافع ليس بمالك لا حقيقة ولا مجازاً . وغاية ماله الجاه والمنزلة . وهي المقصودة لجمهور المشركين من اليهود والنصارى وجاهلية العرب . ولا قائل باستقلال أحد من دون الله بشيء إلا الثنوية ومن على طريقتهم ممن يثبت خالقين وربين ، وبهذا تعرف أن المعترض من أجلاف الجاهلية لا تمييز عنده بين شرك المشركين وتعطيل المعطلين ، ودين أنبياء الله المرسلين . وليس عنده إلا خبط عشواء ومقالة عمياء . وكون صاحب البردة استحضر يوم القيامة لا يكون عذرا له في دعاء غير الله . بل مستحضر الشدة فدعاؤه أبلغ في العبادة والخضوع والخوف والرجاء ، والحب والاعتقاد ، وكان المشركون من العرب يتواصون في الشدائد بإخلاص الدعاء ويرون أنه لا ينجي في الشدة إلا الله كما في قصة عكرمة ابن أبي جهل لما فر إلى اليمن . وقد ذكرها العلامة ابن كثير في تفسير سورة المؤمنين .
فصل
قال المعترض : ومر قول أبي العباس ابن تيمية على كلام ابن البكري في معنى الاستغاثة به - صلى الله عليه وسلم - بعد موته ، وأنه بعد موته في مزيد دائم عند ربه ـ بأبي هو وأمي ونفسي - صلى الله عليه وسلم - ـ بعد موته إذ جاهه - صلى الله عليه وسلم - في مزيد دائم بعد موته عند ربه جل وعلا وتعرض عليه أعمال أمته . فيستغفر لمن رأى شراً في عمله .كما ذكرنا بيانه على كلام صاحب البردة وتوجيهه على الأمر المرضي ، لا على الجهل والإغواء وتكفير هذه الأمة .
والجواب أن يقال : قد تقدم الكلام على عبارة شيخ الإسلام أبي العباس وبيان ما في نقل هذا المعترض من التلبيس والتحريف ، وأنه كذب في النقل بما أبداه من التحريف والتبديل .(175/237)
وأما قوله : إن جاهه - صلى الله عليه وسلم - في مزيد دائم فنعم ، ولكن ليس فيه أنه يدعى من دون الله أو يرجى . وأما عرض أعمال الأمة عليه فليس فيه حجة على أنه يدعى للشفاعة ولا غيرها بل قد روي على أبوي الإنسان يعرض سعيه . فهل يقال بسؤالهم ودعائهم ؟ .
وأما زعمه من أنه وجه كلام صاحب البردة على الأمر المرضي . فليس الأمر كذلك وإنما زاده شناعة وجهلا لو جاريناه على زعمه .
فصل
قال المعترض : قوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة رضي الله عنها ولأقاربه وعشيرته ذلك حضا لهم على الإيمان به . وبالذي أرسله بأن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا . ليحصل لهم النفع به - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، وبعطاء الله تعالى الذي أعطاه لأمته إكراما له في قوله : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } لئلا يكونوا من الذين أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين ، وفي ذلك دليل أن المؤمنين تنفعهم شفاعة الشافعين ، حيث نفى عن الكفار المعرضين عن التذكرة التي أرسل بها - صلى الله عليه وسلم - ، حتى نفعت شفاعته عمه أبا طالب بالتخفيف كما مر عنه - صلى الله عليه وسلم - ، حيث حماه لتبليغ رسالة ربه حمية للقرابة . فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا أغنى عنك من الله شيئا . . ) حين خصص وعمم حتى قال : ( يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا ) فالمقصود إن لم تؤمني بالله وتشهدي أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، وإلا فقد أغنى عن أمته بالتخفيف من الشرائع والتسهيل من عند ربه ، وأمره تبارك وتعالى أن يستغفر لهم حتى امتد ذلك لهم بعد موته عند العرض لأعمالهم عليه - صلى الله عليه وسلم - في البرزخ واستغفاره شفاعة ، وهل شفاعته لهم إلا غناؤه عنهم - صلى الله عليه وسلم - ، وإلا فما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمه : ( قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ) إذا كما في الصحيحين وغيرهما ؟ .(175/238)
والجواب أن يقال : قوله - صلى الله عليه وسلم - لابنته وبضعته سيدة نساء أهل الجنة : ( لا أغني عنك من الله شيئا ) من أظهر الأدله على وجوب توحيد الله وترك دعاء غيره ، ولو نبيا أو ملكا ، فكذلك قوله لعمته صفية وعمه العباس وسائر بطون قريش ، وأقاربه الأدنين . كل هذا يبطل قول المعترض وزعمه أن الشفاعة تطلب من الرسول بعد موته ، ويقصد لها ، فإن في هذه الاحاديث أن الإنسان ليس له إلا سعيه وإيمانه وإن ترك ذلك والتفريط فيه تعلقا على الأنبياء ورجاء لشفاعتهم هو عين الجهل ونفس الضلال . وجاه الأنبياء والأولياء والصالحين إنما ينال به أمر فوق الإغناء عن الأقارب وغيرهم كالسعادة والزلفى .
وفي قول المعترض : إن في قوله ذلك حضا لهم على الإيمان به وبالذي أرسله : صحيح المعنى وهو دليل على أنه لا يغني ولا ينجي إلا ذلك .(175/239)
فليس في قول المعترض في هذا الحديث ما يدل على دعواه وإن الإيمان مطلوب ليحصل النفع . فإن هذا كلام ركيك وإنما يطلب الإيمان لتحصيل مغفرة الله ورحمته ودخول دار كرامته ، و النجاة من عذابه وعقابه قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم . تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } والآية بعدها ، وفي هذا أن الأمر بالإيمان والتزامه والجهاد في سبيل الله إنما أمر به ليحصل للعبد ما وعد به المؤمن وما رتب على الإيمان في هذه الآيات ونحوها . لا أنه أمر بالإيمان ليشفع الرسول فيه . وأكابر الأمة و السابقون الأولون والسبعون ألفا المذكورون في حديث ابن عباس كلهم يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، وفي الحديث أن الشفاعة ليست للمؤمنين المتقين وإنما هي للمذنبين المتلوثين ، فافهم هذا تعرف به أن هذا الرجل ألحد في الحديث وصرفه عما دل عليه ، وكذب على رسول الله بنسبة هذا التأويل إليه ، اللهم إلا أن يريد بقوله : ليحصل لهم النفع به - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى فهو صحيح وهو الواسطة - صلى الله عليه وسلم - بين العباد وبين ربهم في إبلاغ رسالته ، وبيان ما يوجب السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة . لكن هذا لا يدل على ما ادعاه هذا المبطل ، وظاهر كلامه خلاف هذا الذي ذكرنا . وأنه يريد ليحصل لهم النفع بدعائه - صلى الله عليه وسلم - وطلب الشفاعة منه بعد مماته ، ومن قصد هذا وزعم أن الرسول أراده بقوله : ( يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا ) فقد ألحد في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحرف كلامه وأخرجه عن موضوعه إلى نقيضه وعكسه ، وهذا من أعظم الجهل وأضله .
ومن فهم من أدلة التوحيد نقيض ما دلت عليه فقد جاءته الآفة والبلية من جهة موت قلبه أو مسخه : { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا } .(175/240)
وأما إعطاء الله له ما يرضيه فهذا وعد صدق . والله لا يخلف الميعاد .
والمفسرون اختلفت أقوالهم في هذا ، وعلى القول بأنه الشفاعة فهو من الأدلة على أن الله هو المالك لها المتصرف فيها وأنه لا يدعى لها أحد سواه .
وأما كون المؤمنين تنفعهم شفاعة الشافعين فهذا أيضا ليس فيه دليل لهذا المبطل بوجه من الوجوه . والنزاع في غير هذا .
وأما قوله : فالمقصود لا أغني عنكم من الله شيئا إن لم تؤمنوا . وأنهم ان آمنوا أغنى عنهم . فقد كذب هذا المعترض على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنسبة هذا التأويل إليه ، وكلامه - صلى الله عليه وسلم - عام شامل ، وبعض من خوطب بهذا الخطاب قد آمن بالله ورسوله كفاطمة وبعض بني هاشم وبعض قريش ، ولو كان المراد ما زعمه هذا المبطل لم يحسن خطاب المؤمنين بهذا ، ولعد مثل هذا الكلام لهم . وهو قوله : ( لا أغني عنكم من الله شيئا ) إذا كان يغني عنهم خبرا غير مطابق وقولا غير موافق ، لأنه يغني بزعم هذا الجهول الضال .
فسبحان من طبع على قلبه حتى اقتحم على الجناب النبوي ومقام الرسالة ، ونسب إليه ما قد برئ منه بشهادة الله وملائكته وأولي العلم من خلقه .
وبهذا الكلام والتحريف ضل أهل الكتاب ومن قبلهم ، ونسخت أديان الأنبياء وظهر الشرك في الأرض وفشا فنعود بالله من الضلال بعد الهدى .
وقد ذكر شيخ الإسلام عن بعض أهل الإنجيل أنه قال في بعض نصائحه عما يوقع في المحرمات وكبائر الذنوب : إن المبالغة في تعظيم العباد وتنزيلهم فوق منازلهم يوقع في الشرك بالله ، وعبادة ما سواه . ذكر هذا أو نحوا منه في كتابه هداية الحيارى(1).
وقول المعترض : وإلا فقد أغنى بالتخفيف من الشرائع ، وأن يستغفر لهم .
__________
(1) كتاب ( هداية الحيارى ) لـ( ابن قيم الجوزية ) وقد وهم الشيخ عبداللطيف عندما نسبه لشيخ الاسلام ابن تيمية ، إلا أن يكون الشيخ عبداللطيف قد نقله من ابن قيم الجوزية عن شيخ الإسلام أبي العباس .(175/241)
فالتخفيف من الشرائع يشير به الى وضع ما كان على أهل الكتاب من الأصار والأغلال والأثقال . ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي شرع هذا وأمره به وأوحاه اليه ، وإنما يضاف إليه لأنه مبلغ عن الله ، كما يقال : قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - كذا فيما بلغه عن الله . ويقال أيضا : وضع كذا وفعل كذا ، فيما صدر عن وحي وتوقيف ، والرسول مبلغ عن الله ، لا أنه يفعل بمشيئته واختياره .
وأما الاستغفار فقد تقدم أنه لا يدل على الطلب منه بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - . وفي كلام هذا المعترض من فساد التركيب وهجنة العبارة ما يقضي بما تقدم تقريره من الكشف عن جهالته ، وعدم ممارسته . من ذلك قوله : حضا لهم على الإيمان ليحصل لهم النفع به ، لئلا يكون من الذين لا تنفعهم شفاعة الشافعين .
وفي قوله : حماه عمه لتبليغ رسالة ربه حمية للقرابة .
فهو تركيب فاسد ، ولم يقصد أبو طالب إلا الحمية فقط .
وأما قوله : وإلا فما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمه : ( قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ) إذا كما في الصحيحين وغيره .
فمعناه أنه لا يغني عنه ولا ينقذه . وفي الصحيحين من حديث عائشة أنه قال لابنته فاطمة : ( إني لأرى الأجل قد اقترب ، فاتقي الله تعالى واصبري , فإنه نعم السلف أنا لك ) وعنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ( كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي ) رواه الطبراني والدار قطني والحاكم والبيهقي وصححه . وأي سبب أعظم من الإيمان به ، وتصديق ما جاء به ، ومحبته واتباعه ؟ إذ هذا من أعظم الأسباب وأجلها . وفي الحديث : ( المرء مع من أحب ) .(175/242)
ثم ذكر حديث جابر فيما يقال عند سماع النداء وحديث أبي هريرة في الشفاعة ، والشهادة لمن صبر على لأواء المدينة ، وحديث : ( من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت ، فإني أشفع لمن يموت بها ) ثم قال : وهل هذا إلا إغناء منه - صلى الله عليه وسلم - لقرابته وأمته ؟ وإنما نفى تبارك وتعالى أن يكون في يوم الدين ملكا ـ هكذا قالها بالنصب ـ لأحد من خلقه . كما في الدنيا وإنما هو يوم جزاء وتفضل منه جل وعلا وعدل بين الناس . وعلى الكفار . ومن تفضله تمليكه لمن يشاء الشفاعة .
وقد قال تعالى : { لا يملكون الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } وقال تعالى : { لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا } قال العلماء : وهي شهادة الحق وأخصهم بذلك الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم على درجاتهم ، و معنى الآية قال البغوي : لا يملك الله تعالى في ذلك اليوم أحدا كما ملكهم في الدنيا . وقال عصام في تفسيره على الآية : فكل ما يفعل في ذلك اليوم لأجل الله تعالى ، ولا يفعل شيء في ذلك اليوم كما يفعل في الدنيا ، حتى لا يرجو الكذاب أن ينفعه أحد لغرض فاسد . ومع ذلك لا ننكر أن يكون في الأمة الأحداث والمنكرات والأفعال التي لا تزال فيها .
والجواب أن يقال : أما معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب : ( قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ) فهذه الكلمة هي الفارقة بين المؤمن والكافر والمسلم والمشرك . فمن قالها موقنا بها خالصا من قلبه ومات على ذلك نفعته بلا ريب . ونجا بها من الشرك الأكبر . وربما نجا من الأصغر .(175/243)
وقد وعد الله تعالى من مات على ذلك بالجنة والنجاة من النار . كما في حديث عتبان : ( فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ) وهذا الحديث مطابق لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا ) فإن السبب الذي تحصل به النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة هو ما أرشد إليه عمه ، وقاله لابنته وهو الإيمان بالله وترك التعلق على غيره ، واتخاذ الشفعاء والأنداد . وهذا محض التوحيد الذي دلت عليه كلمة الاخلاص . فالأحاديث النبوية يصدق بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض .
وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لابنته : ( فإنه نعم السلف أنا لك ) وهو سلف لكل مؤمن وفرط لهم لكن ليس فيه أنه سلف لمن تعلق عليه ودعاه مع الله ، ولا أن السلف يهيء غير ما أمره به وأرشد إليه ، ولا أنه يدعى ويرجى للشفاعة وغيرها فليس في هذه الأحاديث أنه يغني حتى يضرب كلامه - صلى الله عليه وسلم - بعضه ببعض ويرد عليه ، ويقال : بل يغنى . فإن هذا مشاقة لله ولرسوله ، ورد لمقاله وتقدم بين يديه . وهو حرفة الضالين الجاهلين الذين لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يفقهوا عن الله ورسوله .
وكذلك حديث : ( كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلى سببي ونسبي ) فهذا الحديث تكلم فيه الحفاظ وتواردته أنظار أكابر الرجال ، والجزم بصحته وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قاله يحتاج الى مراجعة ونظر في كلامهم . وعلى تسليم صحته فلا معارضة فيه لحديث : ( لا أغني عنك من الله شيئا ) فإن السبب المضاف إليه - صلى الله عليه وسلم - هو ما جاء به من الإيمان والتوحيد والإنذار والأخبار بأنه لا يغني من الله شيئا .(175/244)
وأما النسب فيفسر هذه الكلمة ويبينها قوله فى حديث العباس : ( والله لا يؤمنوا حتى يحبوكم من أجلي ) فمن أحب هذا النسب الشريف لما وضع فيه من النبوة والرسالة فهذا لا ينقطع . لأنه من شعب الإيمان بالله ورسوله . وليس فيه حجة لهذا المبطل أنه يغنى عمن قال له : ( لا أغني عنك من الله شيئا ) .
والمعترض ألجأته الضرورة إلى أن قال بعد هذا الحديث : وأي سبب أعظم من الإيمان به وتصديق ما جاء به ، ومحبته واتباعه .
