إن الشيعة كاذبون في مودة عليّ وأهل البيت ، وقد تبرأ منهم عليُّ وبنوه في مواقف لاتحصى . وإن الصالحين من أهل البيت الذين تبغضهم الشيعة وتذمهم أكثر عدداً من الذين تتظاهر بحبهم وبالتشيع الكاذب لهم . ومن صالحي آل البيت الذين يبغضون الشيعة وتبغضهم الشيعة سيدنا الإمام زيد بن علي زين العابدين ابن الحسين السبط رضي الله عنه وعن آبائه . أما أهل السنة فيرون من السنة أن يحبوا آل البيت جميعاً إلا من انحرف منهم عن سنة جدهم ( ، ويتحرون الأخبار الصادقة عنهم ، ويعرفون لأصحاب النبي ( أقدارهم ، ويضعون الناس كلهم في المواضع التي أمر الله أن يكونوا فيها ، فلا يرفعونهم فوق بشريتهم ، ولا يزعمون لأطفال مولودين يتبولون في حجور أمهاتهم أنهم أعلم من علماء الصحابة وهم في سن الكمال .
وهنالك ميزانان : يستعمل الشيعة أحدهما ، ويستعمل أهل السنة المحمدية الميزان الآخر .(166/11)
فالشيعة أبغضوا أصحاب رسول الله (الذين قام الإسلام على أكتافهم ، لأن الإسلام قام على أكتافهم ن واخترعوا عداوة كاذبة لاأصل لها بين علي وإخوانه في الله . وافتروا على الفريقين حكايات في ذلك سودوا بها صفحات السوء من أسفارهم . وبنوا دعوتهم على أن الحب والبغض في الإسلام ليس لرسالة الإسلام نفسها ، بل لأشخاص اخترعوا لهم شخصيات وهمية لا يعرفها التاريخ . ورووا – بالسنة ناس معروفين بالكذب – أقوالاً وصعوها على السنة أولئك النفر من آل البيت لا صحة لها ، ولم تصدر عنهم ، وإن العقل والمنطق يكذبانها . ونقضوا قول علي كرم الله وجهه (( اعرف الرجال بالحق ، ولا تعرف الحق بالرجال )) فسنوا قاعدة (( اعرف الحق بما رواه الكذبة عن رجال مخصوصين ، ولا تنقد ما نسب إليهم كذباً بعرضه على ميزان الحق وقواعد المنطق )) . ولما انتهوا من دعوى أنهم شيعة هذا النفر القليل من آل البيت المكذوب عليهم ، اخترعوا عداوة جديدة بين آل البيت أنفسهم ، فتجاهلوا رقية وأم كلثوم بنتي رسول الله ( لأنهما كانتا زوجتي أمير المؤمنين عثمان الذي بشره النبي (بالشهادة وشهد له بالجنة . وزعموا أن بعض آل البيت اعداء لبعض ، إلى أن أسقطوا جميع آل البيت إلا ذلك النفر القليل الذي ثبت حق في كتب الشيعة أنه كان يلعنهم ويتبرأ منهم . فميزان الشيعة ميزان ( شخصيات وهمية ) زعموا لها ما ليس للبشر من صفات ، وتعصبوا لما إخترعوه هم من مبادئ وعقائد تخالف مبادئ الإسلام وعقائده ، رغبة منهم في تبديله والقضاء على رسالة الإسلام .(166/12)
أما ميزان أهل السنة فهو قول الله عزوجل (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) . فاتباع الرسول فيما جاء به هو الميزان عندهم وعند الأئمة الصالحين من أهل البيت أيضاً ، فيه يعرفون عدالة المسلم وصحة إيمانه ، وكلما كان المسلم اصدق إتباعاً لرسول الله فيما جاء به من الله كان أصح إيماناً وأصدق إسلاماً . ومقياس الاتباع عندهم اتباع كتاب الله على ما فهمه الصحابة من رسول الله ، واتباع سنته الصحيحة التي لم يمحص البشر اقوال رجلٍ في التاريخ وأعماله كما محص أهل السنة أحاديث هذا النبي الكريم وراقبوا أعماله . ولم يتناول التحقيق الإنساني صدق رواة الخبار أو كذبهم ، واهليتهم لحمل هذه الأمانة أو عدم أهليتهم لذلك ، كما حقق ذلك أعلام السنة المحمدية .
هذا ميزان أهل السنة ، وذاك ميزان الشيعة . والتشيع معناه العصبية لأشخاص ، وأقبح العصبيات العصبية لأشخاص موهومين مكذوبً عليهم ومخترعة لهم شخصيات لا تلائم دينهم وأخلاقهم وتقواهم لله عزوجل . وأصل هذا الكتاب ( أعني التحفة الاثني عشرية ) ألف لعرض هذين الميزانين وبيان حقيقتهما للشيعة واهل السنة وللناس جميعاً . وقد ألفه باللغة الفارسية عند انتهاء القرن الثاني عشر الهجري كبير علماء الهند في عصره شاه عبد العزيز الدهلوي ( 1159 – 1239 ) أكبر أنجال الإمام الصالح الناصح شاه ولي الله الدهلوي ( 1114 – 1176 ) وكان شاه عبد العزيز يُعدُّ خليفة أبيه ووارث علومه . وكان رحمه الله مطلعاً على كتب الشيعة متبحراً فيها وقد اختار لهذا الكتاب مع اسمه لقباً هو ( نصيحة المؤمنين ، وفضيحة الشياطين ) ، وذكر غرضه من هذا التأليف فقال :
(( هذه رسالة في كشف حال الشيعة ، وبيان أصول مذهبهم ، ومآخذه ، وطريق دعوتهم الآخرين إلى مذهبهم . وفي بيان أسلافهم ، ورواة أخبارهم ، وأحاديثهم ، وبيان قليل من عقائدهم في الإلهيات ، والنبوات ، والإمامة ، والمعاد )) .(166/13)
وقال : (( إن البلاد التي نحن بها ساكنون راج فيها مذهب الاثنى عشرية حتى قل بيت من أمصارها لم يتمذهب بهذا المذهب . وأكثرهم جهلة في علم التاريخ ، غافلون عن أصولهم وما كان عليه أسلافهم الكرام )) . ثم قال : (( وقد التزمت في هذه الرسالة أن لا أنقل شيئاً من حال مذهب الشيعة وبيان أصولهم والإلزامات الموجهة إليهم إلا من كتبهم الشهيرة المعتبرة ، أو الموافقة لما فيها ، لأحملهم على أن تكون الإلزامات التي يوردونها يزعمهم على أهل السنة والجماعة مطابقة لما في الكتب المعتبرة عند أهل السنة وموافقة لرواياتهم الصحيحة ، وبذلك تنتفي عنا وعنهم تهمة التعصب )) .
وقال المترجم من الفارسية إلى العربية : (( إن المؤلف حيثما اطلق الكلام جعله على طريقة الشيعة ومذهبهم . وما أورده عن أهل السنة قيده بهم وعزاه إليهم . ومن هذا القبيل ما ذكره في باب الإمامة ( ص124 ) عن إجتهاد معاوية ، فقد أورده بلسان الشيعة وطريقتهم تنزلاً ليقيم عليهم الحجة فيما بعد . فأصل الكلام في هذه الرسالة على قواعد الشيعة واصولهم ورواياتهم ، لتقوم الحجة عليهم بذلك ))(166/14)
وبعد نحو ربع قرن من تأليف الكتاب بالفارسية وانتشاره في أقطار الهند وغيرها ، شعر مسلمو الهند بحاجتهم إلى ترجمته بالعربية ، واول من اقترح ذلك الحافظ محمد حيدر ، وقد كاشف في ذلك عمدة الأعيان الأمير محمد عبد الغفار خان بهادر ثابت جنك ابن محمد علي خان ، واختاروا لترجمته الحافظ الشيخ غلام محمد الأسلمي لتمكنه من مؤلفات الشيعة ومعرفته بموضوع الكتاب ، فضلاً عن إجادته اللغة الفارسية ، غير أن بيانه العبري لايزيد على ما ينتظر من مثله . وهو يقول في مقدمة ترجمته العربية : (( كان البدء بها في عهد عظيم الدولة بهادر أمير الهند والا جاه )) . وقا لفي خاتمتها : (( اختتمت ( الترجمة العبقرية ، والصولة الحيدرية ) عشاء ليلة الجمعة الخامسة من شهر شعبان سنة 1227 للهجرة في بندر مدراس ) . ثم شكا من الناسخ الذي عهد غليه تبييض الترجمة بأنه (( لم يكن يميز السين من الشين ، فمسخها ، ثم الزمني نصيحها بواسطة من لا يسعني أن أخالف له أمراً ، مستعجلا فيه غاية الاستعجال ، فأديته كأنه وبال ))(166/15)
وبقي الأصل الفارسي وترجمته العربية مخطوطين يتناقلهما الناسخون بالقلم ، ومع ذلك عم انتشارها في مختلف البلاد ، وقد تفضل العالم السلفي الوجيه الكريم الشيخ محمد نصيف عين اعيان جدة فارسل إليّ بالطائرة نسخة مخطوطة من ترجمة الأسلمي ، وهي في مجلد ضخم بلغ 1051 صفحة في كل صفحة 19 سطراً ، ومع أنها كثيرة الأخطاء فضلاً عن عجمة مترجمها فقد نفعتني كثيراً في تصحيح هذا المختصر الذي قام به – في ختام القرن الثالث عشر الهجري – علامة العراق السيد محمود شكرى الألوسي ، وقد أرخ ذلك السيد شهاب الدين الموصلى بقوله : ثم في سنة 1315هـ طبع هذا المختصر طبعاً سقيماً على الحجر في المطبعة المجتبائية بمدينة بومباي بالهند ، فجاء كثير الأخطاء . وقد اقترح عليّ تحقيق هذا المختصر والعناية به والتعليق عليه صديقي العلامة السلفي الشيخ محمد نصيف – بارك الله في حياته – فقمت من ذلك بما ساعدني عليه الوقت ، مستعيناً بالله ، ومتقرباً إليه بهذا العمل الذي أرجو الله أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم .
ولما علم أخي مؤرخ العراق الأستاذ / السيد عباس العزاوي المحامي في بغداد بقيامي على خدمة هذا المختصر للسيد محمود شكرى الألوسي رحمه الله كتب إليّ يقول :
إن كثيراً من علمائنا الأفاضل الفوا في كشف حقيقة التشيع بعد شيخ الإسلام ابن تيمية ، واذكر منهم الآن القاضي فضل بن روز بهان فإنه ألف في الرد على ( منهاج الكرامة ) لابن مطهر الحلى الذي هدمه شيخ الإسلام ابن تيمية بكتابه الشهير ( منهاج السنة النبوية ) .
ومنهم ميرزا مخدوم مؤلف ( النواقض ) .
واختصره السيد البرزنجي بكتاب ( نواقض الروافض ) .
والشيخ علي الهيتي بكتابه ( السيف الباتر ) .
ولأبي الثناء الشهاب الألوسي الكبير كتاب ( الأجوبة العراقية ، على الأسئلة الإيرانية ) وهو يحتوي الجوبة وصف شاعر العراق السيد عبد البقي العمري الأسئلة والأجوبة بقوله :(166/16)
ولألوسي الكبير أيضاً كتاب ( نهج السلامة ، إلى مباحث الإمامة ) .
وله أيضاً ( الأجوبة العراقية ، عن الأسئلة اللاهورية ) ذبَّ فيه عن أصحاب رسول الله( وأجازه عليه السلطان محمود العثماني بجائزة عظيمة .
وللبندنيجي ( الجوبة على الأسئلة اللاهورية ) أيضاً ، ومثلها للحيدري .
ومن الكتب الجيدة في هذا الباب ( الصارم الحديد في الرد على ابن أبي الحديد ) ورد الشيخ علي السويدي العباسي على الشيعة .
وللشيخ عثمان بن سند كتاب ( الصارم القرضاب في نحر من سبًّ أكابر الأصحاب )
ومن الكتب في هذا الباب ( حديقة السرائر وشرحها ) لعبد الله البيتوشي الملقب بسيبويه الثاني ، وهو من كبار علماء الأكراد .
أما السيد محمود شكرى الألوسي فله في الرد على الشيعة غير ( مختصر التحفة الاثنى عشرية ) رسالة عنوانها ( سعادة الدارين ، في شرح حديث الثقلين ) . وهذه أيضاً كان أصلها باللغة الفارسية وهي لمؤلف التحفة الاثنى عشرية شاه عبد العزيز الدهلوي رحمه الله ز وقد عربها السيد محمود شكرى وضم غليها فوائد متعلقة بحديث الثقلين ، ورتبها على مقدمة ومقصد وخاتمة ، فجاءت في 40 صفحة .
وله أيضاً ( السيوف المشرقة ، مختصر الصواعق المحرقة ، واصله للشيخ محمد خوجه نصر الله الحسيني الصديق الهندي ثم المكي ، اختصره السيد محمود شكرى الألوسي سنة 1303هـ بعد اختصار التحفة الاثنى عشرية ، وهو أكبر منها حجماً بنحو الثلث .
وله أيضاً كتاب ( صب العذاب ، على من سب الأصحاب ) ردًّ به على محمد الطباالطبائي المتستر باسم احمد الفاطمي في ارجوزة له تعرض فيها لأبي الثناء الشهاب الألوسي الكبير في أجوبته على الأسئلة اللاهورية ، فنتصر له حفيده السيد محمود شكرى بهذا الكتاب وهو في 115 صفحة .(166/17)
وبعد فإن الساهرين على حراسة التشيع لن يضروا الله شيئاً ، فقد تولى الله حفظ هذا الدين ، وادخره لسعادة الإنسانية يوم تنشد الإنسانية سعادتها من أقرب الطرق وأسلمها ، فلا تجد ذلك إلا فيما كان عليه تلاميذ رسول الله ( ، وتابعوهم ، وتابعو التابعين لهم بإحسان . أما نشاط القوم فيما يصدرونه من كتب بذيئة ككتاب السقيفة والرد على رد السقيفة فستكون له فائدة واحدة وهي تفرع طبقة من شباب الإسلام في أنحاء الوطن الإسلامي الأكبر لدراسة أصل التشيع وتطوّره ومقاصده وأهدافه ، وبراءة أهل البيت منه ومن طواغيته ، إلى أن تنجلى الأمور على حقيقتها ، ويبوء الكذب والباطل وأهلهما بما هم أهل له . والله ولي الصالحين .
الحمد لله الذي ثبّت أركان الدين بأئمة اهل السنة وأعلامهم ، وجعل خلفاء نبيه أتباعه في الدنيا ويوم يدعى كل أناس بإمامهم . وسلك بهم مسلك السداد ، ومهد لهم طرق الهدى والرشاد . وعصمهم باتباع سنن رسوله عليه الصلاة والسلام ، من الزيغ والضلال والشبه والأوهام . والصلاة والسلام على سيدنا محمد صاحب الشريعة الغراء ، الواضحة البيضاء . وعلى آله ائمة الدين ، وصحابته الهادين المهديين .
وبعد : فيقول المفتقر إلى الله ، الملتجئ إلى ركن فضله وعلاه . خادم العلوم الدينية ، في مدينة دار السلام المحمدية . محمود شكرى ابن السيد عبد الله الحسيني الألوسي البغدادي ، كان الله تعالى له خير معين وأحسن هادي :(166/18)
إن علماء الشيعة لم يزالوا قائمين على ساق المناظرة ، واقفين في ميادين المنافرة والمكابرة . مع كل قليل البضاعة ، ممن ينتمى إلى مذاهب أهل السنة والجماعة . لاسيما في الديار العراقية ، وما والاها من ممالك الدولة العلية العثمانية . حتى اغتر بشبههم من الجهلة الألوف ، وانقاد لزمام دعواهم ممن لم يكن له على معرفة الحق وقوف . فلما رأيت الأمر اتسع خرقه ، والشر تعددت طرقه . شمرت عن ساعد الجد والإجتهاد ، في الذبّ عن مسلك ذوي الرشاد . ورأيت أن أؤلف في هذا الباب ، كتاباً مشتملاً على فصل الخطاب ، به يتميز القشر عن اللبان ، ويتبين الخطأ من الصواب .
وقد ألف العالم العلامة والنحرير الفهامة الشيخ غلام محمد أسلمي الهندي ، تغمده الله تعالى بغفرانه الأبدى . ترجمة التحفة الاثنى عشرية ، في الرد على فرق الشيعة الإمامية .
فوجدته كتاباً انكشفت شبه المناظرين بأنوار دلائله ، واندفعت شكوك المعاندين بمسلم براهينه وجلّى مسائله . قد انسد فيه دون الناقد البصير كل باب ، وانهدَّ به ركن الباطل والإرتياب . فلا يستطيع الخصم أن يفوه ببنت شفة حيث أُلجم بلجام الإلزام . ولا يطيق العنود أن يفتح فمه لما حاك عليه من لثام العجز والإفحام . غير أن مؤلفه عليه الرحمة قد أطنب فيه وأطال ، وكرر كثيراً من المسائل والأقوال . بعبارات ليس لها حظ من فصاحة الكلام ، ولا نصيب من السلاسة والانسجام . حيث أنه ممن يتكلم بالهندية ، ولم يمارس التحاطب باللغة العربية . فحداني التوفيق الإلهي إلى تلخيص ذلك الكتاب ، وهداني التأييد الرباني إلى إبراز غواني معانيه بأبهى جلباب . مع ضم ما يؤدي غليه المقام ، مما أفاده العلماء الأعلام . بعبارات سهلة موجزة مشتملة ينتفع بها الخاص والعام ، ويتلقاها بالقبول ذوو الأنصاف من الأنام .(166/19)
ولما يسر الله تعالى ما طلبته ، واجابني فيما رجوته ودعوته . سميت الكتاب ( المنحة الإلهية ، تلخيص ترجمة التحفة الاثنى عشرية ) وقدمته لعتاب خليفة الله في ارضه ، ونائب رسوله عليه الصلاة والسلام في إحياء سنته وفرضه . الذي راعي رعاياه بجميل رعايته ، ودبرهم بصائب تدبيره وواسع درايته . وسلك أحسن المسالك في إستقامة أمورهم ، وصيانة نفوسهم ، وحراسة جمهورهم . وخص من بينهم علماء دولته وصلحاء ملته بحسن ملاحظته وفضل محافظته ، تمييزاً لهم بالعناية ، وتخصيصاً بما يجب من الرعاية . ووضعاً للأمور في مواضعها ، وغصابة مواقعها . ألا وهو أمير المؤمنين ، الواجب طاعته على الخلق أجمعين . سلطان البرين وخاقان البحرين ، السلطان ابن السلطان السلطان الغازي عبد الحميد خان ابن السلطان الغازي عبد المجيد خان . اللهم أيده بنصرك وانصره لتأبيد ذكرك . واطمس شرَّ سويداء قلوب أعدائه وأعدائك ، ودقًّ أعناقهم بسيوف قهرك وسطوتك . اللهم واجعل رايات انعمه منشورة بايدي جنوده ، واحجبهم بحجب حولك وقوتك من لحظات لمعات ابصار عدوه وحسوده . وصبًّ عليهم ميازيب التوفيق آناء ليلك وأطراف نهارك ، فإنهم حماة حرم دينك وحراس أبواب شريعتك وأعظم جنودك وأنصارك . وغرضى من عرض ذلك الكتاب إلى ساحته الرفيعة العتاب ، أن يذرًّ إكسير نظره عليه ، ليحلًّ محل القبول لديه . فهناك إن شاء الله تعالى يحصل الأمل ، وأحظى بما رجوته من قبول العمل وقد رتبته على تسعة أبواب ، وغلى الله الزلفى وحسن المآب .
الباب الأول
في ذكر فرق الشيعة وبيان أحوالهم
وكيفية حدوثهم وتعداد مكايدهم
إعلم أن الشيعة الذين يدعون مشايعة الأمير كرم الله نعالى وجهه ومتابعته ، وحبه الذي افترضه الله تعالى على عباده ، أربع فرق :(166/20)
الفرقة الأولى : الشيعة الأولى ويسمون (( الشيعة المخلصين )) أيضاً ، وهم عبارة عن الذين كاونا في وقت خلافة الأمير كرم الله وجهه من المهاجرين والأنصار والذين تبعوهم بإحسان ، كلهم عرفو له حقه ، وأحلوه من الفضل محله ولم ينتقصوا أحداً من إخوانه أصحاب رسول الله ( فضلاً عن إكفاره وسبّه . بيد أن منهم من قاتل معه على تأويل القرآن كما قاتلوا مع رسول الله ( على تنزيله ، فقد كان معه رضي الله تعالى عنه في حرب صفين من أصحاب بيعة الرضوان ثمانمائة صحابي ، وقد استشهد منهم تحت رايته هناك ثلاثمائة . ومنهم من تقاعد عن القتال تورعاً واحتياطاً لشبهة عرضت له ، لكنه مع ذلك كان قائماً بمحبته وتعظيمه ونشر فضائله ، وذلك لا يقصر بكثير عن القتال معه . ومن مشهوري هذا الصنف عبد الله بن عمر رضي الله عنهما . وقد زالت شبهته بعد ذلك فندم غاية الندم على قعوده وتخلفه عن الأمير كرم الله تعالى وجهه ، لكن فات ذاك ، وتعذر الاستدراك . وحالت المنية ، دون الأمنية . وهذا يشبه من وجه ماكان مم محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه من التوقف يوم الجمل حتى قال له الأمير كرم الله تعالى وجهه : ويحك أتتوقف وأبوك سابقك ؟ ومنهم من غلب عليه القضاء والقدر فوقع منه ما أدى إلى قتاله ، كطلحة والزبير وأم المؤمنين رضي الله تعالى عنهم ، فهم – وإن وقع بينهم وبين الأمير ما وقع يوم الجمل – محبون له عارفون له فضله ، كما أنه رضي الله تعالى عنه في حقهم كذلك ، وليس بين ذلك وبين القتال الواقع في البين تناف ، لأن القتال لم يكن مقصوداً ، بل وقع عن غير قصد ، لمكر من قتله عثمان رضي الله تعالى عنه الذين كانوا بعشائرهم في عسكر الأمير ، إذ غلب على ظنهم من خلوته بطلحة والزبير أنه سيسلمهم إلى أولياء عثمان ، فأطاروا من نيران غدرهم شراراً ، ومكروا مكراً كباراً ، فأوقعوا القتال بين الفريقين ، فوقع ما وقع إن شاء وإن أبي أبو الحسنين فكل من الفريقين كان(166/21)
معذوراً ، وكان أمر الله قدراً مقدوراً . وسياتي تفصيل ذلك كله في باب المطاعن إن شاء الله تعالى (1) قال الجد روّح الله تعالى روحه في كتاب ( نهجة السلامة (2) ) بعد ذلك الكلام على أن القتال لو فرض أنه كان قصداً فهو بشبهة قوية عند المقاتل أوجبت عليه أن يقاتل . فهو بزعمه من الدين ونصرة المسلمين ، وليس من الغي والاستهانة بالأمير في شيء . ومتى كان كذلك فهو لا ينافي المحبة ، ولا يدنس رداء الصحبة . وقد صرح بعض العلماء أن شكوى الولد على أبيه لدين له عليه قادر على أدائه ومماطل فيه ليس من العقوق ، ولا يخلّ بما للوالد من واجب الحقوق . وإن أبى تعصبك هذا قلنا : إن القوم رضي الله تعالى عنهم كانوا من قبل ما وقع من الشيعة المخلصين الأبرار ، لكن لعدم الإثم وقع منهم ما غسلوه ببرد التوبة وثلج الاستغفار ، ويأبى الله تعالى أن يذهب صحابي إلى ربه ، قبل أن يغسل بالتوبة والاستغفار دون ذنبه . وبنحو هذا يجاب عن اصحاب صفين ، من رؤساء الفرقة الباغية على عليّ أمير المؤمنين . فالمتلوثة سيوفهم في تلك الفتنة من الصحابة أقل قليل ، ولولا عريض الصحبة
وعميق المحبة لدلع أفعوان القلم لسانه الطويل . فقف عند مقدارك ، فما أنت وإن بلغت الثرايا إلا دون ثرى نعال أولئك . نعم يلزمك أن تقول : إن الحق فيما وقع كان مع زوج البتول . انتهى ما قال ، عليه رحمة المتعال . وهو كلام موجز يغنى عن المطولات ، ويكفى عن كثير من العبارات .
هذا واعلم أن ظهور هذا اللقب (1) كان عام سبع وثلاثين من الهجر والله تعالى أعلم .(166/22)
الفرقة الثانية الشيعة التفضيلية : وهم عبارة عن الذين يفضلون الأمير كرم الله وجهه على سائر الصحابة من غير إكفار واحد منهم ولا سب ولا بغض ، كأبي الأسود الؤلي الذي اشتهر – وهو الأصح بل الصحيح – أنه واضع النحو بأمر باب مدينة العلم كرم الله تعالى وجهه ، وكتلميذه أبي سعيد يحيى بن يعمر أحد قراء البصرة ، وكسالم بن أبي حفصة راوي الحديث عن الإمامين الباقر وابنه الصادق رضي الله تعالى عنهما ، وكعبد الرزاق صاحب المصنف في الحديث ، وكأبي يوسف يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكيت صاحب ( إصلاح المنطق ) في اللغة وكخلق آخرين ، ولبعض متأخري الصوفية قدست أسرارهم كالفاضل الجامي كلمات ترشح بالتفضيل ، وانسلاكهم في هذا القبيل ، وكثير من العلماء يصرفها عن ذلك صيانة لأولئك الأجلة عن أن ينسب إليهم الابتداع (2) والانخزال عن (( الشيعة المخلصين )) من الأتباع . وقد ظهرت هذه الفرقة بعد الأولى بنحو عامين أو ثلاثة ، وصح أن الأمير كرم الله تعالى وجهه أحسَّ أيام خلافته بقوم يفضلونه على الشيخين ، فكان ينهى عن ذلك حتى قال (( لئن سمعت أحداً يفضلني على الشيخين رضي الله تعالى عنهما لأحدّنه حد الفرية )) وهو على ما في ( التحفة ) ثمانون جلدة وقيل عشر ، والله تعالى أعلم .(166/23)
الفرقة الثالثة الشيعة السبئية : ويقال لها (( التبرئية )) وهم عبارة عن الذين يسبون الصحابة ، إلا قليلاً منهم كسلمان الفارسي وأبي ذر والمقداد وعمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهم ، وينسبونهم – وحاشاهم – إلى الكفر والنفاق ، ويتبرأون منهم ، ومنهم من يزعم والعياذ بالله تعالى ارتداد جميع من حضر غدير خمٍّ يوم قال عليه الصلاة والسلام (( من كنت مولاه فعليّ مولاه )) الحديث ، ولم يف بمقتضاه من بيعة الأمير كرم الله تعالى وجهه بعد وفاته عليه الصلاة والسلام بل بايع غيره . وهذه الفرقة حدثت في عهد الأمير رضي الله تعالى عنه بإغراء عبد الله بن سبأ اليهودي الصنعاني كما سيأتي . وليس هو هيان بن بيان ، وزعم ذلك مكابرة وإنكار للمتواتر . ولما ظهرت اظهر الأمير كرم الله تعالى وجهه البراءة منها ، وخطب عدة خطب في قدحها وذمها . وقد روى الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة الزيدي في ىخر كتابه ( طوق الحمامة في مباحث الإمامة ) عن سويد بن غفلة أنه قال : مررت بقوم ينتقصون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ، فأخبرت علياً كرم الله وجهه وقلت : لولا أنهم يرون أنك تضمر ما أعلنوا ما اجترأوا على ذلك ، منهم عبد الله بن سبأ . فقال علي رضي الله تعالى عنه (( نعوذ بالله ، رحمنا الله )) ثم نهض وأخذ بيدي وأدخلني المسجد فصعد المنبر ثم قبض على لحيته وهي بيضاء فجعلت دموعه تتحادر عليها ، وجعل ينظر للقاع حتى اجتمع الناس ، ثم خطب فقال : (( ما بال أقوام يذكرون أخوي رسول الله ( ووزيريه وصاحبيه وسيدي قريش وأبوي المسلمين ، وأنا برئ مما يذكرون ، وعليه معاقب صحبا رسول الله (بالحب والوفاء والجد في أمر الله ، يأمران وينهيان ويغضبان في أمر الله ، فقبض وهو عنهما راض ، والمسلمون راضون ، فما تجاوزا في أمرهما وسيرتهما رأي رسول الله ( وأمره في حياته وبعد موته ، فقبضا على ذلك رحمهما الله ، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لايحبهما إلا مؤمن فاضل ، ولا(166/24)
يبغضهما إلا شقى مارق . وحبهما قربة ، وبغضهما مروق )) الخ وفي رواية (( لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل )) . ثم أرسل إلى ابن سبأ فسيره إلى المدائن وقال : لا تساكني في بلدة أبداً . وهذا مما يفتُّ بأعضاد هذه الفرقة أعني الشيعة السبئية لا المخلصين . ولما ظهرت ما ارتضى الشيعة المخلصون بلقب (( الشيعة )) فتركوه تحرزاً عن الالتباس ، وكراهة للاشتراك الاسمي مع أولئك الأرجاس ، ولقبوا أنفسهم بأهل السنة والجماعة . فما وقع في بعض الكتب كتاريخ الواقدي والاستيعاب من أن فلاناً كان من الشيعة مثلاً لا ينافي ما وقع في غيرها من أنه من رؤساء أهل السنة والجماعة ، حيث أن المراد بالشيعة هناك الشيعة الأولى ، وكان أهل السنة منهم . وكيف لا وهم يرون فرضية حبّ أهل البيت ، وعليّ كرم الله تعالى وجهه عمادهم ، ويروون في ذلك عدة أحاديث منها ما رواه البيهقي وأبو الشيخ والديلمي أن رسول الله (قال (( لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ، وتكون عترتي أحب إليه من نفسه )) وعن ابن عباس قال : قال رسول الله ( (( أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه ، وأحبوني لحب الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبي )) إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى أو يحصر . وقد نسب افمام الشافعي – وموضعه من أهل السنة موضع الواسطة من العقد – نظم كثير يشهد بما ذكرناه عن أهل السنة ، ويردّ به على من أنكر ذلك من جهلة الشيعة ، كقوله رضي الله تعالى عنه :
وقوله :
وقوله :
وقوله :
وقوله :(166/25)
إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتب الشيعة ، صحت نسبته إليه أم لا . وهذا ابو حنيفة رضي الله تعالى عنه وهو هو بين أهل السنة كان يفتخر ويقول بأفصح لسان : لولا السَّنَتان لهلك النعمان ، يريد السنتين اللتين صحب فيهما لأخذ العلم الإمام جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه . وقد قال غير واحد أنه أخذ العلم والطريقة من هذا ومن أبيه الإمام محمد الباقر ومن عمه زيد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم . وللأعمش وهو أحد مجتهدي أهل السنة سفر كبير في مناقب الأمير كرم الله وجهه . ويكفي في هذا الباب أن معظم طرائق أهل السنة موصولة بأهل البيت ، ولا يكاد ينكر هذا الأمر إلا من ينكر الفرق بين الحي والميت . ومن الشبه من يزعم أنه لا يعد محباً لعلي وسائر أهل البيت رضي الله عنهم من أحب الشيخين واضرابهما من الصحابة الذين لم يبايعوا الأمير كرم الله تعالى وجهه يوم وفاته عليه الصلاة والسلام حيث يزعمون أنهم أعداء الأمير ، وينشدون في ذاك قول من قال :
وقوله :
ولا يخفى كذب مبناه ، ويشير إلى كذبه الخبر الذي قدمناه عن يحيى بن حمزة المؤيد بالله وكذا غيره من الأخبار ، التي ملئت منها بون الأسفار . ورحم الله تعالى امرءاً أنصف وعرف الحق فاعترف .
الفرقة الرابعة الشيعة الغلاة : وهم عبارة عن القائلين بألوهية الأمير كرم الله تعالى وجهه ، ونحو ذلك من الهذيان . قال الجد روح الله روحه : وعندي أن ابن أبي الحديد في بعض عباراته – وكان يتلون تلون الحرباء – كان من هذه الفرقة ، وكم له في قصائد السبع الشهيرة من هذيان ، كقوله يمدح الأمير كرم الله تعالى وجهه:
وقوله :(166/26)
إلى غير ذلك . وأول حدوثهم قيل في عهد الأمير بإغواء ابن سبأ أيضاً ، وقد قتل كرم الله تعالى وجهه من ضح عنده أنه يقول بألوهيته ، فلم ينحسم بذلك عرق ضلالتهم ولم ينصرم حبل جهالتهم ، بل استمر الفساد ، وقوى العناد (( ومن يضلل الله فما له من هاد )) وهذه الفرقة على قلتها بالنسبة إلى الفرق الأخرى انقسمت على مافي ( التحفة ) إلى أربع وعشرين فرقة :
الأولى السبئية : أصحاب عبد الله بن سبأ الذين قالوا : إن علياً هو الاله ولما استشهد الأمير كرم الله تعالى وجهه زعم ابن سبأ أنه لم يمت وأن ابن ملجم إنما قتل شيطاناً تصور بصورة عليّ ، وأنه مختف في السحاب وأن الرعد صوته ، والبرق سوطه ، وأنه ينزل إلى الأرض بعد هذا ويملأها عدلاً وينتقم من أعدائه . ولهذا أن هذه الفرقة إذا سمعت صوت الرعد قالوا (( عليك السلام أيها الأمير )) . ولا يخفى أن الأمير لو كان كما زعموا لكان مقتدراً على إهلاك أعدائه بصوت شديد من الرعد وإلقاء الصواعق ، فلأي شيء هذا الانتظار ، مع وجود الاستطاعة والاقتدار ؟
الثانية المفضلية : أصحاب المفضل الصيرفي وقد زادوا على السبئية بقولهم إن نسبة الأمير لله تعالى كنسبة المسيح ، فمثله كمثله ، فقد وافقوا النصارى في قولهم باتحاد اللاهوت بالناسوت ، وفي زعمهم أن النبوة والرسالة لا تنقطع أبداً ، فمن اتحد به اللاهوت فهو نبي ، فإن دعا الناس إلى الهدى فهو رسول .
ولذا ترى أن كثيراً منهم أدعى النبوة والرسالة .
الثالثة السريغية : أصحاب السريغ بفتح السين وكسر الراء المهملتين وفي آخره معجمة . ومذهبهم كمذهب المفضلية ، إلا أنهم حصروا حلول اللاهوت في الناسوت في خمسة ، وهم النبيّ والعباس وعلي وجعفر وعقيل .(166/27)
الرابعة البزيعية : اصحاب بزيع بن يونس الذي قال بألوهية جعفر الصادق وانه ظهر في شخص وإلا فهو في الحقيقة منزه عنه ، وقالوا : إن الأئمة الآخرون لم يكونوا آلهة ولكن أوحى إليهم ، وأثبتوا لهم المعراج .
الخامسة الكاملية : أصحاب أبي كامل ، وهم يقولون إن الأرواح تتناسخ وتنتقل من بدن إلى بدن بعد خراب البدن الأول ، وأن روح الله تعالى كانت في آدم ثم في شيش ثم صارت إلى الأنبياء . وهؤلاء القوم يكفرون جميع الصحابة بتركهم البيعة لعلي ، ويكفرون علياً ايضاً بتركه طلب حقه .(166/28)
السادسة المغيرية : أصحاب المغيرة بن سعد العجلي ، زعموا أن الله تعالى جسم ، وأن صورته صورة رجل من نور وعلى رأسه تاج من نور وله قلب تنبع منه الحكمة ، وأنه لما أراد خلق العالم تكلم بالاسم الأعظم فطار ووقع تاجاً على رأسه ثم إنه كتب على كتفه أعمال الدنيا ، فغضب من المعاصي حتى عرق فاجتمع من عرقه بحران أحدهما ملح مظلم والثاني عذب نير ، ثم أطلع في البحر النير فأبصر ظله فانتزع بعض ظله وخلق منه الشمس والقمر وأفنى باقي ظله وقال : لا ينبغي أن يكون معي إله غيري . ثم إنه خلق الخلق كله من البحرين : الكفر من البحر المظلم ، والايمان من البحر النير ، ثم أرسل إلى الناس محمداً وهم ضلال ، ثم عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال وهي أن يمنعهن علياً من الإمامة فأبين ذلك ، ثم عرضها على الناس فأمر عمر بن الخطاب أبا بكر أن يتحمل منعه من ذلك ، وضمن له أن يعينه على الغدر به ، بشرط أن يجعل الخلافة له من بعده فقبل منه ، وأقدما على المنع متظاهرين عليه . وقوله تعالى (( فحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً )) يعني أبا بكر ، وزعم هؤلاء أن قوله تعالى ( كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر ، فلما كفر قال إني برئ منك ) نزلت في حق عمر وأبي بكر ، وهؤلاء يزعمون أن الإمام المنتظر محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وأنه حي لم يمت ، وهو مقيم في جبال حاجر إلى أن يؤمر بخروجه . ومنهم من يقول إن الإمام المنتظر هو المغيرة ، كذا في (( أبكار الأفكار )) لسيف الدين الآمدي . ولم يكن هذا التفصيل في الأصل .(166/29)
السابعة الجناحية : اصحاب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ، يزعمون أن الرواح تتناسخ ، وأن روح الإله تعالى كانت في آدم ثم في شيش ، ثم صارت إلى الأنبياء والأئمة ، حتى انتهت إلى عليّ وأولاده الثلاثة من بعده ن ثم صارت إلى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر وأنه حي لم يمت وأنه يجبل من جبال أصبهان ن وكفروا بالقيامة واستحلوا المحرمات من الخمر والميتة وغيرها .
الثامنة البيانية : اصحاب بيان بن سمعان التميمي ، زعموا أن الإله تعالى على صورة انسان ، وانه يهلك كله إلا وجهه لقوله (( كل شيء هالك إلا وجهه )) وأن روح الإله تعالى حلت في عليّ ثم بعده في ابنه محمد بن الحنفية ثم بعده في ابنه أبي هاشم ثم بعده في بيان .
التاسعة المنصورية : أصحاب ابي منصور العجلي ، وهؤلاء يقولون : إن الرسالة لاتنقطع ابداً ، والعلم قديم ، وأحكام الشريعة كلها مخترعات العلماء والفقهاء ، ولا جنة ولا نار ، وأن أبا منصور هو الإمام بعد الإمام الباقر رضي الله تعالى عنه .
العاشرة الغمامية : ويقال لها (( الربيعية )) أيضاً ، وهم يعتقدون أن صانع العالم ينزل إلى الأرض في فصل الربيع في حجاب السحاب ، ويطوف حول الدنيا ثم يصعد إلى السماء ، فالأزهار والرياحين والأثمار ونحو ذلك مما يظهر في الربيع بسبب ذلك النزول .
الحادية عشرة الامامية : وهم يقولون : إن الأمير كان شريكاً للنبي عليه الصلاة والسلام في نبوته ورسالته (1) .
الثانية عشر التفويضية : وهم يقولون : إن الله تعالى خلق محمداً وفوض غليه خلق الدنيا ، وأنه الخلاق لها بما فيها . ومنهم من قال مثل هذه المقالة في علي كرم الله وجهه ومنهم من قال باشتركهما في ذلك .(166/30)
الثالثة عشر الخطابية : اصحاب أبي الخطاب الأسدي ، زعموا أن الأئمة أنبياء ، وأن أبا الخطاب كان نبياً ، وأن الأنبياء فرضوا على الناس طاعته . ثم زادوا وزعموا أن الأئمة آلهة ، وأن أبناء الحسن والحسين ابناء الله وأحباؤه ، وأن جعفراً إله ، وأن أبا الخطاب أفضل منه ومن علي بن أبي طالب ، ويستحلون
شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم . ثم إفترق هؤلاء بعد قتل أبي الخطاب ، فمنهم من قال : الإمام بعد ابي الخطاب معمر ، وعبدوه كما عبدوا أبا الخطاب ، وزعموا أن الجنة هي ما ينالهم من خير في الدنيا ونعيم فيها ، وأن النار ما يصيبهم فيها من المشاق والهدم ، واستباحوا المحرمات وترك الفرائض . ومنهم من قال : الإمام بعد أبي الخطاب بزيع ، وأن كل مؤمن يوحى إليه ، تمسكاً بقوله تعالى : ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ) أي يوحى من الله . وزعموا أن فيهم خيراً من جبرائيل ، وميكائيل ، وأنهم لا يموتون ، وأن الواحد منهم إذا بلغ النهاية ارتفع إلى الملكوت . ومنهم من قال ك الإمام بعد ابي الخطاب عمر بن بيان العجلي ، إلا أنهم يموتون . كذا في ( أبكار الأفكار ) .
الرابعة عشرة المعمرية : اصحاب المعمر ، القائلون بنبوة الإمام جعفر الصادق ، وأن أبا الخطاب بعده نبي ، وأن أحكام الشرع مفوضة إلى المعمر ، وأن المعمر آخر الأنبياء ، وقد اسقط الأحكام ورفع التكاليف . وهم قسم من الخطابية .
الخامسة عشر الغرابية : وهم القائلون إن علياً كان أشبه بمحمد من الغراب بالغراب والذباب بالذباب ، وأن الله تعالى بعث جبرائيل إلى عليّ فغلط وأدي الرسالة إلى محمد ( متشابهته به ، ولذلك يعنون صاحب الريش أي جبرائيل ، وقد قال شاعرهم (( غلط الأمين فجازها عن حيدر )) .
السادسة عشرة الذبابية : وهم قسم من الغرابية إلا أنهم زادوا عليهم بقولهم بنبوة محمد وأنه أشبه بالإله من الذباب بالذباب . قاتلهم الله تعالى .(166/31)
السابعة عشر الذمية : وإنما لقبوا ذلك لأنهم يرون ذم محمد ( ، ويزعمون أن علياً إله ، وأنه بعث محمداً ليدعوا إليه فادعى الأمر لنفسه . ونهم من قال بإلهية محمد وعليّ إلا أن منهم من يقدم علياً في أحكام الإلهية ، ومنهم من يقدم محمداً ، ومنهم من قال بإلهية خمسة اشخاص وهم أصحاب العبا ( محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ) وأن خمستهم شيء واحد ، وأن الروح حالة فيهم بالسوية ، ولا فضل لواحد على لآخر ، ولم يسموا فاطمة بالتأنيث بل (( فاطم )) ولذلك قا ل شاعرهم :
الثامنة عشرة الاثنينية : وهم فرقة من الذمية الذين يعتقدون إلهية محمد ( بالتفصيل السابق .
التاسعة عشر الخميسية : وهم ايضاً فرقة من الذمية الذين يعتقدون إلهية خمسة أشخاص على ما سبق ، وقد تبعنا في هذا العد صاحب الصل ، وإلا فغيره لم يذكر هاتين الفرقتين بالاستقلال .
العشرون النصيرية : (1) القائلون بحلول الإله في عليّ وأولاده ، ولكن يخصون الحلول بالئمة ، وقد يطلقون لفظ الإله على الأمير مجازاً من باب إطلاق اسم الحال على المحل .
الحادية والعشرون الإسحاقية : وهم يقولون ك لم تخل الأرض ولا تخلو عن نبي وأن الباري حل في عليّ . ووقع الاختلاف بينهم في من حل الإله بعد عليّ .
الثانية والعشرون العلبائية : أصحاب علباء بن اروع الأسدي ، وقيل الأوسى ، وهم قائلون بألوهية الأمير وأنه أفضل من محمد وأن محمد بايع علياً .
الثالثة والعشرون الرزامية : وهم الذين ساقوا الإمامة إلى محمد بن الحنفية ، ثم إلى ابنه ، ثم إلى علي بن عبد الله بن العباس ، ثم ساقوها في ولده أبي المنصور ، ثم ادعوا حلول الإله تعالى في أبي مسلم وأنه لم يقتل ، واستحلوا المحارم ، ومنهم من ادعى الإلهية في المقنَّع .(166/32)
الرابعة والعشرون المقنحية : أصحاب المقنّع الذين يعتقدون أن المقنع إله بعد الإمام الحسين رضي الله تعالى عنه ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
ثم اعلم أن أكثر الفرق الأربع ( الشيعة السبئية ) ، فقد انتشرت في جميع الربع المعمور ، فلا تكاد ترى بلداً إلا وهو بها مغمور ، و (الامامية ) فرقة منها ، وهي أيضاً فرقة كبيرة وطائفة كثيرة ، وقد انقسمت إلى تسع وثلاثين فرقة .
الأولى الحسنية يقولون : إن الحسن المجتبى هو الإمام بعد أبيه عليّ المرتضى ، والإمام من بعده الحسن المثنى بوصية له ، ثم ابنه عبد الله ، ثم ابنه محمد الملقب بالنفس الزكية ، ثم أخوه إبراهيم بن عبد الله ، وهذان خرجا في عهد المنصور الدوانيقي ودعوا الناس إلى متابعتهما فتبعهما خلق كثير . واستشهدوا بعد حربً شديد على يد بعض أمراء الدوانقي رحمة الله عليهما . وقد ظهرت هذه الفرقة ستة مائة وخمس وتسعين .
الثانية النفسية : وهي طائفة من الحسنية يقولون إن النفس الزكية لم يقتل بل غاب واختفى وسيظهر بعد .
الثالثة الحكمية : ويقال لها ( الهشامية ) أيضاً ، وهم أصحاب هشام بن الحكم يقولون بإمامة الحسين بعد أخيه الحسن ، ثم بإمامة أولاده على الترتيب المشهور إلى الصادق ، وقد ظهرت سنة مائة وتسع .
الرابعة السالمية : ويقال لها أيضاً (( الجواليقية )) وهم أصحاب هشام بن سالم الجواليق وهم في الامامية كالحكمية ، وفي الاعتقاد مختلفون : فالحكمية يقولون : إن الله عزوجل جسم طويل عريض عميق متساوى الأبعاد غير مصور بالصور المتعارفة ، وهم يقولون جسم مصور بصورة الانسان ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً . وقد ظهرت سنة مائة وثلاث عشرة .
الخامسة الشيطانية : ويقال لها (( النعمانية )) ايضاً اصحاب محمد بن نعمان الصيرفي الملقب بشيطان الطاق (1) ، وهم يقولون بالامامة على الترتيب(166/33)
المشهور إلى موسى الكاظم وبالتجسيم كالسالمية . وقد ظهرت سنة مائة وثلاث عشرة أيضاً .
السادسة الزرارية : أصحاب زرارة بن أعين الكوفي . وهم في الامامية كالحكمية وخالفوهم في زعمهم أن صفاته تعالى حادثة لم تكن في الأزل وقد ظهرت سنة مائة وخمس وأربعين .
السابعة والثامنة والتاسعة البدائية ، والمفوضة ، واليونسية : أصحاب يونس بن عبد الرحمن القمى ، وكلهم متفقون على إمامة الأئمة الستة بالترتيب المشهور وزعمت اليونسية منهم أن الله سبحانه على العرش بالمعنى المعروف تحمله الملائكة . والبدائية أن الله سبحانه قد يريد بعض الأشياء ثم يبدو له ويندم لكونه خلاف المصلحة ، وحملت خلافة الثلاثة ومدحهم في الآيات على ذلك . والمفوضة منهم من يزعم أن الله تعالى فوض خلق الدنيا إلى محمد عليه الصلاة والسلام ، ومنهم من يقول : إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه . ومنهم من يقول إلى كليهما . وقد ظهرت البدائية والمفوضة سنة ظهور الزرارية .
العاشر الباقرية : يقول إن الإمام محمد الباقر لم يمت وهو المنتظر .
الحادية عشرة الحاضرية : يقولون : إن الإمام [ بعد ] محمد الباقر ابنه زكريا ، وهو مختف في دبل الحاضر لا يخرج حتى يؤذن له .
الثانية عشر الناووسية : أصحاب عبد الله بن ناووس البصري ، يقولون : إن الإمم جعفر الصادق حي غائب وهو المهدي المنتظر .
الثالثة عشر العمارية : أصحاب عمار يقولون : إن الصادق قد مات والإمام بعده ابنه محمد ، وقد ظهرت سنة مائة وخمس وأربعين .
الرابعة عشر المباركية : من الإسماعيلية أصحاب المبارك ، يعتقدون أن الإمام بن جعفر ابنه الأكبر إسماعيل ثم ابنه محمد وهو خاتم الأئمة والمهدي المنتظر .
الخامسة عشر الباطنية : من الإسماعيلية أيضاً يرسلون الإمامة بعد إسماعيل من جعفر في أولاده بنص السابق على اللاحق ، ويزعمون وجوب العمل بباطن الكتاب دون ظاهرة .(166/34)
السادسة عشرة القرامطة : من الإسماعيلية أيضاً وهم أصحاب قرمط ، وهو المبارك في قول ، وقال بعض العلماء اسم رجل آخر من أهل سواد الكوفة اخترع ما عليه القرامطة ، وقيل هو اسم أبيه ، وأما المخترع نفسه فاسمه حمدان ، وكان ظهوره سنة سبعين ومائتين . وقيل إن قرمط اسم لقرية من قرى واسط منها حمدان المخترع ، وهو قرمطي واتباعه قرامطة ، وكان ظهوره فيها ، وقيل غير ذلك . ومذهبهم أن اسماعيل بن جعفر خاتم الئمة وهو حي لا يموت ، ويقولون بإباحة المحرمات .
السابعة عشرة الشميطية : اصحاب يحيى بن أبي الشميط يزعمون أن الإمامة تعلقت بعد الصادق بكب من أبنائه الخمسة بهذا الترتيب : ثم محمد ، ثم موسى الكاظم ، ثم عبد الله الأفطح ، ثم إسحاق .
الثامنة عشرة الميمونية : اصحاب عبد الله بن ميمون القداح الأهوازي ، وهم قائلون بإمامة إسماعيل ، ويزعمون أن العمل بظواهر الكتاب والسنة حرام ، ويجحدون المعاد .
التاسعة عشرة الخلفية : أصحاب خلف ، وهم قائلون بإمامة اسماعيل ونفى المعاد كالميمونية ، إلا أنهم يقولون : كل ما في الكتاب والسنة من الصلاة والزكاة ونحوها محمول على المعنى اللغوي لا غير .
العشرون البرقعية : أصحاب محمد بن علي البرقعي ، وهم في الإمامة كمن سمعت آنفاً ، وينكرون أيضاً المعاد ، ويؤولون النصوص بما تهوى أنفسهم ، وينكرون نبوة بعض الأنبياء ، ويوجبون لعنهم والعياذ بالله تعالى .
الحادية والعشرون الجنابية : اتباع أبي طاهر الجنابي (1) وهم كالقرامطة في الإمامة ، وينكرون المعاد والأحكام بأسرها ، ويوجبون قتل من يعمل بها ولذا قتلوا الحجاج ، وقلعوا الحجر الأسود ، وعدهم غير واحد فرقة من القرامطة ، كما أنهم عدوا القرامطة فرقة من الإسماعيلية .(166/35)
الثانية والعشرون السبعية : وهم ايضاً من الإسماعيلية ، يقولون : إن الأنبياء الناطقين بالشرائع سبعة : آدم وألو العزم الخمسة والمهدي ، وأن بين كل رسولين سبعة رجال آخرين يقيمون الشريعة السابقة إلى حدوث اللاحقة ، وإسماعيل بن جعفر كان أحد هؤلاء السبعة ، وهم المقيمون للشريعة بين محمد والمهدي المنتظر وهو آخر الرسول بزعمهم . وزعموا أنه لا يخلو الزمان عن واحد من أولئك الرجال .
الثالثة والعشرون المهدوية : زعموا أن الإمامة بعد إسماعيل لابنه محمد الوصى ، ثم لابنه أحمد الوفى ، ثم لابنه محمد التقى . وفي بعض الكتب : قاسم التقى ، ثم لابنه عبيد الله (2) الرضى ، ثم لابنه أبي القاسم عبد الله ، ثم لابنه محمد الذي لقب نفسه بالمهدي ، وقد صار والياً بالمغرب ، واستولى على بلاد إفريقية ، وملك بنوه مصر وما حولها . ثم لابنه أحمد القائم بأمر الله ، ثم لابنه إسماعيل المنصور بقوة الله ، ثم لابنه معد المعز لدين الله ، ثم لابنه المنصور نزار العزيز بالله ، ثم لابنه أبي علي الحاكم بأمر الله ، ثم لأبي الحسن الظاهر بدين الله ، ثم لمعد المستنصر بالله ، وذلك بنص الآباء بترتيب الولادة . وهذا الترتيب إلىهنا مجمع عليه عندهم .(166/36)
واختلفوا بعد المنتصر لما أنه نص أولاً على إمامة أخيه نزار ، وثانياً على إمامة ابنه أبي القاسم المستعلى بالله ، فبعضهم تمسك بنص الثاني وقال : إنه ناسخ للأول ، فقال بإمامة المستعلى فسموا المهدوية ( المستعلية ) (1) ثم بإمامة ابنه المنصور الآمر بأحكام الله ، ثم بإمامة أخي المنصور هذا عبد المجيد الحافظ لدين الله ، ثم بإمامة ابنه أبي المنصور محمد الظافر بأمر الله ، ثم بإمامة ابنه أبي القاسم الفائز بنصر الله ، ثم بإمامة ابنه محمد العاضد لدين الله ، وقد خرج على هذا أمراء الشام واستولوا عليه فسجنوه حتى مات وما بقي بعده أحد من أولاد المهدي داعياً للإمامة ز وبعضهم تمسك بالنص الأول وألغى الثاني فقال بإمامة نزار ويقال للقائلين بذلك (( النزارية )) وقد يقال لهم (( الصباحية )) و (( الحميرية )) نسبة للحسن ابن صباح الحميري حيث قام بالدعوة لطفل سماه الهادي زاعماً أنه ابن نزار ، فهو الإماء عندهم بعد أبيه ، ثم ابنه الحسن ، وزعم هذا أنه يجوز للإمام أن يفعل ما شاء ، وأن يسقط التكاليف الشرعية . وقد قال لأصحابه : أنه أوحى إليّ أن اسقط عنكم التكاليف الشرعية ، وأبيح لكم المحرمات ، بشرط أن لا تنازعوا بينكم ولا تعصوا إمامكم . ثم ابنه محمد وكان متخلقاً بأخلاق أبيه وكذا ابنه علاء الدين محمد ، وأما ابنه جلال الدين حسن ابن محمد بن الحسن فقد كان متصلباً في الإسلام منكراً مذهب آبائه حسن الأخلاق آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر . وأما ابنه علاء الدين فقد صار ملحداً بعد أبيه الحسن ، وكذا ابنه ركن الدين . وقد ظهر في زمن هذا جنكيزخان فحرب مملكته وكان إذذاك بالري وتحصن في قلعة الموت من قلاع طبرستان ، ولم يتم له ذلك ، بل كان آخر أمره من اتباع جنكيزخان ، وقد انطلق معه جين عاد إلى وطنه فمات في الطريق ، ثم خرج ابنه الملقب نفسه بجديد الدولة ن فلما سمع به ملوك التاتار فرقوا جمعه فاختفى في قرى طبرستان حتى مات ، فلم يبق(166/37)
من أولاده أحد مدعياً الإمامة . وهذه الفرقة هي الرابعة والعشرون وكان ظهور المهدوية الجامعة للفرقتين سنة مائتين وتسع وتسعين .
الخامسة والعشرون الأفطحية : ويقال لها العمارية أيضاً لأنهم كانوا أصحاب عبد الله بن عمار وهم قائلون بإمامة عبد الله الأفطح أي عريض الرجلين ابن جعفر الصادق شقيق إسماعيل معتقدين موته ورجعته إذ لم يترك ولداً حتى ترسل سلسلة الامامة في نسله .
السادسة والعشرون المفضلية : أصحاب مفضل بن عمرو ويقال لهم القطعية أيضاً لأنهم قاطعون بإمامة موسى الكاظم ، قاطعون بموته .
السابعة والعشرون الممطورية : وهم قائلون بإمامة موسى معتقدون أنه حي وأنه المهدي الموعود ، متمسكين يقول الأمير كرم الله نعالى وجهه : سابعهم قائمهم سمي صاحب التوراة . وقيل لهم : (( ممطورية )) لقول يونس بن عبد الرحمن رئيس القطعية لهم اثناء مناظرة وقعت بينهما (( أنتم أهون عندنا من الكلاب الممطورة )) أي المبلولة بالمطر .
الثامنة والعشرون الموسوية : يقطعون بإمامة موسى ، ويترددون في موته وحياته ولذا لا يرسلون سلسلة الإمامة بعده في أولاده .
التاسعة والعشرون الرجعية : وهم قائلون بإمامة موسى أيضاً لكنهم يقولون بموته ورجعته . وهذه الفرق الثلاث يقال لها (( الواقفية )) أيضاً لوقفهم الإمامة على موسى الكاظم وعدم إرسالها في أولاده .
الثلاثون الإسحاقية : يعتقدون بإمامة إسحاق بن جعفر ، وكان في العلم والتقوى على جانب عظيم ، وقد روى عنه ثقات المحدثين من أهل السنة كسفيان بن عيينة وغيره .
الحادية والثلاثون الأحمدية : يقولون بإمامة أحمد بن موسى الكاظم بعد وفاة أبيه.(166/38)
الثانية والثلاثون الإثنا عشرية : وهذه في المتبادرة عند الإطلاق من لفظ الإمامية وهم قائلون بإمامة على الرضا بعد أبيه موسى الكاظم ، ثم بإمامة ابنه محمد التقى المعروف بالجواد ، ثم بإمامة ابنه على النقى المعروف بالهادي ، ثم بإمامة ابنه الحسن العسكري ثم بإمامة ابنه محمد المهدي معتقدين أنه المهدي المنتظر ، ولم يختلفوا في ترتيب الإمامة على هذا الوجه . نعم إختلفوا في وقت غيبة المهدي وعامها وسنة يوم غاب ، بل قال بعضهم بموته وأنه سيرجع إلى الدنيا إذ عم الجور وفشا ، والعياذ بالله تعالى من الجور بعد الكور ، وقد ظهرت هذه الفرقة سنة مائتين وخمس وخمسين ، وهي قائلة بالبداء (1) ولذا تراها تنادى بأعلى صوت عند زيارة روضة موسى الكاظم : أنت الذي بدا الله فيه ، يعنون ما كان بزعمهم من نصب أخيه إسماعيل إماماً بعد أبيه وموته من قبل أن ينال الإمامة ونصب أبيه إياه إماماً ، وكأنهم تبعوا في ذلك البداية (2) وأنهم قالوا بالبداء بمعنى وقالت البدائية به بمعنى آخر .
من مكايدهم أنهم ينسبون بعض الكتب لكبار علماء السنة مشتملة على مطاعن في الصحابة وبطلان مذهب أهل السنة مثل كتاب ( سر العالمين ) فقد نسبوه إلى الإمام محمد الغزالي عليه الرحمة وشحنوه بالهذيان ، وذكروا في خطبته عن لسان ذلك الإمام وصيته بكتمان هذا السر وحفظ هذه الأمانة ، وما ذكر في هذا الكتاب فهو عقيدتي ، وما ذكر في غيره فهو للمداهنة . فقد يلتبس ذلك على بعض القاصرين . نسأل الله عز وجل العصمة من مثل هذا الزلل .(166/39)
ومن مكايدهم أنهم يذكرون أحد علماء المعتزلة أو الزيدية أو نحو ذلك ويقولون إنه من متعصبي أهل السنة ، ثم ينقلون عنه ما يدل على بطلان مذهب أهل السنة وتأييد مذهب الإمامية الإثني عشرية ترويحاً لضلالهم ، كالزمخشري صاحب الكشاف الذى كان معتزلياً تفضيلياً ، والأخطب الخوارزمي فإنه زيدي غال ، وابن قتيبة صاحب المعارف الذى هو رافضي عنيد ( 1 ) ، وابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة الذى هو من الغلاة على قول ( 2 ) ومن المعتزلة على قول آخر ، وهشام الكلبي الذى هو من الغلاة ، وكذلك المسعودى صاحب مروج الذهب ، وأبو الفرج الإصفهاني صاحب كتاب الأغاني وغيرهم ، وقصدوا بذلك إلزام أهل السنة بما لهم من الأقوال ، مع أن حالهم لا تخفى حتى على الأطفال .
ومن مكايدهم أنهم يقولون : نحن أتباع أهل البيت الذين قال تعالى فيهم ( إنما يريد اله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ( 3 ) ( وغير الشيعة تابعون لغير أهل البيت ، فلزم كون الشيعة هي الفرقة الناجية ، ويؤكدون ذلك بقوله ( (( أهل بيتى فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق )) والجواب أن هذا كلام قد أختلط فيه الحق بالباطل ، والرائج من القول بالعاطل : فإنا نسلم أن أتباع أهل البيت ناجون وان مقلديهم هم المصيبون . ولكن أين الشيعة الطغام ، من أولئك السادات الكفر والضلال . فهيهات هيهات ، ,قد فات عنهم ما فات . بل الحق الحقيق بالقبول ، وأن أهل السنة هم أتباع بيت الرسول ، وهو السالكون طريقتهم ، والمجيبون دعوتهم . والأئمة الأطهار ، كانوا على ما عليه أهل السنة الأخيار . كيف لا وأبو
------------------------
( 1 ) وهو غير ابن قتينبة السني كما تقدم في الصفحة السابقة .
( 2 ) أنظر ما تقدم عنه في ص 9 وهوامشها .
( 3 ) هذه الأية من سورة الأحزاب نزلت في نساء النبي ( وفي مقدمتهن عائشة أو المؤمنين رضي الله عنها .(166/40)
حنيفة ومالك وغيرهما من العلماء الأعلام ، قد أخذوا العلم عن أولئك الأئمة العظام ، والحمد لله تعالى على ذلك الأنعام .
حنيفة ومالك وغيرهما من العلماء الأعلام ، قد أخذوا العلم عن أولئك العظام ، والحمد لله تعالى على ذلك الأنعام .
ومن مكايدهم أنهم يؤلفون في الفقه كتاباً وينسبونه إلى أحد أئمة أهل السنة ، ويذكرون فيه بعض المفتريات مما يوجب الطعن على أهل السنة ، كالمختصر المنسوب إلى الإمام مالك الذى صنفه أحد الشيعة فذكر فيه أن مالك العبد يجوز له أن يلوط به لعموم قوله تعالى ( أو ما ملكت أيمانكم ( وقد فات ذلك على صاحب ( الهداية ) فنسب حل المتعة إلى الإمام مالك ، مع أنه كذب وبهتان ، بل قيل إنه يوجب الحد عليها بخلاف الأئمة الثلاثة .
... ومن مكايدهم أنهم يزيدون بعض الأبيات في شعر أحد الأئمة أهل السنة مما يؤدي بتشيعه ، كما فعلوا في ديوان حافظ الشيرازي وديوان مولانا الرومي والشيخ شمس الدين تبريزي قدس سرهم . وقد ألحق بعض الشيعة المتقدمين بما نسب للإمام الشافعي ( من الأبيات الثلاثة السابقة ( 1 ) التى أولها :
... يا راكبا قف بالمحصب من منى وأهتف بساكن خيفها والناهض
ثلاثة أبيات أخرى تشعر بتشيعه وحاشاه وهي هذه :
ووصية وبنيه لست بباغض
لولاء أهل البيت لست بناقض
قدمتموه على علي ما رضى
قف ثم نادى باننى لمحمد
أخبرهم أني من النفر الذى
وقل ابن أدريس بتقديم الذى
والفرق بين تلك الثلاثة وهذه مما لا يخفى على صغار المتعلمين ، إذ هذه الثلاثة في غاية من الركاكة فلا يتصور صدورها عن مثل ذلك الإمام البليغ الذى له اليد الطولى في الغربية . وقد نسبوا له أيضاً أبياتاً آخر غير التى ذكرناها سابقاً مثل قولهم :
وسبطاه والسجاد والباقر المجدى
وفلذته والعسكريان والمهدي
شفيعي نبيى والبتول وحيدر
وجعفر والثاوى ببغداد والرضا(166/41)
... ولا يخفى بطلان نسبة ذلك إلى ذلك الإمام على من تصفح كتب التواريخ ، لأن ولادة الإمام على بن محمد التقى كانت سنة أربع عشرة ومائتين وولادة الإمام حسن العسكرى بعد ذلك بزمن طويل ، ووفاة الإمام الشافعي سنة أربع ومائتين في عهد المأمون العباسى . نعم إن الإمام الشافعي قد ذكر فضائل من ادركه من أئمة أهل البيت ، وهكذا شأن جميع علماء أهل السنة ولله
--------------------------------
( 1 ) في ص 8 .
تعالى الحمد كما سبق ( 1 ) .
... ومن مكايدهم أنهم يفترون على النبي ( في أنه قال (( لا تسأل شيعة على يوم القيامة عن صغيرة ولا كبيرة ، بل تبدل سيئاتهم بالحسنات )) وأنه ( قال (( قال الله تعالى : لا أعذب أحداً والى علياً وإن عصانى )) فاغتر بهذا بعض الجهال فهاموا في أودية الضلال ، مع أنه قال تعالى ( ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ( فقد كذبوا على النبي المختار ، فليتبوءوا مقعدهم من النار .
... ومن مكايدهم أنهم يقولون : إن فضائل أهل البيت وما روى في إمامة الأمير متفق عليه عند الفريقين ، بخلاف فضائل الخلفاء الثلاثة فهي مختلف فيها ، فينبغي للعاقل أن يختار ما أتفق عليه بموجب (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )) . والجواب أن شبهتهم هذه كشبهة اليهود والنصارى في قولهم : إن نبوة موسى وعيسى متفق عليها عند الفريقين ، بخلاف نبوة محمد ( . والذى يزيل هذه الشبهة هو أن الأخذ بالمتفق عليه وترك المختلف فيه إنما يكون بمقتضى العقل لو لم يوجد دليل آخر ، فإن وجد فلا التفات للإتفاق والاختلاف . على أن هذه الشبهة تتقلب عليه ويعود وبالها وبلاؤها على رءوسهم ، كيف لا وقد تقرر عندهم من القواعد أن الروايتين عن الأئمة إن وافقت أحداهما العامة دون الأخرى فالتمسك إنما هو بالمخالفة ولو كانت ضعيفة ، وهذا مصرح به في أصولهم .(166/42)
... ومن مكايدهم أنهم ينسبون إلى الأمير من الروايات ما هو برئ منه ويحرفون ما ورد عنه ، فمن ذلك ( نهج البلاغة ) الذى ألفه الرضى وقيل أخوة المرتضى ، فقد وقع فيه تحريف كثير وأسقط كثير من العبارات حتى لا يكون به متمسك لأهل السنة ، مع أن ذلك أمر ظاهر ، بل مثل الشمس زاهر .
... ومن مكايدهم أنهم ينظمون بعض الأبيات على لسان اليهود أو النصارى مما يؤذن تحقيقه مذهب التشيع ، فمن ذلك ما ينسبونه إلى أبن فضلون اليهودي :
وما لسواه في الخلافة مطمع
تقدم ، بل فيه الفضائل أجمع
لما كنت إلا مسلماً أتشيع
على أمير المؤمنين عزيمة
له النسب العالى وإسلامه الذى
ولو كنت أهوى ملة غير ملتى
------------------------------
( 1 ) ومن هذا الباب إضافتهم إلى أبيات قليلة للفرزدق في الإمام زين العابدين أبياتاً من وزنها ورويها بعضها للحزين الكناني في عبد الله بن عبدالملك بن مروان وهي في حماسة أبي تمام ( 2 : 284 ) ، وبعضها في نقد الشعر لقدامة ( 19 و 27 ) وبعضها في مدح بعض نبي مروان أيضاً أوردها الجاحظ في كتاب الحيوان ( 3 : 152 ساسي ) وفي أول الجزء الثالث من البيان والتبيين . وأنظر الأغاني 14 : 76 – 79 بولاق . أما الأبيات الفرزدق في زين العابدين فهي ستة لا غير في ديوانه الذى أملاه محمد بن حبيب وطبع بالفتوغراف في مونخن بألمانيا سنة 1900 وقد ، بسطت القول فيه بمقال مطول في جريدة ( الأخوان المسلمون ) اليومية بعنوان (( طائرات في أسراب غير أسرابها )) .
وكذا ينسبون إليه هذه الأبيات :
حب على في الورى جنة فامح بها يارب أوزارى
أن ذمياً نوى حبه حصن في النار من النار
إلى غير ذلك ، وسيجئ منه إن شاء الله في آخر الكتاب .(166/43)
... ومن مكايدهم أنهم يقولون : إن الشيعة أمنون من عذاب يوم القيامة ودخول النار وكل ما في القرآن من الوعيد فهو لغيرهم . ولا يخفى أن عقيدتهم هذه تشبه عقيدة اليهود حيق قالوا
( لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ، نحن أبناء الله وأحباؤه ( ويردهم قوله تعالى ( من يعمل سوءاً يجز به ( وغير ذلك من الآيات والأحاديث المتفق على صحتها عند الفريقين .
... ومن مكايدهم أنهم يقولون : إن أهل السنة يختارون مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد ويؤثرونه على مذهب الأئمة الأطهار مع أنهم أحق بالأتباع ، لأنهم تربوا في حجر النبي ( ، وأهل البيت أدرى بما فيه ، وأن النبي ( قال (( إنى تارك فيكم الثقلين ما أن تمسكتم بها لن تضلوا بعدي : كتاب الله وعترتي أهل بيتى )) وقال ( (( مثل أهل بيتى فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق )) ولأن كمالهم وعلمهم وتقواهم من المتفق عليه عند الفريقين ، فهم بالاتباع أحق ، وبالإقتداء أليق . والجواب أن الإمام نائب النبي وخليفة لا صاحب المذهب ، لأن المذهب طريق الذهاب الذى فتح على بعض الأمة فهم أحكام الشريعة من أصولها ، ولذا احتمل الصواب والخطأ ، والإمام عندكم معصوم عن الخطأ كالنبي فلا يتصور نسبة المذهب إليه ، ومن ثم كان نسبة المذهب إلى الله تعالى والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام من فضول الكلام ، ومعدوداً من جملة الأوهام . بل فقهاء الصحابة رضى الله تعالى عنهم أفضل عند أهل السنة من الأئمة الأربعة ، ومع ذلك لا يعدونهم أصحاب مذاهب ، بل إنما يجعلون أقوالهم وأفعالهم مدارك الفقه ودلائل الحكام ، وواسطة في أخذ شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام . على أن أهل السنة هم المقتدون بالأئمة الأطهار ، فإن أئمة مذاهبهم قد أخذوا العلم من اولئك الأخيار ، فرتبتهم عند أهل السنة رتبة النبي والأصحاب الكبار ، ولكن لا ينسبون أنفسهم إليهم ، ولا يدعون أخذ العلم عنهم كما هو حالهم مع الصحابة .(166/44)
وتحقيق هذا المطلب أن منصب الإٌمام إصلاح العالم في أمر المعاش والمعاد كما هو شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فالأئمة في زمنهم اشتغلوا في ألهم من بيان ما يحصل به الشفاء من الأمراض النفسانية ورفع المهلكات ، وأحالوا الأحكام الشرعية إلى تلاميذهم وأصحابهم . فتوجهوا إلى إقامة تلك الأحكام ، كما توجه الأئمة إلى العبادات والرياضات وتصفية القلوب وتعيين الأذكار وتعليم الأدعية وتهذيب الأخلاق ، وإرشادهم إلى المعارف الإلهية بأخذها من كلام الله تعالى وكلام رسوله ( ، ولهذا نقل عنهم دقائق علم الطريقة وغوامض اسرار الحقيقة ، ويشير حديث الثقلين إلى ذلك ، لأن كتاب الله تعالى يكفى في تعليم ظاهر الشريعة ، ولا حاجة لمن له معرفة بالأصول والفقه في فهم الأحكام الشرعية منه إلى إرشاد إمام ، وإنما الحاجة إليه لتعليم الأسرار الإلهية ، ولهذا لم نر أحداً منهم صنف كتاباً في أصول أو فروع باتفاق الفريقين ، بل أنتشرت روايات المسائل والأحكام عنهم في اصحابهم وصارت قواعد الأستنباط مهجورة فلابد لها من يجمعها ويحرزها ويمهد قواعد الاجتهاد ومراسمه ، والشيعة وإن كانوا يدعون ظاهراً أتباع الأئمة ولكنهم في الحقيقة يقلدون في المسائل غير المنصوصة عن الأئمة علماءهم ومجتهديهم كابن عقيل والسيد المرتضى والشيخ الشهيد ويأخذون بأقوالهم ولو كانت مخالفة للروايات الصحيحة عن الأئمة كما سيجئ إن شاء الله تعالى من ذلك في المسائل الفقهية . فإذا جاز عندهم تقليد مجتهديهم فيما يخالف الروايات الثابتة عن الأئمة فإى محذور يلزم من الأصول والقواعد ولا محذور في كثير من المسائل ، ومع ذلك فهما من أتباعه ، وما قاله ابن الأثير الجزرى صاحب ( جامع الأصول ) أن الإمام على الرضا كان مجدداً لمذهب الإمامية في القرن الثالث فمراده أن الإمامية يوصلون إليه مذهبهم المدون في ذلك القرن ويعلمونه مأخذ مذهبهم ، كما ان ابن مسعود من الصحابة وعلقمة من التابعين كانا(166/45)
بانيين لمذهب أبي حنيفة ، وأن نافعاً والزهرى من التابعين وابن عمر من الصحابة كانوا بانين لمذهب مالك ، مع أن ما ذكره ابن الأثير بناه على زعم الإمامية ومعتقدهم بناء على ما صرح به من أنه يذكر مجددى كل مذهب على زعم أصحابه ومعتقدهم والله تعالى أعلم .
... ومن مكايدهم أنهم يذكرون في كتب التواريخ حكايات موضوعة وخرافات شنيعة مما يؤيد عقائدهم الفاسدة ويروج مذاهبهم الكاسدة . فمن ذلك حكاية حليمة السعدية مرضعة النبي ( حيث قالوا : إنها قدمت على الحجاج الثقفى في العراق فقال لها الحجاج : جاء بك الله إلى وقد كنت أردت أن أكلفك بالحضور لأنتقم منك . فسألته حليمة عن السبب ، فقال : سمعت أنك تفضلين علياً على أبي بكر وعمر ، فأطرقت رأسها ساعة ثم رفعته وقالت : أيها الحجاج ، والله إنى لا أفضله على أبي بكر وعمر وحدهما إذ أى كمال وفضلهما ! ؟ بل أفضله على آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلاة والسلام . فأشتد إذ ذاك غضب الحجاج وقال : لئن لم تثبتي هذه الدعوى لأقطعنك إرباً إرباً لتكوني عبرة لمن يعتبر . فقالت حليمة : أصغ إلى مقالتى واسمع دليلى وحجتى . فقال لها الحجاج : فيم تفضلين علياً على آدم وقد خلقه الله تعالى بيده ونفخ فيه من روحه وأسكنه الجنة وأمر الملائكة بالسجود له وكرمه بانواع الكرامات ؟ فقالت حليمة بما قال الله تعالى ( وعصى آدم ربه فغوى ( وقد وصف علياً وأثنى عليه في سورة (( هل أتى )) بقوله تعالى ( إنما وليكم الله ورسوله ( الآية ، ولم يسبقه أحد بالتصديق في الصلاة حيث أعطي الفقير خاتمة وهو فيها . فقال الحجاج صدقت ، فبأى دليل تفضلين علياً على نوح ؟
فقالت : لأن زوجة على فاطمة البتول سيدة نساء العالمين بضعة خير الخلق أجمعين زوجت تحت سدرة المنتهى بشهادة الملائكة المكرمين وإخبار الروح الأمين ، وزوجة نوح كانت كافرة كما نطق به القرآن ! فقال الحجاج : بما تفضلين علياً على إبراهيم خليل الرحمن ؟(166/46)
فقالت : إن إبراهيم قال ( رب أرني كيف تحيى الموتى . قال أو لم تؤمن ؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ( وقال على رءوس الأشهاد : لو كشف لي الغطاء ماأزددت يقيناً .
ثم قالت سمعت رسول الله ( وكان جالساً وحوله المؤمنون والمنافقون فقال : أيها المؤمنون قد وضع لي المنبر ليلة أسرى بي فجلست عليه وجاء أبي إبراهيم فصعد المنبر وجلس عليه دون درجة واحدة من مجلسى ، وجاء الأنبياء الآخرون أيضاً وسلموا على ، حتى جئ بابن عمى علي ابن أبي طالب راكباً على ناقة من نوق الحنة وفي يده لواء الحمد وكان حوله جماعة وجوههم كالبدر مشرقة منورة فسألتى إبراهيم عن هذا الفتى أهو من النبيين ؟ قلت : ما هو نبي بل هو ابن عمي علي بن أبي طالب ، فسأل إبراهيم : من هؤلاء القوم الحافون من حوله ؟ قلت : أولئك شيعته ومحبوه . فدعا إبراهيم حينئذ : رب أجعلني من شيعة علي ، يدلك على ذلك قوله تعالى ( وإن من شيعته لإبراهيم ، وإذ جاء ربه بقلب سليم ( فقال الحجاج : صدقت . فبم تفضلينه على سليمان .
فقالت حليمة : إن سليمان طلب من ربه الملك والجاه والدنيا حيث قال ( رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي ، إنك أنت الوهاب ( والأمير قد طلق الدنيا حيث قال : إليك عني يا دنيا ، طلقتك ثلاثاً لا رجعة بعدها ، حبلك على غاربك ، غرى غيرى ، ولا حاجة لي فيك )) .
قال الحجاج : صدقت ، فيم تفضلينه على موسى ؟
... فقالت : إن موسى قد فر من مصر إلى مدين خوفاً من فرعون ، قال تعالى ( فخرج منها خائفاً يترقب ( والأمير قد رقد ليلة الهجرة على فراش رسول الله ( بقلب مطمئن ، ولو كان معه شئ من الخوف لما نام . فقال : صدقت . ففيم تفضلينه على عيسى ؟(166/47)
فقالت : إن عيسى إن عيسى يحبس يوم الحشر في موقف الحساب فيسأله الله تعالى : هل إنه كان السبب في إتخاذ إله غير الله وعبادة غيره سبحانه ليعتذر حينئذ بما يعتذر ؟ يدل على ذلك قوله تعالى ( أأنت قلت للناس أتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى به علم ، وإن كنت قلته فقد عمته ، تعلم ما في نفسى ولا أعلم ما في نفسك ، إنك أنت علام الغيوب . ما قلت لهم إلا ما أمرنتى له ان أعبدوا الله ربي وربكم ( الأية ، والأمير لما قالت السبئية إنه إله غضب عليهم وأجلاهم وهددهم حتى أشتهر في مشارق الأرض ومغاربها وأظهر منهم البراءة فقال : الحجاج : صدقت . وأمر لها بألف درينار وقرر لها وظيفة في كل سنة .(166/48)
ثم قالت يا حجاج استمع نكتة ولطيفة أخرى . وابن مريم لما أخذها المخاض وقد كانت في بيت المقدس أمرها الله تعالى بخروجها عنه إلى الصحراء ووضع حملها تحت جذع النخلة كي لا يتلوث بيت المقدس بنفاسها . ولما أخذ المخاض أمير المؤمنين فاطمة بنت أسد أوحي إليها الله : أدخلي في الكعبة وشرفي بيتي بولادة هذا المولود الشريف . فأنصف الأن ، من الأفضل والأشرف من هذين المولودين ؟ فدعا الحجاج لحليمة بالخير ، وودعها معززة محترمة . انتهت هذه الحكاية المكذوبة والقصة الأعجوبة . ولا يخفى ما فيها من بطلان حتى على الصبيان ، حيث إن حليمة كما لا يخفى على من تصفح كتب التواريخ والسير لم تدرك زمن الخلفاء الراشدين ، بل قد أختلف المؤرخون في كونها أدركت زمن البعثة وآمنت بالنبي ( ، وأيضاً أن الحجاج مشهور بسفك الدماء ظلماً ولا سيما أهل البيت ومن له تعلق بهم لأنه كان من النواصب المظهرين لعداوة الأمير كرم الله تعالى وجهه وذريته الطاهرين رضي الله تعالى عنهم ،و لذا قتل كثيراً من علماء أهل السنة بسبب محبتهم لأولئك الكرام ، وقد أهان كثيراً من الصحابة الكرام وأهان أنس بن خادم رسول الله ( ولا يتمكن أحد من الحضور لديه من غير أن يطلي حضوره ، فعلى فرض أن حليمة أدركت زمنه كيف يمكنها الوصول إليه حتى تشد الرحال للحضور بين يديه ؟ ومع ذلك لم ينقل عن أحد رجوع ذلك الظالم عن بغض الأمير الذى يرى ذلك سبباً لنيله الجاه الخطير . ثم إنا إذا رجعنا إلى ما نسبوه إلى حليمة من الشبهات ، وهاتيك الدلائل الواهيات ، وجدناها كسراب بقيمة ، لا يخفى ما فيها من الأمور الشنيعة ، وذلك من وجوه : أما أولاً فلأن تفضيل الأمير على الأنبياء ، ولا سيما على أولى العزم خلاف ما عليه العقلاء من سائر ملل الأنام فضلاً عن ملة الإسلام ، فإن المولى لا يصل إلى مرتبة النبي في كل شريعة من الشرائع ، ونصوص الكتاب تنادى على تفضيل الأنبياء على جميع خلق الله .(166/49)
وأما ثانياً : فإن تلك الاحتجاجات مبنية على ملاحظة مناقب الامير مع زلات الأنبياء ، ولو لوحظت مع كمالاتهم ومناقبهم لخفيت على الناظرين ، وغابت عن أعين المبصرين . ويلزم عليهم أن الأمير بل وأبا ذر وعماراً وسلمان وغيرهم من الصحابة الكرام أفضل من النبي عليه الصلاة والسلام إذا نظر ما ورد في حقهم من الآيات المشعرة بمدحهم مع ما ورد من معاتباته عليه الصلاة والسلام في عدة مواضع ، ولا يقول ذلك عاقل فضلاً عن فاضل . وأما ثالثاً فلأن آدم أبو البشر وأصل لنوع الإنسان ، فكل ما يحصل لأولاده من الفضائل والأعمال الصالحة فهي عائدة إليه . نعم إن بعض أولى العزم كنبينا ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، فضلوا عليه لخصوصيات أكرمهم الله تعالى بها ذكرها سبحانه في كتابه العزيز وخطابه الوجيز .
وأما رابعاً فلأن الأزواج لا دخل لهن في المفاضلة ، لأن الأمور العارضة لا دخل لها في الفضل الذاتي والكمال الحقيقى ، وإنما المناط الأمور الذاتية والصفات الحقيقية ، فتفضيل زوجة علي كرم الله تعالى وجهه على زوجة نوح عليه الصلاة والسلام غير مستلزم لتفضيل علي عليه . ألا ترى أن زوجة فرعون كانت أفضل من زوجة نوح ولوط ، وكذا زوجة الأمير أفضل من أزواج النبي ( ، ولا قائل بالتفضيل .
وأما خامساً فلآن حديث (( لو كشف لي الغطاء ما أزددت يقيناً )) موضوع لا أصل له في كتب الحديث الصحيحة عند الفريقين . وعلى فرض تسليم صحته فهو غير مفيد للتفضيل أيضاً لأن معناه : لو رفعت الأحجبة وسبحات الجلال عن وجه الواجب جل شأنه لا أزداد على اليقين الحاصل لي بوجوده وصفاته الكاملة بملاحظة الآيات على وحدانيته وكمال قدرته وإحاطة علمه . والخليل ( كان أعلى كعباً من الأمير في ذلك . وفي تفسير هذه الأية . فراجعه .(166/50)
وأما سادساً : فلأن عروج الأمير غير ثابت في كتبهم الصحيحة ، بل الثابت خلافة ، فقد روى ابن بابويه القمي في كتاب ( المعراج ) في ضمن حديث طويل عن أبي ذر أن ملائكة السماء قالوا للنبي ( : إذا رجعت إلى الأرض فأقرأ على علي منا السلام . وقال أيضاً في الكتاب المذكور : والصحيح أن أمير المؤمنين ما كان ليلة المعراج مع النبي ( بل كان في الأرض ، ولكن أرتفعت الأحجبة عن بصره فرأى وهو في الأرض ما رآه النبي ( وهو في السماء .
وأما سابعاً : فلأن الأمير كان يعلم أنه صبي ، وعداوة الكفار له ليست بالذات فلا طمع لهم في قتله ومع ذلك فقد أخبره النبي ( أن الكفار لن يضروه ، فزيادة إيمانه بذلك القول كانت سبباً لأطمئنانه ، بخلاف موسى فإنه ما كان له شئ من ذلك ، بل كان الغالب على ظنه حسب العادة أن فرعون يقتله بدل القبطي إذا رآه ، وأنه أحس بمشاورة رؤساء القبط على قتله بإخبار العدول ولم يوح إليه ما يزيل خوفه ، ولما تكفل له جل شأنه من مكر فرعون ذهب إليه وقال ما قال مما تعجز عنه الأبطال ، وأقام مع ذلك الكافر أربعين عاماً في بلدة واحدة .(166/51)
أما ثامناً : فلأن سليمان ( - كما صرح به المرتضى في كتابه ( تنزيه الأنبياء والأئمة ) إنما طلب ذلك الملك ليكون معجزة على نبوته ، وشرط المعجزة أن لا يكون للغير قدرة عليها ، ولأنه يمكن أن يكون الله تعالى قد أخبره بان حصول ذلك الملك له يكون أصلح في الدين بكثرة الطاعات والمبرات وفعل الخيرات ، وإذا كان الأمر كذلك فلا منقصة ولا محذور على سليمان ( ، ولا مزيه عليه للأمير في تطليقه الدنيا . على أن طلب على أن طلب الملك لا ينافي التطليق ألا ترى إلى الأمير كرم الله وجهه أنه طلب الخلافة بعد ذلك وسعى لها سعيها حتى وقعت حروب كثيرة بسبب ذلك لأن مثل هؤلاء الرجال إنما يطلبون المال والملك للجهاد في الدين وقتال الأعداء سبحانه وقصد استئصالهم وترويج أحكام الشريعة فإن ترك الدنيا مطلقاً ليس بمحمود في الدين المحمدي ولو كان على إطلاقه موجباً للتفضيل يلزم أن يكون الرهبان وأمثالهم أفضل من سليمان ويوسف عليهما السلام معاذ الله تعالى من ذلك وأما تاسعاً فلأن تعزير الأمير للغالين في محبته لا يوجب تفضيله على عيسى ( لأن المغالين في محبة الأمير كرم الله تعالى وجهه قد أظهروا الكفر والفسوق بمرأى منه ومسمع فتمكن من الانتقام منهم فعمل ما عمل به وغلاة عيسى ( الذين كانوا قائلين بالتثليث ظهروا بعد أن رفع إلى السماء ولا إشكال في قوله تعالى ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ( لأنه ( قد رد عليهم مازعموه ووبخهم غاية التوبيخ على ما اعتقدوه ومن أين لهم أن عيسى ( يسأل والأمير كرم الله تعالى وجهه لا يسأل وقد قال تعالى ( ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي أم هم ضلوا السبيل ( فيجيبون الله تعالى على ما يدل عليه قوله سبحانه : ( قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ(166/52)
من دونك أولياء ( ولا يلحقهم نقص من ذلك السؤال إذ القصد تبكيت الكفرة وإلزام أهل الضلال . وقد سأل سبحانه الملائكة مثل ذلك مع أنهم معصومون ليسوا بمحل للعتاب ، قال تعالى( ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون( .
وأما عاشراً فلأن ما ذكر في ولادة عيسى غلط محض وكذب صريح لأن الأصح أن مولده بيت لحم وفلسطين وقيل مصر وقيل دمشق ولم يقل أحد المؤرخين إن مريم قد جاءها المخاض في المسجد الأقصى ولئن سلم ذلك فمن أين علم أنها أخرجت بالوحى ؟ بل إنها لما حملت بعيسى ( من غير أب كرهت إظهار الولادة منفردة ولذا تمنت الموت كما قال تعالى : فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً ( وأما القول بأنه قد أوحى إلى فاطمة بنت أسد بأن تضع في الكعبة فقول يضحك الثكلى وتضع منه الحبلى والصحيح في ذلك أن عادة الجاهلية أن يفتح باب الكعبة في البوم الخامس عشر من رجب ويدخلون جميعهم للزيارة وكانت العادة أن النساء يدخلن قبل الرجال بيوم أو يومين وقد كانت فاطمة قريبة الوضع فاتفق أن ولدت هناك لما أصابها من شدة المزاحمة والمجاذبة وقد ورد في كتب الشيعة أن أبا طالب لما يئس من ولادتها لما زادت المدة المعلومة لما عراها من المرض أدخلها الكعبة للاستشفاء فرحمها الله تعالى بالولادة فيها ورووا عن زين العابدين أنه قال : أخبرتني زيدة بنت عجلان الساعدية عن أم عمارة بنت عباد الساعدية أنها قالت : كنت ذات يوم في نساء من العرب إذ أقبل أبو طالب كئيباً فقلت له : ما شأنك ؟ قال إن فاطمة بنت أسد في شدة من الطلق وإنها لا تضع ثم إنه أخذ بيدها وجاء بها إلى الكعبة فدخل بها وقال : اجلسي على اسم الله فجلست وطلقت طلقة فولدت غلاماً نظيفاً فسماه أبو طالب علياً انتهى . على أن ولادة الأمير في الكعبة لو أوجبت تفضيله على عيسى ((166/53)
لأوجبت تفضيله على النبي ( ولا قائل بذلك من الفريقين ولأوجبت تفضيل حكيم بن حزام بن خويلد ابن أخي أم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها على سائر الأنبياء إذ قد ولد في الكعبة أيضاً وبطلان ذلك غير خفي على أحد والله يبدي الحق ويهدي إلى سواء السبيل .
ومن مكايدهم أنهم يقولون : أهل السنة رووا في كتبهم الصحيحة ما يزري بشأن النبي ( من تركه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم الغيرة حيث يروون عن عائشة أنها قالت (( رأيت رسول الله ( يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون بالدرق والحراب يوم العيد )) . فإن في هذه الرواية إراءة اللعب وتقرير الحبشة عليها في المسجد ونظر زوجة الرسول إلى غير المحارم وأن أهل السنة يروون أن رسول الله ( قال (( أتعجبون من غيرة سعد وأنا أغير منه والله أغير منى )) وأدنى الناس لا يرضى برؤية زوجته إلى الأجانب ونظرها إلى لعبهم ولهوهم فضلاً عن سيد الكونين ( والجواب أن هذه القصة وقعت قبل نزول آية الحجاب ، وكان النساء من أمهات المؤمنين وغيرهن يخرجن إذ ذاك بلا حجاب ويخدمن الأزواج ولو بحضور الأجانب باتفاق الفريقين حتى روى أن فاطمة رضي الله تعالى كانت تغسل الجراح التي أصابته عليه الصلاة والسلام في غزوة أحد بمحضر سهل وجماعة من الصحابة والشيء قبل تحريمه لا يكون فعله موجباً للطعن فقد صح عند الفريقين أن سيد الشهداء حمزة وأبا طلحة الأنصاري وجماعة من الصحابة ( شربوا الخمر قبل تحريمها وسكروا ووقع بينهم ما وقع ورآهم رسول الله ( على تلك الحالة وسكت ولم ينكر عليهم . وأيضاً أن عائشة رضي الله تعالى عنها إذ ذاك صبية غير مكلفة فلو نظر مثلها إلى لهو فأي محذور ؟ ولا سيما إذا كانت متسترة وأيضاً أن لهو الحبشة ولعبهم كان لتعلم الحرب والقتال حتى روى أن الملائكة يحضرون مثل هذا اللعب فالنظر إليه ليس بحرام . وأما ما نقل من زجر عمر بن الخطاب الحبشة عن ذلك لما ظن أن فعل ذلك بحضور النبي عليه(166/54)
الصلاة والسلام من سوء الأدب ولهذا قال ( له (( دعهم يا عمر )) امتنع عن الإنكار . والعجب من الشيعة أنهم يعدون أمثال ذلك من قلة الغيرة والعياذ بالله تعالى وهم يرون عن الأئمة المعصومين وأهل البيت الطاهرين حكايات تقشعر منها جلود المؤمنين وتمجها أسماع المسلمين فقد ثبت في كتبهم الصحيحة أن أبا عبدالله ( قال لأصحابه وشيعته : (( إن خدمة جوارينا لنا ، وفروجهن لكم حلال )) وذكر مقداد صاحب كنز العرفان الذي هو أجل المفسرين عندهم في تفسير قوله تعالى ( هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين ( أن لوط النبي ( أراد بذلك الإتيان من غير الطريق المعهود بين الناس فياويلهم من هذا الإفتراء وسحقاً لهم بسبب هذه المقالة الشنعاء .(166/55)
ومن مكايدهم أنهم يقولون : إن أهل السنة يجوزون اللعب بالشطرنج مع أن كل لعب ولهم مذموم في الشرع . الجواب أن الأئمة الثلاثة أعني أبا حنيفة ومالكاً وأحمد كلهم قائلون بحرمته مطلقاً ويروون آثاراً على حرمته وللإمام الشافعي فيه قولان : قول أنه مكروه بشرط أن لا يؤخر الصلاة عن الوقت المستحب ولا تترك السنن والآداب لأجله وأن لا يكون اللعب على شيء وأن لا يفوت ما يجب من خدمة الوالدين وتفقد أحوال العيال وعيادة المرضى واتباع الجنائز وأن لا يقع في اللعب نزاع وجدال وأيمان كاذبة وأن لا يكون ما يلعب به مصوراً بصور الحيوانات فإن فقد شيء من هذه الشروط فهو حراماً قطعاً فمن أصر علة فعله مع حرمته فقد ارتكب الكبيرة . والقول الثاني أنه حرام كما عليه الجمهور وقد صح عن الشافعي أن رجع كما نص عليه الغزالي ولكن في شروح المنهاج وفتح الوهاب والأنوار وفتح المعين وغيرهما الفتوى على القول الأولى من كونه مكروهاً بالشروط وحراماً بفقد شرط منها . على أن لو سلمنا أن أهل السنة يجوزون اللعب به فهو من القسم المباح ، إذ فيه تشحيذ الذهن ، وتعليم بمخادعات الحرب وطرق الاحتراز عن مكايد الأعداء ، فحكمه حكم الملاعب المباحة كالمسابقة بالخيل ورمي السهام ، ونحو ذلك . والله أعلم .(166/56)
ومن مكايدهم أنهم يقولون إن أهل السنة يجوزون التغني ، مع أنه قد ورد النهي عنه في احاديث كثيرة . الجواب أن هذا محض أفتراء ، وكلام أشبه شئ بالهراء . فإن الغناء عند جميع أهل السنة حرام ، قال سيد الطائفة جنيد البغدادى قدس سره : إنه بطالة . وقال الشيخ المرزوقي الفاسي : السماع حرام كالميتة ، اللهم إلا إذا كان فيه تشويق إلى العبادة وترغيب إلى الطاعة وترهيب عن النيران ، وعذاب الله تعالى فهو جائز عند البعض . وإن أردت تحقيق الحق في هذا المقام فأرجع إلى ( روح المعاني ) تفسير جدنا روح الله تعالى روحه عند الكلام على قوله تعالى ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا أنفضوا إليها ( الآية . فإنك ترى فيه ما يروى الغليل ويشفى العليل ، على أن الشيخ المقتول من الشيعة ذكر في كتاب ( الدروس ) أنه يجوز الغناء بشروطه في العرس ، وتلك الشروط هي أن يكون المسمع أمرأة ، وأن يكون شعراً في الهجاء . كذا في
( شرح القواعد ) . وهذا مما يقضى منه العجب ويزيد الطرب ، وقد طعنوا أنفسهم وأصابهم سهمهم ، وكفى الله المؤمنين والحمد لله سبحانه في كل حين .
ومكايدهم لا تحصى ولا تعد ، ولا ترسم ولا تحد . والذى ذكرناه عشر من معشار وقطرة من بحار . وقد تركت كثيراً مما ذكر في أصل الكتاب ، استغناء بذكر ذلك في بقية الأبواب .
الباب الثاني
في بيان أقسام أخبار الشيعة وأحوال رجال أسانيدهم
وطبقات أسلافهم وما يتبع ذلك
أما أقسام ( أخبارهم ) فأعلم أن أصولها عندهم أربعة : صحيح وحسن وموثق وضعيف .(166/57)
أما ( الصحيح ) فكل ما أتصل رواته بالمعصوم بواسطة عدل إمامي ، وعلى هذا فلا يكون المرسل والمنقطع داخلاً في الصحيح لعدم أتصالهما وهو ظاهر ، مع إنهم يطلقون عليها لفظ الصحيح ، كما قالوا : روى ابن عمير في الصحيح كذا وكذا . ولا يعتبرون (( العدالة )) في إطلاق الصحيح ، فإنهم يقولون : رواية مجهول الحال صحيحة كالحسين بن الحسن بن أبان فإنه مجهول الحال نص عليه الحلى في ( المنتهى ) مع أنها مأخوذة في تعريفه . وكذا لا يعتبر عندهم كون الراوى إمامياً في إطلاق الصحيح فقد أهملوا قيود التعريف كلها . وأيضاً قد حكموا بصحة حديث من دعا عليه المعصوم بقول أخزاه الله وقاتله الله ، أو لعنه أو حكم بفساد عقيدته أو أظهر البراءة منه . وحكموا ايضاً بصحة روايات المشبهة والمجسمة ومن جوز البداء عليه تعالى ( 1 ) ، مع أن هذه الأمور كلها مكفرة ، ورواية الكافر غير مقبولة فضلاً عن صحتها ، فالعدالة غير معتبرة عندهم وإن ذكروها في تعريف الصحيح ، لأن الكافر لا يكون عدلاً البتة . وحكموا أيضاً بصحة الحديث الذى وجدوه في الرقاع ( 2 ) التى أظهرها ابن بابويه مدعياً أنها من الأئمة . ورووا عن الخطوط التى يزعمون أنها خطوط الأئمة ويرجحون هذا النوع على الروايات الصحيحة الإسناد عندهم . هذا حال حديثهم الصحيح الذى هو أقوى الأقسام الأخرى وأعلاها .
وأما ( الحسن فهو عندهم ما أتصل رواته بواسطة إمامي ممدوح من غير نص على عدالته ، وعلى هذا فلا يكون المرسل والمنقطع داخلين في تعريف الحسن أيضاً أن إطلاقه عليهما شائع عندهم حيث صرح فقهاؤهم بان رواية زرارة في مفسد الحج إذا قضاه في عام آخر حسن ، مع أنها منقطعة . ويطلقون لفظ الحسن على غير الممدوح حيث قال ابن المطهر الحلى طريق الفقيه
-------------------------
( 1 ) أنظر تعريف البداء في ص 16 و 21 .(166/58)
( 2 ) لما توفى الحسن العسكرى سنة 260 وهو ابن ثلاثين سنة زعمت الشيعة أن له أبناً في سن الطفولة توارى في سرداب بمدينة سامراء وأنه كىبائه معصوم ومصدر تشريع ، والرقاع أوراق كانوا يكتبون فيها الأشئلة الشرعية ويضعونها ليلاً في ثقب شجرة قريبة من السرداب ، ثم يجدون جوابها في الصباح من الطفل صاحب الزمان بزعمهم . والمظنون ان الذين يجيبون على تلك الرقاع أشخاص أدعوا أنهم ( باب ) صاحب الزمان ، أو لهم عثمان بن سعيد العمرى ، ثم أبنه محمد بن عثمان الذى مات سنة 305 ، قتولى البابية بعده الحسين بن روح النوبختى إلى أن توفى سنة 326 ، فأوصى بالبابية إلى علي بن محمد السمرى فكانت له البابية أو السفارة بين الشيعة والسرداب إلى أن مات السمرى سنة 329 ، وبموته قالوا أنه قد وقعت الغيبة الكبرى لصاحب الزمان . والرقاع المزعومة كثيرة ، منها رقاع على بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، فإنه كان يظهر بين حين وآخر رقعة يزعم أنها بخط الطفل صاحب الزمان في جواب سؤاله ، وأنه حصل عليها من طريق الحسين بن روح على يد علي بن جعفر بن الأسود . ومن الرقاع رقاع محمد بن عبد الله بن حعفر الحميرى القمى ، وقد تكلمنا على الرقاع وقيمتها العلمية في مجلة الفتح العدد 844 الصادر في جمادى الأخرة 1366 .
إلى منذر بن جيفر حسن مع أنه لم يمدحه أحد من هذه الفرقة .
... أما ( الموثق ) ويقال له (( القوى )) أيضاً فكل ما دخل في طريقة من نص الأصحاب على توثيقه ، مع فساد عقيدته وسلامة باقي الطريق عن الضعف ، مع أنهم أطلقوا الموثق أيضاً على طريق الضعيف ، كالخبر الذى رواه السكوني عن أبي عبدالله عن أمير المؤمنين ، وكذا أطلقوا القوى على رواية نوح بن دراج وناجيه ابن عمارة الصيداوى وأحمد بن عبدالله جعفر الحميرى مع أنهم إمامية ولكنهم ليسوا بممدوحين ولا مذمومين .
... أما ( الضعيف ) فكل ما أشتمل طريقة على مجروح بالفسق ونحوه أو مجهول الحال .(166/59)
وأعلم أن العمل بالصحيح واجب عندهم اتفاقاً ، مع أنهم يرون بعض الأخبار الصحيحة ولا يعلمون بموجبها ، كما روى زرارة عن أبي جعفر قال : إن رسول الله ( قال (( أطعموا الجدة السدس ولم يفرض الله لها شيئاً )) وهذا خرق موثق . وروى سعيد ابن أبي خلف عن أبي الحسن الكاظم ( قال : سألته عن بنات الابن والجدة فقال (( للجدة السدس ، والباقي لبنات الابن )) وهذا خبر صحيح عندهم ، فهم يقولون ما لا يفعلون .
ثم أعلم أن أكثر علماء الشيعة سابقاً بروايات أصحابهم بدون تحقيق وتفتيش ، ولم يكن فيهم من يميز رجال الإسناد ولا من ألف كتاباً في الحرج والتعديل ، حتى صنف الكشى سنة أربعمائة تقريباً كتابا في أسماء الرجال وأحوال الرواة ، وكان مختصراً جداً لم يزد الناظر فيه إلا تحيراً ، لأنه أورد فيه أخباراً متعارضة في الحرج والتعديل ولم يمكنه ترجيح أحدها على الآخر . ثم تكلم الغضائرى في الضعفاء والنجاشي وأبو جعفر الطوسي في الحرج وصنفوا فيه كتابا طويله ، ولكن أهملوا فيها توجيه التعارض بالمدح والقدح ولم يتيسر لهم ترجيح أحد الطرفين ، ولهذا منع صاحب ( الدراية ) تقليدهم في باب الحرج والتعديل . وفي هذا المقام فوائد تتعلق بالرواة تركناها لطولها ، فراجع الأصل ( تتمة ) . أعلم أن الأدلة عندهم أربعة : كتاب ، وخبر ، وإجماع ، وعقل .(166/60)
أما ( الكتاب ) فهو القرآن المنزل الذى لم يبق حقيقاً بأن يستدل به بزعمهمم الفاسد ، لأنه لاعتماد على كونه قرآناً إلا إذا أخذ بواسطة الإمام المعصوم ، وليس القرآن المأخوذ من الأئمة موجوداً في أيديهم ، والقرآن المعروف غير معتد به عند أئمتهم بزعمهم ، وأنه لا يليق بلاستدلال به لوجهين : الأول لما روى جماعة من الإمامية عن أئمتهم أن القرآن المنزل وقع فيه تحريف في ملماته عن مواضعها ، بل قد اسقط منه بعض السور ( 1 ) وترتيبه هذا أيضاً غير معتد به لكونه متغيراً عن أصله ، وما هو موجود الآن في ايدى المؤمنين هو مصحف عثمان الذى كتبه وأرسل
----------------------
( 1 ) أنظر ص 30 – 32 .
منه سبع نسخ إلى أطراف العالم وألجأ الناس على قبوله وقراءته على ما رتبه وآذى من خالف ذلك ، فلا يصح التمسك به ولا يعتمد على نظمه من العام والخاص والنص ونحوها ، لأنه يجوز أن يكون هذا القرآن الذى بين ايدينا كله أو أكثره منسوخا بالآيات أو السور التى أسقطت منه أو مخصوصاً بها .
الثاني أن نقله هذا القرآن مثل ناقلي التوراة والأنجيل ، لأن بعضهم كانوا منافقين كالصحابة العظام والعياذ بالله تعالى ، وبعضهم كانوا مداهنين في الدين كعوام الصحابة فإنهم تبعوا رؤساءهم أى بزعمهم طمعاً في زخارف الدنيا ، فارتدوا عن الدين كلهم إلا أربعة أو ستة ، فغيروا خطاب الله تعالى ، فجعلوا مثلا مكان (( من المرافق )) : (( إلى المرافق )) ومكان (( أئمة هي أزكى )) : (( أمة هي أربى من أمة )) فكما أن التوراة والإنجيل لا يعمل بهما أصلاً فكذلك هذا القرآن ، وكما أن التوراة والإنجيل نسخاً بالقرآن المجيد فكذلك القرآن نسخت أشياء كثيرة منه ولا يعلم نواسخها إلا أئمة الثلاثة .(166/61)
وأما ( الخبر ) فقد مر بيانه ( 1 ) مفصلاً فتذكر . ثم إن ناقل الخبر إما من الشيعة أو غيرهم ولا أعتبار لغيرهم أصلاً لأن الصدر الأول من غيرهم ( 2 ) الذى هو منتهى الأسانيد كانوا مرتدين ومحرفين كتاب الله تعالى ومعادين أهل بيت النبوة . فلا بد أن يكون من الشيعة وبين الشيعة أختلاف كثير في اصل الإمامية وتعيين الأئمة وعددهم ، ولا يمكن إثبات قول من أقوالهم إلا بالخبر ، لأن كتاب الله تعالى لا اعتماد عليه ، ومع ذلك فهو ساكت عن هذه الأمور ، فلو توقف ثبوت الخبر وحجته على ثبوت ذلك القول لزم الدور الصريح وهو محال .
وأما ( الإجماع ) فباطل أيضاً ، لأن كونه حجة ليس بالأصالة بل لكون قول المعصوم في ضمنه ، فمدار حجيته على قول المعصوم لا على نفس الإجماع ، وثبوت عصمة المعصوم وتعيينه إما بخبره أو بخبر معصوم آخر ، فقد جاء الدور الصريح أيضاً إجماع الصدر الأول والثاني – يعني قبل حدوث الاختلاف في الأمة – غير معتبر ، لأنهم أجمعوا على : خلافة ابي بكر وعمر ، وحرمة المتعة ، وتحريف الكتاب ، ومنع ميراث النبي ( ، وغضب فدك من البتول ( 3 ) . وبعد حدوث الاختلاف في الأمة وتفرقهم بفرق مختلفة كيف يتصور الإجماع ، ولا سيما في المسائل الخلافية المحتاجة إلى الإستدلال وإقامة الحجة القاطعة .
----------------------------
( 1 ) في ص 32 و 47 – 50 .
( 2 ) أى الصحابة .
( 3 ) لو لم يقل النبي ( (( نحن معشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة )) لكان ميراثه غير منحصر في البتول بل يشاركها فيه عمه ( وأزواجه ومنهن بنت ابي بكر وبنت عمر .(166/62)
وأما ( العقل ) فهو باطل ايضاً لأن التمسك به إما في الشرعيات أو غيرها ، فإن كان في الشرعيات فلا يصح التمسك به عند هذه الفرقة أصلاً ، لأنهم منكرون اصل القياس ولا يقولون بحجيته . وأما غير الشرعيات فيتوقف العقل على تجريجه عن شوائب الوهم والإلف والعادة والاحتراز عن الخطأ في الترتيب والفكر في صورة الأشكال ، وهذه الأمور لا تحصل إلا بإرشاد إمام ، لأن كل فرقة من طوائف بني أدم يثبتون بعقولهم أشياء وينكرون اشياء اخر ، وهم متخالفون فيما بينهم بالأصول والفروع ، ولا يمكن الترجيح بالعقل فقط ، فالتمسك إذن بقول الإمام ، ومع ذلك لا يمكن إثبات الأمور الدينية بالعقل الصرف لأنه عاجز عن معرفتها تفصيلاً بالإجماع . نعم يمكنه معرفتها إذا كان مستمداً من الشريعة .
وههنا فائدة جليلة لها مناسبة مع هذا المقام ، وهي أن رسول الله ( قال (( إني تارك فيكم الثقلين ، فإن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدى أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله وعترتى أهل بيتى )) وهذا الحديث ثابت عند الفريقين أهل السنة والشيعة ، وقد علم منه أن رسول الله ( أمرنا في المقدمات الدينية والأحكام الشرعية بالتمسك بهذين العظيمى والقدر والرجوع إليهما في كل أمر ، فمن كان مذهبه مخالفاً لهما في الأمور الشرعية اعتقاداً وعملاً فهو ضال ، ومذهبه باطل وفاسد لا يعبأ به . ومن جحد بهما فقد غوى ، ووقع في مهاوى الردى .(166/63)
وليس المتمسك بهذين الحبلين المتينين إلا أهل السنة ، لأن كتاب الله ساقط عند الشيعة عن درجة الاعتبار كما سبق قريباً بيانه ، وقد روى الكلينى ( 1 ) عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله أن القرآن الذى جاء به جبريل إلى محمد ( سبعة عشر الف آية ، وروى عن محمد بن نصر عنه أنه قال كان في ( لم يكن ( أسم سبعين رجلاً من قريش باسمائهم وأسماء أبائهم . وروى عن سالم بن سلمة قال : قرأ رجل على أبي عبد الله وأنا اسمعه حروفاً من القرآن ليس مما يقرأه الناس فقال أبو عبد الله : مه ، واكفف عن هذه القراءة وأقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم أقرأ كتاب الله على حده . وروى الكليني وغيره عن الحكم بن عتيبة قال قرأ على بن الحسين (( وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث )) قال : وكان على بن أبي طالب محدثاً . وروى عن محمد بن الجهم الهلالي وغيره عن أبي عبدالله أن ( أمة هي أربى من امة ( ليس كلام الله ، بل محرف عن موضعه والمنزل (( أئمة هي ازكى من ائمتكم )) وقد تقرر عندهم أن (( سورة الولاية )) سقطت ( 2 ) وكذا أكثر ( سورة الأحزاب ( فإنها كانت مثل ( سورة الأنعام ( فأسقط منها فضائل أهل البيت وأحكام إمامتهم . وأسقط لفظ (( ويلك )) قبل قوله تعالى ( لا تحزن إن الله
--------------------------
( 1 ) الكليني عندهم كالبخارى عند المسلمين . فإذا كانت هذه أكاذيب الكليني ورجاله فكيف برواياتهم الأخرى ! .
( 2 ) أنظر ص 30 – 32 .
معنا ( 1 ) ( وكذا اسقط لفظ (( بعلى بن ابي طالب )) بعد قوله تعالى ( وكفى الله المؤمنين القتال ( وكذا لفظ (( آل محمد )) الواقع بعد (( ظلموا )) من قوله تعالى ( وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون ( إلى غير ذلك من الهذيانات والأقوال الترهات .(166/64)
... وأما المعتزلة الشريفة فهي إجماع أهل اللغة تقال لأقارب الرجل ، والشيعة ينكرون نسبه بعض العترة كرقية وأم كلثوم ابنتى رسول الله ( ، ولا يعدون بعضهم داخلاً العترة كالعباس عم رسول الله ( وأولاده وكالزبير بن صفية عمة الرسول ( بل يبغضون أكثر أولاد فاطمة رضى الله تعالى عنهم ويسبونهم كزيد بن علي بن الحسين الذى كان عالماً كبيراً متقياً واستشهد على يد المروانية وكذا يحيى ابنه وكذا إبراهيم وجعفر ابنى موسى الكاظم ، ولقبوا الثاني بالكذاب مع أنه كان من كبار أولياء الله تعالى وأخذ منه أبو يزيد البسطامي الطريقة ، وأخذه إياها من جعفر الصادق غلط . ولقبوا أيضاً جعفر بن على أخا الإمام الحسن العسكرى بالكذاب ، ويعتقدون أن الحسن بن الحسن المثني وابنه عبدالله المحض وابنه محمداً الملقب بالنفس الزكية ارتدوا وحاشاهم من كل سوء . وكذلك يعتقدون في إبراهيم بن عبدالله وزكريا بن محمد الباقر ومحمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن ومحمد بن القاسم بن الحسن ويحيى بن عمر الذى كان من أحفاد زيد بن على بن الحسين ، وكذلك يعتقدون في جماعة حسنيين وحسينيين كانوا قائلين بإمامة زيد بن على بن الحسين ، إلى غير ذلك من الأمور الشنيعة التى يعتقدونها في حق العترة المطهرة مما هو مذكور في الأصل ، نعوذ بالله من جميع ذلك ، ونبرأ إليه جل شأنه من سلوك هاتيك المسالك . فقد بان لك أن الدين عند هذه الطائفة الشنيعة قد أنهدم بجميع أركانه وانقض ما تشيد من محكم بنيانه ، حيث أن كتاب الله تعالى قد سبق لك واعتقادهم فيه وعدم اعتمادهم على ظاهره وخافيه ، ولا يمكنهم أيضاً التمسك بالعترة المطهرة بناء على زعمهم الفاسد من أن بعضهم كانوا كفرة ، وسيأتى إن شاء الله تعالى في الأبواب الآتية بيان مخالفتهم للثقلين في كل مسألة من العقائد والفروع بحيث لا يبقى لهم مجال للإنكار ، ولا يجدون سبيلاً للفرار . والله يحق الحق وهو يهدي السبيل .(166/65)
وأما أحوال رجال أسانيدهم وطبقات أسلافهم ، فأعلم أن أسلاف الشيعة وأصول الضلالات كانوا عدة طبقات :
-----------------------
( 1 ) بل زعم شيطان الطاق الذى يسمونه (( مؤمن آل محمد )) أن الآية كلها ليست من القرآن . أنظر ( الفصل ) لابن حزم 4 : 181 وتعليقنا على ( العواصم من القواصم ) ص 69 .
الطبقة الأولى : هم الذين استفادوا هذا المذهب بلا واسطة ، من رئيس المضلين إبليس اللعين وهؤلاء كانوا منافقين ، جهروا بكلمة الإسلام وأضمروا في بطونهم عداوة أهله ، وتوصلوا بذلك النفاق إلى الدخول في زمرة المسلمين والتمكن من إغوائهم وإيقاع المخالفة والبغض والعناد فيما بينهم ، ومقتداهم على الإطلاق ( عبدالله بن سبأ اليهودي الصنعاني ) الذى كان شراً من أبليس وأعرف منه في الإضلال والتضليل ، وأقدم منه في المخادعة والغرور بل شيخه في المكر والشرور ، وقد مارس زماناً في اليهودية فنون الإغواء والإضلال وسعي مجتهداً في طرق الزور والاحتيال فأضل كثيراً من الناس واستزل جماً غفيراً فأطفأ منهم النبراس ، وطفق يغير عقائد العوام ويموه عليهم الضلالات والأوهام ، فأظهر أولاً محبة كاملة لأهل البيت النبوي ، وحرض الناس على ذلك الأمر العلي ، ثم بين وجوب لزوم جانب الخليفة الحق وأن يؤثر على غيره ، وأن ما عداه من البغاة ، فأستحسنه جم من العوام غفير ، وقبله ناس من الجهلة كثيرون ، فأيقنوا بصلاحه واعتقدوا بإرشاده ونصحه . ثم فرع على ذلك فروعاً فاسدة وجزيئات كاسدة فقال : إن الأمير كرم الله وجهه هو وصى رسول الله ( وأفضل الناس بعده وأقربهم إليه ، وأحتج على ذلك بالآيات الواردة في فضائله والآثار المروية في مناقبه ، وضم إليها من موضوعاته وزاد عليها من كلماته وعباراته . فلما رأى أن ذلك الأمر قد أستقر في أذهان أتباعه واستحكمت هذه العقيدة في نفوس أشياعه ألقى إلى بعض هؤلاء ممن يعتمد عليه أن الأمير وصى رسول الله ( ، وأن النبي عليه الصلاة(166/66)
والسلام أستخلفه بنص صريح ، وهو قوله تعالى ( إنما وليكم الله ورسوله والذين أمنوا ( الآية ، ولكن الصحابة قد ضيعوا وصيته ( وغلبوا الأمير بالمكر والزور وظلموه فعصوا الله ورسوله في ذلك وأرتدوا عن الدين – إلا القليل منهم – محبة في الدنيا وطمعاً في زخارفها . وأستدل على ذلك بما وقع بين فاطمة رضي الله تعالى عنها وبين أبي بكر رضي الله تعالى عنه في مسألة فدك ( 1 ) إلى أن أنتهى الأمر إلى الصلح ثم أوصى أتباعه بكتمان هذا الأمر وعدم نسبته إليه وقال : لا تظهروا للناس أنكم أتباعي لأن غرضي إظهار الحق والهداية إلى الطريق المستقيم دون الجاه والشهرة عند الناس . فمن تلك الوسوسة ظهر القيل والقال ووقع بين المسلمين التفرق والجدال ، وأنتشر سب الصحابة الكرام وذاع الطعن فيهم من أولئك الطغام ، حتى إن الأمير كرم الله تعالى وجهه قد خطب فوق المنبر خطباً في ذم هؤلاء القوم وأظهر البراءة منهم وأوعد بعضهم بالضرب والجلد . فلما رأى ابن سبأ أن سهمه هذا أيضاً قد اصاب هدفاً وأختلت بذلك عقائد أكثر المسلمين أختار أخص الخواص من أتباعه وألقى إليهم أمراً أدهى من الأول وأمر ، وذلك بعد أن ...
----------------------
( 1 ) أنظر لمسألة فدك وميراث الرسول ( تعليقاتنا على كتاب ( العواصم من القواصم ) ص 48 – 50 .(166/67)
أخذ عليهم ميثاقاً غليظاً أن الأمير كرم الله تعالى وجهه يصدر منه مالا يقدر عليه البشر من قلب العيان ، والأخبار المغيبات ، وإحياء الموتى ، وبيان الحقائق الإلهية والكونية ، وفصاحة الكلام ، والتقوى ، والشجاعة ، الكرم ، إلى غير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، فهل تعلمون منشأ هذه الأمور ؟ فلما أظهروا العجز عن ذلك قال لهم : إن هذه كلها من خواص الألوهية التى تظهر في بعض المظاهر ويتجلى اللاهوت في كسوة مثل أنا حي لا يموت أنا باعث من في القبور أنا مقيم الساعة ونحوها مما صدر عنه رضي الله تعالى عنه في غلبة الحال كما هو شأن أولياء الله ( 1 ) فلما وصلت هذه المقالة إلى حضرة الأمير كرم الله تعالى وجهه أهدر دماء تلك الطائفة وتوعدهم بالإحراق في النار وأستتابهم فأجلاهم إلى المدائن ، فلما وصلوا إليها أشاعوا تلك المقالة الشنيعة . وأرسل ابن سبأ بعض أتباعه إلى العراق وأذربيجان ، ولما لم يستأصلهم الأمير كرم الله تعالى وجهه بسبب أشتغاله بما هو أهم من ذلك من محاربة البغاة ومهمات الخلافة راج مذهبه واشتهر وذاع وأنتشر ، فقد بدأ أولاً بتفضيل الأمير ، وثانياُ بتكفير الصحابة ، وثالثاً بألوهية الأمير ودعا الناس على حسب أستعدادهم ، وربط رقاب كل من كان أتباعه من حبال الغواية ، فهو قدوة لجميع الفرق الرافضة ، وإن كان أكثر أتباعه وأشياعه من تلك الفرق يذكرونه بالسوء لكونه قائلاً بألوهية الأمير ويعتقدون أنه مقتدى الغلاة فقط ، ولذا ترى أخلاق اليهود وطبائعهم موجودة في جميع فرق الشيعة ، وذلك مثل الكذب ، والبهتان ، وسب أصحاب الرسول وكبار أئمة الدين وحملة كلام الله وكلام الرسول ، وحمل كلام الله والأحاديث على غير ظاهرها ، وكتم عداوة أهل الحق في القلب ، وإظهار التملق خوفاً وطمعاً ، وأتخاذ النفاق شعاراً ودثاراً ، وعد التقية من أركان الدين ، ووضع الرقاع ونسبتها إلى النبي والأئمة ( 2 ) ، وإبطال الحق وإحقاق الباطل لأغراض(166/68)
دنيوية . وهذا الذى ذكر قطرة من بحر وذرة من جبل . وإذا تفكرت في سورة البقرة وحفظت ما ذكر الله تعالى فيها من صفات اليهود الذميمة ترى جميعها مطابقة لصفات هذه الفرقة مطابقة النعل بالنعل .
--------------------------
( 1 ) لم يثبت بالطرق العلمية والتاريخية صدور هذه الكلمات عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه . ولم ينقلها عنه راو تقبل روايته . وأولياء الله هم القائمون بنصر الله لأن الولاية هي النصرة . والذى يدعى صفات الله يعد من أعداء الله لا من أوليائه ، وسخافات الشطح لم تكن معروفة في عصر الصحابة ولا صدرت عن أحد منهم .
( 2 ) أنظر لمسألة الرقاع ص 48 .(166/69)
الطبقة الثانية : : جماعة ممن ضعف إيمانهم من أهل النفاق ، وهم قتلة عثمان ( 1 ) واتباع عبد الله بن سبأ الذين كانوا يسبون الصحابة الكرام ، وهم الذين أنخرطوا في عسكر الأمير وعدوا أنفسهم من شيعته خوفاً من عاقبة ما صدر منهم من تلك الجنابة العظمى ، وبعض منهم تشبثوا بأذيال الأمير طمعاً في المناصب العالية ورفعة المراتب فحصل لهم بذلك مزيد الأمنية وكمال الطمأنينة ، ومع ذلك فقد أظهروا للأمير كرم الله تعالى وجهه ما أنطووا عليه من اللؤم والخبائث فلم يجيبوا لدعوته وأصروا على مخالفته ، وظهرت منهم الخيانة على ما نصبوا عليه ، وأستطالت أيديهم على عباد الله وأكل أموالهم ، وأطالوا ألسنتهم في الطعن على الصحابة . وهذه الفرقة هم رؤساء الرافض وأسلافهم ومسلمو الثبوت عندهم . فإنهم وضعوا بناء دينهم وإيمانهم في تلك الطبقة على رواية هؤلاء الفساق المنافقين ومنقولاتهم ، فلذا كثرت روايات هذه الفرقة عن الأمير كرم الله تعالى وجهه بواسطة هؤلاء الرجال . وقد ذكر المؤرخون سبب دخول أولئك المنافقين في هذا الباب ، وقالوا إنهم قبل وقوع التحكيم كانوا مغلوبين لكثرة الشيعة الأولى في عسكر الأمير وتغلبهم ( 2 ) ولما وقع التحكيم ( 3 ) وحصل اليأس من انتظام أمور الخلافة وكادت المدة المعينة للخلافة تتم وتنقرض وتخلفها نوبة العضوض رجع الشيعة الأولى من دومة الجندل التى كانت محل التحكيم إلى أوطانهم لحصول اليأس من نصرة الدين وشرعوا بتأييده بترويج أحكام الشرعية والإرشاد ورواية الأحاديث وتفسير القرآن المجيد ، كما أن الأمير كرم الله تعالى وجهه دخل الكوفة وأشتغل بمثل هذه الأمور ، ولم يبق في ركاب الأمير إذ ذاك من الشيعة الأولى إلا القليل ممن كانت له في دار الكوفة . فلما رأت هاتيك الفرقة الضالة المجال في إظهار ضلالتهم أظهروا ما كانوا يخفونه من إساءة الأدب في حق الأمير وسب أصحابه وأتباعه الأحياء منهم والأموات . ومع هذا كان لهم طمع في(166/70)
المناصب أيضاً لأن العراق وخراسان وفارس والبلاد الأخرى الواقعة في تلك الأطراف كانت باقية بعد في تصرف الأمير وحكومته ، والأمير كرم الله تعالى وجهه عاملهم ، كما عاملوه ، كما وقع ذلك لموسى ( ، ولنبينا عليه الصلاة والسلام .مع المنافقين . ولما كانت الروايات من أهل السنة في هذا الباب غير معتد بها مزيد عداوتهم لفرق الشيعة على زعمهم ، وجب النقل من كتب الشيعة المعتبرة مما صنفه الإمامية والزيدية . وقد سبق في اول الكتاب عند
-----------------------
( 1 ) أنظر لقتلة عثمان تعليقنا على ( العواصم من القواصم ) ص 58 ، 59 ، 111 ، 128 ، 132 ، 146 ، 150 – 159 ، 164 – 166 ، 168 ، 170 .
( 2 ) تقدم وصفة الشيعة الأولى في أول الكتاب ص 3 .
( 3 ) أصدق تقرير لوقائع التحكيم ما رواه الدارقطني من حديث أبي يوسف الفلوسى عن ألأسود بن شيبان عن عبدالله بن مضارب عن حضين بن المنذر أحد اصحاب على كرم الله تعالى وجهه ، أنظره في ( العواصم من القواصم ) ص 178 – 179 . وأنظر الفصل كله بتعليقاته من ص 172 إلى 181 وفيه تصحيح تاريخ الإسلام .
ذكر الفرقة السبيئة ( 1 ) خطبة منقولة عن الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة لزيدى المذكورة في آخر كتابه المسمى ( طوق الحمامة في مباحث الإمامة ) فلا حاجة بنا إلى إعادتها . ولما نعى الأمير بخبر قتل محمد بن أبي بكر في مصر كتب كتاباً إلى عبد الله بن عباس ، فإنه كان حينئذ عامل البصرة ، وهو كما هو مذكور في كتاب ( نهج البلاغة ) الذى هو عند الشيعة أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى ( 2 ) :(166/71)
... (( أما بعد فإن مصر قد أفتتحت ، ومحمد ابن أبي بكر قد أستشهد ، فعند الله يحتسبه ولداً ناصحاً وعاملاً كادحاً وسيفاً قاطعاً وركناً دافعاً . وكنت قد حثثت الناس على لحاقه ، وأمرتهم بغياثة قبل الوقعة ، ودعوتهم سراً وجهراً وعوداً وبدءاً ، فمنهم الآتى كارهاً ومنهم المتعلل كاذباً ، ومنهم القاعد خاذلاً . أسأل الله تعالى أن يجعل لى منهم فرجاً عاجلاً . فوالله لولا طمعى عند لقاء العدو في الشهادة ، وتوطيني نفسى على المنية ، لأحببت أن لا أبقى مع هؤلاء يوماً واحداً ولا ألتقى بهم أبداً )) .(166/72)
... وكذا لما اخبر بقدوم سفيان بن عوف الذى كان من بنى غامد وأمير أمراء معاوية وركبانه ببلد الأنبار وقتلهم أهله ، خطب خطبة مندرجة فيها هذه العبارة المشيرة للإرشاد وهي : (( والله يميت القلب ويجلب الهم ما نرى من إجتماع هؤلاء على باطلهم وتفرقكم عن حقكم ، فقبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضاً يرمى : يغار عليكم ولا تغيرون ، وتغزون ولا تغزون ، ويعصى الله وترضون . فإذا أمرتكم بالمسير إليهم في أيام الحر قلتم هذه حمارة القيظ أمهلنا حتى ينسلخ عنا الحر . وإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام البرد فلتم هذه صبارة القر أمهلنا حتى ينسلخ عنا البرد . كل هذا فراراً من الحر والقر ، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون فأنتم والله من السيف أفر ، يا أشباه الرجال ولا رجال ، لكم حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال ، لوددت أنى لم أركم ولم أعرفكم ، معرفة والله جرت ندماً ، وأعقبت سدماً )) . وأيضاً يقول في هذه الخطبة : قاتلكم الله ، لقد ملأتم قلبي قيحاً ، وشحنتم صدرى غيظاً ، وجرعتموني نغب التهمام انفاساً . فأفسدتم على رأيي بالخذلان والعصيان ، حتى قالت قريش : إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب . لله أبوهم ، وهل أحد أشد لها مراساً وأقدم فيها مقاماً منى ، حتى لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وها أنا ذا ذرفت على الستين ، ولكن لا أرى لمن لا يطاع )) .
--------------------------
( 1 ) في ص 6 .(166/73)
( 2 ) بل إن النصوص المأثورة عن علمائهم ودعاتهم ، والروايات التى أخترعوها وأثبتوها في كتبهم تدل على أنهم ينفون صحة كتاب الله تعالى ، فلم يبق لهم إلا نهج البلاغة الذى في ألفه لهم الشريف الرضى وأعانه عليه أخوه المرتضى ، وطريقتهما في تأليفه أن يعمدا إلى الخطبة القصيرة المأثورة عن أمير المؤمنين فيزيد أن عليها من هوى الشيعة ما تواتيهما عليه القريحة من ذم إخوانه الصحابة أو غير ذلك من أهوائهم . وإن الصحيح من كلام أمير المؤمنين في نهج البلاغة قد يبلغ عشره أو نصف عشره . والباقى من كلام الرضى والمرتضى .
ويقول في خطبة أخرى : (( أيها الناس المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم كلامكم يوهى الصم الصلاب ، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء . تقولون في المجالس كيت وكيت ، فإذا حضر القتال قلتم حيدى حياد ( 1 ) . ما عزت دعوة من دعاكم ، ولا أسترح قلب من قاساكم . أعاليل بأضاليل )) إلخ .
ويقول : (( المغرور والله من غررتموه ، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب . ومن رمى بكم فقد رمى بافوق ناصل . أصبحت والله لا أصدق قولكم ، ولا اطمع في نصركم ، ولا أوعد العدو
بكم )) .
وأيضاً يقول في خطبة أخرى إذ استنفر الناس إلى أهل الشام : (( أف لكم ، لقد سئمت عتابكم ، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً ، وبالذل من العز خلفاً ؟ إذا دعوتكم إلى جهاد أعدائكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة ، ومن الذهول في سكرة ، يرتج عليكم حواري فتعمون ، وكأن قلوبكم مألوسة ( 2 ) فانتم لا تعقلون ، ما أنتم لى بثقة سجيس الليالى ، وما أنتم بركن يمال بكم ، ولا زوافر عز يفتقر إليكم ، وما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها ، فكلما جمعت من جانب أنتشرت من جانب آخر ، وبئس لعمر الله سعر نار الحرب أنتم ، تكادون ولا تكيدون ، وتنقص أطرافكم ولا تمتعضون ، ولا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون )) .(166/74)
وأيضاً يقول في خطبة أخرى (( منيت بمن لا يطيع إذا أمرت ، ولا يجيب إذا دعوت . لا أبالكم ، ما تنظرون بنصركم ربكم ؟ لا دين يجمعكم ولا حمية تحشمكم . أقوم فيكم مستصرخاً ، وأناديكم متغوثاً ، فلا تسمعون لى قولاً ، ولا تطيعون لى أمراً ، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة ، فما يدرك بكم ثأر ، ولا يبلغ منكم مرام . دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر ، وتثاقلتم تثاقل النضو الأدبر . ثم خرج إلى منكم جنيد متدائب ضعيف ( كأنما يساقون إلى الموت وهو ينظرون ( .
وايضاً يقول في ذم هؤلاء الفرقة : كم أدار يكم كما تدارى البكار العمدة ( 3 ) والثياب المتداعية إن حيضت من جانب تهتكت من جانب آخر ، وكلما أطل عليكم منسر من ناسر الشام ( 4 ) أغلق كل رجل منكم بابه وأنحجر أنحجار الضبة في جحرها والضبع في وجارها لكثير في الباحات ، قليل تحت الرايات .
وهذه الخطبة كلها ذكرها الرضى في نهج البلاغة ، وغيره من الإمامية أيضاً رووها في كتبهم .
----------------------
( 1 ) (( حيدى حياد )) كلمة تقولها العرب عند الفرار .
( 2 ) أى مصابة بالألس ، وهو الذهول واختلاط العقل .
( 3 ) البكار جمع البكر : الفتى من الأبل . والعمدة بكسر الميم : التى ورم داخل سنامها من الركوب وظاهرة سليم .
( 4 ) أى جيش من جيوشهم .
... وقال على بن موسى بن طاوس سبط محمد بن الحسن الطوسى شيخ الطائفة : إن امير المؤمنين كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال البغاة ، فما أجابه إلا رجلان ، فيتنفس الصعداء وقال : أين يقعان ! ثم قال ابن طاوس : إن هؤلاء خذلوه مع أعتقادهم فرض طاعته وأنه صاحب الحق ،وأن الذين ينازعونه على الباطل . وكان ( يداريهم ولكن لا تجديه المداراة نفعاً . وقد سمع قوماً من هؤلاء ينالون منه في مسجد الكوفة ويستخفون به فاخذ بعضادتى الباب وأنشد متمثلاً :(166/75)
... هنيئاً مريئاً غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما أستحلت
فيئس منهم كلهم ، ودعا على هؤلاء الذين يدعون أنهم شيعة بقوله (( قاتلكم الله وقبحاً لكم وترحاً )) ونحوها . وكذا حلف على ان لا يصدق قولهم أبداً . ووصفهم في مواضيع كثيرة بالعصيان لأوامره وعدم أستماعهم وقبولهم لكلامه ، وأظهر البراءة من رؤيتهم . وهؤلاء لم يكن لهم وظيفة سوى الحط على حضرة الأمير كرم الله تعالى وجهه وذمهم له وحاشاه . وقد علم أيضاً أن شيعة ذلك الوقت كانوا كلهم مشتركين الأحوال ، وداخلين في هذه المساوئ إلا رجلين منهم ، فإذا كان حال الصدر الأول والقرن الأفضل الذين هم قدوة لمن خلفهم من بعدهم وأسوة لأتباعهم ما سمعت ذكره ، فكيف بأتباعهم ! فويل لهم ما يكسبون …(166/76)
الطبقة الثالثة : هم الذى تبعوا السيد المجتبى السبط الأكبر وقرة عين التبول الإمام الحسن رضي الله تعالى عنه ، بعد شهادة الأمير كرم الله تعالى وجهه ، وبايعه منهم قدر أربعين ألفاً على الموت ، ورغبوه في قتال معاوية وخرجوا إلى خارج الكوفة ، وكان قصدهم إيقاعه في ورطة الهلاك ، وقد أزعجوه في اثناء الطريق بطلب وظائفهم منه ، وظهر منهم في حقه من سوء الأدب ما ظهر ، كما فعل المختار الثقفى من جر مصلاه من تحت قدمه المباركة ، وهو الذى كان يعد نفسه من اخص شيعته ، وكطعن آخر بالسنان فخذ الإمام رضي الله تعالى عنه حتى تألم منه ألماً شديداً . فلما قامت الحرب على ساق وتحققت المقاتلة ، رغبوا إلى معاوية لدنياه ، وتركوا نصرة الإمام ، مع أنهم كانوا يدعون أنهم من شيعته المخصوصين ، وشيعة أبيه ، وأنهم احدثوا مذهب التشيع وأسسوه . ذكر ذلك السيد المرتضى في كتابه ( تنزيه الأنبياء والأئمة ) عند ذكر عذر الإمام الحسن عن صلح معاوية وخلع نفسه من الخلافة وتفويضها إليه . وذكر أيضاً نقلاً عن كتاب ( الفصول ) للإمامية أن رؤساء هذه الجماعة كانوا يكاتبون معاوية خفياً على الخروج للمحاربة مع الإمام ، بل بعضهم أراد الفتك به رضي الله تعالى عنه . فلما تحققت هذه الأمور عنده رضي بالصلح مع معاوية وخلع الخلافة عن نفسه .(166/77)
الطبقة الرابعة : هم أكثر أهل الكوفة الذين طلبوا حضرة البسط الأصغر وريحانة سيد البشر الإمام الحسين رضي الله تعالى عنه ، وكتبوا إليه كتباً عديدة في توجيه إلى طرفهم ، فلما قرب من ديارهم مع الأهل والأقارب والأصحاب وأخذت الأعداء تؤجج نيران الحرب في مقابلته ، تركه أولئك الكذابون وتقاعدوا عن نصرته وإعانته ، مع كثرة عدد الأعداء وقوة شوكتهم . بل رجع اكثرهم مع الأعداء خوفاً وطمعاً ، وصاروا سبباً لشهادته وشهادة كثير ممن معه وآذوه أكثر مما آذى المشركون الأنبياء ، حتى مات الأطفال والصبيان الرضع من شدة العطش ، وأعروا ذوات الخدر والمستورات بالحجب من بيت النبوة وأطافوهم في البلاد والقرى والبوادى ، وقد نشا ذلك من غدرهم وعدم وفائهم ومخادعتهم ( وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون ( .
الطبقة الخامسة : هو الذين كانوا في زمن استيلاء المختار على العراق والبلاد الأخر من تلك الأقطار ، وكانوا معرضين عن الإمام السجاد لمافقته المختار ، وينطقون بكلمة محمد بن الحنفية ويعتقدون إمامته ، مع أنه لم يكن من أولاد الرسول ولم يقم دليل على إمامته . وهذه الفرقة قد خرجت في آخر الأمر على الدين وحادت عن جادة المسلمين بما قالوا من نبوة المختار ونزول الوحي إليه .(166/78)
الطبقة السادسة : هم الذين حملوا زيداً الشهيد على الخروج ، وتعهدوا بنصرته وإعانته ، فلما جد الآمر وحان القتال أنكروا إمامته بسبب أنه لم يتبرأ من الخلفاء الثلاثة ، فتركوه في أيدى العداء ودخلوا به الكوفة فأستشهد وعاد رزء الحسين ، وكنا بواحد فصرنا باثنين ، ولبئس ما صنعوا معه ، ولو فرضنا أنه لم يكن إماماً أفلم يكن من أولاد الإمام ، مع أن من علم صحة نسبه وإن كان من العصاة يجب على الأمة إعانته ونصرته ولا سيما إذا كان على الحق ، ولم يلزمه من عدم التبرى ذنب ولم تلحقه منه نقيصة . وقد نقل الكشى روايات صحيحة عن الأئمة الأطهار تدل على أن نسب الخلفاء الثلاثة لا يحتاج إليه في النجاة ودخول الجنة ، وقد كان مظلوماً وإعانة المظلوم واجبة وفرض عين مع القدرة عليها .
الطبقة السابعة : هم الذين كانوا يدعون صحة الإئمة والأخذ عنهم ، مع أن الأئمة كانوا يكفرونهم ويكذبونهم . ولنذكر لك نبذة يسيرة من عقائد أسلافهم حيث أن هذا الكتاب لا يسع على سبيل الاستقصاء ، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله . فنقول : إن منهم من كان يعتقد أن الله تعالى جسم دو أبعاد ثلاثة ، كالهشامين ( 1 )
--------------------------
( 1 ) هما هشام بن الحكم مولى كندة أتفق الشيعة الأثنا عشرية على وثاقته مع ما ترى من كفر وإلحاد ، وهشام بن يالم الجواليقى مولى بشر بن مروان يقول عنه علماء الحرج والتعديل من الشيعة : إنه ثقة ثقة .
وشيطان الطاق ( 1 ) والميثمى ( 3 ) ، وذكر ذلك الكليني في الكافى . ومنهم من أثبت له صورة جل شانه كهشام بن الحكم وشيطان الطاق .(166/79)
ومنهم من أعتقد أن الله تعالى مجوف من الرأس إلى السرة ، ومنها إلى القدم مصمت ، كهشام بن سالم والمثيمى . ومنهم من أعتقد أنه عز أسمه لم يكن عالماً في الأزل كزرارة بن أعين وبكير أعين ( 3 ) وسليمان الجعفرى ومحمد بن مسلم الطلحان وغيرهم . ومنهم من أثبت له تعالى مكاناً وحيزاً وجهه وهو الأكثرون منهم .
ومنهم من كفر بالله تعالى فلم يعتقد بالصانع القديم ولا بالأنبياء . ولا بالبعث والمعاد كديك الجن الشاعر وغيره .
ومنهم من كان من النصارى ويعلن بذلك جهاراً ويتربي بزيهم ، ومع ذلك لم يترك صحبة قومة كزكريا بن أبراهيم النصراني ( 4 ) الذى روى عنه شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسى في كتابه
( التهذيب ) ومنهم من قال في حقهم اٌلإمام جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : يروون عنا الأكاديب ويفترون علينا أهل البيت كالتبيان ( 5 ) المكنى بأبي أحمد .
ومنهم من حذر الأئمة الناس منهم وهم نقلة الأخبار ورواة الآثار عن الأئمة العظام ، روى الكلينى عن إبراهيم بن محمد الخراز ومحمد بن الحسين قالا دخلنا على أبي الحسن الرضا فقلنا : إن هشام بن سالم والمثيمى وصاحب الطاق يقولون إن الله تعالى أجوف من الرأس إلى السرة والباقة مصمت ! فخر لله ساجداً ثم قال (( سبحانك ، ما عرفوك ولا وحدوك ، فمن أجل ذلك وصفوك )) وقد دعا الإمام الصداق على هؤلاء المذكورين وعلى زرارة بن أعين فقال : أخزاهم الله . وروى الكلينى أيضاً عن على بن حمزة قال قلت لأبي عبد الله ( : سمعت هشام بن الحكم يروى عنكم أن الله جسم صمدى نورى معرفته ضرورية يمن بها على من يشاء من عباده . فقال : سبحان من لا يعلم أحد كيف هو ، ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ، ولا يحد ولا يحسن ولا يحيط به شئ ولا جسم ولا صورة ولا تخطيط ولا تحديد .(166/80)
ومنهم من كان منكراً لموت الإمام الصادق معتقدين بانه هو المهدى الموعود به وينكرون إمامة الأئمة الباقين . وأكثر رواة الإمامية كانوا واقفيه كما لا يخفى على من راجع أسماء رجالهم حيث يقولون في مواضع شتى : إن فلاناً كان من الواقفيه . فهاتان الفرقتان منكرتان لعدد الأئمة ...
--------------------------
( 1 ) تقدم ذكره في هامش ص 16 و 53 .
( 2 ) هو على بن مثيم أحد علمائهم في الكلام ويزعمون أنه اعرفهم باخبار الأئمة كان معاصراً للمأمون والمعتصم وسيأتى بعض كفره وإلحاده .
( 3 ) كانا حفيدين لقسيس نصراني أسمه سنسن في بلد الروم .
( 4 ) هو زكريا بن إبراهيم الحيرى الكوفي .
( 5 ) هو بنان التبان .. كان يقول في تفسير آية ( وهو الذى في السماء إله وفي الأرض إله ( إن إله الأرض غير إله السماء .
وتعيين أشخاصهم ، ومنكر الإمامة عند الشيعة كمنكر النبوة كافر ، ومع هذا يروى علماء الشيعة في صحاحهم .
ومنهم من لم يعلم إمام وقته وقضى عمره في التردد والتحير ، فدخل في هذا الوعيد (( من مات ولم يعرف إمام زمنه مات ميتة جاهلية )) كالحسن بن سماعة [ بن مهران ] وابن فضال وعمرو بن سعيد وغيرهم من رواة الأخبار .
ومنهم من أخترع الكذب وأصر على ذلك كأبي عمرو بن خرقة البصري ( 1 ) .
ومنهم من طرده الإمام جعفر الصادق عن مجلسه ثم لم يجوز له مجيئه إليه كابن مسكان ( 2 )
ومنهم من أقر بكذبه كابي بصير ( 3 ) .
ومنهم من كان من البدائية الغالية كدرام بن الحكم وزياد ابن الصلت وابن هلال الجهمي وزرارة بن سالم .
ومنهم من كان يكذب بعضهم بعضاً في الرواية كالهاشمين وصاحب الطاق والمثيمى .(166/81)
وأعلم أن جميع فرق الشيعة أخذ علومهم من أهل البيت ، وتنسب كل فرقة منهم إلى إمام أو أبن إمام ، ويروون عنهم أصول مذاهبهم وفروعه ، ومع ذلك يكذب بعضهم بعضاً ويضل أحدهم الآخر مع ما بينهم من التناقض في الأعتقادات ولا سيما في ألإمامة ، فذلك أوضح دليل واقوى برهان على كذب تلك الفرق كلها . وذلك لأن هذه الروايات المختلفة والأخبار المتناقضة لا يمكن ورودها من بيت واحد وإلا يلزم كذب بعضهم ، وقد قال تعالى ( لإنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ( وقد علم ايضاً من التواريخ وغيرها أن أهل البيت ولا سيما الأطهار من خيار خلق الله تعالى بعد النبيين وأفضل سائر عبداه المخلصين والمقتفين لآثار جدهم سيد المرسلين ، فلا يمكن صدور الكذب عنهم ، فعلم أنهم بريئون مما ترونه عنهم تلك الفرق المضلة بعضهم بعضاً ، بل قد وضعها كل فرقة من هذه الفرق ترويحاً لمذهبهم . ولذا وقع فيها التخالف . قال تعالى ( ولو كان من عند الله لوجدوا فيه أختلافاً كثيراً ( .
---------------------
( 1 ) هو محمد بن محمد بن النضر السكوني البصري عدة نحريرهم عبد النبي في كتابه (( حاوى الأقوال )) مرة في الضعفاء . ومرة في الثقات . ولما كان رجال الجرح والتعديل منهم لا يبالون بكذب رواتهم فغنهم يسكتون عن إعلان ضعف الضعيف بسبب كذبه لأن الكذب ليس عندهم من اسباب الحرج .
( 2 ) هو عبدالله بن مسكان الكوفي مولى عنزه . زعموا أنه كان لا يدخل على الإمام جعفر الصادق شفقة أن لا يوافيه حق إجلاله ! .(166/82)
( 3 ) في رجالهم أكثر من واحد كنيتهم (( أبو بصير )) منهم عبدالله بن محمد الأسدى وليث ابن البخترى المرادى . وقد قال علماؤهم في الحرج والتعديل : كان الإمام جعفر الصادق يتضجر من أبي بصير ليث بن البخترى ويتبرم ، وإصحابه مختلفون في شأنه . قال ابن الغضائرى الشيعي : وعندي أن الطعن وقع على دين ليث لأعلى حديثه ، وهو عندى ثقة ، قالوا : إن الطعن في دينه لا يوجب الطعن ! .
وأما الاختلاف الواقع عند أهل السنة فليس كذلك لوجهين :
الأول : أنه أختلاف اجتهادي ، فإنهم يعلمون من زمن الصحابة إلى زمن الفقهاء الأربعة أن كل عالم مجتهد ويجوز للمجتهد العمل برأيه المستنبط من دلائل الشرع فيما ليس فيه نص . وأختلاف الأراء طبيعي لنوع الإنسان ، وليس ذلك أختلاف الرواية حتى يدل على الكذب والآفتراء .
الثاني : أن أختلافهم كان في فروع الفقه لا في أصول الدين ، وأختلاف الفروع للأجتهاد جائز فلا يكون دليلاً لبطلان المذهب ، وذلك كاختلاف المجتهدين من الإمامية في المسائل الفقهية كطهارة الخمر ونجاسته وتجويز الوضوء بماء الورد وعدمه .(166/83)
ولننبهك على كيفية أخذ الشيعة من أهل البيت ، فأعلم أن الغلاة – وهم اقدم من جميع الفرق الشيعية واضلهم – قد أخذوا مذهبهم عن عبدالله بن سبا حيث موه عليهم قصداً لإضلالهم أنه أخذ ذلك عن الأمير كرم الله تعالى وجهه ، وزعمت المختارية والكيسانية أنهم قد أخذوه عن الأمير والمحسنين وعن محمد بن على وعن ابي هاشم ابنه ، والزيدية عن الأمير والحسنين ، وزين العابدين وزيد بن على ويحيى بن زيد ، والباقرية عن خمسة أعنى الأمير إلى الباقر ، والناووسية عن هؤلاء الخمسة والإمام الصادق ، والمباركة عن هؤلاء الستة وإسماعيل بن جعفر ، والقرامطة عن هؤلاء السبعة ومحمد بن إسماعيل ، والشميطية عن هؤلاء الثمانية ومحمد بن جعفر وموسى وعبد الله وإسحاق أبناء جعفر ، والمهدية عن أثنين وعشرين وهم كانوا يعتقدون أن جميع سلاطين مصر والمغرب الذين خلوا من نسل محمد الملقب بالمهدي ( 1 ) أئمة معصومون ، ويزعمون ان العلم المحيط بجميع الأشياء كان حاصلاً لهم ، وهؤلاء السلاطين أيضاً كانوا يدعون ذلك كما تشهد لذلك تواريخ مصر والمغرب . والنزارية عن ثمانية عشر أولهم أمير المؤمنين وآخرهم المستنصر بالله ، والإمامية الأثنا عشرية عن أثنى عشر أولهم الأمير وأخرهم الإمام محمد المهدي ( 2 ) ولا حد لعلمائهم في الكثرة ، وقدمائهم المشاهير سليم بن قيس الهلالي ، أبان [ بن تغلب ] وهشام بن سالم ، وصاحب الطاق ، أبو الأحوص [ داود ابن أسد ، وعلى بن منصور ، وعلى بن جعفر ، وبيان بن سمعان المكنى بأبي أحمد المشهور بالجزرى ، وابن أبي عمير [ محمد بن زياد الأزدى ] ، وعبد بن المغيرة [ البجلى ] ، والنصرى [ وأسمه الحارث بن المغيرة ] ، وأبو البصير ( 3 ) ، ومحمد بن حكيم ، ومحمد بن فرج الرخجي ، وإبراهيم [ بن سليمان ] الخزاز ،
-----------------------------(166/84)
( 1 ) انظر في هامش ص 18 تحقيق الدكتور برنارد لويس في كتابه (( أصول الإسماعيلية )) عن النكاح الروحاني والأبوة الروحانية وأن العبيديين سلالة المهدى ينتسبون إلى إسماعيل بالأبوة الروحانية ، لا بأبوة الدم الحقيقية .
( 2 ) الذى زعموا انه أختفى صغيراص في سرداب سامراء ويدعون الله بأن يعجل فرجه .
( 3 ) أنظر هامش ص 65 .
ومحمد بن الحسين ، وسليمان [ بن جعفر ] الجعفرى ، ومحمد بن مسلم [ الطحان ] ، وبكير بن أعين ، وزرارة بن أعين وعلي وهؤلاء الثلاثة بنو فضال وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي ، يونس بن عبد الرحمن القمي ، أيوب بن نوح [ النخعى ] ، وحسن بن العباس بن الحريش [ الرازى ] ، وأحمد بن أسحاق ، وجابر الجعفى ( 1 ) ، ومحمد بن جمهور العمى ، والحسين بن سعيد [ الأهوازى ] ، وعبدالله وعبيد الله ومحمد وعمران وعبد الأعلى كلهم بنو علي بن أبي شعبة وأولادهم وجدهم .
وأما المصنفون من الأثني عشرية فصاحب ( معالم الأصول ) فخر المحققين [ محمد بن الحسن ابن مطهر الحلى ] ، ومحمد بن على الطرازى ، ومحمد بن عمر الجعابى ، وابو الفتح محمد بن على الكراجكى و [ إبراهيم بن على ] الكفعمى ، وجلال الدين حسن بن أحمد شيخ الشيخ المقتول ، ومحمد بن الحسن الصفار ، وأمان بن بشر البغال ، وعبيد بن عبد الرحمن الخشعى ، وفضل بن شاذان القمى ، ومحمد بن يعقوب الكلينى الرازى ، وعلى [ بن الحسين ] بن بابويه القمى ، والحسين أبنه ايضاً .(166/85)
وهذا القمى غير القمى الذى أستشهد به الإمام البخارى في رواية حديث (( الشفاء في ثلاث : شرطه محجم ، وشربة عسل ، وكية بنار )) وذلك في كتاب الطب من صحيحه وقال : رواة القمى عن ليث عن مجاهد في سند الحديث . لأن بابويه القمى الرافضي من أهل القرن الرابع وليث من أهل القرن الثاني فلا يمكن أن يرى ليثاً ويروى عنه ، ولو حملنا كلمة (( رواه عن ليث )) على الإرسال بالواسطة دون الإتصال مع خلاف دأب البخارى ومتعارفه فكيف نستشهد به مع أنه متأخر عن البخارى بزمن طويل . ولنعم ما قيل في تاريخ ولادة البخارى رضي الله تعالى عنه ومدة عمره:
كان البخارى حافظاً ومحدثاً
ميلاده (( صدق 194 )) ومدة عمره
جمع الصحيح مكمل التحرير
فيها (( حميد 62 )) وأنقضى في (( نور 256 ))
وهذه جملة وقعت في البين لا تخلو عن فائدة :
ولنرجع إلى عد بقية مصنفيهم فمنهم : عبيد الله بن علي الحلبي ، وعلى بن مهزيار الهوازي ، وسلار [ حمزة بن عبدالعزيز اليلمى الطبرستاني ] ، وعلى بن إبراهيم [ بن هاشم ] القمى ، وابن براج [ عبدالعزيز بن تحرير ] ، وابن زهرة [ حمزة بن علي ] ، وابن أدريس المفترى على الشافعي المشهور ، والذى جرأه على ذلك مشاركته له في الكنية ، ومعين الدين المصرى ،
------------------------
( 1 ) أنظر أقوال ائمة السنة عنه في مقالتنا (( تسامح أهل السنة في الرواية عمن يخالفونهم في العقيدة )) بمجلة الأزهر م 24 ج 3 ربيع الأول 1372 ص 306 – 307 .(166/86)
وابن جنيد ، وحمزة أبو الصلاح ، وابن المشرعة الواسطى وابن عقيل والغضائرى والكشى والنجاشى والملاحيدر العاملى والبرقى ومحمد بن جرير الطبرى الآملى ( 1 ) وابن هشام الديلمى ، ورجب بن محمد بن رجب البرسى ، إلى غير ذلك مما هو مذكور في ( الترجمة العبقرية ) وكذا إن أردت أسماء كتبهم فراجعها . وأعلم أن جميع فنونهم في الكلام والعقائد والتفسير ونحوها مستعدة من كتب غيرهم والمعتمد من كتب أخبارهم الأصول الأربعة : أحدها ( الكافى ) المشهور بالكليني ، وثانيها ( من لا يحضر الفقيه ) وثالثها ( التهذيب ) ورابعها ( الاستبصار ) . وصرح علماؤهم بان العمل بكل ما في هذه الأربعة واجب ، وكذلك صرحوا بأن العمل برواية الإمامى الذى يكون دونه أصحاب الأخبار ايضاً واجب بهذا الشرط كما نص على ذلك أبو جعفر الطوسى والشريف المرتضى وفخر الدين الملقب بالمحقق الحلى ، مع أنه يوجد في تلك الكتب الأربعة من رواية المجسمة كالهشامين وصاحب الطاق ( 2 ) ، ورواية من أعتقد أن الله تعالى لم يكن عالماً في ألزل كزرارة
( 3 ) وأمثاله كالأحولين ( 4 ) وسليمان الجعفرى ، ورواية من كان فاسد المذهب ولم يكن معتقداً بإمام أصلاً كبنى فضال وابن مهران وغيرهم ، ورواية بعض الوضاعين الذين لم يخف حالهم على الشيعة كجعفر الأودى وابن عياش [ أحمد بن محمد الجوهرى ] وكتاب ( الكافي ) مملوء من رواية ابن عياش وهو بإجماع هذه الفرقة كان وضاعاً كذاباً . والعجيب من الشريف مع علمه بهذه الأمور كان يقول : إن إخبار فرقتنا وصلت إلى حد التواتر ، وأعجب من ذلك أن جمعاً من ثقاتهم رووا خبراص وحكموا عليه بالصحة ، وأخرين كذلك حكموا عليه بأنه موضوع مفترى ، وهذه الأخبار كلها في صحاحهم كما ان ابن بابويه حكم بوضع ما روى في تحريف القرآن وآياته ، ومع ذلك فتلك الروايات ثابتة في ( الكافى ) باسانيد صحيحة بزعمهم ، إلى غير ذلك من المفاسد ، والله سبحانه يحق الحق وهو يهدى السبيل .(166/87)
--------------------------
( 1 ) يلتبس على كثيرين اسم الإمام محمد بن جرير الطبرى الآملى باسم محمد بن جرير بن رستم الطبرى ، فالأول من أئمة السنة والثاني من الروافض ، وممن وقع في هذا الخطأ الحافظ أحمد بن على السليمانى ، ولعل السيد الألوسى أعتمد عليه فتابعه في خطاه .
( 2 ) تقدم التعريف بالهاشمين في ص 63 ، وصاحب الطاق في ص 15 – 16 و 53 .
( 3 ) هو زرارة بن اعين أخو بكير . أنظر ص 16 و 63 .
( 4 ) المعروفون بالأحوال من رجال الشيعة كثيرون منهم ابو سعيد الأحول ، وبكر ابن عيسى أبو زيد ألحول ، وجعفر بن محمد بن يونس الأحول الصيرفى مولى بجيلة ، وجعفر ابن يحيى بن سعيد الأحول ، وحبيب الأحول الخثعمى ، والحسين بن عبدالملك الأحول . بل ان الخبيث عدو الله شيطان الطاق كان يلقب بالأحول أيضاً .
الباب الثالث
في الألهيات – وفيها مطالب
... الأول أن النظر في معرفة الله تعالى واجب بالاتفاق ، ولكنه قد وقع الاختلاف في ان هذا الوجوب الوجوب هل هو عقلى أو شرعي ، فذهب الإمامية إلى الأول قائلين ما معناه : إنه فرض على كل مكلف بحكم العقل مع قطع النظر عن حكم الله تعالى ، وذلك بان يحكم العقل على كل مكلف أن يتفكر في صفات الله تعالى ويعرفه بتلك الصفات وجوباً . وذهب إلى الثاني أهل السنة قائلين : إن الوجوب شرعي ، بمعنى أن النظر في المقدمة غير واجب بدون حكم الله تعالى ، وليس للعقل حكم في امر من أمور الدين .(166/88)
ومذهب الإمامية مخالف أيضاً للكتاب والعترة : أما مخالفته للكتاب فلأنه قال : سبحانه
( إن الحكم إلا لله ( وقال ( ألا له الحكم ( وقال ( لا معقب لحكمه ( وقال تعالى ( يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ( وقال تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ( إذ لو كان أمراً واجباً بحكم العقل لوقع العذاب بترك ذلك الواجب قبل بعثة الرسل ، واللازم باطل فكذا الملزوم . وأما مخالفته للعترة فلأنه قد روى الكلينى في الكافى عن الإمام أبي عبدالله ( أنه قال : ليس لله على خلقه أن يعرفوه ، ولا للخلق على الله تعالى أن يعرفهم . فلو كانت المعرفة واجبة بحكم العقل لكانت معرفته تعالى واجبة على الخلق قبل تعريفه جل شأنه وهو خلاف قول الصادق .
واعلم أن تحقيق هذه المسالة وبيان الاختلاف الواقع فيها يتوقف على تحقيق مسألة الحسن والقبح والاختلاف الواقع فيها ، فلابد حينئذ من بيان ذلك .
فكل من الحسن والقبح يطلقان على ثلاثة معان : أحدهما كمال الشيء كالعلم ونقصانه الجهل .
وثانيهما ملائمة الطبع كالعدل والعطاء ومنافرته كالظلم والمنع ويقال لهما بهذا المعنى مصلحة ومفسدة .(166/89)
وثالثهما أستحقاق المدح والثواب والذم والعقاب عاجلاً وأجلاً . ولا نزاع لأحد في كونهما عقليين بالمعنيين الأولين ، وإنما النزاع في كونهما عقليين أو شرعيين بالمعنى الثالث فقط ، فقالت الأشاعرة : إن الحسن والقبح بهذا المعنى لا غير ، بمعنى أن الشرع مالم يرد بأن هذا الفعل حسن أى مستحق فاعله للمدح والثواب ، وذلك الفعل قبيح مستبدأ فاعله للذم والعقاب عاجلاً أو أجلاً ، لا يوصفان بالحسن والقبح ، إذ يحكم العقل مستبدأ على الأفعال بهما بهذا المعنى في خطاب الله ، لعدم كون الجهة المحسنة والمقبحة في افعال العباد عندهم مطلقاً ، لا لذاتها ولا لصفاتها ولا لاعتبارات فيها ، بل كل ما أمر به الشارع فهو حسن وكل ما نهى عنه فهو قبيح ، حتى لو أنعكس الحكم لا نعكس الحال كما في النسخ من الوجوب إلى الحرمة ، فليس للعقل حكم في حسن الفعال وقبحها ، وفي كون الفعل سبباً للثواب والعقاب ، بل إنما الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع فالأمر والنهي أمارة موجبة للحسن والقبح لا غير ، وتمسكوا على ذلك بوجوه .(166/90)
الأول أن الأفعال كلها سواء ليس شئ منها في نفسه يقتضى مدح فاعله وثوابه ولا ذم فاعله وعقابه ، لأن أقتضاءها لما ذكر إما أن يكون لذواتها ، أو لصفاتها ، أو لأعتبارات فيها انفراد وأجثماعاً ، تعيناً أو إطلاقاً . فهذه ثمانية أحتمالات حاضرة كلها باطلة : أما بطلان الأول فلأن فعلاً واحداً قد يتصف بالحسن والقبح معاً باعتبارين كلطم اليتيم ظلماً أو تأديباً والقتل حداً أو سفكاً . فلو كان هذا الاتصاف لذات الفعل فقط – كما هو المفروض في هذا الاحتمال – فإن كانت الذات مقتضية لهما معاً لزم صدور الأثرين المتضادين من مؤثر واحد واجتماع النقيضين ، أو لأحدهما مطلقاً لزم تخلف المعلول عن العلة الموجبة في الآخر ، وبالاطلاق تخلفهما جميعاً ورجحان بلا مرجح في الأقتضاء ، واللوازم كلها باطلة . وأما بطلان الثاني فلأنه إن كانت تلك الصفات لازمة للذات لزم إجتماع النقيضين مطلقاً ، والصدور والتخلف إن كانت العلة الموجبة لهما صفة واحدة فهو ظاهر ، وإن كانت من العرض المفارق فلأن عروضها إما لذات الفعل أو لصفة أخرى لها ، ولا سبيل إلى الثاني لبطلان الشبه ، وكذا إلى الأول لبطلان قيام العرض بالعرض ، أو لمجموعهما فينقل الكلام إلى عروض تلك الصفة الآخرى ، فحينئذ يلزم هاهنا ما يلزم ثمة . وأما بطلان الثالث فلأن الاعتبارات أمر عدمى ولا يكفى في العلية وجود المنشأ ، والحسن والقبح بالمعنى فيه من الوجوديات ، ولا يكون علة الوجودى اللاوجودى ، مع أن تضاف إليه تلك الإعتبارات أفعال أيضاً فحسنها وقبحها إن كان بالمعنى المتنازع فيه لزم الدور والتسلسل ، أو بمعنى غيره فلا يلزم سراية الحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه باعتباره في المضاف للتباين . وأما بطلان الاحتمالات الباقية فظاهر ، إذ فساد أجزاء المجموع كلها يستلزم فساده وفساد المعينات طرأ فساد المطلق ولا محالة بالضرورة . فقد تبين من هذا البيان أن الأفعال في نفسها لا أقتضاء لها ما ذكر(166/91)
مطلقاً ( 1 ) وإنما صارت كذلك بواسطة أمر الشارع بها ونهيه عنها ، كما أن الأعيان كانت في العدم فأختصاصها وتشخصاتها في الوجود بانحاء الحقائق والعوارض لا لذواتها ولا لعوارضها ولا لاعتبارات فيها بل لجاعلها وإرادته الأزلية المرجحة فقط ، على أن تعلق الثواب والعقاب بالأفعال أمر مجهول غير معقول المعنى .
الثاني : أن الثواب والعقاب ليسا بواجبين على الله تعالى ، بل هما تفضل ورحمة وعدل
----------------------------
( 1 ) أى لا تقتضى مدح فاعلها أو ذمه مطلقاً .
وحكمة ، فلو كانت الافعال تقتضى الحسن والقبح لذاتها أو لجهة واتعبار فيها لكانا واجبين وقد بين بطلان اللازم .
الثالث : أن العبد غير مستبد في إيجاد فعله ، بل أفعاله مخلوقة لله تعالى كما بينت ، فلا يحكم العقل بالاستقلال على ترتب الثواب والعقاب عليها .(166/92)
الرابع : أنه لو كان حسن الفعل وقبحه عقليين للزم تعذيب تارك الواجب ومرتكب الحرام سواء ورد به الشرع أم لا ، واللازم باطل لقوله تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( ولقوله تعالى ( وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في امها رسولاً يتلو عليهم آياتنا ( وكذا عدم الحجة للناس على الله تعالى ، وكذا لزم عدم بقاء العذر قبل بعث الأنبياء ، ولزم اللغو أيضاً في سؤال الرب والملائكة عبادة الكفار في الاخرة تبكيتا وإفحاماً عن مجئ الرسل . واللوازم كلها باطلة بقوله تعالى ( رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ( ،
( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ( ( ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ( ، ( يا معشر الجن والإنس ألو يأتكم رسل منكم يقضون عليكم آياتى وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا ( الآية ( كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم ياتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير ( الآية ( وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ( الآية . على أن قوله تعالى ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها
غافلون ( بعد قوله ( يا معشر الجن والإنس ( الآية يدل بالصراحة على ان أهل القرى قبل إرسال الرسل يكونون غافلين وإهلاكهم تعذيباً يكون ظلماً ، فلو كان حسن الأفعال وقبحها عقليين وكان النظر في معرفته واجباً عقلاً لما صح ذلك القول أصلاً كما لا يخفى . ولا يمكن تعميم الرسل في هذه الآية حتى يشمل العقل ايضاً بالضرورة ، ألا ترى أن التلاوة والقصة لأيات الله لا يصح إسنادها إلى العقل أصلاً ومع هذا فإن (( الرسول )) في اللغة هو المبلغ لكلام أو كتاب من أحد إلى آخر ، وفي الشرع(166/93)
هو إنسان بعثه الله تعالى إلى الخلق ليدعوهم إليه بشريعة مجددة ، وهما معناه الحقيقى – اللغوى والمفهوم الشرعي – ولم يثبت أصلاً استعماله في العقل لا لغة ولا شرعاً حتى يقال بعموم المجاز ، وإنما هو أختراع بعض المتكلمين من المعتزلة لتأييد مذهبهم . وأيضاً كان العقل للكفار حاصلاً في الدنيا ، فكيف يصح أعتذارهم بعدم إرسال الرسل في الآخرة .
فثبت بهذه الوجوه أن الحسن والقبح ليسا إلا شرعيين ، ولا يستقبل العقل في إدراكهما بدون الشرع قطعاً . قالت المعتزلة ومن تبعهم : إن الحسن والقبح عقليان بمعنى أن الأفعال في نفسها – مع قطع النظر عن الشرع – فيها جهة حسن أو قبح تقتضى مدح فاعله وثوابه أو ذمه وعقابه ، لكن تلك الجهة قد تدرك بالضرورة كحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار ، وقد تدرك بالنظر كسحن الصدق الضار وقبح الكذب النافع مثلاً ، وقد لا يدركها العقل بنفسه – لا بالضرورة – بالنظر إلا إذا ورد الشرع به ، فإذن يعلم أن فيها جهة محسنة أو مقبحة كما في صوم اليوم الآخر من رمضان وصوم يوم العيد فإدراك الحسن والقبح في هذا القسم موقوف على كشف الشرع عنهما بالأمر والنهي ، وأما انكشافهما بالقسمين الأولين فهو محض حكم العقل بدون توقفه على الشرع . ثم أختلفوا بينهم فقال المتقدمون منهم : إن حسن الأفعال وقبحها لذواتها فقط ، وقال بعض المتأخرين منهم : إنما لصفة زائدة على الذات دونها ، وبعضهم قالوا : إن جهة القبح في القبيح مقتضية لقبحه دون الحسن ، إذ لا حاجة إلى صفة توجب الحسن بل يكفيه أنتفاء صفة موجبة للقبح ، وقال الجبائي وأتباعه : ليس حسن الأفعال وقبحها لذواتها ولا لصفات حقيقية بل لاعتبارات وأوصاف إضافية تختلف بحسب الاعتبار كما في لطم اليتيم للتأديب أو الظلم . وقال بعض اتباع المعتزلة إنهما للمطلق الأعم ، وأستدلوا على ذلك بوجوه : ( الأول ) أن حسن مثل العدل والإحسان وقبح مثل الظلم والكفران مما اتفق عليه العقلاء حتى(166/94)
الكفار كالبراهمة والدهرية وغيرهما حتى أنهم يستقبحون ذبح الحيوانات بانه إيلام ، فلولا أنه ذاتى للفعل بحيث يعلم بالعقل لما كان كذلك . وأجيب عنه بأن هذا غير متنازع فيه ، لأنه من قسم الحسن والقبح اللذين هما بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته وهو ليس بمتنازع فيه ، والمتنازع فيه هو بمعنى تعلق الثواب والمدح والعقاب والذم وهو غير لازم من الدليل ، فالتقريب غير تام .
( الثاني ) أن من تساوى في تحصيل غرضه الصدق والكذب بحيث لا مرجح بينهما ولا علم باستقرار الشرع على تحسين الصدق وتقبيح الكذب فإنه يؤثر الصدق قطعاً بلا تردد وتوقف ، فلولا أن حسنه مركوز في عقله لما أختاره كذلك . وكذا إنقاذ من اشرف على الهلاك حيث لا يتصور للمنقذ نفع ولا غرض ولو مدحاً وثناء كالمجنون والصبي وليس ثمة من يراه . والجواب عنه بأن إيثار الصدق فيه لتقرر كونه ملائماً في النفوس لغرضه العامة ومصلحة العالم وكون الكذب عكس ذلك ، ولا يلزم من فرض التساوى تحققه ، فإيثاره الصدق لملائمته تلك المصلحة لا لكونه حسنا في نفسه ، فلو فرضنا الاستواء من كل وجه فإيثار الصدق قطعا ممنوع ، وإنما القطع بذلك عند الفرض والتقدير بتوهم أنه قطع عند وقوع المقدر المفروض ، والفرق بينهما بين . وأما إنقاذ الهالك فلرقة الجنسية المجبولة في الطبيعة ، فكأنه يتصور تلك الحالة لنفسه فيجره استحسان ذلك الفعل من غيره في حق نفسه إلى أستحسانه من نفسه في حق غيره ، وبالجملة لا نسلم أن إيثار الصدق عند من لم يعلم استقرار الشرائع على حسنها إنما هو لحسنهما عند الله تعالى على ما هو المتنازع فيه بل لأمر آخر .(166/95)
( الثالث ) أنه لو كانا شرعيين لكانت الصلاة والزنا متساويين في نفس الأمر قبل بعثة الرسول فجعل أحدهما واجباً والآخر حراماً ليس أولى من العكس ، بل ترجيح من غير مرجح ومناف لحكمه الآمر وهو حكيم قطعاً . والجواب عنه بان الأفعال قد بين سابقاً تساويها في نفس الأمر بعدم الأقتضاء قبل ورود الشرع بدليل واضح ، فبطلان اللازم ممنوع ، ثم جعل بعضها واجب وبعضها حرام لحكم ومصالح من الآمر الحكيم ، فالأولوية ترجع إلى تلك الحكم والمصالح بعد ورود الشرع بالوجوب ، لا للأفعال مطلقاً من عدم أقتضائها تلك الأولوية ، والإرادة الأزلية مرجحة بعض الأفعال ببعض الصفات وبعضها ببعض ، كما أنها مرجحة لتخصيص الأعيان بالحقائق والعوارض المخصوصة من غير أقتضاء ذواتها لها ، وإنما يلزم المنافاة لحكمة الآمر الحكيم إذا لم يكن في ذلك التخصيص مراعاة للمصلحة والحكمة وهو باطل بالاتفاق ، فالترجيح بعير مرجح ، والمنافاة للحكمة ممنوع ايضاً لما ذكرنا .(166/96)
( الرابع ) أنه لو كانا شرعيين لكان إرسال الرسل بلاء وفتنة لا رحمة ، لأنهم كانوا قبل ذلك في رفاهية لعدم صحة المؤاخذة بشئ مما يستلذه الإنسان ، ثم بعد مجئ الرسل صاروا ببعض تلك الأفاعيل في عذاب ابدى ، فأية فائدة في إرسال الرسل إلى التضييق وعذاب عبادة فصار بلاء ، هذا خلف ، لأنه رحمة يمن الله به على عباده في كثير من مواضع تنزيله . والجواب عنه اولا بالنقض بأنه لو تم دليلكم فكانا عقليين لكان العقل ايضاً بلاء وقتنة لا نعمة ورحمة ولو باعتبار بعض الأفعال كالشرك وكفران النعمة ، لأن المجنون والصبي في رفاهية لعدم صحة مؤاخذتهم بشئ مما يفعلونه ، ثم بعد حصول العقل لهم يصيرون في عذاب أبدى ببعض تلك الافاعيل ، فأية فائدة في إعطائهم إلا افهلاك والتعذيب ، فصار العقل بلاء على الإنسان ، هذا خلف ، لأن الله تعالى يمن بإعطائه على عباده في تنزيله حيث قال ( والله أخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ( و ( قل هو الذى أنشاكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون ( و ( علم الإنسان مالم يعلم ( وغيرها من الأيات ، فما هو جوابكم عن هذا فهو جوابنا عن ذلك .
ثانياً بالمعارضة بأنه لو لم يكونا شرعيين لكان إرسال الرسل عبثاً باعتبار بعض الأفعال الذى هو أعظم قدراً وأشد خطرا ، وكان الأنبياء يدعون الناس أولاً إلى فعله وتركه لأن العقل مستبداص في إدراك حسن بعض الأفعال كالإيمان وقبح بعضها كالكفر بالضرورة أو بالنظر على هذا التقدير لا محالة ، والعاقل يمكنه العمل بما يقتصيه عقله بل يجب فلا فائدة معتداً بها في إرسال الرسل إلا في بعض الأفعال التعبدية .(166/97)
ثالثاً : بمنع بطلان اللازم كو إرسال الرسل بلاء وفتنة وهو باعتبار مشاق التكاليف لا ينافى كونه رحمة من وجه آخر باعتبار تهذيب النفس وإصلاح المعاد والمعاش بما قال الله تعالى ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ( لأن تلك الكلمات وهي الخصال الثلاثون المحمودة المذكورة في سورة براءة والمؤمنين والأحزاب مع كونها رحمة وقع البلاء بها وبما قال الله تعالى ( وبلوناهم بالحسنات والسيئات ( أى بالنعم والنقم ( لعلهم يرجعون ( إذ لو كان المنافاة بين البلاء والحسن لما صح أبتلاؤهم بالحسنات .
ورابعاً بمنع الملازمة لأن ماذكر من صيرورة بعض العباد بعذاب أبدى بعد مجئ الرسل إنما هو لتركهم اتباعهم دون الإرسال وهو شرط لتحقيق نفس الترك لا موجب له ، وإذا وجد الترك صار نقمة وبلاء عليهم لا الإرسال ، إذ لا يلزم أن يتصف الإرسال بصفة مشروطة بل هو باق على صفة الرحمة التى هي محط أمتنانه تعالى به على عباده ، ومع هذا يرد عليهم قوله تعالى لنبيه ( ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من امرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ( يعنى قبل الوحي ، ولو كان الأفعال وقبحها بالمعنى المتنازع فيه مدركا بالعقل قبل ورود الشرع لكان الرسول أحق وأولى بإدراكه ، وما كان يصح نفى درايته عنه بالعقل قبل الوحي لأنه أعقل الناس ، إذ الإيمان بمعنى الشرائع وهي مستلزمة للحسن والقبح المتنازع فيه بحيث لا يوجدان بذلك إلا معها بالضرورة ، ونفي دراية الملزوم مستلزمة لنفي دراية اللازم المساوى ، فقد تبين للمنصف مما ذكرنا فساد شبهاتهم التى اتخذوها دلائل ، وأن الحسن والقبح بذلك المعنى ليسا إلا شرعيين وهو المطلوب .
ولما ثبت كون الأفعال وقبحها شرعيا وكان شكر المنعم من جملة تلك الأفعال ولا يمكن شكره إلا بمعرفته ولا تحصل المعرفة إلا بالنظر صار في معرفة المنعم واجباً شرعياً عند من قال بشرعية الحسن والقبح وهو الحق أو عقلياً عند من قال بعقلية الحسن والقبح .(166/98)
واعلم أن علماء الأصول أختلفوا في اول ما يجب على المكلف . فقال الإمام الأشعري : هي معرفة الله تعالى إذ يتفرغ وجوب الواجبات وحرمة المنهيات . وقال المعتزلة والأستاذ منا : هو النظر فيها إذ هي موقوفة عليه ، ومقدمة الواجب المطلق أيضاً واجبة ، وقيل هي الجزء الأول من النظر أى الحركة من المطالب إلى المبادئ . وقال إمام الحرمين والقاضي أبو بكر وابن فورك : هو المقصد إلى النظر لتوقف الأفعال الاختيارية وأجزائها على القصد ، والنظر فعل اختياري .
ثم أعلم أن النظر في معرفة الله تعالى واجب شرعاً عند الأشاعرة لقوله تعالى ( فأنظروا إلى آثار رحمة الله ( و ( قل أنظروا ماذا في السماوات والأرض ( ولقوله ( (( تفكروا في آلاء الله )) والأمر هاهنا للوجوب لقوله ( حين نزلت آية ( إن في خلق السماوات والأرض وأختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب ( الآية : (( ويل لمن لاكها بين لحييه ولم يتفكر فيها )) فإنه ( أوعد بترك الفكر في دلائل معرفة الله تعالى ، ولا وعيد على ترك غير الواجب . وأيضاً أن معرفة الله تعالى واجبة إجماعاً ، وهي لا تتم إلا بالنظر وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب أيضاً كوجوبه . وعند المعتزلة واجب عقلا لأن شكر المنعم واجب عقلاً عندهم وهو موقوف على معرفة الله المنعم ، ومقدمة الواجب المطلق واجبة أيضاً هذا بناء على قولهم بكون الحسن والقبح عقليين كما عرفت آنفاً .(166/99)
وأحتجت المعتزلة على كونه واجباً عقلاً بانه لو لم يجب النظر إلا بالشرع يلزم منه إفحام الأنبياء وعجزهم عن إثبات نبوتهم في مقام المناظرة ، إذ يجوز للمكلف حينئذ أن يقول إذا أمره النبي بالنظر في معجزة وغيرها مما تتوقف عليه نبوته ليظهر له صدق دعواه : لا أنظر مالم يجب النظر على ، ولا يجب النظر على ما لم يثبت الشرع عندى ، إذ المفروض عدم الوجوب غلا به ، ولا يثبت الشرع على الآخر وهو دور محال ، ويكون كلامه هذا حقا لا قدرة للنبي على دفعه ، وهو معنى إفحامه . وأجيب عنه أولاً بالنقض بان ما ذكرتم مشترك بين الوجوب الشرعي والعقلي معاً ، فما هو جوابكم فهو جوابنا . وبيان الآشتراك أن النظر لو وجب بالعقل لوجب بالنظر لأن وجوبه ليس معلوماً بالضرورة بل بالنظر فيه والاستدلال عليه بمقدمات مفتقرة إلى أنظار دقيقة من ان المعرفة واجبة وأنها لا تتم إلا بالنظر وان مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فيصح للمكلف ان يقول حيئذ أيضاً : لا أنظر اصلا مالم يجب على النظر ، ولا يجب مالم انظر فيلزم الدور المحذور . لا يقال قد يكون وجوب النظر فطرى القياس بأن يضع النبي للمكلف مقدمات ينساق ذهنه إليها بلا تكليف وتفيده العلم بذلك ضرورة ، لأنا نقول : كونه فطرى القياس مع توقفه على ما ذكرتموه من المقدمات الدقيقة الأنظار باطل قطعا ، ولو سلمناه بأن يكون هناك دليل آخر ولكن لا يجوز للمكلف أن لا يصغي إلى كلام النبي الذى أراد به التنبيه ولا يستمع به ولا ياثم بترك النظر والاستماع ، إذ لم يثبت بعد وجوب شئ أصلاً فلا يمكن الدعوة وإثبات النبوة وهو المراد بالإفحام . وثانياً بالحل بأن قوله (( لا يجب النظر على مالم يثبت الشرع عندى )) إنما يصح إذا كان الوجوب المستفاد من العلم بثبوت الشرع ولكنه لا يتوقف ، كذلك العلم بالوجوب متوقف على نفس الوجوب ، لأن العلم بثبوت شئ فرع لثبوته في نفسه فإنه إذا لم يثبت في نفسه كان اعتقاد ثبوته جهلاً مركباً لا(166/100)
علماً ، قد توقف الوجوب على العلم بالوجوب لزم الدور ، وأن لا يجب شئ على الكافر أيضاً ، فليس الوجوب في نفس الأمر موقوفاً على العلم بالوجوب بل تقول : الوجوب في نفس الأمر يتوقف على ثبوت الشرع في نفس الآمر ،و الشرع ثابت في نفس الامر علم مكلف ثبوته ونظر فيه اولاً ، وكذلك الوجوب ، ولا يلزم من هذا تكليف الغافل لأن الغافل إنما هو من لم يتصور التكليف لا من لم يصدق به ، فإن قال المكلف : وما أعرف الوجوب في نفس الأمر ، وما لم أعرفه لم أنظر ، قلنا : ماذا تريد بالوجوب ؟ فإن قال : أريد به ما يكون ترك ما اتصف به إثماً وفعله ثواباً ، قلنا له : فقد ثبت الشرع حيث قلت بالثواب و الإثم فبطل قولك ما أعرف الوجوب بقولك ، فأندفع الإفحام . وإن قال : أردت به ما يكون ترك ما أتصف به قبيحاً لا يستحسنه العقلاء ، ويترتب عليه المفسدة ، قلنا له : فأنت تعرف الوجوب إذا رجعت إلى عقلك وتأملت فيه به ، إذ يعرف كل عاقل قبح ترك ما اتصف به ومفسدته ، فبطل قولك (( لم أنظر مالم أعرف الوجوب )) وأندفع الإفحام . وليس فيه لزوم القول بالحسن والقبح العقليين لأنهما ليسا هاهنا بالمعنى المتنازع فيه بل بالمعنى المتفق عليه كما لا يخفى ، وإذا عرفت ما حققنا عرفت أن ما قال الأشاعرة هو الحق .(166/101)
ثم أعلم ان الماتريدية من اهل السنة وافقوا أهل الأعتزال في هاتين المسألتين ، وكذا الروافض مقتفون على آثارهم في ذلك ، ولكن الفرق بين الماتريدية وبين هاتين الفرقتين الضالتين أن الماتريدية لا يستلزم عندهم كون الحسن والقبح عقلياً حكماً من الله تعالى في العبد ، بل يصير موجبا لاستحقاق الحكم من الحكيم الذى لا يرجح المرجوح ، فالحاكم هو الله تعالى فقط ، والكاشف هو الشرع ، فما لم يحكم الله تعالى بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ليس هناك حكم أصلاً فلا يعاقب أهل زمان الفترة لترك الأحكام ، بخلاف المعتزلة والإمامية خذلهم الله تعالى ، فإن كلا من الحسن والقبح يوجب الحكم عندهم من الله تعالى ، فلولا الشرع وكانت الأفعال بإيجاد الله تعالى لوجبت كما فصلت في الشريعة .
الثاني منها ( 1 ) أن الله تعالى حي بالحياة وعالم بالعلم وقادر بالقدرة ، وعلى هذا القياس صفته ثابتة له كما تطلق الأسماء على الذات . وقال الإمامية كلهم : ليس لله تعالى صفات أصلاً ، ولكن تطلق على ذاته تعالى الأسماء المشتقة من تلك الصفات فيجوز أن يقال إن الله تعالى حي وسميع وبصير وقدير وقوى ونحو ذلك ، ويمتنع أن يقال أن له حياة وعلماً وقدرة وسمعاً وبصراً ونحوها ، وأنت خبير أن عقيدتهم هذه مع كونها خلاف المعقول لأن إطلاق المشتق على ذات لا يصح بدون قيام مبدئه بها ، إذ الضارب إنما يطلق على ذات قام الضرب بها ، وبدون قيامه لا
-----------------------
( 1 ) أى من مطالب الإلهيات التى تقدم أولها في ص 70 .(166/102)
يحمل المشتق ولا يطلق مخالفة للثقلين أيضاً ( 1 ) أما الكتاب فيثبت في آياته الكثيرة هذه الصفات له تعالى كقوله تعالى ( ولا يحيطون بشئ من علمه ( وقوله تعالى ( أنزله بعلمه ( وقوله تعالى ( وسعت كل شئ رحمة وعلماً ( وقوله تعالى ( يريدن أن يبدلوا كلام الله ( - وأما المعتزلة فلما ذكر في نهج البلاغة في خطب الأمير في اكثر المواضع من هذه الصفات مثل (( عزت قدرته ، ووسع سمعه الأصوات )) وعن الأئمة الآخرين مروى بالتواتر إثبات هذه الصفات له تعالى.
... الثالث منها صفاته تعالى الذاتية قديمة لم يزل موصوفاً بها ، قال زرارة بن أعين وبكير ابن أعين وسليمان ومحمد بن مسلم الذين هم كانوا قدوة الإمامية ورواة أخبارهم : إن الله تعالى لم يكن عالماً في الأزل ولا سميعاً ولا بصيراً حتى خلق لنفسه علماً وسمعاً وبصراً كما خلقها لبعض المخلوقات فصار عالماً وسميعاً وبصيراً ، ومخالفة هذه العقيدة لكتاب الله أظهر من الشمس ، فإنه وقع في كثير من مواضعه ( وكان الله عليماً حكيماً – وعزيزاً حكيماً – وسميعاً بصيراً ( ونحوها.
وأما مخالفتها للعترة الطاهرة فلما رواه الكلينى عن أبي جعفر ( أنه قال : كان الله ولم يكن شئ غيره ولم يزل عالماً .
وروى الكلينى وجمع آخرون من الإمامية عليهم السلام أنهم كانوا يقولون : إن الله سبحانه لم يزل عالماً سميعاً بصيراً .
ومع هذا يرد عليهم أن يكون الله محلاً للحوادث وهو باطل بالضرورة .
الرابع منها أن الله تعالى قادر على كل شئ ، خالف الشيخ أبو جعفر الطوسى والشريف المرتضى وجمع كثير من الإمامية في ذلك ، فإنهم قالوا : إن الله لا يقدر على عين مقدور العبد . ويكذبهم قوله تعالى ( والله على كل شئ قدير ( وهو كاف لتكذيبهم .(166/103)
الخامس منها أن الله تعالى عالم بكل شئ قبل وجوده ، وهذا هو معنى التقدير ، يعنى أن كل شئ في علمه مقدر وكل شئ عنده بمقدار ، بأن يكون كذا وكذا ويوجد في وقته على وقفه . قالت الشيطانية – وهم أتباع شيطان الطاق ( 2 ) - : إنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل كونها ، وجماعة من الأثني عشرية من متقدميهم ومتأخريهم منهم المقداد ( 3 ) صاحب ( كنز العرفان ) قالوا : إن الله لا يعرف الجزئيات قبل وقوعها . وهذه العقيدة مخالفة للقرآن ، قال تعالى ( لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ( وقال ( والله بكل
---------------------------
( 1 ) أى كتاب الله وما عليه أهل بيت رسوله .
( 2 ) أنظر ص 16 .
( 3 ) ابن عبدالله السيورى من القرن التاسع مترجم في روضات الجنات .(166/104)
شئ عليم ( وقال ( قد أحاط بكل شئ علماً ( وقال ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ( وقال ( إنا كل شئ خلقناه ( وقال ( جعل الله الكعبة البيت الحرام – إلى قوله – ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ( يعنى أن الله جعل الكعبة والشهر الحرام والهدى والقلائد شعائره ليجلب إليكم مصالحكم ويدفع عنكم مضاربكم ، وتلك المصالح معلومة له قبل وقوعها . وقال ( ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلا في كتاب مبين ( وأخبر بوقعة الروم وفارس قبل وقوعها بقوله : ( آلم غلبت الروم في ادنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ( وقد أخبر الله رسوله بالوقائع الجزئية الماضية والآتية والحاضرة في زمن الوحى وأخباراً كثيرة في التنزيل ، ومن يطلع عليها لا يشك فيها أصلاً ، وفيه كثير من الإخبار بأحوال الجنة والنار ومكالمتهم كقوله تعالى ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار – إلى قوله – ونادى أصحاب النار أصحاب الحنة ( وقد وصل بالتواتر عن النبي ( وأهل البيت أنهم أخبروا بالوقائع والفتن الأتية ، وظاهر أن علمهم كان مأخوذاً من وحي الله وإلهامه .
وما يتمسك هؤلاء القائلون من القرآن المجيد بالآيات الدالة على حدوث علم الله عند حدوث الأشياء كقوله ( ويعلم الصابرين ( وأمثال ذلك ، أ, الدالة على الأختيار كقوله ( وليبلوكم قبل آتكم – ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ( ففاسد ، إذ المراد من هذا العلم كشف حالهم وتمييزها في الخارج لا المعنى الحقيقى .(166/105)
وأما المخالفة للعترة فلما روى أهل السنة والشيعة عن أمير المؤمنين أنه قال (( والله لم يجهل ولم يتعلم ، أحاط بالأشياء علماً فلم يزدد بكونها علماً ، علمه بها قبل أن يكونها كعلمه بها بعد تكوينها )) وروى على ابن إبراهيم ( 1 ) القمى من الأثنى عشرية عن منصور بن حازم عن ابي عبد الله ( قال : سألته هل يكون شئ اليوم لم يكن في علم الله بالأمس ؟ قال : لا ، من قال هذا فأخزاه الله . قلت : أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله بالأمس ؟ قال : بلى ، قبل أن يخلق الخلق . إلى غير ذلك من صحاح الأخبار .
السادس منها أن القرآن المجيد هو كلام الله ولم يتطرق إليه تحريف ولا تبديل ولا تغيير ولا زيادة ولا نقصان قط ولم يكن لهذه الأمور إليه من سبيل أبداً . وقالت الأثنا عشرية ما هو موجود اليوم في أيدى المسلمين محرف ومبدل ومزاد فيه ومحذوف منه ، وقد تقدم في ذلك ( 2 ) وقد خالفوا في عقيدتهم هذه قول الله تعالى ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ( وقال تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( وكل ما يكون الله حافظاً له كيف
-----------------------
( 1 ) ابن هاشم . له ترجمة في تنقيح المقال .
( 2 ) في ص 30 .(166/106)
يمكن تبديله وتغييره ؟ أيضاً تبليغ القرآن كما كان ينزل كان واجباً على النبي ( لقوله تعالى ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ( ومعلوم باليقين أن من كان أسلم في عهده ( أشتغل أولاً بتعليم القرآن ثم بتعليمه حتى حفظه في عهده ألوف من الرجال ، ثم من بعد ذلك المسلمون في جميع البلاد والقرى مشغولون بتلاوته آناء الليل وأطراف النهار في الصلاة وخارجها ، لعلمهم بأنها أعظم القربات ، ويعلمونه للأطفال قبل تعليم كل شئ ، فإذا كان كذلك فكيف يتصور في القرآن تغيير وتبديل لا يشعر به المشتغلون فيه ! أما مخالفة هذه العقيدة للعترة ففي كل روايات الإمامية مذكور أن أئمة أهل البيت كلهم يقرأون هذا القرآن ويتمسكون بعامه وخاصه ويوردونه أستشهاداً ويفسرونه والتفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكرى إنما هو لهذا القرآن ، ويعلمونه أولادهم وخدامهم وأهلهم ويأمرونهم بتلاوته في الصلاة ، ومن ثمة قد أنكر شيخهم ابن بابويه في كتاب أعتقاداته هذه العقيدة وتبرأ منها .(166/107)
... السابع : منها أن الله تعالى مريد وإرادته أزلية ، وما أراد وجوده في الأزل وجعله معيناً في وقته فيما لا يزال لا يمكن التقدم والتأخر فيه أبداً ، فكل شئ يوجد البتة في وقته بوفق تلك الإرادة ، ويعتقد الإمامية أن إرادته تعالى حادثة . وأيضاً يقولون إن إرادته ليست عامة لجميع الكائنات ، فإن كثيراً من الموجودات يوجد بلا إرادته كالشرور والمعاصي والفسوق والكفر ونحوها ، وهذه العقدية يردها آيات كثيرة من الكتاب ، منها قوله تعالى ( ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ( أى فلو أراد إيمانهم لزم التناقض ، وقوله ( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً ( الآية . وقوله ( إن كان الله يريد أن يغويكم ( وقوله ( إنما يريد الله أن يعذبهم في الدنيا ( وقوله ( وإذا أردنا أن نهلك قرية ( الآية وقوله ( من يشإ الله يضلله ( وقوله ( وأعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ( وغيرها من الآيات . وكذلك يكذب هذه العقيدة أقوال العترة أيضاً : روى الكلينى عن محمد بن أبي بصير قال : قلت لأبي الحسن الرضا إن بعض أصحابنا يقول بالجبر وبعضهم يقول بالاستطاعة ، فقال لى : أكتب (( بسم الله الرحمن الرحيم . قال على بن الحسين قال الله تعالى بمشيئتى كنت أنت )) إلى آخر الحديث . وروى الكلينى عن سليمان بن خالد عن أبي عبدالله ( : إن الله تعالى إذا أراد بعبد خيراً نكت في قلبه نكتة من نور وفتح مسامع قلبه ، ووكل به ملكاً يسدده ، وإذا أراد الله بعبد سوءاً نكت في قلبه نكتة سوداء وسد مسامع قلبه ووكل به شيطاناً يضله ، ثم تلا قوله تعالى ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً ( وروى الكلينى وصاحب المحاسن ( 1 ) عن على إبراهيم الهاشمي قال : سمعت أبا الحسن موسى ( يقول : لا يكون شئ إلا ما شاء اله وأراد العبد . وروى الكلينى عن الفتح بن يزيد الجرجانى ( 2 ) عن أبي(166/108)
الحسن ما ينص على أن إرادة العبد لا تغلب إرادة الله سواء كانت إرادة عزم أو إرادة حتم .
وأيضاً روى الكلينى عن ثابت بن عبد الله عن أبي عبد الله ( ما ينص على أن الله تعالى يريد صلالة بعض عباده إرداة حتم ، وروى عن ثابت عن سعيد مثل ذلك . ولهذا الأصل فروع كثيرة : منها ما يقول الإمامية قاطبة أن البارى لا يأمر إلا بما يريده ولا ينهي إلا عما لا يريده .
... وهذا أيضاً مخالف للثقلين : أما الكتاب فقوله تعالى ( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله أنبعاثهم فثبطهم وقيل أقعدوا مع القاعدين ( فعلم أن إرادة خروج هذه الجماعة لم تكن له تعالى لأن الكراهة ضد الإرادة وهم كانوا مأمورين بالخروج بلا شبهة وإلا فلا وجه للملائمة والعتاب عليهم ، وقوله تعالى ( يريد الله أن لا يجعل لهم حظاً في الآخرة ( وقد كانوا مأمورين بالإيمان . ويوجد في القرآن ما يدل على عدم مشيئته تعالى بإيمان الكفار من الآيات قدر مائة أو أزيد ، ومع ذلك كانوا مأمورين بالإيمان . وأما العترة فقد تواتر عنهم بروايات الشيعة ما يضاد ذلك بحيث لا مجال فيه للتأويل ولا للإنكار ، فمن ذلك ما روى البرقى في المحاسن والكلينى في الكافى عن على بن إبراهيم وقد سبق نقله قريباً ( 3 ) .
... ومنها ما رواه الكلينى عن الحسن بن عبد الرحمن الحمانى عن أبي الحسن موسى بن جعفر أنه قال : إنما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته .
ومنها ما رواه الكلينى وغيره عن عبدالله بن سنان عن أبي عبد الله أنه قال : أمر الله ولم يشأ وشاه ولم يأمر ، أمر إبليس بالسجود لآدم وشاء أن لا يسجد ولو شاء لسجد ، ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل ولو لم يشأ لم يأكل .(166/109)
ومن تلك الفروع قول الإمامية ، إنه لا يقع بعض مراد الله تعالى ويقع مرادات الشيطان وغيره من الكفار ، وأهل السنة يقولون : لا تتحرك ذرة إلا بإذن الله ولا تتقدم إرادة احد مخالفة لإرادة الله تعالى ، ولا يقع مراد غيره بدون إرادته أصلاً بل ما يشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ( وما تشائون إلا أن يشاء الله ( . ومذهب الإمامية مأخوذ من زندقة المجوس ، فإنهم قائلون بالأثنين أحدهما خالق الشرور ويسمونه أهرمن والآخر خالق الخيرات ويسمونه يزدان ، ويسندون إليهما توزيعاُ وقائع العالم ، وقد يعتقدون ان أحدهما غالب على الآخر مغلوب ، تعالى الله عن ذلك
-----------------------------
( 1 ) هو البرقى . أنظر ص 94 .
( 2 ) له ترجمة في تنقيح المقال وكتبهم الأخرى في الرجال .
( 3 ) في ص 84 . وأنظر ص 94 .
علواً كبيراً . ومنها ما يقول هؤلاء المذكورون أن الله تعالى يردي شيئاً يعلم أنه لا يقع . وهذا الاعتقاد الشنيع مستلزم للسفه في حضرته تعالى عما يقول الظالمون . ومنها ما يقولون : إن الله تعالى يريد أن يهدى بعض عباده ويضله الشيطان واعوانه من أشرار بنى آدم ، ولا تتقدم إرادة الله بإزاء أولئك الملاعين ! ويكذبهم في هذا نص القرآن ( من يهد الله فما له من مضل ( .
ومن اقوال العترة رواية الكلينى عن ثابت بن سعيد عن أبي عبدالله ( قال : يا ثابت مالكم والناس ، كفوا عن الناس ولا تدعوا أحداً إلى أمركم ، والله لو أن أهل السماوات وأهل الأرض أجتمعوا على أن يهدوا عبدا يريد الله ضلاله ما أستطاعوا أن يهدوه ، ولو أن أهل السماوات والأرض أجتمعوا على أن يضلوا عبداً يريد الله هدايته ما أستطاعوا أن يضلوه .(166/110)
... الثامن : منها ان الله تعالى لن يرضى بكفر أحد من عباده وضلالته ، لقوله تعالى ( ولا يرضى لعباده الكفر ( قال الأثنا عشرية : يرضى الله عن ضلالة غير الشيعة ، وكان الأئمة راضين بضلالة غيرهم أيضاً . وروى صاحب ( المحاسن ) عن الإمام موسى الكاظم أنه قال لأصحابه : لا تعلموا هذا الخلق أصول دينهم وراضوا لهم بما رضى الله لهم من الضلال ! ولو صحت هذه الرواية لكانت لأهل السنة بشارة عظيمة حاصلة في أيديهم ، فإنهم يعيشون بحسب ما رضى الله والحمد لله على ذلك وثبت لهم رضوان الله تعالى الذى هو غاية المنى لأهل الدين بشهادة الأئمة . أما علماء الشيعة ، فلابد لهم أن يكذبوا هذه الرواية لأنها مخالفة لأدلتهم القطعية واصولهم الشرعية ، إذ هي مناقصة لغرض الإمامة لوجوب الأصلح واللطف وهادمه لأساس بنيان قاعدتهم المقررة أن الله تعالى لا يريد الشرور والقبائح والكفر والمعاصى إذ الرضا فرع الإرادة وأخص منها ، فنفيها نفية .(166/111)
... التاسع : منها أن الله تعالى لا يجب عليه شئ كما هو مذهب أهل السنة ، خلافاً للشيعة فإنهم قاطبة متفقة كلمتهم بوجوب كثير من الأشياء عليه تعالى بحكم عقولهم ، وليس هذا بملائم لمرتبة الربوبية والألوهية اصلاً ، وأية قدرة للعبد أن يوجب على مالكه الحقيقى شيئاً ، فكل ما اعطى فهو من فضله ورحمته وكل ما منع فهو من عدله وحكمته وهو المحمود في كل أفعاله ، قال في نهج البلاغة : ومن خطبة له خطبها بصفين (( أما بعد فقد جعل الله لى عليكم حقاً بولاية أمركم ، وجعل لكم على من الحق مثل الذى عليكم ، والحق أوسع الأشياء في التواصف ، وأضيقا في التناصف ، لا يجرى لأحد إلا جرى عليه خالصاً على أحد إلا جرى له ، ولو كان لأحد أن يجرى له ولا يجرى عليه لكان ذلك خالصاً لله تعالى سبحانه دون خلقه ، لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه . ولكنه سبحانه جعل حقه على العباد أن يطيعوه ، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلاً وتوسعاً بما هو على المزيد أهله )) أنتهى بلفظه . قال جميع الإمامية بوجوب التكليف عليه تعالى ، يعنى يجب عليه تعالى أن يكلف المكلفين بان يأمرهم وينهاهم وأن يقرر لهم واجبات ومحرمات ، وأن يخبرهم بذلك بواسطة الرسل . ولا يقتضى العقل أصلاً أن يكلف الكافر بالإيمان . والفاجر بالطاعة وترك العصيان ، لأنه تعالى لا فائدة له في هذا التكليف اصلاً ، بل هو منزه عن الفوائد والأغراض وغنى عن العالمين ، وهو في حق العبد محض الخسران والضرر وموجب لهلاكه الأبدى ، والله سبحانه يعلم عاقبة الأمر لكل أحدٍ هل يقبل أولاً وهل يمتثل أم لا ، فالقاء العبد في معرض التلف والهلاك عامداً من غير ان يعود إليه نفع ليس مقتضى العقل أصلاً ، نعم لا يفعل عاقل أمراً يضر غيره وهو لا ينفع به خصوصاً في حق الدين .(166/112)
... وأيضاً لو وجب التكليف لكان لابد ان برسل في كل قرية وبلدة الرسل متوالياً ، ولم يقع زمن الفترة ، ولم يخل قطر وناحية عن رسول ، لأن العقل لا يكفى في معرفة التكاليف بالإجماع ، والحاجة للرسول ماسة بالضرورة .
... وأيضاً كان على الله تعالى أن ينصب بعد موت النبي إماماً غالباً غير خائف ، ويويده بالآيات والمعجزات حتى يبلغ الأحكام بلا خوف وهيبة ، ولم يدع المكلفين غافلين عن أحكام الشرع ويدعون سكان شواهق الجبال ، ولم يفوض إمامه بأيدى جماعة لم يكن لهم قدرة على إظهار الأحكام الشرعية ! بل هم أيضاً كانوا يمضون بالتقية في لباس غيرهم من الكفرة والظلمة ! .(166/113)
... وأيضاً يعتقدون ان ( اللطف واجب على الله تعالى ) ويبينون معنى اللطف انه هو ما يقرب العبد إلا الطاعة ويبعده عن المعصية بحيث لا يؤدى إلى الإلجاء . وهذا أيضاً باطل لأن اللطف لو كان واجباً لم يكن لعاص أن تتيسر استبيان عضيانه ، وأجتمع لكل موجبات طاعاته ، وشاهده محسوس في العالم أن أكثر الأغنياء والموسرين يظمون ويعصون ويبغون في الأرض بكثرة أموالهم وقوة عساكرهم ، وأكثر الفقراء يبغون بسبب أفلاسهم ويحرمون من العبادات . وكثير من اصحاب العلم لا يحصل لهم معلم يعلمهم ولا تتأبي لهم الفراغة ولا تتيسر لهم القوة ، وكثير من أصحاب الشهوات والمفسدين يصل إليهم من كل جانب أسباب فسقهم بلا كلفة وقصور ، فلو كان اللطف واجباً لكان الأمر منعكساً . ومخالفة هذه العقيدة للكتاب والعترة والعقل السليم أجلى من النهار : أما الكتاب فقوله تعالى ( ولو شاء لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول منى لأملان جهنم من الجنة والناس أجمعين ( ، و( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدى من يشاء ولتسئلن عما كنتم تعملون ( ، ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى ابصارهم غشاوة ( والآيات الدالة على الأستدراج ومكر الله تعالى والإبعاد عن الإيمان والطاعة مثل ( فكره الله أنبعاثهم فثبطهم وقيل أقعدوا مع القاعدين ( ، ( والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ( ، ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم ابواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ( وأمثال ذلك أزيد من أن يحصى . وأما العترة فقد سبق ( 1 ) ما في الكلينى عن الصادق قال : إذا أراد الله بعبد سوءاً نكت في قلبه نكتى سوداء ، الحديث المتقدم .(166/114)
... وايضا ًيعتقدون ( وجوب الأصلح عليه تعالى ) ، وهذا باطل بمثل ما مضى ، وأيضاً لو كان الأصلح واجباً لم يسلط الشيطان على بنى آدم الذى هو عدو قوى من غير جنسهم وهم لا يرونه حتى يحترزوا منمه ويدفعوه عن أنفسهم وهو يراهم ويتمكن من وسوستهم وقادر على إضلالهم بالإغواء ويصيبهم تصرفه في قلوبهم فضلاً عن الأعضاء الأخر ، فإنه يجرى منهم مجرى الدم . نعم خلق الشيطان ثم إلقاء العداوة بينه وبين الإنسان ثم إبقاؤه وإنظاره القدرة على إغواء بنى آدم بالتصرف كل منهم ، يقلع أصل الأصلح ومارنه .
... وأيضاً كان الأصلح في حق بنى إسرائيل أن السامرى لم يكن يقدر جبريل . ولم يعلم اصلاً خاصة ما مس حافر فرسه . وإذ رآه وعلم خاصته فهو لم يكن يقدر على قبضه من ذلك التراب ، وإذ أخذه فقد كان ضاع منه ، ولما وقع هذا كله خلافاً لذلك ، فأين بقى الأصلح ؟ وأيضاً كان الأصلح في حق الكافر المسكين المبتلى بالفقر والأحزان والآلام والأمراض أن لا يخلق أصلاً ، وإن خلق مات صغيراص ليخلص من العذاب الأبدى الأخروى . وكان الأصلح في حق أصحاب الرسول ( وأمته أن ينص على خلافه أبي بكر صريحاً لا على خلافة الأمير حتى يعلموا بوفقه ولا يذهبوا إلى خلافه . وأيضاً يقول الله تعالى في كتابه ( بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان ( فلو كانت الهداية إلى الإيمان واجبة عليه تعالى لم يمن بها على عباده ، إذ لا منة في أداء الواجب .(166/115)
... ويعتقدون أيضاً أن ( الأعواض واجبة عليه تعالى ) يعنى إذا أصاب الله عبداً بألم أو نقصان في ماله وبدنه وجب عليه تعالى أن يعطيه نفعاً يستحقه ذلك العبد . وعقيدتهم هذه بعد دراية ما بين العبد والرب من علاقة المالكية والمملوكية باطلة ، إذ العوض يجب إذا تصرف في ملك المالك ، ولا ملك في العالم لغيره تعالى ، ونعيم الجنة في الحقيقة محض تفضل منه ، لأن العبد لو صرف جميع عمره في الطاعة والعبادة لا يمكن أن يؤدى شكر نعمة واحدة من نعمة الخفية الدقيقة فضلاً عن أن يستحق عليه عوضاً به ، فإن كل ما يفعله الإنسان لا يكافئ نعمة الوجود وحدها ، فكيف يكون حال ما يقتضى غيره من النعم الكثيرة ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ( ولذلك قال (
(( ما أحد يدخل الجنة بعمله إلا برحمة الله . قيل ولا أنت ؟ قال : ولا أنا )) . وقد صح عند الشيعة ثبوت هذا المعنى بالتواتر من أحاديث الأئمة : روى ابن بابويه القمى في ( الأمالى ) من طريق صحيح عن على بن الحسين أنه كان يدعو بهذا الدعاء (( إلهى وعزتك وجلالك لو أنى منذ أبدعت ---------------------------
( 1 ) في ص 84 .
فطرتى من أول الدهر عبدتك دوام خلود ربوبيتك لكل شعرة في طرفه عين سرمدا لابد بتحميد الخلائق وشكرهم أجمعين لكنت مصراً في بلوغ شكر أخفى نعمة من نعمك . ولو أنى كربت معاول حديد الدنيا بأنيابي وحرثت ارضها بأشفار عيني وبكيت من خشيتك مثل بحور السماوات والأرض دماً وصديداً لكان ذلك قليلاً من كثير من وفاء حقك على ولو أنك إلهى عذبنتى بعد ذلك بعذاب الخلائق أجمعين ، وعظمت للنار خلقى وجسمى وملآت جهنم منى حتى لا يكون في النار معذب غيرى ولا يكون لجهنم حطب سواى لكان هذا لك على قليلاً من كثير ما أستوجبت من عقوبتك )) . وفي ( نهج البلاغة ) عن أمير المؤمنين قال (( لا يأمن خير هذه الأمة من عذاب الله )) .(166/116)
... العاشر : منها كل ما يصدر من الإنسان أو الجنة أو الشياطين أو غيرهم من المخلوقات من خير وشر وكفر وإيمان وطاعة ومعصية وحسن وقبح كلها من خلق الله تعالى بإيجاده وليس للعبد قدرة على خلقه ، نعم له كسبه والعمل به ، وبهذا الكسب والعمل سيجزى إن شراً فشر وإن خيراً فخير ، هذا هو مذهب أهل السنة .
... وقال الإمامية : إن العبد يخلق أفعاله ولا دخل لله تعالى في أقوالهم وأفعالهم الإرادية ، بل في جميع أفعال الطيور والبهائم والوحوش وسائر الحيوانات التى تفعل بالإرادة . وعقيدتهم هذه مخالفة للكتاب والعترة : أما الكتاب فقوله تعالى ( والله يخلقكم وما تعلمون ( وقوله ( خالق كل شئ لا إله إلا هو ( وقوله ( ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله ( وقوله ألم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن ( وغيرها من الآيات .
... وأما العترة فقد روت الإمامية بأجمعهم عن الأئمة أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، ذكر تلك الروايات شارح العدة . ومع هذا يعتقدون أن هذه المسألة كذلك بزعمهم مخالفين للأئمة صريحاً ، ولا تمسك لهم في ذلك إلا بعده شبهات أتخذوها ملجأ بأتباع المعتزلة ، قالوا لو كان الله تعالى لأفعال عباده يلزم بطلان أمر الثواب والعقاب والجزاء كلها ، لأنهم لا يكون لهم دخل في أفعالهم ، وتعذيب من لا دخل له في فعله ظلم صريح .(166/117)
... واجاب أهل السنة بمنع الملائمة ، وذلك أنهم قالوا : إنا نثبت أمر الثواب والعقاب والجزاء على أصول الشيعة وعلى وفق رواياتهم عن الأئمة ، مع كونه تعالى خالقاً لأفعال عبداه بطريقين : ( الأول ) أن جزاء أفعال كل واحد مطابق لعلمه وتقديره تعالى في حق كل واحد ، مثلاً ثبت في علم الله أن أفعالهم وأعمالهم لو أحالها وفوض عملها إليهم يطيع فلان ويعصى فلان ، يعنى يخلق في المطيع طاعته والعاصى معصيته والكافر كفره والمؤمن إيمانه وقد قام شاهد هذا التقرير والعلم في العباد ايضاً وذلك ميلهم وهوى أنفسهم ، فميل المؤمنين إلى الإيمان وميل الكافرين إلى كفر وميل أهل الطاعة وميل أهل الفسق إليه كل يرجح في قلبه ماله ميل إليه ويخلقه الله تعالى على يده ، فجزاء الخير والشر بناء على علمه تعالى في إيجادهم لو فرض إليهم ، فهم وإن لم يكونوا خالقين لأفعالهم حقيقة ولكن لا شبه في خلقهم تقديراً فلو جعل الكافر قادراً على خلق أفعاله لخلق الكفر . وكذا لو كان المؤمن يعطى القدرة على هذا الآمر لخلق الإيمان ، وعلى هذا القياس في جميع الأفعال والأقوال . والجزاء المبنى على علمه في حق كل ليس ظلماً عند الشيعة لأن جزاء أطفال المشركين بهذه الوتيرة عندهم بلا تفاوت ، روى ابن بابويه عن عبد الملك بن سنان قال : سألت أبا عبدالله ( عن أطفال المشركين يموتون قبل أن يبلغوا الحنث ، قال : الله اعلم بما كانوا عاملين يدخلون مداخل آبائهم .(166/118)
... وروى عن وهب بن وهب عن أبيه عن ابي عبدالله أيضاً أنه قال : أولاد الكفار في النار . فإذا لم يكن عذاب الصبي غير المكلف لكونه كافراً وعاصياً في علم الله تعالى من غير أن يوجد فيه شاهد هذا العلم من ميل النفس وهواها ظلماً ، لم يكن ظلماً تعذيب المكلف على فعله الذى يوجده ويخلقه بوفق إرادته وهوى نفسه لأجل أنه يفعل هذا الفعل ويخلقه لو قدر عليه . وهذا الوجه مصرح به ومبين في روايات الأئمة في كتب الشيعة : روى الكلينى وابن بابويه وآخرون منهم عن الأئمة أن الله خلق بعض عباده سعيداً وبعض عباده شقياً لعلمه بما (( كانوا )) يعملون . ليتأمل في لفظ (( كانوا )) فإنه يفيد صريحاً معنى الفرض والتقدير . وروى الكلينى وغيره من الإمامية عن أبي بصير أنه قال : كنت بين يدى ابي عبدالله ( جالساً فسأله سائل فقال : جعلت فداك با ابن رسول الله ، من أين لحق الشقاء بأهل المعصية حتى حكم لهم بالعذاب على عملهم في علمه ؟ فقال أبو عبدالله : أيها السائل ، علم الله عز وجل لا يقوم له احد من خلقه بحقه ، فلما حكم بذلك وهب لأهل المحبة القوة على طاعته ووضع عنهم ثقل العمل بحقيقة ماهم أهله ووهب لأهل المعصية القوة على معصيتهم بسبق علمه فيهم ومنعهم إطاقة القبول منه فوافقوا ما سبق لهم من علمه تعالى ولم يقدروا أن يأتوا حالاً تنجيهم من عذابه لأن علمه أولى بحقيقة التصديق وهو معنى شاء ما شاء وهو سره وروى الكليفي عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله ( أن قال : إن الله خلق السعادة والشقاوة قبل أن يخلق خلقه فمن خلقه سعيداً لم يبغضه أبداً وإن عمل سوءاً أبغض عمله وإن خلقه شقياً لم يحبه أبداً وإن عمل صالحاً أحب عمله ولو كان الجزاء على خلق عمله من عنده الواقع موافقاً لهوى العبد ظلماً يلزم أن يكون خلق نفسه وقواه مع تسليط الشيطان عليه ومنع الألطاف وإطاقة القبول في حقه ظلماً أيضاً . وقد وقع صريحاً في الروايات المذكورة هذه الجمل : ووهب له قوة(166/119)
المعصية ومنع عنه إطاقة القبول ولم يقدروا أن يأتوا حالا تنجيهم . وقد ورد أيضاً في الروايات السابقة عن أبي عبد الله أنه قال : إذا أراد الله بعبد سوءاً نكت في قلبه نكنة سوداء الحديث المتقدم (1) . وظاهر أن العبد يكون على هذا مضطراً وملجئاً بفعل المعصية لعدم قدرته على الطاعة والعبادة بهذه المعاملة التي عامل الله بها في حق عبده .
... ( الطريق الثاني ) أن الجزاء ليس على العمل حتى يكون دخل العبد ضرورة بل على ميل قلبه وهو نفسه الذي يقارن كل عمل من الخير والشر ولهذا رفع عن العباد السهو والنسيان والخطأ والإلزام مع أن صدور سوء الفعل يكون من العبد في هذه الحالات أيضاً ولكن لما لم يكن قلبه وهوى نفسه بذلك الفعل يعفى عنه ذلك الصدور ولهذا يجزي على نية الخير والشر وإن لم يعمل ففي الكافي للكليبي عن السكونى عن أبي عبدالله ( قال : قال رسول الله ( (( نية المؤمن خير من عمله ونية الكافر شر من عمله )) ووجه كونها خيراً و شراً إنما هو مدار الجزاء عليها .(166/120)
وفيه أيضاً عن أبي بصير عن أبي عبدالله قال : إن العبد المؤمن الفقير ليقول يارب ارزقني حتى أفعل كذا وكذا من البر ووجوه الخير فإذا علم الله عز وجل ذلك منه بصدق نيته كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب لو عمله ولهذا جعل الرياء والسمعة محبطين لثواب العمل كما ذكره مفصلاً في باب الرياء في الكافي (2) من ذلك ما روى عن يزيد بن خليفة قال : قال أبو عبد الله : كل رياء شرك ، إنه من عمل للناس كان ثوابه على الناس ومن عمل لله كان ثوابه على الله أيضاً قد ورد في الحديث المتفق عليه أن الندامة هي التوبة . فقد علم أن مدار تأثير العمل على ميل القلب وهوى النفس ولما ذهبت شهوة العمل في حالة الندامة ذهب أثرها أيضاً ولو بعد مدة وزمان طويل . وفي الكافي عن أبي جعفر عليه السلام قال : كفى الندم توبة . وأيضاً عن أبي عبد الله قال : إن الرجل ليذنب فيدخله الله به الجنة . قالت : يدخله الله بالذنب الجنة ؟ قال : إنه يذنب فلا يزال منه خائفاً ماقتاً لنفسه فيرحمه الله ويدخله الجنة . وإذا كان مدار الجزاء على النية وميل النفس واستحسان القلب فإن خلق الله أفعالاً على وفق إرادة العبد وميله وهوى نفسه وجازى العبد على ذلك فلم يكن ظلماً ، نعم يتصور الظلم لو كان خلق أفعال العبد ابتداء من دون تخلل إرادته وميله كأفعال الجمادات من نحو إحراق النار وقتل السم وقطع السيف وكسر الحجر ، وإذا كانت أفعال العباد تابعة لإرادتهم وأهواء أنفسهم كان لهم دخل في تلك الأعمال فوجدوا منها حظاً فذاقوا جزاءها بحسب ذلك ، وهذا هو معنى الكسب والاختيار عند التحقيق . هذا وإذا قيل إن ذلك الميل وهوى النفس من خلقه وإيجاده إذ ظاهر أن العبد لا قدرة له على إيجاده والله سبحانه إذا خلق الميل والهوى فلم يؤاخذ العبد على ذلك ويجازيه ؟ فجوابه أن هذه الشبهة مع اعتقاد أن العباد خالقون لأفعالهم أيضاً واردة على الشيعة ، لأن الدواعي الواردة على جميع الأسباب(166/121)
والمبادئ
-----------------
(1) في ص 84 و85 ... ... ... ... ... ... (2) ص 221 طبعة 1278 .
لصدور الفعل من القدرة والقوة والحواس والجوارح بل وجود العبد الذي هو أصل الأصول للأفعال كلها مخلوقة لله تعالى بالبداهة والإجماع ولا دخل فيها للعبد أصلاً . وتحقيق المقام أن الاختيار لا قارن الفعل وتوسط معه صار ذلك الفعل اختيارياً وخارجاً من حريم الاضطرار ومورداً للمدح والذم ومحلاً للثواب والعقاب وكون الاختيار باختياره ليس ضرورياً بل هو محال للزوم التسلل إذ ليس لأحد في المشاهدة قدرة على خلق الاختيار أصلاً في غيره وصعب على العقل فهم هذا المعنى بالقياس لفقدان النظر الجزئي ، ولكنه إذا خلى نفسه حتى يبعد عن شوائب الأوهام ومأخوذية المألوفات ، ويحصل له الصفوة بعد ذلك ، يجزم بأن مدار كون العقل أختيارياً على وجود الاختيار لا على إيجاد الفعل ولا على إيجاد الاختيار . مثلا لو أراد عبد أحد أن يأبق ، وأبلغه الآخر إلى مقصده بعد ما أطلع على إرادة قلبه وميله بأظهاره أو بوجه آخر ، يكون هذا الإباق منسوباً إلى ذلك العبد عند العقل البته ، وإن كانت مباشرة الفعل حاصلة من الغير ومبنى قلب العبد حاضر له من نفسه . فإذن ظهر لك أن ليس الفرق في اعتقاد أهل السنة والشيعة بذلك إلا هذا القدر : إن أهل السنة يعتقدون أن اختيار العبد محفوف من كلا الجانبين بفعل الله تعالى : من الجانب الفوقاني بخلق الاختيار والإرادة والهوى وميل النفس ومن الجانب التحتاني بخلق الفعل . والشيعة يعتقدون أن اختياره من الجانب الفوقاني بفعل الله تعالى لا من الجانب التحتاني وهو خلق الفعل فإنهم يقولون إن خلق الفعل وظيفة العبد . وعلى العاقل هنا أن يتأمل ، فإن الجانب الفوقاني للاختيار إذا كان في يد الغير لزم الجبر ونشأ الإشكال في أمر الجزاء والثواب والعقاب فترك البديهة العقلية التي هي قاضية باستحالة صدور الإيجاد من الممكن عن اليد مجاناً ثم الانغماس في(166/122)
الدخل الشيطاني أي لطف يكون له (1) وقد نقل سابقاً برواية صاحب المحاسن وهو البرقي (2) وبرواية الكليني عن أبي الحسن الكاظم أنه قال لا يكون شيء إلا ماشاء الله وأراد . وقد روى عن رئيس فقهاء أهل السنة أبي حنيفة الكوفي أنه قال : قلت لأبي جعفر بن محمد الصادق : يا ابن رسول الله هل فوض الله الأمر إلى العباد ؟ فقال : الله أجل من أن يفوض الربوبية إلى العباد . فقلت : هل أجبرهم على ذلك ؟ فقال : الله أعدل كمن أن يجبرهم على ذلك . فقلت : وكيف ذلك ؟ فقال : الله أعدل من أن يجبرهم على ذلك . فقلت : كيف ذلك ؟ فقال : بين بين ، لا جبر ولا تفويض ولا إكراه ولا تسليط . وضع أهل السنة بناء مذهبهم على هذه الرواية في مسألة خلق الأفعال حيث يعتقدون نفي الخلق عن العباد ولا خلق إلا لله ، ويثبتون الكسب لهم مطابقاً لإرشاد الإمام الصادق . وهذه
------------------------
في العبارة غموض ولعل فيها تحريفاً من الطبعة الهندية .
انظر ص 84و85 والبرقي هو أحمد بن محمد بن خالد المتوفى سنة 274 . له ترجمة في ( روضات الجنات ) ص13/14 من الطبعة الثانية ، وفي ( هدية الأحباب ) ص 105 .(166/123)
الرواية بعينها في كتب الإمامية فقد روى محمد بن يعقوب الكليني عن أبي عبدالله أنه قال : لا جبر ولا تفويض ولكن بين أمرين . وروى الكليني أيضاً عن إبراهيم عن أبي عبدالله مثل ذلك .أيضاً عن أبي الحسن محمد بن الرضا نحوه . وأول علماء الشيعة هذه الروايات المذكورة الموافقة لأهلب السنة صريخاً فقالوا المراد من أمر بين أمرين خلق القوة والقدرة والتمكين على الفعل لا الدخل في إيجاد الفعل . ولا يفهمون أن سؤال السائل عما إذا كان وأين يذهبون بجواب الإمام مجرداً وأي عاقل سأل عن تفويض خلق القوة والقدرة على العمل فإنه بديهي البطلان وإنما البحث والنزاع إن كان ففي خلق الفعل فجواب الإمام يجعلونه لغواً مهملاً بتوجيههم هذا معاذ الله من ذلك . ومع هذا لايجدى هذا التوجيه نفعاً لأن هذا التفويض يوجد في نفيه أيضاً علة البحث والاعتراض ومع قطع النظر عن ذلك فإن أهل السنة في أيديهم روايات صريحة مستخرجة من كتب الشيعة تحسم مادة التأويل : منها الرواية التي أوردها صاحب ( الفصول ) من الامامية فيه وصححها عن إبراهيم بن عياش أنه قال : سأل رجل الرضا أيكلف الله العباد مالاً يطيقون ؟ فقال : هو أعدل من ذلك . قال : فيقدرون على الفعل كما يريدون ؟ قال : هم أعجز من ذلك . فقد نفى الإمام القدرة صريحاً في هذا الحديث الصحيح . ومنها ما في ( نثر الدرر ) : سأل الفضل بن سهل بن موسى الرضا في مجلس المأمون فقال : يا أبا الحسن الخلق يجبرون ؟ قال : الله أعدل أن يجبر ثم يعذب . قال فمطلقون ؟ قال : الله أحكم من أن يهمل عبده ويكله إلى نفسه . وإذ اتضح مخالفة علمائهم في عقيدتهم للأئمة فاستمع مالقبهم به الأئمة من الألقاب السيئة فقد روى محمد بن بابويه في كتاب التوحيد عن أبي عبدالله أنه قال : القدرية مجوس هذه الأمة أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه عن سلطانه . وفيهم نزلت هذه الآية ( يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس صقر إنا كل شيء خلقناه(166/124)
بقدر ( وروى الكليني عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبدالله : شاء وأراد وقدر وقضى ؟ قال : نعم . قلت : وأحب ؟ قال : لا .
الحادي عشر منها أن العبد ليس له اتصال مكاني وقرب جسماني بالله تعالى ممكناً وما يتصور في حقه من القرب فإنما هو بالدرجة والمنزلة عنده تعالى ورضوانه عنه فقط . وهذا هو مذهب أهل السنة وقد ثبت في الأخبار الصحيحة المروية عن العترة الطاهرة بروايات الشيعة أن الأسمة قد نفوا عن الله تعالى المكان والاتصال والأين وغيرها . وقال أكثر فرق الإمامية بالقرب المكاني والصورى ، ويحملون المعراج على الملاقاة المتعارفة الجسمانية روى ابن بابويه في كتاب ( المعراج ) عن حمران بن أعين عن أبي جعفر ( أنه قال في تفسير قوله تعالى ( ثم دنى فتدلى ( أدنى الله عز وجل نبيه ( فلم يكتن بينه وبينه إلا قفص من لؤلؤ فيه فراش يتلألأ من ذهب فأراه صورة فقيل : يا محمد أتعرف هذه الصورة ؟ قال : نعم هذه صورة على بن أبي طالب .(166/125)
الثاني عشر منها أن رؤية الله تعالى ممكنة عقلاً وسيراه المؤمنون بعيون رءوسهم جزماً ويتشرفون في الجنة بهذه النعمة بحسب مراتبهم والكافرون والمنافقون محرومون منها . وهذا هو مذهب أهل السنة وتمسكهم على هذا المطلب بالنقل والعقل : أما النقل فقوله تعالى حكاية عن موسى ( رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ( ووجه الاستدلال به أمران : الأول أن سؤال موسى الرؤية يدل على إمكانها لأن العاقل – فضلاً عن النبي – لا يطلب المحال ولو بتكليف الغير ولا مجال للقول بجهل موسى ( بالاستحالة ، فإن الجاهل بما لا يجوز على الله تعالى لا يصلح من النبوة هداية الخلق إلى العقائد الحقة والأعمال الصالحة ولا ريب في نبوة موسى وأنه كبار الأنبياء وأولى العزم وأيضاً أن يقال إنما سأل موسى الرؤية بتكليف القوم حيث قالوا ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ( وقالوا ( أرنا الله جهرة ( ولتبكميتهم إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب عليه أن يجهلهم ويزيح شبهتهم كما فعل بهم لما قالوا ( اجعل لنا إلهاً ( الآية . وأيضاً لو كان سألها بتكليفهم لقال (( رب أرهم ينظروا إليك )) . والثاني أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل ، وهو أمر ممكن في نفسه والمعلق على الممكن ممكن لأن معنى التعليق الإخبار بوقوع المعلق عند وقوع المعلق به والمحال لا يثبت على شيء من التقادير الممكنة . وأيضاً ما صح عن النبي ( أنه قال (( إنكم سترون ربكم عياناً يوم القيامة كما ترون هذا القمر لا تضامون )) وهذه الرؤية متعدية إلى مفعول واحد فهى من رأى العين لا من رأى القلب . ووجه الاستدلال به أن الرؤية لو كانت محالاً لما بشر النبي بها المؤمنين لأن بشارته متحتمة الوقوع والمحال لا يمكن وقوعه والتشبيه المذكور في الحديث تشبيه الرأى بالرأى في الحالتين دون المرئى بالمرئى . وقوله تعالى ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ( والنظر المتعدي بغلى هو(166/126)
بمعنى الرؤية و (( إلى )) ههنا حرف جر لا اسم مفرد ، وليس النظر متعدياً إليه بنفسه فإن النظر يكون حينئذ بمعنى الانتظار وهو غم ونقمة كما قيل (( الانتظار موت أحمر )) لا نغمة ومسرة ، وقد سبقت الآية في بشارة المؤمنين بنعيم الجنة وسرورها والانتظار يوجب الغم ولا يناسب سياق الآية . وأما العقل فهو أنا نرى الأعراض – كالألوان والأضواء وغيرهما – والجواهر – كالطول والعرض – في الجسم فلا بد له من علة مشتركة بينهما بل من شيء مشترك بينهما يكون المتعلق الأول للرؤية وذلك الأمر إما الوجود أو الحدوث أو الإمكان ، والأخيران عدميان لا يصلحان لتعلق الرؤية بهما فلم يبق إلا الوجود وهو مشترك بين الواجب والممكنات فيجوز رؤيته عقلاً ، والمراد بالوجود مفهوم مطلق الوجود الحقيقى وما به الموجودية ، وبالجملة إن المعتمد في مسالة الرؤية إجماع الأمة – قبل حدوث المبتدعين – على وقوعها ، وهو مستلزم لجوازها ، وعلى كون الآية الكريمة محمولة على الظاهر المتبادر منها .
... وقد أنكر الرؤية جميع فرق الشيعة – إلا المجسمة منهم – وقالوا يستحيل رؤيته تعالى . وعقيدتهم هذه مخالفة للكتاب والعترة . أما الكتاب فقوله تعالى ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ( وقوله تعالى في الكفار ( كلا إنهم عن ربهم يؤمئذ لمحجوبون ( فعلم ان المؤمنين لا يكون لهم حجاب عن ربهم ، وقوله تعالى ( إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ( فقد علم أن المؤمنين والصلحاء هؤلاء سيكن لهم نظر وكلام من الله تعالى إلى غير ذلك من الآيات.(166/127)
... الثاني أن متمسك هؤلاء المنكرين في نفي الرؤية ليس إلا الاستبعاد وقياس الغائب على الشاهد واشتباه العاديات بالبديهيات وغاية سوء الأدب ممن يؤول آيات الكتاب بمجرد استبعاد عقله الناقص ، ويصرفها عن الظاهر ، ولا يتفكر ولا يتأمل في معانيها .
... وفي آية ( لاتدركه الأبصار ( نفي للإدراك الذى هو بمعنى الإحاطة لا نفى الرؤية ، ولا يستلزم نفيه نفيها ، لأن الإدراك والرؤية متباينان في الحقيقة ، وبملاحظة إسناده إلى الأبصار بوجه أخص منها فإنه إبصار وإنكشاف المرئي التام بالبصر . والإدراك في اللغة الإحاطة بدليل قوله تعالى ( حتى إذا ادركه الغرق ( وقوله ( قال اصحاب موسى إنا لمدركون ( ونفى أحد المتباينين لا يستلزم نفى الآخر ، وكذا نفى الأخص لا يستلزم نفى الأعم ، وأما ما يرادف العلم فهو المصطلح لا غير ، لأن الإدراك بمعنى العلم والإحساس ليس في اللغة أصلاً ، ولا شك أن الإحاطة نقص له تعالى فنفيها مدح ، والرؤية ليست كذلك . فعلى هذا معنى الآية : إن الله تعالى لا تحاط ذاته المقدسة بحاسة البصر . ولو فرضنا كون الإدراك بمعنى الرؤية لكان نفيها في الآية بناء على العادة ، وظاهر أن رؤيته تعالى بحيث كل ما أراد فيراه ، ولا يمكن لأحد أن يراه مالم يره الله ذاته تعالى ، وقد وقع في كلامه تعالى نفى العادة بالإطلاق كقوله تعالى ( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ( وبالإجماع يجوز رؤية الجن والشياطين بطريق خرق العادة ، ولهذا أستعظم وأستبعد سؤال الكفار رؤية الملائكة مع أنهم يراهم الأنبياء والصلحاء والمؤمنون ، وأيضاً ليس النفي في الآية عاماً في الأوقات ، فلعله مخصوص ببعض الحالات ، ولا في الأشخاص فإنه في قوة قولنا لا كل بصر يدركه ، مع ان النفي لا يوجب الامتناع .(166/128)
... أما العترة فقد روى أبن بابويه عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله فقلت : أخبرني عن الله عز وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة ؟ قال : نعم . إلى غير ذلك من الأخبار .
الباب الرابع
في النبوة
العقيدة الأولى : أعلم أن الشيعة يعتقدون أن بعث الأنبياء واجب على الله تعالى . ولا يليق ذلك بمرتبة الربوبية والألوهية ، فإن الله هو الحاكم الموجب على عباده ، فمن يحكم عليه بوجوب شئ ؟ نعم تكليف العباد وبعثة الأنبياء واقع حتماً ولكن بمحض فضله وكرمه ، بحيث لو لم يفعل ذلك لم يكن لهم مجال شكاية ، فإذا فعل فهو عين فضله ومحض رحمته ، وهذا هو مذهب أهل السنة ، ولو كان بعث الأنبياء واجباً عليه تعالى لم يمتن ببعثهم في كثير من الآيات ، قال تعالى : ( بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان ( وقال تعالى ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ( الآية وغيرها من الأيات . وظاهر أنه ليس في أداء الواجب منه . وأيضاً لو كان واجباً لما سأله إبراهيم وطلب منه البعث في ذريته وبناء على كونهم مكلفين ووجوب تكليفهم قال ( ربنا وأبعث فيهم رسولاً من أنفسهم ( الآية لأن الدعاء بما هو واجب الوقوع لغو لا معنى له ، والأنبياء منزهون عن اللغو .
وأعلم أن الإمامية لابد عندهم أن لا يخلو زمان من نبي أو وصي قائم مقامه ، وهو يعلمون أن بعث النبي أو نصب الوصي واجب عليه تعالى . ولا يعتقد أهل السنة وجوب شئ على البارى تعالى .(166/129)
وعقيدة الشيعة هذه مخالفة للكتاب والعترة : أما الكتاب فلأن كثيراً من آياته تدل على وجود زمن الفترة وخلوه عن النبوة وآثارها ، كما قال الله تعالى ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترةٍ من الرسل ( وغيرها من الآيات . وأيضاً تدل آيات كثيرة بالصراحة على ختم النبوة كقوله تعالى ( ولكن رسول الله وخاتم النبيين ( وفي إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر ( 16 ) قال عيسى للحواريين (( وأنا أطلب لكم من أبي أن يمنحكم ويعطيكم فارقليط ليكون معكم دائماً إلى الأبد )) وفارقليط في اللغة العبرية بمعنى روح الحق واليقين ، وهو لقب نبينا ( . وأما أخبار الأئمة في هذا الباب فأريد من الحد والآحصاء ، وقد تواتر عن الأمير في صفة الصلاة على النبي في كتب الإمامية هذه العبارة (( اللهم داحى المدحوات وفاعم المسموكات ، أجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك على محمد عبدك ورسولك الخاتم لما سبق )) ، وأيضاً ورد في بعض خطب الأمير المتواترة عند الشيعة هذه العبارة (( أرسله على فترة من الرسل ، وطول هجعه بين الأمم )) إلى أن قال (( وأمين وحيه وخاتم وبشير رحمته ونذير نقمته )) وهذه الخطبة كما تدل على ختم النبوة كذلك تدل على وقوع الفترة أيضاً ، ومعنى الفترة إنما هي ان لا يكون نبي ولا قائم مقامه في الزمان ، ولو أريد في معنى الفترة عدم نبي في الزمان فقط يلزم أن يكون زمن الأمير بعد وفاة النبي ( أيضاً زمان الفترة ، وأنت تعلم أن حكم زمان الفترة بنبي آخر الزمان لدوام شريعته إلى يوم القيامة فلا يصح أن يقال بالفترة بعد وفاته ( .(166/130)
العقيدة الثانية : أن الأنبياء أفضل من جميع خلق الله حتى الملائكة المقربين ، ولا يمكن أن يستوى غير النبي في الثواب والقرب والمنزلة عند الله تعالى ، فضلاً عن أن يكون أفضل منه . وهذا هو مذهب أهل الحق وجميع فرق الإسلام إلا المعتزلة في الملائكة المقربين ، والإمامية في الأئمة الأطهار . ولهم في هذه المسالة تنازع وتخالف كثير فيما بينهم ، ولكنهم أجمعوا على أن الأمير أفضل من غير أولى العزم من الرسل والأنبياء ، وليس بأفضل من خاتم النبيين عليه وعليهم السلام .
وأما غيره من سائر أولى العزم فقد توقف فيه بعضهم كابن المطهر الحلى وغيره ، ويعتقد بعضهم أنه مساو لهم وهذا مخالف لما ورد عن الأئمة ، وأن من قال غير ذلك فهو ضال . وروى ابن بابويه عن الصادق ما ينص على أن الأنبياء أحب إلى الله تعالى من علي . ولكتاب الله لأنه يدل في جميع آياته على أصطفاه الأنبياء وأختيارهم على جميع العالم ، والعقل يدل صريحاً على أن جعل النبي واجب الإطاعة وجعله أمراً وناهياً وحاكماً على الإطلاق والإمام نائباً وتابعاً له لا يعقل بدون فضيلة النبي عليه ، ولما كان هذا المعنى موجوداً في حق كل نبي ومفقوداً في حق كل إمام أفضل من نبي أصلاً بل يستحيل ، لأن النبي متوسط بين العبد والرب في إيصال الفيضان إليهم فالذى يستفيض منه لو كان أفضل منه أو مساوياً له لزم أن يكون أرفع منه في إيصال الفيض ، ومفيضاً له أو مشتركاً معه في الإيصال ، وهذا خلف .(166/131)
وهم يقولون إن الإمامية نيابة النبوة ، ومعلوم أن مرتبة النيابة لن تبلغ مرتبة الأصالة أبداً فضلاً عن أن تفوقها ، ومتمسكهم في هذا الباب عدة شبهات واهية ناشئة من عدة أخبار أثبتهامتقدموهم في كتبهم فحكموا بموجبها . وقد تبين حال رواتهم ورجالهم وكيفية الحكم بصحة الخبار الصادرة من علمائهم التى لا يستقيم الاحتجاج بها على وفق القواعد الأصولية لأنها معارضة للإجماع القطعي قبل ظهور المخالف ، فلا يجوز القول بظاهر تلك الروايات بل يجب أن تؤول .
وأيضاً هي معارضة للروايات الآخر كرواية الكلينى عن زيد بن علي وابن بابويه عن الصادق المذكورة آنفاً ، وخبر الواحد – وإن كان بلا معارض أيضاً – ظنى لا يتمسك به في اصول العقائد بل هو عند محققى الشيعة الإمامية كابن زهرة ( 1 ) وابن أدريس ( 2 ) وابن البراج
( 3 ) والشريف المرتضى ( 4 ) وأكثر قدمائهم غير صالح للأحتجاج به وقد اختار متأخروهم هذا المذهب ولهذا لم يعدوا أخبار الآحاد في الدلائل بل أوجبوا ردها خصوصاً في الأعتقادات ، قال ابن المطهر الحلى في ( مبادئ الوصول إلى علم الأصول ) : إن خبر الواحد إذا أقتضى علماً ولم يوجد في الادلة القاطعة ما يدل عليه وجوب رده . وظاهر أن مدلول هذه الروايات ليس موجوداً في الدلائل القطعية ، بل خلافه يوجد ، ومع قطع النظر عن هذه الأمور كلها لا دلالة أيضاً لتلك الروايات على المدعى .(166/132)
ولنذكر عدة من شبهاتهم ونبين عدم دلالتها على مدعاهم فنقول : ( الشبهة الأولى ) أن الأئمة كانوا أزيد من الأنبياء علماً فيكونون أفضل منهم رتبة أيضاً ، لأ، الله تعالى يقول : ( قل هل يستوى الذين يعملون والذين لا يعملون ( وقد روى الراوندى عن أبي عبد الله قال : إن الله فضل أولى العزم من الرسل على الأنبياء بالعلم ، وورثنا علمهم وفضلنا عليهم ، وعلم رسول الله ( مالا يعلمون ، وعلمنا علم رسول الله ( وتلا الآية المذكورة . ( الجواب ) عن هذه الشبهة بأن هذا الخبر بعد تسليم صحته يدل على زيادة الأئمة في العلم واستيعابهم علوم المرسلين لأن المتأخر يكون مطلعاً على علم المتقدم وناظراً فيه فيحيط بعلمه ، بخلاف المعاصر والمتقدم فإنه لا يمكن له ذلك ، مثاله أن النحوى في هذا العصر يكون مطلعاً على مسائل ( اللباب ) و ( الوافى ) وتصانيف ابن مالك وابن هشام والأزهرى وغيرهم ممن سبقوا من النحاة ، ويكون بلا شبهة علمه بمسائل النحو أزيد من علم كل هؤلاء المذكورين ، لأن كل واحد منهم لم يكن مطلعاً على المسائل المستخرجة لغيره والأفكار الناشئة من طبعه البتة ، وقد تقرر أن الصناعات إنما تتكامل بتلاحق الأفكار ، وهذا النحوى المتأخر حصل له الوقوف على كل منها ، ومع هذا لا تكون رتبته في النحو مساوية لرتبة أحد من أولئك العلماء فضلاً عن ان يتقدم عليهم لأن الرسوخ في العلم وتعمق النظر والغوص والفكر ومعرفة المسائل بدلائلها ودراية المآخذ لكل دقيقة واستخراج المسائل النادرة بقوة الفحص والتتبع في كلام العرب بالأصالة فضيلة لا يبلغها أصلاً الاستيعاب والغوص بتلك المسائل . وكذا المنطقى في هذا الزمان لا يكون مساوياً في المرتبة للمعلم الأول
------------------------
( 1 ) حمزة بن على بن زهرة الحلبي المتوفى سنة 585 وللشيعة علماء آخرون من بنى زهر .
( 2 ) محمد بن أحمد الحلى توفى في شوال 598 .(166/133)
( 3 ) القاضى عبد العزيز بن نحرير توفى في شعبان سنة 481 .
( 4 ) على بن الحسين الموسوى ( 355 – 436 ) وهو أخو الرضى الشاعر .
والمعلم الثاني والشيخ الرئيس فضلاً عن أن يقال إنه أفضل منهم وسابقهم في الدرجة ، مع أنه يعلم مستخرجات كل منهم بحيث لم يكن لكل منهم الاضطلاع بها اصلاً .
والذى قرأ العروض لا يفوق الخليل ابن أحمد . سلمنا ولكن لا يلزم من كثرة العلم كثرة الثواب ، ومدار الفضل عند الله على كثرة الثواب لا على كثرة العلم ، وإلا فيلزم تفضيل الخضر على موسى وهو خلاف الإجماع . سلمنا ولكن كثرة العلم الموجبة لكثرة الثواب هو العلم الذى يكون مدار الاعتقاد والعمل عليه لا العلوم الزائدة ، وذلك العلم هو المراد في الآية المذكورة ، وكل نبي كان ذلك العلم حاصلاً له بوجه أتم . ولو كان للأئمة او لغيرهم من العلماء فضل وزيادة في العلم يكون ذلك في العلوم الاخر والدليل على هذا المدعى أن كل نبي لو لم يكن العلم الذى عليه مدار الاعتقاد والعمل حاصلا له بوجه أتم يخرج عن عهده التبيغ وبيان الأحكام ، وكيف يتم غرض البعثة . ومع قطع النظر عن هذه الأمور كلها لا يذهب عليك ما في هذه الرواية من الخلل والفساد ، فإن توريث الأئمة علم الأنبياء وتفضيلهم عليهم بذلك التوريث كما ذكر فيها يلزم منه أن يكون الأئمة افضل من نبينا ( أيضاً ، إذ وجه التفضيل وهو توريث العلم ههنا ايضا ، وهو فاسد البتة بالإجماع .(166/134)
وثانياً علم الأئمة لتعلمهم علم رسول الله ( نابع فرع لعلمه وعلم الأنبياء أصل وأول وبالذات ، وما بالتبع لا يبلغ درجة ما بالذات ، وحيث قال تعالى ( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبى من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسوله ( وقال أيضاً ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من أرتضى من رسول ( الآية يتبين منه أن غير الأنبياء ليس لهم علم مثل علم الأنبياء ، فبطل عنه التساوى والزيادة بالطريق الأولى . ومع هذا فالاستشهاد بالآية المذكورة أغرب لأن معناها عدم الاستواء بين العالم والجاهل كما هو الظاهر ، والأنبياء ما كانوا جاهلين بالإجماع ، وغاية ما في الباب تسليماً أن الأئمة كان علمهم زائداً على علم الأنبياء ، لا أن الأئمة علماء والأنبياء جهال ، معاذ الله من ذلك .
( الشبهة الثانية ) أنهم تمسكوا برواية الحسن بن كبش عن أبي ذر قال : نظر النبي ( إلى على بن أبي طالب وقال : هذا خير الأولين والأخرين من أهل السماوات والأرضين . وأيضاً برواية عن أبي وائل عن عبد الله بن عباس قال حدثنا رسول الله ( قال : قال لى جاء الإمامية بها ، وحال رواتهم قد أتضح سابقاً ( 1 ) ومع هذا هاتان الروايتان ساقطتان من الإعتبار عند
--------------------------
( 1 ) في الباب الثاني 47 – 50(166/135)
الإمامية أيضاً وليس لهما سند صحيح ، لن الحسن بن كبش ومن بعده من الرواة كلهم مجاهيل وضعفاء كما نص عليه علماء رجالهم ، ومع هذه كلها لا تنطبق على المدعى لأن التخصيص بغير الأنبياء في مثل هذه العمومات شائع في كلام الرسول ( ، فلو لم يذكر في موضع واحد اعتماداً على غيره مما ذكر فيه فيكون ذلك التقيد ملحوظاً فيه أيضاً قياساً على ذلك الغير والعام المخصوص لا يكون حجة في القطعيات لكونه ظنياً فلا يعبأ به في الاعتقادات . سلمنا العموم في الأشخاص ، ولكن لا نسلم العموم في الأوقات ، لأن الأمير لم تكن هذه الخيريات العامة حاصلة له في عهد النبي ( بلا نزاع ، لكون النبي افضل منه البتة ، ولكونه داخلاً في البشر الأولين والآخرين ، فالمراد غير ذلك الوقت ، والمراد من الأولين والآخرين والبشر من كانوا في وقته ، وهو صحيح عند اهل السنة لأنه أفضل البشر في زمن خلافته ولا نزاع لاحد فيه ولا محذور .(166/136)
( الشبهة الثانية ) أنه متمسكوا برواية لسعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعرى القمى في كتاب ( القصاص ) عن ابيي جعفر ( ، وبرواية الكلينى في ( الكافى ) عن أبي عبد الله ( أنهما قالا في تفسير قوله تعالى ( قل الروح من أمر ربي ( هو خلق اعظم من جبريل وميكائيل لم يكن مع احد ممن مضى غير محمد ، وهو مع الأئمة يوفقهم ويسددهم . الجواب عنها بأن الحديث الول قد وقع في سنده هشام بن سالم ومعلوم انه كان مجسماً وملعوناً من حضرات الأئمة ( 1 ) وفي سند الحديث الثاني أبو بصير وهو قد أعترف بكذبه على الأئمة وإفشاء أسرارهم . سلمنا الصحة ولكن فحوى هذا الحديث منافية لعصمة النبي والأئمة ، لأن المحتاج إلى المؤدب والناصح إنما هو من لا يكون معصوماً ، ولهذا ليست الملائكة محتاجة إلى المؤدب فلزم من تلك الرواية أن النبي ( والأئمة كان لهم نقصان ظاهر في العصمة بالنسبة إلى الأنبياء السابقين حاصلاً فإنهم كانوا كاملين في العصمة موفقين مسددين من انفسهم غير محتاجين في ذلك إلى من سواهم من المخلوقات ، وما كان للنبي والأئمة افتقار إلى من يؤدبهم في كل وقت وينبههم ويسدد بالصواب ، معاذ الله من هذا الاحتمال الفاسد في جنابه .
وأيضاً نقول كون الروح مع النبي هل هو شرط لعصمته أولا فعلى الأول يلزم ان لا يكون الأنبياء السابقون الذين لم يكن الروح معهم معصومين ، وهو باطل بالإجماع .
وعلى الثاني يلزم أن لا يكون النبي والأئمة معصومين في حد أنفسهم فإنهم كانوا محتاجين إلى تأديب الروح إياهم ولزم تفضيل الأنبياء على النبي والأئمة إذ كانوا معصومين بلا مصاحبة الروح وهؤلاء بمعيته . ولقد تناقض شيخهم ابن بابويه فقال في كتاب ( الاعتقاد ) : إن الله لم
------------------------
( 1 ) أنظر ص 63 و 69 .(166/137)
يخلق افضل من محمد والأئمة ، وهؤلاء أحب احباء الله ، وإن الله يحبهم أكثر من غيرهم من جميع خلقه زبريته ، ثم هو قد روى في كتاب ( الأمالى ) برواية صحيحة في ضمن خبر طويل في قصة تزويج سيدتنا فاطمة بالأمير رضي الله عنهما عن الصادق عن آبائه أن الله تعالى قال لسكان الجنة من الملائكة وأرواح الرسل ومن فيها : الا إنى زوجت أحب النساء إلى من أحب الرجال إلى بعد النبيين ، وهذه الرواية تنادى بأعلى صوت : إن الأنبياء أحب إلى الله من الأمير لكونه أحب إليه بعدهم ولا عذر لابن بابويه في هذا التناقض الصريح والتهافت القبيح إلا أن يقول (( ليس للكذاب حفظ )) لا غير .
... العقيدة الثالثة : أن الأنبياء معصومون من التقول وقول الكذب والبهتان مطلقاً عمداً كان أو سهواً ، قبل النبوة أو بعدها . وقال الإمامية : يجوز لهم ذلك من البهتان وقول الكذب ، بل يجب عليهم تقية ، مع أن الكذب لو جاز على الأنبياء ، ولو تقية لم يبق الوثوق والاعتماد على قولهم ، وانتفض غرض البعثة . ولو كانت التقية جائزة للأنبياء لما أمكن تبليغ أحكام الله تعالى للناس بالضرورة ، لأن الاحتجاج إلى التقية في أول الآمر الذى لا يكون لهم فيه ممد وناصر أكثر وأمس ، ولو أظهروا في ذلك الوقت خلاف حكم الله تعالى مخافة إيذاء القوم متى يعلم حكم الله بعد ذلك ؟ وكيف يتصور علمه ؟ فيجب عليهم ان يبلغوا كل أمرهم بتبيلغه لقوله تعالى ( يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك ( الآية ولو حقهم مخافة ، كما قال تعالى ( الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً من الله وكفى بالله حسيباً ( ولو كان الأنبياء فعلوا بالتقية لما عاداهم الكفار وكذبوهم وآذوهم وجادلوا قومهم ليلاً ونهاراً وصبروا على ما أصابهم من القتل والضرب والشتم وغير ذلك ، فثبت أن التقية ليست جائزة لهم أصلاً .(166/138)
... العقيدة الرابعة : أن الأنبياء لابد لهم من معرفة الواجبات الإيمانية قبل البعثة وبعدها بالضرورة ، لأن الجهل بالعقائد موجب للكفر ، ومعاذ الله أن يكون هذا الجهل لجنابهم الأقدس . نعم إنهم لا يحصل لهم علم بوجود الحكام الشرعية بدون ورود الوحي إليهم ، وقد ورد باعتبار عدم هذا العلم قوله تعالى ( وعلمك ما لم تكن تعلم ( ، وقد أجمع على هذه العقيدة جماهير المسلمين واليهود والنصارى ، إلا الإمامية فإنهم قالوا لا تكون معرفة أصول العقائد حاصلة للأنبياء حين البعثة بل وقت المناجاة والمكالمة ، معاد الله من هذا الاعتقاد الباطل الذى بطلانه بديهي لا يحتاج إلى دليل .(166/139)
... العقيدة الخامسة : ان الأنبياء معصومون من صدور ذنب يكون الموت عليه هلاكاً خلافاً للإمامية فإنهم رووا في حق بعض الأنبياء صدور هذا الذنب منه ، روى الكلينى عن أبن أبي يغفور أنه قال سمعت أبا عبدالله يقول وهو رافع يده إلى السماء : رب لا تكلنى إلى نفسى طرفة عين ولا أقل من ذلك . فما كان باسرع من ان تحدر الدمع من جوانب لحيته ، ثم اقبل على فقال : يابن ابي يعفور إن يونس بن متى وكله الله إلى نفسه اقل من طرفة عين فاحدث ذلك . قلت : فبلغ به كفراً أصطلحك الله ؟ فقال : ولكن الموت على تلك الحال كان هلاكاً . وأعلم أن ما يظهر من نص الكتاب في امر يونس أنه ذهب عن قومه بلا إذن ربه فعوتب على هذا الامر ، وأيضاً تعجل في الدعاء على قومه ولم يتحمل شدائد إيذائهم وتكذيبهم كما ينبغي لأولى العزم . وظاهر أن هذين الأمرين ليسا بذنب فضلاً عن أن يكونا كبيرة فلأن يونس قد قامت عنده قرائن قوية على ان قومه لن يؤمنوا به فدعا عليهم ، وأيضاً خاف بعد أنكشاف العذاب عنهم أن يؤذوه إيذاء شديداً ويكذبوه تكذيباً صريحاً حيث لم يلحق العذاب على وفق وعده فلهذا هرب وفر منهم ولم ينتظر حكم الله فيه . ولما كان منصب الأنبياء أعلى وأرفع عوتب على هذا القدر عتاباً شديداً وأدب ونبه ، وما ورد في القرآن المجيد في حقه ( فظن أن لن نقدر عليه ( فهو مشتق من القدر بمغنى التضييق والأخذ الشديد من قبيل قوله تعالى ( الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ( لا من القدرة حيث يثبت فساد عقيدته ، والدليل الصريح على هذا ما وقع بعده ( فنادى في الظلمات ( إذ لن يصح تخريج الدعاء والنداء على معنى القدرة ، بخلاف ذلك المعنى المذكور فإنه الصق به . فحاصل المعنى على ما قلنا أنه ظن انا لن نضيق عليهم ولن ناخذهم أخذاً شديداً في العقاب فتاب وأستغفر لما فعله رجاء للقبول ، وأعتراف يونس بالظلم على نفسه حيث قال ( إنى كنت من الظالمين ( إنما هو لهضم النفس والتضرع في جنابه(166/140)
تعالى والعلم القليل كثير كما هو دأب الصالحين او لاجل ترك الأولى فانه في حق الأنبياء في حكم المعصية والظلم في حق عوام الناس .
العقيدة السادسة : أن آدم ابو البشر كان صفى الله بريئاً من الحسد والبغض معصوماً من الأصرار على معصية الله تعالى . وهذا مذهب أهل السنة لقوله تعالى ( ثم أجتباه ربه فتاب عليه وهدى ( وقوله تعالى ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ( وقوله تعالى ( إن الله اصطفى أدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ( وقد وصفه الشيعة بالحسد والبغض وسائر الخصال الذميمة وأنه مصر على عصيان الله تعالى ، وما ثبت لإبليس من القبائح كالحسد وترك امتثال الأمر بالسجود وغير ذلك مما حصل له بسبب آدم يثبته الشيعة لأدم بسبب الأئمة ، فإنه حسدهم ولم يقر بولايتهم .
روى ابن بابويه في عيون أخبار الرضا عن الإمام الرضا أنه قال : عن آدم لما أكرمه الله بسجود الملائكة له وإدخال الجنة قال في نفسه أنا أكرم الخلق ، فنادى عز وجل : أرفع رأسك يا آدم فأنظر إلى ساق العرش ، فرفع رأسه فوجد فيه مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله على ولي الله أمير المؤمنين وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة . فقال آدم : يارب من هؤلاء ؟ فقال عز وجل : هؤلاء من ذريتك وهم خير منك ومن جميع خلقى ، ولولاهم ما خلقتك وما خلقت الجنة والنار ولا السماء ولا الأرض ، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فاخرجك عن جوارى ، فنظر إليهم بعين الحسد فسلط عليه الشيطان حتى اكل من الشجرة التى نهى الله تعالى عنها .(166/141)
وروى ابن بابويه أيضا في عيون الأخبار عن المفصل بن عمر أبي عبد الله قال : لما أسكن الله عز وجل آدم وزوجته الجنة قال لهما ( وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ( فنظرا إلى منزلة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من بعدهم فوجداها أشرف المنازل التى في الجنة فقالا : ربنا لمن هذه المنزلة ؟ فقال الله عز وجل : أرفعوا رءوسكم إلى ساق عرشي ، فرفعا راسهما فوجدا اسماء محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة مكتوبة على ساق العرش بنور من نور الجبار جل جلاله ، فقالا : يا ربنا ما أكرم هذه المنزلة عليك ، وما أجبهم إليك ، وما أشرفهم لديك . فقال الله تعالى : لولاهم ما خلقتكما ، هؤلاء خزنة علمى وأمنائى على سرى إياكم أن تنظرا إليهم بعين الحسد ، وتتمنيا عندى ومحلهم من كرامتى ، فتدخلا من ذلك في نهيى وعصياني فتكونا من الظالمين . فوسوس إليهما الشيطان فدلاهما بغرور وحملهما على تمنى منزلتهم ، فنظرا إليهم بعين الحسد ، فخذلا . لذلك ينبغي للعاقل أن يتامل في مدلول هذين الخبرين فإنهما – كما ذكر – فيهما ما فيهما من إهانة آدم وتحقيره ، إذ الحسد مطلقاً من المذمومات والقبائح وأمراض القلب وأسقام الروح بإجماع جميع اهل الملل والنحل ، خصوصاً حسد الأكابر والأخيار من عباد الله فإنه كبيرة من عمدة الكبائر ، وهم يسبونه إلى آدم خاصة بعد تقييد الله وتأكيده التام له في منعه ، ففي مذهبهم لم يبق فرق بين آدم وإبليس ، فإن ما فعله إبليس في حقه فعله آدم في حق أولاده ، بل إن فعل آدم صار أقبح من فعل أبليس ، فإن إبليس لم يكن له علاقة بآدم من وجه بل كانت المباينة بينهما بالكلية بخلاف آدم فإنه كان بينه وبين هؤلاء الكبار علاقة الأبوة والنبوة ، فلزم أن قطيعة رحم القريب وحسد الأولاد الذى هو من المحالات العادية في سلامة الفطرة قد نسب إلى نبي هو أول الأنبياء ، وكان قبله الملائكة وساكن الجنة ، معاذ(166/142)
الله من ذلك . فهذا هو حال آدم وفعله في حق العباد عند الإمامية ، وأما معاملته في حق الله تعالى فنشرحها على طبق ما عندهم من الرواية الأخرى : روى محمد بن الحسن الصفار عن أبي جعفر : قال الله تعالى لآدم وذريته التى اخرجها من صلبه : ألست بربكم وهذا محمد رسول الله ( وعلي أمير المؤمنين واوصيناه من بعدى ولاة امرى ، وأن المهدى أنتقم من أعدائى وأعبد به طوعاً وكرهاً ؟ قالوا اقررنا وشهدنا ، وآدم لم يقر ولم يكن له عزم على الإقرار به . ولا يخفى أن هذا الخبر قد ذكر فيه كفر آدم صريحاً ، إذ لزمه كفر الجحود ، وهو نوع اشد من أنواع الكفر الأربعة . وتكفير نبي قد خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وقال في خلقه ( إن الله اصطفى آدم ( وأمر الملائكة بالسجود له ، كم له بعد عن الدين والإيمان وقد أنكر الشريف المرتضى خير الميثاق في كتابه بالدرر والغرر حمية الإسلام في الجملة ، وحكم بوضع ذلك الخبر وأختراعه ، وأخرج ابن الصفار وشيوخه عن دائرة الإيمان ولله الحمد .
والعجب من علماء هذه الفرقة أنهم لا يتأملون في نظم الكتاب ، ولا يجدون أن محل العتاب على آدم ليس إلا أكل الشجرة المنهى عنه فقط ، وما هو كبيرة بالإجماع ، ولو أن هذه الأمور وقعت منه لكان على الله أن يجعل تلك الأمور محل العتاب لا أكل الشجرة المنهى عنه ، وكان يخبر بها دونه ، ليكون لأبي بكر وعمر وعثمان عبرة في ذلك فيجتنبوا امثال هذه القبائح ( 1 ) .
وقد لوحظ في كتبهم رواية أخرى أيضاً عن الإمامية في ترك العهد الذى كان على آدم . وروى ابن الصفار المذكور في قوله تعالى ( ولقد عهدنا إلى آدم ( قال عهد الله إلى آدم في محمد والأئمة من بعده ، فترك ولم يكن له عزم أنهم كذا .(166/143)
... واصل الحقيقة أن ( ابن الصفار ) هذا كان رجلاً علجاً من علوج المجوس ، وكان اسم جده فرخ ، وهو كان يعد من موالى موسى بن عيسى الأشعري ، وقد بقى في طينيه الخبيبثة المجوسية ، غاية الأمر أنهم كانوا يتسترون بالتشيع : والدليل الصريح على هذا أن أبن الصغار يروى عن الئمة روايات تقدح بالحقيقة في الأئمة أيضاً كالأخبار المذكورة ، لأن كل طائفة من طوائف المليين من اليهود والنصارى والمسلمين قد اجمعوا على فضيلة أبي البشر آدم وكرامته على الله تعالى واصطفائه على العالمين . وغذا انتشر مثل هذه الروايات عنه في العالم يعتقد الناس قاطبة في حق الأئمة بطلان غمامتهم وعدم حقيتها ، بل عدم دليله وينفرون عنهم بهذه الكلمات ، ويحدث في الإسلام ابتلاء عظيم ، ويحصل للمجوس مدعاهم وأمانى قلوبهم من زوال نور الإسلام . وبحمد الله قد أطلع أهل السنة على خباثة هؤلاء القوم وطرحوا رواياتهم ، ولكن الشيعة لما اضلهم الشيطان عن طريق الصواب وتركهم تبعاً لهؤلاء الشيوخ المضلين ، جعلوا
------------------------
( 1 ) لعل القارئ قد لاحظ من أول الكتاب إلى الأن المؤلف يخاطب الشيعة بعقليتهم ، ويحتج عليهم برواياتهم واساليبهم ، مبالغة منه في سد ابواب المراء في وجوههم وليقنع اتباعهم بان ماهم عليه يناقض دعاويهم وينقضها من اصولها .
دينهم وإيمانهم على رواية هؤلاء الكفرة ، وبدلوا إيمانهم في سبيل متابعة أولئك الأبالسة ، ومن يضلل فما له من هاد .(166/144)
العقيدة السابعة : أن أحداً من الانبياء لم يستعف عن الرسالة قط ، ولم يعتذر في أداء أحكام الله تعالى اصلاً ، وهذا هو مذهب اهل السنة . وقال الإمامية إن بعض اولى العزم من الرسل أستعفوا عن الرسالة واظهروا الاعتلال وعدم الموافقة وبينوا العذر منهم موسى على نبينا وعليه السلام ، فإنه لما قال له تعالى وناداه بلا واسطة أحد يا موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ، قال موسى في جوابه : أعفنى من هذا الآمر إنى اخاف أن يكذبون ، ويضيق صدرى من المباحثة ، ولا ينطلق لسانى ايضاً لكونه العقدة فيه فيقصر في تقرير المطلب ، ولهم على ذنب بما قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلونى بدله ، فارسل هرون أخى هو افصح منى لساناً وأجعله رسولا إلى فرعون . والإمامية يخرجون هذه المعانى من آيات الكتاب ويفههمونها من كلام الله تعالى ، مع ان الأستعفاء عن الرسالة متضمن لرد الوحي ومستلزم لعدم الأنقياد وترك الأمتثال لآمر الله تعالى ، والأنبياء معصومون عن مثل هذه الأمور ، وأنت تعلم انهم لا محل لهم بالتمسك في آيات الكتاب الوادرة في احوال موسى ، بل تلك الآيات عند التأمل معجزة لهم ومكذوبة لدعواهم هذه ، لأن موسى لم يقل عنه فيما حكى عنه في القرآن المجيد هذا القول ولو بمعناه (( اعفني من هذا الأمر )) أصلاً ولم يذكر من قبله فيه قط وكذا هذا القول (( أرسل هرون بالرسالة إليهم بدلا مني )) وهذه كلها ناشئة من سوء فهم علماء هذه الفرقة وشدة وقاحتهم . نعم قد بين سخافة تكذيب قوم فرعون وخوف قتلهم إياه قبل أداء الرسالة وضيق صدره وقصور لسانه ولكن لا من جهة الاستعفاء والاعتلال بل لطلب العون على امتثال الأمر وتمهيد العذر في طلب المعين وهذا عين الحجة لقبوله لا على رده ودفعه وفي آية ( واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري ( ورد تفسير هذا بأن غرض موسى كان إشتراك أخيه بنفسه في أمر الرسالة لا المدافعة عن نفسه ولا جعل هرون في(166/145)
مكانه . وكذا قوله أخاف أن يكذبون وأخاف أن يقتلوهن إنما كان لمحض استدفاعه البلاء عن نفسه واستجلابه الحفظ من رب الأرض والسماء لا دفع هذا المنصب العالي عن نفسه نعوذ بالله تعالى من سوء الفهم والظن لا سيما في حق الأنبياء وخصوصاً أولي العزم .
العقيدة الثامنة : أن المبعوث من عند الله تعالى إلى الخلق كافة هو محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب بن هاشم ( لا على بن أبي طالب بن عبد المطلب وأن جبريل أمين الله على وحيه الذي جاء به إلى النبي ( من عند ربه لا من نفسه ولم يحن في أداء الرسالة قط . وخالفت الغرابية إحدى فرق الشيعة في ذلك (1) ولا يمكن الاحتجاج عليهم بالكتاب لأنه وصل النبي ( بواسطة جبرائيل وهو غير مقبول عندهم ، ولا بقول الأئمة لأن شهادتهم لجدهم وشرفه يعود إليهم بل لا بد من أن يحتج عليهم بالتوراة لأنها نزلت دفعة واحدة في الطور بلا واسطة أحد مكتوب على الألواح ولم يكن فيها دخل لجبريل قال الله تعالى في سفر التكوين من التوراة لا براهيم : إن هاجر تلد ، ويكون من ولدها من يده فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة إليه بالخشوع (2) ولم يكن ذلك الولد إلا محمد ( وحده لأن علياً كرم الله وجهه كان في زمن الخلفاء الثلاثة مغلوباً خائفاً مظلوماً (3) . وفي سفر التثنية منها : يا موسى إني مقيم لبني إسماعيل نبيا وأجرى قولى في فيه ويقول لهم ما آمره به (4) . وهذا النبي لا بد أن يبعث في بني إسماعيل وعلي بن أبي طالب لم يبلغ قط ما أمر الله تعالى بل هو من أتباع نبي وقته فليس ذلك النبي إلا محمد بن عبدالله . وفي الزبور : يا أحمد فاضت الرجمة على شفتيك من أجل ذلك أبارك عليك فتقلد السيف فإنه بهاؤك وحمدك الغائب وبوركت كلمة الحق فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك سهامك مسنونة والامم يجرون تحتك كتاب حق الله من اليمن والتقديس من جبل فاران وامتلأت الأرض من تحميد أحمد وتقديسه وملك الأرض ورقاب الأمم (5) وفي موضع آخر منه لقد(166/146)
انكسفت السماء من بهاء أحمد وامتلأت الأرض من حمده . إلى غير ذلك من نصوص الانجيل مما هو مذكور في الترجمة وعندي أن هذا مما لا حاجة إلى إقامة الحجة على بطلانه ومن أنكر شمس الضحى فليترك مع شيطانه .
العقيدة التاسعة : أن معراج النبي ( إلى السماوات بشخصه حق ، وليس لأحد من أهل عصره مشاركة له في ذلك لقوله تعالى ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ( وقوله تعالى ( ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى – إلى قوله تعالى – لقد رأى من آيات ربه الكبرى ( وكتب الامامية مشحونة من كلام الأئمة في ذلك . وخالفت أكثر
----------------
( 1 ) تقدم التعريف بالشيعة الغرابية في ص13
( 2 ) في سفر التكوين المتداول عندهم بالاصحاح 16 : 10- 12 (( وقال لها ملاك الرب : ها أنت حبلي فتلدين ابنا وتدعين اسمه إسماعيل … يده على كل واحد ويد كل واحد عليه وأمام جميع إخوانه يسكن …. إلخ )) وفي الصحاح 17 من سفر التكوين : 20 (( وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيراً جداً ، اثنى عشر رئيساً يلد واجعله أمة كبيرة )) .
( 3 ) أي حسب مزاعم الإمامية .
( 4 ) في سفر التثنية من التوراة (18 : 15 ) : يقيم لك الرب الهك نبيا من وسطك – من إخوتك مثلى ، له تسمعون )) (18 : 18) : (( أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به )) .
( 5 ) في سفر التثنية من التوراة 33 : 2 (( جاء الرب من سيناء ، وأشرق لهم من سعير ، وتلألأ من جبل فاران وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم )) وبرية فاران هي التي سكنتها هاجر وابنها إسماعيل كما في سفر التكوين 21 : 21 .(166/147)
فرق الشيعة في هذه المسألة فبعضهم أنكر وهم الاسماعيلية والمعمرية والذمية (1) أصل المعراج مستدلين بشبهات الفلاسفة من استبعاد الحركة السريعة وخرق السماوات وقد برهن عليها في كتاب الكلام وبعضهم وهم المنصورية (2) أنكر الاختصاص وقالوا إن أبا منصور العجلى قد صعد أيضاً بجسده في اليقظة إلى السماوات وشافه الله تعالى وكالمه ومسح الله تعالى بيده فوق رأسه والعجلى هذا هو الذي أخرجه الإمام الصادق من بيته وطرده ثم ادعى الإمامة لنفسه . ومن الإمامية من يقول بمشاركة الأمير في المعراج ومنهم من قال لا لكن رأى وهو في الأرض ما رآه النبي ( على العرش سبحانك هذا بهتان عظيم ! إذ لو كانت تلك الرؤية ممكنة من الأرض لم كلف النبي ( إلى الصعود ؟ فيلزم على هذا تفصيل الأمير على النبي ( وقد نبين بطلانه .
العقيدة العاشرة : نصوص الكتاب وسنن النبي ( كلها محمولة على معانيها الظاهرة وأن التكاليف لم ترتفع . وذهب فرق كثيرة من الشيعة كالسبعية والخطابية والمنصورية والمعمرية والباطنية والقرامطة والرزامية إلى ان كل ما ورد في الكتاب والسنة من الوضوء والتيمم والصلاة والصوم والزكاة والحج والجنة والنار والقيامة والحشر ونحوها غير محمولة على ظاهرها بل هي إشارات إلى الأشياء أخر لا يعلمها إلا الإمام المعصوم ، كقول السبعية ( 3 ) إن الوضوء موالاة الإمام ، والتيمم الأخذ من المأذون في غيبة الإمام ، والصلاة عبارة عن الرسول الناطق بالحق بدليل أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والغسل عبارة عن تجديد العهد للإمام ، والجنة هي سقوط التكاليف الشرعية ، والنار مشقة حمل التكاليف والعمل بالظواهر.(166/148)
واما القائلون بأرتفاع التكاليف الشرعية بالكلية فهم المنصورية ( 4 ) القائلون من لقى إمام الوقت سقط عنه جميع التكاليف بنفسها فيفعل حينئذ ما يشاء ، لأن الجنة عبارة عن الإمام ، وبعد الوصول لا يبقى تكليف . والحميرية ( 5 ) القائلون إن أمر الشيعة مفوض إلى حجة الوقت ، فإن شاء أو زاد أو نقص .
--------------------------
( 1 ) تقدم الكلام عن فرق الإسماعيلية في ص 17 و 18 ، والكلام على المعمرية والذمية في ص 13 .
( 2 ) أنظر في ص 12 الكلام على المنصورية وأبي منصور العجلى .
( 3 ) تقدم الكلام عليهم في ص 18 .
( 4 ) أنظر ص 12 .
( 5 ) نسبة إلى الحسن بن صباح الحميرى ، وهم النزارية من الإسماعيليين . أنظر ص 19 .
العقيدة الحادية عشرة : أن الله تعالى لم يرسل ملكاً إلى أحد في الأرض من البشر بعد خاتم النبيين ( . وقالت الإمامية كان أمير يوحى إليه ، والفرق بين وحى الروسل وبين وحى الأمير أن الرسول كان يشاهد الملك والأمير يسمع صوته فقط .(166/149)
روى الكلينى في الكافى عن السجاد ان على بن أبي طالب كان محدثاً وهو الذى يرسل الله إليه الملك فيكلمه ويسمع الصوت ولا يرى الصورة ( 1 ) . وهذه الرواية كذب مع انه يناقضها الروايات الأخر الثابتة عندهم عن الأئمة منها أن الرسول ( قال : أيها الناس لم يبق بعدى من النبوة إلا المبشرات . ومنها ما كان البارى تعالى انزله من الكتاب المختوم بخواتم الذهب إلى نبي الزمان وهو أوصله إلى الأمير والأمير أوصله إلى الإمام الحسن وهكذا إلى المهدى وكان السابق يوصى اللاحق أن يفك خاتماً واحداً من ذلك الكتاب ويعمل بما فيه ، فإذا كان الأمر كذلك لم يكن حاجة إلى إرسال الملك والإيحاء . وذهبت طائفة من الإمامية إلى أن سيدة النساء فاطمة غلبها السلام كان يوحى إليها بعد وفاة النبي ( . وقد جمع ذلك الوحي وسماه ( مصحف فاطمة ( 2 ) ) وأكثر الوقائع الأتية وفتن هذه الأمة مذكورة فيه والأئمة إنما يخبرون الناس باخبار الغيب من ذلك المصحف ، سبحانك هذا بهتان عظيم وقول وخيم .
العقيدة الثانية عشرة : أن الإمام لا يجوز له أن ينسخ حكماً من الحكام الشرعية ولا يبدله . وذهبت الإمامية إلى جواز ذلك مستدلين بروايات مفتراة على الأئمة ، منها مارواه ابن بابويه القمى عن أبي عبد الله أنه قال : إن الله تعالى آخى بين الأرواح في ألأزل قبل أن يخلق الاجسام بالفى عام ، فلو قد قام قائم أهل البيت ورث الأخ من اللذين آخى بينهما في الأزل ولم يورث الأخ من الولادة . ومما يدل على كذب هذه الرواية أن التكاليف الشرعية لما كانت لازمة لعامة الناس لابد أن تكون منوطة بالعلاقة الظاهرة والأمور الجلية كالتوالد والقرابة ونحوهما مما يدركه البشر ، والمؤاخاة الأزلية لا يدركها العقل ، ونص الإمام لا يمكن في كل فرد فرد .
---------------------------(166/150)
( 1 ) وأنظر ص 41 من الكافى الكلينى طبعة سنة 1278 . وضلالة سماع الصوت أدعاها غاندى لنفسه ووافقه عليها قاديانيه في مجلة light الجزء 19 بتاريخ 16 يوليو 1933 ورد عليهم الدكتور تقى الدين الهلالي في مجلة ( الفتح ) ثم نشر في رسالة مستقلة بعنوان (( سب القاديانيين للإسلام )) . فالإمامية سبقوا القاديانيين وعابد البقر إلى هذه الخرافة .
( 2 ) في كتاب ( الكافى ) للكلينى ص 57 وهو عندهم مثل صحيح البخارى عند المسلمين ان أبا بصير سمع من جعفر الصادق قوله (( وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام ، وما يدريهم ما مصحف فاطمة عليها السلام …. مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات ، والله ما فيه من قرآنكم هذا حرف واحد ، وأبو بصير مخترع هذه الكذوبة هو ليث بن البخترى وتقدم التعريف به في هامش ص 65 ، وقد أعترف علماء الإمامية بانه مطعون في دينه لكنهم قالوا إنه ثقة والطعن في دينه لا يوجب الطعن ! وهكذا قالوا والله حسيبهم ….
والحاصل أن هذه العقيدة مخالفة لظاهر العقل لأن الإمام خليفة النبي في ترويج الشريعة وتعليمها ، فإن كان له دخل في تبديل الأحكام وتغييرها فقد خالفه ، مع أنه ليس بشارع ، وكذا النبي لقوله تعالى ( شرع لكم من الدين ( وقوله تعالى ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ( نسأله تعالى أن يعصمنا من مثل هذا الزلل ويوفقنا إلى ما يحب من القول والعمل .
الباب الخامس
في الإمامة – وفيه ست تنبيهات(166/151)
... التنبيه الأول : أعلم أن أول ما أختلف فيه من مسائل هذا الباب كون نصب الإمام واجباً على العباد أو على الله تعالى . فأهل السنة على الأول ، والشيعة على الثاني . والفطرة شاهدة للأول إذ كل فرقة تقرر لأنفسهم رئيساً من بينهم ، وكذا الشرع أيضاً إذ الشارع قد أوضح شرائط الإمام وأوصافه ولوازمه بوجه كلى كما هو شانه في الأمور الجبلية كالنكاح ولوازمه مثلاً . وايضاً لا معنى للوجوب عليه تعالى بل هو مناف للالوهية والربوبية كما هو مقرر في محله . وأيضاً كل ما يتعلق بوجود الرئيس من أمور المكلفين – من إقامة الحدود والجهاد وتجهيز الجيوش إلى غير ذلك – واجب عليهم ، فلابد وأن يكون نصب الرئيس واجباً عليهم ، لأن مقدمة ما يجب على أحد واجبة عليه ، ألا ترى أن الوضوء وتطهير الثوب وستر العورة واجب على المصلى كالصلاة ، لا عليه تعالى ، وهذا ظاهر . وأيضاً إن تأملنا علمنا ان نصب الإمام من قبل البارى يتضمن مفاسد كثيرة ، لأن آراء العالم مختلفة واهواء نفوسهم متفاوتة ، ففي تعيين رجل لتمام العالم في جميع الأزمنة إلى منتهى بقاء الدنيا إيجاب لتهييج الفتن ، وجر لامر الإمامة على التعطيل ودوام الخوف والتزام الاختفاء كما وقع للجماعة الذين يعتقد الشيعة إمامتهم ، فمع هذا قولهم (( نصب الإمامة لطف )) في غاية السفاهة يضحك عليه ، إذ لو كان لكفاً لكان بالتأييد والإظهار لا بغلبة المخالفين والانتصار ، فإذا لم يكن التأييد في البين ، لم يكن النصب لطفاً كما يظهر لذى عينين .(166/152)
... وما اجاب عنه بعض الإمامية – بان وجود الإمام لطف ، وتصرفه وتمكينه لطف آخر ، تصرف الأئمة إنما هو من فساد العباد وكثرة الفساد ، فإنهم خوفوهم ومنعوهم بحيث تركوا من خوفهم على أنفسهم إظهار الأمامة ، وإذا ترك الناس نصرتهم لسوء اختيارهم فلا يلزم قباحة في كونه واجباً عليه تعالى ، والاستتار والخوف من سنن الأنبياء فقد أختفى ( في الغار خوفاً من الكفار – ففيه ( 1 ) غفلة عن المقدمات المأخوذة في الأعتراض ، إذ المعترض يقول : الوجود بشرط التصرف والنصرة لطف ، وبدونه متضمن لمفاسد . فالواجب في الجواب التعرض لدفع لزوم المفاسد ، ولم يتعرض له كما لا يخفى . وأيضاً يرد على القائل بكونه لطفاً آخر ترك الواجب عليه تعالى ، وهذا قبح من ترك النصب . وأيضاً يقال عليه : هذا اللطف الآخر إما من لوازم النصب أولا ، فعلى الأول لزم من تركه ترك النصب لن ترك اللازم يستلزم ترك الملزوم .
-----------------------
( 1 ) أى في هذا الجواب من الإمامية .
وعلى الثاني لم يبق النصب لطفاً للزوم المفاسد الكثيرة ، بل يكون سفهاً وعبثاً ، تعالى الله عن ذلك .
... وأيضاً ما ذكره من تخويف الناس للأئمة غير مسلم ، وهذه كتب التواريخ المعتبرة في البين . وأيضاً التخويف الموجب للاستتار غنما هو إذا كان بالقتل ، وهذا لا يتصور في حق الأئمة لأنهم يموتون باختيارهم كما أثبت ذلك الكلينى في الكافى وبوب له ( 1 ) . وأيضاً لا يفعل الأئمة أمراً إلا بإذنه تعالى ، فلو كان الإختفاء بأمره تعالى وقد مضت مدة والخفاء هو الخفاء ، فلا لطف بلا أمتراء ( 2 ) .(166/153)
... وأيضاً إن كان واجباً للتخويف لزم ترك الواجب في حق الذين لم يكونوا كذلك كزكريا ويحيى والحسين ، وإن لم يكن واجباً بأن كان مندوباً لزم على من أختفى ترك الواجب الذى هو التبليغ لأجل مندوب ، وهو فحش . ولإن كان آمر الله تعالى مختلفاً بان كان في حق التاركين بالندب مثلاً وفي حق المستترين بالفرض لزم ترك الأصلح الواجب بزعم الشيعة في أحد الفريقين ، وهو باطل . ولا يمكن ان يقال الأصلح في حق كل ما فعل ، لأنا نقول إن الإمام بوصف الأمامة لا يصح أختلاف وصفه كالعصمة ، لأن أختلاف اللوازم يستلزم أختلاف الملزومات ، فيلزم أن لا يكون أحد الفريقين إماماً فلا يكون الأصلح في حقهم إلا أحد الحالين وإلا لزم اجتماع النقيضين كما أن الموضوع إذا كان مأخوذاً بالوصف العنواني فثبوت المحمول له بالضرورة بشرط الوصف يكون لازماً ويمتنع حمل نقيضه عليه كما لا يخفى . وأيضاً نقول : الاختفاء من القتل نفسه محال لأن موتهم باختيارهم ! وإن كان من خوف إيذاء البدن يلزم أن الأئمة فروا من عبادة المجاهدة وتحمل المشاق في سبيل الله تعالى وهذا بعيد عنهم ومع هذا لا معنى لاختفاء صاحب الزمان بخصوصه (3) فإنه يعلم باليقين أنه يعيش إلى نزول عيسى ولا يقدر أحد على قتله وأنه سيملك الأرض بحذافيرها فبأي شيء يتخوف ويختفي ؟ ولماذا لم يظهر الدعوة ويتحمل المشقة كما فعله -------------------------
( 1 ) في ص 62 من طبعة إيران سنة 1287 وعنوان الباب (( باب أن الأئمة يعلمون متى يموتون ، وانهم لا يموتون غلا بأختيار منهم )) وكتاب الكافى للكلينى عند هذه الطائفة بمنزلة صحيح البخارى عند المسلمين .
( 2 ) وفي بخاريهم الذى يسمونه ( الكافى ) للكلينى ص 68 باب مستقل عنوانه (( باب أن الأئمة عليهم السلام لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلونه إلا بعهد من الله وامر لا يتجاوزونه )) .(166/154)
( 3 ) صاحب الزمان وقد يسمونه صاحب الدار هو الصبي الذي زعموا أنه إمامهم الثاني عشر ودخل السرداب صبياً في مدينة سر من رأى ومنذ أكثر من ألف سنة يدعون بأن يعجل الله فرجه ويرمزون لهذا الدعاء بهذين الحرفين (ع.ج) أو (عج) ، منتظرين خروجه من السرداب وبيده السيف فيذبح البشر جميعاً وفي مقدمتهم المسلمين أهل السنة والجماعة ويمحقهم محقاً وليس في الشيعة شاعر إلا قصيدة في صاحب الزمان ساكن السرداب والدعاء بأن يعجل الله فرجه وحتى البهاء العاملى صاحب الكشكول وخلاصة . الحساب له قصيدة يغنى فيها على ألحان هذه الموسيقى ولهم في بلدة قم رئيس يزعمون أنه آية الله وهو يمثل خدمة صاحب الزمان ويجمع الصدقات باسمه لا لأن الإمام يحتاج إلى ما في أيدى الناس يحتاجون أن تقبل صدقاتهم منه ! وقد أراد مندوب جريدة الأخبار المصرية أن يجتمع به فسافر إليه ولقي في ذلك أعظم المشقات ، ومع ذلك لم يتوصل إلى رؤية صاحب هذا المقام الرفيع لأن خادم صاحب السرداب يجب أن يكون هو الآخر في سرداب ! .(166/155)
سيد الشهداء ؟ وما قاله المرتضي في كتابه ( تنزيه الأنبياء والأئمة ) من أنه فرق بين آبائه الكرام فإنه مشار إليه بأنه مهدي قائم صاحب السيف قاهر للأعداء منتقم منهم مزيل للدولة والملك عنهم فله مخافة لا تكون لغيره فكلام لا لب فيه لأن خوف القتل نفسه قد غلب عليه ومع هذا معلوم له باليقين أن أحداً لن يقتله أبداً . وأيضاً ألا يعلم أن المخالفين لا يقبلون من أحد دعوى المهدوية قبل ألف سنة وأن المهدي يظله السحاب لا سقف السرداب وأنه يظهر في مكة لا في سر من رأى ، ويدعو الناس بعد الأربعين من عمره لا في زمن الطفولة ولا في الشيخوخة على أن السيد محمد الجنفوري في الهند ولم يقتل ولم يخوف وأيضاً قد كثر محبوه وناصروه في زمن الدولة الصفوية أكثر من رمل الصحارى والحصى فالاختفاء مناف لمنصب الإمامة الذي مبناه على الشجاعة والجرءة فهلا خرج وصبر واستقام إلى أن ظفر وهلا كان القوم الذين قال الله تعالى فيهم ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ( ثم ما حكى أولاً من قصة الغار واستتار سيد الأبرار من خوف الكفار فكلام واقع في غير موقعه لأن استتاره عليه الصلاة والسلام لم يكن لإخفاء دعوى النبوة بل كان من جنس التورية في الحرب لأجل أن الكفار لا يطلعون على مقصده ولا يسدون الطريق عليه وهذا أيضاً كان ثلاثة أيام فقياس ما نحن فيه عليه غاية الحماقة والوقاحة ففرق واضح لا يخفى على من له أدنى عقل بين الاختفاء الذي كان مقدمة لظهور الدين والغلبة على الكافرين وبين الاختفاء الذي لازمه الخذلان وترك الدعوة وانتشار الطغيان فالأول تلوح مياه الهمة من أسرته وتتبلج أقمار النصرة من تحت طرته بخلاف الثاني فغبار الجبن يلوح على خده والفرار عن الدعوة موسوم على حده فأي فرقة سخرها الإمام لنفسه في هذه الغيبة وأي ملك ملكه !؟ ولو ابتغى صاحب الزمان فرصة ثلاثمائة سنة مكان ثلاث(166/156)
ليالي وعوض الغار سرداب سر من رأى وبدل المدينة المنورة دار المؤمنين ( قم ) ودار الإيمان ( كاشان ) وبدل الأنصار شيعة فارس والعراق قائلاً بأنى في هذه الصورة أجمع الأسباب وأتخذ الأصحاب ثم خرج لكشف الغمة وإصلاح حال الأمة لتحمل أهل السنة وغيرهم هذه الشرائط وأنى ذلك فليست هذه إمامة بل هي لعمرك قيامة وقد ترك الشيخ (1) صاحب ( كنز العرفان ) من المتأخرين طريق القدماء وقال : كان الاختفاء لحكمة أستأثر بها الله تعالى في علم الغيب عنده ويرد عليه أن هذا الدعاء مجرد يمكن أن يقال مثله في كل أمر يكون مناقضاً للطف ، فلا يثبت اللطف في شئ ! وبه يفسد كلام الشيعة كله ، لأن مبنى أدلتهم عليه ، يقولون : إن أمر كذا لطف واللطف واجب عليه تعالى ! فليتأمل . والله
--------------------
( 1 ) السيوري أحد أعلام الشيعة الذي سبقت الإشارة إليه في ص81 .
سبحانه يحق الحق وهو يهدى السبيل .
... التنبيه الثاني : أعلم أن قول الله تعالى ( أبعث لما ملكاً نقاتل في سبيل الله ( وقوله تعالى ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ( وقوله تعالى ( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا ( إلى غير ذلك من الآيات يدل على أن هداية الناس والصبر على مشقة مخالطتهم من لوازم الإمامة ، وكذا الجهاد في سبيل الله ، والعقل يحكم بذلك . وقال أمير المؤمنين (( لابد للناس من أمير برٍ أو فاجر . يعمل في إمرته المؤمن ويستمع فيها الكافر ، ويبلغ فيها الأجل وتأمن فيها السبل ، ويؤخذ به للضعيف من القوى ، حتى يسريح بر ويستراح من فاجر )) كذا في نهج البلاغة . ولا يمكن حمله على التقية ، لما ذكره في نهج البلاغة من أنه ( قاله لما سمع قول الخوارج (( لا إمارة )) فلا محل للتقية في مقابلتهم ، فتأمل في هذا الكلام ، وتفكر في هذا المقام تر الفلاح أوضح من الصباح ، وان الحق عند اصحاب الجنة وأهل السنة . والله تعالى أعلم .(166/157)
التنبيه الثالث : (( العدالة )) شرط الإمامة ، لا (( العصمة )) بمعنى أمتناع صدور الذنب كما في الأنبياء ، خلافاً للشيعة ولا سيما الإمامية والإسماعيلية قالوا : لابد منها علماً وعملاً ، وهو مخالف للكتاب والعترة .
أما الكتاب فقوله تعالى ( إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً ( فكان واجب الطاعة بالوحي ، ولم يكن معصوماً بالإجماع . وقوله تعالى ( إنى جاعل في الأرض خليفة ( فكان قبل النبوة إماماً وخليفة ، وصدر منه ما صدر ، ويدل على ذلك قوله تعالى ( فعصى آدم ربه فغوى ( وقوله ( ثم أجتباه ربه ( والاجتباء في قوله تعالى في حق يونس ( فأجتباه ربه فجعله من الصالحين ( الأصطفاء للدعاء وعذره ورده إليه لا الاسنباء ، إذ قد ثبت قبل بقوله تعالى ( وإن يونس بمن المرسلين ، إذ أبقى إلى الفلك المشحون ( بخلاف ما نحن فيه ، كذا قيل ، فليتأمل . وأما أقوال العترة فقد أسلفنا قول الأمير (( لابد للناس ألخ )) وأيضاً روى في الكافى ما قال الأمير لأصحابه (( لا تكفوا عن مقالة بحق ، أو مشورة بعدل ، فإنى لست آمن أن أخطى )) والحمل على المشورة الدنيوية ياباه الصدر كما لا يخفى .
وأيضاً روى صاحب الفصول عن أبي مخنف أنه قال : كان الحسين يبدى الكراهة من صلح أخيه الحسن مع معاوية ويقول : لو جز أنفى كان أحب إلى مما فعله أخى .
وإذا خطأ أحد المعصومين الاخر ثبت خطأ أحدهما بالضرورة ، لامتناع اجتماع النقيضين . وأيضاً في الصحيفة الكاملة للسجاد (( وقد ملك الشيطان عنانى في سوء الظن وضعف اليقين ، وإنى أشكو سوء محاورته لى وطاعة نفسى له )) فظاهر أنه – على الصدق والكذب – مناف للعصمة .(166/158)
ومن أدلتهم على العصمة أن الإمام لو لم يكن معصوماً لزم التسلسل . بيان الملازمة أن المحوج للنصب هو جواز الخطأ للأمة ، فلو جاز الخطأ عليه أيضاً لافتقر إلى أخر وهكذا ، فيتسلسل . ويجاب بمنع أن المحوج ما ذكر ، بل المحوج تنفيذ الأحكام ودرء المفاسد وحفظ بيضة الأسلام مثلاً ، ولا حاجة في ذلك إلى العصمة ، بل الإجتهاد والعدالة كافيان . ولما لم يكن إثم على التابع إذ ذاك أستوى جواز الخطأ وعدمه . سلمنا . لكن التسوية ممتنعة بل تنتهى السلسلة إلى النبي . سلمنا لكنه منقوض بالمجتهد النائب عن الإمام في الغيبة عند الإمامية ، وليس بمعصوم إجماعاً فيلزم ما لزم ، والجواب هو الجواب .
ومن الأدلة أيضاً أنه حافظ للشريعة فكيف الخطأ ؟ ويجاب بالمنع ، بل هو مروج ، والحفظ بالعلماء لقوله تعالى ( الربانيون والأحبار بما أستحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ( وقوله تعالى ( كونوا ربانيين بما كنتم تدرسون ( . وأيضاً إذا كان الحفظ بالعلماء زمن الفترة وفي الغيبة على ما في كشكول الكرامة للحلى ففي الحضور كذلك . سلمنا ، لكن الحفظ بالكتاب والسنة والإجماع لا بنفسه ، وممتنع الخطأ في هذه الثلاثة ، والآراء ، لا دخل لهما في صلب الشريعة ، فلا ضرورة في حفظها . سلمنا ، ولكن ذلك منقوض بالنائب . وقد يقال بأن وجود المعصوم لو كان ضرورياً للأمن من الخطأ لوجب أن يكون في كل قطر بل في كل بلدة ، إذ الواحد لا يكفى للجميع بل هو مستحيل بداهة لانتشار المكلفين في الأقطار ، والحضور مستحيل عادة ، ونصب نائب لا يفيد لجواز الخطأ لا يفيد لجواز الخطأ وعدم إمكان التدارك لا سيما في الغيبة والوقائع اليومية إذ الإطلاق ممنوع ، وعلى تسليمه الإعلام إما برسول ولا عصمة ، أو بكتاب والتلبيس جائز . على أن الفهم إنما هو إستعمال قواعد الرأى وضوابط القياس ، والكل مظنة الخطأ ، فلا يحصل المقصود إلا بنصب معصوم في كل قطر وهو محال .(166/159)
التنبيه الرابع : الإمام لا يلزم أن يكون منصوصاً من البارى ، لأن نصبه واجب على العباد كما تقدم ، فتعيين الرئيس مفوض إليهم ، وهو الأصلح لهم . وقالت الإمامية لابد أن يكون منصوصاً من قبله تعالى ، كما أن نصبه واجب عليه تعالى . وهذا مخالف للعقل والنقل : أما الأول فقد مر ، وأما الثاني فلقوله تعالى ( وجعلناهم أئمة ( ، و ( نريد أن نجعلهم أئمة ( و ( هو الذى جعلكم خلائف في الأرض ( إلى غير ذلك ، ولم يكن في احد من تلك الفرق نص بل كان برأى أهل الحد والعقد ، فمعنى الجعل إلقاء أختياره في قلوب مسموعى القول فينصبوه ، فإن عدل فعادل وإلا فجائز . وقد قيس طالوت بعصا الملوك فساواها فملك كما لا يخفى على المتتبع فافهم ، والله تعالى اعلم .
التنبيه الخامس : لا يلزم أن يكون الإمام أفضل أهل العصر عنده تعالى ، إذ قد خلف طالوت ، وداود وشمويل موجودان . نعم لابد لأهل الحد والعقد من نصب الأفضل رياسة وسياسة لا عبادة ودراسة . والشيعة على خلاف هذا . وقد علمت درهم إجمالاً . وأشترطوا ما أشترطوا لنفى الخلافة عن الثلاثة لعدم العصمة والنص ، وفي الأفضلية مجال بحث . وهذه نبذة يسيرة في الرد ، وسيأتى التفصيل في إثبات الخلافة إن شاء الله تعالى .(166/160)
التنبيه السادس : وهذا أهم التنبيهات : أعلم أن الإمام بعد رسول الله ( بلا فصل أبو بكر الصديق بإجماع أهل الإسلام ، وقد تفردت الشيعة بإنكار ذلك وقالوا الإمامة كذلك لعلى ( ، وعند أهل الحق له بعد الثلاثة ، ثم لابنه الحسن ( ، والصلح لمصالح رآها وهو اللائق بذاته الكريمة لا لخوف من جند كما أفترى المفترون غذ قد ورد في كتب الشيعة خطبة يقول فيها (( إنما فعلت ما فعلت إشفاقاً عليكم )) وقد ثبت في آخرى أوردها المرتضى وصاحب الفصول أنه قال لما انبرم الصلح بينه وبين معاوية (( إن معاوية قد نازعنى حقاً لى دونه ، فنظرت الصلح للأمة وقطع الفتنة . وقد كنتم بايعتمونى على أن تسالموا من سالمنى وتحاربوا من حاربنى ، ورأيت أن حقن دماء المسلمين خير من سفكها ، ولم ارد بذلك إلا صلاحكم )) فهاتان الخطبتان تدلان على ان الصلح للمصلحة لا للعجز وعدم الناصر ، والثانية أيضاً تدل بالصراحة على إسلام الفريق الثاني ، لأن المصالحة لأهل الكفر والردة لمخافة الفتنة لا تجوز ، بل ترك قتالهم وغلبتهم هو الفتنة لقوله تعالى ( وقاتلهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين له ( وأيضاً قد سبق ما كان يقوله الحسين في صلح الحسن أفنسى أن الضرورات تبيح المحظورات . ثم إظهار الكراهة لخلاف المصلحة المعقولة للكارة لا تكون قبيحة ، وأيضاً الاختلاف بين أكابر الدين في المصالح المنجر إلى عدم الرضا لا يقدح في أحد الجانبين ، فليحفظ . ثم لا يغتر بما يقوله أهل الزور على اهل السنة من انهم يقولونه بخلافة معاوية بعد الشهيد ، وحاشا وكلا ( 1 ) بل هم يقولون بصحة خلافته بعد صلح
---------------------------(166/161)
( 1 ) ومعاوية نفسه ( يرى بدء خلافته من يوم مبايعة الحسن ( له بالخلافة ، ومع ذلك فإنه في عشرين سنة تقدمت على ذلك مدة الخلافة الصديق والفاروق وذى النورين إلى عام الجماعة كان الحاكم المثالى في العدل والحكمة والسيرة الصالحة ، ثم كان كذلك في عشرين سنة أخرى تولى فيها جميع أمور المسلمين عادلاً مجاهداً فاتحاً صالحاً . روى افمام الحافظ الثقة أبو بكر أحمد بن محمد بن هانى الأثرم المتوفى بعد سنة 270 وكان من أعلام المسلمين قال : حدثنا محمد بن حواش عن أبي هريرة المكتب قال : كنا عند سليمان ابن مهران الأعمش ( المتوفى سنة 148 في خلافة أبي جعفر المنصور ) فذكر عمر ابن عبد العزيز وعدله ، فقال الأعمش : فكيف لو أدركتم معاوية ؟ قالوا : في حلمه ؟ قال : لا والله ، بل في عدله . وذكر أبو إسحاق السبيعى معاوية فقال : (( لو أدركتموه أو أدركتم أيامه لقلتم كان المهدى )) .
الحسن إلا أنه غير راشد ( 1 ) والراشدون هم الخمسة ، بل قالوا أنه باغ ( 2 ) .(166/162)
فإن قلت إذا ثبت بغيه لم لا يجوز لعنه ؟ جوابه : إن أهل السنة لا يجوزون لعن مرتكب الكبيرة مطلقاً ، فعلى هذا لا تخصيص بالباغى لأنه مرتكب كبيرة ايضاً ، على انه إذا كان باغياً بلا دليل ، وأما كان بغيه بالإجتهاد ولو فاسد فلا إثم عليه فضلاً عن الكبيرة ويشهد لهم قوله تعالى
( وأستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ( والآمر بالشئ نهى عن ضده عند الإمامية ، فالنهى عن اللعن واضح . نعم ورد اللعن في الوصف في حق أهل الكبائر مثل قوله تعالى ( ألا لعنة الله على الظالمين ( وقوله تعالى ( فنجعل لعنة الله على الكاذبين ( لكن هذا اللعن بالحقيقة على الوصف لأعلى صاحبه ، ولو فرض عليه يكون وجود الإيمان مانعاً والمانع مقدم كما هو عند الشيعة ، وأيضاً وجود العلة مع المانع لا يكون مقتضياً ، فاللعن لا يكون مترتباً على وجود الصفة حتى يرتفع الإيمان المانع ، وقوله تعالى ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولأخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين أمنوا إنك رءوف رحيم ( نص في طلب المغفرة وترك العداوة بحيث جعل على الإيمان من غير تقييد ، ويشهد لهم ما تواتر عن الأمير من نهى لعن أهل الشام ، قالت الشيعة والنهى لتهذيب الأخلاق وتحسين الكلام كما يدل قوله تعالى في هذا المقام (( إنى أكره لكم أن تكونوا سبابين )) ، وأهل السنة يقولون هو مكروه للإمام فينبغي كراهته لنا وعدم محبوبيته وجعله قربة وإن لم نعلم وجه الكراهة .(166/163)
وايضاً روى في نهج البلاغة عنه ( ما يدل صراحة على المقصود ، وهو انه لما سمع لعن اهل الشام خطب وقال (( إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والأعوجاج والشبهة والتأويل )) . فإذا صحت الروايتان في كتب الإمامية حملنا الأولى على من كان يلعنهم بالوصف وهو جائز ، لا مطلقاً بل لمن يبلغ الشريعة كالأنبياء ، إذ قد يستعمل لبيان قباحه تلك الصفات ، وأما الغير في حقه مكروه ، لأنه لو أعتاده لخشى في حق من ليس أهلاً له ، وحملت الثانية على من يلعن أهل الشام بتعيين الأشخاص غافلاً عن منع الإيمان ، فأعملنا الروايتين لأن الأصل في الدلائل الإعمال دون الإهمال . وقال بعض علماء الشيعة : البغي غير موجب للعن على قاعدتنا ، لأن الباغى آثم ، لكن هذا الحكم مخصوص بغير المحارب للأمير ،
---------------------------
( 1 ) اى لم يكن من الخلفاء الراشدين .
( 2 ) بل قال الشيعة أكثر من ذلك ، والمؤلف يخاطب الشيعة بعقليتهم ليعود بعد ذلك فينقض كل ما تظاهر به لهم . اما المنصفون من أعلام أمة محمد ( فيقولون كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ( 3 : 185 ) : (( لم يكن من ملوك الإسلام ملك خيراً من معاوية ، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيراً منهم في زمن معاوية ، إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده . وإذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل . وقد روزى أبو بكر الأثرم – ورواه ابن بطة من طريقه – عن محمد بن عمر بن جبله عن محمد بن مروان عن يونس بن عبيد البصرى عن قتادة بن دعامة السدوسى أحد أعلام الإسلام في البصرة أنه قال : (( لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم : هذا المهدى )) .
وأما هو فكافر عندنا بدليل حديث متفق عليه عند الفريقين أنه ( قال للأمير : (( حربك حربي )) وأنه قال لأهل العبا (( أنا سلم لمن سالمتم حرب لمن حاربتم )) وحرب الرسول كفر بلا شبهة فكذا حرب الأئمة .(166/164)
قال أهل السنة هذا مجاز للتهديد والتغليط ، بدليل ما حكم الأمير من بقاء إيمان أهل الشام وأخوتهم في الإسلام ، على أن قوله (( حرب الرسول كفر )) ممنوع ، إذ قد حكم على آكل الربا بحرب الله ورسوله معاً قال تعالى ( فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ( وعلى قطاع الطريق كذلك قال تعالى ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ( الآية فلم لم تحكم الشيعة بكفر هؤلاء ؟
هذا ولنرجع إلى ما كنا فيه ، ولنورد عدة آيات قرآنية وأخبار عن العترة تدل على المرام ، وتوضح المقام . وتفسد أصل الشيعة ، وتبطل هذه القاعدة الشنيعة . وبالله تعالى الاستعانة والتوفيق ، ومنه يرجى الوصول إلى سواء الطريق .(166/165)
فمن الآيات قوله تعالى ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما أستخلف الذين من قبلهم ، وليمكنن لهم دينهم الذى أرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً بعبدوننى لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فاولئك هم الفاسقون ( . الحاصل أن الله تعالى وعد المؤمنين الصالحين – الحاضرين وقت النزول – بالإستخلاف والتصرف ، كما جعل داود ( ، الوارد في حقه ( ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض ( وغيره من الأنبياء ، بإزالة الخوف من الأعداء الكفار والمشركين ، وبأن يجعلهم في غاية الأمن حتى يخشون أحداً إلا الله تعالى ، وبتقويه الدين المرتضى بأن يزوجه ويشيعه كما ينبغي . ولم يقع هذا المجموع إلا زمن الخلفاء الثلاثة لأن المهدى ماكان موجوداً وقت النزول ، والأمير وإن كان حاضراً لكن لم يحصل له رواج كما هو حقه بزعم الشيعة ، بل صار أسوأ وأقبح من عهد الكفار كما صرح به المرتضى في ( تنزيه الأنبياء والأئمة ) مع أن الأمير كانوا يخفون دينهم خائفين هائبين من أفواج أهل البغي دائماً ( 1 ) . وأيضاً الأمير فرد من الجماعة ، ولفظ الجمع حقيقة في ثلاثة أفراد ففوق ، والأئمة الاخرون لم يوجد فيهم مع عدم قصورهم تلك الأمور كما لا يخفى ، وخلف الوعد ممتنع أتفاقاً ، فلزم أن الخلفاء الثلاثة كانوا هم الموعودين من قبله تعالى بالإستخلاف وأخويه ( 2 ) وهو معنى الخلافة الراشدة المرادفة للإمامة .
---------------------------
( 1 ) المؤلف يتكلم بلغة الدين يخاطبهم من الشيعة كما تقدم التنبيه على ذلك ليتمكن من نقض مزاعمهم وإبطالها .
( 2 ) وهما ان يمكن الله لهم دينهم الذى أرتضى لهم ، أن يبدلهم من بعد خوفهم أمناً .(166/166)
وقال الملا عبد الله المشهدى في ( إظهار الحق ) : بعد الفحص الشديد يحتما أن يكون (( الخليفة )) بالمعنى اللغوى و (( الاستخلاف )) الإتيان بأحد بعد آخر كما ورد في حق بنى إسرائيل ( عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض ( والمعنى الخاص مستحدث بعد الرحلة . جوابه : أن الاستخلاف غير مستعمل في الكلام بالمعنى اللغوى ، والقاعدة الأصولية للشيعة أن الألفاظ القرآنية ينبغي أن تحمل على المعاني الاصطلاحية الشرعية حتى الإمكان ، لا على المعاني اللغوية . وإلا فالشرعية كلها تفسد ولا يثبت حكم كما لا يخفى . وأيضاً كيف يصح تمسكهم بحديث (( أنت منى )) الخ المنضم إليه (( أخلفنى في قومى )) وكيف التمسك بحديثهم (( يا على خليفتى من بعدي )) ؟ ولقد سعى المدققون من الشيعة في الجواب عن هذه الأية ( 1 ) وتوجيهها ، وأحسن الأجوبة عندهم اثنان : الأول أن (( من )) للبيان لا للتعبيض ، و (( الاستخلاف )) الاستيطان . قلنا : حمل (( من )) الداخلة على الضمير على البيان مخالف للاستعمال وبعيد عن المعنى في الآية الكريمة وإن قال به البعض ، سلمنا لكن لا يضرنا لأن المخاطبين هم الموعودون بتلك المواعيد وقد حصلت لهم ، إلا أن الاستخلاف غير معقول للكل حقيقة ، فالحصول للبعض حصول للكل باعتبار المنافع . وأيضاً قيد (( أعملوا الصالحات )) وكذا (( الإيمان )) يكون عبثاً إذ الاستيطان يحصل للفاسق وكذا الكافر . وأيضاً حاشا القرآن من العبث . الثاني أن المراد الأمير فقط وصيغه الجمع للتعظيم أو مع أولاده خوف . قلنا يلزم تخلف الوعد كما لا يخفى ، إذ لم يحصل لأحد منهم تمكين دين وزوال خوف ، والناس شاهدة على ذلك . وأنظر ايها المصنف الحصيف واللوذعى الشريف إلى ما قاله الإمام مما ينسحم عندهم ( 2 ) أن عمر بن الخطاب لما أستشار الأمير عند أنطلاقه لقتال فارس وقد جمعوا للقتال ، إجابه (( إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة ، وهو دين الله تعالى(166/167)
الذى أظهره ، وجنده الذى أعده وأمده ، حتى بلغ ما بلغ وطلع ، ونحن على وعد من الله تعالى حيث قال عز أسمه ( وعد الله الذين أمنوا ( وتلا الآية منجز وعده وناصر جنده . ومكان القيم بالأمر في الإسلام مكان النظام من الخرز فإن أنقطع النظام تفرق الخرز ، ورب متفرق لم يجتمع ، والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع ، فكن قطباً ، واستدر الرحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب ، فإنك إن شخصت من هذه الأرض أنتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها ، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات
-------------------------
( 1 ) آية ( وعد الله الذين منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض ( .
( 2 ) تقدم في هامش ص 58 أن المرتضى أعان أخاه الرضى على توسيع الخطب والأقوال المنسوبة لأمير المؤمنين كرم الله وجهه ، وأنهما كانا يعمدان إلى الخطبة القصيرة المأثورة عن أمير المؤمنين فيزيدان عليها من هوى الشيعة ما تواتيهما عليه القريحة من ذم الصحابة أو دس العقائد الملتوية . ففي نهج البلاغة الكثير من كلام الإمام ، ولكن فيه الأكثر من دسائس المرتضى والرضى .
أهم إليك مما بين يديك . إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا : هذا أصل العرب فإذا قطعتموه أسترحتم ، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك . فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإن الله سبحانه وتعالى هو أكرم لمسيرهم منك ، وهو أقدر على تغيير ما يكرهه . وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ، وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة )) أنتهى بلفظه . فتدبر فقد أرتفع الإشكال واتضح الحال والحمد لله رب العالمين .(166/168)
... ومنها قوله تعالى ( قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولى بأسٍ شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً ، وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذاباً أليماً ( المخاطب بهذه الآية بعض القبائل ممن تخلف عن الرسول ( في غزوة الحديبية لعذر بارد وشغل كاسد ، وقد أجمع الفريقان أنه لم يقع بعد نزول هذه الآية إلا غزوة تبوك ، ولم يقع فيها إلا القتال ولا الإسلام ، فتعين الغير ، والداعى ليس جناب الرسول عليه الصلاة والسلام لا محالة ، فلابد أن يكون خليفة من الخلفاء الثلاثة الذين وقعت الدعوة في عهدهم كما في عهد الخليفة الأول لمانعى الزكاة اولاً وأهل الروم آخراً ، وفي عهد الخليفة الثاني والثالث كما لا يخفى على المتتبع . فقد صحت خلافة الصديق لأن الله تعالى وعد وأوعد ، ورتب كلا على الإطاعة والمعصية . فهلا يكون ذلك المطاع المنقاد له بالوجود إماماً ؟ المنصف يعرف ذلك . وقد تخبط ابن المطهر الحلى وقال : يجوز أن يكون الداعى الرسول عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوات التى وقع فيها القتال ، ولم ينقل لنا . وإذ فتح هذا الباب يقال كذلك : يجوز عزل الأمير بعد الغدير ونصب ابي بكر وتحريض الناس على أتباعه ، ولم ينقل لنا . فأنظر وتعجب . وقال بعضهم : الداعى هو الأمير ، فقد دعا إلى قتال الناكثين والقاسطين والمارقين . ويقال فيه : إن قتل الأمير إياهم لم يكن لطلب الإسلام بل لا نتظام أحوال الإمام ، ولم ينقل في العرف القديم والجديد أن يقال لإطاعة الإمام
(( إسلام )) ولمخالفته (( كفر )) . ومع هذا نقل الشيعة روايات صحيحة عن النبي ( في حق الأمير أنه قال : إنك يا على تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله . وظاهر أن المقاتلة على تأويل القرآن لا تكون إلا بعد قبول تنزيله ، وذلك لا يعقل بدون الإسلام ، بل هو عينه ، فلا يمكن المقاتلة على التأويل على الإسلام بالضرورة وهو ظاهر .(166/169)
ومنها قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ( مدح الله تعالى في هذه الآية الكريمة الذين قالوا المرتدين بأكمل الصفات وأعلى المبرات ، وقد وقع ذلك من الصديق وأنصاره بالإجماع ، لأن ثلاث فرق قد أرتدوا في آخر عهده ( : الأولى بنو مدلج قوم اسود العنسى ذى الخمار الذى ادعى النبوة في اليمن وقتل على يد فيروز الديلمى ، الثانية بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب المقتول في أيام خلافة الصديق على يد وحشى ، الثالثة بنو أسد قوم طليحة بنى خويلد المتنبي ولكنه آمن بعد ان أرسل النبي ( خالداً وهرب منه إلى الشام . وقد أرتد في خلافة الصديق سبع فرق : بنو فرازة قوم عيينة بن حصن ، وبنو غطفان قوم قرة بن سلمة ، وبنو سليم قوم ابن عبد ياليل ، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة ، وبعض بنى تميم قوم سجاج بنت المنذر ، وبنو كندة قوم أشعث بن قيس الكندى ، وبنو بكر في البحرين . وأرتدت فرقة في زمن عمر ( والتحقت بالنصارى إلى الروم . وقد استأصل الصديق كل فرقة وأزعجهم واستردهم إلى الإسلام كما أجمع عليه المؤرخون كافة . ولم يقع للأمير ذلك ، بل كان متحسراً على ما هنالك ، وكم قال (( أبتليت بقتال أهل القبلة )) كما رواه الإمامية ، وتسمية منكرى الإمامة مرتدين مخالفة للعرف القديم والحديث . على أن المنكر للنص غير كافر ( 1 ) كما قال الكاشى وصاحب الكافى ، وأنظر إلى ما قال الملا عبد الله ( 2 ) صاحب ( إظهار الحق ) ما نصه : (( فإن قيل ( 3 ) فإن لم يكن النص الصريح ثابتاً كما في باب خلافة الأمير فالإمامية كاذبون ، وإن كان لزم أن يكون جماعة الصحابة مرتدين والعياذ بالله تعالى ، أجيب : إن إنكار النص الذى هو موجب للكفر إنما هو اعتقاد أن الأمر المنصوص باطل وإن كذبوا في ذلك(166/170)
التنصيص رسول الله ( ، حاشا . أما لو تركوا الحق مع علمهم بوجوبه للأغراض الدنيوية وحب الجاه فيكون ذلك من الفسوق والعصيان لا غير )) ثم قال (( فالذين أتفقوا على خلافة الخليفة الأول لم يقولوا إن النبي ( نص عليها لأحد أو قال بما لا يطابق الواقع فيها ، معاذ الله ، بل منهم من أنكر بعض الأحيان تحقق النص ، وأول بعضهم كلام الرسول ( تأويلاً بعيداً )) أنتهى كلامه . وأيضاً قال الأمير في بعض خطبه المروية عنه عندهم (( أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل )) وأيضاً قد منع السب كما تقدم ، وسب المرتد غير منهى عنه . قطعنا النظر وسلمنا أن الأمير قال المرتدين ، فالمقاتل لهم زمن الخليفة الأول شريك في المدح ايضاً ، وإلا لزم الخلف
---------------------------
( 1 ) أي عند الشيعة . والمؤلف يخاطبهم في هذا الكتاب باسلوبهم وعقليتهم وأدلتهم وبالمسلمات عندهم .
( 2 ) هو المشهدي الشيعي الذى تقدم ذكره في ص 126 وسيأتى في ص 144 .
( 3 ) أى إذا قال أهل السنة .
لعموم من في الشرط والجزاء كما تقرر في الأصول . والمقاتل هو ( 1 ) وأنصاره لا الأمير ، إذ لم يدافع أحداً منهم ولا عساكره ، إذ هم ( 2 ) غير موصوفين بما ذكر ، فلكم (( أنبئت بسراً قد أطلع اليمن ، وإنى والله لا أظن هؤلاء القوم سيدالون منكم ( 3 ) باجتماعهم على باطلهم وتفركم عن حقكم . وبمعصيتكم إمامكم في الحق ، وطاعتهم إمامهم في الباطل . وبأدائهم الأمانة إلى أصحابهم . وخيانتكم ، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم . فلو أئتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته . اللهم قد مللنهم وملونى وسئمتهم وسئمونى ، فأبدلنى خيراً منهم وأبدلهم بي شراً منى . اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح بالماء . لوددت والله لو أن لى بكم ألف فارس من بنى فراس بن غنم :
... هنالك لو دعوت أتاك منهم فروارس مثل أرمية الحميم(166/171)
... ويقول في خطبة أخرى : أحمد الله على ما قضى من أمر ، وقدر من فعل ، وعلى ابتلائى بكم ايتها الفرقة التى إذا أمرت لم تطع ، وإذا دعوت لم تدب . ثم قال بعد كلام : وإنى لصحبتكم قال وبكم غير كثير ألخ . والنهج مملوء من أمثال هذه الكلمات ، ومحشو من مثل هذه الشكايات . فأنظر هل يمكن تطبيق الأوصاف القرآنية على هؤلاء الأقوام ( 4 ) وهل يجتمع النقيضان ( 5 ) ! وكلام الله كاذب ، أم كلام الإمام ؟ وأيضاً يستفاد من سياق الآية وسباقها أن فتنة المؤمنين وتقويهم ، ولإزالة خوفهم من المرتدين وفتنتهم ، ولم تنته مقالات الأمير إلا إلى الضد كما لا يخفى .
... هذا وبقيت ىيات كثيرة وأدلة غزيرة تركناها أكتفاء بما ذكرناه ، واعتماداً على أن المنصف يكفيه ما سطرناه .
... وأما أقوال العترة فمنها ما أورده المرتضى في ( نهج البلاغة ) عن أمير المؤمنين من كتابه الذى كتبه إلى معاوية وهو : أما بعد فإن بيعتى يا معاوية لزمتك وأنت بالشام ، فإنه بايعنى القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ، وعلى ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضا ، فإن خرج منهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه فإن آبى قاتلوه على
------------------------
( 1 ) أى الخليفة الأول .
( 2 ) أى عساكر الأمير كرم الله وجهه .
( 3 ) أى سيعطيهم الله الغلبة عليكم .
( 4 ) يعنى الأوصاف الواردة في الأية ( فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه . أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين …. ( .
( 5 ) أى ذم أمير المؤمنين شيعته وجنده ، والوصف القرآني الوارد في الآية .(166/172)
أتباعه غير سبيل المؤمنين ، وولاه الله ما تولى . ومنتهى ما أجاب الشيعة عن أمثال هذه انه من مجاراة الخصم ودليل الزامى ، وهو تحريف لا ينبغي لعاقل ، ولا يليق بفاضل ، إذ فيه غفلة وإغماض عن أطراف الكلام الزائدة على قدر الإلزام ، إذ يكفى فيه بيعة أهل الحل والعقد كما لا يخفى . وأيضاً الدليل الإلزامى مسلم عند الخصم ، ومعاوية لا يسلم ما ذكر ويرشدك إلى ذلك كتبه إلى الأمير كما هو مذكور عند الإمامية وغيرهم ، فمذهبه كما يظهر منها أن كل مسلم قرشى مطلقاً إذا كان قادراً على تنفيذ الأحكام وإمضاء الجهاد وحماية حوزة الإسلام وحفظ الثغور ودفع الشرور وبايعه جماعة من المسلمين من أهل العراق أو من أهل الشام أو من المدينة المنورة فهو الإمام . وإنما لم يتبع الأمير لاتهامه له بقتله عثمان ( 1 ) وحفظ أهل الجور والعصيان ، وكان يعتقده قادراً على تنفيذ الأحكام وأخذ القصاص الذى هو من عمدة أمور شريعة سيد الأنام وذلك بزعمه ومقتضى فهمه . ومن أجلى البديهات أن بيعة المهاجرين والأنصار التى لم تكن خافية على معاوية قط لو حبسها معتداً بها لم يذكر في مجالسه ومكاتيبه قوادح الأمير ، بل خطأ تلك البيعة أيضاً بالصراحة كما هو معروف من مذهبه على ما لا يخفى على الخبير . فما ذكر في مقابلته من بيعة المهاجرين والأنصار دليل تحقيقى مركب من المقدمات الحقة فيثبت المطلوب .(166/173)
... ومنها ( 2 ) ما في ( النهج ) أيضاً عن الأمير (( لله بلاد ابي بكر لقد قوم الأود ، وداوى العلل ، وأقام السنة ، وخلف البدعة ، وذهب نقى الثوب ، قليل العيب ، أصاب خيرها واتقى شرها ، أدى لله طاعة واتقاه بحقه ، رحل وتركهم في طريق متشعبة لا يهتدى فيها الضال ، ولا يستيقن المهتدى )) . وقد حذف الشريف صاحب النهج حفظاً لمذهبه لفظ (( أبي بكر )) وأثبت بدله (( فلان)) وتأبي الأوصاف إلا أبا بكر ، ولهذا الإبهام أختلف الشراح فقال البعض هو ابو بكر وبعض هو عمر ورجح الأكثر الأول وهو الأظهر فقد وصفه من الصفات بأعلى مراتبها ، فناهيك به وناهيك بها . وغاية ما أجابوا أن مثل هذا المدح كان من الإمام لاستجلاب قلوب الناس لاعتقادهم بالشيخين أشد الاعتقاد ، ولا يخفى على المنصف أن فيه ( 3 ) نسبة الكذب لغرض دنيوى مظنون الحصول ، بل كان اليأس منه ( 4 ) وفي الحديث الصحيح (( إذا مدح الفاسق غضب الرب )) ، وأيضاً أية ضرورة تلجئه إلى هذه التأكيدات والمبالغات ؟ وكان يكفيه أن يقول : لله بلاد فلان قد جاهد الكفر والمرتدين ، وشاع بسعيه الإسلام ، وقام عماد المسلمين ، ووضع الجزية ، وبنى
--------------------------
( 1 ) أى وجودهم في نطاق حكمه دون أن يقام عليهم الحد الشرعي .
( 2 ) من أقوال العترة .
( 3 ) أى في هذا التعليل البارج من الشيعة .
( 4 ) أى إلا عن أعتقاد بصدق ما يقوله .(166/174)
المساجد ، ولم تقع في خلافته فتنة ولا بقى فيها معاند . ونحو ذلك . وفرق بين هذا والسلوك في هاتيك المسالك . وأيضاً في هذا المدح العظيم الكامل تضليل الأمة وترويج للباطل ، وذلك محال من المعصوم ( 1 ) ، بل كان الواجب عليه بيان الحال لمن بين يديه بموجب الحديث الصحيح ( 2 )
(( أذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس )) فأنظر وأنصف . وأجاب بعض الإمامية أن المراد من
(( فلان )) رجل من الصحابة مات في عهد النبي ( واختار هذا القول الراوندى ، وأنظر هل يمكن لغيره ( في زمنه الشريف تقويم الأود ، ومداواة العلل وإقامة السنة وغيرها ؟ وهل يعقل أن رجلاً مات وترك الناس فيما ترك والنبي ( موجود بنفسه وذاته الأنيسة ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم وزور جسيم . وقال البعض : غرض الإمام من هذه العبارة توبيخ عثمان والتعريض به ، فإنه لم يذهب على سيرة الشيخين . وفيه : أما اولا فالتوبيخ يحصل بدون هذه الكذبات فما الحاجة إليها ؟ وأما ثانياً فسيرة الشيخين إن كانت محمدودة فقد ثبتت إمامتها وإلا فالتوبيخ (( أنا الغريق فما أخشى من البلل )) . ومنها ما نقله على ابن عيسى الأربلى الأثنا عشرى ( 3 ) في كتابه ( كشف الغمة في معرفة الأئمة ) أنه (( سئل الإمام أبو جعفر عن حلية السيف هل تجوز ؟ فقال : نعم ، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه بالفضة . فقال الراوى : أتقول هذا ؟ فوثب الإمام عن مكانه فقال : نعم الصديق ، نعم الصديق ، فمن لم يقل له الصديق فلا صدق الله قوله في الدنيا والآخرة )) ومن الثابت أن مرتبة الصديقية بعد النبوة ، ويشهد لها القرآن ، والآيات كثيرة ، منها قوله تعالى ( فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ( ولا أقل من كونها صفة مدح فوق الصالح ، وإذا قال المعصوم ( 4 ) في رجل أنه صالح أرتفع عنه أحتمال الجور والفسق والظلم والغضب ، وإلا لزم الكذب وهو محال ، فكيف يعتقد فيه غضب الإمامة وتضييع(166/175)
حق الأمة ؟ ولعمرك المعتقد داخل في عموم هذا الدعاء ، ويكفيه جزاء . وغاية ما أجابوا أنه (( تقية )) وانت تعلم ان وضع السؤال يعلم منه أن السائل شيعي ، فلم التقية منه وهذا التأكيد ؟ وبعضهم أنكر هذا الكلام ، والنسخ شاهدة لنا وإن لم يوجد في البعض فالبعض الآخر كاف ، والنسخ كثيرة والروايات في هذا الباب أكثر والله أعلم .
---------------------------
( 1 ) نذكر القارئ بان المؤلف يجارى القوم بما فيه إلزام لهم مما يعتقدونه ويسلمون بصحته .
( 2 ) أورد ابن الدبيع الشيباني هذا الحديث في كتابه ( تمييز الطيب من الخبيث ، فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث ) ص 16 طبعة مصر سنة 1347 متابعاً شيخه الشمس السخاوى في كتاب ( المقاصد الحسنة ) وقال أخرجه أبو يعلى وغيره ، ولا يصح ( أى لا يبلغ درجة الصحة ) . وأورده العجلونى في ( كشف الخفا والالباس ) من رواية أبن ابي الدنيا وابن عدى والطبراني والخطيب من حديث معاوية بن أبي حيدة ، ثم نقل قول ابن الدبيع إنه لا يصح . والإمام أحمد لم يثبت هذا الحديث في أحاديث معاوية بن أبي حيدة التى أوردها في أوائل الجزء الخامس من مسنده الطبعة الأولى .
( 3 ) من صناديد متعصبي الشيسعة في القرن السابع الهجرى ، له ترجمة في روضات الجنات ص 386 الطبعة الثانية .
( 4 ) أي في اعتقاد الخصم .
ولنذكر بعض الأدلة المأخوذة من الكتاب وأقوال العترة الأنجاب مما يوصل إلى المطلوب بأدنى تأمل :
الأول أن الله تعالى ذكر جماعة الصحابة الذين كانوا حاضرين حين انعقاد خلافة أبي بكر الصديق وممدين له وناصرين له في أمور الخلافة ملقباً لهم في مواضع من تنزيله قال تعالى ( أولئك هم الفائزون ( وقال تعالى ( رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك هم الصادقون ( وقال تعالى ( حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ( فإجماع مثل هؤلاء الأقوام على منشأ الجور والآثام محال وإلا لزم الكذب وهو كما ترى .(166/176)
الثاني أن الله تعالى وصف الصحابة ( بقوله عز اسمه ( حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ( فكيف يرتكبون ذلك فيلزم الخلف وهو محال .
الثالث أن الله تعالى قال في المهاجرين ( أولئك هم الصادقون ( بعد قوله سبحانه ( للفقراء المهاجرين ( الآية وجميعهم قائلون بخلافة الصديق ، ولو لم تكن حقة لزم الخلف في الآية وهو محال .
الرابع أن جماعة كثيرين من الصحابة قد وقع اتفاقهم على خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه وكل ما يكون متفقاً عليه لجماعة الأمة فهو حق وخلافة باطل بما ذكره الرضى في ( نهج البلاغة ) مروياً عن الأمير في كلام له (( إلزموا السواد الأعظم فإن يد الله على الجماعة وإياكم والفرقة فإن الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب )) .
الخامس أن قوماً جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقتلوا آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وأقاربهم ولم يراعوا حقهم نصرة لله تعالى ورسوله ( وقد حضروا هذه البيعة ولم يخالفوا فلا بليق بهم ما نسب وكيف يرضى بذلك العاقل .