وهذه كلمة حق أتيحت على لسان وحشي . وهي تخالف ما أراد من أنه يغني . فإنه - صلى الله عليه وسلم - نفى الاغناء عن نفسه ، لا عن الإيمان به ومحبته ومتابعته . وكذلك قوله في حديث جابر في إجابة النداء والدعاء بعده بالوسيلة والفضيلة أن من قال ذلك حلت له شفاعتي فهذا من جنس حديث أبي هريرة : ( أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه ) فهذه الأحاديث حجة على أن أقوى الأسباب الوسائل وأنفعها هو إخلاص التوحيد والبراءة من التعلق على الخلق ، ولو الأنبياء . وهذا عين تقرير شيخنا رحمه الله .
وهذا الرجل لا يدري ما له مما عليه .
وكذلك الصبر على شدة المدينة ولأوائها لمن قصد الهجرة أو العلم والانحياز إلى جماعة المسلمين وأئمتهم . وكذلك قصد مسجد المدينة للصلاة فيه والاعتكاف ، وطاعة الله ورسوله هو من أفضل القرب ، ومن أسباب المغفرة . والراوي لم يجزم بأنه - صلى الله عليه وسلم - قال : ( كنت له شفيعا ) ولذلك قال : ( أو شهيداً ) وعلى كل فهو اخبار عن الله أنه يرضى هذا ويشفعه في فاعليه . فعاد الأمر لله ، والنفع والضر والإغناء منه وإليه ، لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه .(175/245)
ثم قد تكون الجماعة والعلم في غير المدينة ،كما وقع بعد القرون المفضلة ، والرحلة إلى ذلك مستحبة أو واجبة ، بخلاف من خرج من المدينة جزعا من لأوائها . وطلبا للدنيا وفي الحديث : ( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن ) فمن ترك المدينة فراراً من الفتن فهو محمود بنص هذا الحديث ، ولا يحمد الصبر على الافتتان ، وإنما يحمد الصبر في الفتن وعن الفتن . فافهم هذا يزول عنك تلبيس هؤلاء الجهال بما ورد في الحث على الصبر على لأواء المدينة ولزومها .
وقول المعترض : وإنما نفى أن يكون ملك في ذلك اليوم لأحد من خلقه ، وإنما هو يوم جزاء وتفضل منه جل وعلا ، وعدل بين الناس وعلى الكفار .
فجوابه أن يقال : هذه العبارة فيها لحن في موضعين . الأول : نصب اسم يكون . والثاني : في تعدية العدل بعلى . وهو معطوف على المضاف غير محتاج للتعدية .
ثم يقال : أي شيء في هذا يدل على أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا أغني عنك من الله شيئا ) في حق من لم يؤمن كما زعمه هذا الغبي ؟ وقد اشتهر في الكتاب والسنة وعرف المسلمين ولغتهم تسمية هذا اليوم بيوم الدين . وإن كان يحصل فيه فضل وكرم ومغفرة ، فيحصل فيه أيضا من العقوبات والأهوال والشدائد ما يقتضيه عدله وحكمته وحمده . والكل دين وجزاء على الأعمال ، وما كان في هذه الحياة الدنيا .
وأما قوله : ومن تفضله تمليكه لمن يشاء الشفاعة .
وقد تقدم أنه لا دليل يدل على أن أحداً يملك الشفاعة مع الله ، وأنه المختص سبحانه بملكها ، كما دل عليه القرآن صريحا في مواضع .
وأما الاستثناء في آية الزخرف وآية مريم فلا يفيد إثبات الملك .(175/246)
والأكثر على أنه منقطع ، وعلى القول بأنه متصل فلا حجة فيه ، بل هو كقوله تعالى : { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولا } فالاستثناء في كل الآيات دليل على حصولها ووقوعها ، لا على أنها تملك كسائر الأملاك العادية . وكما يظنه أهل الجاهلية .
وأما قول البغوي : لا يملك الله تعالى في ذلك اليوم أحدا كما ملكهم في الدنيا فهو يشهد لما قررناه ، وكذلك ما حكى المعترض عن عصام هو من هذا القبيل .
وقول المعترض : ومع ذلك لا ننكر أن يكون في الأمة الأحداث والمنكرات والأفعال التي لا تزال فيها .
قلت : كأنه يريد أن الشفاعة مملوكة لغير الله وحاصلة مع وقوع الأحداث والمنكرات والأفعال دائما في الأمة ، يعني فالشفاعة لأهلها .
وقصده أن كل الأحداث والمنكرات التي لاتزال تقع يشفع في أهلها وأصاحبها . وتنالهم شفاعته - صلى الله عليه وسلم - . وهذا جزم منه بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشفع في كل من أحدث حدثا أو فعل منكرا كالزنادقة وعباد القبور والرافضة ، والجهمية والقدرية ، والاتحادية والحلولية ، وكل ما يحدث في الأمة ، فأين هذا من قوله تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } وقوله : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه ) .(175/247)
فسبحان من طبع على قلب هذا وزين له عمله حتى انتهى إلى غاية في الضلالة ما وصل اليها أحد قبله ممن تصدى لرد ما جاء به نبينا من الهدى ودين الحق ، فليهن كل مرتد وجهمي ورافضي دخوله في شفاعته - صلى الله عليه وسلم - له وغناه عنه ، بزعم هذا الغبي الجاهل لأنهم أهل الأحداث التي لا تزال تحدث وتتجدد . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) فما حدث في بني إسرائيل من الأحداث التي تخالف ما جاءت به الأنبياء وتصادمه لا بد أن تحدث في هذه الأمة ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر به ، وأكد حصوله باللام الموطئة للقسم ، وبالتشبيه البليغ الدال على موافقتهم ومتابعتهم في كل فرد من سننهم وطرائقهم وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ) وعلى زعم هذا الجاهل كل هؤلاء داخلون في شفاعته - صلى الله عليه وسلم - ناجون بها .
فنبرأ إلى الله من هذه الأقوال الكاذبة الخاطئة . ومن قائلها . وقد نزه الله شرع نبيه وطهره عن هذه الحماقات . والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
فصل(175/248)
قال المعترض : وقد قال تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } قال أبو العباس : ومن قال إنها عامة في الأمم كآيات الواقعة ، فقد أخطأ وساق حديث : ( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم ) فذلك لأنه سبحانه وتعالى كريم يحب الكرم والافضال : { إن ربك واسع المغفرة } { ورحمتي وسعت كل شيء } ومن رحمته الشفاعة لنبيه ووصفه بالرأفة والرحمة ، وقال : { بالمؤمنين رؤوف رحيم } وقال تعالى عن نفسه : { وكان بالمؤمنين رحيما } ومع ذلك لا تزال علماء أمته ينكرون عليهم ويجددون لها دينها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويدخلون عليها من الأبواب الواسع ولا يخافون لومة لائم ، ويتحاشون من الباب الضيق بتكفيرها . كما فعل هذا الرجل وذووه ، ولا يفعل هذا إلا مبتدع خارج عن سبيل علماء الأمة وسلفها الصالح ، وقد اتبع هواه وهو يتجارى به الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه .
والجواب أن يقال : وقوف المؤمن العارف بدين الله على هذه الضلالات والجهالات المركبة فيه تنبيه له على نعمة الله عليه ، وحث على شكر نعمة الإيمان والإسلام والفهم عن الله قال تعالى : { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } قال بعض السلف : من أعطي القرآن ورأى أن أحدا فوقه فما عرف نعمة الله عليه ، وهذه الآية فيها الدلالة والبرهان على بطلان ما أورده المعترض من أول كلمة أنكرها على شيخنا رحمه الله ، وذلك من وجوه :(175/249)
الوجه الأول : أن قوله تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } وإضافة التوريث إليه تعالى لهم دون غيرهم شاهد لقول الشيخ أن الأمة في مقام المدح والثناء التي جاءت الآثار بمدحهم وتزكيتهم وقيامهم بدين الله وشرعه هم أهل القرآن الذين أورثهم الله كتابه ، يتلونه حق تلاوته ، فيعلمون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ، ويحللون حلاله ويحرمون حرامه . وهؤلاء جنس ونوع آخر قد باينوا عباد القبور والجهمية والزنادقة وأهل الأهواء والبدع المضلة .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : إنما جاء إضافة توريث الكتاب الى الله في الصنف المحمود في كتاب الله من أوليائه وعباده المؤمنين . فهو سياق في معرض الثناء بخلاف قوله : { فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى } فإنه أسند الإرث إليهم ولم يزكهم .
وبهذا تعرف أن هذه الآية كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الفرقة الناجية دون سائر الفرق : ( هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) ولا قائل بعصمة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الذنوب ، بل تقع فيهم ومنهم ومنهم ومنهم . فظهر أن الله أورث كتابة أهل التوحيد والإيمان والسنة . وأما أهل الشرك وعبادة الصالحين ومن عطل أسماءه وصفاته أو سب أئمة الهدى وأعلام الدجى ونسبهم إلى هؤلاء وتجارى الكلب وغير ذلك مما هو مسئول عنه ومحبوس ، حتى يخرج منه هذا إن لقي الله مسلما ، وإلا فالأمر شديد والهول عظيم . والله بصير بالعباد .
الوجه الثاني : قوله : { اصطفينا } فإن الاصطفاء هو الاختيار والاجتباء ، ولا قائل من الناس بأن كل مدع للإيمان والإسلام يدخل في هذا العموم من غير تحقيق لدعواه بالإيمان بالله وتوحيده ، واثبات صفات كماله ومتابعة رسله . ومن قال غير هذا فخطأه أوضح من أن ننبه عليه .(175/250)
ومعلوم : أن الزنادقة والجهمية والاتحادية والحلولية كلهم يدعون أنهم من المصطفين ومن أتباع الرسل ، وكل هؤلاء ما أورثهم الله كتابه ولا اصطفاهم . ومن زعم غير ذلك فهو شاهد زور : ( ولو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم لكن البينة على من ادعى ) وقال تعالى : { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين } فقد حكم تعالى في هذه الآية بحكم لا مطمع بعده لمبطل مشرك أن يكون من أهل الجنة وأهل الاصطفاء المستحقين للثواب . فإن قوله : { بلى من أسلم وجهه لله } يخرج كل مشرك يعدل بربه ، ويسوي بينه وبين غيره في خالص حقه وقوله : { وهو محسن } يخرج كل مبتدع لم يأت بما وجب من المتابعة والسير على المنهاج المحمدي في أصول الدين وفروعه . وهذان الصنفان ليسوا من أهل الاصطفاء والنزاع فيهم . وفي قوله : { من عبادنا } ما يشهد لهذا فإن العباد في مقام المدح لا يدخل فيهم من عبد الصالحين والأنبياء ودعاهم مع الله لأن الإضافة تقتضي توحيدهم وإخلاصهم العبادة . فهي إضافة تشريف . وهو الوجه الثالث .
وأما قول أبي العباس : إنها ليست بعامة في الأمم كآية الواقعة . فهذا يدل على أن من ذكر في هذه الآية لا يدخل فيهم إلا من آمن بالله ورسله وأفرده بالعبادة بخلاف أهل الشرك والبدع المكفرة . فإنهم هم المذكورون في الآية بعدها . ففيه أن هذه الأمة منهم من كفر بالله ورسله كالمذكورين في آخر هذه الآية . وكلام أبي العباس يدل عليه . إذ جعل الآيات هنا في هذه الأمة خاصة لا في غيرها من الأمم . كما في آية الواقعة .(175/251)
الوجه الرابع : أنه تعالى ذكر بعد هذا قسما رابعا لم يدخلوا في قوله : { فمنهم ظالم لنفسه } وذلك قوله تعالى : { والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك تجزي كل كفور } وقد ذكر شيخ الإسلام الإجماع على كفر من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويعبدهم ، ويتوكل عليهم . والنزاع بيننا وبين هذا المعترض إنما هو في هذا الصنف . فهم بهذا القسم أليق ، وإليه أقرب . فالآية حجة لشيخنا رحمه الله . وليس فيها ما يتعلق به هذا المعترض بوجه من الوجوه .
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لو لم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ) فالخطاب في هذا للمؤمنين الذين أفردوا الله بالعبادة ، ولم يتخذوا معه آلهة أخرى . وأما من دعا الأولياء والصالحين من أهل القبور والغائبين وجعلهم أندادا لله رب العالمين فهذا مشرك شركا يحول بينه وبين المغفرة . قال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } في موضعين من كتابه (4 : 48 و 116 ) وقال تعالى : { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } .
إذا عرفت هذا فالمعترض جاهلي ، بقى على جاهليته لم يميز بين الذنوب ، ولم يعرف معنى الأحاديث النبوية . ثم لو سلمنا أن الذنوب في الحديث يدخل فيها الشرك والمكفرات لكان في قوله : ( فيستغفرون فيغفر لهم ) دليل على أن الشرك لا يغفر إلا بالتوبة منه ، وإن الاستغفار إذا أطلق كان بمعنى التوبة التي تشمل على الندم والإقلاع والعزم على ألا يعود .
هذا هو الاستغفار المراد عند الإطلاق في كلام الله وكلام رسوله .
وأما قوله تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء } فقد أخبر تعالى بأنه سيكتبها : { للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون . الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } .(175/252)
وأما وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرحمة ، فهو لا يقتضي الشفاعة لمن دعاه بعد موته - صلى الله عليه وسلم - وخرج عن سبيل المؤمنين . وقد تقدم أنه يقول لمن يذاد عن الحوض من أصحابه إذا قيل له : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فيقول : ( سحقا سحقا ) .
وأما قول المعترض : ومع ذلك لا تزال علماء أمته ينكرون ويجددون . فنعم ولكن لا يزال المنافقون والملحدون يعادونهم ويردون ما جاءوا به من الدين ، ويقولون : هو ظاهر لا يحتاج لتجديد ويلقبونهم بالألقاب الشنيعة ، وينسبون إليهم تكفير الأمة الوسط إذا أنكروا على عباد القبور والمشركين ، فتعسا لمن هذا حرفته ، وهذه صفته .
وأما قوله : ويدخلون عليها من الباب الواسع .
فإن كان مراده أنهم يوسعون لمن دعا الصالحين وأشرك بالأموات والغائبين . فقد كذب وافترى وبهت علماء الأمة ، بل شددوا في ذلك وحكموا بأنه من الشرك الأكبر ، ونهوا عن وسائله وذرائعه ، عملا بقول نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ونصحا للأمة ، ونهوا عما دون ذلك من شرك الألفاظ والأقوال ، كقول ( ما شاء الله وشئت ) وكقول القائل ( والله وحياتك ، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص ) ولم يرخصوا في ذلك ولم يوسعوا فيه . فكيف بالشرك الأكبر وما فيه التسوية بين الله وبين عباده في خالص حقه ؟ ، وبهذا تعرف ما تقدم مرارا من أن هذا المعترض فيه مشابهة برجال الجاهلية الأولى في عدم معرفة دين الأنبياء ، وعدم قبوله وإيثاره على ما سواه .
وأما قوله : ويتحاشون من الباب الضيق بتكفيرها كما فعل هذا الرجل وذووه .
فقد عرفت أنه جعل الباب النبوي المحمدي في تكفير من أشرك بالله وسوى بينه وبين خلقة بابا ضيقاً ، ونسب فاعله إلى الابتداع والخروج والهوى الذي يتجارى بصاحبه كما يتجارى الكلب ولعمر الله إن الحكم بهذا والذهاب إليه من أعظم المكفرات وموجبات الردة لمن عرف أن الرسول جاء به وأن القرآن حكم على أهله بالشرك والكفر .(175/253)
وأما الأعمى الذي لا يدري قول الرسول ، ولا يعرف أحكام التنزيل ، ولم يبلغه عن الله ورسوله تكفير من عصى الرسل ، ودعا الأموات والغائبين فيما لا يقدر عليه إلا الله ، فأهل العلم لهم في مثله كلام ليس هذا محله .