السادس أن أمير المؤمنين لما سئل عن أحوال الصحابة الماضين وصفهم بلوازم الولاية وقال كما في ( نهج البلاغة ) : (( كانوا إذا ذكروا الله صمت أعينهم حتى تبل جباههم ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاء للثواب )) وقال أيضاً (( كان أحب اللقاء إليهم لقاء الله وإنهم يتقلبون على مثل الجمر من ذكر معادهم )) فالانكار من هؤلاء والإصرار على مخالفة الله والرسول ( من المحالات .(166/177)
السابع ما ذكر في الصحيفة الكاملة للسجاد من الدعاء لهم ومدح متابعيهم ولا احتمال للتقية في الخلوات وبين يدي رب البريات ونصه (( اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ( خير جزائك الذين قصدوا سمتهم وتحروا وجهتهم ومضوا في قفو أثرهم والائتمام بهداية منارهم يدينون بدينهم على شاكلتهم لم يتهم ريب في قصدهم ولم يختلج شك في صدورهم )) إلى آخر ما قال فالاصرار من هؤلاء الأخبار على كتمان الحق وتجويز الظلم والجور على عترة سيد الخلق ( لا يقول به عاقل ولا يفوه به كامل .(166/178)
الثامن ما أورده الكليني في الكافي في باب السبق إلى الإيمان (1) بروايات أبي عمرو الزبيري عن أبي عبدالله ( أنه قال (( قلت له إن الإيمان درجات ومنازل يتفاضل المؤمنون فيها عند الله . قال نعم . قلت صفة لي رحمك الله حتى أفهمه ، قال : إن الله سبق بين المؤمنين كما يستبق بالخيل يوم الرهان ثم فضلهم على درجاتهم في السبق إليه فجعل كل امرئ منهم على درجة سبقه ولا ينقصه فيها من حقه ولا يتقدم مسبوق سابقاً ولا مفضول فاضلاً تفاضل بذلك أوائل الأمة وأواخرها . ولو لم يكن للسابق إلى الإيمان فضل على المسبوق إذا للحق آخر هذه الأمة وأولها نعم ولتقدموهم إذ لم يكن لمن سبق إلى الإيمان على من أبطأ عنه ولكن بدرجات الإيمان قدم الله السابقين وبالأبطاء عن الإيمان أخر الله المؤخرين لأنا نجد من المؤمنين من الآخرين من هو أكثر علماً من الأولين وأكثرهم صلاة وصوماً وحجاً وزكاة وجهاداً وإنفاقاً ولو لم تكن سوابق يفضل الله بها المؤمنين لكان الآخرون بكثرة العمل متقدمين على الأولين ولكن أبي الله عز وجل أن يدرك آخر درجات الإيمان أولها ويقدم فيها من أخر الله أو يؤخر فيها من قدم الله . قلت : أخبرني عما ندب الله عز وجل المؤمنين إليه من الاستباق إلى الإيمان . فقال : قول الله عز وجل ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ( وقوله تعالى ( السابقون السابقون أولئك المقربون ( وقوله تعالى ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ( ورضوا عنه ( فبدأ بالمهاجرين على درجة سبقهم ثم ثني بالأنصار ثم ثلث بالتابعين لهم بإحسان فوضع كل قوم على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده ثم ذكر ما فضل الله به أولياءه بعضهم على بعض فقال عز من قائل ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم فوق بعض درجات ( الآية وقال تعالى ( ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ( وقال تعالى ((166/179)
انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض ( وقال تعالى ( وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً ( إلى آخر الحديث وقال في آخره (( فهذا ذكر درجات الإيمان ومنازله عند الله عز وجل )) . فقد علم من هذا الحديث أن المهاجرين والأنصار كانوا في أعلى الدرجات من الإيمان ولم يصل غيرهم إلى ما وصلوا لقوله تعالى ( أولئك
----------------------
( 1 ) ص 164 طبعة إيران سنة 1278 .
المؤمنون حقاً ( وقوله تعالى ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ( الآية فكيف يصدر ممن كانوا كذلك الإصرار على مالا يرضاه الله تعالى من المسالك ؟
التاسع أن الأمير كرم الله تعالى وجهه قد مدح الشيخين ودعا لهما حسبما ثبت عند الفريقين وقد نقل شراح نهج البلاغة كتاب الأمير إلى معاوية وقد قال فيه بعد ما ذكر أبا بكر وعمر (( لعمري إن مكانيهما لعظيم وإن المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد رحمها الله تعالى وجزاهما بأحسن ما عملا )) فكيف يتصور صدور مثل ذلك عن المعصوم لو كانا غاصبين ظالمين ؟! معاذ الله من ذلك ، ونسأله سبحانه العصمة عما يعتقده أولئك .
هذا والكتب ملأى من أمثال هذه العبارات والأدلة القطعيات . وفيما ذكر كفاية لمن حلت بقلبه الهداية . والسلام على من اتبع الهدى ، وخشى عواقب الردى .(166/180)
وههنا كلام مفيد شريف ، وبحيث رائق لطيف : أعلم أن الشيعة أستدلوا على إثبات إمامة الأمير بلا فصل بدلائل كثيرة وتحقق بعد الفحص والتفتيش في كتبهم أن أكثرها قائمة في غير محل النزاع ، وأنها مسروقة من أهل السنة . وتحقيق ذلك أن دلائلهم في هذا المطلب ثلاثة أقسام : الأول الآيات والأحاديث الدالة على فضائل الأمير وأهل البيت ، وقد أستخرجها أهل السنة في مقابلة الخوارج والنواصب الذين تجاسروا على الأمير ( ونسبوا إليه ما هو برئ منه ، وذكروها في معرض الرد عليهم . والشيعة قد أوردوا تلك الدلائل في إثبات إمامة الأمير ( بلا فصل ، وقصدوا بذلك الرد على أهل السنة . ولما جاء المتأخرون وقد أخذوا من اهل السنة والمعتزلة شيئاً من علم الأصول والكلام وحصل لهم نوع ما من الملكة والقدرة على الخصام ، غيروا الأدلة التى كانت هدفاً للأعتراضات والأسئلة وأصلحوها بزعمهم بعض المقدمات ، وزيادة ما أشتهوه من موضوع الروايات ، وما دروا أن ذلك زاد في الفساد ، وأبطل لهم المقصود والمراد ، ورجعوا إلى ما فروا منه ، ووقعوا فيما أنهزموا عنه ، وأكثر دلائلهم من هذا القبيل .
الثاني الدلائل الدالة على إمامة الأمير بكونه خليفة بالحق وإماماً بالإطلاق في حين من الآحيان ، وقد أقامها ايضاً أهل السنة في مقابلة المذكورين المنكرين لإمامته ، وما يستفاد منها إلا كون الأمير مستحقاً للخلافة الراشدة بلا تعيين وقت ولا تنصيص باتصال زمانها بزمان النبوة أو أنفصاله عنه . ولا ينبغي لأهل السنة أن يتصدوا لرد هذه الدلائل وجوابها فإنها عين مذهبهم .(166/181)
الثالث الدلائل الدالة على إمامته بلا فصل مع سلب أستحقاق الإمامة عن غيره من الخلفاء الراشدين ، وهذه الحقيقة مختصة بمذهب الشيعة ، وهم منفردون باستخراجها ، وهي مخدوشة المقدمات كلها ، بحيث يكذب مقدماتها الثقلان : الكتاب ، والعترة . فنحن نذكر في هذه الرسالة بعضها من القسمين الأولين ، ونبين القسم الأخير بالاستيعاب والاستيفتاء ، وننبه فيها على منشأ الغلط وموقعه لتعلم حقيقة دلائلهم .
ولا يخفى أن مقدمات تلك الدلائل ومبادئها لابد أن تكون مسلمة الثبوت عند أهل السنة ، إذ الغرض من إقامتها إلزامهم ، فعلى هذا إما أن تكون تلك الدلائل من لآيات الكتاب والأحاديث المتفق عليها أو الدلائل العقلية المأخوذة من المقدمات المسلمة عند الفريقين ، أو من مطاعن الخلفاء الثلاثة التى يوردونها .
وأما المطاعن فسيأتى الكلام عليها في باب مفرد .(166/182)
أما الأيات فمنها قوله تعالى ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهو راكعون ( تقرير أستدلالهم بهذه الأية ما يقولون من أن أهل التفسير أجمعوا على نزولها في حق الأمير ( 1 ) إذ أعطى السائل خاتمه في حالة الركوع ( 2 ) وكلمة ( إنما ) مفيدة للحصر ، ولفظ ( الولى ) بمعنى المتصرف في الأمور . وظاهر أن المراد ههنا التصرف العام في جميع المسلمين المساوى للإمام بقرينه ضم ولايته إلى ولاية الله ورسوله فثبتت إمامته وأنتفت إمامة غيره للحصر المستفاد وهو المدعى . أجاب عنه أهل السنة بوجوه : الأول النقض بأن هذا الدليل كما يدل على نفى إمامة الأئمة المتقدمين كما قرر يدل كذلك على سلب الإمامة عن الأئمة المتأخرين بذلك التقرير بعينه ، فلزم أن السبطين ومن بعدهما من الأئمة الأطهار لم يكونوا أئمة . فلو كان استدلال الشيعة هذا يصح لفسد تمسكهم بهذا الدليل ، إذ لا يخفى أن حاصل هذا الاستدلال بما يفيد في مقابلة أهل السنة مبنى على كلمة الحصر ، والحصر كما يضر أهل السنة يكون مضراً للشيعة ايضاً ، لأن إمامة الأئمة المتقدمين والمتأخرين كلهم تبطل به البتة . ومذهب أهل السنة وإن بطل بذلك لكن مذهب أهل الشيعة أزداد في البطلان أكثر منه ، فإن لأهل السنة نقصان الأئمة الثلاثة ، وللشيعة نقصان أحد عشر إماماً ، ولم يبق إماماً سوى الأمير . ولا يمكن أن يقال الحصر
----------------------------
( 1 ) دعوى الإجماع باطلة . وقد روى ابن جرير الطبرى ( 6 : 186 ) عن ابن أسحاق عن والده اسحاق بن يسار أنها نزلت في عبادة بن الصامت ( لبراءته من حلف بنى قينقاع لما حاربوا النبي ( فمشى عبادة إلى النبي ( وخلع بنى قينقاع وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم وولايتهم ، ففيه نزلت الآية لأنه قال : أتولى الله ورسوله والذين أمنوا .(166/183)
( 2 ) قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية : (( وأما قوله ( وهم راكعون ( فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله
( ويؤتون الزكاة ( أى في حال ركوعهم ، ولو كان كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح ، وليس الآمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أهل الفتوى . وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثراً عن على بن أبي طالب أن هذه الأية نزلت فيه ، وذلك أنه مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه ( وبعد أن أستعرض روايات من يروى ذلك قال : ) وليس يصح شئ منها بالكلية لضعف اسانيدها وجهالة رجالها . ثم نقل عن الطبرى أن عبد الملك سأل أبا جعفر ( عن هذه الأية : من الذين آمنوا ؟ قال أبو جعفر : الذين آمنوا . قلنا : بلغتا أنها نزلت في علي بن ابي طالب . قال : علي من الذين آمنوا . فإذا كان محمد الباقر وهو حفيد على بن أبي طالب يقول هذا ، فمن الفضول التزيد عليه لشهوة تحميل الآية مالا تحتمله من تجريح خلافة المسلمين ، وإيذاء علي بن أبي طالب في إخوانه الذين عاش ومات على محبتهم وولا يتهم .
إضافى بالنسبة إلى من تقدمه ، لأنا نقول : إن حصر ولاية من أستجمع هذه الصفات لا يفيد إلا إذا كان حقيقياً ، بل لا يصح لعدم أستجماعها فيمن تأخر عنه كما لا يخفى .(166/184)
وإن أجابوا عن هذا النقص بأن المراد حصر الولاية في جنابه في بعض الأوقات – يعني في وقت إمامته لا وقت إمامة السبطين ومن بعدهما – قلنا فمذهبنا أيضاً هذا أن الولاية العامة محصورة فيه وقت إمامته لا قبله وهو زمن خلافة الخلفاء الثلاثة . فإن قالوا أن الأمير لو لم يكن في عهد الخلفاء الثلاثة صاحب ولاية عامة يلزمه نقص بخلاف وقت إمامة السبطين فإنه لم يكن حياً لم تصر إمامة غيره موجبة للنقص في حقه ، لأن الموت دافع لجميع الأحكام الدنيوية . قلنا : هذا استدلال آخر غير ما هو بالآية ، لأن مبناه على مقدمتين : الأولى أن كون صاحب الولاية العامة في ولاية الأخر ولو في وقت من الأوقات نقص له ، الثانية أن صاحب الولاية العامة لا يلحقه نقص بأى وجه وأى وقت كان . وهاتان المقدمتان أنى تفهمان من الآية ؟ وتسمى هذه الصنعة في عرف المناظرة فراراً ، بأن ينتقل من دليل إلى دليل آخر من غير أنفصال المناقشة في مقدمات الدليل الأول فراراً أو إثباتاً . سلمنا وأغمضنا عن هذا الفرار أيضاً ، ولكن نقول : إن هذا الاستدلال أيضاً منقوض بالسبطين ، فإنهما في زمن ولاية المير لم يكونا مستقلين بالولاية بل كانا في ولاية الآخر وايضاً منقوض بالأمير في عهد النبي ( كان كذلك فلا نقض لصاحب الولاية العامة بكونه في بعض الأوقات في ولاية الآخر ، ولو كان نقصاً بالغرض للحق صاحب الولاية العامة أيضاً فبطل الاستدلال الذى فروا إليه بجميع المقدمات .(166/185)
الجواب الثاني ذكره الشيخ إبراهيم الكردى وغيره من اهل السنة أن ولاية الذين آمنوا غير مرادة في زمان الخطاب البتة بالإجماع ، لأن زمن الخطاب عهد النبي ( والإمامة نيابة للنبوة بعد موت النبي ، فلما لم يكن زمن الخطاب مراداً لابد أن يكون ما أريد به زماناً متأخراً عن موت النبي ( ، ولا حد للتأخير سواء كان أربع سنين أو بعد أربع وعشرين ، فقام هذا الدليل في غير محل النزاع ولم يحصل منه مدعى الشيعة وهو كون إمامة الأمير بلا فصل . وهذا بالنظر الإجمالى ، وإن نظرنا في مقدمات هذا الدليل بالتفصيل منعنا أولاً إجماع المفسرين على نزولها فيما قالوا ، بل أختلف علماء التفسير في سبب نزول هذه الآية فروى أبو بكر النقاش صاحب التفسير المشهور ( 1 ) عن محمد الباقر ( أنها نزلت في المهاجرين والأنصار . وقال قائل نحن سمعنا أنها نزلت في علي بن أبي طالب قال الإمام : هو منهم . يعنى أن أمير المؤمنين داخل أيضاً في
-----------------------
( 1 ) لعله أبو بكر محمد بن زياد المقرئ الموصلى المعروف بابن النقاش ، له كتاب ( الموضح ) في التفسير توفى سنة 351 .(166/186)
المهاجرين والأنصار ومن جملتهم ( 1 ) وهذه الرواية أوفق بلفظ (( الذين )) وصيغ الجمع في صلات الموصول وهي : (( يقيمون )) الصلاة ، و (( يؤتون )) الزكاة ، وهم (( راكعون )) . وروى جمع من المفسرين عن عكرمة أنها نزلت في شأن أبي بكر ، ويؤيد هذا القول الآية السابقة الواردة في قتال المرتدين . وأما القول بنزولها في حق علي بن أبي طالب ورواية قصة السائل وتصدقه بالخاتم في حالة الركوع فإنما هو الثعلبي فقط وهو متفرد به ( 2 ) ولا يعد المحدثون أهل السنة روايات الثعلبي قدر شعيرة ، ولقبوه بحاطب ليل ، فإنه لا يميز بين الرطب واليابس ، وأكثر رواياته في التفسير عن الكلينى عن أبي صالح ( 3 ) ، وهي ما يروى في التفسير عندهم . وقال القاضى شمس الدين ابن خلكان في حال الكلينى : إنه كان من أتباع عبدالله بن سبأ الذى كان يقول : إن علي بن أبي طالب لم يمت وإنه يرجع إلى الدنيا وينتهى بعض روايات الثعلبي إلى محمد بن مروان السدى الصغير وهو كان رافضياً غالياً يعلمونه من سلسلة الكذب والوضع . وأورد صاحب ( لباب التفسير ) أنها نزلت في شأن عبداة ابن الصامت ( 4 ) إذ تبرأ من حلفائه الذين كانوا هوداً على رغم عبدالله بن أبي وخلافه فإنه لم يتبرأ منهم ولم يترك حمايتهم وطلب الخير لهم . وهذا القول أنسب بسياق الآية فإن سياقها ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء ( لأن هذه الأية بعد تلك الآية . وقال جماعة من المفسرين إنها نزلت في حق عبداللع بن سلام . ونقول ثانياً : إن لفظ (( الولي )) تشترك فيه المعاني الكثيرة : المحب ، والناصر ، والصديق ، والمتصرف في الأمر . ولا يمكن أن يراد من اللفظ المشترك معنى معين إلا بقرينه خارجة ، والقرينة ههنا من السباق يعني ما سبق هذه الآية فهو مؤيد لمعنى الناصر ، لأن الكلام في تقوية قلوب المؤمنين وتسليتها وإزالة الخوف عنها من المرتدين ، والقرينة(166/187)
من السياق – يعني ما بعد هذه الآية – معينة لمعنى المحب والصديق وهو قوله تعالى ( يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا ( الآية المذكورة ، لأن أحداً لم يتخذ اليهود والنصارى والكفار أئمة لنفسه ، وهم ما أتخذ بعضهم بعضاً إماماً ، وكلمة (( إنما )) المفيدة للحصر تقتضى هذا المعنى ايضاً لأن الحصر إنما يكون فيما يحتمل اعتقاد الشركة والتردد والنزاع
---------------------------
( 1 ) وقد تقدم في هامش الصفحة 139 رواية أخرى لمحمد بن جرير الطبري عن محمد الباقر بهذا المعنى .
( 2 ) قال شيخ الإسلام ابن تيميه في رسالة ( مقدمة أصول التفسير ) ص 39 طبع المطبعة السلفية عند تنبيه على تفسير الرافضة هذه الآية بأن المراد بها علي بن أبي طالب : (( ويذكرون الحديث الموضوع بإجماع أهل العلم وهو تصدقه بخاتمه في الصلاة )) . فالقصة إذن مكذوبة على كتاب الله من أصلها بإجماع أهل العلم ، وليست هذه بأول دسائسهم ولا بأخرها .
( 3 ) وكلاهما من صناديد التشيع .
( 4 ) وهذا ما نقلناه آنفاً عن الطبري من رواية محمد بن غسحاق عن أبيه عن عبادة ( .(166/188)
من المظان ، ولم يكن بالإجماع وقت نزول هذه الآية تردد ونزاع في الإمامة وولاية التصرف ، بل كان في النصرة والمحبة . وثالثاً إن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ، وهي قاعدة أصولية متفق عليها بين الفريقين ، فمفاد الآية حصر الولاية العامة لرجال معدودين داخل فيهم الأمير أيضاً لأن صيغ الجمع وكلمة (( الذين )) من الفاظ العموم أو مساوية لها باتفاق الإمامية كما ذكره المرتضى في ( الذريعة ) وابن المطهر الحلى في ( النهاية ) ، فحمل الجمع على الواحد متعذر ، وحمل العام على الخاص خلاف الأصل ولا يصح ارتكابه بلا ضرورة . فإن قالت الشيعة إن الضرورة متحققة ههنا إذ التصدق على السائل في حالة الركوع لم يقع من أحد غيره ( 1 ) قلنا أين ذكرت في هذه الآية هذه القصة بحيث يكون مانعاً من حمل الموصول وصلاته على العموم ؟ بل جملة ( وهم راكعون ( معطوفة على الجمل السابقة ، وصلة للموصول ، أى الذين هم راكعون ، أو حال من ضمير يقيمون الصلاة . وأيا ما كان معنى الركوع فهو الخشوع لا الركوع الاصطلاحي . فإن قالت الشيعة حمل الركوع على الخشوع حمل لفظ على غير المعنى الشرعي في كلام الشارع وهو خلاف الأصل ، قلنا : لا نسلم ، كيف والركوع بمعنى الخشوع مستعمل في القرآن ايضاً كقوله تعالى ( وأركعي مع الراكعين ( مع أن الركوع الاصطلاحي لم يكن بالإجماع في صلاة من قبلنا من أهل الشرائع ، وقوله تعالى ( وخر راكعاً ( وظاهر أن الركوع المصطلح ليس فيه خرور وسقوط بل هو انحناء مجرد ولا يمكن الخرور مع تلك الحالة بخلاف الخشوع . وقوله تعالى ( وإذا قيل لهم أركعوا لا يركعون ( ، ولا يخفى أن المقصود من الآمر ليس مجرد الانحناء الذى هو ركوع اصطلاحي . ولما كان الخشوع معنى مجازياً متعارفاً لهذا اللفظ جاز حمله عليه بلا ضرورة أيضاً كما هو مقرر في محله . وأيضاً نقول حمل ( يؤتون الزكاة ( علي تصدق بالخاتم على السائل كحمل لفظ الركوع على غير معناه الشرعي ، فما(166/189)
هو جوابكم فيه فهو جوابنا في الركوع ، بل ذكر الركوع بعد إقامة الصلاة مؤيد لنا ومرجح لتوجيهنا حتى لا يلزم التكرار ، وذكر الزكاة بعد إقامة الصلاة مضر لكم إذ في عرف القرآن حيثما وقعت الزكاة مقرونة بالصلاة يكون المراد منها زكاة مفروضة لا التصدق مطلقاً . ولو حملنا الركوع على معناه الحقيقي لكان مع ذلك حالا من ضمير (( يقيمون )) الصلاة أيضاً وعاماً لجميع المؤمنين لأنه أحتراز عن صلاة اليهود الخالية عن الركوع ، وفي هذا التوجيه غاية اللصوق بالنهي عن موالاة اليهود الوارد بعد هذه الآية . وأيضاً لو كان حالا من ( يؤتون الزكاة ( لما بقى صفة مدح ، بل يوجب في مفهوم ( يقيمون الصلاة ( قصوراً بيننا ، إذ المدح والفضيلة في صلاة كونها خالية
---------------------------
( 1 ) بل ولم يقع منه ايضاً بإجماع أهل العلم .(166/190)
عما لا يتعلق بها من الحركات ، لأن مبناه على السكون والوقار سواء كانت تلك الحركات قليلة او كثيرة ، غاية الأمر أن الكثيرة مفسدة للصلاة دون القليلة ولكن تورث قصوراً في معنى إقامة الصلاة البتة ، ولا يجوز حمل كلام الله تعالى على التناقض والتخالف ، ومع هذا لا دخل لهذا القيد بالإجماع لا طرداً ولا عكساً في صحة الإمامة ، فيتعلق حكم الإمامة بهذا القيد يلزم منه اللغو في كلام البارى تعالى كما يقال مثلاً إنما يليق بالسلطنة من بينكم من له ثوب احمر ، ولو تنزلنا عن هذه كلها لقلنا : إن هذه الآية إن كانت دليلاً لحصر الإمامة في الأمير تعارضها الآيات الأخر في ذلك ، فيجب الاعتداد بها ، كما يجب على الشيعة أيضاً أعتبار تلك المعارضات في إثبات الأئمة الأطهار الآخرين ، والدليل إنما يتمسك به غذ سلم عن المعارض ، وتلك الآيات المعارضات هي الآيات الناصة على خلافة الخلفاء الثلاثة المحررة فيما سبق . ومن العجائب أن صاحب ( إظهار الحق ( 1 ) ) قد أبلغ سعيه الغاية القصوى في تصحيح هذا الاستدلال بزعمه ، وليست كلماته في هذا المقام إلا قشوراً بلا لب بالمرة ، فمن جملة ما قال : إن الأمر بمحبة الله ورسوله يكون بطريق الوجوب والحتم لا محالة ، فالآمر بمحبة المؤمنين وولايتهم المتصفين بتلك الصفات المذكورة ايضاً بطريق الوجوب ، إذ الحكم في كلام واحد موضوعه متحداً ومحموله متحداً أو متعدداً ومتعاطفاً فيما بينهما ، لا يمكن أن يكون بعضه واجباً وبعضه مندوباً ، إذ لا يجوز أخذ اللفظ في استعمال واحد بالمعنيين ، فبهذا المقتضى تصير مودة المؤمنين وولايتهم المتصفين بتلك الصفات واجبة ايضاً ، وتكون مودتهم ثالثة لمودة الله ورسوله الواجبة على الإطلاق بدون قيد وجهة ، فلو أخذ أن المراد بالمؤمنين المذكورين كافة المسلمين وكل الأمة باعتبار أن من شأنهم الاتصاف بتلك الصفات لا يصح ، لأن معرفة كل منهم يكون متعذراًَ لكل واحد من المكلفين فضلاً عن(166/191)
مودتهم ( 2 ) ، وأيضاً قد تكون المعاداة لمؤمن بسبب من الأسباب مباحة بل واجبة . فالمراد به يكون المرتضى ( 3 ) أنتهى كلامه . وهو كما ترى يدل على مقدار فهم مدعية ، إذ مع تسليم مقدماته أين اللزوم بين الدليل والمدعى ؟ وأى استلزام له بالمطلوب ؟ لأن الحاصل على تقدير تعذر مودة الكل ثبوت مودة البعض مطلقاً لا معيناً فكيف يتعين أن يكون الأمير مراداً بذلك البعض ؟ لأن هذا التعيين وهو المتنازع فيه لم يثبت بعد بدليل ، ولا يثبت بهذه المقدمات المذكورة بالضرورة ، وثبوت ذلك لا يستلزم ثبوت المتعين ، فاستنتاج المتعين بدليل منتج للمطلق لا يكون
------------------------------
( 1 ) هو ملا عبد الله المشهدى الذى تكرر النقل عنه في ص 126 و ص 130 .
( 2 ) وبهذا المنطلق الشيعي السخيف تبطل أخوة المؤمنين بالإسلام المنصوص عليها في آية ( إنما المؤمنون أخوة ( وبيطل كل ما يترتب عليها من حقوق والتزامات وآداب وتعاون . لأن معرفة كل أخ مسلم لكل أخ مسلم متعذرة لكل واحد فيصبح هذا النص القرآنى وهذا القانون الإسلامي لغواً في قياسهم
( 3 ) أي سيدنا على دون سائر المؤمنين .(166/192)
إلا جهلاً وحماقة ظاهرة . نعم يريدون بهذه الترهات ترويج دعاويهم عند الجهلة السفهاء ، وللناقش تلك المقدمات فنقول : لا يخفى على من له أدنى تأمل أن موالاة جميع المؤمنين من جهة الإيمان عامة بلا قيد ولا جهة ، وإنها في الحقيقة موالاة لإيمانهم دون ذواتهم ، ولو أنه يباح أو يجب عداوة بعض لبعض بسبب من الأسباب لم يكن للموالاة الإيمانية مضرة اصلا لاختلاف الجهة . ونحن نحكم الشيعة في هذه المسألة : إن أهل مذهبهم يتحابون فيما بينهم بجهة التشيع ، وتلك المحبة عامة بدون قيد وجهة ، ومع هذا قد يتباغضون ويعادى بعضهم بعضاً للمعاملات الدنيوية ، فهل تبقى موالاة التشيع بحالها أو لا ؟ فهموا من هذه الآية كون هذا المعنى محذوراً ومحالاً لأمكن لهم أن يغمضوا اعينهم عن القرآن كله ، وما يقولون في هذه الآية ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله ( وأمثالها ؟ ولو كانت الموالاة الإيمانية لجميع المؤمنين العامة للمطيع والعاصى ثالثة لمحبة الله ولرسوله فأية استحالة عقلية تلزمها ؟ نعم إنما المحذور كون أنواع الموالاة الثلاثة في مرتبة واحدة في الاصالة ، وليس الآمر كذلك ، إذ محبة الله تعالى هي أصل ، ومحبة رسوله بالتبع والمحمول العامة للمؤمنين يتبع التبع ، لم يبق بينها مساواة اصلاً ، واتحاد القضية في الموضوع والمحمول ههنا ليس متحققاً ، أما عدم الاتحاد في المحمول فظاهر ، وأما في الموضوع فلأن ما يصدق عليه وصفه بالأصالة غير ما يصدق عليه وصفه بالتبعية بناء على أن الولاية من الأمور العامة ، كما بين آنفاً ، بل غرضه منه ترهيب عوام أهل السنة بمحض التكلم باصطلاح أهل الميزان ( 1 ) لئلا يقدحوا في كلامه وليت\حترزوا عن القدح بظن أنه منطقى ، ولهذا قال هو متنبهاً على قبحه (( أو متعدداً ومتعاطفاً )) ولكن لم يفهم من هذا القدر أن هذه(166/193)
المقدمة القائلة بوجوب المولاة في صورة التعدد والعطف تكون ممنوعة ، لأن العطف موجب للتشريك في الحكم لا في جهة الحكم مثاله من العقليات : إنما الموجود في الخارج الواجب والجوهر والعرض . ومن الشرعيات قوله تعالى ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ( مع أن الدعوى على الرسول واجبة وعلى غيره مندوبة ولهذا قال الأصوليون : القرآن في النظم لا يوجب القرآن في الحكم وعدوا هذا النوع من الاستدلال في المسالك المردودة وإن تنزلنا عن هذا أيضاً فالأظهر أن اتحاد نفس وجوب المحبة ليس محذوراً وإنما المحذور الاتحاد في الرتبة والدرجة في الأصالة والتبعية وهو غير لازم وأيضاً قد جعل محبة المؤمنين من حيث الإيمان موقوفة على معرفة كل فرد منهم بخصوصه وليست كل كثرة
------------------
( 1 ) علم الميزان هو علم المنطق .(166/194)
تمنع أن تلاحظ بعنوان الوحدة ولو كانت غير متناهية فضلاً عن غيرها مثلاً إذا قلنا : كل عدد هو نصف مجموع حاشيتيه إما فرد وإما زوج ففي هذا الحكم وقع التوجه إلى جميع مراتب الأعداد إجمالاً ولا شبهة أن مراتبها غير متناهية وفي قولنا : كل حيوان حساس وقع الحكم على جميع أفراد الحيوان مع أن أنواعه بأسرها غير معلومة لنا فضلاً عن الأوصاف والأشخاص فلا شعور لهذا القائل بالملاحظة الإجمالية التي تكون حاصلة للصبيان والعوام ولا يفرق بين العنوان والمعنون ولو لم يقبل هذه التقريرات ولم يضع إليها لكونها من العلم المعقول فنسأل عن المسلمات الدينية ونقول : إن ترك الموالاة من الكفار بل عداوتهم كلهم أجمعين من حيث الكفر واجبة أم لا ؟ فإن اختار الشق الأول يلزمه ذلك المحذور بعينه إذ معرفة كل منهم غير حاصلة فضلاً عن عداوتهم وإن آثر الشق الثاني فكيف يثبت عداوة يزيد وابن زياد وأمثالهما ؟ وبماذا يجيب عن الآيات القرآنية مع أن فرقة المؤمنين يكون معرفتهم وامتيازهم من جهة الإيمان حاصلة وأنواع الكفر ليست معلومة أصلاً حتى يمكن لنا أن نميز أنواع الكفار فضلاً عن أشخاصهم ؟ وأيضاً منقوض بوجوب موالاة العلوية الداخلة في اعتقادهم ومعرفة أشخاصهم وأعدادهم مع انتشارهم في مشارق الأرض ومغاربها التي ليس تعذرها أقل من تعذر موالاة المؤمنين عموماً . ومن جملة ما قال إنه يظهر من بعض أحاديث أهل السنة أن بعض الصحابة التمسوا من الرسول ( الاستخلاف كما ذكر في مشكاة المصابيح عن حذيفة قال : (( قالوا يا رسول الله لو استخلفت ؟ قال : لو استخلفت عليكم فعصيتموه عذبتم ولكن ما حدثكم حذيفة فصدقوه وما أقرأ كم عبد الله فأقرأوه )) رواه الترمذي وهكذا استفسروا منه ( عن الحرى بالإمامة عن علي قال : (( قيل يا رسول الله من يؤمر بعدك ؟ قال : إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً في الدنيا راغباً في الآخرة وإن تؤمروا عمر تجدوه قوياً أمينا لا يخاف في الله لومة لائم(166/195)
وإن تؤمروا علياً ولاأراكم فاعلين تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الصراط المستقيم )) رواه أحمد ، وهذا الالتماس والاستفسار يقتضي كل منهما وقوع التردد في حضرته ( عند نزول الآية فلم يبطل مدلول (( إنما )) انتهى كلامه . ولا يخفى على العاقل ما فيه من الضعف والخروج عن الجادة إذ محض السؤال والاستفسار لا يقتضي وقوع التردد . نعم لو وقع النزاع فيما بينهم بعد المشاورة في تعيين ولي الأمر وبيانه ( لهم لتحقق مدلول (( إنما )) بأن ما وفرق ما بينهما . وعلى تقدير تسليم التردد من أين لنا العلم بكونه قبل نزول الآية أو بعده ولو كان قبل النزول فهل هو متصل أو منفصل ؟ ولو كان متصلاً فهل اتصاله اتفاقي أو سببي للنزول ؟ وليس للاحتمالات دخل في أسباب النزول لأنه ليس بأمر عقلي فلا يمكن إثباته إلا بخبر صحيح . على أنه لم يذكر أحد من مفسري الفريقين كون التردد سبباً للنزول فقد علم أنه لم يكن متصلاً وهكذا الحال لو كان بعد نزول الآية والظاهر أن الحديث الوارد ينافي كلمة (( إنما )) لأن جوابه ( حين الاستفسار عمن يليق للخلافة فكأنه قال إن استحقاق ثابت لكل من هؤلاء الثلاثة البررة الكرام ولكن أشار ( إلى تقديم الشيخين بتقديمهما في الذكر فالسؤال والجواب منه ( ينافيان كون (( إنما )) في الآية مفيدة حصر الخلافة في المرتضى كرم الله تعالى وجهه وإلا فإن كانت الآية متقدمة يلزم الرسول للقرآن وإن كانت مؤخرة كون القرآن مكذوباً للرسول ( ولا يمكن أن يدعي ههنا أن أحدهما ناسخ للآخر لأن كلا من الحديث والآية من باب الإخبار الذي لا يحتمل النسخ وأيضاً لا يعلم المتقدم منهما والعلم بتأخر الناسخ شرط في النسخ فحينئذ إذا لم يمكن الجمع بينهما لا يعمل بهما معاً فإن قالوا : إن الحديث من أخبار الآحاد فلا يصح التمسك به في مسألة الإمامة نقول وكذلك لا يجوز التمسك به في إثبات التردد والنزاع أيضاً ومع هذا فإن التمسك بالآية موقوف على ثبوت التردد والنزاع(166/196)
فتمسك الشيعة بهذه الآية كان باطلاً أيضاً لأن التمسك بالآية التي تتوقف دلا لتها على خبر الواحد لا يجوز في مسألة الإمامة أيضاً قال ( في الحديث الأول إن الاستخلاف ترك الأصلح في حق الأمة فلو كانت آية ( إنما وليكم الله ( دالة على الاستخلاف الذي هو ترك الأصلح لزم صدور من الله تعالى وهو محال فالحديث الأول أيضاً لتمسكهم بهذه الآية في هذا الباب .
... ومنها (1) قوله تعالى ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ( قالت الشيعة في تقرير الاستدلال بهذه الآية : إن المفسرين ( أجمعوا ) على نزول هذه الآية في حق عل وفاطمة والحسن والحسين ( وهي تدل عل عصمتهم دلالة مؤكدة وغير المعصوم لا يكون إماماً .
ولا يخفى أن المقدمات المذكورة ههنا مخدوشة كلها :
أما الأولى : - فكون ( إجماع المفسرين ) على ذلك ممنوعاً روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في نساء النبي ( . وروى ابن جرير عن عكرمة أنه كان ينادي في السوق : إن قوله تعالى ( إنما يريد الله ليذهب ( الآية نزلت في نساء النبي ( . والظاهر من ملاحظة سياق الآية وسباقها إنما هو هذا لأن أولها ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ( إلى قوله ( والحكمة ( خطاب للأزواج المطهرات وأمر ونهي لهن فذكر حال الآخرين بجملة معترضة بلا قرينة ولا رعاية نكتة ومن غير تنبيه على انقطاع كلام سابق وافتتاح كلام جديد مخالف لوظيفة البلاغة التي هي أقصى الغاية في كلام الله تعالى فينبغي أن يعتقد تنزهه عن
-----------------------
( 1 ) أي من الأدلة القرآنية التي تغالط الشيعة في أنها تدل على النص بالإمامة لما يذهبون إليه . وقد تقدم أول هذه الأدلة في ص 139 .(166/197)
تلك المخالفة . وإضافة البيوت إلى الأزواج في قوله ( بيوتكن ( تدل على أن المراد من ( أهل البيت ( في هذه الآية إنما هو الأزواج المطهرات ، إذ بيته ( لا يمكن أن يكون غير ما يسكن فيه أزواجه من البيوت وقال عبد الله المشهدي الشعي : إن كون البيوت جمعاً في بيوتكن وإفراد أهل البيت يدل على أن بيوتهن غير بيت النبي ( ولو كن أهل البيت لو قع الكلام : أذكرن ما يتلى في بيتكن . انتهى كلامه . ولا يخفى ركاكة هذا الكلام وفساده لأن إفراد البيت في أهل البيت الذي هو اسم جنس ويجوز إطلاقه على كثير وقليل إنما هو باعتبار إضافته للنبي ( فإن بيوت الأزواج المطهرات كلهن باعتبار هذه الإضافة بيت واحد وكون البيوت جمعاً في (( بيوتكن )) باعتبار إضافتها إلى الأزواج المطهرات اللائى كن متعدداته . وما قال هذا القائل بعد ذلك لا يبعد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل وإن طال كما وقع قوله تعالى ( قال أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل ( ثم قال بعد تمام هذه الآية ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ( قال المفسرون ( وأقيموا الصلاة ( عطف على ( أطيعوا ( انتهى كلامه . فهو أرك وأسخف من كلامه السابق فإن وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بأجنبى من حيث الإعراب الذي يتعلق بوظيفة النحاة يجوز بلا شبهة ولكن لا يضرنا لأن المغايرة ووقوع الأجنبى باعتبار موارد الآيات اللاحقة والسابقة تلزم فيما نحن فيه وهذا هو المنافي للبلاغة لا ذلك وما نقل عن بعض المفسرين من أن أقيموا الصلاة معطوف على أطيعوا الرسول فهو صريح الفساد إذ وقع لفظ وأطيعوا الرسول بعد أقيموا الصلاة أيضاً بالعطف فلزم عطف الشيء على نفسه إذ لا احتمال للتأكيد أصلاً لوجود حرف العطف . ثم قال كلاماً أشد ركاكة من الأول وذلك قوله (( إن بين الآيات مغايرة إنشائية وخبرية ، لأن آية التطهير جملة ندائية وخبرية وما قبلها وما بعدها من الأمر والنهي جمل إنشائية وعطف(166/198)
الإنشائية على الخبرية لا يجئ فإنه ممنوع )) ألا ترى أن آية التطهير ليست جملة ندائية بل النداء وقع بينهما وهو قوله سبحانه ( أهل البيت ( وعلى تقدير كونها ندائية كيف تكون خبرية لأن النداء من أقسام الإنشاء دون الخبر كما لا يخفى ومع هذا أين حرف العطف في آية التطهير ؟ كيف وهي تعليل للأمر بالإطاعة في قوله تعالى ( وأطعن الله ورسوله ( ووقوع تعليل الإنشائية بالخبرية في كل القرآن والأحاديث الشريفة وكلام البلغاء مشهور ، مثل : اضرب زيداً إنه فاسق أطعني يا غلام إنما أريد أكرمك . وإن أراد عطف ( واذكرن ( فما عطف عليه وهو ( أطعن ( و ( قرن ( والأوامر الأخر السابقة كلها جمل إنشائية فلا يلزم عطف الخبر على الإنشائية . ومن هنا قلة ممارسة علمائهم لعلم العربية وأما إيراد ضمير جمع المذكر في ( عنكم ( فبملاحظة لفظ الأهل ، فإن العرب تستعمل صيغ التذكير في المؤنث التي يلاحظونها بلفظ التذكير إذا أرادوا التعبير عنها بتلك الملاحظة وهذه قاعدة لهم في محاوراتهم وقد جاء هذا الاستعمال في التنزيل أيضاً كقوله تعالى خطاباً لسارة امرأة الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام ( أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ( وقوله ( قال لأهله امكثوا ( حكاية لخطاب موسى ( لامرأته وما روى في سنن الترمذي والصحاح الأخر أن النبي ( دعا هؤلاء الأربعة وأدخلهم في عباءة ودعا لهم بقوله (( اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً )) وقالت أم سلمة : أشركني فيهم أيضاً ، قال (( أنت على خير وأنت على مكانك )) فهو دليل صريح على أن نزولها كان في حق الأزواج فقط وقد أدخل النبي ( هؤلاء الأربعة ( بدعائه المبارك في تلك الكرامة ولو كان نزولها في حقهم لما كانت الحاجة إلى الدعاء ، ولم كان رسول الله ( يفعل تحصيل الحاصل ؟ ومن ثمة يجعل أم سلمة شريكة في هذا الدعاء وعلم في حقها هذا الدعاء تحصيل الحاصل ؟ ولكن ذهب(166/199)
محققو أهل السنة إلى أن هذه الآية وإن كانت واقعة في حق الأزواج المطهرات فإنه بحكم (( العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب )) داخل في بشارتها هذه جميع أهل البيت وكان دعاؤه ( في حق هؤلاء الأربعة نظراً إلى خصوص السبب ويؤيده ما ورد في الرواية الصحيحة للإمام البيهقي من مثل هذه المعاملة بالعباس وأبنائه أيضاً ويفهم منه أنما كان غرضه ( بذلك أن يدخل جميع أقاربه في لفظة (( أهل البيت )) الواردة في خطاب الله تعالى : أخرج البيهقي عن أبي أسيد الساعدي قال : قال رسول الله ( للعباس بن عبد المطلب (( يا أبا الفضل لا ترم منزلك أنت وبنوك غداً حتى آتيك فإن لي بكم حاجة )) فانتظروه حتى جاء بعد ما أضحى فدخل عليهم فقال : السلام عليكم فقالوا : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته . قال : كيف أصبحتم ؟ قالوا : بخير نحمد الله . فقال لهم : تقاربوا . فزحف بعضهم إلى بعض حتى إذا أمكنوا اشتمل عليهم بملاءة ثم قال (( يا رب هذا عمي وصنو أبي وهؤلاء أهل بيتي استرهم من النار كسترى إياهم بملاءتي هذه )) قال فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت وقالت : آمين آمين آمين . وروى ابن ماجه أيضاً هذا الحديث مختصراً ، والمحدثون الآخرون أيضاً رووا هذه القصة بطرق متعددة في اعلام النبوة . وما قال عبدالله المشهدي المذكور (( إن البيت بيت النبوة ، ولا شك في ان ( أهل البيت لغة شامل الأزواج بل للخدام من الإماء اللاتى يسكن في البيت ايضاً ، وليس المراد هذا المعنى اللغوى الوسعة بالاتفاق ، فالمراد من أهل البيت خمسة ىل العبا الذين خصصهم حديث الكنساء )) أنتهى كلامه ، وفيه أن المعنى اللغوي لو كان مراداً بهذه الوسعة لا يلزم محذور إلا ذلك العموم في العصمة الثابتة عند الشيعة بهذه الآية ، ولما لم يتفق أهل السنة مع الشيعة في فهم العصمة من هذه الاية لم يتفقوا معهم في نفي هذا العموم ، ولتخصيص أهل السنة العصمة بالرسول أبدلت الخمسة بالأربعة فتدبر . وأيضاً عدم كون(166/200)
المعنى اللغوي مراداً بهذه الوسعة من أجل أن القرائن الدالة من الأيات السابقة واللاحقة معينة للمراد ، وأيضاً يخصص العقل هذا اللفظ باعتبار العرف والعادة بمن يسكنون في البيت لا بقصد الانتقال ، ولم يكن التحول والتبدل والتحول بانتقالهم من ملك إلى ملك في الهبة والبيع والإجازة والإعتاق ، وإنما يدل التخصيص فائدة أخرى ظاهرة وهي ههنا دفع مظنة عدم كون هؤلاء الأشخاص في أهل البيت نظراً إلى أن المخاطبات فيها هن الأزواج فقط . واما الثانية فلأن دلالة هذه الأية على العصمة مبنية على عدة ابحاث : أحدها كون كلمة ( ليذهب عنكم الرجس ( أى محل لها من الأعراب : مفعول له ليريد أو مفعول به ؟ الثاني معنى (( أهل البيت )) ما هو ؟ الثالث أي مراد من (( الرجس )) . وفي هذه المباحث كلام كثير محله كتب التفاسير . وبعد اللتيا والتي إن كان ليذهب مفعول به وأهل البيت منحصرين في هؤلاء الأربعة والمراد من الرجس مطلق الذنوب فدلالة الآية على العصمة غير مسلمة بل هي تدل على عدمها إذ لا يقال في حق من هو طاهر أني أريد أن أطهره ضرورة امتناع تحصيل الحاصل . وغاية ما في الباب أنهم محفوظون من الذنوب بعد تعليق الإرادة بإذهابها ، قد ثبت ذلك بالآية على أصول أهل السنة لا على أصول مذهب الشيعة ، لأن وقوع مراد الله لزم إرادته تعالى عندهم ، فرب أشياء يريد الله وقوعها ويمنعه الشيطان من أن يوقع ذلك ! ولو كانت إفادة معنى العصمة مقصودة لقيل هكذا : إن أذهب عنكم الرجس أهل البيت الآية . وأيضاً لو كانت هذه الكلمة مفيدة للعصمة ينبغي أن يكون الصحابة لا سيما الحاضرين في غزوة بدر قاطبة معصومين لأن الله تعالى قال في حقهم في مواضع من التنزيل ( ولعكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ( وقال ( ليطهركم به وليذهب عنكم رجس الشيطان ( وظاهر أن إتمام النعمة في الصحابة كرامة زائدة بالنسبة إلى ذينك اللفظين ، ووقوع هذا الاتمام أدل على عصمتهم ، لأن(166/201)
إتمام النعمة لا يتصور بدون الحفظ عن المعاصي وشر الشيطان . فليتأمل فيه تأملاً صادقاً لتظهر فيه حقيقة الملازمة وبيان وجهها وبطلان اللازم مع فرض صدق المقدم ، فالتخصيصات المحتملة في لفظ وإذهاب الرجس صارت هباءً منثوراً .
أما الثانية فلأن (( غير المعصوم لا يكون إماماً )) مقدمة باطلة يكذبها الكتاب وأقوال العترة . سلمنا ، ولكن ثبت من هذا الدليل صحة إمامة الأمير ، أما كونه إماماً بلا فصل فمن أين ؟ إذ يجوز أن أحداً من السبطين يكون إماماً قبله ولا محذور فيه ، والتمسك بالقاعدة التى لم يقل بها أحد دليل العجز ، إذ المعترض لا مذهب له .
... ومنها ( 1 ) قوله تعالى ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ( فإنها لما نزلت قالوا : يا رسول الله من قرابتك الذين وجب علينا مؤدتهم ؟ قال : على وفاطمة وأبناؤها . فذكر الشيعة في تقديرها مقدمات فاسدة مؤيدة لمطلبهم وهي (( أهل البيت واجبوا المحبة ، وكل من كان كذلك فهو واجب الإطاعة ، فعلى واجب الإطاعة وهو معنى الإمام . وغير علي لا تجب فلا تجب إطاعته )) .(166/202)
وأجيب عن هذا القياس الفاسد بأن المفسرين أختلفوا في المراد من هذه الآية أختلافاً فاحشاً ، فالطبراني والإمام أحمد رويا عن ابن عباس هكذا ، ولكن ردهما المحدثون بأن سورة الشورى بتمامها مكية ، ولم يكن هنالك الإمامان الحسن والحسين ، وما كانت فاطمة رضي الله تعالى عنها متزوجة بعلى ( . وقد وقع في سند هذه الرواية بعض الغلاة من الشيعة ولعله حرف ذلك . والذى رواه البخارى عن ابن عباس أن القربى من بينه وبين النبي ( قرابة ، وجزم قتادة والسدى الكبير وسعيد بن جبير بأن معنى الآية : لا أسألكم على الدعوة والتبليغ من أجر إلا المودة لأجل قرابتى بكم ، وهذه الرواية أيضاً في صحيح البخارى عن ابن عباس ، ومذكورة بالتفصيل أن قريشاً لم يكن بطن من بطونهم إلا وقد كان للنبي ( قرابة بهم ، فيذكرهم تلك القرابة وأداء حقوقها بطلبه منهم لا أقل من ترك إيذائه وهو ادنى مراتب صلة الرحم ، فالاستثناء منقطع وقد أرتضى جمع من المفسرين المتأخرين كالإمام الرازى وغيره بهذا المعنى ، لأن المعنى الأول ليس مناسباً لشأن النبوة بل هو من شيعة طالب الدنيا بأن تفعل شيئاً ويسأل على ذلك ثمرة لأولاده وأقاربه ، ولو كان للأنبياء مثل هذه الأغراض لم يبق فرق بينهم وبين أهل الدنيا ويكون ذلك موجباً لتهمتهم فيلزم نقص الغرض من بعثتهم . وأيضاً المعنى الأول مناف لقوله تعالى ( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم ، وإن أجرى إلا على الله ( وقوله تعالى ( أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون ( وقوله تعالى ( وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين ( وغير ذلك من الآيات . وأيضاً حكى الله في سورة الشعراء عن أنبيائه المذكورين فيها نفى سؤال الأجر ، فلو سأل خاتم الأنبياء أجراً من الأمة تكون مرتبته دون مرتبة أولئك الأنبياء ، وهو خلاف الإجماع . وثانياً لا نسلم الكبرى وهي (( كل واجب المحبة فهو واجب الإطاعة )) وكذا لا نسلم هذه المقدمة (( كل واجب الإطاعة صاحب الإمامة(166/203)
التى هي بمعنى الرياسة العامة )) . فأما الأول فلأنه لو كان وجوب المحبة مستلزماً لوجوب الإطاعة يلزم أن يكون جميع العلويين واجبي الإطاعة ، لأن شيخهم ابن بابويه ذكر في كتاب ( الإعتقادات ) أن الإمامية (( أجمعوا )) على وجوب محبة
--------------------------
( 1 ) أى من الاستدلالات القرآنية في مغالطات الشيعة .
العلوية . وأيضاً يلزم أن تكون سيدتنا فاطمة رضي الله عنها إمامة بهذا الدليل ، وهو خلاف الإجماع . وأيضاً يلزم كون من هؤلاء الأربعة إماماً في عهد النبي ( ، والسبطين إمامين في زمن خلافة الأمير ، وهو باطل بالاتفاق . وأما الثاني فلأن كل واجب الإطاعة لو كان صاحب الخلافة الكبرى يلزم أن يكون كل نبي في زمنه صاحب الخلافة الكبرى ، وهذا أيضاً باطل ، لأن شموئيل ( كان نبياً واجب الإطاعة وكان طالوت صاحب الزعامة الكبرى بنص الكتاب .(166/204)
وثالثاً لا نسلم أنحصار وجوب المحبة في الأشخاص الأربعة المذكورين ، بل يجب في غيرهم ايضاً : روى الحافظ أبو طاهر السلفى في مشيخته عن أنس قال : قال رسول الله ( (( حب أبي بكر وشكره على كل أمتى )) . وروى ابن عساكر عنه نحوه . ومن طريق آخر عن سهل بن سعد الساعدى نحوه . وأخرج الحافظ عن عمر بن محمد بن خضر الملا في سيرته عن النبي ( قال : (( إن الله تعالى فرض عليكم حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، كما فرض عليكم الصلاة والزكاة والصوم والحج )) وروى ابن عدى عن أنس عن النبي ( أنه قال (( حب أبي بكر وعمر من الإيمان وبغضهما كفر )) وروى الترمذي أنه أتي بجنازة رجل إلى رسول الله ( فلم يصل عليه وقال (( إنه كان يبغض عثمان ، فأبغضه الله )) . وهذه الروايات لم يسلمها الشيعة لكونها في كتب أهل السنة فيثبت وجوب محبة الخلفاء الثلاثة بقوله تعالى ( يحبهم ويحبونه ( فإنه نزل في حق المقاتلين لأهل الردة بالإجماع ، والخلفاء الثلاثة كانوا سادة أولئك المجاهدين وقادتهم ، ومن كان الله يحبه فهو واجب المحبة . على أن قياسهم بعد تسليم صحة مقدماته لا يستلزم النتيجة المذكورة جزماً ، لأن صغراه (( أهل البيت واجبو المحبة )) وكبراه (( وكل واجب المحبة واجب الإطاعة )) وبعد ترتيبها على الشكل الأول حصلت النتيجة هذه (( أهل البيت واجبو الإطاعة )) لا تلك النتيجة . وهذه النتيجة عامة ، وثبوت العام لا يستلزم ثبوت الخاص بخصوصه ، والنتيجة العامة المذكورة ليست مطلوبة للمستدل ولا مدعاة بل محتملة له ، والمطلوبة غير حاصلة من الدليل فالتقريب غير تام . ولو فرضنا الاستلزام لا يحصل مدعاه أيضاً لأن كون الأمير إماماً بلا فصل غير حاصل من الدليل ، والحاصل كونه إماماً مطلقاً وهو غير مدعاه فلا يتم تقريبه أيضاً .(166/205)
ومنها آية المباهلة ، وطريق تمسكهم بها أن قوله تعالى ( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ( ألخ ، لما نزل خرج النبي ( من منزله محتضناً الحسين آخذاً بيد الحسن ، وفاطمة تمشى خلفه ، وعلي خلفها ، وهو يقول : إذا أنا دعوت فأمنوا . فقد علم بذلك أن المراد بأبنائنا الخمس الحسن والحسين وبأنفسنا الأمير ، وإذا صار الأمير نفس الرسول . وظاهر أن المعنى الحقيقى مستحيل ، فالمراد كونه مساوياً له ، فمن كان مساوياً لنبي الزمان فهو أفضل وأولى بالتصرف بالضرورة من غيره ، لأن المساوى للأفضل الأول ى بالتصرف يكون مثله ، فيكون إماماً ، إذ لا معنى للإمام إلا الأفضل الأولى بالتصرف .(166/206)
وفي هذا التمسك خلل بوجوه : الأول – أنا لا نسلم أن المراد بأنفسنا الأمير ، بل المراد نفسه ( ، وما قاله علماؤهم في إبطاله (( إن الشخص لا يدعو نفسه )) فكلام مستهجن ، إذ قد شاع وذاع في العرف القديم والجديد أن يقال دعته نفسه إلى كذا ، ودعوت نفسي إلى كذا ، فطوعت له نفسه قتل أخيه ، وأمرت نفسي ، وشاورت نفسي ، إلى غير ذلك ، من الإستعمالات الصحيحة الواقعة في كلام البلغاء ، فكان معنى ( ندع أنفسنا ( نحضر أنفسنا . وأيضاً لو قررنا الأمير من قبل النبي لمصداق ( أنفسنا ( فمن نقرره من قبل الكفار لمصداق ( أنفسكم ( في أنفس الكفار مع انهم مشتركون في صيغة (( ندعو )) ولا معنى لدعوة النبي إياهم وأبناءهم بعد قوله ( تعالوا ( . فعلم أن الأمير داخل في الأبناء حكماً ، كما أن الحسنين داخلان في الأبناء كذلك لأنهما ليسا بابنين حقيقة ، ولأن العرف يعد الختن من غير ريبة في ذلك . وأيضاً قد جاء لفظ (( النفس )) بمعنى القريب والشريك في النسب والدين كقوله تعالى ( يخرجون أنفسهم من ديارهم ( أى أهل دينهم ، ( ولا تلمزوا أنفسكم ( ، ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً ( فلما كان للأمير أتصال بالنبي ( وسلم في النسب والقرابة والمصاهرة واتحاد في الدين والملة وكثرة المعاشرة والألفة بحيث قال في حقه (( على منى وأنا من علي )) وهذا غير بعيد ، فلا يلزم المساواة كما لا يلزم في الأيات المذكورة .(166/207)
الثاني – أه لو كان المراد مساواته في جميع الصفات يلزم أشتراكه في خصائص النبوة وغيرها من الأحكام الخاصة به ، وهو باطل بالإجماع لأن التابع دون المتبوع . وأيضاً لو كانت الآية دليلاً لإمامته لزم كون الأمير لإماماً في زمنه ( وهو باطل بالاتفاق ، وإن قيدوا بوقت دون وقت فالتقيد لا دليل عليه في اللفظ فلا يكون مفيداً للمدعى ، إذ هو غير متنازع فيه ، لأن أهل السنة يثبتون أيضاً إمامة الأمير في وقت دون وقت فلم يكن هذا الدليل قائماً في محل النزاع أيضاً.
ومنها قوله تعالى ( إنما أنت منذر ، ولكل قوم هاد ( قالت الشيعة في تقرير الاستدلال بها : ورد في الخبر المتفق عليه عن ابن عباس عن النبي ( أنه قال (( أنا المنذر وعلى الهادى )) ولا يخفى ضعفه لأن هذه رواية الثعلبي ، ولا اعتبار لمراوياته في التفسير ( 1 ) فكيف يستدل بها على الإمامة ؟ وعلى تقدير الصحة فلا دلالة لهذه الآية على إمامة الأمير ونفيها عن غيره أصلاً ، لأن كون رجل (( هادياً )) لا يستلزم أن يكون (( إماماً )) ولا نفى الهداية عن الغير ، وإن دل بمجرد الهداية على الإمامة تكون الإمامة المصطلحة لأهل السنة وهي بمعنى القدوة في الدين مرادة ، وهو غير محل النزاع ، قال الله تعالى ( وجعلناهم أئمة يدهون بأمرنا لما صبروا ( وقال
( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ( إلى غير ذلك .(166/208)
ومنها قوله تعالى ( وقفوهم إنهم مسئولون ( قالت الشيعة في الاستدلال بها : روى عن أبي سعيد الخدرى مرفوعاً أنه قال : وقفوهم إنهم مسئولون عن ولاية على بن أبي طالب . ولا يخفى أن نحو هذا التمسك في الحقيقة بالروايات لا بالآيات ، وهذه الرواية واقعة في فردوس الديلمى الجامع للأحاديث الضعيفة الواهية ، ومع هذا قد وقع سندها الضعفاء ، والمجاهيل الكثيرون بحيث سقطت عن قابلية الاحتجاج بها ، لا سيما في هذه المطالب الأصولية . ومع هذا فإن نظم الكتاب مكذب لها ، لن هذا الحكم في حق المشتركين بدليل ( وما كانوا يعبدون من دون الله ( والكفار والمشركون يكون السؤال لهم أولاً عن الشرك وعبادة غير الله تعالى لا عن ولاية علي ! وأيضاً نظم الكتاب يدل على أن السؤال يكون لهم بمضمون هذه الجملة الإستفهامية
( مالكم لا تناصرون ؟ ( توبيخاً وزجراً لا عن شئ أخر . ولهذا أجمع القراء على ترك الوقف على ( مسئولون ( ولئن سلمنا صحة الرواية وفك النظم القرآني يكون المراد بالولاية المحبة ، وهي لا تدل على الزعامة الكبرى التى هي محل النزاع . ولو كانت الزعامة الكبرى مرادة أيضاً لم تكن هذه الرواية مفيدة للمدعى ، لأن مفاد الآية وجوب اعتقاد إمامة الأمير في وقت من الأوقات وهو عين مذهب أهل السنة ، وقد أورد الواحدى في تفسيره هذه الرواية وفيها المتن هكذا عن ولاية علي وأهل البيت ، وظاهر أن جميع أهل البيت لم يكونوا أئمة عند الشيعة ، فتعين عند الشيعة ، فتعين حمل الولاية على المحبة إذ الولاية لفظ مشترك ويتعين أحد المعنيين أو المعاني
---------------------------(166/209)
( 1 ) تقدم في ص 142 أن الثعلبي حاطب ليل . وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيميه في ص 15 من رده على البكرى على طائفة من المفسرين الذين لا يميزون بين الصحيح والضعيف والغث والسمين وذكر أسماءهم وأولهم الثعلبي ثم قال : (( فهؤلاء لا يعرفون الصحيح من السقيم . ولا لهم خبرة بالمروى المنقول ، ولا لهم خبرة بالرواة النقلة ، بل يجمعون فيما يروون بين الصحيح والضعيف ، ولا يميزون بينهما ، لكن منهم من يروى الجميع ويجعل العهدة عل الناقل كالثعلبي ألخ ))
للمشترك بالقرائن الخارجية ، وبالجملة إن السؤال عن محبة الأمير وإمامته قائل به أهل السنة ولا نزاع فيه بين الفريقين ، وإنما النزاع في ان الأمير كان إماماً بلا فصل ولم يكن أحد من الصحابة مستحقاً للإمامة ، ولا مساس لهذه الآية بهذا المطلب ، فالتقريب غير تام .(166/210)
ومنها ( السابقون السابقون أولئك المقربون ( قالت الشيعة : روى عن ابن عباس مرفوعاً أنه قال : السابقون ثلاثة ، فالسابق إلى موسى يوشع بن نون ، والسابق إلى عيسى صاحب ياسين ، والسابق إلى محمد ( علي بن أبي طالب ( . ولا يخفى أن هذا أيضاً تمسك بالرواية ، ومدار إسناد هذه الرواية على أبي الحسن الأشقر وهو ضعيف الإجماع ، قال العقيلى : وهو شيعي متروك الحديث ، ولا يبعد أن يكون هذا الحديث موضوعاً إذ فيه من إمارات الوضع أن صاحب ياسين لم يكن أول من آمن بعيسى بل برسله كما يدل عليه نص الكتاب ، وكل حديث يناقض مدلول الكتاب في الأخبار والقصص فهو موضوع كما هو المقرر عند المحدثين . وأيضاً أنحصار السباق في ثلاثة رجال غير معقول فإن لكل نبي سابقاً بالإيمان به لا محالة . وبعد اللتيا والتى أية ضرورة أن يكون كل سابق صاحب الزعامة الكبرى وكل مقرب إماماً ؟ وأيضاً لو كانت هذه الرواية صحيحة لكانت مناقضة للأية صراحة ، لأن الله تعالى قال في حق السابقين ( ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ( والثلة هو الجمع الكثير ولا يمكن ان يطلق على الأثنين جمع ولا على الواحد قليل أيضا ، فعلم أن المراد بالسبق من الآية عرفى أو إضافى شامل للجماعة الكثيرة لا حقيقي بدليل أن الآية الأخرى ( السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ( والقرآن يفسر بعضه بعضاً . وأيضاً ثبت بإجماع أهل السنة والشيعة أن أول من آمن حقيقة خديجة ( ، فلو كان مجرد السبق بالإيمان موجباً لصحة الإمامة لزم أن تكون سيدتنا المذكورة حرية بالإمامة ، وهو باطل بالإجماع . وإن قيل إن المانع كان متحققاً في خديجة وهو الأنوثة قلنا كذلك في الأمير فقد كان المانع متحققاً قبل وصول وقت إمامته ، ولما أرتفع المانع صار إماماً بالفعل ، وذلك المانع هو إما وجود الخلفاء الثلاثة الذين كانوا أصلح في حق الرياسة بالنسبة إلى جنابة عند جمهور أهل السنة ، أو إبقاؤه بعد الخلفاء الثلاثة وموتهم قبله(166/211)
عند التفضيلية ، فإنهم قالوا : لو كان إماماً عند وفاة النبي ( لم ينل أحد من الخلفاء الإمامة وماتوا في عهده وقد سبق في علم الله تعالى أن الخلفاء أربعة فلزم الترتيب على الموت . وبالجملة تمسكات الشيعة بالإيات من هذا القبيل .
وأما الأحاديث التى تمسك بها الشيعة على هذا المدعى فهي اثنا عشر حديثاً :
الأول : حديث غديرخم المذكور عندهم بشأن عظيم ويحسبونه نصاً قطعياً في هذا المدعى ، حاصله أن بريدة بن الحصيب الأسلمى روى أنه ( لما نزل بغديرخم حين المراجعة عن حجة الوداع – وهو موضوع بين مكة والمدينة – أخذ بيد علي وخاطب جماعة المسلمين الحاضرين فقال : يا معشر المسلمين ألست أولى من انفسكم ؟ قالوا بلى . قال : من كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه . قالت الشيعة في تقرير الاستدلال بهذا الحديث : إن الموالى بمعنى الأولى بالتصرف ، وكونه أولى بالتصرف عين الإمامة ولا يخفى أن أول الغلط في الاستدلال هو إنكار أهل العربية قاطبة ثبوت ورود (( الموالى )) بمعنى (( الأولى )) بل قالوا لم يجئ قط المفعل بمعنى أفعل في موضع ومادة اصلاً فضلاً عن هذه المادة بالخصوص ، إلا أن أبا زيد اللغوى جوز هذا متمسكاً فيه بقول أبي عبيدة في تفسير ( هي مولاكم ( أولى بكم لكن جمهور أهل العربية خطأوه في هذا التجويز والتمسك قائلين بأن هذا القول لو صح لزم أن يقال مكان فلان أولى منك مولى منك وهو باطل منكر بالإجماع . وأيضاً قالوا : إن تفسير أبي عبيدة بيان الحاصل لمعنى يعنى النار مقركم ومصيركم والموضع اللائق بكم ، لا أن اللفظ المولى ثمة بمعنى الأولى . الثاني أن المولى لو كان بمعنى الأولى أيضاً لا يلزم أن تكون صلته بالتصرف ، كيف تقرر الصلة ومن أية لغة ؟ إذ يحتمل أن يكون المراد : أولى بالتصرف ، كما في قوله تعالى ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين أتبعوه وهذا النبي والذين أمنوا ( وظاهر أن أتباع إبراهيم لم يكونوا أولى(166/212)
بالتصرف في جنابة المعظم . الثالث أن القرينة البعدية تدل صراحة على أن المراد من الولاية المفهومة من لفظ (( المولى )) او (( الأولى )) المحبة ، وهي قوله (( اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه )) ، ولو كان المراد من المولى المتصرف في الأمور أو الأولى بالتصرف فقال : اللهم وال من كان في تصرفه وعاد من لم يكن كذلك ، وذكر المحبة والعداوة دليل صريح على ان المقصود إيجاب محبته والتحذير عن عداوته ، لا التصرف وعدمه . وظاهر أن النبي ( علم الناس ولقنهم أدنى الواجبات بل السنن والآداب بحيث يفهم المعانى المقصودة من ألفاظها الواردة في قوله الشريف كل من كان حاضراً أو غائباً بعد معرفته بلغة العرب من غير تكلف ، وهذا في الحقيقة هو كمال البلاغة ، وهو المقتضى لمنصب الإرشاد والهداية أيضاً . ولو أكتفى في مثل هذه المقدمة العمدة بنحو هذا الكلام الذى لا يحصل المعنى المقصود أصلاً بطبق القاعدة اللغوية ووفقها لثبت في حق النبي ( قصور البلاغة في الكلام بل المساهمة في التبليغ والهداية وهو محال والعياذ بالله تعالى ، فعلم أن مقصوده ( بهذا يعني محبة على فرض كمحبته ( ، وعداوته حرام كعداوته ( ، وهذا هو مذهب أهل السنة ومطابق لفهم أهل البيت في ذلك ، كما أورد أبو نعيم ( 1 ) عن الحسن المثنى ابن الحسن السبط الأكبر سألوه عن حديث (( من كنت مولاه )) هل هو نص على خلافة علي ؟ قال لو كان النبي ( أراد خلافته بذلك الحديث لقال هكذا : يا أيها الناس هذا ولي أمرى والقائم عليكم من بعدي فأسمعوا وأطيعوا . ثم قال الحسن : أقسم بالله أن الله تعالى ورسوله لو اثر علياً لأجل هذا الآمر ولم يمتثل علي لأمر الله ورسوله به . قال رجل : أما قول رسول الله ( (( من كنت مولاه فعلي مولاه ؟ )) قال الحسن : لا والله ، إن رسول الله لو أراد الخلافة لقال واضحاً وصرح بها كما صرح بالصلاة والزكاة وقال : يا أيها الناس إن علياً ولي أمركم من بعدي والقائم في الناس(166/213)
بامرى . وأيضاً في هذا الحديث دليل صريح على إجتماع الولايتين في زمان واحد ، إذ لم يقع التقييد بلفظ (( بعدي )) بل سوق الكلام لتسوية الولايتين في جميع الأوقات من جميع الوجوه كما هو الأظهر ، وشركة الأمير للنبي ( في التصرف ممتنعة فهذا أدل على ان المراد وجوب محبته ، إذ لا محذور في إجتماع محبتين ، بل إحداهما مستلزمة للأخرى ، وفي إجتماع التصرفين محذورات كثيرة كما لا يخفى . وإن قيدتموه بما يدل على إمامته في المآل دون الحال فمرحباً بالوفاق ، لأن أهل السنة أيضاً قائلون بذلك في حين إمامته . واما وجه تخصيص الأمير بالذكر دون غيره فلما علمه النبي ( بالوحي من وقوع الفساد والبغي في زمن خلافته وإنكار بعض الناس لإمامته . وكذلك فسر بعض الشيعة (( الأولى )) الواقع في صدر الحديث بالأولى بالتصرف ، وهو باطل ، والمراد الأولى في المحبة ، يعني ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم في المحبة ؟ لتتلائم أجزاء الكلام ، ولفظ الأولى قد ورد في غير موضع بحيث لا يناسب أن يكون معناه الأولى بالتصرف أصلاً كقوله تعالى ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ( ، ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ( فإن سوق هذا الكلام لنفي نسب الأدعياء عمن يثبتونه ، وبيانه أن زيد بن حارثة لا ينبغي أن يقال في حقه زيد بن محمد لأن نسبة النبي ( إلى جميع المسلمين كالأب الشفيق بل أزيد ، وأزواجه أمهات أهل الإسلام ، والأقرباء في النسب أحق وأولى من غيرهم ، وإن كانت الشفقة والتعظيم للأجانب أزيد ، ولكن مدار النسب على القرابة في الأدعياء ، وهي مفقودة في الأدعياء ،و حكم ذلك في كتاب الله ، ولا دخل ههنا لمعنى الأولى بالتصرف في المقصود اصلاً . وقد أورد بعض المدققين
------------------------(166/214)
( 1 ) واورده الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق ( 4 : 166 ) عن الحافظ البيهقى من حديث فضيل بن مرزوق . أنظر تعليقنا على ( العواصم من القواصم ) ص 185 – 186 .
منهم دليلاً على نفي المحبة ، وهو ان محبة الأمير أمر مفاد حيث كان ثابتاً في ضمن آية
( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ( فلو أفاد هذا الحديث ذلك المعنى ايضاً كان لغواً ، ولا يخفى فسداه ، أو لم يفهموا أن بيان محبة أحد في ضمن عموم شئ وإيجاب محبته بخصوص أمر آخر فرق بينهما لا يخفى على العقلاء . مثلاً لو آمن أحد بجميع أنبياء الله ورسله ، ولم يتعرض لاسم محمد ( بخصوصه في الذكر ، لم يكن إسلامه معتبراً . وفي هذا تكون محبة الأمير بشخصية مقصودة بالوجوب ، وفي الأية يكون وجوبها مفاداً بوصف الإيمان الذى هو عام . ولو فرضنا أتحاد مضمون الآية والحديث لا يلزم اللغو أصلاً لأن وظيفة النبي أن يؤكد مضامين القرآن لإلزام الحجة وإتمام النعمة . ومن تدبر الكتاب والسنة لا يتكلم بمثل هذا الكلام . وإلا فتأكيدات النبي وتقريراته في أبواب الصلاة والزكاة وتلاوة القرآن ونحو ذلك كلها تصير لغواً والعياذ بالله . وعند الشيعة ايضاً دعوى التنصيص على إمامة الأمير وتأكيده ثابتة ، فيلزم على تقدير صحة هذا القول أن يكون ذلك كله حشواً . وسبب هذه الخطبة الذى ذكره المؤرخون وأهل السير يدل على أن المقصود منها كان إلزام المحبة للأمير ، ولأن جماعة الصحابة الذين كانوا متغيبين مع الأمير في سفر اليمن كبريدة الأسلمي وخالد بن الوليد وغيرهما من المشاهير بعد ما رجعوا من سفرهم من الأمير ، فتكلم النبي ( في حقه هكذا ، وقد أورد هذه القصة محمد بن إسحق وغيره من اهل السير مفصلة .(166/215)
الحديث الثاني : روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب أنه ( لما أستخلف الأمير في غزوة تبوك على اهل بيته من النساء وتركه فيهن وقد توجه هو إلى تلك الغزوة ، قال الأمير : يا رسول الله اتخلفني في النساء والصبيان ؟ فقال النبي ( له : (( أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هرون من موسى ؟ إلا أنه لا نبي بعدي )) . قالت الشيعة : إن المنزلة اسم جنس مضاف إلى العلم فيعم جميع المنازل لصحة الاستثناء ، وإذا أستثني مرتبة النبوة فثبت للأمير جميع المنازل الثابتة لهرون ، ومن جملتها صحة الإمامة ، وافتراض الطاعة أيضاً لو عاش هارون بعد موسى ، لأن هارون كانت له هذه المرتبة في عهد موسى ، فلو زالت عنه بعد وفاته لزم العزل ، وعزل النبي ( ممتنع للزومه الإهانة المستحيلة في حقه فثبتت هذه المرتبة للأمير ايضاً وهي الإمامة .(166/216)
والجواب عن ذلك بوجوه : الأول – أن أسم الجنس المضاف إلى العلم ليس من ألفاظ العموم عند جميع الأصوليين ، بل هم صرحوا بأنه للعهد في غلام زيد وأمثاله ، لأن تعريف الإضافة المعنوية باعتبار العهد أصل ، وفيما نحن فيه قرينة موجودة وهي قوله (( اتخلفنى في النساء والصبيان )) يعنى ان هارون كما كان خليفة لموسى حين توجه هو إلى الطور كذلك صار الأمير خليفة للنبي ( إذ توجه إلى غزوة تبوك ، والاستخلاف المقيد بهذه الغيبة لا يكون باقياً بعد أنقضائها كما لم يبق في حق هرون ايضاً . ولا يمكن ان يقال انقطاع هذا الاستخلاف عزل موجب للإهانة في حق الخليفة لأن أنقطاع العمل ليس بعزل ، والقول بانه عزل خلاف العرف واللغة ، ولا تكون صحة الاستثناء دليلاً للعموم إلا إذا كان متصلاً ، وههنا منقطع بالضرورة ، لأن قوله (( إنه لا نبي بعدي )) جملة خبرية ، وقد صارت تلك الجملة بتأويلها بالمفرد بدخول إن في حكم (( إلا عدم النبوة )) وظاهر ان عدم النبوة ليسمن منازل هرون حتى يصح أستثناؤه لأن المتصل يكون من جنس المستثني منه وداخلاً فيه والنقيض لا يكون من جنس النقيض وداخلاً فيه ، فثبت أن هذا المستثني منقطع جداً ، ولأن من جملة منازل هرون كونه أسن من موسى وأفصح منه لساناً وكونه شريكاً معه في النبوة وكونه شقيقاً له في النسب ، وهذه المنازل غير ثابتة في حق الأمير بالنسبة إلى النبي ( إجماعاً بالضرورة ، فإن جعلنا الاستثناء متصلاً وحملنا المنزلة على العموم لزم الكذب في كلام المعصوم .(166/217)
الثاني – أنا لا نسلم أن الخلافة بعد موت موسى كانت من جملة منازل هرون ، لان هرون كان نبياً مستقلاً في التبليغ ، ولو عاش بعد موسى أيضاً لكان ولم تزل عنه هذه المرتبة قط ، وهي تنافى الخلافة لأنها نيابة للنبي ولا مناسبة بين الأصالة والنيابة في القدر والشرف ، فقد علم أن الاستدلال على خلافة الأمير من هذا الطريق لا يصح ابداً . وأيضاً أن النبي ( لما شبه الأمير بهارون – ومعلوم أن هرون كان خليفة في حياة موسى بعد غيبته ، وصار يوشع بن نون وكالب بن يفنه خليفة له بعد موت موسى – لزم أن يكون المير أيضاً خليفة في حياة النبي ( بعد غيبته لا بعد وفاته ، بل يصير غيره خليفة بعد وفاته حتى يكون التشبيه على وجه الكمال ، إذ حمل التشبيه في كلام الرسول على النقصان غاية عدم الديانة والعياذ بالله ، وإن تنزلنا قلنا ليس في هذا الحديث دلالة على نفي إمامة الخلفاء الثلاثة ، غاية ما في الباب أن أستحقاق الإمامة يثبت به للأمير ولو في وقت من الأوقات ، وهو عين مذهب اهل السنة ، فالتقريب به ايضاً غير تام .
الحديث الثالث : رواه مرفوعاً أنه قال (( إن علياً مني وانا من علي ، وهو ولي كل مؤمن بعدي )) وهذا الحديث باطل ، لأن في إسناده أجلح وهو شيعي متهم في روايته . وأيضاً غير مقيد بالوقت المتصل بزمان وفاته ( ، ولفظ (( بعدي )) يحتمل الاتصال والانفصال وهو مذهب اهل السنة القائلين بأن الأمير كان إماماً مفترض الطاعة بعد النبي ( في وقت من الأوقات .(166/218)
الحديث الرابع : رواه أنس بن مالك أنه كان عند النبي ( ائر قد طبخ له وأهدى إليه فقال (( اللهم أئتنى بأحب الناس إليك يأكل معي هذا الطير )) فجاءه علي . وهذا الحديث قد حكم أكثر المحدثين بأنه موضوع ، وممن صرح بوضعه الحافظ شمس الدين الجزرى ، وكذلك الذهبي في تلخيصه ، ومع هذا فهو غير مفيد للمدعى أيضاً ، لأن القرينة تدل على أن المراد بأحب الناس إلى الله في الأكل مع النبي ( . ولا شك أن الأمير كان أحبهم إلى الله في هذا الوصف ، لأن أكل الولد ومن حكمه مع الأب يكون موجباً لتضاعف اللذة بالطعام . وإن سلمنا أن يكون المراد بأحب الناس مطلقاً فإنه لا يفيد المدعى أيضاً ، إذ لا يلزم أن يكون أحب الخلق إلى الله صاحب الرياسة العامة ، فكاين من أولياء وأنبياء كانوا احب الخلق إلى الله ولم يكونوا ذوى رياسة عامة ، كزكريا ويحيى وشمويل الذى كان طالوت في زمنه صاحب رياسة عامة بنص إلهي ، وأيضاً يحتمل أن أبا بكر لعله لم يكن في ذلك الحين حاضراً في المدينة المنورة والدعاء كان خالصاً بالحاضرين دو الغائبين بدليل قوله (( اللهم أئتنى )) لأن إحضار الغائب من مسافة بعيدة في آن قصير لا يعقل إلا طريق خرق العادة ، والآنبياء لا يسألون الله خرق العادة إلا في وقت التحدي ، وإلا لما أحتاجوا في الحرب والقتال إلى تهيئة الأسباب الظاهرة . ويحتمل أن يراد التبعيض بذلك كما في قولهم فلأن أعقل الناس وأعلمهم وافضلهم . وعلى تقدير دلالته على المدعى لا يقاوم الأخبار الصحاح الدالة على خلافة أبي بكر وعمر ، مثل (( أقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر )) وغير ذلك .(166/219)
الحديث الخامس : رواية جابر عن النبي ( أنه قال : (( أنا مدينة العلم وعلى بابها وهذا الخبر أيضاً مطعون فيه ، قال يحيى بن معين : لا أصل له ، وقال البخارى : إنه منكر ، وليس له وجه صحيح . وقال الترمذى : إنه منكر غريب . وذكره ابن الجوزى في الموضوعات . وقال ابن دقيق العيد : لم يثبتوه . وقال النووى والذهبي والجزرى : إنه موضوع . فالتمسك بالأحاديث الموضوعة مما وجه له ، إذ شرط الدليل اتفاق الخصمين عليه . ومع هذا ليس مفيداً لمدعاهم إذ لا يلزم أن من كان باب مدينة العلم فهو صاحب رياسة عامة بلا فصل بعد النبي ( ، غايته أن شرطاً من شروط الإمامة قد تحقق فيه بوجه أتم ، ولا يلزم من تحقيق شرط واحد وجود المشروط بالشروط الكثيرة ، مع أن ذلك الشرط كان ثابتاً في غيره أيضاً أزيد منه برواية أهل السنة مثل
(( ما صب الله شيئاً في صدرى إلا وقد صببته في صدر أبي بكر )) ونحو (( لو كان بعدي نبي لكان عمر )) فإذا أعتبرت روايات أهل السنة فليتعبر كلها ، وإلا فلا ينبغي أن يقصد إلزامهم برواية واحدة من رواياتهم .
الحديث السادس : وهو ما رواه الإمامية مرفوعاً أنه ( قال (( من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في تقواه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في بطشه ، وإلى عيسى في عبداته ، فينظر إلى علي بن أبي طالب )) . وجه التمسك بهذا الحديث أن مساواة الأمير للأنبياء في صفات قد علمت به ، والأنبياء أفضل من غيرهم ، والمساوى للأفضل أفضل فكان على أفضل من غيره ، والأفضل متعين للإمامة دون غيره . ولا يخفى فساد هذه المقدمات والمبادئ الواقعة في الاستدلال من وجوه :
الأول – أن هذا الحديث أورده الحلى في كتبه وقد نسبه إلى البيهقي مرة إلى البغوي أخرى وليس في تصانيفهما أثر منه . ولا يتأتى إلزام أهل السنة بالافتراء . مع أن عند أهل السنة التي تذكر في كتبهم إذا لم يصرح بصحتها لا يحتج بها .(166/220)
الثاني – أن ما ذكر محض تشبيه لبعض صفات الأمير ببعض صفات أولئك الأنبياء الأسلوب كما تقرر في علم البيان أن من أراد أن ينظر القمر ليلة البدر فلينظر إلى وجه فلان . فهذا القسم داخل أيضاً في التشبيه ولو تجاوزنا عن ذلك لكان استعارة مبناها على التشبيه ، وفهم المساواة بين المشبه والمشبه به من كمال السفاهة وقد روى في الأحاديث الصحيحة لأهل السنة تشبيه أبي بكر بإبراهيم وعيسى وتشبيه عمر بنوح وتشبيه أبي ذر بعيسى ولكن لما كان لأهل السنة حظ عظيم من العقل لم يحملوا ذلك التشبيه على المساواة أصلاً بل أعطوا كلا مرتبته .
الثالث – أن المساواة بالأفضل في صفة لا تكون موجبة لأفضلية المساوى لأن ذلك الأفضل له صفات أخر قد صار بسببها أفضل . وأيضاً ليست الأفضلية موجبة للزعامة الكبرى كما مر .(166/221)
الرابع – ان تفضيل الأمير على الخلفاء الثلاثة من هذا الحديث يثبت إذا لم يكن أولئك الخلفاء مساوين للأنبياء المذكورين في الصفات المذكورة أو في مثلها ودون هذا خرط القتاد ولو تتبعنا الأحاديث الدالة على تشبيه الشيخين بالأنبياء لبلغت مبلغاً لم يثبت مثله لمعاصريهما ولهذا ذكر المحققون من أهل التصوف أن الشيخين كانا حاملين لكمالات النبوة وكان الأمير حاملاً لكمالات الولاية ومن ثمة صدر من الشيخين الأمور التي تصدر من الأنبياء من الجهاد بالكفار وترويج أحكام الشريعة وإصلاح أمور الدين بأحسن أسلوب وتدبير وظهر من الأمير ما يتعلق بالأولياء من تعليم الطريقة والإرشاد لأحوال . السالكين ومقاماتهم والتنبيه على غوائل النفس والترغيب بالزهد في الدنيا ونحوها أكثر من غيره وقد دل على هذه التفرقة حديث رواه الشيعة في كتبهم وهو قوله ( (( إنك يا علي تقاتل الناس على تأويل القرآن كما قاتلتهم على تنزيله )) لأن مقاتلات الشيخين كلها كانت على تنزيل القرآن فكان عهدهما من بقية زمان النبوة وزمن خلافة الأمير كان مبدأ لدورة الولاية وإليه تنتهي سلاسل جميع الفرق من أولياء الله تعالى كما تصل سلاسل الفقهاء والمجتهدين في الشريعة بالشيخين ونوابهما كعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وزيد ابن ثابت وعبدالله بن عمر وأمثالهم رضي الله تعالى عنهم ويكون فقه أولئك الفقهاء رشحة من بحار علومهم وكان معنى الإمامة التي بقيت في أولاد الإمام وجعل بعضهم بعضاً وصياً له فيها هي قطبية الإرشاد ولهذا لم يرو إلزام هذا الأمر من الأئمة الأطهار على كافة الخلائق بل جعلوا بعض أصحابهم الممتازين المنتخبين مشرفين بذلك الفيض الخاص ووهبوا لكل واحد منهم هذه الكرامة العظيمة بقدر استعداده . وهذه الفرقة السفيهة قد أنزلوا تلك الإشارات كلها على الرياسة العامة واستحقاق التصرف في أمور الملك والمال فوقعوا في ورطة الضلال ومن أجل ما قلنا يعتقد كل الأمة الأمير وذريته(166/222)
الطاهرة كالشيوخ والمرشدين .
الحديث السابع : روى عن أبي ذر الغفاري أنه قال (( من ناصب علياً في الخلافة فهو كافر )) وهذا الحديث لا أثر له بوجه في كتب أهل السنة أصلاً بل نسب ابن المطهر الحلى روايته إلى خطب الخوارزمي والحلى خوان في النقل والأخطب كان من الغلاة الزيدية ومع هذا لم يرو هذا الحديث في كتابه المؤلف في مناقب أمير المؤمنين ولو فرضنا كونه في كتابه فلا اعتبار له لكونه مخالفاً للأحاديث الصحاح الموجودة في كتب الإمامية منها قوله ( في نهج البلاغة (( أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج (1) )) . ولئن اعتبرنا هذا الحديث لا يتحقق مضمونه أيضاً إلا إذا طلب الأمير الخلافة وانتزعها الآخر من يده وهذا المعنى لم يقع في عهد قط ، لأن الأمير لم يطلب الخلافة في زمن الخلفاء الثلاثة ، كما ذكر في كتب الإمامية أن الرسول ( كان وصى الأمير بالسكوت ما لم يجد أعواناً فسكت الأمير في عهد الخلفاء الثلاثة لأجل هذه الوصية ! وحين صار طالباً لها لم يقصد أحد – من أم المؤمنين والزبير وطلحة – نزع الخلافة من يده أصلا ، بل إنما سأل هؤلاء الأمير تنفيذ حكم القصاص على قتلة عثمان رضي الله تعالى عنه ثم انجز الأمر إلى القتال كما تشهد بذلك كتب السير (2) وخطب الأمير ( . سلمنا ، ولكن المراد من (( الكافر )) كفران النعمة ، إذ خلافة أمير المؤمنين كانت نعمة في زمنها يدل عليه لفظ (( الخلافة )) إذ هي بالإجماع مشروطة بالتصرف في الأرض ، وذلك لم يكن للأمير في زمن الخلفاء الثلاثة ولهذا لم يقع في الحديث لفظ (( الإمامة )) . سلمنا ، ولكن الله تعالى قال في كتابه لمنكر خلافة الخلفاء الثلاثة في آية الاستخلاف كافر أيضاً كقوله تعالى ( ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ( والمعنى أن من أنكر خلافة أولئك المستخلفين بعد استماع هذه الآية الكريمة والعلم باستخلافهم الصادر من الله تعالى فأولئك هم الكاملون في الفسق(166/223)
، والكامل فيه هو
-----------------------
( 1 ) تقدم في ص130 .
( 2 ) انظر التعليق على ( العواصم من القواصم ) ص150-152 .
الكافر كما لا يخفى . مع أن روايات الأخطب الزيدي عند أهل السنة كلها ضعيفة وكثير منها موضوعة يحتج بها ؟!
الحديث الثامن : رواه الشيعة أن الرسول ( قال (( كنت أنا وعلي بن أبي طالب نوراً بين يدي الله قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام ، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزءين : فجزء أنا ، وجزء علي بن أبي طالب )) . وهذا الحديث موضوع قطعاً بإجماع أهل السنة ، وفي إسناده محمد بن خلف المروزي قال يحيى بن معين : هو كذاب . وقال الدار قطني : متروك ن ولم يختلف أحد في كذبه . ويروي من طريق آخر وفيه جعفر بن أحمد وكان رافضياً غالياً كذاباً وضاعاً ، وكان أكثر ما يضع في مدح الصحابة وسبهم . وعلى تقدير صحته معارض بالأخبار الأخر نحو قوله (( أول من خلق الله نورى )) وقوله (( أنا من نور الله وكل شيء من نورى )) فإنه إن كان الأمير من نوره فلا وجه للتخصيص وإن كان مستقلاً مثله فيلزم التكذيب . ومع هذا فقد ثبت اشتراك الخلفاء الثلاثة معه ( في عالم الأرواح بالرواية الأخرى التي هي أحسن من تلك الرواية إذ ليس في إسنادها متهمون بالكذب والوضع وهي ما روى الشافعي بإسناده إلى النبي ( أنه قال : (( كنت أنا وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي بين يدي الله قبل أن يخلق آدم بألف عام فلما خلق أسكننا ظهره ولم نزل ننتقل في الأصلاب الطاهرة حتى نقلني إلى صلب عبدالله ونقل أبا بكر إلى صلب أبي قحافة ونقل عمر إلى صلب الخطاب ونقل عثمان إلى صلب عفان ونقل علياً إلى صلب أبي طالب )) ويؤيد هذه الرواية حديث (( الأرواح جنود مجندة : ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف )) وبعد اللتيا والتي لا يدل حديثهم على المدعي أصلاً لأن اشترك الأمير في نور النبي مستلزماُ لوجوب إمامته بلا فصل وأية ملازمة بينهما فليبينوها بحيث لا يتوجه إليه(166/224)
المنع ودونه خرط القتاد ولا بحث لنا في قرب النسب وإلا لكان العباس أولى بالإمامة لكونه عم النبي والعم أقرب من ابن العم عرفاً وشرعاً فإن قالوا : عن العباس لحرمانه من اتحاد النور لم يحصل له لياقة للإمامة لأن نور عبد المطلب انقسم في عبد الله وأبي طالب ولم يصب أبناؤه الآخرون قلنا : إن كان مدار التقدم في الإمامة على قوة النور وكثرته فالحسنان أحق بالإمامة من الأمير للقوة والكثرة معاً أما القوة فلأن النور لما انقسم وصلت حصة الرسول إلى جنابه فانشعب من تلك الحصة السبطان الكريمان بخلاف الأمير فإنه كان شريكاً في أصل النور لا في حصة النبي ( وحصة النبي ( من النور كانت أقوى من حصة غيره.
وأما الكثرة فلأن الحسنين كانا جامعين لنورى النبي ( والأمير معاً والاثنان أكثر من الواحد قطعاً .(166/225)
الحديث التاسع : رواه عمر بن الخطاب ( أن النبي ( قال يوم خيبر (( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه )) وهذا الحديث أصح وأقوى من غيره ، ولكن مدعى الشيعة غير حاصل منه إذ لا ملازمة بين كونه محباً لله ورسوله ومحبوباً لهما وبين كونه إماماً بلا فصل أصلاً ، على انه لايلزم من أثباتهما له نفياً عن غيره ، كيف وقد قال الله تعالى في حق أبي بكر ورفقائه ( يحبهم ويحبونه ( وقال في حق أهل بدر ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ( ولاشك ان من يحبه الله يحبه رسوله ومن يحب الله من المؤمنين يحب رسوله ، وقال في شأن أهل مسجد قبا ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ، والله يحب المتطهرين ( وقال النبي ( لمعاذ (( يا معاذ إنى أحبك )) ولما سئل : من أحب الناس إليك ؟ قال : (( عائشة )) قيل : ومن الرجال ؟ قال : (( أبوها )) . وإنما نص على المحبية والمحبوبية في حق الأمير مع وجودهما في غيره لنكتة دقيقة تحصل من ضمن قوله (( يفتح الله على يديه )) وهي أنه لو ذكر مجرد الفتح لربما توهم أن ذلك غير موجب لفضيلته لما ورد (( إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر )) فأزال ذلك التوهم بإثبات هاتين الصفتين له فصار المقصود منه تخصيص مضمون (( يفتح الله على يديه )) وما ذكر من الصفات لإزالة ذلك التوهم .(166/226)
الحديث العاشر : (( رحم الله علياً ، اللهم أدر الحق معه حيث دار )) وهذا الحديث يقبله أيضاً أهل السنة ، ولكن لا مساس له بمدعى الشيعة وهو الإمامة بلا فصل ، وقد جاء في حق عمار بن ياسر (( الحق مع عمار حيث دار )) وفي حق عمر أيضاً (( الحق بعدي مع عمر حيث كان )) بل في هذين الحديثين إخبار بملازمة الحق لعمر ولعمار ، بخلاف الحديث عن الأمير فإنه دعاء في حقه ، والفرق بين الإخبار والدعاء غير خاف ، خصوصاً على ما قرره الشيعة من أن استجابة دعاء النبي لازمة عندهم ، فقد روى ابن بابويه القمي أن رسول الله ( دعا ربه أن يجمع أصحابه على محبة علي فلم يكن ذلك . وزاد في حق عمر لفظ (( بعدي )) ليكون دليلاً على صحة إمامته من رآه عمر إماماً . وعلى مذاق الشيعة يكون هذا الحديث دليلاً على عصمته ، لكن مذهب أهل السنة لا يكون غير النبي معصوماً . وقد تمسك بعض ظرفاء أهل السنة بحديث على المذكور على صحة أبي بكر وعمر وعثمان ، لأن علياً كان معهم وبايعهم وتابعهم وصلى معهم في الجمع والجماعات ونصحهم في أمور تتعلق برياستهم ، فيصح قياس المساواة ههنا : الحق مع علي ، وعلي مع أبي بكر وعمر ، فالحق معهما ، لأن مقارن المقارن مقارن . وهذه المقدمة الأجنبية التى هي مدار صحة النتيجة في هذا القياس صادقة لا محالة ، وهذا القياس لروايات الشيعة ، فإنه يثبت في ( نهج البلاغة ) أن عمر بن الخطاب لما أراد أن يخرج إلى دفع فتنة نهاوند أستشار علي أبن أبي طالب فقال له الأمير : (( إن هذا الآمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة وهو دين الله الذى أظهره ، وجنده الذى أوعده وأمده ، حتى بلغ ما بلغ ، وطلع حيث ما طلع ، ونحن على موعود من الله ، والله منجز وعده ، وناصر جنده . قال الله تعالى
( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كم أستخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى أرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم امناً ( . ومكان القيم(166/227)
من الإسلام مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه ، فإن أنقطع النظام تفرق الخرز وذهب ثم لم يجتمع أبداً والعرب وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام ، عزيزون بالإجتماع ، فكن قطباً ، وأستدر الرحى بالعرب )) إلى آخر خطبته المذكورة في نهج البلاغة . فعلم بالصراحة أن الأمير كان معنياً وناصراً أميناً لعمر بن الخطاب ، ولو كان بينهما نفاق والعياذ بالله لأشار عليه بالذهاب إلى العجم ، وإذا أشتغل عمر وأهل عسكره بالقتال تصرف الأمير بالحجاز التى كانت دار الإسلام وأتبعه الناس طوعاً أو كرهاً . وأيضاً قد علم أن الأمير عد نفسه في زمرة أبي بكر وعمر حيث أدخل نفسه فيهم وقال (( نحن على موعود من الله )) وأيضاً قد ذكر في ( نهج البلاغة ) أن الأمير قال لعمر بن الخطاب حين أستشاره في غزوة الروم (( إنك متى تسير إلى هذا العدو بنفسك فتكسر وتنكب لا تكن للمسلمين كانفة دون اقصى بلادهم ، وليس بعدك مرجع يرجعون إليه . فأرسل إليهم رجلاً مجرباً وأحفز معه أهل البلاء والنصيحة ، فإن أظهره الله فذلك ما تحمد ، وإن تكن الآخرى كنت ردءاً للناس ومثاباً للمسلمين )) والعجب من الشيعة كيف يتركون مثل هذه الروايات الثابتة في أصح الكتب عندهم كأنهم لو يروها ولم يسمعوها ، ويذعنون بالمخالفة فيما بينهم بما شاع عندهم من الروايات الموضوعة والمفتريات ، ثم يتخبطون إذ يرون هذه الروايات الصحيحة ، فقد يقولون إن هذه كلها – من متابعة الأمير ومبايعته للشيخين – كانت لمحض قلة الأعوان والأنصار ، ثم يفحمون فيما قالوا بروايات ثقاتهم الدالة صراحة على قوة الأمير وغلبة أعوانه وكثرة انصاره كما روى أبان بن عياش عن سليمان بن قيس الهلالي وغيره أن عمر قال لعلي : والله لئن لم تبايع أبا بكر لنقتلنك . قال له علي : لولا عهد عهده إلى خليلى لست أخونه لعلمت اينا أضعف ناصراً وأقل عدداً . فهذه الرواية تدل بالصراحة على أن سكوت الأمير كان بسبب أمر سمعه من النبي ( وهو أن(166/228)
الخلافة حق ابي بكر بلا فصل ثم حق عمر ، وههنا البرهان العقلي الموافق لأصول الشيعة قائم على أن العهد المذكور كان هذا ، لأن الإمامة لو كانت حق الأمير وكان النبي أوصاه بترك المنازعة للشيخين مع كثرة الأعوان والأنصار المستفادة من هذه الرواية صراحة للزم أن النبي أوصاه بتعطيل امر الله ، ونحوها ، معاذ الله من ذلك ، كيف وقد قال الله تعالى ( يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال ( في زمان كان الواجب أن يقاتل مسلم واحد عشرة كفار ، فجاهد النبي وكلف الناس بالجهاد بهذه التأكيدات مع كثرة المشقة والصعوبة ، وفي زمان تم فيه الدين وكملت النعمة يأمر مثل هذا الذى هو أسد الله بالجبن والخوف وترك التبليغ لأحكام الله ويجوز الفتن والفساد وتحريف كتاب الله وتبديل دينه ( أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ؟ ( حاشاه ثم حاشاه ، أولئك مبرأون مما يقولون ، وشأن النبوة والرسالة مناف لهذه الوصية أشد منافاة . وقد يقول الشيعة إن ترك الأمير للمنازعة وإظهاره الموافقة والمناصحة مع الخلفاء الثلاثة كان لمحض الأقتداء بأفعال الله تعالى وهي إمهال الجانى والتأنى في المؤاخذة ، وقد أستخرج هذا التوجيه ابن طاوس سبط أبي جعفر الطوسي ، وقد أرتضى به الآخرون من إخوانه غاية ارتضاء ، مع أنه تأويل باطل ، لأن الاقتداء بأفعال الله تعالى فيما يخالف الشرع غير جائز للناس فضلاً عن أن يكون واجباً ، إذ البارى تعالى قد ينصر الكفرة في بعض الأحيان ويخذل المسلمين ويميت الصالحين ويحيى الفساق ويرزقهم بغير حساب ويقدر الرزق على الصلحاء وغير ذلك على ما علمه من المصالح والحكم ، ولا يجوز لأحد من العباد نصرة الكافر وقتل المسلم بغير حق وإعانة الفاسق على فسقه وخذلان الصالح ، بل لابد للعباد من الامتثال لأوامر الله تعالى ونواهيه ، وهذا هو شان العبودية أن يتلقى بالقبول حكم الله ، ويعمل بالجد على وفقه ، لا أنه يقتدى بأفعال المالك . واما ما قيل (( تخلقوا بأخرق(166/229)
الله )) فبابه المكارم دون الأحكام ، وإلا فمن لم يصل ولم يؤت الزكاة ولم يحج البيت مع الاستطاعة أقتداء بالله تعالى فهل يعذر في الدنيا والآخرة ؟ ومن قال أنى التأني وترك العجلة محمود فليس مطلقاً ، بل التأخير والتأني في الأمور الحسنة غير محمود البتة ، لأن المالك إذا أمر رسله وعباده بتعجيل امر فإن لم يسارعوا إلى امره يكونوا عصاة لا محالة كما قال الله تعالى ( وإن منكم لمن ليبطئن ( وقال تعالى في مدح عباده المتعجلين في أمتثال أوامره ( أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ( ولهذا صار المثل المشهور (( لا حاجة إلى الاستخارة في امر الخير )) و (( خير الخير ما كان عاجله )) والإمام الذى له منصب هداية الخلق وإرشاد الضالين كيف يجوز له التاني إذ يفوت منه فيه واجبات كثيرة ، وأيضاً يكون للتأني حد ، وهل يمضى أحد في التأني خمسة وعشرين عاماً ؟ ولو قال : إن تأني الأمير كان بامر الله تعالى قلا يلزم ترك الواجبات ، قلنا : فقد علم أن إمامة الأمير لم تكن متحققة في ذا الزمن ، وإلا فنصبه للإمامة ثم امره بالتأني وترك لوازم الإمامة متناقضان فيما بينهما ، ويشبه ذلم أن السلطان قلد أحداً القضاء وأمره بالأختفاء مدة ذلك قائلاً له : لا تظهر قضاءك في تلك المدة ، وامتنع ان تقام قضية بحضورك ، ولا تتكلم بين المتخاصمين . فهذا يدل صريحاً على ان السلطان يعده القضاء ، لا انه نصبه بالفعل للقضاء ، ولو حملنا على الظاهر يلزمه التناقض الصريح وتفويت الغرض من نصب القاضي ، بل هو محض السفاهة . ولا يخفى قبحه ، والله تعالى منزه عن ذلك . وأيضاً إذا كان الأمير مأموراً من الله بالتأني وإخفاء الإمامة وترك دعواها يكون المكلفون في ترك متابعته وإطاعة الأمر معذزرين ، فلو خالفوا ونصبوا غيره لحفظ دينهم ودنياهم وتمشيه مهماتهم في هذه المدة لا يكون للعقاب والعتاب عليهم محل أصلاً إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها .(166/230)
الحديث الحادي عشر : رواه أبو سعيد الخدري أنه قال : قال النبي ( لعلي (( إنك تقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله )) . ولا يخفى أن هذا الحديث لا مساس له بمدعاهم ، إذ مفاده : إنك تقاتل فيحين من الأحيان على تاويل القرآن . وهذا هو مذهب أهل السنة أن الأمير في مقاتلاته حين قاتل كان على الحق ومصيباً لا ريب فيه ، ومخالفوه كانوا على الخطأ ولو بالاجتهاد . ولا دلالة في هذا الحديث على أن الأمير إمام بلا فصل ، إذ لا ملازمة بين المقاتلة على تأويل القرآن والإمامة بلا فصل بوجه من الوجوه ، فإيراد هذا الحديث في مقابلة على تأويل القرآن والإمامة بلا فصل بوجه من الوجوه ، فإيراد هذا الحديث في مقابلة أهل السنة غاية الجهل ، بل لو أستدل به على نذهب أهل السنة لأمكن ، لأنه يفهم منه بالصراحة أن الأمير قد يكون إماماً في عصر يقاتل فيه على تأويل القرآن ووقت قتاله معلوم متى كان ، وهو من دلائل أهل السنة على أن الحق كان في جانب الأمير وكان مقاتلوه على الخطأ حيث لم يفهموا معنى القرآن وأخطأوا في أجتهادهم ، وإنكار تاويل القرآن ليس بكفر إجماعاً ، وغن أنكر أحد معنى القرآن الظاهر بسوء فهمه ففي كفره تامل ، فضلاً عن ان ينكر المعنى الخفى الذى هو التأويل . وعقيدة الشيعة أن محاربيه كفرة كما ذكر في ( تجريد العقائد ) للطوسي . ولا وجه لكفرهم على أصول الشيعة ايضاً.(166/231)
الحديث الثاني عشر : رواه زيد بن ارقم عن النبي ( أنه قال : (( إنى تارك فيكم الثقلين ، فإن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي : أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله وعترتي )) وهذا الحديث أيضاً كالأحاديث السابقة لا مساس له بمدعاهم ، وإذ لا يلزم أن يكون المتمسك صاحب الزعامة الكبرى . سلمنا ، ولكن قد صح الحديث ايضاً (( عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنوجذ )) . سلمنا ، ولكن (( العترة )) في لغة العرب هم الأقارب ، فلو دل الحديث على الإمامة لزم أن يكون جميع أقاربه ( أئمة واجبي الإطاعة وهو باطل . وأيضاً قال ( (( وأهتدوا بهدي عمار ، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد ، واعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل )) خصوصاً قوله (( أقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر )) البالغ درجة الشهرة والتواتر المعنوي ، فلزم من هذه الأحاديث أن يكون أولئك الأشخاص ائمة ، وأن يدل هذا الحديث على إمامة العترة ، فكيف يصح الحديث المروى عن الأمير بالتواتر عند الشيعة (( إنما الشورى للمهاجرين والأنصار )) وكذلك لا يدل حديث (( مثل أهل بيتى فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق )) إلا أن الفلاح والهداية منوطان بمحبتهم ومربوطان باتباعهم ، والتخلف عن محبتهم وأتباعهم موجب الهلاك . وهذا المعنى بفضل الله تعالى مختص بأهل السنة ، لأنهم هم المتمسكون بحبل وداد جميع أهل البيت ، كالإيمان بكتاب الله كله لا يتركون حرفاً منه ، وبالأنبياء أجمعين بحيث لا يفرقون بين أحد من رسله وأنبيائه ، ولا يخصمون بعضهم بالمحبة دون بعض ، لأن الإيمان ببعض الكتاب بحكم ( تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ( وببعض الأنبياء بدليل ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ( الآية كفر غليظ ، بخلاف الشيعة لأنهم ما من فرقة منهم إلا وهي لا تحب جميع أهل البيت ، بل يحبون طائفة ويبغضون(166/232)
أخرى .
ولبعض الشيعة ههنا تقرير عجيب حيث قال : تشبيه أهل البيت في هذا الحديث يقتضى أن محبة أهل البيت واتباعهم كلهم غير ضرورى في النجاة ، لأن أحداً لو تمكن من زاوية من السفينة تحصل له النجاة من الغرق بلا شبهة ، بل كذلك الدوران في السفينة بأن لا يجلس في مكان واحد ، فالشيعة إذا كانوا متمسكين ببعض أهل البيت ومتبعين لهم يكونون ناجين بلا شبهة فقد أندفع طعن أهل السنة عليهم بإنكارهم لبعض أهل البيت .
واجاب عنه أهل السنة بوجهين : الأول بطريق النقض بان الإمامية لابد لهم ان لا يعتقدوا على هذا التقرير ان الزيدية والكيسانية والناوسية والأفطحية وامثالهم من فرق الشيعة ضالون هالكون في الآخرة ، بل ينبغي أن يعتقدوا فلاحهم ونجاتهم ، لأن كلاً من هذه الفرق وامثالهم آخذون زاوية من هذه السفينة الوسيعة ، ومتخذون فيها مكانهم والزاوية الواحدة من تلك السفينة كافية لنجاة عن الغرق ، بل التعيين بالأئمة الأثني عشر صار مخدوشاً على هذا التقرير ، إذ الكفاية بزاوية واحدة من السفينة في النجاة من الغرق مفروضة ، ومعنى الإمام هو هذا ان أتباعه يكون موجباً للنجاة في الآخرة ، ففسد مذهب الأثني عشرية بل الإمامية كلهم فلا يصح لكل فرقة من فرق الشيعة ذلك بل لابد لهم ان يعلموا جميع المذاهب حقاً وصواباً ، مع أن بين مذاهبهم كثير من التناقض والتضاد الواقع ، والحكم في كلا الجانبين المتناقضين بكونهما حقاً في غير الاجتهادات قول باجتماع النقيضين وهو بديهي الاستحالة .(166/233)
الثاني بطريق الحل : بأن التمكن في زاوية من زوايا السفينة إنما ينجى من الغرق لو لم يخرق في زاوية أخرى منها ، وإلا فيحصل الغرق قطعاً . وما من فرقة من فرق الشيعة متمكنين في زاوية من هذه السفينة إلا وهم يخرقون في زاوية أخرى منها .نعم أهل السنة وإن كانوا يدورون في كل الزوايا المختلفة ويسيرون فيها ، لكنهم لم يخرقوها في زاوية منها ليدخلوا من ذلك الطرف موج البحر ليغرقها . والحمد لله .
وأما الدلائل العقلية للشيعة فهي كثيرة جداً ولنذكر قاعدة يمكن الحل بها لكل دلائلهم فنقول : إن الدليل على هذا المدعي لا يخلو عن ثلاثة اقسام : لأنه إما جميع مقدماته عقلية ، أو جميعها نقلية ، أو بعضها عقلية وبعضها نقلية ، وهذا الاصطلاح غير الاصطلاح المشهور في الكلام ، فإن الدليل العقلي يطلق فيه على ما كان مركباً من العقليات الصرفة ، والدليل النقلي يطلق على ما كانت إحدى مقدماته موقوفة على النقل . وهذه الأقسام الثلاثة من الدليل لابد أن تكون مأخوذة من شرائط الإمامة او من توابعها أو من طريق تعينها . وأصل هذه الدلائل كلها هي مباحث الإمامة ، ومباحثها فرع لمباحث النبوة ، لأن الإمامة نيابة للنبوة ، ومباحث النبوة فرع الإلهيات ، لن النبوة والرسالة من الله تعالى . فإذا فسدت أصول الشيعة ومقرراتهم في هذه المباحث الثلاثة بمخالفة الكتاب والعترة والعقل السليم صارت دلائلهم كأنها أخذت تحت المنع في ثلاث مراتب . ولنبين هذا الاجمال بمثال واضح : مثلاً مقدماتهم المأخوذة في الدلائل الكثيرة عندهم (( الإمام يجب أن يكون منصوصاً عليه )) أصله (( ان نصب الإمام واجب على الله تعالى )) وأصل هذا الأصل إن بعث المبنى واجب على الله )) ولما ابطلنا مذهبهم في هذه المباحث بشهادة العدول – الكتاب ، والعترة ، والعقل السليم ( 1 ) – لم يبق شبهة ولا شك في بطلانه .(166/234)
ولنذكر بعضاً من دلائلهم العقلية ، وإن كان يستغنى عن ذكرها بما ذكرنا . فنقول : الأول من دلائلهم أنهم قالوا : (( إن الأمام يجب أن يكون معصوماً ، وغير الأمير من الصحابة لم يكن معصوماً هو إماماً لا غيره )) ، وهو المدعى . ولا يخفى أن تقرير الاستدلال ناقص لا يفيد المدعى ، لأن الدعوى مركبة من ثبوت الإمامة للأمير وسلبها عن غيره . والدليل المذكور لا يلزم منه إلا سلب مفهوم كل أحد غير الأمير من الصحابة عن ذات متصفة بالإمامة فقط ، وهو غير مطلوب ، فالاستدلال الصحيح بعكس ترتيب هذا القياس المذكور ، وضم قياس آخر إليه من الشكل الأول فيفيد مجموعهما المدعي ، وهو هكذا : (( لم يكن أحد غير الأمير من الصحابة معصوماً ، وكل إمام يجب ان يكون معصوماً )) على الضرب الثاني من الشكل الثاني ، ونتيجة هذا القياس
-----------------------
( 1 ) انظر ص 99 – 100
سالبة كلية وهي (( لم يكن أحد غير الأمير منهم إماماً )) فيحصل منه سلب الإمامة عن غير الأمير من الصحابة . والقياس الآخر (( إن الأمير كان معصوماً ، وكل معصوم يكون إماماً ، فالأمير يكون إماماً )) فيلزم منه ثبوت إمامته ، فمجموع هذين القياسين تثبت به الدعوى وهو المطلوب . ويجاب عن الأول بمنع الكبرى أعني (( كل إمام يجب أن يكون معصوماً )) وبمنع استثناء الأمير منهم في الصغري ، وأسنادهما أقوال الأمير الآتية ، وبهذا المعنى يرد المنع على الصغرى التى جعلها المستدل كبرى قياسه ، وإلا فهي مسلمة بالضرورة فلا يصح منعها ، ويجاب عن الثاني بمنع الصغرى وسنده سند منع الاستثناء ، وبفوات بعض الشروط من كلية كبراه لأن المعصوم عام فإن الأنبياء والملائكة وفاطمة ( 1 ) معصومون وليسوا بأئمة بالمعنى المتنازع فيه ، فحمل (( الإمام )) على جميع أفراده لا يمكن ، وعلى بعض أفراده يجعل القضية جزئية وهي لا تصلح لكبروية الشكل الأول لاشتراط كليتها ، فافهم .(166/235)
وقال المؤلف ( 2 ) : وفي هذا الدليل تكون الصغرى والكبرى ممنوعتين ، أما الصغرى فلأن الأمير نص بقوله (( إنما الشورى للمهاجرين والأنصار )) إلخ على أن الشورى لهم فقط ، وبديهي أن الجماعة الذين جعلهم المهاجرون والأنصار خلفاء لم يكونوا معصومين ، فعلم قطعاً أن العصمة ليست بشرط في الإمامة أصلاً . وأيضاً لما سمع الأمير ما قال الخوارج (( لا إمرة )) قال (( لابد للناس من أمير أو فاجر )) كذا في ( نهج اليلاغة ) . سلمنا . ، ولكن العلم بأنه معصوم لا يمكن حصوله لغير النبي ، لأن أسباب العلم كلها ثلاثة أشياء : الحواس السليمة ، والعقل ، وخبر الصادق . ولا سبيل لأحد منها إلى تحصيله . أما الأول فظاهر إذ العصمة هي الملكة النفسانية المانعة من صدور الذنوب والقبائح غير المحسوسة ، وأما الثاني فلأن العقل ايضاً لا يدرك تلك الملكة إلا بطريق الاستدلال بالأفعال أحد بخصوصه وآثاره خصوصاً نيات القلب ومكنونات الضمائر – من العقائد الفاسدة والحسد والبغض والعجب والرياء وغيرها من ذمائم الأخلاق – لا يمكن أولاً حصوله ، ولو سلمنا أنه حاصل ولكن يجوز حصول ما هو حاضر من جميع الأفعال والآثار الحسنة الباقية فإنها يمكن العلم بها ، وأما ما مضى وما سيأتى من تلك الأفعال والآثار فلا سبيل لأحد إلا الله إلى العلم بها ، لأن أحوال بنى آدم كثيراً ما تتغير آناً فآناً يمكر الشيطان وإغواء النفس وقرناء السوء فيصبح الرجل مؤمناً ويمسى كافراً ويمسى مؤمناً ويصبح كافراً . أما سمعت قصة برصيصاء الراهب وبلعم بن باعورا وهي كافية للعبرة في هذا الباب ، والدعاء المأثور
-----------------------
( 1 ) أي في أعتقاد الخصم .
( 2 ) أي شاه عبد العزيز الدهلوي ابن شاه ولى الله الدهلوي رحمهما الله .(166/236)
(( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك وطاعتك )) دواء شاف لداء الشبهة والشك في هذا الامر . ولو فرضنا أنها علمت ، ولكن كيف تدرك حقيقة العصمة التى هي امتناع صدور الذنب ؟ غاية الأمر فيه أنا نعلم عدم الصدور منه وهي مرتبة المحفوظية ، ولا يجزئ هذا القدر من العلم في إدراك العصمة ما لم يوجد العلم بالامتناع . واما الثالث فلأن خبر الصادق قسمان : إما متواتر ، وإما خبر الله ورسوله . وظاهر أن المتواتر لا دخل له ههنا لأن المتواتر يشترط انتهاؤه إلى المحسوس في إفادة العلم الضرورى ، فلا يكون في غير المحسوسات – مثل ما نحن فيه – مفيداً وإلا يكن خبر الفلاسفة بقدم العالم مفيداً للعلم الضروري وهو باطل بالإجماع ، وخبر الله ورسوله لا يكون موجباً للعلم في هذا الباب على أصول الشيعة : أما أولاً فلأن البداء في الإخبار جائز عندهم ( 1 ) ، فيجوز أن يخبر في وقت بعصمة رجل ثم بفسقه في وقت آخر ، وأحد الخبرين وصل إلينا دون الآخر ، وبجوز البداء في الإرادة أيضاً إجماع الشيعة فيحتمل أن تتعلق الإرادة في وقت بعصمة رجل وفي وقت آخر بفسقه ، فارتفع الاطمئنان بأن هذا الرجل يبقى على عصمته إلى آخر العمر . وأما ثانياً : فلأن وصول خبر الله ورسوله إلى المكلفين إما بواسطة معصوم أو بواسطة تواتر ، ففي الشق الأول يلزم الدور الصريح ، وفي الشق الثاني يلزم خلاف الواقع ، لأن كل تواتر ليس مفيداً للعلم القطعي عند الشيعة ، كتواتر المسح على الخف ، وغسل الرجلين في الوضوء ، وإلى المرافق ، وأمه هي اربى من أمة في كلمات القرآن ، وصيغة التحيات في قعدة الصلاة ، وأمثال ذلك . فلابد من أن يعين تواتر خاص . وذلك أيضاً غير مفيد ، إذ حصول العلم القطعي من التواتر يكون بناء على كثرة الناقلين وبلوغهم إلى ذلك المبلغ فقط ، ولما كذب الناقلون في مادة أو مادتين أرتفع الاعتماد عن اقسامه كلها . ولا يمكن أن تجرى هذه الوجوه في عصمة الأنبياء لأن ثبوتها باخبارهم(166/237)
الصادقة ، وقد ثبت صدقهم في كل ما أدعوا بظهور المعجزات الباهرة ، فلا يقاس عليهم من عداهم من العباد ولو إماماً فإنه أيضاً تابع والتابع دون المتبوع لا محالة ، فلا يستقيم بها النقض على ما قاله السائل لاختلاف المادة ، مع أنه سند منع بصورة الاستدلال عن مقالة بحق أو مشورة بعدل ، فإنني لست بفوق أن اخطئ ، ولا آمن من ذلك في فعلي )) كذا في ( نهج البلاغة ) وظاهر أن هذا القول لا يصدر من المعصوم ، خصوصاً إذا كانت واقعة في أخر الكلام (( إلا أن يلقى الله في نفسى ما هو أملك به مني )) فإنه دليل صريح على عدم العصمة . لأن المعصوم بملكه الله نفسه كما ورد في الحديث (( إنه كان أملكم لأربه )) . وأيضاً مروى في دعاء الأمير (( اللهم أغفر لي ما تقربت به إليك ثم خالفه قلبي )) كذا أورده
-----------------------
( 1 ) أنظر الكلام على (( البداء )) في ص 16 و 21 .
الرضى في ( نهج البلاغة ) .
الدليل الثاني ( 1 ) : أن الإمام لابد من أن لا يرتكب الكفر قط ، لقوله تعالى ( لا ينال عهدي الظالمين ( والكافر ظالم لقوله تعالى ( والكافرون هو الظالمون ( ولقوله تعالى ( إن الشرك لظلم عظيم ( وغير الأمير من الصحابة كلهم كانوا عبدوا الأصنام في الجاهلية فيكون هو إماماً دون غيره .(166/238)
ولا يذهب على العارف ان هذا الدليل – مع كونه ناقصاً ما مر – فاسدة بالمرة ، فلابد أن يغير بوجه آخر صحيح . وذلك أن يقال : لم يكن أحد من الصحابة غير الأمير مؤمناً من بدء التكليف ، وكل إمام يجب أن يكون مؤمناً كذلك . والقياس الآخر : إن الأمير كان مؤمناً كذلك ، وكل من يكون مؤمناً كذلك فهو إمام ، ويجاب عن الأول بمنع الكبرى ، وسنده الإجماع على عدم الاشتراط في الإمامة بهذا الشرط ، وعن الثاني بالنقض لأنه يلزم منه أن يكون كل من هو كذلك من آحاد الأمة إماماً ، ولا أقل من لزوم إمامة نحو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، لا يقال أشتراط العصمة يدفعه لأنا نقول إن ذلك الاشتراط بعد تسليمه لا يعتبر في هذا الدليل فالتعدد باطل ، بل الثاني يصير حشواً محضاً أولاً فالانتقاض ضرورى لا مرد له .(166/239)
وقال المؤلف : وأجيب بان هذا الشرط لم يذكره في بحث الإمامة أحد من اهل السنة والشيعة ، ولكن خرط الشيعة هذا الشرط حين عمدوا إلى نفي الخلافة عن الخلفاء الثلاثة ، ولهذا لم يذكر في آية ولا حديث ، بل من اسلم بعد كفره مائة سنة ومن كان مسلماً من سبعين بطناً متساويان في الدين والإسلام ، ولم يعتبر هذا الشرط فإنه لغو وحشو ، والتمسك بآية ( لا ينال عهدي الظالمين ( ههنا ليس إلا من المغالطة ، إذ مفاد الاية أن الرياسة الشرعية لا تنال الظالم ، لأن العدالة في جميع المناصب الشرعية – من الإمامة الكبرى والقضاء والاحتساب والإمارة وغيرها – شرط لتحقيق فائدة ذلك المنصب ، ونصب الظالم في أى رياسة موجب لفسادها ، فبين الكفر والظلم والإمامة منافاة ، ولا يجتمع التنافيان في وقت واحد في ذات أصلاً ، وهذا هو مذهب جميع أهل السنة أن الإمام لابد أن يكون وقت الإمامة مسلماً عادلاً ، لا أنه لم يكن قبل الإمامة كافراً وظالماً ، ومن كفر أو ظلم ثم تاب عنه من بعد ذلك واصلح فلا يصح أن يطلق عليه أنه كافر أو ظالم أصلاً في لغة وعرف وشرع ، إذ قد تقرر في الأصول أن المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة وفي غيره مجاز ، ولا تكون المجاز أيضاً مطروداً بل حيث يكون متعارفاً ينبغي أن يطلق هنالك ، كما تقرر في محله ان المجاز لا يطرد وإلا لجاز (( نخلة )) لطويل غير الإنسان ،
---------------------
( 1 ) أي من أدلتهم العقلية .
و (( صبي )) لشيخ ، وهي سفسطة قبيحة ، كذا النائم للمستيقظ والفقير للغني والجائع للشبعان والحي للميت وبالعكس . وقد روى الزاهدي في حديث طويل أن أبا بكر قال للنبي ( بمحضر من المهاجرين والأنصار (( وعيشك يا رسول الله ، إني لم اسجد للصم قط ، فنزل جبريل وقال : صدق أبو بكر )) وكذلك ذكر أهل السير والتواريخ في أحوال أبي بكر أنه لم يسجد لصم قط ، فصحت إمامته بملاحظة هذا الشرط أيضاً وصارت إجماعاً والحمد لله .(166/240)
الدليل الثالث ( 1 ) : أن الإمام لابد أن يكون منصوصاً عليه ، ولا يوجد نص في غير الأمير ، فغيره لا يكون إماماً بل هو الإمام .
والجواب بعد أن نذكر ما اسلفنا في تصحيح الدليل الأول من عكس الترتيب وضم قياس آخر معه ان المقدمتين ممنوعتان : أما منع الصغرى فلما مر من قول الأمير : إنما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن أختاروا رجلاً وسموه إماماً كان لله رضا . وأما منع الكبرى فلأنه لو وجد النص في علي ، فأما في القرآن أو الحديث فقد مر الأمران جميعاً . ولأنه لو وجد النص لكان ماتواتراً إذ لا عبرة للأحاد في الأصول ، ولا أقل من أن يعرفه أهل بيته ، وهم قد انكروه ( 2) ، ولآنه لو وجد النص في الإمام لوجد في كل الأئمة ، وقد أختلف أولاد كل إمام بعد موته في دعوى الإمامة ، ولأنه لو وجد النص لما وقع الاختلاف بينهم ، ولأنه لو وجد النص فإما أن يبلغه النبي ( إلى عدد التواتر أو لا ، وعلى الأول إما أن يكتموه عند الحاجة إلى إظهاره أو يظهروه ، ولا سبيل إلى الثاني بالإجماع ، والأول يرفع الأمان عن التواتر ويستلزم كذب المتواترات ، وإن لم يبلغه النبي ( إلى عدد التواتر لم تلزم الحجة فيه على المكلفين فتنتفى فائدة النص ، بل يلزم ترك التبليغ في حق النبي وهو محال .
الدليل الرابع : أن الأمير كان متظلماً ومتشكياً من الخلفاء الثلاثة دائماً في حياته ، وبين أنه مظلوم ومقهور ، وما ذاك إلا لغضب الإمامة منه ( 3 ) فتكون الإمامة حقه دون غيره ، إذ الأمير صادق بالإجماع .
وانت تعلم ان هذا الدليل غير مذكور بتمامه ، فإن كبراه مطوية وهي (( وكل من كان كذلك فهو إمام )) فيلوم من بعد تسليمه أن يكون كل ما أوذوا وظلموا حقيقة أئمة ، وهذا خلف ، واعتبار القيود الآخر يبطل التعدد ويجعله حشواً .
---------------------------
( 1 ) أي من الدلائل العقلية التي يستدل بها الشيعة .(166/241)
( 2 ) كما تقدم النقل في ص 161 عن الحسن المثني ابن الحسن السبط رضوان الله عليهما .
( 3 ) أي فيما يزعمه الشيعة وتدعى أنه من أدلتها على ما تذهب إليه .
وأجيب عن هذا الدليل بمنع صحة تلك الروايات ، لأن أهل السنة لم يثبت عندهم إلا روايات الموافقة ، والمناصحة ، والثناء بالجميل ، ودعاء الخير فيما بينهم ، والمعاونة والإمداد ونحوها . وأكثر روايات الإمامية في هذا الباب موافقة لروايات كما تقدم نقله عن الأمير في نهج البلاغة في قصة عمر ، ومن ثنائه عليهم بالخير في حياتهم وبعد موتهم ، وارتضائه بأعمالهم وشهادته لهم بالنجاة والفوز . وروايات أهل السنة في هذا الباب أكثر من أن يحصى . ولنذكر منها هنا رواية واحدة رواها الحافظ ابو سعيد ابن السمان في ( كتاب الموافقة ) وغيره من المحدثين عن محمد بن عقيل بن أبي طالب أنه لما قبض أبو بكر الصديق وسجى عليه أرتجت المدينة بالبكاء ، كيوم قبض رسول الله ( ، فجاء علي باكياً مسترجعاً وهو يقول (( اليوم أنقطعت خلافة النبوة )) فوقف على باب البيت الذى فيه أبو بكر مسجي فقال (( رحمك الله أبا بكر ، كنت إلف رسول الله وأنيسه ومستروحه وثقته وموضع سره ومشاورته ، كنت أول قومه إسلاماً وأخلصهم إيماناً ، وأشدهم يقيناً ، وأخوفهم لله ، وأعظمهم غناء في دين الله عز وجل ، أحوطهم لرسول الله وأشفقهم عليه ، وأخد بهم الإسلام ، وأمنهم على أصحابه ، وأحبهم صحبة ، وأكثرهم مناقب ، وأفضلهم سوابق ، وأرفعهم درجة ، وأشبههم برسول الله ( هدياً وسمتاً ورحمة وفضلاً وخلقاً ، وأشرفهم عنده منزلة ، أكرمهم عليه ، وأوثقهم عنده . جزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله وعن المسلمين خيراً . كنت عنده بمنزلة السمع والبصر ، صدقت رسول الله حين كذبه الناس فسماك الله في تنزيله صديقاً فقال عز وجل ( والذى جاء بالصدق وصدق به اولئك هم المتقون ( فالذى جاء بالصدق محمد ( ، وصدق أبو بكر . وأسيته حين بخلوا ، وقمت معه عند(166/242)
المكاره حين عنه قعدوا وصحبته في الشدة أحسن الصحبة ثاني الاثنين وصاحبه في الغار والمنزل عليه السكينة ورفيقه في الهجرة وخليفته في دين الله عز وجل . أحسنت الخلافة حين ارتد الناس وقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي . نهضت حين وهن أصحابك وبرزت حين استكانوا وقويت حين ضعفوا ولزمت منهاج رسول الله ( في أصحابه إذ كنت خليفته حقاً ولم تنازع ولم تقذع برغم المنافقين وكيد الكافرين وكره الحاسدين وضغن الفاسقين وزيغ الباغين قمت بالأمر حين فشلوا ونظفت حين تعتعوا ومضيت نفوذاً إذ وقفوا فاتبعوك فهدوا وكنت أخفضهم صوتاً وأعلاهم قوة وأقلهم كلاماً وأصوبهم منطقاً وأطولهم صمتا وأبلغهم قولاً وأكبرهم رأياً وأشجعهم وأعرفهم بالأمور وأشرفهم عملاً . كنت والله للدين يعسوبا حين نفر الناس عنه وآخراً حين فشلوا .(166/243)
كنت للمؤمنين أباً رحيماً إذ صاروا عليك عيالاً تحملت أثقال ما ضعفوا عنه ورعيت ما أهملوه وحفظت ما أضاعوا وعلوت إذ هلعوا وصبرت إذ جزعوا وأدركت أوطار ما طلبوا ورجوا . أرشدتهم برأيك فظفروا ونالوا بك ما لم يحتسبوا وجليت عنهم فأبصروا . كنت على الكافرين عذاباً واصباً وللمؤمنين رحمة وأنساً وخصباً فطرت والله بعبابها وفزت بجنابها وذهت بفضائلها وأدركت سوابقها لم تفلل حجتك ولم نضعف بصيرتك ولم تجبن نفسك ولم يزغ قلبك كنت كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف . كنت كما قال رسول الله ( : أمن الناس عليه في صحبتك وذات بلدك . وكما قال : ضعيفاً في بدنك قوياً في أمر الله متواضعاً في نفسك عظيماً عند الله جليلاً في أعين المؤمنين كبيراً في أنفسهم لم يكن لأحد فيك مغمز ولا لقائل فيك مهمز ولا لأحد فيك مطمع . الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ بحقه والقوي العزيز عندك ضعيف حتى تأخذ منه الحق . والقريب والبعيد عندك سواء . أقرب الناس إليك أطوعهم لله وأتقاهم له شأنك الحق والصدق والرفق وقولك حكم وجزم وأمرك حلم وحزم ورأيك علم وعزم حتى بلغت والله بهم السبيل وسهلت العسير وأطفأت النيران واعتدل بك الدين وقوي الإيمان وثبت الإسلام والمسلمون وظهر أمر الله ووكره الكافرون ، فسبقت والله سبقاً بعيداً وأتعبت من بعدك إتعاباً شديداً وفزت بالخير فوزاً مبيناً فجللت عن البكاء وعظمت رزيتك وهدت مصيبتك الأنام فإنا لله وإنا إليه راجعون )) . وهذه خطبة واحدة من الأمير في مدح أبي بكر ولو أحصينا جميع خطب الأمير وكلماته في فضائل أبي بكر وعمر ومدحهما المروية في كتب أهل السنة بالطرق الصحيحة لبلغت مفرداً كنهج البلاغة بل أطول منه .(166/244)
فإن قلت إن روايات الشيعة في باب تظلم الأمير وشكايته إن كانت كلها موضوعة من رؤسائهم فإن مما يستبعده العقل أن جمعاً كثيراً اجتمعوا على الافتراء على الأمير فلا بد من منشأ للغلط فذلك المنشأ ما هو ؟ قلت : إن رواتهم كما كذبوا على الأئمة كانوا يكذبونهم كما ورد ذلك عنهم فيما تقدم ، وكذبوا عليهم أيضاً في المطاعن على الصحابة . وغاية ما في الباب أن مكذبات تلك الروايات وصلت إلى الشيعة أيضاً بطرقهم الأخر ومكذبات روايات المطاعن على الصحابة ما وصلت من طرق الشيعة إليهم أو وصلت ولم يفهموا منها للتكذيب الصريح لتلك الروايات كما نقل من الصحيفة الكاملة ونهج البلاغة ولما اجتمعت فرق الشيعة على بغض الصحابة واعتقاد السوء في حقهم لم يرووا ما يكذب تلك الروايات ولم يظهروه بل قصدوا تأييد كذب أوائلهم حيث صار هذا التأييد أهم المطلوب عندهم فمن ثمة صار هذا الكذب إجماعياً لهؤلاء الفرق وأما الأكاذيب الأخر التي في العقائد الإلهية فرواها بعضهم وكذبها بعضهم .
الدليل الخامس : أن الأمير ادعى الإمامة وأظهر المعجزة على وفق دعواه كقلع باب خيبر وحمل الصخرة العظيمة ومحاربة الجن ورد الشمس بعد غروبها فكان في دعواه صادقاً فكان إماماً (1) .(166/245)
وهذا الطريق في تقرير الكلام مأخوذ من استدلال أهل السنة في إثبات نبوته ( ولكن بينهما مشابهة في صورة الكلام دون صحة المقدمات فإنها ممنوعة منعاً ظاهراً أما أولاً فلأن ذكر المعجزة في إثبات الإمامة إنما هو خطأ محض فكيف يسلم ؟ إذ المعجزة لإثبات النبوة دون الإمامة وغيرها من المناصب الشرعية كالقضاء والإفتاء والاجتهاد وسلطنة الناحية وإمارة العسكر والوزارة وأمثالها . ووجهه أن بعثة النبي ( لما كانت من قبل الله تعالى بلا واسطة لم يمكن إثبات نبوته بدون تصديق الله تعالى بخلق المعجزة على يده حين التحدي بخلاف هذه المناصب فإنها تثبت بقول النبي أو بتفويضها إلى الأمة وأيضاً دلالة المعجزة منحصرة في حق الأنبياء عليهم السلام فلو استدل أحد من غيرهم بها لم يكن استدلاله معتبراً في الشرع . ولما كانت الإمامة متعينة بتعيين النبي أو باختيار أهل الحل والعقد لم يجز أن تكون المعجزة دليلاً عليها على أن روايات الإمامية مكذوبة لقول من يقول بادعاء الأمير للإمامة في خلافة الخلفاء الثلاثة وكذلك ما يقولون من وجوب التقية ومن أن الرسول أوصى الأمير بالسكوت كما تقدم وظهور خوارق العادات والكرامات من الأمير مسلم الثبوت ولكن ليس ذلك مخصوصاً فيه لصدور مثل ذلك من الخلفاء الثلاثة والصحابة الآخرين وصلحاء الأمة أيضاً على أن قلعة لباب خيبر وقع في زمن النبي ( وإظهار المعجزة قبل الدعوى غير محتاج إليه ولا تثبت به الدعوى . ومحاربة الجن لا أثر لها في كتب أهل السنة بل هي مروية بمحض رواية الشيعة هكذا : إن النبي ( لما خرج إلى غزوة بني المصطلق أخبره جبريل في أثناء الطريق بأن الجن اجتمعت في البئر الفلانية وتريد أن تكيد لعسكركم فأرسل النبي الأمير عليهم فقتلهم ! فلو صحت هذه الرواية يكون ذلك من معجزات النبي ( وكذا رفع الصخرة العظيمة ليس موجوداً في كتب الشيعة أن الأمير لما توجه إلى صفين عطش يوماً أصحابه في أثناء المرور بفقد الماء فأمر(166/246)
الأمير بأن يحفروا موضعاً قرب صومعة راهب فظهرت في أثناء الحفر صخرة عظيمة عجزوا عن نقلها فأخبروا بها الأمير فنزل فرفعها من هنالك ورماها إلى مسافة بعيدة وظهرت تلك الصخرة عين الماء فشرب أهل العسكر فلما شاهد راهب تلك الصومعة هذا الأمر أسلم وقال : نحن وجدنا في الكتب القديمة أن رجلاً كذا وكذا ينزل
-----------------------
( 1 ) هذه الخوارق المنسوبة إلى أمير المؤمنين قد نبه حفاظ الحديث على ضعفها ووضعها منهم السخاوي في المقاصد وملا على القارى في موضوعاته لذلك لا يصح الاستدلال بها وأمير المؤمنين أهل لكل كرامة ولكن صحة الروايات ضرورية لقبول الأخبار .
قرب هذا الدير ويرفع هذه الصخرة ويكون على الدين الحق . وبالجملة إن ثبتت هذه الكرامة تكون كسائر كراماته ( ، وليست دعوى الإمامة مذكورة هنا ، ولم تقع هذه القصة في مقابلة أهل الشام أيضاً . وأما رد الشمس فأكثر محدثي أهل السنة كالطحاوي وغيره صححوه وعدوه من معجزات النبي بلا شبهه إذ أرجع الشمس بعد غروبها ليحصل وقت صلاة العصر للأمير بدعاء النبي ( ، ولتكون صلاته أداء . وأين كانت في ذلك دعوى الإمامة ؟ ومن كان حينئذ منكراً ومقابلاً له ( 1 ) ! .
... الدليل السادس أن الشيعة قالوا : ما روى أحد من الموافق والمخالف ما يوجب الطعن والقدح في الأمير ، بخلاف الخلفاء الثلاثة فإن الموافق والمخالف رويا القوادح الكثيرة في حقهم بحيث يسلب أستحقاق الإمامة عنهم ، فالأمير الذى هو سالم عن قوادح الإمامة يكون متعيناً لها .(166/247)
... ولا يخفى أن هذا الدليل – على ما بيناه في تصحيح دلائلهم سابقاً – ليس على ما ينبغي من طريق القياس الذى يستدل به على المطلوب ، فإن ما ذكره المدعى ههنا إنما هو بيان لإثبات الصغرى في كلا القياسين اللذين يستدل بمجموعهما على المطلوب ، وهما هذا : أن كلاً من الخلفاء الثلاثة دون الأمير مقدوح فيه ومطعون عليه بما يسلب عنهم استحقاق الإمامة ، وكل من كان كذلك فليس إماماً ، والأمير سالم من ذلك ، وكل من كان كذلك فهو إمام ، لأن كلاً من الموافق والمخالف روى في حقهم ولم يروا في حقه القوادح الموجبة لسلب استحقاق الإمامة . ويجاب بأنا لا نسلم السلامة من القوادح ، ولا الطعن بها ، في حقه وحقهم مطلقاً ، ولا رواية الموافق تلك القوادح ايضاً ، ولا سلب ماروى المخالف الاستحقاق عنهم ، ولا كونها حقه ، وكل ذلك ممنوع منعاً ظاهراً ، لأن الخلفاء الثلاثة كما روى المخالفون ( وهم الشيعة وإخوانهم ، لا الموافقون الذين هم أهل السنة وامثالهم ) القوادح الباطلة في حقهم ، كذلك رواها في حق الأمير مخالفوه من الخوارج وغيرهم دون من يوافقونه من أهل السنة والشيعة ، فلا سلامة ولا قدح من كل وجه ، ولا ضير بالقوادح الباطلة من المخالف في الجانبين ، فقد تبين أن حالة كحالهم مطلقاً . وأما كبرى القياسين فالأولى منقوضة بالأنبياء عليهم السلام لأنهم قد قدح فيهم وطعن عليهم المبطلون ، وكل ما يمنع تحقق العالم يمنع تحصل الخاص بالضرورة . والأخرى بمن سلم منها باتفاق الفريقين كابن عباس وأبي ذر وعمار وأمثالهم ، وإذا دريت هذا فأنظر أن الذين قالوا
---------------------------(166/248)
( 1 ) الظاهر في مسألة رد الشمس أن الشيعة سمعوا من علماء أهل السنة أحتجاجهم بأن ذلك في زمن النبي ( يعد من المعجزات المحمدية ، فتمادوا بعد ذلك في أختراع أن الشمس ردت لعلي مرتين . ولما كان الإمام ابن حزم يناظر الرهبان الاسبانيين في صحة الاناجيل أحتجوا عليه بأن الشيعة يطعنون في صحة القرآن ، فروى في كتابه ( الفصل في الملل والنحل ) ج 2 ص 78 طبعة 1321 أنه قال لهم : (( إن الروافض ليسوا من المسلمين ، وأقلهم غلوا يقولون إن الشمس ردت على علي بن أبي طالب مرتين ، فقوم هذا أقل مراتبهم في الكذب ، أيستشفع منهم كذب يأتون به ؟ ! ))
بامامة الخلفاء الثلاثة وهم اهل السنة والمعتزلة لم يرووا من قوادحهم قط ، بل قرر الشيعة بسبب بغضهم وعنادهم للخلفاء الثلاثة بعض الشياء بطريق المطاعن والقوادح ، ليست تلك الأشياء في الحقيقة محلاً لطعن وقدح أصلاً كما سيأتي في المطاعن ، ولو كانت محلاً لها لكانت على الأنبياء والأئمة أيضاً مطاعن ، بل من يطالع كتب الشيعة بالتأمل يجدها مملوءة بالمطاعن في الأنبياء والأئمة ، وما قالوا من أن أحداً من الموافق والمخالف لم يروا ما يقدح في حق الأمير فحبط آخر ، لأنهم إن أرادوا بالمخالف أهل السنة فلا يجدى لهم نفعاً ، فإن أهل السنة لما كانوا معتقدين بصحة إمامته لم يروا قوادحه ، وإن أرادوا به الخوارج وأمثالهم فكذب صريح فإنهم قد سودا الدفاتر الطويلة والزبر الكثيرة في هذا الباب ( 1 ) ، ومن جملة من ذكر المطاعن الأمير عبد الحميد المغربي الناصبي في كتابه ، وقد دفع كثيراً منها ابن حزم من علماء أهل السنة في كتابه ( الفصل ) والشريف من علماء الشيعة في ( تنزيه الأنبياء والأئمة ) وأعرضنا عن ذكر تلك المطاعن عنها لأن ذكرها مما لا يليق بنا في هذا الكتاب .(166/249)
... تتمة لبحث الإمامة : أعلم أن القدر المشترك في جميع فرق الشيعة المجمع عليه بينهم إنما هو كون الأمير ( إماماً بلا فصل ، وإمامة الخلفاء الثلاثة باطلة ولا أصل لها . وقد تبين باوضح البيان إبطال أهل السنة عليهم هذا القدر المشترك ، وأتضح حق الأتضاح مخالفة هؤلاء الفرق كلهم في ذلك القدر بجميع وجوهه لنصوص الكتاب المجيد وأقوال العترة الطاهرة . وأما بعد هذا القدر المشترك فلهم أختلاف كثير فيما بينهم بحيث أن بعضهم يضللون ويكفرون ويبطلون بعضاً آخرين ويشنعون عليهم ، وكفى الله المؤمنين القتال ، فقد سقط عن أهل السنة عبء تلك المجادلة الباطلة فلا حاجة بذكر الاختلافات في هذا الكتاب الذى الف لما بين أهل السنة والشيعة خاصة .
ولنذكر قليلاً من أقوالهم في شروط الإمامة ومعناها وتعيين الأئمة وعددهم تنبيهاً على ان كثرة الاختلاف في شئ دليل على كذبه ، ليتقلب عليهم طعنهم الوارد منهم على أهل السنة باختلاف الفروع ، لأن أختلافهم في الأصول ، وظاهر أن أديان الأنبياء السابقين كانت مختلفة في الفروع فقط ومتفقة في الأصول كما قال الله تعالى ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ( الآية . فالدين الذى تكون أصوله مختلفاً فيها هو أعجب الأديان بال هو باطل كملة الكفر إذ هو حينئذ لا يشبه بدين من أديان الأنبياء الماضيين فضلاً عن دين الإسلام .
-----------------------------------
( 1 ) ولا سيما في مراثيهم لقتلى النهروان . والخوارج كانوا اصحاب علي وجنده في صفين والجمل .(166/250)
ثم لا يخفى ان معنى الإمامة عند الغلاة ( 1 ) محض الحكومة وإجراء الأحكام والأوامر والنواهي وشان من شئون الألوهية ، وعند غيرهم معناها نيابة عن النبي ، في امور الدين والدنيا . والزيدية قاطبة لا يشترطون العصمة في الإمامة ، ولا يحسبون النص في حقه ضرورياً ايضاً ، بل الأفضلية عندهم لازمة ايضاً ، وإنما معنى الإمامة عندهم الخروج بالسيف ، ويعتقدون الإظهار من عمدة شرائط الإمامة . والإسماعيلية – إلا النزارية – يشترطون العصمة ، وأما النزارية فهم لا يثبتونها بل يقولون : إن الإمام غير مكلف بالفروع ، ويجوز له كل ما اراد من السوء والفحشاء كاللواطة والزنا وشرب الخمر ونحوها . ونقل شيخ الطائفة ( 2 ) أبو جعفر الطوسي في ( التهذيب ( 3 ) ) عن شيخه الملقب بالمفيد أنه قال : إن أبا الحسين الهاروني كان اولاً شيعياً قائلاً بالإمامة ثم لما ألتبس عليه امر التشيع بسبب كثرة اختلاف الإمامية ، ووجد أخبارهم متناقضة متعارضة بغاية الكثرة والشدة رجع عنه وصار شافعياً ومن كانوا استفادوا وتلمذوا منه في مدة عمره هذه اتبعوه في الرجوع وتبرأوا من المذهب . والحق أن من تأمل في هذا المذهب تاملاً صادقاً وعثر على أخبار أصحابه واختلاف أقوالهم كا ينبغي فقد علم باليقين ان سبيل النجاة في هذا المذهب مسدود ، وطريق الخلاص من مضيق التعارض فيه مفقود ، فبالضرورة يتركه ويرجع إلى المذاهب الأخرى إن كان من أهل الحق . وتفصيل ذلك أن الشيعة لهم روايات كثيرة متعارضة عن أئمتهم ، بحيث يررون عن كل إمام كلاماً مخالفاً للإمام الآخر ومخالفاً لكتاب الله وسنة رسوله ، واحتمال النسخ هنا منتف البتة ، إذ ناسخ كلام النبي لا يكون إلا نبياً آخر ، ولا يجوز للإمام أن ينسخ أحكاماً إلهية أو سنن النبي ، وإلا فالإمام لا يكون إماماً ، إذ الظاهر أن الإمام نائب لا مخالف له ولا نبي مستقل . وأيضاً لو قلنا بالنسخ لقلنا بالضرورة : إن الإمام المتأخر ناسخ لكلام الإمام(166/251)
المتقدم ، فصار لو قلنا بالنسخ لقلنا بالضرورة : إن الإمام المتأخر ناسخ لكلام المتقدم ، فصار مدار العمل على روايات الإمام المتأخر مع أن هؤلاء الفرقة قد أجمعوا في كثير من المواضع على العمل بروايات المتقدم . وأيضاً يمتنع النسخ في الأحكام
-----------------------------
( 1 ) نبه المامقاني في غير موضع من كتابه ( تنقيح المقال في أحوال الرجال ) وهو أعظم كتب الشيعة في الحرج والتعديل على ان الذين كان قدماء الشيعة بأنهم من غلاة الشيعة ويجرحون رواياتهم بسبب ذلك وصاروا يعدون الآن عند الشيعة المتأخرين بانهم غير غلاة ، لأن ما كان يسميه قدماء الشيعة غلواً في التشيع هو الآن من اصول العقيدة الإمامية ، والشيعة في العصور المتأخرة كلهم على عقيدة الغلو ، وليس لهم عقيدة غيرها : لذلك ذهب المامقاني إلى ضرورة العدول عن جرح روايات الذين كانوا يعدون غلاة ، وافتى بوجوب تعديلهم ، لأن التشيع نفسه تطور وصار أهله الآن كلهم على مذهب الغلاة القدماء .
( 2 ) أي الطائفة الأثني عشرية .
( 3 ) كتاب ( التهذيب ) احد الكتب الأربعة التى عليها مدار مذهب الشيعة . وهذه العبارة بشأن أبي الحسين الهاروني في خطبة كتاب التهذيب مع الإسهاب في الاعتراف بأن الشيعة أشد الفرق أختلافاً في مسالئلهم وأحكامهم وأن ذلك دليل على فساد الأصل .(166/252)
المؤبدة ايضاً فزال أحتمال الناسخ بالكلية . ووجوه ترجيح أحد الخبرين على الأخر لتوثيق رواتهم مطلقاً مسدودة ، لأن عدة كتب في مذهبهم قرروها كالوحي المنزل من السماء وما أتى به أحد يحسبه الآخر من تراب الأرض ، فلو وثقناهما كلها بزعم علمائهم لا يمكن ترجيح بعضها على بعض ، وإذا قلنا ما قال بعض الإخباريين في حق بعضهم وشرعنا في الطعن والجرح عليهم بناء على قولهم يصيرون كلهم مطعونين ومجروحين فلم يظهر سبيل للترجيح اصلاً ، فبالضرورة لزم تساقط رواياتهم ، انجز الأمر إلى تعطيل الاحكام . وهذه كلها في روايات فرقة واحدة منهم كالأثني عشرية مثلاً ، إذ كل عالم منهم يروى مخالفاً لرواية الآخر ، مثلاً جمع منهم رووا باسانيد صحيحة أن المدى لا ينقص الوضوء ، وجمع أخرون رووا كذلك أنه ينقض الوضوء . وجماعة روت ان سجدة السهو لا تجب في الصلاة وجماعة روت أنها تجب فيها ، والأئمة أيضاًُ سجدوا للسهو . وبعضهم يروون أن إنشاد الشعر ينقض الوضوء ، وبعضهم يروون أنه لا ينقضه وجمع يروون أن المصلي إن لعب عبث بلحيته أو بأعضائه الآخر لا تفسد صلاته ، وجمع يرون أن المصلي أن يلعب بخصيتيه وذكره تجز صلاته . وهذه الأحوال توجد في جميع اخبارهم كما يشهد بذلك كتاب الفقيه . ومن تصدى من علمائهم للجمع بين الروايات فقد أتى باعمال عجيبة ، وقد قدموا في هذا الآمر شيخ طائفتهم صاحب التهذيب ( 1 ) وغاية سعيه هو الحمل على التقية ، وقد حمل في بعض المواضع على التقية شيئاً ليس ذلك مذهب أحد من المخالفين أو كان مذهباً ضعيفاً بأن المخالفين لم يذهبوا إليه إلا احد أو أثنان أختاروه ، وظاهر أن الأئمة العظام لم يكونوا جبانين خائفين بهذا القدر حتى يبطلوا عباداتهم بتوهم أنه لعل أحداً أختار هذا المذهب ويكون حاضراً في هذا الوقت ، معاذ الله من سوء الاعتقاد في جناب الأئمة ! وفي بعض المواضع حمل جملة من الخبر على التقية ، وترك مدلول الجملة الثانية منه الذى هو(166/253)
مخالف لمذهب أهل السنة على حاله ، ولو كانت التقية فلا معني في أختيار التقية في جملة غير مخالفة ، والإظهار في جملة أخرى هي مخالفة لمذهب اهل السنة ، فهل هم يعتقدون أن الأئمة كانوا – معاذ الله – براء من العقل والفهم ؟ مثاله خبر علي ( أن النبي ( امره بغسل الوجه مرتين وبتخليل أصابع الرجلين حين غسلهما ، مع أن غسل الوجه مرتين مذهب الشيعة لا مذهب اهل السنة فإنهم قد اجمعوا على كون التثليث مسنوناً فلزم الجمع بين الإظهار والتقية ! وقد ارتكب في بعض المحال تأويلات ركيكة بحيث اسقط كلام الإمام عن علو مرتبة البلاغة فمن تاويلهم لكلام السجاد الوارد عنه في
--------------------------
( 1 ) هو محمد بن حسن الطوسي المتوفي سنة 381 ، وتقدم ان ( التهذيب ) أحد الكتب الأربعة التى عليها مدار مذهبهم ، وهو نفسه مؤلف كتاب ( من لا يحضره الفقيه ) أراد أن يكون في الفقيه للشيعة ككتاب ( من لا يحضره الطبيب ) في الطب لمحمد بن زكريا الرازي .(166/254)
دعائه أنه قال (( إلهي عصيت وظلمت وتوانيت )) وهذا الدعاء عن الأئمة الآخرين أيضاً في كتبهم الصحيحة ، وعلى كل من تقديري الصدق والكذب هو مناف للعصمة ، وليس المحل محل التقية إذ حالة المناجاة لا تسعها وهم يقولون : إن مراد الأئمة أن شيعتنا عصوا وظلموا وتوانوا ولكن رضينا بهم شيعة ورضوا بنا ائمة فحالنا حالهم وحالهم حالنا ! سبحان الله ، لو ثبت هذا الاتحاد في الأحوال بين الشيعة والأئمة كيف سرى عصيان الشيعة وظلمهم وتوانيهم في نفوس الأئمة ولم تسر طاعة الأئمة وعدلهم وعباداتهم في ذوات الشيعة ؟ فحينئذ يلزم أن تغلب أحوال الشيعة على أحوال الأئمة وهي صارت مغلوبة ، بل يلزم في ذوات الأئمة على هذا التقدير أجتماع أمور متناقضة كالفسق والصلاح والعصمة والمعصية والظلم والعدل ، ولا يمكن ان تحمل أحوال الشيعة في حق الأئمة بالمجاز فإنه يمتنع في مثل هذه الأدعية التى يكون الحقيقة فيا من الكلام مقصودة كما هو الأظهر معاذ الله من سوء الاعتقاد ! ولم يوجد قط في محاورة العرب والعجم نظير لنحو هذه التأويلات أصلاً. وما يلزم – باعتبار علم الإعراب – من ركاكة الألفاظ ههنا غير خاف كحمل ضمير المتكلم الواحد على جمع الغائب وصيغة المتكلم على الغيبة . وباعتبار فن البلاغة من قباحة المعاني كإضافة المتكلم فعل الغير إلى نفسه من غير علاقة صارفة إلى المجاز من السبية والأمرية والمحلية والحالية وغير ذلك مما ذكر في موضعه ، ومع ذلك ينسبون مثل هذا الكلام الفاسد إلى من بلغ الدرجة العليا من البلاغة . وما الذي يحمل الأئمة على أن ينسبوا ظلم شيعتهم وعصيانهم إلى أنفسهم فيلوثوا أذيالهم الطاهرة بتلك النسبة حتى جعلوا لمنكري عصمتهم سنداً قوياً ن وأضلوا جمعاً كثيراً من الأمة بتلك الكلمات التي لم تكن ضرورية لهم حاشاهم ثم حاشاهم . وأيضاً الأظهر والأجلى أن المسائل الفروعية قد وقعت فيها اختلافات القرون الأولى ولأهل السنة أيضاً اختلافات فيما بينهم(166/255)
ولا يحسبونها في الفروع نقصاناً للمختلفين فيها ولا يطاعنون ولا يعاتب فيها بعضهم بعضاً وكان كل واحد منهم في الزمن الأول يناظر ويحاجج في الفروع ويظهر مذهبه فيها ويقيم الدلائل عليه ويستنبط ويجتهد بلا مخافة ويضعف دلائل مخالفة جهراً فأي شيء كان حاملاً للأئمة على التقية في مسائل الفروع ؟ ولقد ناظر الأمير في زمن الخليفة الثاني والثالث مناظرات كثيرة في بيع أمهات الأولاد وتمتع الحج ومسائل أخر حتى انجر الأمر من الجانبين إلى العنف ولم يتنفس أحد منهم ولا سيما الخليفة الثاني فإنه كان بزعم الشيعة في هذا الباب أكثر انقياداً بحيث إذا ذكر أحد دليلاً من الكتاب أو السنة بين يديه اعترف حتى ألزمته امرأة من نساء العوام في المغالاة بالمهر وهو صار معترفاً وقائلاً (( كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في الحجال )) وعد الشيعة هذه القصة في مطاعنه فالأمير لم يكن ليستعمل التقية في المسائل الفروعية ويترك إظهار الحكم المنزل من الله الذي كان واجباً عليه إظهاره في ذلك الحين . وأيضاً إن الأئمة المتأخرين كالسجاد والباقر والصادق والكاظم والرضا رضي الله تعالى عنهم كانوا قدوة أهل السنة وأسوة لهم وعلماؤهم كالزهري وأبي حنيفة ومالك أخذوا العلم منهم وقد روى محدثو أهل السنة عنهم في كل فن لا سيما في التفسير أحاديث كثيرة فأي حاجة لهؤلاء الكرام أن يرتكبوا التقية مخافة هؤلاء الناس !؟ وهذا الكلام وقع في البين ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول :(166/256)
اعلم أن الإمامية قائلون بانحصار الأئمة ولكنهم مختلفون في مقدارهم فقال بعضهم خمسة وبعضهم سبعة وبعضهم ثمانية وبعضهم اثنا عشر وبعضهم ثلاثة عشر وقالت الغلاة الأئمة آلهة أولهم محمد رسول الله ( إلى الحسين ثم من صلح من أولاد الحسين إلى جعفر بن محمد وهو الإله الأصغر وخاتم الآلهة ثم من بعده نوابه وهم من صلح من أولاد جعفر وذهبت فرقة منهم إلى أن الإمام في هذه الأمة اثنان : محمد ( وعلى ابن أبي طالب وغيرهما ممن كان لائقاً لهذا الأمر من أولاد علي فهم نوابهما وقالت الحلولية : إن الإمام من يحل فيه الإله وجرى بينهم اختلاف فقال الكيسانية : إن الإمام بعد النبي ( علي ثم محمد بن الحنفية . وقالت المختارية منهم : إن الإمام بعد علي الحسن ثم الحسين ثم محمد بن الحنفية وكل فرقة من فرق الشيعة ينقلون عن إمامهم المزعوم أخباراً وروايات في أحكام الشريعة ويدعون تواترها : فالفرقة الأولى من الكيسانية تقول : إن محمد بن الحنيفة ادعى الإمامة بعد موت أبيه وقد نص أبوه على إمامته .(166/257)
والفرقة الثانية أعني المختارية يقولون : إن ادعاء محمد بن علي للإمامة قد وقع بعد شهادة الإمام الحسين ، ويروون الخوارق الكثيرة على وفق دعواه . والإمامية قاطبة يقولون بادعاء محمد بن علي الإمامة بعد شهادة الحسين ولكن رجع في الآخر عن تلك الدعوى وأقر بإمامة ابن أخيه على بن الحسين رضي الله تعالى عنهم أجمعين . وروى الراوندى في ( معجزات السجاد ) عن الحسين بن أبي العلاء (1) وأبي المعزي حميد بن المثنى (2) جميعاً عن أبي بصير (3) عن أبي عبد الله ( قال : جاء محمد بن الحنفية إلى علي بن الحسين فقال : يا علي ألست تقرأ أني إمام عليك ؟ فقال : يا عم لو علمت ذلك ما خالفتك وإن طاعتي عليك وعلى الخلق مفروضة يا عم أما علمت أن أبي وصى ؟ وتشاجرا ساعة فقال علي بن الحسين : بمن ترضى حتى يكون حكماً بيننا ؟ فقال محمد : بمن شئت . فقال : ترضى أن يكون بيننا الحجر الأسود !؟
-------------------------
( 1 ) هو أبو علي الحسين بن أبي العلاء ( واسم أبي العلاء خالد ) الخفاف الزندجي الأعور وهو أحد إخوة ثلاثة يشربون من مشرب واحد : الحسين وعلي وعبد الحميد ، والحسين هذا هو أوجههم له ترجمة في تنقيح المقال .
( 2 ) أبو المعزي حميد بن المثنى العجلي الصيرفي له ترجمة في تنقيح المقال . ( 3 ) انظر هامش ص 65 .(166/258)
فقال : سبحان الله ! أدعوك إلى الناس وتدعوني إلى حجر لا يتكلم ؟! فقال علي : بلى يتكلم ، أما علمت أنه يأتي يوم القيامة وله عينان ولسان وشفتان يشهد على من أتاه بالموافاة فندنو أنا وأنت فندعو الله عز وجل أن ينطقه سبحانه لنا أينا حجة الله على خلقه فانطلقا ووقفا عند مقام إبراهيم ودنيا من الحجر الأسود وقد كان محمد بن الحنفية قال : لئن لم يجبك إلى ما دعوتني إليه إنك إذن لمن الظالمين فقال علي لمحمد : تقدم يا عم إليه فإنك أسن مني . فقال محمد للحجر : أسألك بحرمة الله وحرمة رسوله وحرمة كل مؤمن إن كنت تعلم أني حجة الله على علي بن الحسين إلا ما نطقت بالحق فلم يجبه ثم قال محمد لعلي : تقدم فاسأله فتقدم علي فتكلم بكلام خفي ثم قال : أسألك بحرمة الله وحرمة رسوله وحرمة أمير المؤمنين علي وبحرمة الحسن والحسين وفاطمة بنت محمد إن كنت تعلم أني حجة الله على عمى إلا ما نطقت بذلك وتثبت له حتى يرجع عن رأيه . فقال الحجر بلسان عربي مبين : يا محمد بن علي اسمع وأطع لعلي بن الحسين لأنه حجة الله عليك وعلى جميع خلقه فقال ابن الحنفية عند ذلك : سمعت وأطعت وسلمت (1) .
والكيسانية يصدقون هذه الدعوى ولكنهم ينكرون شهادة الحجر بل يقولون بوقوع الشهادة على العكس فإن الحجر شهد بدعاء محمد بن الحنفية وأعترف علي بن الحسين بإمامته ويؤيدون ذلك بسكوت علي بن الحسين عن الإمامة بعد هذه الواقعة وشروع محمد ابن الحنفية بإرسال رسائله وكتبه إلى المختار وشيعة الكوفة الذين كانوا مشتغلين بقتال المروانية وكانوا يرسلون الهدايا والتحف والخمس إلى محمد بن علي لا إلى علي بن الحسين وما دعاهم علي بن الحسين إلى نفسه ( 2 ) وذكر القاضي نور الله التسترى في ( مجالس المؤمنين ) أن محمد بن الحنفية لما
----------------------(166/259)
( 1 ) هذه الخرافة من مخترعات الخفاف الزندجي الأعور وزميله أبي المعزي وقد أرادا باختراعها أن يكذبا على التاريخ وعلى آل بيت الرسول صلى الله عليهم بأن هناك وصية بإمامة قبل زمن شيطان الطاق ، والحقيقة هي أن آل بيت رسول الله ( لم يدعوا ذلك ولم يعرفوه ، ولكن شيطان الطاق أخترعه لهم . فقد نقل المامقاني في تنقيح المقال ( ج 1 ص 470 ) أن إمامهم الكشي نقل في ترجمة شيطان الطاق محمد بن علي أن هذا الشيطان قال : (( كنت عند أبي عبد الله ( يعني جعفراً الصادق ) فدخل زيد بن علي ( الإمام الذى يرجع إليه مذهب الزيدية في اليمن وهو عم جعفر الصادق ) فقال الإمام زيد لشيطان الطاق : يا محمد بن علي إماماً مفترض الطاعة معروفاً بعينه ؟ قال شيطان الطاق قلت : نعم ، أبوك أحدهم . قال له زيد : ويحك ، وما منعه أن يقول لي ؟ فوالله لقد كان يؤتي بالطعام الحار فيقعدني على فخده ويتناول البضعة فيبردها ثم يلقمنيها ، أفتراه كان يشفق علي من حر الطعام ولا يشفق على من حر النار ؟ ! قال شيطان الطاق : قلت كره أن يقول لك فتكفر فيجب عليك من الله الوعيد ، ولا يكون له فيك شفاعة ، فتركك مرجئاً لله فيه المسالة ، وله فيك الشفاعة )) وهكذا أخترع شيطان الطاق أكذوبة الإمامة التى صارت من أصول الديانة عند الشيعة ، وأتهم الإمام علياً زين العابدين بن الحسين بأنه كتم أساس الدين حتى عن أبنه الذى هو صفوة آل محمد ، كما أتهم ابنه الإمام زيداً بأنه لم يبلغ درجة أخس الروافض في قابليته للإيمان بإمامة أبيه . ولو أن غير الكشي من صناديد الشيعة روى هذا الخبر لشككنا في صحته ، ولكن الشيعة هم الذين يروونه ، ويعلنون فيه أن شيطان الطاق يزعم بوقاحته أنه يعرف عن والد الإمام زيد ما لا يعرفه الإمام زيد من والده مما يتعلق بأصل من أصول الدين عندهم . وليس هذا بكثير على شيطان الطاق الذى روى عنه الحافظ أنه قال في كتابه عن افمامة إن الله لم يقل ( ثاني اثنين إذ هما(166/260)
في الغار ( أنظر ( الفصل ) لابن حزم 4 : 181 .
( 2 ) وبهذا الخبر الثاني تعارض ما تقوله الكيسانية مع الذى تقوله الأثنا عشرية فسقطا جميعاً . والخبران مخترعان من رواة كذبة لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً .
مات أعتقد شيعته بإمامة أبنه أبي هاشم ، وكان عظيم القدر ، والشيعة متبعين له وأوصى محمد بن الحنفية بإمامته ، فقد علم صريحاً أن محمد بن الحنفية لم يرجع عن أعتقاده حتى فوض الإمامة إلى أولاده ( 1 ) وأيضاً نقل القاضي كتاب محمد بن الحنفية الذى كان أرسله إلى المختار وشيعته الكوفة بهذه العبارة : أيها المختار أذهب أنت من مكة إلى الكوفة وقل لشيعتنا أخرجوا وأطلبوا ثأر الإمام الحسين ، وخذ البيعة من أهل الكوفة . قالوا إن أكثر أهل الكوفة قد تولوا عن سليمان بعد إظهار المختار كتاب محمد ابن الحنفية ، فقال سليمان لشيعته : إن خرجتم من قبل محمد بن الحنفية فلا بأس به ، ولكن إمامي علي بن الحسين . أنتهى كلامه . ويدل بالصراحة ما نقله القاضي من الكتاب وقوله (( تولوا عن سليمان )) على أن محمد بن الحنفية لم يكن رجع عن أعتقاده . وايضاً نقل القاضي عن أبي المؤيد الخوارزمي الزيدي أن المختار أرسل إلى محمد بن الحنفية رءوس أمراء الشام مع كتاب الفتح وثلاثين ألف دينار إلى الإمام علي بن الحسين ، وقد صلى هو ركعتين شكراً على هذه الموهبة ، وأمر أن يعلقوا رءوس أهل الشام ، وقد منعه ابن الزبير من التعليق وأمر بدفنها فدفنوها . أنتهى كلامه . فقد تبين أن المختار كان معتقداً بإمامة محمد بن علي ، ولا يحمل اعتقاده على التقية إذ لا ضرورة له عليها . وينبغي أن يستمع الآن كلام القاضي نور الله الآخر ، ويفهم منه المدعي ، فإنه نقل في أحوال المختار عن العلامة الحلي ( 2 ) انه قال لا كلام للشيعة في حسن عقيدته ، غاية الأمر أنهم كانوا يعترضون على بعض أعماله ويذكرونه بالسوء فاطلع الإمام الباقر على ذلك فمنع الشيعة من التعرض للمختار(166/261)
وقال : (( إنه قتل قتلتنا ، وأرسل نقوداً كثيرة )) فلابد للعاقل أن يتأمل ههنا إذ يعلم من هذا الكلام أن إنكار إمامة إمام الوقت لا يكون سبباً للسب والشتم في حق ذلك المنكر ( 3 ) .