فصل
قال المعترض : ولهذا قال الإمام أحمد : صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من خمسة أوجه أنه قال : ( الخوارج كلاب النار ) فالحاصل أنه لا يكذب بحال الروح إلا من قلبه مجروح دون أنه - صلى الله عليه وسلم - في قبره حي وجسده طري أغلى من حياة الشهداء يسمع المخاطب . وصح عن سعيد بن المسيب أنه يسمع أيام فتنة الحرة الآذان والإقامة من قبره - صلى الله عليه وسلم - ، وليس موسى بأعلى رتبة منه عليهما الصلاة والسلام . وقد مر أنه يصلي في قبره وذكر ابن القيم من أحوال الروح في كتاب الروح الكبير ما لا يمكن أن يتكلم به مع هؤلاء الجهلة الغوغاء ، وأنها قد تهزم الجيوش .
ثم ذكر حديث : ( إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام ) وحديث : ( تعرض علي أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله تعالى عليه وما رأيت من شر استغفرت لكم ) وساق حديث : ( إن أعمالكم تعرض على عشائركم من الأموات فإن كان خيرا استبشروا وإن كان غير ذلك قالوا اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا ) .
قال المعترض : وإن كان سفيان قد دلس فيه فهو ثقة عدل .
يشير إلى أن سفيان حدث عمن سمع أنس بن مالك .(175/254)
والجواب : أما ما جاء في الخوارج عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو حق لا ريب فيه . والخوارج لا يعرفهم هذا وأمثاله من الضلال . فإنهم قوم خرجوا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكفروهم ، وفسقوهم بتحكيم الحكمين ، ووضع الهدنة بين المسلمين في قتالهم فكفروهم بأمور ظنوها ذنوبا وسيئات متأولين قوله تعالى : { إن الحكم إلا لله } وقوله تعالى : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } قالوا فلا حكم لأحد ولا هدنة بعد براءة ، وقصتهم معروفة . وقد قاتلهم أمير المؤمنين علي وقتلهم ، وبقيت منهم بقية صارت لهم صولة وجماعة في خلافة بني أمية فقاتلهم ابن الزبير ، وقاتلهم الحجاج ، وقاتلهم المهلب بن أبي صفرة . فهؤلاء كفروا أهل الإيمان والإسلام بأمور ظنوها ذنوبا وسيئات .(175/255)
وأما أهل العلم والإيمان وأتباع الرسل فهم يفرقون بين الذنوب وغيرها ، ويفصلون في الذنوب المحققة بين ما يكفر ويوجب الردة وما يوجب الفسوق فقط ، وما لا يوجبه من الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر . فهم على صراط مستقيم ومنهج مستبين ، يأتمون بكتاب الله ويقتدون برسول الله ، ويعتصمون بحبل الله : قد فصلوا وبينوا الذنوب المكفرة لأصحابها . وقرروها بأدلتها في كتب الحديث ، كالصحيحين والسنن الأربع والمساند الثمانية والمعاجم ، ونحوها من دواوين الإسلام التي يرجع إليها في سائر الأحكام ولذلك عقد أهل المذاهب المتبوعين أبوابا مستقلة في حكم الردة ، وذكروا ما يكفر به المسلم من الأقوال والأفعال . وكلهم قرر أن الشرك الأكبر يوجب الردة كما يوجبها السحر والاستهزاء بالله وبكلامه ورسله وذكروا أشياء كثيرة قد أفردها ابن حجر الهيتمي وغيره بالتصنيف . فإن كان هؤلاء كلهم خوارج . فليس في الأمة إلا خارجي مبتدع ، وإمامهم ورئيسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي كفر وقاتل مانع الزكاة ، وإن لم يكن هؤلاء من الخوارج وأهل البدع ، فالشيخ رحمه الله واحد من الجملة وفرد من آحاد العلماء ، ولم يخرج عن سبيل أهل العلم في مسألة من المسائل . والمسألة التي فيها النزاع ـ وهي دعاء الأموات والغائبين للشفاعة أو غيرها من المطالب ـ مسألة إجماعية لا نزاع فيها بين علماء الأمة . وقد حكى شيخ الإسلام الإجماع على كفر من جعل بينه وبين الله وسائط ، يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم بل حكى فى رده على النصارى أن النبوات اتفقت على تكفير من دعا الأموات والغائبين وقرر أن هذا من العبادات التي لا تصرف لغير الله ولا يستحقها أحد سواه .(175/256)
إذا عرفت هذا فالمعترض وأمثاله صالوا على أتباع الرسل قديما وحديثا بأنهم خوارج ، وأن هذا دين الخوارج . وقالت قريش قبلهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنه صابئ والصابئ قريب من معنى المعتزلي والخارجي . قال ابن القيم رحمه الله في نونيته :
ومن العجائب أنهم قالوا
*
لمن قد دان بالآثار والقرآن
أنتم بذا مثل الخوارج أنهم
*
أخذواالظواهر ما اهتدوا لمعاني
... فثبت أن هذا الدعاء قديم صد به إبليس الرجيم أمما لم يفرقوا بين ما كفرت به الرسل وأتباعهم وما كفرت به الخوارج وأشياعهم . فكم هلك في هذا من جاهل . وكم زاغ به من زائغ .
ثم يقال لهذا الغبي الضال : إذا ثبت أن الخوارج كلاب أهل النار لأنهم كفروا أهل الإسلام بالذنوب ـ على زعمهم ـ فكيف ترى بمن كفر أئمة الدين وعلماء الأمة وورثة الرسول بمتابعته ، وتجريد التوحيد ، والبراءة من الشرك وأهله ؟ فأي الفريقين أحق أن يكون من كلاب النار : من كفر بالذنوب والسيئات ، أو من كفر بمحض الإيمان والحسنات ؟ الله أكبر . ما أضل هذا الرجل عن سواء السبيل .
وأما قوله : فالحاصل أنه لا يكذب بحال الروح إلا من قلبه مجروح .
فيقال : هذا شروع منه في أن الأرواح لها تصرف وعلم يوجب دعاءها بعد مفارقة أجسادها ، والاستغاثة بها ، وهذا القول حكاه شيخ الإسلام عن الصابئة ، وقرره غير واحد في دعاء الأنفس المفارقة أنفس الأنبياء والصالحين والملائكة .(175/257)
واستدل الغبي على هذه الدعوى الصابئية بأنه - صلى الله عليه وسلم - في قبره حي ، وجسده طري ـ بأبي هو وأمي ـ ولم يفقه هذا الأعمى معنى حياة الأنبياء والشهداء ، ولم يدر حقيقتها مع أن الإشارة إليها صريحة في كتاب الله ! وفي سنة رسول الله . والرجل حاطب ليل لا علم له بما يورده من النقول ، ولا دراية له بشيء من المعقول . وليست حياة الأنبياء والشهداء كما يظنه هؤلاء وأسلافهم من الصابئه : من أن لهم علما بحال من دعاهم وقدرة على إجابته ، وتصرف في العالم ، وجولانا في الملكوت ويكفي المؤمن في بيان حياتهم والإشارة إلى حقيقتها قوله تعالى : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه : ( أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ) ويكفي في إبطال قول الصابئة وورثتهم قوله تعالى عن المسيح : { وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد } فإن في هذه الآية ما يدل على أنه عليه السلام لا علم له بما صدر وجرى منهم بعد وفاته . وأنه إنما يشهد بما كان منهم مدة حياته وبقائه فيهم ولا يعلم سواه ، ولا يشهد بغيره . وعن ابن عباس مرفوعا : ( تحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا ثم قرأ : { كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين } وأول من يكسى إبراهيم . ويؤخذ برجال من أصحابي ذات الشمال فأقول : أصحابي . فيقال : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم . فأقول كما قال العبد الصالح : { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم . وأنت على كل شيء شهيد . إن تعذيهم فإنهم عبادك وإن تغفرلهم فإنك أنت العزيز الحكيم } ) .(175/258)
فإذا كانت هذه أحوال أكابر الرسل وسادات الأنبياء لا شهادة لهم ولا علم بأممهم إلا مدة دوامهم فيهم . وحياتهم بين أظهرهم . فكيف يقال : بأن الروح تعلم علما مطلقا بحال من دعاها . فتسأل أو تدعى ؟ ما أقبح الكذب على الله وعلى رسله .
وكذلك قوله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : { قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا } وفي الحديث : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو لد صالح يدعو له ) وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( نسمة المؤمن طائر يعلق بشجر الجنة ) .
وأما حياته في قبره فنعم ولكن الشأن في معرفة حقيقة هذه الحياة والفرق بينها وبين الحياة الدنيوية .
وأما سماع النداء بالآذان والإقامة من القبر الشريف فالأمر أجل من ذلك وأرفع وقد سمعت القراءة من كثير من الأموات من سائر المؤمنين فكيف بسيد المرسلين ؟ .
وأما صلاة موسي في قبره فإن صح الحديث بها فليس فيها حجة ولا دليل على أن أحدا منهم يقصد للدعاء والشفاعة . والحديث فيه مقال . ولذلك قال ابن القيم في الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية :
في النفس منه حسيلة : هل قاله
*
والحق ما قد قال ذو الفرقان
وأما ما ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح فليس فيه أن الأرواح تفعل وتهزم الجيوش أو تنصر على الأعداء كما زعمه هذا الضال الذي مبنى دينه ورده على المسبة والسفاهة ، ونسبة المؤمنين إلى أنهم جهلة غوغاء . فليوجدنا حرفا يشهد لقوله عن ابن القيم أو غيره . بل في كتاب الروح من ذكر أحوال الأرواح وتقسيمها واشتغالها بما هي بصدده ، وحبس بعضها وانقطاع أعمالها وغير ذلك من صفاتها ما يشهد بأنها مقهورة مربوبة مدبرة ، لا تزيد في حسناتها ولا تنقص من سيئاتها إلى يوم النشور خلافا لما زعمه الكاذب الظالم الفجور .(175/259)
وأما حديث : ( إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام ) فهذا الحديث حجة لأهل التوحيد القائلين بأن الرسول لا يعلم الغيب ، ولا يملك لأحد ضرا ولا نفعا .
ووجه الدليل : أن السلام يرفع إليه ويبلغ إياه ، ولم يرد أنه يعلم أو يسمع من بعد من المصلين والمسَلِّمين عليه . وإذا كان الحال هكذا فما ظنك بالداعين والطالبين ؟ وكذلك عرض الاعمال عليه يقال فيه ما قيل في هذا . وكذلك عرضها على العشائر والأقارب لا يدل على أن الميت يدعى ويقصد ، ويطلب منه الاستغفار ، فإن من دين المشركين .
وهذه الأحاديث لا تدل على جواز دعاء الأموات والغائبين ، ولا على عموم العلم بحال الداعين ، ولا على حصول الاستغفار في كل وقت وحين فإن هذا يحتاج لتوقيف من الشارع - صلى الله عليه وسلم - .
وأما قوله : وإن كان سفيان قد دلس فهو ثقة عدل .
فيقال له : البحث في هذا ليس من شأنك ولا من حرفتك ، ولا تحسن الخوض في هذه المباحث وسفيان أجل من أن يزكية أمثالك من الضالين ، والعلة ليس ما زعمته وقررته .
فصل
ثم ذكر المعترض بعد هذه الأحاديث التي مرت من الفحش والكذب والوقاحه ما يتحاشي العاقل عن ذكره وحكايته . وليس من الحجة في شيء حتي يحكى ويرد وإنما هو سباب لا يصدر من ذوي الألباب . وهكذا حال الجاهل والسفية إذا أفلس ضاق عطنه فاستراح إلى المسبة والفحش والبذاءه . وقال أبو حيان فيما كتبه في الرد على الزمخشري :
ويشتم أعلام الأئمة ضلة
*
ولا سيما أن أوردوه المضايقا
ويسهب في المعنى الوجيز دلالة
*
بتكثير الفاظ تسمى الشقاشقا(175/260)
ثم ذكر كلاما طويلا في مسبة بلد الشيخ وموضعه ، وأنه بلد مسيلمة ونجدة الحروري والقرمطي والاخيصر وابن عصفور ، وهذا حاصل علم ثور المدار ابن منصور ، أي بلد من بلاد المسلمين لم يقع فيها من المكفرات والشرك وعبادة النيران أو الأوثان أو البدع المضلة ما هو من جنس ما حصل باليمامة أو أفحش .
ثم كون نجدة الخارجي والقرمطي من هذه البلاد كلام كذب وزور على عادته فإن نجدة ابتلي ببدعته ومروقة بالعراق . وبها استقر وهي وطنه وأيضا فقد ثبت أنه تاب لما ناظره ابن عباس .
والقرمطي بلاده القطيف والخط . وليس من حدود اليمامة ، بل ولا من حدود نجد ، ثم لو فرض أنه من نجد ومن اليمامة ومن بلدة الشيخ ، أي ضرر في ذلك ؟ وهل عاب الله ورسوله أحداً من المسلمين أو غيرهم ببلده ووطنه ، وكونه فارسيا . أو زنجيا أو مصريا من بلاد فرعون . ومحل كفره وسلطنته . وعكرمة بن أبي جهل من أفاضل الصحابة ، وأبوه فرعون هذه الأمة .(175/261)
ومن العجب أنه يقول في المؤمنين : { فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً } وهو كما ترى من أكثف الناس حجابا ، وأغلظهم ذهنا ، يعيب من زكاهم الله ورسوله بالايمان به . ومتابعة رسوله ببلاد قد كفر فيها بالله وعبد مع غيره . وهو يعلم أن بلاد الخليل ابراهيم حران دار الصابئة المشركين عباد النجوم . ودار يوسف دار فرعون الكافر اللعين . وسكنها موسى بعده وأكابر بني اسرائيل . وكذلك مكة المشرفة ، وسكنها المشركون وعلقوا الأصنام على الكعبه المشرفة ، وأخرجوا نبيهم وقاتلوه المرة بعد المرة أفيستحل مؤمن أو عاقل أو جاهل أن يلمز أحد من المهاجرين أو من مسلمة الفتح أو من بعدهم من المؤمنين بما سلف في مكة من الشرك بالله رب العالمين ؟ فاحكم أيها السامع المنصف بيننا وبين هذا الرجل الذي يتأول فينا قوله تعالى : { فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } قد رفعت إليك الخصومة وجاء كل بحجته . عسى أن يوفق لهما صاحب سنة وصاحب صناعة يحكم بالحق ، ويفصل النزاع . فقد طال اعتراض هؤلاء الجهلة ، وتمادوا في غيهم وضلالهم ، فالله المستعان .
ثم قال : ومن ذلك الذي نحن بصدده حديث الأعمى الذي صححه الترمذي وغيره من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه الذي علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه . وفيه النداء بغيبتة ، ففتح الله له عينيه ، فجاء اليه كأن لم يكن به بأس . وعلمه عثمان بن حنيف رجلا في خلافة عثمان . وكانت له حاجة فتيسرت حاجته فالكل من عند الله تعالى في الحقيقة . وهو - صلى الله عليه وسلم - سبب يكرمه الله بذلك ، فما ذنب صاحب البردة رحمه الله في قوله : يا أكرم الخلق ؟ أليس هو بأكرم الخلق على الله ؟ .(175/262)
ثم قال : وروى الحاكم باسناده عن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما اقترف آدم الخطيئة قال : ( يارب أسالك بحق محمد لما غفرت لي ، قال الله تعالى : يا آدم ، وكيف عرفت محمد ولم أخلقه ؟ قال : يارب لما خلقتني بيدك ونفخت فيَّ من روحك رفعت رأسي فإذا على قوائم العرش مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله . فعرفت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك وقال الله : صدقت يا آدم ، إنه لأحب الخلق إلي . إن سألتني بحقه غفرت لك . ولولا محمد ما خلقتك ) ورواه الطبراني وزاد : ( وهو آخر الأنبياء من ذريتك ) قال ومن ذلك قوله تعالى : { واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام } على قراءة الجر . وقد صح عن عبدالله بن جعفر رضي الله عنه انه إذا سأل عمه شيئا بحق جعفر أجابه .