-------------------------
( 1 ) محمد بن الحنفية كان أعقل وأتقى لله من أن يدخل نفسه في هذه الفتن التى صرح هو بانها تخالف الشرع عند ما دعاه ابن مطيع في المدينة إلى أقل من ذلك ( أنظر البداية والنهاية للحافظ ابن كثير ) ج 8 ص 233 .
( 2 ) من كبار شيوخ الشيعة وعلمائهم .(166/262)
( 3 ) والواقع أن إمامة الوقت لم تكن أخترعت بعد ، والإمام الباقر وأبوه على زين العابدين عاشا وماتا وهما لا يعرفان أنفسهما أنهما إماماً الوقت ، وكل ما يعرفانه أنهما من بيت النبوة وأن الإمامة تستمد من بيعة المسلمين لمن بايعونه ، بل إن جدهما امير المؤمنين علياً نفسه لما بويع يوم الخميس 24 ذي الحجة سنة 35 ( كما ورد في تاريخ الطبري ج 6 ص 157 ) أرتقى في يوم الجمعة 25 منه أعواد منبر رسول الله ( وقال : (( أيها الناس عن ملأ وأذن . إن هذا أمركم ، ليس لأحد حق إلا أن أمرتم . ودق أفترقنا في الأمس على أمر ( أي على البيعة له ) فإن شئتم قعدت لكم ، وإلا فلا أجد على احد . فهو يعلن على رءوس الأشهاد في مسجد رسول الله ( وعلى منبره وبعد البيعة له أنه لا يستمد الخلافة من حق يدعيه ولا من شئ سبق ، بل يستمدها من البيعة إذا أرتضها الأمة ، وإلا فإنه – كاخوانه الثلاثة الذين سبقوه – أرفع من أن يجعلها أكبر همه وغرض نفسه . هذا هو الذي وقع ، وهذه الحقائق صدرت من فم علي بن أبي طالب نفسه ، ومن سنة 35 إلى اليوم الذى تحاور فيه الإمام زيد بن علي بن الحسين مع شيطان الطاق لم يخطر على بال أحد من آل البيت 0 لا على ، ولا الحسن ، ولا الحسين ، ولا علي بن الحسين ، ولا محمد بن الباقر ، ولا غيرهم – أن هناك إمامة لآل البيت كما أخترعها شيطان الطاق فأساء بذلك إلى الإسلام وإلى آل البيت ، وإلى أمة محمد جميعاً ، فالله حسبه .
بل يلاحظ محبته لأهل بيت الرسول ، وجهاده أعداء الله ، وإذلال الكفرة والآنتقام منهم ( 1 ) وإعلاء كلمة الله تنجيه وتوجب فلاحه ، وما يصدر منه من ( الشنائع ) يجب علينا أن نستره ونستغفر الله له . وهذا هو مذهب أهل السنة في حق من ينكر إمامة إمام وقته ولكنه متصف بهذه الصفات المذكورة .(166/263)
وقالت ( الزيدية ) : إن الإمام بعد الإمام الحسين زيد بن علي ، ولا يقولون بإمامة علي بن الحسين لأن الخروج بالسيف شرط للإمامة عندهم ، والسكوت منافيان لها ويررون أن زيد بن علي على نقل عن أبيه عن جده عن أمير المؤمنين نصوصاً وبشارات في حق إمامته ، وكان زيد بن علي منكراً لجميع معتقدات الإمامية كما روى الزيدية والإمامية معاً إنكاره .
... و ( الباقرية ( 2 ) ) يعتقدون أن الإمام الباقر مهدي موعود ، وحي لا يموت .
... وكذلك ( الناووسية ( 3 ) ) في حق الإمام الصادق ، ويروون نصاً صريحاً بزعمهم عن الصادق وهو قوله (( لو رأيتم راسي تدهده – أي تدحرج – عليكم من هذا الجبل فلا تصدقوا ، فإن صاحبكم صاحب السنين )) .
... وروى ( المهدوية ( 4 ) ) من الإسماعيلية في حق إسماعيل بن جعفر نصه بالتواتر أن هذا الأمر في الأكبر ، ما لم تكن به عاهة . ويكذبون الإمام الكاظم في دعوى الإمامة ويذكرونه بالسوء فإنه أنكر النص المتواتر بزعمهم كأبي بكر في حق علي .
وقالت ( القرامطة ) صار محمد إماماً بعد أبيه إسماعيل ( 5 ) .
... و ( الأفطحية ( 6 ) ) يعتقدون أن عبدالله بن جعفر إمام بلا فصل بعد أبيه لكونه شقيقاً لإسماعيل ، ولما مات إسماعيل بحضور أبيه وكان النص في حقه بعد موت أبيه أصاب ذلك الشقيق مضمون ذلك النص ميراثاً لا غيره من بني العلات ، وكانت أم إسماعيل وعبد الله فاطمة بنت الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، فهذان الأخوان كانا سيدين حسينين من الطرفين . وقالت ( الموسوية ( 7 ) ) إن الإمام بعد الصادق موسى الكاظم .
... وقالت ( الممطورية ( 8 ) ) هو حي لا يموت وهو القائم المنتظر ، ويروون عن الأمير نصاً متواتراً في هذا المدعى أنه قال (( سابعهم قائمهم ! )) .
------------------------
( 1 ) المؤلف يستعمل أسلوب الشيعة ويتكلم بلغتهم لإلزامهم وإقامة الحجة عليهم .(166/264)
( 2 ، 3 ) تقدم ذكر الباقرية والناووسية في ص 16 .
( 4 ) أنظر للمهدوية ص 18 – 19 .
( 5 ) والمهدوية كذلك يقولون بإمامة محمد بن إسماعيل . انظر للقرامطة ص 17 .
( 6 ، 7 ، 8 ) انظر للأفطحية والموسوية والممطورية ص 20 .
... و ( الأثنا عشرية ) معتقدون الإمامية إلى الإمام العسكري بالاتفاق . ثم أختلفوا فقالت ( الجعفرية ) بإمامة جغفر بن علي ، ويقولون : إن الإمام العسكري لم يخلف أبناً ، بدليل أن تركته قد ورثها أخوه جعفر كما ثبت بالإجماع ، ولو كان له ولد لم يصب جعفر ميراثه . وقيل كان للإمام العسكري ولد صغير مات في زمن أبيه . وروى الكليني عن زرارة أبن أعين ( 1 ) عن ابي عبدالله ( أنه قال لابد للغلام من غيبة . قلت : ولم ؟ قال : يخاف ! قلت : وما يخاف ؟ فأومأ بيده إلى بطنه ( وفهم بعض الأثني عشرية معنى الإشارة ان الناس كانوا يشكون في ولادته : سيقول بعض منهم سقط حمله ، وبعض يقولون لم يكن حمل ايضاً ) ولكن لا يخفى على العاقل أن إشارة الإمام إلى بطنه في جواب (( ما يخاف ؟ )) تأبى هذا المعنى صريحاً ، لأن الجنين لا يكون له خوف ، ولو وجد الخوف لا يندفع باختلاف الناس . هذا بالجملة ، إنما المقصود من بيان اختلاف فرقتهم ، وادعاء كل منهم التواتر على مزعوماتهم ، هو أن يستدل بذلك على كذبهم وافترائهم ، إذ لو تواتر خبر إحدى فرقهم أيضاً لم يقع الاختلاف قط بينهم ، ولم ينازع محمد بن الحنفية السجاد ، لم يحكما الحجر الأسود ! ولم يقع تنازع بين زيد بن علي والإمام الباقر ، وبين جعفر بن علي وبين محمد المهدي ، فإن اهل البيت أدرى بما فيه . ومن هذا ينبغي للعاقل أن يتفطن لكذب جميع فرقهم ، فإن هذه كلها أفتراءات لهم قرروا – على وفق مصلحة الوقت – إماماً بزعمهم وأخذوا يدعون إليه ليأخذوا بهذه الذريعة الخمس والنذور والتحف والهدايا من أتباعهم باسم إمامهم المزعوم ، ويتعيشوا بها ، ومتأخروهم قد قلدوا أوائلهم بلا دليل ، وسقطوا(166/265)
في ورطة الضلال ، إنهم ألفوا آباءهم ضالين ، فهم على آثارهم يهرعون .
------------------------
( 1 ) الذى قلنا في هامش ص 63 إنه حفيد قسيس نصراني أسمه سنسن في بلد الروم وأبو عبدالله ( هو جعفر الصادق ، وقد كان ( صادقاً حقاً بقوله لبن السماك : إن زرارة أبن أعين من اهل النار . أنظر ميزان الاعتدال ( 1 : 347 ) .
الباب السادس
في بعض عقائد الإمامية المخالفة لعقائد أهل السنة
... العقيدة الأولى – مذهب أهل السنة أن الله تعالى لا يجب عليه بعث العباد بحيث يكون تركه قبيحاً عقلياً . نعم ولكن البعث والحشر والنشر متحتم الوقوع البته لوعده تعالى بذلك حتى لا يلزم خلف الوعد . وقالت الإمامية بوجوب البعث عليه تعالى وجوباً عقلياً ، والآيات الكثيرة التى هي على ان البعث المعاد متعلقان بوعده تعالى ، وما وقع في آخر تلك الآيات من نحو قوله تعالى ( إن الله لا يخلف الميعاد ( مكذوبة تكذيباً صريحاً لعقيدتهم هذه ، وقد سبق أن الوجوب على الله تعالى لا معنى له أصلاً .
العقيدة الثانية – مذهب أهل السنة أن الأموات لا رجعة لهم في الدنيا قبل يوم القيامة . وقالت الإمامية قاطبة وبعض الفرق الأخرى من الروافض ايضاً برجعة بعض الأموات ، فإنهم يزعمون ان النبي ( والوصي والسبطين وأعداءهم – يعني الخلفاء الثلاثة ومعاوية ويزيد ومروان وابن زياد وأمثالهم – وكذا الأئمة الآخرين وقائليهم يحيون بعد ظهور المهدي ، ويعذب قبل حادثة الدجال كل من ظلم الأئمة ويقتص منهم ، ثم يموتون ثم يحيون يوم القيامة .(166/266)
وهذه العقيدة مخالفة صريحاً للكتاب ، فإن ( الرجعة ) قد أبطلت في أيات كثيرة منها قوله تعالى ( قال رب أرجعون لعلى اعمل صالحاً فيما تركت ، كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ( ولا يخفى أن مناط التمسك ومحطه إنما هو قوله ( من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ( فلا يمكن للشيعة أن يقولوا إن الرجعة تستحيل للعمل الصالح لا للقصاص وإقامة الحد والتعزير لما وقع المنع من الرجعة آخر الآية مطلقاً . وقال الشريف المرتضى في
( المسائل الناصرية ) : إن أبا بكر وعمر يصلبان على شجرة في زمن المهدي ! قيل : إن تلك الشجرة تكون رطبة قبل الصلب فتصير يابسة بعده ، فهذا الأمر سيضل به جمع ، وهم يقولون : إن هذين البريئين قد ظلما ، ولذا صارت الشجرة الخضراء يابسة . وقيل تكون تلك الشجرة يابسة قبل الصلب ثم تصير رطبة خضراء بعد الصلب ، وبهذا السبب خلق كثير ( 1 ) والعجب ان هؤلاء الكذابين مختلفون بينهم في هذا الكذب أيضاً ، فقال جابر الجعفي هو من قدماء هذه الفرقة : إن
-------------------------
( 1 ) الدكتور غوستاف لوبون تحقيق عن التحزب والتشيع وتاثيره على العقول فيكون الإنسان بنفسه من أهل العقول حتى ينقاد إلى تشيع الأشياع وتخرب الأحزاب فيتخلي عن عقله وينساق وراء الجمهور الذى تحزب له . وهذا المعني قد خطر لنا عند قراءة هذا النص من كلام المرتضى ، فقلنا إذا كان هذا الرجل يبلغ به ضعف العصبية والتشيع إلى أن ينزلق فيصدر عنه مثل هذا السخف ، فكيف بمن هم أقل منه علماً واضعف عقلاً من سائر طائفته ! فالحمد لله الذى عافانا مما أبتلى به كثيراً من خلقه .(166/267)
أمير المؤمنين يرجع إلى الدنيا ودابة الأرض المذكورة في القرآن عبارة عنه معاذ الله من سوء الأدب ( 1 ) والزيدية كافة منكرون للرجعة إنكاراً شديداً ، وقد ذكر في كتبهم رد هذه العقيدة بروايات الأئمة وكفى الله المؤمنين القتال . وقد قال الله تعالى ( وهو الذي أحياكم ( أي أنشأكم من العدم الفطري ( ثم يميتكم ( عند انقضاء آجالكم ( ثم يحييكم ( أي يوم القيامة للجزاء . وقال ( وكنتم أمواتاً فأحياكم ( في الدنيا ( ثم يميتكم ( بعد انقراض آجالكم ( ثم إليه ترجعون( .(166/268)
... والدليل العقلي الموافق لأصول الإمامية على بطلان هذه العقيدة أنهم لو عذبوا بسوء أعمالهم بعد ما رجعوا في الحياة الدنيا ثم يعاد عليهم العذاب في الأخرة لزم الظلم الصريح ، فلابد أن يكون في الآخرة معذبين ، فحصل لهم تخفيف عظيم عن العذاب المستمر الدائم وراحة أبدية ، وذلك مناف لغلط الجناية وعظم الجرم ، قال الله تعالى ( ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ( . والدليل الآخر على بطلانها ان الخلفاء الثلاثة لم يرتكبوا ما يوجب تعذيبهم إلا غصب الخلافة وبعض حقوق أهل البيت على زعم الشيعة ، وذلك الغصب بعد تسليمه غايته أن يكون فسقاً كما عليه متأخروا أو كفراً كما زعم متقدموهم ، ولا شئ من الكفر والفسق يوجب الرجعة في الدنيا بعد الموت قبل البعث ، وإلا يلزمهم أن يعتقدوا رجعة الكفرة والفسقة من أهل الأديان كلهم أجمعين ، ولا اختصاص لهذا الكفر والفسق بالرجعة ، وإلا يلزمهم أن يقولوا بكونها أكبر من الشرك بالله تعالى والكفر به – نعوذ بالله من ذلك – ومن تكذيب الأنبياء وقتلهم بغير حق وإيذائهم ونحوها معاذ الله من كلها . وهذه اللوازم باطلة محضاً عندهم ، فقد تبين للعارف المنصف أن هذه العقيدة الخبيثة باطلة على اصولهم والقول بها ضلالة . وأيضاً لو كان المقصود من تعذيبهم في الدنيا إيلامهم وإيذائهم يكون ذلك حاصلاً لهم في عالم القبر أيضاً ، فالأحياء عبث والبعث قبيح ، يجب تنزيه الله تعالى عنه . وإن كان المقصود إظهار جنايتهم عند الناس فقد كان الأولى بذلك الإظهار لمن كانوا معتقدين بحقية خلافتهم وناصرين لهم في زمنهم ، فكان لابد حينئذ أن يؤتى السبطان القدرة على الانتقام منهم حتى لا تضل بقية الأمة ويتبرأوا من أفعالهم . وهذا القدر في تأخير الانتقام بعد ما يمضي أكثر الأمة وياتى آخرون لم يطلعوا على فساد أعمالهم وبطلان أحوالهم اصلاً خلاف الحكمة والصلاح ، فقد لزم منه ترك الأصلح . وليت هذه الأمور تقع في اليوم(166/269)
-----------------------
( 1 ) في مقالتنا ( تسامح أهل السنة في الرواية عمن يخالفونهم في العقيدة ) المنشورة في مجلة الأزهر ( ربيع الأول 1372 ) تعريف بجابر الجعفي . أما عقيدة أن علياً دابة الأرض فهي من مخترعات عدو الله رشيد الهجري ، وانتحلها جابر الجعفي لأنها وافقت هواه .
الآخر ( 1 ) حتى يطلع كل من الأولين والآخرين على هذا الجزاء والقصاص فيكون لها وجه في الجملة ، بخلاف وقوعها قبله إذا مضى أكثر عمر الأمة وبقيت الدنيا قليلاً فإن بعض الناس الذين يحضرون ذلك الوقت إن أطلعوا على جنايتهم وذنوبهم فلا فائدة فيه ، لأنه لم يكن في ذلك الوقت من يعرف أبا بكر وعمر ومعاوية فيميز أحدهم عن الآخر ، بل ينشا الاحتمال عند كلهم أن عدة ناس سموهم باساميهم كيزيد وشمر المجعولين في الأيام العشرة من المحرم للقتل توطئه لتشفيه قلوبهم . ولو كان يكفى قول المهدي والأئمة الآخرين إن فلانا أبو بكر وفلاناً عمر فلماذا لا يقبل قولهم في بطلان أمر خلافتهم وغضبهم وظلمهم وتعذيبهم في البرزخ ، معاذ الله ، حتى يحتاج إلى أحيائهم ؟ وايضاً يلزم على هذا التقدير أن النبي ( والوصي والأئمة لابد لهم أن يذوقوا موتاً آخر زائداً على سائر الناس للزوم تعاقبه للحياة الدنيا ، وظاهر أن الموت أشد آلام الدنيا ، فلم يجوز الله سبحانه إيلام أحبائه عبثاً ؟ ! وأيضاً إذا أحيى هؤلاء الظلمة سيعلمون بالقرائن أنهم أحيوا للتعذيب والقصاص ، وأنهم كانوا على الباطل والأئمة على الحق فيتوبون بالضرورة توبة نصوحاً إذ التوبة مقبولة في الدنيا ولو بعد الرجعة ، فكيف يمكن حينئذ تعذيبهم ؟ وأيضاً يلزم على هذا التقدير إهانة الأمير والسبطين ، فإنهم كانوا عند الله أذل من كل ذليل حتى أن الله تعالى لم ينتقم من أعدائهم ولم يجعلهم قادرين عليهم إلا بعد مضى ألف وعدة مئات من السنين إذ يظهر المهدي لأغاثتهم بواسطته وينتقم من أعدائهم ويجعلهم قادرين عليهم ! وبالجملة فإن مفاسد(166/270)
هذه العقيدة أزيد من أن تحيط بها الكتابة والعبارة .
... العقيدة الثالثة – مذهب أهل السنة أن الله يعذب من يشاء ويرحم من يشاء من العصاة . ويعتقد الإمامية أن أحداً منهم لا يعذب بأي ذنب من صغيرة أو كبيرة لا يوم القيامة ولا في القبر . وهذه العقيدة إجماعية لهم ومسلمة الثبوت عندهم ، ويستدلون عليها بان (( حب علي كاف في الخلاص والنجاة )) كما تقدم في المقدمة . ولا يفهمون أن حب الله تعالى وحب رسوله ( لما لم يكن كافياً في النجاة والخلاص من العذاب – بلا إيمان وعمل صالح – كيف يكون حب علي كافياً ؟ ! إن هذه العقيدة خلاف أصولهم ورواياتهم أيضا ، ولكن لما كان غرضهم الإباحة والعذر لترك الطاعة وإسقاط التكاليف تلقوها بالقبول ، وغلبت أنفسهم الأمارة بالسوء على العلم والعقل وقهرتها . أما المخالفة للأصول فلأنه إذا أرتكب إمامى الكبائر ولم يعاقبه الله على ذلك يلزم ترك الواجب على الله لأن عقاب العصاة واجب على الله عندهم ، واما المخالفة للروايات فلأن الأمير
---------------------------
( 1 ) والذين يكذبون على الله ، ويخترعون هذه السخافات مستبعد عليهم أن يكونوا مؤمنين باليوم الآخر ، وكيف يؤمن باليوم الآخر من ينتسب إلى الإسلام ويكون في قلبه كل هذا الحقد الفاجر على مثل أبي بكر وعمر اللذين لم تنجب الإنسانية بعد أنبياء الله من بلغ شانهما ؟
والسجاد والأئمة الآخرين قد روى عنهم في أدعيتهم الصحيحة البكاء والاستعاذة من عذاب الله تعالى ، وإذا كان مثل الكرام خاشين هائبين ، فكيف يصح لغيرهم أن يغتر بمحبتهم ويتكئ عليها في ترك العمل ؟ ! .(166/271)
... وفي الأصل هذه العقيدة مأخوذة من اليهود ، حيث قالوا ( لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون * فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ( وعمدة ما يتمسكون به في هذا الباب روايات وضعها رؤسائهم الضالون المضلون . منها ما روى ابن بابويه القمي عن المفصل بن عمرو قال : قلت لأبي عبد الله لم صار على قسيم الجنة والنار : لا يدخل الجنة وإنما خلقت الجنة لأهل الإيمان إلا مبغضون . والدليل على كذب هذه الرواية أن الأئمة ما كانوا ليقولوا بما يخالف القرآن والشريعة أصلاً ، وإلا فقد كذبوا أنفسهم وآباءهم .
وفي هذه الرواية مخالفة للقواعد المقررة في الشريعة بعد وجوه :
( الأول ) أن حب شخص أو بغضه لو كان إيماناً أو كفراً لا يلزم أن يكون ذلك الشخص قسيماً للجنة والنار ، لأن سائر الأنبياء والمرسلين والأئمة والسبطين لهم هذه الرتبة وليس أحد منهم قسيماً لهما .
( الثاني ) أن حب الأمير ليس كل الإيمان ، إلا يبطل التوحيد ، والنبوة ، والإيمان بالمعاد ، والعقائد الضرورية الآخر للشيعة كلها ، ولا تمام المشترك بينهما ، لأن التوحيد والنبوة اصل أقوى وأهم ، وعليه مناط تحصيل الإيمان . وأيضاً يلزم على ذلك التقدير أن يجوز سب الأئمة الآخرين وإيذائهم معاذ الله من ذلك ، فلما لم يكن كل الإيمان ولا تمام المشترك بينهما ، بل يثبت أنه جزء من أجزاء الإيمان لم يكن ليكفى وحده في دخول الجنة ، وهذا هو الأظهر .
( الثالث ) أن قولهم (( لا يدخل النار إلا مبغضوه )) يدل صراحة على انه لا يدخل النار أحد من الكافرين الذين لم يبغضوه كفرعون وهامان وشداد ونمرود وعاد وثمود وأضرابهم ، لوجود الحصر في العبارة ، لأن أولئك المذكورين لم يبغضوا علياً بل لم يعرفوه ، وهو باطل بالإجماع .(166/272)
( الرابع ) أنا لو أسلمنا ذلك كله فليس لتلك العبارة مساس بمدعاهم ، لأن حاصلها أنه لا يدخل الجنة من لا يجب علياً ، لا ان كل من يحبه يدخلها . والفرق بينهما واضح ، لأن الأول يكون دخول الجنة مقصوراً على المحبين بخلاف الثاني فإن فيه كون المحب مقصوراً على الدخول فلا يوجد بما سواه ومدعاهم هذا دون الأول .
( الخامس ) لو تجاوزنا عن هذه كلها يلزم أن يكون جميع فرق الروافض ناجين ، وهو خلاف مذهب الإمامية . ولما لم تنطبق هذه الرواية على غرضهم روى ابن بابويه رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال : قال رسول الله ( (( جاءني جبريل وهو مستبشر فقال : يا محمد ، إن الله الأعلى يقرئك السلام وقال : محمد نبيى ورحمتي ، وعلي حجتي ، لا أعذب من والاه و إن عصاني ، ولا أرحم من عاداه وإن أطاعني )) والدليل على كذب هذه الرواية أن معنى النبوة ههنا قد ثبت في الحقيقة لعلي لأن حبوط الطاعات إنما هو في حق منكر الأنبياء خاصة ، ولزم تفضيل علي على النبي لأنه لم يثبت له رتبة الحجية ، إذ منكره يكون من جملة العصاة والمقر به من جملة المطيعين ، ومع هذا لا خوف على العاصي ولو كان منكراً للرسول إذا كان محباً لعلي ، ولا منفعة ولو كان مؤمناً بالنبي إذا كان يبغض علياً . ولا يخفى أن ذلك مخالف لقوله تعالى ( ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ( وقوله ( ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالً مبيناً( وقوله ( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها أبدا ( وكل الروايات تخالف النصوص فهي موضوعة جزماً كما تقرر عند أصحاب الحديث . وأيضاً لزم منها نسخ الصلاة والصوم والطاعة والعبادة وحرمه المعاصي ، ولم يبق غير حب علي وبغضه مدار الجزاء ، ولزم أن نزول القرآن يكون ضلالة الخلق لا لهدايتهم ، إذ لم يذكر فيه حب علي وبغضه مع أنه لابد منه ، ولو كان مذكوراً يكون بنوع لا بفهمه كل أحد من المكلفين البتة ، وتكليف فهم اللغز لا يتحمله كل أحد ، فالقرآن كله(166/273)
يدعو إلى أمر لا يحتاج إليه في الآخرة أصلاً ، وما ينفع في الآخرة لا اثر له فيه ، معاذ الله من ذلك . هذا وقد رويت روايات أخر في كتبهم المعتبرة مناقضة لهذه الروايات ، منها ما روى سيدهم وسندهم حسن بن كبش عن أبي ذر قال : نظر النبي ( إلى علي ابن ابي طالب فقال (( هذا خبر الأولين وخير الأخرين من أهل السماوات وأهل الأرض ، هذا سيد الصديقين ، هذا سيد الوصيين وإمام المتقين قائد الغر المحجلين . إذا كان يوم القيامة كان على ناقة من نوق الجنة قد أضاءت عرصه القيامة من ضوئها ، على رأسه تاج مرصع من الزبرجد والياقوت . فنقول الملائكة : هذا ملك مقرب ، ويقول النبيون : هذا نبي مرسل . فينادي المنادي من تحت بطنان العرش : هذا الصديق الأكبر ، هذا وصي حبيب الله علي بن أبي طالب ، فيقف على متن جهنم فيخرج منها من يحبه ويدخل فيها ن يبغضه ، ويأتي أبواب الجنة فيدخل فيها من يشاء بغير حساب )) . ولا يخفى أن هذه الرواية ناصة صريحاً على أن بعض العصاة فمن يحب الأمير يدخلون النار ثم يخرجهم الأمير ويدخلهم الجنة بعد ما يعذبون بقدر أعمالهم ، وبينها وبين الرواية الأولى تناقض صريح . ومنها ما روى ابن بابويه القمي عن جابر بن عبد الله ( أنه قال : قال رسول الله ( (( إن عبداً مكث في النار سبعين خريفاً كل خريف سبعون سنة ، ثم إنه سأل الله تعالى بحق محمد وآله أن يرحمه فأخرجه من النار وغفر له )) فإن كان الرجل محباً للأمير فلم عذب في النار هذه المدة المديدة ؟ وإن كان مبغضاً له فلم يدخل الجنة مغفوراً له ؟ والأظهر أن من كان منكراً لولاية السبطين والبتول والأئمة الأخرين ومحباً أن يكون من أهل الجنة ولا يمسه عذاب النار اصل ، مع أن ابن المعلم الملقب بالمفيد روى في كتاب
( المعراج ) له أن الله تعالى قال (( يا محمد ، لو أن عبداً عبدني حتى يصير كالشن البالي أتاني جاحداً لولاية محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ما أسكنته جنتي )) فالكيسانية(166/274)
مع جحودهم بولاية السبطين والغلاة مع مخالفتهم عقيدة الأمير لا بد أن يكونوا ناجين من أهل الجنة على ما رواه ابن بابوية . فإن قالت الإمامية : إن هذه الرواية ذكر فيها الجحود بولاية كل واحد من الخمسة فولاية الأمير من جملتها فلعل رد عبارات ذلك الرجل لكونه جحد ولاية الأمير بناء على كون النجاة بناء على كون منوطة بالولاية المطلقة فجحود إحدى الولايات مناف لها قلنا فعلى هذا جحود ولاية محمد ( المستلزم للكفر يكون كافياً بالإجماع في حبوط الأعمال من غير أن يكون لجحود ولاية على دخل فيه فعلم أن المقصود ههنا جحود ولاية كل واحد منهم منفردة وبه يثبت المدعى .(166/275)
ولما انجر الكلام لزم أن نبين أن الاثنى عشرية يعتقدون أن جميع فرق الشيعة – سوى فرقتهم – مخلدون في النار وهم ناجون قال ابن المطهر الحلى في ( شرحه للتجريد ) : إن علماءنا لهم اختلاف في حق هؤلاء الفرق ، قال بعضهم مخلدون في النار لعدم استحقاقهم الجنة وقال بعضهم يخرجون من النار ويدخلون الجنة وقال ابن نوبخت والعلماء الآخرون يخرجون من النار لعدم الكفر ولا يدخلون الجنة لعدم الإيمان الصحيح الذي يوجب استحقاق ثواب الجنة بل يمكثون في الأعراف خلوداً . وقال صاحب ( التقويم ) الذي هو من أجل علماء الإمامية إن الشيعة المحضة قد تفرقت على اثنين وسبعين فرقة والناجية منهم الاثنا عشرية والباقون يعذبون في النار مدة ثم يدخلون الجنة . فهم يثبتون جزماً في حق من يحب الأمير إما تعذيباً دائماً أو منقطعاً . وأيضاً قال صاحب التقويم : وأما سائر الفرق الإسلامية فكلهم مخلدون في النار فمن ههنا علم أن أهل السنة أيضاً مخلدون في النار عندهم مه أنهم يحبون الأمير ويعتقدون أن حبه جزء الإيمان فانتقضت قاعدة محبة الأمير طرداً وعكساً . ويخالف ذلك أيضاً ما رواه ابن بابويه عن ابن عباس عن النبي ( أنه قال (( والذي بعثني لايعذب بالنار موحد أبداً )) وروى الطبرسي في ( الاحتجاج ) عن الحسن بن علي أنه قال : من أخذ بما عليه أهل القبلة الذي ليس فيه اختلاف ورد علم ما اختلف فيه إلى الله سلم ونجا من النار ودخل الجنة وروى الكليني بإسناده صحيح عن زرارة قال : قالت لأبي عبدالله : أصلحك الله (1) أرأيت من صام وصلى وحج واجتنب المحارم وحسن ورعه ممن لا يعرف ولا ينصب ؟ قال : إن الله يدخله الجنة برحمته فهذه الأخبار الثلاثة دالة بالصراحة على نجاة أهل السنة . وكذلك تدل على إبطال قول الجمهور من الروافض وقول صاحب التقويم . وكلام ابن نوبخت المنجم الذي كان في الأصل مجوسياً ولم يطلع على قواعد الإسلام بعد أيضاً باطل لا أصل له لأن الأعراف ليس دار الخلد(166/276)
بل أهله يمكثون فيه مدة قليلة ثم يدخلون الجنة كما هو الأصح عند المسلمين .
------------------------
( 1 ) ودعاؤه له بأن يصلحه الله اعتراف منه باحتمال أن يكون منه عكس ذلك وهو ينافي العصمة التي يدعونها لأبي عبدالله وآبائه .
الجزء الثاني(166/277)
مختصر كتاب
الشهادة الثالثة
في الأذان
حقيقة أم افتراء
اشهد ان علياً ولي الله
علاء الدين البصير
بسم الله الرحمن الرحيم
إهداء
إلى الذين يرومون اتباع رسول الله وخاتم الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم - وسلوك طريق أهل بيته رضوان الله عليهم .
إلى من يريدون إقامة السنَّة ونبذ البدعة .
إلى من حطموا قيود التقليد ، وفروا من طريق المبتدعة والمفوضة.
إلى الذين يرجون تجارة لن تبور يوم لا ينفع مال ولا بنون.
إلى كل شيعي يتقبل النقد البناء بروح طيبة ويعمل عقله وقلبه فيما يقرأ ويسمع .
إلى كل هؤلاء أضع بين أيديكم كتابي هذا موضحاً لكم فيه حقيقة من الحقائق العديدة التي أخفيت عنكم أزمنة متطاولة وهي مسألة الشهادة الثالثة ( اشهد ان علياً ولي الله ) التي نسبت كذباً وزوراً وبهتاناً إلى الأئمة وهم منها براء ، عسى أن تجد هذه الحقيقة مكانها في صدوركم ، فان أصبت فهذا حسبي وعلى الله توكلت واليه أنيب. { يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ } (هود:51).
{ وقال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد } (غافر/38).
الحقيقة(167/1)
هذا الكتاب محاولة جادة لإماطة اللثام عن حقيقة ( الشهادة الثالثة ) في الأذان وهل لها وجود حقيقي ملموس عند الأئمة ، أم هي مجرد افتراء وادعاء ، والحقيقة المستخلصة من كل ذلك والتي لا مناص سوى القبول بها ستوضح لك توضيحاً لا لبس فيه ولا غموض ان عبارة (اشهد ان علياً ولي الله ) هي عبارة دخيلة لم يقل بثبوتها نبي مرسل ولا إمام مقرب ، وقد حاولنا في هذا الكتاب ان ندلل على ذلك بالأدلة والحجج والبراهين ، كما حاولنا أن نبين عجز العلماء في إيجاد ما يدعم مدعاهم ، وها انا ذا اقولها متحدياً وكلي ثقة وبضرس قاطع نعم لم يستطع أحد من علماء الشيعة ولن يستطيع ان يأتي برواية واحدة تثبت وجود مثل هذه العبارة ولو كانت مكذوبة أو موضوعة ، ولو طلعت الشمس من مغربها ، ولو اجتمعت على ذلك الانس والجن وكان بعضهم لبعض ظهيرا .
المؤلف
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأُصلي وأُسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين وعلى آله وصحابته أجمعين وبعد :
فإن الله تعالى قد امتن علينا معاشر المسلمين بإتمام الدين و إكماله فقال: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً } (المائدة: من الآية3)
وإذا كان الأمر كذلك فان أي زيادة أو نقصان من ذلك الكمال هو أمر مذموم ولا ريب في ذلك ، لان في الزيادة ادعاءً بان الدين لم يكن كاملاً وهو بها سيكمل ، وان في النقصان تكذيباً لقوله تعالى السابق الذكر، لذلك ومن هنا قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا كل طريق لإحداث أي أمر لم يرد في الشريعة فقال :
(( من احدث في امرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) أي مردود على صاحبه .(167/2)
وهذه الجزئية هي التي غفل عنها المبتدعون لحظة ابتداعهم فلبس الشيطان بمكره ودهائه عليهم دينهم ، وزخرف لهم الباطل وحسنه إليهم، وهكذا اشرأبت أعناق المبتدعة واستشرفوا البدع ظناً منهم ان الهدف إذا كان نبيلاً ، وأن الغاية إذا كانت محمودة فان أي طريق يوصل إليهما فهو طريق محمود ونبيل ، لهذا كان سلفنا الصالح يكثرون من الكلام في البدع والتحذير من إدخال ما ليس من الدين في الدين حتى عد بعضهم الكلام في البدع والتحذير منها خيراً من عبادة كذا يوم.
وبناء على ذلك فقد جاء كتابنا هذا امتداداً طبيعياً لما قرره سلفنا الصالح فكشفنا من خلاله عن الصيغة الصحيحة للأذان الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والأئمة - رضي الله عنهم - والتي لا يوجد فيها أي ذكر للشهادة الثالثة (( أشهد أن علياً ولي الله )) إذ لم يرد ذكرها في أية رواية من الروايات التي وردت عن الأئمة في كتب الشيعة المعتبرة منها وغير المعتبرة ، ولهذا السبب أنكرها كثير من علماء الشيعة وحكموا بالبدعة على فاعلها وقالوا إنه من فِعل المفوضة الغلاة فهم الذين أدخلوها في الأذان أول مرة.
وكتابي هذا هو الأول من سلسلة من ثلاثة كتب تبحث موضوع الأذان وحقيقة ما أضيف إليه وما انقص منه .
الأول : الشهادة الثالثة في الأذان حقيقة أم افتراء .
الثاني : الصلاة خير من النوم حقيقة أم اتهام .
الثالث : حي على خير العمل حقيقة أم وهم .
وهذا التقسيم نابع من كون أهل السنة اتهموا الشيعة بأنهم أضافوا إلى الأذان بدون وجه حق عبارة اشهد ان علياً ولي الله.
والشيعة في مقابل ذلك اتهموا أهل السنة ، وعلى رأسهم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه بأنه أضاف إلى الأذان عبارة (الصلاة خير من النوم) وحذف من الأذان عبارة (حي على خير العمل) ، وقد حققنا هذه المسائل تحقيقاً قد لا يجده القارئ في غير هذه البحث ، فلمحبي المعرفة وطلاب الحق أضع هذه الكتب بين أيديهم .(167/3)
وأخيراً قام جمع من الأحباب والأصدقاء بالإلحاح علي باختصاره كي يعم نفعه ونزولاً عند رغبتهم قمت بحذف الكثير من مباحث الكتاب الأصلية واكتفيت بما هو ذو صلة وثيقة بعنوان البحث حتى جاء البحث على هذه الصورة التي نسأل الله ان ينفع به كما نفع بأصله وان يتقبله عنده بالقبول الحسن وان يجعله ذخراً لصاحبه يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من آتى الله بقلب سليم .
المؤلف
علاء الدين البصير
2 / 3 / 2005(167/4)
المصادر
القران الكريم
1- الاستبصار فيما اختلف من الاخبار: محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق حسن الخراسان – دار الكتب الاسلامية ، طهران - الطبعة الثالثة 1390 .
2- التهذيب : محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق حسن الخراسان– دار الكتب الاسلامية ، طهران - الطبعة الثالثة 1390 .
3- وسائل الشيعة : الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي – دار احياء التراث العربي، الطبعة الخامسة 1983م .
4- فقه الرضا : المنسوب للإمام علي بن موسى الرضا – تحقيق مؤسسة اهل البيت– الناشر : المؤتمر العالمي للامام الرضا.
5- مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل : النوري الطبرسي – تحقيق مؤسسة ال البيت لاحياء التراث، الطبعة الاولى ، 1409 هـ .
6 - الفصول المهمة في اصول الأئمة : محمد بن الحسن الحر العاملي – الناشر: مؤسسة اعلامي امام رضا – طهران ، ط1، 1418 هـ .
7- الاعتصام بحبل الله : منشورات ديوان النشر والترجمة والتأليف التابع لجامعة مدينة العلم للإمام الخالصي الكبير في الكاظمية .
8- النهاية في مجرد الفقه والفتاوى : شيخ الطائفة الطوسي – طبعة دار الاندلس، بيروت .
9- المبسوط في فقه الامامية : الشيخ الطوسي – الناشر ، المكتبة المرتضوية 1387هـ.
10- مرجعية المرحلة وغبار التغيير: جعفر الشاخوري البحراني- دار الامير للثقافة والعلوم الطبعة الثالثة سنة 2000م .
11- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية : الشهيد الأول .
12- مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان : المولى أحمد الأردبيلي.
13- مفاتيح الشرائع في فقه الإمامية : للمولى محسن فيض الكاشاني– مطبعة الخيام، قم 1401م .
14- فقه الإمام جعفر الصادق عرض واستدلال : محمد جواد مغنية– مؤسسة انصاريان ، ايران : قم .
15- المسائل الفقهية : البروجردي .
16- المسائل الفقهية : محمد حسين فضل الله .
17- لماذا كتاب مأساة الزهراء : آية الله السيد جعفر مرتضى العاملي – دار السيرة ، بيروت – ط1 ، 1997 .(168/1)
18- كتاب الإمام المجاهد محمد الخالصي : تأليف الشيخ همام الدباغ.
19- كشف الغطاء : جعفر آل كاشف الغطاء، طبعة حجرية.
20- العروة الوثقى : كاظم اليزدي - وبهامشها تعليقات أربعة من مراجع الشيعة .
21- المختصر النافع : العلامة الحلي .
22- الفتاوى الواضحة : محمد باقر الصدر.
23- السرائر : محمد بن ادريس الحلي - المطبعة العلمية ، قم - ط: الثانية 1390 هـ . 24. الشرائع : المحقق الحلي.
25- كتاب التبصر : الحسن بن المطهر ( العلامة الحلي )– انتشارات فقيه ، ط1 ، 1368 هـ .
26- منتهى المطلب في تحقيق المذهب : العلامة الحلي – الناشر حاج احمد ، تبريز 1333 .
27- الشهادة الثالثة المقدسة : الشيخ عبد الحليم الغزي – منشورات هيئة بني هاشم ، قم ، ط1، 1414 هـ ق .
28- كل الحلول عند آل الرسول : الدكتور محمد التيجاني السماوي– دار المجتبى، بيروت – ط1، 1995 .
29- السفير الخامس : عباس الزيدي – دار التعارف للمطبوعات بيروت.
30- تطور المباني الفكرية للتشيع في القرون الثلاثة الأولى: الدكتور حسين المدرسي الطباطبائي- الطبعة الاولى ، شريعت 1423هـ ق.
31- من لا يحضره الفقيه : لابي جعفر محمد بن علي ابن بابوية القمي الملقب بالصدوق – نشر الامام المهدي ، قم .
32- تنقيح المقال في احوال الرجال: الشيخ المامقاني – المطبعة المرتضوية النجف الاشرف 1352هـ .
33- الكافي : محمد بن يعقوب الكليني – حققه وعلق عليه علي اكبر الغفاري – الناشر دار الكتب الاسلامية ، الطبعة الثالثة :1388 هـ .
34- ثواب الأعمال : الشيخ الصدوق – منشورات الرضي ، قم– ط2، 1368 هـ .
35- علل الشرائع : ابن بابويه القمي ( الصدوق ) – المطبعة الحيدرية في النجف، 1966م .
36- الرسائل : الشريف المرتضى.
37- مختلف الشيعة في احكام الشريعة : العلامة الحلي : جمال الدين الحسن بن يوسف ، ط: ايران.(168/2)
38- مجمع البحرين : الشيخ فخر الدين الطريحي النجفي – الناشر: مكتبة نشر الثقافة الاسلامية – ط2 ، 1408 هـ .
39- الحدائق الناظرة : الشيخ يوسف البحراني – مؤسسة النشر الاسلامي 1415.
40- فوائد الأصول : المحقق النائيني.
41- كشف الارتياب في اتباع محمد بن عبد الوهاب : محسن الأمين العاملي .
42- صيانة القران من التحريف : محمد هادي معرفة ، ط1 مؤسسة النشر الاسلامي قم ، 1413هـ .
43- كتاب الوحدة الإسلامية : مقال لمحمد جواد مغنية : مقال باسم منهاج عملي للتقريب– بيروت ، ط1 ، 1975 .
44- الشهادة بالولاية في الأذان : السيد علي الحسيني الميلاني– مركز الابحاث العقائدية ، قم– ط1 ، 1421 هـ .
45- محاظرات في الاعتقادات : السيد علي الحسيني الميلاني– مركز الابحاث العقائدية ، قم– ط1،1421هـ .
46- البيان في تفسير القران : السيد أبو القاسم الخوئي مطبعة مؤسسة الاعلمي، بيروت 1974.
47- الشهادة الثالثة سبب الايمان ام جزء الاذان : الشيخ محمد سند.
48- من لا يحضره الفقيه : لابي جعفر محمد بن علي ابن بابوية القمي الملقب بالصدوق – نشر الامام المهدي ، قم .
49-أصول الكافي : محمد بن يعقوب الكليني – حققه وعلق عليه علي اكبر الغفاري – الناشر دار الكتب الاسلامية ، الطبعة الثالثة:1388هـ.
50- الاعتقادات ( وتسمى عقائد الامامية ) : ابن بابويه القمي، ط 1: ايران 1320 هـ .
51- بصائر الدرجات : ابو جعفر محمد بن الحسن الصفار، منشورات الاعلمي 1404 هـ .
52- بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار: محمد باقر المجلسي – الناشر: مؤسسة الوفاء، بيروت- الطبعة 1983م .
53- معاني الأخبار : ابن بابويه القمي ( الصدوق ) – المطبعة: انتشارات اسلامي– 1361 هـ ش .
54- التوحيد : للشيخ الصدوق ، مكتبة الصدوق – طهران 1398هـ.
55- المعتبر في شرح المختصر: المحقق الحلي – الناشر : مؤسسة سيد الشهداء، 1364 ش.(168/3)
56- حركية العقل الاجتهادي لدى فقهاء الشيعة الإمامية : جعفر الشاخوري البحراني – دار الملاك، بيروت – ط1 ، 1998م .
57- الوافي : المولى الفيض الكاشاني – مؤسسة الهادى ، قم– ط 2، 1416.
58- مواقيت الصلاة للدكتور : طه حامد الدليمي ، ط1 بغداد.
59- دعائم الإسلام : القاضي نعمان بن محمد بن منصور التميمي المغربي – الناشر: دار المعارف ،1963 م .
60- رد على ... رسالة الى كل شيعي : الشيخ نزيه القميحا - دار الهادي، بيروت – ط1، 1999م .
61- مصباح المتهجد : محمد بن الحسن الطوسي – الناشر : مؤسسة فقه الشيعة، لبنان ، ط1 1991 م .
63- الشيعة هم اهل السنة : الدكتور محمد التيجاني السماوي .
64- منهج الصالحين : محمد محمد صادق الصدر.
65- الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة شبهات وردود : مرتضى العاملي – المركز الاسلامي للدراسات، بيروت – ط1،2002م .
66 - مشرعة بحار الانوار : اية الله محمد اصف محسني – الناشر مكتبة عزيزي، مطبعة : شريعت، قم – ط1 ، 1423 هـ . ق .
67 - الندوة : محمد حسين فضل الله – دار الملاك ، بيروت– ط1، 1998م.
الفهرس
الموضوع الصفحة
الإهداء............................................................ 4
الحقيقة.............................................................5
المقدمة.............................................................6
الفصل الأول:خلو الأذان من الشهادة الثالثة عند الأئمة والعلماء......9
روايات الأئمة لا تذكر الشهادة الثالثة..............................12
إجماع فقهاء الإمامية على ان الشهادة الثالثة ليست جزءاً من الاذان والاقامة .........................................................17(168/4)
إجماع فقهاء الإمامية على أن الشهادة الثالثة ليست جزءاً من الأذان والإقامة..........................................................17
أقوال فقهاء الأمامية...............................................21
1-شيخ الطائفة الطوسي ........................................ 21
2-الشهيدان الأول والثاني .......................................21
3-المقدس الأردبيلي .............................................22
4-محمد محسن الفيض الكاشاني .................................22
5-الشهيد الثاني .................................................23
6-الشيخ محمد جواد مغنية.......................................23
7- السيد البروجردي.............................................25
8-محمد حسين فضل الله ........................................25
9-الشيخ محمد مهدي الخالصي ..................................26
10- الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء ..............................28
11- كاظم اليزدي الطبطبائي ...................................30
12-هناك عدد كبير من المراجع والعلماء الكبار يحتاطون في....30
13- الحر العاملي في كتابه وسائل الشيعة .......................31
14- العلامة الحلي...............................................31
15- محمد باقر الصدر ..........................................31
16- العلامة ابن إدريس .........................................31
17- العلامة المحقق ...........................................31
18- العلامة الحلي .............................................32
19- العلامة الحلي ..............................................32
20- محمد العاملي الكاظمي .....................................32(168/5)
21- الشيخ عبد الجليل القزويني .................................33
22-محمد محمد صادق الصدر...................................33
23- محمد التيجاني السماوي ....................................33
24 – الدكتور حسين المدرسي الطباطبائي ...................... 37
سؤال وجواب....................................................39
الفصل الثاني: تبريرات العلماء على إدخال الشهادة الثالثة ودحضها من قبل الكاظمي....................................43
البدعة وآثارها الموبقة............................................45
البدعة في أقوال علماء الإمامية...................................47
تبريرات واهية...................................................50
الفتوى الأولى.....................................................56
الفتوى الثانية.....................................................57
ردود محمد العاملي الكاظمي على فتاوى محسن الحكيم............59
أذان اليوم........................................................70
مفارقة عجيبة.....................................................73
جراثيم ومكروبات بحار الانوار...................................77
وقفة مع الميلاني وكتابه الشهادة بالولاية في الأذان................79
روايات تحريف القران............................................80
الفصل الثالث: التقية ودورها في الأذان...........................86
التقية ركن من أركان المذهب.....................................88
التقية ودورها في تحريف الأذان..................................90
علماء الشيعة برروا عدم ذكر الشهادة الثالث بالتقية................94
أحاديث الشيعة مختلفة متضادة....................................95
اختلاف علماء الشيعة في تحديد أي الروايات صدر تقية...........96(168/6)
سنن وأذكار في الأذان تركت.....................................98
أولاً : عبارة الصلاة خير من النوم................................98
ثانياً : دعاء الوسيلة بعد الأذان....................................98
روايات الأئمة تذكر دعاء الوسيلة...............................102
الفصل الرابع : صورتان متضادتان لاتباع سفينة أهل البيت.....106
القول الفصل في لزوم ترك الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة... 108
محمد الصدر والشهادة الثالثة....................................111
الأسئلة..........................................................112
المناقشة.........................................................115
الشهادة الثالثة ليست جزءاً من الأذان............................116
لا دليل على الاستحباب.........................................117
كلام مستقل عن الاذان..........................................117
استحبابها.......................................................120
تدليس واضح...................................................120
التسامح في أدلة السنن..........................................121
حاطب ليل......................................................123
استحباب ذكر الإمام.............................................123
نصرة المذهب..................................................124
أمر الشهادة الثالثة صادر عن الله سبحانه........................125
آذان بلال لم تكن فيه الشهادة الثالثة..............................126
عبارات مكروهه................................................127
إخفاء العلماء ليس جريمة.......................................127
النتيجة..........................................................128(168/7)
أين ذهبت سنة النبي........................................... 128
روايات التحريف................................................131
التقية............................................................132
سؤالان.........................................................135
إشكال أخير.....................................................138
الخاتمة.........................................................141
المصادر..........................................................
الفهرست.........................................................(168/8)
الفصل الأول
خلو الأذان من
الشهادة الثالثة
عند الأئمة والعلماء
ان الأمر الخطير والمهم في بحثنا هذا هو أنك سوف تتطلع على أمور ربما كنت تعد صحتها وثبوتها من المسلمات التي لا يختلف فيها اثنان لكنك وبمجرد تصفحك لهذا البحث ستجد ان كثيرا من تلك المسلمات قد بنيت على شفا جرف هار وقاعدة رخوة سرعان ما يسقط ما بني عليها، ومن تلك المسلمات الشهادة الثالثة في الأذان (أشهد ان عليا ولي الله) هذه اللفظة التي ألف سماعها الكبير ونشأ عليها الصغير .
فتعال معي عزيزي القارئ بعد أن تترك الهوى خلفك لنقوم بجولة استقرائية لمرويات أهل البيت وأقوال علماء الشيعة الواردة بصدد بيان ألفاظ الأذان لأقف بك عند حقيقة طالما غيبت عنك ألا وهي : ( أن لا وجود للشهادة الثالثة في الأذان الوارد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته - عليه السلام - ) وإليك بعض تلك الروايات :
روايات الأئمة لا تذكر الشهادة الثالثة
الرواية الأولى :
الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن الأذان فقال : تقول الله أكبر ، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله الله ، أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح، حي على خير العمل ، حي على خير العمل ، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله ، لا إله إلا الله (1).
الرواية الثانية :
__________
(1) الاستبصار / الطوسي ج1 ص305 ] [ التهذيب / الطوسي ج1 ص150 ](169/1)
محمد بن علي بن محبوب ، عن علي بن السندي ، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة ، عن زرارة والفضيل بن يسار ، عن أبي جعفر- عليه السلام - قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وآله … وصف الملائكة والنبيون خلف رسول الله صلى الله عليه وآله قال :
فقلنا له كيف إذن ، فقال الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله، أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله ، حي علي الصلاة ، حي الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، حي على خير العمل ، حي على خير العمل ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، لا إله إلا الله ، والإقامة مثلها إلا أن فيها قد قامت الصلاة بين حي على خير العمل ، حي على خير العمل وبين الله أكبر ، الله أكبر فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله بلالاً فلم يزل يؤذن بها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله(1).
الرواية الثالثة :
عن أحمد بن محمد ، عن الحسين عن فضالة ، عن سيف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرمي ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - وكليب الأسدي عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه حكى لهما ( الأذان والإقامة ) فقال : الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله ، أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، حي على خير العمل، حي على خير العمل، الله أكبر، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والإقامة كذلك(2).
الرواية الرابعة :
__________
(1) الاستبصار / ج1 ص305 ] [ وسائل الشيعة /ج4 ص644 ]
(2) الاستبصار / ج1 ص358 ] [ وسائل الشيعة / ج4 ص644 ](169/2)
الحسين بن سعيد ، عن فضالة ، عن حماد بن عثمان ، عن إسحاق بن عمار ، عن المعلى ابن خنيس قال : سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يؤذن فقال : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله، أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح حي على الفلاح، حي على خير العمل، حي على خير العمل ( حتى فرغ من الأذان وقال في آخره ) الله أكبر، الله أكبر ، لا إله إلا الله(1) .
الرواية الخامسة :
عن النضر، عن عبد الله بن سنان قال : سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن الأذان فقال :
تقول الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح، حي على خير العمل ، حي على خير العمل ، الله أكبر ، الله أكبر، لا إله إلا الله ، لا إله إلا الله.(2)
الرواية السادسة :
عن فضالة ، عن حماد بن عثمان ، عن إسحاق بن عمار ، عن المعلى بن خنيس قال : سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يؤذن فقال : الله أكبر الله أكبر، الله أكبر ، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح، حي على خير العمل ، حي على خير العمل ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، لا إله إلا الله .
__________
(1) الاستبصار / ج1 ص306 ][ التهذيب / ج1 ص151 ]
(2) وسائل الشيعة / ج4 ص 643 ](169/3)
وبالإسناد مثله إلا أنه ترك حي على خير العمل وقال مكانه حتى فرغ من الأذان وقال في آخره الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، لا إله إلا الله(1) .
الرواية السابعة :
ورد في فقه الرضا عنه - عليه السلام - قال :
اعلم رحمك الله أن الأذان ثمانية عشر كلمة ، والإقامة سبعة عشر كلمة قال :
والأذان أن يقول الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ،أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، حي على خير العمل ، حي على خير العمل، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، لا إله إلا الله مرتين في آخر الأذان وفي آخر الإقامة مرة واحدة إلى أن قال :
والإقامة أن تقول الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح، حي على الفلاح ، حي على خير العمل ، حي على خير العمل ، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر، الله أكبر ، لا إله إلا الله مرة واحدة(2).
الرواية الثامنة :
__________
(1) وسائل الشيعة / ج4 ص642 ]
(2) فقه الرضا / ج2 ص11 ] [ مستدرك الوسائل / ج4 ص641 ](169/4)
وورد في ( معاني الأخبار وكتاب التوحيد ) عن أحمد بن محمد الحاكم المقري عن محمد بن جعفر الجرحاني ، عن محمد بن الحسن الموصلين، عن محمد بن عاصم الطريفي ، عن عياش بن زيد ، عن أبيه يزيد بن الحسن ، عن موسى بن جعفر ، عن آبائه عن علي - عليه السلام - في حديث تفسير الأذان أنه قال فيه : الله أكبر ، الله أكبر ، أكبر، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح، حي على الفلاح ، الله اكبر ، الله أكبر، لا إله إلا الله ، لا إله إلا الله ، وقد ذكر في الإقامة : قد قامت الصلاة .
قال الصدوق ، إنما ترك الراوي حي على خير العمل للتقية(1) .
وقد جمع الحر العاملي في وسائله في باب كيفية الأذان والإقامة وعدد فصولهما ، ما ورد عن الأئمة من أحاديث في كتب الشيعة المختلفة فبلغت (25) حديثاً تخلو جميعها من ذكر الشهادة الثالثة ( اشهد أن علياً ولي الله ) .
فهذه أذن الروايات التي وردت عن الأئمة من كتب الشيعة المعتمدة فهل تجد فيها ذكراً للشهادة الثالثة وأنا أدعوك أيها القارئ الكريم لتعيد النظر فيها كرَّة بعد أخرى فإنك يقيناً لن تجد في كل كتب الشيعة حديثاً واحداً - ولو كان موضوعاً أو مكذوباً - فيه ذكر للشهادة الثالثة، فالرجاء من كل شيعي يرى غير رأينا ويعتقد بخلاف ما ذهبنا إليه أن يدلنا على حديث واحد فقط فيه ذكر للشهادة الثالثة ، واني على يقين انه لو قام بالبحث والتنقيب فانه لن يجد ذلك حتى في أضعف كتبهم. وسنعزز صحة هذه الحقيقة الخطيرة بأقوال علماء الشيعة التي اتفقت مع روايات الأئمة على خلو الأذان من الشهادة الثالثة .
إجماع فقهاء الإمامية على أن الشهادة الثالثة ليست جزءاً من الأذان والإقامة
__________
(1) وسائل الشيعة / الحر العاملي ج4 ص648 ](169/5)
قبل أن نورد أقوال العلماء في عدم ورود الشهادة الثالثة في الأذان احب هنا أن أذكر كلمة لفضيلة السيد محمد العاملي الكاظمي عضو ديوان النشر والترجمة والتأليف التابع لجامعة مدينة العلم للإمام الخالصي الكبير والتي ذكرها في كتاب الاعتصام بحبل الله مضافاً إليها كلمة مدير ديوان جامعة مدينة العلم الواردة في الكتاب نفسه(1) أجعلها كالمقدمة لهذا المبحث لا سيما وأنها تحتوي على ضوابط تحدد لنا مفهومي السنة والبدعة وأثر البدعة السيء في الدين ، فلك عزيزي القارئ مجمل ما كتبا:
إن كل شيء لم يسنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من العبادات فإحداثه بعده بدعة، ففي حديث عن أمير المؤمنين علي - عليه السلام - :
أنه جاءه رجل وسأله عن السنة والبدعة والجماعة والفرقة فقال :
السنة ما سنَّه رسول الله والبدعة ما أحدث بعده ، والجماعة أهل الحق وإن كانوا قليلاً والفرقة أهل الباطل وإن كانوا كثيراً .
وعليه فالبدعة ما كان على خلاف سنة الرسول بأي نحو من أنحاء المخالفة وكلها محرمة.
وفي حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
كل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها إلى النار(2).
وتتبع كل ما حُكم بكونه بدعة سنجده على خلاف السنة كتقديم خطبتي العيد على صلاتها ….. .
ان أي تغيير في العبادة بما جاء به الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - يعد بدعة وحراماً.
__________
(1) ان جميع ما سطر من كلام ورد شبهات في كتابي هذا على لسان السيد محمد العاملي الكاظمي ، جاء نتيجة طلب من الشيعة لبيان حكم الشهادة الثالثة بعد اشتهار فتوى آية الله محمد مهدي الخالصي في الشهادة الثالثة وعدها من البدع .
(2) الفصول المهمة في اصول الأئمة / الحر العاملي ص 203 – المؤلف ](169/6)
ففي الأذان مثلا إذا قدمت الشهادة في التوحيد على التكبير أو زيد التكبير أو نقص منه كان بدعة ولا يستلزم عدم التغيير إنكار ما غير فتقديم ( أشهد أن لا إله إلا الله ) على قول ( الله أكبر ) حرام وان قول (أشهد أن لا إله إلا الله ) ثلاث مرات مع أنه حرام لا يلزم منه إنكار التوحيد .
ومن ذلك حرمة قول ( أشهد أن علياً ولي الله ) في الأذان فهو حرام لعدم وروده عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أهل بيته - عليه السلام - .
وهو كما لو أضاف المؤذن أثناء الأذان سبحان الله ، أو لا حول ولا قوة ألا بالله مع شرعيتها خارج الأذان .
ولا يلزم من ذلك إنكار ولاية علي - عليه السلام - لأن ما لا يذكر في الأذان من وجوب الصلاة ، والصوم ، والإقرار بالميعاد ، وغير ذلك لا يستلزم إنكار الصلاة والصوم والميعاد ، بل الأذان محدود بحدود حددها الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما جاء به الوحي من رب العالمين ، ولا يجوز تعدي تلك الحدود حتى ولو كانت بكلمة حق ، لأن الفرائض والسنن جاءت محدودة عن الله تعالى وقام رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - بتنفيذها وتطبيقها وأمر أمته أن يعملوا بها ويسيروا على هداها ، ويسمعوا ويطيعوا.
فليس لأحد من علماء الدين وبقية المسلمين أن يزيدوا أو ينقصوا شيئاً من هذه الفرائض والأحكام ، لأنهم جميعهم مكلفون بالتنفيذ والتطبيق وأن التشريع من الله تعالى، وعلى الرسول التبليغ فالأحكام التي بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - بها أمته هي أحكام إلهية جاءت نصوصها في القرآن الكريم والسنة النبوية ولا يمكن تفسيرها أو تأويلها حسب الأهواء والرغبات.
ولا يجوز تحويرها وتحريفها في سبيل العنعنات والنزعات .
وليست هي قصائد شعرية ليجري عليها التشطير والتخميس .
وليست أحكام الإسلام وعلومه وفرائضه كالمستحضرات الطبية يضيف الطبيب اللاحق على ما استحضره الطبيب السابق .(169/7)
أو يرفع قسماً منها لغرض التقوية أو التخفيف من مفعولها .
أو إصلاح تلك المستحضرات حسبما يرتئيه هو .
ولا كالمخترعات الصناعية فيأتي المهندس اللاحق فيضيف إلى ما اخترعه المهندس السابق ويزيد وينقص حتى يوصل المخترع إلى درجة الكمال .
بل ان أحكام الشريعة الإسلامية جاءت محدودة بحدود لا يمكن أن يتعداها أحد، وأقيمت على قواعد لا يجوز تحويل قاعدة منها ولا إضافة قاعدة إليها ، ولنضرب على ذلك مثلا: فالأذان ، جاءت صيغته بعبارات محدودة معينة ، كبقية الأعمال والأحكام في العبادة ، فما زيد أو نقص منه كان بدعة وتشريعاً في الدين .
فالتشريع لا يجوز لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأتي بتشريع إلا بوحي من رب العالمين كما قال الله تعالى : { إن هو إلا وحي يوحى } (النجم /4) .
ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعين من بعده مشرعاً ، بل قال لا نبي بعدي .
حلال محمد حلال إلى يوم القيامة ، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة لأنه جاء بشريعة هي خاتمة الشرائع .
وكمل الله له الدين وأتم عليه نعمته فقال تعالى :
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً } (المائدة/3) . فالزيادة والنقصان في الأذان وغيره يعدان تشريعاً ، وما لم يشرع فهو بدعة… .انتهى(1) .
وقد أجمع فقهاء الشيعة الإمامية ، على أن كل زيادة أو نقصان في الأذان والإقامة (هو أمر مبتدع ) يؤدي إلى بطلانهما ويأثم من اعتقد جزئية تلك الزيادة واعتبرها فصلا فيهما ومن هذا المنطلق أجمع الفقهاء على أن الشهادة الثالثة ليست جزءاً من الأذان والإقامة .
__________
(1) الاعتصام بحبل الله / منشورات ديوان النشر والترجمة والتأليف التابع لجامعة مدينة العلم للإمام الخالصي الكبير في الكاظمية ص 17 – إصدار سنة 1955م - بتصرف ](169/8)
وهنا أهيب بالقارئ الكريم ان يراجع الكتب الفقهية سواء الاستدلالية منها أو الرسائل العملية ، فانه لا محالة سيجد أن كل من ذكر فصول الأذان والإقامة فانه لم يذكر فيهما الشهادة الثالثة بل وتجده قد صرح بعدم جزئيتهما فيهما وهذه جملة من الكتب القديمة والحديثة كمثال على هذه الحقيقة .
أقوال فقهاء الأمامية
1-شيخ الطائفة الطوسي :
قال : فأما ما روي من شواذ الأخبار من قول أن علياً ولي الله وآل محمد خير البرية فمما لا يجوز عليه في الأذان والإقامة فمن عمل به كان مخطئاً (1) .
وقال في المبسوط:
فأما قول اشهد ان علياً أمير المؤمنين وال محمد خير البرية على ما ورد في شواذ الأخبار فليس بمعمول عليه في الأذان ولو فعله الإنسان لم يأثم به ، غير انه ليس من فضيلة الأذان ولا كمال فصوله(2).
2-الشهيدان الأول والثاني :
جاء في اللمعة الدمشقية وشرحها للشهيدين الأول والثاني ما نصه:
لا يجوز اعتقاد شرعية غير هذه الفصول في الأذان والإقامة، كالشهادة بالولاية لعلي - عليه السلام - وأن محمداً وآله خير البرية أو خير البشر وإن كان الواقع كذلك فما كل واقع حقا يجوز إدخاله في العبادات الموظفة شرعا المحدودة من الله تعالى فيكون إدخال ذلك فيها بدعة وتشريعا ، كما لو زاد في الصلاة ركعة أو تشهداً ونحو ذلك من العبادات وبالجملة فذلك من أحكام الأيمان لا من فصول الأذان .
ويقول الشهيد الأول :
قال الصدوق ان ذلك من وضع المفوضة وهم طائفة من الغلاة (3).
3-المقدس الأردبيلي :
قال الاردبيلي ناقلاً كلام الصدوق :
__________
(1) النهاية في مجرد الفقه والفتاوى / الطوسي ص69 ]
(2) المبسوط / الطوسي ج1 ص99 ]
(3) مرجعية المرحلة وغبار التغيير / الشيخ جعفر الشاخوري ص 180 ] [ الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية / الشهيد الأول ج1ص573 باب الأذان والإقامة ](169/9)
وقال مصنف هذا الكتاب (رض) هذا هو الأذان الصحيح لا يزاد ولا ينقص منه ، والمفوضة لعنهم الله قد وضعوا أخباراً وزادوا في الأذان محمد وآل محمد خير البرية مرتين ، وفي بعض رواياتهم بعد أشهد أن محمدا رسول الله وأشهد أن علياً أمير المؤمنين حقاً مرتين.
ولا شك في أن عليا ولي الله وأنه أمير المؤمنين حقاً ، وأن محمداً وآله صلوات الله عليهم خير البرية ، ولكن ليس ذلك في أصل الأذان وإنما ذكرت ليعرف بهذه الزيادة المتهمون بالتفويض والمدلسون أنفسهم في جملتنا . ثم علق المقدس الأردبيلي على ذلك قائلاً :
فينبغي اتباعه لأنه الحق ولهذا يشنع على الثاني(1) بالتغيير في الأذان الذي كان في زمانه صلى الله عليه وسلم ، فلا ينبغي ارتكاب مثله مع التشنيع عليه (2).
4-محمد محسن الفيض الكاشاني :
وهو صاحب كتاب الوافي الذي يعتبر من الكتب المعتمدة عند الشيعة الأمامية ، وصاحب تفسير الصافي إذ قال :
في كتابه مفاتيح الشرائع في معرض تعداد ما يكره في الأذان والإقامة وكذا غير ذلك من الكلام ( يقصد أن علياً ولي الله ) وان كان حقا بل كان من أحكام الإيمان لأن ذلك مخالف للسنة فإن اعتقد شرعا فهو حرام(2) .
5-الشهيد الثاني :
__________
(1) يقصد بالثاني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث يزعم الشيعة أنه أضاف إلى الأذان عبارة الصلاة خير من النوم ] .
(2) [ مرجعية المرحلة وغبار التغيير / الشاخوري ص 180 ] [ مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان / المولى أحمد الأردبيلي ج2 ص181 ]
(2) مرجعية المرحلة وغبار التغيير / الشيخ جعفر الشاخوري ص 181 ] [ مفاتيح الشرائع /المولى محمد محسن الفيض الكاشاني ج1 ص 118 ](169/10)
فقد ذكر في كتابه مسالك الإفهام ، الذي هو شرح لكتاب شرائع الإسلام للمحقق الحلي ، بعد أن ذكر فصول الأذان والإقامة ولم يتعرض للشهادة الثالثة قال في جملة أحكامها معلقاً على حكم المحقق الحلي بكراهية قول التثويب في الأذان قال - أي الشهيد - :
بل الأصح التحريم لأن الأذان والإقامة سنتان متلقيات من الشرع كسائر العبادات والزيادة فيهما تشريع محرم كما يحرم زيادة ( محمد وآله خير البرية ) وإن كانوا عليهم السلام خير البرية ومنه يفهم حكم الشهادة الثالثة فإنها محرمة لأنها لم ترد في السنة (1).
6-الشيخ محمد جواد مغنية :
قال في كتابه فقه الإمام الصادق عرض واستدلال :
ثبت بالإجماع أن الإمام الصادق كان يؤذن هكذا 000 الله أكبر، الله أكبر … أشهد أن لا إله إلا الله … أشهد أن محمداً رسول الله … حي على الصلاة … حي على الفلاح… حي على خير العمل… الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله .
ثم ذكر الأذان دون ذكر الشهادة الثالثة .
إلى أن قال :
واتفقوا جميعاً - أي علماء الأمامية - على أن قول أشهد أن علياً ولي الله ليس من فصول الأذان وأجزائه ، وأن من أتى به بنية أنه من الأذان فقد أبدع في الدين وأدخل فيه ما هو خارج عنه.
وقال أيضاً :
ومن أحب أن يطلع على أقوال كبار العلماء وإنكارهم ذلك فعليه بالجزء الرابع من مستمسك الحكيم ( فصل الأذان والإقامة ) فإنه نقل منها طرفاً غير يسير .
ثم قال : ونكتفي نحن بما جاء في اللمعة الدمشقية وشرحها للشهيدين ، وهذا هو بنصه الحرفي :
__________
(1) الاعتصام بحبل الله / ص 48 ](169/11)
لا يجوز اعتقاد شرعية غير هذه الفصول في الأذان والإقامة، كالشهادة بالولاية لعلي - عليه السلام - وأن محمداً وآله خير البرية أو خير البشر وإن كان الواقع كذلك فما كل واقع حقا يجوز إدخاله في العبادات الموظفة شرعا المحدودة من الله تعالى فيكون إدخال ذلك فيها بدعة وتشريعا ، كما لو زاد في الصلاة ركعة أو تشهداً ونحو ذلك من العبادات وبالجملة فذلك من أحكام الأيمان لا من فصول الأذان ، قال الصدوق : ان ذلك من وضع المفوضة ، وهم طائفة من الغلاة (1).
7- السيد البروجردي :
قال في كتابه المسائل الفقهية بعد أن عدد فصول الأذان من غير ذكر للشهادة الثالثة ما نصه :
والشهادة بالولاية لعلي - عليه السلام - ليست جزءاً من الأذان ، ولكن لا بأس بالإتيان بها بقصد الرجحان في نفسها أو بعد الشهادة بالرسالة كأمر مستقل عن الأذان ، ويحرم الإتيان بها بقصد الجزئية من الأذان ، وكذا يحرم الأذان كله ويبطل لو قصد منها ومن باقي أجزاء الأذان أن الكل أذان أي قصد المجموع بما هو سواء كان القصد من أول الأذان أو في أثنائه(2) .
8-محمد حسين فضل الله :
يقول عن الشهادة الثالثة في الأذان :
إن الفقهاء أجمعوا على أنها ليست جزءاً من الأذان والإقامة، واعتقاد جزئيتها تشريع محرم ، وقد ذهب بعضهم إلى استحبابها في الأذان والإقامة ولكن لم يثبت عندي استحبابها غير أن قولها فيهما لا يوجب بطلانهما ، وإن كان الأحوط تركها في الإقامة لاحتمال كون الإقامة جزءاً من الصلاة مما يفرض أن يكون فيها كلام خارج عن الصلاة .
__________
(1) ففه الإمام الصادق / محمد جواد مغنية ج1 ص175 ]
(2) الاعتصام بحبل الله / ص49] [ المسائل الفقهية / البروجردي ج1ص385 ](169/12)
كما أنني لا أجد مصلحة شرعية في إدخال أي عنصر جديد في الصلاة في مقدماتها وأفعالها ، لأن ذلك قد يؤدي إلى مفاسد كثيرة ونحن نتفق مع الشهيد الثاني في قوله في معرض الرفض لإدخال الشهادة بالولاية لعلي- عليه السلام - في الأذان ، ( إن الشهادة لعلي بالولاية من حقائق الإيمان لا من فصول الأذان ) انتهى قول محمد حسين فضل الله (1).
عبر آية الله مرتضى العاملي عن رأي محمد حسين فضل الله بالشهادة الثالثة فقال :
انه يعتبر ان في قول (اشهد ان علياً ولي الله) في الإقامة مفاسد كثيرة، حيث يقول وهو يتحدث عنها :
لا أجد مصلحة شرعية في إدخال أي عنصر جديد في الصلاة ، في مقدماتها وأفعالها ، لان ذلك قد يؤدي إلى مفاسد كثيرة(2).
9-الشيخ محمد مهدي الخالصي :
نقل الشيخ همام الدباغ في كتابه الإمام المجاهد محمد مهدي الخالصي في الشهادة الثالثة بأنه :
كان يرى أن البدعة تبقى والاثم يقع سواء نوى صاحب الزيادة الجزئية أم لم ينو ، وأن النية هنا لا تغير من الموضوع شيئا ، كمن يصلي نافلة الصبح ثلاث ركعات مع النية بأن الركعة الثالثة ليست جزءاً من تلك الصلاة ، علماً بأن الصلاة والإقامة عبادة والعبادات في الإسلام توقيفية لا يجوز تعديها بزيادة أو نقصان .
لهذا كان يتوقف وينهى عن إضافة أي فصل أو ذكر أي جزء لم يرد به النص وأنه لا فرق في كون هذه الزيادة من الأمور الإعتقادية كالشهادة بالولاية لعلي أو غيرها لأن الأذان حكم شرعي لذاته .
__________
(1) المسائل الفقهية / محمد حسين فضل الله ج2 ص123 ]
(2) لماذا كتاب مأساة الزهراء / السيد جعفر مرتضى العاملي ص 76 ](169/13)
ولقد اشتبه على بعض العوام ، أو شبه عليهم ، بأن عدم ذكر شيء في الأذان يعني إنكاره أو رفض الاعتقاد به وإلا فإن كل مسلم يعتقد بالمعاد ، والحساب ، والعقاب ، والثواب ، والجنة ، والنار، وغيرها من العقائد فعدم ذكرها في الأذان والإقامة لا يعني أبداً إنكارها أو عدم الاعتقاد بها ، وكذلك كل مؤمن يعتقد بولاية الإمام علي - عليه السلام - ويشهد له بذلك وعدم الإتيان بتلك الشهادة فيهما لا يعني إنكار الولاية لعلي والواجب اتباع النص ولما لم يرد على الإتيان بهذه الشهادة نص في الأذان فلا يجوز الإتيان بها وإن كانت حقاً وعقيدة (1) .
ومما نقل عن محمد مهدي الخالصي وأبيه الإمام الخالصي الكبير:
ان علماء الشيعة الإمامية مجمعون من زمان أئمتهم المعصومين في أخبارهم المتواترة إلى هذا الزمان على تجريد الأذان من كلمة اشهد ان علياً ولي الله ولم يخالف فيه أحد ، ولم يتفرد به سماحة الإمام الخالصي وان الذين زادوا هذه الكلمة هم الغلاة والمفوضة لعنهم الله وان الإمام الخالصي كان يصرح بذلك في أيام شبابه حتى انه أذن يوماً في قبيلة ( آل أبو دراج ) .
وكان الإمام الخالصي الكبير الشيخ محمد مهدي الخالصي قدس سره يؤم الناس ، وذلك في أخريات الدولة العثمانية ، فاعترض رجل يظهر انه من شيخية البصرة فطرد ، ولما سأل القائد العام نوري الدين بك سماحة الإمام الخالصي أوضح له ان هذه الزيادة من بدع الغلاة وان علماء الإمامية مجمعون على ان جعلها جزءاً من الأذان حرام.
ولما كان سماحة الإمام الخالصي في إيران رفعها من الأذان ، ولما ورد سماحة الإمام الخالصي إلى العراق من إيران منعها في أول أذان أقيم له(2).
__________
(1) كتاب الإمام المجاهد محمد الخالصي / تأليف الشيخ همام الدباغ ص 95 ]
(2) الاعتصام بحبل الله / منشورات ديوان النشر والترجمة والتأليف التابع لجامعة مدينة العلم للإمام الخالصي الكبير في الكاظمية ص 17 ](169/14)
10- الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء :
نقل الشيخ محمد العاملي الكاظمي قول الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء في كتابه كشف الغطاء وهو من أكابر العلماء واليه تنتمي الأسرة الحاضرة المعروفة بآل كاشف الغطاء ، حيث قال في كتابه هذا عند ذكر الأذان ما نصه :
وليس من الأذان قول أشهد أن علياً ولي الله أو أن محمداً وآله خير البرية مرتين مرتين وأن علياً أمير المؤمنين حقا لأنه من وضع المفوضة لعنهم الله على ما قاله الصدوق :
إنما روي منه أن علياً ولي الله وأن محمداً وآله خير البشر أو البرية من شواذ الأخبار لا يعمل عليه .
وما في المبسوط من أن قول أشهد أن علياً أمير المؤمنين وآل محمد خير البرية من الشاذ لا يعول عليه .
وما في المنتهى ما روي من أن قول أن علياً ولي الله وآل محمد خير البرية من الأذان من الشاذ لا يعول عليه.
ثم ان خروجه من الأذان من المقطوع به بإجماع الأمامية من غير نكير حتى لم يذكره ذاكر بكتاب ولا قال به أحد من قدماء الأصحاب ولأنه وضع لشعائر الإسلام دون الإيمان ولذا ترك فيه ذكر باقي الأئمة - عليه السلام -.
ولان أمير المؤمنين - عليه السلام - حين نزوله كان رعية للنبي فلا يذكر على المنابر، ولأن ثبوت الوجوب للصلاة المأمور بها موقوف على التوحيد والنبوة فقط على انه لو كان ظاهرا في مبدأ الإسلام لكان في مبدأ النبوة من الفترة ما كان في الختام.
ومن حاول جعله من شعائر الإيمان ، فما لزم به لذلك يلزمه ذكر الأئمة عليهم السلام وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - مكرراً من الله في نصبه للخلافة والنبي يستعفى حذراً من المنافقين حتى جاء التشديد من رب العالمين ، ولأنه لو كان من فصول الأذان لنقل بالتواتر في هذا الزمان ولم يخف على أحد من آحاد نوع الإنسان وإنما هو من وضع المفوضة الكفار المستوجبين الخلود في النار .(169/15)
ولعل المفوضة أرادوا أن الله تعالى فوض الخلق إلى علي فساعده على الخلق فكان ولياً ومعيناً فمن أتى بذلك قاصداً به التأدين فقد شرع في الدين ، ومن قصده جزءاً من الأذان في الابتداء بطل أذانه بتمامه ، لكن صفة الولاية ليس لها مزيد شرفية لكثرة معانيها ، فلا امتياز لها إلا مع قرينة إرادة معنى التصرف والتسلط فيها كالاقتران مع الله ورسوله في الآية الكريمة ونحوه ، لأن جميع المؤمنين أولياء الله ، فلو بدل بالخليفة بلا فصل ، أو بقول أمير المؤمنين ، أو بقول حجة الله تعالى ، أو بقول أفضل الخلق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحوها كان أولى وأبعد عن توهم العوام أنه من فصول الأذان .
ثم قوله ان علياً ولي الله مع ترك لفظ أشهد أبعد عن الشبهة، ولو قيل بعد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله على محمد سيد المرسلين وخليفته بلا فصل علي ولي الله أمير المؤمنين لكان بعيداً عن الإيهام وأجمع لصفات التعظيم والاحترام(1).
11- كاظم اليزدي الطبطبائي :
قال في العروة الوثقى ما نصه : وأما الشهادة لعلي بالولاية وامرة المؤمنين فليست جزءا منهما - الأذان والإقامة - ولم يتعرض لاستحباب إكمال الشهادتين بالشهادة الثالثة ولم يذكر الشهادة الثالثة في الأذان ، وقد أمضى فتوى العروة الوثقى كل من :
1- السيد أبو الحسن الأصفهاني .
2- السيد ضياء الدين العراقي .
3- السيد الأغا حسين البروجردي .
4- السيد الأراكي .
5- السيد الخوئي .
6- السيد الكلبايكياني(2).
__________
(1) الاعتصام بحبل الله / ص50 – 52 ] [ كشف الغطاء / جعفر آل كاشف الغطاء ص227 ]
(2) الاعتصام بحبل الله / ص49] [ العروة الوثقى / كاظم اليزدي ج1 ص458 ](169/16)
12-هناك عدد كبير من المراجع والعلماء الكبار يحتاطون في الإقامة لشبهة أنها جزء من الصلاة كما أن سيرة العلماء الذين جاؤوا بعد الغيبة إلى عهود متأخرة على عدم الإتيان . وهذه بعض الرسائل العملية التي ذكرت الأذان والإقامة ولم تذكر الشهادة الثالثة جزءا منهما ، أو ذكر استحبابها كأمر مستقل خارج عنهما :
1- الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر في كتابه نجاة العباد .
2- محمد تقي الشيرازي في الرسالة المنطقية على فتواه .
3- مهدي الخالصي في الشريعة السمحاء ووافقه الشيخ محمد رضا آل ياسين .
4- السيد الحيدري في رسالته .
5- السيد حسن الصدر في كتاب المسائل المهمة .
6- السيد أحمد كاشف الغطاء في سفينة النجاة (1).
13- الحر العاملي في كتابه وسائل الشيعة :
فقد ذكر في كتابه وسائل الشيعة - وهو من كتب الحديث المعتمدة عند الشيعة الإمامية - (25) حديثاً عن أئمة أهل البيت عن كيفية الأذان والإقامة ولا يوجد في هذه الأحاديث أي ذكر للشهادة الثالثة(2).
14- العلامة الحلي :
في كتابه ( المختصر النافع ) :
يذكر الأذان والإقامة دون ذكر الشهادة الثالثة (3).
15- محمد باقر الصدر :
في كتابه ( الفتاوى الواضحة باب الأذان والإقامة ) :
يذكر الأذان الصحيح دون ذكر الشهادة الثالثة (4)4).
16- العلامة ابن إدريس :
في كتابه ( السرائر ) :
ذكر الأذان والإقامة ولم يذكر الشهادة الثالثة(5) .
17- العلامة المحقق :
في كتابه ( الشرائع ) :
ذكر الأذان والإقامة ولم يذكر الشهادة الثالثة(6) .
18- العلامة الحلي :
في كتابه ( التبصر ) :
__________
(1) الاعتصام بحبل الله / ص 48 ]
(2) وسائل الشيعة / الحر العاملي ج4 ص642 ]
(3) المختصر النافع / العلامة الحلي ص 53 ]
(4) الفتاوى الواضحة / محمد باقر الصدر ج1 ص385 ]
(5) [ السرائر / ابن إدريس ص136 ]
(6) [ الشرائع / المحقق الحلي ص 32 ](169/17)
ذكر الأذان والإقامة ولم يذكر الشهادة الثالثة(1) .
19- العلامة الحلي :
في كتابه منتهى المطلب قال :
وأما ما روي في الشاذ من قوله أن عليا ولي الله وأن محمدا خير البرية فمما لا يعول عليه ، قال الشيخ – الطوسي - في المبسوط : فإن فعله لم يكن آثما وقال في النهاية : كان مخطئا(2) .
20- محمد العاملي الكاظمي :
لقد وردت الأحاديث الكثيرة الصحيحة عن النبي من طريق أهل بيت العصمة ، في بيان فصول الأذان والإقامة ولم تذكر فيها الشهادة لعلي بالولاية وإمرة المؤمنين وكذا لأهل البيت عليهم السلام وأجمع على ذلك أهل الحديث وأصحاب الكتب الأربعة ، كتاب الكافي لشيخ المحدثين الكليني ، من لا يحضره الفقيه لرئيس المحدثين الصدوق، كتابي التهذيب والاستبصار لشيخ الطائفة ، وهذه الكتب عند الشيعة كالصحاح عند أهل السنة، وكذلك كتاب الوسائل للحر العاملي ، الذي هو الآن مرجع علماء الشيعة في استنباط الأحكام الشرعية فقد عقد باباً في بيان فصول الأذان والإقامة وجملة من أحكامها وروى في ذلك نحو من خمسة وعشرين حديثاً ولم يأت منها في ذكر الشهادة الثالثة(3) .
21- الشيخ عبد الجليل القزويني :
ان الشهادة الثالثة بدعة ، والاعتقاد بها معصية ، وان قائلها ملعون مغضوب عليه(4).
22-محمد محمد صادق الصدر :
قال عن الشهادة الثالثة :
ملخص الحال فيها إنها ليست جزءاً من الأذان ، ولم تكن موجودة في ردح طويل من عصر المعصومين .
__________
(1) كتاب التبصر / العلامة الحلي ص89 ]
(2) منتهى المطلب في تحقيق المذهب / العلامة الحلي ج 4ص 381]
(3) الاعتصام بحبل الله / ص 47 ]
(4) الشهادة الثالثة المقدسة / الشيخ عبد الحليم الغزي ص 89](169/18)
وان قصد الجزئية للأذان أو الإقامة أو لغيرها فهو كاذب على الله ورسوله ، وهو من التشريع المحرم كما انه ليس عليها ألان آية ولا رواية بعينها تدلنا على استحبابها، ومن الصحيح ان آذان بلال لم تكن فيه الشهادة الثالثة(1) .
23- محمد التيجاني السماوي :
قال في كتابه كل الحلول عند آل الرسول :
ان ما ينتقد عليه الشيعة اليوم هو زيادة جزء في الأذان والإقامة بقولهم:
( أشهد أن علياً ولي الله ) فهم مجمعون على أن ذلك ليس جزءاً من الأذان ولا جزءاً من الإقامة ، ولم يكن على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومجمعون أيضاً على القول بأنه يبطل الأذان والإقامة إذا قيل بنية الجزئية ، هذا ما يقوله علماء الشيعة ومراجعهم .
وما دام الحق هو رائدنا وقول الله ورسوله هو قولنا ورضاهما هو هدفنا ومبتغانا ، وما دمنا نواجه نقد بعض العلماء من إخواننا فلا بد أن نستحسن من غيرنا ما نستحسنه من أنفسنا وأن نستقبح منها ما نستقبحه من غيرنا .
وإذا كنا في ما سبق من أبحاث انتقدنا عمر بن الخطاب واستكثرنا عليه زيادته في الأذان فصل ( الصلاة خير من النوم ) وحذفه منه فصل ( حي على خير العمل ) .
وقلنا بأن ذلك باطل ولا يصح شرعاً لأنه بدعة لم تكن موجودة على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ولم نقتنع بقول ( أهل السنة والجماعة ) بأن ذلك يذكر استحباباً في صلاة الفجر فقط عندما يكون الإنسان في أعز نومه وألذ راحته فيقال له :
( الصلاة خير من النوم ) لحثه على القيام والإستعداد لاداء فريضة الصلاة مع العلم أنه كلام جميل يحاول تبرير المسألة والدفاع عنها.
غير أننا رفضناه لأن النصوص لا تخضع للآراء والأهواء وما تشتهيه الأنفس وقلنا :( ما لم يفعله رسول الله فهو بدعة )
وعلى هذا نقول للشيعة أيضاً نفس الكلام ونحتج عليهم بنفس الحجة فلا يمكن أن تكون الباء عندنا حرف جر وعند غيرنا همزة وصل !.
__________
(1) السفير الخامس / عباس الزيدي ص 287 – 290 ](169/19)
وعلى هذا نعترف بأن جزء ( أشهد أن علياً ولي الله ) هو زائد لأنه لم يقله رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ولم يأمر به ولم يفعله الأئمة الطاهرون من أهل البيت عليهم السلام .
ولو فعلوه أو أمروا به لوجدنا لذلك بعض المخارج والتعليلات، ولو فعلوه أو أمروا به لما جاز لعلماء الشيعة ومراجعهم أن يبطلوا الأذان والإقامة إّذا ذكر ذلك الفصل بنية الجزئية كما تقدم ذكره والإنصاف والعدل يقتضي منا أن نقول كلمة الحق ، لا أن نستنكر على ( أهل السنة ) بشيء ونأتي نحن مثله . { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب } (البقرة / 44) وقد قال لي قائل منهم : يا أخي لا تخلط بين (الصلاة خير من النوم ) وبين ( أشهد أن علياً ولي الله ) ! .
قلت : وما الفرق ؟ فالصلاة خير من النوم حقاً ، وعلي ولي الله حقاً ، ولكن هي أجزاء أُضيفت وما فعله رسول الله- صلى الله عليه وسلم - .
قال : ولكن ولاية الإمام علي نزل بها القرآن وأنت نفسك اعترفت بذلك في كتابك الأول ( ثم اهتديت ) . قلت : فاللوم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - الذي لم يجعلها في الأذان رغم نزول القرآن بها ، فليس كل ما نزل به القرآن يؤذن به للصلاة !!
وليس اعترافي أنا بنزولها في القرآن يكسبها شرعية الإضافة في الأذان والإقامة !.
فهل يصح أن يؤذن أحد بقوله مثلاً :
أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن آدم صفوة الله ، وأشهد أن نوحاً نبي الله ، وأشهد أن إبراهيم خليل الله ، وأشهد أن موسى كليم الله، وأشهد أن عيسى روح الله ، وأشهد أن محمداً حبيب الله ؟ فكل هذا صحيح لأنه نزل به القرآن .
ولكن لا يجوز لنا أن نؤذن به لأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - علمنا كيفية الأذان بالشهادتين فقط فقال ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله ، فعلينا أن نمتثل لقول الله تعالى :(169/20)
{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (الحشر / 7) .
صحيح أن بعض العلماء من الشيعة لا يذكرون في الأذان ولا في الإقامة بأن علياً ولي الله ، وقد صليت مع بعضهم ولم أسمعهم يذكرونه وقد يذكرون ذلك في قلوبهم فذاك أمر آخر.
ولكن هناك من الشيعة الذين يشككون في إخلاص وعقيدة من لا يذكر ذلك في الأذان والإقامة . اقتنع خصمي والحمد لله وإن صارحني بأنه لا يقدر على تركها لأن لسانه تعود على ذلك منذ نعومة أظافره .
أقول قولي هذا وأنا على يقين من أن بعض الشيعة سوف لا يعجبهم هذا، لأن الإنسان بطبعه عدو ما جهل ، ولأن رضى الناس غاية لا تدرك ….(1)(2)
__________
(1) كل الحلول عند آل الرسول / محمد التيجاني السماوي ص181 - 185 ]
(2) أثارت أقوال التيجاني هذه غضب علماء الشيعة :
قال السيد هاشم الهاشمي :
وقد لا يكون غريباً على ساحتنا ان تظهر عينات من قبيل موسى الموسوي، أو احمد الكاتب وإضرابهم من الشخصيات المغمورة التي تثير بين الحين والأخر شبهات الوهابية في قالب خاص .
كما لا نستبعد ان يطالب بعض المستبصرين وحديثي العهد بالتشيع–يقصد به التيجاني - في بعض مؤلفاتهم الأخيرة بإلغاء الشهادة الثالثة، والتخلي عن مظاهر العزاء الحسيني .
[ حوار مع فضل الله حول الزهراء / السيد هاشم الهاشمي ص 8 ]
ورد السؤال الأتي إلى السيد محمد محمد صادق الصدر :
في هذه الفترة نزل إلى الأسواق المؤلف الأخير( كل الحلول عند آل الرسول ) للدكتور التيجاني وقد تعرض المؤلف إلى الشهادة الثالثة وأنكرها باعتبارها من الزوائد على المذهب الذي يجب تنقيته من هكذا أمور فما رأي سماحتكم بذلك.
فأجاب السيد على هذا السؤال -وسيرد بنصه في نهاية الكتاب– بعد كلام ما يلي:
وأنا كنت أقول إلى وقت قريب بأننا لو عملنا للتيجاني تمثالاً من ذهب لكان قليلاً في حقه ولكنني أستطيع ألان ان اسحب هذه المبالغة من كلامي غفر الله لنا وله …. .
[ السفير الخامس / عباس الزيدي المياحي ص 289 ](169/21)
.
24 – الدكتور حسين المدرسي الطباطبائي :
قال : تغلغلت بعض أفكار وبدع المفوضة واتخذت لها مكاناً في نظام المذهب الشيعي ، وكمثال على ذلك : إضافة الشهادة الثالثة إلى الأذان ، وهي التي يصرح الشيخ الصدوق بانها من بدعهم وشعاراتهم ، والتي أصبحت شعاراً وتقليداً للشيعة بالرغم من اعتراض أو عدم موافقة الكثير من فقهاء الشيعة .
ثم قال محقق الكتاب الشيخ محمد سليمان :
يبدو ان إضافة الشهادة الثالثة لم تكن مذكورة في الأذان قبل ان يأمر بها الشاه إسماعيل الصفوي عام ( 907 هـ ) أما ما نقل التنوخي في نشوار المحاضرة :عن أبي الفرج الأصفهاني قوله ( سمعت رجلاً من القطعية يؤذن الله اكبر ، اشهد ان لا اله إلا الله، اشهد ان محمداً رسول الله ، اشهد ان علياً ولي الله ، محمد وعلي خير البشر فمن أبى فقد كفر ): فالظاهر انه يشير إلى هذا المسلك عند المفوضه ، والصدوق أيضاً ينسب لهم العبارة الثانية .
فقد قيل حينها : ان الشهادة هي سنة شيعية مهجورة منذ خمسة قرون، وبعد قرن من الزمان شاعت هذه الشهادة في الأذان لدرجة ان من لا يقولها يتهم بالتسنن ، حتى ان الفقهاء الذين يعترضون عليها من الناحية الفقهية اثروا السكوت والتقية خوفاً من سوء تفسير العوام لموقفهم ، ولكن بعد قرن آخر من الزمان عاد كثير من الشيعة إلى عدم ذكرها ، ربما بسبب تغير الظروف السياسية، ويذكر الميرزا محمد الإخباري في رسالته الشهادة بالولاية ان فقيه الشيعة الكبير الشيخ جعفر كاشف الغطاء أرسل إلى فتحلي شاه القاجاري يطلب منه منع الشهادة الثالثة في الأذان ، وفي النصف الثاني من نفس القرن حاول علماء الهند الشيعة ان يقنعوا الشيعة بحذفها إلا انهم فشلوا(1).
__________
(1) تطور المباني الفكرية للتشيع في القرون الثلاثة الأولى/ حسين المدرسي الطباطبائي ص 7 ](169/22)
ما تقدم هو استعراض يسير لبعض أقوال علماء الشيعة المنكرين للشهادة الثالثة في الأذان ، وان ما ذكرته هنا من أسماء هؤلاء الأعلام لم يكن على وجه التتبع والاستقصاء وانما هو بقدر ما سمح لنا الوقت به والمتابعة والبحث ، ولربما تركت أسماء آخرين لعدم توافر تمام كتبهم عندي .
أقول :
هلم معي أيها القارئ نسائل علماء الشيعة عن هذه الكتب التي نقلت منها أليست هي مراجع الشيعة ؟ أليس هؤلاء أعلامهم وأئمتهم؟ أليس من واجب الباحث ان يراجع تلكم الكتب ثم ينقض ويبرم ، ويزن ويرجح ؟ فالحق أحق ان يتبع .
وظهر لنا مما تقدم من أقوال ألائمة والعلماء أن الصيغة الصحيحة للأذان خالية من ذكر الشهادة الثالثة وهذه حقيقة خطيرة جداً حري بالشيعي أن يقف عندها طويلاً ليتأملها لأنها من الدين الذي سنسأل عنه يوم القيامة وهل اتبعنا فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - والأئمة أم تركنا هديهم ولسان حالنا يقول:
{ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } (الزخرف/ 23) .
سؤال وجواب
وقبل أن نختم هذا الفصل يجدر بنا أن نذكر سؤالاً مهماً ربما يجول في فكر القارئ بعد وقوفه على هذه الحقيقة الخطيرة وهو :
سؤال
إذا كانت صيغة الأذان الصحيحة الواردة عن الأئمة خالية من ذكر الشهادة الثالثة كما صرح بذلك العلماء فمن هو أول من فعل هذه البدعة بإدخال الشهادة الثالثة في الأذان ؟
الجواب(169/23)
الذي يجيبنا على هذا السؤال ويكشف لنا هذه الحقيقة الخطيرة هو رئيس المحدثين عند الشيعة الأمامية الذي يلقب بالصدوق(1) وهو ابن بابويه القمي فقد ذكر لنا رواية عن أبي عبد الله الصادق - عليه السلام - في كتابه ( فقيه من لا يحضره الفقيه ) يذكر فيها فصول الأذان فقال : روى أبو بكر الحضرمي وكليب الأسدي عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه حكى لهما الأذان فقال :
الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا اله إلا الله ، أشهد أن لا اله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح، حي على الفلاح ، حي على خير العمل ، حي على خير العمل ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا اله إلا الله ، لا اله إلا الله ، والإقامة كذلك .
ولا بأس أن يقال في صلاة الغداة على أثر حي على خير العمل،(الصلاة خير من النوم ) مرتين للتقية .
وقال مصنف هذا الكتاب - الشيخ الصدوق - ( هذا هو الأذان الصحيح لا يزاد فيه ولا ينقص منه ، والمفوضة(2)
__________
(1) أبو جعفر محمد بن علي بن الحسن بن موسى بن بابوية القمي المعروف (بالصدوق) المتوفى سنة 381 هـ ومن مؤلفاته : من لا يحضره الفقيه، الخصال ، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال ، أمالي الصدوق ، علل الشرائع، إكمال الدين ، عيون أخبار الرضا ، معاني الأخبار ، صفات الشيعة وفضائل الشيعة .
(2) المفوضة : فرقة ضالة قالت بأن الله خلق محمداً صلى الله عليه وسلم وفوض إليه خلق الدنيا فهو خلق الخلائق ، وقيل : بل فوض ذلك إلى علي - عليه السلام - .
عن أبي هاشم الجعفري قال : سألت أبا الحسن الرضا - عليه السلام - عن الغلاة والمفوضة فقال :
الغلاة كفار والمفوضة مشركون من جالسهم ، أو خالطهم ، أو واكلهم أو واصلهم ، أو زوجهم ، أو تزوج إليهم ، أو أمنهم ، أو ائتمنهم على أمانة، أو صدق حديثهم ، أو أعانهم بشطر كلمة ، خرج من ولاية الله عز وجل وولاية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وولايتنا أهل البيت.
[ البحار / المجلسي ج 25 ص 272 ح 19 ]
تأمل أخي القارئ قول الرضا :
[ من شاطرهم بشطر كلمة خرج من ولاية الله عز وجل وولاية الرسول ] وقارنه بفعل الشيعة اليوم ، فستجدهم قد أعانوهم وشاطروهم بجملة كاملة وليس بشطر كلمة ، فالأمر جد خطير والاثم عظيم بحق من أدخل الشهادة الثالثة في الأذان .(169/24)
لعنهم الله قد وضعوا أخباراً وزادوا في الأذان ( محمد وآل محمد خير البرية ) مرتين ، وفي بعض رواياتهم بعد أشهد أن محمد رسول الله ( أشهد أن عليا ولي الله ) مرتين، ومنهم من روى بدل ذلك ( أشهد أن عليا أمير المؤمنين حقا ) مرتين .
ولا شك في أن عليا ولي الله وأنه أمير المؤمنين حقاً وأن محمداً وآله صلوات الله عليهم خير البرية ، ولكن ليس ذلك في أصل الأذان، وإنما ذكر ذلك ليعرف بهذه الزيادة المتهمون بالتفويض ، المدلسون أنفسهم في جملتنا.(1)(2)
اذن هذه هي الحقيقة الخطيرة التي كشفها لنا الصدوق في تحديد أول من فعل هذه البدعة وهم المفوضة الغلاة . ونظراً لتقدم الصدوق ووثاقته عد كلامه هذا أصلاً يرجع إليه ولذلك ذكره جمله من العلماء الاعلام كالحر العاملي في الوسائل ، والشيخ محمد حسن في الجواهر، والحكيم في مستمسك العروة وأشار إليه الشهيد الثاني وكاشف الغطاء.
وهكذا ومن ثنايا هذا العرض المبسط ظهر لك خطورة الابتداع في الدين بإدخال ما ليس منه فيه ، فان لم يكن بعقلك باس فستسلم معي ان الأذان بصورته التي ينادى به ألان في الحسينيات إنما هو أذان مبتدع لم يقل به السلف من الرسول وال بيته ، وإذا لم تكن عزيزي القارىء الشيعي قد خسرت نفسك وبقي فيها مكان للأنصاف وشعور بحب السلامة فعليك ان تعترف بالداء لتبحث عن الدواء ، ولا داء إلا ما نزل بالعقول من الجهالة، وران على القلوب من الضلالة .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } (ق/37) .
__________
(1) من لا يحضره الفقيه / الصدوق ج1 ص 203 ]
(2) قال المامقاني :
ان ما يعتبر غلواً عند الشيعة الماضين اصبح اليوم من ضروريات المذهب.
[ تنقيح المقال / المامقاني ج3 ص 23 ](169/25)
الفصل الثاني
تبريرات العلماء على
إدخال الشهادة الثالثة ودحضها من قبل
الكاظمي
البدعة وآثارها الموبقة
لما كان موضوع الابتداع في الدين ذا اثر سيء على الفرد والجماعة في المجتمع المسلم أحببنا هنا ان نقدم بين يدي البحث مقدمة في بيان البدعة وأثرها عند الشيعة لان الغرض من كل ذلك تهيئة الأفكار إلى قبول ما سوف نعرضه عليها من حقائق الدين .
فالابتداع هو الوليد الشرعي للجهل ولولا الأخير ما حيي له عود ولولا العادة ما امتد له عرق فالابتداع شجرة خبيثة ثراها الجهالة وسقياها الخيال وعراقتها الاعتياد فحذار – أيها الشيعي – من الابتداع في الدين فان ذلك محرم بكلام الله وكلام رسوله وكلام الأئمة من بعده.
التحذير من البدعة كما جاء في روايات النبي - صلى الله عليه وسلم - والأئمة :
1- روى الكليني عن محمد بن جمهور رفعه قال : قال رسول الله :
إذا ظهرت البدعة في أُمتي فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله.
2- وبهذا الإسناد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
من أتى ذا بدعة فعظمه فإنما يسعى في هدم الإسلام.
3- وبهذا الإسناد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
أبى الله لصاحب البدعة بالتوبة .
قيل : يا رسول الله وكيف ذلك ؟ قال : إنه أُشرب في قلبه حبها.
4- روى عمر بن يزيد عن الإمام الصادق- عليه السلام - أنه قال :
لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المرء على دين خليله وقرينه(1).
5- وروى داود بن سرحان عن الإمام الصادق ، قال :
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم ، وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيع،…(2).
__________
(1) الكافي / الكليني ج2 ص 375 ]
(2) الكافي / الكليني ج2 ص 375 ](170/1)
وعنه - صلى الله عليه وسلم - قال : أدنى الشرك ان يبتدع الرجل راياً فيحب عليه ويبغض عليه(1) .
6- قال أمير المؤمنين - عليه السلام - :
ما اختلفت دعوتان إلا كانت إحداهما ضلالة(2).
7- وقال أيضاً - عليه السلام - :
ما أًحدث بدعة الا ترك سنة فاتقوا البدع وألزموا المهيع إن عوازم الامور أفضلها وإن محدثاتها شرارها(3).
8- وقال الصادق - عليه السلام - : من تبسم في وجه مبتدع فقد أعان على هدم دينه(4).
9- وقال أيضاً :
من مشى إلى صاحب بدعة فوقره فقد مشى في هدم الإسلام(5).
10- روي مرفوعاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :
عليكم بسنة ، فعمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة(6).
11- وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أبى الله لصاحب البدعة بالتوبة(7) .
...
البدعة في أقوال علماء الإمامية
1- قال السيد المرتضى : البدعة :
الزيادة في الدين أو نقصان منه من إسناد إلى الدين(8).
2- قال العلامة في المختلف :
كل موضع لم يشرع فيه الأذان فإنه يكون بدعة(9).
3- قال الطريحي : البدعة :
الحدث في الدين وما ليس له أصل في كتاب ولا سنة ، وإنما سميت بدعة لأن قائلها ابتدع هو ، والبِدَع - بالكسر والفتح - جمع بدعة ومنه الحديث : ( من توضأ ثلاثاً فقد أبدع ) أي فعل خلاف السنة لأن ما لم يكن في زمنه- صلى الله عليه وسلم - فهو بدعة(10) .
4 - وقال المجلسي : البدعة في الشرع :
__________
(1) ثواب الأعمال / الصدوق ص 304 ]
(2) البحار / المجلسي ج2 ص 264 ح 14 ]
(3) البحار / المجلسي ج2 ص 264 ح 15 ]
(4) البحار / المجلسي ج4 ص 23 الطبعة القديمة ]
(5) البحار / المجلسي ج2 ص 30 ... 4 ح 45 ]
(6) البحار / المجلسي ج2 ص 261 ح 3 ]
(7) علل الشرائع / الصدوق ص 492 ]
(8) الشريف المرتضى / الرسائل ج3 ص 83 ]
(9) العلامة الحلي / المختلف ج2 ص131 ]
(10) الطريحي النجفي / مجمع البحرين ج1 مادة بدع ](170/2)
ما حدث بعد الرسول- صلى الله عليه وسلم - ولم يرد فيه نص ، وما يفعل منها على وجه العموم إذا قصد كونها مطلوبة على الخصوص كان بدعة، كما أن الصلاة خير موضوع ويستحب فعلها في كل وقت ، ولو عين ركعات مخصوصة على وجه الخصوص في وقت معين صارت بدعة ، وكما إذا عين أحد سبعين تهليله في وقت مخصوص على أنها مطلوبة للشارع في خصوص هذا الوقت بلا نص ورد فيها كانت بدعة ، وبالجملة إحداث أمر في الشريعة لم يرد فيها نص بدعة سواء كانت أصلها مبتدعة أو خصوصيتها مبتدعة، ثم ذكر كلام الشهيد عن قواعده(1).
5- وقال المحدث البحراني :
الظاهر المتبادر من البدعة لا سيما بالنسبة إلى العبادات إنما هو المحرم، ولما رواه الشيخ الطوسي عن زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل عن الصادقين - عليه السلام - :
ان كل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها النار(2).
6- وقال المحقق الاشتياني : البدعة :
إدخال ما علم أنه ليس من الدين في الدين ولكن يفعله بأنه أمر به الشارع(3).
وقال أيضاً : البدعة : إدخال ما لم يعلم أنه من الدين في الدين(4).
7- وقال السيد محسن الأمين : البدعة :
إدخال ما ليس من الدين في الدين كإباحة محرم أو تحريم مباح، أو إيجاب ما ليس بواجب أو ندبة ، أو نحو ذلك(5)4) .
أقول :
يقيناً انك – عزيزي الشيعي – تحب لنفسك النجاة يوم لا ينفع مال ولا بنون ، ويقيناً انك لن تحقق ما تحبه إلا بنبذك للبدع واتباعك للكتاب والسنة ، وسلوكك لطريقهما، أما ان تسلك طريق المفوضة والمبتدعه فجزماً انك لن تصل إلى هدفك وليس دعواك بأنك مؤمن وبأنك محب لأهل البيت بكافية لتحقيق ما تصبو إليه ، فالإيمان ليس بالتمني ولكن هو بالتحلي .
__________
(1) المجلسي / البحار ج74 ص202-203 ]
(2) الحدائق / يوسف البحراني ج10 ص180 ]
(3) فرائد الأصول / المحقق النائيني ج2 ص 130 ]
(4) نفس المصدر ]
(5) كشف الارتياب / الأمين العاملي ص143 ](170/3)
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ان السفينة لا تجري على اليبس
فالبدار البدار قبل ان يكون لسان مقالك يوم المعاد .
{ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } (المؤمنون:99 - 100).
تبريرات واهية
ذكرنا فيما تقدم من كلام عدم شرعية الشهادة الثالثة ، وعدم جزئيتها في الأذان ودللنا على ذلك بما أوردناه من مرويات الأئمة فضلاً عن أقوال الفقهاء المجمعة على القول بعدم شرعيتها وأنها من فعل المفوضة الغلاة الملعونين ، وسنتطرق في هذا الفصل لبعض التبريرات الواهية التي حاولت ان تجمل ما يفعله الشيعة اليوم من إدخال ألفاظ وأقوال ومنها الشهادة الثالثة – إلى الأذان – وان تجد لذلك مخارجاً وحيلاً تسوغ لهم هذا الفعل وسوف نقف بك أيها القارئ عند جملة من تلك التبريرات مع ما ينقضها بلسان عالم شيعي ، وكفى الله المؤمنين القتال.
فقد حدد السيد ( محمد العاملي الكاظمي) في كتاب الاعتصام بحبل الله بعضاً من تلك التبريرات وتعرض لبطلانها فقال :
1ـ التبرير الأول / التسامح بذكرها في الأذان والإقامة :
بعد أن قام إجماع العلماء على عدم جزئية الشهادة الثالثة فيهما، قال بعضهم أنه لا حرج في ذكرها مع عدم قصد جزئيتها وهذا القول لمثل الشهيد الثاني في ( شرح اللمعة ص60 ) قال في هذا الكتاب ما نصهً .(170/4)
ولا تجوز اعتقاد شرعية غير هذه الفصول في الأذان والإقامة والتشهد بالولاية لعلي وأن محمداً وآله خير البرية أو خير البشر، وإن كان الواقع كذلك فما كل واقع حقاً يجوز إدخاله في العبادات الموظفة شرعاً المحدودة من الله تعالى ، فيكون إدخال ذلك فيها بدعة وتشريعاً كما لو زاد في الصلاة ركعة أو تشهداً ونحو ذلك من العبادات وبالجملة فذلك من أحكام الإيمان لا من فصول الأذان.
قال الشهيد الثاني : قال الصدوق :
إن إدخال ذلك فيه من وضع المفوضة وهم طائفة من الغلاة ولو فعل هذه الزيادة أو أحدها بنية أنه منه أثم في اعتقاده - انتهى كلامه.
ثم يعلق الشيخ على هذا القول :
وهو وإن أفتى بأنه لا حرج في إتيانها مع عدم اعتقاد جزئيتها وأنه لا يبطل الأذان بها ، لكن هذا لا يفيد الملتزمين بها المصرين عليها لأن التزامهم وإصرارهم دليل على أنهم اعتقدوا أن بها خصوصية ومزية لا يقدرون على تركها ، فهل أنهم أدركوا ما لم يدركه الشارع المقدس فالتزموا بما لم يأمر به أعوذ بالله من هذا الهوى المتبع . انتهى(1) .
2-التبرير الثاني / القول باستحباب الشهادة الثالثة :
قال بعض المتأخرين من العلماء باستحباب إكمال الشهادتين بالشهادة لعلي بالولاية أو إمرة المؤمنين ( والشهادتان هما الشهادة لله بالوحدانية وللرسول بالرسالة ) وهذا لا علاقة له في فصول الأذان والإقامة باعترافهم فهو أمر خارج عنهما ، وقالوا ان الأذان والإقامة أحد موارد هذا الاستحباب والذي يظهر أنهم تكلفوا هذه الفتوى وتكلفوا دليلها لما رأوا من التزام العوام بهذه الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة ولم نعرف قائلاً بهذا الاستحباب من المتقدمين ، واستدل لمن قال بهذا الاستحباب بخبر لا يقوم به حجة على المدعي وهو الخبر المروي في الاحتجاج للطبرسي .
عن الإمام الصادق - عليه السلام - :
__________
(1) الاعتصام بحبل الله / ص 50 – 52 ] .(170/5)
إذا قال أحدكم لا إله إلا الله محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليقل علي أمير المؤمنين .
يقول الشيخ معلقاً على هذا القول :
أولاً :
لو سلمنا هذا الاستحباب لكان اللازم الاقتصار على مورد النص وهو قول علي أمير المؤمنين في مورد قال فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وأين هذا من قول أشهد أن علياً ولي الله وأولاده المعصومين أولياء الله أو حجج الله ونحو ذلك من الأقوال بعد ذكر الشهادتين في الأذان والإقامة ؟ أنظر إلى الهوى كيف لا يقر له قرار فهو مضطرب لأنه لم يستند إلى ركن وثيق وأهله مضطربون لا قرار لهم وهذا شأن كل ذي هوى .
{ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ } (قّ:5)
ثانياً :
إن من قال بهذا الاستحباب ( إكمال الشهادتين بالشهادة لعلي - عليه السلام - ) ما يمنعه من أن يعمل به في تشهد الصلاة ، لأن فيه ذكر الشهادتين فيستحب على رأيه إكمالهما بالشهادة لعلي- عليه السلام - فيقول في تشهده ( أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأشهد أن علياً ولي الله أو أمير المؤمنين ).
{ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض } (البقرة/85)
ثالثاً :
يكفي من قال بهذا الاستحباب أن يأتي بالمستحب وهو قول ( علي ولي الله أو أمير المؤمنين ) مرة واحدة فلماذا يؤتى بها مرتين على منهاج فصول الأذان في التعداد والكيفية فما الذي حملهم على ذلك ؟ نعم حملهم على ذلك اتباع الهوى والشهوات وتنفيذ الرغبات لا تنفيذ أمر الله أعوذ بالله من الزيغ .
رابعاً :
إن عملهم هذا في الأذان والإقامة على خلاف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والأئمة عليهم السلام إذ لم يعهد منهم عمل ذلك فالقول باستحبابه هو جرأة عليهم وطعن بهم ولو كان مستحبا ما تركوه(1) . انتهى .
__________
(1) الاعتصام بحبل الله / ص 53 - 55 ] .(170/6)
أقول:
عندما نتكلم عن الإتيان بالشهادة الثالثة بقصد الجزئية المستحبة-والاستحباب حكم من الأحكام الشرعية - لابد والحالة هذه ان يكون للمفتي دليله على الفتوى بالاستحباب ، وإلا لكانت فتواه تقولاً على الله بلا علم والله سبحانه وتعالى يقول :
{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } (الحاقة:44- 46) ، وقال تعالى :
{ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } ( الإسراء: من الآية36).
فضلا عن خصوصية الأذان وكون الأذان توقيفياً .
ففي مسألتنا مشكلتان يجب حلهما :
المشكلة الأولى:
إن المؤذن القائل بالشهادة الثالثة في الأذان بقصد الجزئية المستحبة، يحتاج إلى دليل قائم على الاستحباب ، وإلا ففتواه بالاستحباب أو عمله هذا يكون محرماً ، لأنها ستكون دعوى بلا دليل ، والشاعر يقول :
والدعاوى ان لم تقيموا ** عليها بينات فأبناؤها أدعياء
وسيكون حالها كسائر المستحبات في غير الأذان ، فكما لو أن مفتياً أفتى باستحباب شيء بلا دليل وهذا لا يجوز فكذلك لا يجوز القول باستحباب النطق بالشهادة الثالثة لأنها أيضاً بلا دليل.
المشكلة الثانية :
تكمن في خصوص الأذان ، إذ ان الأذان هو أمر توقيفي فزيادة شيء فيه أو إنقاص شيء منه هو تصرف في الشريعة، وهذا الفعل بدعة ، فيلزم على القائل بالجزئية الاستحبابية أو المستحبة إقامة الدليل والا وصم بالابتداع .
4- التبرير الثالث / إنها رمز للتشيع :
قد أدى قول بعض متأخري فقهاء الإمامية في جواز الإتيان بالشهادة الثالثة في الأذان إلى حدوث منازعات ومهاترات كلامية بينهم وبين القائلين بعدمها ممن ساروا على نهج الفقهاء المتقدمين الذين كانوا يرون عدم شرعية التلفظ بهذه الزيادات وعد قائليها من المفوضة الملعونين على لسان الأئمة والفقهاء المتقدمين .(170/7)
ولعل ما سطره محمد العاملي الكاظمي في كتاب ( الاعتصام بحبل الله ) من ردود ومناقشات رد فيها على السيد محسن الحكيم نيابة عن شيخه آية الله محمد مهدي الخالصي ما يرسم لنا صورة واضحة لذلك الواقع المعاش في زوايا الحوزات والمنتديات الشيعية، حيث قال :
وسيأتي قريباً ما سأكتبه في تزييف فتوى الحكيم في هذا المقام وأنا تلميذ الخالصي بل اقل تلامذته ليعرف من ذلك مقام الحكيم في الفتيا واستنباط الأحكام الشرعية .
فرد على فتوى الحكيم من عشرين وجها ، ولا ادري لو رد آية الله الخالصي بنفسه على هذه الفتاوى فكيف سوف يكون الرد؟ ومن كم وجه؟
فهذا يعكس صورة جلية واضحة لما أشرنا إليه من خلاف، وتمزق، وتشرذم ، بين فقهاء الإمامية في هذه المسألة.
لقد ساق الكاظمي في كتابه المذكور أنفاً سؤالين وردا إلى الحكيم حول الشهادة الثالثة ومدى شرعيتها وقد أجاب عنهما الأخير جواباً لم يشف غليل الكاظمي ولم يرو ظمأه فكر عليهما مذيلاً إياهما بالردود الناقضة لهما واليك نص السؤالين كما أوردهما الكاظمي مع الرد.
الفتوى الأولى
سؤال
سماحة حجة الإسلام والمسلمين الإمام السيد محسن الحكيم حفظه الله، ما يقول سماحة مولانا أدام الله ظله على الإسلام والمسلمين في الشهادة الثالثة في الأذان بصورة متصلة وأجركم على المولى جل علا . ( قاسم سالم البياتي 12 رمضان 1374هـ ) .
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد :(170/8)
الشهادة الأولى لله تعالى بالوحدانية ، والشهادة الثانية الشهادة للنبي بالرسالة، والشهادة الثالثة الشهادة لعلي عليه السلام بالولاية ، وهذه الشهادة الثالثة يستحب ضمها إلى الشهادتين في كل مورد جيء بهما في الأذان وغيره من الموارد عدا الصلاة، وقد واظب عليها الشيعة في الأذان مواظبة تامة حتى صارت رمزا إلى التشيع ، بحيث يكون الأذان الخالي منها دليلاً على كون المؤذن من أبناء السنة ، والذي يأتي بها في الأذان لا يأتي بها بعنوان الجزئية من الأذان وإنما يأتي بها بعنوان الاستحباب ، لما ذكرنا أنه يستحب ضمها إلى الشهادة للنبي بالرسالة ولأجل ذلك لا تكون بدعة ولا ضلالة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . ( السيد محسن الحكيم الطباطبائي) .
الفتوى الثانية
سؤال
بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد وحده سماحة حجة الإسلام السيد محسن الحكيم حفظه الله .
تفضلتم فأجبتم على استفتاء للأخ قاسم سالم البياتي حول الشهادة الثالثة وقد جاء :
( وهذه الشهادة الثالثة يستحب ضمها إلى الشهادتين في كل مورد جيء بهما في الأذان وغيره من الموارد عدا الصلاة 000) أفتونا مأجورين حفظكم الله .
1- عن سبب ودليل استحباب ذكرها في أذان الصلاة عدا كونها شعاراً للشيعة دون السنة.
2- سبب عدم استحبابها بعد الشهادتين في التشهد في الصلاة إذا أردتم بقولكم عدا الصلاة أي عدا التشهد في الصلاة .
3- وهل هناك من يقول بالشهادة الثالثة في التشهد عند الصلاة فقد التبس علينا فهم ( عدا الصلاة ) معنى ، وعلة ، ودليل .
أرجو التفضل بالجواب ولكم الأجر والثواب والداعي لكم بالخير.
( السيد مهدي العطار 26 رمضان سنة 1374 )
الجواب
بسم الله تعالى :
1- الدليل الرواية التي رواها الطبرسي في الاحتجاج الكتاب المشهور المسمى باحتجاج الطبرسي ، وهي رواية القاسم بن معاوية عن الصادق - عليه السلام -:(170/9)
((إذا قال أحدكم لا إله إلا الله محمد رسول فليقل علي أمير المؤمنين))
وهذه الرواية لا تختص بالأذان وقد فهم منها أن المراد الإعلان منصب أمير المؤمنين- عليه السلام - سواء كان بهذا اللفظ أو بمثل علي ولي الله أو علي حجة الله أو نحو ذلك.
2- السبب أن هذا القول من كلام الآدميين فلا يجوز في الصلاة، وربما يرى بعض العلماء أن هذا القول من الذكر مثل لا الله إلا الله فلا يضر في الصلاة لكن هذا الرأي ضعيف .
3- قد سبق في الجواب السابق أن بعض العلماء يرى أن قول علي ولي الله أو علي أمير المؤمنين من قبيل الذكر فلا يضر وقوعه في أثناء الصلاة ، والأظهر أنه ليس من الذكر فلا يجوز وقوعه في الصلاة والله سبحانه العالم العاصم وهو حسبنا ونعم الوكيل .
ردود محمد العاملي الكاظمي على فتاوى محسن الحكيم
وهنا يرد الشيخ الكاظمي على فتاوى محسن الحكيم ويفندها من عشرين وجهاً فيقول :
المناقشة
إننا لا نبغي من وراء مناقشتنا هذه إلا أن نرى الحق حقاً فنتبعه والباطل باطلاً فنجتنبه ونشهد الله على ذلك فنذكر الأمور التالية :
أولاً :
إن خلو الأذان من كلمة (( أشهد أن علياً ولي الله )) وأمثالها من ضروريات الدين ومنكر ضروري الدين كافر بإجماع المسلمين ومخالفه فاسق .
وقولنا ضروري من ضروريات الدين يدل عليه خلو أحاديث الأذان المتواترة من طرق الشيعة ، ومن طرق أهل السنة من هذه الكلمة وهذه الأحاديث كلها دليل قاطع على عدم جواز الإتيان بها في الأذان لأن الأذان عبادة والعبادة توقيفية وكل عبادة لم يرد بها نص فهي حرام وبدعة .
ثانياً :
إن العلماء أطبقوا من صدر الإسلام إلى اليوم على أن هذه الشهادة الثالثة ليست جزءاً من الأذان ، ومنهم السيد الحكيم فإن السيد اليزدي في العروة الوثقى بعد ذكر الأذان قال :
وأما الشهادة لعلي بالولاية وإمرة المؤمنين فليست جزءاً منهما.
فعلق السيد الحكيم عليها بقوله :(170/10)
بلا خلاف ولا إشكال .
واعترف بذلك أن الشهادة الثالثة ليست جزءاً ، ونقل عدم الخلاف من العلماء في ذلك .
فإذا قامت ضرورة الدين وعلم أطباق العلماء على عدم الجزئية فأي دليل يدل على جواز إتيانها لا بقصد الجزئية أو استحبابه أنبي جاء بعد النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - فأوحي إليه ما لم يوح إلى خاتم النبيين.
نعوذ بالله من هذا الضلال المبين .
ثالثاً :
قال السيد الحكيم في جواب السؤال الأول ( وقد واظب عليها الشيعة مواظبة تامة حتى صارت رمزا للتشيع )
وهذا القول تخرص في مقابل النص ، لأن علماء الشيعة جميعا صرحوا بأنها ليست من الأذان فكيف يواظبون مواظبة تامة على ذكر ما ليس من الأذان في الأذان وكيف يكون رمزا للتشيع ما أنكروه ونفوه ، أعوذ بالله أن يكون ما لم يأذن به النبي رمزا للشيعة .
{ قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } (يونس / 59) .
رابعاً :
ذكر الفقهاء وعلماء الأصول أن الدليل الشرعي هو الكتاب والسنة وزاد بعض الأصوليين دليل العقل والإجماع .
والسيد الحكيم زاد دليلاً خامساً هو رمز التشيع .
أهكذا تستنبط الأحكام الشرعية ؟!
خامساً :
كيف يرضى الحكيم بعد إقراره أن ( الشهادة الثالثة ) لم تكن في زمان النبي أن تكون رمزا للشيعة ، فيعترف بأن رمز الشيعة ما لم يجيء به النبي ويصدق تهمة النواصب للشيعة بأنهم مبتدعون مخالفون للنبي، ونحن نصرح بالحق والحقيقة هي أن علماء الشيعة يستحيل أن يخالفوا النبي في فتوى فضلاً عن أن تكون مخالفة النبي رمزا لهم وأن هذه البدعة من مختصات المفوضة ، والشيخية مفوضة هذا العصر.
سادساً :
إن الصدوق ( قدس سره ) وهو شيخ علماء الشيعة منذ ألف سنة تقريبا وكتابه ( من لا يحضره الفقيه ) أحد الكتب الأربعة التي يرجع إليها الشيعة في استنباط الأحكام ونقل الأحاديث وهو (( كالبخاري عند أهل السنة )) .(170/11)
يصرح في كتابه هذا بأن الشهادة الثالثة من وضع المفوضة لعنهم الله والمفوضة كما يعلمه كل أحد أصروا على مذهبهم في هذا الزمان، ويسمون اليوم باسم الشيخية.
ومع تصريح الصدوق كيف يركن إلى قول السيد الحكيم إنها رمز للشيعة وهو يعترف أن الصدوق أقرب إلى زمن الأئمة وأعرف بمذهب أهل البيت منه ومن جميع علماء هذا العصر .
سابعاً :
استند السيد الحكيم في فتواه إلى احتجاج الطبرسي ، وأصغر المحصلين من أهل العلم يعلم أن احتجاج الطبرسي لم يكن مرجعاً في الفتاوى الشرعية لأن أكثر أخباره مراسيل عارية من السند كما اعترف هو به في صدر كتابه .
ثامناً :
لا يشتبه على أصاغر طلاب العلوم الدينية أن احتجاج الطبرسي لا يقابل بكتاب الفقيه للصدوق لأن كتاب الصدوق هو المرجع في الفقه فكيف يستند إليه الحكيم ويترك كتاب الفقيه .
تاسعاً :
الخبر الذي استند إليه لم يروه غير الاحتجاج وقد رواه مرسلا وعبارته هكذا :
روى القاسم بن معاوية قال : قلت لأبي عبد الله …الخ .
وبين الطبرسي صاحب الاحتجاج والصادق - عليه السلام - 432 سنة لأن وفاة الصادق - عليه السلام - كانت سنة (150 هـ ) ووفاة الطبرسي كانت سنة (588هـ ) فكيف يستند إليه السيد الحكيم في قبال ضرورة الدين .
عاشراً :
إن القاسم بن معاوية لا يوجد له اسم في كتب الرجال ولا في كتب الفقه إلا في كتاب احتجاج الطبرسي فلم يعرف حاله ومن هو ولو أرانا السيد الحكيم في كتب الرجال أو الفقه راويا يسمى القاسم بن معاوية أسلمنا له قوله فكيف يعتمد على راو مجهول في قبال الأحاديث المتواترة وإجماع المسلمين وضرورة الدين ، ولا يصح للسيد الحكيم أن يقول أنه يوجد في الرواة ( القاسم بن يزيد بن معاوية العجلي ) فإن القاسم بن يزيد بن معاوية غير القاسم بن معاوية والقاسم بن يزيد لم يرو هذا الخبر.
أحد عشر :(170/12)
في هذا الخبر على تقدير صحته دلالة واضحة على أن المراد منه غير الأذان فإنه يقول : إذا قال أحدكم لا إله إلا الله محمد رسول الله فليقل علي أمير المؤمنين، والأذان ليس قول أحدنا بل هو قول الله الواصل إلينا بواسطة رسول الله ، فكيف يشمل الأذان ونحن لا ننفي استحباب قول علي أمير المؤمنين بعد قول لا إله إلا الله محمد رسول.
لكن لا في الأذان الذي هو ليس قولنا لأنه من حدود الله التي لا يسوغ تعديها .
أثنى عشر :
في هذا الخبر ورد فليقل علي أمير المؤمنين وينبغي الاقتصار على هذه اللفظة وهي غير ( أشهد أن علياً ولي الله ) بلفظ الشهادة وتكريرها مرتين كما تكرر الشهادة مرتين على الطريقة التي يؤذن فيها بالتوحيد والرسالة .
فلو صدقنا هذا الخبر وقلنا بشموله للأذان تنزلا فينبغي الاقتصار على لفظ ( علي أمير المؤمنين ) وتجاوز هذه الجملة إلى ( أشهد أن علياً ولي الله ) ليس في هذا الخبر ولا غيره وهو البدعة .
قال السيد الحكيم : وهذه الرواية لا تختص بالأذان وقد فهم منها أن المراد الإعلان بمنصب أمير المؤمنين عليه السلام سواء كان بهذا اللفظ أو بمثل ( علي ولي الله أو علي حجة الله أو نحو ذلك ) .
أقول – أي الخالصي - قد بينا أن لفظة أحدكم في الحديث دالة على أن المراد بها غير الأذان ، ولو فرض عدم دلالتها فتسرية قال أحدكم إلى الأذان وقول فليقل أمير المؤمنين إلى قول أشهد أن علياً ولي الله وأشهد أن علياً حجة الله لا يقتضيه اللفظ وهو قياس وفقهاء الشيعة لا يعملون بالقياس وهو من مختصات الإمام أبي حنيفة وأهل الرأي من أصحابه ومع ذلك فإن أبا حنيفة لا يعمل بمثل هذا القياس لأن القياس عنده حجة إذا أعوزت النصوص ولا يعمل بالقياس إذا وجد نص .
والسيد الحكيم عمل ( بالقياس )
1- مع وجود خمسة وعشرين حديثاً عن أئمة أهل البيت على خلافه.
2- وأطباق كلمة المسلمين من الشيعة وغيرهم على نفيه .(170/13)
3- وقيام الضرورة من الدين على رده .
أهكذا يكون استنباط الأحكام الشرعية ؟
ثلاثة عشر :
يقول السيد الحكيم في فتواه إن كلمة أشهد أن علياً ولي الله من كلام الآدميين فلا يجوز في الصلاة .
وقد أطبق علماء الشيعة استنادا إلى الروايات عن أهل البيت - عليه السلام - على أن الكلام في أثناء الأذان والإقامة مكروه فكيف يقول باستحباب المكروه.
قال المحقق الفيض الكاشاني في مفاتيحه عند ذكر مكروهات الأذان والإقامة ما نصه:
يكره الكلام خلالهما الأذان والإقامة ويتأكد في الإقامة للصحيح وغيره وقيل بتحريمه منها وهو شاذ إلى أن قال ومن كلام المكروه الترجيع، إلى أن قال وكذا غير ذلك من الكلام وإن كان حقاً بل كان من أحكام الإيمان لأن ذلك كله مخالف للسنة فإن اعتقده شرعاً فهو حرام .
فلينظر المتدبر إلى هذا التهافت والتناقض في قول السيد الحكيم .
أربعة عشر :
إذا اعترف السيد الحكيم بأن الشهادة الثالثة من كلام الآدميين ثبت كونها بدعة في الأذان وحراما ولان قول الآدميين مكروه في الأذان إذا اتفق ، أما الالتزام بقول للآدميين في الأذان على صورة الأذان وشكله فهو بدعة لأنه إدخال قول الآدميين في قول الله على سبيل الإلزام .
خمسة عشر :
إذا كانت هذه الشهادة من قول الآدميين كما اعترف به السيد الحكيم، فما معنى القول بالاستحباب وهل رأيت قول آدمي مستحباً في عبادة موقوفة من الله مستحبة كانت أم واجبة .
أهكذا يكون الفقيه ؟
ستة عشر :
يقول السيد الحكيم بحيث يكون الأذان الخالي منها دليلاً على أن المؤذن من أبناء السنة .
هب ان الأمر كما يقول أفيكون هذا دليلاً على الاستحباب والاستحباب يحتاج إلى أمر من الشارع لا إلى هوى وتعصب .
فيقول باستحباب شيء للتعصب على أهل السنة وقد قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كل عصبية في النار .(170/14)
على أن هذا مخالف لقول الصدوق فإنه قال إن الأذان المشتمل على مثل هذه الكلمة دليل على أن المؤذن من أبناء (المفوضة) وأبناء السنة مسلمون وأبناء المفوضة مشركون ، كما ذكرنا ذلك في عقائد الشيخية لعنهم الله .
سبعة عشر :
ذكر السيد الحكيم في جواب السؤال الأول البدعة والضلالة ولم يسأل عنها فما غرضه من ذلك نحيل فهم هذا إلى القارئ ليعرف أن السيد الحكيم ماذا يريد أطعناً وإثارة فتنة أو جواب مسألة فقهية .
ثمانية عشر :
هب أنا سلمنا للسيد الحكيم قوله فالأمر دائر في الشهادة الثالثة في الأذان بين الحرمة كما قول الصدوق وجمهور العلماء المتقدمين ، أو الجواز أو الاستحباب كما يقول بعض متأخري المتأخرين ، وإذا دار الأمر بين الاستحباب والحرمة فإن الاحتياط يقتضي الترك لأن في الترك أمناً من العقاب على كل حال وفي الإتيان بها احتمالا للعقاب على تقدير الحرمه فطريق السلامة والنجاة تركها .
وكم من مورد اتفق للسيد الحكيم في رسالته من هذا القبيل فقال بالاحتياط ولا أدري ما الذي حمله هنا على القول بالاستحباب جزماً من دون تحرج ولا إشارة إلى الاحتياط إلا يدل هذا على شيء في نفسه ؟
تسعة عشر :
قد عرفت حال خبر الاحتجاج وأنه مرسل ، مجهول الراوي ، غير دال على المطلوب وقد استدل به السيد الحكيم .
القرآن في آيات الجمعة هو القرآن ، وبماذا نصف القرآن وآياته واضحات بينات صريحة الدلالة مؤكدة بالتأكيدات الشديدة وقد ترك السيد الحكيم العمل بها ونفى وجود الجمعة بل قال بحرمتها ، في هذا الزمان بتاتا .
فيا لله للإسلام .
القرآن لا يعمل به لتخرصات واهية وخبر الاحتجاج مع ما فيه يعمل به في قبال ضرورة الدين وإجماع المسلمين والأحاديث المتواترة .
اللهم إليك المشتكى .
عشرين :(170/15)
أصدر السيد الحكيم هذه الفتوى وطاف دعاته سهل العراق وحزنه يحملون الرايات السود يموهون على البسطاء في أمر هب أنه مستحب فلا يستحق مهاجمة من لا يعمل بمستحب مثل هذه المهاجمة وسئل السيد الحكيم عن الشيوعية والشيوعيين مراراً وهم ينكرون وجود الله وإرسال الرسل والشرائع ويستبيحون كل محرم ويهزؤون بالأديان كلها فلم يجب، مع شدة الإلحاح والإصرار، فما حمله على الإسراع بالجواب هنا وترك الجواب هناك ؟
اللهم أنت تعلم حال عبادك .
{ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُو? } ( الأنبياء:112).
انتهى رد الشيخ الكاظمي على أجوبة محسن الحكيم (1).
ثم يقول في كتاب الاعتصام بحبل الله(2)لما انتهينا من طبع الكتاب جاءنا منشوران من النجف الأشرف أحدهما بإمضاء الهيئة العلمية وهذان المنشوران يذكران الشذوذ الكثير ، وضعف الاستدلال، والمخالفات للموازين الشرعية التي توجد في فتاوى السيد الحكيم .
وجاء كتيب بإمضاء ثلاثة من أكابر علماء النجف يذكرون فيه بطلان الأذان والصلاة إذا أتى بالشهادة الثالثة في الأذان والإقامة وقد عنون هذا الكتاب باسم ( أشهد أن عليا ولي الله ) وقد طبعت جميعها في مطابع النجف الأشرف وانتشرت من هناك .
انتهى كلامه .
أقول :
وشهد شاهد من أهلها .
وكفى الله المؤمنين القتال .
بعد ان قدمنا النص الكامل لفتاوى الحكيم مذيلة بالرد الدقيق والشامل للكاظمي – من غير زيادة ولا نقصان - اعتقد ان ليس ثمة ما يقال بعد، فالأمر واضح ليس به خفاء إلا على من أعمى الله بصيرته وبصره .
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة فلا غرو ان يرتاب والصبح مسفر
هذا هو الحق ليس به خفاء فدعني من بنيات الطريق
__________
(1) الاعتصام بحبل الله / ص78-87 ] .
(2) الاعتصام بحبل الله / ص90 ](170/16)
فالشهادة الثالثة أذن بدعة لا اصل لها في الدين ، بل هي - وكما قرأنا - من فعل الغلاة المفوضة الملعونين ولولا ترداد السنة الجهلة المغفلين وبعض من المنتفعين، وتناقل الشيعة في الحسينيات والجوامع لها مستحسنين ، وتجرئ بعض ذوي العمائم في زماننا على عدها من الدين وأنها رمز للتشيع لاهل البيت الاكرمين ، لولا ذلك لما تكلمنا بهذا الكلام ولعددنا أقوالهم من سقطات الأقلام وهفوات الأحلام فلم نثبتها في قرطاس ولا ذكرنا بها من نسيها من الناس .
ولعل من العسير على القارئ الذي كانت سيرته التلفظ بالشهادة الثالثة أن يترك مذهباً نشأ عليه منذ نعومة أظفاره ، بل ونشأ عليه قومه ولكن لما كان الحق أحق أن يتبع ، كان لابد عليك عزيزي القارئ ان تدرس المسألة من جديد على ضوء أدلتها وبعد ان تتجرد من الهوى والعصبية، وبعد ان تتخلى عن قناعاتك السابقة المبنية على التقليد الأعمى وعند ذلك فقط سيتجلى لك الحق بأجلى مظاهره ويسهل عليك عندها قبوله.
ولن تبالي بما يقال عنك ما دمت مستيقناً أنك على الحق وانك متبع للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته في تركك لهذه الزيادة وعندها هنيئاً لك بالاتباع والنجاة من الوقوع في خطر الابتداع .
عزيزي القارئ الشيعي ، كل ما تقدم من كلام كان فيمن أراد زيادة قول ( اشهد ان علياً ولي الله ) ورأيت كيف استفحل النزاع بين المراجع بخصوص هذه المسألة ما بين منكر لذلك وهم الجمهور الأعظم ، وما بين مثبت لتلك الزيادة وهم الشواذ الذين لا يعول عليهم.(170/17)
أقول كل ذلك الخلاف كان بخصوص بعض جملة مضافة إلى ألفاظ الأذان ، ولكننا اليوم نرى الحسينيات ودور العبادة الشيعية كأنها في سباق محموم ، حيث تجد ألفاظاً كثيرة مضافة إلى الأذان بقدر ألفاظه بل واكثر من ذلك ، وتجد اختلاف الحسينيات في ذكر تلك الألفاظ وتنويعها الأمر الذي جعلنا نترحم على أيام المفوضة الذين لعنهم الأئمة وعلماء الشيعة وقالوا بكفرهم ، فهم بالنسبة إلى شيعة زماننا اقل غلواً وابتداعاً .
إذ أن المفوضة أضافوا إلى الأذان أشهد أن علياً ولي الله فقط أما اليوم فنسمع للأذان مقدمة ونهاية لا نعرف من أين أتت ، وبأي حديث عن الأئمة وردت .
ثم إنهم لم يقتصروا على ذكر علي- رضي الله عنه - وإنما أضافوا إليه بقية الأئمة المعصومين الإثنى عشر ، بإضافة عبارة وأولاده المعصومين حجج الله فأصبح النداء : اشهد أن علياً وأولاده المعصومين حجج الله .
ومما ينبغي ان يعلم ان المفوضة وهم أصحاب هذه البدعة لم يجرؤوا على إضافة ما زاده المتأخرون الذين تفننوا في هذه الإضافات حتى اصبح لعلي صفتان في الأذان بأنه ولي الله ، وحجة الله ، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - صفة واحدة وهي انه رسول الله .
ولا ادري لم استحق قوم اللعنة لانهم زادوا محمداً وال محمد خير البرية ولم يستحق هذه اللعنة من زاد اشهد أن علياً وأولاده المعصومين حجج الله التي لا يقول بها أحد غير الشيعة .
ولا نعرف ماذا تخبئ لنا الأيام القادمة من إضافات .
واليك نص الأذان الذي يرفع الآن في الجوامع والحسينيات كل يوم لترى كم هي الإضافات التي لحقت بالأذان والله المستعان .
أذان اليوم
أعوذ بالله من شر الشيطان الرجيم .
بسم الله الرحمن الرحيم .
إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً .
اللهم صلي على محمد وآل محمد.(170/18)
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
ولله الحمد .
زيادة
الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر.
أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله .
أشهد أن محمداً رسول الله ، صلى الله عليه وأله .
أشهد أن محمداً رسول الله ، صلى الله عليه وأله .
أشهد أن علياً ولي الله .
أشهد أن علياً وأولاده المعصومين حجج الله.
زيادة
حي على الصلاة ، حي على الصلاة .
حي على الفلاح ، حي على الفلاح .
حي على خير العمل ، حي على خير العمل .
الله أكبر ، الله أكبر.
لا إله إلا الله ، لا إله إلا الله.
إلى أرواح المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ومن مات على الإيمان اهدي ثواب سورة الفاتحة قبلها الصلاة على محمد وآل محمد ، اللهم صل على محمد وآل محمد .
زيادة
هذا نموذج واحد من نماذج الأذان الذي يرفع في المساجد والحسينيات إذ إننا وكما قلنا نجد أن لكل مؤذن عباراته الخاصة التي يختلف بها عن الآخرين فالإضافات لا تعد ولا تحصى وهي متروكة إلى مزاج كل مؤذن(1)
__________
(1) ماذا سيفعل الصدوق لو ردت اليه الحياة
وان كان الصدوق قد لعن المفوضة لرفعهم اسم علي لوحده في الاذان، فماذا سيفعل لو ردت اليه الحياة من جديد وذهب الى بعض مدن الشيعة ويسمع فيها اسماء جميع الائمة الاثنى عشر :
يقول اية الله الشيخ محمد سند في كتابه الشهادة الثالثة سبب الايمان ام جزء الاذان :
ان الاذان الذي يرفع اليوم في اذربيجان الشيعية الدولة المستقلة عن الدولة الروسية يذكر فيه اسماء جميع الائمة الاثنى عشر وليس علياً فقط .
[ الشهادة الثالثة سبب الايمان ام جزء الاذان / الشيخ محمد سند ص23]
فتح باب الاجتهاد
وما دام باب الاجتهاد مفتوحا فكل شيء جائز :
سئل اية الله جواد التبريزي :
هل يجوز ذكر فاطمة الزهراء في الأذان بقصد الاستحباب أو لا؟ وهل يوجد دليل على جواز ذكرها أو عدمه ؟
فاجاب :
كلام الآدمي لا يبطل الأذان وليس مثل الصلاة ، وكل شيء يذكر في الأذان لا بقصد الجزئية فلا بأس به .
[ الأنوارُ الإلهيَّة في المسائل العقائدية / آية الله الميرزا جواد التبريزي ص158-159](170/19)
.
مفارقة عجيبة
حاول الإماميه إثبات ( الشهادة الثالثة ) بكل الوسائل ولكن الأدلة لم تكن تسعفهم ولم يجدوا طريقاً لإثبات ذلك إلا رواية الاحتجاج للطبرسي(1)
__________
(1) قال السيد علي الميلاني في كتابه الشهادة بالولاية في الأذان :
وهذه الرواية - رواية الاحتجاج - يستشهد بها علماؤنا ، بل يستدلون بها في كتبهم الفقهية ، ثم ذكر نص الرواية وقال :
يبقى البحث في ناحية السند ، فروايات الاحتجاج مرسلة ، ليس لها أسانيد في الأعم الأغلب ، صاحب الاحتجاج لا يذكر أسانيد رواياته في هذا الكتاب وحينئذ من الناحية العلمية لا يتمكن الفقيه ان يعتمد على مثل هكذا رواية حتى يفتي بالاستحباب .
ثم قال :
ان علماءنا قد أفتوا على طبق مفاد هذه الرواية ، وإذا كانوا قد عملوا بهذه الرواية حتى لو كانت مرسلة فعمل المشهور برواية مرسلة أو ضعيفة يكون جابراً لسند تلك الرواية، ويجعلها رواية معتبرة قابلة للاستنباط والاستدلال في الحكم الشرعي ، وهذا مسلك كثير من علمائنا وفقهائنا، فانهم إذا رأوا عمل المشهور برواية مرسلة او ضعيفة يجعلون عملهم بها جابراً لسند تلك الرواية.
[ الشهادة بالولاية في الأذان / السيد علي الميلاني في كتابه ص 28 ]
لم يذكر الشيخ عبد الحليم العزي في كتابه الشهادة الثالثة المقدسة المتكون من (464) صفحة غير رواية الاحتجاج يستدل بها على الشهادة الثالثة حيث نقل قول صاحب الاحتجاج :
فإذا قال أحدكم لا اله إلا الله فليقل علي أمير المؤمنين.
[ الشهادة الثالثة المقدسة /الشيخ عبد الحليم العزي ص66 ]
الاقتطاع من رواية الاحتجاج
اقول :
حتى هذه العبارة التي وردت في رواية الاحتجاج :
[ فإذا قال أحدكم لا اله إلا الله ، محمد رسول الله ، فليقل علي أمير المؤمنين ] ، والتي اعتمد عليها جل علماء الشيعة لاثبات هذه البدعة قد تم اقتطاعها من رواية طويلة ، اليك نصها :
روى القاسم بن معاوية قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام :
هؤلاء يروون حديثا في معراجهم انه لما أسري برسول الله رأى على العرش مكتوبا لا إله إلا الله ، محمد رسول الله أبو بكر الصديق ، فقال : " سبحان الله غير كل شئ حتى هذا " قلت : نعم .
قال : " إن الله عز وجل لما خلق العرش كتب عليه : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي أمير المؤمنين .
ولما خلق الله عز وجل الماء كتب في مجراه : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، علي أمير المؤمنين .
ولما خلق الله عز وجل الكرسي كتب على قوائمه : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي أمير المؤمنين .
ولما خلق الله عز وجل اللوح كتب فيه : لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين .
ولما خلق الله إسرافيل كتب على جبهته : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله، علي امير المؤمنين .
ولما خلق الله جبرئيل كتب على جناحيه : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين .
ولما خلق الله عز وجل السموات كتب في أكتافها : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، علي أمير المؤمنين .
ولما خلق الله عز وجل الأرضين كتب في أطباقها : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي أمير المؤمنين .
ولما خلق الله عز وجل الجبال كتب في رؤسها : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي أمير المؤمنين .
ولما خلق الله عز وجل الشمس كتب عليها : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي أمير المؤمنين .
ولما خلق الله عز وجل القمر كتب عليه : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله، علي أمير المؤمنين ، وهو السواد الذي ترونه في القمر .
[ فإذا قال أحدكم لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، فليقل علي أمير المؤمنين عليه السلام ] .
[ الاحتجاج / الشيخ الطبرسي ج1 ص 230 -231 ]
امامة علي( لم يذكرها القران
اقول :
انظر عزيزي القارىء لهذه المفارقة العجيبة ، فان الله عز وجل كتب لنا امامة علي رضي الله عنه في كل هذه الاماكن والاشياء التي يصعب الوصول اليها والانتفاع منها .
ولكن رب العزة لم يذكر لنا هذه الامامة في دستور الاسلام والمسلمين (القران الكريم) ، فهل هذا يعقل ؟!(170/20)
وهذه الرواية على ضعفها ليس فيها دلالة واضحة وصريحة على مدعاهم ، بل والعجيب – ولا عجب في هذا المذهب- ان كتاب الاحتجاج هذا قد أسقطه علماء الشيعة أنفسهم(1)، والسؤال المثار هنا ما السبب في اعتماد الشيعة على هذا الكتاب وهذه الرواية ؟
والجواب يسير وسهل على ذلك وهو ان القوم لم يجدوا للشهادة الثالثة رواية واحدة في كتبهم المعتمدة ومنها الكتب الأربعة المتقدمة وهي:
1- الكافي / محمد بن يعقوب الكليني ت 329 هـ
2- من لا يحضره الفقيه / محمد بن بابويه القمي ت 381 هـ
3- التهذيب / محمد بن الحسن الطوسي ت 460 هـ
4- الإستبصار/ محمد بن الحسن الطوسي ت 460 هـ
وكذلك في الكتب الأربعة المتأخرة وهي:
1- بحار الأنوار / محمد باقر المجلسي ت 1110هـ
2- الوافي / محمد بن المرتضى محسن الكاشاني ت 1090هـ
3- وسائل الشيعة / محمد بن الحسن الحر العاملي ت 1104هـ
4- مستدرك الوسائل / حسين النوري الطبرسي ت 1320هـ
وهذه الموسوعات(2)
__________
(1) يقول محمد هادي معرفة :
تقدم اشتهار كتاب بهذا الاسم منسوب إلى الطبرسي نسبة إلى طبرس ولكن من هذا الطبرسي ؟
ذكر السيد محمد بحر العلوم في مقدمة الكتاب ستة من العلماء يحتمل انتساب الكتاب إليهم فالكتاب لم تحدد نسبته لمن .
أما الكتاب فلا يعدو مراسيل لا إسناد لها ، أكثرها تلفيقات من روايات نقلية واحتجاجات عقلية كانت العبرة بذاتها لا بالأسانيد ، ومن ثم فإن العلماء يرفضون الأخذ بها كروايات متعبد بها ، وإنما هو كلام عقلاني وإلا فلا اعتبار بكونه منقولاً ، الأمر الذي يحط من شأن الكتاب باعتبار كونه سنداً لحوادث تاريخية سالفة .
ولعله لذلك أخفى المؤلف اسمه في صدر الكتاب .
[ صيانة القران من التحريف / محمد هادي معرفة ص231 ]
(2) قال محمد جواد مغنية :
وعند الشيعة الإمامية كتب أربعة للمحمدين الثلاثة :
محمد الكليني ، ومحمد الصدوق ، ومحمد الطوسي ، وهي : الاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه ، والكافي ، والتهذيب ، وهذه الكتب عند الشيعة تشبه الصحاح عند السنة.
[ كتاب الوحدة الإسلامية / مقال لمحمد جواد مغنية ص 261 ]
قال محمد صالح الحائري :
واما صحاح الإمامية فهي ثمانية ، أربعة منها للمحمدين الثلاثة الأوائل، وثلاثة بعدها للمحمدين الثلاثة الأواخر ، وثامنهم لمحمد الحسين المرحوم المعاصر النوري .
[ كتاب الوحدة الإسلامية / مقال باسم منهاج عملي للتقريب – محمد صالح الحائري ص233 ](170/21)
جمعت معظم كتب الأمامية وأحاديثهم، ولكنها مع ذلك كانت خالية من الشهادة الثالثة فلذلك كله لجؤوا إلى كتاب الاحتجاج لعلهم يقنعون به الأتباع .
جراثيم ومكروبات بحار الانوار
قال اية الله محمد اصف محسني في كتابه مشرعة بحار الانوار:
ليعلم اهل العلم المتوسطون ان في بحار العلامة المجلسي رضوان الله عليه مع كونها بحار الانوار جراثيم مضرة لشاربها ومواد غير صحية لابد من الاجتناب عنهما ، واشياء مشكوكة ومشتبهة وجب التوقف فيها… (1).
وقال ايضاً :
كتاب البحار كتاب مهم لكن لا يجوز الاخذ بكل ما فيه ولاجله بينا له مشرعة حتى يؤخذ منها من مكان مخصوص لا يغرق الاخذ ولا يشرب ماء فيه الجراثيم والمكروبات المضرة (2).
اقول :
تصور عزيزي القارىء حتى كتاب بحار الانوار المليء بالجراثيم والمكروبات والمتكون من (110) مجلدات لا توجد فيه رواية واحدة تثبت الشهادة الثالثة .
وقفة مع الميلاني وكتابه الشهادة بالولاية في الأذان
بين يدي كتاب للسيد علي الحسيني الميلاني يحمل عنوان الشهادة بالولاية في الأذان صادر عن مركز الأبحاث العقائدية في قم ، وقد سار الرجل على خطى أسلافه في الاستدلال على هذه المسألة برواية الاحتجاج وقد تقدم الكلام عن هذه الرواية والكتاب الذي حواها ولكن الشيء الجديد في هذا الكتاب هو ان الميلاني لما رأى تهافت وضعف أدلته ، وبعد ان أعلن إفلاسه من كتب الشيعة وعدم استطاعته من أيجاد ولو رواية واحدة تعضد رأيه راح يبحث في كتب السنة – وكأن كتب أهل السنة مصدر من مصادر التشريع عند الشيعة - لعله يجد ضالته فيها ويجد مخرجاً يقنع فيه أتباعه ولكنه خرج من مطب ليقع في مطب آخر حيث استدل بخبرين من كتب أهل السنة-حسب ادعائه- حاول بهما إثبات الشهادة الثالثة ، فقال :
__________
(1) مشرعة بحار الانوار / اية الله محمد اصف محسني ج1ص 11]
(2) مشرعة بحار الانوار / اية الله محمد اصف محسني ج2 ص273](170/22)
في بعض كتب أصحابنا ، عن كتاب السلافة في أمر الخلافة للشيخ عبد الله المراغي المصري ، ثم ذكر نص الخبرين …… .
ولكنه باستدلاله بهذين الخبرين يظهر انه قد شعر بضعف ذلك الاستدلال وتهافته ، وخجله من إيراده فقال :
إن تسألوني عن رأيي في هذا الكتاب أو في هذين الخبرين ، فإني لا يمكنني الجزم بصحة هذين الخبرين ، لأنني بعد لم أعرف هذا الكتاب، ولم أطلع على سند هذين الخبرين ، ولم أعرف بعد مؤلف هذا الكتاب، إلا إنني مع ذلك لا يجوز لي أن أكذب ، لاُفتي على طبق هذين الخبرين، ولكنني أيضاً لا أُكذب هذين الخبرين(1).
فانظر إلى هذا الاستدلال المتهافت والتبرير الغريب ، فالسيد يقول:
أنه لم يعرف الكتاب .
ولم يطلع على سند الخبرين .
ولم يعرف مؤلف الكتاب .
ولا يعرف كذلك أسم الكتب التي نقل منها هذين الخبرين ، لأنه قال في بعض كتب أصحابنا .
لكنه مع كل ذلك لا يتمكن من تكذيب الخبرين .
فأقول :
أي استدلال هذا! وأي إصرار ! على إثبات أمر لم يرد في شرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولأي شيء تريد أن تثبت هذا الحكم عن طريق كتب أهل السنة وهو من خصوصيات مذهبك ؟ لولا أنك لم تجد له رواية واحدة في موسوعاتك الحديثية التي تعد بمئات المجلدات، حيث أن بحار الأنوار لوحده بلغت عدد مجلداته (110) مجلداً.
روايات تحريف القران
وأقول للسيد الميلاني لماذا لا تستطيع تكذيب الخبرين ؟
في الوقت الذي كذب وطرح علماء الشيعة بدون أي دليل أكثر من ألف حديث متواتر في تحريف القرآن ، وقد اعتبر عدد من علماء الشيعة هذه الأحاديث بانها أحاديث متواترة ومستفيضة .
__________
(1) الشهادة بالولاية في الأذان / السيد علي الحسني الميلاني - إصدار مركز الأبحاث العقائدية- قم ص26] [ محاظرات في الاعتقادات / السيد علي الحسني الميلاني ج2 ص 659](170/23)
حيث ان الأخبار الدالة على التحريف في كتب الشيعة تزيد على ألف حديث ، وقد جمعها خاتمة المحدثين الشيخ النوري الطبرسي في كتابه فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب فبلغت (1122) حديثاً .
بل ان نعمة الله الجزائري أوصلها إلى الفي حديث .
وقال : أبو القاسم الخوئي في كتابه البيان :
إن كثرة الروايات على وقوع التحريف في القرآن تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين ولا أقل من الاطمئنان لذلك وفيها ما روي بطريق معتبر(1) .
أقول :
وما هو التبرير المنطقي لترك أكثر من ألف رواية والتمسك برواية واحدة هي رواية الأحتجاج أفتونا مأجورين(2)
__________
(1) البيان في تفسير القران / أبو القاسم الخوئي ص226 ]
(2) الجزئية الواجبة
على الرغم من عدم وجود أي دليل على الشهادة الثالثة فان الجرأة قد بلغت ببعض الفقهاء ان يقولوا :
بالجزئية الواجبة ، أي لو تركت هذه الشهادة في الأذان عمداً ، لم يثب المؤذن على آذانه أصلاً ولم يطع الأمر بالأذان .
[ الشهادة بالولاية في الأذان / علي الحسيني الميلاني ص8 ]
* قال الشيخ عبد الحليم الغزي :
ان الشيخ عبد الجليل القزويني في كتابه النقض وهو كتاب باللغة الفارسية حيث نقل صاحب رسالة كلمات الإعلام بعضاً من كلامه ما مؤداه :
( ان الشهادة الثالثة بدعة ، والاعتقاد بها معصية ، وان قائلها ملعون مغضوب عليه ) .
فقال الغزي :
وتشنيع هذا الشيخ ان كان على من اعتقد الجزئية فإننا قد نجد له عذراً في ذلك وان كانت هناك طائفة من أجلة علمائنا لم يستبعدوا الجزئية وبعضهم صرح بها .
واما ان كان تشنيعه على من قال بها مطلقاً دون اعتقاد الجزئية فهو كلام مرفوض من اصله ولا نعبأ به ولا بقائله ولا بكل من قال به حياً كان أم ميتاً … .
[ الشهادة الثالثة المقدسة / الشيخ عبد الحليم الغزي ص 89]
* وذكر الشيخ أيضا :
ان عدداً من علماء الشيعة من استقرب كون الشهادة الثالثة جزءاً واقعياً من أجزاء الأذان والإقامة ولكن التقية ، والظروف المختلفة ، والملابسات المحيطة بالمعصومين ، هي التي حالت دون تبليغها ، وإظهار تشريعها، وبيان جزئيتها ، في جملة الأجزاء الواقعية والفصول الأصلية للأذان والإقامة ، ومنهم : فعد منهم خمسة من العلماء .
وذكر أسماء العلماء الذين يعتقدون بجزئيتها الواجبة وإنها كسائر فصول الأذان والإقامة الأصلية ، وذكر منهم السيد الفقيه عبد النبي العراقي، وقال:
لكنه لم يفت بالوجوب والجزئية الواجبة ، وانما أفتى بالجزئية الندبية لدعوى الشهرة على خلاف ذلك وان كان يقوى في نفسه الوجوب كما يظهر من عباراته.
* وقال أيضاً :
ألف تلميذ الشيخ عبد النبي العراقي الشيخ حسين آل طاهر الخميني رسالة قرر فيها بحثه الخارج في الفقه في مسألة الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة وقد سماها ( رسالة الهداية في كون الشهادة بالولاية في الأذان والإقامة جزءاً كسائر الأجزاء ) .
اتهام النبي- صلى الله عليه وسلم -
وصل الحد بأحد العلماء الذين ذكرهم الشيخ عبد الحليم ان اتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بانه لم يذكرها تقية ، وهو السيد إبراهيم الاصطهباتي النجفي حيث قال انه:
يعتقد الجزئية واقعاً ولكن الظروف لم تساعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على إعلام الأمة بها.
[ الشهادة الثالثة المقدسة / الشيخ عبد الحليم الغزي ص 103 - 105]
بل اعتبر بعض العلماء ان من يقول عن الشهادة الثالثة بدعة هو (مبتدع ومضلل ) وهذا ما صرح به الشيخ نزيه القميحا حيث قال :
الظاهر ان لكل زمان مبتدع ومضلل . فكما في زمانه (ره) كان هناك اصحاب بدعة ضلالة كذلك في زماننا هناك من حرم الشهادة الثالثة وقال انها بدعة وتبطل الصلاة بذكرها .
[ رد على ... رسالة الى كل شيعي / الشيخ نزيه القميحا ص 454 ]
تخبط علماء الشيعة
اقول :
من خلال الاقوال السابقة تبين لنا كم هو حجم التخبط الذي وقع فيه علماء الشيعة في هذه الجزئية المبتدعة في الاذان ، فوصل بهم الحال الى تضليل وتبديع منكرها .
وتبين لنا ايضاً كذب بعضهم عندما يدافع عن هذه البدعة ، فيقول ان علماء الشيعة لا يقولون بالجزئية .
قال التيجاني السماوي :
ان كل علماء الشيعة يقولون بانها ليست جزءاً من الاذان ، بل اذا جيء بها بنية الوجوب او بنية انها جزء من الاذان او الاقامة بطل الاذان والاقامة .
[ الشيعة هم اهل السنة / الدكتور محمد التيجاني السماوي ص 318 ]
يستدلون بالديكة لاثبات الشهادة الثالثة
وان من اعجب ما قرأت للشيعة هو ما قراته للشيخ اية الله محمد سند في كتابه الشهادة الثالثة سبب الايمان ام جزء الاذان اذ اعتبر هذا الشيخ ان الشهادة الثالثة جزء من الاذان حيث ذكر تحت عنوان ( روايات اخرى خاصة على الجزئية ) فذكر روايتين تدل على ذلك حسب رأيه :
الاولى :
مرسلة الاحتجاج عن الاصبغ بن نباته قال :
اتى ابن الكوا امير المؤمنين- عليه السلام - فقال : والله ان في كتاب الله اية اشتدت على قلبي، ولقد شككت في ديني فقال : امير المؤمنين- عليه السلام - ثكلتك امك وعدمتك ، ما هي قال : قول الله تبارك وتعالى :
{ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَه } (النور: من الآية41) فما هذا الصف،
وما هي الطيور ؟ وما هذه الصلاة ؟ وما هذا التسبيح؟ فقال: علي- عليه السلام - : ويحك يابن الكوا ان الله خلق الملائكة على صور شتى ، الا وان لله ديكاً ، فاذا حضر وقت كل صلاة قام على براثنه ، ثم رفع عنقه من تحت العرش ، ثم صفق بجناحيه كما تصفق الديكة في منازلكم ، ثم ينادي :
اشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له ، واشهد ان محمداً عبده ورسوله سيد النبيين ، وان وصيه خير الوصيين ، سبوح قدوس رب الملائكة والروح.
الثانية :
ما رواه الحر العاملي في اثباة الهداة من كتاب الحسن بن علي بن عمار بإسناده ذكره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
رايت ليلة اسري بي في السماء الرابعة ديكاً ينادي :
لا اله الا الله محمد رسول الله ، علي امير المؤمنين ولي الله .
[ الشهادة الثالثة سبب الإيمان أم جزء الأذان / الشيخ محمد سند ص23]
قول النملة والهدهد
اقول :
وهكذا نجد ان عالماً مثل اية الله محمد سند وصلت به الحالة ان يستدل بمثل هذه الروايات وبالديكة لاثبات جزئية الشهادة الثالثة لعجزه عن إيجاد رواية صريحة تثبت هذه العبارة فوالله لو حق وسكت ولم يستدل لكان خيراً له .
ولكن مع الاسف ان الله سبحانه وتعالى لم ينقل لنا في محكم كتابه العزيز قول الديك لكنه نقل لنا قول النملة وقول الهدهد ، قال تعالى :
{ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ } (النمل: من الآية18)
قال تعالى ناقلاً قول الهدهد :
{ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ(22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) }(170/24)
؟(170/25)
الفصل الثالث
التقية ودورها في الأذان
التقية ركن من أركان المذهب
تعد التقية عند الشيعة الإمامية ركناً مهماً من أركان الدين كالصلاة بل هي أعظم ، واليك بعض الروايات عن الأئمة تبين فضل التقية، ولكن قبل ذلك اذكر لك تعريفها وكما عرفها المفيد فقال :
( التقية كتمان الحق وستر الإعتقاد فيه وكتمان المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراًَ في الدين أو الدنيا …… )
قال الصادق- عليه السلام - :
لو قلت ان تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقاً (1) .
وقال الباقر- عليه السلام - :
إن تسعة أعشار الدين التقية ، ولا دين لمن لا تقية له (2) .
وعدّوا ترك التقية ذنباً لا يغتفر على حد الشرك بالله .
يغفر الله للمؤمن كل ذنب يظهر منه في الدنيا والآخرة ما خلا ذنبين:
ترك التقية ، وتضييع حقوق الإخوان(3) .
والتقية عند الشيعة حالة مستمرة وسلوك جماعي دائم .
قال ابن بابويه في كتاب ( الاعتقادات ) :
والتقية واجبة لا يجوز رفعها إلى أن يخرج القائم ، فمن تركها قبل خروجه فقد خرج عن دين الله تعالى وعن دين الإمامية وخالف الله ورسوله والأئمة(4).
وأوردوا أحاديث كثيرة عن الأئمة في أن حديثهم سر في سر وحديثهم صعب مستصعب .
* عن الصادق - عليه السلام - قال :
إن أمرنا سرُ في سر وسرُ مستسر وسرُ لا يفيد إلا سر وسرُ على سر وسرُ مقنع بسر(5).
* روي عن الباقر - عليه السلام - قال :
__________
(1) الفقيه / ابن بابوية ج2 ص80 ] [ وسائل الشيعة / الحر العاملي ج7 ص94]
(2) أصول الكافي / ج2 ص217 ] [ وسائل الشيعة / ج11 ص460 ]
(3) وسائل الشيعة / ج75 ص423 ] [ بحار الأنوار / ج75 ص415 ]
(4) الاعتقادات / الصدوق ص114- 115 ]
(5) بصائر الدرجات / الصفار ص28 ](171/1)
حديث آل محمد صعب مستصعب ثقيل مقنع أجرد ذكوان لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان ….(1) .
* عن الباقر - عليه السلام - قال :
لا تبثُوا سرنا ولا تذيعوا أمرنا ….(2)
* عن الصادق- عليه السلام - قال :
إنكم على دين من كتمه أعزه الله ومن أذاعه أذله الله(3).
وقد ذكر المجلسي باباً بعنوان إن حديثهم - عليه السلام - صعب مستصعب وذكر فيه (116) حديثاً(4).
ويؤكدون على أن عشرة الشيعة مع أهل السنة بالتقية وقد ترجم لذلك الحر العاملي فقال :
باب وجوب عشرة العامة - أهل السنة - بالتقية(5) .
التقية ودورها في تحريف الأذان
لقد كان للتقية دورها في تحريف الأذان ، إذ وردت روايات كثيرة في كتبهم تثبت الأذان بصيغ مشابهة لأذان أهل السنة ، ولكنهم كعادتهم استخدموا التقية للتخلص من هذه الروايات التي تشابه مذهب أهل السنة - مذهب العامة- فالفلاح والرشاد في خلافهم كما نسب إلى الصادق :
في الحديث المروي في الكافي ( ما خالف العامة ففيه الرشاد) (6)
واليك بعضاً من هذه الروايات :
الرواية الأولى :
في ( معاني الأخبار وكتاب التوحيد ) عن أحمد بن محمد الحاكم المقري ، عن محمد ابن جعفر الجرجاني ، عن محمد بن الحسن الموصلي ، عن محمد بن عاصم الطريفي، عن عياش بن يزيد ، عن أبيه يزيد بن الحسن ، عن موسى بن جعفر ، عن آبائه عن علي - عليه السلام -:
في حديث تفسير الأذان أنه قال فيه :
__________
(1) بصائر الدرجات / الصفار ص28 ]
(2) الكافي / الكليني ج 2 ص222 ]
(3) الكافي / الكليني ج ص222 ]
(4) بحار الأنوار / المجلسي ج2 ص182-212 ]
(5) وسائل الشيعة / الحر العاملي ج11 ص421 ]
(6) الكافي / ج1 ص68 ] [ تهذيب الأحكام / الطوسي ج6 ص 301 ح 845 ]
(2) [ معاني الأخبار/ ص 129][ التوحيد / ص 240 ][ وسائل الشيعة / ج2 ص647](171/2)
الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد ان محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أشهد أن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا اله إلا ، الله لا اله إلا الله وذكر في الإقامة قد قامت الصلاة .
قال الصدوق : إنما ترك الراوي حي على خير العمل للتقية.(1)
الرواية الثانية :
عن جعفر بن الحسن بن سعيد المحقق في ( المعتبر ) نقلاً من كتاب أحمد بن محمد ابن أبي نصر البزنطي عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه قال :
الأذان الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد ان لا اله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وقال في آخره : لا اله إلا الله مرة .
قال النوري الطبرسي : تقدم الوجه في مثله ويحتمل التقية في آخره(2).
الرواية الثالثة :
فأما ما رواه الحسين بن سعيد ، عن فضالة ، عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : الأذان مثنى مثنى والإقامة واحدة واحدة.
وما رواه سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد عن فضالة ابن أيوب ، عن سيف بن عميرة وصفوان بن يحيى، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال:
الإقامة مرة مرة إلا قول الله أكبر فإنه مرتان .
قال الطوسي:
فالوجه في هذين الخبرين ضرب من التقية لأنهما موافقان لمذاهب بعض العامة(3).
الرواية الرابعة :
عن أحمد ، عن الحسين ، عن فضالة ، عن سيف بن عميرة ، عن أبي بكر الحضرمي وكليب الأسدي جميعاً ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - إنه حكى لهما الأذان فقال :
__________
(2) مستدرك الوسائل/ج2 ص648][ وسائل الشيعة/ ج4ص652][المعتبر/ص166]
(2) [ الاستبصار / ج1 ص307 ] [ التهذيب / ج1 ص151 ](171/3)
الله أكبر الله أكبر…، أشهد إن لا إله إلا الله…، أشهد أن محمداً رسول الله…، حي على الصلاة…، حي على الفلاح…، حي على خير العمل…، الله أكبر الله أكبر…، لا إله إلا الله .
ورواه الصدوق بإسناده عن أبي بكر الحضرمي وكليب الأسدي مثله وزاد : ولا بأس أن يقال في صلاة الغداء على اثر حي على خير العمل.
الصلاة خير من النوم مرتين للتقية (1).
الرواية الخامسة :
فأما ما رواه محمد بن علي بن محبوب ، عن أحمد بن الحسن ، عن الحسين عن حماد ابن عيسى ، عن شعيب بن يعقوب ، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال :
النداء والتثويب في الأذان من السنة .
عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة ، عن العلا ، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر- عليه السلام - قال:
كان أبي ينادي في بيته بالصلاة خير من النوم ولو رددت ذلك لم يكن به بأس .
ورواه ابن إدريس في السرائر نقلاً من كتاب محمد بن علي بن محبوب.
قال الطوسي وما أشبه هذين الخبرين مما يتضمن ذكر هذه الألفاظ فإنها محمولة على التقية لإجماع الطائفة على ترك العمل بها(2).
وقد أفرد الحر العاملي في كتابه وسائل الشيعة باباً بعنوان .
( باب جواز الاقتصار في الأذان والإقامة على مرة مرة في التقية والعجلة والسفر) (3).
نفهم من ذلك أن التقية قد أصبحت شماعة لكل حديث لا يعجب علماء الشيعة ولا يوافق أهواءهم ، لذا فهم يتركون العمل به وإن كان صحيح السند ، بل ان صحة هذه الروايات سنداً هي التي ألجأتهم للقول بالتقية .
علماء الشيعة برروا عدم ذكر الشهادة الثالث بالتقية
وهذه أقوال علماء الشيعة تثبت هذه الحقيقة :
* ذكر الشيخ عبد الحليم الغزي :
__________
(1) تهذيب الاحكام / ج1ص150 ][الاستبصار /ج1ص307 ][ وسائل الشيعة /ج2ص651 ]
(2) تهذيب الاحكام / ج1ص150 ][الاستبصار /ج1ص307 ][ وسائل الشيعة /ج2ص644 ]
(3) وسائل الشيعة / ج4 ص649 ](171/4)
ان عدداً من علماء الشيعة من استقرب كون الشهادة الثالثة جزءاً واقعياً من أجزاء الأذان والإقامة ولكن التقية ، والظروف المختلفة، والملابسات المحيطة بالمعصومين، هي التي حالت دون تبليغها، وإظهار تشريعها، وبيان جزئيتها ، في جملة الأجزاء الواقعية والفصول الأصلية للأذان والإقامة ومنهم : فعد اسماء خمسة من العلماء(1).
* وقال أيضا :
ان السيد إبراهيم الاصطهباتي النجفي ، نقل عنه السيد المقرم في رسالته انه : يعتقد الجزئية واقعاً ولكن الظروف لم تساعد النبي على إعلام الأمة بها (2).
* قال محمد محمد الصدر عن عبارة اشهد ان علياً ولي الله :
كل ما في الأمر إنها تالفة خلال ما تلف من الكتب ، وربما كانت مخالفة للتقية ، ومحرجة بالنسبة إلى علمائنا السابقين ( قدس سرهم) كالشيخ الصدوق ، والطوسي، والمفيد ، وحذفوها من كتب الحديث وطعنوا في صحتها .
وقد كان الأئمة أيضاً :
في تقية مكثفة هم وأصحابهم ولم يكن في مصلحة التشيع في ذلك الحين إعلان أمثال هذه الأمور(3).
أحاديث الشيعة مختلفة متضادة
المتتبع للمرويات المسطرة في كتب الإمامية ، يجد ان تلك الروايات في مجملها روايات متناقضة ومتضادة بشكل لا نستطيع معه الجمع بينهما فهذا الطوسي يصرح في كتابه تهذيب الأحكام فيقول :
لما آلت إليه أحاديثهم - أي أحاديث الأئمة - من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد حتى لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده ولا يسلم حديث إلا وفي مقابلته ما ينافيه 000
وقد اعترف أيضاً فقال :
__________
(1) الشهادة الثالثة المقدسة / الشيخ عبد الحليم الغزي ص 103 - 105]
(2) الشهادة الثالثة المقدسة / الشيخ عبد الحليم الغزي ص 104]
(3) [ السفير الخامس / عباس الزيدي ص 287 – 290 ](171/5)
بأن هذا الاختلاف قد فاق ما عند أصحاب المذاهب الأخرى ، وان هذا كان من أعظم الطعون على مذهبهم وأنه جعل بعض الشيعة يترك هذا المذهب لما اكتشف له أمر هذا الاختلاف والتناقض(1).
وكان من آثار عقيدة التقية ، ضياع مذهب الأئمة عند الشيعة حتى شيوخهم لا يعلمون الكثير من أقوالهم أيها تقية وأيها حقيقة .
وقد اعترف صاحب الحدائق يوسف البحراني بأنه لم يعلم من أحكام دينهم إلا القليل بسبب التقية حيث قال :
فلم يعلم من أحكام الدين على اليقين إلا القليل لامتزاج أخباره بأخبار التقية(2).
بعد هذا كله أي الأقوال أحق بالتصديق أهو قول الأمام المعصوم الذي ينادي في آذانه بالصلاة خير من النوم - الذي سبق الإشارة أليه - أم قول البحراني ؟
اختلاف علماء الشيعة في تحديد أي الروايات صدر تقية
* قال الشيخ جعفر الشاخوري في كتابه حركية العقل الاجتهادي :
إننا نجد ان كبار علماء الشيعة يختلفون في تحديد الروايات الصادرة تقية والروايات الصادرة لبيان الحكم الواقعي .
وخذ مثالاً على ذلك مسالة نجاسة الخمر ، فيما يفتي الكثيرون بالنجاسة ومنهم الشيخ الطوسي ، لانهم حملوا روايات الطهارة على التقية ، نجد ان هناك من الفقهاء من يفتي بالطهارة كالمقدس الاردبيلي وغيره لانهم حملوا روايات النجاسة على التقية، وهذا يكشف عن التخبط في استخدام التقية لدى القدماء.
* وقال أيضاً :
لو أردنا استعراض غيره من عشرات الأمثلة لألفنا كتاباً خاصاً يؤكد فوضى تحديد موارد التقية ، التي تشبه فوضى ادعاءات الإجماع في مسائل الفقه مما أدى إلى اختلاف كثير من فتاوى العلماء تبعاً لتحديد ما هي الروايات الصادرة عن التقية وغيرها(3).
__________
(1) تهذيب الأحكام / الطوسي ج1 ص2-3 ]
(2) الحدائق / يوسف البحراني ج 1 ص 5 ]
(3) حركية العقل الاجتهادي لدى فقهاء الشيعة الإمامية/جعفر الشاخوري ص72– 75](171/6)
* وكذلك اشتكى من هذا الاختلاف الشيخ الفيض الكاشاني صاحب كتاب الوافي أحد الكتب الثمانية المعتمدة عند الشيعة وصاحب تفسير الصافي ، فقال عن اختلاف طائفته :
تراهم يختلفون في المسألة الواحدة إلى عشرين قولاً أو ثلاثين قولاً أو أزيد بل لو شئت أقول لم تبق مسألة فرعية لم يختلفوا فيها أو في بعض متعلقاتها(1) .
* واختار صاحب الحدائق كما في الدرر النجفية إمكانية ان يفتي الإمام تقية برأي ليس موجوداً حتى عند العامة وذلك لمحض المخالفة بين أصحابه .
حيث يقول :
بأن الأئمة يخالفون بين الأحكام وإن لم يحضرهم أحد من أولئك الأنام فتراهم يجيبون في المسألة الواحدة بأجوبة متعددة وإن لم يكن بها قائل من المخالفين(2).
سنن وأذكار في الأذان تركت
قد وردت بعض السنن المتعلقة بالأذان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته في عدد من الروايات الصحيحة ، ولكن الشيعة تمسكوا بألفاظ لم تذكر كالشهادة الثالثة وتركوا سنناً أكدت وحثت عليها روايات أهل البيت كثيراً، ورغم ذلك لا نجد لها اليوم ذكراً فقد هجروها ولم يهتموا بذكرها مطلقاً ومن هذه السنن.
أولاً : عبارة الصلاة خير من النوم
وردت عبارة الصلاة خير من النوم في كثير من روايات ألائمة وكان الإمام الباقر ينادي في بيته الصلاة خير من النوم ويذكر ذلك عن أبيه زين العابدين الإمام السجاد ، واقر بها بعض علماء الشيعة ، فكانت سنة صحيحة على زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمن ألائمه وستجد إنشاء الله كل ذلك في كتابنا (الصلاة خير من النوم حقيقة أم اتهام ).
ثانياً : دعاء الوسيلة بعد الأذان
__________
(1) مقدمة الوافي / الفيض الكاشاني ص9 ]
(2) حركية العقل الاجتهادي لدى فقهاء الشيعة الإمامية / جعفر الشاخوري ص 72 – 75 ] [ الحدائق / يوسف البحراني ج1 ص5 ](171/7)
لقد جاء الشيعة بالشهادة الثالثة في الأذان مع خلو المصادر المعتمدة في النقل عن الأئمة من ذكرها فهي لا أصل لها ، ولكنهم مع هذا تمسكوا بها وتركوا سنناً مؤكدة ورد ذكرها في الكتب المعتمدة عندهم عن الأئمة فجاؤوا ببدعة وتركوا سنة فخسروا الفضل والأجر، مع الإثم والوزر.
فدعاء الوسيلة الذي يذكر بعد الانتهاء من الأذان والوارد بأحاديث صحيحة لا نجد له اليوم ذكراً في مساجدهم أو إذاعاتهم التي يرفع فيها الأذان كل يوم ثلاث مرات (1)
__________
(1) خالف الشيعة جمهور المسلمين ، في عدة مسائل ذات صلة بالأذان، منها ان المساجد لا تؤذن ولا تفتح إلا في الأوقات الثلاثة الفجر ، والظهر، والمغرب ، ويجمع الشيعة في وقت واحد صلاة الظهر مع العصر ، وصلاة المغرب مع العشاء .
فلو سأل الشيعي نفسه كم مرة كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يصلي يومياً ؟ وكم مرة كان علي رضي الله عنه يصلي ويرفع الأذان من مسجده في الكوفة ، أو مآذن الدولة المترامية الأطراف التي كان يحكمها أو التي كان يحكمها من قبله إخوته الخلفاء الراشدون ويأتي الجواب المتفق عليه دائماً :
انهم كانوا يصلون ويؤذنون خمس مرات في خمسة أوقات متفرقات .
وان من المجمع عليه بين المسلمين ان النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الصلوات الخمس في خمسة أوقات ، وان الأذان كان يرفع من مسجده خمس مرات لا ثلاثا ، ولم يكن يصلي ثلاث مرات الا في حالات استثنائية كالسفر، والمرض، والمطر ، والبرد الشديد ، أو تشريعاً لامته عند الحرج ، أما القاعدة العامة، والقانون المطرد في صلاته- صلى الله عليه وسلم - وأذانه فخمس مرات ، ونحن مأمورون شرعاً باتباعه والاقتداء بسنته وهو القائل ( صلوا كما رأيتموني اصلي ) .
وليس من الاتباع ان نعكس تطبيق أفعاله فنجمع الصلوات من دون عذر ونقول : جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - لسبب فنكون كالذي يستبيح أكل الميتة دوما محتجا بجوازه عند الاضطرار .
ان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - صلى ثلاثة وعشرين عاماً اكثر من ثلاثين الف صلاة مكتوبة ، وفي المدينة وحدها صلى ما يقارب عشرين الف صلاة في أوقاتها التي حددها الله لا يجمع بينها الا إذا كان في سفر أو مرض أو ما شابهها من عذر ، فهل يصح شرعاً ويستقيم عقلاً ان نتحجج أو نتعلل بحديث واحد ورد فيه ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع مرة - ولنفرض انه جمع من غير عذر البتة – كي نقلب الأمر الذي كان عليه- صلى الله عليه وسلم - حياته كلها لنجعل من هذه المرة الواحدة حالة مستديمة لحياتنا كلها ؟!
الا نفكر في السبب الذي من اجله كان ذلك الجمع تلك المرة ؟! لنوفق بين هذا الحديث وغيره من الأحاديث والأمر أمر عمل هو اعظم أعمال الدين على الإطلاق !
تأمل هذا التوقيت المفصل الذي ورد في نهج البلاغة ج3 ص 82 من كتاب لعلي رضي الله عنه إلى أمراء البلاد حيث قال :
اما بعد فصلوا بالناس الظهر حتى تفيء الشمس من مربض العنز ، وصلوا بهم العصر والشمس بيضاء حية في عضو من النهار حين يسار فيها فرسخان، وصلوا بهم المغرب حين يفطر الصائم ويدفع الحاج ، وصلوا بهم العشاء حين يتوارى الشفق إلى ثلث الليل ، وصلوا بهم الغداة والرجل يعرف وجه صاحبه .
هذا بيان وتفصيل لا لبس فيه لأوقات الصلوات الخمس وأن كل صلاة في وقت محدد منفصل عن وقت الصلاة الأخرى .
* قال الصادق : لكل صلاة وقتان ، وأول الوقت أفضلهما .
* وقال : إذا كان ظلك مثلك فصل الظهر ، وإذا كان ظلك مثليك فصل العصر.
ولو سألت أي عالم يجيز جمع الصلوات : أيهما افضل الجمع أم الأفراد وأداء كل صلاة في وقتها ؟
لاجاب : الأفراد افضل ، والجمع لا يتعدى كونه جائزاً فهو ليس بواجب .
* قال محمد جواد مغنية في كتابه فقه الإمام جعفر الصادق :
ان وقت الفضيلة للظهر ان يصير ظل كل شيء مثله ، ووقت الفضل للعصر ان يصير ظل كل شيء مثليه .
[ فقه الإمام جعفر الصادق / محمد جواد مغنية ج1 ص 143]
* قال جعفر سبحاني :
ان الشيعة ترى جواز الجمع بين الصلاتين مع القول بان التفريق هو الافضل .
[ رسائل ومقالات /جعفر سبحاني ص457]
* قال الدكتور عبد الجبار شرارة :
توجهت بسؤال إلى مرجع الشيعة في وقته الإمام السيّد محسن الحكيم (قدس سره) كتبت له سيّدنا ماذا تقول في التفريق بين الصلوات ( يصلّي الظهر في وقته والعصر في وقته ) فكان جوابه وكنت أحفظه بالنّص (التفريق أفضل والجمع أسهل ، أو أيسر ) فعرفت أن الأفضل هو التفريق.
[ المواجهات حوار بين الشيعة والسنّة / تاليف الدكتور عبد الجبار شرارة ص58 -59]
وعلى هذا الأساس وحال مساجد وحسينيات الشيعة باق على حاله ، فمن أراد ان يفعل الأفضل ويفوز بالأجر الأعظم اين يذهب ؟ والمساجد لا تؤذن ولا تفتح الا في الأوقات الثلاثة الفجر ، والظهر ، والمغرب ، فلماذا لا نرفع الأذان منها خمس مرات ؟ حتى نتيح لمن يرغب في فعل الأفضل ان يصلي الصلاة في وقتها ، ومن أراد الجمع فذاك شأنه إذ يمكنه ان يصلي ثلاث مرات من دون حرج عليه فلماذا لا نعمل هذا ؟ ونصر على المفضول، ونحرم من أراد الأفضل من الحصول على الفضيلة ولا نمكنه منها؟!
ونحن نقول :
لا باس في الجمع بين الصلاتين في مثل هذه الحالات الاستثنائية ، ومنها الحرج وأسبابه كثيرة ، فإذا زالت الأسباب وانتهت الحالة الاستثنائية نرجع إلى ما كان عليه الرسول- صلى الله عليه وسلم - في الحالات الاعتيادية .
فلا يصح عقلاً ولا شرعاً ان نجعل من الاستثناء قاعدة ومن القاعدة استثناء أو نعدمها تماماً .
من أراد الاستزادة في هذا الموضوع فعليه بكتاب (مواقيت الصلاة) للدكتور طه حامد الدليمي.(171/8)
.
روايات الأئمة تذكر دعاء الوسيلة
واليك بعض الروايات الواردة عن الأئمة تذكر فضل دعاء الوسيلة بعد الأنتهاء من الأذان :
الرواية الأولى:
عن علي بن الحسين - عليه السلام - قال : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سمع المؤذن قال كما يقول: فإذا قال حي على الصلاة،حي على الفلاح ، حي على خير العمل ، قال: لا حول ولا قوة ألا بالله ، فإذا انقضت الإقامة قال:
(اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة أعط محمدا سؤله يوم القيامة وبلغه الدرجة الوسيلة من الجنة وتقبل شفاعته في أمته) ... (1).
الرواية الثانية :
ذكر الشيخ الطوسي في المبسوط :
روي أنه إذا سمع المؤذن يؤذن يقول : وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله ، رضيت بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً وبالأئمة الطاهرين أئمة ، ويصلي على محمد وآله ثم يقول :
((اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة [ والشفاعة] والفضيلة وارزقه المقام المحمود الذي وعدته وارزقني شفاعته يوم القيامة)) (2).
الرواية الثالثة :
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا سمعتم المؤذن فقولوا كما يقول ثم صلوا عليّ فمن صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً.
(( ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله وأنا أرجو أن أكون هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة ))
وعنه - صلى الله عليه وسلم - قال : لما سمع بلالاً يؤذن وسكت بعد فراغه .
(( من قال مثل هذا بيقين دخل الجنة)) (3).
الرواية الرابعة:
وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا قال المؤذن :
__________
(1) دعائم الإسلام / ج1 ص145] [ مستدرك الوسائل / ج4 ص58 ]
(2) المبسوط / ج1ص97 ] [ مستدرك الوسائل / ج2ص59 ]
(3) درر اللألى / ج1 ص10 ] [ مستدرك الوسائل / ج4 ص61](171/9)
أشهد أن لا إله إلا الله يقول الحاكي وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، رضيت بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً وبالأئمة الطاهرين- عليه السلام - أئمة ثم يقول :
(( اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته وارزقني شفاعته يوم القيامة)) (1).
الرواية الخامسة :
في مستحبات الأذان والإقامة قال شيخ الطائفة الطوسي في كتابه مصباح المتهجد : ويستحب أن يقول بعد الإقامة قبل استفتاح الصلاة .
( اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة بلغ محمداً- صلى الله عليه وسلم - الدرجة والوسيلة والفضل والفضيلة ) (2).
فهذه الأحاديث وغيرها كثير موجودة في كتب الشيعة تثبت ان النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهذا الدعاء ويعلمه لأصحابه ويبين فضله وأجر من يقرؤه ولكننا لا نجد أحداً منهم يذكره مطلقاً ، في الوقت الذي تذكر فيه– أي في الآذان - الشهادة الثالثة مع أنها ليس لها أصل بل هي من فعل المفوضة الغلاة الملعونين وهذا بعينه هو الإعراض عن الهدي النبوي وإتباع هدي المفوضة .
( اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ).
سئل آية الله محمد حسين فضل الله :
هل الحديث الأتي صحيح السند عندنا : من قال حين يسمع النداء :
اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته وارزقني شفاعته يوم القيامة .
الجواب :
لا باس به سواء كان صحيح السند أو غير صحيح ، فهو دعاء لطيف للنبي بان يصلي الله عليه لانه كان السبب في هداية أمته(3).
اقول :
__________
(1) درر اللألى / ج1 ص119] [ مستدرك الوسائل / ج4 ص61]
(2) مصباح المتهجد / الطوسي ص 40 ]
(3) الندوة / محمد حسين فضل الله ج9 ص 593 ](171/10)
انظر - هداك الله – كيف ترك علماء الشيعة كل هذه الروايات الصريحة التي تثبت هذه السنة ، ورفعوا (الشهادة الثالثة) في الاذان بالرغم من انهم قد عجزوا عن اثباتها برواية واحدة وردت عن النبي- صلى الله عليه وسلم - او عن الائمة .
فوالله لو عثروا على رواية واحدة من مثل هذه الروايات تثبت (الشهادة الثالثة) لطاروا بها فرحاً ولرقصوا لها طرباً ! ولكن انى لهم هذا !(171/11)
الفصل الرابع
صورتان متضادتان
لاتباع
سفينة أهل البيت
واختم بحثي هذا بما ذكره عالمان من علماء الشيعة في مسالة الشهادة الثالثة ، الأول السيد محمد العاملي الكاظمي ، والثاني السيد محمد محمد صادق الصدر ، لتجد عظم الفرق بين القولين مع العلم بان الاثنين قد ركبوا في سفينة أهل البيت وبذلك فانهم قد عصموا أنفسهم من الاختلاف، ولك الحكم عزيزي القارئ على ما ستجده من اختلاف وتضاد في الأقوال ولك ان تختار ما ينجيك منها يوم القيامة :
القول الفصل في لزوم ترك الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة
قال السيد محمد العاملي الكاظمي تحت هذا العنوان :
كل من كان له أدنى تأمل وتدبر يعرف جلياً أن الحق يحتم عليه ترك هذه الزيادة المستحدثة في أذان الرسول - صلى الله عليه وسلم - والأئمة - عليه السلام - ولا يقبل هذه التكليفات التي فاه بها بعضهم لسنة الرسول وتفصيل هذا الكلام يكون بذكر أمور :
أولاً :
إن الأذان حد شرعي بينه الشارع المقدس فلا يجوز الزيادة فيه أو النقصان منه لأنه إحداث قول قبال قول الشارع ولا يجوز تعدي الحدود الشرعية
{ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } (الطلاق: من الآية1)
ثانياً :
إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أدى لنا ديناً تاماً ولم يبق شيء لم يبينه ، ومن جملة ما بينه الأذان ولم يبين فيه الشهادة لعلي ولما لم تكن هذه الشهادة موجودة في سنته ولم يذكرها أهل بيته فإحداثها بعدهم جرأة عليهم وطعن فيهم .
فلو كان في ذكرها خير وفضل لعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان أولى وأحق وكذا أهل بيته.(172/1)
وفي بعض الأخبار ورد سؤال الإمام الصادق - عليه السلام - عن بعض الصلوات فأجاب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي كذا من الصلوة وأنا أصلي كذلك ولو كان خيراً لم يتركه رسول- صلى الله عليه وسلم - وفي رواية أخرى لو كان فضلاً كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعمل به وأحق.
ثالثاً :
ورد في بعض الأخبار ذكر بعض الأدعية والأذكار مثل لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت وهو على كل شئ قدير. فزاد الراوي قوله (بيده الخير) ورد الإمام - عليه السلام - عليه بقوله :
ان بيده الخير ، ولكن قل كما أقول .
وفي رواية أخرى : زاد الراوي على هذا الذكر ( ويميت ويحي ) بعد ( يحي ويميت ) فقال - عليه السلام - يا هذا :
لا شك في أن الله يحي ويميت ويميت ويحي ولكن قل كما أقول .
... والذي يستفاد من هذا وأمثاله أن مثل الأذان المبين تحديده من قبل الشارع لا يزاد عليه ولو بكلام حق لأن في هذا التحديد خصوصية ومزية لا يعرفها الناس .
رابعاً :
ورد في حديث عن أمير المؤمنين في تحديد السنة والبدعة فقال: ( السنة ما سن رسول الله والبدعة ما احدث بعده) ولما لم تكن الشهادة الثالثة لعلي عليه السلام موجودة في سنة الرسول فهي بدعة أحدثت بعده ، قصد بها الجزئية أو لم يقصد لشمول الحديث لكلا الوجهين(1) . انتهى كلامه .
أقول :
هذا ما ذكره السيد الأول وقد أنكر إنكاراً شديداً على من صرح بالشهادة الثالثة ، قصد الجزئية أم لم يقصد ، وقد جاء على ذلك بأدلة قطعية صحيحة ومختصرة ، ومن دون لف ولا دوران ، أدلة فيها قال الله وقال الرسول ، أدلة لا تحتاج إلى رد ولا إلى توجيه يفهم منها العاقل والمنصف بطلان هذه الزيادة .
__________
(1) الاعتصام بحبل الله / محمد مهدي الخالصي ص 57 ](172/2)
وانتقل بك عزيزي القارئ إلى أقوال السيد الآخر لكي تشعر بالفرق بين أدلة الاثنين وما سلكه الثاني من لف ودوران ، وابتعاد عن أقوال الله ورسوله .
محمد الصدر والشهادة الثالثة
ان من يركب متن عمياء ، أوشك ان يخبط خبط عشواء ، وان اجتهاد الشيعة ومنهم الصدر في إثبات (الشهادة الثالثة) في الأذان وبكل وسيلة متاحة أدت بهم إلى الوقوع في محاذير عدة كان بالإمكان تجاوزها لو تم التجرد من العصبية والهوى ، فهم أولاً لم يراعوا :
مصداقية هذه الوسائل وهل هي تتوافق مع القواعد الأصولية والحديثية المقررة عند أهل العلم أم هي مخالفة لها .
وكذلك لم يراعوا النتائج المترتبة على استخدام مثل هكذا وسائل وما تؤدي إليه من طعن وتعد على حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام، وتجاوز على الشرع المطهر والدين الحنيف.
والعجب ان ذلك كله تم لا لشيء وانما لأغراض طائفية واتجاهات تحزبية ، كانت هي المؤثر والدافع الرئيس لكل هذا التخبط ، وكل ذلك ستجده عزيزي القارئ في نص أجوبة آية الله محمد محمد صادق الصدر التي ذكرها الشيخ عباس الزيدي صاحب كتاب السفير الخامس رداً على أسئلة وردت إلى السيد حول ما ذكره التيجاني السماوي في كتابه كل الحلول عند آل الرسول عن الشهادة الثالثة فإليك الأسئلة والأجوبة ومناقشتها .
الأسئلة
السؤال الأول :
في هذه الفترة نزل إلى الأسواق المؤلف الأخير( كل الحلول عند آل الرسول ) للدكتور التيجاني وقد تعرض المؤلف إلى الشهادة الثالثة وأنكرها باعتبارها من الزوائد على المذهب الذي يجب تنقيته من هكذا أمور فما رأي سماحتكم بذلك .
الجواب :
بسمه تعالى : ملخص الحال فيها إنها ليست جزءاً من الأذان ، ولم تكن موجودة في ردح طويل من عصر المعصومين .(172/3)
وان قصد الجزئية للأذان أو الإقامة أو لغيرها فهو كاذب على الله ورسوله ، وهو من التشريع المحرم كما انه ليس عليها الان آية ولا رواية بعينها تدلنا على استحبابها .
كل ما في الأمر أنها مع عدم نية الجزئية لا تكون حراماً جزماً ، وان كان التيجاني يرى حرمتها فهو خاطئ ، باعتبار أنها بمنزلة الكلام المستقل في داخل الأذان ، وغير قاطع للموالاة فيه ، أذن فهي على أسوء تقدير من المباحات ويكون القائل بحرمتها محتاجاً إلى دليل مفقود.
ولكننا مع ذلك يمكن ان نستدل على استحبابها بعدة وجوه :
أهمها : ما أشار إليه الشيخ الصدوق ( راجع وسائل الشيعة ) من وجود روايات مفقودة فعلاً تأمر بذلك ، وهو وان كان قد انتقدها واتهمها بالوضع والكذب إلا أنها تثبت صغروياً بشهادته وتثبت كبروياً بضم أخبار (من بلغ) إليها فيثبت الاستحباب فان قلنا بان المستحب جزء أمكن قصد الجزئية اللزومية حراماً .
هذا إضافة إلى أدلة أخرى :
منها : ما ورد بمضمون ( عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنكم كلما ذكرتموني فاذكروا علياً ونحن قد ذكرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأذان أكيداً أذن يستحب لنا ذكر علي عليه السلام أيضاً بعد ضم الأخبار ( من بلغ ).
ومنها : استحباب ذكر الإمام ، واحترامه والصلاة عليه في المناسبات ولا شك ان الأذان من المناسبات العرفية والمتشرعية لذلك.
ومنها : نصرة المذهب حيث اصبح الجمع بين الصلاتين والشهادة الثالثة من شعاراته ومن مختصاته ، فيكون في الالتزام بها نصرة له بكل تأكيد ونصرته مستحبة بل واجبة أكيداً بكل وقت .
وان كان فيها نصرة المذهب أذن فلا توجد أية مصلحة في الردع عنه وان الحق مع العلماء في الإبقاء عليها والأمر بها لانه ثبت عندهم ان الأمر بها صادر عن الله سبحانه وتعالى ، فهم يأمرون بما أمر به الله سبحانه .(172/4)
ومن الصحيح ان آذان بلال لم تكن فيه الشهادة الثالثة إلا انه لم يكن فيه أيضاً (الصلاة خير من النوم ) وقد كان فيه ( حي على خير العمل ) فان قبل العامة بتطبيق آذانهم على آذان بلال قبلنا نحن ذلك أيضاً.
مضافاً إلى : انه ينبغي الالتفات إلى ان إخفاء العلماء ليس جريمة، ولا مخلا بعدالتهم ، بل الواحد منهم ابصر بالأمر واعلم بالمصالح فقد تقتضي المصلحة القول وقد تقتضي المصلحة الإخفاء والسكوت حول أي شيء من الأمور ويكونون معذورين في ذلك حسب تشخيصهم للمصلحة والمفسدة الدينية والمذهبية والاجتماعية .
ويكفي ان تلتفت إلى ان عدداً من الأفكار تعتبر من أسرار آل محمد، يحرم إفشاؤها ممن يعلم بها أو ببعضها ومما نسب إلى الإمام السجاد قوله .
يارب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون اقبح ما يأتونه حسناً
وأنا كنت أقول إلى وقت قريب بأننا لو عملنا للتيجاني تمثالاً من ذهب لكان قليلاً في حقه ولكنني أستطيع ألان ان اسحب هذه المبالغة من كلامي غفر الله لنا وله …. .
السؤال الثاني :
وقد ورد سؤالان يرتبطان بنفس القضية أوردهما زيادة للفائدة :
نرجو من سماحتكم الرد على من يقول بان الشهادة الثالثة بدعة لان إدخال ما ليس في الدين في الدين وذلك لأنها لم تكن موجودة في عصر النبي والائمة والأذان كما يعلم توقيفي .
الجواب :
بسمه تعالى : هذا سؤال عاطل أكيداً بعد الذي قلناه من الأدلة على مشروعية الشهادة الثالثة يعني إنها من الدين وليست خارجة عنه فلا تكون بدعة ولا ينحصر وجودها في عصر النبي لتكون من الدين فان اغلب السنة الشريفة واردة عن الصادقين وليست عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
السؤال الثالث :(172/5)
ونأمل ان يرد سماحتكم على القائل بأنه لو كان فيها خير لاحق للمذهب (كما يدعي علماء المذهب) لورد عن الأئمة وهم العالمون بحقائق الأمور أو قالوا إنها ستكون من رموز التشيع وشعاراً للمذهب الحق فاذكروها عندما يكون المذهب بحاجة إلى ذلك.
الجواب :
بسمه تعالى : هذا أيضاً سؤال عاطل بعد الذي قلناه من إنها واردة عن الأئمة : كل ما في الأمر إنها تالفة خلال ما تلف من الكتب ، وربما كانت مخالفة للتقية ، ومحرجة بالنسبة إلى علمائنا السابقين ( قدس سرهم ) كالشيخ الصدوق ، والطوسي ، والمفيد، وحذفوها من كتب الحديث وطعنوا في صحتها وقلنا انه يكفينا منها مسالة التسامح في أدلة السنن .
وقد كان الأئمة : أيضاً في تقية مكثفة هم وأصحابهم ولم يكن في مصلحة التشيع في ذلك الحين إعلان أمثال هذه الأمور حتى ضعفت الخلافة العباسية وسيطر البويهيون على المجتمع المسلم . انتهى(1) .
المناقشة
الذي يقرأ هذه الفتوى للصدر يجد نفسه قد وقع في متاهات ، وأمام نقولات من الصعب عليه تجاوزها أو التخلص منها .
إذ ان هذه المسألة التي هي في قياس الفقه ليست بالعسيرة المستعصية جعل منها في فتواه قضية عويصة ذات أبعاد ومقاصد طويلة وعريضة جعلته يجبر نفسه على التفريع غير المستساغ، ومحاولة إدخال هذه القضية في جوانب هي بعيدة عنها .
__________
(1) السفير الخامس / عباس الزيدي ص 287 – 290 ] .(172/6)
ونتيجة لكثرة هذه التشعبات التي ذكرها فانه أوقع المستفتي في حيرة من أمره الذي لم يعرف حقيقة حكمها ولا الأصل فيها ، وانما رده بعد كل الذي ذكره إلى التسليم بها والعمل بمقتضاها ولسان حاله يقول اعمل بها وإياك ان تستفسر عن حقيقتها ولعل هذا هو السبب الذي دفعه إلى اللف والدوران وذكر أمور لا تتعلق بالقضية ، فضلاً عن محاولة الإيهام التي سلكها ليجبر المستفتي على الأخذ بها مبتعداً عن البحث فيها لان البحث فيها على ما ذكره هنا يعجز العلماء وهو نفسه لا يمكن ان يطبق ما ذكره فلذلك أوصل المستفتي إلى حالة الإذعان عن طريق تصعيب القضية والباسها صوراً متعددة ، فكلام السادة أيضاً صعب مستصعب ولهم أسرار في الكلام تفوق ربما أسرار الأئمة.
وللاستفصال في ذلك نبين لك حقيقة ما ذكرنا عن طريق تبويب بسيط لفتوى الصدر فهو :
الشهادة الثالثة ليست جزءاً من الأذان
بداية ذكر : ( ان الشهادة الثالثة ليست جزءاً من الأذان جزماً ).
والتعبير بالجزء هنا تعبير موهم لا يصرح بحقيقة المراد فما مراده من هذا الجزء ؟ هل هو ركن الأذان – أي فصله – ؟ أم الزيادة المستحبة ؟ أم جعلها في الأذان كجزء من جزئياته ؟ فعدم التصريح يوجب الإيهام .
ثم بعد ذلك بين أنها : ( لم تكن موجودة في ردح طويل من عصر المعصومين ).
ولم يبين لنا معنى انتفاء الوجود وهذا أيضاً إيهام منه لان انتفاء الوجود لا يدل على عدم الورود .
ثم علق بعد ذلك ألفاظ الأذان بالقصد حيث قال :
( وان قصد الجزئية للأذان أو الإقامة أو لغيرها فهو كاذب على الله ورسوله وهو من التشريع المحرم ) .
وهذه نقطة يجب التنبيه عليها والانتباه لها إذ ان أجزاء الأذان والإقامة لا تتحقق إلا بقصدك لها عند تلفظك بها بمعنى انك ان لم تقصد انها من الأذان لم تكن أذاناً وان قصدت كونها من الأذان كانت أذاناً وانبنى عليها حكم جزئية الأذان .(172/7)
وذكر ان التشريع المحرم ينبني على هذا القصد وهذه أيضاً مسألة كبيرة وخطيرة ، وبحر من الإيهام ادخل به نفسه وبالتبع غيره لعدم وجود الضابط المحدد والرابط الموثق لما يثبت ويمكن فعله ويجب تركه ، وإذ ذاك يصبح التشريع أمراً مطلقاً ، وفعلاً مرسلاً ، وساحة مباحة لكل من هب ودب بما ان القصد له منتف فكل فعل يتسم بالتعبد أو له ارتباط بعبادة لك ان تزيد فيه ، وان تفعل فيه ما تشاء بشرط ان لا يكون عندك قصد بان هذا من هذه العبادة ، أو انك قصدت تشريعه كزيادة أو إضافة لهذه العبادة .
ولك ان تتصور مع نفسك عزيزي القارئ مدى خطورة هذا الموضوع إذا ما أراد شخص زيادة أو إضافة عبادة ما ، فانك وعلى ضوء ما قرره السيد لن تستطيع ان تنكر عليه لانه لا محالة سيقول لك :
ويحك أنا لم اقصد بهذه الزيادة الجزئية ، وما قصدت من فعلي هذا إلا خيراً وبما ان لدينا قاعدة ( من بلغ ) – آلاتية الذكر – فلا سوء في صنيعي هذا ، وهكذا عزيزي القارئ ومن خلال مثل هذا الكلام اعتقد ان الحاجة إلى مرجعية الكتاب والسنة ستكون منتفية لان السيد استعاض عنها بـ(القصد) الذي يمكن ان يؤسس به مع قاعدة (من بلغ) ديناً بأكمله.
لا دليل على الاستحباب
ولعل اخطر ما في هذه العبارات قوله :
(كما انه ليس عليها ألان آية ولا رواية بعينها تدلنا على استحبابها).
ومكمن هذه الخطورة يتجلى لنا فيما سيذكره هو بعد ذلك ، إذ انه بعد ان ذكر هذا الإجمال الموهم والمرخي للعنان في مسألة حكم الشهادة الثالثة انطلق في محاولة يائسة منه لايجاد ثغرة يمكن من خلالها النفوذ إلى إمكانية إدخال هذه العبارة في الأذان ، وهذه المحاولة منه لإيجاد مثل هذه الثغرة أدخلته في مطبات خطيرة جعلته يقرر جملة من القواعد غير المنضبطة ولا المستوفية لشرائط قبولها الأمر الذي جعلها عرضة للنقد والنقض .
كلام مستقل عن الاذان
إذ أنه بادئ ذي بدء قال :(172/8)
( باعتبار إنها بمنزلة الكلام المستقل عن الأذان في داخل الأذان ).
فهو أولاً ادخلها في الكلام المستقل الخارج عن حقيقة الأذان باعتبار عدم قصد الجزئية وإذ ذاك تكون من الكلام المباح الذي يذكر عرضاً بغير قصد الأذان فلا يقع في حرمة الزيادة .
ثم بنى على ذلك أمراً آخر فقال :
( وغير قاطع للموالاة فيه ، اذن فهي على أسوء تقدير من المباحات ويكون القائل بحرمتها محتاجاً إلى دليل مفقود ) .
أي ان هذا الكلام المضاف لا يقطع الموالاة في الأذان ، ومن قال بالتحريم فعليه بالدليل ، ومثل هذا الدليل منتفٍ ، وعليه فالقول باباحتها هو القول الراجح الذي يجب ألا يفتى إلا به .
ولا يخفى عليك عزيزي القارئ ما في هذا الكلام من خلل وفساد يستطيع ان يتلمسه صغار طلاب العلم فضلاً عن كبارهم ، أفلم يكن السيد يعلم ان الأذان عبادة ، والعبادات مبنية على التوقيف ، والأصل فيها التحريم ، بمعنى ان أي إضافة أو نقصان منها مستوجبة للاثم والعقوبة وان فاعل تلك الزيادة أو النقصان هو فاعل للمحرم .
ألم يكن من الأولى بالسيد ان يأتي على ما قرره من انتفاء نية الجزئية في الشهادة الثالثة ، أو كونها كلاماً مستقلاً وكونها لا تقطع الموالاة - أقول ألم يكن - في وسع السيد ان يأتي بأدلة لاثبات مقرراته هذه لا ان يطالبنا نحن بالدليل ، نعم كان من الحتم واللازم على السيد ان يخبرنا بالدليل على ذلك كله .
ثم هل ان كلامه هذا قاعدة مطردة في كل كلام يضاف إلى الأذان، أم أنها مخصصة في كلام دون غيره ؟
وهل تكرار هذا الكلام في الأذان يخرجه عن كونه مستقلاً عنه ، أم أن الشرط باق على الذكر العرضي في وقت دون غيره ؟
ومتى يكون الكلام المستقل قاطعاً للموالاة ؟
وهل أن كل كلام لا يقطع أم ان منه ما هو قاطع للموالاة ومنه ما هو غير قاطع ؟(172/9)
وهذه كلها لا ينبغي رميها هكذا جزافاً بغير انضباط ولا قيود بل يجب تحديد الحكم بانضباط شرعي منطقي ظاهر غير قابل للتعدي وموصل للمقصود في الوقت نفسه.
ولذلك ونتيجة لهذا التأرجح غير المبرر من جهة الشرع والعقل أوقع السيد نفسه في تناقض واضح ، وتشتت بين ، وانخراط في دروب ينزه العاقل نفسه عن الولوج فيها(1).
استحبابها
من ذلك محاولة استدلاله على استحبابها – أي الشهادة الثالثة- حيث قال:
( ولكننا مع ذلك يمكن ان نستدل على استحبابها بعدة وجوه ).
__________
(1) وبعد الرجوع إلى رسالة السيد منهج الصالحين وجدنا ما يؤكد ما ذهبنا إليه وذلك فيما يأتي :
أولاً : اشتراطه الموالاة بين فصول الأذان مع مراعاة التقارب بين هذه الفصول من غير ان يحدد لنا ولو بإشارة مقدار هذا التقارب حيث قال :
( الموالاة بينهما وبين الفصول من كل منهما وبينهما وبين الصلاة . فإذا أخل أعاد . غير ان الظاهر ان التقارب المطلوب بين الفقرات اكثر من التقارب بينهما أو قبل الصلاة ) .
فما المسوغ الذي اعتمده في ان الشهادة الثالثة بتكرارها لا تكون قاطعة للموالاة مع انها تنافي التقارب المطلوب إيجاده بين فقرات الأذان .
ثانياً : بين السيد في فتواه ان الشهادة الثالثة كلام مستقل عن الأذان اذن هي كلام وفي رسالته العملية ذكر : ( ان الكلام يكره في إثناء الأذان والإقامة ) بإطلاق وبدون تخصيص فما الذي سوغ ذكر الشهادة الثالثة مع انه في رسالته العملية لم يذكر لها تخصيصاً .
هذا ما وددت الإشارة إليه لظني ان هذا الأمر مهم ويجب الانتباه إليه فهو يحقق ما ركزنا عليه من ان الدافع لتثبيت هذا الأمر عند السيد والآخرين خارج عن مسألة الفتاوى الشرعية والإحكام الدينية .
[ منهج الصالحين / محمد محمد صادق الصدر ج1 ص 136](172/10)
وهذا كما قلنا تناقض لا يمكن التهرب منه ، فهو نفى اولاً وجود دليل على الاستحباب ، ونفي كونها من الأذان ، وجعلها من الكلام المستقل الخارج عن الأذان ، ثم بعد ذلك يحاول الاستدلال على استحبابها في الأذان.
ومحاولة الاستدلال على الاستحباب يثبت كونها جزءاً وينفي عنها أنها كلام مستقل وإذ ذاك فهو يناقض نفسه بنفسه ، ويدخل في باب التخرصات ومحاولة التشدق بالغث والسمين من الأقوال لارضاء الأطراف التي يمكن أن تستعديه والجهات التي يمكن أن تنتقده وهذا باب في العلم مرفوض فهو يجبرك على المداراة والكذب أحياناً .
تدليس واضح
ولعلنا نجد عنده تدليساً ، وعدم وضوح في الإحالة والإشارة من ذلك ما نسبه إلى الشيخ الصدوق حيث قال :
( ما أشار إليه الشيخ الصدوق ( راجع وسائل الشيعة ) من وجود روايات مفقودة فعلاً تأمر بذلك ، وهو وان كان قد انتقدها واتهمها بالوضع والكذب إلا أنها تثبت صغروياً بشهادته وتثبت كبروياً بضم أخبار (من بلغ) إليها فيثبت الاستحباب فان قلنا بان المستحب جزء أمكن قصد الجزئية اللزومية حراماً ) .
فهو أشار إلى وجود روايات مفقوده تأمر بهذا الفعل فنسبها إلى وسائل الشيعة من غير تحديد لمكانها ، ولا بيان لموضع ذكرها وهذا كلام مرفوض علمياً ورغم أن هذا الأمر مرفوض أصلاً ، إلا أنني بعد البحث والدراسة أيضاً لم أجد ولم أعثر على مثل هكذا كلام وهو بذلك يدلس على القارئ تدليساً واضحاً موهماً إياه بوجود مثل تلك الروايات المثبتة لدعواه وليس هذا أسلوب أهل العلم فضلاً عن العلماء المتبوعين.
والأغرب من ذلك ما نجده من تخبط واضح في التصريح إذ أنه يقول أن الصدوق أشار إلى روايات مفقودة ثم يقول أنه انتقدها واتهمها بالوضع والكذب .
فكيف تكون مفقودة وكيف تتهم بالوضع والكذب ؟
وهل يصح الحكم على شيء مفقود لم ينظر ولم يبحث فيه ؟(172/11)
ويبنى على هذا التخبط وهو انتقاد غير الموجود أنها تثبت صغروياً إذ جعل من شهادة الصدوق على الروايات المفقودة إشارة إلى إمكان إثبات هذا الأمر فأي تخرص بعد هذا وأي تخبط أبين من هذا .
التسامح في أدلة السنن
بل الأدهى والأمر أنه جعلها بالانضمام إلى غيرها مما يقوى في الإثبات ويكبر في الاستدلال عن طريق إدراجها بأخبار أيضاً واهية وهي أخبار من بلغ والتي لم يصرح بها بل أشار إليها إشارة بإطلاق وكأنها من الثوابت(1).
والأقسى أنه أثبت بقوله انف الذكر حكم الاستحباب ، ففتح الباب على مصراعيه لإدخال أي أمر في مجال الاستحباب ورد فيه الساقط من الآثار والضعيف من الأخبار وللخروج من مطب إثبات الجزئية للشهادة الثالثة عن طريق إثبات كونها مستحباً حاول التهرب من ذلك الإلزام بإيجاد منفذ اجتهد فيه بنفسه حين قسم الجزئية إلى قسمين جزئية استحبابية ، وجزئية لزومية فنسف بذلك كل ما بناه مسبقاً من كلام ، وأحكام ، وقواعد ، واستدلالات ، فهل تجد تناقضاً ، ولبساً، وتخبطاً ، وضبابية ، وتأرجحاً أبين وأوضح من هذا ، لا والله لا تجد.
حاطب ليل
ثم حاول بعد ذلك أن يبرر ما وقع فيه من هذا التخبط بجمعه ما هب ودب لتقوية ما حاول أن يثبته فكان كحاطب ليل لم يفرق في جمعه ما بين شوك أو عود ، حيث قال :
__________
(1) قاعدة التسامح في أدلة السنن (من بلغ):
عن أبي عبد الله انه قال :
من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به كان له اجر ذلك، وان كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقله ، وان لم يكن على ما بلغه .
[ ثواب الأعمال / الصدوق ص 72 ]
عن ابي عبد الله :
من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به كان له اجر ذلك، وان كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقله .
[ وسائل الشيعة / ج1 باب 18 ح1 – لاحظ الأحاديث 3 ، 4 ، 6 ، 7 ، 8 ، 9 ](172/12)
( ما ورد بمضمون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنكم كلما ذكرتموني فاذكروا علياً ونحن قد ذكرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأذان أكيداً أذن يستحب لنا ذكر علي عليه السلام أيضاً بعد ضم الأخبار من بلغ )
فباستدلاله هذا أخذ يعمم دلالة هذا الحديث مع العلم أنه لم يذكر من أين أخذه ، ولا سنده ، بل انك لا تجد تطبيقاً له في الكتب فهذه الكتب مملوءة بذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تجد من يقرن بينهما.
أضف إلى ذلك أن الأذان فيه ذكر للشهادة لا ذكر للرسول- صلى الله عليه وسلم - مجرداً، والفرق واضح بين الاثنين فهو بهذا الاستدلال البعيد كل البعد عن الضوابط العلمية يظهر مدى إفلاسه في هذا الباب ومحاولة لإرضاء الطائفة بتكلف استخراج الدليل حتى وان لم يكن مقبولاً ولا صحيحاً.
استحباب ذكر الإمام
والأدهى من ذلك كله أنه جعل الأذان مناسبة من المناسبات التي يستحب فيها ذكر الإمام علي رضي الله عنه حيث قال :
( استحباب ذكر الإمام ، واحترامه والصلاة عليه في المناسبات ولا شك ان الأذان من المناسبات العرفية والمتشرعية لذلك ) .
وهو بذلك اخرجه عن قدسيته وكونه شعيرة لها منزلة عالية في الشريعة .
وبعد كل هذه المحاولات اليائسة والفارغة من الضوابط العلمية، والأصول المقررة والمعتمدة في الفتوى والاستنباط ، صرح أخيراً بالدافع الأصلي والغاية الأولى والمهمة في هذا الذكر إلا وهي نصرة المذهب حيث قال :
نصرة المذهب
( نصرة المذهب حيث اصبح الجمع بين الصلاتين والشهادة الثالثة من شعاراته ومن مختصاته ، فيكون في الالتزام بها نصرة له بكل تأكيد ونصرته مستحبة بل واجبة أكيداً بكل وقت ، وان كان فيها نصرة المذهب أذن فلا توجد أية مصلحة في الردع عنه ) .(172/13)
وها هنا بيت القصيد ومربط الفرس فبقوله هذا إشارة إلى أنهم لا يبغون من وراء هذا الذكر إلا نصرة المذهب وتثبيته ، وابقاء الفرقة بينهم وبين المسلمين لتبقى الطائفية مزروعة ، ويبقى التمايز بارزاً وليبتعد الناس كل البعد عن محاولة الانصهار فيما بينهم .
فحتى هذا الأمر المسلم به والمنقول إلينا عملاً والذي فيه أقدس كلمة على وجه الأرض والتي عليها يجتمع كل المسلمين في هذه الدنيا .
أقول :
حتى هذه أوجدوا فيها هذه الزيادة ليحققوا التفريق والانفصال بينهم وبين عموم المسلمين ، وهذا ليس تجاوزاً مني ولا افتراء على الرجل بل هو ظاهر وحقيقة ما يقول واليك عبارته ويبقى الفهم عليك يا صاحب العقل واللب حيث قال:
( إذا كان فيها نصرة المذهب اذن فلا توجد أي مصلحة في الردع عنها).
وأي مصلحة يا صاحب العقل أعظم من تطبيق الشريعة كما هي فهو لاجل نصرة مذهبه نفى كل المصالح بل قام بنسفها وعدم الاعتداد بأي مصلحة وراء نصرة مذهبه حتى لو كانت مصلحة شرعية لان النكرة في سياق النفي تعم كما تقرر ذلك في الأصول .
أمر الشهادة الثالثة صادر عن الله سبحانه
ثم نراه يقول :
( وان الحق مع العلماء في الإبقاء عليها والأمر بها لانه ثبت عندهم ان الأمر بها صادر عن الله سبحانه وتعالى ، فهم يأمرون بما أمر به الله سبحانه ) .
لا ادري على ماذا استند السيد عندما قال ان أمر الشهادة الثالثة صادر عن الله سبحانه وتعالى ، وهو لما يستطع إثباتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل لما يستطع ان يثبتها بأقوال المعصومين ؟
ولو كانت هذه الأقوال منسوبة لا ثابتة ، والأحقية التي ذكرها للعلماء على ماذا بناها ؟
وكيف أصلها وهل معيار الحق عنده تابع لرجال هم الذين يحددونه أم هو تابع له هو الذي يميزه ؟
فكلامه هذا تترتب عليه محاذير كثيرة ينبغي التوقف عندها طويلاً(1)
__________
(1) أقول :
فلو ان أهل السنة أضافوا إلى الأذان مثل ( اشهد ان ابا بكر ولي الله ) شهادة من عندهم في الأذان أو في غير الأذان لرماهم الشيعة بالشرك واستشهدوا عليهم بقوله تعالى :
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } (الشورى: من الآية21)(172/14)
.
آذان بلال لم تكن فيه الشهادة الثالثة
ثم يعود ويصرح :
( ومن الصحيح ان آذان بلال لم تكن فيه الشهادة الثالثة إلا انه لم يكن فيه أيضاً : (الصلاة خير من النوم) وقد كان فيه (حي على خير العمل) فان قبل العامة بتطبيق آذانهم على آذان بلال قبلنا نحن ذلك أيضاً ) .
وهكذا اثبت أن الشهادة الثالثة لم تكن موجودة في أذان بلال فما هو إذن الداعي لاثباتها ، فهل هذا دين أم هو حزب سياسي يبحث عن مصلحة ونشر فكرة ومحاولة تثبيتها ؟ وهو كما يسمى الآن بالدعاية السياسية والشعارات فهل هذا هو مقام الدين عند العلماء ، ما هكذا تورد الإبل يا محمد صادق الصدر .
ثم أوضح بعد ذلك ضعف حجته عندما وجه الأمر إلى أهل السنة وكأنهم هم الذين سألوه أو اعترضوا عليه فدندن حول قضية الصلاة خير من النوم ، وحي على خير العمل فكأن حاله يقول إننا نساومكم على هذه القضية فكما أنكم تقولون بهذا فنحن نقول بهذا فأي طائفية أشر من هذا وأي فرقة بين المسلمين أبين من هذه .
عبارات مكروهه
بل الأدهى من ذلك أنه في خطابه هذا الذي ينبغي أن يكون فيه انتقاء للألفاظ واختيار للكلمات التي لا تثير ولا يكون فيها إساءة لاحد، نجده قد استعمل ألفاظاً مثيرة وعبارات مكروهه ، من ذلك استعماله لفظ العامة المقيت الذي هو علامة الفرقة ودليل التطرف وشعار الطائفية .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (الحجرات :11)
إخفاء العلماء ليس جريمة(172/15)
ومما ذكره : ( انه ينبغي الالتفات إلى ان إخفاء العلماء ليس جريمة، ولا مخل بعدالتهم ، بل الواحد منهم ابصر بالأمر واعلم بالمصالح فقد تقتضي المصلحة القول وقد تقتضي المصلحة الإخفاء والسكوت حول أي شيء من الأمور ويكونون معذورين في ذلك حسب تشخيصهم للمصلحة والمفسدة الدينية والمذهبية والاجتماعية.
أقول :
ان هذا الكلام لا يحتاج إلى رد ولكن لي ملحوظة واحدة لا تخفى على أحد ولا حتى على السيد اذكرها هنا من باب التنبيه والتذكير لا غير وبدون إطالة فأقول :
ان دور العلماء هو بيان الدين والشريعة وعدم كتمان ما أمر الله به قال تعالى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } (البقرة:159)
النتيجة
والذي يتلخص لنا من هذه الفتوى ما يمكن ان نجمعه بعبارة أن الحزب فوق كل شيء فالسيد هنا لم يقم وزناً للادلة الشرعية ، ولا الضوابط العلمية ، ولا الأصول المقررة ، بل إذا بها كلها في بوتقة نصرة المذهب، ومخالفة الآخر وكأنه يجعل من هذه القضية هي المحرك والدافع الذي منه ينطلق الناس في تعبدهم وسلوكهم بل حتى وانتمائهم فيخرجهم من دائرة العبودية لله جل وعلا إلى دائرة التحزب والاتباع لاناس معينين وفكر معين بغض النظر عن مخالفة ذلك للشريعة أو موافقته .
أين ذهبت سنة النبي- صلى الله عليه وسلم -
وليس أدل على ذلك من هذه التجاوزات الكثيرة التي رأيناها والتي يكرر السيد ذكرها:
( الشهادة الثالثة لا ينحصر وجودها في عصر النبي لتكون من الدين فان اغلب السنة الشريفة واردة عن الصادقين وليست عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ).(172/16)
فتصريحه بأن أغلب السنة الشريفة واردة عن الصادقين عليهما السلام – محمد الباقر وجعفر الصادق - وليست عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في معرض بيان مشروعية الشهادة الثالثة على أساس أن وجودها لا ينحصر في عصر النبي- صلى الله عليه وسلم - فيه من التعدي والتجاوز ما لا يسكت عليه عاقل فضلاً عن عالم .
فأي تجاوز أكثر من هذا ؟ وأين ذهبت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ وهل الصادقان إلا أتباع للنبي- صلى الله عليه وسلم - ؟
فكيف يجرؤ السيد على هذه المماثلة في التشريع التي توحي بمساواة المنزلة فأن القارئ لهذا الكلام لا يجد مناصاً من الحكم بالمطابقة بما ورد عن الصادقين وما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في وحدة التلقي وهذا يشعر لزوماً بوحدة المنزلة وتساوي الدرجة(1)
__________
(1) أودعها النبي- صلى الله عليه وسلم - عند خلفائه
وهذا ما أكده صاحب كتاب الشهادة الثالثة المقدسة الشيخ عبد الحليم الغزي نقلاً عن السيد المحقق عبد الرزاق الموسوي حيث قال السيد :
لما قلناه من عدم مساعدة ذلك الظرف بمضايقة الأمة على الجهر بها في الأذان خوفاً من الارتداد ، فكانت – أي الشهادة الثالثة - كبقية الإحكام التي أودعها النبي- صلى الله عليه وسلم - عند خلفائه ، ويكون التعريف بها تدريجياً ومنه ما هو باق إلى أيام الحجة المنتظر عجل الله فرجه .
[ الشهادة الثالثة المقدسة / عبد الحليم العزي ص 104 ]
واكده أيضا السيد جعفر مرتضى العاملي في كتابه الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة شبهات وردود حيث قال :
انه حتى لو كانت تلك الأخبار تريد تشريع الشهادة الثالثة في الأذان ولو مع قصد الجزئية فما هو المانع من ذلك ، كما ان ذلك لا يوجب ان يكون النبي- صلى الله عليه وسلم - وعلي قد فعلاها .
اذ حتى لو لم يرد ذلك عن النبي وعن علي فان مما لا ريب فيه ، ان بيان بعض الاحكام لم يكن ميسوراً لهم في بعض تلك الحقب الزمنية لاكثر من سبب وعلة ، فبقيت محفوظة لديهم الى ان بينها من تاخر زمانه من الائمة بصورة لا توجب هيجان المناوئين لشيعتهم ومواجهة الشيعة الاذى .
وحين استقرت امور الاعتقاد واصبح بالامكان الجهر بهذه القضايا ولو بمقدار محدود بادروا إلى ذلك وبينوا للناس ما لزم بيانه وبالطريقة المناسبة لظروفهم .
وقال أيضا :
ان الأدلة قد دلت على ان الله تعالى قد فوض للنبي وللائمة جعل وانشاء بعض الأحكام ، وذلك حينما تكتمل العناصر الموجبة لذلك ، وفقاً للضوابط التي اعطاهم الله اياها ، وقد اضاف النبي الركعتين الأخيرتين من صلاة الظهر والعصر والعشاء ، ولاجل ذلك يعبر عن هاتين الركعتين بركعتي السنة ، وعن الركعتين الاوليين بركعتي الفريضة .
[ الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة شبهات وردود/ مرتضى العاملي ص 41]
الأئمة مشرعون
أقول:
كثيراً ما ينكر الشيعة انتقاد أهل السنة لهم باعتبارهم يعتقدون بان الأئمة مشرعون ، وينكرون هذا الأمر اشد الإنكار ولكن عند الرجوع إلى كتبهم، وعباداتهم ، وأقوالهم ، تجدها قد شرعت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا اصل لها في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وانما ادعى فيها علماء الشيعة ان هذه من العلم المخفي المحفوظ عند الأئمة ، والائمة مكملون للدين ونسوا قول الله سبحانه وتعالى:
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً } (المائدة: من الآية3) .
وما قول السيد الصدر ، والسيد الموسوي ، والسيد العاملي إلا خير دليل على ذلك .(172/17)
.
أذن فقد كان الدافع الطائفي ولا زال هو الدافع الرئيسي لكل ما تقدم من كلام ، بل هو دفع مع الأسف عامتهم وعلماءهم وكبراءهم – وكما رأينا - إلى التجاوز والتطاول على أعظم شخص عند المسلمين وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - فالذي ذكره السيد ها هنا لا يتطابق ويتماشى مع ما أمر الله عز وجل به في قوله :
{ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (النور:63)
فإذا كان الأدب معه - صلى الله عليه وسلم - يقتضي من المؤمن أن يحسن التلفظ باسمه - صلى الله عليه وسلم - فكيف إذا ذكر في مقام التشريع ومنزلة الحكم ، والله لا أدري ما أقول، فلو كان القائل بذلك جاهلاً أو لا علم له بمنزلته - صلى الله عليه وسلم - إذن لهان الأمر وسهل ولكن ان تصدر من شخص مصدر عند قومه ، ومن أجل قضية هو نفسه أنكرها وجوداً وأثبتها تحزباً فيتجاوز بمثل هذا التجاوز فهذا أمر والله لا يقبل ولا يمكن أن يسكت عنه بل يوضح هذا الخطأ الجسيم ويبين هذا التجاوز ويشار إلى هذه المخالفة .
روايات التحريف
وقال أيضاً :
( ربما كانت مخالفة للتقية ، ومحرجة بالنسبة إلى علمائنا السابقين (قدس سرهم) كالشيخ الصدوق ، والطوسي ، والمفيد ، وحذفوها من كتب الحديث وطعنوا في صحتها )
أقول :
ألم تكن روايات التحريف المتواترة المستفيضة في كتب علماء الشيعة وعلى رأسهم محدثو ومفسرو الشيعة من الكليني إلى النوري الطبرسي مخالفة للتقية ومحرجة لهم ؟ فلماذا لم يحذفوها ؟ أهذه أولى من تلك ؟ أم يا ترى تلك اعظم ؟!!(172/18)
فهذا ما أردت بيانه بخصوص هذه الفتوى ولعلك أيها القارئ تجد ما ذكرت واضحاً في كلامه ولا يحتاج أصلاً لمن كان له عقل سليم ان يبين له ذلك ، ولكنا أردنا الاستثارة لعلنا نجد أذاناً مصغية وقلوباً واعية تأخذ الأقوال نقداً وتعمل فكرها ولا تذعن كالمنقاد الذي لا حول له ولا قوة ولا إرادة وما دفعني إلى هذه الإشارة إلا ما صرح به السيد في فتوى من فتاويه حيث قال :
التقية
( وقد كان الأئمة أيضاً في تقية مكثفة هم وأصحابهم ولم يكن في مصلحة التشيع في ذلك الحين إعلان أمثال هذه الأمور )
فأورد مسألة التقية التي أصبحت متكئاً يتكئ عليها الشيعة حينما يعجزون عن رد الجواب ، ثم نقول : مصلحة التشيع عند من ؟ أعند الأئمة ؟ وهل هذا يقتضي منهم الإخفاء وعدم الإفصاح ، لا ادري والله كيف يقبل هذا الكلام وهو صرح بأن أغلب السنة أخذت منهم في فتوى أخرى وهي السابقة لهذه فهم يخفون أموراً من الدين مهمة،ثم ان أغلب السنة أخذت منهم ، فلا أدري كيف يمكن أن يجمع بين هذين القولين .
بل الأدهى من ذلك انه جعل من الأئمة زعماء سياسة ورؤساء حزب همهم مصلحة التشيع لا مصلحة الإسلام والمسلمين فحصرهم في دائرة ضيقة وهي دائرة التشيع بدل أن يوسعهم بدائرة الإسلام .
ومن أدلة السيد التي عرضها يتبين لنا مدى ضعف الاستدلال ، وعدم تمكنه من النهوض بالادلة والحجج على مدعاه فهو لم يستطع ان يأتي برواية واحدة وردت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن الأئمة تثبت وجود الشهادة الثالثة .
بل انه لم يذكر حتى رواية الاحتجاج ، ولم يستدل بها لمعرفته المسبقة بضعفها وسقوط حجيتها وهو لم يستطع ولن يستطيع وكذلك الحال مع أي عالم شيعي أخر ان يأتي بمثل هذه الرواية .(172/19)
لذا فاني أقولها وكلي ثقة وبضرس قاطع نعم لم يستطع أحد من علماء الشيعة ولن يستطيع ان يأتي برواية واحدة تثبت وجود عبارة ( اشهد ان علياً ولي الله ) في الاذان ، ولو طلعت الشمس من مغربها ، ولو اجتمع على ذلك الإنس والجن ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .
وختاماً لقولي هذا لا أطلب منك أيها القارئ إلا أمراً وهو إن شاء الله يسير عليك أن تعمل فكرك في ما يقال ويكتب ولا تمره على عقلك هكذا كالبله والإمعات الذين هم اتباع كل ناعق فان هذا الأمر دين يحاسبك عليه رب العالمين فاتق الله وكن مع الصادقين .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } (التوبة:119).
{ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (المائدة:119).
{ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً } (الأحزاب:24).
سؤالان
ثمة سؤالان أرجو منك عزيزي القارئ الشيعي ان تجيب عنهما راجياً منك قبل ذلك تحكيم عقلك قبل هواك .
الأول :
هل تعتقد ان الله سبحانه وتعالى سوف يحاسبك عن عبارة ( الشهادة الثالثة ) وهل هي جزء من الأذان أم لا ؟
والثاني :
هل انه جل وعلا سوف يسألك لم لم ترفع ( الشهادة الثالثة ) في الأذان ؟ أم انه سيسألك لم رفعتها ؟
ولك ان تتخيل نفسك لحظتها في ذلك الموقف العصيب ، الذي تقف به وحدك أمام الله ، وقد فر الناس من حولك.(172/20)
{ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } (عبس: 34- 37) وأولهم مراجع التقليد الذين سيتبرؤون منك.
{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } (البقرة:166) .
أقول ياترى ماذا سوف يكون جوابك عندها هل انك سوف تتبرأ منهم ؟
{ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } (البقرة:167) .
أم انك ستقول إنما فعلت ذلك لاني وجدت قومي هكذا يصنعون وإنا على آثارهم مقتدون .
{ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ } (الزخرف:22)
وماذا ياترى سيكون رد رب العزة على مثل هذا التبرير ؟ أتراه سيقول لك اذهب سريعاً إلى الجنة فأنت من الطلقاء المعذورين ، أم انك سوف تقف أمامه طويلاً وتحاسب على ما أضفته للدين.
فحذار – عزيزي الشيعي – من ذلك الموقف فاني لك ناصح وعليك مشفق ، وبادر نفسك بالسؤال في هذه الدنيا لانك وعلى ضوء إجابتك هنا سيتحدد جوابك هناك ، ولآت ساعة مندم .
{ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ } (الزمر:18) .
عزيزي القارئ :
في زمن ما ومكان ما ستتوقف دقات قلبك ، لتؤذن لك بالرحيل عن هذه الدار ، ولكن قبل ذلك بهنيهة وأنت ملقى على السرير سيمرر شريط حياتك أمام عينيك كالوميض فتستعيد ذاكرتك عندها جميع ما فعلته خلال سني حياتك الماضية .(172/21)
في ذلك الوقت بالتحديد ، سوف يتوقف الزمن لحظة ، لتكتشف صواب ما فعلت من خطئه .
وعند ذلك فقط ستتحسر على أيام وشهور وسنين مضت وخلت وأنت سادر في غيك وضلالك وتقليدك الأعمى ، عندها لن تكون لك أمنية سوى بالرجوع إلى هذه الدنيا لتتمكن من تغيير ما يمكنك تغييره .
عزيزي القارئ :
أنت الان في زمان الأمنية فاعمل واجتهد .
إشكال أخير
بعد الانتهاء من تفنيد هذه الشبهة بمعونة الله تعالى فاني كلي ثقة ان القارئ اللبيب سيوافقني على كل ما ذكرت ، ويؤيد كلامي الذي لم ينبع من فراغ أو اتهام بدون دليل ، وانما هو كلام قد دعمته بأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقوال أئمة أهل البيت رضي الله عنهم ، وأقوال مراجع الشيعة الكبار الذين يرون عدم شرعية إضافة عبارة اشهد ان علياً ولي الله إلى الأذان .
وأقول ان كلامي هذا يوافقني عليه أيضاً كثير من علماء الشيعة الموجودين حاليا ولكن ليس في اليد حيلة فهم يتجنبون إنكار هذا الأمر والتصريح به مخافة ان تتوجه إليهم التهم كما توجهت إلى الخالصي، والتيجاني وغيرهم لذا فهم فضلوا السكوت على الانتحار .
ولكن ستبقى نقطة في ذهن القارئ عائقاً بينه وبين قبول هذا الأمر، وهذا العائق قد زرعه علماء الشيعة أنفسهم على مر الدهور والسنين حين إجابتهم على أسئلة الشيعة المنكرين إضافة الشهادة الثالثة العارفين بعدم ورودها عن الأئمة وانها قد أدخلت حديثا للمذهب .
فأجاب عن هذه المسألة علماء الشيعة وحاولوا تخدير اتباعهم فقالوا لهم:
لا ضرر من مثل هذه الإضافة بدليل ان أهل السنة أيضاً أضافوا إلى الأذان عبارة (الصلاة خير من النوم) ولم يروا في ذلك قادحاً للعبادة، فهذا شيء عادي وطبيعي ولا يخل بالعبادة ولا ينقضها فالشيعة أضافوا والسنة أضافوا فلا تفكروا ولا تهتموا بهذا الأمر فانه أمر هين ويسير.
ربما يكون هذا الكلام العائق الأخير أمام الشيعي لترك هذه البدعة.(172/22)
فأقول لك أيها الشيعي لا تستعجل وتسلم إلى علمائك بهذا التبرير الواهي إلا بعد ان تقرأ كتابي (الصلاة خير من النوم حقيقة أم اتهام) وبعد ذلك سوف تتأكد بنفسك من خطأ هذا التبرير وشتان ما بين قول أهل السنة بالصلاة خير من النوم – التي ترفع في الاذان الاول من الفجر فقط ، والناس نيام - وبين قول الشيعة بالشهادة الثالثة – التي ترفع في الاذان والاقامة ، وفي خمسة أوقات .
فالمتتبع لكتب الحديث عند أهل السنة سيجدهم قد خصصوا أبواباً كثيرة ومنفردة عن التثويب - أي قول الصلاة خير من النوم - في الأذان، وقد وردت تحت هذه الأبواب روايات كثيرة وصحيحة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تؤكد فيها تأكيداً جازماً على ورود هذه العبارة كفصل من فصول الأذان، وان هذه العبارة كانت ترفع على زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى زمن الخلفاء الراشدين ومنهم علي رضي الله عنه .
وقد جمعت منها ما يقرب من (65) رواية تصرح بذلك ، وقد أثبت هذه الروايات جميعها في كتابي السابق الذكر ( الصلاة خير من النوم حقيقة أم اتهام ) ، ولو كان للشيعة حديث واحد فقط على الشهادة الثالثة بمستوى هذه الأحاديث لطاروا به طرباً وفرحاً ، ولكن أنى لهم ذلك ؟!!
واليك عزيزي القارئ أهم الأبواب التي وردت فيها تلك الأحاديث :
باب في التثويب . [ سنن أبي داود / ج1 ص 148 ]
باب كراهية التثويب في غير أذان الصبح . [ البيهقي/ ج1 ص 423]
باب التثويب في أذان الفجر . [ سنن الدارمي / ج1 ص 270 ]
باب التثويب في الفجر . [ سنن الترمذي / ج1 ص 110 ]
باب التثويب في أذان الفجر . [ سنن النسائي / ج2 ص 13 ]
باب التثويب في أذان الفجر .[ سنن البيهقي / ج1 ص421/422 ]
باب الصلاة خير من النوم . [ مصنف عبد الرزاق / ج1 ص472 ]
باب التثويب في أذان الصبح.[ صحيح ابن خزيمه / ج1 ص200 ](172/23)
هذا وقد ذكرت في كتابي السابق الذكر أحاديث كثيرة من كتب الشيعة تثبت ورود هذه العبارة عن أئمة أهل البيت رضي الله عنهم.
فضلاً عن أقوال بعض مراجع الشيعة الكبار الذين أثبتوا عبارة الصلاة خير من النوم في آذانهم .
وقد اثبت فيه أيضاً براءة سيدنا عمر رضي الله عنه من تهمة إضافة هذه العبارة إلى الأذان وانه بريء منها براءة الذئب من دم يوسف.
وكل ما تقدم هو غيض من فيض ولو أردت ان اجمع لك عزيزي القارئ كل ما روي من أحاديث وردت من طريق أهل السنة تثبت عبارة الصلاة خير من النوم في كتاب بمستوى كتاب الاحتجاج للطبرسي الهالك لجمعت من ذلك مجلداً كبيراً .
لذا تربص عزيزي القارئ حتى حين .
الخاتمة
الحمد لله في البدء والتمام على ما أولانا من نعم كثيرة لا سيما نعمة الإسلام والصلاة والسلام على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - خير الأنام وعلى اله وصحبه وبعد :
فقد اكتملت صورة البحث بالشكل الذي رسمناه له وبقى علينا ان نضع القلم جانباً ونختم الحديث بهذا القدر من الكلام ولكن قبل ذلك لابد من سؤال نوجهه لمن قرأ كتابنا هذا ، نقول له فيه :
وأنت تسمع ( الشهادة الثالثة ) وبقية الزيادات وهي ترفع في كل حسينية ومعبد، هل سألت نفسك عن الدافع الذي يحمل هؤلاء على مثل هذا الفعل ؟ وهل هو جهل ؟ أم هوى ؟ أم هي عصبية وحمية ؟ لا ريب انك وبعد قراءتك لهذا الكتاب ستجزم بأحد هذه الأوصاف لازمة لهم ، لذلك كان من الضروري على كل من أراد الهدى ومعرفة الحق أن يجرد نفسه من التعصب والهوى ويأتي إلى الله بقلب سليم ويسلم إليه وجهه وينقاد إليه ولا ينظر إلى سواه ، كي يشرح الله صدره للحق وللعمل به ، قال تعالى :
{ قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب } ( الرعد /37) .
{ قل لا اتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين } (الأنعام /56) .(172/24)
{ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } (الأنعام:11 ) .
فعلى الشيعة أن ينبذوا كل هذه الآراء ، ويرجعوا إلى كتاب الله وسنة رسوله ويتمسكوا بهما ولا يتعدوا حدودهما ، ويتعصبوا للحق لا للمذهب، ويقوموا بالعدل ويلزموا كلمة الصدق ، ويدينوا الله بالدين الخالص ، ولا يشركوا في حكمه أحدا وبذلك يكونون قوامين بالقسط شهداء لله .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } (النساء:135) .
ذلك هو والله فعل العترة الطاهرة من أئمة الهدى عليهم السلام ولم يكونوا يوماً ليرتضوا غير ذلك ديناً لهم فمن كان على حبهم وموالاتهم فليتبع الحق وهو أحق أن يتبع ومن كان يدعي حبهم واتباعهم وموالاتهم ادعاء زائفاً فليستمر بغيه واتباع هواه حتى يأتيه أمر الله وهو على ذلك .
{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } (آل عمران:106) .
أخي القارئ استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه واستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك ، والى لقاء في رسائل أخر ان شاء الله تعالى.(172/25)
مخُتْصَرُ
مِنْهَاجِ السُّنَّة
لأبي العباس شيخ الإسلام أحمد بن تيمية
رحمه الله
اختصره
الشيخ عبد الله الغنيمان
المدرس بقسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة
الجزء الأول 1410هثهه
المقدمة
الحمد لله مظهر الحق ومعليه ، وقاطع الباطل وذويه ، قال الله تعالى : { بَلْ نَقْذِف ُبِالْحَق ِّعَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقْ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُون } ، { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كاَنَ زَهُوقًا } ، ( قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيد (. أحمده حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون .
أما بعد:( فإن منهاج السنة النبوية في نقض دعاوي الرافضة والقدرية ) من أعظم كتب الإمام المجاهد الصابر المصابر شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية ، قد ناضل فيه عن الحق وأهله ، ودحض الباطل وفضحه . وشباب الاسلام اليوم بأمس الحاجة إلى قراءة هذا الكتاب ، ومعرفة محتواه حيث أطل الرفض على كل بلد من بلاد الاسلام ، وغيرها بوجهه الكريه ، وكشر عن أنيابه الكالحة ، وألقى حبائله أمام من لا يعرف حقيقته ، مظهرا غير مبطن ديدن كل منافق مفسد ختال ، فاغتر به من يجهل حقيقته ، ومن لم يقرأ مثل هذا الكتاب.(173/1)
والغالب على مذاهب أهل البدع والأهواء ، أنها تتراجع عن الشطح وعظيم الضلال ما عدا مذهب الرفض فإنه يزداد بمرور الأيام تطرفا وانحدارا، وتماديا في محاربة أولياء الله وأنصار دينه ، وقد ملئت كتب الرافضة بالسباب والشتائم واللعنات لخير خلق الله بعد الأنبياء ، أعني ، أصحاب رسول الله ( ، ورضي الله عنهم ، وهم لا يتورعون عن تكفير الصحابة ، ولا سيما كبارهم وسادتهم ، مثل أبي بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وإخوانهم _ رضوان الله عليهم _ الذين اطفؤوا نار المجوس ، وهدموا معبوداتهم ، وإكفار الصحابة ومن يتولاهم في كتبهم المعتمدة عندهم لا يحصره نقل ، فهم يتعبدون بلعن صحابة رسول الله ( ، ويعتقدون أن الشيعة بأئمتهم هم الناس ، وما عداهم همج للنار وإلى النار ، والله لا يقبل من مسلم حسنة مهما بالغ في الإحسان ما لم يكن شيعيا كما في كتابهم (الوافي ، الباب السابع والثامن بعد المائة ) ، وفي ( الكافي ) أحد الكتب الموثوق بها - عندهم - ما يبين عن حقدهم الدفين على الاسلام ومن جاء به ، ومن حمله واعتنقه ، وهم يرون أن القرآن نزل لشيئين أحدهما : الثناء و المدح على علي بن أبى طالب ( وإعلاء شأنه وذريته ، والثاني : ثلب أصحاب رسول الله ( وذكر معايبهم ، ولهذا قالوا : إنه ضاع من القرأن ثلثاه أو ثلاثة أرباعه ، وهم يعتمدون في دينهم على الكذب الذي يلصقونه بأئمتهم ، والادعاءات الكاذبة فصاروا من أكذب الناس ، وأكثرهم تصديقا للكذب ، وتصديقا بالباطل ، ومع ذلك يرمون الصحابة بالنفاق ، ونبتهل إلى الله تعالى أن يزيدهم غيظا وأن يكبتهم بكمدهم وكل من غاظه الاسلام .(173/2)
و لما كان كتاب منهاج السنة مشتملا على مباحث مطولة . وغير مطولة في الرد على القدرية والمتكلمين وغيرهم من سائر الطوائف أحببت أن أجرد ما يخص الرافضة من الرد عليهم فيما يتعلق بالخلافة والصحابة وأمهات المؤمنين وغير ذلك . ولم أضف إليه شيئا من عندي ، لا في أصله ، ولا تعليقا ، لأن كلام الإمام ابن تيمية فيه من القوة والرصانة والمتانة ما يغني عن كل تعليق ، وعليه من نور الحق ووضوح البيان وقوة الحجة ما لا يحتاج إلى غيره . فالله يجزيه على جهاده ومنافحته عن الاسلام وأهله خير الجزاء ، ونسأله تعالى أن يشركنا معه في جهاده وجزائه إنه خير مسؤول ، وأكرم مأمول ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه . ... ... ...
- - ...
... ... ... ... ... ...
قال شيخ الإسلام :
الحمد لله الذي ( بَعَثَ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُم الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم } (1).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، كما شهد هو سبحانه وتعالى أنه لا إله إلا هو ، والملائكة ، وأولو العلم ، قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم .
__________
(1) الآية 213 من سورة البقرة .(173/3)
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ختم به أنبياءه ، وهدى به أولياءه ، ونعته بقوله في القرآن الكريم : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيم . فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم ((1) . صلى الله عليه أفضل صلاة وأكمل تسليم .
( أما بعد ) : فإنه أحضر إلي طائفة من أهل السنة والجماعة كتابا صنفه بعض شيوخ الرافضة، في عصرنا منفقا لهذه البضاعة ، يدعو به إلى مذهب الرافضة الإمامية ، من أمكنه دعوته من ولاة الأمور وغيرهم ، أهل الجاهلية ، ممن قلت معرفتهم بالعلم والدين ، ولم يعرفوا أصل دين المسلمين .
وأعانه على ذلك من عادتهم إعانة الرافضة ، من المتظاهرين بالاسلام، من أصناف الباطنية الملحدين ، الذي هم في الباطن من الصابئة الفلاسفة الخارجين عن حقيقة متابعة المرسلين ، الذين لا يوجبون اتباع دين الاسلام ، ولا يحرمون اتباع ما سواه من الأديان، بل يجعلون الملل بمنزلة المذاهب السياسية التي يسوغ أتباعها ، وأن النبوة من السياسة العادلة التي وضعت لمصلحة العامة في الدنيا .
فإن هذا الصنف يكثرون ويظهرون إذا كثرت الجاهلية وأهلها، ولم يكن هناك من أهل العلم بالنبوة والمتابعة لها من يظهر أنوارها الماحية لظلمة الضلال ، ويكشف ما في خلافها من الإفك والشرك والمحال .
وهؤلاء لا يكذبون بالنبوة تكذيبا مطلقا ، بل هم يؤمنون ببعض أحوالها ويكفرون ببعض الأحوال ، وهم متفاوتون فيما يؤمنون به ويكفرون من تلك الخلال ، فلهذا يلتبس أمرهم بسبب تعظيمهم للنبوات على كثير من أهل الجهالات .
__________
(1) الايتان 128، 129 من سورة التوبة .(173/4)
والرافضة والجهمية هم الباب لهؤلاء الملحدين ، ومنهم يدخلون إلى أصناف الإلحاد في أسماء الله وفي آيات كتابه المبين ، كما قرر ذلك رؤوس الملحدة من القرامطة الباطنية ، وغيرهم من المنافقين .
وذكر من أحضر هذا الكتاب أنه من أعظم الأسباب في تقرير مذاهبهم عند من مال إليهم ، من الملوك وغيرهم ، وقد صنفه للملك المعروف الذي سماه : خدابنده ، وطلبوا مني بيان ما في هذا الكتاب من الضلال وباطل الخطاب ، لما في ذلك من نصر عباد الله المؤمنين ، وبيان بطلان أقوال المفترين الملحدين ، فأخبرتهم أن هذا الكتاب وإن كان من أعلى ما يقولونه في باب الحجة والدليل ، فالقوم من أضل الناس عن سواء السبيل . فإن الأدلة إما نقلية ، وإما عقلية، و القوم من أضل الناس في المنقول والمعقول ، في المذهب التقرير، وهم من أشبه الناس بمن قال الله تعالى فيهم : ( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير ( (1).
وهم من أكذب الناس في النقليات ، ومن أجهل الناس في العقليات ، يصدقون من المنقول بما يعلم العلماء بالاضطرار أنه من الأباطيل ، ويكذبون بالمعلوم من الاضطرار المتواتر أعظم تواتر في الأمة جيلا بعد جيل .
ولا يميزون في نقلة العلم ورواة الأخبار بين المعروف الكذب ، أو الغلط ، أو الجهل ، بما ينقل ، وبين العدل الحافظ الضابط المعروف بالعلم ، والآثار ، وعمدتهم في نفس الأمر على التقليد ، وإن ظنوا إقامته بالبرهانيات . فتارة يتبعون المعتزلة والقدرية ، وتارة يتبعون المجسمة والجبرية .
وهم من أجهل هذه الطوائف بالنظريات ، ولهذا كانوا عند عامة أهل العلم والدين ، من أجهل الطوائف الداخلين في المسلمين ، ومنهم من أدخل على الدين من الفساد ، ما لا يحصيه إلا رب العباد فملاحدة الاسماعيلية ، والنصيرية ، وغيرهم من الباطنية المنافقين ، من بابهم دخلوا .
__________
(1) الآية 10 من سورة الملك .(173/5)
وأعداءالاسلام من المشركين وأهل الكتاب بطريقهم وصلوا ، واستولوا بهم على بلاد الاسلام ، وسبوا الحريم ، وأخذوا الأموال ، وسفكوا الدم الحرام ، وجرى على الأمة بمعاونتهم من فساد الدنيا والدين ما لا يعلمه إلا رب العالمين .
إذا كان أصل المذهب من إحداث الزنادقة المنافقين ، الذين عاقبهم في حياته علي أمير المؤمنين _ ( _ فحرق منهم طائفة بالنار ، وطلب قتل بعضهم ففروا من سيفه البتار ، وتوعد بالجلد طائفة مفترية فيما عرف عنه من الأخبار ، إذ قد تواتر عنه من الوجوه الكثيرة أنه قال . على منبر الكوفة ، وقد أسمع من حضر : ((خير هذه الأمة بعد نبيها ، أبو بكر ثم عمر )) (1) وبذلك أجاب ابنه محمد بن الحنفية ، فيما رواه البخاري ، في صحيحه وغيره من علماء الملة الحنيفية .
ولهذا كانت الشيعة المتقدمون الذين صحبوا عليا ، أو كانوا في ذلك الزمان ، لم يتنازعوا في تفضيل أبي بكر وعمر ، وإنما كان نزاعهم في تفضيل علي وعثمان ، وهذا مما يعترف به علماء الشيعة الأكابر من الأوائل والأواخر حتى ذكر مثل ذلك أبو القاسم البلخي .
قال : سأل سائل شريك بن عبد الله ، فقال له أيهما أفضل أبو بكر أو علي ؟ فقال له : أبو بكر . فقال له السائل : تقول هذا وأنت شيعي ؟ فقال له نعم . من لم يقل هذا فليس شيعيا ، والله لقد رقى هذه الأعواد علي ، فقال : ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ، ثم عمر فكيف نرد قوله ؟ وكيف نكذبه ؟ والله ما كان كذابا . نقل هذا عبد الجبار الهمداني في كتاب تثبيت النبوة (2) .
__________
(1) انظر البخاري ج5ص7 فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وسنن أبي داود ج4ص288 وابن ماجه ج1ص39 وغيرها .
(2) هو القاضي عماد الدين أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد الهمداني شيخ المعتزلة في وقته وكتابه تثبيت دلائل النبوة من أحسن الكتب في هذا الباب وانظر هذا الأثر فيه ج2ص549.(173/6)
قال ذكره أبو القاسم البلخي في النقض على ابن الراوندي على اعتراضه على الجاحظ .
( فصل )
فلما ألحوا في طلب الرد لهذا الضلال المبين ، ذاكرين أن في الإعراض عن ذلك خذلانا للمؤمنين ، وظن أهل الطغيان نوعا من العجز عن رد البهتان، فكتبت ما يسره الله تعالى من البيان ، وفاء بما أخذه الله من الميثاق على أهل العلم والإيمان ، وقياما بالقسط وشهادة لله ، كما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ ِللهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُم أَوِ الَوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِين إِنْ يَكُنْ غَنِيًا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَوَلَّوْا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ((1) .
واللي هو تغيير الشهادة ، والإعراض هو كتمانها .
والله تعالى قد أمر بالصدق والبيان ، ونهى عن الكذب والكتمان ، فيما يحتاج إلى معرفته وإظهاره ، كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : ((البيعان بالخيار مالم يتفرقا فإن صدقا وبينا ، بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما )) (2) .
لا سيما الكتمان إذا لعن آخر هذه الأمة أولها ، كما في الأثر (إذا لعن آخر هذه الأمة أولها ، فمن كان عنده علم فليظهره ، فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل الله على محمد )(3) .
وذلك أن أول هذه الأمة هم الذين قاموا بالدين ، تصديقا وعلما وعملا ، وتبليغا ، فالطعن فيهم طعن في الدين ، موجب للإعراض عما بعث الله به النبيين .
__________
(1) الآية 135 من سورة النساء .
(2) الحديث في البخاري في أماكن متعددة انظر كتاب البيوع ج3ص58 ومسلم كتاب البيوع أيضا ج3ص1164 .
(3) رواه ابن ماجه في سننه ج 1 ص 96-97 عن جابر مرفوعا ، و هو ضعيف .(173/7)
وهذا كان مقصود أول من أظهر بدعة التشيع ، فإنما كان قصده الصد عن سبيل الله ، وإبطال ما جاءت به الرسل عن الله تعالى ، ولهذا كانوا يظهرون ذلك بحسب ضعف الملة ، فظهر في الملاحدة حقيقة هذه البدعة المضلة .
لكن راج كثير منها على من ليس من المنافقين الملحدين ، لنوع من الشبهة والجهالة المخلوطة بهوى ، فقبل معه الضلالة وهذا أصل كل باطل ، قال تعالى : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ( فنزه الله رسوله عن الضلال والغي ، والضلال عدم العلم ، والغي اتباع الهوى كما قال تعالى ( وَحَمَلَهَا الإِنْسَان إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ((1) فالظلوم غاو ، والجهول ضال ، إلا من تاب الله عليه .
وهذا حال أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة ، فإنهم إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ، ففيهم جهل وظلم ، لا سيما الرافضة ، فإنهم أعظم ذوى الأهواء جهلا وظلما ، يعادون خيار أولياء الله تعالى - من بعد النبيين ، من السابقين الأولين ، من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان (م ورضوا عنه ،و يوالون الكفار والمنافقين من اليهود والنصارى والمشركين وأصناف الملحدين ، كالنصيرية والإسماعيلية وغيرهم من الضالين ، فتجدهم أو كثيرا منهم إذا اختصم خصمان في ربهم من المؤمنين والكفار ، واختلف الناس فيما جاءت به الأنبياء فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، سواء كان الاختلاف بقول أو عمل ، كالحروب التي بين المسلمين وأهل الكتاب والمشركين .
تجدهم يعاونون المشركين وأهل الكتاب على المسلمين أهل القرآن ، كما قد جربه الناس منهم غير مرة ، في مثل إعانتهم للمشركين من الترك وغيرهم على أهل الاسلام ، بخراسان والعراق والجزيرة والشام ، وغير ذلك .
وإعانتهم للنصارى على المسلمين بالشام ، ومصر وغير ذلك في وقائع متعددة .
__________
(1) الاية 72 من سورة الأحزاب .(173/8)
من أعظم الحوادث التي كانت في الإسلام ، في المائة الرابعة والسابعة، فإنه لما قدم كفار الترك إلى بلاد الإسلام ، وقتل من المسلمين ما لا يحصى عدده إلا رب الأنام ، كانوا من أعظم الناس عداوة للمسلمين ومعاونة للكافرين، وهكذا معاونتهم لليهود أمر شهير ، حتى جعلهم الناس لهم كالحمير.
( فصل )
مشابهة الرافضة لليهود والنصارى من وجوه كثيرة
وهذا المصنف سمى كتابه : منهاج الكرامة في معرفة الإمامة، وهو خليق بأن يسمى : منهاج الندامة ، كما أن من ادعى الطهارة ، وهو من الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ، بل من أهل الجبت والطاغوت والنفاق ، كان وصفه بالنجاسة والتكدير ، أولى من وصفه بالتطهير .
ومن أعظم خبث القلوب أن يكون في قلب العبد غل لخيار المؤمنين ، وسادات أولياء الله بعد النبيين ، ولهذا لم يجعل الله تعالى في الفيء نصيبا لمن بعدهم ، إلا الذين يقولون : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيم ( .
ولهذا كان بينهم وبين اليهود من المشابهة واتباع الهوى وغير ذلك من أخلاق اليهود .
وبينهم وبين النصارى من المشابهة في الغلو والجهل ، واتباع الهوى وغير ذلك من أخلاق النصارى ، ما أشبهوا به هؤلاء من وجه وهؤلاء من وجه ، وما زال الناس يصفونهم بذلك .
ومن اخبر الناس بهم الشعبي ، وأمثاله من علماء الكوفة .
وقد ثبت عن الشعبي أنه قال : ما رأيت أحمق من الخشبية ، لو كانوا من الطير لكانوا رخما ، ولو كانوا من البهائم لكانوا حمرا ، والله لو طلبت منهم ان يملؤا هذا البيت ذهبا على أن أكذب على علي لأعطوني ، والله ما أكذب عليه أبدا ، وقد روى هذا الكلام عنه مبسوطا لكن ، الأظهر أن المبسوط من كلام غيره .(173/9)
كما روى أبو حفص بن شاهين (1) في كتاب اللطف في السنة : حدثنا محمد بن أبي القاسم بن هارون ، حدثنا أحمد بن الوليد الواسطي ، حدثني جعفر بن نصير الطوسي الواسطي ، عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول ، عن أبيه ، قال . قال الشعبي : أحذركم أهل هذه الأهواء المضلة ، وشرها الرافضة ، لم يدخلوا في الاسلام رغبة ولا رهبة، ولكن مقتا لأهل الاسلام وبغيا عليهم ، وقد حرقهم علي ( ونفاهم إلى البلدان .
ومنهم عبد الله بن سبأ من يهود صنعاء ، نفاه إلى سباباط ، وعبد الله بن يسار نفاه إلى خاذر ، وآية ذلك أن محنة الرافضة ، محنة اليهود . قالت اليهود : لا يصلح الملك إلا في آل داود ، وقالت الرافضة لا تصلح الإمامة إلا في ولد علي ، وقالت اليهود : لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح الدجال ، وينزل سيف من السماء ، وقالت الرافضة : لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي، وينادي مناد من السماء .
واليهود يؤخرون الصلاة إلى اشتباك النجوم ، وكذلك الرافضة يؤخرون المغرب إلى اشتباك النجوم ، والحديث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال :((لا تزال أمتي على الفطرة مالم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم))(2) .
واليهود تزول عن القبلة شيئا ، وكذلك الرافضة ، واليهود تنود في الصلاة ، وكذلك الرافضة ، واليهود تسدل أثوابها في الصلاة ، وكذلك الرافضة .
واليهود لا يرون على النساء عدة ، وكذلك الرافضة ، واليهود حرفوا التوراة ، وكذلك الرافضة حرفوا القرآن . واليهود قالوا : افترض الله علينا خمسين صلاة ، وكذلك الرافضة .
__________
(1) هو أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان البغدادي توفي سنة385 انظر تذكرة الحفاظ ج3ص183.
(2) رواه أبو داود في السنن ج1ص169وابن ماجه ج1ص225وأحمد في المسند ج4ص147وج5ص422(173/10)
واليهود لا يخلصون السلام على المؤمنين إنما يقولون : السام عليكم _ والسام الموت _ وكذلك الرافضة ، واليهود لا يأكلون الجرى(1) والمرماهى . والذناب ، وكذلك الرافضة.
واليهود لا يرون المسح على الخفين ، وكذلك الرافضة .
واليهود يستحلون أموال الناس كلهم ، وكذلك الرافضة . وقد أخبرنا الله عنهم في القرآن أنهم:( قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِيِّينَ سَبِيل ((2) وكذلك الرافضة.
واليهود تسجد على قرونها في الصلاة ، وكذلك الرافضة ، واليهود لا تسجد حتى تخفق برؤوسها مرارا شبه الركوع ، وكذلك الرافضة .
واليهود تبغض جبريل ، ويقولون هو عدونا من الملائكة ، وكذلك الرافضة ، يقولون غلط جبريل بالوحي على محمد .
وكذلك الرافضة وافقوا النصارى في خصلة : النصارى ليس لنسائهم صداق إنما يتمتعون بهن تمتعا ، وكذلك الرافضة يتزوجون بالمتعة ، ويستحلون المتعة ، وفضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين ، سئلت اليهود : من خير أهل ملتكم ؟ قالوا : أصحاب موسى ، وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم ؟ قالوا : حواري عيسى . وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم ؟ قالوا أصحاب محمد .
أمروا بالاستغفار لهم ، فسبوهم والسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة ، لا تقوم لهم راية ، ولا يثبت لهم قدم ولا تجتمع لهم كلمة ، ولا تجاب لهم دعوة ، دعوتهم مدحوضة ، وكلمتهم مختلفة ، وجمعهم متفرق ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله .
( قلت ) : هذا الكلام بعضه ثابت عن الشعبي كقوله : لو كانت الشيعة من البهائم لكانوا حمرا ، ولو كانت من الطير لكانوا رخما ، فإن هذا ثابت عنه .
__________
(1) نوع من السمك زعموا أن السمك خاطب عليا إلا هذين النوعين منه .
(2) الآية 75 من سورة آل عمران .(173/11)
قال ابن شاهين : حدثنا محمد بن العباس النحوي ، حدثنا ابراهيم الحربي ، حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا وكيع بن الجراح ، حدثنا مالك بن مغول ، فذكره وأما السياق المذكور ، فهو معروف عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول ، عن أبيه ، عن الشعبي .
وروى أبو عاصم خشيش بن أصرم(1) في كتابه ورواه من طرقه أبو عمرو الطلمنكي ، في كتابه في الأصول ، قال . حدثنا ابن جعفر الرقي ، عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول ، عن أبيه ، قال قلت لعامر الشعبي : ما ردك عن هؤلاء القوم ، وقد كنت فيهم رأسا ، قال رأيتهم يأخذون بأعجاز لا صدور لها .
ثم قال لي : يا مالك لو أردت أن يعطوني رقابهم عبيدا ، أو يملؤا لي بيتي ذهبا ، أو يحجوا إلى بيتي هذا ، على أن اكذب على علي ( لفعلوا ، ولا . والله أكذب عليه أبدا ، يا مالك إني قد درست أهل الأهواء فلم أر فيهم أحمق من الخشبية ، فلو كانوا من الطير لكانوا رخما ، ولو كانوا من الدواب لكانوا حمرا ، يا مالك لم يدخلوا في الاسلام رغبة فيه لله ولا رهبة من الله ، ولكن مقتا من الله عليهم ، وبغيا منهم على أهل الإسلام .
يريدون أن يغمصوا دين الإسلام ، كما غمص بولص بن يوشع ملك اليهود دين النصرانية ، ولا تتجاوز صلاتهم آذانهم .
قد حرقهم علي بن أبي طالب ( بالنار ، ونفاهم من البلاد .
منهم عبد الله بن سبأ ، يهودي من يهود صنعاء ، نفاه إلى ساباط وأبو بكر الكروس ، نفاه إلى الجابية ، وحرق منهم قوما ، أتوه فقالوا : أنت هو . فقال : من أنا . فقالوا : أنت ربنا . فأمر بنار فأججت ، فألقوا فيها ، وفيهم قال علي ( :
لما رأيت الأمر أمرا منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا
يا مالك إن محنتهم محنة اليهود ، قالت اليهود : لا يصلح الملك إلا في آل داود ، وكذلك قالت الرافضة : لا تصلح الإمامة إلا في ولد علي .
__________
(1) هو خشيش بن أصرم بن الأسود ، أبو عاصم ، النسائي توفي سنة 253 ، وأنظر تهذيب التهذيب ج3ص142(173/12)
وقالت اليهود : لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح الدجال وينزل سيف من السماء ، وكذلك الرافضة قالوا : لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج الرضا من آل محمد وينادي مناد من السماء اتبعوه .
وقالت اليهود : فرض الله علينا خمسين صلاة في كل يوم وليلة ، وكذلك قالت الرافضة .
واليهود لا يصلون المغرب حتى تشتبك النجوم ، وقد جاء عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ((لا تزال أمتي على الاسلام مالم تؤخر المغرب إلى اشتباك النجوم ))(1) مضاهاة لليهود، وكذلك الرافضة، واليهود إذا صلوا زالوا عن القبلة شيئا ، وكذلك الرافضة.
واليهود تنود في صلاتها ، وكذلك الرافضة . واليهود يسدلون أثوابهم في الصلاة ، وقد بلغني أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مر برجل سادل ثوبه فعطفه عليه ، وكذلك الرافضة .
واليهود حرفوا التوراة ، وكذلك الرافضة حرفوا القرآن . واليهود يسجدون في صلاة الفجر الكندرة ، وكذلك الرافضة . واليهود لا يخلصون بالسلام إنما يقولون : سام عليكم . وهو الموت _ وكذلك الرافضة ، واليهود عادوا جبريل فقالوا : هو عدونا . وكذلك الرافضة قالوا : أخطأ جبريل بالوحي . و اليهود يستحلون أموال الناس ، وقد نبأنا الله عنهم أنهم قالوا { قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِيِّينَ سَبِيل } ، وكذلك الرافضة يستحلون مال كل مسلم .
واليهود ليس لنسائهم صداق وإنما يتمتعون متعة ، وكذلك الرافضة يستحلون المتعة ، واليهود يستحلون دم كل مسلم ، وكذلك الرافضة .
واليهود يرون غش الناس ، وكذلك الرافضة . واليهود لا يعدون الطلاق شيئا إلا عند كل حيضة ، وكذلك الرافضة .
واليهود لا يرون العزل عن السرارى ، وكذلك الرافضة . واليهود يحرمون الجرى والمرماهى ، وكذلك الرافضة .
__________
(1) تقدم ذكرمن رواه قريبا .(173/13)
واليهود حرموا الأرنب والطحال ، وكذلك الرافضة . واليهود لا يرون المسح على الخفين ، وكذلك الرافضة . واليهود لا يلحدون، وكذلك الرافضة . وقد ألحد لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم . واليهود يدخلون مع موتاهم في الكفن سعفة رطبة ، وكذلك الرافضة.
ثم قال يا مالك : وفضلهم اليهود والنصارى بخصلة ، قيل لليهود : من خير أهل ملتكم ؟ قالوا : أصحاب موسى ، وقيل للنصارى من خير أهل ملتكم؟ قالوا : حواري عيسى ، وقيل للرافضة من شر أهل ملتكم ؟ قالوا : حواري محمد _ يعنون بذلك طلحة والزبير _ أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، والسيف مسلول عليهم إلى يوم القيامة ، ودعوتهم مدحوضة ، ورايتهم مهزومة ، وأمرهم متشتت ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ، ويسعون في الأرض فسادا ، والله لا يحب المفسدين .
وقد روى أبو القاسم الطبري(1) في شرح اصول السنة نحو هذا الكلام من حديث وهب بن بقية الواسطي ، عن محمد بن حجر الباهلي ، عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول من وجوه متعددة يصدق بعضها بعضا ، وبعضها يزيد على بعض ، لكن عبد الرحمن بن مالك بن مغول ضعيف ، وذم الشعبي لهم ثابت من طرق أخرى، لكن لفظ الرافضة إنما ظهر لما رفضوا زيد بن علي بن الحسين ، في خلافة هشام ، وقصة زيد بن علي بن الحسين ، كانت بعد العشرين ومائة سنة إحدى و عشرين ،أو اثنتين وعشرين ومائة في آخر خلافة هشام . قال أبو حاتم البستى : قتل زيد بن علي بن الحسين بالكوفة سنة اثنتين وعشرين ، فصلب على خشبة ، وكان من أفاضل أهل البيت وعلمائهم ، وكانت الشيعة تنتحله .
متى سموا رافضة وكذا الزيدية
__________
(1) هو اللا لكائي.(173/14)
( قلت ) : ومن زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلى رافضة وزيدية ، فإنه لما سئل عن ابي بكر وعمر . فترحم عليهما ، رفضه قوم فقال لهم : رفضتموني ، فسموا رافضة ، لرفضهم إياه ، وسمي من لم يرفضه من الشيعة زيديا ، لانتسابهم إليه ، ولما صلب كانت العباد تأتي إلى خشبته بالليل ، فيتعبدون عندها .
والشعبي توفي في أوائل خلافة هشام ، أواخر خلافة يزيد بن عبد الملك أخيه ، سنة خمس ومائة ، أو قريبا من ذلك . فلم يكن لفظ الرافضة معروفا إذ ذاك .
وبهذا وغيره يعرف كذب لفظ الأحاديث المرفوعة التي فيها لفظ الرافضة ، ولكن كانوا يسمون بغير ذلك الاسم ، كما يسمون بالخشبية لقولهم إنا لا نقاتل بالسيف إلا مع إمام معصوم ، فقاتلوا بالخشب .
ولهذا جاء في بعض الروايات عن الشعبي : ما رأيت أحمق من الخشبية، فيكون المعبر عنهم بلفظ الرافضة ذكره بالمعنى ، مع ضعف عبد الرحمن ، ومع أن الظاهر أن هذا الكلام ، إنما هو نظم عبد الرحمن بن مالك بن مغول وتأليفه ، وقد سمع منه طرفا عن الشعبي ، وسواء كان هو ألفه ونظمه لما رآه من أمور الشيعة في زمانه ، ولما سمع عنهم ، أو لما سمع من أقوال أهل العلم فيهم ، أو بعضه أو مجموع الأمرين ، أو بعضه لهذا وبعضه لهذا ، فهذا الكلام معروف بالدليل الذي لا يحتاج فيه إلى نقل وإسناد ، وقول القائل : إن الرافضة تفعل كذا ، المراد به بعض الرافضة ، كقوله تعالى : ( وَقَاَلتْ الَيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ الله ((1) ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةً غُلَّتْ أَيْدِيهِم } (2).
لم يقل ذلك كل يهودي ، بل فيهم من قال ذلك . وما ذكره موجود في الرافضة .
وفيهم أضعاف ما ذكره ، مثل تحريم بعضهم للحم الأوز ، والجمل ، مشابهة لليهود .
ومثل جمعهم بين الصلاتين دائما ، فلا يصلون إلا في ثلاثة أوقات ، مشابهة لليهود .
__________
(1) الآية 30من سورة التوبة .
(2) الآية64 من سورة المائدة .(173/15)
ومثل قولهم أنه لا يقع الطلاق إلا بالإشهاد على الزوج مشابهة لليهود ، ومثل تنجيسهم لأبدان غيرهم من المسلمين وأهل الكتاب وتحريمهم لذبائحهم ، وتنجيسهم ما يصيب ذلك من المياه والمائعات ، وغسل الآنية التي يأكل منها غيرهم ، مشابهة للسامرة الذين هم شر اليهود ، ولهذا تجعلهم الناس في المسلمين كالسامرة في اليهود .
ومثل استعمالهم التقية ، وإظهار خلاف ما يبطنون من العداوة، مشابهة لليهود ونظائر ذلك كثير .
ذكر بعض حماقات الرافضة
وأما سائر حماقاتهم فكثيرة جدا ، مثل كون بعضهم لا يشرب من نهر حفره يزيد ، مع أن النبي ( والذين كانوا معه كانوا يشربون من آبار وأنهار حفرها الكفار .
وبعضهم لا يأكل من التوت الشامي ، ومعلوم أن النبي ( ومن معه كانوا يأكلون مما يجلب من بلاد الكفار ،من الجبن ، ويلبسون ما تنسجه الكفار، بل غالب ثيلبهم كانت من نسيج الكفار .
ومثل كونهم يكرهون التكلم بلفظ العشرة ، أو فعل أي شيء يكون عشرة ، حتى في البناء لا يبنون على عشرة أعمدة ، ولا بعشرة جذوع ونحو ذلك ، لكونهم يبغضون خيار الصحابة _ وهم العشرة _ المشهود لهم بالجنة ، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح رضوان الله عليهم أجمعين ، يبغضون هؤلاء إلا علي بن أبي طالب ( ، ويبغضون السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، الذين بايعوا رسول الله ( ، تحت الشجرة ، وكانوا ألفا وأربعمائة .
وقد أخبر الله أنه قد رضي عنهم . وثبت في صحيح مسلم وغيره ، عن جابر أيضا . أن غلام حاطب بن أبي بلتعة قال : يا رسول الله والله ليدخلن حاطب النار ، فقال النبي ( : (( كذبت ، إنه شهد بدرا والحديبية ))(1) .
__________
(1) انظر الحديث في مسلم ج 4 ص 1942 .(173/16)
وهم يتبرؤون من جمهور هؤلاء . بل يتبرؤون من سائر أصحاب رسول الله ( ، إلا نفرا قليلا نحو بضعة عشر ، ومعلوم أنه لو فرض في العالم عشرة من أكفر الناس ، لم يجب هجر هذا الاسم لذلك ، كما أنه سبحانه وتعالى لما قال : { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فيِ الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُون } (1).
لم يجب هجر اسم التسعة مطلقا ، بل اسم العشرة قد مدح الله مسماه في مواضع ، كقوله تعالى في متعة الحج : ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشْرَةٌ كَامِلَة ((2) .
وقال تعالى : { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْر فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَة ((3) .
وقال تعالى : ( وَاٌلْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ( .
وقد ثبت في الصحيح أن النبي ( كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله تعالى(4) .
وقال في ليلة القدر التمسوها في العشر الأواخر(5) .
وقد ثبت في الصحيح أن النبي ( قال : (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر)) (6) نظائر ذلك متعددة .
ومن العجيب أنهم يوالون لفظ التسعة ، وهم يبغضون التسعة من العشرة فإنهم يبغضونهم إلا عليا ، وكذلك هجرهم لاسم أبي بكر وعمر وعثمان ولمن يتسمى بذلك ، حتى يكرهون معاملته ، ومعلوم أن هؤلاء لو كانوا من أكفر الناس ، لم يشرع أن لا يتسمى الرجل بمثل أسمائهم ، فقد كان في الصحابة من اسمه الوليد .
__________
(1) الآية 48 من سورة النمل .
(2) الآية 196 من سورة البقرة .
(3) الآية 142 من سورة الأعراف .
(4) انظر البخاري ج3ص47-48 ومسلم ج2ص830-831 .
(5) انظر كتاب الصوم من البخاري الباب 72 ومسلم ج2ص823 .
(6) انظر البخاري ج2ص20 والترمذي ج2ص129 .(173/17)
وكان النبي ( يقنت في الصلاة ، ويقول اللهم أنج الوليد بن الوليد بن المغيرة(1)وأبوه وكان من أعظم الناس كفرا ، وهو الوحيد المذكور في قوله تعالى : ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ((2) وفي الصحابة من اسمه عمرو ، وفي المشركين من اسمه عمرو بن عبدود ، وأبو جهل اسمه عمرو بن هشام .
وفي الصحابة خالد بن سعيد بن العاص من السابقين الأولين ، وفي المشركين خالد بن سفيان الهذلي .
وفي الصحابة من اسمه هشام مثل هشام بن حكيم ، وأبو جهل كان اسم أبيه هشاما . وفي الصحابة من اسمه عقبة مثل أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري ، وعقبة بن عامر الجهني ، وكان في المشركين عقبة بن أبي معيط .
وفي الصحابة علي وعثمان ، وكان في المشركين من اسمه علي مثل علي بن أمية بن خلف ، قتل يوم بدر كافرا ، ومثل عثمان بن طلحة قتل قبل أن يسلم ، ومثل هذا كثير .
فلم يكن النبي ( والمؤمنون يكرهون اسما من الأسماء لكونه قد تسمى به كافر من الكفار ، فلو قدر أن المسلمين بهذه الأسماء كفار ، لم يوجب ذلك كراهة هذه الأسماء مع العلم لكل أحد بأن النبي ( كان يدعوهم بها ، ويقر الناس على دعائهم بها .
وكثير منهم يزعم أنهم كانوا منافقين ، وكان النبي ( يعلم أنهم منافقون، وهو مع هذا يدعوهم بها ، وعلي بن أبي طالب ( قد سمى بها أولاده فعلم أن جواز الدعاء بهذه الأسماء سواء كان ذلك المسمى بها مسلما أو كافرا أمر معلوم من دين الاسلام ، فمن كره أن يدعو أحدا بها كان من أظهر الناس مخالفة لدين الإسلام ، ثم مع هذا إذا تسمى الرجل عندهم باسم علي، أو جعفر أو حسن او حسين أو نحو ذلك ، عاملوه وأكرموه ، ولا دليل لهم في ذلك على أنه منهم .
ومن حماقاتهم أيضا أنهم يجعلون للمنتظر عدة مشاهد ينتظرونه فيها ، كالسرداب الذي بسامرا الذي يزعمون أنه غائب فيه.
__________
(1) انظره في البخاري ج6ص48-49 .
(2) الآية 11 من سورة المدثر .(173/18)
ومشاهد أخرى وقد يقيمون هناك دابة إما بغلة وإما فرسا ، وإما غير ذلك ليركبها إذا خرج ، ويقيمون هناك إما في طرفي النهار وإما في أوقات أخرى من ينادي عليه بالخروج يا مولانا اخرج ، ويشهرون السلاح ولا أحد هناك يقاتلهم ، وفيهم من يقوم في أوقات دائما لا يصلي ، خشية أن يخرج وهو في الصلاة فيشتغل بها عن خروجه ، وخدمته ، وهم في أماكن بعيدة عن مشهده كمدينة النبي ( إما في العشر الأواخر من شهر رمضان.
وإما في غير ذلك يتوجهون إلى المشرق ، وينادون بأصوات عالية يطلبون خروجه ، ومن المعلوم أنه لو كان موجودا وقد أمره الله بالخروج فإنه يخرج ، سواء نادوه أو لم ينادوه ، وإن لم يؤذن له فهو لا يقبل منهم ، وإنه إذا خرج فإن الله يؤيده ويأتيه بما يركبه ، وبمن يعينه وينصره ، لا يحتاج أن يوقف له دائما من الآدميين من ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، والله سبحانه وتعالى قد عاب في كتابه من يدعو من لا يستجيب دعاءه فقال تعالى : ( ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَ لاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ((1)هذا مع أن الأصنام موجودة ، وكان يكون بها أحيانا شياطين تتراءى لهم وتخاطبهم .
ومن خاطب معدوما كانت حالته أسوأ من حال من خاطب موجودا ، وإن كان جمادا ، فمن دعا المنتظر الذي لم يخلقه الله ، كان ضلاله أعظم من ضلال هؤلاء ، وإذا قال أنا أعتقد وجوده كان بمنزلة قول أولئك نحن نعتقد أن هذه الأصنام لها شفاعة عند الله فيعبدون من دون الله ما لاينفعهم و لا يضرهم و يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله .
__________
(1) الآيتان 13،14 من سورة فاطر .(173/19)
و المقصود أن كليهما يدعو من لا ينفع دعاؤه ، وإن كان أولئك اتخذوهم شفعاء آلهة ، وهؤلاء يقولون هو إمام معصوم فهم يوالون عليه . ويعادون عليه كموالاة المشركين على آلهتهم ، ويجعلونه ركنا في الإيمان لا يتم الدين إلا به ، كما يجعل بعض المشركين آلهتهم كذلك وقال تعالى : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيْيِنَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ . وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِْييِنَ أَرْبَابَاً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ((1) .
فإذا كان من يتخذ الملائكة والنبيين أربابا بهذه الحال ، فكيف بمن يتخذ إماما معدوما لا وجود له؟ وقد قال تعالى : ( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابَاً مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهَاً وَاحِداً لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ((2) وقد ثبت في الترمذي وغيره من حديث عدي بن حاتم أنه قال : (( يا رسول الله ما عبدوهم . فقال : إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم ، فكانت تلك عبادتهم إياهم )) (3) فهؤلاء اتخذوا أناسا موجودين ، أربابا .
__________
(1) الآيتان 79 ، 80 من سورة آل عمران .
(2) الآية 31 من سورة التوبة .
(3) انظر سنن الترمذي ج 4 ص 341 ، وقال : غريب .(173/20)
وهؤلاء يجعلون الحرام والحلال معلقا بالإمام المعدوم ، الذي لا حقيقة له ، ثم يعملون بكل ما يقول المثبتون أنه يحلله ويحرمه ، وإن خالف الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ، حتى إن طائفتهم إذا اختلفت على قولين فالقول الذي لا يعرفه قائله هو الحق ، لأنه قول هذا الإمام المعصوم ، فيجعلون الحلال ما حلله والحرام ما حرمه هذا الذي لا يوجد . وعند من يقول إنه موجود لا يعرفه أحد ، ولا يمكن أحدا أن ينقل عنه كلمة واحدة .
ومن حماقاتهم تمثيلهم لمن يبغضونه مثل اتخاذهم نعجة وقد تكون نعجة حمراء ، لكون عائشة تسمى الحميرا يجعلونها عائشة ويعذبونها بنتف شعرها، وغير ذلك ، ويرون أن ذلك عقوبة لعائشة و مثل ا تخاذهم حلسا مملوءا سمنا يشقون بطنه فيخرج السمن فيشربونه ، ويقولون هذا مثل ضرب عمر وشرب دمه .
ومثل تسمية بعضهم لحمارين من حمر الرحا أحدهما بأبي بكر ، والآخر بعمر ثم عقوبة الحمارين جعلا منهم تلك العقوبة عقوبة لأبي بكر وعمر ، وتارة يكتبون أسماءهم على اسفل أرجلهم حتى أن بعض الولاة جعل يضرب رجلي من فعل ذلك ويقول إنما ضربت أبا بكر وعمر ، ولا أزال أضربهما حتى أعدمهما .
ومنهم من يسمي كلابه باسم أبي بكر وعمر ، ويلعنهما ومنهم من إذا سمى كلبه فقيل له بكير يضارب من يفعل ذلك ، ويقول تسمى كلبي باسم أصحاب النار .
ومنهم من يعظم أبا لؤلؤة المجوسي الكافر الذي كان غلاما للمغيرة بن شعبة ، لما قتل عمر ، ويقولون : واثارات أبي لؤلؤة فيعظمون كافرا مجوسيا باتفاق المسلمين لكونه قتل عمر ( .
ومن حماقاتهم إظهارهم لما يجعلونه مشهدا ، فكم كذبوا الناس، وادعوا أن في هذا المكان ميتا من أهل البيت ، وربما جعلوه مقتولا، فيبنون ذلك مشهدا ، وقد يكون ذلك كافرا أو قبر بعض الناس ، ويظهر ذلك بعلامات كثيرة .(173/21)
ومعلوم أن عقوبة الدواب المسماة بذلك ونحو هذا الفعل لا يكون إلا من فعل أحمق الناس وأجهلهم ، فإنه من المعلوم أنا لو أردنا أن نعاقب فرعون وأبا لهب وأبا جهل وغيرهم ممن ثبت بإجماع المسلمين أنهم من أكفر الناس مثل هذه العقوبة لكان هذا من أعظم الجهل ، لأن ذلك لا فائدة فيه بل إذا قتل كافر ، يجوز قتله أو مات حتف أنفه ، لم يجز بعد قتله أو موته أن يمثل به فلا يشق بطنه أو يجدع أنفه وأذنه ولا تقطع يده إلا أن يكون ذلك على سبيل المقابلة .
فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره ، عن بريدة ، عن النبي ( ، أنه كان إذا بعث أميرا على جيش أو سرية ، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ، وأوصاه بمن معه من المسلمين خيرا وقال : ((اغزو في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، لا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا ، وليدا )) (1) وفي السنن أنه كان في خطبته يأمر بالصدقة ، وينهى عن المثلة(2) .
مع أن التمثيل بالكافر بعد موته فيه نكاية بالعدو ، ولكن نهى عنه لأنه زيادة إيذاء بلا حاجة ، فإن المقصود كف شره بقتله ، وقد حصل . فهؤلاء الذين بيغضونهم لو كانوا كفارا وقد ماتوا لم يكن لهم بعد موتهم أن يمثلوا بأبدانهم ، لا يضربونهم ، ولا يشقون بطونهم ولا ينتفون شعورهم ، مع أن في ذلك نكاية فيهم . أما إذا فعلوا ذلك بغيرهم ظنا أن ذلك يصل إليهم كان غاية الجهل ، فكيف إذا كان بمحرم كالشاة التي يحرم إيذاؤها بغير حق ، فيفعلون ما لا يحصل لهم به منفعة أصلا بل ضرر في الدين والدنيا ، والآخرة ، مع تضمنه غاية الحمق والجهل .
__________
(1) انظره في مسلم ج3ص1356
(2) انظر سنن أبي داود ج3ص72 والدارمي ج1ص390 .(173/22)
ومن حماقتهم إقامة المأتم والنياحة على من قتل من سنين عديدة ، ومن المعلوم أن المقتول وغيره من الموتى إذا فعل مثل ذلك بهم عقب موتهم كان ذلك مما حرمه الله ورسوله ، فقد ثبت في الصحيح عن النبي ( أنه قال : (( ليس منا من لطم الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية ))(1) . وثبت في الصحيح عنه أنه برئ من الحالقة والصالقة والشاقة(2) . فالحالقة لتي تحلق شعرها عند المصيبة ، والصالقة التي ترفع صوتها عند المصيبة بالمصيبة والشاقة التي تشق ثيابها .
وفي الصحيح عنه أنه قال :((من نيح عليه فإنه يعذب ، بما نيح عليه))(3). وفي الصحيح عنه أنه قال : ((إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة درعا من جرب ، وسربالا من قطران ))(4) .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وهؤلاء يأتون من لطم الخدود ، وشق الجيوب ، ودعوى الجاهلية ، وغير ذلك من المنكرات بعد الموت بسنين كثيرة ما لو فعلوه عقب موته لكان ذلك من أعظم المنكرات التي حرمها الله ورسوله ، فكيف بعد هذه المدة الطويلة ؟ .
ومن المعلوم أنه قد قتل من الأنبياء وغير الأنبياء ظلما وعدوانا من هو أفضل من الحسين ، قتل أبوه ظلما ، وهو أفضل منه ، وقتل عثمان بن عفان، وكان قتله اول الفتن العظيمة التي وقعت بعد موت النبي ( ، وترتب عليه من الشر والفساد أضعاف ما ترتب على قتل الحسين .
__________
(1) انظر البخاري ج2ص82 . في أماكن متعددة ومسلم ج1ص99.
(2) البخاري ج2ص81 ومواضع أخرى . ومسلم ج1ص100 .
(3) انظر مسلم ج2ص644 والبخاري ج2ص80 .
(4) انظره في مسلم ج 2 ص 644 .(173/23)
وقتل غير هؤلاء ومات ، وما فعل أحد من المسلمين ولا غيرهم مأتما ولا نياحة على ميت ، ولا قتيل بعد مدة طويلة من قتله ، إلا هؤلاء الحمقى الذين لو كانوا من الطير لكانوا رخما ، ولو كانوا من البهائم لكانوا حمرا (1) .
ومن ذلك أن بعضهم لا يوقد خشب الطرفاء ، لأنه أبلغه أن دم الحسين وقع على شجرة من الطرفاء . ومعلوم أن تلك الشجرة بعينها لا يكره وقودها ولو كان عليها من أي دم كان ، فكيف بسائر الشجر الذي لم يصبه الدم ؟
ومن حماقاتهم ما يطول وصفها ولا يحتاج أن تنقل بإسناد ، ولكن ينبغي أن يعلم مع هذا أن المقصود أنه من ذلك الزمان القديم يصفهم الناس بمثل هذا، من عهد التابعين وتابعيهم كما ثبت بعض ذلك ، إما عن الشعبي ، وإما أن يكون من كلام عبد الرحمن ، وعلى التقديرين فإن المقصود حاصل ، فإن عبد الرحمن كان في زمن تابعي التابعين .
وإنما ذكرنا هذا لأن عبد الرحمن كثير من الناس لا يحتج بروايته المفردة ، إما لسوء حظه ، وإما لتهمته في تحسين الحديث ، وإن كان له علم ومعرفة بأنواع من العلوم ، ولكن لا يصلح للاعتضاد ، والمتابعة ، كمقاتل بن سليمان ، ومحمد بن عمر الواقدي ، وأمثالهما ، فإن كثرة الشهادات والأخبار قد توجب العلم ، وإن لم يكن كل من المخبرين ثقة حافظا حتى يحصل العلم بمخبر الأخبار المتواترة ، وإن كان المخبرون من أهل الفسوق ، إذا لم يحصل بينهم تشاغر وتواطؤ .
والقول الحق الذي يقوم عليه الدليل يقبل من كل من قاله ، وإن لم يقبل بمجرد إخبار المخبر به .
__________
(1) اتخاذهم يوم عاشوراء مأتما على الحسين هو من أجل إيقاد نار الغل والحقد على أهل السنة لأنهم في تصويرهم هم الذين قتلوه ، وليس ذلك حبا للحسين وأهل بيته .(173/24)
فلهذا ذكرنا ما ذكره عبد الرحمن بن مالك بن مغول ، فإن غاية ما فيه أنه قاله ذاكرا الأثر وعبد الرحمن هذا يروي عن أبيه ، وعن الأعمش ، وعن عبيد الله بن عمر ، ولا يحتج بمفرداته ، فإنه ضعيف.ومما ينبغي أن يعرف أن ما يوجد في جنس الشيعة من الأقوال والأفعال المذمومة ، وإن كان أضعاف ما ذكرناه لكن قد لا يكون هذا كله في الإمامية الاثني عشرية ، ولا في الزيدية ولكن يكون كثير منه في الغالية ، وفي كثير من عوامهم مثل ما يذكر عنهم من تحريم لحم الجمل ، وأن الطلاق يشترط فيه رضا المرأة ، ونحو ذلك مما يقوله من يقوله من عوامهم وإن كان علماؤهم لا يقولون ذلك ، ولكن لما كان أصل مذهبهم مستند إلى جهل ، كانوا أكثر الطوائف كذبا وجهل.
( فصل )
الرافضة أكذب الناس ، وذلك فيهم قديم وليسوا أهل علم
ونحن نبين إن شاء الله تعالى طريق الاستقامة في معرفة هذا الكتاب ، منهاج الندامة بحول الله وقوته ، وهذا الرجل سلك مسلك سلفه ، شيوخ الرافضة كابن النعمان المفيد ، ومتبعيه كالكراجكي ، وأبي القاسم الموسوي ، والطوسي ، وأمثالهم .
فإن الرافضة في الأصل ليسوا أهل علم ، وخبرة بطريق النظر والمناظرة ، ومعرفة الأدلة ، وما يدخل فيها من المنع والمعارضة ، كما أنهم أجهل الناس بمعرفة المنقولات ، والأحاديث والآثار ، والتمييز بين صحيحها وضعيفها ، وإنما عمدتهم في المنقولات على تواريخ منقطعة الإسناد ، وكثير منها من وضع المعروفين بالكذب وبالإلحاد .
وعلماؤهم يعتمدون على نقل مثل أبي مخنف لوط بن علي ، وهشام بن محمد بن السائب ، وأمثالهما من المعروفين بالكذب عند أهل العلم ، مع أن أمثال هؤلاء هم أجل من يعتمدون عليه ، في النقل إذ كانوا يعتمدون على من هو في غاية الجهل والافتراء ، ممن لا يذكر في الكتب ، ولا يعرفه أهل العلم بالرجال .(173/25)
وقد اتفق أهل العلم بالنقل والرواية والاسناد على أن الرافضة أكذب الطوائف ، والكذب فيهم قديم ، ولهذا كان أئمة الاسلام يعلمون امتيازهم بكثرة الكذب .
قال أبو حاتم الرازي سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول قال أشهب بن عبد العزيز : سئل مالك عن الرافضة فقال : لا تكلمهم ولا ترو عنهم فإنهم يكذبون .
وقال أبو حاتم حدثنا حرملة قال سمعت الشافعي يقول : لم أر أحدا أشهد بالزور من الرافضة .
وقال مؤمل بن أهاب : سمعت يزيد بن هارون يقول : نكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية إلا الرافضة ، فإنهم يكذبون . وقال محمد بن سعيد الأصفهاني سمعت شريكا يقول احمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة ، فإنهم يضعون الحديث ، ويتخذونه دينا .
وشريك هو شريك بن عبد الله القاضي ، قاضي الكوفة من أقران الثوري وأبي حنيفة ، وهو من الشيعة ، الذي يقول بلسانه أنا من الشيعة . وهذه شهادته فيهم . وقال أبو معاوية سمعت الأعمش يقول : أدركت الناس وما يسمونهم إلا الكذابين ، يعني أصحاب المغيرة بن سعيد .
وقال الأعمش ولا عليكم أن تذكروا هذا فإني لا آمنهم أن يقولوا إنا أصبنا الأعمش مع امرأة ، وهذه آثار ثابتة قد رواها ابوعبد الله بن بطة في الإبانة الكبرى ، هو وغيره .
وروى أبو القاسم الطبري : كان الشافعي يقول : ما رأيت في أهل الأهواء قوما أشهد بالزور من الرافضة ، وهذا المعنى إن كان صحيحا فاللفظ الأول هو الثابت عن الشافعي .
والمقصود هنا أن العلماء كلهم متفقون على أن الكذب في الرافضة أظهر منه في سائر طوائف أهل القبلة .
والرافضة أصل بدعتهم عن زندقة وإلحاد ، وتعمد الكذب فيهم كثير ، وهم يقرون بذلك ، حيث يقولون ديننا التقية ، وهو أن يقول أحدهم بلسانه خلاف ما في قلبه ، وهذا هو الكذب والنفاق ، ويدعون مع هذا أنهم هم المؤمنون دون غيرهم من أهل الملة .(173/26)
ويصفون السابقين الأولين بالردة والنفاق ، فهم في ذلك كما قيل : (رمتني بدائها وانسلت ) ، إذ ليس في المظهرين للاسلام أقرب إلى النفاق والردة منهم ، ولا يوجد المرتدون والمنافقون في طائفة أكثر مما يوجد فيهم ، واعتبر ذلك بالغالية من النصيرية وغيرهم ، وبالملاحدة والاسماعيلية وأمثالهم.
وعمدتهم في الشرعيات ما ينقل لهم عن بعض أهل البيت ، وذلك النقل منه ما هو صدق ، ومنه ما هو كذب عمدا ، أو خطأ وليسوا أهل معرفة بصحيح المنقول وضعيفه ، كأهل المعرفة بالحديث ، ثم إذا صح النقل عن هؤلاء فإنهم بنوا وجوب قبول قول الواحد من هؤلاء على ثلاثة أصول على أن الواحد من هؤلاء معصوم مثل عصمة الرسول .
وعلى أن ما يقول أحدهم فإنما يقوله نقلا عن الرسول، ويدعون العصمة في هذا النقل .
والثالث أن إجماع العترة حجة ، ثم يدعون أن العترة هم الاثنا عشر ، ويدعون أن ما نقل عن أحدهم فقد أجمعوا كلهم عليه ، فهذه أصول الشرعيات عندهم ، وهي أصول فاسدة ، كما سنبين ذلك في موضعه ، لا يعتمدون على القرآن ، ولا على الحديث ، ولا على الإجماع ، إلا لكون المعصوم منهم.
ولا على القياس ، وإن كان جليا واضحا . وأما أعمدتهم في النظر والعقليات : فقد اعتمد متأخروهم على كتب المعتزلة في الجملة .
والمعتزلة أعقل وأصدق ، وليس في المعتزلة من يطعن في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم أجمعين ، بل هم متفقون على تثبيت خلافة الثلاثة ، وأما التفضيل فأئمتهم وجمهورهم كانوا يفضلون أبا بكر وعمر (ما، وفي متأخريهم من توقف في التفضيل وبعضهم فضل عليا ، فصار بينهم وبيم الزيدية نسب راجح من جهة المشاركة ، في التوحيد والعدل والإمامة والتفضيل .
الفصل الأول
زعم الرافضة أن الإمامة من أهم أصول الدين(173/27)
قال المصنف الرافضي أما بعد : فهذه رسالة شريفة ، ومقالة لطيفة اشتملت على أهم المطالب في أحكام الدين ، وأشرف مسائل المسلمين وهي مسألة الإمامة ، التي يحصل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة ، وهي أحد أركان الإيمان ، المستحق بسببه الخلود في الجنان ، والتخلص من غضب الرحمن ، فلقد قال رسول الله ( : ((من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية )) . خدمت بها خزانة السلطان الأعظم مالك رقاب الأمم ، ملك ملوك طوائف العرب والعجم ، مولى النعم ومسدي الخير والكرم ، شاهنشاه المكرم غياث الملة والحق والدين ( أولجايو خدابنده ) ، قد لخصت فيه خلاصة الدلائل ، وأشرت إلى رؤوس المسائل ، وسميتها منهاج الكرامة ، في معرفة الإمامة ، وقد رتبتها على فصول . الفصل الأول في نقل المذاهب في هذه المسألة ، ثم ذكر الفصل الثاني في أن مذهب الإمامية واجب الاتباع ، ثم ذكر الفصل الثالث في الأدلة على إمامة علي ( بعد رسول الله ( ، ثم ذكر الفصل الرابع في الاثني عشر ثم ذكر الفصل الخامس في إبطال خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، فيقال الكلام على هذا من وجوه :
( أحدها ) : أن يقال أولا أن القائل : أن مسألة الامامة أهم المطالب في أحكام الدين ، وأشرف مسائل المسلمين ، كذب بإجماع المسلمين ، سنيهم وشيعيهم ، بل هو كفر ، فإن الإيمان بالله ورسوله أهم من مسألة الامامة .
وهذا معلوم بالاضطرار من دين الاسلام ، فالكافر لا يصير مؤمنا حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وهذا هو الذي قاتل عليه الرسول ( الكفار كما استفاض عنه في الصحاح وغيرها أنه قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحقها )) (1)
__________
(1) انظر البخاري ج1ص10 وأماكن أخر ، ومسلم ج1ص52-53.(173/28)
وقد قال تعالى : ( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ ((1) . وكذلك قال لعلي لما بعثه إلى خيبر وكذلك كان النبي ( . يسير في الكفار فيحقن دماءهم بالتوبة من الكفر لا يذكر لهم الامامة بحال وقد قال تعالى بعد هذا : ( فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ((2) .
فجعلهم إخوانا في الدين بالتوبة ، فإن الكفار على عهد رسول الله ( كانوا إذا أسلموا أجرى عليهم أحكام الاسلام ، ولم يذكر لهم الإمامة بحال ، ولا نقل هذا عن الرسول أحد من أهل العلم ، لا نقلا خاصا ولا عاما ، بل نحن نعلم بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه لم يكن يذكر للناس إذا أرادوا الدخول في دينه الإمامة لا مطلقا ولا معنيا .
فكيف تكون أهم المطالب في أحكام الدين ؟ ومما يبين ذلك ان الامامة بتقدير الاحتياج إلى معرفتها لا يحتاج إليها من مات على عهد رسول الله ( _ فكيف يكون أشرف مسائل المسلمين وأهم المطالب في الدين لا يحتاج إليه أحد على عهد النبي ( .
أوليس الذين آمنوا بالنبي ( في حياته واتبعوه باطنا وظاهرا ولم يرتدوا ولم يبدلوا هم أفضل الخلق باتفاق المسلمين أهل السنة والشيعة ، فكيف يكون أفضل المسلمين لا يحتاج إلى أهم المطالب في الدين ؟ وأشرف مسائل المسلمين ؟ .
فإن قيل إن النبي ( كان هو الإمام في حياته، وإنما يحتاج إلى الامام بعد مماته فلم تكن هذه المسألة أهم مسائل الدين في حياته وإنما صارت أهم مسائل الدين بعد موته قيل: الجواب عن هذا من وجوه :
__________
(1) الآية 5 من سورة التوبة .
(2) الآية 11 من سورة التوبة .(173/29)
( أحدها ) : أنه بتقدير صحة ذلك لا يجوز أن يقال إنها أهم مسائل الدين مطلقا ، بل في وقت دون وقت ، وهي في خير الأوقات ليست أهم الطالب في أحكام الدين ولا أشرف مسائل المسلمين .
( الثاني ) : أن يقال الإيمان بالله ورسوله في كل زمان ومكان أعظم من مسألة الامامة ، فلم تكن في وقت من الأوقات لا الأهم ولا الأشرف .
( الثالث ) : أن يقال فقد كان يجب بيانها من النبي ( لأمته الباقين من بعده ، كما بين لهم أمور الصلاة والزكاة والصيام والحج ، وعين أمر الإيمان بالله وتوحيده واليوم الآخر .
ومن المعلوم أنه ليس بيان مسألة الإمامة في الكتاب والسنة ببيان هذه الأصول ، فإن قيل بل الإمامة في كل زمان هي الأهم والنبي ( كان نبيا إماما وهذا كان معلوما لمن آمن به أنه كان إمام ذلك الزمان قيل الاعتذار بهذا باطل من وجوه :
( أحدها ) : أن قول القائل الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين إما أن يريد به إمامة الاثني عشر أو إمامة إمام كل زمان بعينه في زمانه بحيث يكون الأهم في زماننا الإيمان بإمامة محمدالمنتظر، والأهم في زمان الخلفاء الأربعة الإيمان بإمامة علي عندهم ، والأهم في زمان النبي ( الإيمان بإمامته .
وإما أن يريد به الإيمان بأحكام الإمامة مطلقا غير معين . وإما أن يريد به معنى رابعا ، أما الأول فقد علم بالاضطرار أن هذا لم يكن معلوما شائعا بين الصحابة ولا التابعين بل الشيعة تقول أن كل واحد إنما يعين بنص من قبله ، فبطل أن يكون هذا أهم أمور الدين.(173/30)
وأما الثاني فعلى هذا التقدير يكون أهم المطالب في كل زمان الإيمان بإمام ذلك الزمان ، ويكون الإيمان من سنة ستين ومائتين إلى هذا التاريخ إنما هو الإيمان بإمامة محمد بن الحسن ، ويكون هذا أعظم من الإيمان بأنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ومن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت ، ومن الإيمان بالصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الواجبات ، وهذا مع أنه معلوم فساده بالاضطرار من دين الاسلام ، فليس هو قول الإمامية ، فإن اهتمامهم بعلي وإمامته أعظم من اهتمامهم بإمامة المنتظر كما ذكره هذا المصنف ، وأمثاله من شيوخ الشيعة .
وأيضا فإن كان هذا هو أهم المطالب في الدين فالإمامية آخر الناس في صفقة هذا الدين ، لأنهم جعلوا الإمام المعصوم ، هو الإمام المعدوم الذي لم ينفعهم في الدين والدنيا ، فلم يستفيدوا م أهم الأمور الدينية شيئا من منافع الدين ولا الدنيا .
وإن قالوا : إن المراد أن الإيمان بحكم الإمامة مطلقا هو أهم أمور الدين، كان هذا أيضا باطلا للعلم الضروري أن غيرها من أمور الدين أهم منها ، وإن أريد معني رابع فلا بد من بيانه لنتكلم عليه .
( الوجه الثاني ) أن يقال إن النبي ( لم تجب طاعته على الناس لكونه إماما ، بل لكونه رسول الله إلى الناس ، وهذا المعنى ثابت له حيا وميتا ، فوجوب طاعته على من بعده كوجوب طاعته على أهل زمانه ، وأهل زمانه فيهم الشاهد الذي يسمع أمره ونهيه ، وفيهم الغائب الذي بلغه الشاهد أمره ونهيه .
فكما يجب على الغائب عنه في حياته طاعة أمره ونهيه ، يجب ذلك على من يكون بعد موته ، وهو ( أمره شامل عام لكل مؤمن شهده أو غاب عنه ، في حياته وبعد موته ، وهذا ليس لأحد من اهل الأئمة ولا يستفاد هذا بالإمامة .(173/31)
حتى إنه ( إذا أمر ناسا معينين بأمور وحكم في أعيان معينة بأحكام لم يكن حكمه وأمره مختصا بتلك المعينات ، بل كان ثابتا في نظائرها وأمثالها إلى يوم القيامة ، فقوله ( لمن شهده :((لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ))(1) هو حكم ثابت لكل مأموم بإمام أن لا يسبقه بالركوع ولا بالسجود ، وقوله لمن قال : (( لم أشعر فحلقت قبل أن أرمي . قال : ارم ولا حرج . ولمن قال نحرت قبل أن أحلق . قال : احلق ولا حرج )) (2) . أمر لمن كان مثله .
وكذلك قوله لعائشة (ا لما حاضت وهي معتمرة : ((اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ))(3) ، وأمثاله هذا كثير ، بخلاف الإمام إذا أطيع .
وخلفاؤه بعده في تنفيذ أمره ونهيه كخلفائه في حياته ، فكل آمر بأمر يجب طاعته فيه ، إنما هو منفذ لأمر رسول الله ( _ لأن الله أرسله إلى الناس وفرض عليهم طاعته ، لا لأجل كونه إماما له شوكة وأعوان ، أو لأجل أن غيره عهد له بالإمامة ، أو غير ذلك ، فطاعته لا تقف على ما تقف عليه طاعة الأئمة من عهد من قبله ، أو موافقته ذوي الشوكة أو غير ذلك بل تجب طاعته ( _ وإن لم يكن معه أحد ، وإن كذبه جميع الناس.
وكانت طاعته واجبة بمكة قبل أن يصير له أعوان ، وأنصار يقاتلون معه ، فهو كما قال سبحانه فيه : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ( (4)
__________
(1) انظر مسلم ج1ص320 وابن ماجه ج1ص308-309 .
(2) انظر البخاري ج2 ص173 ومسلم ج2ص948 .
(3) انظر البخاري ج2 ص159 .
(4) الآية 144 من سورة آل عمران .(173/32)
بين سبحانه وتعالى أنه ليس بموته ولا قتل ينتقض حكم رسالته ، كما ينتقض حكم الإمامة بموت الأئمة وقتلهم ، وأنه ليس من شرطه أن يكون خالدا لا يموت ، فإنه ليس هو ربا وإنما هو رسول قد خلت من قبله الرسل .
وقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه ، فطاعته واجبة بعد مماته وجوبها في حياته، وأوكد لأن الدين كمل واستقر بموته فلم يبق فيه نسخ ، ولهذا جمع القرآن بعد موته لكماله واستقراره بموته ، فإذا قال القائل إنه كان إماما في حياته ، وبعده صار الإمام غيره إن أراد بذلك أنه صار بعده من هو نظيره يطاع كما يطاع الرسول فهو باطل ، وإن أراد أنه قام من يخلفه في تنفيذ أمره ونهيه فهذا كان حاصلا في حياته ، فإنه إذا غاب كان هناك من يخلفه . وإن قيل أنه بعد موته لا يباشر معينا بالأمر بخلاف حياته قيل مباشرته بالأمر ليست شرطا في وجوب طاعته ، بل تجب طاعته على من بلغه أمره ونهيه كما تجب طاعته على من سمع كلامه .
وقد كان يقول : ((ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع )) (1) وإن قيل إنه في حياته كان يقضي في قضايا معينة ، مثل إعطاء شخص بعينه، وإقامة الحد على شخص بعينه ، وتنفيذ جيش بعينه . قيل نعم وطاعته واجبة في نظير ذلك إلى يوم القيامة ، بخلاف الأئمة . لكن قد يخفى الاستدلال على نظير ذلك كما يخفى العلم على من غاب عنه ، فالشاهد أعلم بما قال وأفهم له من الغائب، وإن كان فيمن غاب وبلغ أمره من هو أوعى له من بعض السامعين، لكن هذا لتفاضل الناس في معرفة أمره ونهيه ، لا لتفاضلهم في وجوب طاعته عليهم .
__________
(1) رواه البخاري ج2ص176 وغيره .(173/33)
فما تجب طاعة ولي أمر بعده إلا كما تجب طاعة ولاة الأمور في حياته فطاعته شاملة لجميع العباد شمولا واحدا ، وإن تنوعت خدمتهم في البلاغ و السماع والفهم ، فهؤلاء يبلغهم من أمره ما لم يبلغ هؤلاء ، وهؤلاء يسمعون من أمره ما لم يسمعه هؤلاء ، وهؤلاء يفهمون من أمره ما لا يفهمه هؤلاء ، وكل من أمر بما أمر به الرسول وجبت طاعته ، طاعة لله ورسوله لا له .
وإذا كان للناس ولي أمر قادر ذو شوكة ، فيأمر بما يأمر ويحكم بما يحكم ، انتظم الأمر بذلك ، ولم يجز أن يولى غيره ، ولا يمكن بعده أن يكون شخص واحد مثله ، وإنما يوجد من هو أقرب إليه من غيره ، فأحق الناس بخلافة نبوته أقربهم إلى الأمر بما يأمر به ، والنهي عما نهى عنه ، ولا يطاع أمره طاعة ظاهرة غالبة إلا بقدرة وسلطان يوجب الطاعة ، كما لم يطع أمره في حياته طاعة ظاهرة غالبة حتى صار معه من يقاتل على طاعة أمره ، فالدين كله طاعة لله ورسوله وطاعة الله ورسوله هي الدين كله فمن يطع الرسول فقد أطاع الله .
ودين المسلمين بعد موته طاعة الله ورسوله ، وطاعتهم لولي الأمر فيما أمروا بطاعته فيه هو طاعة لله ورسوله ، وأمر ولي الأمر الذي أمره الله أن يأمرهم به ، وقسمه وحكمه هو طاعة لله ورسوله ، فأعمال الأئمة والأمة في حياته ومماته التي يحبها الله ويرضاها ، كلها طاعة لله ورسوله .
ولهذا كان أصل الدين شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله ، فإذا قيل هو كان إماما وأريد بذلك إمامة خارجة عن الرسالة ، أو إمامة يشترط فيها ما لا يشترط في الرسالة ، أو إمامة يعتبر فيها طاعته بدون طاعة الرسول ، فهذا كله باطل فإن كل ما يطاع به داخل في رسالته ، وهو في كل ما يطاع فيه يطاع بأنه رسول الله ولو قدر أنه كان إماما مجردا لم يطع حتى تكون طاعته داخلة في طاعة رسول آخر .
فالطاعة إنما تجب لله ورسوله ، ولمن أمرت الرسل بطاعتهم .(173/34)
فإن قيل أطيع بإمامته طاعة داخلة في رسالته كان هذا عديم التأثير ، فإن مجرد رسالته كافية في وجوب طاعته ، بخلاف الإمام فإنه إنما يصير إماما بأعوان ينفذون أمره ، وإلا كان كآحاد أهل العلم والدين ، فإن قيل أنه ( لما صار له شوكة بالمدينة صار له مع الرسالة إمامة بالعدل ، قيل بل صار رسولا له أعوان وأنصار ينفذون أمره ، ويجاهدون من خالفه وهو ما دام في الأرض من بل صار رسولا له أعوان وأنصار ينفذون أمره ، ويجاهدون من خالفه وهو ما دام في الأرض من يؤمن بالله ورسوله له أنصار وأعوان ينفذون أمره ويجاهدون من خالفه فلم يستفد بالأعوان ما يحتاج أن يضمه إلى الرسالة مثل كونه إماما أو حاكما أو ولى أمر إذا كان هذا كله داخل في رسالته ، ولكن بالأعوان حصل له كمال قدرة أوجبت عليه من الأمر والجهاد ما لم يكن واجبا بدون القدرة ، والأحكام تختلف باختلاف حال القدرة والعجز والعلم وعدمه كما تختلف باختلاف الغنى والفقر والصحة والمرض ، والمؤمن مطيع لله في ذلك كله ، وهو مطيع لرسول الله في ذلك كله ، ومحمد رسول الله فيما أمر به ونهى عنه مطيع لله في ذلك كله.
وإن قالت الإمامية : الإمامة واجبة بالعقل بخلاف الرسالة فهي أهم من هذا الوجه ، قيل : الوجوب العقلي فيه نزاع كما سيأتي ، وعلى القول بالوجوب العقلي فما يجب من الإمامة جزء من أجزاء الواجبات العقلية ، وغير الإمامة أوجب من ذلك كالتوحيد ، والصدق والعدل ، وغير ذلك من الواجبات العقلية.
وأيضا فلا ريب أن الرسالة يحصل بها هذا الواجب ، فمقصودها جزء من أجزاء الرسالة ، فالإيمان بالرسول يحصل به مقصود الإمامة ، في حياته وبعد مماته بخلاف الإمامة ، وأيضا فمن ثبت عنده أن محمداً رسول الله وأن طاعته واجبة عليه واجتهد في طاعته بحسب الإمكان إن قيل أنه يدخل الجنة فقد استغنى عن مسألة الإمامة .(173/35)
وإن قيل لا يدخل الجنة كان هذا خلاف نصوص القرآن ، فإنه سبحانه أوجب الجنة لمن أطاع الله ورسوله في غير موضع كقوله تعالى: { مَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِين وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ َرفِيقاً } (1).
... { وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلُهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيها وَذَلِكَ الْفَوْز العَظِيم } (2) .
وأيضا فصاحب الزمان الذي يدعون إليه ، لا سبيل للناس إلى معرفته ولا معرفة ما يأمرهم به ، وما ينهاهم عنه ، وما يخبرهم به، فإن كان أحد لا يصير سعيدا إلا بطاعة هذا الذي لا يعرف أمرهولا نهيه لزم أن لا يتمكن أحد من طريق النجاة والسعادة وطاعة الله ، وهذا من أعظم تكليف ما لا يطاق وهم من أعظم الناس إحالة له .
وإن قيل بل هو يأمر بما عليه الإمامية ، قيل فلا حاجة إلى وجوده ، ولا شهوده ، فإن هذا معروف سواء كان هو حيا أو ميتا ، وسواء كان شاهدا أو غائبا ، وإذا كان معرفة ما أمر الله به الخلق ممكنا بدون هذا الإمام المنتظر، علم أنه لا حاجة إليه ولا يتوقف عليه طاعة الله ولا نجاة أحد ولا سعادته ، وحينئذ فيمتنع القول بجواز إمامة مثل هذا ، فضلا عن القول بوجوب إمامة مثل هذا،وهذا أمر بيّن لمن تدبره .
لكن الرافضة من أجهل الناس ، وذلك أن فعل الواجبات العقلية والشرعية إما أن يكون موقوفا على معرفة ما يأمر به ،وينهى عنه هذا المنتظر وإما أن لا يكون موقوفا ، فإن كان موقوفا لزم تكليف ما لا يطاق ، وأن يكون فعل الواجبات وترك المحرمات موقوفا على شرط لا يقدر عليه عامة الناس ، بل ولا أحد منهم فإنه ليس في الأرض من يدعي دعوة صادقة أنه رأى هذا المنتظر ، أو سمع كلامه .
__________
(1) الآية 69 من سورة النساء .
(2) الآية 13 من سورة النساء .(173/36)
وإن لم يكن موقوفا على ذلك أمكن فعل الواجبات العقلية والشرعية وترك القبائح العقلية والشرعية بدون هذا المنتظر ، فلا يحتاج إليه ولا يجب وجوده ولا شهوده .
وهؤلاء الرافضة علقوا نجاة الخلق وسعادتهم وطاعتهم لله ورسوله بشرط ممتنع لا يقدر عليه الناس ،ولا يقدر عليه أحد منهم ، وقالوا للناس لا يكون أحد ناجيا من عذاب الله إلا بذلك ،ولا يكون سعيدا إلا بذلك ، ولا يكون أحد مؤمنا إلا بذلك .
فلزمهم أحد أمرين ، إما بطلان قولهم وإما أن يكون الله قد آيس عباده من رحمته وأوجب عذابه لجميع الخلق،المسلمين وغيرهم وعلى هذا التقدير فهم أوّل الأشقياء ، المعذبين فإنه ليس لأحد منهم طريق إلى معرفة أمر هذا الإمام ، الذي يعتقدون أنه موجود غائب ، ولا نهيه ولا خبره ، بل عندهم من الأقوال المنقولة عن شيوخ الرافضة ما يذكرون أنه منقول عن الأئمة المتقدمين على هذا المنتظر ، وهم لا ينقلون شيئا عن المنتظر وإن قدر أن بعضهم نقل عنه شيئا علم أنه كاذب ، وحينئذ فتلك الأقوال إن كانت كافية فلا حاجة إلى المنتظر ، وإن لم تكن كافية فقد أقروا بشقائهم وعذابهم، حيث كانت سعادتهم موقوفة على آمر لا يعلمون بماذا أمر.
وقد رأيت طائف من شيوخ الرافضة كابن العود الحلي يقول : إذا اختلفت الإمامية على قولين أحدهما يعرف قائله والآخر لا يعرف قائله ، كان القول الذي لا يعرف قائله هو القول الحق الذي يجب اتباعه لأن المنتظر المعصوم في تلك الطائفة .
وهذا غاية الجهل والضلال ، فإنه بتقدير وجود المنتظر المعصوم لا يعلم أنه قال ذلك القول إذ لم ينقله عنه أحد ، ولا عن من نقله عنه ، فمن أين يجزم بأنه قوله ، ولم لا يجوز أن يكون القول الآخر هو قوله وهو لغيبته وخوفه من الظالمين لا يمكنه إظهار قوله ، كما يدعون ذلك فيه .(173/37)
وكان أصل دين هؤلاء الرافضة مبنيا على مجهول ، ومعدوم ، لا على موجود ولا معلوم ، يظنون أن إمامهم موجود معصوم ، وهو مفقود معدوم ، ولو كان موجودا معصوما فهم معترفون بأنهم لا يقدرون أن يعرفوا أمره ونهيه ، كما كانوا يعرفون أمر آبائه ونهيهم ، والمقصود بالإمام إنما هو طاعة أمره ، فإذا كان العلم بأمره ممتنعاً كانت طاعته ممتنعة ، فكان المقصود به ممتنعاً ، وإذا كان المقصود به ممتنعاً لم يكن في إثبات الوسيلة فائدة أصلا، بل كان إثبات الوسيلة التي لا يحصل بها مقصودها من باب السفه والعبث والعذاب القبيح باتفاق أهل الشرع ، وباتفاق العقلاء القائلين بتحسين العقول وتقبيحها ، بل باتفاق العقلاء مطلقا ، فإنهم إذا فسروا القبيح بما يضر كانوا متفقين على أن معرفة الضار يعلم بالعقل .
والإيمان بهذا الإمام الذي ليس فيه منفعة بل مضرة في العقل والنفس والبدن والمال وغير ذلك قبيح شرعا وعقلا ، ولهذا كان المتبعون له من أبعد الناس عن مصلحة الدين والدنيا ، لا تنتظم لهم مصلحة دينهم ولا دنياهم ، إن لم يدخلوا في طاعة غيرهم . كاليهود الذين لا تنتظم لهم مصلحة إلا بالدخول في طاعة من هو خارج عن دينهم .
فهم يوجبون وجود الإمام المنتظر المعصوم ، لأن مصلحة الدين والدنيا لا تحصل إلا به عندهم ، وهم لم يحصل لهم بهذا المنتظر مصلحة في الدين ولا في الدنيا ، والذين كذبوا به لم تفتهم مصلحة في الدين ولا في الدنيا، بل كانوا أقوم بمصالح الدين والدنيا من أتباعه .
فعلم بذلك أن قولهم في الإمامة لا ينال به إلا ما يورث الخزى والندامة ،وأنه ليس فيه شيء من الكرامة ، وان ذلك إذا كان أعظم مطالب الدين فهم أبعد الناس عن الحق والهدى ، في أعظم مطالب الدين ، وإن لم يكن أعظم مطالب الدين ظهر بطلان ما ادّعوه من ذلك . فثبت بطلان قولهم على التقديرين ، وهو المطلوب.(173/38)
فإن قال هؤلاء الرافضة : إيماننا بهذا المنتظر المعصوم مثل إيمان كثير من شيوخ الزهد والدين بالياس والخضر والغوث والقطب ، ورجال الغيب ، ونحو ذلك من الأشخاص الذين لا يعرفون وجودهم ، ولا بماذا يأمرون ، ولا عن ماذا ينهون ، فكيف يسوغ لمن يوافق هؤلاء أن ينكر علينا ما ندعيه ؟ قيل الجواب من وجوه :
(أحدها ): أن الإيمان بوجود هؤلاء ليس واجبا عند أحد من علماء المسلمين وطوائفهم المعروفين ، وإن كان بعض الغلاة يوجب على أصحابه الإيمان بوجود هؤلاء ، ويقول إنه لا يكون مؤمنا وليا لله إلا من يؤمن بوجود هؤلاء في هذه الأزمان ، كان قوله مردودا ، كقول الرافضة
(الوجه الثاني ):أن يقال من الناس من يظن أن التصديق بهؤلاء يزداد الرجل به إيمانا وخيرا ، وموالاة لله وأن المصدق بوجود هؤلاء أكمل وأشرف وأفضل عند الله ممن لم يصدق بوجود هؤلاء ، وهذا القول ليس مثل قول الرافضة من كل وجه ، بل هو مشابه له من بعض الوجوه ، لكونهم جعلوا كمال الدين موقوفا على ذلك .
وحينئذ ، فيقال هذا القول أيضاً باطل باتفاق علماء المسلمين وأئمتهم، فإن العلم بالواجبات والمستحبات وفعل الواجبات والمستحبات كلها ليس موقوفا على التصديق بوجود هؤلاء ، ومن ظن من أهل النسك والزهد والعامة أن شيئا من الدين واجبا أو مستحبا موقوف على التصديق بوجود هؤلاء فهذا جاهل ضال ، باتفاق أهل العلم والإيمان العالمين بالكتاب والسنّة ،إذ قد علم بالأضرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يشرع لأمته التصديق بوجود هؤلاء ، ولا أصحابه كانوا يجعلون ذلك من الدين ، ولا أئمة المسلمين وأيضا .(173/39)
فجميع هذه الألفاظ لفظ الغوث والقطب والأوتاد والنجباء وغيرها لم ينقل أحد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بإسناد معروف أنه تكلم بشيء منها ، ولا أصحابه ، ولكن لفظ الإبدال تكلم به بعض السلف ويروى فيه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حديث ضعيف(1) وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع .
شرك بعض الصوفية حتى في الربوبية
(الوجه الثالث) : أن يقال القائلون بهذه الأمور ، منهم من ينسب إلى أحد هؤلاء ما لا تجوز نسبته إلى أحد من البشر ، مثل دعوى بعضهم أن الغوث أو القطب هو الذي يمد أهل الأرض في هداهم ونصرهم ورزقهم ، وأن هذا لا يصل إلى أحد إلا بواسطة نزوله على ذلك الشخص وهذا باطل بإجماع المسلمين ، وهو من جنس قول النصارى في الباب وكذلك ما يدعيه بعضهم من أن الواحد من هؤلاء يعلم كل ولى له كان أو يكون ، اسمه واسم أبيه ومنزلته من الله ونحو ذلك من المقالات الباطلة ، التي تتضمن أن الواحد من البشر يشارك الله في بعض خصائصه .
مثل أنه بكل شيء عليم ، أو على كل شيء قدير ، ونحو ذلك كما يقول بعضهم في النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي شيوخه : أن علم أحدهم ينطبق على علم الله وقدرته منطبقة على قدرة الله ، فيعلم ما يعلمه الله ويقدر و يقدر على ما يقدر الله عليه ، فهذه المقالات ، وما يشبهها من جنس قول النصارى ، والغالية في عليّ ، وهي باطلة بإجماع المسلمين .
__________
(1) ورد الحديث في المسند ج2 ص 171 تحقيق أحمد شاكر .(173/40)
ومنهم من ينسب إلى الواحد من هؤلاء ما تجوز نسبته إلى الأنبياء وصالحي المؤمنين ، من الكرامات ، كدعوة مجابة ومكاشفات من مكاشفات الصالحين ، ونحو ذلك فهذا القدر يقع كثيرا من الأشخاص الموجودين المعاينين ، ومن نسب ذلك إلى من لا يعرف وجوده ، فهؤلاء وإن كانوا مخطئين في نسبة ذلك إلى شخص معدوم فخطؤهم كخطأ من اعتقد أن في البلد الفلاني رجالا من أولياء الله تعالى وليس فيه أحد ، أو اعتقد في ناس معينين أنهم أولياء الله ولم يكونوا كذلك ، ولا ريب أن هذا خطأ وجهل وضلال يقع فيه كثير من الناس ، لكن خطأ الإمامية و ضلالهم أقبح وأعظم .
لا وجود لإلياس والخضر
(الوجه الرابع):أن يقال الصواب الذي عليه محققو العلماء أن إلياس والخضر ماتا ، وأنه ليس أحد من البشر واسطة بين الله عز سلطانه وبين خلقه في خلقه ورزقه وهداه ونصره ، وإنما الرسل وسائط في تبليغ رسالاته ، لا سبيل لأحد إلى السعادة إلا بطاعة الرسل .
وأما خلقه وهداه ونصره ورزقه فلا يقدر عليه إلا الله تعالى. فهذا لا يتوقف على حياة الرسل وبقائهم ، بل ولا يتوقف نصر الخلق ورزقهم على وجود الرسل أصلا ، بل قد يخلق ذلك بما شاء من الأسباب بواسطة الملائكة أو غيرهم ، وقد يكون لبعض البشر في ذلك من الأسباب ما هو معروف في البشر .
وأما كون ذلك لا يكون إلا بواسطة من البشر ، أو أن أحدا من البشر يتولى ذلك كله ونحو ذلك ، فهذا كله باطل ، وحينئذ فيقال للرافضة إذا احتجوا بضلال الضلال { ولن ينفعكم اليوم إذا ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } (1).
__________
(1) الآية من سورة الزخرف(173/41)
وأيضا فمن المعلوم أن أشرف مسائل المسلمين وأهم المطالب في الدنيا ينبغي أن يكون ذكرها في كتاب الله تعالى أعظم من غيرها وبيان الرسول لها أولى من بيان غيرها ، والقرآن مملوء بذكر توحيد الله تعالى وذكر أسمائه وصفاته، وآياته ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقصص ، والأمر والنهي، والحدود ، والفرائض ، بخلاف الإمامة فكيف يكون القرآن مملوء بغير الأهم الأشرف ؟ وأيضا فإن الله تعالى قد علق السعادة بما لا ذكر فيه للإمامة ، فقال : { وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِين وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا } (1) وقال: { وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَناَّت } إلى قوله : { وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيها وَلَهُ عَذَابٌ مُهِين } (2).
فقد بين الله في القرآن أن من أطاع الله ورسوله كان سعيدا ، في الآخرة ومن عصى الله ورسوله وتعدّى حدوده كان معذباً ، وهذا هو الفرق بين السعداء والأشقياء ، ولم يذكر الإمامة.