ثم أخذ يكرر ما تقدم من حديث الرسول بحق السائلين وحديث الغار ، وأن ذات النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلى من العمل الصالح . وقد أعطاه الله الشفاعات ، وهو حي في قبره - صلى الله عليه وسلم - ، وأن سعيدا سمع الآذان والإقامة أيام الحرة من القبر الشريف ، وأنه يستغفر لأمته .
وكل هذا قد تكرر . ولكنه أفلس وعاد إلى تقليب ما في المكتل . كل هذا أجبنا عنه بحمد الله .(175/263)
ثم قال : فأين هذا من عبادة غير الله تعالى من دونه جل وعلا والذي في الآية الكريمة التي استدل بها هذا الرجل على تكفير هذه الأمة ؟ . سبحانك هذا بهتان عظيم . إذ هو من القول على الله بلا علم . وليس ما ذكرنا استدلالا منا على ذلك لا اثباتا ولا نفيا : فذلك أمر آخر . وإنما هو نفي لتكفير هذا الرجل للأمة وعلمائها بذلك بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . فلا بكتاب ربه في ذلك اهتدى ، ولا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اقتدى ، ولا بقول من بقوله الرضى والشفاء من العلماء ، لا بصحابي مضى ، ولا بتابعي قفى ، ولا عمن في قوله الشفاء من العلماء أهل المعرفة بالاقتداء ونحن بحمد الله ندين بأنه واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير . لا رب لنا سواه ولا نعبد إلا إياه حي قيوم وهو على كل شيء قدير . بيده ملكوت كل شيء وإليه يرجع الأمر كله . له الخلق والأمر . ولكن لا نحكم أنفسنا على الله تعالى ورسوله . وما فعله السلف أو ردوه لا يكون كفرا جائزا أو غير جائز عند بعضهم ، بل ولا فسقا .
والجواب أن يقال : قد تقدم الكلام على حديث الأعمى وتقدم تنبيه هذا المعترض على الفرق بين الأسباب ، وأن منها ما شرع ومنها ما لم يشرع هذا على تسليم كون سؤاله - صلى الله عليه وسلم - سببا يشفع لمن دعاه .
وقوله : فما ذنب صاحب البرده . قد تقدم الكلام في ذنبه ، وبيان الوجه في ذلك وإن لم يفقه هذا المعترض ، وليس النزاع في كونه - صلى الله عليه وسلم - أكرم الخلق ، وإنما هو في دعاء غير الله والاستغاثة بسواه .(175/264)
وأما الحديث الذي عزاه لعمر بن الخطاب بتوسل آدم بحق محمد فهو حديث موضوع مكذوب باتفاق أهل العلم بالحديث كما جزم به شيخ الإسلام في كتاب الاستغاثه في الرد على ابن البكري ، وأهل العلم يفرقون بين ما رواه الطبراني وما رواه أئمة الحديث كالبخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن الأربعة وموطأ مالك ، وما رواه غيرهم من أهل المسانيد لا سيما الطبراني وأمثاله من المكثرين ، فلا يحتج بحديثهم وما انفردوا به إلا بعد النظر في سنده ، وكلام أهل الجرح والتعديل ومجرد العزو لا تقوم به حجة ، لكثرة ما اشتمل عليه من الموضوعات .
وقد أنكر الحفاظ الحكاية التي تنسب إلى مالك مع الخليفة المنصور التي ذكر فيها : كيف تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة آبائك وجزموا بأن الحكاية موضوعه ، وأن مالكا لم يقل هذا .
وقد تكلم عليه الحفاظ ابن عبدالهادي وغيره بكلام بديع ، وذكر أنه من رواية عبدالرحمن بن زيد بن أسلم الذي قال فيه مالك بن أنس رحمه الله : إذهب إلى عبدالرحمن بن زيد بن أسلم يحدثك عن أبيه عن نوح .
وقال الربيع بن سليمان : سمعت الشافعي يقول : سأل رجل عبدالرحمن بن زيد بن أسلم : أحدثك أبوك عن أبيه عن جده : إن سفينة نوح طافت بالبيت وصلت ركعتين ؟ قال نعم قال ابن خزيمة : عبدالرحمن بن زيد ليس ممن يحتج أهل العلم بحديثه ، وقال الحاكم : روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه ، وقال الحافظ أبو نعيم الاصبهاني : حدث عن أبيه ، لا شيء .
وأما سؤال عبدالله بحق جعفر فليس فيه دلالة على محل النزاع ، وليس منه في شيء فان السؤال للحقوق الثابتة حض وحث على التزامها ، وليس من سؤال غير الله ودعائه . فكما أن للسائلين على الله حقا يسأل به كذلك للرحم حق على الأقارب يسألون به ، وأين هذا من قول الناظم في بردته : مالي من ألوذ به سواك ، وما بعده .(175/265)
وأما قوله : فأين هذا من عبادة غير الله ، فالكلام ليس في التوسل الذي هو سؤال الله بحق عباده ، والتوسل بالاعمال الصالحة ، حتى يقال أين هذا من عبادة غير الله ؟ وإنما النزاع والكلام في دعاء غير الله من الأموات والغائبين ، ومن استبعد كونه عباده لغير الله وأنكر ذلك فهو من أجهل الخلق بمسمى العبادة ، وقال تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } ومر حديث النعمان وقوله : ( الدعاء هو العبادة ) وحديث : { الدعاء مخ العبادة } والمعترض مخاتل متلاعب بدين الله ، وسيجزيه الله على ذلك ما يستحقه وتقتضيه حكمة الرب في مجازاة أمثاله .
وأما قوله : وليس ما ذكرنا استدلالا منا على ذلك لا إثباتا ولا نفيا .
فهذا كذب يناقض ما قبله . فإنه أثبت ما في أبيات البردة وقرره ، وساق ما يزعم أنه يشهد له ، وأن الطلب من الأموات والغائبين بقصد الشفاعة جائز وارد . ونفي ما استدل عليه الشيخ من تحريم دعاء الأموات الشفاعة أو غيرها . وزعم أن من قال : هذا من الشرك . فقد كفر الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس ، القائمين بدين الله ، وأكثر من هذا النوع وأسهب فيه ، كما مر . وهنا يقول : ليس ما ذكرنا استدلالا منا على ذلك ، ولا إثباتاً ولا نفيا . فالرجل لا يعقل ما يتكلم به ، وشيخنا لم يكفر الأمة وعلماءها حتى صاحب البردة ، وإنما تكلم فيما دل عليه كلامه واقتضاه نظمه وخطابه ، وعلماء الأمة ليسوا من هذا الضرب الغالين في الأنبياء والصالحين وهذا الرجل ما عرف العلم ولا العلماء ، ولا مسمى الأمة ولا مسمى التوحيد ، ولا مسمى الشرك ولا التوسل . فهو أجهل الخلق بحدود ما أنزل الله على رسوله وهو أحق الناس بما رمى به شيخنا من ترك الاهتداء والاقتداء وعدم القول بما ذهب إليه أهل الرضى .
وأما قوله : ونحن بحمدالله ندين بأن الله واحد أحد لا رب لنا سواه ولا نعبد إلا إياه .(175/266)
فيقال : الخصومة منذ سنين بيننا وبينك فيما دلت عليه هذه الكلمة ، والنزاع في عبادة الله وحده لا شريك له . نحن نقول : دعاء الأنبياء والصالحين من الأموات والغائبين للشفاعة أو غيرها شرك ظاهر مستبين ، ونستدل على قولنا بما في كتاب الله من تحريم دعاء غيره وعبادة سواه ، وندخل دعاء الأموات والغائبين فيما دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال السلف ، وأهل التأويل ، كما استدل بذلك سلفنا الصالح من علماء الأمة ، وأئمة الدين وأكابر المحدثين والمجتهدين ، وأنت أيها الرجل تزعم أن هذا جائز أو مستحب . وتستدل بما مر من أدلتك التي يعرف من نظر فيها أنك عن العلم والإصابة بمعزل ، وأنك لم تتصور حقيقة الإسلام وما جاءت به الرسل الكرام .
وأما قوله : ولكن لا نحكم أنفسنا على الله ورسوله . فقد كذب في هذا ، بل حكم نفسه ورجع إليها ، وقاد النصوص إلى رأيه الضال وقوله الفاسد .
وقوله : وما فعله السلف لا يكون كفراً جائزاً أو غير جائز عند بعضهم ، بل ولا فسقاً .(175/267)
فهذا الكلام كلام جاهل لا يدري ما يقول . فأي شيء فعله السلف أو رأوه جائزاً كفر به شيخنا ؟ وما معنى هذه الكلمة ؟ وهذا الاسم عند الإطلاق ؟ أهو للجميع والجملة ، أو لفرد منها ؟ وأظنه يشير إلى أن سؤال الله بجاه الأنبياء والأولياء فعله بعض السلف . فأطلق اسم السلف على فرد منهم ، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة ، وأن الذي يشير إليه هذا ما فعله أحد قط ، وفي قوله : أو غير جائز عند بعضهم . يريد أنه لا يذم وإن لم يجزه بعضهم ، ومنع منه ، وهذه المسألة الصواب فيها وفي غيرها : رد مسائل النزاع إلى الكتاب والسنة . والحكم بموجب ذلك ، ولا يقال : إنما فعله السلف ولو غير جائز . ليس بكفر ولا فسق . فإن هذا بكلام الغوغاء أشبه منه بكلام العقلاء ، وقدامة بن مظعون وأصحابه رضي الله عنهم أنكر عليهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجزموا بأن استحلال الخمر بعد قيام الحجة على مستحله كفر ، ووافقهم على ذلك قدامة بن مظعون وأصحابه ، وبادر إلى التوبة هو وأصحابه رضي الله عنهم ، وهم من أكابر السلف ، فكيف يقال : وما فعله السلف لا يكون كفراً ولا فسقاً ؟ والمراد آحاد السلف .
فصل(175/268)
قال المعترض : فقد روى البيهقي بسند جيد من طريق الأعمش عن أبي صالح عن مالك الداري رضي الله عنه المعروف بخازن عمر . قال رضي الله عنه : أصاب قحط في زمان عمر بن الخطاب ، فجاء رجل قال : يا رسول الله استسق الله تعالى لأمتك فإنهم هلكوا فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال : ائت عمر ، فاقرأه السلام وأخبرهم أنهم مسقون ، وقل له : عليك الكيس الكيس ، وأتى الرجل عمر فأخبره فبكى ثم قال : يا رب ما آلوا إلا ما عجزت عنه . ورواه سيف بن عمر في فتوحه . وبين أن الرجل الذي رأى المنام بلال بن الحارث الصحابي الذي أقطعه النبي - صلى الله عليه وسلم - المعادن القبلية. فماذا يقول هذا ؟ أيقول : إن الصحابة رضي الله عنهم الذين منهم أهل الشجرة كفروا ، أم نقلة هذا الخبر من حفاظ هذه الأمة وسلفها الصالح ، فهو كفر بالتوسل له - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا فيه أنهم نادوا وطلبوا من - صلى الله عليه وسلم - الاستسقاء أبلغ من ذلك ، وفيهم الفاروق .
والجواب أن يقال : هذه الحكاية على تسليم صحتها ليس فيها دليل شرعي يجب المصير إليه عند أهل العلم والإيمان ، فقد ذكر العلماء الأدلة الشرعية وحصروها وليس أحد منهم استدل على الأحكام برؤيا آحاد الأمة لا سيما إذا تجردت عما يعضدها من الكتاب والسنة والإجماع أو القياس .
وهذا الرجل الذي رآها أبهمه من روى هذه الواقعة ، ولم يعنيه إلا سيف بن عمر على ما زعمه هذا الرجل .(175/269)
وقد تقدم الكلام في سيف ، وأنه ضعيف لا يحتج به ، ورؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تدل على استحسان فعل من اشتكى إليه القحط ، وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يقل أني شفعت لهم في السقيا ، أو طلبتها من الله لهم ، أو أجبت هذا المشتكي . وإنما أخبر أنهم يسقون . وهذا لا يفيد إقرار هذا الفعل ولا الرضى به . ولا عن فاعله . وهو في حياته - صلى الله عليه وسلم - ربما أعطى الرجل المسألة فيخرج بها يتأبطها ناراً . وقد يجري لمن يدعو الصالحين ومن هو دون الأنبياء كثير من هذا النوع . كما ذكره شيخ الإسلام وغيره ، ولكنهم قرروا أن هذا لا يدل على الإباحة ولا على الإجابة بهذا السبب . بل قد لا يشعر المسؤول بشيء من ذلك . فإذا كان هذا يقع والمسؤول لا شعور لديه ، ولا قدرة على الاستجابة فالاحتجاج به خروج عن الحجج الشرعية التي يرجع إليها أهل العلم والإيمان .(175/270)
ورؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - وخطابه بمثل هذا لا يدل على حسن حال الرائي وتصويب فعله . هذا لو ثبتت هذه الرؤيا بوجه صحيح شرعي فكيف ودلائل الوضع تلوح عليها ؟ وقد يراه بعض الفساق والكفار ورؤيته نذارة للمجرمين وبشارة للمؤمنين ، وكون عمر بكى ولم ينكر هذه الرؤيا فليس هذا من الأدلة على أنه يشتكي إلى الرسول ، ولم يقل الرائي لعمر : إني ذهبت واشتكيت القحط إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم ينقله أحد . والنصارى والكفار يتوجهون إلى من عبدوه مع الله ويسألونه المطالب ، وكشف الشدائد ومع ذلك قد تحصل إجابتهم لما لله في ذلك من الحكمة والفتنة . وقد قال تعالى : { كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك } وقد استجيب لبلعام بن باعورا في قوم موسى . والحجة الصريحة الواضحة ما فعله عمر بن الخطاب وأقره أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأجمعوا عليه ، كما في الصحيحين وغيرهما : أن عمر استسقى بالعباس بن عبدالمطلب وقال : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نستسقي بنبيك فتسقينا ، وإنا نستسقي بعم نبيك فاسقنا ، قم يا عباس فادع الله فدعا العباس فسقوا . هذا قد أجمع عليه الصحابة وأقروه ، ولم يقل أحد منهم استسق برسول الله ، أو ليس لك العدول عنه ، بل هم أفقه من ذلك وأعلم بدين الله . ثم لو كان حقاً كيف يتركه الجم الغفير ويعدلون عنه ، مع أنه هدى وصواب ، وهذا لا يكاد يقع ممن هو دونهم ، فكيف بهم رضي الله عنهم ؟ ومن ترك هذه النصوص الواضحات الصريحة وعدل عنها إلى رؤيا منامية وحكايات عمن لا يحتجبه في المسائل الإيمانية فهو ممن وصف الله تعالى بقوله : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ) .(175/271)
قال شيخ الإسلام أبو العباس رحمه الله تعالى في الكلام على رد شبه النصارى وما يحتجون به على باطلهم : أسباب الضلال الذي عرض لهؤلاء وأشباههم ثلاثة أمور إما نصوص متشابهة مجملة . لم يفهموها ولم يفقهوا ما دلت عليه ، ويحتجون بها ويوردونها من غير فهم لمعناها ، ولا معرفة لما دلت عليه ، أو أمور مكذوبة مردودة من الموضوعات التي لا يحتج بها ، ويرجع إليها في أمر دينه إلا جهال لم يعرفوا ما جاءت به الرسل من الدين والشرائع والثالث : احتجاجهم بخوارق العادة وما يجريه الله لأصحاب الخوارق أو على أيديهم كمخاطبة الشياطين من الأصنام أو القبور أو غيرهما مما عبد مع الله . وقد يتراءى الشيطان لبعضهم في صورة من يعتقد فيه أو ينتسب إلى رجل صالح ويتسمى باسمه ، كالخضر وعبدالقادر . وقد تخاطب هؤلاء الشياطين من استغاث بغير الله أو دعاه ، وينسب ذلك إلى هذا المدعو أو المستغاث به ، ويقول أحدهم : رأيت فلاناً وخاطبني فلان أو نحو هذا .
قرر هذا المعنى في رده على النصارى ولخصناه هنا لينتفع به من وقف عليه .
إذا عرفت هذا عرفت بطلان قول المعترض : فماذا يقول هذا الرجل ؟ .
أفيقول : الصحابة رضي الله عنهم كفروا . فإن شيخنا رحمه الله أسعد بحل الصحابة ومتابعتهم من هذا المعترض الضال .
وقوله : وهذا فيه أنهم نادوا وطلبوا منه - صلى الله عليه وسلم - الاستسقاء .
قد تقدم أنه نقله عن واحد وهنا إضافة إلى الصحابة كلهم ، وفيهم عمر ، فما أقبح الكذب ، لا سيما على الله وعلى رسوله وعلى أصحاب رسوله ، كما فعل هذا الضال .
فصل(175/272)
قال المعترض : وفي كلام محيي الدين أبي زكريا يحيى النووي الشافعي المشهور بالعلم والحفظ والإتقان ، قال بعد أن ذكر صفة زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفة السلام عليه وعلى صاحبيه ، والانحراف عن إستدباره واستقبال القبلة بالدعاء ـ قال : ثم يرجع الزائر إلى موقفه الأول قبالة وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيتوسل به في حق نفسه ، ويستشفع به إلى ربه ، ومن أحسن ما يقول : ما حكاه أصحابنا عن العتبى مستحسنين له ـ وذكر قصة العتبى ، وهو تابعي جليل فقال : حكى العتبى أنه قال : كنت جالساً عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء أعرابي فقال : السلام عيك يا رسول الله يا صفوة خلق الله أنت الذي أنزل عليك : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباُ رحيماً } وقد ظلمت نفسي ، وها أنا قد أتيت أستغفر من ذنبي ، اشفع لي إلى ربي ، ثم أنشأ يقول :
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
*
فطاب من طيبهن القاع والأكم
أنت الفداء لقبر أنت ساكنه
*
فيه العفاف ، وفيه الجود والكرم
أنت الحبيب الذي ترجى شفاعته
*
عند الصراط إذا مازلت القدم
أنت البشير النذير المستضاء به
*
وشافع الخلق إذ يغشاهم الندم
تخصهم بنعيم لا نفاد له
*
والحور في جنة المأوى لهم خدم
تعطى الوسيلة يوم العرض مغتبطا
*
عند المهيمن لما تحشر الأمم
والحوض قد خصك الله الكريم به ...
*
يوماً عليه جميع الخلق تزدحم
تسقى لمن شئت يا خير الأنام وكم
*
قوماً لعظم الشقا والبعد قد حرموا
صلى عليك إله العرش ما طلعت
*
شمس النهار فغشت حندس الظلم
قال العتبى رحمه الله : ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا عتبى أدرك الأعرابي ، وبشره أن الله قد غفر له .(175/273)
ثم ذكر المعترض : أن موفق الدين بن قدامة وابن أبي عمر وصاحب المستوعب وغيرهم من الأصحاب ذكروا ذلك ، ونقلوا هذه القصة راضين بها . وهي مما استفاض عند الأمة ، حتى لا تحتاج لسند ، قال ، ثم دع صحتها من عدمها وأنها منام ، ولكن الشأن في رضى نقلتها وهم حملة الشريعة المطهرة .
ثم كرر هذيانه المتقدم في ذم وطن الشيخ وأن النبي لم يدع له ، وأن الشيخ لم يظهر الدين ، بل كفر العلماء الأمناء والأمة التي أخبر الله تعالى أنها خير أمة أخرجت للناس ، وأعاد ما تقدم بعبارة واهية وتركيب ساقط ، كأنه وقع على دليل يجب المصير إليه في تجويز دعاء الأموات وتخطئة من منعه .
ولا يخفى أنه حرف البيت الثاني تحريفاً بشعاً جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فداء للقبر ، بأبي هو وأمي . ولم يشعر بما في كلامه من التحريف ، ورسم هذا التحريف بقلمه . وكتبه بيده وصوابه " نفسي الفداء " .
والجواب أن يقال : هذه القصة التي ذكرها طائفة من متأخري الفقهاء ، ولم يذكرها غيرهم ممن يعتد به ، ويقتدى به ، كالأئمة المتبوعين وأكابر أصحابهم ، وأهل الوجوه في مذاهبهم ، كأشهب وابن القاسم ، وسحنون وابن وهب ، وعبدالملك وابنه ، والقاضي إسماعيل من المالكية ، ولا من الشافعية كالمزني والبويطي ، وإبن عبدالحكم ، ومن بعدهم كابن خزيمة ، وابن سريج وأمثالهم ، ونظرائهم من أهل الوجوه ، وكأبي يوسف من أصحاب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني وزفر بن الهذيل ، ومن بعدهم كالطحاوي حامل لواء المذهب . وكذلك أصحاب أحمد وأصحاب الوجوه في مذهبه لم يذكرها أحد منهم ، كعبدالله وصالح ، والخلال ، والأثرم ، وأبي بكر بن عبدالعزيز والمروذي وأبي الخطاب . ومن بعدهم ، كابن عقيل وابن بطة .(175/274)
وبعض من ذكر هذه الحكاية يرويها بلا إسناد وبعضهم عن محمد ابن حرب الهلالي . وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب عن أبي الحسن الزغفراني عن الأعرابي وقد ذكرها البيهقي بإسناد مظلم عن محمد بن روح بن زيد البصري حدثني أبو حرب الهلالي قال : حج أعرابي فذكر نحو ما تقدم ووضع لها بعض الكذابين إسنادا إلى علي بن أبي طالب ، كما روى أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عبدالله بن عبدالرحمن الكرخي عن علي بن محمد بن علي حدثنا أحمد بن محمد بن الهيثم الطائي قال : حدثنا أبي عن أبيه سلمة بن كهيل عن أبي صادق عن علي ابن أبي طالب . فذكر نحو ما تقدم .
قال الحافظ ابن عبدالهادي : هذا الخبر منكر موضوع ، لا يصلح الاعتماد عليه ولا يحسن المصير إليه ، وإسناده ظلمات بعضها فوق بعض . والهيثم جد أحمد بن محمد بن الهيثم أظنه ابن عدى الطائي . فإن يكن هو فهو كذاب متروك وإلا فمجهول .
وقال عباس الدوري : سمعت يحيى بن معين يقول : الهيثم بن عدي كوفي ليس بثقة . كان يكذب . وقال العجلي وأبو داود : كذاب . وقال أبو حاتم الرازي والنسائي والدولابي والأزدي : متروك الحديث . وقال ابن المديني ساقط قد كشف قناعه . وقال أبو زرعة : ليس بشيء ، وقال ابن عدي : ما أقل ما له من المسند . وإنما هو صاحب أخبار وأسمار ، ونسب وأشعار . وقال الحاكم أبو عبدالله : الهيثم ابن عدي الطائي في علمه ومحله حدث عن جماعة من الثقاة أحاديث منكرة ، وقال العباس بن محمد : سمعت بعض أصحابنا يقول ، قالت جارية الهيثم : كان مولاي يقوم عامة الليل يصلي . فإذا أصبح جلس يكذب .
فإذا كانت هذه الحكاية عند أهل العلم بهذه المثابة من الوهن لم تثبت بسند يعول عليه ويحتج به .(175/275)
فكيف يقول هذا الغبي : ولكن الشأن في نقلتها ، وهم حملة الشريعة المطهرة . وقد عرفت أن حملة الشريعة المطهرة ونقادها جزموا بأن الحكاية لم تثبت وأنها من الموضوعات . وأما الموفق وابن أبي عمر وغيرهما من أصاحبنا فهم لم يذكروا هذا ولم يعتمدوا عليه . والمناسك المعتبرة وما ذكروا في آداب الزيارة موجودة منقولة بسند العدول .
وهذا الرجل المعترض قد تقدم أنه جاهلي لا يحسن النقل ، ولا يدري الصحيح بل يفتري الكذب على أهل العلم . فهو ساقط هالك لا يلفت إلى نقله .
ثم لو سلمنا ثبوت هذه الحاكية فلا دليل فيها على ما ذهب إليه هذا الأحمق من تجويز دعاء الأنبياء والصالحين وطلب الحوائج منهم . والأعراب لا يحتج بأفعالهم ويجعلها دليلا شرعيا إلا مصاب في عقله ، مفلس في فهمه وعلمه . وكذلك نقل العتبي ومن مضي من رجال سندها ليسوا من العلم في شيء .
وقد تقدم أن أدلة الأحكام هي الكتاب والسنة والإجماع . والقياس المعتبر فيه خلاف وغير ذلك ليس من الأدلة في شيء ولم يأت عن أحد من الأئمة من عهد الصحابة إلى آخر القرون المفضلة في هذا الباب ما يثبت ، لا طلب الاستغفار ولا غيره .
وقد تقدم عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه حكى الإجماع على منعه وأن النبوات متفقة على تحريمه . وابن عقيل تقدم كلامه فيمن دس الرقاع إلى ضرائح الموتى ، للطلب منهم . ولو فرض أن هذا الأعرابي قد غفر له فذلك أيضا لا يدل على حسن حاله ، وأسباب الكائنات لا يحصيها إلا الله ، وقد يستجاب لعباد الأصنام كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه ( اقتضاء الصراط المستقيم ) .(175/276)
ثم ليس في الحكاية أنه سأل الرسول شيئا . غايته أنه توسل به ومسألة التوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - غير مسألة دعائه والاستغاثة به والطلب منه . وقد قال تعالى : { ومن يغفر الذنوب إلا الله } فإذا كان الله سبحانه هو المختص بمغفرة الذنوب ، فكيف تطلب المغفرة من غيره تعالى وتقدس ؟ .
وقد تقدم لهذا المعترض الغبي أنه قال : وإنما الشرك طلب مغفرة الذنوب وهداية القلوب ، فجزم بأن هذا من الشرك ، ثم رجع يناقض نفسه واحتج بها على الطلب من الرسول كما قال البوصيري .
قال الحافظ بن عبدالهادي رحمه الله : وقوله : إني سمعت الله يقول : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول } ليس فيه ما يدل على مشروعية إتيان قبره الشريف . ولم يقل ذلك أحد من أهل العلم . ويتبين ذلك بالكلام على الآية . وما أريد بها وهي : إنما سيقت لذم من تخلف من المنافقين على المجيء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حال حياته ليستغفر له . وحكم تعالى على من أبى هذا أنه من المنافقين . قال تعالى : { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون } وكذلك هذه الآية إنما هي في المنافق الذي رضي بحكم الطاغوت كعب بن الأشرف ، وغيره من الطواغيت ، دون حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فظلم نفسه بهذا أعظم ظلم ، حيث لم يجيء إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - يستغفر له . فإن المجيء إليه ليستغفر له توبة وتنصل من الذنوب .(175/277)
وهذه كانت عادة الصحابة معه - صلى الله عليه وسلم - : أن أحدهم متى صدر منه ما يقتضي التوبة جاء إليه فقال : يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي . وكان هذا فرقا بينهم وبين المنافقين . فلما استأثر الله عز وجل بنبيه - صلى الله عليه وسلم - ونقله من بين أظهرهم إلى دار كرامته لم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره ويقول : يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي . ومن يقل هذا عن أحد منهم فقد جاهر بالكذب والبهت . أفترى عطل الصحابة والتابعون ـ وهم خير القرون على الإطلاق ـ هذا الواجب الذي ذم الله سبحانه من تخلف عنه ، وجهل التخلف عنه من أمارات النفاق ، ووفق له من يؤويه له من الناس ولا يعد في أهل العلم ؟ فكيف أغفل هذا أئمة الإسلام ، وهداة الأنام من أهل الحديث والتفسير ، ومن لهم لسان صدق في الأمة ، فلم يدعوا إليه ولم يحضوا عليه ، ولم يرشدوا إليه ، ولم يفعله أحد منهم البتة ؟ بل المنقول الثابت عنهم ما قد عرف مما يسوء الغلاة فيما يكرهه وينهى عنه من الغلو والشرك والجفاء عما يحبه ويأمر به من التوحيد والعبودية .
ولما كان هذا المنقول شجي في حلوق الغلاة . وقذى في عيونهم وريبة في قلوبهم قابلوه بالتكذيب والطعن في الناقل ، ومن استحيا منهم ومن له بعض العلم بالآثار قابله بالتحريف والتبديل ، ويأبى الله إلا أن يعلي منار الحق ويظهر أدلته ليهتدي المسترشد وتقوم الحجة على المعاند ، فيعلي الله بالحق من يشاء ويضع برده وبطرده وغمص أهله من يشاء .(175/278)
ويا لله العجب ، أكان ظلم الأمة لأنفسها ونبيها بين أظهرها موجودا وقد دعيت فيه إلى المجيء إليه ليستغفر لها وذم من تخلف عن هذا المجيء . فلما توفي - صلى الله عليه وسلم - ارتفع ظلمها لأنفسها بحيث لا يحتاج أحد منهم إلى المجيء إليه ليستغفر له . وهذا يبين أن هذا التأويل الذي نقله المعترض مقلد أسلافه في تأويل هذه الآية تأويل باطل قطعا . ولو كان حقا لسبقونا إليه علما وعملا وإرشادا ونصيحة . ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوا ولا بينوه للأمة . فإنه يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا وضلوا عنه ، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر فكيف إذا كان التأويل يخالف تأويلهم ويناقضه . وبطلان هذا التأويل أظهر من أن يطنب في رده وإنما ننبه عليه بعض التنبيه .
ومما يدل على بطلان تأويله قطعا أنه لا يشك مسلم أن من دعي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته وقد ظلم نفسه ليستغفر له فأعرض عن المجيء وأباه مع قدرته عليه كان مذموماً غاية الذم ، مغموصاً بالنفاق ، ولا كذلك من دعي إلى قبره ليستغفر له ، ومن سوى بين الأمرين وبين المدعوين وبين الدعوتين فقد جاهر بالباطل ، وقال على الله وكلامه ورسوله وأمناء دينه غير الحق .