__________
(1) ألاية 69 من سورة النساء .
(2) ألايتان 14،13 من سورة النساء .(173/42)
فإن قال قائل : أن الإمامة داخلة في طاعة الله ورسوله . قيل نهايتها أن تكون كبعض الواجبات ، كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك ، مما يدخل في طاعة الله ورسوله ، فكيف تكون هي وحدها أشرف مسائل المسلمين وأهم مطالب الدين ؟ فإن قيل لا يمكننا طاعة الرسول إلا بطاعة الإمام ، فإنه هو الذي يعرف الشرع . قيل هذا هو دعوى المذهب ، ولا حجة فيه ، ومعلوم أن القرآن لم يدل على هذا كما دل على سائر أصول الدين ، وقد تقدم أن هذا الإمام الذي يدعونه لم ينتفع به أحد في ذلك ، وسيأتي إن شاء الله تعالى أن ما جاء به الرسول لا يحتاج في معرفته إلى أحد من الأئمة.
أصول الدين عند الإمامية
(الوجه الثاني)(1) أن يقال : أصول الدين عند الإمامية أربعة، التوحيد والعدل والنبوة ، والإمامة ، هي آخر المراتب ، والتوحيد والعدل والنبوة قبل ذلك ، وهم يدخلون في التوحيد نفي الصفات ، والقول بأن القرآن مخلوق ، وأن الله لا يرى في الآخرة ، ويدخلون في العدل التكذيب بالقدر ، وأن الله لا يقدر أن يهدي من يشاء ، ولا يقدر أن يضل من يشاء ، وأنه قد يشاء ما لا يكون ، ويكون ما لا يشاء ، وغير ذلك ، فلا يقولون أنه خالق كل شيء، ولا أنه على كل شيء قدير، ولا أنه ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، لكن التوحيد والعدل والنبوة مقدمة على الإمامة ، فكيف تكون الإمامة أشرف وأهم؟ وأيضاً فالإمامة إنما أوجبوها لكونها لطفا في الواجبات ، فهي واجبة وجوب الوسائل ، فكيف تكون الوسيلة أشرف وأهم من المقصود .
تناقض الرافضة في الإمامة بين القول والتطبيق
__________
(1) الوجه الأول ما تقدم في ص 38 على قول الرافضة أن الإمامة أهم أمور الدين .(173/43)
(الوجه الثالث): أن يقال إن كانت الإمامة أهم مطالب الدين ، وأشرف مسائل المسلمين ، فأبعد الناس عن هذا الأهم الاشرف هم الرافضة ، فإنهم قد قالوا في الإمامة أسخف قول وأفسده في العقل والدين ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى إذا تكلمنا عن حججهم .
ويكفيك أن مطلوبهم بالإمامة أن يكون لهم رئيس معصوم ، يكون لطفا في مصالح دينهم ودنياهم ، وليس في الطوائف أبعد عن مصلحة اللطف والإمامة منهم ، فإنهم يحتالون على مجهول ومعدوم،لا يرى له عين ولا أثر، ولا يسمح له حس ولا خبر ، فلم يحصل لهم من الأمر المقصود بإمامته شيء وأي من فرض إماما نافعا في بعض مصالح الدين والدنيا كان خيرا ممن لا ينتفع به في شيء من مصالح الإمامة .
ولهذا تجدهم لما فاتهم مصلحة الإمامة يدخلون في طاعة كافر أو ظالم لينالوا به بعض مقاصدهم ، فبينا هم يدعون الناس إلى طاعة إمام معصوم ، أصبحوا يرجعون إلى طاعة كفور ظلوم ، فهل يكن أبعد عن مقصود الإمامة وعن الخير والكرامة ،ممن سلك منهاج الندامة ، وفي الجملة فالله تعالى قد علق بولاة الأمور مصالح في الدين والدنيا ، سواء كانت الإمامة أهم الأمور أو لم تكن ، والرافضة أبعد الناس عن حصول هذه المصلحة لهم ، فقد فاتهم على قولهم الخير المطلوب من أهم مطالب الدين وأشرف مسائل المسلمين.
ولقد طلب مني بعض أكابر شيوخهم الفضلاء أن يخلو بي وأتكلم معه في ذلك فخلوت به وقررت له ما يقولونه في هذا الباب كقولهم إن الله أمر العباد ونهاهم ، فيجب أن يفعل بهم اللطف الذي يكونون عنده أقرب إلى فعل الواجب ، وترك القبيح ، لأن من دعا شخصاً ليأكل طعاما فإذا كان مراده الأكل فعل ما يعين على ذلك من الأسباب ، كتلقيه بالبشر وإجلاسه في مجالس مناسبة وأمثال ذلك .
وإن لم يكن مراده أن يأكل عبس في وجهه وأغلق الباب ، ونحو ذلك وهذا أخذوه من المعتزلة ، ليس هو من أصول شيوخهم القدماء.(173/44)
ثم قالوا والإمام لطف ، لأن الناس إذا كان لهم إمام يأمرهم بالواجب وينهاهم عن القبيح كانوا أقرب إلى فعل المأمور ، وترك المحظور ، فيجب أن يكون لهم إمام ، ولا بد أن يكون معصوما ، لانه إذا لم يكن معصوما لم يحصل به المقصود ،ولم تدع العصمة لأحد بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلا لعليّ فتعين أن يكون هو إياه ، للإجماع على انتقاء ما سواه وبسطت له العبارة في هذه المعانى .
ثم قالوا : وعليّ نص على الحسن ، والحسن على الحسين إلى أن انتهت النوبة إلى المنتظر محمد بن الحسن صاحب السرداب الغائب ، فاعترف أن هذا تقرير مذهبهم على غاية الكمال ، قلت له : فأنا وأنت طالبان للعلم والحق والهدى وهم يقولون من لم يؤمن بالمنتظر فهو كافر ، فهذا المنتظر هل رأيته ، أو رأيت من رآه ، أو سمعت بخبره ، أو تعرف شيئا من كلامه ، الذي قاله هو ، أو ما أمر به أو نهى عنه مأخوذاً عنه كما يؤخذ من الأئمة ؟ قال: لا . قلت :فأي فائدة في إيماننا هذا ؟ وأي لطف يحصل لنا بهذا ؟.
ثم كيف يجوز أن يكلفنا الله تعالى بطاعة شخص ونحن لا نعلم ما يأمرنا به ولا ما ينهانا عنه ، ولا طريق لنا إلى معرفة ذلك بوجه من الوجوه ، وهم من أشد الناس إنكاراً لتكليف ما لا يطاق ، فهل يكون في تكليف ما لا يطاق أبلغ من هذا ؟
فقال : إثبات هذا مبني على تلك المقدمات . قلت : لكن المقصود لنا من تلك المقدمات هو ما يتعلق بنا نحن ، وإلا فما علينا مما مضى إذا لم يتعلق الأمر بنا منه أمر ولا نهى .
وإذا كان كلامنا في تلك المقدمات لا يحصل لنا فائدة ولا لطفا ولا يفيدنا إلا تكليف ما لا يقدر عليه ، علم ان الإيمان بهذا المنتظر من باب الجهل والضلال ، لا من باب اللطف والمصلحة .(173/45)
والذي عند الإمامية من النقل عن الأئمة الموتى إن كان حقا يحصل به سعادتهم فلا حاجة بهم إلى المنتظر ، وإن كان باطلا فهم أيضا لم ينتفعوا بالمنتظر في رد هذا الباطل ، فلم ينتفعوا بالمنتظر لا في إثبات حق ولا في نفي باطل ، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر ،ولم يحصل به لواحد منهم شيء من المصلحة واللطف والمنفعة المطلوبة من الإمامة .
والجهال الذين يعلقون أمورهم بالمجهولات كرجال الغيب والقطب والغوث والخضر ونحو ذلك مع جهلهم وضلالهم وكونهم يثبتون ما لم يحصل لهم به مصلحة ولا لطف ولا منفعة لا في الدين ولا في الدنيا ، أقل ضلالا من الرافضة ، فإن الخضر ينتفع برؤيته وبموعظته ، وإن كان غالطا في اعتقاده انه الخضر فقد يرى أحدهم بعض الجنّ فيظنّ أنه الخضر ، ولا يخاطبه الجني إلا بما يرى أنه يقبله منه ليربطه على ذلك ، فيكون الرجل أتى من نفسه لا من ذلك المخاطب له ومنهم من يقول لكل زمان خضر ، ومنهم من يقول لكل وليّ خضر .
وللكفار كاليهود مواضع يقولون أنهم يرون الخضر فيها ، وقد يرى الخضر على صور مختلفة ، وعلى صورة هائلة ، وأمثال ذلك ، وذلك لأن هذا الذي يقول أنه الخضر هو جني ، بل هو شيطان، يظهر لمن يرى أنه يضله ، وفي ذلك حكايات كثيرة يضيق هذا الموضع عن ذكرها ، وعلى كل تقدير فأصناف الشيعة أكثر ضلالا من هؤلاء ، فإن المنتظر ليس عندهم نقل ثابت عنه ، ولا يعتقدون فيمن يرونه أنه المنتظر ، ولما دخل السرداب كان عندهم صغيرا لم يبلغ سنّ التمييز ، وهم يقبلون من الأكاذيب أضعاف ما يقبله هؤلاء ، ويعرضون عن الاقتداء بالكتاب والسنّة أكثر من إعراض هؤلاء، ويقدحون في خيار المسلمين قدحا يعاديهم عليه هؤلاء ، فهم أضل عن مصالح الإمامة من جميع طوائف الأمة ، فقد فاتهم على قولهم أهم الدين وأشرفه .
لا يحصل بمعرفة الإمام خير إن لم يعمل صالحا(173/46)
(الوجه الرابع): أن يقال قوله التي يحصل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة ، كلام باطل فإن مجرد معرفة إمام وقته وإدراكه بعينه لا يستحق به الكرامة ، إن لم يوافق أمره وإلا فليست معرفة إمام الوقت بأعظم من معرفة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، ومن عرف أن محمدا رسول الله فلم يؤمن به ولم يطع أمره لم يحصل له شيء من الكرامة .
ولو آمن بالنبي وعصاه ، وضيع الفرائض وتعدّ الحدود كان مستحقا للوعيد عند الإمامية وسائر طوائف المسلمين ، فكيف بمن عرف الإمام وهو مضيّع للفرائض متعدّ للحدود ؟ وكثير من هؤلاء يقول حب عليّ حسنة لا يضر معها سيئة ، وإن كانت السيئات لا تضر مع حب عليّ فلا حاجة إلى الإمام المعصوم ، الذي هو لطف في التكليف ، فإنه إذا لم يوجد إنما توجد سيئات ومعاص ، فإن كان حب عليّ كافيا فسواء وجد الإمام أو لم يوجد ..
ليست الإمامة من واجبات الدين
(الوجه الخامس): قوله وهي أحد أركان الإيمان ، المستحق بسببه الخلود في الجنان ، فيقال له : من جعل هذا من الإيمان إلا أهل الجهل والبهتان ؟ وسنتكلم إن شاء الله تعالى على ما ذكره من ذلك .
والله تعالى وصف المؤمنين وأحوالهم ، والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد فسر الإيمان ، وذكر شعبه ، ولم يذكر الله ولا رسوله الإمامة ، في أركان الإيمان ففي الحديث الصحيح حديث جبريل لما أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في صورة أعرابي، وسأله عن الإسلام ، والإيمان ، والإحسان ، قال له (( الإسلام : أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت ، قال والإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره ))(1) ولم يذكر الإمامة .
__________
(1) رواه مسلم ج1 ص36 والبخاري في مواضع . انظر ج1 ص15 .(173/47)
قال والإحسان : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . وهذا الحديث متفق على صحته ، متلقى بالقبول ، أجمع أهل العلم بالنقل على صحته ، وقد أخرجه أصحاب الصحيح من غير وجه ، فهو من المتفق عليه من حديث أبي هريرة وفي أفراد مسلم من حديث عمر ، وهم وإن كانوا لا يقرون بصحة هذه الأحاديث ، فالمصنف قد احتج بأحاديث موضوعة كذب باتفاق أهل المعرفة .
فإما أن يحتج بما يقوم الدليل على صحته نحن وهم ، أو لا يحتج بشيء من ذلك نحن ولا هم ، فإن تركوا الرواية رأسا أمكن أن نترك الراوية .
أما إذا رووا هم فلا بد من معارضة الراوية بالرواية ، والاعتماد على ما تقوم به الحجة ، ونحن نبين الدلائل الدالة على كذب ما يعرضون به أهل السنّة من الروايات الباطلة ، والدلائل الدالة على صحة ما نقله أهل العلم بالحديث وصححوه .
وهب أنّا لا نحتج بالحديث فقد قال الله تعالى : { إ ِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُم إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُون الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونْ أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًا لَهُم دَرَجَاتٍ عِنْدَ رَبِّهِم وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم } (1). فشهد لهؤلاء بالإيمان من غير ذكر للإمامة وقال تعالى : { إِنَّمَا الُمؤْمِنونَ الَّذِينَ آمنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون } (2). فجعلهم صادقين في الإيمان من غير ذكر للإمامة .
__________
(1) الآيات 2-4 من سورة الأنفال .
(2) الآية 15 من سورة الحجرات .(173/48)
وأيضا فنحن نعلم بالاضطرار من دين محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن الناس كانوا إذا أسلموا لم يجعل إيمانهم موقوفا على معرفة الإمامة ، ولم يذكر لهم شيئا من ذلك .
وما كان أحد أركان الإيمان لا بد أن يبينه الرسول لأهل الإيمان ليحصل لهم به الإيمان ، فإذا علم بالاضطرار أن هذا مما لم يكن الرسول يشترطه في الإيمان ، علم أن اشتراطه في الإيمان من أقوال البهتان .
فإن قيل هنا قد دخلت في عموم النص ، أو هي من باب لا يتم الواجب إلا به ، أو دل عليه نص آخر .
قيل هذا كله لو صح لكان غايته أن تكون من بعض فروع الدين ، لا تكون من أركان الإيمان ، فإن ركن الإيمان ما لا يحصل الإيمان إلا به كالشهادتين ، فلا يكون الرجل مؤمنا حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فلو كانت الإمامة ركنا في الإيمان لا يتم إيمان أحد إلا به ، لوجب أن يبينه الرسول بيانا عاما قاطعا للعذر كما بين الشهادتين ، والإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر ، فكيف ونحن نعلم بالاضطرار من دينه أن الذين دخلوا في دينه أفواجا لم يشترط على أحد منهم في الإيمان بالإمامة ، مطلقا ولا معينا .
(الوجه السادس ): قوله قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية .(173/49)
فيقال له أوّلا من روى هذا الحديث بهذا اللفظ ، وأين إسناده؟ وكيف يجوز أن يحتج بنقل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من غير بيان الطريق الذي به يثبت أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قاله ، هذا لو كان مجهول الحال عند أهل العلم بالحديث ، فكيف وهذا الحديث بهذا اللفظ لا يعرف ، إنما الحديث المعروف مثل روى مسلم في صحيحه عن نافع قال : جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية ، فقال اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة ، فقال إني لم آتك لأجلس أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله سمعته يقول ((من خلع يدا من طاعة لقى الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ))(1) .
وهذا حديث حدث به عبد الله بن عمر لعبد الله بن مطيع بن الأسود لما خلعوا طاعة أمير وقتهم يزيد ، مع إنه كان فيه من الظلم ما كان ، ثم أنه اقتتل هو وهم وفعل بأهل الحرة أمورا منكرة ، فعلم أن هذا الحديث دل على ما دل عليه سائر الأحاديث الآتية ، من أنه لا يخرج على ولاة أمور المسلمين بالسيف ، فإن لم يكن مطيعا لولاة الأمور مات ميتة جاهلية .
وهذا ضد قول الرافضة ، فإنهم أعظم الناس مخالفة لولاة الأمور وأبعد الناس عن طاعتهم إلا كرها ، ونحن نطالبهم أولا بصحة النقل ثم بتقدير أن يكون ناقله واحد ، فكيف يجوز أن يثبت أصل الإيمان بخبر مثل هذا الذي لا يعرف له ناقل ، وإن عرف له ناقل أمكن خطؤه وكذبه ، وهل يثبت أصل الإيمان إلا بطريق علمي.
(الوجه السابع ): أن يقال إن كان هذا الحديث من كلام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فليس فيه حجة لهذا القائل ، فإن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد قال مات ميتة جاهلية .
__________
(1) رواه مسلم ج3 ص 1478.(173/50)
وهذا الحديث يتناول من قاتل في العصبية ، والرافضة رؤوس هؤلاء، ولكن لا يكفر المسلم بالاقتتال في العصبية ، كما دل على ذلك الكتاب والسنّة ، فكيف يكفر بما دون ذلك .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة( قال . قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم :(( من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات ، مات ميتة جاهلية ))(1).وهذا حال الرافضة، فإنهم يخرجون عن الطاعة و يفارقون الجماعة .
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله (ما عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : (( من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه ، فإن من خرج من السلطان شبراً ، مات ميتة جاهلية))(2).
وهذه النصوص مع كونها صريحة في حال الرافضة فهي وأمثالها المعروفة عند أهل العلم لا بذلك اللفظ الذي نقله .
( الوجه الثامن ) : أن هذا الحديث الذي ذكره حجة على الرافضة ، لأنهم لا يعرفون إمام زمانهم ، فإنهم يدّعون أنه الغائب المنتظر محمد بن الحسن ، الذي دخل سرداب سامرّا ، سنة ستين ومائتين أو نحوهما ولم يعد ، بل كان عمره إما سنتين ، وإما ثلاثا ، وإما خمساً أو نحو ذلك وله الآن على قولهم أكثر من أربعمائة سنة ولم ير له عين ولا أثر ، ولا سمع له حس ولا خبر .
فليس فيهم أحد يعرفه لا بعينه ، ولا صفته ، لكن يقولون أن هذا الشخص الذي لم يره أحد ، ولم يسمع له خبر هو إمام زمانهم ، ومعلوم أن هذا ليس هو معرفة بالإمام ، ونظير هذا أن يكون لرجل قريب من بني عمه في الدنيا ولا يعرف شيئا من أحواله ، فهذا لا يعرف ابن عمه وكذلك المال الملتقط إذا عرف أن له مالكا ولم يعرف عينه لم يكن عارفا لصاحب اللقطة ، بل هذا أعرف لأن هذا يمكن ترتيب بعض أحكام الملك والنسب عليه .
__________
(1) انظر مسلم ج3 ص 1476.
(2) انظر البخاري ج9 ص 47 ومسلم ج3 ص 1477.(173/51)
وأما في المنتظر فلا يعرف له حال ينتفع به في الإمامة ، فإن معرفة الإمام التي تخرج الإنسان من الجاهلية ، هي المعرفة التي يحصل بها طاعة وجماعة ، خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية ، فإنهم لم يكن لهم إمام يجمعهم ، ولا جماعة تعصمهم ، والله تعالى بعث محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهداهم به إلى الطاعة والجماعة ، وهذا المنتظر لا يحصل بمعرفته طاعة ولا جماعة ، فلم يعرف معرفة تخرج الإنسان من الجاهلية ، بل المنتسبون إليه أعظم الطوائف جاهلية ، وأشبههم بالجاهلية ، إن لم يدخلوا في طاعة غيرهم إما طاعة كافر أو طاعة مسلم ، هو عندهم من الكفار أو النواصب لم ينتظم لهم مصلحة لكثرة اختلافهم ، وافتراقهم وخروجهم عن الطاعة وهذا يبينه .
( الوجه التاسع ): وهو أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بطاعة الأئمة الموجودين ، المعلومين الذين لهم سلطان يقدرون به على سياسة الناس ، لا بطاعة معدوم ولا مجهول ، ولا من ليس له سلطان ولا قدرة على شيء أصلا ، كما أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالاجتماع والائتلاف ، ونهى عن الفرقة والاختلاف ، ولم يأمر بطاعة الأئمة مطلقا، بل أمر بطاعتهم في طاعة الله دون معصيته ،وهذا يبين أن الأئمة الذين أمر بطاعتهم في طاعة الله ليسوا معصومين .
فإن قال أنا أردت بقولي أنها أهم المطالب في الدين وأشرف مسائل المسلمين التي تنازعت الأمة فيها بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهذه هي مسألة الإمامة . قيل له فلا لفظ فصيح، ولا معنى صحيح فإن ما ذكرته لا يدل على هذا المعنى ، بل مفهوم اللفظ ومقتضاه أنها أهم المطالب في الدين مطلقا ، وأشرف مسائل المسلمين مطلقا .
وبتقدير أن يكون هذا مرادك ، فهو معنى باطل ، فإن المسلمين تنازعوا بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، في مسائل أشرف من هذه .(173/52)
وبتقدير أن تكون هي الأشرف ، فالذي ذكرته فيها أبطل المذاهب ، وأفسد الطالب ، وذلك أن النزاع في الإمامة لم يظهر إلا في خلافة علي .
وأما على عهد الخلفاء الثلاثة فلم يظهر نزاع ، إلا ما جرى يوم السقيفة ، وما انفصلوا حتى اتفقوا ، ومثل هذا لا يعد نزاعا ، ولو قدّر أن النزاع فيها كان عقب موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فليس كل ما تنوزع فيه عقب موته صلى الله تعالى عليه وسلم يكون أشرف مما تنوزع فيه بعد موته بدهر طويل .
وإذا كان كذلك فمعلوم أن مسائل التوحيد والصفات ،والإثبات والتنزيه ، والقدر، والتعديل ، والتجويز والتحسين والتقبيح، أهم وأشرف من مسائل الإمامة ، ومسائل الأسماء والأحكام والوعد والوعيد ، والشفاعة والتخليد ، أهم من مسائل الإمامة .
فإن كانت أهم مسائل الدين وهم لم ينتفعوا بالمقصود منها ، فقد فاتهم من الدين أهمه وأشرفه ، وحينئذ فلا ينتفعون بما حصل لهم من التوحيد ، والعدل لأنه يكون ناقصا بالنسبة إلى مقصود الإمامة، فيستحقون العذاب .
كيف وهم يسلمون أن مقصود الإمامة في الفروع الشرعية ، وأما الأصول العقلية فلا يحتاج فيها إلى الإمام ، وتلك هي أهم وأشرف ، ثم بعد هذا كله فقولكم في الإمامة من أبعد الأقوال عن الصواب ، ولو لم يكن فيه إلا أنكم أوجبتم الإمامة ، لما فيها من مصلحة الخلق ، في دينهم ودنياهم ، وإمامكم صاحب الوقت ، لم يحصل لكم من جهته مصلحة ، لا في الدين ولا في الدنيا .(173/53)
فأي سعى أضل من سعى من يتعب التعب الطويل ، ويكثر القال والقيل ، ويفارق جماعة المسلمين ، ويلعن السابقين والتابعين، ويعاون الكفار والمنافقين ، ويحتال بأنواع الحيل ، ويسلك ما أمكنه من السبل ويعتض بشهود الزور ، ويدلى أتباعه بحبل الغرور ، ويفعل ما يطول وصفه ، ومقصوده بذلك أن يكون له إمام يدله على أمر الله ونهيه ، ويعرّفه ما يقربه إلى الله تعالى ، ثم إنه لما علم اسم ذلك الإمام ونسبه لم يظفر بشيء من مطلوبه ، ولا وصل إليه شيء من تعليمه وإرشاده ، ولا أمره ولا نهيه ، ولا حصل له من جهته منفعة ، ولا مصلحة أصلا ، إلا إذهاب نفسه وماله ، وقطع الأسفار وطول الانتظار بالليل والنهار ، ومعاداة الجمهور ، لداخل في سرداب ، ليس له عمل ولا خطاب .
ولو كان موجودا بيقين لما حصل به منفعة لهؤلاء المساكين، فكيف وعقلاء الناس يعلمون أن ليس معهم إلا الإفلاس ، وأن الحسن بن علي العسكري لم ينسل ولم يعقب، كما ذكر ذلك محمد بن جرير الطبري ، وعبد الباقي بن قانع ، وغيرهما من أهل العلم بالنسب .
وهم يقولون أنه دخل في السرداب بعد موت أبيه ، وعمره إما سنتان وإما ثلاث وإما خمس ، وإما نحو ذلك ، ومثل هذا بنص القرآن يتيم، يجب أن يحفظ له ماله حتى يؤنس منه الرشد ، ويحضنه من يستحق حضانته من قرابته ، فإذا صار له سبع سنين أمر بالطهارة والصلاة .
فمن لا توضأ ولا صلى ، وهو تحت حجر وليه في نفسه وماله بنص القرآن لو كان موجودا يشهده العيان، فما جاز أن يكون هو إمام أهل الإيمان، فكيف إذا كان معدوما أو مفقودا مع طول هذه الغيبة .
والمرأة إذا غاب وليها زوّجها الحاكم أو الولي الحاضر ، لئلا تفوت مصلحة الإمامة مع طول هذه المدة ، مع هذا الإمام المفقود .
(فصل)(173/54)
قال الرافضي : لما بعث الله محمداً صلى الله تعالى عليه وسلم قام بثقل الرسالة ، ونص على أن الخليفة بعده علي بن أبي طالب عليه السلام ، ثم من بعده على ولده الحسن الزكي ، ثم على ولده الحسين الشهيد ، ثم على علي بن الحسين زين العابدين ، ثم على محمد بن علي الباقر ، ثم على جعفر بن محمد الصادق ، ثم على موسى بن جعفر الكاظم ، ثم على عليّ بن موسى الرضا ، ثم على محمد بن علي الجواد ، ثم على علي بن محمد الهادي ، ثم على الحسن بن علي العسكري ، ثم على الخلف الحجة محمد بن الحسن المهدي ، عليهم الصلاة والسلام وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يمت إلا عن وصية بالإمامة ، وقال : وأهل السنّة ذهبوا إلى خلاف ذلك كله .
(فصل)
وأما قوله عن أهل السنّة أنهم يقولون إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم ينص على إمامة أحد ، وأنه مات عن غير وصية .
فالجواب أن يقال ليس هذا قول جميعهم ، بل قد ذهبت طوائف من أهل السنّة إلى أن إمامة أبي بكر ثبتت بالنص ، والنزاع في ذلك معروف في مذهب أحمد وغيره ، من الأئمة .
وقد ذكر القاضي أبو يعلى وغيره في ذلك روايتين عن الإمام أحمد إحداهما أنها ثبتت بالأخبار قال وبهذا قال جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية وهذا اختيار القاضي أبي يعلى وغيره.
والثانية أنها ثبتت بالنص الخفي ، والإشارة قال وبهذا قال الحسن البصري ، وجماعة من أهل الحديث ، وبكر ابن أخت عبد الواحد ، والبيهسية من الخوارج.
قال شيخه أبو عبد الله بن حامد : فأما الدليل على استحقاق أبي بكر الخلافة دون غيره من أهل البيت ، والصحابة فمن كتاب الله وسنّة نبيه ، قال وقد اختلف أصحابنا في الخلافة هل أخذت من حيث النص أو الاستدلال ، فذهب طائفة من أصحابنا إلى أن ذلك بالنص ، وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر ذلك نصا ، وقطع البيان على عينه حتما ، ومن أصحابنا من قال أن ذلك بالاستدلال الجلى .(173/55)
قال ابن حامد والدليل على إثبات ذلك بالنص ، أخبار من ذلك ما أسنده البخاري ، عن جير بن مطعم قال : (( أتت امرأة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه ، قالت أرأيت إن جئت فلم أجدك ، كأنها تريد الموت ، قال : إن لم تجديني فأتي أبا بكر ))(1) وذكر له سياقا آخر وأحاديث أُخر . قال وذلك نص على إمامته .
قال وحديث سفيان ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ربعي ، عن حذيفة ابن اليمان ، قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : (( اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ))(2) .
وأسند البخاري ، عن أبي هريرة ، قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. قال : (( بيّنا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو ، فنزعت منها ما شاء الله ، ثم أخذها ابن أبي قحافة ، فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف ولله يغفر له ضعفه ، ثم استحالت غربا فأخذها عمر بن الخطاب فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر ، حتى ضرب الناس بعطن ))(3) قال : وذلك نص في الإمامة .
قال : ويدل عليه ما أخبرنا أبو بكر بن مالك ، وروى عن مسند أحمد ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوما: (( أيكم رأى رؤيا فقلت : أنا رأيت يا رسول الله كأن ميزانا دلي من السماء ، فوزنت بأبي بكر فرجحت بأبي بكر ، ثم وزن أبو بكر بعمر فرجح ، أبو بكر بعمر ثم وزن عمر بعثمان فرجح عمر بعثمان ثم رفع الميزان ، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (( خلافة نبوه ، ثم يؤتي الله الملك لمن يشاء))(4).
__________
(1) البخاري ج5 ص5 ومواضع أخر ، ومسلم ج4 ص 1856 .
(2) رواه أحمد ج5 ص 382 ، والترمذي ج5 ص 271 .
(3) البخاري ج5 ص6 ومواضع أُخر ومسلم ج4 ص 1860.
(4) أبو داود ج4 ص 289 ، والترمذي ج3 ص 368 .(173/56)
قال وأسند أبو داود عن جابر الأنصاري ، قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : (( رأى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله ، ونيط عمر بأبي بكر ، ونيط عثمان بعمر ))، قال جابر فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم . قلنا أما الصالح فرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأما نوط بعضهم ببعض ، فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه .
قال : ومن ذلك حديث صالح بن كيسان ، عن الزهري ، عن عروة، عن عائشة –رضي الله عنها - ، قالت : دخل عليّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم .اليوم الذي بدئ فيه ، فقال(( ادعي لي أباك وأخاك ، حتى أكتب لأبي لكر كتابا ، ثم قال يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، وفي لفظ فلا يطمع في هذا الأمر طامع ))(1) .
و هذا الحديث في الصحيحين ورواه من طريق أبي داود الطيالسي ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، قالت : لما ثقل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : (( ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر لأكتب لأبي بكر كتابا، لا يختلف عليه ثم قال معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر )) ، وذكر أحاديث تقديمه في الصلاة ، وأحاديث أُخر لم أذكرها لكونها ليست مما يثبته أهل الحديث .
وقال أبو محمد بن حزم في كتابه الملل والنحل : اختلف الناس في الإمامة بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فقالت طائفة : إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يستخلف أحدا ، ثم اختلفوا فقال بعضهم : لكن لما استخلف أبا بكر على الصلاة كان ذلك دليلا على أنه أولاهم بالإمامة والخلافة على الأمر ، وقال بعضهم : لا ولكن كان أثبتهم فضلا ، فقدموه لذلك، وقالت طائفة : بل نص رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على استخلاف أبي بكر بعده ، على أمور الناس نصا جليا .
__________
(1) انظر البخاري ج7 ص119 ومسلم ج4 ص1857.(173/57)
قال أبو محمد وبهذا نقول : لبراهين أحدها أطباق الناس كلهم ، وهم الذين قال الله فيهم : { ِللفقراءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالَهُم َيبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ و َرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُم
الصَّادِقُون } (1) .
فقد اتفق هؤلاء الذين شهد الله لهم بالصدق ، وجميع إخوانهم من الأنصار(م ، على أن سموه خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم .
ومعنى الخليفة في اللغة هو الذي يستخلفه المرء ، لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه هو ، لا يجوز غير هذا البتة في اللغة بلا خلاف ، يقال : استخلف فلان فلانا يستخلفه فهو خليفته ومستخلفه ، فإن قام مكانه دون أن يستخلفه لم يقل إلا خلف فلان فلانا يخلفه فهو خالف .
قال : ومحال أن يعنوا بذلك الاستخلاف على الصلاة ، لوجهين ضروريين .
( أحدهما ): أنه لم يستحق أبو بكر قط هذا الاسم على الإطلاق في حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهو حينئذ خليفته على الصلاة فصح يقينا أن خلافته المسمى بها هي غير خلافته على الصلاة .
(والثاني):أن كل من استخلفه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حياته ، كعليّ في غزوة تبوك ، وابن أم مكتوم في غزوة الخندق ، وعثمان بن عفان في غزوة ذات الرقاع ، وسائر من استخلفه على البلاد باليمن ، والبحرين، والطائف ، وغيرها ، لم يستحق أحد منهم بلا خلاف بين أحد من الأئمة أن يسمى خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم -، فصح يقينا بالضرورة التي لا محيد عنها أنها الخلافة بعده ، على أمته .
__________
(1) الآية 8 من الحشر .(173/58)
ومن المحال أن يجمعوا على ذلك ، وهو لم يستخلفه نصا ، ولو لم يكن هاهنا إلا استخلافه في الصلاة ، لم يكن أبو بكر أولى بهذا الاسم من سائر من ذكرناه ، قال: وأيضا فإن الرواية قد صحت. أن امرأة قالت : يا رسول الله : أرأيت إن رجعت فلم أجدك ، كأنها تعني الموت ؟ قال : (( فأتي أبا بكر ))(1) قال: وهذا نص جلى على استخلاف أبي بكر .
قال : وأيضا فإن الخبر قد جاء من الطرق الثابتة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لعائشة في مرضه الذي توفي فيه : (( لقد هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك وأكتب كتابا وأعهد عهدا لكيلا يقول قائل : أنا أحق أو يتمنى متمنى ، ويأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر ))(2) .
وروى أيضا – ويأبى الله والنبيون إلا أبا بكر – قال : فهذا نص جلى على استخلافه صلى الله تعالى عليه وسلم – أبا بكر على ولاية الأمة بعده .
قال : واحتج من قال لم يستخلف بالخبر المأثور عن عبد الله بن عمر، عن عمر ، أنه قال إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر ، وإلا استخلف فلم يستخلف من هو خير مني ، يعني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (3).وبما روى عن عائشة(ا ، أنها سئلت : من كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مستخلفا لو استخلف ؟(4)
__________
(1) تقدم تخريجه قريبا .
(2) تقدم قريبا .
(3) البخاري ج9 ص 83 ومسلم ج3 ص 1454.
(4) مسلم ج 4 ص 1856.(173/59)
قال : ومن المحال أن يعارض إجماع الصحابة الذي ذكرنا عنهم ، والأثران الصحيحان المسندان إلى رسول الله صلى تعالى الله عليه وسلم ، من لفظه بمثل هذين الأثرين الموقوفين على عمر وعائشة ، مما لا تقوم به حجة ظاهرة . مع أن هذا الأثر خفى على عمر ، كما خفى عليه كثير من أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، كالاستئذان وغيره ، وأنه أراد استخلافا بعهد مكتوب ، ونحن نقر أن استخلافه لم يكن بعهد مكتوب ، وأما الخبر في ذلك عن عائشة (ا فكذلك أيضا ، وقد يخرج كلاهما عن سؤال سائل. وإنما الحجة في روايتهما لا في قولهما .
(قلت ):الكلام في تثبيت خلافة أبي بكر و غيره مبسوط في غير هذا الموضع ،وإنما المقصود هنا البيان لكلام الناس في خلافته، هل حصل عليها نص خفى أو جلى، وهل تثبت بذلك أو بالاختيار،من أهل الحل والعقد فقد تبين أن كثيراً من السلف والخلف قالوا فيها بالنص الجلى،أو الخفى ،وحينئذ فقد بطل قدح الرافضي في أهل السنة بقوله:انهم يقولون ان النبي (لم ينص إلى إمامة أحد،وانه مات عن غير وصية.
وكذلك ان هذا القول لم يقله جميعهم،فان كان حقا فقد قاله بعضهم،وان كان الحق هو نقيضه فقد قال بعضهم ذلك،فعلى التقديرين لم يخرج الحق عن أهل السنّة ، أيضا فلو قدر أن القول بالنص هو الحق لم يكن في ذلك حجة للشيعة فإن الرواندية تقول بالنص على العباس كما قالوا هم بالنص على علي.(173/60)
قال القاضي أبو يعلى وغيره ، : واختلفت الرواندية فذهب جماعة منهم إلى أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نص على العباس بعينه واسمه وأعلن ذلك وكشف وصرح به ، وأن الأمة جحدت هذا النص وارتدت . وخالفت أمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عنادا ، ومنهم من قال : إن النص على العباس وولده من بعده إلى أن تقوم الساعة ، يعني هو نص خفي . فهذان قولان للرواندية ، كالقولين للشيعة ، فإن الإمامية تقول : أنه نص علي بن أبي طالب من طريق التصريح والتسمية ، بأن هذا هو الإمام من بعدي . فاسمعوا له وأطيعوا ، والزيدية تخالفهم في هذا .
ثم من الزيدية من يقول : إنما نص عليه بقوله : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى ، وأمثال ذلك من النص الخفي الذي يحتاج إلى تأمل لمعناه ، وحكي عن الجارودية من الزيدية : أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نص على عليّ بصفة لم توجد إلا فيه ، لا من جهة التسمية ، فدعوى الرواندية في النص من جنس دعوى الرافضة، وقد ذكر في الإمامية أقوال أخرى .
والمقصود هنا أن أقوال الرافضة معارضة بنظيرها ، فإن دعواهم النص على عليّ كدعوى أولئك النص على العباس ، وكلا القولين مما يعلم فساده بالاضطرار ، ولم يقل أحد من أهل العلم شيئاً من هذين القولين ، وإنما ابتدعهما أهل الكذب كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه ، ولهذا لم يكن أهل الدين من ولد العباس وعلي يدّعون هذا ، ولا هذا بخلاف النص على أبي بكر فإن القائلين به طائفة من أهل العلم .
والمقصود هنا أن كثيراً من أهل السنّة يقولون : أن خلافته تثبت بالنص ، وهم يسندون ذلك إلى أحاديث معروفة صحيحة ، ولا ريب أن قول هؤلاء أوجه من قول من يقول أن خلافة علي أو العباس ثبتت بالنص.(173/61)
فإن هؤلاء ليس معهم إلا مجرد الكذب والبهتان الذي يعلم بطلانه بالضرورة كل من كان عارفاً بأحوال الإسلام ، أو استدلال بألفاظ لا تدل على ذلك ، كحديث استخلافه في غزوة تبوك ، ونحوه مما سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى .
فيقال لهذا : إن وجب أن يكون الخليفة منصوصا عليه ، كان القول بهذا النص أولى من القول بذلك ، وإن لم يجب هذا بطل ذاك . والتحقيق أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دل المسلمين على استخلاف أبي بكر وأرشدهم إليه ، بأمور متعددة من أقواله وأفعاله ، وأخبر بخلافته أخبار راض بذلك حامدا له وعزم على أن يكتب بذلك عهدا ، ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب اكتفاء بذلك .
ثم عزم على ذلك في مرضه يوم الخميس ، ثم لما حصل لبعضهم شك هل ذلك القول من جهة المرض ، أو هو قول يجب اتباعه ، فترك الكتابة اكتفاء بما علم أن الله يختاره والمؤمنون من خلافة أبي بكر( ، فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيانا قاطعا للعذر ، لكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر هو المتعين وفهموا ذلك حصل المقصود .
ولهذا قال عمر بن الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار : (( وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر )) رواه البخاري ومسلم(1) وفي الصحيحين أيضا عنه أنه قال يوم السقيفة بمحضر من المهاجرين والأنصار : (( أنت خيرنا وسيدنا ، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ))(2) - ولم ينكر ذلك منهم منكر ، ولا قال أحد من الصحابة أن غير أبي بكر من المهاجرين أحق بالخلافة منه ، ولم ينازع أحد في خلافته ، إلا بعض الأنصار طمعا في أن يكون من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير ، وهذا مما ثبت بالنصوص المتواترة عنه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بطلانه .
__________
(1) انظر البخاري ج8 ص 169 ومواضع أُخر ومسلم ج3 ص 1317.
(2) البخارى ج 5 ص7 .(173/62)
ثم الأنصار جميعهم بايعوا أبا بكر إلا سعد بن عبادة لكونه هو الذي كان يطلب الولاية ، ولم يقل قط أحد من الصحابة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نص على غير أبي بكر لا على العباس ولا على علي ، ولا غيرهما ، ولا ادعى العباس ولا علي –ولا أحد ممن يحبهما –الخلافة لواحدٍ منهما ، ولا أنه منصوص عليه ، بل ولا قال أحد من الصحابة أن في قريش من هو أحق بها من أبي بكر ، لا من بني هاشم ولا من غير بني هاشم ، وهذا كله مما يعلمه العلماء العالمون بالآثار والسنن والحديث ، وهو معلوم عندهم بالاضطرار.
فخلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها ، وثبوتها ورضا الله ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم له بها ، وانعقدت بمبايعة المسلمين له ، واختيارهم إياه ، اختياراً أسندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله ورسوله ، وأنه أحقهم بهذا الأمر عند الله ورسوله .
فصارت ثابتة بالنص والإجماع جميعا لكن النص دل على رضا الله ورسوله بها وأنها حق وأن الله أمر بها وقدرها وأن المؤمنين يختارونها وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها لأنه حينئذ كان يكون طريق ثبوتها مجرد العهد .(173/63)
وأما إذا كان المسلمون قد اختاروه من غير عهد ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه ، ورضا الله ورسوله بذلك ، كان ذلك دليلا على أن الصديق كان فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ما علم المسلمون به أنه أحقهم بالخلافة ، فإن ذلك لا يحتاج فيه إلى عهد خاص ، كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم . لما أراد أن يكتب لأبي بكر فقال لعائشة : (( ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمنى ، ويقول قائل أنا أولى ،ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ))(1) أخرجاه في الصحيحين وفي البخاري : (( لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه ، وأعهد أن يقول القائلون ، أو يتمنى المتمنون ، ويدفع الله ويأبى المؤمنون ))(2) فبين صلى الله تعالى عليه وسلم أنه يريد ان يكتب كتابا خوفا ثم علم أن الأمر واضح ظاهر ، ليس مما يقبل النزاع فيه ، والأمة حديثة عهد بنبيها ، وهم خير أمة أخرجت للناس ، وأفضل قرون هذه الأمة فلا يتنازعون في هذا الأمر الواضح الجلي .
فإن النزاع إنما يكون لخفاء العلم ، أو لسوء القصد وكلا الأمرين منتف ، فإن العلم بفضيلة أبي بكر جلى ، وسوء القصد لا يقع من جمهور الأمة الذين هم أفضل القرون ، ولهذا قال يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ، فترك ذلك لعلمه بأن ظهور فضيلة أبى بكر الصديق واستخلافه لهذا الأمر يغني عن العهد ، فلا يحتاج إليه، فتركه لعدم الحاجة وظهور فضيلة الصديق ، واستحقاقه وهذا أبلغ من العهد .
(فصل)
__________
(1) تقدم تخريجه ص 64 .
(2) تقدم أيضا ص 63 .(173/64)
وأما قول الرافضي : إنهم يقولون الإمام بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم –أبو بكر بمبايعة عمر ، برضا أربعة ، فيقال له ليس هذا قول أئمة السنّة ، وإن كان بعض أهل الكلام يقول أن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة ، كما قال بعضهم : تنعقد ببيعة اثنين ، وقال بعضهم: تنعقد ببيعة واحد ، فليس هذه أقوال أئمة السنّة ، بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها ، ولا يصير الرجل إماما حتى يوافقه ، أهل الشوكة الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة ، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان ، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان ، صار إماما ، ولهذا قال أئمة السنّة من صار له قدرة وسلطان ، يفعل بهما مقصود الولاية فهو من أولي الأمر ، الذين أمر الله بطاعتهم ، ما لم يأمروا بمعصبة الله، فالإمامة ملك وسلطان ، والملك لا يصير ملكا بموافقة واحد ولا اثنين ، ولا أربعة ، إلا أن تكون موافقة غيرهم بحيث يصير ملكا بذلك ، وهكذا كل أمر يفتقر إلى المعاونة عليه ، لا يحصل إلا بحصول من يمكنهم التعاون عليه ، ولهذا لما بويع علي( وصار معه شوكة صار إماما .
وأما قوله : ثم عثمان بن عفان بنص عمر على ستة هو أحدهم فاختاره بعضهم ، فيقال أيضا عثمان لم يصر إماما باختيار بعضهم بل بمبايعة الناس له ، وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان لم يتخلف عن بيعته أحد .
قال الإمام أحمد في رواية حمدان بن علي : ما كان في القوم اوكد من بيعة عثمان كانت بإجماعهم .
فلما بايعه ذوو الشوكة والقدرة صار إماما ، وإلا لو قدر أن عبد الرحمن بايعه ولم يبايعه غيره علي ولا غيره من الصحابة أهل الشوكة لم يصر إماما .(173/65)
ولكن عمر لما جعلها شورى في ستة : عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف ثم أنه خرج طلحة والزبير وسعد باختيارهم وبقي عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف ، واتفق الثلاثة باختيارهم على أن عبد الرحمن بن عوف لا يتولى ويولى أحد الرجلين .
وأقام عبد الرحمن ثلاثا حلف أنه لم يغتمض فيها بكبير نوم، يشاور السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان ، ويشاور أمراء الأمصار وكانوا قد حجوا مع عمر ذلك العام ، فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان.
و ذكرهم أنهم كلهم قدموا عثمان فبايعوه ، لا عن رغبة أعطاهم إياها ولا عن رهبة أخافهم بها ، ولهذا قال غير واحد من السلف والأئمة كأيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني وغيرهم: من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وهذا من الأدلة الدالة على ان عثمان أفضل لأنهم قدموه باختيارهم، واشتوارهم .(173/66)
وأما قوله :ثم علي بمبايعة الخلق له فتخصيصه عليّا بمبايعة الخلق دون أبي بكر وعمر وعثمان كلام ظاهر البطلان ، وذلك أنه من المعلوم لكل من عرف سيرة القوم ، أن اتفاق الخلق ومبايعتهم لأبي بكر وعمر وعثمان أعظم من اتفاقهم على بيعة علي( وعنهم أجمعين وكل أحد يعلم أنهم اتفقوا على بيعة عثمان أعظم من اتفاقهم على بيعة علي والذين بايعوا عثمان في أول الأمر أفضل من الذين بايعوا عليّا ، فإنه بايعه علي وعبد الرحمن بن عوف و طلحة والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود والعباس بن عبد المطلب وأبي بن كعب وأمثالهم مع سكينة وطمأنينة ، وبعد مشاورة المسلمين ثلاثة أيام ، وأما علي( فإنه بويع عقب قتل عثمان( ، والقلوب مضطربة ،مختلفة وأكابر الصحابة متفرقون وأحضر طلحة إحضاراً حتى قال من قال أنهم جاءوا به مكرها ، وأنه قال بايعت واللج على قفىّ وكان لأهل الفتنة بالمدينة شوكة لما قتلوا عثمان ، وماج الناس لقتله موجا عظيما ، وكثير من الصحابة لم يبايع عليّا كعبد الله بن عمر وأمثاله ، وكان الناس معه ثلاثة أصناف ، صنف قاتلوا معه ، وصنف قاتلوه ، وصنف لم يقاتلوه ولم يقاتلوا معه ، فكيف يجوز أن يقال في علي بمبايعة الخلق له ، ولا يقال مثل ذلك في مبايعة الثلاثة ولم يختلف عليهم أحد لما بايعهم الناس ، كلهم لا سيما عثمان .
وأما أبو بكر( فتخلف عن بيعته سعد لأنهم كانوا قد عينوه للإمارة ، فبقي في نفسه ما يبقى في نفوس البشر ، ولكن هو مع هذا( لم يعارض ، ولم يدفع حقا ، ولا أعان على باطل .(173/67)
بل قد روى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في مسند الصديق عن عثمان ، عن أبي معاوية عن داود بن عبد الله الأودي ، عن حميد بن عبد الرحمن هو الحميري فذكر حديث السقيفة وفيه : أن الصديق قال : (( ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال وأنت قاعد قريش ولاة هذا الأمر فبرّ الناس تبع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم ، قال ، فقال له سعد : صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء ))(1) .
فهذا مرسل حسن ولعل حميدا أخذه عن بعض الصحابة الذين شهدوا بذلك ، وفيه فائدة جليلة جدا وهي أن سعد بن عبادة نزل عن مقامه الأول ، في دعوى الإمارة ، وأذعن للصديق بالإمارة فرضي الله عنهم أجمعين .
فإن قال : أردت أن أهل السنّة يقولون أن خلافته انعقدت بمبايعة الخلق له ، لا بالنص فلا ريب أن أهل السنّة وإن كانوا يقولون : إن النص على أن علياً من الخلفاء الراشدين لقوله خلافة النبوة ثلاثون سنة ، فهم يروون النصوص الكثيرة ، في صحة خلافة غيره وهذا أمر معلوم عند أهل الحديث يروون ، في صحة خلافة الثلاثة نصوصا كثيرة بخلاف خلافة علي ، فإن نصوصها قليلة .
فإن الثلاثة اجتمعت الأمة عليهم ، فحصل بهم مقصود الإمامة، وقوتل بهم الكفار وفتحت بهم الأمصار ، وخلافة علي لم يقاتل فيها كافر . ولا فتح مصر وإنما كان السيف بين أهل القبلة .
وأما النص الذي تدعيه الرافضة فهو كالنص الذي تدعيه الرواندية ، على العباس وكلاهما معلوم الفساد بالضرورة عند أهل العلم ، ولو لم يكن في إثبات خلافة علي إلا هذا لم تثبت له إمامة قط، كما لم تثبت للعباس إمامة بنظيره .
وأما قوله : ثم اختلفوا فقال بعضهم : أن الإمام بعده الحسن ، وبعضهم قال أنه معاوية ، فيقال أهل السنّة لم يتنازعوا في هذا بل هم يعلمون أن الحسن بايعه أهل العراق مكان أبيه،وأهل الشام كانوا مع معاوية قبل ذلك.
__________
(1) المسند ج1 ص 164 تحقيق أحمد شاكر .(173/68)
و قوله : ثم ساقوا الإمامة في بني أمية ثم في بني العباس . فيقال : أهل السنة لا يقولون أن الواحد من هؤلاء كان هو الذي يجب أن يولى دون من سواه،ولا يقولون أنه تجب طاعته في كل ما يأمر.
بل أهل السنة يخبرون بالواقع،ويأمرون بالواجب،فيشهدون بما وقع،ويأمرون بما أمر الله ورسوله،فيقولون هؤلاء هم الذين تولوا،وكان لهم سلطان وقدرة، ، يقدرون بها على مقاصد الولاية ، من إقامة الحدود ، وقسم الأموال ، وتولية الولاية ، وجهاد العدوّ، وإقامة الحج والأعياد ، والجمع وغير ذلك من مقاصد الولاية .
ويقولون : إن الواحد من هؤلاء ونوابهم وغيرهم لا يجوز أن يطاع في معصية الله تعالى – بل يشارك فيما يفعله من طاعة الله ، فيغزى معه الكفار، ويصلى معه الجمعة ، والعيدان ويحج معه، ويعاون في إقامة الحدود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأمثال ذلك .
فيعاونون على البر والتقوى ولا يعاونون على الإثم والعدوان .
ويقولون : أنه قد تولى غير هؤلاء بالمغرب من بني أمية ، ومن بني علي .
ومن المعلوم أن الناس لا يصلحون إلا بولاة ، وأنه لو تولى من هو دون هؤلاء من الملوك الظلمة لكان ذلك خيرا من عدمهم .
كما يقال ستون سنة مع إمام جائر خير من ليلة واحدة بلا إمام ، ويروى عن علي( أنه قال : ((لا بد للناس من إمارة ، برة كانت أو فاجرة ، قيل له هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة ؟ قال : يؤمن بها السبيل ، ويقام بها الحدود ، ويجاهد بها العدوّ ، ويقسم بها الفيء )) ذكره علي بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية .
وكل من تولى كان خيرا من المعدوم المنتظر ، الذي تقول الرافضة أنه الخلف الحجة ، فإن هذا لم يحصل بإمامته شيء من المصلحة ، لا في الدنيا ولا في الدين أصلا ، ولا فائدة في إمامته ، إلا الاعتقادات الفاسدة ، والأماني الكاذبة ، والفتن بين الأمة وانتظار من لا يجيء فتطوى الأعمار ولم يحصل من فائدة هذه الإمامة شيء .(173/69)
والناس لا يمكنهم بقاء أيام قليلة بلا ولاة أمور ، بل كانت أمورهم تفسد ، فكيف تصلح أمورهم إذا لم يكن لهم إمام إلا من لا يعرف ، ولا يدري ما يقول ، ولا يقدر على شيء من أمور الإمامة ، بل هو معدوم .
وأما آباؤه فلم يكن لهم قدرة وسلطان الإمامة ، بل كان لأهل العلم والدين منهم إمامة أمثالهم من جنس الحديث ، والفتيا ونحو ذلك ، لم يكن لهم سلطان لشوكة ، فكانوا عاجزين عن الإمامة ، سواء كانوا أولى بالولاية أو لم يكونوا أولى .
فبكل حال ما مكنوا ولا ولوا ، ولا كان يحصل بهم المطلوب، من الولاية لعدم القدرة والسلطان ، ولو أطاعهم المؤمن لم يحصل له بطاعتهم المصالح التي تحصل بطاعة الأئمة من جهاد الأعداء ، وإيصال الحقوق إلى مستحقيها ، أو بعضهم وإقامة الحدود.
فإن قال القائل : إن الواحد من هؤلاء أو من غيرهم إمام أي ذو سلطان وقدرة ، يحصل بهما مقاصد الإمامة ، كان هذا مكابر للحس .
ولو كان ذلك كذلك لم يكن هناك متول يزاحمهم ، ولا يستبد الأمر دونهم ، وهذا لا يقوله أحد . وإن قال أنهم أئمة بمعنى أنهم هم الذين يجب أن يولوا ، وأن الناس عصوا بترك توليتهم .
فهذا بمنزلة أن يقال فلان كان يستحق أن يولى القضاء ، ولكن لم يول ظلما وعدوانا .
ومن المعلوم أن أهل السنّة لا ينازعون في أنه كان بعض أهل الشوكة بعد الخلفاء الأربعة ، يولون شخصا وغيره أولى بالولاية منه ، وقد كان عمر بن عبد العزيز يختار أن يولى القاسم بن محمد بعده لكنه لم يطق ذلك ، لأن أهل الشوكة لم يكونوا موافقين على ذلك . وحينئذ فأهل الشوكة الذين قدّموا المرجوح وتركوا الراجح ، والذي تولى بقوّته وقوة أتباعه ظلما وبغيا ، فيكون إثم هذه الولاية على من ترك الواجب مع قدرته على فعله ، أو أعان على الظلم .(173/70)
وأما من لم يظلم ولا أعان ظالما وإنما أعان على البر والتقوى فليس عليه من هذا شيء . ومعلوم أن صالحي المؤمنين لا يعاونون الولاة إلا على البر والتقوى ، لا يعاونونهم على الإثم والعدوان .
وأهل السنّة يقولون ينبغي أن يولى الاصلح للولاية ، إذا أمكن إما وجوبا عند أكثرهم ، وإما استحبابا عند بعضهم ، وإن من عدل عن الأصلح مع قدرته لهواه فهو ظالم ، ومن كان عاجزا عن تولية الأصلح مع محبته لذلك فهو معذور .
ويقولون : من تولى فإنه يستعان به على طاعة الله بحسب الإمكان ، ولا يعان إلا على طاعة الله ، ولا يستعان به على معصية الله ، ولا يعان على معصية الله تعالى .
أفليس قول أهل السنّة في الإمامة خيرا من قول من يأمر بطاعة معدوم ، أو عاجز لا يمكنه الإعانة المطلوبة من الأئمة ، ولهذا كانت الرافضة لما عدلت عن مذهب أهل السنّة في معونة أئمة المسلمين والاستعانة بهم ، دخلوا في معاونة الكفار والاستعانة بهم .
فهم يدعون إلى الإمام المعصوم ، ولا يعرف لهم إمام موجود ، يأتمون به ، إلا كفور أو ظلوم ، فهم كالذي يحيل بعض العامة على أولياء الله رجال الغيب ، ولا رجال للغيب عنده إلا أهل الكذب والمكر ، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، ويصدّون عن سبيل الله ، أو الجن أو الشياطين الذين يحصل بهم لبعض الناس أحوال شيطانية .
فلو قدر أن ما تدّعيه الرافضة من النص هو حق موجود ، وأن الناس لم يولوا المنصوص عليه لكانوا قد تركوا من يجب توليته ، ولولوا غيره وحينئذ فالإمام الذي قام بمقصود الإمامة هو هذا المولى ، دون الممنوع المقهور .(173/71)
نعم ذاك يستحق أن يولى ، لكن ما ولى ، فالإثم على من ضيع حقه ، وعدل عنه لا على من لم يضع حقه ولم يتعد . وهم يقولون : أن الإمام وجب نصبه ، لأن لطف ومصلحة للعباد ، فإذا كان الله ورسوله يعلم أن الناس لا يولون هذا المعين إذا أمروا بولايته كان أمرهم بولاية من يولونه وينتفعون بولايته أولى ، من أمرهم بولاية من لا يولونه ، ولا ينتفعون بولايته .
كما قيل في إمامة الصلاة والقضاء ، وغير ذلك ، فكيف إذا كان ما يدعونه من النص من أعظم الكذب والافتراء؟ والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد أخبر أمته بما سيكون ، وما يقع بعده ، من التفرق فإذا نص لأمته على إمامة شخص يعلم أنهم لا يولونه ، بل يعدلون عنه ويولون غيره –يحصل لهم بولايته مقصود الولاة – وأنه إذا أفضت النوبة إلى المنصوص حصل من سفك دماء الأمة ما لم يحصل بغير المنصوص ، ولم يحصل من مقاصد الولاية ما حصل بغير المنصوص ، كان الواجب العدول عن المنصوص .
مثال ذلك أن ولىّ الأمر إذا كان عنده شخصان ، ويعلم أنه إن ولى أحدهما أطيع وفتح البلاد ، وأقام الجهاد ، وقهر الأعداء ، وأنه إذا ولى الآخر لم يطع ، ولم يفتح شيئا من البلاد ، بل يقع في الرعية الفتنة والفساد ، كان من المعلوم لكل عاقل أنه ينبغي أن يولي من يعلم أنه إذا ولاه حصل به الخير والمنفعة ، لا من إذا ولاه لم يطع وحصل بينه وبين الرعية الحرب والفتنة . فكيف مع علم الله ورسوله بحال ولاية الثلاثة؟ وما حصل فيها من مصالح الأمة ، في دينها ودنياها ، لا ينص عليها وينص على ولاية من لا يطاع بل يحارب ويقاتل ، حتى لا يمكنه قهر الأعداء ولا إصلاح الأولياء .
وهل يكون من ينص على ولاية هذا دون ذاك إلا جاهلا إن لم يعلم الحال أو ظالما مفسدا . إن علم . والله ورسوله بريء من الجهل والظلم .
وهم يضيفون إلى الله ورسوله العدول عما فيه مصلحة العباد، إلى ما ليس فيه إلا الفساد .(173/72)
وإذا قيل إن الفساد حصل من معصيتهم لا من تقصيره . قيل أفليس ولاية من يطيعونه فتحصل المصلحة أولى من ولاية من يعصونه ، فلا تحصل المصلحة بل المفسدة ؟
ولو كان للرجل ولد وهناك مؤدبان إذا أسلمه إلى أحدهما تعلم وتأدب ، وإذا أسلمه إلى الآخر فرّ وهرب ، أفليس إسلامه إلى ذاك أولى ؟ ولو قدر أن ذاك افضل ، فأيّ منفعة في فضيلته إذا لم يحصل للولد به منفعة لنفوره عنه .
ولو خطب المرأة رجلان أحدهما افضل من الآخر لكن المرأة تكرهه، وإن تزوجت به لم تطعه ، بل تخاصمه وتؤذيه ، فلا تنتفع به ولا ينتفع هو بها، والآخر تحبه ويحصل به مقاصد النكاح ، أفليس تزويجها بهذا المفضول أولى باتفاق العقلاء ؟ ونص من ينص على تزويجها بهذا أولى من النص على تزويجها بهذا .
فكيف يضاف إلى الله ورسوله ما لا يرضاه إلا ظالم ، أو جاهل ، وهذا ونحوه مما يعلم به بطلان النص بتقدير أن يكون علي هو الأفضل الأحق ، بالإمارة ، لكن لا يحصل بولايته إلا ما حصل ، وغيره ظالم يحصل به ما حصل من المصالح ، فكيف إذا لم يكن الأمر كذلك ، لا في هذا ولا في هذا .
فقول أهل السنّة خبر صادق وقول حكيم ، وقول الرافضة خبر كاذب وقول سفه ، فأهل السنّة يقولون الأمير والإمام والخليفة ذو السلطان الموجود ، الذي له القدرة على عمل مقصود الولاية ، كما أن إمام الصلاة هو الذي يصلي بالناس ، وهم يأتمون به ليس إمام الصلاة من يستحق أن يكون إماما وهو لا يصلي بأحد ، لكن هذا ينبغي أن يكون إماما ، والفرق بين الإمام وبين من ينبغي أن يكون هو الإمام لا يخفى على الطغام .
ويقولون أنه يعاون على البر والتقوى ، دون الإثم والعدوان ، ويطاع في طاعة الله دون معصيته ، ولا يخرج عليه بالسيف ، وأحاديث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إنما تدل على هذا .(173/73)
كما في الصحيحين ، عن ابن عباس –رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال:((من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه ، فإنه ليس أحد من الناس يخرج عن السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية ))(1) فجعل المحذور هو الخروج عن السلطان ومفارقة الجماعة وأمر بالصبر على ما يكره من الأمير لم يخص بذلك سلطاناً معيناً ولا أميرا معينا ولا جماعة معينة .
(قال الرافضي الفصل الثاني في أن مذهب الإمامية واجب الاتباع)
ومضمون ما ذكره أن الناس اختلفوا بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيجب النظر في الحق واعتماد الإنصاف ، ومذهب الإمامية واجب الاتباع لأربعة وجوه ، لأنه أحقها ، وأصدقها ، ولأنهم باينوا جميع الفرق في أصول العقائد ، ولأنهم جازمون بالنجاة لأنفسهم ، ولأنهم أخذوا دينهم عن الأئمة المعصومين ، وهذا حكاية لفظه .
قال الرافضي : أنه لما عمت البلية بموت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم –واختلف الناس بعده ، وتعددت آراؤهم ، بحسب تعدد أهوائهم ، فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق ، وبايعه أكثر الناس للدنيا ، كما اختار عمرو بن سعد ملك الرى أياما يسيرة ، لما خير بينه وبين قتل الحسين مع علمه ، بأن من قتله في النار ، واختياره ذلك في شعره حيث يقول :
فوالله ما أدري وإني لصادق أفكرفي أمرعلى خطرين
أاترك ملك الرىّ والرى منيتي أم أصبح مأثوما بقتل حسين
وفي قتله النار التي ليس دونها حجاب وملك الرىّ قرة عيني
__________
(1) سبق ذكره انظر ص(173/74)
وبعضهم اشتبه الأمر عليه ، ورأى لطالب الدنيا مبايعا ، فقلده وبايعه وقصر في نظره ، فخفى عليه الحق فاستحق المؤاخذة من الله تعالى بإعطاء الحق لغير مستحقه بسبب إهمال النظر ، وبعضهم قلد لقصور فطنته ، ورأى الجم الغفير فتابعهم ، وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب ، وغفل عن قوله تعالى : { وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } (1) { وَقَلِيلُ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور } (2) وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق له وبايعه الأقلون الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتها ، ولم يأخذهم في الله لومة لائم بل أخلصوا لله واتبعوا ما أمروا به من طاعة من يستحق التقديم .
وحيث حصل للمسلمين هذه البلية ، وجب على كل أحد النظر في الحق واعتماد الإنصاف ، وأن يقر الحق مستقره ، ولا يظلم مستحقه ، فقد قال تعالى : { أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين } (3) و إنما كان مذهب الإمامية واجب الاتباع لوجوه هذا لفظه .
فيقال: أنه قد جعل المسلمين بعد نبيهم أربعة أصناف ،، وهذا من أعظم الكذب فإنه لم يكن من في الصحابة المعروفين أحد من هذه الأصناف الأربعة، فضلا عن أن لا يكون فيهم أحد إلا من هذه الأصناف .
إما طالب للأمر بغير حق كأبي بكر في زعمه . وإما طالب للأمر بحق كعلي في زعمه .
وهذا كذب على علي( ، وعلى أبي بكر( ، فلا علي طلب الأمر لنفسه قبل قتل عثمان ، ولا أبو بكر طلب الأمر لنفسه فضلا عن أن يكون طلبه بغير حق .
وجعل القسمين الآخرين إما مقلدا لأجل الدنيا، وإما مقلدا لقصوره في النظر، وذلك أن الإنسان يجب عليه ان يعرف الحق وأن يتبعه ، وهو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم ، من النبيين والصديقين ، والشهداء والصالحين ، غير المغضوب عليهم ، ولا الضالين . وهذا هو الصراط الذي أمرنا أن نسأله هدايتنا إياه ، في كل صلاة بل في كل ركعة .
__________
(1) الآية 24 من سورة ص .
(2) الآية 13 من سورة سبأ .
(3) الآية 18 من سورة هود .(173/75)
وهذه الأمة خير الأمم ، وخيرها القرن الأول ، كان القرن الأول أكمل الناس في العلم النافع ، والعمل الصالح .
وهؤلاء المفترون وصفوهم بنقيض ذلك ، بأنهم لم يكونوا يعلمون الحق ويتبعونه ، بل كان أكثرهم عندهم يعلمون الحق ويخالفونه ، كما يزعمون في الخلفاء الثلاثة ، وجمهور الصحابة ، والأمة ، وكثير منهم عندهم لا يعلم الحق ، بل اتبع الظالمين تقليداً لعدم نظرهم المفضى إلى العلم ، والذي لم ينظر قد يكون تركه النظر لأجل الهوى وطلب الدنيا ، وقد يكون لقصوره ونقص إدراكه .
وادعى أن منهم من طلب الأمر لنفسه بحق يعني علياً ، وهذا مما علمنا بالاضطرار أنه لم يكن ، فلزم من ذلك على قول هؤلاء أن تكون الأمة كلها كانت ضالة ، بعد نبيها ليس فيها مهتد .
فتكون اليهود ولنصارى بعد النسخ والتبديل خيراً منهم ، لأنهم كما قال تعالى: { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةً يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْدِلُون } (1) . وقد أخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن اليهود والنصارى افترقت على أكثرمن سبعين فرقة ، فيها واحدة ناجية ، وهذه الأمة على موجب ما ذكروه لم يكن فيهم بعد موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمة تقوم بالحق ولا تعدل به، وإذا لم يكن ذلك في خيار قرونهم ففيما بعد ذلك أولى .
فيلزم من ذلك ان يكون اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خيرا من خير أمة أخرجت للناس ، فهذا لازم لما يقوله هؤلاء المفترون ، فإذا كان هذا في حكايته لما جرى عقب موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من اختلاف الأمة ، فكيف سائر ما ينقله ويستدل به ، ونحن نبين ما في هذه الحكاية من الأكاذيب من وجوه كثيرة، فنقول :
__________
(1) الآية 159 من سورة الأعراف .(173/76)
ما ذكره هذا المفترى من قوله : أنه لما عمت البلية على كافة المسلمين بموت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم . واختلف الناس بعده ، وتعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم ، فبعضهم طلب الأمر لنفسه ، وتابعه أكثر الناس طلباً للدنيا ، كما اختار عمر بن سعد ، ملك الرى أياما يسيرة لما خير بينه وين قتل الحسين ، مع علمه بان في قتله النار واختياره ذلك في شعره .
فيقال في هذا الكلام من الكذب ، والباطل وذم خيار الأمة ، بغير حق ما لا يخفى من وجوه . (أحدهما ) :قوله تعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم ، فيكون كلهم متبعين أهوائهم ، ليس فيهم طالب حق ، ولا مريد لوجه الله تعالى والدار الآخرة ، ولا من كان قوله عن اجتهاد واستدلال .
وعموم لفظه يشمل علياً وغيره ، وهؤلاء الذين وصفهم بهذا ، هم الذين أثنى الله عليهم هو ورسوله ، ورضي الله عنهم ووعدهم الحسنى ، كما قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرينَ وَالأَنْصَار الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَان(م وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتها الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيم } (1) .وقال تعالى : { ُمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءَ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءَ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُم في وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودْ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ في التَّوْرَاةِ ، وَمَثَلُهُمْ في الِإنْجِيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ ِبِهم الكُفَّار ، وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيمًا } (2) .
__________
(1) الآية 100 من سورة التوبة .
(2) الاية 29 من سورة الفتح .(173/77)
وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أَوْلَئِكَ بَعضُهم أَوْلِيَاءَ بَعْض –إلى قوله –أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُم مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعد وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُم فَأُوْلَئِكَ مِنْكُم } (1) .
وقال تعالى : { لاَ يَسْتَوِي مِنْكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَل أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْد وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى } (2) .
وقال تعالى : { ِللفقراءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِم يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضوانًا وَيَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُم الصَّادِقُون وَالَّذِينَ تَبَوّؤا الدَّارَ وَالإِيمَان مِن قَبْلِهِم يُحِبُّون مَن هَاجَرَ إِلَيْهِم وَلاَ يَجِدُونَ في صُدُورِهِم حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفسِهِم وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِم يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَان وَلاَ تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيم } (3) .
وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين ، والأنصار ، وعلى الذين جاءوا من بعدهم ، يستغفرون لهم ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم ، وتتضمن أن هؤلاء الأصناف هم المستحقون للفيء .
__________
(1) الآيات من 72- 75 من سورة الأنفال .
(2) الآية 10 من سورة الحديد .
(3) الآيات 10،9،8 من سورة الحشر .(173/78)
ولا ريب أن هؤلاء الرافضة خارجون من الأصناف الثلاثة فإنهم لم يستغفروا للسابقين ، وفي قلوبهم غل عليهم ، ففي الآيات الثناء على الصحابة، وعلى أهل السنّة الذين يتولونهم ، وإخراج الرافضة من ذلك ، وقد روى ابن بطة وغيره من حديث أبي بدر ، قال : حدثنا عبد الله بن زيد ، عن طلحة بن مصرف ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال : ((الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت واحدة ، فأحسن ما أنتم عليه كائنون، أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت .
ثم قرأ { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، هؤلاء المهاجرون ، وهذه منزلة قد مضت، ثم قرا والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا . ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصا صة } .
ثم قال هؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت .
ثم قرأ { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ، يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَان ، وَلا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غُلاًّ للَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (1) ، فقد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة ، فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت أن تستغفروا لهم ))(2) .
وروى أيضا بإسناده عن مالك بن أنس أنه قال:(( من سب السلف فليس له في الفيء نصيب )) لأن الله تعالى يقول : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِم } (3)
-الآية – وهذا معروف عن مالك ، وغير مالك من أهل العلم كأبي عبيد القاسم بن سلام(4) .
__________
(1) الآية 10 من سورة الحشر .
(2) يظهر أن هذا الأثر في الإبانة الكبرى إذ لم أجده في الصغرى .
(3) هذا الأثر في الإبانة مختصرا ص 162 والظاهر أن المؤلف ينقل عن الكبرى .
(4) انظر المرجع المذكور ص 162 .(173/79)
وكذلك ذكره أبو حكيم النهرواني ، من أصحاب أحمد وغيره من الفقهاء، وروى أيضا عن الحسن بن عمارة ، عن الحكيم عن مقسم عن ابن عباس(ما . قال : (( أمر الله بالاستغفار لأصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهو يعلم أنهم يقتتلون ))(1) .
وقال عروة قالت لي عائشة(ا : (( يا ابن أختي أمروا بالاستغفار لأصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم . فسبوهم ))(2) .
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري( قال . قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : (( لا تسبوا أصحابي فلو ان أحدهم أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه))(3) .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة( أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : (( لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ))(4) .
وفي صحيح مسلم أيضاً عن جابر بن عبد الله قال : قيل لعائشة : (( إن ناسا يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، حتى أبا بكر وعمر ، فقالت وما تعجبون من هذا ، انقطع عنهم العمل ، فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر ))(5) .
وروى ابن بطة بالإسناد الصحيح عن عبد الله بن أحمد قال حدثني أبي . حدثنا معاوية . حدثنا رجاء عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (( لا تسبوا أصحاب محمد فإن الله تعالى قد أمرنا بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتلون ))(6).
__________
(1) المرجع المذكور ص 119 .
(2) انظر الإبانة ص 120 .
(3) البخاري ج 5 ص 8 و مسلم ج 4 ص 1967 .
(4) مسلم ج 4 ص 1967 .
(5) يظهر أنه في بعض النسخ فإني لم أجده في مسلم .
(6) انظر الإبانة ص119 .(173/80)
ومن طريق أحمد ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، وطريق غيره عن وكيع ، وأبي نعيم ثلاثتهم ، عن الثوري ، عن نسير بن ذعلوق ، سمعت عبد الله بن عمر يقول : (( لا تسبوا أصحاب محمد ، فلمقام أحدهم ساعة يعني مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة )).
وفي رواية وكيع ( خير من عبادة أحدكم عمره ) .
وقال تعالى : { َلقد رَضِيَ اللهُ عَنِ الُمُؤمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِم وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيمًا وَعَدَكُم اللهُ مَغَانِمَ كَثِيَرةً تَأخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُم هَذِهِ وَكَفَّ أيدي النَّاسِ عَنْكُم وَلِتَكُونَ آيةً للمُؤمِنِين وَيهْديكُم صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرًا } (1)
وقد أخبر الله أنه سبحانه وتعالى رضي عنهم ، وأنه علم ما في قلوبهم ، وأنه أثابهم فتحا قريبا .
وهؤلاء هم أعيان من بايع أبا بكر وعمر وعثمان ، بعد موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، لم يكن في المسلمين من يتقدم عليهم ، بل كان المسلمون كلهم يعرفون فضلهم عليهم ، لأن الله تعالى بين فضلهم في القرآن بقوله : { لاَ يَسْتَوِي مِنْكُم مَن أَنْفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذينَ أَنْفَقُوا مِن بَعدُ وَقَاتَلوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى } (2) .
ففضل المنفقين المقاتلين قبل الفتح ، والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية ، ولهذا سئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (( أو فتح هو ؟ فقال : نعم ))(3).
__________
(1) الآيات 18-21 من سورة الفتح .
(2) الآية 10 من سورة الحديد .
(3) انظر سنن أبي داود ج3 ص101 .(173/81)
وأهل العلم يعلمون أن فيه أنزل الله تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتَمَ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَينْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزاً } . فقال بعض المسلمين : يا رسول الله هذا لك ، فما لنا ؟ يا رسول الله . فأنزل الله تعالى : { ُهوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِم } .
وهذه الآية نص في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين بعده، ولهذا ذهب جمهورالعلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار } (1) هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح قاتلوا ، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم ،وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة ، وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأوّلين، هم من صلى إلى القبلتين ، وهذا ضعيف ، فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة، ولأن النسخ ليس من فعلهم ، الذي يفضلون به ، ولأن التفضيل بالصلاة إلى القبلتين لم يدل عليه دليل شرعي ، كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد ، والمبايعة تحت الشجرة .
__________
(1) 4 ) الآية 100 من سورة التوبة .(173/82)
وقد علم بالاضطرار أنه كان في هؤلاء السابقين الأولين أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وبايع النبي بيده عن عثمان ، لأنه كان غائبا قد أرسله إلى أهل مكة ليبلغهم رسالته ، وبسببه بايع النبي الناس ، لما بلغه أنهم قتلوه : وقد ثبت في صحيح مسلم، عن جابر بن عبد الله( أنه قال : (( لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ))(1)، وقال تعالى: { َلقدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِي وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار الَّذِينَ اتّبَعُوهُ في سَاعَةِ العُسْرَة مِن بَعْدِ مَا كَانَ يَزِيغُ قُلُوبَ فَرِيقٍ مِنْهَمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِم إِنَّهُ بِهِم رَءُوفٌ رَحِيم } (2) .فجمع بينهم وبين رسول الله في التوبة . وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِم وَأَنْفُسِهِم في سَبِيلِ الله ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُم أَوْلِيَاءَ بَعْض ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا –إلى قوله تعالى –وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعد وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُم فَأُوْلَئِكَ مِنْكُم } (3) فأثبت الموالاة بينهم وقال للمؤمنين: { َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتِّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضهُم أَوْلِيَاءَ بَعْض وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِين –إلى قوله – إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ َحِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُون } (4) . وقال تعالى : { وَالمُؤمِنُونَ و
__________
(1) مسلم ج4 ص 1942 رقم 2496 .
(2) الآية 117 من سورة التوبة .
(3) الآيات 72-75 من سورة الأنفال .
(4) 1 ) الآيات من 51 – 56 من سورة المائدة .(173/83)
َالمُؤمِنَات بَعْضَهُم أَوْلِيَاء بَعْض } (1).
فأثبت الموالاة بينهم، وأمرهم بموالاتهم ، والرافضة تتبرأ منهم ولا تتولاهم ،وأصل الموالاة المحبة ، وأصل المعاداة البغض ،وهم يبغضونهم ولا يحبونهم .
وقد وضع بعض الكذابين حديثا مفترى ، أن هذه الآية نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة ، وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل ، وكذبه بيّن من وجوه كثيرة .
منها أن قوله الذين صيغة جمع . وعلي واحد .
ومنها أن الواو ليست واو الحال إذ لو كان كذلك لكان لا يسوغ أن يتولى إلا من أعطى الزكاة في حال الركوع . فلا يتولى سائر الصحابة والقرابة .
ومنها ان المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب ، وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس واجب ولا مستحب ، باتفاق علماء الملة ، فإن الصلاة شغلا.
ومنها أنه لو كان إيتاؤها في الصلاة حسنا لم يكن فرق بين حال الركوع وغير الركوع ، بل إيتاؤها في القيام و القعود أمكن .
ومنها أن عليا لم يكن عليه زكاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها أن إيتاء غير الخاتم في الزكاة خير من إيتاء الخاتم ، فإن أكثر الفقهاء يقولون لا يجزئ إخراج الخاتم في الزكاة .
ومنها أن هذا الحديث فيه أنه أعطاه السائل ،والمدح في الزكاة أن يخرجها ابتداء ويخرجها على الفور ، لا ينتظر أن يسأله سائل .
ومنها أن الكلام في سياق النهي عن موالاة الكفار ، والأمر بموالاة المؤمنين ، كما يدل عليه سياق الكلام ، وسيجيء إن شاء الله تعالى تمام الكلام على هذه الآية ، فإن الرافضة لا يكادون يحتجون بحجة إلا كانت حجة عليهم لا لهم ، كاحتجاجهم بهذه الآية على الولاية التي هي الإمارة ، وإنما هي في الولاية التي هي ضد العداوة .
__________
(1) الآية 71 من سورة التوبة .(173/84)
والرافضة مخالفون لها ، والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم يوالون الكفار ، من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين ، ويعادون المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين اتبوعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وهذا أمر مشهور .
يعادون خيار عباد الله المؤمنين ويوالون اليهود والنصارى والمشركين من الترك وغيرهم ، وقال تعالى : { َيا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين } (1) . أي الله كافيك ومن اتبعك من المؤمنين ، والصحابة أفضل من اتبعه من المؤمنين، وأولهم و قال تعالى : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْح وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } .
والذين رآهم النبي (يدخلون في دين الله أفواجا هم الذين كانوا على عصره ، وقال تعالى : { ُهوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } (2) . و إنما أيده في حياته بالصحابة ، و قال تعالى :
{ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المتُّقُون لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِين لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُم أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون } (3) .
وهذا الصنف الذي يقول الصدق ، ويصدق به خلاف الصنف الذي يفتري الكذب أو يكذب بالحق ، لما جاءه كما سنبسط القول فيهما إن شاء الله تعالى .
__________
(1) الآية 64 من سورة الأنفال .
(2) الآية 62 من سورة الأنفال .
(3) الآيات 33-35 من سورة الزمر .(173/85)
والصحابة الذين كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأن القرآن حق ، هم أفضل من جاء بالصدق وصدق به ، بعد الأنبياء وليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أعظم افتراء للكذب على الله وتكذيبا بالحق من المنتسبين إلى التشيع . ولهذا لا يوجد الغلو في طائفة أكثر مما يوجد فيهم .
ومنهم من ادعى إلهية البشر ، وادعى النبوة في غير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وادعى العصمة في الأئمة ، ونحو ذلك مما هو أعظم مما يوجد في سائر الطوائف ، واتفق أهل العلم أن الكذب ليس في طائفة من المنتسبين إلى القبلة أكثر منه فيهم ، وقال تعالى : { ُ قلِ الْحَمْدُ ِللهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } . قال طائفة من السلف هم أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ،ولا ريب أنهم أفضل المصطفين من هذه الأمة ، التي قال الله فيها : { ُثمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُم ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُقْتَصِد وَمِنْهُم سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِير جَنَّات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُم فِيها حَرِير وَقَالوا الْحَمْدُ ِللهِ الَّذي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُور الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسّنَا فيها نَصبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فيها لُغُوب } (1) .
فأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمتين قبلهم اليهود والنصارى .
وقد أخبر الله تعالى أنهم الذين اصطفى .
__________
(1) الآيات 32 – 35 من سورة فاطر .(173/86)
وتواتر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : (( خير القرون القرن الذي بعثت فيه ، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ))، ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه هم المصطفون ، من المصطفين من عباد الله وقال تعالى : { ُمحمدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءَ عَلَى الْكُفَّارُ رُحَمَاءَ بَيْنَهُم } (1) إلى آخر السورة . وقال تعالى { وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم في الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُم وَلَيُبْدِلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُون } (2) . فقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف ، كما وعدهم في تلك الآية مغفرة وأجرا عظيما ، والله لا يخلف الميعاد .
فدل ذلك أن الذين استخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم ومكن لهم دين الإسلام ، وهو الدين الذي ارتضاه لهم ، كما قال تعالى : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دينًا } (3) وبدلهم بعد خوفهم أمنا لهم (4) المغفرة والأجر العظيم .
وهذا يستدل به على وجهين : على أن المستخلفين مؤمنون عملوا الصالحات ، لأن الوعد لهم لا لغيرهم ، ويستدل به على ان هؤلاء مغفور لهم، ولهم أجر عظيم ، لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات ، فتناولتهم الآيتان – آية النور وآية الفتح .
__________
(1) الآية 29 من سورة الفتح .
(2) الآية 55 من سورة النور .
(3) جزء من الآية رقم 3 من سورة المائدة .
(4) قوله " لهم المغفرة والأجر العظيم " خبر عن قوله فدل ذلك الخ .(173/87)
من المعلوم أن هذه النعوت منطبقة على الصحابة على زمن أبي بكر وعمر وعثمان ، فإنه إذ ذاك حصل الاستخلاف ، وتمكن الدين والأمن ، بعد الخوف لما قهروا فارس والروم وفتحوا الشام والعراق ، ومصر وخراسان ، وأفريقية .
ولما قتل عثمان وحصلت الفتنة لم يفتحوا شيئا من بلاد الكفار ، بل طمع فيهم الكفار بالشام وخراسان ، وكان بعضهم يخاف بعضاً .
وحينئذ قد دل القرآن على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان ،ومن كان معهم في زمن الاستخلاف والتمكين والأمن ، والذين كانوا في زمن الاستخلاف والتمكين والأمن أدركوا زمن الفتنة كعلي وطلحة وأبي موسى الأشعري ، ومعاوية وعمرو بن العاص ، دخلوا في الآية لأنهم استخلفوا ومكنوا ، وأمنوا .
و أما من حدث في زمن الفتنة كالرافضة الذين حدثوا في الإسلام ، في زمن الفتنة والافتراق ، وكالخوارج المارقين ،فهؤلاء لم يتناولهم النص ، فلم يدخلوا فيمن وصف بالإيمان والعمل الصالح ، المذكورين في هذه الآية ، لأنهم أولا ليسوا من الصحابة المخاطبين بهذا .
ولم يحصل لهم من الاستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف ما حصل للصحابة ، بل لا يزالون خائفين مقلقلين غير ممكنين .
فإن قيل لما قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم ولم يقل وعدهم كلهم . قيل كما قال وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ، ولم يقل وعدكم .(173/88)
و"من" تكون لبيان الجنس فلا يقتضي أن يكون قد بقي من المجرور بها شيء خارج ، عن ذلك الجنس كما في قوله تعالى : { َفاجتنبوْا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَان } (1) فإنه لا يقتضى أن يكون من الأوثان ما ليس برجس ، وإذا قلت ثوبا من حرير ، فهو كقولك ثوب حرير ، وكذلك قولك باب من حديد فهو، كقولك باب حديد ، وذلك لا يقتضي أن يكون هناك حرير وحديد غير المضاف إليه ، وإن كان الذي يتصوره كليا ، فإن الجنس الكلي ، هو ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه ، وإن لم يكن مشتركاً فيه في الوجود .
فإذا كانت من بيان الجنس ، كان التقدير وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذا الجنس ، وإن كان الجنس كلهم مؤمنين صالحين ، وكذلك إذا قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذا الجنس والصنف مغفرة وأجراً عظيما ، لم يمنع ذلك أن يكون جميع هذا الجنس مؤمنين صالحين .
ولما قال لأزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: { وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا } (2) لم يمنع أن يكون كل منهن تقنت لله ورسوله ، وتعمل صالحا ، ولما قال تعالى : { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَليَكُم كَتَبَ رَبُّكُم عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُم سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (3) لم يمنع أن يكون كل منهم متصفاً بهذه الصفة ، ولا يجوز ان يقال أنهم لو عملوا سوءاً بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا لم يغفر إلا لبعضهم.
ولهذا تدخل من هذه في النفي لتحقيق نفي الجنس كما في قوله تعالى :
__________
(1) الآية 30 من سورة الحج .
(2) الآية 31 من سورة الأحزاب .
(3) الآية 54 من سورة الأنعام .(173/89)
{ وَمَا التَّنَاهُم مِن عَمَلِهِم مِن شَيء } (1) وقوله تعالى: { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ الله } (2) { فَمَا مِنْكُم مِن أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِين } (3) .
ولهذا إذا دخلت في النفي تحقيقا أو تقديرا أفادت نفي الجنس قطعاً ، (فالتحقيق ما ذكر والتقدير كقوله تعالى: { لا إله إلا الله } وقوله: { لاَرَيْبَ فيه } ونحو ذلك بخلاف ما إذا لم تكن "من"موجودة كقولك (( ما رأيت رجلا )) فإنها ظاهرة لنفي الجنس ، ولكن قد يجوز أن ينفي بها الواحد من الجنس ، كما قال سيبويه : يجوز أن يقال ما رأيت رجلا ، بل رجلين .
فتبين أنه يجوز إرادة الواحد ، وإن كان الظاهر نفي الجنس ، بخلاف ما إذا دخلت (من ) فإنه ينفي الجنس قطعا ، ولهذا لو قال لعبيده من أعطاني منكم ألفا فهو حر فأعطاه كل واحد ألفا عتقوا كلهم .
وكذلك لو قال واحد لنسائه من أبرأتني منكن من صداقها فهي طالق فأبرأنه كلهن ، طلقن كلهن .
فإن المقصود بقوله منكن بيان جنس المعطى والمبرئ لا إثبات هذا الحكم لبعض العبيد والأزواج .
فإن قيل فهذا كما لا يمنع أن يكون كل المذكور متصفا بهذه الصفة فلا يوجب ذلك أيضا ، فليس في قوله وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ما يقتضي أن يكونوا كلهم كذلك .
__________
(1) الآية 21 من سورة الطور.
(2) الآية 62 من سورة آل عمران .
(3) الآية 47 من سورة الحاقة .(173/90)
قيل : نعم ونحن لا ندعي أن مجرد هذا اللفظ دل على ان جميعهم موصوفون بالإيمان والعمل الصالح ، ولكن مقصودنا أن (من ) لا ينافى شمول هذا الوصف لهم فلا يقول قائل ان الخطاب دل على ان المدح شملهم وعمهم بقوله محمد رسول الله والذين معه إلى آخر الكلام ، ولا ريب أن هذا مدح لهم بما ذكر ، من الصفات ، وهو الشدة على الكفار ، والرحمة بينهم والركوع والسجود يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، والسيما في وجوههم من أثر السجود ، وانهم يبتدئون من ضعف إلى كمال القوة والاعتدال ، كالزرع والوعد بالمغفرة والأجر العظيم ، ليس على مجرد هذه الصفات بل على الإيمان والعمل الصالح .
فذكر ما به يستحقون الوعد ، وإن كانوا كلهم بهذه الصفة ، ولولا ذكر ذلك لكان يظن انهم بمجرد ما ذكر يستحقون المغفرة والأجر العظيم ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء ، بخلاف ما إذا ذكر الإيمان والعمل الصالح .
فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب كان ما منه الاشتقاق سبب الحكم.(173/91)
فإن قيل فالمنافقون كانوا في الظاهر مسلمين ، قيل المنافقون لم كونوا متصفين بهذه الصفات ، ولم يكونوا مع الرسول والمؤمنين ولم يكونوا منهم ، كما قال الله تعالى : { َفعسى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا في أَنْفُسِهِم نَادِمِين ، وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِم إِنَّهُم لَمَعَكُم حَبطت أَعْمَالُهُم فَاَصْبَحُوا خَاسِرِين } (1) وقوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذوى في اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابَ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولن إِنَّا مَعَكُم أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَم بِمَا في صُدُور العَالَمِين وَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِين } (2) .
فأخبرأن المنافقين ليسوا من المؤمنين ، ولا من أهل الكتاب .
هؤلاء لا يجدون في طائفة من المتظاهرين بالإسلام ، أكثر منهم في الرافضة ، ومن انطوى إليهم . فدل هذا على ان المنافقين لم يكونوا من الذين آمنوا معه ، والذين كانوا منافقين منهم من تاب عن نفاقه وانتهى عنه ، وهم الغالب بدليل قوله تعالى : { َلئنْ لَمْ يَنْتَهِ المْنُافِقُونَ وَالَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ وَالْمُرْجَفُونَ في الْمَدِينَةِ ِلنُغْرِيَنَّكَ بِهِم ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً } (3) .
__________
(1) الآيات 52 –53 من سورة المائدة .
(2) الآيتان 10 و11 من سورة العنكبوت .
(3) الآيتان 60 و61 من سورة الأحزاب.(173/92)
فلما لم يغره الله بهم ، ولم يقتلهم تقتيلا ، بل كانوا يجاورونه بالمدينة فدل ذلك على أنهم انتهوا ، والذين كانوا معه بالحديبية كلهم بايعوه تحت الشجرة ، إلا الجد بن قيس فإنه اختبأ خلف جمل أحمر .
وكذا حاء في الحديث كلهم يدخل الجنة إلا صاحب الجمل الأحمر ، وبالجملة فلا ريب أن المنافقين كانوا مغمورين مقهورين ، أذلاء ، لا سيما في آخر أيام الرسول (. وفي غزوة تبوك لأن الله تعالى قال : { َيقولون لئن رَجعنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيَخْرُجَنَّ الأَعَزَّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلله العِزَّةُ َلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤمِنِين وِلَكِن الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُون } (1) .
فأخبر أن العزة للمؤمنين ، لا للمنافقين ، فعلم أن العزة والقوة كانت في المؤمنين ، وأن المنافقين كانوا أذلاء بينهم .
فيمتنع أن تكون الصحابة الذين كانوا أعز المسلمين من المنافقين ، بل ذلك يقتضى أن من كان أعز كان أعظم إيمانا .
ومن المعلوم أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، الخلفاء الراشدين وغيرهم كانوا اعز الناس ، وهذا كله مما يبين أن المنافقين كانوا ذليلين في المؤمنين .
فلا يجوز أن يكون الأعزاء من الصحابة منهم ، ولكن هذا الوصف مطابق للمتصفين به من الرافضة وغيرهم ،والنفاق والزندقة في الرافضة أكثر منه في سائر الطوائف .
بل لا بد لكل منهم من شعبة نفاق ، فإن أساس النفاق الذي بني عليه ، الكذب ، وأن يقول الرجل بلسانه ما ليس في قلبه ، كما اخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم .
والرافضة تجعل هذا من أصول دينها وتسميه التقية وتحكى هذا عن أئمة أهل البيت الذين برأهم الله عن ذلك ، حتى يحكوا ذلك عن جعفر الصادق أنه قال التقية ديني ودين آبائي و قد نزه الله المؤمنين من أهل البيت وغيرهم عن ذلك.
__________
(1) الآية 8 من سورة المنافقون .(173/93)
بل كانوا من أعظم الناس صدقا وتحقيقا للإيمان ، وكان دينهم التقوى لا التقية ، وقول الله تعالى : { لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَلَيْسمِنَ اللهِ في شَيء إلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُم تُقَاه } (1).إنما هو الأمر بالاتقاء من الكافرين ، لا الأمر بالنفاق والكذب .
والله تعالى قد أباح لمن أكره على كلمة الكفر أن يتكلم بها ، إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان ، لكن لم يكره أحداً من أهل البيت على شيء من ذلك ، حتى أن أبا بكر( لم يكره أحدا لا منهم، ولا من غيرهم على متابعته، فضلا على ان يكرههم على مدحه ، والثناء عليه.
بل كان علي وغيره من أهل البيت يظهرون ذكر فضائل الصحابة والثناء عليهم والترحم عليهم والدعاء لهم ولم يكن أحد يكرههم على شيء منه باتفاق الناس .
وقد كان زمن بني أمية وبني العباس خلق عظيم دون عليّ وغيره في الإيمان والتقوى يكرهون منهم أشياء ولا يمدحونهم ولا يثنون عليهم ، ولا يقربونهم ، ومع هذا لم يكن هؤلاء يخافونهم ، ولم يكن أولئك يكرهونهم مع أن الخلفاء الراشدين كانوا باتفاق الخلق أبعد عن قهر الناس وعقوبتهم على طاعتهم ، من هؤلاء .
فإذا كان لم يكن الناس مع هؤلاء مكرهين على ان يقولوا بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم ، فكيف يكونون مكرهين مع الخلفاء على ذلك ، بل على الكذب وشهادة الزور وإظهار الكفر ، كما تقوله الرافضة من غير ان يكرههم أحد على ذلك .
فعلم أن ما تتظاهر به الرافضة هو من باب الكذب والنفاق ، وأنهم يقولوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، لا من باب ما يكره المؤمن عليه ، من التكلم بالكفر وهؤلاء أسرى المسلمين ، في بلاد الكفار غالبهم يظهرون دينهم،والخوارج مع تظاهرهم بتكفير الجمهور، وتكفير عثمان وعلي ومن ولاهما يتظاهرون بدينهم.
__________
(1) الآية 28 من سورة آل عمران .(173/94)
وإذا سكنوا بين الجماعة ، سكنوا على الموافقة والمخالفة ، والذي يسكن في مدائن الرافضة فلا يظهر الرفض وغايته إذا ضعف ان يسكت عن ذكر مذهبه لا يحتاج أن يتظاهر بسب الخلفاء والصحابة، إلا أن يكونوا قليلا .
فكيف يظن بعلي( وغيره من أهل البيت أنهم كانوا اضعف دينا من الأسرى في بلاد الكفر ، ومن عوام أهل السنة ، ومن النواصب ، مع أنا قد علمنا بالتواتر أن أحدا لم يكره عليّا ولا أولاده على ذكر فضائل الخلفاء ، والترحم عليهم ، بل كانوا يقولون ذلك من غير إكراه ، ويقوله أحدهم لخاصته كما ثبت ذلك بالنقل المتواتر .
وأيضا فقد يقال في قوله تعالى : { وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَعَمِلوا الصَّالِحَات } أن ذلك وصف الجملة بصفة تتضمن حالهم عند الاجتماع كقوله تعالى : { وَمَثَلُهُم في الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِه يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغيظَ بِهِم الكُفَّار } والمغفرة والأجر في الآخرة يحصل لكل واحد واحد ، فلا بد ان يتصف بسبب ذلك ، وهو الإيمان والعمل الصالح، إذ قد يكون في الجملة منافقا .
وفي الجملة ما في القرآن من خطاب المؤمنين والمتقين والمحسنين ، ومدحهم والثناء عليهم ، فهم أول من دخل في ذلك من هذه الأمة ، وأفضل من دخل في ذلك من هذه الأمة كما استفاض عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من غير وجه أنه قال : (( خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ))(1) .
(الوجه الثاني ) : في بيان كذبه وتحريفه فيما نقله عن حال الصحابة بعد موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم .
(قوله : فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق ، وبايعه اكثر الناس طلبا للدنيا ) .
__________
(1) انظر البخاري ج3 ص171 ومواضع أُخر ، ومسلم ج4 ص 1962 .(173/95)
وهذا إشارة إلى أبي بكر فإنه هو الذي بايعه أكثر الناس ، ومن المعلوم أن أبا بكر لم يطلب الأمر لنفسه ، لا بحق ولا بغير حق ، بل قال: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، إما عمر بن الخطاب وإما أبا عبيدة .
قال عمر : فوالله لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقرّبني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر ، وهذا اللفظ في الصحيحين(1) .
وقد روى عنه انه قال : أقيلوني، أقيلوني ، فالمسلمون اختاروه وبايعوه ، لعلمهم بأنه خيرهم ، كما قال له عمر يوم السقيفة بمحضر المهاجرين والأنصار أنت سيدنا وخيرنا ، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم ينكر ذلك أحد ، وهذا أيضا في الصحيحين(2) .
والمسلمون اختاروه كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث الصحيح لعائشة : (( ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا، لا يختلف عليه الناس من بعدي ، ثم قال يأبى الله والمؤمنون أن يتولى غير أبي بكر ))(3) فالله هو ولاه قدرا ، وشرعا ، وأمر المؤمنين ، بولايته ، وهداهم إلى أن ولوه من غير أن يكون طلب ، ذلك لنفسه .
(الوجه الثالث ) : أن يقال فهب أنه طلبها وبايعه أكثر الناس فقولكم : أن ذلك طلب للدنيا كذب ظاهر .
فإن أبا بكر لم يعطهم دنيا ، وكان قد أنفق ماله في حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولما رغب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الصدقة جاء بماله كله ، فقال له:((ما تركت لأهلك . قال :تركت لهم الله ، ورسوله ))(4)
والذين بايعوه هم أزهد الناس في الدنيا ، وهم الذين أثنى الله عليهم.
وقد علم الخاص والعام زهد عمر ، وأبي عبيدة ، وأمثالهما ، وإنفاق الأنصار أموالهم كأسيد بن حضير ، وأبي طلحة ، وأبي أيوب وأمثالهم .
__________
(1) انظر البخاري ج8 ص 140 – 142 .
(2) انظر الذي قبله .
(3) وقد سبق ذكره ص 63 .
(4) انظر البخاري ج2 ص 112 وغيره .(173/96)
ولم يكن عند موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لهم بيت مال يعطيهم ما فيه ، ولا كان هناك ديوان للعطاء يفرض لهم فيه ، والأنصار كانوا في أملاكهم ، وكذلك المهاجرون من كان له شيء من مغنم أو غيره فقد كان له .
وكانت سيرة أبي بكر في قسم الأموال التسوية ، وكذلك سيرة علي( ، فلو بايعوا عليّا أعطاهم ما أعطاهم أبو بكر ، مع كون قبيلته أشرف القبائل ، وكون بني عبد مناف وهم أشراف قريش الذين هم اقرب العرب من بني أمية وغيرهم إذ ذلك كأبي سفيان بن حرب وغيره ، وبني هاشم كالعباس وغيره ، كانوا معه .
فقد أراد أبو سفيان وغيره أن تكون الإمارة في بني عبد مناف ، على عادة الجاهلية فلم يجبه إلى ذلك علي ولا عثمان ، ولا غيرهما لعلمهم ، أو دينهم فأيّ رياسة ، وأي مال كان لجمهور المسلمين بمبايعة أبي بكر ، لا سيما وهو يسوّي بين السابقين والأولين ، وبين آحاد المسلمين في العطاء ، ويقول : إنما أسلموا لله وأجورهم على الله ،وإنما هذا المتاع بلاغ .
وقال لعمر لما أشارعليه بالتفضيل في العطاء : أفأشتري منهم إيمانهم ؟
فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم أولا ، كعمر وأبي عبيدة وأسيد بن حضير وغيرهم ، سوّى بينهم وبين الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح ، وبين من أسلم بعد موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، فهل حصل لهؤلاء من الدنيا بولايته شيء .
(الوجه الرابع ) : أن يقال : أهل السنّة مع الرافضة كالمسلمين مع النصارى ، فإن المسلمين يؤمنون بأن المسيح عبد الله ورسوله ، ولا يغلون فيه غلو النصارى ، ولا يجفون جفاء اليهود .
والنصارى تدعى فيه الإلهية وتريد أن تفضله على محمد وإبراهيم وموسى ، بل تفضل الحواريين على هؤلاء الرسل .(173/97)
كما تريد الروافض أن تفضل من قاتل مع علي كمحمد بن أبي بكر والأشتر النخعي على أبي بكر وعمر وعثمان وجمهور المهاجرين والأنصار ، فالمسلم إذا ناظر النصراني لا يمكنه أن يقول في عيسى إلا الحق ، لكن إذا أردت أن تعرف جهل النصراني وأنه لا حجة له فقدّر المناظرة بينه وبين اليهود .
فإن النصراني لا يمكنه أن يجيب عن شبهة اليهودي(1) إلا بما يجيب به المسلم، فإن لم يدخل في دين الإسلام وإلا كان منقطعا مع اليهودي ، فإنه إذا أمر بالإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم .
فإن قدح في نبوته بشيء من الأشياء ، لم يمكنه أن يقول شيئا إلا قال اليهودي في المسيح ما هو أعظم من ذلك ، فإن البينات لمحمد أعظم من البينات للمسيح .
وبعد أمره عن الشبهة ، أعظم من بعد المسيح عن الشبهة ، فإن جاز القدح فيما دليله أعظم وشبهته أبعد عن الحق ، فالقدح فيما دونه أولى .
وإن كان القدح في المسيح باطلا فالقدح في محمد أولى بالبطلان ، فإنه إذا بطلت الشبهة القوية فالضعيفة أولى بالبطلان ، وإذا ثبتت الحجة التي غيرها أقوى منها فالقوية أولى بالإثبات .
ولهذا كان مناظرة كثير من المسلمين للنصارى من هذا الباب كالحكاية المعروفة عن القاضي أبي بكر بن الطيب ، لما أرسله المسلمون إلى ملك النصارى بالقسطنطينية ، فإنهم عظموه ، وعرف النصارى قدره ، فخافوا أن لا يسجد للملك إذا دخل ، فأدخلوه من باب صغير ليدخل منحنيا ، ففطن لمكرهم ، فدخل مستدبرا متلقيا لهم بعجزه .
__________
(1) يعني أن اليهود يرمون مريم بالفجور ، وما دام النصراني يكذب ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكنه الرد على اليهود في أمر عيسى . لأن عيسى أمر بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فإذا امتنع النصارى من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم صار ذلك فيه كذيب لعيسى .(173/98)
ففعل نقيض ما قصدوه ، ولما جلس وكلموه ، أراد بعضهم القدح في المسلمين ، فقال له ما قيل في عائشة امرأة نبيكم ، يريد إظهار قول الإفك الذي يقوله من يقول من الرافضة ، أيضا .
فقال القاضي ثنتان قدح فيهما ورميتا بالزنا إفكا وكذبا ، مريم وعائشة فأما مريم فجاءت بالولد تحمله من غير زوج ، وأما عائشة فلم تأت بولد مع أنه كان لها زوج ، فأبهت النصارى .
وكان مضمون كلامه أن ظهور براءة عائشة أعظم من ظهور براءة مريم ، وأن الشبهة إلى مريم أقرب منها إلى عائشة ، فإذا كان مع هذا قد ثبت كذب القادحين في مريم ، فثبوت قدح الكاذبين في عائشة أولى .
ومثل هذه المناظرة أن يقع التفضيل بين طائفتين ، ومحاسن إحداهما أكثر وأعظم ومساويها أقل وأصغر ، فإذا ذكر ما فيها من ذلك عورض بأن مساوئ تلك أعظم ، كقوله تعالى : { يسئلونكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٌ فِيه قُل قِتَالٌ فيهِ كَبِير } ثم قال : { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرَ عِنْدَ الله وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرَ مِنَ الْقَتْل } (1) فإن الكفار عيروا سرية من سرايا المسلمين بأنهم قتلوا ابن الحضرمي في الشهر الحرام ، فقال تعالى هذا كبير وما عليه المشركون من الكفر بالله والصد عن سبيله وعن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ، فإن هذا صد عما لا تحصل النجاة والسعادة إلا به ، وفيه من انتهاك المسجد الحرام ما هو أعظم من انتهاك الشهر الحرام.
لكن في هذا النوع قد اشتملت كل من الطائفتين على ما يذم ، وأما النوع الأول فيكون كل من الطائفتين لا يستحق الذم ، بل هناك شبه في الموضعين ، وأدلة في الموضعين وأدلة أحد الصنفين أقوى وأظهر ، وشبهته أضعف وأخفى ، فيكون أولى بثبوت الحق مما تكون أدلته أضعف ، وشبهته أقوى .
__________
(1) الآية 217 من سورة البقرة .(173/99)
هذا حال النصارى واليهود مع المسلمين ، وهو حال أهل البدع مع أهل السنّة لاسيما الرافضة ، وهكذا أمر أهل السنّة مع الرافضة في أبي بكر وعلي، فإن الرافضي لا يمكنه أن يثبت إيمان علي وعدالته وأنه من أهل الجنة فضلا عن إمامته إن لم يثبت ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان .
وإلا فمتى أراد إثبات ذلك لعلي وحده لم تساعده الأدلة ، كما أن النصراني إذا أراد إثبات نبوة المسيح دون محمد لم تساعده الأدلة .
فإذا قالت له الخوارج الذين يكفرون عليّا ، أو النواصب الذين يفسقونه أنه كان ظالما طالبا للدنيا ، وأنه طلب الخلافة لنفسه ، وقاتل عليها بالسيف وقتل على ذلك ألوفا من المسلمين ، حتى عجز عن انفراده بالأمر ، وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقتلوه ، فهذا الكلام إن كان فاسد ففساد كلام الرافضي في أبي بكر وعمر أعظم ،وإن كان ما قاله في أبي بكر وعمر متوجها مقبولا ، فهذا أولى بالتوجيه والقبول .
لأنه من المعلوم للخاصة والعامة أن من ولاه الناس باختيارهم ورضاهم من غير أن يضرب أحدا بالسيف ولا عصى ولا أعطى أحدا ممن ولاه من مال واجتمعوا عليه فلم يول أحد من أقاربه ، وعترته ، ولا خلف لورثته مالاً من مال المسلمين ، وكان له مال قد أنفقه في سبيل الله ، فلم يأخذ بدله ، وأوصى أن يرد إلى بيت مالهم ما كان عنده لهم ، وهو جرد قطيفة ، وبكر وأمة سوداء ، ونحو ذلك .
حتى قال عبد الرحمن بن عوف لعمر : أتسلب هذا آل أبي بكر ، قال كلا والله لا يتحنث فيها أبو بكر وأتحملها أنا ، وقال يرحمك الله يا أبا بكر لقد أتعبت الأمراء بعدك .
ثم مع هذا لم يقتل مسلما على ولايته ، ولا قاتل مسلما بمسلم ، بل قاتل بهم المرتدين عن دينهم ، والكفار حتى شرع بهم في فتح الأمصار واستخلف القوي الأمين العبقري ، الذي فتح الأمصار ونصب الديوان ، وعم بالعدل والإحسان .(173/100)
فإن جاز للرافضي أن يقول إن هذا كان طالبا للمال والرياسة ، أمكن الناصبي أن يقول : كان علي ظالما طالبا للمال والرياسة ، قاتل على الولاية حتى قتل المسلمون بعضهم بعضا ،ولم يقاتل كافراً ولم يحصل للمسلمين في مدة ولايته إلا شر وفتنة في دينهم ودنياهم .
فإن جاز أن يقال : علي كان مريدا لوجه الله ، والتقصير من غيره من الصحابة ، أو يقال كان مجتهداً مصيباً ، وغيره مخطئ مع هذه الحالة فإنه يقال كان أبو بكر وعمر مريدين وجه الله مصيبين والرافضة مقصرون في معرفة حقهم مخطئون في ذمهم بطريق الأولى والأحرى .
فإن أبا بكر وعمر كان بعدهما عن شبة طلب المال والرياسة أشد من بعد علي عن ذلك ،وشبهة الخوارج الذين ذموا عليّا وعثمان وكفروهما أقرب من شبهة الرافضة الذين ذموا أبا بكر وعمر وكفروهما ، فكيف بحال الصحابة والتابعين الذين تخلفوا عن بيعته أو قاتلوه فشبهتهم أقوى من شبهة من قدح في أبي بكر وعمر وعثمان ، فإن أولئك قالوا ما يمكننا أن نبايع إلا من يعدل علينا ،ويمنعنا ممن ظلمنا ، ويأخذ حقنا ممن ظلمنا ، فإذا لم يفعل هذا كان عاجزاً أو ظالما ، وليس علينا أن نبايع عاجزا أو ظالما .
وهذا الكلام إذا كان باطلا ، فبطلان قول من يقول أن أبا بكر وعمر كانا ظالمين طالبين للرياسة والمال أبطل وأبطل ، وهذا الأمر لا يستريب فيه من له بصر ومعرفة ، وأين شبهة مثل أبي موسى الأشعري الذي وافق عمرو على عزل علي ومعاوية ، وأن يجعل الأمر شورى في المسلمين ، من شبهة عبد الله بن سبأ وأمثاله الذين يدعون أنه إمام معصوم ، وأنه إله أو نبي .(173/101)
بل أين شبهة الذين رأوا أن يولوا معاوية من شبهة الذين يدعون أنه إله أو نبي ، فإن هؤلاء كفار باتفاق المسلمين بخلاف أولئك ، ومما يبين هذا أن الرافضة تعجز عن إثبات إيمان علي وعدالته ، مع كونهم على مذهب الرافضة ، ولا يمكنهم ذلك إلا إذا صاروا من أهل السنة ، فإذا قالت لهم الخوارج وغيرهم ممن تكفره ، أو تفسقه ، لا نسلم أنه كان مؤمناً ، بل كان كافرا أو ظالما ، كما يقولون هم في أبي بكر وعمر لم يكن لهم دليل على إيمانه وعدله ، إلا وذاك الدليل على أبي بكر وعمر وعثمان أدل .
فإن احتجوا بما تواتر من إسلامه وهجرته وجهاده فقد تواتر ذلك عن هؤلاء ، بل تواتر إسلام معاوية ويزيد وخلفاء بني أمية وبني العباس وصلاتهم وصيامهم ، وجهادهم للكفار فإن ادعوا في واحد من هؤلاء النفاق ، أمكن الخارجى أن يدعى النفاق فيه(1) .
وإذا ذكروا شبهة ، ذكر ما هو أعظم منها ، وإذا قالوا ما تقوله أهل الفرية ، من أن أبا بكر وعمر كانا منافقين في الباطن ، عدوين للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم . أفسدا دينه ، بحسب الإمكان أمكن الخارجى ان يقول ذلك في علي ويوجه ذلك بأن يقول : كان يحسد ابن عمه وأنه كان يريد إفساد دينه فلم يتمكن من ذلك في حياته وحياة الخلفاء الثلاثة حتى سعى في قتل الخليفة الثالث ، وأوقد الفتنة ، حتى غلى في قتل أصحاب محمد ، وأمته بغضا له وعداوة ، وأنه كان مباطناً للمنافقين الذين ادعوا فيه الإلهية والنبوة ، وكان يظهر خلاف ما يبطن ، لأن دينه التقية ، فلما أحرقهم بالنار، أظهر إنكار ذلك ، وإلا فكان في الباطن معهم .
ولهذا كانت الباطنية من اتباعه ،وعندهم سره ، وهم ينقلون عنه الباطن الذي ينتحلونه ، ويقول الخارجى مثل هذا الكلام الذي يروج على كثير من الناس أعظم ، مما يروج كلام الرافضة في الخلفاء الثلاثة ، لأن شبهة الرافضة أظهر فسادا من شبهة الخوارج ، وهم أصح منهم عقلا ، ومقصدا .
__________
(1) يعني في علي .(173/102)
والرافضة أكذب وأفسد دينا ، وإن أرادوا إثبات إيمانه وعدالته بنص القرآن عليه ، قيل القرآن عام وتناوله له ليس بأعظم من تناوله لغيره ، وما من آية يدعون اختصاصها به إلا أمكن أن يدعى اختصاصها أو اختصاص مثلها أو أعظم منها بأبي بكر وعمر .
فباب الدعوى بلا حجة ممكنة ، والدعوى في فضل الشيخين أمكن منها في فضل غيرهما ، وإن قالوا ثبت ذلك بالنقل والرواية ، فالنقل والرواية في أولئك أكثر وأشهد ، فإن ادعوا تواتراً ، فالتواتر هناك أصح ، وإن اعتمدوا على نقل الصحابة فنقلهم لفضائل أبي بكر وعمر أكثر ، ثم هم يقولون : أن الصحابة ارتدوا إلا نفرا قليلا فكيف تقبل رواية هؤلاء في فضيلة أحد ، ولم يكن في الصحابة رافضة كثيرون ، يتواتر نقلهم ، فطريق النقل مقطوعا عليهم، إن لم يسلكوا طريق أهل السنة ، كما هو مقطوع على النصارى في إثبات نبوة المسيح إن لم يسلكوا طريق المسلمين .
وهذا كمن أراد أن يثبت فقه ابن عباس دون علي ، أو فقه علقمة والأسود دون ابن مسعود ، ونحو ذلك من الأمور التي يثبت فيها للشيء حكم دون ما هو أولى بذلك الحكم منه ، فإن هذا تناقض ممتنع عند من سلك طريق العلم والعدل .
ولهذا كانت الرافضة من أجهل الناس وأضلهم ، كما أن النصارى من أجهل الناس ، والرافضة من أخبث الناس ، كما أن اليهود من أخبث الناس ، ففيهم نوع من ضلال النصارى ،ونوع من خبث اليهود .(173/103)
(الوجه الخامس): أن يقال : تمثيل هذا بقصة عمر بن سعد طالبا للرياسة والمال مقدما على المحرّم لأحل ذلك فيلزم أن يكون السابقون الأولون بهذه الحال ، وهذا أبوه سعد بن أبي وقاص، كان من أزهد الناس في الإمارة والولاية ، ولما وقعت الفتنة اعتزل الناس في قصره بالعقيق ، وجاءه عمر ابنه هذا فلامه على ذلك ، وقال له الناس في المدينة يتنازعون الملك وأنت ههنا؟ فقال : (( اذهب فإني سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفيّ ))(1) .
هذا ولم يكن قد بقي أحد من أهل الشورى غيره وغير علي رضي الله عنهما ، وهو الذي فتح العراق ، وأذل جنود كسرى وهو آخر العشرة موتا.
فإذا لم يحسن أن يشبه بابنه عمر أيشبه به أبو بكر وعمر وعثمان ، هذا وهم لا يجعلون محمد بن أبي بكر بمنزلة أبيه ، بل يفضلون محمداً ويعظمونه ، ويتولونه لكونه آذى عثمان وكان من خواص أصحاب علي لأنه كان ربيبه ، ويسبون أباه أبا بكر ويلعنونه ، فلو أن النواصب فعلوا بعمر بن سعد مثل ذلك فمدحوه على قتل الحسين ، لكونه كان من شيعة عثمان ، ومن المنتصرين له ، وسبوا أباه سعد لكونه تخلف عن القتال مع معاوية والانتصار لعثمان ، هل كانت النواصب لو فعلت ذلك إلا من جنس الرافضة .
بل الرافضة شر منهم ، فإن أبا بكر أفضل من سعد ، وعثمان كان أبعد عن استحقاق القتل من الحسين ، وكلاهما مظلوم وشهيد رضي الله تعالى عنهما ، ولهذا كان الفساد الذي حصل في الأمة بقتل عثمان أعظم من الفساد الذي حصل في الأمة بقتل الحسين .
__________
(1) انظر المسند ج3 ص26 تحقيق أحمد شاكر ، وانظر صحيح مسلم ج4 ص2277.(173/104)
وعثمان من السابقين الأولين وهو خليفة مظلوم طلب منه أن ينعزل بغير حق فلم ينعزل ولم يقاتل عن نفسه حتى قتل ، والحسين( لم يكن متوليا وإنما كان طالبا للولاية ، حتى رأى أنها متعذرة وطلب منه ليستأسر ليحمل إلى يزيد مأسورا ، فلم يجب إلى ذلك وقاتل حتى قتل مظلوما ، شهيدا ، فظلم عثمان كان أعظم وصبره وحلمه كان أكمل ، وكلاهما مظلوم شهيد ، ولو مثل ممثل طلب علي والحسين للأمر بطلب الإسماعيلية كالحاكم وأمثاله وقال إن علي والحسين كانا ظالمين طالبين للرياسة من غير حق ، بمنزلة الحاكم وأمثاله من ملوك بني عبيد ، أما كان يكون كاذبا مفتريا في ذلك لصحة إيمان الحسن والحسين ، ودينهما وفضلهما ، ولنفاق هؤلاء وإلحادهم .
وكذلك من شبه عليا والحسين ببعض من قام من الطالبيين أو غيرهم بالحجاز ، أو الشرق أو الغرب يطلب الولاية بغير حق ، ويظلم الناس في أموالهم وأنفسهم ، أما كان يكون ظالما كاذبا ؟ فالمشبه بأبي بكر وعمر بعمر بن سعد أولى بالكذب والظلم ، ثم غاية عمر بن سعد وأمثاله ، أن يعترف بأنه طلب الدنيا بمعصية يعترف أنها معصية ، وهذا ذنب كثير وقوعه من المسلمين .
وأما الشيعة فكثيرمنهم يعترفون بأنهم إنما قصدوا بالملك إفساد دين الإسلام ، ومعاداة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما يعرف ذلك من خطاب الباطنية وأمثالهم ، من الداخلين في الشيعة ، فإنهم يعترفون بأنهم في الحقيقة لا يعتقدون دين الإسلام ، وإنما يتظاهرون بالتشيع لقلة عقل الشيعة وجهلهم ليتوصلوا بهم إلى أغراضهم .
... وأوّل هؤلاء ، بل خيارهم هو المختار بن أبي عبيد الكذاب ، فإنه كان أمير الشيعة ، وقتل عبيد الله بن زياد ، وأظهر الانتصار للحسين ، حتى قتل قاتله وتقرب بذلك إلى محمد بن الحنفية وأهل البيت ، ثم ادعى النبوة وأن جبريل يأتيه ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : (( سيكون في ثقيف كذاب ومبير ))(1) .
__________
(1) مسلم ج4 ص 1971 .(173/105)
فكان الكذاب هو المختار بن أبي عبيد ، وكان المبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي ، ومن المعلوم أن عمر بن سعد أمير السرية التي قتلت الحسين، مع ظلمه وتقديمه الدنيا على الدين ، لم يصل في المعصية إلى فعل المختار بن أبي عبيد ، الذي أظهر الانتصار للحسين ، وقتل قاتله بل كان هذا أكذب وأعظم ذنبا من عمر بن سعد .
فهذا الشيعي شر من ذلك الناصبي ، بل والحجاج بن يوسف خير من المختار بن أبي عبيد ، فإن الحجاج كان مبيرا كما سماه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم –يسفك الدماء بغير حق ، والمختار كان كذابا يدعى الوحي وإتيان جبريل إليه ، وهذا الذنب أعظم من قتل النفوس ، فإن هذا كفر وإن لم يتب منه كان مرتدا ، والفتنة أعظم من القتل .
وهذا باب مطرد لا تجد أحداً ممن تذمه الشيعة بحق أو باطل إلا وفيهم من هو شر منه ، ولا تجد أحداً ممن تمدحه الشيعة إلا وفيمن تمدحه الخوارج من هو خير منه ، فإن الروافض شر من النواصب ،والذين تكفرهم أو تفسقهم الروافض ، هم أفضل من الذين تكفرهم أو تفسقهم النواصب .
وأما أهل السنة فيتولون جمع لمؤمنين ، ويتكلمون بعلم وعدل ليسوا من أهل الجهل ، ولا من أهل الأهواء ، ويتبرءون من طريقة الروافض والنواصب جميعا ، ويتولون السابقين الأولين كلهم ،ويعرفون قدر الصحابة ، وفضلهم ، ومناقبهم ،ويرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم ، ولا يرضون بما فعله المختار ونحو من الكذابين ، ولا ما فعل الحجاج ونحوه من الظالمين .
ويعلمون مع هذا مراتب السابقين الأولين ، فيعلمون أن لأبي بكر وعمر من التقدم والفضائل ما لم يشاركهما فيهما أحد ، من الصحابة لا عثمان ولا علي ولا غيرهما ، وهذا كان متفقا عليه في الصدر الأول ، إلا أن يكون خلاف شاذ لا يعبأ به .(173/106)
حتى إن الشيعة الأولى أصحاب علي لم يكونوا يرتابون في تقديم أبي بكر وعمر عليه ، فكيف وقد ثبت عنه من وجوه متواترة أنه كان يقول : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ، ولكن كان طائفة من شيعة علي ، تقدمه على عثمان ، وهذه المسألة أخفى من تلك ، ولهذا كان أئمة أهل السنة متفقين على تقديم أبي بكر وعمر كما في مذهب أبي حنيفة ، والشافعي ، ومالك ، وأحمد بن حنبل ، والثورى ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وسائر أئمة المسلمين ، من أهل الفقه والحديث والزهد والتفسير من المتقدمين والمتأخرين.
وأما عثمان وعلي فكان طائفة من أهل المدينة يتوقفون فيهما ، وهي إحدى الروايتين عن سفيان الثوري ، ثم قيل إنه رجع عن ذلك لما اجتمع به أيوب السختياني ، وقال من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار ، وسائر أئمة السنة على تقديم عثمان وهو مذهب جماهير أهل الحديث وعليه يدل النص ، والإجماع والاعتبار .
وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من تقديم جعفر أو تقديم طلحة أو نحو ذلك فذلك في أمور مخصوصة لا تقديما عاما ، و كذلك ما ينقل عن بعضهم في علي .
وأما قوله : فبعضهم اشتبه الأمرعليه ورأى لطالب الدنيا مبايعا فقلده ،
وبايعه وقصر في نظره فخفي عليه الحق فاستحق المؤاخذة من الله تعالى ، بإعطاء الحق لغير مستحقه ، قال : وبعضهم قلد لقصور فطنته ، ورأى الجم الغفير فتابعهم ، وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب ، وغفل عن قوله تعالى :
{ وَقَلِيلٌ مَا هُم } (1) ، { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور } (2) .
فيقال لهذا المفترى : الذي جعل الصحابة الذين بايعوا أبا بكر ثلاثة أصناف أكثرهم طلبوا الدنيا وصنف قصروا في النظر ، وصنف عجزوا عنه، لأن الشر إما أن يكون لفساد القصد . وإما أن يكون للجهل ، والجهل إما أن يكون لتفريط في النظر ، وإما أن يكون لعجز عنه .
__________
(1) الآية 24 من سورة ص .
(2) الآية 24 من سورة ص .(173/107)
وذكر أنه كان في الصحابة وغيرهم من قصر في النظر حين بايع أبا بكر ، ولو نظر لعرف الحق ، وهذا يؤاخذ على تفريطه ، بترك النظر الواجب، وفيهم من عجز عن النظر ، فقلد الجم الغفير ، يشير بذلك إلى سبب مبايعة أبي بكر .
فيقال له هذا من الكذب الذي لا يعجز عنه أحد ، والرافضة قوم بهت فلو طلب من هذا المفتري دليل على ذلك لم يكن له على ذلك دليل ، والله تعال قد حرم القول بغير علم ، فكيف إذا كان المعروف ضد ما قاله فلو لم نكن نحن عالمين بأحوال الصحابة لم يجز أن نشهد عليهم بما لا نعلم من فساد القصد ، والجهل بالمستحق . قال تعالى : { ولا تقفُ ما ليس لك به علم إنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أولئِكَ كان عنهُ مَسئولاً } (1) وقال تعالى : { َها أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمُ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْم } (2) فكيف إذا كنا نعلم أنهم كانوا أكمل هذه الأمة عقلا ، وعلما ، ودينا ، كما قال فيهم عبد الله بن مسعود : (( من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات ، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد كانوا والله أفضل هذه الأمة ، وأبرها قلوبا ، وأعمقها علما وأقلها تكلفا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ، وإقامة دينه، فأعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم ، في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ، ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ))(3) . رواه غير واحد منهم ابن بطة ، عن قتادة .
__________
(1) الآية 36 من سورة الإسراء .
(2) الآية 66 من سورة آل عمران .
(3) انظر المسند ج5 ص211 تحقيق أحمد شاكر ، وقال الهيثمي : رواه أحمد والبزار ، والطبراني في الكبير . مجمع الزوائد ج1 ص177(173/108)
وروى هو وغيره بالأسانيد المعروفة إلى زر بنت حبيش ، قال : قال عبد الله بن مسعود : (( إن الله تبارك وتعالى نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه ، وابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على دينه ، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء ))(1) .
وفي رواية قال أبو بكر بن عياش الراوي لهذا الأثر ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود( ، وقد رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر .
فقول عبد الله بن مسعود كانوا أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، كلام جامع بين فيه حسن قصدهم ونياتهم ، ببر القلوب وبين فيه كمال المعرفة ودقتها بعمق العلم ، وبين فيه تيسر ذلك عليهم وامتناعهم من القول بلا علم ، بقلة التكلف وهذا خلاف ما قاله هذا المفترى الذي وصف أكثرهم بطلب الدنيا ، وبعضهم بالجهل ، إما عجزا وإما تفريطا والذي قاله عبد الله حق فإنهم خير هذه الأمة ، كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حيث قال : (( خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ))(2) .وهم أفضل الأمة الوسط الشهداء على الناس ، الذين هداهم الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، فليسوا من المغضوب عليهم الذين يتبعون أهواءهم ، ولا من الضالين الجاهلين ، كما قسمهم هؤلاء المفترون ، إلى ضلال وغواة ، بل لهم كمال العلم ،وكمال القصد .
__________
(1) انظر المرجع السابق .
(2) تقدمت الإشارة إلى مواضعه انظر ص.(173/109)
إذ لو لم يكن كذلك للزم أن لا تكون هذه الأمة خير الأمم ،وأن لا يكونوا خير الأمة وكلاهما خلاف الكتاب والسنة ، وأيضا فالاعتبار العقلي يدل على ذلك ، فإن من تأمل أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، وتأمل أحوال اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين ، تبين له من فضيلة هذه الأمة على سائر الأمم في العلم النافع ،والعمل الصالح ، ما يضيق هذا الموضع عن بسطه .
والصحابة أكمل الأمة في ذلك بدلالة الكتاب والستة والإجماع ، والاعتبار ولهذا لا تجد أحدا من أعيان الأمة إلا وهو معترف بفضل الصحابة عليه ، وعلى أمثاله ، وتجد من ينازع في ذلك كالرافضة من أجهل الناس ، ولهذا لا يوجد في أئمة الفقه الذين يرجع إليهم رافضي ، ولا في أئمة الحديث ولا في أئمة الزهد والعبادة ، ولا في أئمة الجيوش المؤيدة المنصورة رافضي، ولا في الملوك الذين نصروا الإسلام وأقاموه وجاهدوا عدوه من هو رافضي، ولا في الوزراء الذين لهم سيرة محمودة من هو رافضي .(173/110)
وأكثر ما تجد الرافضة إما في الزنادقة المنافقين الملحدين ، وإما في جهال ليس لهم علم بالمنقولات ولا بالمعقولات ، قد نشأ بالبوادي والجبال ، وتجبروا على المسلمين ، فلم يجالسوا أهل العلم والدين ، وإما في ذوي الأهواء ممن قد حصل له بذلك رياسة ومال ، أوله نسب يتعصب به كفعل أهل الجاهلية ، وأما من هو عند المسلمين من أهل العلم والدين ، فليس في هؤلاء رافضي ، لظهور الجهل والظلم في قولهم ، و تجد ظهور الرفض في شر الطوائف كالنصيرية والاسماعيلية ، والملاحدة الطرقية ، وفيهم من الكذب والخيانة وإخلاف الوعد ما يدل على نفاقهم ، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : (( آية المنافق ثلاث ،إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ))(1)– زاد مسلم – (( وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم )) وأكثر ما توجد هذه الثلاث في طوائف أهل القبلة في الرافضة.
وأيضا فيقال لهذا المفترى :هب أن الذين بايعوا الصديق كانوا كما ذكرت إما طالب دنيا وإما جاهل ، فقد جاء بعد أولئك في قرون الأمة ، من يعرف كل أحد زكاءهم ، وذكاءهم .
مثل سعيد بن المسيب ، الحسن البصري ، وعطاء بن أبي رباح ، وإبراهيم النخعي ، وعلقمة ، والأسود ، وعبيدة السلماني ، وطاوس ، ومجاهد، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء جابر بن زيد ، وعلي بن زيد ، وعلي بن الحسين ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وعروة بن الزبير ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر ، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام ، ومطرف بن الشخير ، ومحمد بن واسع ، وحبيب العجمى ، ومالك بن دينار، ومكحول ، والحكم بن عتبة ، ويزيد بن أبي حبيب ، ومن لا يحصي عددهم إلا الله .
__________
(1) انظر البخاري ج1 ص 12 وغيره ، ومسلم ج1 ص78 .(173/111)
ثم بعدهم أيوب السختياني ، وعبد الله بن عون ، ويونس بن عبيد ، وجعفر بن محمد ، والزهري، وعمرو بن دينار ، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، وأبو الزناد ، ويحيى بن أبي كثير ، وقتادة ، ومنصور بن المعتمر ، والأعمش ، وحماد بن أبي سليمان ، وهشام الدستوائي، وسعيد بن أبي عروبة .
ومن بعد هؤلاء مثل ، مالك بن انس ، وحماد بن زيد ، وحماد بن سلمة ، والليث بن سعد ، والأوزاعي ، وأبي حنيفة ، وابن أبي ليلى ، وشريك، وابن أبي ذئب ، وابن الماجشون .
ومن بعدهم ، مثل يحيى بن سعيد القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، ووكيع بن الجراح ، وعبد الرحمن بن القاسم ، وأشهب بن عبد العزيز ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحق بن راهويه ، وأبي عبيد ، وأبي ثور ، ومن لا يحصى عدده إلا الله تعالى ،ممن ليس لهم غرض في تقديم غير الفاضل لا لأجل رياسة ،ولا مال .
وممن هم اعظم الناس نظرا في العلم وكشفا لحقائقه ، وهم كلهم متفقون على تفضيل أبي بكر وعمر .
بل الشيعة الأولى الذين كانوا على عهد علي كانوا يفضلون أبا بكر وعمر ، قال أبي القاسم سألت مالكا عن أبي بكر وعمر، فقال : مارأيت أحدا ممن اقتدى به يشك في تقديمهما. يعني على علي وعثمان فحكى إجماع أهل المدينة على تقديمهما.
وأهل المدينة لم يكونوا مائلين الى بني أمية كما كان أهل الشام ، بل قد خلعوا بيعة يزيد ، وحاربهم عام الحرة وجرى بالمدينة ما جرى .
ولم يكن أيضا قتل علي منهم أحدا كما قتل من أهل البصرة ومن أهل الشام ، بل كانوا يعدّونه من علماء المدينة ، إلى أن خرج منها ، وهم متفقون على تقديم أبي بكر وعمر .(173/112)
وروى البيهقي بإسناده عن الشافعي . قال : لم يختلف الصحابة والتابعون في تقديم أبي بكر وعمر ، وقال شريك بن أبي نمر : وقال له قائل أيما أفضل أبو بكر أو علي ؟ فقال له : أبو بكر . فقال له السائل : تقول هذا و أنت من الشيعة ؟ فقال: نعم إنما الشيعيّ من يقول هذا ، والله لقد رقى علىّ هذه الأعواد، فقال : ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر أفكنا نردّ قوله، أفكنا نكذبه ، والله ما كان كذابا(1) .
وذكر هذا القاضي عبد الجبار في كتاب تثبت النبوة له ، وعزاه إلى كتاب أبي القاسم البلخي ، الذي صنفه في النقض على ابن الرواندي اعتراضه على الجاحظ(2) .
فكيف يقال مع هذا أن الذين بايعوه كانوا طلاب الدنيا ،أو جهالا،ولكن هذا وصف الطاعن فيهم ، فإنك لا تجد في طوائف القبلة أعظم جهلا من الرافضة، ولا أكثر حرصا على الدنيا ، وقد تدبرتهم فوجدتهم لا يضيفون إلى الصحابة عيبا إلا وهم أعظم الناس اتصافا به ، والصحابة ابعد عنه ، فهم أكذب الناس بلا ريب كمسيلمة الكذاب ، إذ قال : أنا نبي صادق، ولهذايصفون أنفسهم بالإيمان ، ويصفون الصحابة بالنفاق ،وهم أعظم الطوائف نفاقا ، والصحابة أعظم الخلق إيمانا .
وأما قوله : وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق وبايعه الأقلون الذين اعرضوا عن الدنيا وزينتها ، ولم تأخذهم بالله لومة لائم ، بل أخلصوا لله واتبعوا ما أمروا به من طاعة من يستحق التقديم ، وحيث حصل للمسلمين هذه البلية ،وجب على كل أحد النظر في الحق واعتماد الإنصاف ، وأن يقر الحق مقره، ولا يظلم مستحقه ، فقد قال تعالى: { َأَلاَ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين } (3) .
__________
(1) تقدمت الإشارة إليه ص55 وص9 .
(2) انظر في تثبيت دلائل النبوة ج 2 ص 549 .
(3) الآية 18 من سورة هود عليه السلام(173/113)
فيقال له أولا : قد كان الواجب أن يقال لما ذهب طائفة إلى كذا ، وطائفة إلى كذا ، وجب أن ينظر أي القولين أصح ، فأما إذا رضيت إحدى الطائفتين باتباع الحق ، والأُخرى باتباع الباطل ، فإن كان هذا قد تبين فلا حاجة إلى النظر ، وإن لم يتبين بعد لم يذكر حتى يتبين .
ويقال له ثانيا : قولك : أنه طلب الأمر لنفسه بحق ، وبايعه الأقلون كذب على علي( ، فإنه لم يطلب الأمر لنفسه في خلافة أبي بكر ، وعمر وعثمان ،وإنما طلبه لما قتل عثمان وبويع وحينئذ فأكثر الناس كانوا معه ، لم يكن معه الأقلون وقد اتفق أهل السنة والشيعة على أن عليا لم يدع إلى مبايعته في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، ولا بايعه على ذلك أحد.
ولكن الرافضة تدعى أنه كان يريد ذلك ، وتعتقد أنه الإمام المستحق للإمامة ، دون غيره ، لكن كان عاجزا عنه وهذا لو كان حقا لم يفدهم ، فإنه لم يطلب الأمر لنفسه ، ولا تابعه أحد على ذلك ، فكيف إذا كان باطلا.
وكذلك قوله بايعه الأقلون ، كذب على الصحابة فإنه لم يبايع منهم أحد لعلي على عهد الخلفاء الثلاثة ، ولا يمكن أحد أن يدعي هذا ، ولكن غاية ما يقول القائل انه كان فيهم من يختار مبايعته ، ونحن نعلم أن عليا لما تولى كان كثير من الناس يختار ولاية معاوية ، وولاية غيرهما ، ولما بويع عثمان كان في نفوس بعض الناس ميل إلى غيره ، فمثل هذا لا يخلو من الوجود .
وقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة وبها وما حولها منافقون ، كما قال تعالى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِنَ الأَعْرَاب مُنَافِقُون وَمِن أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُم نَحْنُ نَعْلَمُهُم } (1) وقد قال تعالى عن المشركين : { وَقَالُوا لَوْلاَ نَزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم } (2)
__________
(1) الآية 101 من سورة التوبة .
(2) الآية 31 من سورة الزخرف .(173/114)
فأحبوا أن ينزل القرآن على من يعظمونه من أهل مكة والطائف ، قال تعالى : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُم في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُم فَوْقَ بَعْض دَرَجَات } (1) .
وأما ما وصفه لهؤلاء بأنهم الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتها ، وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ، فهذا من أبين الكذب ، فإنه لم ير الزهد والجهاد في طائفة أقل منه في الشيعة ، والخوارج المارقون كانوا أزهد منهم وأعظم قتالا ، حتى يقال في المثل حملة خارجية وحروبهم مع جيوش بني أمية وبني العباس وغيرهما بالعراق والجزيرة وخراسان والمغرب وغيرهما معروفة ، وكانت لهم ديار يتحيزون فيها لا يقدر عليهم أحد .
وأما الشيعة فهم دائما مغلوبون ، مقهورون منهزمون ، وحبهم للدنيا وحرصهم عليها ظاهر ، ولهذا كاتبوا الحسين ( ، فلما أرسل إليهم ابن عمه، ثم قدم بنفسه غدروا به ، وباعوا الآخرة بالدنيا ، وأسلموه إلى عدوه ، وقاتلوه مع عدوه ، فأي زهد عند هؤلاء ، وأي جهاد عندهم .
__________
(1) الآية 32 من سورة الزخرف .(173/115)
وقد ذاق منهم علي بن أبي طالب ( من الكاسات المرة ما لا يعلمه إلا الله ، حتى دعا عليهم ، فقال: اللهم إني سئمتهم وسئموني فأبدلني بهم خيرا منهم ، وأبدلهم بي شرا مني ، وقد كانوا يغشونه ويكاتبون من يحاربه ، ويخونونه في الولايات ، والأموال ، هذا ولم يكونوا بعد صاروا رافضة ، إنما سمعوا شيعة علي لما افترق الناس فرقتين ، فرقة شايعت أولياء عثمان ، وفرقة شايعت أولياء عليا رضى الله عنهما ، فأولئك خيار الشيعة ، وهم من شر الناس معاملة لعلي بن أبي طالب ( ، وابنيه سبطى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وريحانته في الدنيا الحسن والحسين ، وهم أعظم الناس قبولا للوم اللائم في الحق ، وأسرع الناس إلى الفتنة ، وأعجزهم عنها ، يغرون من يظهرون نصره من أهل البيت ، حتى إذا اطمأن إليهم ولامهم عليه اللائم ، خذلوه وأسلموه وآثروا عليه الدنيا ، ولهذا أشار عقلاء المسلمين ونصحاؤهم على الحسين أن لا يذهب إليهم ، مثل عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام وغيرهم ، لعلمهم بأنهم يخذلونه ، ولا ينصرونه ، ولا يوفون له بما كتبوا به إليه ، وكان الأمر كما رأى هؤلاء ، ونفذ فيهم دعاء عمر بن الخطاب ، ثم دعاء علي بن أبي طالب.
حتى سلط الله عليهم الحجاج بن يوسف ، كان لا يقبل من محسنهم ، ولا يتجاوز عن مسيئهم ، ودب شرهم إلى من لم يكن منهم، حتى عم الشر ، وهذه كتب المسلمين التي ذكر فيها زهاد الأمة ليس فيهم رافضي .(173/116)
كيف والرافضي من جنس المنافقين ، مذهبه التقية فهل هذا حال من لا تأخذه بالله لومة لائم ، إنما هذه حال من نعته الله في كتابه بقوله : { َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِيِنهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهَ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمْ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيم } (1) .
وهذه حال من قاتل المرتدين ، وأولهم الصديق ، ومن اتبعه إلى يوم القيامة ، فهم الذين جاهدوا المرتدين ، كأصحاب مسيلمة الكذاب ، ومانعي الزكاة ، وغيرهما وهم الذين فتحوا الأمصار، وغلبوا فارس والروم ، وكانوا أزهد الناس ، كما قال عبد الله بن مسعود لأصحابه : أنتم أكثر صلاة وصياما من أصحاب محمد ، وهم كانوا خيرا منكم ، قالوا : لما يا أبا عبد الرحمن ، قال: لأنهم كانوا ، أزهد في الدنيا ، وأرغب في الآخرة ، فهؤلاء هم الذين لاتأخذهم في الله لومة لائم .
بخلاف الرافضة ، فإنهم أشد الناس خوفا من لوم اللائم ،ومن عدوّهم، وهم كما قال تعالى : { َيحسبونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِم هُم الْعَدُوّ فَاحْذَرْهُم قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُون } (2) .ولا يعيشون في أهل القبلة إلا من جنس اليهود في أهل الملل . ثم يقال : من هؤلاء الذين زهدوا في الدنيا ، ولم تأخذهم في الله لومة لائم ، ممن لم يبايع أبا بكر وعمر وعثمان(م ، وبايع عليا، فإنه من المعلوم أن في زمن الثلاثة لم يكن أحد منحازا عن الثلاثة مظهراً لمخالفتهم ومبايعة علي ، بل كل الناس كانوا مبايعين لهم فغاية ما يقال أنهم كانوا يكتمون تقديم علي وليست هذه حال من لا تأخذه في الله لومة لائم .
__________
(1) الآية 54 من سورة المائدة .
(2) الآية 4 من سورة المنافقون .(173/117)
وأما في حال ولاية علي فقد كان ( من أكثر الناس لوما لمن معه على قلة جهادهم ، ونكولهم عن القتال ، فأين هؤلاء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم ، من هؤلاء الشيعة ، وإن كذبوا على أبي ذر من الصحابة وسلمان وعمار وغيرهم ، فمن المتواتر أن هؤلاء كانوا من أعظم الناس تعظيما لأبي بكر وعمر ، واتباعاً لهما ، وإنما ينقل عن بعضهم التعنت على عثمان ، لا على أبي بكر وعمر ، وسيأتي الكلام على ما جرى لعثمان ( .
ففي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، لم يكن أحد يسمى من الشيعة ، ولا تضاف الشيعة إلى أحد لا عثمان ولا علي ولا غيرهما ، فلما قتل عثمان تفرق المسلمون ، فمال قوم إلى عثمان ، ومال قوم إلى علي واقتتلت الطائفتان، وقتل حينئذ شيعة عثمان شيعة علي ، وفي صحيح مسلم عن سعد بن هشام أنه أراد أن يغزو في سبيل الله وقدم المدينة فأراد أن يبيع عقارا له فيها فيجعله في السلاح والكراع ، ويجاهد الروم حتى يموت ، فلما قدم المدينة لقي أناسا من أهل المدينة ، فنهوه عن ذلك وأخبروه أن رهطاً ستة أرادوا ذلك في حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نهاهم نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم . وقال : (( أليس لكم بي أسوة ؟)) ، فلما حدثوه بذلك راجع امرأته ، وقد كان طلقها وأشهد على رجعتها . فأتى ابن عباس وسأله عن وتر رسول الله صلى لله تعالى عليه وسلم . فقال ابن عباس : ألا أدلك علىأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؟ فقال من ؟ قال : عائشة رضى الله عنها ، فأتها فاسألها ثم ائتني فاخبرني ، بردها عليك ، قال فانطلقت إليها فأتيت على حكيم بن افلح فاستلحقته إليها فقال : ما أنا بقاربها لأني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئا فأبت فيهما لا مضيا .
... قال : فأقسمت عليه فجاء فانطلقنا إلى عائشة رضى الله عنها و ذكرا
الحديث (1)
__________
(1) انظر مسلم ج2 ص 512 .(173/118)
، وقال معاوية لابن عباس أنت على ملة علي ، فقال لا على ملة علي ، ولا على ملة عثمان ، أنا على ملة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم .
وكانت الشيعة أصحاب علي يقدمون عليه أبا بكر وعمر ، وإنما كان النزاع في تقديمه على عثمان ،ولم يكن حينئذ يسمى أحد لا إماميا ولا رافضيا وإنما سموا رافضة ، وصاروا رافضة ، لما خرج زيد بن علي بن الحسين بالكوفة ، في خلافة هشام ، فسألته الشيعة عن أبي بكر وعمر ، فترحم عليهما فرفضه قوم ، فقال رفضتموني رفضتموني . فسموا رافضة ، وتولاه قوم فسموا زيدية ، لانتسابهم إليه .
ومن حينئذ انقسمت الشيعة ، إلى رافضة إمامية وزيدية ، وكلما زادوا في البدعة زادوا في الشر ، فالزيدية خير من الرافضة ، أعلم وأصدق وأزهد ، وأشجع .
ثم بعد أبي بكر ، عمر بن الخطاب هو الذي لم تكن تأخذه في الله لومة لائم ، وكان أزهد الناس باتفاق الخلق كما قيل فيه رحم الله عمر لقد تركه الحق ما له من صديق .
ونحن لا ندعي العصمة لكل صنّف من أهل السنّة ، وإنما ندعي أنهم لا يتفقون على ضلالة ، وأن كل مسألة اختلف فيها أهل السنّة والجماعة والرافضة ، فالصواب فيها مع أهل السنّة .
وحيث تصيب الرافضة ، فلا بد أن يوافقهم على الصواب بعض أهل السنّة، وللروافض خطأ لا يوافقهم أحد عليه من أهل السنّة ، وليس للرافضة مسألة واحدة لا يوافقهم فيها أحد فانفردوا بها عن جميع أهل السنّة والجماعة إلا وهم مخطئون فيها كإمامة الإثنى عشر ، وعصمتهم .
(فصل )(173/119)
قال الرافضي : (( وذهب جميع من عدا الإمامية والاسماعيلية إلى أن الأنبياء والأئمة غير معصومين ، فجوّزوا بعثة من يجوز عليه الكذب والسهو والخطأ والسرقة ، فأي وثوق يبقى للعامة في أقوالهم ، وكيف يحصل الانقياد إليهم ، وكيف يجب اتباعهم مع تجويز أن يكون ما يأمرون به خطأ ؟ ولم يجعلوا الأئمة محصورين في عدد معين ، بل كان من بايع قرشيا انعقدت إمامته عندهم ، ووجب طاعته على جميع الخلق إذا كان مستور الحال ، وإن كان على غاية من الكفر والفسوق والنفاق )).
فيقال :الكلام على هذا من وجوه :
أحدها : أن يقال : ما ذكرته عن الجمهور من نفي العصمة عن الأنبياء وتجويز الكذب والسرقة والأمر بالخطأ عليهم ، فهذا كذب على الجمهور ، فإنهم متفقون على أن الأنبياء معصومون في تبليغ الرسالة ، ولا يجوز أن يستقر في شيء من الشريعة خطأ باتفاق المسلمين ، وكل ما يبلّغونه عن الله عز وجل من الأمر والنهي يجب طاعتهم فيه باتفاق المسلمين ، وما أخبروا به وجب تصديقهم فيه بإجماع المسلمين ، وما أمروهم به ونهوهم عنه وجبت طاعتهم فيه عند جميع فرق الأمة ، إلا عند طائفة من الخوارج يقولون: إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم معصوم فيما يبلّغه عن الله ، لا فيما يأمر هو به وينهى عنه . وهؤلاء ضُلاّل باتفاق أهل السنّة والجماعة .
وقد ذكرنا غير مرة أنه إذا كان في بعض المسلمين من قال قولا خطأ لم يكن ذلك قدحا في المسلمين ، ولو كان كذلك لكان خطأ الرافضة عيبا في دين المسلمين ، فلا يُعرف في الطوائف أكثر خطأ وكذبا منهم ، وذلك لا يضر المسلمين شيئا ، فكذلك لا يضرهم وجود مخطئ آخر غير الرافضة.
وأكثر الناس – أو كثير منهم – لا يجوِّزون عليهم الكبائر ، والجمهور
الذين يجوزون الصغائر – هم ومن يجوِّز الكبائر – يقولون : إنهم لا يُقَرُّون عليها ، بل يحصل لهم بالتوبة منها من المنزلة أعظم مما كان قبل ذلك ، كما تقدم التنبيه عليه .(173/120)
وبالجملة فليس في المسلمين من يقول : أنه يجب طاعة الرسول مع جواز أن يكون أمره خطأ ، بل هم متفقون على أن الأمر الذي يجب طاعته لا يكون إلا صوابا . فقوله : (( كيف يجب اتباعهم مع تجويز أن يكون ما يأمرون به خطأ ؟ قول لا يلزم أحدا من الأمة .
وللناس في تجويز الخطأ عليهم في الاجتهاد قولان معروفان ، وهم متفقون على أنهم لا يقرُّون عليه ، وإنما يطاعون فيما أقرُّوا عليه ، لا فيما غيَّره الله ونهى عنه ، ولم يأمر بالطاعة فيه .
وأما عصمة الأئمة فلم يَقُل بها – إلا كما قال – الإمامية والإسماعيلية. وناهيك بقول لم يوافقهم عليه إلا الملاحدة المنافقون ، الذين شيوخهم الكبار أكفر من اليهود والنصارى والمشركين !. وهذا دأب الرافضة دائما يتجاوزون عن جماعة المسلمين إلى اليهود والنصارى والمشركين في الأقوال والموالاة والمعاونة والقتال وغير ذلك .(173/121)
فهل يوجد أضل من قوم يعادون السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، ويوالون الكفار والمنافقين ؟ وقد قال الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِنْكُم وَلا َمِنْهُم وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُون . أَعَدَّ اللهُ لَهُم عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون ، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُم جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَلَهُم عَذَابٌ مُهِين . لَن تُغْنِي عَنْهُم أَمْوَالَهُم وَلاَ أَوْلاَدهُم مِنَ اللهِ شَيئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون . يَوْمَ يَبْعَثُهُم اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُم وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُم هُمُ الكَاذِبون . اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَان فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ الله أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَان أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُون . إِنَّ الَّذِينَ يُحَادّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ في الأَذَلّين . كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسِلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيز، لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر يُوَادّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم أو إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِم الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْه وَيُدْخِلُهُم جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارَ خَالِدِينَ فِيها(م وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُون } (1).
فهذه الآيات نزلت في المنافقين ، وليس المنافقون في طائفة أكثر منهم في الرافضة ، حتى أنه ليس في الروافض إلا من فيه شعبة من شعب النفاق .
__________
(1) الآيات 14 –22 من سورة المجادلة .(173/122)
كما فال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : (( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من خصل النفاق حتى يدعها : إذا حدّث كذب ، وإذا اؤتمن خان ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر)) أخرجاه في الصحيحين(1) .
قال تعالى : { َترَىَ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُم أَنْفُسُهُم أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُم خَالِدُون . وَلَو كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُم أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُون } (2) وقال تعالى : { ُلعنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُون . كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ، تَرَى كَثِيرًا مِنْهُم يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } (3) .
وهم غالبا لا يتناهون عن منكر فعلوه ، بل ديارهم أكثر البلاد منكرا من الظلم والفواحش وغير ذلك ، وهم يتولون الكفار الذين غضب الله عليهم ، فليسوا مع المؤمنين ولا مع الكفار ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَا هُم مِنْكُم وَلاَ مِنْهُم } (4) .
__________
(1) البخاري ج1 ص12 ومواضع أُخر ، ومسلم ج1 ص 102 .
(2) الآيتان 80 -81 من سورة المائدة .
(3) 2 ) الآيات 78 – 80 من سورة المائدة .
(4) 3 ) الآية 14 من سورة المجادلة .(173/123)
ولهذا هم عند جماهير المسلمين نوع آخر ، حتى إن المسلمين لما قاتلوهم بالجبل الذي كانوا عاصين فيه بساحل الشام ، يسفكون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم ، ويقطعون الطريق ، استحلالا لذلك وتدينا به ، فقاتلهم صنف من التركمان ، فصاروا يقولون : نحن مسلمون ، فيقولون :لا ، أنتم جنس آخر خارجون عن المسلمين لامتيازهم عنهم .
وقد قال الله تعالى: { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُون } (1) .
وهذا حال الرافضة ،وكذلك: { َاتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله } إلى قوله : { لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَه ... } الآية (2) وكثير منهم يواد الكفار من وسط قلبه أكثر من موادّته للمسلمين . ولهذا لما خرج الترك الكفار من جهة المشرق فقاتلوا المسلمين وسفكوا دماءهم ، ببلاد خراسان والعراق والشام والجزيرة وغيرها ، كانت الرافضة معاونة لهم على قتال المسلمين ، ووزير بغداد المعروف بالعلقمي هو وأمثاله كانوا من أعظم الناس معاونة لهم على المسلمين ، وكذلك الذين كانوا بالشام بحلب وغيرها من الرافضة كانوا من أشد الناس معاونة لهم على قتال المسلمين . وكذلك النصارى الذين قاتلهم المسلمون بالشام كانت الرافضة من أعظم أعوانهم ، وكذلك إذا صار لليهود دولة بالعراق وغيره تكون الرافضة من أعظم أعوانهم ، فهم دائما يوالون الفار من المشركين واليهود والنصارى ، ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم .
__________
(1) 4 ) الآية 14 من سورة المجادلة .
(2) 5 ) الآيات 16 – 22 من سورة المجادلة .(173/124)
ثم إن هذا ادّعى عصمة الأئمة دعوى لم يقم عليها حجة ، إلا ما تقدم من أن الله لم يخل العالم من أئمة معصومين لما في ذلك من المصلحة واللطف، ومن المعلوم المتيقن أن هذا المنتظر الغائب المفقود لم يحصل به شيء من المصلحة واللطف ، سواء كان ميتا ، كما يقوله الجمهور ، أو كان حيا ، كما تظنه الإمامية . وكذلك أجداده المتقدمون لم يحصل بهم شيء من المصلحة واللطف الحاصلة من إمام معصوم ذي سلطان ، كما كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة بعد الهجرة ، فإنه كان إمام المؤمنين الذي يجب عليهم طاعته ، ويحصل بذلك سعادتهم ، ولم يحصل بعده أحد له سلطان تُدعى له العصمة إلا علي ّ( زمن خلافته .
ومن المعلوم بالضرورة أن حال اللطف و المصلحة التي كان المؤمنون فيها زمن الخلفاء الثلاثة ، أعظم من اللطف والمصلحة الذي كان في خلافة علي زمن القتال و الفتنة والافتراق ، فإذا لم يوجد من يدعي الإمامية فيه أنه معصوم وحصل له السلطان بمبايعة ذي الشوكة إلا عليّ وحده ، وكان مصلحة المكلفين واللطف الذي حصل لهم في دينهم ودنياهم في ذلك الزمان أقل منه في زمن الخلفاء الثلاثة ،عُلم بالضرورة أن ما يدّعونه من اللطف والمصلحة الحاصلة بالأئمة المعصومين باطل قطعا.
وهو من جنس الهدى والإيمان الذي يُدَّعى في رجال الغيب بجبل لبنان وغيره من الجبال مثل جبل قاسيون بدمشق ، ومغارة الدم ، وجبل الفتح بمصر ، ونحو ذلك من الجبال والغيران ، فإن هذه المواضع يسكنها الجن ، ويكون بها شياطين ، ويتراءون أحيانا لبعض الناس ، ويغيبون عن الأبصار في أكثر الأوقات ، فيظن الجهال أنهم رجال من الإنس ، وإنما هم رجال من الجن .
كما قال تعالى : { وَإِنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } (1) .
__________
(1) الآية 6 من سورة الجن .(173/125)
وهؤلاء يؤمن بهم وبمن ينتحلهم من المشايخ طوائف ضالون ، لكن المشايخ الذين ينتحلون رجال الغيب لا يحصل بهم من الفساد ما يحصل بالذين يدّعون الإمام المعصوم ، بل المفسدة والشر الحاصل في هؤلاء أكثر ، فإنهم يدّعون الدعوة إلى إمام معصوم ، ولا يوجد لهم أئمة ذووا سيف يستعينون بهم ، إلا كافر أو فاسق أو منافق أو جاهل ، لا تخرج رؤوسهم عن هذه الأقسام .
والإسماعيلية شر منهم ، فإنهم يدعون إلى الإمام المعصوم ، ومنتهى دعوتهم إلى رجال ملاحدة منافقين فسّاق ، ومنهم من هو شر في الباطن من اليهود والنصارى .
فالداعون إلى المعصوم لا يدعون إلى سلطان معصوم ، بل إلى سلطان كفور أو ظلوم ، وهذا أمر مشهور يعرفه كل من له خبرة بأحوالهم .
وقد قال تعالى : { َ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } (1)، فأمر الله المؤمنين عند التنازع بالرد إلى الله والرسول ، ولو كان للناس معصوم غير الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لأمرهم بالرد إليه ، فدل القرآن على أنه لا معصوم إلا الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم .
(فصل )
وأما قوله : (( ولم يجعلوا الأئمة محصورين في عدد معين )) فهذا حق . وذلك أن الله تعالى قال : { َ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم } ، ولم يوقّتهم بعدد معين .
__________
(1) الآية 59 من سورة النساء .(173/126)
وكذلك قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الأحاديث الثابتة عنه المستفيضة لم يوقِّت ولاة الأمور في عدد معين . ففي الصحيحين عن أبي ذر قال : (( إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدّع الأطراف ))(1).
( فصل )
وأما قوله عنهم ((كل من بايع قرشيا انعقدت إمامته ووجبت طاعته على جميع الخلق إذا كان مستور الحال ، وإن كان على غاية من الفسق والكفر والنفاق )) .
فجوابه من وجوه :
أحدها : أن هذا ليس من قول أهل السنة والجماعة ، وليس مذهبهم أنه بمجرد مبايعة واحد قرشي تنعقد بيعته ، ويجب على جميع الناس طاعته ، وهذا وإن كان قد قاله بعض أهل الكلام ، فليس هو قول أهل السنة والجماعة، بل قد قال عمر بن الخطاب ( : (( من بايع رجلا بغير مشورة المسلمين ، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغِرَّة أن يُقتلا )). الحديث رواه البخاري ، وسيأتي بكماله إن شاء الله تعالى .
الوجه الثاني : أنهم لا يوجبون طاعة الإمام في كل ما يأمر به ، بل لا يوجبون طاعته إلا فيما تسوغ طاعته فيه في الشريعة ، فلا يجوّزون طاعته في معصية الله وإن كان إماما عادلاً ، وإذا أمرهم بطاعة الله فأطاعوه: مثل ان يأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والصدق والعدل والحج والجهاد في سبيل الله ، فهم في الحقيقة إنما أطاعوا الله ، والكافر والفاسق إذا أمر بما هو طاعة لله لم تحرم طاعة الله ولا يسقط وجوبها لأجل أمر ذلك الفاسق بها ، كما أنه إذا تكلم بحق لم يجز تكذيبه ولا يسقط وجوب اتباع الحق لكونه قد قاله فاسق ، فأهل السنة لا يطيعون ولاة الأمور مطلقا ، إنما يطيعونهم في ضمن طاعة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم .
كما قال تعالى: { أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم } (2)
__________
(1) 1 ) مسلم ج1 ص 448 وج3 ص 1467 وأبو داود ج2 ص 955 .
(2) 1 ) الآية 59 من سورة النساء .(173/127)
فأمر بطاعة الله مطلقا ، وأمر بطاعة الرسول لأنه لا يأمر إلا بطاعة الله { َمنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله } (1) و جعل طاعة أولي الأمر داخلة في ذلك ، فقال : (وَأُوليِ الأَمْرِ مِنْكُم ) ولم يذكر لهم طاعة ثالثة ، لأن ولي الأمر لا يطاع طاعة مطلقة ، إنما يطاع في المعروف.
كما قال النبي صلى الله تعالىعليه وسلم:((إنما الطاعة في المعروف))(2) وقال:(( لا طاعة في معصية الله ))(3)و((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق))(4) وقال : (( من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه ))(5) .
وقال هؤلاء الرافضة المنسوبين إلى شيعة علي ّ( أنه تجب طاعة غير الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم مطلقا في كل ما أمر به ، أفسد من قول من كان منسوبا إلى شيعة عثمان ( من أهل الشام من أنه يجب طاعة ولي الأمر مطلقا ، فإن أولئك كانوا يطيعون ذا السلطان وهو موجود ، وهؤلاء يوجبون طاعة معصوم مفقود .
وأيضا فأولئك لم يكونوا يدّعون في أئمتهم العصمة التي تدعيها الرافضة ،بل كانوا يجعلونهم كالخلفاء الراشدين وأئمة العدل الذين يقلدون فيما لا تعرف حقيقة أمره ، أو يقولون : إن الله يقبل منهم الحسنات ويتجاوز عن السيئات . وهذا أهون ممن يقول : أنهم معصومون ولا يخطئون .
فتبين ان هؤلاء المنسوبين إلى النصب من شيعة عثمان ، وإن كان فيهم خروج عن بعض الحق والعدل ، فخروج الإمامية عن الحق والعدل أكثر وأشد ، فكيف بقول أئمة السنة الموافق للكتاب والسنة ،وهو الأمر بطاعة ولي الأمر فيما يأمر به من طاعة الله ، دون ما يأمر به من معصية الله .
( فصل )
__________
(1) 2 ) الآية 80 من سورة النساء .
(2) 3 ) المسند ج4 ص426 ، 427 ، 436 .
(3) 4 ) المسند ج4 ص426 ، 427 ، 436 .
(4) 5 ) المسند ج5 ص 66 .
(5) 6 ) المسند ج3 ص67 وابن ماجة ج2 ص 955 .(173/128)
قال الرافضي : (( وذهب الجميع منهم إلى القول بالقياس ، والأخذ بالرأي ، فأدخلوا في دين الله ما ليس منه ، وحرّفوا أحكام الشريعة ، وأحدثوا مذاهب أربعة لم تكن في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا زمن صحابته ، وأهملوا أقاويل الصحابة ، مع أنهم نصُّوا على ترك القياس ، وقالوا : أول من قاس إبليس )) .
فيقال الجواب عن هذا من وجوه :
أحدها : أن دعواه على جميع أهل السنة المثبتين لإمامة الخلفاء الثلاثة أنهم يقولون بالقياس دعوى باطلة ، قد عُرف فيهم طوائف لا يقولون بالقياس ، كالمعتزلة البغداديين ، وكالظاهرية كداود وابن حزم وغيرهما ، وطائفة من أهل الحديث والصوفية .
وأيضا ففي الشيعة من يقول بالقياس كالزيدية . فصار النزاع فيه بين الشيعية كما هو بين أهل السنة والجماعة .
الثاني : أن يقال : القياس ولو قيل : إنه ضعيف هو خير من تقليد من لم يبلغ في العلم مبلغ المجتهدين ، فإن كل من له علم وإنصاف يعلم أن مثل مالك والليث بن سعد والأوْزاعي وأبي حنيفة والثَّوري وابن أبى ليلى ، ومثل الشافعي وأحمد إسحاق وأبى عبيد وأبى ثَوْر أعلم وأفقه من العسكريين أمثالهما.
وأيضا فهؤلاء خير من المنتظر الذي لا يعلم ما يقول ، فإن الواحد من هؤلاء إن كان عنده نص منقول عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلا ريب أن النص الثابت عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مقدَّم على القياس بلا ريب ، وإن لم يكن عنده نص ولم يقل بالقياس كان جاهلا ، فالقياس الذي يفيد الظن خير من الجهل الذي لا علم معه ولا ظن ، فإن قال هؤلاء كل ما يقولونه هو ثابت عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان هذا أضعف من قول من قال كل ما يقوله المجتهد فإنه قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، فإن هذا يقوله طائفة من أهل الرأي ، وقولهم أقرب من قول الرافضة ، فإن قول أولئك كذب صريح .(173/129)
وأيضا فهذا كقول من يقول : عمل أهل المدينة متلقى عن الصحابة وقول الصحابة متلقى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقول من يقول : ما قاله الصحابة في غير مجاري القياس فإنه لا يقوله إلا توقيفا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقوله من يقول : قول المجتهد أو الشيخ العارف هو إلهام من الله ووحي يجب اتباعه .
فإن قال : هؤلاء تنازعوا .
قيل وأولئك تنازعوا ، فلا يمكن أن تدَّعي دعوى باطلة إلا أمكن معارضتهم بمثلها أو بخير منها ولا يقولون حقًّا إلا كان في أهل السنة والجماعة من يقول مثل ذلك الحق أو ما هو خير منه ، فإن البدعة مع السنة كالكفر مع الإيمان . وقد قال تعالى : { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } (1) .
الثالث : أن يقال الذين أدخلوا في دين الله ما ليس منه وحرّفوا أحكام الشريعة ، ليسوا في طائفة أكثر منهم في الرافضة ، فإنهم أدخلوا في دين الله من الكذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما لم يكذبه غيرهم ، وردّوا من الصدق ما لم يرده غيرهم ، وحرّفوا القرآن تحريفاً لم يحرّفه أحد غيرهم مثل قولهم : إن قوله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون } (2) نزلت في عليّ لما تصدق بخاتمه في الصلاة .