وأما دلالة الآية على خلاف تأويله ، فهو أنه سبحانه صدرها بقوله : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفر لهم الرسول } وهذا يدل على أن مجيئهم إليه ليستغفر لهم إذ ظلموا أنفسهم طاعة له . ولهذا ذم من تخلف عن هذه الطاعة ، ولم يقل مسلم قط إن على من ظلم نفسه بعد خير القرون قد عصوا هذه الطاعة وعطلوها ووفق لها هؤلاء الغلاة العصاة وهذا بخلاف قوله : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } فإنه نفى الإيمان عمن لم يحكمه ، وتحكيمه هو التحاكم إلى ما جاء به حيا وميتا ففي حياته كان هو الحكم بينهم بالوحي ، وبعد وفاته نوابه وخلفاؤه .(175/279)
يوضح ذلك أنه قال : ( لا تجعلوا قبري عيدا ) ولو كان يشرع لكل مذنب أن يأتي إلى قبره ليستغفر له لكان القبر أعظم أعياد المذنبين . وهذا مضادة صريحة لدينه وما جاء به ، ولو كان مشروعا لأمر به أمته وحضهم عليه ورغبهم فيه ، ولكان الصحابة وتابعوهم بإحسان أرغب الناس فيه ، وأسبق إليه ، ولم ينقل عن أحد منهم قط وهم القدوة ـ بنوع من أنواع الأسانيد أنه جاء إلى قبره ليستغفر له ولا شكى إليه ولا سأله والذي صح عنه مجيء القبر للتسليم فقط هو ابن عمر ، وكان يفعل ذلك عند قدومه من السفر ، ولم يكن يزيد على التسليم شيئا البتة ، ومع هذا فقد قال عبيدالله بن عمر العمري الذي هو أجل أصحاب نافع أو من أجلهم : ما نعلم أحدا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك إلا ابن عمر : معلوم أنه لا هدي أكمل من هدي الصحابة ولا تعظيم للرسول فوق تعظيمهم ، ولا معرفة لقدره فوق معرفتهم . فمن خالفهم إما أن يكون أهدى منهم أو يكون مرتكبا لنوع من البدع كما قال عبدالله بن مسعود لقوم رآهم اجتمعوا على ذكر يقولونه بينهم ويعدونه على حصى قد تحلقوا حوله مع شيخ لهم يأمرهم بذلك في مسجد البصرة : لأنتم أهدى من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أو أنتم على شعبة ضلالة ) فتبين أنه لو كان استغفاره لمن جاءه مستغفرا بعد موته ممكنا أو مشروعا لكان كمال شفقته ورحمته ، بل رأفة مرسلة ورحمته بالأمة تقتضي ترغيبهم في ذلك وحضهم عليه ا هـ .
فصل(175/280)
قال المعترض : فهذا كلام العلماء المعتبرين الكبار ونقلهم لهذه القصة راضين بها متلقينها بالقبول ، وهي مما استفاض حتى لا تحتاج لسند ، ثم دع صحتها من عدمها وأنها منام ، ولكن الشأن في رضى نقلتها وهم حملة الشريعة المطهرة ، أتراهم بهذا يعرفون المخرج من الملة الذي ذكر هذا الرجل ، ويدعون الناس إليه وينقلونه في كتبهم ليعمل به أم تراهم لا يعرفونه حتى خرج هذا الرجل ثاني عشر قرن في الموضع الذي ذكرنا حاله وقد امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له لعلمه بما حدث منه وفيه ، فأظهر الدين والتوحيد منه كما زعم للناس ، وكفر العلماء الأمناء والأمة معهم ، التي أخبر الله أنها خير أمة أخرجت للناس وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي عده علماء الأمة أنه متواتر بأنها لا تزال ظاهرة قاهرة حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون . فكأنه لم يكن للقرآن والشريعة المحمدية حمله قبله وقبل أصحابه وأتباعه الذي إستغواهم .
ثم انخرط في السب والعيب والكلام السفيه المستهجن بقصد الاستراحة إليه والتعويل في التشفي من الغليل ، وهذه نفثه مصدور ، وأنة معثور لا تشفي عليلا ولا تروي غليلا .
وتقدم الجواب عن هذا كله وبينا أن الأئمة الذين عليهم المدار في الجرح والتعديل والذين إليهم المرجع في الفتاوي والتقليد والتسجيل لم يقولوا بهذه الحكاية ، ولم يصححوها ولم يلتفتوا إليها ، كل هذا مستوفى بحمد الله ومنته .
وأما الخلوف الذين من بعدهم فليس فيما قالوه وذهبوا إليه دليل شرعي يعول عليه ، ويرجع عند التحاكم إليه .
فصل(175/281)
قال المعترض : وليعلم الناظر إلى ما ذكرنا وقدمنا ، أنا لم تذكره أشرا ولا بكرا ولا رياء ولا سمعة . وإنما ذكرناه بيانا ونصيحة لله تعالى ولرسوله وعباده المؤمنين ، ولهذا قال تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } ثم ذكر آيات في المعني . ثم قال بعدها : فهذا لهم ، يعني لأهل الكتاب ، ولمن فعل فعلهم بأن أعرض عن البيان مع العلم وتزييف الزيف والزيغ بالبرهان ، فإنه لم يزل في مشرع من ذمة القرآن من أي أهل قرن كان . لأجل ذلك بينا الخطأ بما ذكرنا وليس القصد احتجاجا على الفعل . وإنما هو دفعا عن التكفير للأمة وعلمائها بما لا يستحقون به الكفر سواء يكون جائزاً أو مكروها أو مندوبا .
والجواب أن يقال : قال الله تعالى : { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم } فقسمهم قسمين متبع للرسول مؤمن بما جاء به ، سائر إلى الله على طريقه ومنهاجه . وآخر متبع لهواه ، ضال عن سبيل رشده وهداه . فلا تقبل دعوى البراءة من الأشر والبطر والرياء والسمعة لمن حكم الله عليه بمتابعة الهوى ، وسجل على ضلاله عن سبيل الرشاد والهدى ، والمصدق لهذا الضرب بما يدعونه من النصح والتقى جاهل بما دلت عليه هذه الآية من الحكم والقضاء .(175/282)
وقد تقدم من الشواهد الحالية والقولية وصريح العبارات وظواهر المعاني والكلمات ما يدل على أن ما سوده هذا الرجل وافتراه من ذم الشيخ رحمه الله وبهته والكذب عليه ، ورد ما جاء به من الهدى ودين الحق إنما حمله على تسويده وتسطيره محض الأشر والبطر والاستكبار ، وطلب الرفعة والمنزلة ، ولذلك والَى من عبد الصالحين ودعاهم مع الله وصرف لهم خالص العبادة ولبها ، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس ، وجعل مشايخه في رواية البردة هم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا بسؤال الهداية إلى صراطهم ، ومن خالفهم وقال بوجوب إخلاص الدعاء لله في طلب الشفاعة وغيرها وأنه لا يعلم الغيب إلا الله فهو جاهل عنده بمعنى لا إله إلا الله وأبو جهل وناديه أعلم منه بمعناها وما دلت عليه على زعم هذا المعترض .
ثم أخذ في إظهار هذا لإخوانه وشيعته ممن غمص النفاق وكراهة شيخنا وبغض ما جاء به ، ولم يطلع عليه أهل التوحيد الموافقين للشيخ في ذم الشرك والتنديد فأي نصيحة حصلت والحالة هذه ؟ وأي بيان وقد خص به أهل النفاق والدعاء إلى الشرك بالله ودعاء سواه ؟ كما أرسل نسخة من هذا الإفك إلى خدنه داود بن جرجيس .(175/283)
ثم لو فرض أنه قصد النصيحة فذلك يدل على جهلة المركب بدين الله وشرعة ، وما جاءت به رسله وأن قلبه في غلاف أو مصفح لا يعرف الحق ولا يدريه . وليس كل من أدعي النصح تقبل دعواه . ولا يحكم بالإصابة والتسديد لكل من سلمت له دعواه . وقد تقرر بين أهل العلم أن الجهل نوعان : مركب وبسيط والمركب أغلظ وأشد وأقبح من البسيط . لأن صاحبه يرى أنه من أهل العلم والرشد والهدي وهو في الحقيقة من أهل الجهل والبغي والضلال والعمى ، قال الله تعالى : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب . أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوفه سحاب } وقد دلت الآية على تشبيه أعمال الكفار وما هم عليه بالسراب الذي يراه الظمآن بالقيعان ، فيظنه ماء ووردا فيقصده وهو في الحقيقة لا شيء ، أو كحاءل من تراكت عليه الظلمات بعضها فوق بعض : ظلمة الأمواج المتراكمة في البحر العميق ، وظلمة السحاب الحائل بينه وبين النور . ظلمات بعضها فوق بعض . فأهل المثل الأول أشد كفرا وأقبح حالا وأبعد هداية وبصيرة . فلا مانع والحالة هذه من أن يدعو أحدهم إلى دينه وطريقته ويتوههما حقا ، وهي في نفس الأمر أضل الضلال وأبطل الباطل ، وقد قام فرعون خطيبا في قومه فقال : { ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد } ومما يدل على جهل المعترض وسوء قصده وفساد إرادته تناقض كلامه . فإذا احتج شيخنا رحمه الله بآية قال : هذه نزلت في كذا وهي خاصة به كما تقدم لك في كلامه . فقصر التنزيل على أهل تلك الأسباب الموجودين وقت النزول ، ومنع في عموم ألفاظ القرآن وقصره عن أن يحتج به على من قام به سبب وموجب يدخله في العموم اللفظي .(175/284)
وإذا احتج هو على الشيخ أو زكى نفسه قال في الآيات القرآنية فهذا لهم ، ولمن فعل فعلهم . كما ذكرنا هنا . فأي جهل وأي أشر وأي سمعه غير ما هو بصدده ؟ .
هذا وقد علم أن هذا المعترض قد شرح كتاب التوحيد الذي قد صنفه الشيخ محمد رحمه الله وتزين عند أهل الإسلام بشرح كتابه وانتسابه إليه والشهادة له بأنه على الحق وأطنب في مدحه والثناء عليه في شرحه المذكور على مصنف شيخنا قدس الله روحه . فلما فاته بعض مقصودة من الدنيا التي إليها يسعى ولها يعمل رجع القهقري . وانقلب على عقبه لأنه لوح له بعض أعداء التوحيد بما إليه يسعى ، فولى مدبرا . فنعوذ بالله من زيغ القلوب بعد الهدى ومن الشرك والشك والعمى ، وقد قال تعالى : { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه } .
وقد أكثر الكلام والهذر بعض الأمراء بمجلس بعض الأعراب ثم التفت إلى الأعرابي وقال له : ما العي عندكم في البادية ؟ قال : هو ما كنت فيه منذ اليوم .
فسبحان من أظهر من عجائب قدرته وأدلة حكمته في بعض مخلوقاته ما نبه به المعافى والمنعم عليه من عبادة على عظم النعمة وجزيل العطية والمنحى ، ولطائف الخصائص وخصائص اللطائف .
وأما قوله : وليس القصد احتجاجا على الفعل ، وإنما هو دفعا عن التكفير للأمة وعلمائها : إلى آخر عبارته .(175/285)
فجوابه : أن منعك من تكفير من أشرك بالله وعدل به سواه ، وسوي بينه وبين عباده من الأحياء والأموات هو غاية التزكية والاحتجاج على جواز أفعالهم وإباحة صنيع من أشرك لأن الحكم على أمثالهم بأحكام المسلمين ، والدخول في عامة المؤمنين يقتضي استحباب دعاء الصالحين أو إباحته . ومتى قيل بأنه كفر ودعاء لغير الله لزم أن يترتب على فاعله ويجري عليه ما رتبه القرآن والسنة من أحكام الشرك والكفر . لا سيما وهذا المعترض يصف أهل الأفعال بأنهم علماء الأمة وصلحاؤها وهم خير أمة أخرجت للناس ، وهم أهل الصراط المستقيم فكيف يرجع بعد هذا ويدعي أنه لا يحتج على قبيح أفعالهم وعظيم شركهم ؟ وهل هذا إلا محض التدافع والتناقض ، وإذا وجد الملزوم وجد اللازم .
وقوله : سواء يكون جائزا أو مكروها أو مندوبا .
هذا صريح في أن أفعالهم وشركياتهم دائرة عنده بين الكراهة والجواز والندب وهذا يرد ما قبله ويؤيد ويبين أن المعترض ملبوس عليه لا يعقل ما يقول .
وفي تعبيره بمضارع كان عن أمر حصل وتحقق في الماضي وصار لنزاع فيه واقعا ما يدل على جهله بمواقع الخطاب ومعاني الكلمات ، وأنه نبطي لم يمارس صناعة العلم وقد تقدم التنبيه على ذلك .
فصل
قال المعترض : وسنذكر من عبارات الأصحاب وغالبها من الذين يميل هذا الرجل وذووه بزعمه إليهم ، وإن كان هو لا يعمل بقولهم ولا يفهم حقيقته مما يدرأ به عن التكفير للأمة مع صدوره بالجهل وفيهم لمن تحقق قولهم المقنع ، ولو ذهبنا نذكر قول علماء أهل المذاهب لم يرعووا إليها لأنهم لا يرونهم قدوة لادعائهم الاجتهاد وإن كانوا لا يصلحون مع أهل العلم لتعليم الأولاد .(175/286)
فيقال في جوابه : باب الدعاوى والقول بلا حجة أوسع من المشرق إلى المغرب يمكن كل مبطل أن يقول في خصمه ما شاء إن لم يمنعه مانع أو يزعه وازع من سنة أو قرآن أو وهبه أو سلطان ، وإذا خلا الرجل من ذلك وخلع ربقة الحياء والدين فليصنع ما شاء . كما في الحديث : ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) وإذا رمي هذا المعترض خصمه بترك العمل وعدم الفهم ، فمن الذي يشهد له هو بعلم أو عمل ؟ وأي أحد من الأمة أهل الفطنة والدين فضلا عن أهل العلم واليقين يرضى حكمة في حزمة بقل أو شراك نعل ؟ والمعروف عنه في هذا الكتاب وفي غيره من الجهل المركب الصريح ما يتنزه عنه آحاد العامة ، بل كثير من المشركين لا يرضى قوله ، ولا يميل إليه ، وإن وافق مذهبه لاستهجانه في نفسه ، وظهور ضلاله وتناقضه ، وكثير منهم يتستر ولا يبدي ما أبداه هذا المعترض من الفضائح . وإن دعا الصالحين وتوجه إليهم من دون الله .
ثم قوله : مما يدرأ به عن التكفير للأمة . قد تكرر منه في كل صفحة التشبيه بالأمة وأن خصمه يكفر الأمة . وقد تقدم مرارا أن الأمة المستجيبين لله ورسوله لا يكفرهم خصمه ولا يدين لله بذلك بل هم أولياؤه وإخوانه ، ولم يدع إلا إلى طريقهم ولم ينتحل سوى نحلتهم .وهم المقصودون من الأحاديث التي تدل على التزكية والثناء . وأما مجرد الانتساب إلى الأمة مع دعاء غير الله والشرك الصريح بالأحياء والأموات والبله والمجانين ، والأحجار والأشجار والشياطين فهذا ليس هو دين الأمة المحمدية كما زعمه هذا المعترض الجاهل ، وإنما هو دين إخوانه الضالين من الكتابيين والأميين .(175/287)
وإن كثر عددهم وعظم سوادهم ، وتشابهت قلوبهم . فهم عند الله وعند رسوله وعند أولي العلم من خلقه الأقلون الضالون المنحرفون عما جاءت به الرسل ودعت إليه الأنبياء ولا يطلق عليهم اسم الأمة إلا في مقام الدعوة والنذارة كما في حديث : ( ما من رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني يسمع بي ثم لا يؤمن إلا كان من أهل النار ) .
وأما زعمه أن الشيخ وإخوانه الموحدين لا يرون العلماء قدوة ولا يرعون إلى أقوالهم لادعائهم الاجتهاد وإن كانوا لا يصلحون لتعليم الأولاد .
فيقال هذا البهت والزور من جنس ما سبق وتكرر عنه في هذه الرسالة وشيخنا رحمه الله لم يخرج في مسألة من الأصول والفروع عما عليه أهل العلم الذين لم لسان صدق في هذه الأمة ، ويطالب هذا المفتري بتصحيح دعواه في مسألة واحدة من مسائل الدين . وهذه المسائل التي نقلها هذا المفتري واحتج بها على دعواه كافيه في الرد عليه والتسجيل على جهلة وعدم فهمه . لما أورده من كلام أهل العلم والدين ، وأنه لم يدخل من الإسلام فيما دخل فيه عوام المسلمين ، فضلا عن أهل العلم واليقين . ومن عادة أهل الجهل والنفاق نسبة أهل العلم والإيمان إلى السفه والجهالة . كما قال تعالى عن المنافقين : { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء } وقال فرعون لقومه : { أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين } فهذه سنة معروفة لأهل الكفر والنفاق ، يستجهلون أهل الإيمان ويزدرونهم ويرمونهم بالسفه وعدم العلم . وقد ألبس الله هذا الرجل ثوب الجهل المركب وثوب التعصب ، وعرف بذلك بين الورى وانتزعت منه سمة أهل الإيمان والهدى . فنسأل الله العفو والعافية والثبات على دينة الذي ارتضاه لنفسه .
فصل(175/288)
قال المعترض : قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى . بعد كلام سبق من ذكر أنواع العبادة التي لله تعالى ، ثم قال : ولكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما يخلف . فهذا صريح قوله . يقول حتى يتبين بتقديم الياء المثناة من تحت على المثناة الفوقية ثم باء موحدة بعدهما من نسخة صحيحة على هوامشها خطه بيده الله ، وهم جعلوا مجرد تعريفهم حجة فكفروا به كيف ومن وراء ذلك تصحيح قولهم كما قدمنا . فإذا صح قولهم ووافقهم عليه علماء الأمة فلابد أن يتبين للمعرف فحينئذ يوافق قوله تعالى : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } وقوله تعالى : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى } وقوله : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى } وفي الآية الأخرى : { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى } قال المفسرون : من بعد ما ظهر لهم الحق بالمعجزات الباهرات ، ولهذا قال تعالى : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } قال البغوى دين الإسلام ، وهؤلاء الذين كفرهم هذا الرجل لم يصدوا عن سبيل الله ولم يشاقوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، بل شيدوا منارهم لداعي الفلاح وعمروا مدارسهم واستقبلوا قبلتهم ، والجهل إذا وجد فيهم له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا التكفير .
والجواب أن يقال : قد تصرفت في كلام الشيخ وأسقطت أوله الذي يستبين به مقصوده وقد تقدم أن هذه حرفة يهودية صار هذا المعترض علي نصيب وافر منها نعوذ بالله من الخزي والهوان .(175/289)
وقبل هذا النقل قرر شيخ الإسلام في هذه الرسالة التي يشير إليها المعترض أن دعاء الصالحين مع الله وطلب ما لا يقدر عليه إلا الله كمغفرة الذنوب ، وهداية القلوب وطلب الرزق من غير جهة معينة ، وقول القائل لصاحب الوثن والمشهد : أنا في حسبك ، واليوم على الله وعليك . ونحو ذلك مما يصدر ممن يعبد الأموات ويدعو الصالحين ، ويستغيث بهم كفر صريح ، وشرك ظاهر . يستتاب فاعله فإن تاب وإلا قتل .
وبعد تقرير هذا قال : ولكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه .(175/290)
ومراد شيخ الإسلام ابن تيمية بهذا الاستدراك أن الحجة إنما تقوم على المكلفين ويترتب حكمها بعد بلوغ ما جاءت به الرسل من الهدى ودين الحق ، وزبدة الرسالة ومقصودها الذي هو توحيد الله وإسلام الوجوه له وإنابة القلوب إليه . قال الله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وقد مثل العلماء هذا الصنف بمن نشأ ببادية أو ولد في بلاد الكفار ولم تبلغه الحجة الرسالية ولذلك قال الشيخ : لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين . وقد صنف رسالة مستقلة في أن الشرائع لا تلزم قبل بلوغها وأكثر العلماء يسلمون هذا في الجملة ويرتبون عليه أحكاما كثيرة في العبادات والمعاملات وغيرها فمن بلغته دعوة الرسل إلى توحيد الله ووجوب الإسلام له وفقه أن الرسل جاءت بهذا لم يكن له عذر في مخالفتهم وترك عبادة الله . وهذا هو الذي يجزم بتكفيره إذا عبد غير الله وجعل معه الأنداد والآلهة . والشيخ وغيره من المسلمين لا يتوقفون في هذا وشيخنا رحمه الله قد قرر هذا وبينه وفاقا لعلماء الأمة واقتداء بهم . ولم يكفر إلا بعد قيام الحجة وظهور الدليل ، حتى إنه رحمه الله توقف في تكفير الجاهل من عباد القبور إذا لم يتيسر له من ينبهه . وهذا هو المراد بقول الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى : " حتى يبين لهم ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإذا حصل البيان الذي يفهمه المخاطب ويعقله فقد تبين له " وليس بين بيّن وتبين فرق بهذا الاعتبار . لأن كل من بين له ما جاء به الرسول وأصر وعاند فهو غير مستجيب . والحجة قائمة عليه سواء كان إصراره لشبهه عرضت كما وقع للنصارى وبعض المشركين من العرب أو كان ذلك عن عناد وجحود واستكبار ، كما جرى لفرعون وقومه وكثير من مشركي العرب . فالصنفان يحكم بكفرهم إذا قامت الحجة التي يجب اتباعها ولا يلزم أن يعرف الحق في نفس الأمر كما عرفته اليهود وأمثالهم . بل يكفي في التكفير رد الحجة وعدم قبول ما جاءت به(175/291)
الرسل . قال تعالى : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ـ إلى قوله ـ ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } وقال تعالى : { وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً } وقال تعالى : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } وقال تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } وقال تعالى : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً . الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً } وقال تعالى : { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً } وقال تعالى : { فريقا هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون } ونحو ذلك من الآيات . وإذا بلغ النصراني ما جاء به الرسول ولم ينقد له لظنه أنه رسول الأميين فقط فهو كافر . وإن لم يتبين له الصواب في نفس الأمر .
وكذلك كل من بلغته دعوة الرسل بلوغا يعرف منه المراد والمقصود ، فرد ذلك لشبهه أو نحوها فهو كافر ، وإن التبس عليه الأمر ، وهذا لا خلاف فيه .
فما صنعه هذا الغبي من ضبط الكلمة بالياء التحتية ثم المثناة الفوقية جهل منه بأصول الشرع وأدلته .
وقوله : لا بد أن يتبين للمعرف ، واستدلاله بقوله تعال : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } وما بعدها من الآيات يدلك على كثافة فهمه وعظيم جهله . فإن هذه الآيات إنما فيها التسجيل والبيان عن حال من كفر من علمه بالحق والهدى . وليس فيها أنه لا يكفر سواه : فمن لم يستجب للرسول - صلى الله عليه وسلم - من أهل الشبهات والجهل المركب فالدليل أخص من المدعى .(175/292)
وهذا المعترض من أجهل الناس بأحكام الشرع وسبل الهدى ، وأظنه لا يحفظ كتاب الله وإن حفظه فإنما مثله كمثل الحمار يحمل أسفارا ، شأنه شأن إخوانه المدافعين عن الشرك الأكبر وعبادة الطواغيت واتخاذ الأنداد من دون الله . فلا يدري ما فيه من النصوص . قال الله تعالى : { وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } ولم يقل حتى " يتبين " وقال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } وقد نص شيخنا رحمه الله تعالى في جوابه لمن سأله عن هذه المسألة .
قال رحمه الله تعالى : أصل الإشكال : أنكم لم تفرقوا بين بلوغ الحجة ، وفهم الحجة وبلوغ الحجة لا بد منه في الحكم بما تقتضيه الحجة والدليل . وأما فهم الحجة فلا يشترط . قال الله تعالى : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } اهـ بمعناه .
قال الخطابي في الغريب : الكفر على أربعة أنحاء : كفر جحود ، وكفر عناد وكفر نفاق ، وكفر إعراض . ومثل الأول بكفر فرعون وأمثاله . والثاني بكفر إبليس ممن اعترف وعاند والثالث بكفر النفاق . والرابع بكفر المعرضين عن التزام الإسلام والعمل به لغرض غير العناد ، وقرر مثله شمس الدين ابن القيم .
وقوله : وهؤلاء الذين كفرهم هذا الرجل لم يصدروا عن سبيل الله ولم يشاقوا الرسول . إن أراد أن من عبد الصالحين بالحب مع الله والخضوع والدعاء والذبح والنذر ونحو ذلك من العبادات ، لم يصدوا عن سبيل الله ولم يشاقوا الرسول ، مع ما هم فيه من الشرك البواح والكفر البين ، ودعوة الناس إلى مذهبهم ، وتحسينه للجهال والغوغاء وإيراد الشبهات على صحته . فهذا أكبر دليل وأوضح برهان على أن هذا المعترض لم يأنس بشيء مما جاءت به الرسل ، ولم يفقه مراد الله ورسوله ، ولم يدر ضروريات الإسلام التي يعرفها كل من تصوره وعرف حقيقته ، فضلا عمن قبله ودان به .(175/293)
وفيه جهله بمعني الصد والمشاقة التي يعرفها آحاد الناس . وكون عباد القبور شيدوا المنار وعمروا المدارس ، واستقبلوا القبلة ، فليس هذا هو الإسلام حتى يستدل به على إسلام من دعا الأموات والصالحين ، وجعلهم أندادا لله رب العالمين .
وفي حديث سؤال جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان ما يستبين به ضلال هذا المعترض وجهله بمسمى الدين ومراتبه . فان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجابه عن سؤاله عن الإسلام بجواب كاشف للحقيقة مبين للحد والماهية .
فقال : ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ) فجعل الإسلام هو التزام التوحيد والبراءة من الشرك والشهادة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة والإتيان بالمباني الأربعة . ولم يذكر تشييد المنار .
وكذلك جعل هذا مسمي الإيمان في حديث وفد عبد القيس ، إلا أنه أبدل الحج بإعطاء الخمس . فمن جعل الإسلام هو الإتيان بأحد المباني فقط مع ترك التزام توحيد الله والبراءة من الشرك فهو أجهل الناس وأضلهم. فكيف بمن جعل ذلك هو تشييد المنار أو عمارة المدارس ، أو استقبال القبلة ؟ قال تعالى : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين } .
وقد تقدم هذا البحث وانهدام أصل المعترض ، وكشفنا عن ضلالته بحمد الله ومنته .
فصل(175/294)
قال المعترض : ثم قال أبو العباس : وما يروى أن رجلا جاء إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكى إليه الجدب عام الرمادة ، فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر وأن يخبره أنهم مسقون . فعليه بالكيس ، فمثل هذا يقع كثيرا لمن هو دون النبي - صلى الله عليه وسلم - . وأعرف من هذا وقائع وكذلك سؤال بعضهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من أمته حاجة فتقضى ، فإن هذا وقع كثيرا ، ولكن عليك أن تعلم أن إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهؤلاء السائلين لا تدل على استحباب السؤال . وأكثر هؤلاء السائلين الملحين لما هم فيه من ضيق الحال لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم كما أن السائلين له في الحياة كانوا كذلك ، هذا كلامه والمقصود في هذا أنه قال بعد حكايته عن فعلهم وسؤالهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم وأن السائلين له في الحياة كانوا كذلك ، وأثبت لهم الإيمان بذلك وسوى بين الحياة والممات ، كما تراه صريحا .
وقد قال ربيعة بن كعب رضي الله عنه كما في صحيح مسلم ، كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيته بوضوء وحاجة فقال : ( سلني ) فقلت : سألتك مرافقتك في الجنة . فقال : ( أو غير ذلك ) ؟ . قلت : هو ذاك . فقال : ( أعني على نفسك بكثرة السجود ) وهذا الرجل كفر من سأل الله تعالى وحده بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - أو برجل صالح وأخرجه عن ملة الإسلام بذلك ، كما ترى فيما سبق من قوله من شبهته ، فهو بذلك ممن قال الله فيهم : { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير } وممن قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إنهم يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان ) .(175/295)
والجواب أن يقال : إن أبا العباس قرر منع الدعاء عند القبور ، وانه وسيلة إلى دعاء أربابها مع الله كما يفعله عباد الكواكب والأصنام والصالحين من الآدميين والملائكة ، وجزم بالمنع من دعاء الله عندها ، وأنها وسيلة إلى هذا الشرك العظيم ، وأنه مشاقة لله ورسوله . فإن الرسول منع من الصلاة عند القبور ، ولعن فاعله ، وقال : ( لا تتخذوا قبرى عيداً ) فاستدل واحتج واستظهر . ثم ذكر سؤالا يورده القبوريون ـ يعني عباد القبور ـ وأجاب عنه ، وذكر أنه أنما أورده مع بعده عن طريق العلم والهدى ، لأنه غاية ما يتمسك به القبوريون ، وأورد فيه ما يحتجون به ، ومنه ما ذكر هذا المعترض أن رجلا جاء إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكي إليه الجدب عام الرمادة . والشيخ لم يقصد أن هذا جائز أو أنه مشروع ، أو دليل يستدل به على الدعاء عند القبور ، أو على دعاء أربابها مع الله ، وإنما ذكر أنه يقع ، وأن وقوعه لا يستدل به ، وأنه ذكره في معرض الرد على من دعا عند القبور ، فإن كان كلام الشيخ دليلا فقد رده وذكر أنه لا يحتج به ، وأنه بعيد عن طريق العلم والهدى كما قاله في أول السؤال في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم .
وقوله : وأعرف من هذا وقائع ، وأن هذا وقع كثيرا .
يريد به أن الوقائع القدرية في مثل هذا لها أسباب متعددة لا يحيط بها إلا الله فلا يستدل بها على التشريع والاستحباب أو الجواز .(175/296)
وقوله : لو لم يجابوا لاضطراب إيمانهم . ليس فيه أنهم لم يشركوا أو أن هذا مشروع غاية ما هناك أنه ذكر عنهم أنهم لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم ، وهذا يدل على أنهم على طرف وحرف إن أصابهم خير اطمأنوا به ، وإن أصابتهم فتنه انقلبوا . كما أن كثيراً من السائلين له في الحياة كذلك . وقد ذمهم الله وعابهم بقوله : { ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } وهؤلاء من أهل النفاق بنص الآية والشيخ جعلهم مثلهم . فأي دليل يبقي لمبطل لو كانوا يعلمون ؟ .
ويقال أيضا : قول الشيخ : لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم ، ليس فيه أنهم مؤمنون إيمانا يمنع من الشرك ، غايته أن يكونوا مؤمنين برسالته ونبوته إيمان الجاهلين المقلدين لا إيمان الراسخين المستبصرين . وهذا الإيمان بالرسالة والنبوة لا يكفي مع عدم الانقياد لما جاء به من التوحيد ، والبراءة من الشرك ، أو يراد به الإيمان بتوحيد الربوبية . قال تعالى : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } أثبت لهم إيمانا مع شركهم وهو بلا شك الإيمان التقليدي الكاذب . كم قال في المنافقين : { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } .(175/297)
ويدل على مراد الشيخ : أنه لم يطلق الإيمان ، وإنما أتى بإيمان مقيد بالإضافة إليهم . وهذا يدل على أنه نوع خاص من الإيمان وجزء منه . فأي حجة تبقى لهذا المعترض الذي هو أجهل من حمار أهله ؟ قال تعالى : { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين } .
وأما حديث ربيعه بن كعب فالاستدلال به خروج عن محل النزاع . وأهل العلم لا يمنعون من سؤاله - صلى الله عليه وسلم - في حال حياته . فإن المراد هنا شفاعته بالدعاء قال تعالى : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما } وهذا من جنس سؤال المخلوق ما يقدر عليه . ولهذا كان الإتيان إليه - صلى الله عليه وسلم - لطلب الاستغفار لمن ظلم نفسه مشروعا في حياته باتفاق الأمة . وأما بعد موته فلم ينقل عن أحد من أصحابه ولا عن أحد من أئمة العلم والهدى أنه فعله أو استحبه أو أمر به ، حتى أن الحكاية التي تذكر عن العتبى ضعفها أهل العلم بالنقل . ولم يثبتوها وقد بسط الكلام علها وكشف حال ناقليها : الحافظ محمد بن احمد بن عبدالهادي رحمها لله تعالى في كتاب ( الصارم المنكي ) وتقدم تلخيص ذلك قريبا ، وتبين إنها مكذوبة لا تقوم بها حجة والخير في اتباع من سلف . والشر في ابتداع من خلف .