وقوله تعالى : { َمرَجَ الْبَحْرَيْنِ } (3) : علي وفاطمة ، { َيخرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَان } (4) : الحسن والحسين ، { وَكُلُّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين } (5)
__________
(1) 1 ) الآية 33 من سورة الفرقان .
(2) الآية 55 من سورة المائدة .
(3) 2 ) الآية 19 من سورة الرحمن .
(4) 3 ) الآية 22 من سورة الرحمن .
(5) 4 ) الآية 12 من سورة يس .(173/130)
علي بن أبي طالب { إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيم وَآلَ عِمْرَانَ } (1)
هم آل أبي طالب واسم أبي طالب عمران ، { َفقاتلوا أَئِمَّةَ الْكُفْر } (2) :طلحة والزبير، { وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآن } (3) هم بنو أمية ، { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُم أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة } (4) :عائشة و { َلئنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } (5) :لئن أ شركت بين أبي بكر وعلي في الولاية .
وكل هذا وأمثاله وجدته في كتبهم . ثم من هذا دخلت الإسماعيلية والنصيرية في تأويل الواجبات والمحرّمات ، فهم أئمة التأويل ، الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه ، ومن تدبر ما عندهم وجد فيه من الكذب في المنقولات ، والتكذيب بالحق منها والتحريف لمعانيها ، مالا يوجد في صنف من المسلمين ، فهم قطعا أدخلوا في دين الله ما ليس منه أكثر من كل أحد ، وحرّفوا كتابه تحريفا لم يصل غيرهم إلى قريب منه .
الوجه الرابع : قوله : ((وأحدثوا مذاهب أربعة لم تكن في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا زمن صحابته ، وأهملوا أقاويل الصحابة )).
فيقال له : متى كان مخالفة الصحابة والعدول عن أقاويلهم منكراً عند الإمامية ؟ وهؤلاء متفقون على محبة الصحابة وموالاتهم وتفضيلهم على سائر القرون وعلى أن إجماعهم حجة ، وعلى أنه ليس لهم الخروج عن إجماعهم ، بل عامة الأئمة المجتهدين يصرّحون بأنه ليس لنا أن نخرج عن أقاويل الصحابة ، فكيف يطعن عليهم بمخالفة الصحابة من يقول : إن إجماع الصحابة ليس بحجة ، وينسبهم إلى الكفر والظلم ؟
فإن كان إجماع الصحابة حجة فهو حجة على الطائفتين ، وإن لم يكن حجة فلا يحتج به عليهم .
وإن قال : أهل السنة يجعلونه حجة ، وقد خالفوه .
__________
(1) 5 ) الآية 33 من سورة آل عمران .
(2) 6 ) الآية 12 من سورة التوبة .
(3) 7 ) الآية 60 من سورة الإسراء .
(4) 8 ) الآية 67 من سورة البقرة .
(5) 9 ) الآية 65 من سورة الزمر .(173/131)
قيل : أما أهل السنة فلا يتصور أن يتفقوا على مخالفة إجماع الصحابة ، وأما الإمامية فلا ريب أنهم متفقون على مخالفة إجماع العترة النبوية ، مع مخالفة إجماع الصحابة ، فإن لم يكن في العترة النبوية –بنو هاشم – على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رصى الله عنهم من يقول بإمامة الاثنى عشر ولا بعصمة أحد بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولا بكفر الخلفاء الثلاثة ، بل ولا من يطعن في إمامتهم ، بل ولا من ينكر الصفات ، ولا من يكذب بالقدر .
فالإمامية بلا ريب متفقون على مخالفة إجماع العترة النبوية ، مع مخالفتهم لإجماع الصحابة ، فكيف ينكرون على من لم يخالف لا إجماع الصحابة ولا إجماع العترة ؟ .
الوجه الخامس : أن قوله : (( أحدثوا مذاهب أربعة لم تكن على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم )). إن أراد بذلك أنهم اتفقوا على أن يحدثوا هذه المذاهب مع مخالفة الصحابة فهذا كذب عليهم ، فإن هؤلاء الأئمة لم يكونوا في عصر واحد ، بل أبو حنيفة توفى سنة خمسين ومائة ومالك سنة تسع وسبعين ومائة ، والشافعي سنة أربع ومائتين ، وأحمد بن حنبل سنة إحدى وأربعين ومائتين ، وليس في هؤلاء من يقلد الآخر ، ولا من يأمر باتّباع الناس له ، بل كل منهم يدعو إلى متابعة الكتاب والسنة ، وإذا قال غيره قولا يخالف الكتاب والسنة عنده رده ،ولا يوجب على الناس تقليده.
وإن قلت ان هذه المذاهب اتّبعهم الناس ، فهذا لم يحصل بموطأة ، بل اتفق أن قوما اتّبعوا هذا ، وقوما اتبعوا هذا ، كالحجاج الذين طلبوا من يدلهم على الطريق ، فرأى قوم هذا الدليل خبيراً فاتّبعوه ، وكذلك الآخرون .(173/132)
وإذا كان كذلك لم يكن في ذلك اتفاق أهل السنة على باطل ، بل كل قوم منهم ينكرون ما عند غيرهم من الخطأ ، فلم يتفقوا على أن الشخص المعيّن عليه أن يقبل من كل من هؤلاء ما قاله ، بل جمهورهم لا يأمرون العاميّ بتقليد شخص معيّن غير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في كل ما يقوله.
والله تعالى قد ضمن العصمة للامة ، فمن تمام العصمة أن يجعل عدداً من العلماء إن أخطأ الواحد منهم في شيء كان الآخر قد أصاب فيه حتى لا يضيع الحق ، ولهذا لما كان في قول بعضهم من الخطأ مسائل ، كبعض المسائل التي أوردها ، كان الصواب في قول الآخر ، فلم يتفق أهل السنة على ضلالة أصلا ، وأما خطأ بعضهم في بعض الدين ، فقد قدّمنا في غير مرة أن هذا لا يضر ، كخطأ بعض المسلمين . وأما الشيعة فكل ما خالفوا فيه أهل السنة كلهم فهم مخطئون فيه ، كما أخطأ اليهود والنصارى في كل ما خالفوا فيه المسلمين .
الوجه السادس : أن يُقال : قوله : (( إن هذه المذاهب لم تكن في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا الصحابة ))إن أراد أن الأقوال التي
لهم لم تنقل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا عن الصحابة ، بل تركوا قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والصحابة وابتدعوا خلاف ذلك ، فهذا كذب عليهم ، فإنهم لم يتفقوا على مخالفة الصحابة ، بل هم – وسائر أهل السنة – متبعون للصحابة في أقوالهم ، وإن قدّر أن بعض أهل السنّة خالف الصحابة لعدم علمه بأقاويلهم ، فالباقون يوافقون ويثبتون خطأ من يخالفهم ، وإن أراد أن نفس أصحابها لم يكونوا في ذلك الزمان ، فهذا لا محذور فيه . فمن المعلوم أن كل قرن يأتي يكون بعد القرن الأول .(173/133)
الوجه السابع : قوله : (( وأهملوا أقاويل الصحابة )) كذب منه ، بل كتب أرباب المذاهب مشحونة بنقل أقاويل الصحابة والاستدلال بها ، وإن كان عند كل طائفة منها ما ليس عند الأخرى . وإن قال : أردت بذلك أنهم لا يقولون : مذهب أبي بكر وعمر ونحو ذلك ، فسبب ذلك أن الواحد من هؤلاء جمع الآثار وما استنبطه منها ، فأضيف ذلك إليه ، كما تضاف كتب الحديث إلى من جمعها ، كالبخاري ومسلم وأبي داود ، ، وكما تضاف القراءات إلى من اختارها ، كنافع وابن كثير .
وغالب ما يقوله هؤلاء منقول عمن قبلهم ، وفي قول بعضهم ما ليس منقولا عمن قبله ، لكنه استنبطه من تلك الأصول . ثم قد جاء بعده من تعقب أقواله فبيّن منها ما كان خطأ عنده ، كل ذلك حفظا لهذا الدين ، حتى يكون أهله كما وصفهم الله به { َيأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر } (1) فمتى وقع من أحدهم منكر خطأ أو عمداً أنكره عليه غيره .
وليس العلماء بأعظم من الأنبياء ، وقد قال تعالى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِين . فَفَهَّمْناهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْمًا } (2) .
وثبت في الصحيحين عن ابن عمر(ما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لأصحابه عام الخندق : ((لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ، فأدركتهم صلاة العصر في الطريق ، فقال بعضهم:لم يُرد منا تفويت الصلاة ، فصلُّوا في الطريق . وقال بعضهم : لا نصلي إلا في بني قريظة ،فصلوا العصر بعد ماغربت الشمس،فما عنّف واحدة من الطائفتين ))(3) فهذا دليل على أن المجتهدين يتنازعون في فهم كلام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وليس كل واحد منهم آثماً .
__________
(1) 1 ) الآية 71 من سورة التوبة .
(2) 1 ) الآيتان 78 -79 من سورة الأنبياء .
(3) البخاري ج5 ص112 ، ومسلم ج3 ص1391.(173/134)
الوجه الثامن : أن أهل السنة لم يقل أحد منهم إن إجماع الأئمة الأربعة حجة معصومة ، ولا قال : إن الحق منحصر فيها ، وإن ما خرج عنها باطل ، بل إذا قال من ليس من أتباع الأئمة ، كسفيان الثوري والأوزاعي واللَيْث بن سعد ومن قبلهم ومن بعدهم من المجتهدين قولا يخالف قول الأئمة الأربعة ، رُدَّ ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله ، وكان القول الراجح هو القول الذي قام عليه الدليل .
الوجه التاسع : قوله : (( الصحابة نصوا على ترك القياس )) . يقال [له] : الجمهور الذين يثبتون القياس قالوا: قد ثبت عن الصحابة أنهم قالوا بالرأي واجتهاد الرأي وقاسوا ، كما ثبت عنهم ذم ما ذموه من القياس . قالوا: وكلا القولين صحيح ، فالمذموم القياس المعارض للنص ، كقياس الذين قالوا : إنما البيع مثل الربا ، وقياس إبليس الذي عارض به أمر الله له بالسجود لآدم ، وقياس المشركين الذين قالوا: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله ؟ قال الله تعالى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُم المُشْرِكُون } (1) .
وكذلك القياس الذي لا يكون الفرع فيه مشاركا للأصل في مناط الحكم، فالقياس يُذم إما لفوات شرطه ،وهو عدم المساواة في مناط الحكم، وإما لوجود مانعه ، وهو النص الذي يجب تقديمه عليه ، وإن كانا متلازمَيْن في نفس الأمر ، فلا يفوت الشرط إلا والمانع موجود ، ولا يوجد المانع إلا والشرط مفقود .
فأما القياس الذي يستوي فيه الأصل والفرع في مناط الحكم ولم يعارضه ماهو أرجح منه ، فهذا هو القياس الذي يتبع .
ولا ريب أن القياس فيه فاسد ، وكثير من الفقهاء قاسوا أقيسة فاسدة ، بعضها باطل بالنص ، وبعضها مما اتفق على بطلانه ، لكن بطلان كثير من القياس لا يقتضي بطلان جميعه ، كما أن وجود الكذب في كثير من الحديث لا يوجب كذب جميعه .
(فصل)
__________
(1) 1 ) الآية 121 من سورة الأنعام .(173/135)
قال الرافضي : (( الوجه الثاني : في الدلالة على وجوب اتّباع مذهب الإمامية : ما قاله شيخنا الإمام الأعظم خواجه نصير الملة والحق والدين محمد بن الحسن الطوسي ، قدّس الله روحه ، وقد سألته عن المذاهب فقال : بحثنا عنها وعن قول رسول الله ( : (( ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقه ،منها فرقة ناجية ، والباقي فى النار))(1) ، وقد عين الفرقة الناجية والهالكة في حديث أخر صحيح متفق عليه ، وهو قوله : (( مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح : من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق )) ، فوجدنا الفرقه الناجية هي فرقة الإمامية، لأنهم باينوا جميع المذاهب، وجميع المذاهب
قد اشتركت في أصول العقائد )).
فيقال : الجواب من وجوه:
أحدها : أن هذا الإمامي قد كَّفر من قال : ان الله موجب بالذات ، كما تقدم من قوله : يلزم أن يكون الله موجباً بذاته لا مختارا فيلزم الكفر .
وهذا الذي جعله شيخه الأعظم واحتج بقوله، هو ممن يقول بأن الله موجب بالذات ، ويقول بقدم العالم،كما ذكرذلك فى كتاب ((شرح الإشارات)) له. فيلزم على قوله أن يكون شيخه هذا الذي احتج به كافراً، والكافر لا يُقبل قوله في دين المسلمين .
الثاني: أن هذا الرجل قد اشتهر عند الخاص والعام أنه كان وزير الملاحدة الباطنية الإسماعيلية بالألموت(2)
__________
(1) 2 ) سنن أبي داود ج4 ص 276 والترمذي ج4ص134 .
(2) 1 ) اسم قلعه في جبال الديلم بناها أحد ملوك الديلم .(173/136)
، ثم لما قدم الترك المشركون الى بلاد المسلمين ، وجاءوا الى بغداد ،دار الخلافة ، كان هذا منجما مشيرا لملك الترك المشركين هولاكو أشار عليه بقتل الخليفة ، وقتل أهل العلم والدين، واستبقاء أهل الصناعات والتجارات الذين ينفعونه في الدنيا ، وأنه استولى على الوقف الذي للمسلمين ، وكان يعطي منه ما شاء الله لعلماء المشركين وشيوخهم من البخشية السحرة وأمثالهم وأنه لما بنى الرَّصد الذي بمراغة على طريق الصابئة المشركين ، كان أبخس الناس نصيبا منه من كان إلى أهلِ الملل أقرب ، وأوفرهم نصيبا من كان أبعدهم عن الملل ، مثل الصابئة المشركين ومثل المعطّلة وسائر المشركون ، وإن ارتزقوا بالنجوم والطب ونحو ذلك .
ومن المشهور عنه وعن أتباعه الاستهتار بواجبات الإسلام ومحرَّماته، لا يحافظون على الفرائض كالصلوات ، ولا ينزعون من محارم الله من الفواحش والخمر وغير ذلك من المنكرات ، حتى أنهم في شهر رمضان يُذكر عنهم من إضاعة الصلوات ، وارتكاب الفواحش ، وشرب الخمر –ما يعرفه أهل الخبرة بهم ، ولم يكن لهم قوة وظهور إلا مع المشركين ، الذين دينهم شر من دين اليهود والنصارى .
ولهذا كان كلما قوى الإسلام في المغل وغيرهم من ترك ، ضعف أمر هؤلاء لفرط معاداتهم للإسلام وأهله . ولهذا كانوا من أنقص الناس منزلة عند الأمير نوروز المجاهد في سبيل الله الشهيد ، الذي دعا ملك المغل غازان إلى الإسلام ، والتزم له أن ينصره إذا أسلم ، وقتل المشركين الذين لم يسلموا من البخشية السحرة وغيرهم ، وهدم البذخانات ، وكسر الأصنام ومزق سدنتها كل ممزق ، وألزم اليهود والنصارى بالجزية والصغار ، وبسببه ظهر الإسلام في المغل وأتباعهم .(173/137)
وبالجملة فأمر هذا الطوسى وأتباعه عند المسلمين أشهر وأعرف من أن يعرف ويوصف . ومع هذا فقد قيل : إنه كان آخر عمره يحافظ على الصلوات الخمس ويشتغل بتفسير البغوى والفقه ونحو ذلك . فإن كان قد تاب من الإلحاد فالله يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات . والله تعالى يقول: { َيا عباِديَ الَّذِينَ أَسْرَفوا عَلَى أنفسِهِمْ لا تَقْنَطوا مِن رَّحْمَة الله إنَّ اللهَ يَغْفِر الذُنوبَ جميعا } (1) .
لكن ما ذكره عن هذا ، إن كان قبل التوبة لم يُقبل قوله ، وإن كان بعد التوبة لم يكن قد تاب من الرفض ، بل من الإلحاد وحده . وعلى التقديرين فلا يُقبل قوله . والأظهر أنه إنما كان يجتمع به وبأمثاله لما كان منجما للمغل المشركين ، والإلحاد معروف من حاله إذ ذلك .
فمن يقدح في مثل أبي بكر وعمر وعثمان ، وغيرهم من السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار ، ويطعن على مثل مالك والشافعي وأي حنيفة وأحمد بن حنبل وأتباعهم ، ويعيرهم بغلطات بعضهم في مثل إباحة الشطرنج والغناء ، كيف يليق به أن يحتج لمذهبه بقول مثل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرِّمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق ، ويستحلون المحرَّمات المجمع على تحريمها ، كالفواحش والخمر ، في مثل شهر رمضان ، الذين أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات ، وخرقوا سياج الشرائع ، واستخفّوا بحرمات الدين ، وسلكوا غير طريق المؤمنين ، فهم كما قيل فيهم :
الدين يشكو بلية من فرقة فلسفية
لا يشهدون صلاة إلا لأجل التقية
ولا ترى الشرع إلا سياسة مدنية
... ... ويؤثرون عليه مناهجافلسفية
__________
(1) 1 ) الآية 53 من سورة الزمر .(173/138)
ولكن هذا حال الرافضة : دائما يعادون أولياء الله المتقين ـ من السابقين الأولين ،من المهاجرين والأنصار ، والذين اتّبعوا بإحسان ، ويوالون الكفّار والمنافقين . فإن أعظم الناس نفاقا في المنتسبين إلى الإسلام هم الملاحدة الباطنية الإسماعيلية ، فمن احتج بأقوالهم في نصرة قوله ، مع ما تقدم من طعنه على أقوال أئمة المسلمين – كان من أعظم الناس موالاة لأهل النفاق ، ومعاداة لأهل الإيمان .
ومن العجب أن هذا المصنف الرافضي الخبيث الكذّاب المفتري ، يذكر أبا بكر وعمر وعثمان ، وسائر السابقين والأوَّلين والتابعين ، وسائر أئمة المسلمين ، من أهل العلم والدين بالعظائم التي يفتريها عليهم هو وإخوانه، ويجيء إلى من قد اشتُهر عند المسلمين بمحادته لله ورسوله ، فيقول : ((قال شيخنا الأعظم )) ، ويقول ((قدس الله روحه )) مع شهادته بالكفر عليه وعلى أمثاله ،ومع لعنة طائفته لخيار المؤمنين من الأولين والآخرين .
وهؤلاء داخلون في معنى قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ نَصِيرًا } (1).
فإن هؤلاء الإمامية أوتوا نصيبا من الكتاب ، إذ كانوا مقرِّين ببعض ما في الكتاب المنزَّل ، وفيهم شعبة من الإيمان بالجبت وهو السحر ، والطاغوت وهو كل ما يعبد من دون الله ، فإنهم يعظِّمون الفلسفة المتضمنة لذلك ، ويرون الدعاء والعبادة للموتى ، واتخاذ المساجد على القبور ، ويجعلون السفر إليها حجا له مناسك ، ويقولون : (( مناسك حج المشاهد )).
__________
(1) 1 ) الآيتان 51-52 من سورة النساء .(173/139)
وحدثني الثقات أن فيهم من يرون الحج إليها أعظم من الحج إلى البيت العتيق، فيرون الإشراك بالله أعظم من عبادة الله ، وهذا من أعظم الإيمان بالطاغوت .
وهم يقولون لمن يقرُّون بكفره من القائلين بقدم العالم ودعوة الكواكب، والمسوِّغين للشرك : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ، فإنهم فضّلوا هؤلاء الملاحدة المشركين على السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. وليس هذا ببدع من الرافضة ، فقد عُرف من موالاتهم لليهود والنصارى والمشركين ،ومعاونتهم على قتال المسلمين ، ما يعرفه الخاص والعام ، حتى قيل : أنه ما اقتتل يهودي ومسلم ، ولا مشرك ومسلم – إلا كان الرافضي مع اليهودي والنصراني والمشرك.
الوجه الثالث : أنه قد عرف كل أحد أن الإسماعيلية والنصيرية هم من الطوائف الذين يظهرون التشيع ، وإن كانوا في الباطن كفّاراً منسلخين عن كل ملة ، والنصيرية هم من غلاة الرافضة الذين يدّعون إلهية عليّ وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى باتفاق المسلمين .
والإسماعيلية الباطنية أكفر منهم ، فإن حقيقة قولهم التعطيل . أما أصحاب الناموس الأكبر والبلاغ الأعظم ، الذي هو آخر المراتب عندهم ، فهم من الدهرية القائلين بأن العالم لا فاعل له : لا علة ولا خالق . ويقولون : ليس بيننا وبين الفلاسفة خلاف إلا في واجب الوجود ، ، فإنهم يثبتونه ، وهو شيء لا حقيقة له ، ويستهزئون بأسماء الله عز وجل ، ولا سيما هذا الاسم الذي هو الله ، فإن منهم من يكتبه على أسفل قدميه ويطؤه .
وأما من هو دون هؤلاء فيقول بالسابق وبالتالي ، الذين عبّروا بهما عن العقل والنفس عند الفلاسفة ، وعن النور والظلمة عند المجوس ، وركَّبوا لهم مذهبا من مذاهب الصابئة والمجوس ظاهره التشيع .
ولا ريب أن المجوس والصابئة شر من اليهود والنصارى ، ولكن تظاهروا بالتشيع .(173/140)
قالوا :لأن الشيعة أسرع الطوائف استجابة لنا ، لما فيهم من الخروج عن الشريعة ، ولما فيهم من الجهل وتصديق المجهولات .
ولهذا كان أئمتهم في الباطن فلاسفة ، كالنصير الطوسي هذا ، وكسنان البصري الذي كان بحصونهم بالشام ، وكان يقول : قد رَفَعت عنهم الصوم والصلاة والحج والزكاة .
فإذا كانت الإسماعيلية إنما يتظاهرون في الإسلام بالتشيع ، ومنه دخلوا وبه ظهروا ، وأهله هم المهاجرين إليهم ، لا إلى الله ورسوله ، وهم أنصارهم لا أنصار الله ورسوله – عُلم أن شهادة الإسماعيلية للشيعة بأنهم على حق شهادة مردودة باتفاق العقلاء .
فإن هذا الشاهد : إن كان يعرف أن ما هو عليه مخالف لدين الإسلام في الباطن ، وإنما أظهر التشيع لينفق به عند المسلمين ، فهو محتاج إلى تعظيم التشيع ، وشهادته له شهادة المرء نفسه ، فهو كشهادة الآدمي لنفسه ، لكنه في هذه الشهادة يعلم أنه يكذب ، وإنما كذب فيها كما كذب في سائر أحواله ، وإن كان يعتقد دين الإسلام في الباطن ، ويظن أن هؤلاء على دين الإسلام ، كان أيضا شاهداً لنفسه ، لكن مع جهله وضلاله .
وعلى التقديرين فشهادة المرء لنفسه لا تُقبل ، سواء علم كذب نفسه أو اعتقد صدق نفسه . كما في السنن عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : (( لا تُقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي غمر على أخيه ))(1) . وهؤلاء خصمان أظِنّاء متهمون ذو غمر على أهل السنة والجماعة ، فشهادتهم مردودة بكل طريق .
__________
(1) انظر المسند ج10 ص224 وج11 ص138 ، 163 تحقيق أحمد شاكر .(173/141)
الوجه الرابع : أن يُقال : أولا أنتم قوم لا تحتجون بمثل هذه الأحاديث، فإن هذا الحديث إنما يرويه أهل السنة بأسانيد أهل السنة ، والحديث نفسه ليس في الصحيحين ، بل قد طعن فيه بعض أهل الحديث كابن حزم وغيره ، ولكن قد رواه أهل السنن ، كأبي داود والترمذي وابن ماجة ، ورواه أهل المسانيد ، كالإمام أحمد وغيره(1) .
فمن أين لكم على أصولكم ثبوته حتى تحتجوا به ؟ وبتقدير ثبوته فهو من أخبار الآحاد ، فكيف يجوز أن تحتجوا في أصل من أصول الدين وإضلال جميع المسلمين – إلا فرقة واحدة – بأخبار الآحاد التي لا يحتجون هم بها في الفروع العملية ؟!.
وهل هذا إلا من أعظم التناقض والجهل ؟!
__________
(1) يعني حديث الافتراق رواه أبو داود ج5 ص4 ، 5 والترمذي رقم 3991 في الفتن ، وقال : إنه حسن صحيح وغيرهما وله طرق كثيرة .(173/142)
الوجه الخامس : أن الحديث روى تفسيره فيه من وجهين : أحدهما : أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سأل عن الفرقة الناجية ، فقال : (( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) وفي الرواية الأخرى قال : (( هم الجماعة )). وكل من التفسيرين يناقض قول الإمامية ، ويقتضي أنهم خارجون عن الفرقة الناجية ، فإنهم خارجون عن جماعة المسلمين : يكفرون أو يفسِّقون أئمة الجماعة ، كأبي بكر وعمر وعثمان ، دع معاوية وملوك بني أمية وبني العباس ، وكذلك يكفِّرون أو يفسِّقون علماء الجماعة وعبّادهم ، كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي وأمثال هؤلاء ، وهم أبعد الناس عن معرفة سير الصحابة والإقتداء بهم ، لا في حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا بعده ، فإن هذا إنما يعرفه أهل العلم بالحديث والمنقولات ، والمعرفة بالرجال الضعفاء والثقات ، وهم من أعظم الناس جهلا بالحديث وبغضا له ، ومعاداة لأهله ، فإذا كان وصف الفرقة الناجية : أتباع الصحابة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وذلك شعار السنة والجماعة – كانت الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة ، فالسنة ما كان صلى الله تعالى عليه وسلم هو وأصحابه عليه في عهده ، مما أمرهم به وأقرَّهم عليه أو فعله هو ، والجماعة هم المجتمعون الذين ما فرَّقوا دينهم وكانوا شيعا ، فالذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعا خارجون عن الجماعة قد برَّأ الله نبيه منهم ، فعُلم بذلك أن هذا وصف أهل السنة و الجماعة ، لا وصف الرافضة، وأن هذا الحديث وصف الفرقة الناجية باتّباع سنته التي كان عليها هو وأصحابه ، وبلزوم جماعة المسلمين .(173/143)
فإن قيل : فقد قال في الحديث : (( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) ، فمن خرج عن تلك الطريقة بعده لم يكن على طريقة الفرقة الناجية ، وقد ارتد ناس بعده فليسوا من الفرقة الناجية .
قلنا : نعم وأشهر الناس بالردة خصوم أبي بكر الصديق( وأتباعه كمسيلمة الكذَّاب وأتباعه وغيرهم . وهؤلاء تتولاهم الرافضة كما ذكر ذلك غير واحد من شيوخهم ، مثل هذا الإمامي وغيره ، ويقولون : إنهم كانوا على حق ، وأن الصديق قاتلهم بغير حق . ثم مِن أظهر الناس ردة الغالية الذين حرَّقهم علي ّ( بالنار لما ادّعوا فيه الإلهية وهم السبائية أتباع عبد الله بن سبأ الذين أظهروا سب أبي بكر وعمر .
وأول من ظهر عنه دعوى النبوة من المنتسبين إلى الإسلام المختار بن أبي عبيد وكان من الشيعة ، فعُلم أن أعظم الناس ردة هم في الشيعة أكثر منهم في سائر الطوائف ، ولهذا لا يُعرف ردة أسوأ حالا من ردة الغالية كالنصيرية ، ومن ردة الإسماعيلية الباطنية ونحوهم ، وأشهر الناس بقتال المرتدين هو أبو بكر الصديق ( ، فلا يكون المرتدون في طائفة أكثر منها في خصوم أبي بكر الصديق ، فدل ذلك على أن المرتدين الذين لم يزالوا مرتدين على أعقابهم ، هم بالرافضة أوْلى منهم بأهل السنة والجماعة .
وهذا بيِّن يعرفه كل عاقل يعرف الإسلام وأهله ، ولا يستريب أحد أن جنس المرتدين في المنتسبين إلى التشيع أعظم وأفحش كفرا من جنس المرتدين المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة ، إن كان فيهم مرتد.(173/144)
الوجه السادس : أن يقال : هذه الحجة التي احتج بها الطوسي على أن الإمامية هم الفرقة الناجية كذب في وصفها ، كما هي باطلة في دلالتها . وذلك أن قوله : (( باينوا جميع المذاهب ، وجميع المذاهب قد اشتركت في أصول العقائد )) إن أراد بذلك أنهم باينو جميع المذاهب فيما اختصوا به ، فهذا شأن جميع المذاهب ، فإن الخوارج أيضا باينوا جميع المذاهب فيما اختصوا به من التكفير بالذنوب ، ومن تكفير علي ( ، ومن إسقاط طاعة الرسول فيما لم يخبر به عن الله ، وتجويز الظلم عليه في قسْمهِ والجور في حكمه ، وإسقاط اتّباع السنة المتواترة التي تخالف ما يُظن أنه ظاهر القرآن ، كقطع السارق من المنكب وأمثال ذلك .
الوجه السابع : أن يُقال : مباينتهم لجميع المذاهب هو على فساد قولهم أدل منه على صحة قولهم ؛ فإن مجرد انفراد طائفة عن جميع الطوائف لا يدل على أنه هو الصواب ، واشتراك أولئك في قول لا يدل على أنه باطل.
فإن قيل : إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جعل أمته ثلاثا وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، فدل على أنها لا بد أن تفارق هذه الواحدة سائر الاثنتين وسبعين فرقة .(173/145)
قلنا : نعم . وكذلك يدل الحديث على مفارقة الثنتين وسبعين بعضها بعضا ، كما فارقت هذه الواحدة . فليس في الحديث ما يدل على اشتراك الثنتين والسبعين في أصول العقائد ، بل ليس في ظاهر الحديث إلا مباينة الثلاث والسبعين كل طائفة للأخرى . وحينئذ فمعلوم أن جهة الافتراق جهة ذم لا جهة مدح ، فإن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف ، وذم التفريق والاختلاف، فقال تعالى : { واْعتَصِموا بِحَبْلِ اللهِ جميعًا وَلا تَفَرَّقوا } (1) وقال : { وَلاَ تَكُونوا كالَّذينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّنَاتْ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ . يَوْمَ تَبْيَضْ وُجوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجوهٌ فَأَمّا الَّذينَ اسْوَدَّتْ وُجوهُهُم } (2) .
قال ابن عباس وغيره : تبيض وجوه أهل السنة وتسودُّ وجوه أهل البدعة والفرقة . وقال تعالى : { إنَّ الَّذينَ فَرَّقوا دِينَهُمْ وَكانوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْءٍ } (3) وقال : { وَما اخْتَلَفَ فيهِ إِلاّ الَّذينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ بَغْيًا بَينَهُم } (4) وقال: { وَما تَفَرَّقَ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ } (5) .
__________
(1) الآية 103 من سورة آل عمران .
(2) الآيتان 105 ، 106 من سورة آل عمران .
(3) الآية 159 من سورة الأنعام .
(4) الآية 213 من سورة البقرة .
(5) الآية 4 من سورة البينة .(173/146)
وإذا كان كذلك فأعظم الطوائف مفارقة للجماعة و افتراقا في نفسها أولى الطوائف الذم ، و أقلها افتراقا ومفارقة للجماعة أقربها إلى الحق . وإذا كانت الإمامية أوْلى بمفارقة سائر طوائف الأمة فهم أبعد عن الحق ، لا سيما وهم في أنفسهم أكثر اختلافا من جميع فرق الأمة ، حتى يقال : إنهم ثنتان وسبعون فرقة . وهذا القدر فيما نقله عن هذا الطوسي بعضُ أصحابه، وقال : كان يقول : الشيعة تبلغ فرقهم ثنتين وسبعين فرقة ، أو كما قال . وقد صنَّف الحسن بن موسى النوبختي وغيره في تعديد فرق الشيعة .
وأما أهل الجماعة فهم أقل اختلافا في أصول دينهم من سائر الطوائف، وهم أقرب إلى كل طائفة من كل طائفة إلى ضدّها ، فهم الوسط في أهل الإسلام كما أن أهل الإسلام هم الوسط في أهل الملل : هم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل وأهل التمثيل .
وقال صلى الله تعالى عليه وسلم : (( خير الأمور أوسطها )) وحينئذ أهل السنة والجماعة خير الفرق.
وفي باب القدر بين أهل التكذيب به وأهل الاحتجاج به ، وفي باب الأسماء والأحكام بين الوعيدية والمرجئة ، وفي باب الصحابة بين الغلاة والجفاة ، فلا يغلون في عليّ غلو الرافضة ، ولا يكفِّرونه تكفير الخوارج ، ولا يكفِّرون أبا بكر وعثمان كما تكفِّرهم الروافض ، ولا يكفِّرون عثمان وعليا كما يُكفرهما الخوارج .
الوجه الثامن : أن يقال : إن الشيعة ليس لهم قول واحد اتفقوا عليه ، فإن القول الذي ذكره هذا قول من أقوال الإمامية ، ومن الإمامية طوائف تخالف هؤلاء في التوحيد والعدل ، كما تقدم حكايته . وجمهور الشيعة تخالف الإمامية في الاثنى عشر ، فالزيدية والإسماعيلية وغيرهم متفقون على إنكار إمامة الاثنى عشر.(173/147)
وهؤلاء الإمامية الاثنا عشرية يقولون : إن أصول الدين أربعة : التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والإمامة. وهم مختلفون في التوحيد والعدل والإمامة . وأما النبوة فغايتهم أن يكونوا مقرِّين بها كإقرار سائر الأمة. واختلافهم في الإمامة أعظم من اختلاف سائر الأمة ، فإن قالت الاثنا عشرية : نحن أكثر من هذه الطوائف ، فيكون الحق معنا دونهم . قيل لهم : وأهل السنة أكثر منكم ، فيكون الحق معهم دونكم ، فغايتكم أن تكون سائر فرق الإمامية معكم بمنزلتكم مع سائر المسلمين ، والإسلام هو دين الله الذي يجمع أهل الحق .
(فصل )
قال الرافضي : ((الوجه الثالث:أن الإمامية جازمون بحصول النجاة لهم ولأئمتهم ، قاطعون بذلك ، وبحصول ضدها لغيرهم . وأهل السنة لا يجيزون ولا يجزمون بذلك لا لهم ولا لغيرهم . فيكون اتّباع أولئك أوْلى ، لأنَّا لو فرضنا مثلا خروج شخصين من بغداد يريدان الكوفة ، فوجدا طريقين سلك كل منهما طريقا ، فخرج ثالث يطلب الكوفة : فسأل أحدهما : إلى أين تذهب؟ فقال إلى الكوفة . فقال له : هل طريقك توصلك إليها ؟ وهل طريقك آمن أم مخوف ؟ وهل طريق صاحبك تؤديه إلى الكوفة ؟ وهل هو آمن أم مخوف ؟ فقال : لا أعلم شيئا من ذلك . ثم سأل صاحبه فقال أعلم أن طريقي يوصِّلني إلى الكوفة ، وأنه آمن ، وأعلم أن طريق صاحبي لا يؤديه إلى الكوفة ، وأنه ليس بآمن ، فإن الثالث إن تابع الأول عدَّه العقلاء سفيها ، وإن تابع الثاني نُسب إلى الأخذ بالحزم )) .
هكذا ذكره في كتابه ، والصواب أن يُقال : وسأل الثاني فقال له الثاني: لا أعلم أن طريقي تؤديني إلى الكوفة ولا أعلم أنه آمن أم مخوف .
والجواب على هذا من وجوه :(173/148)
أحدها :أن يُقال : إن كان اتّباع الأئمة الذين تُدَّعى لهم الطاعة المطلقة، وأن ذلك يوجب لهم النجاة واجبا ، كان اتّباع خلفاء بني أمية الذين كانوا يوجبون طاعة أئمتهم طاعة مطلقة ويقولون : إن ذلك يوجب النجاة مصيبين على الحق ، وكانوا في سبِّهم عليا وغيره وقتالهم لمن قاتلوه من شيعة عليّ مصيبين ، لأنهم كانوا يعتقدون أن طاعة الأئمة واجبة في كل شيء ، وأن الإمام لا يؤاخذه الله بذنب ، وأنه لا ذنب لهم فيما أطاعوا فيه الإمام ، بل أولئك أوْلى بالحجة من الشيعة ، لأنهم كانوا مطيعين أئمة أقامهم الله ونصيهم وأيّدهم وملّكهم ، فإذا كان مذهب القدرية أن الله لا يفعل إلا ما هو الأصلح لعباده ،كان تولية أولئك الأئمة مصلحة لعباده .
ومعلوم ان اللطف والمصلحة التي حصلت بهم أعظم من اللطف والمصلحة التي حصلت بإمام معدوم أو عاجز . ولهذا حصل لاتّباع خلفاء بني أمية من المصلحة في دينهم ودنياهم ، أعظم مما حصل لاتّباع المنتظر ؛ فإن هؤلاء لم يحصل لهم إمام يأمرهم بشيء من المعروف ، ولا ينهاهم عن شيء من المنكر ، ولا يعينهم على شيء من مصلحة دينهم ولا دنياهم ، بخلاف أولئك ؛ فإنهم انتفعوا بأئمتهم منافع كثيرة في دينهم ودنياهم ، أعظم مما انتفع هؤلاء بأئمتهم .
فتبين أنه إن كانت حجة هؤلاء المنتسبين إلى مشايعة علي ّ( صحيحة ، فحجة أولئك المنتسبين إلى مشايعة عثمان( أوْلى بالصحة ، وإن كانت باطلة فهذه أبطل منها . فإذا كان هؤلاء الشيعة متفقين مع سائر أهل السنة على أن جزم أولئك بنجاتهم إذا أطاعوا أولئك الأئمة طاعة مطلقة خطأ وضلال ، فخطأ هؤلاء وضلالهم إذا جزموا بنجاتهم لطاعتهم لمن يدّعي أنه نائب المعصوم – والمعصوم لا عين له ولا أثر – أعظم وأعظم ؛ فإن الشيعة ليس لهم أئمة يباشرونهم بالخطاب ، إلا شيوخهم الذين يأكلون أموالهم بالباطل، ويصدّونهم عن سبيل الله.(173/149)
الوجه الثاني : أن هذا المثل إنما كان يكون مطابقاً لو ثبت مقدمتان : إحداهما : أن لنا إماما معصوماً. والثانية : أنه أمر بكذا وكذا . وكلتا المقدمتين غير معلومة ، بل باطلة . دع المقدمة الأولى ، بل الثانية ، فإن الأئمة الذين يدّعى فيهم العصمة قد ماتوا منذ سنين كثيرة ، والمنتظر له غائب أكثر من أربعمائة وخمسين سنة ، وعند آخرين هو معدوم لم يوجد . والذين يُطاعون شيوخ من شيوخ الرافضة ، أو كتب صنّفها بعض شيوخ الرافضة ، وذكروا أن ما فيها منقول عن أولئك المعصومين . وهؤلاء الشيوخ المصنِّفون ليسوا معصومين بالاتفاق ، ولا مقطوعاً لهم بالنجاة .
فإذاً الرافضة لا يتّبعون إلا أئمة لا يقطعون بنجاتهم ولا سعادتهم ، فلم يكونوا قاطعين لا بنجاتهم ، ولا بنجاة أئمتهم الذين يباشرونهم بالأمر والنهي ، وهم أئمتهم ، وإنما هم في انتسابهم إلى أولئك الأئمة ، بمنزلة كثير من أتباع شيوخهم الذين ينتسبون إلى شيخ قد مات من مدة ،ولا يدرون بماذا أمر ، ولا عماذا نهى ، بل له اتباع يأكلون أموالهم بالباطل ويصدون عن سبيل الله ، يأمرونهم بالغلو في ذلك الشيخ وفي خلفائه ، وأن يتخذوهم أربابا ، وكما تأمر شيوخ الشيعة أتباعهم ، وكما تأمر شيوخ النصارى أتباعهم ، فهم يأمرونهم بالإشراك بالله وعبادة غير الله ، ويصدونهم عن سبيل الله ، فيخرجون عن حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وان محمداً رسول الله ، فإن التوحيد أن نعبد الله وحده ، فلا يُدعى إلا هو ، ولا يُخشى إلا هو ، ولا يتقى إلا هو ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يكون الدين إلا له ، لا لأحد من الخلق ، وأن لا نتخذ الملائكة والنبيين أرباباً ، فكيف بالأئمة والشيوخ والعلماء والملوك وغيرهم !؟(173/150)
والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم هو المبلِّغ عن الله أمره ونهيه ، فلا يُطاع مخلوق طاعة مطلقة إلا هو ، فإذا جُعل الغمام والشيخ كأنه إله يُدعى مع مغيبه وبعد موته ، ويُستغاث به ، ويُطلب منه الحوائج ، والطاعة إنما هي لشخص حاضر يأمر بما يريد ، وينهى عمّا يريد كان الميت مشبَّها بالله تعالى، والحي مشبهاً برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فيخرجون عن حقيقة الإسلام الذي أصله شهادة أن لا إله إلا الله ، وشهادة أن محمداً رسول الله .
ثم إن كثيراً منهم يتعلّقون بحكايات تُنقل عن ذلك الشيخ ، وكثير منها كذب عليه ، وبعضها خطأ منه ، فيَعدِلون عن النقل الصدق عن القائل المعصوم إلى نقل غير مصدَّق عن قائل غير معصوم . فإذا كان هؤلاء مخطئين في هذا ، فالشيعة أكثر وأعظم خطأ ، لأنهم أعظم كذبا فيما ينقلونه عن الأئمة ، وأعظم غلوا في دعوى عصمة الأئمة .
الوجه الثالث : منع الحكم في هذا المثال الذي ضربه وجعله أصلا قاس عليه،فان الرجل إذا قال له أحد الرجلين:طريقى آمن يوصلني،وقال له الآخر:لا علم لي بأن طريقي آمن يوصلني،أو قال ذلك الأول ، لم يحسن في العقل تصديق الأول بمجرد قوله ، بل يجوز عند العقلاء أن يكون هذا محتالا عليه ، يكذب حتى يصحبه في الطريق فيقتله ويأخذ ماله ، ويجوز أن يكون جاهلا لا يعرف ما في الطريق من الخوف ، وأما ذاك الرجل فلم يضمن للسائل شيئا ، بل رده إلى نظره ، فالحزم في مثل هذا أن ينظر الرجل أيّ الطريقين أولى بالسلوك : أحد ذينك الطريقين أو غيرهما .
فتبين أن مجرد الإقدام على الحزم لا يدل على علم صاحبه ولا على صدقه، وأن التوقف والإمساك حتى يتبين الدليل هو عادة العقلاء .
الوجه الرابع : أن يقال : قوله : (( إنهم جازمون بحصول النجاة لهم دون أهل السنة )) كذب ، فإنه إن أراد بذلك أن كل واحد ممن اعتقد اعتقادهم يدخل الجنة ، وإن تَرَك الواجبات وفَعَل المحرمات ، فليس هذا قول الإمامية ، ولا يقوله عاقل .(173/151)
وإن كان حب عليّ حسنة لا يضر معها سيئة ، فلا يضره ترك الصلوات ، ولا الفجور بالعلويّات ، ولا نيل أغراضه بسفك دماء بني هاشم إذا كان يحب عليًّا .
فإن قالوا : المحبة الصادقة تستلزم الموافقة ، عاد الأمر إلى أنه لا بد من أداء الواجبات وترك المحرمات . وإن أراد بذلك أنهم يعتقدون أن كل من اعتقد الاعتقاد الصحيح ، وأدى الواجبات ، وترك المحرّمات يدخل الجنة – فهذا اعتقاد أهل السنة ؛ فإنهم يجزمون بالنجاة لكل من اتّقى الله ، كما نطق به القرآن.
وإنما يتوقفون في الشخص المعين لعدم العلم بدخوله في المتيقن ، فإنه إذا علم أنه مات على التقوى عُلم أنه من أهل الجنة . ولهذا يشهدون بالجنة لمن شهد له الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولهم فيمن استفاض في الناس حسن الثناء عليه قولان .
فتبين أنه ليس في الإمامية جزم محمود اختُصوا به عن أهل السنة والجماعة . وإن قالوا : إنّا نجزم لكل شخص رأيناه ملتزماً للواجبات عندنا تاركاً للمحرمات ، بأنه من أهل الجنة ، من غير أن يخبرنا بباطنه معصوم . قيل : هذه المسألة لا تتعلق بالإمامية ، بل إن كان إلى هذا طريق صحيح فهو لأهل السنة ، وهم بسلوكه أحذق ، وإن لم يكن هنا طريق صحيح إلى ذلك ، كان ذلك قولا بلا علم ، فلا فضيلة فيه ، بل في عدمه .
ففي الجملة لا يدّعون علما صحيحا إلا وأهل السنة أحق به ، وما ادّعوه من الجهل فهو نقص وأهل السنة أبعد عنه .(173/152)
الوجه الخامس : أن أهل السنة يجزمون بحصول النجاة لأئمتهم أعظم من جزم الرافضة . وذلك أن أئمتهم بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هم السابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار ، وهم جازمون بحصول النجاة لهؤلاء ، فإنهم يشهدون ان العشرة في الجنة ، ويشهدون أن الله قال لأهل بدر: (( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )) ، بل يقولون : إنه ((لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة )) كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم(1) . فهؤلاء أكثر من ألف وأربعمائة إمام لأهل السنة ، يشهدون أنه لا يدخل النار منهم أحد ، وهي شهادة بعلم ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة.
الوجه السادس : أن يقال : أهل السنة يشهدون بالنجاة : إما مطلقا ، وإما معينا ، شهادة مستندة إلى علم . وأما الرافضة فإنهم إن شهدوا شهدوا بما لا يعلمون ، أو شهدوا بالزور الذي يعلمون أنه كذب ، فهم كما قال الشافعي رحمه الله : ما رأيت قوما أشهد بالزور من الرافضة .
الوجه السابع : أن الإمام الذي شهد له بالنجاة : إما أن يكون هو المطاع في كل شيء وإن نازعه غيره من المؤمنين ، أو هو مطاع فيما يأمر به من طاعة الله ورسوله ، وفيما يقوله باجتهاده إذا لم يعلم أن غيره أوْلى منه، ونحو ذلك . فإن كان الإمام هو الأول ، فلا إمام لأهل السنة بهذا الاعتبار إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهم يقولون كما قال مجاهد والحاكم ومالك وغيرهم : كل أحد يُؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله عليه السلام . وهم يشهدون لإمامهم أنه خير الخلائق ، ويشهدون ان كل من ائتم به ، ففعل ما أُمر به وترك ما نُهى عنه ، دخل الجنة . وهذه الشهادة بهذا وهذا هم فيها أتم من الرافضة من شهادتهم للعسكريِيْن وأمثالهما بأنه من أطاعهم دخل الجنة .
فثبت أن إمام أهل السنة أكمل ، وشهادتهم له ولهم إذا أطاعوه أكمل ، ولا سواء .
__________
(1) انظر البخاري ج3 ص46 ومسلم ج2 ص 822.(173/153)
ولكن قال الله تعالى : { ءآلله خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكون } (1) ،فعند المقابلة يُذكر الخير المحض على الشر المحض ، وإن كان الشر المحض لا خير فيه .
وإن أرادوا بالإمام الإمام المقيَّد ، فذاك لا يُوجب أهل السنة طاعته ، إن لم يكن ما أمر به موافقا لأمر الإمام المطلق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهم إذا أطاعوه فيما أمر الله بطاعته فيه ، فإنما هم مطيعون لله ورسوله ، فلا يضرهم توقفهم في الإمام المقيَّد : هل هو في الجنة أم لا ؟ .
الوجه الثامن : أن يُقال : إن الله قد ضمن السعادة لمن أطاعه وأطاع رسوله ، وتوعّد بالشقاء لمن لم يفعل ذلك ، فمناط السعادة طاعة الله ورسوله . كما قال تعالى : { وَمَن يُطِعْ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلئِكَ مَعَ الَّذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقينَ والشُّهَداءْ وَالصَّالِحينَ وَحَسَنَ أولَئِكَ رَفيقًا } (2) وأمثال ذلك .
وإذا كان كذلك والله تعالى يقول : { فاتَّقوا الله ما اسْتَطَعْتُمْ } (3) فمن اجتهد في طاعة الله ورسوله بحسب استطاعته كان من أهل الجنة .
فقول الرافضة : لن يدخل الجنّة إلا من كان إماميا ، كقول اليهود والنصارى : { َلنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ، تِلْكَ أَمَانِّيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ ِللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون } (4) .
__________
(1) الآية 59 من سورة النمل .
(2) الآية 69 من سورة النساء .
(3) الآية 69 من سورة النساء .
(4) الآيتان 111 ، 112 من سورة البقرة .(173/154)
ومن المعلوم أن المنتظر الذي يدّعيه الرافضي لا يجب على أحد طاعته ، فإنه لا يُعلم له قول منقول عنه ، فإذاً من أطاع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم دخل الجنة وإن لم يؤمن بهذا الإمام ، ومن آمن بهذا الإمام لم يدخل الجنة إلا إذا أطاع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، فطاعة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم هي مدار السعادة وجودا وعدما ، وهي الفارقة بين أهل الجنة والنار ، ومحمد صلى لله تعالى عليه وسلم فرّق بين الناس ، والله سبحانه وتعالى قد دل الخلق على طاعته بما بينه لهم ، فتبين أن أهل السنة جازمون بالسعادة والنجاة لمن كان من أهل السنّة .
(فصل)
قال الرافضي: الوجه الرابع : أن الإمامية أخذوا مذهبهم عن الأئمة المعصومين المشهورين بالفضل والعلم ولزهد والورع ، والاشتغال في كل وقت بالعبادة والدعاء وتلاوة القرآن ،والمداومة على ذلك من زمن الطفولة إلى آخر العمر ، ومنهم من يعلم الناس العلوم ، ونزل في حقهم : { هلْ أَتَى } وآية الطهارة ، وإيجاب المودة لهم ، وآية الابتهال وغير ذلك . وكان علي ّ( يصلّي في كل يوم وليلة ألف ركعة ، ويتلو القرآن مع شدّة ابتلائه بالحروب والجهاد .
فأولهم عليّ بن أبي طالب ( كان أفضل الخلق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وجعله الله نفس رسول الله حيث قال: { وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ } (1)
__________
(1) الآية 61 من سورة آل عمران .(173/155)
وواخاه رسول الله وزوّجه ابنته ، وفَضْلُهُ لا يخفى وظهرت منه معجزات كثيرة ، حتى ادَّعى قوم فيه الربوبية وقتلهم ، وصار إلى مقالتهم آخرون إلى هذه الغاية كالغلاة والنصيرية . وكان ولداه سبطا رسول الله ( سيدا شباب أهل الجنة ، إمامين بنص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وكانا أزهد الناس وأعلمهم في زمانهما ، وجاهدا في الله حق جهاده حتى قتلا ، ولبس الحسن الصوف تحت ثيابه الفاخرة من غير أن يشعر أحد بذلك ، وأخذ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يوما الحسين على فخذه الأيمن ، وإبراهيم على فخذه الأيسر ، فنزل جبرائيل عليه السلام وقال: إن الله تعالى لم يكن ليجمع لك بينهما ، فاختر من شئت منهما ، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : إذا مات الحسين بكيت أنا وعليّ وفاطمة ، وإذا مات إبراهيم بكيت أنا عليه ، فاختار موت إبراهيم فمات بعد ثلاثة أيام ، وكان إذا جاء الحسين بعد ذلك يقبله ويقول : أهلا ومرحبا بمن فديته بابني إبراهيم .
وكان علي بن الحسين زين العابدين يصوم نهاره ويصوم ليله ، ويتلو الكتاب العزيز ، ويصلّي كل يوم وليلة ألف ركعة ، ويدعو كل ركعتين بالأدعية المنقولة عنه وعن آبائه ثم يرمي الصحيفة كالمتضجر ، ويقول : أنّى لي بعبادة عليّ ، وكان يبكي كثيراً حتى أخذت الدموع من لحم خديه ، وسجد حتى سمى ذا الثَفِنات ، وسماه رسول الله ( سيد العابدين .
وكان قد حج هشام بن عبد الملك فاجتهد أن يستلم الحجر فلم يمكنه من الزحام ، فجاء زين العابدين فوقف الناس له وتَنَحَّوْا عن الحجر حتى استلمه ، ولم يبق عند الحجر سواه ، فقال هشام بن عبد الملك : من هذا فقال الفرزدق وذكر أبيات الشعر المشهورة فبعث إليه الإمام زين العابدين بألف دينار ، فردها ، وقال: إنما قلت هذا غضباً لله ولرسوله ، فما آخذ عليه أجرا ، فقال عي بن الحسين : نحن أهل بيت لا يعود إلينا ما خرج منا فقبلها الفرزدق .(173/156)
وكان بالمدينة قوم يأتيهم رزقهم ليلا ولا يعرفون ممن هو ، فلما مات زين العابدين ، انقطع ذلك عنهم وعرفوا أنه كان منه .
وكان ابنه محمد الباقر أعظم الناس زهداً وعبادة ، بَقَرَ السجودُ جبهتَه، وكان أعلم أهل وقته ، سمَّاه رسول الله ( الباقر ، وجاء جابر بن عبد الله الأنصاري إليه وهو صغير في الكُتَّاب ، فقال له : جدّك رسول الله ( يسلّم عليك . فقال : وعلى جدّي السلام . فقيل لجابر كيف هو ؟ قال كنت جالساً عند رسول الله ( والحسين في حجره وهو يلاعبه ، فقال : يا جابر يولد له ولد اسمه عليٌّ إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ : ليقم سيد العابدين ، فيقوم ولده ،ثم يولد له مولود اسمه محمد الباقر ، يبقر العلم بقرا ، فإذا رأيته فاقرئه مني السلام . وروى عنه أبي حنيفة وغيره .
وكان ابنه الصادق عليه السلام أفضل أهل زمانه وأعبدهم ، قال علماء السيرة : إنه اشتغل بالعبادة عن طلب الرياسة ، وقال عمر بن أبي المقدام: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد الصادق علمت أنه من سلالة النبيين ،وهو الذي نشر فقه الإمامية ، والمعارف الحقيقية ، والعقائد اليقينية ، وكان لا يخبر بأمر إلا وقع ، وبه سمُّوه الصادق الأمين .
وكان عبد الله بن الحسن جمع أكابر العلويين للبيعة لولديه ، فقال الصادق : هذا الأمر لا يتم ، فاغتاظ من ذلك ، فقال : إنه لصاحب القباء الأصفر ، وأشار بذلك إلى المنصور ، فلما سمع المنصور بذلك فرح لعلمه بوقوع ما يُخبر به ، وعلم أن الأمر يصل إليه ، ولما هرب كان يقول : أين قول صادقهم ؟ وبعد ذلك انتهى الأمر إليه .(173/157)
وكان ابنه موسى الكاظم يُدْعى بالعبد الصالح ، وكان أعبد أهل زمانه، يقوم الليل ويصوم النهار ، وسمِّي الكاظم لأنه كان إذ بلغه عن أحد شيء بعث إليه بمال . ونقل فضله الموافق والمخالف . قال ابن الجوزي من الحنابلة: روي عن شقيق البلخي قال : خرجت حاجّا سنة تسع وأربعين ومائة ، فنزلت القادسية فإذا شاب حسن الوجه شديد السمرة ، عليه ثياب صوف مشتمل
بشملة ، في رجليه نعلان ، وقد جلس منفرداً عن الناس ، فقلت في نفسي : هذا الفتى من الصوفية يريد أن يكون كَلاًّ على الناس ، والله لأمضين إليه أوبِّخه ، فدنوت منه فلما رآني مقبلا قال: يا شقيق اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم .
فقلت في نفسي : هذا عبد صالح قد نطق على ما في خاطري ، لألحقنه ولأسألنَّه أن يحاللني ، فغاب على عيني ، فلما نزلنا واقصة إذا به يصلي ، وأعضاؤه تضطرب ، ودموعه تتحادر ، فقلت : أمضي إليه وأعتذر، فأوجز في صلاته ، ثم قال : يا شقيق : { وَإِنِّي غَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } (1) فقلت : هذا من الإبدال ، قد تكلم على سرِّي مرتين . فلما نزلنا زبالة إذا به قائم على البئر وبيده ركوة يريد ان يسقي ماء فسقطت الركوة من يده في البئر فرفع طرفه إلى السماء وقال :
أنت ربي إذا ظمئت إلى الما ء وقوتي إذا أردت الطعاما
__________
(1) 1 ) الآية 82 من سورة طه .(173/158)
يا سيدي مالي سواها قال شقيق : فوالله لقد رأيت البئر قد ارتفع ماؤها فاخذ الركوة وملأها وتوضأ وصلى أربع ركعات ، ثم مال إلى كثيب رمل هناك ، فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويشرب فقلت : أطعمني من فضل ما رزقك الله أو ما أنعم الله عليك ، فقال : يا شقيق لم تزل نعم الله علينا ظاهرة وباطنة فأحسن ظنك بربك ، ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكر ، ما شربت والله ألذ منه ولا أطيب منه ريحا فشبعت ورويت . وأقمت أياما لا أشتهي طعاما ولا شرابا ، ثم لم أره حتى دخلت مكة ، فرأيته ليلة إلى جانب قبة الميزاب نصف الليل يصلِّي بخشوع وأنين وبكاء ، فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل ، فلما طلع الفجر جلس في مصلاه يسبح ، ثم قام إلى صلاة الفجر ، وطاف بالبيت أسبوعا ، وخرج فتبعته ، فإذا له حاشية وأموال وغلمان، وهو على خلاف ما رأيته في الطريق ، ودار به الناس يسلِّمون عليه ويتبركون به ، فقلت لهم : من هذا ؟ قالوا موسى بن جعفر ، فقلت : قد عجبت أن تكون هذه العجائب إلا لمثل هذا السيد . هذا رواه الحنبلي .
وعلى يده تاب بشر الحافي لأنه عليه السلام اجتاز على داره ببغداد ، فسمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب يخرج من تلك الدار ، فخرجت جارية وبيدها قمامة البقل ، فرمت بها في الدرب ، فقال لها : يا جارية ، صاحب هذا الدار حرٌّ أم عبد ؟ فقالت : بل حر ، فقال : صدقت لو كان عبدا لخاف من مولاه . فلما دخلت الجارية قال مولاها وهو على مائدة السكر : ما أبطأك علينا ؟ قالت : حدثني رجل بكذا وكذا ، فخرج حافيا حتى لقى مولانا موسى بن جعفر فتاب على يده .(173/159)
والجواب عنه من وجوه : أحدها : أن يقال : لا نسلم أن الإمامية أخذوا مذهبهم عن أهل البيت : لا الاثنا عشرية ولا غيرهم ، بل هم مخالفون لعليّ( وأئمة أهل البيت في جميع أصولهم التي فارقوا فيها أهل السنة والجماعة : توحيدهم ، وعدلهم ، وإمامتهم ، فإن الثابت عن علي( و أئمة أهل البيت من إثبات الصفات لله ، وإثبات القدر ، وإثبات خلافة الخلفاء الثلاثة ، وإثبات فضيلة أبي بكر وعمر(ما ، وغير ذلك من المسائل كله يناقض مذهب الرافضة.
والنقل بذلك ثابت مستفيض في كتب أهل العلم ، بحيث إن معرفة المنقول في هذا الباب عن أئمة أهل البيت يوجب علما ضروريا بأن الرافضة مخالفون لهم لا موافقون لهم .
الثاني : أن يقال : قد عُلم أن الشيعة مختلفون اختلافا كثيرا في مسائل الإمامة والصفات والقدر ، وغير ذلك من مسائل أصول دينهم . فأي قول لهم والمأخوذ عن الأئمة المعصومين ، حتى مسائل الإمامة ، قد عُرف اضطرابهم فيها .(173/160)
وقد تقدم بعض اختلافهم في النص وفي المنتظر فهم في الباقي المنتظر على أقوال : منهم من يقول ببقاء جعفر بن محمد ، ومنهم من يقول ببقاء ابنه موسى بن جعفر ، ومنهم من يقول ببقاء محمد بن عبد الله بن حسن، ومنهم من يقول ببقاء محمد بن الحنفية ، وهؤلاء يقولون : نص عليٌّ على الحسن والحسين ، وهؤلاء يقولون على محمد بن الحنفية ، وهؤلاء يقولون : أوصى عليٌّ بن الحسين إلى ابنه أبي جعفر ، وهؤلاء يقولون : إلى ابنه عبد الله ، وهؤلاء يقولون : أوصى إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين ، وهؤلاء يقولون : إن جعفر أوصى إلى ابنه إسماعيل ، وهؤلاء يقولون : إلى ابنه محمد بن إسماعيل ، وهؤلاء يقولون : إلى ابنه محمد ، وهؤلاء يقولون : إلى ابنه عبد الله ، وهؤلاء يقولون : إلى ابنه موسى ، وهؤلاء يسوقون النص إلى محمد بن الحسن ، وهؤلاء يسوقون النص إلى بني عبيد الله بن ميمون القدّاح الحاكم وشيعته ، وهؤلاء يسوقون النص من بني هاشم إلى بني العباس، ويمتنع ان تكون هذه الأقوال المتناقضة مأخوذة عن معصوم ، فبطل قولهم : إن أقوالهم مأخوذة عن معصوم .
الوجه الثالث : أن يُقال : هب أن عليّاً كان معصوما ، فإذا كان الاختلاف بين الشيعة هذا الاختلاف ، وهم متنازعون هذا التنازع ، فمن أين يُعلم صحة بعض هذه الأقوال عن عليّ دون الآخر ، وكل منهم يدَّعي أن ما يقوله إنما أخذه عن المعصومين ؟ وليس للشيعة أسانيد أهل السنة حتى يُنظر في الإسناد وعدالة الرجال . بل إنما هي منقولات منقطعة عن طائفة عُرف فيها كثرة الكذب وكثرة التناقض في النقل فهل يثق عاقل بذلك ؟
وإن ادعوا تواتر نصّ هذا على هذا ، ونصّ هذا على هذا كان هذا معارضاً بدعوى غيرهم مثل هذا التواتر ، فإن سائر القائلين بالنص إذا ادعوا مثل هذه الدعوى لم يكن بين الدعويين فرق .(173/161)
فهذه الوجوه وغيرها تبين أن بتقدير ثبوت عصمة عليّ( فمذهبهم ليس مأخوذا عنه ، فنفس دعواهم العصمة في عليّ مثل دعوى النصارى الإلهية في المسيح . مع أن ما هم عليه ليس مأخوذا عن المسيح .
الوجه الرابع : أنهم في مذهبهم محتاجون إلى مقدمتين : إحداهما : عصمة من يضيفون المذهب إليه من الأئمة ، والثانية ثبوت ذلك النقل عن الإمام . وكلتا المقدمتين باطلة ، فإن المسيح ليس بإله ، بل هو رسول كريم ، وبتقدير ان يكون إلها أو رسولا كريما فقوله حق ، لكن ما تقوله النصارى ليس من قوله ، ولهذا كان في علي ِّ( شبه من المسيح : قوم غلوا فيه فوق قدره ، وقوم نقصوه دون قدره فهم كاليهود ، هؤلاء يقولون عن المسيح : إنه إله . وهؤلاء يقولون : كافر ولد بغيِّة . وكذلك عليّ : هؤلاء يقولون : إنه إله، وهؤلاء يقولون : إنه كافر ظالم .
الوجه الخامس : أن يقال: قد ثبت لعليّ بن أبي طالب(، والحسن ، والحسين ، وعلي بن الحسين ، وابنه محمد ، وجعفر بن محمد من المناقب والفضائل ما لم يذكره هذا المصنف الرافضي.وذكر أشياء من الكذب تدل على جهل ناقلها ، مثل قوله : نزل في حقهم : { هلْ أَتَى } فإن سورة { هَل أَتىَ } مكّية باتفاق العلماء ، وعليّ إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد الهجرة ، ولم يدخل بها إلا بعد غزوة بدر ، ووُلد له الحسن في السنة الثالثة من الهجرة ، والحسين في السنة الرابعة من الهجرة بعد نزول : { هل أتى } بسنين كثيرة .
فقول القائل : إنها نزلت فيهم ، من الكذب الذي لا يخفى على من له علم بنزول القرآن وعلم بأحوال هؤلاء السادة الأخيار .(173/162)
وأما آية الطهارة فليس فيها إخبار بطهارة أهل البيت وذهاب الرجس عنهم ، وإنما فيها الأمر لهم بما يوجب طهارتهم وذهاب الرجس عنهم . فإن قوله { إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } (1) كقوله تعالى : { َما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُم } (2) وقوله: { ُيرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُم وَيَهْدِيَكُم سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُم وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيم . وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا . يُريدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُم وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا } (3) .
فالإرادة هنا متضمنة للأمر والمحبة والرضا ، وليست هي المشيئة المستلزمة لوقوع المراد ؛ فإنه لو كان كذلك لكان قد طهَّر كل من أراد الله طهارته . وهذا على قول هؤلاء القدرية الشيعة أوجه ، فإن عندهم أن الله يريد ما لا يكون ، ويكون ما لا يريد .
فقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجزَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } إذا كان هذا بفعل المأمور وترك المحظور ، كان ذلك متعلقا بإرادتهم وأفعالهم ، فإن فعلوا ما أُمروا به طُهِّروا وإلا فلا .
وهم يقولون :إن الله لا يخلق أفعالهم ، ولا يقدر على تطهيرهم وإذهاب الرجز عنهم . وأما المثبتون للقدر فيقولون : إن الله قادر على ذلك ، فإذا ألهمهم فعل ما أَمَرَ وترك ما حَظَر حصلت الطهارة وذهاب الرجس .
__________
(1) الآية 33 من سورة الأحزاب .
(2) الآية 6 من سورة المائدة .
(3) الآيات من 26 – 28 من سورة النساء .(173/163)
ومما يبين أن هذا مما أُمروا به لا مما أُخبروا بوقوعه ، ما ثبت في الصحيح أن النبي ( أدار الكساء على عليّ وفاطمة وحسن وحسين ، ثم قال : (( اللهم هؤلاء أهل بيتي ،فأذهب عنهم الجس وطهِّرهم تطهيرا )). وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه عن عائشة ، ورواه أهل السنن عن أم سلمة (1) .
وهو يدل على ضد قول الرافضة من وجهين : أحدهما : أنه دعا لهم بذلك ،وهذا دليل على أن الآية لم تخبر بوقوع ذلك ، فإنه لو كان قد وقع لكان يثنى على الله بوقوعه ويشطره على ذلك ، لا يقتصر على مجرد الدعاء به .
الثاني : أن هذا يدل على أن الله قادر على إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم ، وذلك يدل على أنه خالق أفعال العباد . ومما يبين ان الآية متضمنة للأمر والنهي قوله في سياق الكلام : { َيا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْن وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا . وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ ِللهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا . يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا .وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا . وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا } (2) .
__________
(1) انظر مسلم : ج4 ص1883 والترمذي : ج5 ص30 وج5 ص328 والمسند : ج6 ص292 ،298.
(2) الآيات 30-34 من سورة الأحزاب .(173/164)
وهذا السياق يدل على ان ذلك أمر ونهي ، ويدل على أن أزواج النبي ( من أهل بيته ، فإن السياق إنما هو في مخاطبتهن ، و يدل على أن قوله :
{ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } عمّ غير أزواجه ، كعلي وفاطمة وحسن وحسين رضى الله عنهم لانه ذكره بصيغة التذكير لما اجتمع المذكر والمؤنث، وهؤلاء خُصُّوا بكونهم من أهل البيت بالأولى من أزواجه ، فلهذا خصَّهم بالدعاء لما أدخلهم في الكساء ، كما أن مسجد قُباء أسس على التقوى ، ومسجده (أيضا أسس على التقوى وهو أكمل في ذلك ، فلما نزل قوله تعالى: { َلمسجدٌ أُسّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيه رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِرِين } (1) بسبب مسجد قباء ، تناول اللفظ لمسجد قباء ولمسجده ( بطريق الأولى .
وكذلك قوله في إيجاب المودة لهم غلط . فقد ثبت في الصحيح عن سعيد بن جبير أن ابن عباس رضى الله عنهما سئل عن قوله تعالى : { ُقلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } (2) قال: فقلت : إلا أن تودّوا ذوى قربى محمد (. فقال ابن عباس : عَجلتَ ، إنه لم يكن بطن من قريش إلا لرسول الله ( منهم قرابة . فقال : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم .
فابن عباس كان من كبار أهل البيت وأعلمهم بتفسير القرآن ، وهذا تفسيره الثابت عنه . ويدل على ذلك أنه لم يقل : إلا المودة لذوى القربى . و لكن قال : إلا المودة في القربى . ألا ترى أنه لما أراد ذوى قرباه قال :
__________
(1) الآية 108 من سورة التوبة .
(2) الآية 23 من سورة الشورى .(173/165)
{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } (1) ، ولا يُقال : المودة في ذوى القربى . وإنما يقال : المودة لذوى القربى . فكيف وقد قال قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ؟!
ويبين ذلك ان الرسول ( لا يسال أجراً أصلاً إنما أجره على الله ، وعلى المسلمين موالاة أهل البيت لكن بأدلة أخرى غير هذه الآية ، وليست موالاتنا أهل البيت من أجر النبي ( في شيء.
وأيضاً فإن هذه الآية مكية ، ولم يكن عليٌّ قد تزوج بفاطمة ولا وُلد له أولاد .
وأما آية الابتهال ففي الصحيح أنها لما نزلت أخذ النبي ( بيد عليٍّ وفاطمة وحسن وحسين ليباهل بهم(2)، لكن خصّهم بذلك لأنهم كانوا أقرب إليه من غيرهم ، فإنه لم يكن له ولد ذكر إذ ذاك يمشي معه .ولكن كان يقول عن الحسن:(( إن ابني هذا سيد )) فهما ابناه ونساؤه إذ لم يكن قد بقي له بنت إلا فاطمة(ا، فإن المباهلة كانت لما قدم وفد نجران ،وهم نصارى ، وذلك كان بعد فتح مكة ، بل كان سنة تسع ، فهذه الآية تدل على كمال اتّصالهم برسول الله (، كما دل على ذلك حديث الكساء ، ولكن هذا لا يقتضي أن يكون الواحد منهم أفضل من سائر المؤمنين ولا أعلم منهم ، لأن الفضيلة بكمال الإيمان والتقوى لا بقرب النسب .
كما قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُم } (3) وقد ثبت ان الصديق كان أتقى الأمة بالكتاب والسنة ، وتواترعن النبي (أنه قال:(( لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ))(4) ، وهذا بسوط في موضعه .
__________
(1) الآية 41 من سورة الأنفال .
(2) انظر صحيح مسلم ج4 ، ص1871 والترمذي ج4 ص 293.
(3) الآية 13 من سورة الحجرات .
(4) انظر البخاري ج1 ص96 ومسلم ج4 ص 1854.(173/166)
وأما ما نقله عن عليّ أنه كان يصلّي كل يوم وليلة ألف ركعة ، فهذا يدل على جهله بالفضيلة وجهله بالواقع . أما أوّلا فلأن هذا ليس بفضيلة ، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ( أنه كان لا يزيد في الليل على ثلاث عشرة ركعة(1). وثبت عنه في الصحيح أنه قال ( : (( أفضل القيام قيام داود ، كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه))(2).
وأيضا فقوله : إن علي بن أي طالب كان أفضل الخلق بعد رسول الله ( دعوى مجردة ، ينازعه فيها جمهور المسلمين من الأوّلين والآخرين .
وقوله: جعله الله نفس رسول الله ( حيث قال : { وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } وواخاه .
فيقال : أما حديث المؤاخاه فباطل موضوع ، فإن النبي ( لم يؤاخ أحدا ، ولا آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض ،ولا بين الأنصار بعضهم مع بعض ، ولكن آخى بين المهاجرين والأنصار ، كما آخى بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف ، وآخى بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء ، كما ثبت ذلك في الصحيح . وأما قوله: { وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ } فهذا مثل قوله : { َ لوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِم خَيْرًا } (3)
نزلت في قصة عائشة(ا في الإفك ، فإن الواحد من المؤمنين من أنفس المؤمنين والمؤمنات .
وأما تزويجه فاطمة ففضيلة لعليّ ، كما أن تزويجه عثمان بابنتيه فضيلة لعثمان أيضا ، ولذلك سُمِّي ذو النورين . وكذلك تزوجه بنت أبي بكر وبنت عمر فضيلة لهما ، فالخلفاء الأربعة أصهاره ( ورضي الله عنهم .
__________
(1) انظر البخاري ج2 ص51 ومسلم ج1 ص 508 .
(2) انظر البخاري ج4 ص161 وج2 ص50 ومسلم ج2 ص816 وغيرهما .
(3) الآية 12 من سورة النور.(173/167)
وأما قوله : (( وظهرت منه معجزات كثيرة )) فكأنه يسمّى كرامات الأولياء معجزات ، وهذا إصلاح لكثير من الناس . فيقال : عليّ أفضل من كثير ممن له كرامات ، والكرامات متواترة عن كثير من عوام أهل السنة الذين يفضلون أبا بكر وعمر على عليّ ، فكيف لا تكون الكرامات ثابتة لعليّ( ؟ وليس في مجرد الكرامات ما يدل على أنه أفضل من غيره .
وأما قوله : ((حتى ادّعى قوم فيه الربوبية و قتلهم )) .
فهذه مقالة جاهل في غاية الجهل لوجوه : أحدها : أن معجزات النبي ( أعظم بكثير وما ادّعى فيه أحد من الصحابة الإلهية .
الثاني : أن معجزات الخليل وموسى أعظم بكثير وما ادّعى أحد فيهما الإلهية .
الثالث : إن معجزات نبينا ومعجزات موسى أعظم من معجزات المسيح ، وما ادُّعيت فيهما الإلهية كما ادعيت في المسيح .
الرابع : أن المسيح ادعيت فيه الإلهية أعظم مما ادعيت في محمد وإبراهيم وموسى ، ولم يدل ذلك لا على أنه أفضل منهم ولا على أن معجزاته أبهر .
الخامس : أن دعوى الإلهية فيهما دعوى باطلة تقابلها دعوى باطلة ، وهي دعوى اليهود في المسيح ، ودعوى الخوارج في عليّ ؛ فإن الخوارج كفَّروا عليّاً ، فإن جاز أن يُقال : إنما ادّعيت فيه الإلهية لقوة الشبهة . وجاز أن يقال ، إنما ادّعى فيه الكفر لقوة الشبهة ، وجاز أن يقال ، صدرت منه ذنوب اقتضت أن يكفّره بها الخوارج .
والخوارج أكثر وأعقل وأدين من الذين ادّعوا فيه الإلهية ، فإن جاز الاحتجاج بمثل هذا ، وجُعلت هذه الدعوى منقبة ، كان دعوى المبغضين له ودعوى الخوارج مثلبة أقوى وأقوى ، وأين الخوارج من الرافضة الغالية ؟!(173/168)
فالخوارج من أعظم الناس صلاة وصياما وقراءة للقرآن ، ولهم جيوش وعساكر ، وهم متدينون بدين الإسلام باطناً و ظاهراً . والغالية المدّعون للإلهية إما أن يكونوا من أجهل الناس ، وإما أن يكونوا من أكفر الناس ، والغالية كفّار بإجماع العلماء ، وأما الخوارج فلا يكفّرهم إلا من يكفّر الإمامية ، وعلي ( لم يكن يكفّرهم ، ولا أمر بقتل الواحد المقدور عليه منهم، كما أمر بتحريق الغالية ، بل لم يقاتلهم حتى قتلوا عبد الله بن خبّاب وأغاروا على سرح الناس .
فثبت بالإجماع من عليّ ومن سائر الصحابة والعلماء أن الخوارج خير من الغالية ، فإن جاز لشيعته أن تجعل دعوى الغالية الإلهية فيه حجة على فضيلته كان لشيعة عثمان ان يجعلوا دعوى الخوارج لكفره حجة على نقيضه بطريق الأوْلى ، فعلم أن هذه الحجة إنما يحتج بها جاهل ، ثم أنها تعود عليه لا له ، ولهذا كان الناس يعلمون أن الرافضة أجهل وأكذب من الناصبة .
وأما قوله : (( وكان ولده سبطا رسول الله ( سيدا شباب أهل الجنة إمامين بنص النبي ()) .
فيقال : الذي ثبت بلا شك عن النبي ( في الصحيح أنه قال عن الحسن : (( إن ابني هذا سيد ، وإن الله سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ))(1) . وثبت عنه في الصحيح أنه كان يقعده وأسامة بن زيد على فخذه ويقول : (( اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما ))(2)
__________
(1) البخاري ج3 ص186 ومواضع أخر منه وسنن أبي داود ج4 ص 299.
(2) انظر المسند ج5 ص 205 ، 210 .(173/169)
وهذا يدل على أن ما فعله الحسن من ترك القتال على الإمامة ، وقصد الإصلاح بين المسلمين كان محبوبا يحبه الله ورسوله ولم يكن ذلك معصية ، بل كان ذلك أحب إلى الله ورسوله من اقتتال المسلمين ، ولهذا أحبه وأحب أسامة بن زيد ودعا لهما ، فإن كلاهما كان يكره القتال في الفتنة ،فأما أسامة فلم يقاتل لا مع علي ولا مع معاوية ، والحسن كان دائماً يشير على عليّ بترك القتال، وهذا نقيض ما عليه الرافضة من أن ذلك الصلح كان مصيبة وكان ذلا ، ولو كان هناك إمام معصوم يجب على كل أحد طاعته ، ومن تولّى غيره كانت ولايته باطلة لا يجوز أن يجاهد معه ولا يصلي خلفه ، لكان ذلك الصلح من أعظم المصائب على أمة محمد ( وفيه فساد دينها ، فأي فضيلة كانت تكون للحسن بذلك حتى يُثنى عليه به ؟ وإنما غايته أن يُعذر لضعفه عن القتال الواجب والنبي ( جعل الحسن في الصلح سيدا محمودا ، ولم يجعله عاجزا معذوراً ، ولم يكن الحسن أعجز عن القتال من الحسين بل كان أقدر على القتال من الحسين ، والحسين قاتل حتى قُتل ، فإن كان ما فعله الحسين هو الأفضل الواجب ، كان ما فعله الحسن تركا للواجب أو عجزا عنه ، وإن كان ما فعله الحسن هو الأفضل الأصلح ، دل على أن ترك القتال هو الأفضل الأصلح ، وأن الذي فعله الحسن أحب إلى الله ورسوله مما فعله غيره ، والله يرفع درجات المؤمنين المتقين بعضهم على بعض ، وكلهم في الجنة ، رضى الله عنهم أجمعين .
ثم إن كان النبي ( جعلهما إمامين لم يكونا قد استفادا الإمامة بنصّ عليّ ، ولاستفادها الحسين بنص الحسن عليه ، ولا ريب أن الحسن والحسين ريحانتا النبي (في الدنيا . وقد ثبت أنه ( أدخلهما مع أبويهما تحت الكساء ، وقال: (( اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيرا )) وأنه دعالهما في المباهلة ، وفضائلهما كثيرة ، وهما من أجلاء سادات المؤمنين . وأما كونهما أزهد الناس وأعلمهم في زمانهم فهذا قول بلا دليل .(173/170)
وأما قوله : (( وجاهدا في الله حق جهاده حتى قتلا )).
فهذا كذب عليهما ، فإن الحسن تخلّى عن الأمر وسلَّمه إلى معاوية ومعه جيوش العراق ، وما كان يختار قتال المسلمين قط ، وهذا متواتر من سيرته .
وأما موته ، فقد قيل : إنه مات مسموما ، وهذه شهادة له وكرامة في حقّه ، لكن لم يمت مقاتلا .
والحسين ( ما خرج يريد القتال ، ولكن ظن أن الناس يطيعونه ، فلما رأى انصرافهم عنه ، طلب الرجوع إلى وطنه أو الذهاب إلى الثغر ، أو إتيان يزيد ، فلم يمكّنه أولئك الظلمة لا من هذا ولا من هذا ، وطلبوا أن يأخذوه أسيرا إلى يزيد ، فامتنع من ذلك وقاتل حتى قُتل مظلومًا شهيداً ، لم يكن قصده ابتداءً أن يُقاتل .
وأما قوله عن الحسن : إنه لبس الصوف تحت ثيابه الفاخرة .
فهذا من جنس قوله في علي : إنه كان يصلي ألف ركعة ، فإن هذا لا فضيلة فيه ، وهو كذب . وذلك أن لبس الصوف تحت ثياب القطن وغيره لو كان فاضلا لكان النبي ( شرعه لأمته ، إما بقوله أو بفعله ، أو كان يفعله أصحابه على عهده ، فلما لم يفعله هو ولا أحد من أصحابه على عهده ، ولا رغب فيه ، دل على أنه لا فضيلة فيه ، ولكن النبي ( لبس في السفر جبة صوف فوق ثيابه .
وأما الحديث الذي رواه أن النبي ( أخذ يوماً الحسين على فخذه الأيمن وولده إبراهيم على فخذه الأيسر ، فنزل جبريل وقال: إن الله تعالى لم يكن ليجمع لك بينهما فاختر من شئت منهما . فقال النبي (: (( إذا مات الحسن بكيت أنا وعلي وفاطمة ، وإذا مات إبراهيم بكيت أنا عليه )) فاختار موت إبراهيم ، فمات بعد ثلاثة أيام . وكان إذا جاء الحسين بعد ذلك يقبّله ويقول : أهلاً ومرحباً بمن فديته بابني إبراهيم )) .
فيقال : هذا الحديث لم يروه أحد من أهل العلم ، ولا يُعرف له إسنادا ولا يُعرف في شيء من كتب الحديث . وهذا الناقل لم يذكر له إسنادا ، ولا عزاه إلى كتاب حديث ، ولكن ذكره على عادته في روايته أحاديث مسيَّبة بلا زمام ولا خطام .(173/171)
ومن المعلوم أن المنقولات لا يُميّز بين صدقها وكذبها إلا بالطرق الدالة على ذلك ، وإلا فدعوى النقل المجرد بمنزلة سائر الدعاوى .
ثم يقال: هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، وهو من أحاديث الجهَّال ، فإن الله تعالى ليس في جمعه بين إبراهيم والحسين أعظم مما في جمعه بين الحسن والحسين على مقتضى الحديث ، فإن موت الحسن أو الحسين إذا كان أعظم من موت إبراهيم ، فبقاء الحسن أعظم من بقاء إبراهيم، وقد بقى الحسن مع الحسين .
(فصل)
أما عليّ بن الحسين فمن كبار التابعين وساداتهم علما ودينا .
قال يحيى بن سعيد : (( هو أفضل هاشمي رأيته في المدينة )) . وقال محمد بن سعد في (( الطبقات ))(( كان ثقة مأمونا كثير الحديث عاليا رفيعا)). وروى عن حمَّاد بن زيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال : (( سمعت عليًّ بن الحسين ، وكان أفضل هاشمي أدركته ، يقول : يا أيها الناس أحبونا حب الإسلام ، فما برح بنا حبكم حتى صار عاراً علينا )) .
وأما ما ذكره من قيام ألف ركعة ، فقد تقدّم أن هذا لا يمكن إلا على وجه يكره في الشريعة ، أو لا يمكن بحال ، فلا يصلح ذكر مثل هذا في المناقب . وكذلك ما ذَكَرَه من تسمية رسول الله صلى لله عليه وسلم له سيد العابدين هو شيء لا أصل له ، ولم يروه أحد من أهل العلم والدين .
وكذلك أبو جعفر محمد بن عليّ من خيار أهل العلم والدين . وقيل إنما سمى الباقر لأنه بَقَرَ العلم ، لا لأجل بقر السجود جبهته . وأما كونه أعلم أهل زمانه فهذا يحتاج إلى دليل ، والزهري من أقرانه ، وهو عند الناس أعلم منه، ونَقْلُ تسميته بالباقر عن النبي ( لا أصل له عند أهل العلم ، بل هو من الأحاديث الموضوعة . وكذلك حديث تبليغ جابر له السلام هو من الموضوعات عند أهل العلم بالحديث .
وجعفر الصادق ( من خيار أهل العلم والدين .وقال عمرو بن أبي المقدام :(( كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين)).(173/172)
وأما قوله (( اشتغل بالعبادة عن الرياسة )) .
وهذا تناقض من الإمامية ، لأن الإمامة عندهم واجب عليه أن يقوم بها وبأعبائها ، فإنه لا إمام في وقته إلا هو ، فالقيام بهذا الأمر العظيم لو كان واجبا لكان أوْلى من الاشتغال بنوافل العبادات .
وأما قوله : إنه : (( هو الذي نشر فقه الإمامية ، والمعارف الحقيقية، والعقائد اليقينية )).
فهذا الكلام يستلزم أحد أمرين : إما أنه ابتدع في العلم ما لم يكن يعلمه من قبله .وإما أن يكون الذين قبله قصّروا فيما يجب عليهم من نشر العلم . وهل يشك عاقل أن النبي ( بيَّن لأمته المعارف الحقيقية والعقائد اليقينية أكمل بيان ؟ وأن أصحابه تلقّوا ذلك عنه وبلَّغوه إلى المسلمين؟
وهذا يقتضي القدح : إما فيه ، وإما فيهم . بل كُذِب على جعفر الصادق أكثر مما كُذِب على من قبله ، فالآفة وقعت من الكذَّابين عليه لا منه . ولهذا نُسب إليه أنواع من الأكاذيب ، مثل كتاب ((البطاقة )) و((الجَفْر)) و ((الهَفْت )) والكلام في النجوم .
(فصل)
وأما من بعد جعفر فموسى بن جعفر ، قال فيه أبو حاتم الرازي :
(( ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين )). قلت : موسى ولد بالمدينة سنة بضع وعشرين ومائة ،وأقدمه المهدي إلى بغداد ثم رده إلى المدينة ، وأقام بها إلى أيام الرشيد ، فقدم هارون منصرفا من عُمْرةٍ ، فحمل موسى معه إلى بغداد ، وحبسه بها إلى أن تُوفي في محبسه .
وأما من بعد موسى فلم يؤخذ عنهم من العلم ما يذكر به أخبارهم في كتب المشهورين بالعلم وتواريخهم ، ولا هم في التفسير وغيره أقوال معروفة، ولكن لهم من الفضائل والمحاسن ما هم له أهل ،(م أجمعين ، وموسى بن جعفر مشهور بالعبادة والنسك .
وأما الحكاية المذكورة عن شقسق البلخى فكذب ، فإن هذه الحكاية تخالف المعروف من حال موسى بن جعفر .(173/173)
أما قوله : (( تاب على يديه بشر الحافي )) فمن أكاذيب من لا يعرف حاله ولا حال بشر ، فإن موسى بن جعفر لما قدم به الرشيد إلى العراق حبسه ، فلم يكن ممن يجتاز على دار بشر وأمثاله من العامة .
(فصل)
قال الرافضي: (( وكان ولده عليّ الرضا أزهد أهل زمانه وكان أعلمهم وأخذ عنه فقهاء الجمهور كثيرا ، وولاّه المأمون لعلمه بما هو عليه من الكمال والفضل . ووعظ يوما أخاه زيداً ، فقال : يا زيد ما أنت قائل لرسول الله ( إذا سَفَكْتَ الدماء ، وأخذت الأموال من غير حلها وأخفت السبل ، وغرّك حمقى أهل الكوفة؟ وقد قال رسول الله (: إن فاطمة أحصنت فرجها ، فحرم الله ذريتها على النار وفي رواية : إن عليا قال : يا رسول الله لم سميت فاطمة ؟ قال : لأن الله فطمها وذريتها من النار ، فلا يكون الإحصان سببا لتحريم ذريتها على النار وأنت تظلم . والله ما نالوا ذلك إلا بطاعة لله ، فإن أردت أن تنال بمعصية الله ما نالوا بطاعته ، إنك إذاً لأكرم على الله منهم .
وضرب المأمون اسمه على الدراهم والدنانير ، وكتب إلى أهل الآفاق ببيعته ، وطرح السواد ولبس الخضرة )) .
فيقال : من المصائب التي ابتُلي بها ولد الحسين انتساب الرافضة إليهم و تعظيمهم ومدحهم لهم ، فإنهم يُمدحون بما ليس بمدح ، ويدّعون لهم دعاوى لا حجة لها ، ويذكرون من الكلام ما لو لم يُعرف فضلهم من غير كلام الرافضة ، لكان ما تذكره الرافضة بالقدح أشبه منه في المدح ، فإن علي بن موسى له من المحاسن والمكارم المعروفة، والممادح المناسبة لحاله اللائقة به ، ما يعرفه بها أهل المعرفة . وأما هذا الرافضي فلم يذكر له فضيلة واحدة بحجة .(173/174)
وأما قوله : (( إن كان أزهد الناس وأعلمهم )) فدعوى مجردة بلا دليل ، فكل من غلا في شخص أمكنه أن يدّعى له هذه الدعوى . كيف والناس يعلمون أنه كان في زمانه من هو أعلم منه ، ومن هو أزهد منه ، كالشافعي وإسحاق بن راهوية وأحمد بن حنبل وأشهب بن عبد العزيز ، وأبي سليمان الداراني ، ومعروف الكرخي ،وأمثال هؤلاء .
وأما قوله : (( إنه أخذ عن فقهاء الجمهور كثيراً )) فهذا من أظهر الكذب . هؤلاء فقهاء الجمهور المشهورين لم يأخذوا عنه ما هو معروف ، وإن أخذ عنه بعض من لا يُعرف من فقهاء الجمهور فهذا لا يُنكر ، فإن طلبة الفقهاء قد يأخذون من المتوسطين في العلم ، ومن هم دون المتوسطين .
وما ذكره بعض الناس من أن معروفا الكرخي كان خادماًله ، وأنه أسلم على يديه ، أو أن الخرقة متصلة منه إليه ، فكله كذب باتفاق من يعرف هذا الشأن .
والحديث الذي ذكره عن النبي (عن فاطمة هو كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، ويظهر كذبه لغير أهل الحديث أيضا ؛ فإن قوله : (( إن فاطمة أحصنت فرجها فحرَّم الله ذريتها على النار )) يقتضي أن إحصان فرجها هو السبب لتحريم ذريتها على النار وهذا باطل قطعا ، فإن سارَّة أحصنت فرجها ، ولم يحرِّم الله جميع ذريتها على النار .
وأيضا فتسمية جبريل رسول الله إلى محمد (خادماً له عبارة من لا يعرف قدر الملائكة ، وقدر إرسال الله لهم إلى الأنبياء .و لكن الرافضة غالب حججهم أشعار تليق بجهلهم وظلمهم ، وحكايات مكذوبة تليق بجهلهم وكذبهم ، وما يُثْبِت أصول الدين بمثل هذه الأشعار ، إلا ليس معدوداً من أولي الأبصار.
(فصل)(173/175)
قال الرافضي : (( وكان ولده محمد بن علي الجواد على منهاج أبيه في العلم والتقى والجود ، ولما مات أبوه الرضا شغف بحبه المأمون لكثرة علمه ودينه ووفور عقله مع صغر سنه ،وأراد أن يزوِّجه ابنته أم الفضل ، وكان قد زوَّج أباه الرضا عليه السلام بابنته أم حبيب ، فغلظ ذلك على العباسيين واستنكروه وخافوا أن يخرج الأمر منهم ، وأن يبايعه كما بايع أباه ، فاجتمع الأدنون منهم وسألوه ترك ذلك ، وقالوا : إنه صغير السن لا علم عنده، فقال : أنا أعرف منكم به ، فإن شئتم فامتحنوه ، فرضوا بذلك ، وجعلوا للقاضي يحيى بن أكثم مالاً كثيرا على امتحانه في مسألة يعجزه فيها ، فتواعدوا إلى يوم ، وأحضره المأمون وحضر القاضي وجماعة العباسيين ، فقال القاضي : أسألك عن شيء ؟ فقال عليه السلام سل فقال: ما تقول في مُحْرِم قتل صيدا؟ فقال له عليه السلام قتله في حل أو حرم ، عالما كان أو جاهلا ، مبتدئا بقتله أو عائذا ، من صغار الصيد كان أم من كبارها ، عبدا كان المُحرم أو حرًّا ، صغيرا كان أو كبيرا ، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها ؟ فتحير يحيى بن أكثم ، وبان العجز في وجهه ، حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره ، فقال المأمون لأهل بيته : عرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ، ثم أقبل الإمام فقال : أتخطب ؟ قال : نعم فقال : أخطب لنفسك خطبة النكاح ، فخطب وعقد على خمسمائة درهم جياداً كمهر جدته فاطمة عليها السلام ، ثم تزوج بها .
والجواب أن يقال : إن محمد بن عليّ الجواد كان من أعيان بني هاشم، وهو معروف بالسخاء والسؤدد . ولهذا سُمِّيَ الجواد ، ومات وهو شاب ابن خمس وعشرين سنة ، ولد سنة خمس وتسعين ومات سنة عشرين أو سنة تسع عشرة ، وكان المأمون زوَّجه بابنته ، وكان يرسل إليه في السنة ألف ألف درهم ، واستقدمه المعتصم إلى بغداد ، ومات بها .(173/176)
وأما ما ذكره فإنه من نمط ما قبله ، فإن الرافضة ليس لهم عقل صريح ولا نقل صحيح ، ولا يقيمون حقا ،ولا يهدمون باطلا ، لا بحجة وبيان ، ولا بيد وسنان ، فإنه ليس فيما ذكره ما يثبت فضيلة محمد بن عليّ ، فضلا عن ثبوت إمامته ، فإن هذه الحكاية التي حكاها عن يحيى بن أكثم من الأكاذيب التي لا يفرح بها إلا الجهال ، ويحيى بن أكثم كان أفقه وأعلم وأفضل من أن يطلب تعجيز شخص بأن يسأله عن مُحْرِم قتل صيدا ، فإن صغار الفقهاء يعلمون حكم هذه المسألة ، فليست من دقائق العلم ولا غرائبه ،ولا مما يختص به المبرِّزون في العلم .
( فصل )
قال الرافضي :(( وكان ولده عليّ الهادي ، ويُقال له: العسكري ، لأن المتوكل أشخصه من المدينة إلى بغداد ، ثم منها إلى سُرَّ من رأى ، فأقام بموضع عندها يقال له العسكر، ثم انتقل إلى سُرَّ من رأى فأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر ، وإنما أشخصه المتوكل لأنه كان يبغض عليًّا( ، فبلّغه مقام عليّ بالمدينة ، وميل الناس إليه ، فخاف منه ، فدعا يحيى بن هبيرة وأمره بإحضاره ، فضج أهل المدينة لذلك خوفا عليه ، لأنه كان محسنا إليهم ، ملازماً للعبادة في المسجد ، فحلف يحيى أنه لا مكروه عليه ، ثم فتَّش منزله فلم يجد فيه سوى مصاحف وأدعية وكتب العلم ، فعظم في عينه ، وتولى خدمته بنفسه ، فلما قدم بغداد بدأ بإسحاق بن إبراهيم الطائي وإلى بغداد. فقال له : يا يحيى هذا الرجل قد ولده رسول الله (، والمتوكل من تَعْلَم ، فإن حرضته عليه قتله ، وكان رسول الله (خصمك يوم القيامة ، فقال له يحيى : والله ما وقعت منه إلا على خير . قال : فلما دخلت على المتوكل أخبرته بحسن سيرته وورعه وزهده فأكرمه المتوكل ، ثم مرض المتوكل فنذر إن عوفيَ تصدّق بدراهم كثيرة ، فسأل الفقهاء عن ذلك فلم يجد عندهم جوابا فبعث إلى عليّ الهادي ، فسأله فقال : تصدّق بثلاثة وثمانين درهما ، فسأله(173/177)
المتوكل عن السبب، فقال: لقوله تعالى: { َلقدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةً } (1) وكانت لمواطن هذه الجملة ، فإن النبي ( غزا سبعاً وعشرين غزاة ، وبعث ستا وخمسين سرية . قال المسعودي : نُمى إلى المتوكل بعليّ بن محمد أن في منزله سلاحا من شيعته من أهل قُم وأنه عازم على الملك ، فبعث إليه جماعة من الأتراك ، فهجموا داره ليلا فلم يجدوا فيها شيئا ، ووجدوه في بيت مغلق عليه وهو يقرأ وعليه مُدرعة من صوف ، وهو جالس على الرمل والحصى متوجها إلى الله تعالى يتلو القرآن ، فحُمل على حالته تلك إلى المتوكل ، وأُدخل عليه وهو في مجلس الشراب ، والكأس في يد المتوكل ، فعظَّمه وأجلسه إلى جانبه ، وناوله الكأس ، فقال : والله ما خامر لحمي ودمي قط فأعفني، فأعفاه وقال له: أسمعني صوتا، فقال: { َكمْ تَرَكوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُوُن } . الآيات(2) فقال: أنشدنى شعراً، فقال: إني قليل الرواية للشعر ، فقال لا بد من ذلك ، فأنشده :
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غُلْبُ الرجال فما أغنتهم القُلَلُ
واستُنزلوا بعد عزٍمن معاقلهم وأسكنوا حفراً يا بئس ما نزلوا
ناداهُمُ صارخ من بعد دفنهم أين الأسرَّة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعَّمة من دونها تُضرب الأستار والكِللُ
فأفصح القبر عنهُمْ حين ساءَلُهُمْ تلك الوجوهُ عليها الدود يقتتل
قد طال ما أكلوا دهرا وما شربوا فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا
فبكى المتوكل حتى بلت دموعه لحيته )) .
__________
(1) الآية 25 من سورة التوبة .
(2) الآية 25 من سورة الدخان .(173/178)
فيقال : هذا الكلام من جنس ما قبله ، لم يذكر منقبة بحجة صحيحة ، بل ذكر ما يعلم العلماء أنه من الباطل ، فإنه ذكر في الحكاية أن والي بغداد كان إسحاق بن إبراهيم الطائي ، وهذا من جهله، فإن إسحاق بن إبراهيم هذا خزاعي معروف هو وأهل بيته،كانوا من خزاعة،فإنه إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب ، ، وابن عمه عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب أمير خراسان المشهورالمعلومة سيرته ، وابن هذا محمد بن عبد الله بن طاهر كان نائبا على بغداد في خلافة المتوكل وغيره ، وهو الذي صلَّى على أحمد بن حنبل لما مات ، وإسحاق بن إبراهيم هذا كان نائبا لهم في إمارة المعتصم والواثق وبعض أيام المتوكل ،وهؤلاء كلهم من خزاعة ليسوا من طيئ وهم أهل بيت مشهورون .
وأما الفُتيا التي ذكرها من أن المتوكل نذر إن عُوفِيَ يتصدّق بدراهم كثيرة ، وأنه سأل الفقهاء عن ذلك فلم يجد عندهم جوابا ، وأن عليّ بن محمد أمره أن يتصدق بثلاثة وثمانين درهما ، لقوله تعالى : { لقدْ نَصَرَكُمْ الله في مَواطِنَ كَثيرَةً } (1) ، وأن المواطن كانت هذه الجملة ، فإن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غزا سبعاً وعشرين غزاة ، وبعث ستاً وخمسين سرية ، فهذه الحكاية أيضا تحكى عن عليّ بن موسى مع المأمون ، وهي دائرة بين أمرين: إما أن تكون كذبا ، وإما أن تكون جهلا ممن أفتى بذلك .
فإن قول القائل: له عليَّ دراهم كثيرة ، أو والله لأعطين فلانا دراهم كثيرة ، أو لأتصدقن بدراهم كثيرة ، لا يُحمل على ثلاث وثمانين عند أحد من علماء المسلمين .
والحجة المذكورة باطلة لوجوه :
أحدها : أن قول القائل : إن المواطن كانت سبعا وعشرين غزاة وستا وخمسين سرية ، ليس بصحيح ، فإن النبي ( لم يغز سبعا وعشرين غزاة باتفاق أهل العلم بالسير، بل أقل من ذلك.
__________
(1) الآية 25 من سورة الدخان .(173/179)
الثاني : أن هذه الآية نزلت يوم حنين ، والله قد أخبر بما كان قبل ذلك، فيجب أن يكون ما تقدَّم قبل ذلك مواطن كثيرة ، وكان بعد يوم حنين غزوة الطائف وغزوة تبوك ، وكثير من السرايا كانت بعد يوم حنين كالسرايا التي كانت بعد فتح مكة مثل إرسال جرير بن عبد الله إلى ذي الخلصة وأمثال ذلك.
وجرير إنما أسلم قبل موت النبي ( بنحو سنة ، وإذا كان كثير من الغزوات والسرايا كانت بعد نزول هذه الآية ، امتنع أن تكون هذه الآية المخبرة عن الماضي إخبارا بجميع المغازي والسرايا .
الثالث : أن الله لم ينصرهم في جميع المغازي ، بل يوم أحد تولوا ، وكان يوم بلاء وتمحيص . وكذلك يوم مؤتة وغيرها من السرايا لم يكونوا منصورين فيها ، فلو كان مجموع المغازي والسرايا ثلاثا وثمانين فإنهم لم ينصروا فيها كلها ، حتى يكون مجموع ما نصروا فيه ثلاثا وثمانين .
الرابع : أنه بتقدير أن يكون المراد بالكثير في الآية ثلاثا وثمانين ، فهذا لا يقتضي اختصاص هذا القدر بذلك ؛ فإن لفظ ((الكثير)) لفظ عام يتناول الألف والألفين والآلاف ، وإذا عمَّ أنواعا من المقادير ، فتخصيص بعض المقادير دون بعض تحكّم .
الخامس : أن الله تعالى قال: { َمنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة } (1) ، والله يضاعف الحسنة إلى سبعمائة ضعف بنص القرآن ، وقد ورد أنه يضاعفها ألفى ألف حسنة ، فقد سمَّى هذه الأضعاف كثيرة ، وهذه المواطن كثيرة .
وقد قال تعالى : { َكمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِين } (2) والكثرة ههنا تتناول أنواعا من المقادير ، لأن الفئات المعلومة مع الكثرة لا تحصر في عدد معين ، وقد تكون الفئة القليلة ألفا والفئة الكثيرة ثلاثة آلاف ، فهي قليلة بالنسبة إلى كثرة عدد الأخرى .
__________
(1) الآية 245 من سورة البقرة .
(2) الآية 249 من سورة البقرة .(173/180)
( فصل)
قال الرافضي : (( وولده مولانا المهدي محمد عليه السلام .روى ابن الجوزى بإسناده إلى ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي ، اسمه كاسمي وكنيته كنيتي ، يملأ الأرض عدلا ، كما ملئت جورا ، فذلك هو المهدي )).
فيقال : قد ذكر محمد بن جرير الطبري وعبد الباقي بن قانع وغيرهما من أهل العلم بالأنساب والتواريخ : أن الحسن بن عليّ العسكري لم يكن له نسل ولا عقب . والإمامية الذين يزعمون أنه كان له ولد يدّعون أنه دخل السرداب بسامرّا وهو صغير ، منهم من قال : عمره سنتان ، ومنهم من قال: عمره ثلاث ، ومنهم من قال: خمس سنين وهذا لو كان موجودا معلوما ، لكن الواجب في حكم الله الثابت بنص القرآن والسنة والإجماع أن يكون محضونا عند من يحضنه في بدنه ، كأمه ،وأم أمه ، ونحوهما من أهل الحضانة ، وأن يكون ماله عند من يحفظه : أما وصى أبيه إن كان له وصى ، وإما غير الوصى : إما قريب ، وإما نائب لدى السلطان ، فإنه يتيم لموت أبيه .
والله تعالى يقول : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُم رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِم أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا } (1) . فهذا لا يجوز تسليم ماله إليه حتى يبلغ النكاح ويؤنس منه الرشد ، كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه ، فكيف يكون من يستحق الحجر عليه في بدنه وماله إماما لجميع المسلمين معصوما ، لا يكون أحدا مؤمنا إلا بالإيمان به ؟!
__________
(1) الآية 6 من سورة النساء .(173/181)
ثم إن هذا باتفاق منهم : سواء قُدِّر وجوده أو عدمه ، لا ينتفعون به لا في دين ولا في دنيا ، ولا علَّمَ أَحداً شيئا ، ولا يعرف له صفة من صفات الخير ولا الشر ، فلم يحصل به شيء من مقاصد الإمامة ولا مصالحها ، لا الخاصة ولا العامة ، بل إن قدِّر وجوده فهو ضرر على أهل الأرض بلا نفع أصلا ، فإن المؤمنين به لم ينتفعوا به ، ولا حصل لهم به لطف ولا مصلحة، والمكذِّبون به يعذَّبون عندهم على تكذيبهم به ، فهو شر محض لا خير فيه ، وخلق مثل هذا ليس من فعل الحكيم العادل .
وإذا قالوا : إن الناس بسبب ظلمهم احتجب عنهم .
قيل: أولا : كان الظلم موجودا في زمن آبائه ولم يحتجبوا .
وقيل : ثانيا : فالمؤمنون به طبَّقوا الأرض فهلاَّ اجتمع بهم في بعض الأوقات أو أرسل إليهم رسولا يعلِّمهم شيئا من العلم والدين ؟!
وقيل : ثالثا : قد كان يمكنه أن يأوي إلى كثير من المواضع التي فيها شيعته ، كجبال الشام التي كان فيها الرافضة عاصية ، وغير ذلك من المواضع العاصية .(173/182)
وقيل : رابعا : فإذا كان هو لا يمكنه أن يذكر شيئا من العلم والدين لأحد ، لأجل هذا الخوف ، لم يكن في وجوده لطف ولا مصلحة ، فكان هذا مناقضا لما أثبتوه .بخلاف من أرسل من الأنبياء وكُذِّب، فإنه بلَّغ الرسالة ، وحصل لمن آمن به من اللطف والمصلحة ما هو من نعم الله عليه . وهذا المنتَظَر لم يحصل به لطائفته إلا الانتظار لمن لا يأتي ، ودوام الحسرة والألم، ومعاداة العالم ، والدعاء الذي لا يستجيبه الله ، لأنهم يدعون له بالخروج والظهور من مدة أكثر من أربعمائة وخمسين سنة لم يحصل شيء من هذا . ثم إن عمر واحد من المسلمين هذه المدة أمر يعرف كذبه بالعادة المطَّردة في أمة محمد ، فلا يُعرف أحد وُلد في دين الإسلام وعاش مائة وعشرين سنة ، فضلا عن هذا العمر . وقد ثبت في الصحيح عن النبي ( أنه قال في آخر عمره : (( أرأيتكم ليلتكم هذه ، فإنه على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو اليوم عليها أحد ))(1) .
فمن كان في ذلك الوقت له سنة ونحوها لم يعش ؟أكثر من مائه سنة قطعا . وإذا كانت الأعمار في ذلك العصر لا تتجاوز هذا الحد ، فما بعده من الأعصار أوْلى بذلك في العادة الغالبة العامة ، فإن أعمار بني آدم في الغالب كلما تأخر الزمان قصرت ولم تطل ، فإن نوحا عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، وآدم عليه السلام عاش ألف سنة ، كما ثبت ذلك في حديث صحيح رواه الترمذي وصحَّحَه(2) ، فكان العمر في ذلك الزمان طويلا ، ثم أعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين ، وأقلهم من يَجوز ذلك ، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح(3) .
__________
(1) انظر البخاري ج1 ص119 ومسلم ج4 ص 1965 .
(2) انظر سنن الترمذي ج5 ص 123 –124 وقال : حسن غريب من هذا الوجه .
(3) انظر سنن الترمذي ج3 ص 387 وابن ماجة ج2 ص 1415 .(173/183)
واحتجاجهم بحياة الخضر احتجاج باطل ، فمن الذي يسلِّم لهم بقاء الخضر . والذي عليه سائر العلماء المحققون أنه مات ، وبتقدير بقائه فليس هو من هذه الأمة .
ولهذا يوجد كثير من الكذَّابين من الجن والإنس ممن يدَّعي أنه الخضر ويظن من رآه أنه الخضر ، وفي ذلك من الحكايات الصحيحة التي نعرفها ما يطول وصفها هنا .
وكذلك المنتظر محمد بن الحسن ، فإن عددا كثيرا من الناس يدَّعي كل واحد منهم أنه محمد بن الحسن ،منهم من يظهر ذلك لطائفة من الناس ، ومنهم من يكتم ذلك ولا يظهره إلا للواحد أو الاثنين ، وما من هؤلاء إلا من يَظْهَرُ كذبه كما يظهر كذب من يدَّعي أنه الخضر .
( فصل )
وقوله : روى ابن الجوزي بإسناده إلى ابن عمر : قال : قال رسول الله (: (( يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي ، اسمه كاسمي، وكنيته كنيتي ، يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا،فذلك هو المهدي))
فيقال : الجواب من وجوه :
أحدها : إنكم لا تحتجون بأحاديث أهل السنة ، فمثل هذا الحديث لا يفيدكم فائدة . وإن قلتم : هو حجة على أهل السنة ، فنذكر كلامهم فيه .
الثاني :إن هذا من أخبار الآحاد ، فكيف يثبت به أصل الدين الذي لا يصح الإيمان إلا به ؟
الثالث :أن لفظ الحديث حجة عليكم لا لكم ، فإن لفظه : ((يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي )) فالمهدي الذي أخبر به النبي (اسمه محمد بن عبد الله لا محمد بن الحسن . وقد رُوي عن عليّ( أنه قال : هو من ولد الحسن بن عليّ ، لا من ولد الحسين بن عليّ .
وأحاديث المهدي معروفة ، رواها الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم ، كحديث عبد الله بن مسعود عن النبي ( أنه قال : (( لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ))(1) .
__________
(1) انظر سنن أبي داود ج4 ص151 والترمذي ج3 ص 343 والمسند ج2 ص117 .(173/184)
الرابع : أن الحديث الذي ذكره ، وقوله : (( اسمه كاسمي ، وكنيته كنيتي )) ولم يقل : (( يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي )) فلم يروه أحد من أهل العلم بالحديث في كتب الحديث المعروفة، بهذا اللفظ . فهذا الرافضي لم يذكر الحديث بلفظه المعروف في كتب الحديث ، مثل مسند أحمد ، وسنن أبي داود والترمذي ، وغير ذلك من الكتب . وإنما ذكره بلفظ مكذوب لم يروه أحد منهم .
وقوله : إن ابن الجوزي رواه بإسناده : إن أراد العالم المشهور صاحب المصنَّفات الكثيرة أبا الفرج ، فهو كذب عليه . وإن أراد سبطه يوسف بن قز أوغلى صاحب التاريخ المسمى (( بمرآة الزمان )) وصاحب الكتاب المصنَّف في ((الإثنى عشر ))الذي سمَّاه (( إعلام الخواص )) فهذا الرجل يذكر في مصنفاته أنواعا من الغثّ والسمين ، ويحتجّ في أغراضه بأحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة ، وكان يصنِّف بحسب مقاصد الناس : يصنِّف للشيعة ما يناسبهم ليعوِّضوه بذلك ، ويصنِّف على مذهب أبي حنيفة لبعض الملوك لينال بذلك أغراضه ، فكانت طريقته طريقة الواعظ الذي قيل له : ما مذهبك ؟ قال : في أي مدينة ؟
ولهذا يوجد في بعض كتبه ثلب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم لأجل مداهنة من قصد بذلك من الشيعة ، ويوجد في بعضها تعظيم الخلفاء الراشدين وغيرهم .
( فصل)
قال الرافضي : (( فهؤلاء الأئمة الفضلاء المعصومون ، الذين بلغوا الغاية في الكمال ، ولم يتخذوا ما اتخذ غيرهم من الأئمة المشتغلين بالملك وأنواع المعاصي والملاهي ، وشرب الخمور والفجور ، حتى فعلوا بأقاربهم على ما هو المتواتر بين الناس . قالت الإمامية : فالله يحكم بيننا وبين هؤلاء ، وهو خير الحاكمين )).
قال : (( وما أحسن قول الشاعر:
إذا شئت أن ترضي لنفسك مذهبا وتعلم أن الناس في نقل أخبار
فدع عنك قول الشافعي ومالك وأحمد والمروىّ عن كعب أحبار(173/185)
ووال أناسا قولهم وحديثهم روى جدنا عن جبرئيل عن الباري))
والجواب من وجوه :
أحدها : أن يقال : أما دعوى العصمة في هؤلاء فلم تذكر عليها حجة إلا ما ادّعيته من أنه يجب على الله أن يجعل للناس إماما معصوما ، ليكون لطفا ومصلحة في التكليف ، وقد تبين فساد هذه الحجة من وجوه : أدناها أن هذا مفقود لا موجود ، فإنه لم يوجد إمام معصوم حصل به لطف ولا مصلحة، ولو لم يكن في الدليل على انتفاء ذلك إلا المنتظر الذي قد عُلم بصريح العقل أنه لم ينتفع به أحد ، لا في دين ولا في دنيا ، ولا حصل لأحد من المكلَّفين به مصلحة ولا لطف ، لكان هذا دليلا على بطلان قولهم ، فكيف مع كثرة الدلائل على ذلك ؟
الوجه الثاني : أن قوله : (( كل واحد من هؤلاء قد بلغ الغاية في الكمال )) هو قول مجرد عن الدليل ،والقول بلا علم يمكن كل أحد أن يقابله بمثله . وإذا ادّعى المدّعي هذا الكمال فيمن هو أشهر في العلم والدين من العسكريين وأمثالهما من الصحابة والتابعين ، وسائر أئمة المسلمين ، لكان ذلك أوْلى بالقبول . ومن طالع أخبار الناس علم أن الفضائل العلمية والدينية المتواترة عن غير واحد من الأئمة أكثر مما ينقل عن العسكريين وأمثالهما من الكذب، دع الصدق .
الثالث : أن قوله : (( هؤلاء الأئمة )) إن أراد بذلك أنهم كانوا ذوى سلطان وقدرة معهم السيف ، فهذا كذب ظاهر ، وهم لا يدَّعون ذلك ، بل يقولون : إنهم عاجزون ممنوعون مغلوبون مع الظالمين ، لم يتمكن أحد منهم من الإمامة ، إلاّ عليّ بن أبي طالب ، مع أن الأمور استصعبت عليه ، ونصف الأمة – أو أقل أو أكثر – لم يبايعوه ، بل كثير منهم قاتلوه وقاتلهم ، وكثير منهم لم يقاتلوه ولم يقاتلوا معه ، وفي هؤلاء من هو أفضل من الذين قاتلوه وقاتلوا معه ، وكان فيهم من فضلاء المسلمين من لم يكن مع عليّ مثلهم، بل الذين تخلَّفوا عن القتال معه وله كانوا أفضل ممن قاتله وقاتل معه .(173/186)
وإن أراد أنه كان لهم علم ودين يستحقون به أو كانوا أئمة ، فهذه الدعوى إذا صحت لا تُوجب كونهم أئمة يجب على الناس طاعتهم ، كما أن استحقاق الرجل أن يكون إمام مسجد لا يجعله إماما ، واستحقاقه أن يكون قاضيا لا يصيِّره قاضيا ، واستحقاقه أن يكون أمير الحرب لا يجعله أمير الحرب . والصلاة لا تصح إلا خلف من يكون إماما . وكذلك الحكم بين الناس إنما يفصله ذو سلطان وقدرة لا من يستحق أن يولَّى القضاء ، وكذلك الجند إنما يقاتلون مع أمير عليهم لا مع من لم يؤمَّر وإن كان يستحق أن يؤمَّر .
الوجه الرابع :أن يقال ما تعنون بالاستحقاق ؟ أتعنون أن الواحد من هؤلاء كان يجب أن يولى الإمامة دون سائر قريش ؟ أم تريدون أن الواحد منهم من جملة من يصلح للخلافة ؟ فإن أردتم الأول فهو ممنوع مردود ، وإن أردتم الثاني فذلك قدر مشترك بينهم و بين خلق كثير من قريش .
الوجه الخامس : أن يقال الإمام هو الذى يؤتم به وذلك على وجهين : أحدها : أن يرجع إليه في العلم و الدين بحيث يطاع باختيار المطيع ، لكونه عالما بأمر الله عزوجل آمرا به ، فيطيعه المطيع لذلك ، وإن كان عاجزا عن إلزامه الطاعة .
والثاني : أن يكون صاحب يد وسيف ، بحيث يطاع طوعا وكرها لكونه قادرا على إلزام المطيع بالطاعة .
الوجه السادس : أن يقال : قوله : (( لم يتخذوا ما اتخذه غيرهم من الأئمة المشتغلين بالملك والمعاصي )) كلام باطل . وذلك أنه إن أراد أهل السنة يقولون : إنه يؤتم بهؤلاء الملوك فيما يفعلونه من معصية الله ، فهذا كذب عليهم . فإن علماء أهل السنة المعروفين بالعلم عند أهل السنة متفقون على أنه لا يُقتدى بأحد في معصية الله ، ولا يُتخذ إماما في ذلك .(173/187)
وإن أراد ان أهل السنة يستعينون بهؤلاء الملوك فيما يُحتاج إليهم فيه من طاعة الله ، ويعاونونهم على ما يفعلونه من طاعة الله ، فيقال لهم : إن كان اتخاذهم أئمة بهذا الاعتبار محذوراً ، فالرافضة أدخل منهم في ذلك ، فإنهم دائما يستعينون بالكفّار والفجّار على مطالبهم ، ويعاونون الكفّار والفجّار على كثير من مآربهم ، وهذا أمر مشهود في كل زمان ومكان ، ولو لم يكن إلا صاحب هذا الكتاب (( منهاج الندامة )) وإخوانه ، فإنهم يتخذون المغل والكفار أو الفسَّاق أو الجهال أئمة بهذا الاعتبار .
الوجه السابع : أن يقال الأئمة الذين هم مثل هؤلاء الذين ذكرهم في كتابه وادّعى عصمتهم ، ليس لهم سلطان تحصل به مقاصد الإمامة ، ولا يكفي الائتمام بهم في طاعة الله ، ولا في تحصيل ما لا بد منه مما يعين على طاعة الله ، فإن لم يكن لهم ملك ولا سلطان لم يمكن أن تصلّي خلفهم جمعة ولا جماعة ، ولا يكونون أئمة في الجهاد ولا في الحج ، ولا تُقام بهم الحدود ، ولا تُفصل بهم الخصومات ، ولا يستوفي الرجل بهم حقوقه التي عند الناس والتي في بيت المال ، ولا يؤمَّن بهم السبل ، فإن هذه الأمور كلها تحتاج إلى قادر يقوم بها ، ولا يكون قادراً إلاّ من له أعوان على ذلك ، بل القادر على ذلك كان غيرهم ، فمن طلب هذه الأمور من إمام عاجز عنها كان جاهلا ظالما ، ومن استعان عليها بمن هو قادر عليها كان عالما مهتديا مسدَّدا ، فهذا يحصِّل مصلحة دينه ودنياه ، والأول تفوته مصلحة دينه ودنياه .(173/188)
الوجه الثامن : أن يقال: دعوى كون جميع الخلفاء كانوا مشتغلين بما ذكره من الخمور والفجور كذب عليهم ، والحكايات المنقولة في ذلك فيها ما هو كذب ، وقد عُلم أن فيهم العدْل الزاهد كعمر بن عبد العزيز والمهدى بالله ، وأكثرهم لم يكن مظهراً لهذه المنكرات من خلفاء بني أمية وبني العباس ، وإن كان أحدهم قد يُبتلى ببعض الذنوب ،وقد يكون تاب منها ، وقد يكون له حسنات كثيرة تمحو تلك السيئات ، وقد يُبتلى بمصائب تكفِّر عنه خطاياه . ففي الجملة الملوك حسناتهم كبار وسيئاتهم كبار ، والواحد من هؤلاء وإن كان له ذنوب ومعاص لا تكون لآحاد المؤمنين ، فلهم من الحسنات ما ليس لآحاد المسلمين : من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإقامة الحدود ، وجهاد العدو ، وإيصال كثير من الحقوق إلى مستحقيها ، ومنع كثير من الظلم ، وإقامة كثير من العدل .
ونحن لا نقول : إنهم كانوا سالمين من المظالم والذنوب ، كما لا نقول: إن أكثر المسلمين كانوا سالمين من ذلك ، لكن نقول : وجود الظلم والمعاصي من بعض المسلمين وولاة أمورهم وعامتهم لا يمنع أن يشارك فيما يعمله من طاعة الله .
وإن قال : مرادى بهؤلاء الأئمة الاثنا عشر . قيل له : ما رواه عليّ بن الحسين وأبو جعفر وأمثالهما من حديث جدهم ، فمقبول منهم كما يرويه أمثاله . ولولا أن الناس وجدوا عند مالك والشافعي وأحمد أكثر مما وجدوه عند موسى بن جعفر ، وعلي بن موسى ، ومحمد بن علي ، لما عدلوا عن هؤلاء إلى هؤلاء . وإلا فأي غرض لأهل العلم والدين أن يعدلوا عن موسى بن جعفر إلى مالك بن أنس ، وكلاهما من بلد واحد ، في عصر واحد ؟(173/189)
فإن زعم زاعم أنه كان عندهم من العلم المخزون ما ليس عند أولئك لكن كانوا يكتمونه ، فأي فائدة للناس في علم يكتمونه ؟ فعلم لا يَقال به ككنز لا يُنفق منه ،وكيف يأتم الناس بمن لا يبين لهم العلم المكتوم ، كالإمام المعدوم ، وكلاهما لا يُنتفع به ، ولا يحصل به لطف ولا مصلحة . وإن قالوا : بل كانوا يبينون ذلك لخواصّهم دون هؤلاء الأئمة . قيل : أولا : هذا كذب عليهم، فإن جعفر بن محمد لم يجيء بعده مثله . وقد أخذ العلم عنه هؤلاء الأئمة ، كمالك ، وابن عيينة ، والثوري ، وابن جريج ، ويحيى بن سعيد ، وأمثالهم من العلماء المشاهير الأعيان .
ثم من ظن بهؤلاء السادة أنهم يكتمون علمهم ويخصّون به قوما مجهولين ليس لهم في الأمة لسان صدق ، فقد أساء الظن بهم ؛ فإن في هؤلاء من المحبة لله ولرسوله ، والطاعة له ، والرغبة في حفظ دينه وتبليغه ، وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه ، وصيانته عن الزيادة والنقصان ، ما لا يوجد قريب منه لأحد من شيوخ الشيعة .وهذا أمر معلوم بالضرورة لمن عرف هؤلاء وهؤلاء . واعتبر هذا مما تجده في كل زمان من شيوخ السنة وشيوخ الرافضة ، كمصنِّف هذا الكتاب ، فإنه عند الإمامية أفضلهم في زمانه، بل يقول بعض الناس : ليس في بلاد المشرق أفضل منه في جنس العلوم مطلقا .ومع هذا فكلامه يدل على أنه من أجهل خلق الله بحال النبي (وأقواله وأعماله ، فيروى الكذب الذي يظهر أنه كذب من وجوه كثيرة ، فإن كان عالما بأنه كذب ، فقد ثبت عنه (أنه قال : (( من حدَّث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين )) وإن كان جاهلا بذلك دلّ على أنه من أجهل الناس بأحوال النبي (كما قيل :
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
(فصل)(173/190)
قال الرافضي : (( وما أظن أحدا من المحصِّلين وقف على هذه المذاهب واختار غير مذهب الإمامية باطنا ، وإن كان في الظاهر يصير إلى غيره طلبا لدنيا ، حيث وُضعت لهم المدارس والربط والأوقاف حتى تستمر لبني العباس الدعوة ويُشيدوا للعامة اعتقاد إمامتهم )).
فيقال : هذا الكلام لا يقوله إلا من هو من أجهل الناس بأحوال أهل السنة ، أو من هو من أعظم الناس كذبا وعنادا ، وبطلانه ظاهر من وجوه كثيرة ؛ فإنه من المعلوم أن السنة كانت قبل أن تُبنى المدارس أقوى وأظهر ، فإن المدارس إنما بُنيت في بغداد في أثناء المائة الخامسة : بنيت النظامية في حدود الستين والأربعمائة ، وبنيتا على مذهب واحد من الأئمة الأربعة . والمذاهب الأربعة طبقت المشرق والمغرب ، وليس لأحد منهم مدرسة ، والمالكية في المغرب لا يُذكر عندهم ولد العباس.
ثم السنة كانت قبل دولة بني العباس أظهر منها وأقوى في دولة بني العباس ، فإن بني العباس دخل في دولتهم كثير من الشيعة وغيرهم من أهل أبدع . ثم أن أهل السنة متفقون على أن الخلافة لا تختص ببني العباس ، وإنه لو تولاهما بعض العلويين أو الأموييين أو غيرهم من بطون قريش جاز ، ثم من المعلوم أن علماء السنة ، كمالك وأحمد وغيرهما ، من أبعد الناس عن مداهنة الملوك أو مقاربتهم ، ثم إن أهل السنة إنما يعظِّمون الخلفاء الراشدين ، وليس فيهم أحد من بني العباس .
ثم من المعلوم لكل عاقل أنه ليس في علماء المسلمين المشهورين أحد رافضي ، بل كلهم متفقون على تجهيل الرافضة وتضليلهم ، وكتبهم كلها شاهدة بذلك ، وهذه كتب الطوائف كلها تنطق بذلك ، مع أنه لا أحد يلجئهم إلى ذكر الرافضة ، وذكر جهلهم وضلالهم .(173/191)
وهم دائما يذكون من جهل الرافضة وضلالهم ما يُعلم معه بالاضطرار أنهم يعتقدون أن الرافضة من أجهل الناس وأضلهم ، وأبعد طوائف الأمة عن الهدى . كيف ومذهب هؤلاء الإمامية قد جمع عظائم البدع المنكرة ، فإنهم جهمية قدرية رافضة ،وكلام السلف والعلماء في ذم كل صنف من هذه الأصناف لا يحصيه إلا الله ، والكتب مشحونة بذلك ، ككتب الحديث والآثار والفقه والتفسير والأصول والفروع وغير ذلك ، وهؤلاء الثلاثة شر من غيرهم من أهل البدع كالمرجئة والحرورية .
والله يعلم أني مع كثرة بحثي وتطلعي إلى معرفة أقوال الناس ومذاهبهم ما علمت رجلا له في الأمة لسان صدق يُتهم بمذهب الإمامية ، فضلا عن أن يُقال : إنه يعتقده في الباطن .
وقد اتُّهم بمذهب الزيدية الحسن بن الصالح بن حيّ ، وكان فقيها صالحا زاهدا، وقيل : إن ذلك كذب عليه ، ولم ينقل أحد عنه : إنه طعن في أبي بكر وعمر ، فضلا عن أن يشك في إمامتهما ، واتُّهم طائفة من الشيعة الأولى بتفضيل عليّ على عثمان ، ولم يُتهم أحد من الشيعة الأولى بتفضيل عليّ على أبي بكر وعمر ، بل كانت عامة الشيعة الأولى الذين يحبون عليًّا يفضِّلون عليه أبا بكر وعمر ، لكن كان فيهم طائفة ترجِّحه على عثمان ، وكان الناس في الفتنة صاروا شيعتين : شيعة عثمانية ، وشيعة علوية . وليس كل من قاتل مع عليّ كان يفضله على عثمان ، بل كان كثير منهم يفضّل عثمان على عليّ ، كما هو قول سائر أهل السنة .
( فصل)(173/192)
قال الرافضي : (( وكثيرا ما رأينا من يتدين في الباطن بمذهب الإمامية ، ويمنعه عن إظهار حبّ الدنيا وطلب الرياسة ، وقد رأيت بعض أئمة الحنابلة يقول : إني على مذهب الإمامية فقلت : لم تدرس على مذهب الحنابلة ؟ فقال : ليس في مذهبكم البغلات والمشاهرات . وكان أكبر مدرسي الشافعية في زماننا حيث توفي أوصى أن يتولى أمره في غُسله وتجهيزه بعض المؤمنين ، وأن يُدفن في مشهد مولانا الكاظم ، وأشهد عليه أنه كان على مذهب الإمامية )).
والجواب : أن قوله : (( وكثيرا ما رأينا )) هذا كذب ، بل قد يوجد في بعض المنتسبين إلى مذهب الأئمة الأربعة من هو في الباطن رافضي ، كما يوجد في المظهرين للإسلام من هو في الباطن منافق ، فإن الرافضة لما كانوا من جنس المنافقين يخفون أمرهم احتاجوا أن يتظاهروا بغير ذلك ، كما احتاج المنافقون أن يتظاهروا بغير الكفر ، ولا يوجد هذا إلا فيمن هو جاهل بأحوال النبي ( وأمور المسلمين كيف كانت في أول الإسلام. وأما من عرف الإسلام كيف كان ، وهو مقرٌّ بأن محمداً رسول الله باطنا وظاهرا ، فإنه يمتنع أن يكون في الباطن رافضيا ، ولا يُتصور أن يكون في الباطن رافضيا إلا زنديق منافق ، أو جاهل بالإسلام كيف كان مُفرط في الجهل .
والحكاية التي ذكرها عن بعض الأئمة المدرسين ذكر لي بعض البغداديين أنها كذب مفترى ، فإن كان صادقا فيما نقله عن بعض المدرسين من هؤلاء وهؤلاء ، فلا يُنكر أن يكون في المنتسبين إلى الأئمة الأربعة من هو زنديق ملحد مارق من الإسلام ،فضلا عن أن يكون رافضيا . ومن استدل بزندقة بعض الناس في الباطن على أن علماء المسلمين كلهم زنادقة ، كان من أجهل الناس، كذلك من استدل برفض بعض الناس في الباطن .
( فصل )(173/193)
قال الرافضي : ((الوجه الخامس : في بيان وجوب اتباع مذهب الإمامية أنهم لم يذهبوا إلى التعصب في غير الحق ، بخلاف غيرهم ، فقد ذكر الغزالي والماوردي ، وهما إمامان للشافعية ، أن تسطيح القبور هي المشروع، لكن لما جعلته الرافضة شعارا لهم عدلنا عنه إلى التسنيم ، وذكر الزمخشري ، وكان من أئمة الحنفية ، في تفسير قوله تعالى : { ُهوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُم وَمَلاَئِكَتَهُ } (1) أنه يجوز بمقتضى هذه الآية أن يُصلَّى على آحاد المسلمين ، لكن لما اتخذت الرافضة ذلك في أئمتهم منعناه . وقال مصنف (( الهداية )) من الحنفية: إن المشروع التختم في اليمين ، ولكن لما اتخذته الرافضة جعلنا التختم في اليسار ، وأمثال ذلك كثير فانظر إلى من يغيّر الشريعة ويبدِّل الأحكام التي ورد بها النص عن النبي ( ويذهب إلى ضد الصواب معاندة لقوم معينين ، فهل يجوز اتّباعه والمصير إلى أقواله ؟))
والجواب من طريقتين : أحدهما : أن هذا الذي ذكره هو بالرافضة ألصق .
والثاني : أن أئمة السنة براء من هذا .
__________
(1) الآية 43 من سورة الأحزاب .(173/194)
أما الطريق الأول فيقال : لا نعلم طائفة أعظم تعصبا في الباطل من الرافضة ، حتى إنهم دون سائر الطوائف عُرف منهم شهادة الزور لموافقهم على مخالفهم ، وليس في التعصب أعظم من الكذب ، وحتى أنهم في التعصب جعلوا للبنت جميع الميراث ، ليقولوا : إن فاطمة رضى الله عنها ورثت رسول الله ( دون عمه العباس ( ، وحتى أن فيهم من حرَّم لحم الجمل لأن عائشة قاتلت على جمل ، فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله (وإجماع الصحابة والقرابة لأمر لا يناسب ذلك ، فإن ذلك الجمل الذي ركبته عائشة رضى الله عنها مات ،ولو فرض أنه حيّ فركوب الكفّار على الجمال لا يوجب تحريمها، وما زال الكفّار يركبون جمالا ويغنمها المسلمون منهم ، ولحمها حلال لهم ، فأي شيء في ركوب عائشة للجمل مما يوجب تحريم لحمه ؟وغاية ما يفرضون أن بعض من يجعلونه كافرا ركب جملا ، مع أنهم كاذبون مفترون فيما يرمون به أم المؤمنين رضى الله عنها .
ومن تعصبهم أنهم لا يذكرون اسم (( العشرة )) بل يقولون تسعة وواحد ، وإذا بنوا أعمدة أو غيرها لا يجعلونها عشرة ، وهم يتحرُّون ذلك في كثير من أمورهم .
ومن تعصبهم أنهم إذا وجدوا مسمّى بعليّ أو جعفر أو الحسن أو الحسين بادروا إلى إكرامه ، مع أنه قد يكون فاسقا ، وقد يكون في الباطن سنياً ، فإن أهل السنة يسمُّون بهذه الأسماء . كل هذا من التعصب والجهل ، ومن تعصبهم وجهلهم أنهم يُبغضون بني أمية كلهم لكون بعضهم كان ممن يبغض عليًّا .(173/195)
وقد كان في بني أمية قوم صالحون ماتوا قبل الفتنة ، وكان بنو أمية اكثر القبائل عمَّالا للنبي (، فإنه لما فتح مكة استعمل عليها عتّاب ابن أسيد بن أبي العاصي بن أمية، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص بن أمية ، وأخويه أَبان بن سعيد وسعيد بن سعيد على أعمال أُخر ، واستعمل أبا سفيان بن حرب بن أمية على نجران أو ابنه يزيد ، ومات وهو عليها ، وصاهر نبي الله ( ببناته الثلاث لبني أمية ، ،فزوّج أكبر بناته زينب بأبي العاص بن الربيع بن أمية بن عبد شمس ، وحمد صهره لما أراد عليٌّ أن يتزوج ببنت أبي جهل ، فذكر صهراً له من بني أمية بن عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته ، وقال:((حدثني فصدقني ، ووعدني فوفَّى لي)). وزوَّج ابنتيه لعثمان بن عفان ، واحدة بعد واحدة ، وقال:(( لو كانت عندنا ثالثة لزوجناها عثمان)) .
وكذلك من جهلهم وتعصبهم أنهم يبغضون أهل الشام ، لكونهم كان فيهم أولا من يبغض عليًّا . ومعلوم أن مكة كان فيها كفّار ومؤمنون ، وكذلك المدينة كان فيها مؤمنون ومنافقون ، والشام في هذه الأعصار لم يبق فيه من يتظاهر ببغض عليّ ، ولكن لفرط جهلهم يسحبون ذيل البغض .وكذلك من جهلهم أنهم يذمون من ينتفع بشيء من آثار بني أمية ، كالشرب من نهر يزيد، ويزيد لم يحفره ولكن وسَّعه ، وكالصلاة في جامع بناه بنو أمية . ومن المعلوم أن النبي ( كان يصلِّي إلى الكعبة التي بناها المشركون ، وكان يسكن في المساكن التي بنوها ، وكان يشرب من ماء الآبار التي حفروها ، ويلبس من الثياب التي نسجوها ، ويعامل بالدراهم التي ضربوها . فإذا كان ينتفع بمساكنهم وملابسهم ، والمياه التي أنبطوها ، والمساجد التي بنوها ، فكيف بأهل القبلة ؟ !
فلو فرض أن يزيد كان حافراً وحفر نهرا ، لم يكره الشرب منه بإجماع المسلمين ،ولكن لفرط تعصبهم كرهوا ما يضاف إلى من يبغضونه .(173/196)
ولقد حدثني ثقة أنه كان لرجل منهم كلب فدعاه آخر منهم : بكير ، فقال صاحب الكلب : أتسمي كلبي بأسماء أصحاب النار ؟ فاقتتلا على ذلك حتى جرى بينهما دم . فهل يكون أجهل من هؤلاء ؟!
وأما الطريق الثاني في الجواب فنقول : الذي عليه أئمة الإسلام إن كان مشروعاً لم يُترك لمجرد فعل أهل البدع : لا الرافضة ولا غيرهم . وأصول الأئمة كلهم توافق هذا ، منها مسألة التسطيح الذي ذكرها ، فإن مذهب أبي حنيفة وأحمد أن تسنيم القبور أفضل ، كما ثبت في الصحيح أن قبر النبي (كان مسنَّماً ، ولأن ذلك أبعد عن مشابهة أبنية الدنيا، وأمنع عن القعود على القبور .والشافعي يستحب التسطيح لما رُوى من الأمر بتسوية القبور ، فرأى أن التسوية هي التسطيح . ثم إن بعض أصحابه قال : إن هذا شعار الرافضة فيُكره ذلك ، فخالفه جمهور الأصحاب وقالوا : بل هو المستحب وإن فعلته الرافضة .
وكذلك الجهر بالبسملة هو مذهب الرافضة ، وبعض الناس تكلَّم في الشافعي بسببها ، وبسبب القنوت ،ونسبه إلى قول الرافضة والقدرية ، لأن المعروف في العراق إن الجهر كان من شعار الرافضة ، وأن القنوت في الفجر كان من شعار القدرية الرافضة ، حتى أن سفيان الثوري وغيره من الأئمة يذكرون في عقائدهم ترك الجهر بالبسملة ، لأنه كان عندهم من شعار الرافضة ، كما يذكرون المسح على الخفين لأن تركه كان من شعار الرافضة، ومع هذا فالشافعي لما رأى أن هذا هو السنة كان ذلك مذهبه وإن وافق قول الرافضة .
وكذلك إحرام أهل العراق من العقيق يستحب عنده ، وإن كان ذلك مذهب الرافضة ، ونظائر هذا كثيرة .
(فصل )(173/197)
قال الرافضي : (( مع أنهم ابتدعوا أشياء ، واعترفوا بأنها بدعة ، وأن النبي ( قال : (( كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة فإن مصيرها النار )). وقال (: (( من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو ردّ ))، ولو ردوا عنها كرهته نفوسهم ونفرت قلوبهم ، كذكر الخلفاء في خطبهم ، مع أنه بالإجماع لم يكن في زمن النبي (، ولا في زمن أحد من الصحابة والتابعين ، ولا في زمن بني أمية ، ولا في صدور ولاية العباسيين ، بل شيء أحدثه المنصور لما وقع بينه وبين العلوية خلاف،فقال:والله لأرغمن أنفي وأنوفهم وأرفع عليهم بني تيم وعدي ،وذكر الصحابة في خطبته ، واستمرت هذه البدعة إلى هذا الزمان )).
فيقال : الجواب من وجوه : أحدها : أن ذكر الخلفاء على المنبر كان على عهد عمر بن عبد العزيز ، بل قد رُوى أنه كان على عهد عمر بن الخطاب ( .
الوجه الثاني : أنه قيل : أن عمر بن عبد العزيز ذكر الخلفاء الأربعة لما كان بعض بني أمية يسبُّون عليا ، فعوَّض عن ذلك بذكر الخلفاء والترضّي عنهم ، ليمحو تلك السنة الفاسدة .
الوجه الثالث : أن ما ذكره من إحداث المنصور وقصده بذلك باطل ، فإن أبا بكر وعمر(ما توليا الخلافة قبل المنصور وقبل بني أمية، فلم يكن في ذكر المنصور لهما إرغام لأنفه ولا لأنوف بني عليّ، إلا لو كان بعض بني تيْم أو بعض بني عدي ينازعهم الخلافة ، ولم يكن أحد من هؤلاء ينازعهم فيها .(173/198)
الوجه الرابع : أن أهل السنة لا يقولون : إن ذكر الخلفاء الأربعة في الخطبة فرضٌ ، بل يقولون : إن الاقتصار على عليّ وحده ، أو ذكر الاثنى عشر هو البدعة المنكرة التي لم يفعلها أحد ، لا من الصحابة ، ولا من التابعين ، ولا من بني أمية ، ولا من بني العباس . كما يقولون : إن سب عليّ أو غيره من السلف بدعة منكرة ، فإن كان ذكر الخلفاء الأربعة بدعة ، مع أن كثيراً من الخلفاء فعلوا ذلك ، فالاقتصار على عليّ ، مع أنه لم يسبق إليه أحد من الأمة أوْلى أن يكون بدعة ، وإن كان ذكر عليٍّ لكونه أمير المؤمنين مستحبا ، فذكر الأربعة الذين هم الخلفاء الراشدون أوْلى بالاستحباب ، لكن الرافضة من المطففين : يرى أحدهم القَذَاة في عيون أهل السنة ، ولا يرى الجذع المعترض في عينه .
ومن المعلوم أن الخلفاء الثلاثة اتفق عليهم المسلمون ، وكان السيف في زمانهم مسلولا على الكفار ، مكفوفاً عن أهل الإسلام . وأما عليّ فلم يتفق المسلمون على مبايعته ، بل وقعت الفتنة تلك المدة ، وكان السيف في تلك المدة مكفوفا عن الكفار مسلولاً على أهل الإسلام ، فاقتصار المقتصر على ذكر عليّ وحده دون من سبقه ، هو ترك لذكر الأئمة وقت اجتماع المسلمين وانتصارهم على عدوهم ، واقتصار على ذكر الإمام الذي كان إماما وقت افتراق المسلمين وطلب عدوهم لبلادهم .
( فصل)
قال الرافضي : (( وكمسح الرجلين الذي نصّ الله تعالى عليه في كتابه العزيز فقال : { َ فاْغسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُم إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْن } (1) ، وقال ابن عباس : (( عضوان مغسولان، وعضوان ممسوحان ، فغيروه وأوجبوا الغسل )) .
__________
(1) الآية 6 من سورة المائدة .(173/199)
فيقال : الذين نقلوا عن النبي (الوضوء قولا وفعلا، والذين تعلّموا الوضوء منه وتوضؤوا على عهده ، وهو يراهم ويقرهم عليه ونقلوه إلى من بعدهم ، أكثر عددا من الذين نقلوا لفظ هذه الآية ، فإن جميع المسلمين كانوا يتوضؤون على عهده ، ولم يتعلموا الوضوء إلا منه (؛ فإن هذا العمل لم يكن معهوداً عندهم في الجاهلية ، وهم قد رأوه يتوضأ ما لا يحصى عدده إلا الله تعالى ، ونقلوا عنه ذكر غسل الرجلين فيما شاء الله من الحديث ، حتى نقلوا عنه من غير وجه في الصحاح وغيرها أنه قال : (( ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار)) ، مع أن الفرض إذا كان مسح ظهر القدم ، كان غسل الجميع كلفة لا تدعو إليها الطباع ، كما تدعو الطباع إلى طلب الرئاسة والمال فإن جاز أن يقال : إنهم كذبوا وأخطؤوا فيما نقلوه عنه من ذلك ، كان الكذب والخطأ فيما نُقل من لفظ الآية أقرب إلى الجواز .
وإن قيل بل لفظت الآية بالتواتر الذي لا يمكن الخطأ فيه ، فثبوت التواتر في نقل الوضوء عنه أوْلى وأكمل ،ولفظ الآية لا يخالف ما تواتر من السنَّة ، فإن المسح جنس تحته نوعان : الإسالة ، وغير الإسالة ، كما تقول العرب : تمسَّحت للصلاة ، فما كان بالإسالة فهو الغسل ، وإذا خص أحد النوعين باسم الغسل فقد يخص النوع الآخر باسم المسح ، فالمسح يُقال على المسح العام الذي يندرج فيه الغسل ، ويُقال على الخاص الذي لا يندرج فيه الغسل.(173/200)
وفي القرآن ما يدل على أنه لم يُرد بمسح الرجلين المسح الذي هو قسيم الغسل ، بل المسح الذي الغسل قسم منه ؛ فإنه قال : { إلى الكعبين } ولم يقل : إلى الكعاب ، كما قال : { إلى المرافق } ، فدل على أنه ليس في كل رجل كعب واحد ، كما في كل يد مرفق واحد ، بل في كل رجل كعبان ، فيكون تعالى قد أمر بالمسح إلى العظمين الناتئين ، وهذا هو الغسل ، فإن من يمسح المسح الخاص يجعل المسح لظهور القدمين ، وفي ذكره الغسل في العضوين الأوَّليْن والمسح في الآخرين ، التنبيه على أن هذين العضوين يجب فيهما المسح العام ، فتارة يُجزئ المسح الخاص ، كما في مسح الرأس والعمامة والمسح على الخفين ، وتارة لا بد من المسح الكامل الذي هو غسل، كما في الرجلين المكشوفتين .
وقد تواترت السنة عن النبي ( بالمسح على الخفين وبغسل الرجلين ، والرافضة تخالف هذه السنة المتواترة، كما تخالف الخوارج نحو ذلك ، مما يتوهمون أنه مخالف لظاهر القرآن ، بل تواتر غسل الرجلين والمسح على الخفين عن النبي (أعظم من تواتر قطع اليد في ربع دينار، أو ثلاثة دراهم ، أو عشرة دراهم ، أو نحو ذلك .
وفي الجملة فالقرآن ليس فيه نفي إيجاب الغسل ، بل فيه إيجاب المسح، فلو قدِّر أن السنة أوجبت قدراً زائدا على ما أوجبه القرآن لم يكن في هذا رفعا لموجب القرآن ، فكيف إذا فسَّرته وبيَّنت معناه ؟ وهذا مبسوط في موضعه .
( فصل )
قال الرافضي : (( وكالمتعتين اللتين ورد بهما القرآن ، فقال في متعة الحج : { َفمنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي } (1) وتأسّف النبي (على فواتها لما حجَّ قارنا، وقال لو ((استقبلت من أمرى ما استدبرت لما سقت الهدى )) وقال في متعة النساء : { َفما اْستَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَأْتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَة } (2)
__________
(1) الآية 196 من سورة البقرة .
(2) الآية 24 من سورة النساء .(173/201)
واستمرت فعلهما مدة زمان النبي (ومدة خلافة أبي بكر ، وبعض خلافة عمر ، إلى أن صعد المنبر ، وقال: (( متعتان كانتا محللتين على عهد رسول الله (وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما )) .
والجواب أن يقال : أما متعة الحج فمتفق على جوازها بين أئمة المسلمين ، ودعواه أن أهل السنة ابتدعوا تحريمها كذب عليهم ، بل أكثر علماء السنة يستحبون المتعة ويرجّحونها أو يوجبونها . والمتعة اسم جامع لمن اعتمر في أشهر الحج وجمع بينها وبين الحج في سفر واحد ، سواء حلّ من إحرامه بالعمرة ثم أحرم بالحج ، أو أحرم بالحج قبل طوافه بالبيت وصار قارنا ، أو بعد طوافه بالبيت وبين الصفا والمروة قبل التحلل من إحرامه لكونه ساق الهدى ، أو مطلقا. وقد يراد بالمتعة مجرد العمرة في أشهر الحج .
وأكثر العلماء ، كأحمد وغيره من فقهاء الحديث ، وأبي حنيفة وغيره من فقهاء العراق ، والشافعي في أحد قوْلَيه ، وغيره من فقهاء مكة: يستحبون المتعة .
وأما متعة النساء المتنازع فيها فليس في الآية نصٌّ صريح بحلها ، فإنه تعالى قال : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِين فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَة إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا . وَمَنْ لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } (1) الآية . فقوله : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } يتناول كل من دخل بها من النساء، فإنه أمر بأن يعطى جميع الصداق ، بخلاف المطلّقة قبل الدخول التي لم يستمتع بها فإنها لا تستحق إلا نصفه .
__________
(1) الآيتان 24، 25 من سورة النساء .(173/202)
وهذا كقوله تعالى : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } (1) . فجعل الإفضاء مع العقد موجبا لاستقرار الصداق ، يبيّن ذلك أنه ليس لتخصيص النكاح المؤقت بإعطاء الأجر فيه دون النكاح المؤبد معنى ، بل إعطاء الصداق كاملا في المؤبد أوْلى ، فلا بد أن تدل الآية على المؤبد : إما بطريق التخصيص ، وإما بطريق العموم .
يدل على ذلك أنه ذكر بعد هذا نكاح الإماء ، فعُلم أن ما ذُكر كان في نكاح الحرائر مطلقا . فإن قيل : ففي قراءة طائفة من السلف : { َفما اْستَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى } قيل : أوّلا : ليست هذه القراءة متواترة، وغايتها أن تكون كأخبار الآحاد . ونحن لا ننكر أن المتعة أحلت في أوّل الإسلام ، لكن الكلام في دلالة القرآن على ذلك .
الثاني : أن يقال: هذا الحرف إن كان نزل ، فلا ريب أنه ليس ثابتا من القراءة المشهورة ، فيكون منسوخا ، ويكون نزوله لما كانت المتعة مباحة، فلما حُرِّمت نسخ هذا الحرف ، ويكون الأمر بالإيتاء في الوقت تنبيها على الإيتاء في النكاح المطلق . وغاية ما يقال إنهما قراءتان ،وكلاهما حق.والأمر بالإيتاء في الاستمتاع إلى أجل مسمَّى واجب إذا كان ذلك حلالا ، وإنما يكون ذلك إذا كان الاستمتاع إلى أجل مسمَّى حلالا ، وهذا كان في أول الإسلام ، فليس في الآية ما يدل على أن الاستمتاع بها إلى أجل مسمَّى حلال ، فإنه لم يقل : وأحل لكم أن تستمتعوا بهن إلى أجل مسمَّى ، بل قال : { َفما اْستَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فهذا يتناول ما وقع من الاستمتاع : سواء كان حلالا ، أو كان في وطء شبهة .
__________
(1) الآية 21 من سورة النساء .(173/203)
ولهذا يجب المهر في النكاح الفاسد بالسنة والاتفاق . والمتمتع إذا اعتقد حلّ المتعة وفَعَلَها فعليه المهر ، وأما الاستمتاع المحرّم فلم تتناوله الآية؛ فإنه لو استمتع بالمرأة من غير عقد مع مطاوعتها ، لكان زنا ، ولا مهر فيه . وإن كانت مستكرهة ، ففيه نزاع مشهور .
... وأما ما ذكره من نهي عمر عن متعة النساء ، فقد ثبت عن النبي (أنه حرَّم متعة النساء بعد الإحلال . هكذا رواه الثقات في الصحيحين وغيرهما عن الزهري عن عبد الله والحسن ابنى محمد بن الحنفية عن أبيهما محمد بن الحنفية، عن علي بن أبي طالب ( ، أنه قال لابن عباس ( لما أباح المتعة : إنك امرؤ تائه ، إن رسول الله ( حرَّم المتعة ولحوم الحمر الأهلية عام خيبر(1) ، رواه عن الزهري أعلم أهل زمانه بالسنة وأحفظهم لها ، أئمة الإسلام في زمنهم ، مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وغيرهما ، ممن اتفق المسلمون على علمهم وعدلهم وحفظهم ، ولم يختلف أهل العلم بالحديث في أن هذا حديث صحيح متلقى بالقبول ، ليس في أهل العلم من طعن فيه .
وكذلك ثبت في الصحيح أنه حرَّمها في غزاة الفتح إلى يوم القيامة(2) . وقد تنازع رواة حديث علي ّ( : هل قوله : ((عام خيبر )) توقيت لتحريم الحُمُر فقط أو له ولتحريم المتعة ؟ فالأول قول ابن عيينة وغيره ، قالوا : إنما حرّمت عام الفتح . ومن قال بالآخر قال : إنها حرّمت ثم أحلّت ثم حرّمت . وادعت طائفة ثالثة أنها أحلّت بعد ذلك ، ثم حرّمت في حجة الوداع.
__________
(1) انظر البخاري ج7 ص12 و مسلم ج2 ص 1027 .
(2) انظر صحيح مسلم ج2 ص1026 .(173/204)
فالروايات المستفيضة المتواترة متواطئة على أنه حرّم المتعة بعد إحلالها . والصواب أنها بعد أن حرّمت لم تُحل ، وأنها إنما حرّمت عام فتح مكة ولم تُحل بعد ذلك ، ولم تحرّم عام خيبر، بل عام خيبر حرّمت لحوم الحُمُر الأهلية . وكان ابن عباس يبيح المتعة ولحوم الحُمُر فأنكر علي بن أبي طالب ( ذلك عليه ، وقال له : إن رسول الله ( حرّم متعة النساء وحرّم لحوم الحمر يوم خيبر، فقرن علي ّ( بينهما في الذكر لما روى ذلك لابن عباس رضى الله عنهمما ، لأن ابن عباس كان يبيحهما . وقد روى عن ابن عباس ( أنه رجع عن ذلك لما بلغه حديث النهي عنهما .
فأهل السنة اتبعوا عليا وغيره من الخلفاء الراشدين فيما رووه عن النبي (.
والشيعة خالفوا عليًّا فيما رواه عن النبي (، واتبعوا قول من خالفه .
وأيضا فإن الله تعالى إنما أباح في كتابه الزوجة وملك اليمين ، والمتمتع بها ليست واحدة منهما ، فإنها لو كانت زوجة لتوارثا ، ولوجبت عليها عدة الوفاة، ولحقها الطلاق الثلاث ؛ فإن هذه أحكام الزوجة في كتاب الله تعالى ، فلما انتفى عنها لوازم النكاح دل على انتفاء النكاح فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم . والله تعالى إنما أباح في كتابه الأزواج وملك اليمين ، وحرَّم ما زاد على ذلك بقوله تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون. إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين . فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُون } (1) .
والمستمتع بها بعد التحريم ليست زوجة ولا ملك يمين ، فتكون حراما بنص القرآن . أما كونها ليست مملوكة فظاهر ، وأما كونها ليست زوجة فلانتفاء لوازم النكاح فيها ، فإن من لوازم النكاح كونه سببا للتوارث وثبوت عدة الوفاة فيه ، والطلاق الثلاث ، وتنصيف المهر بالطلاق قبل الدخول ، وغير ذلك من اللوازم .
( فصل )
__________
(1) الآيات 5-7 من سورة المؤمنون .(173/205)
قال الرافضي : (( ومنع أبو بكر فاطمة إرثها فقالت يا ابن أبي قحافة أترث أباك ولا أرث أبي ؟ والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها – وكان هو الغريم لها ، لأن الصدقة تحل ّله – لأن النبي ( قال: (( نحن معاشر الأنبياء لا نُورث ، ما تركناه صدقة )) على أن ما رووه عنه فالقرآن يخالف ذلك ، لأن الله تعالى قال: { ُيوصيكمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَينْ } (1) .ولم يجعل الله ذلك خاصا بالأمة دونه (، وكذّب روايتهم فقال تعالى : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانَ دَاوُد } (2) ، وقال تعالى عن زكريا : { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَّدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوب } (3) .
والجواب عن ذلك من وجوه : أحدها : أن ما ذكر من قول فاطمة رضى الله عنها : أترث أباك ولا أرث أبي ؟ لا يُعلم صحته عنها ، وإن صح فليس فيه حجة ، لأن أباها صلوات الله وسلامه عليه لا يُقاس بأحد من البشر ، وليس أبو بكر أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم كأبيها ، ولا هو ممن حرَّم الله عليه صدقة الفرض والتطوع كأبيها ، ولا هو أيضا ممن جعل الله محبته مقدمة على محبة الأهل والمال ، كما جعل أباها كذلك .
والفرق بين الأنبياء وغيرهم أن الله تعالى صان الأنبياء على أن يورَّثوا دنيا ، لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وخلَّفوا لورثتهم . وأما أبو بكر الصديق وأمثاله فلا نبوة لهم يُقدح فيها بمثل ذلك ، كما صان الله تعالى نبينا عن الخط والشعر صيانة لنبوّته عن الشبهة ، وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة .
__________
(1) الآية 11 من سورة النساء .
(2) الآية 16 من سورة النمل .
(3) الآية 5و6 من سورة مريم .(173/206)
الثاني : أن قوله : (( والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها )) كذب ؛ فإن قول النبي (: (( لا نُورَثُ ما تركنا فهو صدقة )) رواه عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب وأزواج النبي (وأبو هريرة، والرواية عن هؤلاء ثابتة في الصحاح والمسانيد ، مشهورة يعلمها أهل العلم بالحديث(1) فقول القائل : إن أبا بكر انفرد بالرواية ، يدل على فرط جهله أو تعمده الكذب .
الثالث : قوله : (( وكان هو الغريم لها )) كذب ، فإن أبا بكر( لم يدع هذا المال لنفسه ولا لأهل بيته ، وإنما هو صدقة لمستحقيها كما أن المسجد حق للمسلمين .
الرابع : أن الصديق( لم يكن من أهل هذه الصدقة ، بل كان مستغنيا عنها ، ولا انتفع هو ولا أحد من أهله بهذه الصدقة ؛ فهو كما لو شهد قوم من الأغنياء على رجل أنه وصّى بصدقة للفقراء ؛ فإن هذه شهادة مقبولة بالاتفاق .
الخامس : أن هذا لو كان فيه ما يعود نفعه على الراوي له من الصحابة لقُبلت روايته لأنه من باب الرواية لا من باب الشهادة ، والمحدِّث إذا حدَّث بحديث في حكومة بينه وبين خصمه قُبلت روايته للحديث ، لأن الرواية تتضمن حكما عاما يدخل فيه الراوي وغيره .وهذا من باب الخير ، كالشهادة برؤية الهلال ؛ فإن ما أمر به النبي (يتناول الراوي وغيره، وكذلك ما نهى عنه ، وكذلك ما أباحه .
وهذا الحديث تضمَّن رواية بحكم شرعي ، ولهذا تضمن تحريم الميراث على ابنة أبي بكر عائشة(ا ، وتضمن تحريم شرائه لهذا الميراث من الورثة واتّهابه لذلك منهم ، وتضمن وجوب صرف هذا المال في مصارف الصدقة .
السادس : أن قوله : (( على ما رووه فالقرآن يخالف ذلك ، لأن الله تعالى قال: { ُيوصيكمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلَّذَكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن } (2) ولم يجعل الله ذلك خاصا بالأُمَّة دونه (.
__________
(1) انظر البخاري : ج4 ص 79 ، ومسلم : ج3 ص 1376 .
(2) الآية 11 من سورة النساء .(173/207)
فيقال: أولا : ليس في عموم لفظ الآية ما يقتضي أن النبي ( يورث ، فإن الله تعالى قال : { ُيوصيكمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلَّذَكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَك وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كاَنَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُدُس } (1) وفي الآية الأخرى : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لمَ ْيَكُن لَهُنَّ وَلَد فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْن } –إلى قوله- { منْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غيرَ مُضَارٍّ } ( (2) .
وهذا الخطاب شامل للمقصودين بالخطاب وليس فيه ما يوجب أن النبي ( مخاطب بها .
الوجه التاسع : أن يقال : كون النبي ( لا يُورث ثبت بالسنة المقطوع بها وبإجماع الصحابة وكل منهما دليل قطعي ، فلا يُعارض ذلك بما يُظن أنه العموم ، وإن كان عموما فهو مخصوص ، لأن ذلك لو كان دليلا لما كان إلا ظنيا ، فلا يعارض القطعي ؛ إذ الظنى لا يعارض القطعي .
وذلك أن هذا الخبر رواه غير واحد من الصحابة في أوقات ومجالس، وليس فيهم من ينكره ، بل كلهم تلقّاه بالقبول والتصديق . ولهذا لم يُصرّ أحد من أزواجه على طلب الميراث ،ولا أصرّ العم على طلب الميراث ،بل من طلب من ذلك شيئا فأخبر بقول النبي ( رجع عن طلبه. واستمر الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين إلى عليّ ، فلم يغير شيئا من ذلك ولا قسم له تركة .
__________
(1) الآية 11 من سورة النساء .
(2) الآية 12 من سورة النساء .(173/208)
الوجه العاشر : أن يقال : إن أبا بكر وعمر قد أعطيا عليّا وأولاده من المال أضعاف أضعاف ما خلّفه النبي (من المال . والمال الذي خلّفه النبي ( لم ينتفع واحد منهما منه بشيء ، بل سلَّمه عمر إلى العباس(م يليانه ويفعلان فيه ما كان النبي ( يفعله . وهذا مما يوجب انتفاء التهمة عنهما في ذلك .
الوجه الحادىعشر: أن قوله تعالى { وَوَرِثَ سُلَيْمَانَ دَاوُد } (1).وقوله
تعالىعن زكريا: { َ فهبْ لِي مِنْ لَّدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوب } (2)
.لا يدل على محل النزاع . لأن الإرث اسم جنس تحته أنواع ، والدال على ما به الاشتراك لا يدل على ما به الامتياز . فإذا قيل : هذا حيوان ، لا يدل على أنه إنسان أو فرس أو بعير .
وذلك أن لفظ ((الإرث )) يُستعمل في إرث العلم والنبوة والملك وغير ذلك من أنواع الانتقال. قال تعالى : { ُثمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } (3) .
وقال تعالى : { أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ . الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هَمْ فِيهَا خَالِدُون } (4). وغيرها كثير في القرآن .
وقال النبي (: (( إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر )) رواه أبو داود وغيره(5) .
الوجه الثالث عشر : أن يقال : المراد بهذا الإرث إرث العلم والنبوة ونحو ذلك لا إرث المال . وذلك لأنه قال : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانَ دَاوُد } ، ومعلوم أن داود كان له أولاد كثيرون غير سليمان ، فلا يختص سليمان بماله .
__________
(1) الآية 16 من سورة النمل .
(2) الآيتان 5 و 6من سورة مريم .
(3) الآية 32 من سورة فاطر .
(4) الآيتان 10 و11 من سورة المؤمنون .
(5) انظر سنن أبي داود : ج3 ص 432 ، والترمذي : ج4 ص 153 وغيرها .(173/209)
وأيضا فليس في كونه ورث ماله صفة مدح ،لا لداود ولا لسليمان ، فإن اليهودي والنصراني يرث ابنه ماله ، والآية سيقت في بيان المدح لسليمان،وما خصه الله به من النعمة .
وأيضا فإرث المال هو من الأمور العادية المشتركة بين الناس ، كالأكل، والشرب ، ودفن الميت . ومثل هذا لا يُقصُّ عن الأنبياء إذ لا فائدة فيه ، وإنما يُقصُّ ما فيه عبرة وفائدة تستفاد ، وإلا فقول القائل : ((مات فلان وورث ابنُه ماله )) مثل قوله : (( ودفنوه )) ومثل قوله : (( أكلوا وشربوا وناموا )) ونحو ذلك مما لا يحسن أن يُجعل من قصص القرآن .
(فصل)(173/210)
قال الرافضي : (( ولما ذكرت فاطمة أن أباها رسول الله (وهبها فدَك قال لها : هات أسودا وأحمر يشهد لك بذلك ، فجاءت بأم أيمن ، فشهدت لها بذلك ، فقال: امرأة لا يقبل قولها . وقد رووا جميعا أن رسول الله ( قال: أم أيمن امرأة من أهل الجنة ، فجاء أمير المؤمنين فشهد لها بذلك ، فقال : هذا بعلك يجرّه إلى نفسه ولا نحكم بشهادته لك ، وقد رووا جميعا أن رسول الله ( قال : عليٌّ مع الحق ، والحق معه يدور معه حيث دار لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فغضبت فاطمة عليها السلام عند ذلك وانصرفت ، وحلفت أن لا تكلمه ولا صاحبه حتى تلقى أباها وتشكو إليه ، فلما حضرتها الوفاة أوصت عليًّا أن يدفنها ليلا ولا يدع أحدا منهم يصلِّي عليها ، وقد رووا جميعا أن النبي ( قال : يا فاطمة إن الله تعالى يغضب لغضبك ويرضى لرضاك، ورووا جميعا أنه قال فاطمة بضعة مني ، من آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله . ولو كان هذا الخبر صحيحا حقا لما جاز له ترك البغلة التي خلفها النبي ( وسيفه وعمامته عند أمير المؤمنين عليّ ، ولما حكم له بها لما ادّعاها العباس ، ولكان أهل البيت الذين طهّرهم الله في كتابه من الرجس مرتكبين ما لا يجوز ، لأن الصدقة عليهم محرّمة . وبعد ذلك جاء إليه مال البحرين وعنده جابر بن عبد الله الأنصاري ، فقال له : إن النبي ( قال لي : إذا أتى مال البحرين حثوث لك ، ثم حثوت لك ، ثلاثا، فقال له : تقدم فخذ بعددها ، فأخذ من بيت مال المسلمين من غير بيِّنة بل بمجرد قوله )) .