وهذا الرجل من الصم والبكم الذين لا يعقلون . والحديث فيه الإشارة بقوله : ( أعني على نفسك بكثرة السجود ) إلى ما وقع في حديث أبي هريرة صريحا لما قال له : من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله ؟ قال : ( أسعد الناس بشفاعتي من قال : لا إله إلا الله خالصا من قلبه ) وكلا الحديثين خرج من مشكاة واحدة ممن لا ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى . ومن كان له نور يمشي به في الناس أبصر وأدرك ما يخفى ويتعذر إدراكه على أهل الظلمة والعمى .(175/298)
فسبحان من قسم بين عباده الشقاوة والهدى .
ومن هذا : سؤال الناس له - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة أن يشفع لهم إلى ربه . وهو من جنس مسألته - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا . وقد احتج به المبطلون على سؤاله بعد مماته ودعائه مع الله . وقد كشف شبهتهم وأبدى خزيتهم شيخنا رحمه الله في كتاب ( كشف الشبهات ) وشيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب ( الاستغاثة ) وكتاب ( الرد على ابن الإخنائي المالكي ) فليراجع .
وأما قول هذا المعترض : وهذا الرجل كفر من سأل الله تعالى وحده بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو برجل صالح ، وأخرجه عن ملة الإسلام . إلى آخر عبارته .
فقد تقدم لك أنه لا يتحاشى الكذب ، وأنه من أكذب الخلق على الله وعلى عباده المؤمنين ، والله سبحانه وتعالى يعلم وعباده المؤمنون يعلمون أن الشيخ إنما كفر من دعا مخلوقا مثل أو أعظم من دعاء الله ، ومن تضرع واستكان رغبة ورهبة عند قبور الصالحين مثل أو أعظم من تضرعه في بيوت الله وخشوعه له في أوقات الإجابة والأسحار وطلب من المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله العزيز الغفار .
وأما من سأل الله بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بذات غيره فالكلام فيها معروف مشهور لا يخفى على صغار الطلبة . وقد حكاه شيخنا رحمه الله في كثير من رسائله ، وقرر ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم ، وحكى الخلاف فيه على عادة أهل العلم ولم يقل أنه شرك فضلا عن أن يقول : أنه يخرج عن الملة . وهذه المسألة ليست مما نحن فيه من مسائل النزاع ، وإنما أدخلها هذا الملحد مغالطة وترويجا لباطلة ، ولبسا للحق بالباطل ، كما هو الغالب عليه في سائر اعتراضاته . قال تعالى : { ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون } .
وأما قوله : فهو بذلك ممن قال الله فيهم : { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير } .(175/299)
فلا تستغرب هذه الجرأة على الله وعلى كتابه وعلى عباده المؤمنين ممن قل حظه ونصيبه من العلم والدين وعدم العقل المانع عما يهلك ويشين ، وكل مبتدع وضال يتأول إذا تهتك وخرج عن قانون الاحتجاج والمناظرة في خصمه ومخالفة ما يكابر به معاني الآيات والنصوص الظاهرة فانظر إلى قول الرافضة : { مرج البحرين يلتقيان } علي وفاطمة : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } حسن وحسين . وقولهم : إن شجرة الزقوم بنو أمية ، وحملهم بعض النصوص الواردة في أناس من صناديد المشركين وأعيانهم على أبي بكر وعمر . وقولهم في عائشة لعنة الله عليهم يتأولون فيه ، فلا عجب من هذا البغي والعدوان فللرسل وأهل العلم ورثة ، وللرافضة والباطنية ورثه . إن الله يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون .
وقول هذا الجاهل المعترض الآية بعد سياقه لها بتمامها يدل على جهله بكتاب وجهله بقول العلماء إذا أرادوا قراءة الآية واقتصروا على أولها وبالجملة فمناقشة تطول .
وأما دعواه أن شيخنا رحمه الله ممن قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إنهم يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان ) .
فيقال : قد قال هذا قبله كل مشرك وعابد لغير الله ، حتى أن قريشا قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - " أنه صابئي " ولقبوه به . والجهمية المعطلة يسمون أهل السنة حشوية ونوابت والرافضة يسمونهم نواصب والقدرية يسمونهم مجبرة ، وبالجملة فقد قال هذا كل مشرك وباب الدعاوى مصراعاه أوسع من بصرى إلى عدن ، وهكذا كل من جرد التوحيد لله العزيز الحميد نسبه عباد القبور إلى هذا الإفك المبين ، ولعمر الله إن من نهى عن عبادة غير الله وأمر بتوحيده لهو المؤمن البر الراشد الداخل في اتباع وأوليائهم وإن كان خارجا عن أهل الشرك بالله وعبادة غيره ، متبرئا منهم ماقتا لهم .
وعيرها الواشون أني أحبها
*
وتلك شكاة خارج عنك عارها(175/300)
وأقرب الناس شبها بالخوارج : من خرج عن جماعة المسلمين إلى عبادة الصالحين والشياطين . ولم يلتزم جماعة المسلمين أهل التوحيد والتعظيم لله رب العالمين ، قال العلامة ابن القيم رحمها لله تعالى :
من لي بشبه خوارج قد كفروا
*
بالذنب تأويلا بلا إحسان
ولهم نصوص قصروا في فهمها
*
فأتوا من التقصير في العرفان
وخصومنا قد كفروا بالذي
*
هو غاية التحقيق والإيمان
وقد أشبعنا الكلام على أمر الخوارج وذكر مبدأ أمرهم وكيف كانت شبهتهم فيما كتبناه من الرد على داود بن جرجيس طاغية العراق . ولله الحمد والمنة .
فصل
... قال المعترض : وقال أبو العباس في موضع آخر : فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون . قال : وسبب ذلك أن أحدهم قد يظن ما ليس بكفر كفراً ، وقد يكون كفراً ، لأنه تبين له ذلك أنه تكذيب للرسول - صلى الله عليه وسلم - وسب للخالق ، والآخر لم يتبين له ذلك . فلا يلزم إذا كان هذا العالم بحاله يكفر إذا قاله أن يكفر من لم يعلم بحاله . قال : والناس لهم فيما يجعلونه كفر طرق فمنهم من يقول : الكفر تكذيب ما علم بالاضطرار من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - . ثم الناس متفاوتون في العلم الضروري بذلك . ثم قال : وأنا أبعد الناس عن التكفير . وقد ذكرت الذي أمر أن يحرق بعد موته . ويذر في البحر فرارا أن يبعثه الله تعالى خوفا منه . لأنه لم يعمل لله خيرا قط . وحديثه في البخاري : ( فغفر له ) . إلى أن قال : فالعلم قبل الأمر ، والحلم بعد الأمر . فإن لم يكن عالما لم يكن له أن يقفوا ما ليس له به علم . ا هـ كلامه .(175/301)
والجواب أن يقال : هذا المعترض يتصرف في الكلام الذي ينقله ويحرفه عن موضعه . ومع ذلك فالكذب غالب عليه . فيطالب أولا بتصحيح ما نقل . وبعد التصحيح بجاب عما ذكر ، ولشيخ الإسلام أبي العباس رحمه الله في هذا المعني كلام يعرفه أهل العلم ، وقد استدل بهذا الحديث في مواضع على عدم تكفير المعين ، حتى تقوم عليه الحجة الرسالية وبعد ذلك يحكم عليه بما تقتضيه تكفيرا أو تفسيقا . وهذا في المسائل التي قد تخفى على بعض الناس ، كعموم القدرة على جمع أجزاء هذا الميت المحرق من البحر والبر والريح ، لا سيما في أوقات الفترات واستحكام الجهالة والضالات ، وشيخنا رحمه الله لم يكفر أحداً ابتداء بمجرد فعله وشركه ، بل يتوقف في ذلك حتى يعلم قيام الحجة التي يكفر تاركها ، وهذا صريح في كلامه في غير موضع . ورسالة في ذلك معروفه ، وفى المثل : الهوى يعمي ويصم .
ويقال أيضا : فرض الكلام الذي نقلته عن أبي العباس ومحله في أهل البدع كما هو صريح كلامة . والمشركون وعباد القبور عند أهل السنة والجماعة معدودون من أهل الشرك والردة ، والفقهاء فرقوا بين القسمين في الأبواب والأحكام . فذكروا أهل الشرك والردة وذكروا أهل الأهواء في باب قتال أهل البغي كالخوارج والقدرية ونحوهم ، وهذا يعرفه صغار الطلاب . وقد خفى على ثور المدار والدولاب ، فلبس على العامة والجهال وأدخل أهل الشرك في أهل البدع ، وسوى بينهم في الأحكام ، خلافا لكتاب الله وسنة نبيه وما عليه علماء أهل الإسلام . فسحقا له سحقا ، وبعداً له بعداً حيث جادل بالباطل والمحال .(175/302)
ويقال أيضا : قد صرح أبو العباس أن عدم التكفير قد يقال فيما يخفي على بعض الناس . وأما ما يعلم من الدين بالضرورة كشهادة أن لا إله إلا الله ، وشهادة أن محمد رسول الله . فهذا لا يتوقف أحد في كفر من أنكر لفظه أو معناه ، ولم ينقد لما دلت عليه الشهادتان . وهذا متفق عليه في الجملة . فجعله من المسائل التي خاض فيها أهل البدع والأهواء خروج عن محل النزاع ، وخرق لما صح وثبت من الاتفاق والإجماع ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .
قال الشيخ رحمه الله تعالى : وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال أنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها وذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم المشركون واليهود والنصارى أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - بعث بها ، وكفر من خالفها ، مثل أمره بعباده الله وحده لا شريك له ، ونهيه عن عبادة أحد سواه من النبيين والملائكة وغيرهم . فإن هذا أظهر شعائر الإسلام . ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين وكثير منهم تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة ، وتارة يعود إليه مع مرض في قلبه ونفاق والحكاية عنهم في ذلك مشهورة وقد ذكر ابن قتيبة من ذلك طرفا في أول كتاب ( مختلف الحديث ) . وأبلغ أن منهم من صنف في الردة كما صنف الرازي في عبادة الكواكب ، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين اهـ .
ثم ساق المعترض ما ذكر الشيخ أبو العباس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من اشتراط العلم ، وطلب الرفق مع الأمر ، والحلم بعد الأمر .(175/303)
فذلك من عجيب جهل هذا المعترض ، وعدم علمه بحدود ما أنزل الله على رسوله وحاصل دعواه : أن من أنكر الشرك وأغلظ في إنكاره ، وقاتل عليه عباد القبور والأصنام فقد ضيع العلم والحلم والرفق . وهذه الدعوى على عمومها تتضمن الإنكار على رسل الله وخلفائهم وورثتهم الذين قاموا بجهاد أهل الشرك وقاتلوهم ، وسبوا أولادهم ونساءهم ، وغنموا أموالهم .
وهذه الدعوى لو أطلقها القائل الذي وضعه في أهل الإسلام المجاهدين على توحيد الله لكانت كفرا صريحا قال تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } وقال تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير } .
والمعترض لم يفهم كلام أبي العباس فوضعه في غير موضعه ، وأزال بهجته . فإن الرفق والحلم يحسن في محله ، وحيث أمر الله بهما . والمعترض أحمق يظن أن العلم مع من لم يكفر المشركين وعباد القبور ، ومن جعلهم من جملة أهل البدع . واحتج بكلام أهل العلم في أهل البدع على أهل الشرك والتسوية بين الله وبين غيره في خالص حقه فلا جرم سود الأوراق وأكثر النقل وشقشق في عبارته ولبس في مقالته ، وتزين بثوب ضلالته وجهالته ، ولم يتحاش من كشف سوأته وإظهار خزيته . والحمد لله الذي أظهر دينه وأعلا كلمته ، و صدق وعده ونصر عبده .
ثم اعلم أن شيخنا رحمه الله من أعظم الناس وأكثرهم رفقا وحلما ووقوفا مع الحجة والدليل . ولم يبدأ أحدا بقتال حتى بدأوه وكفروه ، فالحمد لله الذي ألهمه رشده وسدد أمره ، ولم يجعله على طريق هؤلاء الحيارى الضالين ، والجهلة الظالمين .
فصل
قال المعترض : وقال أبو العباس أيضا ، وليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر قال : ومن كفر الاثنتين والسبعين الفرقة كلها فقد خالف الكتاب والسنة . وإجماع الصحابة والتابعين . وسلف الأمة اهـ .(175/304)
ثم قال المعترض : وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث : ( وستفترق أمتي ) فأثبت - صلى الله عليه وسلم - أنهم من أمته أمة الإجابة أهل القبلة فكيف ينفون عنها . وقد أثبتهم - صلى الله عليه وسلم - منها ؟ .
والجواب أن يقال : هذه عبارته بحروفها . فأما نقله عن أبي العباس فليس فيه ما يتمسك به بل هو حجة عليه ، لأن أبا العباس ، إنما أثبت مخالفة الكتاب والسنة لمن كفر الفرق كلها . فلا يتم الاستدلال بكلامه إلا على من كفر الفرق كلها . وما ظننت هذا يقوله أحد علماء الأمة . وأما تكفير بعضها فليس في العبارة التي نقل المعترض ما ينفيه ، بل ربما يستدل بإثبات المخالفة لمن كفر الكل . ومن كفر البعض ، فليس مخالفا ، وهذا وإن لم يكن صريحا في كلام الشيخ فالإشارة فيه إليه لا تخفى .
ثم إن قول هذا المعترض : وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث : ( وستفترق أمتي ) جهل منه بمدارك الأحكام . فإن المنع من تكفير هذه الفرق ليس لأنهم من الأمة ، بل لأن التفرق قد يبقي معه أصل الإيمان والتوحيد المانع من الكفر المخرج عن الملة . وبذلك وقع النزاع في كثير من هذه الطوائف فمن كفر بعضهم فهو يحتج بالنصوص المكفرة لهم من كتاب الله وسنة نبيه ، ومن لم يكفر فحجته أن أصل الإسلام الثابت لا يحكم بزواله إلا لحصول مناف لحقيقته مناقض لأصله . وأما من لقى معه أهل الإسلام مع الذنوب والتفرق فليس من المكفرات ، فالعمدة استصحاب الأصل وجودا وعدما .
وأما قول هذا المعترض : فأثبت لهم أنهم من أمته أمة الإجابة أهل القبلة .(175/305)
فدعوى باطلة ليس كل من وصف بأنه من الأمة يكون من أهل الإجابة والقبلة وفي الحديث : ( ما من أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني يسمع بي ثم لا يؤمن إلا كان من أهل النار ) والحديث في سنن ابن ماجة . وقال تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا. يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا } فدلت هذه الآية على أن هؤلاء الكافرين من الأمة الذين يشهد عليهم - صلى الله عليه وسلم - وقال تعالى : { ويم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون } والأمة في مقام المدح والوعد يراد بها أهل القبلة وأهل الإجابة . وتطلق في قام التفرق والذم ويراد بها غيرهم . فلكل مقام مقال .
وفي عبارته فساد تركيب وركاكة ظاهرة . فإنه قال فكيف ينفون عنها ؟ وهذا يسمى إخراجا عن الملة لا نفيا وأبلغ منه قوله : وقد أثبتهم منها . وإنما يقال : أدخلهم فيها . لا أتثبتهم منها . فتدبر .(175/306)