والجواب : أن في هذا الكلام من الكذب والبهتان والكلام الفاسد ما لا يكاد يحصى إلا بكلفة ،ولكن سنذكر من ذلك وجوها إن شاء الله تعالى .(173/211)
أحدها : أن ما ذكر من ادّعاء فاطمة رضى الله عنها فَدَاك فإن هذا يناقض كونها ميراثا لها ، فإن كان طلبها بطريق الإرث امتنع أن يكون بطريق الهبة ، وإن كان بطريق الهبة امتنع أن يكون بطريق الإرث ، ثم إن كانت هذه هبة في مرض الموت ، فرسول الله ( منزّه ، إن كان يُورث كما يورث غيره ، أن يوصى لوارث أو يخصه في مرض موته بأكثر من حقه ، وإن كان في صحته فلا بد أن تكون هذه هبة مقبوضة ، وإلا إذا وهب الواهب بكلامه ولم يقبض الموهوب شيئا حتى مات الواهب كان ذلك باطلا عند جماهير العلماء ، فكيف يهب النبي (فَدَك لفاطمة ولا يكون هذا أمرا معروفا عند أهل بيته والمسلمين ، حتى تختص بمعرفته أم أيمن أو علي رضى الله عنهما ؟
الوجه الثاني : أن ادعاء فاطمة ذلك كذب على فاطمة ، وقد قال الإمام أبو العباس بن سريج في الكتاب الذي صنَّفه في الرد على عيسى بن أبان لما تكلَّم معه في باب اليمين والشاهد ، واحتجّ بما احتجّ ، وأجاب عمَّا عارض به عيسى بن أبان ، قال : وأما حديث البحتري بن حسَّان عن زيد بن علي أن فاطمة ذكرت لأبي بكر أن رسول الله (أعطاها فَدَك ، وأنها جاءت برجل وامرأة ، فقال : رجل مع رجل ، وامرأة مع امرأة، فسبحان الله ما أعجب هذا ! قد سألت فاطمة أبا بكر ميراثها وأخبرها عن رسول الله (أنه قال : لا نُورث ، وما حكى في شيء من الأحاديث أن فاطمة ادّعتها بغير الميراث ، ولا أن أحدا شهد بذلك .
ولقد روى جرير عن مغيرة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في فَدَك: (( إن فاطمة سألت النبي (أن يجعلها لها فأبى ، وأن النبي ( كان ينفق منها ويعود على ضَعَفَة بني هاشم ويزوّج منه أيِّمِهم، وكانت كذلك حياة الرسول (أمر صدقة وقبلت فاطمة الحق ، وإني أُشهدكم أني رددتها إلى ما كانت عليه في عهد رسول الله (.(173/212)
ولم يُسمع أن فاطمة رضى الله عنها ادّعت أن النبي ( أعطاها إياها في حديث ثابت متصل ، ولا أن شاهداً شهد لها . ولو كان ذلك لحُكي ، لأنها خصومة وأمر ظاهر تنازعت فيه الأمة وتحادثت فيه ، فلم يقل أحد من المسلمين : شهدت النبي ( أعطاها فاطمة ولا سمعت فاطمة تدّعيها حتى جاء البحتري بن حسّان يحكى عن زيد شيئا لا ندري ما أصله ، ولا من جاء به ، وليس من أحاديث أهل العلم : فضل بن مرزوق عن البحتري عن زيد ، وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يكف عن بعض هذا الذي لا معنى له ، وكان الحديث قد حسن بقول زيد : لو كنت أنا لقضيت بما قضى أبو بكر . وهذا مما لا يثبت على أبي بكر ولا فاطمة لو لم يخالفه أحد ، ولو لم تجر فيه المناظرة ويأتي فيها الرواية ، فكيف وقد جاءت ؟ وأصل المذهب أن الحديث إذا ثبت عن رسول الله (، ثم قال أبو بكر بخلافه ، إن هذا من أبي بكر رحمه الله كنحو ما كان منه في الجدّة ، وأنه متى بلغه الخبر رجع إليه .
ولو ثبت هذا الحديث لم يكن فيه حجة ، لأن فاطمة لم تقل : إني أحلف مع شاهدي فمنعت . ولم يقل أبو بكر : إني لا أرى اليمين مع الشاهد .
قالوا : وهذا الحديث غلط ؛ لأن أسامة بن زيد يروى عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحَدَثان قال : كانت لرسول الله ( ثلاث صفايا: بنو النضير ، وخيبر وفدك . فأما بنو النضير فكانت حُبساً لنوائبه . وأما فَدَك فكانت حُبُساً لأبناء السبيل ، وأما خيبر فجزَّأها رسول الله ( ثلاثة أجزاء : جزئين بين المسلمين ، وجزءاً نفقة لأهله ، فما فَضَلَ عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين جزئين .(173/213)
وروى الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله ( أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله (مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر،فقال أبو بكر:إن رسول الله ( قال:لا نورث ما تركنا صدقة،وإنما يأكل آل محمد من هذا المال،وإنى والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله (عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله (، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا(1).
وقد روى عن أنس أن أبا بكر قال لفاطمة وقد قرأت عليه إني أقرأ مثل ما قرأت ولا يبلغن علمي أن يكون قاله كله . قالت فاطمة : هو لك ولقرابتك ؟ قال : لا وأنت عندي مصدَّقة أمينة ، فإن كان رسول الله (عهد إليك في هذا ، أو وعدك فيه موعداً أو أوجبه لكم حقًّا صدَّقتك. فقالت:لاغيرأن رسول الله ( قال حين أنزل عليه : (( أبشروا يا آل محمد وقد جاءكم الله عز وجل بالغنى )). قال أبو بكر : صدق الله ورسوله وصدقت ، فلكم الفيء ، ولم يبلغ علمي بتأويل هذه أن أستلم هذا السهم كله كاملا إليكم ،ولكن الفيء الذي يسعكم . وهذا يبيِّن أن أبا بكر كان يقبل قولها ، فكيف يرده ومعه شاهد وامرأة؟ ولكنه يتعلق بشيء يجده .
__________
(1) انظر البخاري ج5 ص20 ومسلم ج3 ص1381 –1382 .(173/214)
الوجه الثالث : أن يقال : إن كان النبي ( يُورث فالخصم فيذلك أزواجه وعمه ، ولا تُقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد بكتاب الله وسنة رسوله ( واتفاق المسلمين ، وإن كان لا يُورث فالخصم في ذلك المسلمون ، فكذلك لا يقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد باتفاق المسلمين ، ولا رجل وامرأة . نعم يُحكم في مثل ذلك بشهادة ويمين الطالب عند فقهاء الحجاز وفقهاء أصحاب الحديث . وشهادة الزوج لزوجته فيها قولان مشهوران للعلماء ، هما روايتان عن أحمد : إحداهما : لا تُقبل ، وهي مذهب أبي حنيفة ومالك والليث بن سعد والأوزاعي وإسحاق وغيرهم .
والثانية : تُقبل ، وهي مذهب الإمام الشافعي وأبي ثور وابن المنذر وغيرهم . فعلى هذا لو قدِّر صحة هذه القصة لم يجز للإمام أن يحكم بشهادة رجل واحد وامرأة واحدة باتفاق المسلمين ، لا سيما وأكثرهم لا يجيزون شهادة الزوج ، ومن هؤلاء من لا يحكم بشاهد ويمين ، ومن يحكم بشاهد ويمين لم يحكم للطالب حتى يحلّفه .
الوجه الرابع : قوله : (( فجاءت بأم أيمن فشهدت لها بذلك ، فقال : امرأة لا يُقبل قولها . وقد رووا جميعا أن رسول الله ( قال: (( أم أيمن امرأة من أهل الجنة )) .
الجواب : أن هذا احتاج جاهل مفرط في الجهل يريد أن يحتج لنفسه فيحتج عليها ، فإن هذا القول لو قاله الحجّاج بن يوسف والمختار بن أبي عبيد وأمثالهما لكان قد قال حقّاً ، فإن امرأة واحدة لا يُقبل قولها في الحكم بالمال لمدعٍ يريد أن يأخذ ما هو في الظاهر لغيره ، فكيف إذا حُكى مثل هذا عن أبي بكر الصديق ( ؟!(173/215)
وأما الحديث الذي ذكره وزعم أنهم رووه جميعا ، فهذا الخبر لا يعرف في شيء من دواوين الإسلام ولا يُعرف عالم من علماء الحديث رواه . وأم أيمن هي أم أسامة بن زيد ، وهي حاضنة النبي (، وهي من المهاجرات، ولها حق وحرمة ، لكن الرواية عن النبي ( لا تكون بالكذب عليه وعلى أهل العلم . وقول القائل : ((رووا جميعا )) لا يكون إلا في خبر متواتر ، فمن ينكر حديث النبي ( أنه لا يُورث ، وقد رواه أكابر الصحابة ، ويقول : إنهم جميعا رووا هذا الحديث ، إنما يكون من أجهل الناس وأعظمهم جحداً للحق .
الوجه الخامس : قوله :((إن عليًّا شهد لها فردّ شهادته لكونه زوجها)) فهذا مع أنه كذب لو صح ليس يقدح ، إذ كانت شهادة الزوج مردودة عند أكثر العلماء ، ومن قبلها منهم لم يقبلها حتى يتم النصاب إما برجل آخر وإما بامرأة مع امرأة ، وأما الحكم بشهادة رجل وامرأة مع عدم يمين المدّعي فهذا لا يسوغ .
الوجه السادس : قوله : إنهم رووا جميعا أن رسول الله ( قال : ((عليّ مع الحق ، والحق معه يدور حيث دار ،ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض )) من أعظم الكلام كذبا وجهلا ، فإن هذا الحديث لم يروه أحد عن النبي (: لا بإسناد صحيح ولا ضعيف . فكيف يقال : إنهم جميعا رووا هذا الحديث ؟ وهل يكون أكذب ممن يروى عن الصحابة والعلماء أنهم رووا حديثا،والحديث لا يُعرف عن واحد منهم أصلا ؟ بل هذا من أظهر الكذب . ولو قيل رواه بعضهم ، وكان يمكن صحته لكان ممكنا ، فكيف وهو كذب قطعا على النبي (؟!
بخلاف إخباره أن أم أيمن في الجنة ، فهذا يمكن أنه قاله ، فإن أم أيمن امرأة صالحة من المهاجرات ، فإخباره أنها في الجنة لا يُنكر ، بخلاف قوله عن رجل من أصحابه أنه مع الحق وأن الحق يدور معه حيثما دار ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ؛ فإنه كلام ينزَّه عنه رسول الله (.(173/216)
أما أولا : فلأن الحوض إنما يَرِدُه عليه أشخاص ، كما قال للأنصار : (( اصبروا حتى تلقوني على الحوض ))(1) ، وقال : (( إن حوضي لأبعد من بين أيلة إلى عدن ، وإن أول الناس وروداً فقراء المهاجرين الشعث رؤوسا الدنس ثيابا الذين لا ينكحون المتنعّمات ولا تفتح لهم أبواب السدد ، يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يجد لها قضاء )) رواه مسلم وغيره(2) .
وأما الحق فليس من الأشخاص الذين يردون الحوض . وقد روى أنه قال : (( إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتى أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض )) . فهو من هذا النمط ، وفيه كلام يذكر في موضعه إن شاء الله .
الوجه السابع : أن ما ذكره عن فاطمة أمر لا يليق بها ، ولا يحتج بذلك إلا رجل جاهل يحسب أنه يمدحها وهو يجرحها ؛ فإنه ليس فيما ذكره ما يوجب الغضب عليه ، إذ لم يحكم –لو كان ذلك صحيحا – إلا بالحق الذي لا يحل لمسلم أن يحكم بخلافه . ومن طلب أن يُحكم له بغير حكم الله ورسوله فغضب وحلف أن لا يكلِّم الحاكم ولا صاحب الحاكم ، لم يكن هذا مما يُحْمد عليه ولا مما يذم به الحاكم ، بل هذا إلى أن يكون جرحا أقرب منه إلى أن يكون مدحا . ونحن نعلم أن ما يحكى عن فاطمة وغيرها من الصحابة من القوادح كثير منها كذب وبعضها كانوا فيه متأولين . وإذا كان بعضها ذنبا فليس القوم معصومين ، بل هم مع كونهم أولياء الله ومن أهل الجنة لهم ذنوب يغفرها الله لهم .
__________
(1) انظر البخاري : ج5 ص33 ، ومسلم : ج3 ص 1474.
(2) مسلم : باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء ج1 /247 ص 217.(173/217)
وكذلك ما ذكره من إيصائها أن تُدفن ليلا ولا يُصلِّى عليها أحد منهم ، لا يحكيه عن فاطمة ويحتج به إلا رجلٌ جاهل يطرق على فاطمة ما لا يليق بها ، وهذا لو صح لكان بالذنب المغفور أوْلى منه بالسعي المشكور ، فإن صلاة المسلم على غيره زيادة خير تصل إليه ، ولا يضر أفضل الخلق أن يصلِّي عليه شر الخلق ، وهذا رسول الله (يصلى عليه ويسلم عليه الأبرار والفجار بل والمنافقون ،وهذا إن لم ينفعه لم يضره ، وهو يعلم أن في أمته منافقين ولم ينه أحد من أمته عن الصلاة عليه .
وأما قوله : (( ورووا جميعا أن النبي ( قال : يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك ، ويرضى لرضاك )) فهذا كذب منه ، ما رووا هذا عن النبي (، ولا يُعرف هذا في شيء من كتب الحديث المعروفة ، ولا له إسناد معروف عن النبي (: لا صحيح ولا حسن . ونحن إذا شهدنا لفاطمة بالجنة ،وبأن الله يرضى عنها ، فنحن لأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير وسعيد وعبد الرحمن بن عوف بذلك نشهد ، ونشهد بان الله تعالى أخبر برضاه عنهم في غير موضع، كقوله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ(مْ وَرَضُوا عَنْه } (1) ، وقوله تعالى : { َلقدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة } (2) .وقد ثبت أن النبي ( توفى و هو عنهم راض ، ومن رضى الله عنه ورسوله لا يضره غضب أحد من الخلق عليه كائنا من كان.
__________
(1) الآية 100 من سورة التوبة .
(2) الآية 100 من سورة التوبة .(173/218)
وأما قوله : (( رووا جميعا أن فاطمة بضعة مني من آذاها آذاني ، ومن آذاني آذى الله )) فإن هذا الحديث لم يرو بهذا اللفظ ، بل روى بغيره ، كما روى في سياق حديث خطبة عليّ لابنة أبي جهل ، لما قام النبي (خطيبا فقال : (( إن ابني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم عليّ بن أبي طالب ، وإني لا آذن ، ثم لا آذن، ثم لا آذن ، إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها ، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم )).
الوجه الثامن : أن قوله :(( لو كان هذا الخبر صحيحاً حقاًّ لما جاز له ترك البغلة والسيف و العمامة عند عليّ والحكم له بها لما ادّعاها العباس )).
فيقال : ومن نقل أن أبا بكر وعمر حكما بذلك لأحد ، أو تركا ذلك عند أحد على أن ذلك ملك له ، فهذا من أبْيَن الكذب عليهما ، بل غاية ما في هذا أن يُترك عند من يُترك عنده ، كما ترك صدقته عند عليّ والعباس ليصرفاها في مصارفها الشرعية .
وأما قوله : (( ولكان أهل البيت الذين طهّرهم الله في كتابه مرتكبين ما لا يجوز )) .(173/219)
فيقال له : أولاً : إن الله تعالى لم يخبر أنه طهّر جميع أهل البيت وأذهب عنهم الرجس ، فإن هذا كذب على الله . كيف ونحن نعلم أن في بني هاشم من ليس بمطهّر من الذنوب ،ولا أذهب عنهم الرجس ، لا سيما عند الرافضة ، فإن عندهم كل من كان من بني هاشم يحب أبا بكر عمر(ما فليس بمطهِّر ، والآية إنما قال فيها : { َما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون } (1)وقوله: { ُيرِيدُ اللهُ ِليُبَين لَكُم وَيَهْدِيَكُم سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيْكُم } (2) ، ونحو ذلك مما فيه بيان أن الله يحب ذلك لكم،ويرضاه لكم،ويأمركم به فمن فعلة حصل له هذا المراد المحبوب المرضي ، ومن لم يفعله لم يحصل له ذلك
وأما قوله : ((لأن الصدقة محرمة عليهم )) .
فيقال له :أولا المحرم عليهم صدقة الفرض ، وأما صدقات التطوع فقد كانوا يشربون من المياه المسبّلة بين مكة والمدينة ، ويقولون : إنما حرّم علينا الفرض ، ولم يحَرّم علينا التطوع. وإذا جاز أن ينتفعوا بصدقات الأجانب التي هي تطوع ، فانتفاعهم بصدقة النبي (أولى وأحرى؛ فإن هذه الأموال لم تكن زكاة مفروضة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أوساخ الناس التي حرّمت عليهم ، وإنما هي من الفيء الذي أفاءه الله على رسوله ، والفيء حلال لهم، والنبي ( جعل ما جعله الله له من الفيء صدقة ، إذ غايته أن يكون ملكا للنبي ( تصدّق به على المسلمين ، وأهل بيته أحق بصدقته ؛ فإن الصدقة على المسلمين صدقة ، والصدقة على القرابة صدقة وصلة .
__________
(1) الآية 6 من سورة المائدة .
(2) الآية 26 من سورة النساء .(173/220)
الوجه التاسع : في معارضته بحديث جابر( فيقال : جابر لم يدّع حقا لغيره يُنتزع من ذلك الغير ويُجعل له ، وإنما طلب شيئا من بيت المال يجوز للإمام أن يعطيه إياه ، ولو لم يعده به النبي (، فإذا وعده به كان أوْلى بالجواز ، فلهذا لم يفتقر إلى بيِّنة .
أما قصة فاطمة رضى الله عنها فما ذكروه من دعواها الهبة والشهادة المذكورة ونحو ذلك ، لو كان صحيحاً لكان بالقدح فيمن يحتجون له أشبه منه بالمدح .
(فصل)
قال الرافضي: (( وقد روى عن الجماعة كلهم أن النبي ( قال في حق أبي ذر : ((ما أقلَّت الغبراء ، ولا أظلَّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر )) ، ولم يسمُّوه صدِّيقا ، وسمُّوا أبا بكر بذلك مع أنه لم يرد مثل ذلك في حقه )).
فيقال : هذا الحديث لم يروه الجماعة كلهم ، ولا هو في الصحيحين ، ولا هو في السنن ،بل هو مروي في الجملة وبتقدير صحته و ثبوته ، فمن المعلوم ان هذا الحديث لم يرد به أن أبا ذر أصدق من جميع الخلق ، فإن هذا يلزم منه أن يكون أصدق من النبي (، ومن سائر النبيين ، ومن عليّ بن أبي طالب وهذا خلاف إجماع المسلمين كلهم من السنة والشيعة، فعُلم أن هذه الكلمة معناها أن أبا ذر صادق ، ليس غيره أكثر تحرّيا للصدق منه . و لا يلزم إذا كان بمنزلة غيره في تحرّي الصدق ، أن يكون بمنزلته في كثرة الصدق والتصديق بالحق ، وفي عظم الحق الذي صَدَقَ فيه وصدّق به . وذلك أنه يقال : فلان صادق اللهجة إذا تحرّى الصدق ، وإن كان قليل العلم بما جاءت به الأنبياء ، والنبي ( لم يقل : ما أقلت الغبراء أعظم تصديقا من أبي ذر . بل قال : أصدق لهجة ، والمدح للصدّيق الذي صدَّق الأنبياء ليس بمجرد كونه صادقاً، بل في كونه مصدِّقاً للأنبياء . وتصديقه للنبي ( هو صدق خاص ، فالمدح بهذا التصديق –الذي هو صدق خاص –نوع ، والمدح بنفس كونه صادقاً من نوع آخر . فكل صدّيق صادق ، وليس كل صادق صدِّيقاً .
(فصل )(173/221)
قال الرافضي : (( وسمّوه خليفة رسول الله (، ولم يستخلفه في حياته ولا بعد وفاته عندهم ، ولم يسمّوا أمير المؤمنين خليفة رسول الله مع أنه استخلف في عدة مواطن ، منها : أنه استخلفه على المدينة المنورة في غزوة تبوك ، وقال له : إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي .
وأمّر أسامة بن زيد على الجيش الذين فيهم أبو بكر وعمر ، ومات ولم يعزله ، ولم يسمّوه خليفة ، ولما تولى أبو بكر غضب أسامة ، وقال : إن رسول الله (أمّرني عليك ، فمن استخلفك عليّ ؟ فمشى إليه هو وعمر حتى استرضياه ، وكانا يسمّيانه مدة حياته أميراً )) .
والجواب من وجوه : أحدها : أن الخليفة إما أن يكون معناه : الذي يخلف غيره وإن كان لم يستخلفه ، كما هو المعروف في اللغة ، وهو قول الجمهور . وإما أن يكون معناه : من استخلفه غيره ، كما قاله طائفة من أهل الظاهر و الشيعة ونحوهم .فإن كان هو الأوّل ؛ فأبو بكر خليفة رسول الله (، لأنه خلفه بعد موته ، ولم يخلف رسول الله (أحد بعد موته إلا أبو بكر ن فكان هو الخليفة دون غيره ضرورة ، فإن الشيعة وغيرهم لا ينازعون في أنه هو الذي صار وليّ الأمر بعده ، وصار خليفة له يصلّي بالمسلمين ، ويقيم فيهم الحدود ، ويقسم بينهم الفيء ، ويغزو بهم العدو ، ويولِّي عليهم العمال والأمراء ، وغير ذلك من الأمور التي يفعلها ولاة الأمور .
فهذه باتفاق الناس إنما باشرها بعد موته أبو بكر ، فكان هو الخليفة للرسول ( فيها قطعا . لكن أهل السنة يقولون : خلفه وكان هو أحق بخلافته والشيعة يقولون : عليّ كان هو الأحق لكن تصح خلافة أبي بكر ، ويقولون : ما كان يحلّ له أن يصير هو الخليفة ، لكن لا ينازعون في أنه صار خليفة بالفعل ، وهو مستحق لهذا الاسم ، إذ كان الخليفة من خَلَفَ غيره على كل تقدير.(173/222)
وأما إن قيل : إن الخليفة من استخلفه غيره ، كما قاله بعض أهل السنة وبعض الشيعة ، فمن قال هذا من أهل السنة فإنه يقول : إن النبي (استخلف أبا بكر إما بالنص الجليّ ، كما قال بعضهم ، وإما بالنص الخفيّ . كما أن الشيعة القائلين بالنص على عليّ منهم من يقول بالنص الجليّ ، كما تقوله الإمامية ، ومنهم من يقول بالنص الخفيّ ، كما تقوله الجارودية من الزيدية . ودعوى أولئك للنص الجليّ أو الخفيّ على أبي بكر أقوى وأظهر بكثير من دعوى هؤلاء للنص على عليّ ، لكثرة النصوص الدالّة على ثبوت خلافة أبي بكر، وأن عليّاً لم يدل على خلافته إلا ما يُعلم أنه كذب، أو يُعلم أنه لا دلالة فيه .
وعلى هذا التقدير فلم يستخلف بعد موته أحداً إلا أبا بكر ، فلهذا كان هو الخليفة ، فإن الخليفة المطلق هو من خلفه بعد موته ، أو استخلفه بعد موته. وهذان الوصفان لم يثبتا إلا لأبي بكر ؛ فلهذا كان هو الخليفة .
وأما استخلافه لعليّ على المدينة ، فذلك ليس من خصائصه ، فإن النبي ( كان إذا خرج في غزاة استخلف على المدينة رجلا من أصحابه ، كما استخلف ابن أم مكتوم تارة ، وعثمان ابن عفان تارة .
... وإذا كان قد استخلف غير عليّ على أَكثر وأفضل مما استخلف عليه عليّاً ، وكان ذلك استخلافاً مقيّداً على طائفة معينة في مغيبه ، ليس هو استخلافاً مطلقاً بعد موته على أمته ، لم يطلق على أحد من هؤلاء أنه خليفة رسول الله ( إلا مع التقييد . وإذا سمّيَ عليّ بذلك فغيره من الصحابة المستخلفين أوْلى بهذا الاسم ، فلم يكن هذا من خصائصه .(173/223)
وأيضا فالذي يخلف المَطاع بعد موته لا يكون إلا أفضل الناس . وأما الذي يخلفه في حال غزوه لعدوه ، فلا يجب أن يكون أفضل الناس ، بل العادة جارية بأنه يستصحب في خروجه لحاجته إليه في المغازي من يكون عنده أفضل ممن يستخلفه على عياله ، لأن الذي ينفع في الجهاد هو شريكه فيما يفعله ، فهو أعظم ممن يخلفه على العيال ، فإن نفع ذاك ليس كنفع المشارك له في الجهاد .
والنبي ( إنما شبه عليّاً بهارون في أصل الاستخلاف لا في كماله ، ولعليّ شركاء في هذا الاستخلاف . يبين ذلك أن موسى لما ذهب إلى ميقات ربه لم يكن معه أحد يشاركه في ذلك ، فاستخلف هارون على جميع قومه . والنبي ( لما ذهب إلى غزوة تبوك أخذ معه جميع المسلمين إلا المعذور ، ولم يستخلف عليّاً إلا على العيال وقليل من الرجال ، فلم يكن استخلافه كاستخلاف موسى لهارون ، بل ائتمنه في حال مغيبه ، كما ائتمن موسى هارون في حال مغيبه ، فبيّن له النبي ( أن الاستخلاف ليس لنقص مرتبة المستخلَف ، بل قد يكون لأمانته كما استخلف موسى هارون على قومه ، وكان عليّ خرج إليه يبكي وقال : أتذرني مع الصبيان والنساء ؟ كأنه كره أن يتخلف عنه .
وأما قوله : (( إنه قال له : إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك )) فهذا كذب على النبي ( لا يُعرف في كتب العلم المعتمدة . ومما يبين كذبه أن النبي ( خرج من المدينة غير مرة ومعه عليّ. وليس بالمدينة لا هو ولا عليّ. فكيف يقول : إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك ؟
والرافضة من فرط جهلهم يكذبون الكذب الذي لا يخفى على من له بالسيرة أدنى علم .
وأما قوله : (( إنه أمّر أسامة ( على الجيش الذين فيهم أبو بكر وعمر )) .(173/224)
فمن الكذب الذي يعرفه من له أدنى معرفة بالحديث ؛ فإن أبا بكر لم يكن في ذلك الجيش ، بل كان النبي ( يستخلفه في الصلاة من حين مرض إلى أن مات ، وأسامة قد رُوي أنه قد عقد له الراية قبل مرضه ، ثم لما مرض أمر أبا بكر أن يصلِّي بالناس ، فصلى بهم إلى أن مات النبي (، فلو قدر أنه أُمر بالخروج مع أسامة قبل المرض لكن أمره له بالصلاة تلك المدة ، مع إذنه لأسامة أن يسافر في مرضه ، موجبا لنسخ إمرة أسامة عنه ، فكيف إذا لم يؤمَّر عليه أسامة بحال ؟
وقوله : (( ومات ولم يعزله )).
فأبو بكر أنفذ جيش أسامة ( بعد أن أشار الناس عليه برده خوفا من العدو . وقال : والله لا أحلَ راية عقدها رسول الله (، مع أنه كان يملك عزله ، كما كان يملك ذلك رسول الله (، لأنه قام مقامه ، فيعمل ما هو أصلح للمسلمين .
وأما ما ذكره من غضب أسامة لما تولَّى أبو بكر ، فمن الأكاذيب السمجة ، فإن محبة أسامة ( لأبي بكر وطاعته له أشهر وأعرف من أن تُنكر ، وأسامة من أبعد الناس عن الفرقة والاختلاف ، فإنه لم يقاتل لا مع عليّ ولا مع معاوية واعتزل الفتنة . وأسامة لم يكن من قريش ، ولا ممن يصلح للخلافة ، ولا يخطر بقلبه أن يتولاها ، فأي فائدة له في أن يقول مثل هذا القول لأيّ من تولى الأمر ، مع علمه أنه لا يتولّى الأمر أحد إلا كان خليفة عليه ، ولو قدِّر أن النبي ( أمّره على أبي بكر ثم مات ، فبموته صار الأمر إلى الخليفة من بعده ، وإليه الأمر في إنفاذ الجيش أو حبسه ، وفي تأمير أسامة أو عزله . وإذا قال : أمّرني عليك فمن استخلفك عليّ ؟ قال : من استخلفني على جميع المسلمين ، وعلى من هو أفضل منك . وإذا قال : أنا أمَّرني عليك . قال : أمَّرك عليّ قبل أن أُستخلف، فبعد أن صرت خليفة صرت أنا الأمير عليك .
ومثل هذا لا ينكره إلا جاهل . وأسامة أعقل وأتقى وأعلم من أن يتكلم بمثل هذا الهذيان لمثل أبي بكر .(173/225)
وأعجب من هذا قول هؤلاء المفترين : أنه مشى هو وعمر إليه حتى استرضياه ، مع قولهم : إنهما قهرا عليّاً وبني هاشم وبني عبد مناف ،ولم يسترضياهم ،وهم أعز وأقوى وأكثر وأشرف من أسامة ( ، فأي حاجة بمن قهروا بني هاشم وبني أمية وسائر بني عبد مناف ، وبطون قريش والأنصار والعرب ، إلى أن يسترضوا أسامة بن زيد ، وهو من أضعف رعيتهم ، ليس له قبيلة ولا عشيرة ، ولا معه مال ولا رجال ، ولولا حب النبي ( إياه وتقديمه له لم يكن إلا كأمثاله من الضعفاء ؟.
فإن قلتم : إنهما استرضياه لحب النبي ( له . فأنتم تقولون : إنهم بدّلوا عهده ، وظلموا وصيَّه وغصبوه ، فمن عصى الأمر الصحيح ، وبدل العهد البيّن ، وظلم واعتدى وقهر ، ولم يلتفت إلى طاعة الله ورسوله ، ولم يرقب في آل محمد إلاًّ ولا ذمة ، يراعى مثل أسامة بن زيد ويسترضيه ؟ وهو قد ردّ شهادة أم أيمن ولم يسترضيها ، وأغضب فاطمة وآذاها ، وهي أحق بالاسترضاء . فمن يفعل هذا أي حاجة به إلى استرضاء أسامة بن زيد ؟ وإنما يُسترضى الشخص للدين أو للدنيا ، فإذا لم يكن عندهم دين يحملهم على استرضاء من يجب استرضاؤه ، ولا هم محتاجون في الدنيا إليه ، فأي داع يدعوهم إلى استرضائه ؟! والرافضة من جهلهم وكذبهم يتناقضون تناقضا كثيراً بيِّناً إذ هم في قول مختلف ، يُوفك عنه من أُفك.
( فصل )
قال الرافضي : (( وسمّوا عمر الفاروق ، ولم يسموا عليّاً عليه السلام بذلك ، مع أن رسول الله ( قال فيه : هذا فاروق أمتي يفرق بين أهل الحق والباطل . وقال ابن عمر : ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي ( إلا ببغضهم عليّاً عليه السلام )) .
فيقال : أوّلا : أما هذان الحديثان فلا يستريب أهل المعرفة بالحديث أنهما حديثان موضوعان مكذوبان على النبي ( ولم يرو واحدٌ منهما في شيء من كتب العلم المعتمدة ، ولا لواحد منهما إسناد معروف.(173/226)
ويقال : ثانيا : من احتج في مسألة فرعية بحديث فلا بد ان يسنده ، فكيف في مسائل أصول الدين ؟ وإلا فمجرد قول القائل : (( قال رسول الله ()) ليس حجة باتفاق أهل العلم . ولو كان حجة لكان كل حديث قال فيه واحد من أهل السنة : (( قال رسول الله ()) حجة ، ونحن نقنع في هذا الباب بأن يُرْوى الحديثُ بإسناد معروفون بالصدق من أي طائفة كانوا .
لكن إذا لم يكن الحديث له إسناد ، فهذا الناقل له ، وإن كان لم يكذبه بل نقله من كتاب غيره ، فذلك الناقل لم يعرف عمّن نقله . ومن المعروف كثرة الكذب في هذا الباب وغيره ، فكيف يجوز لأحد أن يشهد على رسول الله ( بما لم يعرف إسناده ؟
ويقال : ثالثا : من المعلوم لكل من له خبرة أن أهل الحديث أعظم الناس بحثاً عن أقوال النبي (، وطلبا لعلمها ، وأرغب الناس في اتّباعها ، وأبعد الناس عن اتّباع هوىً يخالفها ، فلو ثبت عندهم أن النبي ( قال لعليّ هذا ، لم يكن أحد من الناس أوْلى منهم باتّباع قوله ، فإنهم يتّبعون قوله إيماناً به ، ومحبة لمتابعته ، ولا لغرض لهم في الشخص الممدوح .
فلو ثبت عندهم أن النبي (– قال لعليّ : هذا فاروق أمتي ، لقبلوا ذلك ،ونقلوه ، كما نقلوا قوله لأبي عبيدة: (( هذا أمين هذه الأمة ))(1)وقوله للزبير:(( إن لكل نبي حوارىّ وحوارىّ الزبير ))(2) وكما قبلوا ونقلوا قوله لعليّ (( لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله ))(3) وحديث الكساء لما قال لعليّ وفاطمة وحسن وحسين :(( اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيراً ))(4) وأمثال ذلك .
__________
(1) رواه البخاري : ج5 ص25 وغيره .
(2) انظر البخاري : ج5 ص21 ، ومسلم : ج4 ص 1879.
(3) انظر البخاري : ج5 ص18 ، ومسلم : ج4 ص 1871.
(4) انظر مسلم : ج4 ص 1883.(173/227)
ويقال : رابعا : كلٌّ من الحديثين يُعلم بالدليل أنه كذب ، لا يجوز نسبته إلى النبي (. فإنه يقال : ما المعنى بكون عليّ أو غيره فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل ؟ إن عنى بذلك أنه يميّز بين أهل الحق والباطل، فيميّز بين المؤمنين والمنافقين ، فهذا أمر لا يقدر عليه أحدٌ من البشر: لا نبي ولا غيره . وقد قال تعالى: { ِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُم نَحْنُ نَعْلَمُهُم } (1) كان النبي (لا يعلَم عينَ كل منافق في مدينته وفيما حولها ، فكيف يعلم ذلك غيره ؟
ومحبة الرافضة لعليّ باطلة ، فإنهم يحبّون ما لم يوجد ، وهو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته ، الذي لا إمام بعد النبي ( إلا هو ، الذي كان يعتقد أن أبا بكر وعمر رضى الله عنهما ظالمان معتديان أو كافران ، فإذا تبيّن لهم يوم القيامة أن عليّاً لم يكن أفضل من واحد من هؤلاء ، وإنما غايته أن يكون قريباً من أحدهم ، وأنه كان مقرّاً بإمامتهم وفضلهم ، ولم يكن معصوما لا هو ولا هم ولا كان منصوصا على إمامته ، تبين لهم أنهم لم يكونوا يحبون عليّاً ، بل هم من أعظم الناس بغضاً لعلي ّ( في الحقيقة ، فإنهم يبغضون من اتصف بالصفات التي كانت في عليّ أكمل منها في غيره : من إثبات إمامة الثلاثة وتفضيلهم ، فإن عليًّا( كان يفضّلهم ويقرُّ بإمامتهم . فتبيَّن أنهم مبغضون لعليّ قطعا .
__________
(1) الآية 101 من سورة التوبة .(173/228)
وبهذا يتبين الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عليّ( أنه قال: إنه لعهد النبي الأميّ إليّ أنه((لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلامنافق ))(1)إن كان هذا محفوظا ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الرافضة لا تحبه على ما هو عليه ، بل محبتهم من جنس محبة اليهود لموسى والنصارى لعيسى ، بل الرافضة تبغض نعوت عليّ وصفاته ، كما تبغض اليهود والنصارى نعوت موسى وعيسى ، فإنهم يبغضون من أقر نبوة محمد (، وكانا مقرين بها صلى الله عليهم أجمعين .
(فصل)
قال الرافضي : (( وأعظموا أمر عائشة على باقي نسوانه ، مع أنه عليه السلام كان يكثر من ذكر خديجة بنت خويلد ، وقالت له عائشة : إنك تكثر من ذكرها ، وقد أبدلك الله خيرا منها . فقال : والله ما بُدِّلت بها ما هو خير منها ؛ صدَّقتني إذ كذبني الناس ، وآوتني إذ طردني الناس ، وأسعدتني بمالها ، ورزقني الله الولد منها ، ولم أرزق من غيرها )).
والجواب أولا : أن يقال : إن أهل السنة ليسوا مجمعين على أن عائشة أفضل نسائه ، بل قد ذهب إلى ذلك كثير من أهل السنة ، واحتجوا بما في الصحيحين عن أبي موسى وعن أنس رضى الله عنهما أن النبي (قال:((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ))(2).
والثريد هو أفضل الأطعمة لأنه خبز ولحم ، كما قال الشعر :
إذا ما الخبز تأدمه بلحم فذاك أمانة الله الثريد
__________
(1) انظر مسلم : ج1 ص 86.
(2) انظر البخاري : ج5 ص 29 ، ومسلم : ج4 ص5 189.(173/229)
وذلك أن البُرّ أفضل الأقوات ، واللحم أفضل الآدام ، كما في الحديث الذي رواه ابن قتيبة وغيره عن النبي (أنه قال : (( سيد إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم ))(1). فإذا كان اللحم سيد الآدام ، والبُرُّ سيد الأقوات ، ومجموعها الثريد ، لكان الثريد أفضل الطعام . وقد صح من غير وجه عن الصادق المصدوق أنه قال : (( فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام )).
وفي الصحيح عن عمرو بن العاص( قال : قلت يا رسول الله : أي الناس أحب إليك ؟ قال : (( عائشة )) . قلت : من الرجال ؟ قال : (( أبوها )) . قلت : ثم من ؟ قال : ((عمر)) وسمّى رجالا(2) .
وهؤلاء يقولون : قوله لخديجة : (( ما أبدلني الله بخير منها )) : إن صح معناه: ما أبدلني بخير لي منها ؛ لأن خديجة نفعته في أول الإسلام نفعا لم يقم غيرها فيه مقامها ، فكانت خيرا له من هذا الوجه ، لكونها نفعته وقت الحاجة ، لكن عائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين ، فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن لم يدرك إلا أول زمن النبوة ، فكانت أفضل بهذه الزيادة ، فإن الأمة انتفعت بها أكثر مما انتفعت بغيرها ،وبلغت من العلم والسنة ما لم يبلغه غيرها ، فخديجة كان خيرها مقصورا على نفس النبي (، لم تبلِّغ عنه شيئاً ، ولم تنتفع بها الأمة كما انتفعوا بعائشة ، ولا كان الدين قد كمل حتى تعلمه ويحصل لها من كمال الإيمان به ما حصل لمن علمه وآمن به بعد كماله .
( فصل)
__________
(1) سنن ابن ماجة : ج2 ص 1099 وهو ضعيف .
(2) انظر البخاري : ج 5 ص 5 ، ومسلم : ج4 ص 1856.(173/230)
قال الرافضي : (( وأذاعت سر رسول الله صلى لله عليه وسلم ، وقال لها النبي (: إنك تقاتلين عليًّا وأنت ظالمة له ، ثم إنها خالفت أمر الله في قوله تعالى : { وقرن في بيوتكن } ، وخرجت في ملأ من الناس لتقاتل عليًّا على غير ذنب ، لأن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان ، وكانت هي في كل وقت تأمر بقتله ، وتقول اقتلوا نعثلا ، قتل الله نعثلا ، ولما بلغها قتله فرحت بذلك، ثم سألت : من تولى الخلافة ؟ فقالوا عليّ. فخرجت لقتاله على دم عثمان ، فأي ذنب كان لعليّ على ذلك ؟ وكيف استجاز طلحة والزبير وغيرهما مطاوعتها على ذلك ؟ وبأي وجه يلقون رسول الله (؟ مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره وأخرجها من منزلها وسافر بها كان أشد الناس عداوة له ، وكيف أطاعها على ذلك عشرات ألوف من المسلمين ، وساعدوها على حرب أمير المؤمنين ، ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله (لما طلبت حقها من أبي بكر ، ولا شخص واحد كلَّمه بكلمة واحدة )) .
والجواب : أن يقال : أما أهل السنة فإنهم في هذا الباب وغيره قائمون بالقسط شهداء لله ، وقولهم حق وعدل لا يتناقض . وأما الرافضة وغيرهم من أهل البدع ففي أقوالهم من الباطل والتناقض ما ننبِّه إن شاء الله تعالى على بعضه ، وذلك أن أهل السنة عندهم أن أهل بدر كلهم في الجنة ، وكذلك أمّهات المؤمنين : عائشة وغيرها ، وأبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير هم سادات أهل الجنة بعد الأنبياء ، وأهل السنة يقولون : إن أهل الجنة ليس من شرطهم سلا متهم عن الخطأ ، بل ولا عن الذنب ، بل يجوز أن يذنب الرجل منهم ذنبا صغيراً أو كبيراً ويتوب منه . وهذا متفق عليه بين المسلمين ، ولو لم يتب منه فالصغائر مغفورة باجتناب الكبائر عند جماهيرهم، بل وعند الأكثرين منهم أن الكبائر قد تمحى بالحسنات التي هي أعظم منها ، وبالمصائب المكفِّرة وغير ذلك .(173/231)
وإذا كان هذا أصلهم فيقولون : ما يذكر عن الصحابة من السيّئات كثير منه كذب ، وكثير منه كانوا مجتهدين فيه ، ولكن لم يعرف كثير من الناس وجه اجتهادهم ، وما قُدِّر أنه كان فيه ذنب من الذنوب لهم فهو مغفور لهم : إما بتوبة ، وإما بحسنات ماحية ، وإما بمصائب مكفِّرة ، وإما بغير ذلك؛ فإنه قد قام الدليل الذي يجب القول بموجبه : إنهم من أهل الجنة فامتنع أن يفعلوا ما يوجب النار لا محالة ، وإذا لم يمت أحد منهم ، على موجب النار لم يقدح ما سوى ذلك في استحقاقهم للجنة . ونحن قد علمنا أنهم من أهل الجنة، ولو لم يُعلم أن أولئك المعيَّنين في الجنة لم يجز لنا أن نقدح في استحقاقهم للجنة بأمور لا نعلم أنها توجب النار ، فإن هذا لا يجوز في آحاد المؤمنين الذين لم يُعلم أنهم يدخلون الجنة ، ليس لنا أن نشهد لأحد منهم بالنار لأمور محتملة لا تدل على ذلك ، فكيف يجوز مثل ذلك في خيار المؤمنين ، والعلم بتفاصيل أحوال كل واحد واحد منهم باطنا وظاهرا ، وحسناته وسيئاته واجتهاداته ، أمر يتعذر علينا معرفته ؟! فكان كلامنا في ذلك كلاماً فيما لا نعلمه ،والكلام بلا علم حرام ، فلهذا كان الإمساك عمّا شجر بين الصحابة خيراً من الخوض في ذلك بغير علم بحقيقة الأحوال ، إذ كان كثير من الخوض في ذلك – أو أكثره – كلاماً بلا علم ، وهذا حرام لو لم يكن فيه هوىً ومعارضة الحق المعلوم ، فكيف إذا كان كلاماً بهوىً يطلب فيه دفع الحق المعلوم؟
وأما قوله : (( وأذاعت سرَّ رسول الله ()) فلا ريب أن الله تعالى يقول : { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنيَِ الْعَلِيمُ الْخَبِير } (1) .
__________
(1) الآية 3 من سورة التحريم .(173/232)
وقد ثبت في الصحيح عن عمر أنها عائشة وحفصة(1) .
فيقال : أولا : هؤلاء يعمدون إلى نصوص القرآن التي فيها ذكر ذنوبٍ ومعاصٍ بيّنة لمن نصّت عنه من المتقدمين يتأوّلون النصوص بأنواع التأويلات ، وأهل السنة يقولون : بل أصحاب الذنوب تابوا منها ورفع الله درجاتهم بالتوبة .
وهذه الآية ليست أوْلى في دلالتها على الذنوب من تلك الآيات ، فإن كان تأويل تلك سائغا كان تأويل هذه كذلك ، وإن كان تأويل هذه باطلا فتأويل تلك أبطل .
ويقال: ثانيا : بتقدير أن يكون هناك ذنب لعائشة وحفصة ، فيكونان قد تابتا منه. وهذا ظاهر لقوله تعالى : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما } ، فدعاهما الله تعالى إلى التوبة ، فلا يظن بهما أنهما لم يتوبا ، مع ما ثبت من علو درجتهما ، وأنهما زوجتا نبيّنا في الجنة ، وأن الله خيرهن بين الحياة الدنيا وزينتها وبين الله ورسوله والدار الآخرة ، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، ولذلك حرّم الله عليه أن يتبَدّل بهن غيرهن ، وحرم عليه أن يتزوج عليهن ،واختُلف في إباحة ذلك له بعد ذلك ،ومات عنهن وهن أمهات المؤمنين بنص القرآن . ثم قد تقدَّم أن الذنب يُغفر ويُعفى عنه بالتوبة وبالحسنات الماحية وبالمصائب المكفرة .
ويقال : ثالثا : المذكور عن أزواجه كالمذكور عمّن شُهد له بالجنة من أهل بيته وغيرهم من الصحابة ، فإن عليًّا لما خطب ابنة أبي جهل على فاطمة، وقام النبي (خطيبا فقال : (( إن بني المغيرة استأذنوني أن ينكحوا عليًّا ابنتهم ، وإني لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن ، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم ، إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها )) فلا يُظن بعلي( أنه ترك الخطبة في الظاهر فقط ، بل تركها بقلبه وتاب بقلبه عما كان طلبه وسعى فيه.
__________
(1) انظر البخاري : ج6 ص 156، ومسلم : ج2 ص 1110 .(173/233)
وأما الحديث الذي رواه وهو قوله لها:((تقاتلين عليًّا وأنت ظالمة له )) فهذا لا يُعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة ، ولا له إسناد معروف ،وهو بالموضوعات المكذوبات أشبه منه بالأحاديث الصحيحة ، بل هو كذب قطعاً ، فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال ، وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين ، وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين ، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أوْلى ، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها .
وأما قوله : (( وخالفت أمر الله في قوله تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } (1) .فهي ( لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى. والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها ، كما لو خرجت للحج وللعمرة أو خرجت مع زوجها في سفره ، فإن هذه الآية قد نزلت في حياة النبي (، وقد سافر بهن رسول الله ( بعد ذلك كما سافر في حجة الوداع بعائشة رضى الله عنها وغيرها ، وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه ، وأعمرها من التنعيم .
وأما قوله :(( إنها خرجت في ملأ من الناس تقاتل عليًّا من غير ذنب)) .
فهذا أولا : كذب عليها . فإنها لم تخرج لقصد القتال ، ولا كان أيضا طلحة والزبير قصدهما قتال عليّ ، ولو قدر أنهم قصدوا القتال ، فهذا هو القتال المذكور في قوله تعالى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيء إِلَى أَمْرِ الله فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين . إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم } (2)
__________
(1) الآية 33 من سورة الأحزاب .
(2) الآيتان 9و10 من سورة الحجرات .(173/234)
فجعلهم مؤمنين أخوة مع الاقتتال. وإذا كان هذا ثابتا لمن هو دون أولئك المؤمنين فهم به أوْلى وأحرى.
وأما قوله : (( إن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان )) .
... ... فجوابه من وجوه : أحدها : أن يقال : أولا : هذا من أظهر الكذب وأَبينه ؛ فإن جماهير المسلمين لم يأمروا بقتله ، ولا شاركوا في قتله ، ولا رضوا بقتله .
... ... أما أولا : فلأن أكثر المسلمين لم يكونوا بالمدينة ، بل كانوا بمكة واليمن والشام والكوفة والبصرة ومصر وخراسان ، وأهل المدينة بعض المسلمين .
... وأما ثانيا : فلأن خيار المسلمين لم يدخل واحد منهم في دم عثمان لا قتل ولا أمر بقتله ، وإنما قتله طائفة من المفسدين في الأرض من أوباش القبائل وأهل الفتن ، وكان علي ّ( يحلف دائما : (( إني ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله )) ويقول : (( اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل )) . وغاية ما يقال : إنهم لن ينصروه حق النصرة ، وأنه حصل نوع من الفتور والخذلان ، حتى تمكن أولئك المفسدون . ولهم في ذلك تأويلات ، وما كانوا يظنون أن الأمر يبلغ إلى ما بلغ ، ولو علموا ذلك لسدّوا الذريعة وحسموا مادة الفتنة .(173/235)
الثاني : أن هؤلاء الرافضة في غاية التناقض والكذب ؛ فإنه من المعلوم أن الناس أجمعوا على بيعة عثمان ما لم يجمعوا على قتله ؛ فإنهم كلهم بايعوه في جميع الأرض . فإن جاز الاحتجاج بالإجماع الظاهر ، فيجب أن تكون بيعته حقاًّ لحصول الإجماع عليها . وإن لم يجز الاحتجاج به ، بطلت حجتهم بالإجماع على قتله . لا سيما ومن المعلوم أنه لم يباشر قتله إلا طائفة قليلة . ثم إنهم ينكرون الإجماع على بيعته، ويقولون : إنما بايع أهل الحق منهم خوفا وكرها . ومعلوم أنهم لو اتفقوا كلهم على قتله ، وقال قائل : كان أهل الحق كارهين لقتله لكن سكتوا خوفا وتقيَّة على أنفسهم ، لكان هذا أقرب إلى الحق ، لأن العادة قد جرت بأن من يريد قتل الأئمة يخيف من ينازعه ، بخلاف من يريد مبايعة الأئمة ، فإنه لا يخيف المخالف ، كما يخيف من يريد قتله ، فإن المريدين للقتل أسرع إلى الشر وسفك الدماء وإخافة الناس من المريدين للمبايعة . فقول أهل السنّة خبر صادق وقول حكيم ، وقول الرافضة خبر كاذب وقول سفه ، فأهل السنّة يقولون الأمير والإمام والخليفة ذو السلطان الموجود ، الذي له القدرة على عمل مقصود الولاية ، كما أن إمام الصلاة هو الذي يصلي بالناس ، وهم يأتمون به ليس إمام الصلاة من يستحق أن يكون إماما وهو لا يصلي بأحد ، لكن هذا ينبغي أن يكون إماما ، والفرق بين الإمام وبين من ينبغي أن يكون هو الإمام لا يخفى على الطغام .
ويقولون أنه يعاون على البر والتقوى ، دون الإثم والعدوان ، ويطاع في طاعة الله دون معصيته ، ولا يخرج عليه بالسيف ، وأحاديث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إنما تدل على هذا .(173/236)
كما في الصحيحين ، عن ابن عباس –رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال:((من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبرعليه ، فإنه ليس أحد من الناس يخرج عن السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية ))(1) فجعل المحذور هو الخروج عن السلطان ومفارقة الجماعة وأمر بالصبر على ما يكره من الأمير لم يخص بذلك سلطاناً معيناً ولا أميرا معينا ولا جماعة معينة .
(قال الرافضي الفصل الثاني في أن مذهب الإمامية واجب الاتباع)
ومضمون ما ذكره أن الناس اختلفوا بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيجب النظر في الحق واعتماد الإنصاف ، ومذهب الإمامية واجب الاتباع لأربعة وجوه ، لأنه أحقها ، وأصدقها ، ولأنهم باينوا جميع الفرق في أصول العقائد ، ولأنهم جازمون بالنجاة لأنفسهم ، ولأنهم أخذوا دينهم عن الأئمة المعصومين ، وهذا حكاية لفظه .
قال الرافضي : أنه لما عمت البلية بموت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم –واختلف الناس بعده ، وتعددت آراؤهم ، بحسب تعدد أهوائهم ، فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق ، وبايعه أكثر الناس للدنيا ، كما اختار عمرو بن سعد ملك الرى أياما يسيرة ، لما خير بينه وبين قتل الحسين مع علمه ، بأن من قتله في النار ، واختياره ذلك في شعره حيث يقول :
فوالله ما أدري وإني لصادق أفكرفي أمر على خطرين
أاترك ملك الرىّ والرى منيتي أم أصبح مأثوما بقتل حسين
وفي قتله النار التي ليس دونها حجاب وملك الرىّ قرة عيني
__________
(1) سبق ذكره انظر ص(173/237)
وبعضهم اشتبه الأمر عليه ، ورأى لطالب الدنيا مبايعا ، فقلده وبايعه وقصر في نظره ، فخفى عليه الحق فاستحق المؤاخذة من الله تعالى بإعطاء الحق لغير مستحقه بسبب إهمال النظر ، وبعضهم قلد لقصور فطنته ، ورأى الجم الغفير فتابعهم ، وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب ، وغفل عن قوله تعالى : { وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } (1) { وَقَلِيلُ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور } (2) وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق له وبايعه الأقلون الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتها ، ولم يأخذهم في الله لومة لائم بل أخلصوا لله واتبعوا ما أمروا به من طاعة من يستحق التقديم .
وحيث حصل للمسلمين هذه البلية ، وجب على كل أحد النظر في الحق واعتماد الإنصاف ، وأن يقر الحق مستقره ، ولا يظلم مستحقه ، فقد قال تعالى : { أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين } (3) و إنما كان مذهب الإمامية واجب الاتباع لوجوه هذا لفظه .
فيقال: أنه قد جعل المسلمين بعد نبيهم أربعة أصناف ،، وهذا من أعظم الكذب فإنه لم يكن من في الصحابة المعروفين أحد من هذه الأصناف الأربعة، فضلا عن أن لا يكون فيهم أحد إلا من هذه الأصناف .
إما طالب للأمر بغير حق كأبي بكر في زعمه . وإما طالب للأمر بحق كعلي في زعمه .
وهذا كذب على علي ( ، وعلى أبي بكر( ، فلا علي طلب الأمر لنفسه قبل قتل عثمان ، ولا أبو بكر طلب الأمر لنفسه فضلا عن أن يكون طلبه بغير حق .
وجعل القسمين الآخرين إما مقلدا لأجل الدنيا، وإما مقلدا لقصوره في النظر، وذلك أن الإنسان يجب عليه ان يعرف الحق وأن يتبعه ، وهو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم ، من النبيين والصديقين ، والشهداء والصالحين ، غير المغضوب عليهم ، ولا الضالين . وهذا هو الصراط الذي أمرنا أن نسأله هدايتنا إياه ، في كل صلاة بل في كل ركعة .
__________
(1) الآية 24 من سورة ص .
(2) الآية 13 من سورة سبأ .
(3) الآية 18 من سورة هود .(173/238)
وهذه الأمة خير الأمم ، وخيرها القرن الأول ، كان القرن الأول أكمل الناس في العلم النافع ، والعمل الصالح .
وهؤلاء المفترون وصفوهم بنقيض ذلك ، بأنهم لم يكونوا يعلمون الحق ويتبعونه ، بل كان أكثرهم عندهم يعلمون الحق ويخالفونه ، كما يزعمون في الخلفاء الثلاثة ، وجمهور الصحابة ، والأمة ، وكثير منهم عندهم لا يعلم الحق ، بل اتبع الظالمين تقليداً لعدم نظرهم المفضى إلى العلم ، والذي لم ينظر قد يكون تركه النظر لأجل الهوى وطلب الدنيا ، وقد يكون لقصوره ونقص إدراكه .
وادعى أن منهم من طلب الأمر لنفسه بحق يعني علياً ، وهذا مما علمنا بالاضطرار أنه لم يكن ، فلزم من ذلك على قول هؤلاء أن تكون الأمة كلها كانت ضالة ، بعد نبيها ليس فيها مهتد .
فتكون اليهود ولنصارى بعد النسخ والتبديل خيراً منهم ، لأنهم كما قال تعالى: { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةً يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْدِلُون } (1) . وقد أخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن اليهود والنصارى افترقت على أكثرمن سبعين فرقة ، فيها واحدة ناجية ، وهذه الأمة على موجب ما ذكروه لم يكن فيهم بعد موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمة تقوم بالحق ولا تعدل به، وإذا لم يكن ذلك في خيار قرونهم ففيما بعد ذلك أولى .
فيلزم من ذلك ان يكون اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خيرا من خير أمة أخرجت للناس ، فهذا لازم لما يقوله هؤلاء المفترون ، فإذا كان هذا في حكايته لما جرى عقب موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من اختلاف الأمة ، فكيف سائر ما ينقله ويستدل به ، ونحن نبين ما في هذه الحكاية من الأكاذيب من وجوه كثيرة، فنقول :
__________
(1) الآية 159 من سورة الأعراف .(173/239)
ما ذكره هذا المفترى من قوله : أنه لما عمت البلية على كافة المسلمين بموت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم . واختلف الناس بعده ، وتعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم ، فبعضهم طلب الأمر لنفسه ، وتابعه أكثر الناس طلباً للدنيا ، كما اختار عمر بن سعد ، ملك الرى أياما يسيرة لما خير بينه وين قتل الحسين ، مع علمه بان في قتله النار واختياره ذلك في شعره .
فيقال في هذا الكلام من الكذب ، والباطل وذم خيار الأمة ، بغير حق ما لا يخفى من وجوه . (أحدهما ) :قوله تعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم ، فيكون كلهم متبعين أهوائهم ، ليس فيهم طالب حق ، ولا مريد لوجه الله تعالى والدار الآخرة ، ولا من كان قوله عن اجتهاد واستدلال .
وعموم لفظه يشمل علياً وغيره ، وهؤلاء الذين وصفهم بهذا ، هم الذين أثنى الله عليهم هو ورسوله ، ورضي الله عنهم ووعدهم الحسنى ، كما قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرينَ وَالأَنْصَار الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَان(م وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتها الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيم } (1) .وقال تعالى : { ُمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءَ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءَ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُم في وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودْ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ في التَّوْرَاةِ ، وَمَثَلُهُمْ في الِإنْجِيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ ِبِهم الكُفَّار ، وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيمًا } (2) .
__________
(1) الآية 100 من سورة التوبة .
(2) الاية 29 من سورة الفتح .(173/240)
وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أَوْلَئِكَ بَعضُهم أَوْلِيَاءَ بَعْض –إلى قوله –أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُم مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعد وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُم فَأُوْلَئِكَ مِنْكُم } (1) .
وقال تعالى : { لاَ يَسْتَوِي مِنْكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَل أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْد وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى } (2) .
وقال تعالى : { ِللفقراءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِم يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضوانًا وَيَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُم الصَّادِقُون وَالَّذِينَ تَبَوّؤا الدَّارَ وَالإِيمَان مِن قَبْلِهِم يُحِبُّون مَن هَاجَرَ إِلَيْهِم وَلاَ يَجِدُونَ في صُدُورِهِم حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفسِهِم وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِم يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَان وَلاَ تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيم } (3) .
وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين ، والأنصار ، وعلى الذين جاءوا من بعدهم ، يستغفرون لهم ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم ، وتتضمن أن هؤلاء الأصناف هم المستحقون للفيء .
__________
(1) الآيات من 72- 75 من سورة الأنفال .
(2) الآية 10 من سورة الحديد .
(3) الآيات 10،9،8 من سورة الحشر .(173/241)
ولا ريب أن هؤلاء الرافضة خارجون من الأصناف الثلاثة فإنهم لم يستغفروا للسابقين ، وفي قلوبهم غل عليهم ، ففي الآيات الثناء على الصحابة، وعلى أهل السنّة الذين يتولونهم ، وإخراج الرافضة من ذلك ، وقد روى ابن بطة وغيره من حديث أبي بدر ، قال : حدثنا عبد الله بن زيد ، عن طلحة بن مصرف ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال : ((الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت واحدة ، فأحسن ما أنتم عليه كائنون، أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت .
ثم قرأ { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، هؤلاء المهاجرون ، وهذه منزلة قد مضت، ثم قرا والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا . ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصا صة } .
ثم قال هؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت .
ثم قرأ { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ، يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَان ، وَلا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غُلاًّ للَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (1) ، فقد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة ، فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت أن تستغفروا لهم ))(2) .
وروى أيضا بإسناده عن مالك بن أنس أنه قال:(( من سب السلف فليس له في الفيء نصيب )) لأن الله تعالى يقول : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِم } (3)
-الآية – وهذا معروف عن مالك ، وغير مالك من أهل العلم كأبي عبيد القاسم بن سلام(4) .
__________
(1) الآية 10 من سورة الحشر .
(2) يظهر أن هذا الأثر في الإبانة الكبرى إذ لم أجده في الصغرى .
(3) هذا الأثر في الإبانة مختصرا ص 162 والظاهر أن المؤلف ينقل عن الكبرى .
(4) انظر المرجع المذكور ص 162 .(173/242)
وكذلك ذكره أبو حكيم النهرواني ، من أصحاب أحمد وغيره من الفقهاء، وروى أيضا عن الحسن بن عمارة ، عن الحكيم عن مقسم عن ابن عباس رضى الله عنهما . قال : (( أمر الله بالاستغفار لأصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهو يعلم أنهم يقتتلون ))(1) .
وقال عروة قالت لي عائشة رضى الله عنها: (( يا ابن أختي أمروا بالاستغفار لأصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم . فسبوهم ))(2) .
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري ( قال . قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (( لا تسبوا أصحابي فلو ان أحدهم أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه))(3) .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة( أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : (( لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ))(4) .
وفي صحيح مسلم أيضاً عن جابر بن عبد الله قال : قيل لعائشة : (( إن ناسا يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، حتى أبا بكر وعمر ، فقالت وما تعجبون من هذا ، انقطع عنهم العمل ، فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر ))(5) .
وروى ابن بطة بالإسناد الصحيح عن عبد الله بن أحمد قال حدثني أبي . حدثنا معاوية . حدثنا رجاء عن مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : (( لا تسبوا أصحاب محمد فإن الله تعالى قد أمرنا بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتلون ))(6).
__________
(1) المرجع المذكور ص 119 .
(2) انظر الإبانة ص 120 .
(3) البخاري ج 5 ص 8 و مسلم ج 4 ص 1967 .
(4) مسلم ج 4 ص 1967 .
(5) يظهر أنه في بعض النسخ فإني لم أجده في مسلم .
(6) انظر الإبانة ص119 .(173/243)
ومن طريق أحمد ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، وطريق غيره عن وكيع ، وأبي نعيم ثلاثتهم ، عن الثوري ، عن نسير بن ذعلوق ، سمعت عبد الله بن عمر يقول : (( لا تسبوا أصحاب محمد ، فلمقام أحدهم ساعة يعني مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة )).
وفي رواية وكيع ( خير من عبادة أحدكم عمره ) .
وقال تعالى : { َلقد رَضِيَ اللهُ عَنِ الُمُؤمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِم وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيمًا وَعَدَكُم اللهُ مَغَانِمَ كَثِيَرةً تَأخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُم هَذِهِ وَكَفَّ أيدي النَّاسِ عَنْكُم وَلِتَكُونَ آيةً للمُؤمِنِين وَيهْديكُم صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرًا } (1)
وقد أخبر الله أنه سبحانه وتعالى رضي عنهم ، وأنه علم ما في قلوبهم ، وأنه أثابهم فتحا قريبا .
وهؤلاء هم أعيان من بايع أبا بكر وعمر وعثمان ، بعد موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، لم يكن في المسلمين من يتقدم عليهم ، بل كان المسلمون كلهم يعرفون فضلهم عليهم ، لأن الله تعالى بين فضلهم في القرآن بقوله : { لاَ يَسْتَوِي مِنْكُم مَن أَنْفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذينَ أَنْفَقُوا مِن بَعدُ وَقَاتَلوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى } (2) .
ففضل المنفقين المقاتلين قبل الفتح ، والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية ، ولهذا سئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (( أو فتح هو ؟ فقال : نعم ))(3).
__________
(1) الآيات 18-21 من سورة الفتح .
(2) الآية 10 من سورة الحديد .
(3) انظر سنن أبي داود ج3 ص101 .(173/244)
وأهل العلم يعلمون أن فيه أنزل الله تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتَمَ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَينْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزاً } . فقال بعض المسلمين : يا رسول الله هذا لك ، فما لنا ؟ يا رسول الله . فأنزل الله تعالى : { ُهوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِم } .
وهذه الآية نص في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين بعده،ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار } (1)هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح قاتلوا ، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم ،وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة ، وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأوّلين، هم من صلى إلى القبلتين ، وهذا ضعيف ، فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة، ولأن النسخ ليس من فعلهم ، الذي يفضلون به ، ولأن التفضيل بالصلاة إلى القبلتين لم يدل عليه دليل شرعي ، كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد ، والمبايعة تحت الشجرة .
__________
(1) 3 ) الآية 100 من سورة التوبة .(173/245)
وقد علم بالاضطرار أنه كان في هؤلاء السابقين الأولين أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وبايع النبي (بيده عن عثمان ، لأنه كان غائبا قد أرسله إلى أهل مكة ليبلغهم رسالته ، وبسببه بايع النبي (الناس ، لما بلغه أنهم قتلوه : وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن جابر بن عبد الله ( أنه قال : (( لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ))(1) ، و قال تعالى : { َلقدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِي وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار الَّذِينَ اتّبَعُوهُ في سَاعَةِ العُسْرَة مِن بَعْدِ مَا كَانَ يَزِيغُ قُلُوبَ فَرِيقٍ مِنْهَمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِم إِنَّهُ بِهِم رَءُوفٌ رَحِيم } (2) .فجمع بينهم وبين رسول الله في التوبة . وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِم وَأَنْفُسِهِم في سَبِيلِ الله ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُم أَوْلِيَاءَ بَعْض ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا –إلى قوله تعالى –وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعد وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُم فَأُوْلَئِكَ مِنْكُم } (3) فأثبت الموالاة بينهم وقال للمؤمنين: { َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتِّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضهُم أَوْلِيَاءَ بَعْض وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِين –إلى قوله – إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ َحِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُون } (4) . وقال تعالى : {
__________
(1) مسلم ج4 ص 1942 رقم 2496 .
(2) الآية 117 من سورة التوبة .
(3) الآيات 72-75 من سورة الأنفال .
(4) الآيات من 51 – 56 من سورة المائدة .(173/246)
وَالمُؤمِنُونَ و َالمُؤمِنَات بَعْضَهُم أَوْلِيَاء بَعْض } (1).
فأثبت الموالاة بينهم، وأمرهم بموالاتهم ، والرافضة تتبرأ منهم ولا تتولاهم ،وأصل الموالاة المحبة ، وأصل المعاداة البغض ،وهم يبغضونهم ولا يحبونهم .
وقد وضع بعض الكذابين حديثا مفترى ، أن هذه الآية نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة ، وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل ، وكذبه بيّن من وجوه كثيرة .
منها أن قوله الذين صيغة جمع . وعلي واحد .
ومنها أن الواو ليست واو الحال إذ لو كان كذلك لكان لا يسوغ أن يتولى إلا من أعطى الزكاة في حال الركوع . فلا يتولى سائر الصحابة والقرابة .
ومنها ان المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب ، وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس واجب ولا مستحب ، باتفاق علماء الملة ، فإن الصلاة شغلا.
ومنها أنه لو كان إيتاؤها في الصلاة حسنا لم يكن فرق بين حال الركوع وغير الركوع ، بل إيتاؤها في القيام و القعود أمكن .
ومنها أن عليا لم يكن عليه زكاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها أن إيتاء غير الخاتم في الزكاة خير من إيتاء الخاتم ، فإن أكثر الفقهاء يقولون لا يجزئ إخراج الخاتم في الزكاة .
ومنها أن هذا الحديث فيه أنه أعطاه السائل ،والمدح في الزكاة أن يخرجها ابتداء ويخرجها على الفور ، لا ينتظر أن يسأله سائل .
ومنها أن الكلام في سياق النهي عن موالاة الكفار ، والأمر بموالاة المؤمنين ، كما يدل عليه سياق الكلام ، وسيجيء إن شاء الله تعالى تمام الكلام على هذه الآية ، فإن الرافضة لا يكادون يحتجون بحجة إلا كانت حجة عليهم لا لهم ، كاحتجاجهم بهذه الآية على الولاية التي هي الإمارة ، وإنما هي في الولاية التي هي ضد العداوة .
__________
(1) الآية 71 من سورة التوبة .(173/247)
والرافضة مخالفون لها ، والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم يوالون الكفار ، من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين ، ويعادون المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين اتبوعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وهذا أمر مشهور .
يعادون خيار عباد الله المؤمنين ويوالون اليهود والنصارى والمشركين من الترك وغيرهم ، وقال تعالى : { َيا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين } (1) . أي الله كافيك ومن اتبعك من المؤمنين ، والصحابة أفضل من اتبعه من المؤمنين، وأولهم و قال تعالى : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْح وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } .
والذين رآهم النبي (يدخلون في دين الله أفواجا هم الذين كانوا على عصره ، وقال تعالى : { ُهوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } (2) . و إنما أيده في حياته بالصحابة ، و قال تعالى :
{ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المتُّقُون لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِين لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُم أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون } (3) .
وهذا الصنف الذي يقول الصدق ، ويصدق به خلاف الصنف الذي يفتري الكذب أو يكذب بالحق ، لما جاءه كما سنبسط القول فيهما إن شاء الله تعالى .
__________
(1) الآية 64 من سورة الأنفال .
(2) الآية 62 من سورة الأنفال .
(3) الآيات 33-35 من سورة الزمر .(173/248)
والصحابة الذين كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأن القرآن حق ، هم أفضل من جاء بالصدق وصدق به ، بعد الأنبياء وليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أعظم افتراء للكذب على الله وتكذيبا بالحق من المنتسبين إلى التشيع . ولهذا لا يوجد الغلو في طائفة أكثر مما يوجد فيهم .
ومنهم من ادعى إلهية البشر ، وادعى النبوة في غير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وادعى العصمة في الأئمة ، ونحو ذلك مما هو أعظم مما يوجد في سائر الطوائف ، واتفق أهل العلم أن الكذب ليس في طائفة من المنتسبين إلى القبلة أكثر منه فيهم ، وقال تعالى : { ُ قلِ الْحَمْدُ ِللهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } . قال طائفة من السلف هم أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ،ولا ريب أنهم أفضل المصطفين من هذه الأمة ، التي قال الله فيها : { ُثمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُم ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُقْتَصِد وَمِنْهُم سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِير جَنَّات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُم فِيها حَرِير وَقَالوا الْحَمْدُ ِللهِ الَّذي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُور الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسّنَا فيها نَصبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فيها لُغُوب } (1) .
فأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمتين قبلهم اليهود والنصارى .
وقد أخبر الله تعالى أنهم الذين اصطفى .
__________
(1) الآيات 32 – 35 من سورة فاطر .(173/249)
وتواتر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : (( خير القرون القرن الذي بعثت فيه ، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ))، ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه هم المصطفون ، من المصطفين من عباد الله وقال تعالى : { ُمحمدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءَ عَلَى الْكُفَّارُ رُحَمَاءَ بَيْنَهُم } (1) إلى آخر السورة . وقال تعالى : { وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم في الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُم وَلَيُبْدِلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُون } (2) . فقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف ، كما وعدهم في تلك الآية مغفرة وأجرا عظيما ، والله لا يخلف الميعاد .
فدل ذلك أن الذين استخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم ومكن لهم دين الإسلام ، وهو الدين الذي ارتضاه لهم ، كما قال تعالى : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دينًا } (3) وبدلهم بعد خوفهم أمنا لهم (4) المغفرة والأجر العظيم .
وهذا يستدل به على وجهين : على أن المستخلفين مؤمنون عملوا الصالحات ، لأن الوعد لهم لا لغيرهم ، ويستدل به على ان هؤلاء مغفور لهم، ولهم أجر عظيم ، لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات ، فتناولتهم الآيتان – آية النور وآية الفتح .
__________
(1) الآية 29 من سورة الفتح .
(2) الآية 55 من سورة النور .
(3) جزء من الآية رقم 3 من سورة المائدة .
(4) قوله " لهم المغفرة والأجر العظيم " خبر عن قوله فدل ذلك الخ .(173/250)
من المعلوم أن هذه النعوت منطبقة على الصحابة على زمن أبي بكر وعمر وعثمان ، فإنه إذ ذاك حصل الاستخلاف ، وتمكن الدين والأمن ، بعد الخوف لما قهروا فارس والروم وفتحوا الشام والعراق ، ومصر وخراسان ، وأفريقية .
ولما قتل عثمان وحصلت الفتنة لم يفتحوا شيئا من بلاد الكفار ، بل طمع فيهم الكفار بالشام وخراسان ، وكان بعضهم يخاف بعضاً .
وحينئذ قد دل القرآن على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان ،ومن كان معهم في زمن الاستخلاف والتمكين والأمن ، والذين كانوا في زمن الاستخلاف والتمكين والأمن أدركوا زمن الفتنة كعلي وطلحة وأبي موسى الأشعري ، ومعاوية وعمرو بن العاص ، دخلوا في الآية لأنهم استخلفوا ومكنوا ، وأمنوا .
و أما من حدث في زمن الفتنة كالرافضة الذين حدثوا في الإسلام ، في زمن الفتنة والافتراق ، وكالخوارج المارقين ،فهؤلاء لم يتناولهم النص ، فلم يدخلوا فيمن وصف بالإيمان والعمل الصالح ، المذكورين في هذه الآية ، لأنهم أولا ليسوا من الصحابة المخاطبين بهذا .
ولم يحصل لهم من الاستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف ما حصل للصحابة ، بل لا يزالون خائفين مقلقلين غير ممكنين .
فإن قيل لما قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم ولم يقل وعدهم كلهم . قيل كما قال وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ، ولم يقل وعدكم .(173/251)
و"من" تكون لبيان الجنس فلا يقتضي أن يكون قد بقي من المجرور بها شيء خارج ، عن ذلك الجنس كما في قوله تعالى : { َفاجتنبوْا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَان } (1) فإنه لا يقتضى أن يكون من الأوثان ما ليس برجس ، وإذا قلت ثوبا من حرير ، فهو كقولك ثوب حرير ، وكذلك قولك باب من حديد فهو، كقولك باب حديد ، وذلك لا يقتضي أن يكون هناك حرير وحديد غير المضاف إليه ، وإن كان الذي يتصوره كليا ، فإن الجنس الكلي ، هو ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه ، وإن لم يكن مشتركاً فيه في الوجود .
فإذا كانت من بيان الجنس ، كان التقدير وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذا الجنس ، وإن كان الجنس كلهم مؤمنين صالحين ، وكذلك إذا قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذا الجنس والصنف مغفرة وأجراً عظيما ، لم يمنع ذلك أن يكون جميع هذا الجنس مؤمنين صالحين .
ولما قال لأزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: { وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا } (2) لم يمنع أن يكون كل منهن تقنت لله ورسوله ، وتعمل صالحا ، ولما قال تعالى : { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَليَكُم كَتَبَ رَبُّكُم عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُم سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (3) لم يمنع أن يكون كل منهم متصفاً بهذه الصفة ، ولا يجوز ان يقال أنهم لو عملوا سوءاً بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا لم يغفر إلا لبعضهم.
ولهذا تدخل من هذه في النفي لتحقيق نفي الجنس كما في قوله تعالى :
__________
(1) الآية 30 من سورة الحج .
(2) الآية 31 من سورة الأحزاب .
(3) الآية 54 من سورة الأنعام .(173/252)
{ وَمَا التَّنَاهُم مِن عَمَلِهِم مِن شَيء } (1) وقوله تعالى: { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ الله } (2) { فَمَا مِنْكُم مِن أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِين } (3) .
ولهذا إذا دخلت في النفي تحقيقا أو تقديرا أفادت نفي الجنس قطعاً ،
(فالتحقيق ما ذكر والتقدير كقوله تعالى: { لا إله إلا الله } وقوله: { لاَرَيْبَ فيه } ونحو ذلك بخلاف ما إذا لم تكن "من"موجودة كقولك (( ما رأيت رجلا )) فإنها ظاهرة لنفي الجنس ، ولكن قد يجوز أن ينفي بها الواحد من الجنس ، كما قال سيبويه : يجوز أن يقال ما رأيت رجلا ، بل رجلين .
فتبين أنه يجوز إرادة الواحد ، وإن كان الظاهر نفي الجنس ، بخلاف ما إذا دخلت (من ) فإنه ينفي الجنس قطعا ، ولهذا لو قال لعبيده من أعطاني منكم ألفا فهو حر فأعطاه كل واحد ألفا عتقوا كلهم .
وكذلك لو قال واحد لنسائه من أبرأتني منكن من صداقها فهي طالق فأبرأنه كلهن ، طلقن كلهن .
فإن المقصود بقوله منكن بيان جنس المعطى والمبرئ لا إثبات هذا الحكم لبعض العبيد والأزواج .
فإن قيل فهذا كما لا يمنع أن يكون كل المذكور متصفا بهذه الصفة فلا يوجب ذلك أيضا ، فليس في قوله وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ما يقتضي أن يكونوا كلهم كذلك .
__________
(1) الآية 21 من سورة الطور.
(2) الآية 62 من سورة آل عمران .
(3) الآية 47 من سورة الحاقة .(173/253)
قيل : نعم ونحن لا ندعي أن مجرد هذا اللفظ دل على ان جميعهم موصوفون بالإيمان والعمل الصالح ، ولكن مقصودنا أن (من ) لا ينافى شمول هذا الوصف لهم فلا يقول قائل ان الخطاب دل على ان المدح شملهم وعمهم بقوله محمد رسول الله والذين معه إلى آخر الكلام ، ولا ريب أن هذا مدح لهم بما ذكر ، من الصفات ، وهو الشدة على الكفار ، والرحمة بينهم والركوع والسجود يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، والسيما في وجوههم من أثر السجود ، وانهم يبتدئون من ضعف إلى كمال القوة والاعتدال ، كالزرع والوعد بالمغفرة والأجر العظيم ، ليس على مجرد هذه الصفات بل على الإيمان والعمل الصالح .
فذكر ما به يستحقون الوعد ، وإن كانوا كلهم بهذه الصفة ، ولولا ذكر ذلك لكان يظن انهم بمجرد ما ذكر يستحقون المغفرة والأجر العظيم ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء ، بخلاف ما إذا ذكر الإيمان والعمل الصالح .
فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب كان ما منه الاشتقاق سبب الحكم.(173/254)
فإن قيل فالمنافقون كانوا في الظاهر مسلمين ، قيل المنافقون لم كونوا متصفين بهذه الصفات ، ولم يكونوا مع الرسول والمؤمنين ولم يكونوا منهم ، كما قال الله تعالى : { َفعسى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا في أَنْفُسِهِم نَادِمِين ، وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِم إِنَّهُم لَمَعَكُم حَبطت أَعْمَالُهُم فَاَصْبَحُوا خَاسِرِين } (1) وقوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُو ذوى في اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابَ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولن إِنَّا مَعَكُم أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَم بِمَا في صُدُور العَالَمِين وَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِين } (2)
فأخبرأن المنافقين ليسوا من المؤمنين ، ولا من أهل الكتاب .
هؤلاء لا يجدون في طائفة من المتظاهرين بالإسلام ، أكثر منهم في الرافضة ، ومن انطوى إليهم . فدل هذا على ان المنافقين لم يكونوا من الذين آمنوا معه ، والذين كانوا منافقين منهم من تاب عن نفاقه وانتهى عنه ، وهم الغالب بدليل قوله تعالى : { َلئنْ لَمْ يَنْتَهِ المْنُافِقُونَ وَالَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ وَالْمُرْجَفُونَ في الْمَدِينَةِ ِلنُغْرِيَنَّكَ بِهِم ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً } (3) .
__________
(1) الآيات 52 –53 من سورة المائدة .
(2) الآيتان 10 و11 من سورة العنكبوت .
(3) الآيتان 60 و61 من سورة الأحزاب.(173/255)
فلما لم يغره الله بهم ، ولم يقتلهم تقتيلا ، بل كانوا يجاورونه بالمدينة فدل ذلك على أنهم انتهوا ، والذين كانوا معه بالحديبية كلهم بايعوه تحت الشجرة ، إلا الجد بن قيس فإنه اختبأ خلف جمل أحمر .
وكذا حاء في الحديث كلهم يدخل الجنة إلا صاحب الجمل الأحمر ، وبالجملة فلا ريب أن المنافقين كانوا مغمورين مقهورين ، أذلاء ، لا سيما في آخر أيام الرسول (. وفي غزوة تبوك لأن الله تعالى قال : { َيقولون لئن رَجعنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيَخْرُجَنَّ الأَعَزَّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلله العِزَّةُ َلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤمِنِين وِلَكِن الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُون } (1) .
فأخبر أن العزة للمؤمنين ، لا للمنافقين ، فعلم أن العزة والقوة كانت في المؤمنين ، وأن المنافقين كانوا أذلاء بينهم .
فيمتنع أن تكون الصحابة الذين كانوا أعز المسلمين من المنافقين ، بل ذلك يقتضى أن من كان أعز كان أعظم إيمانا .
ومن المعلوم أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، الخلفاء الراشدين وغيرهم كانوا اعز الناس ، وهذا كله مما يبين أن المنافقين كانوا ذليلين في المؤمنين .
فلا يجوز أن يكون الأعزاء من الصحابة منهم ، ولكن هذا الوصف مطابق للمتصفين به من الرافضة وغيرهم ،والنفاق والزندقة في الرافضة أكثر منه في سائر الطوائف .
بل لا بد لكل منهم من شعبة نفاق ، فإن أساس النفاق الذي بني عليه ، الكذب ، وأن يقول الرجل بلسانه ما ليس في قلبه ، كما اخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم .
والرافضة تجعل هذا من أصول دينها وتسميه التقية وتحكى هذا عن أئمة أهل البيت الذين برأهم الله عن ذلك ، حتى يحكوا ذلك عن جعفر الصادق أنه قال التقية ديني ودين آبائي و قد نزه الله المؤمنين من أهل البيت وغيرهم عن ذلك.
__________
(1) الآية 8 من سورة المنافقون .(173/256)
بل كانوا من أعظم الناس صدقا وتحقيقا للإيمان ، وكان دينهم التقوى لا التقية ، وقول الله تعالى : { لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ في شَيء إلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُم تُقَاه } (1).
إنما هو الأمر بالاتقاء من الكافرين ، لا الأمر بالنفاق والكذب .
والله تعالى قد أباح لمن أكره على كلمة الكفر أن يتكلم بها ، إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان ، لكن لم يكره أحداً من أهل البيت على شيء من ذلك ، حتى أن أبا بكر( لم يكره أحدا لا منهم، ولا من غيرهم على متابعته، فضلا على ان يكرههم على مدحه ، والثناء عليه.
بل كان علي وغيره من أهل البيت يظهرون ذكر فضائل الصحابة والثناء عليهم والترحم عليهم والدعاء لهم ولم يكن أحد يكرههم على شيء منه باتفاق الناس .
وقد كان زمن بني أمية وبني العباس خلق عظيم دون عليّ وغيره في الإيمان والتقوى يكرهون منهم أشياء ولا يمدحونهم ولا يثنون عليهم ، ولا يقربونهم ، ومع هذا لم يكن هؤلاء يخافونهم ، ولم يكن أولئك يكرهونهم مع أن الخلفاء الراشدين كانوا باتفاق الخلق أبعد عن قهر الناس وعقوبتهم على طاعتهم ، من هؤلاء .
فإذا كان لم يكن الناس مع هؤلاء مكرهين على ان يقولوا بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم ، فكيف يكونون مكرهين مع الخلفاء على ذلك ، بل على الكذب وشهادة الزور وإظهار الكفر ، كما تقوله الرافضة من غير ان يكرههم أحد على ذلك .
فعلم أن ما تتظاهر به الرافضة هو من باب الكذب والنفاق ، وأنهم يقولوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، لا من باب ما يكره المؤمن عليه ، من التكلم بالكفر وهؤلاء أسرى المسلمين ، في بلاد الكفار غالبهم يظهرون دينهم،والخوارج مع تظاهرهم بتكفير الجمهور، وتكفير عثمان وعلي ومن ولاهما يتظاهرون بدينهم.
__________
(1) الآية 28 من سورة آل عمران .(173/257)
وإذا سكنوا بين الجماعة ، سكنوا على الموافقة والمخالفة ، والذي يسكن في مدائن الرافضة فلا يظهر الرفض وغايته إذا ضعف ان يسكت عن ذكر مذهبه لا يحتاج أن يتظاهر بسب الخلفاء والصحابة، إلا أن يكونوا قليلا .
فكيف يظن بعلي ( وغيره من أهل البيت أنهم كانوا اضعف دينا من الأسرى في بلاد الكفر ، ومن عوام أهل السنة ، ومن النواصب ، مع أنا قد علمنا بالتواتر أن أحدا لم يكره عليّا ولا أولاده على ذكر فضائل الخلفاء ، والترحم عليهم ، بل كانوا يقولون ذلك من غير إكراه ، ويقوله أحدهم لخاصته كما ثبت ذلك بالنقل المتواتر .
وأيضا فقد يقال في قوله تعالى : { وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَعَمِلوا الصَّالِحَات } أن ذلك وصف الجملة بصفة تتضمن حالهم عند الاجتماع كقوله تعالى : { وَمَثَلُهُم في الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِه يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغيظَ بِهِم الكُفَّار } والمغفرة والأجر في الآخرة يحصل لكل واحد واحد ، فلا بد ان يتصف بسبب ذلك ، وهو الإيمان والعمل الصالح، إذ قد يكون في الجملة منافقا .
وفي الجملة ما في القرآن من خطاب المؤمنين والمتقين والمحسنين ، ومدحهم والثناء عليهم ، فهم أول من دخل في ذلك من هذه الأمة ، وأفضل من دخل في ذلك من هذه الأمة كما استفاض عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من غير وجه أنه قال : (( خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ))(1) .
(الوجه الثاني ) : في بيان كذبه وتحريفه فيما نقله عن حال الصحابة بعد موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم .
(قوله : فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق ، وبايعه اكثر الناس طلبا للدنيا ) .
__________
(1) انظر البخاري ج3 ص171 ومواضع أُخر ، ومسلم ج4 ص 1962 .(173/258)
وهذا إشارة إلى أبي بكر فإنه هو الذي بايعه أكثر الناس ، ومن المعلوم أن أبا بكر لم يطلب الأمر لنفسه ، لا بحق ولا بغير حق ، بل قال: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، إما عمر بن الخطاب وإما أبا عبيدة .
قال عمر : فوالله لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقرّبني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر ، وهذا اللفظ في الصحيحين(1) .
وقد روى عنه انه قال : أقيلوني، أقيلوني ، فالمسلمون اختاروه وبايعوه ، لعلمهم بأنه خيرهم ، كما قال له عمر يوم السقيفة بمحضر المهاجرين والأنصار أنت سيدنا وخيرنا ، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم ينكر ذلك أحد ، وهذا أيضا في الصحيحين(2) .
والمسلمون اختاروه كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث الصحيح لعائشة : (( ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا، لا يختلف عليه الناس من بعدي ، ثم قال يأبى الله والمؤمنون أن يتولى غير أبي بكر ))(3) فالله هو ولاه قدرا ، وشرعا ، وأمر المؤمنين ، بولايته ، وهداهم إلى أن ولوه من غير أن يكون طلب ، ذلك لنفسه .
(الوجه الثالث ) : أن يقال فهب أنه طلبها وبايعه أكثر الناس فقولكم : أن ذلك طلب للدنيا كذب ظاهر .
فإن أبا بكر لم يعطهم دنيا ، وكان قد أنفق ماله في حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولما رغب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الصدقة جاء بماله كله ، فقال له:((ما تركت لأهلك . قال :تركت لهم الله ، ورسوله ))(4)
والذين بايعوه هم أزهد الناس في الدنيا ، وهم الذين أثنى الله عليهم.
وقد علم الخاص والعام زهد عمر ، وأبي عبيدة ، وأمثالهما ، وإنفاق الأنصار أموالهم كأسيد بن حضير ، وأبي طلحة ، وأبي أيوب وأمثالهم .
__________
(1) انظر البخاري ج8 ص 140 – 142 .
(2) انظر الذي قبله .
(3) 2 ) وقد سبق ذكره ص 63 .
(4) 3 ) انظر البخاري ج2 ص 112 وغيره .(173/259)
ولم يكن عند موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لهم بيت مال يعطيهم ما فيه ، ولا كان هناك ديوان للعطاء يفرض لهم فيه ، والأنصار كانوا في أملاكهم ، وكذلك المهاجرون من كان له شيء من مغنم أو غيره فقد كان له .
وكانت سيرة أبي بكر في قسم الأموال التسوية ، وكذلك سيرة علي( ، فلو بايعوا عليّا أعطاهم ما أعطاهم أبو بكر ، مع كون قبيلته أشرف القبائل ، وكون بني عبد مناف وهم أشراف قريش الذين هم اقرب العرب من بني أمية وغيرهم إذ ذلك كأبي سفيان بن حرب وغيره ، وبني هاشم كالعباس وغيره ، كانوا معه .
فقد أراد أبو سفيان وغيره أن تكون الإمارة في بني عبد مناف ، على عادة الجاهلية فلم يجبه إلى ذلك علي ولا عثمان ، ولا غيرهما لعلمهم ، أو دينهم فأيّ رياسة ، وأي مال كان لجمهور المسلمين بمبايعة أبي بكر ، لا سيما وهو يسوّي بين السابقين والأولين ، وبين آحاد المسلمين في العطاء ، ويقول : إنما أسلموا لله وأجورهم على الله ،وإنما هذا المتاع بلاغ .
وقال لعمر لما أشارعليه بالتفضيل في العطاء أفأشتري منهم إيمانهم؟ فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم أولا ، كعمر وأبي عبيدة وأسيد بن حضير وغيرهم ، سوّى بينهم وبين الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح ، وبين من أسلم بعد موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، فهل حصل لهؤلاء من الدنيا بولايته شيء .
(الوجه الرابع ) : أن يقال : أهل السنّة مع الرافضة كالمسلمين مع النصارى ، فإن المسلمين يؤمنون بأن المسيح عبد الله ورسوله ، ولا يغلون فيه غلو النصارى ، ولا يجفون جفاء اليهود .
والنصارى تدعى فيه الإلهية وتريد أن تفضله على محمد وإبراهيم وموسى ، بل تفضل الحواريين على هؤلاء الرسل .(173/260)
كما تريد الروافض أن تفضل من قاتل مع علي كمحمد بن أبي بكر والأشتر النخعي على أبي بكر وعمر وعثمان وجمهور المهاجرين والأنصار ، فالمسلم إذا ناظر النصراني لا يمكنه أن يقول في عيسى إلا الحق ، لكن إذا أردت أن تعرف جهل النصراني وأنه لا حجة له فقدّر المناظرة بينه وبين اليهود .
فإن النصراني لا يمكنه أن يجيب عن شبهة اليهودي(1) إلا بما يجيب به المسلم ، فإن لم يدخل في دين الإسلام وإلا كان منقطعا مع اليهودي ، فإنه إذا أمر بالإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم .
فإن قدح في نبوته بشيء من الأشياء ، لم يمكنه أن يقول شيئا إلا قال اليهودي في المسيح ما هو أعظم من ذلك ، فإن البينات لمحمد أعظم من البينات للمسيح .
وبعد أمره عن الشبهة ، أعظم من بعد المسيح عن الشبهة ، فإن جاز القدح فيما دليله أعظم وشبهته أبعد عن الحق ، فالقدح فيما دونه أولى .
وإن كان القدح في المسيح باطلا فالقدح في محمد أولى بالبطلان ، فإنه إذا بطلت الشبهة القوية فالضعيفة أولى بالبطلان ، وإذا ثبتت الحجة التي غيرها أقوى منها فالقوية أولى بالإثبات .
ولهذا كان مناظرة كثير من المسلمين للنصارى من هذا الباب كالحكاية المعروفة عن القاضي أبي بكر بن الطيب ، لما أرسله المسلمون إلى ملك النصارى بالقسطنطينية ، فإنهم عظموه ، وعرف النصارى قدره ، فخافوا أن لا يسجد للملك إذا دخل ، فأدخلوه من باب صغير ليدخل منحنيا ، ففطن لمكرهم ، فدخل مستدبرا متلقيا لهم بعجزه .
__________
(1) يعني أن اليهود يرمون مريم بالفجور ، وما دام النصراني يكذب ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكنه الرد على اليهود في أمر عيسى . لأن عيسى أمر بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فإذا امتنع النصارى من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم صار ذلك فيه كذيب لعيسى .(173/261)
ففعل نقيض ما قصدوه ، ولما جلس وكلموه ، أراد بعضهم القدح في المسلمين ، فقال له ما قيل في عائشة امرأة نبيكم ، يريد إظهار قول الإفك الذي يقوله من يقول من الرافضة ، أيضا .
فقال القاضي ثنتان قدح فيهما ورميتا بالزنا إفكا وكذبا ، مريم وعائشة فأما مريم فجاءت بالولد تحمله من غير زوج ، وأما عائشة فلم تأت بولد مع أنه كان لها زوج ، فأبهت النصارى .
وكان مضمون كلامه أن ظهور براءة عائشة أعظم من ظهور براءة مريم ، وأن الشبهة إلى مريم أقرب منها إلى عائشة ، فإذا كان مع هذا قد ثبت كذب القادحين في مريم ، فثبوت قدح الكاذبين في عائشة أولى .
ومثل هذه المناظرة أن يقع التفضيل بين طائفتين ، ومحاسن إحداهما أكثر وأعظم ومساويها أقل وأصغر ، فإذا ذكر ما فيها من ذلك عورض بأن مساوئ تلك أعظم ، كقوله تعالى : { يسئلونكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٌ فِيه قُل قِتَالٌ فيهِ كَبِير } ثم قال : { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرَ عِنْدَ الله وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرَ مِنَ الْقَتْل } (1) فإن الكفار عيروا سرية من سرايا المسلمين بأنهم قتلوا ابن الحضرمي في الشهر الحرام ، فقال تعالى هذا كبير وما عليه المشركون من الكفر بالله والصد عن سبيله وعن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ، فإن هذا صد عما لا تحصل النجاة والسعادة إلا به ، وفيه من انتهاك المسجد الحرام ما هو أعظم من انتهاك الشهر الحرام.
لكن في هذا النوع قد اشتملت كل من الطائفتين على ما يذم ، وأما النوع الأول فيكون كل من الطائفتين لا يستحق الذم ، بل هناك شبه في الموضعين ، وأدلة في الموضعين وأدلة أحد الصنفين أقوى وأظهر ، وشبهته أضعف وأخفى ، فيكون أولى بثبوت الحق مما تكون أدلته أضعف ، وشبهته أقوى .
__________
(1) 1 ) الآية 217 من سورة البقرة .(173/262)
هذا حال النصارى واليهود مع المسلمين ، وهو حال أهل البدع مع أهل السنّة لاسيما الرافضة ، وهكذا أمر أهل السنّة مع الرافضة في أبي بكر وعلي، فإن الرافضي لا يمكنه أن يثبت إيمان علي وعدالته وأنه من أهل الجنة فضلا عن إمامته إن لم يثبت ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان .
وإلا فمتى أراد إثبات ذلك لعلي وحده لم تساعده الأدلة ، كما أن النصراني إذا أراد إثبات نبوة المسيح دون محمد لم تساعده الأدلة .
فإذا قالت له الخوارج الذين يكفرون عليّا ، أو النواصب الذين يفسقونه أنه كان ظالما طالبا للدنيا ، وأنه طلب الخلافة لنفسه ، وقاتل عليها بالسيف وقتل على ذلك ألوفا من المسلمين ، حتى عجز عن انفراده بالأمر ، وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقتلوه ، فهذا الكلام إن كان فاسد ففساد كلام الرافضي في أبي بكر وعمر أعظم ،وإن كان ما قاله في أبي بكر وعمر متوجها مقبولا ، فهذا أولى بالتوجيه والقبول .
لأنه من المعلوم للخاصة والعامة أن من ولاه الناس باختيارهم ورضاهم من غير أن يضرب أحدا بالسيف ولا عصى ولا أعطى أحدا ممن ولاه من مال واجتمعوا عليه فلم يول أحد من أقاربه ، وعترته ، ولا خلف لورثته مالاً من مال المسلمين ، وكان له مال قد أنفقه في سبيل الله ، فلم يأخذ بدله ، وأوصى أن يرد إلى بيت مالهم ما كان عنده لهم ، وهو جرد قطيفة ، وبكر وأمة سوداء ، ونحو ذلك .
حتى قال عبد الرحمن بن عوف لعمر : أتسلب هذا آل أبي بكر ، قال كلا والله لا يتحنث فيها أبو بكر وأتحملها أنا ، وقال يرحمك الله يا أبا بكر لقد أتعبت الأمراء بعدك .
ثم مع هذا لم يقتل مسلما على ولايته ، ولا قاتل مسلما بمسلم ، بل قاتل بهم المرتدين عن دينهم ، والكفار حتى شرع بهم في فتح الأمصار واستخلف القوي الأمين العبقري ، الذي فتح الأمصار ونصب الديوان ، وعم بالعدل والإحسان .(173/263)
فإن جاز للرافضي أن يقول إن هذا كان طالبا للمال والرياسة ، أمكن الناصبي أن يقول : كان علي ظالما طالبا للمال والرياسة ، قاتل على الولاية حتى قتل المسلمون بعضهم بعضا ،ولم يقاتل كافراً ولم يحصل للمسلمين في مدة ولايته إلا شر وفتنة في دينهم ودنياهم .
فإن جاز أن يقال : علي كان مريدا لوجه الله ، والتقصير من غيره من الصحابة ، أو يقال كان مجتهداً مصيباً ، وغيره مخطئ مع هذه الحالة فإنه يقال كان أبو بكر وعمر مريدين وجه الله مصيبين والرافضة مقصرون في معرفة حقهم مخطئون في ذمهم بطريق الأولى والأحرى .
فإن أبا بكر وعمر كان بعدهما عن شبة طلب المال والرياسة أشد من بعد علي عن ذلك ،وشبهة الخوارج الذين ذموا عليّا وعثمان وكفروهما أقرب من شبهة الرافضة الذين ذموا أبا بكر وعمر وكفروهما ، فكيف بحال الصحابة والتابعين الذين تخلفوا عن بيعته أو قاتلوه فشبهتهم أقوى من شبهة من قدح في أبي بكر وعمر وعثمان ، فإن أولئك قالوا ما يمكننا أن نبايع إلا من يعدل علينا ،ويمنعنا ممن ظلمنا ، ويأخذ حقنا ممن ظلمنا ، فإذا لم يفعل هذا كان عاجزاً أو ظالما ، وليس علينا أن نبايع عاجزا أو ظالما .
وهذا الكلام إذا كان باطلا ، فبطلان قول من يقول أن أبا بكر وعمر كانا ظالمين طالبين للرياسة والمال أبطل وأبطل ، وهذا الأمر لا يستريب فيه من له بصر ومعرفة ، وأين شبهة مثل أبي موسى الأشعري الذي وافق عمرو على عزل علي ومعاوية ، وأن يجعل الأمر شورى في المسلمين ، من شبهة عبد الله بن سبأ وأمثاله الذين يدعون أنه إمام معصوم ، وأنه إله أو نبي .(173/264)
بل أين شبهة الذين رأوا أن يولوا معاوية من شبهة الذين يدعون أنه إله أو نبي ، فإن هؤلاء كفار باتفاق المسلمين بخلاف أولئك ، ومما يبين هذا أن الرافضة تعجز عن إثبات إيمان علي وعدالته ، مع كونهم على مذهب الرافضة ، ولا يمكنهم ذلك إلا إذا صاروا من أهل السنة ، فإذا قالت لهم الخوارج وغيرهم ممن تكفره ، أو تفسقه ، لا نسلم أنه كان مؤمناً ، بل كان كافرا أو ظالما ، كما يقولون هم في أبي بكر وعمر لم يكن لهم دليل على إيمانه وعدله ، إلا وذاك الدليل على أبي بكر وعمر وعثمان أدل .
فإن احتجوا بما تواتر من إسلامه وهجرته وجهاده فقد تواتر ذلك عن هؤلاء ، بل تواتر إسلام معاوية ويزيد وخلفاء بني أمية وبني العباس وصلاتهم وصيامهم ، وجهادهم للكفار فإن ادعوا في واحد من هؤلاء النفاق ، أمكن الخارجى أن يدعى النفاق فيه(1) .
وإذا ذكروا شبهة ، ذكر ما هو أعظم منها ، وإذا قالوا ما تقوله أهل الفرية ، من أن أبا بكر وعمر كانا منافقين في الباطن ، عدوين للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم . أفسدا دينه ، بحسب الإمكان أمكن الخارجى ان يقول ذلك في علي ويوجه ذلك بأن يقول : كان يحسد ابن عمه وأنه كان يريد إفساد دينه فلم يتمكن من ذلك في حياته وحياة الخلفاء الثلاثة حتى سعى في قتل الخليفة الثالث ، وأوقد الفتنة ، حتى غلى في قتل أصحاب محمد ، وأمته بغضا له وعداوة ، وأنه كان مباطناً للمنافقين الذين ادعوا فيه الإلهية والنبوة ، وكانيظهر خلاف ما يبطن ، لأن دينه التقية ، فلما أحرقهم بالنار، أظهر إنكار ذلك ، وإلا فكان في الباطن معهم .
ولهذا كانت الباطنية من اتباعه ،وعندهم سره ، وهم ينقلون عنه الباطن الذي ينتحلونه ، ويقول الخارجى مثل هذا الكلام الذي يروج على كثير من الناس أعظم ، مما يروج كلام الرافضة في الخلفاء الثلاثة ، لأن شبهة الرافضة أظهر فسادا من شبهة الخوارج ، وهم أصح منهم عقلا ، ومقصدا .
__________
(1) 1 ) يعني في علي .(173/265)
والرافضة أكذب وأفسد دينا ، وإن أرادوا إثبات إيمانه وعدالته بنص القرآن عليه ، قيل القرآن عام وتناوله له ليس بأعظم من تناوله لغيره ، وما من آية يدعون اختصاصها به إلا أمكن أن يدعى اختصاصها أو اختصاص مثلها أو أعظم منها بأبي بكر وعمر .
فباب الدعوى بلا حجة ممكنة ، والدعوى في فضل الشيخين أمكن منها في فضل غيرهما ، وإن قالوا ثبت ذلك بالنقل والرواية ، فالنقل والرواية في أولئك أكثر وأشهد ، فإن ادعوا تواتراً ، فالتواتر هناك أصح ، وإن اعتمدوا على نقل الصحابة فنقلهم لفضائل أبي بكر وعمر أكثر ، ثم هم يقولون : أن الصحابة ارتدوا إلا نفرا قليلا فكيف تقبل رواية هؤلاء في فضيلة أحد ، ولم يكن في الصحابة رافضة كثيرون ، يتواتر نقلهم ، فطريق النقل مقطوعا عليهم ، إن لم يسلكوا طريق أهل السنة ، كما هو مقطوع على النصارى في إثبات نبوة المسيح إن لم يسلكوا طريق المسلمين .
وهذا كمن أراد أن يثبت فقه ابن عباس دون علي ، أو فقه علقمة والأسود دون ابن مسعود ، ونحو ذلك من الأمور التي يثبت فيها للشيء حكم دون ما هو أولى بذلك الحكم منه ، فإن هذا تناقض ممتنع عند من سلك طريق العلم والعدل .
ولهذا كانت الرافضة من أجهل الناس وأضلهم ، كما أن النصارى من أجهل الناس ، والرافضة من أخبث الناس ، كما أن اليهود من أخبث الناس ، ففيهم نوع من ضلال النصارى ،ونوع من خبث اليهود .(173/266)
(الوجه الخامس): أن يقال : تمثيل هذا بقصة عمر بن سعد طالبا للرياسة والمال مقدما على المحرّم لأحل ذلك فيلزم أن يكون السابقون الأولون بهذه الحال ، وهذا أبوه سعد بن أبي وقاص، كان من أزهد الناس في الإمارة والولاية ، ولما وقعت الفتنة اعتزل الناس في قصره بالعقيق ، وجاءه عمر ابنه هذا فلامه على ذلك ، وقال له الناس في المدينة يتنازعون الملك وأنت ههنا؟ فقال : (( اذهب فإني سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفيّ ))(1) .
هذا ولم يكن قد بقي أحد من أهل الشورى غيره وغير علي رضى الله عنهما ، وهو الذي فتح العراق ، وأذل جنود كسرى وهو آخر العشرة موتا.
فإذا لم يحسن أن يشبه بابنه عمر أيشبه به أبو بكر وعمر وعثمان ، هذا وهم لا يجعلون محمد بن أبي بكر بمنزلة أبيه ، بل يفضلون محمداً ويعظمونه ، ويتولونه لكونه آذى عثمان وكان من خواص أصحاب علي لأنه كان ربيبه ، ويسبون أباه أبا بكر ويلعنونه ، فلو أن النواصب فعلوا بعمر بن سعد مثل ذلك فمدحوه على قتل الحسين ، لكونه كان من شيعة عثمان ، ومن المنتصرين له ، وسبوا أباه سعد لكونه تخلف عن القتال مع معاوية والانتصار لعثمان ، هل كانت النواصب لو فعلت ذلك إلا من جنس الرافضة .
بل الرافضة شر منهم ، فإن أبا بكر أفضل من سعد ، وعثمان كان أبعد عن استحقاق القتل من الحسين ، وكلاهما مظلوم وشهيد رضي الله تعالى عنهما ، ولهذا كان الفساد الذي حصل في الأمة بقتل عثمان أعظم من الفساد الذي حصل في الأمة بقتل الحسين .
__________
(1) 1 ) انظر المسند ج3 ص26 تحقيق أحمد شاكر ، وانظر صحيح مسلم ج4 ص2277.(173/267)
وعثمان من السابقين الأولين وهو خليفة مظلوم طلب منه أن ينعزل بغير حق فلم ينعزل ولم يقاتل عن نفسه حتى قتل ، والحسين ( لم يكن متوليا وإنما كان طالبا للولاية ، حتى رأى أنها متعذرة وطلب منه ليستأسر ليحمل إلى يزيد مأسورا ، فلم يجب إلى ذلك وقاتل حتى قتل مظلوما ، شهيدا ، فظلم عثمان كان أعظم وصبره وحلمه كان أكمل ، وكلاهما مظلوم شهيد ، ولو مثل ممثل طلب علي والحسين للأمر بطلب الإسماعيلية كالحاكم وأمثاله وقال إن علي والحسين كانا ظالمين طالبين للرياسة من غير حق ، بمنزلة الحاكم وأمثاله من ملوك بني عبيد ، أما كان يكون كاذبا مفتريا في ذلك لصحة إيمان الحسن والحسين ، ودينهما وفضلهما ، ولنفاق هؤلاء وإلحادهم .
وكذلك من شبه عليا والحسين ببعض من قام من الطالبيين أو غيرهم بالحجاز ، أو الشرق أو الغرب يطلب الولاية بغير حق ، ويظلم الناس في أموالهم وأنفسهم ، أما كان يكون ظالما كاذبا ؟ فالمشبه بأبي بكر وعمر بعمر بن سعد أولى بالكذب والظلم ، ثم غاية عمر بن سعد وأمثاله ، أن يعترف بأنه طلب الدنيا بمعصية يعترف أنها معصية ، وهذا ذنب كثير وقوعه من المسلمين .
وأما الشيعة فكثيرمنهم يعترفون بأنهم إنما قصدوا بالملك إفساد دين الإسلام ، ومعاداة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما يعرف ذلك من خطاب الباطنية وأمثالهم ، من الداخلين في الشيعة ، فإنهم يعترفون بأنهم في الحقيقة لا يعتقدون دين الإسلام ، وإنما يتظاهرون بالتشيع لقلة عقل الشيعة وجهلهم ليتوصلوا بهم إلى أغراضهم .
وأوّل هؤلاء ، بل خيارهم هو المختار بن أبي عبيد الكذاب ، فإنه كان أمير الشيعة ، وقتل عبيد الله بن زياد ، وأظهر الانتصار للحسين ، حتى قتل قاتله وتقرب بذلك إلى محمد بن الحنفية وأهل البيت ، ثم ادعى النبوة وأن جبريل يأتيه ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : (( سيكون في ثقيف كذاب ومبير ))(1) .
__________
(1) مسلم ج4 ص 1971 .(173/268)
فكان الكذاب هو المختار بن أبي عبيد ، وكان المبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي ، ومن المعلوم أن عمر بن سعد أمير السرية التي قتلت الحسين، مع ظلمه وتقديمه الدنيا على الدين ، لم يصل في المعصية إلى فعل المختار بن أبي عبيد ، الذي أظهر الانتصار للحسين ، وقتل قاتله بل كان هذا أكذب وأعظم ذنبا من عمر بن سعد .
فهذا الشيعي شر من ذلك الناصبي ، بل والحجاج بن يوسف خير من المختار بن أبي عبيد ، فإن الحجاج كان مبيرا كما سماه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم –يسفك الدماء بغير حق ، والمختار كان كذابا يدعى الوحي وإتيان جبريل إليه ، وهذا الذنب أعظم من قتل النفوس ، فإن هذا كفر وإن لم يتب منه كان مرتدا ، والفتنة أعظم من القتل .
وهذا باب مطرد لا تجد أحداً ممن تذمه الشيعة بحق أو باطل إلا وفيهم من هو شر منه ، ولا تجد أحداً ممن تمدحه الشيعة إلا وفيمن تمدحه الخوارج من هو خير منه ، فإن الروافض شر من النواصب ،والذين تكفرهم أو تفسقهم الروافض ، هم أفضل من الذين تكفرهم أو تفسقهم النواصب .
وأما أهل السنة فيتولون جمع لمؤمنين ، ويتكلمون بعلم وعدل ليسوا من أهل الجهل ، ولا من أهل الأهواء ، ويتبرءون من طريقة الروافض والنواصب جميعا ، ويتولون السابقين الأولين كلهم ،ويعرفون قدر الصحابة ، وفضلهم ، ومناقبهم ،ويرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم ، ولا يرضون بما فعله المختار ونحو من الكذابين ، ولا ما فعل الحجاج ونحوه من الظالمين .
ويعلمون مع هذا مراتب السابقين الأولين ، فيعلمون أن لأبي بكر وعمر من التقدم والفضائل ما لم يشاركهما فيهما أحد ، من الصحابة لا عثمان ولا علي ولا غيرهما ، وهذا كان متفقا عليه في الصدر الأول ، إلا أن يكون خلاف شاذ لا يعبأ به .(173/269)
حتى إن الشيعة الأولى أصحاب علي لم يكونوا يرتابون في تقديم أبي بكر وعمر عليه ، فكيف وقد ثبت عنه من وجوه متواترة أنه كان يقول : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ، ولكن كان طائفة من شيعة علي ، تقدمه على عثمان ، وهذه المسألة أخفى من تلك ، ولهذا كان أئمة أهل السنة متفقين على تقديم أبي بكر وعمر كما في مذهب أبي حنيفة ، والشافعي ، ومالك ، وأحمد بن حنبل ، والثورى ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وسائر أئمة المسلمين ، من أهل الفقه والحديث والزهد والتفسير من المتقدمين والمتأخرين.
وأما عثمان وعلي فكان طائفة من أهل المدينة يتوقفون فيهما ، وهي إحدى الروايتين عن سفيان الثوري ، ثم قيل إنه رجع عن ذلك لما اجتمع به أيوب السختياني ، وقال من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار ، وسائر أئمة السنة على تقديم عثمان وهو مذهب جماهير أهل الحديث وعليه يدل النص ، والإجماع والاعتبار .
وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من تقديم جعفر أو تقديم طلحة أو نحو ذلك فذلك في أمور مخصوصة لا تقديما عاما ، و كذلك ما ينقل عن بعضهم في علي .
وأما قوله : فبعضهم اشتبه الأمرعليه ورأى لطالب الدنيا مبايعا فقلده ،
وبايعه وقصر في نظره فخفي عليه الحق فاستحق المؤاخذة من الله تعالى ، بإعطاء الحق لغير مستحقه ، قال : وبعضهم قلد لقصور فطنته ، ورأى الجم الغفير فتابعهم ، وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب ، وغفل عن قوله تعالى :
{ وَقَلِيلٌ مَا هُم } (1) ، { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور } (2) .
فيقال لهذا المفترى : الذي جعل الصحابة الذين بايعوا أبا بكر ثلاثة أصناف أكثرهم طلبوا الدنيا وصنف قصروا في النظر ، وصنف عجزوا عنه، لأن الشر إما أن يكون لفساد القصد . وإما أن يكون للجهل ، والجهل إما أن يكون لتفريط في النظر ، وإما أن يكون لعجز عنه .
__________
(1) 1 ) الآية 24 من سورة ص .
(2) 2 ) الآية 24 من سورة ص .(173/270)
وذكر أنه كان في الصحابة وغيرهم من قصر في النظر حين بايع أبا بكر ، ولو نظر لعرف الحق ، وهذا يؤاخذ على تفريطه ، بترك النظر الواجب، وفيهم من عجز عن النظر ، فقلد الجم الغفير ، يشير بذلك إلى سبب مبايعة أبي بكر .
فيقال له هذا من الكذب الذي لا يعجز عنه أحد ، والرافضة قوم بهت فلو طلب من هذا المفتري دليل على ذلك لم يكن له على ذلك دليل ، والله تعال قد حرم القول بغير علم ، فكيف إذا كان المعروف ضد ما قاله فلو لم نكن نحن عالمين بأحوال الصحابة لم يجز أن نشهد عليهم بما لا نعلم من فساد القصد ، والجهل بالمستحق . قال تعالى : { ولا تقفُ ما ليس لك به علم إنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أولئِكَ كان عنهُ مَسئولاً } (1) وقال تعالى : { َها أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمُ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْم } (2) فكيف إذا كنا نعلم أنهم كانوا أكمل هذه الأمة عقلا ، وعلما ، ودينا ، كما قال فيهم عبد الله بن مسعود : (( من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات ، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد كانوا والله أفضل هذه الأمة ، وأبرها قلوبا ، وأعمقها علما وأقلها تكلفا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ، وإقامة دينه، فأعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم ، في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ، ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ))(3) . رواه غير واحد منهم ابن بطة ، عن قتادة .
__________
(1) 1 ) الآية 36 من سورة الإسراء .
(2) 2 ) الآية 66 من سورة آل عمران .
(3) 3 ) انظر المسند ج5 ص211 تحقيق أحمد شاكر ، وقال الهيثمي : رواه أحمد والبزار ، والطبراني في الكبير . مجمع الزوائد ج1 ص177(173/271)
وروى هو وغيره بالأسانيد المعروفة إلى زر بنت حبيش ، قال : قال عبد الله بن مسعود : (( إن الله تبارك وتعالى نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه ، وابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على دينه ، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء ))(1) .
وفي رواية قال أبو بكر بن عياش الراوي لهذا الأثر ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود( ، وقد رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر .
فقول عبد الله بن مسعود كانوا أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، كلام جامع بين فيه حسن قصدهم ونياتهم ، ببر القلوب وبين فيه كمال المعرفة ودقتها بعمق العلم ، وبين فيه تيسر ذلك عليهم وامتناعهم من القول بلا علم ، بقلة التكلف وهذا خلاف ما قاله هذا المفترى الذي وصف أكثرهم بطلب الدنيا ، وبعضهم بالجهل ، إما عجزا وإما تفريطا والذي قاله عبد الله حق فإنهم خير هذه الأمة ، كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حيث قال : (( خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ))(2) .وهم أفضل الأمة الوسط الشهداء على الناس ، الذين هداهم الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، فليسوا من المغضوب عليهم الذين يتبعون أهواءهم ، ولا من الضالين الجاهلين ، كما قسمهم هؤلاء المفترون ، إلى ضلال وغواة ، بل لهم كمال العلم ،وكمال القصد .
__________
(1) 1 ) انظر المرجع السابق .
(2) 2 ) تقدمت الإشارة إلى مواضعه انظر ص.(173/272)
إذ لو لم يكن كذلك للزم أن لا تكون هذه الأمة خير الأمم ،وأن لا يكونوا خير الأمة وكلاهما خلاف الكتاب والسنة ، وأيضا فالاعتبار العقلي يدل على ذلك ، فإن من تأمل أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، وتأمل أحوال اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين ، تبين له من فضيلة هذه الأمة على سائر الأمم في العلم النافع ،والعمل الصالح ، ما يضيق هذا الموضع عن بسطه .
والصحابة أكمل الأمة في ذلك بدلالة الكتاب والستة والإجماع ، والاعتبار ولهذا لا تجد أحدا من أعيان الأمة إلا وهو معترف بفضل الصحابة عليه ، وعلى أمثاله ، وتجد من ينازع في ذلك كالرافضة من أجهل الناس ، ولهذا لا يوجد في أئمة الفقه الذين يرجع إليهم رافضي ، ولا في أئمة الحديث ولا في أئمة الزهد والعبادة ، ولا في أئمة الجيوش المؤيدة المنصورة رافضي، ولا في الملوك الذين نصروا الإسلام وأقاموه وجاهدوا عدوه من هو رافضي، ولا في الوزراء الذين لهم سيرة محمودة من هو رافضي .(173/273)
وأكثر ما تجد الرافضة إما في الزنادقة المنافقين الملحدين ، وإما في جهال ليس لهم علم بالمنقولات ولا بالمعقولات ، قد نشأ بالبوادي والجبال ، وتجبروا على المسلمين ، فلم يجالسوا أهل العلم والدين ، وإما في ذوي الأهواء ممن قد حصل له بذلك رياسة ومال ، أوله نسب يتعصب به كفعل أهل الجاهلية ، وأما من هو عند المسلمين من أهل العلم والدين ، فليس في هؤلاء رافضي ، لظهور الجهل والظلم في قولهم ، و تجد ظهور الرفض في شر الطوائف كالنصيرية والاسماعيلية ، والملاحدة الطرقية ، وفيهم من الكذب والخيانة وإخلاف الوعد ما يدل على نفاقهم ، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : (( آية المنافق ثلاث ،إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ))(1) – زاد مسلم – (( وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم )) وأكثر ما توجد هذه الثلاث في طوائف أهل القبلة في الرافضة.
وأيضا فيقال لهذا المفترى :هب أن الذين بايعوا الصديق كانوا كما ذكرت إما طالب دنيا وإما جاهل ، فقد جاء بعد أولئك في قرون الأمة ، من يعرف كل أحد زكاءهم ، وذكاءهم .
مثل سعيد بن المسيب ، الحسن البصري ، وعطاء بن أبي رباح ، وإبراهيم النخعي ، وعلقمة ، والأسود ، وعبيدة السلماني ، وطاوس ، ومجاهد، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء جابر بن زيد ، وعلي بن زيد ، وعلي بن الحسين ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وعروة بن الزبير ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر ، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام ، ومطرف بن الشخير ، ومحمد بن واسع ، وحبيب العجمى ، ومالك بن دينار، ومكحول ، والحكم بن عتبة ، ويزيد بن أبي حبيب ، ومن لا يحصي عددهم إلا الله .
__________
(1) 1 ) انظر البخاري ج1 ص 12 وغيره ، ومسلم ج1 ص78 .(173/274)
ثم بعدهم أيوب السختياني ، وعبد الله بن عون ، ويونس بن عبيد ، وجعفر بن محمد ، والزهري، وعمرو بن دينار ، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، وأبو الزناد ، ويحيى بن أبي كثير ، وقتادة ، ومنصور بن المعتمر ، والأعمش ، وحماد بن أبي سليمان ، وهشام الدستوائي، وسعيد بن أبي عروبة .
ومن بعد هؤلاء مثل ، مالك بن انس ، وحماد بن زيد ، وحماد بن سلمة ، والليث بن سعد ، والأوزاعي ، وأبي حنيفة ، وابن أبي ليلى ، وشريك، وابن أبي ذئب ، وابن الماجشون .
ومن بعدهم ، مثل يحيى بن سعيد القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، ووكيع بن الجراح ، وعبد الرحمن بن القاسم ، وأشهب بن عبد العزيز ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحق بن راهويه ، وأبي عبيد ، وأبي ثور ، ومن لا يحصى عدده إلا الله تعالى ،ممن ليس لهم غرض في تقديم غير الفاضل لا لأجل رياسة ،ولا مال .
وممن هم اعظم الناس نظرا في العلم وكشفا لحقائقه ، وهم كلهم متفقون على تفضيل أبي بكر وعمر .
بل الشيعة الأولى الذين كانوا على عهد علي كانوا يفضلون أبا بكر وعمر ، قال أبي القاسم سألت مالكا عن أبي بكر وعمر، فقال : مارأيت أحدا ممن اقتدى به يشك في تقديمهما. يعني على علي وعثمان فحكى إجماع أهل المدينة على تقديمهما.
وأهل المدينة لم يكونوا مائلين الى بني أمية كما كان أهل الشام ، بل قد خلعوا بيعة يزيد ، وحاربهم عام الحرة وجرى بالمدينة ما جرى .
ولم يكن أيضا قتل علي منهم أحدا كما قتل من أهل البصرة ومن أهل الشام ، بل كانوا يعدّونه من علماء المدينة ، إلى أن خرج منها ، وهم متفقون على تقديم أبي بكر وعمر .(173/275)
وروى البيهقي بإسناده عن الشافعي . قال : لم يختلف الصحابة والتابعون في تقديم أبي بكر وعمر ، وقال شريك بن أبي نمر : وقال له قائل أيما أفضل أبو بكر أو علي ؟ فقال له : أبو بكر . فقال له السائل : تقول هذا و أنت من الشيعة ؟ فقال: نعم إنما الشيعيّ من يقول هذا ، والله لقد رقى علىّ هذه الأعواد، فقال : ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر أفكنا نردّ قوله، أفكنا نكذبه ، والله ما كان كذابا(1) .
وذكر هذا القاضي عبد الجبار في كتاب تثبت النبوة له ، وعزاه إلى كتاب أبي القاسم البلخي ، الذي صنفه في النقض على ابن الرواندي اعتراضه على الجاحظ(2) .
فكيف يقال مع هذا أن الذين بايعوه كانوا طلاب الدنيا ،أو جهالا،ولكن هذا وصف الطاعن فيهم ، فإنك لا تجد في طوائف القبلة أعظم جهلا من الرافضة، ولا أكثر حرصا على الدنيا ، وقد تدبرتهم فوجدتهم لا يضيفون إلى الصحابة عيبا إلا وهم أعظم الناس اتصافا به ، والصحابة ابعد عنه ، فهم أكذب الناس بلا ريب كمسيلمة الكذاب ، إذ قال : أنا نبي صادق، ولهذايصفون أنفسهم بالإيمان ، ويصفون الصحابة بالنفاق ،وهم أعظم الطوائف نفاقا ، والصحابة أعظم الخلق إيمانا .
وأما قوله : وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق وبايعه الأقلون الذين اعرضوا عن الدنيا وزينتها ، ولم تأخذهم بالله لومة لائم ، بل أخلصوا لله واتبعوا ما أمروا به من طاعة من يستحق التقديم ، وحيث حصل للمسلمين هذه البلية ،وجب على كل أحد النظر في الحق واعتماد الإنصاف ، وأن يقر الحق مقره، ولا يظلم مستحقه ، فقد قال تعالى: { َأَلاَ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين } (3) .
__________
(1) 1 ) تقدمت الإشارة إليه ص55 وص9 .
(2) 2 ) انظر في تثبيت دلائل النبوة ج 2 ص 549 .
(3) الآية 18 من سورة هود عليه السلام(173/276)
فيقال له أولا : قد كان الواجب أن يقال لما ذهب طائفة إلى كذا ، وطائفة إلى كذا ، وجب أن ينظر أي القولين أصح ، فأما إذا رضيت إحدى الطائفتين باتباع الحق ، والأُخرى باتباع الباطل ، فإن كان هذا قد تبين فلا حاجة إلى النظر ، وإن لم يتبين بعد لم يذكر حتى يتبين .
ويقال له ثانيا : قولك : أنه طلب الأمر لنفسه بحق ، وبايعه الأقلون كذب على علي( ، فإنه لم يطلب الأمر لنفسه في خلافة أبي بكر ، وعمر وعثمان ،وإنما طلبه لما قتل عثمان وبويع وحينئذ فأكثر الناس كانوا معه ، لم يكن معه الأقلون وقد اتفق أهل السنة والشيعة على أن عليا لم يدع إلى مبايعته في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، ولا بايعه على ذلك أحد.
ولكن الرافضة تدعى أنه كان يريد ذلك ، وتعتقد أنه الإمام المستحق للإمامة ، دون غيره ، لكن كان عاجزا عنه وهذا لو كان حقا لم يفدهم ، فإنه لم يطلب الأمر لنفسه ، ولا تابعه أحد على ذلك ، فكيف إذا كان باطلا.
وكذلك قوله بايعه الأقلون ، كذب على الصحابة فإنه لم يبايع منهم أحد لعلي على عهد الخلفاء الثلاثة ، ولا يمكن أحد أن يدعي هذا ، ولكن غاية ما يقول القائل انه كان فيهم من يختار مبايعته ، ونحن نعلم أن عليا لما تولى كان كثير من الناس يختار ولاية معاوية ، وولاية غيرهما ، ولما بويع عثمان كان في نفوس بعض الناس ميل إلى غيره ، فمثل هذا لا يخلو من الوجود .
... وقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة وبها وما حولها منافقون ، كما قال تعالى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِنَ الأَعْرَاب مُنَافِقُون وَمِن أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُم نَحْنُ نَعْلَمُهُم } (1) وقد قال تعالى عن المشركين : { وَقَالُوا لَوْلاَ نَزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم } (2)
__________
(1) الآية 101 من سورة التوبة .
(2) الآية 31 من سورة الزخرف .(173/277)
فأحبوا أن ينزل القرآن على من يعظمونه من أهل مكة والطائف ، قال تعالى : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُم في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُم فَوْقَ بَعْض دَرَجَات } (1) .
وأما ما وصفه لهؤلاء بأنهم الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتها ، وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ، فهذا من أبين الكذب ، فإنه لم ير الزهد والجهاد في طائفة أقل منه في الشيعة ، والخوارج المارقون كانوا أزهد منهم وأعظم قتالا ، حتى يقال في المثل حملة خارجية وحروبهم مع جيوش بني أمية وبني العباس وغيرهما بالعراق والجزيرة وخراسان والمغرب وغيرهما معروفة ، وكانت لهم ديار يتحيزون فيها لا يقدر عليهم أحد .
وأما الشيعة فهم دائما مغلوبون ، مقهورون منهزمون ، وحبهم للدنيا وحرصهم عليها ظاهر ، ولهذا كاتبوا الحسين ( ، فلما أرسل إليهم ابن عمه، ثم قدم بنفسه غدروا به ، وباعوا الآخرة بالدنيا ، وأسلموه إلى عدوه ، وقاتلوه مع عدوه ، فأي زهد عند هؤلاء ، وأي جهاد عندهم .
__________
(1) الآية 32 من سورة الزخرف .(173/278)
وقد ذاق منهم علي بن أبي طالب ( من الكاسات المرة ما لا يعلمه إلا الله ، حتى دعا عليهم ، فقال: اللهم إني سئمتهم وسئموني فأبدلني بهم خيرا منهم ، وأبدلهم بي شرا مني ، وقد كانوا يغشونه ويكاتبون من يحاربه ، ويخونونه في الولايات ، والأموال ، هذا ولم يكونوا بعد صاروا رافضة ، إنما سمعوا شيعة علي لما افترق الناس فرقتين ، فرقة شايعت أولياء عثمان ، وفرقة شايعت أولياء عليا رضى الله عنهما ، فأولئك خيار الشيعة ، وهم من شر الناس معاملة لعلي بن أبي طالب ( ، وابنيه سبطى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وريحانته في الدنيا الحسن والحسين ، وهم أعظم الناس قبولا للوم اللائم في الحق ، وأسرع الناس إلى الفتنة ، وأعجزهم عنها ، يغرون من يظهرون نصره من أهل البيت ، حتى إذا اطمأن إليهم ولامهم عليه اللائم ، خذلوه وأسلموه وآثروا عليه الدنيا ، ولهذا أشار عقلاء المسلمين ونصحاؤهم على الحسين أن لا يذهب إليهم ، مثل عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام وغيرهم ، لعلمهم بأنهم يخذلونه ، ولا ينصرونه ، ولا يوفون له بما كتبوا به إليه ، وكان الأمر كما رأى هؤلاء، ونفذ فيهم دعاء عمر بن الخطاب ، ثم دعاء علي بن أبي طالب .
حتى سلط الله عليهم الحجاج بن يوسف ، كان لا يقبل من محسنهم ، ولا يتجاوز عن مسيئهم ، ودب شرهم إلى من لم يكن منهم، حتى عم الشر ، وهذه كتب المسلمين التي ذكر فيها زهاد الأمة ليس فيهم رافضي .(173/279)
كيف والرافضي من جنس المنافقين ، مذهبه التقية فهل هذا حال من لا تأخذه بالله لومة لائم ، إنما هذه حال من نعته الله في كتابه بقوله : { َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِيِنهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهَ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمْ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيم } (1) .
وهذه حال من قاتل المرتدين ، وأولهم الصديق ، ومن اتبعه إلى يوم القيامة ، فهم الذين جاهدوا المرتدين ، كأصحاب مسيلمة الكذاب ، ومانعي الزكاة ، وغيرهما وهم الذين فتحوا الأمصار، وغلبوا فارس والروم ، وكانوا أزهد الناس ، كما قال عبد الله بن مسعود لأصحابه : أنتم أكثر صلاة وصياما من أصحاب محمد ، وهم كانوا خيرا منكم ، قالوا : لما يا أبا عبد الرحمن ، قال: لأنهم كانوا ، أزهد في الدنيا ، وأرغب في الآخرة ، فهؤلاء هم الذين لاتأخذهم في الله لومة لائم .
بخلاف الرافضة ، فإنهم أشد الناس خوفا من لوم اللائم ،ومن عدوّهم، وهم كما قال تعالى : { َيحسبونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِم هُم الْعَدُوّ فَاحْذَرْهُم قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُون } (2) .ولا يعيشون في أهل القبلة إلا من جنس اليهود في أهل الملل . ثم يقال : من هؤلاء الذين زهدوا في الدنيا ، ولم تأخذهم في الله لومة لائم ، ممن لم يبايع أبا بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم ، وبايع عليا، فإنه من المعلوم أن في زمن الثلاثة لم يكن أحد منحازا عن الثلاثة مظهراً لمخالفتهم ومبايعة علي ، بل كل الناس كانوا مبايعين لهم فغاية ما يقال أنهم كانوا يكتمون تقديم علي وليست هذه حال من لا تأخذه في الله لومة لائم .
__________
(1) 1 ) الآية 54 من سورة المائدة .
(2) 1 ) الآية 4 من سورة المنافقون .(173/280)
وأما في حال ولاية علي فقد كان ( من أكثر الناس لوما لمن معه على قلة جهادهم ، ونكولهم عن القتال ، فأين هؤلاء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم ، من هؤلاء الشيعة ، وإن كذبوا على أبي ذر من الصحابة وسلمان وعمار وغيرهم ، فمن المتواتر أن هؤلاء كانوا من أعظم الناس تعظيما لأبي بكر وعمر ، واتباعاً لهما ، وإنما ينقل عن بعضهم التعنت على عثمان ، لا على أبي بكر وعمر ، وسيأتي الكلام على ما جرى لعثمان ( .
ففي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، لم يكن أحد يسمى من الشيعة ، ولا تضاف الشيعة إلى أحد لا عثمان ولا علي ولا غيرهما ، فلما قتل عثمان تفرق المسلمون ، فمال قوم إلى عثمان ، ومال قوم إلى علي واقتتلت الطائفتان، وقتل حينئذ شيعة عثمان شيعة علي ، وفي صحيح مسلم عن سعد بن هشام أنه أراد أن يغزو في سبيل الله وقدم المدينة فأراد أن يبيع عقارا له فيها فيجعله في السلاح والكراع ، ويجاهد الروم حتى يموت ، فلما قدم المدينة لقي أناسا من أهل المدينة ، فنهوه عن ذلك وأخبروه أن رهطاً ستة أرادوا ذلك في حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نهاهم نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم . وقال : (( أليس لكم بي أسوة ؟)) ، فلما حدثوه بذلك راجع امرأته ، وقد كان طلقها وأشهد على رجعتها . فأتى ابن عباس وسأله عن وتر رسول الله صلى لله تعالى عليه وسلم . فقال ابن عباس : ألا أدلك علىأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؟ فقال من ؟ قال : عائشة(ا ، فأتها فاسألها ثم ائتني فاخبرني ، بردها عليك ، قال فانطلقت إليها فأتيت على حكيم بن افلح فاستلحقته إليها فقال : ما أنا بقاربها لأني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئا فأبت فيهما لا مضيا .
قال : فأقسمت عليه فجاء فانطلقنا إلى عائشة رضى الله عنها وذكرا
الحديث(1)
__________
(1) 1 ) انظر مسلم ج2 ص 512 .(173/281)
، وقال معاوية لابن عباس أنت على ملة علي ، فقال لا على ملة علي ، ولا على ملة عثمان ، أنا على ملة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم .
وكانت الشيعة أصحاب علي يقدمون عليه أبا بكر وعمر ، وإنما كان النزاع في تقديمه على عثمان ،ولم يكن حينئذ يسمى أحد لا إماميا ولا رافضيا وإنما سموا رافضة ، وصاروا رافضة ، لما خرج زيد بن علي بن الحسين بالكوفة ، في خلافة هشام ، فسألته الشيعة عن أبي بكر وعمر ، فترحم عليهما فرفضه قوم ، فقال رفضتموني رفضتموني . فسموا رافضة ، وتولاه قوم فسموا زيدية ، لانتسابهم إليه .
ومن حينئذ انقسمت الشيعة ، إلى رافضة إمامية وزيدية ، وكلما زادوا في البدعة زادوا في الشر ، فالزيدية خير من الرافضة ، أعلم وأصدق وأزهد ، وأشجع .
ثم بعد أبي بكر ، عمر بن الخطاب هو الذي لم تكن تأخذه في الله لومة لائم ، وكان أزهد الناس باتفاق الخلق كما قيل فيه رحم الله عمر لقد تركه الحق ما له من صديق .
ونحن لا ندعي العصمة لكل صنّف من أهل السنّة ، وإنما ندعي أنهم لا يتفقون على ضلالة ، وأن كل مسألة اختلف فيها أهل السنّة والجماعة والرافضة ، فالصواب فيها مع أهل السنّة .
وحيث تصيب الرافضة ، فلا بد أن يوافقهم على الصواب بعض أهل السنّة، وللروافض خطأ لا يوافقهم أحد عليه من أهل السنّة ، وليس للرافضة مسألة واحدة لا يوافقهم فيها أحد فانفردوا بها عن جميع أهل السنّة والجماعة إلا وهم مخطئون فيها كإمامة الإثنى عشر ، وعصمتهم .
(فصل )(173/282)
قال الرافضي : (( وذهب جميع من عدا الإمامية والاسماعيلية إلى أن الأنبياء والأئمة غير معصومين ، فجوّزوا بعثة من يجوز عليه الكذب والسهو والخطأ والسرقة ، فأي وثوق يبقى للعامة في أقوالهم ، وكيف يحصل الانقياد إليهم ، وكيف يجب اتباعهم مع تجويز أن يكون ما يأمرون به خطأ ؟ ولم يجعلوا الأئمة محصورين في عدد معين ، بل كان من بايع قرشيا انعقدت إمامته عندهم ، ووجب طاعته على جميع الخلق إذا كان مستور الحال ، وإن كان على غاية من الكفر والفسوق والنفاق )).
فيقال :الكلام على هذا من وجوه :
أحدها : أن يقال : ما ذكرته عن الجمهور من نفي العصمة عن الأنبياء وتجويز الكذب والسرقة والأمر بالخطأ عليهم ، فهذا كذب على الجمهور ، فإنهم متفقون على أن الأنبياء معصومون في تبليغ الرسالة ، ولا يجوز أن يستقر في شيء من الشريعة خطأ باتفاق المسلمين ، وكل ما يبلّغونه عن الله عز وجل من الأمر والنهي يجب طاعتهم فيه باتفاق المسلمين ، وما أخبروا به وجب تصديقهم فيه بإجماع المسلمين ، وما أمروهم به ونهوهم عنه وجبت طاعتهم فيه عند جميع فرق الأمة ، إلا عند طائفة من الخوارج يقولون: إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم معصوم فيما يبلّغه عن الله ، لا فيما يأمر هو به وينهى عنه . وهؤلاء ضُلاّل باتفاق أهل السنّة والجماعة .
وقد ذكرنا غير مرة أنه إذا كان في بعض المسلمين من قال قولا خطأ لم يكن ذلك قدحا في المسلمين ، ولو كان كذلك لكان خطأ الرافضة عيبا في دين المسلمين ، فلا يُعرف في الطوائف أكثر خطأ وكذبا منهم ، وذلك لا يضر المسلمين شيئا ، فكذلك لا يضرهم وجود مخطئ آخر غير الرافضة.
وأكثر الناس – أو كثير منهم – لا يجوِّزون عليهم الكبائر ، والجمهور
الذين يجوزون الصغائر – هم ومن يجوِّز الكبائر – يقولون : إنهم لا يُقَرُّون عليها ، بل يحصل لهم بالتوبة منها من المنزلة أعظم مما كان قبل ذلك ، كما تقدم التنبيه عليه .(173/283)
وبالجملة فليس في المسلمين من يقول : أنه يجب طاعة الرسول مع جواز أن يكون أمره خطأ ، بل هم متفقون على أن الأمر الذي يجب طاعته لا يكون إلا صوابا . فقوله : (( كيف يجب اتباعهم مع تجويز أن يكون ما يأمرون به خطأ ؟ قول لا يلزم أحدا من الأمة .
وللناس في تجويز الخطأ عليهم في الاجتهاد قولان معروفان ، وهم متفقون على أنهم لا يقرُّون عليه ، وإنما يطاعون فيما أقرُّوا عليه ، لا فيما غيَّره الله ونهى عنه ، ولم يأمر بالطاعة فيه .
وأما عصمة الأئمة فلم يَقُل بها – إلا كما قال – الإمامية والإسماعيلية. وناهيك بقول لم يوافقهم عليه إلا الملاحدة المنافقون ، الذين شيوخهم الكبار أكفر من اليهود والنصارى والمشركين !. وهذا دأب الرافضة دائما يتجاوزون عن جماعة المسلمين إلى اليهود والنصارى والمشركين في الأقوال والموالاة والمعاونة والقتال وغير ذلك .(173/284)
فهل يوجد أضل من قوم يعادون السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، ويوالون الكفار والمنافقين ؟ وقد قال الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِنْكُم وَلا َمِنْهُم وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُون . أَعَدَّ اللهُ لَهُم عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون ، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُم جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَلَهُم عَذَابٌ مُهِين . لَن تُغْنِي عَنْهُم أَمْوَالَهُم وَلاَ أَوْلاَدهُم مِنَ اللهِ شَيئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون . يَوْمَ يَبْعَثُهُم اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُم وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُم هُمُ الكَاذِبون . اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَان فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ الله أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَان أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُون . إِنَّ الَّذِينَ يُحَادّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ في الأَذَلّين . كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسِلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيز، لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر يُوَادّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم أو إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِم الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْه وَيُدْخِلُهُم جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارَ خَالِدِينَ فِيها(م وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُون } (1).
فهذه الآيات نزلت في المنافقين ، وليس المنافقون في طائفة أكثر منهم في الرافضة ، حتى أنه ليس في الروافض إلا من فيه شعبة من شعب النفاق .
__________
(1) 1 ) الآيات 14 –22 من سورة المجادلة .(173/285)
كما فال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : (( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من خصل النفاق حتى يدعها : إذا حدّث كذب ، وإذا اؤتمن خان ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر)) أخرجاه في الصحيحين(1) .
قال تعالى : { َترَىَ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُم أَنْفُسُهُم أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُم خَالِدُون . وَلَو كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُم أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُون } (2) وقال تعالى : { ُلعنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُون . كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ، تَرَى كَثِيرًا مِنْهُم يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } (3) .
وهم غالبا لا يتناهون عن منكر فعلوه ، بل ديارهم أكثر البلاد منكرا من الظلم والفواحش وغير ذلك ، وهم يتولون الكفار الذين غضب الله عليهم ، فليسوا مع المؤمنين ولا مع الكفار ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَا هُم مِنْكُم وَلاَ مِنْهُم } (4) .
__________
(1) 1 ) البخاري ج1 ص12 ومواضع أُخر ، ومسلم ج1 ص 102 .
(2) 2 ) الآيتان 80 -81 من سورة المائدة .
(3) 3 ) الآيات 78 – 80 من سورة المائدة .
(4) 4 ) الآية 14 من سورة المجادلة .(173/286)
ولهذا هم عند جماهير المسلمين نوع آخر ، حتى إن المسلمين لما قاتلوهم بالجبل الذي كانوا عاصين فيه بساحل الشام ، يسفكون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم ، ويقطعون الطريق ، استحلالا لذلك وتدينا به ، فقاتلهم صنف من التركمان ، فصاروا يقولون : نحن مسلمون ، فيقولون :لا ، أنتم جنس آخر خارجون عن المسلمين لامتيازهم عنهم .
وقد قال الله تعالى: { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُون } (1) .
وهذا حال الرافضة ،وكذلك: { وَاتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله } إلى قوله : { لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَه …. } الآية (2) وكثير منهم يواد الكفار من وسط قلبه أكثر من موادّته للمسلمين . ولهذا لما خرج الترك الكفار من جهة المشرق فقاتلوا المسلمين وسفكوا دماءهم ، ببلاد خرسان والعراق والشام والجزيرة وغيرها ، كانت الرافضة معاونة لهم على قتال المسلمين ، ووزير بغداد المعروف بالعلقمي هو وأمثاله كانوا من أعظم الناس معاونة لهم على المسلمين ، وكذلك الذين كانوا بالشام بحلب وغيرها من الرافضة كانوا من أشد الناس معاونة لهم على قتال المسلمين . وكذلك النصارى الذين قاتلهم المسلمون بالشام كانت الرافضة من أعظم أعوانهم ، وكذلك إذا صار لليهود دولة بالعراق وغيره تكون الرافضة من أعظم أعوانهم ، فهم دائما يوالون الفار من المشركين واليهود والنصارى ، ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم .
__________
(1) 5 ) الآية 14 من سورة المجادلة .
(2) 1 ) الآيات 16 – 22 من سورة المجادلة .(173/287)
ثم إن هذا ادّعى عصمة الأئمة دعوى لم يقم عليها حجة ، إلا ما تقدم من أن الله لم يخل العالم من أئمة معصومين لما في ذلك من المصلحة واللطف، ومن المعلوم المتيقن أن هذا المنتظر الغائب المفقود لم يحصل به شيء من المصلحة واللطف ، سواء كان ميتا ، كما يقوله الجمهور ، أو كان حيا ، كما تظنه الإمامية . وكذلك أجداده المتقدمون لم يحصل بهم شيء من المصلحة واللطف الحاصلة من إمام معصوم ذي سلطان ، كما كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة بعد الهجرة ، فإنه كان إمام المؤمنين الذي يجب عليهم طاعته ، ويحصل بذلك سعادتهم ، ولم يحصل بعده أحد له سلطان تُدعى له العصمة إلا علي ّ( زمن خلافته .
ومن المعلوم بالضرورة أن حال اللطف و المصلحة التي كان المؤمنون فيها زمن الخلفاء الثلاثة ، أعظم من اللطف والمصلحة الذي كان في خلافة علي زمن القتال و الفتنة والافتراق ، فإذا لم يوجد من يدعي الإمامية فيه أنه معصوم وحصل له السلطان بمبايعة ذي الشوكة إلا عليّ وحده ، وكان مصلحة المكلفين واللطف الذي حصل لهم في دينهم ودنياهم في ذلك الزمان أقل منه في زمن الخلفاء الثلاثة ،عُلم بالضرورة أن ما يدّعونه من اللطف والمصلحة الحاصلة بالأئمة المعصومين باطل قطعا.
وهو من جنس الهدى والإيمان الذي يُدَّعى في رجال الغيب بجبل لبنان وغيره من الجبال مثل جبل قاسيون بدمشق ، ومغارة الدم ، وجبل الفتح بمصر ، ونحو ذلك من الجبال والغيران ، فإن هذه المواضع يسكنها الجن ، ويكون بها شياطين ، ويتراءون أحيانا لبعض الناس ، ويغيبون عن الأبصار في أكثر الأوقات ، فيظن الجهال أنهم رجال من الإنس ، وإنما هم رجال من الجن .
كما قال تعالى : { وَإِنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } (1) .
__________
(1) 1 ) الآية 6 من سورة الجن .(173/288)
وهؤلاء يؤمن بهم وبمن ينتحلهم من المشايخ طوائف ضالون ، لكن المشايخ الذين ينتحلون رجال الغيب لا يحصل بهم من الفساد ما يحصل بالذين يدّعون الإمام المعصوم ، بل المفسدة والشر الحاصل في هؤلاء أكثر ، فإنهم يدّعون الدعوة إلى إمام معصوم ، ولا يوجد لهم أئمة ذووا سيف يستعينون بهم ، إلا كافر أو فاسق أو منافق أو جاهل ، لا تخرج رؤوسهم عن هذه الأقسام .
والإسماعيلية شر منهم ، فإنهم يدعون إلى الإمام المعصوم ، ومنتهى دعوتهم إلى رجال ملاحدة منافقين فسّاق ، ومنهم من هو شر في الباطن من اليهود والنصارى .
فالداعون إلى المعصوم لا يدعون إلى سلطان معصوم ، بل إلى سلطان كفور أو ظلوم ، وهذا أمر مشهور يعرفه كل من له خبرة بأحوالهم .
وقد قال تعالى : { َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } (1)، فأمر الله المؤمنين عند التنازع بالرد إلى الله والرسول ، ولو كان للناس معصوم غير الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لأمرهم بالرد إليه ، فدل القرآن على أنه لا معصوم إلا الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم .
(فصل )
وأما قوله : (( ولم يجعلوا الأئمة محصورين في عدد معين )) فهذا حق . وذلك أن الله تعالى قال : { َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم } ، ولم يوقّتهم بعدد معين .
__________
(1) 1 ) الآية 59 من سورة النساء .(173/289)
وكذلك قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الأحاديث الثابتة عنه المستفيضة لم يوقِّت ولاة الأمور في عدد معين . ففي الصحيحين عن أبي ذر قال : (( إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدّع الأطراف ))(1) .
( فصل )
وأما قوله عنهم ((كل من بايع قرشيا انعقدت إمامته ووجبت طاعته على جميع الخلق إذا كان مستور الحال ، وإن كان على غاية من الفسق والكفر والنفاق )) .
فجوابه من وجوه :
أحدها : أن هذا ليس من قول أهل السنة والجماعة ، وليس مذهبهم أنه بمجرد مبايعة واحد قرشي تنعقد بيعته ، ويجب على جميع الناس طاعته ، وهذا وإن كان قد قاله بعض أهل الكلام ، فليس هو قول أهل السنة والجماعة، بل قد قال عمر بن الخطاب ( : (( من بايع رجلا بغير مشورة المسلمين ، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغِرَّة أن يُقتلا )). الحديث رواه البخاري ، وسيأتي بكماله إن شاء الله تعالى .
الوجه الثاني : أنهم لا يوجبون طاعة الإمام في كل ما يأمر به ، بل لا يوجبون طاعته إلا فيما تسوغ طاعته فيه في الشريعة ، فلا يجوّزون طاعته في معصية الله وإن كان إماما عادلاً ، وإذا أمرهم بطاعة الله فأطاعوه: مثل ان يأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والصدق والعدل والحج والجهاد في سبيل الله ، فهم في الحقيقة إنما أطاعوا الله ، والكافر والفاسق إذا أمر بما هو طاعة لله لم تحرم طاعة الله ولا يسقط وجوبها لأجل أمر ذلك الفاسق بها ، كما أنه إذا تكلم بحق لم يجز تكذيبه ولا يسقط وجوب اتباع الحق لكونه قد قاله فاسق ، فأهل السنة لا يطيعون ولاة الأمور مطلقا ، إنما يطيعونهم في ضمن طاعة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم .
كما قال تعالى: { أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم } (2)
__________
(1) 2 ) مسلم ج1 ص 448 وج3 ص 1467 وأبو داود ج2 ص 955 .
(2) 1 ) الآية 59 من سورة النساء .(173/290)
فأمر بطاعة الله مطلقا ، وأمر بطاعة الرسول لأنه لا يأمر إلا بطاعة الله { َمنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله } (1) و جعل طاعة أولي الأمر داخلة في ذلك ، فقال : { وَأُوليِ الأَمْرِ مِنْكُم } ولم يذكر لهم طاعة ثالثة ، لأن ولي الأمر لا يطاع طاعة مطلقة ، إنما يطاع في المعروف.
كما قال النبي صلى الله تعالىعليه وسلم:((إنما الطاعة في المعروف))(2) وقال: (( لا طاعة في معصية الله ))(3) و ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق))(4) وقال : (( من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه ))(5) .
وقال هؤلاء الرافضة المنسوبين إلى شيعة علي ّ( أنه تجب طاعة غير الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم مطلقا في كل ما أمر به ، أفسد من قول من كان منسوبا إلى شيعة عثمان ( من أهل الشام من أنه يجب طاعة ولي الأمر مطلقا ، فإن أولئك كانوا يطيعون ذا السلطان وهو موجود ، وهؤلاء يوجبون طاعة معصوم مفقود .
وأيضا فأولئك لم يكونوا يدّعون في أئمتهم العصمة التي تدعيها الرافضة ،بل كانوا يجعلونهم كالخلفاء الراشدين وأئمة العدل الذين يقلدون فيما لا تعرف حقيقة أمره ، أو يقولون : إن الله يقبل منهم الحسنات ويتجاوز عن السيئات . وهذا أهون ممن يقول : أنهم معصومون ولا يخطئون .
فتبين ان هؤلاء المنسوبين إلى النصب من شيعة عثمان ، وإن كان فيهم خروج عن بعض الحق والعدل ، فخروج الإمامية عن الحق والعدل أكثر وأشد ، فكيف بقول أئمة السنة الموافق للكتاب والسنة ،وهو الأمر بطاعة ولي الأمر فيما يأمر به من طاعة الله ، دون ما يأمر به من معصية الله .
( فصل )
__________
(1) 2 ) الآية 80 من سورة النساء .
(2) 3 ) المسند ج4 ص426 ، 427 ، 436 .
(3) 4 ) المسند ج4 ص426 ، 427 ، 436 .
(4) 5 ) المسند ج5 ص 66 .
(5) 1 ) المسند ج3 ص67 وابن ماجة ج2 ص 955 .(173/291)
قال الرافضي : (( وذهب الجميع منهم إلى القول بالقياس ، والأخذ بالرأي ، فأدخلوا في دين الله ما ليس منه ، وحرّفوا أحكام الشريعة ، وأحدثوا مذاهب أربعة لم تكن في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا زمن صحابته ، وأهملوا أقاويل الصحابة ، مع أنهم نصُّوا على ترك القياس ، وقالوا : أول من قاس إبليس )) .
فيقال الجواب عن هذا من وجوه :
أحدها : أن دعواه على جميع أهل السنة المثبتين لإمامة الخلفاء الثلاثة أنهم يقولون بالقياس دعوى باطلة ، قد عُرف فيهم طوائف لا يقولون بالقياس ، كالمعتزلة البغداديين ، وكالظاهرية كداود وابن حزم وغيرهما ، وطائفة من أهل الحديث والصوفية .
وأيضا ففي الشيعة من يقول بالقياس كالزيدية . فصار النزاع فيه بين الشيعية كما هو بين أهل السنة والجماعة .
الثاني : أن يقال : القياس ولو قيل : إنه ضعيف هو خير من تقليد من لم يبلغ في العلم مبلغ المجتهدين ، فإن كل من له علم وإنصاف يعلم أن مثل مالك والليث بن سعد والأوْزاعي وأبي حنيفة والثَّوري وابن أبى ليلى ، ومثل الشافعي وأحمد إسحاق وأبى عبيد وأبى ثَوْر أعلم وأفقه من العسكريين أمثالهما.
وأيضا فهؤلاء خير من المنتظر الذي لا يعلم ما يقول ، فإن الواحد من هؤلاء إن كان عنده نص منقول عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلا ريب أن النص الثابت عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مقدَّم على القياس بلا ريب ، وإن لم يكن عنده نص ولم يقل بالقياس كان جاهلا ، فالقياس الذي يفيد الظن خير من الجهل الذي لا علم معه ولا ظن ، فإن قال هؤلاء كل ما يقولونه هو ثابت عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان هذا أضعف من قول من قال كل ما يقوله المجتهد فإنه قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، فإن هذا يقوله طائفة من أهل الرأي ، وقولهم أقرب من قول الرافضة ، فإن قول أولئك كذب صريح .(173/292)
وأيضا فهذا كقول من يقول : عمل أهل المدينة متلقى عن الصحابة وقول الصحابة متلقى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقول من يقول : ما قاله الصحابة في غير مجاري القياس فإنه لا يقوله إلا توقيفا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقوله من يقول : قول المجتهد أو الشيخ العارف هو إلهام من الله ووحي يجب اتباعه .
فإن قال : هؤلاء تنازعوا .
قيل وأولئك تنازعوا ، فلا يمكن أن تدَّعي دعوى باطلة إلا أمكن معارضتهم بمثلها أو بخير منها ولا يقولون حقًّا إلا كان في أهل السنة والجماعة من يقول مثل ذلك الحق أو ما هو خير منه ، فإن البدعة مع السنة كالكفر مع الإيمان . وقد قال تعالى : { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } (1) .
الثالث : أن يقال الذين أدخلوا في دين الله ما ليس منه وحرّفوا أحكام الشريعة ، ليسوا في طائفة أكثر منهم في الرافضة ، فإنهم أدخلوا في دين الله من الكذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما لم يكذبه غيرهم ، وردّوا من الصدق ما لم يرده غيرهم ، وحرّفوا القرآن تحريفاً لم يحرّفه أحد غيرهم مثل قولهم : إن قوله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون } (2) نزلت في عليّ لما تصدق بخاتمه في الصلاة .
__________
(1) الآية 33 من سورة الفرقان .
(2) الآية 55 من سورة المائدة .(173/293)
وقوله تعالى : { َمرَجَ الْبَحْرَيْنِ } (1) : علي وفاطمة ، { َيخرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَان } (2) : الحسن والحسين ، { وَكُلُّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين } (3)علي بن أبي طالب { إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيم وَآلَ عِمْرَانَ } (4)هم آل أبي طالب واسم أبي طالب عمران، { َفقاتلواأَئِمَّةَ الْكُفْر } (5) :طلحة والزبير، { وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآن } (6) هم بنو أمية ، { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُم أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة } (7) :عائشة و { َلئنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } (8) : لئن أشركت بين أبي بكر وعلي في الولاية .
وكل هذا وأمثاله وجدته في كتبهم . ثم من هذا دخلت الإسماعيلية والنصيرية في تأويل الواجبات والمحرّمات ، فهم أئمة التأويل ، الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه ، ومن تدبر ما عندهم وجد فيه من الكذب في المنقولات ، والتكذيب بالحق منها والتحريف لمعانيها ، مالا يوجد في صنف من المسلمين ، فهم قطعا أدخلوا في دين الله ما ليس منه أكثر من كل أحد ، وحرّفوا كتابه تحريفا لم يصل غيرهم إلى قريب منه .
الوجه الرابع : قوله : ((وأحدثوا مذاهب أربعة لم تكن في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا زمن صحابته ، وأهملوا أقاويل الصحابة )).
__________
(1) الآية 19 من سورة الرحمن .
(2) الآية 22 من سورة الرحمن .
(3) 5 ) الآية 12 من سورة يس .
(4) 6 ) الآية 33 من سورة آل عمران .
(5) 7 ) الآية 12 من سورة التوبة .
(6) 8 ) الآية 60 من سورة الإسراء .
(7) الآية 67 من سورة البقرة .
(8) الآية 65 من سورة الزمر .(173/294)
فيقال له : متى كان مخالفة الصحابة والعدول عن أقاويلهم منكراً عند الإمامية ؟ وهؤلاء متفقون على محبة الصحابة وموالاتهم وتفضيلهم على سائر القرون وعلى أن إجماعهم حجة ، وعلى أنه ليس لهم الخروج عن إجماعهم ، بل عامة الأئمة المجتهدين يصرّحون بأنه ليس لنا أن نخرج عن أقاويل الصحابة ، فكيف يطعن عليهم بمخالفة الصحابة من يقول : إن إجماع الصحابة ليس بحجة ، وينسبهم إلى الكفر والظلم ؟
فإن كان إجماع الصحابة حجة فهو حجة على الطائفتين ، وإن لم يكن حجة فلا يحتج به عليهم .
وإن قال : أهل السنة يجعلونه حجة ، وقد خالفوه .
قيل : أما أهل السنة فلا يتصور أن يتفقوا على مخالفة إجماع الصحابة ، وأما الإمامية فلا ريب أنهم متفقون على مخالفة إجماع العترة النبوية ، مع مخالفة إجماع الصحابة ، فإن لم يكن في العترة النبوية –بنو هاشم – على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضى الله عنهم من يقول بإمامة الاثنى عشر ولا بعصمة أحد بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولا بكفر الخلفاء الثلاثة ، بل ولا من يطعن في إمامتهم ، بل ولا من ينكر الصفات ، ولا من يكذب بالقدر .
فالإمامية بلا ريب متفقون على مخالفة إجماع العترة النبوية ، مع مخالفتهم لإجماع الصحابة ، فكيف ينكرون على من لم يخالف لا إجماع الصحابة ولا إجماع العترة ؟ .(173/295)
الوجه الخامس : أن قوله : (( أحدثوا مذاهب أربعة لم تكن على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم )). إن أراد بذلك أنهم اتفقوا على أن يحدثوا هذه المذاهب مع مخالفة الصحابة فهذا كذب عليهم ، فإن هؤلاء الأئمة لم يكونوا في عصر واحد ، بل أبو حنيفة توفى سنة خمسين ومائة ومالك سنة تسع وسبعين ومائة ، والشافعي سنة أربع ومائتين ، وأحمد بن حنبل سنة إحدى وأربعين ومائتين ، وليس في هؤلاء من يقلد الآخر ، ولا من يأمر باتّباع الناس له ، بل كل منهم يدعو إلى متابعة الكتاب والسنة ، وإذا قال غيره قولا يخالف الكتاب والسنة عنده رده ،ولا يوجب على الناس تقليده.
وإن قلت ان هذه المذاهب اتّبعهم الناس ، فهذا لم يحصل بموطأة ، بل اتفق أن قوما اتّبعوا هذا ، وقوما اتبعوا هذا ، كالحجاج الذين طلبوا من يدلهم على الطريق ، فرأى قوم هذا الدليل خبيراً فاتّبعوه ، وكذلك الآخرون .
وإذا كان كذلك لم يكن في ذلك اتفاق أهل السنة على باطل ، بل كل قوم منهم ينكرون ما عند غيرهم من الخطأ ، فلم يتفقوا على أن الشخص المعيّن عليه أن يقبل من كل من هؤلاء ما قاله ، بل جمهورهم لا يأمرون العاميّ بتقليد شخص معيّن غير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في كل ما يقوله.
والله تعالى قد ضمن العصمة للامة ، فمن تمام العصمة أن يجعل عدداً من العلماء إن أخطأ الواحد منهم في شيء كان الآخر قد أصاب فيه حتى لا يضيع الحق ، ولهذا لما كان في قول بعضهم من الخطأ مسائل ، كبعض المسائل التي أوردها ، كان الصواب في قول الآخر ، فلم يتفق أهل السنة على ضلالة أصلا ، وأما خطأ بعضهم في بعض الدين ، فقد قدّمنا في غير مرة أن هذا لا يضر ، كخطأ بعض المسلمين . وأما الشيعة فكل ما خالفوا فيه أهل السنة كلهم فهم مخطئون فيه ، كما أخطأ اليهود والنصارى في كل ما خالفوا فيه المسلمين .(173/296)
الوجه السادس : أن يُقال : قوله : (( إن هذه المذاهب لم تكن في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا الصحابة ))إن أراد أن الأقوال التي
لهم لم تنقل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا عن الصحابة ، بل تركوا قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والصحابة وابتدعوا خلاف ذلك ، فهذا كذب عليهم ، فإنهم لم يتفقوا على مخالفة الصحابة ، بل هم – وسائر أهل السنة – متبعون للصحابة في أقوالهم ، وإن قدّر أن بعض أهل السنّة خالف الصحابة لعدم علمه بأقاويلهم ، فالباقون يوافقون ويثبتون خطأ من يخالفهم ، وإن أراد أن نفس أصحابها لم يكونوا في ذلك الزمان ، فهذا لا محذور فيه . فمن المعلوم أن كل قرن يأتي يكون بعد القرن الأول .
الوجه السابع : قوله : (( وأهملوا أقاويل الصحابة )) كذب منه ، بل كتب أرباب المذاهب مشحونة بنقل أقاويل الصحابة والاستدلال بها ، وإن كان عند كل طائفة منها ما ليس عند الأخرى . وإن قال : أردت بذلك أنهم لا يقولون : مذهب أبي بكر وعمر ونحو ذلك ، فسبب ذلك أن الواحد من هؤلاء جمع الآثار وما استنبطه منها ، فأضيف ذلك إليه ، كما تضاف كتب الحديث إلى من جمعها ، كالبخاري ومسلم وأبي داود ، ، وكما تضاف القراءات إلى من اختارها ، كنافع وابن كثير .
وغالب ما يقوله هؤلاء منقول عمن قبلهم ، وفي قول بعضهم ما ليس منقولا عمن قبله ، لكنه استنبطه من تلك الأصول . ثم قد جاء بعده من تعقب أقواله فبيّن منها ما كان خطأ عنده ، كل ذلك حفظا لهذا الدين ، حتى يكون أهله كما وصفهم الله به { َيأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر } (1) فمتى وقع من أحدهم منكر خطأ أو عمداً أنكره عليه غيره .
__________
(1) 1 ) الآية 71 من سورة التوبة .(173/297)
وليس العلماء بأعظم من الأنبياء ، وقد قال تعالى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِين . فَفَهَّمْناهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْمًا } (1) .
وثبت في الصحيحين عن ابن عمر(ما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لأصحابه عام الخندق : (( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدركتهم صلاة العصر في الطريق ، فقال بعضهم : لم يُرد منا تفويت الصلاة، فصلُّوا في الطريق . وقال بعضهم : لا نصلي إلا في بني قريظة،فصلوا العصر بعد ماغربت الشمس،فما عنّف واحدة من الطائفتين ))(2) فهذا دليل على أن المجتهدين يتنازعون في فهم كلام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وليس كل واحد منهم آثماً .
الوجه الثامن : أن أهل السنة لم يقل أحد منهم إن إجماع الأئمة الأربعة حجة معصومة ، ولا قال : إن الحق منحصر فيها ، وإن ما خرج عنها باطل ، بل إذا قال من ليس من أتباع الأئمة ، كسفيان الثوري والأوزاعي واللَيْث بن سعد ومن قبلهم ومن بعدهم من المجتهدين قولا يخالف قول الأئمة الأربعة ، رُدَّ ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله ، وكان القول الراجح هو القول الذي قام عليه الدليل .
__________
(1) 2 ) الآيتان 78 -79 من سورة الأنبياء .
(2) 3 ) البخاري ج5 ص112 ، ومسلم ج3 ص1391.(173/298)
الوجه التاسع : قوله : (( الصحابة نصوا على ترك القياس )) . يقال [له] : الجمهور الذين يثبتون القياس قالوا: قد ثبت عن الصحابة أنهم قالوا بالرأي واجتهاد الرأي وقاسوا ، كما ثبت عنهم ذم ما ذموه من القياس . قالوا: وكلا القولين صحيح ، فالمذموم القياس المعارض للنص ، كقياس الذين قالوا : إنما البيع مثل الربا ، وقياس إبليس الذي عارض به أمر الله له بالسجود لآدم ، وقياس المشركين الذين قالوا: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله ؟ قال الله تعالى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُم المُشْرِكُون } (1) .
وكذلك القياس الذي لا يكون الفرع فيه مشاركا للأصل في مناط الحكم، فالقياس يُذم إما لفوات شرطه ،وهو عدم المساواة في مناط الحكم، وإما لوجود مانعه ، وهو النص الذي يجب تقديمه عليه ، وإن كانا متلازمَيْن في نفس الأمر ، فلا يفوت الشرط إلا والمانع موجود ، ولا يوجد المانع إلا والشرط مفقود .
فأما القياس الذي يستوي فيه الأصل والفرع في مناط الحكم ولم يعارضه ماهو أرجح منه ، فهذا هو القياس الذي يتبع .
ولا ريب أن القياس فيه فاسد ، وكثير من الفقهاء قاسوا أقيسة فاسدة ، بعضها باطل بالنص ، وبعضها مما اتفق على بطلانه ، لكن بطلان كثير من القياس لا يقتضي بطلان جميعه ، كما أن وجود الكذب في كثير من الحديث لا يوجب كذب جميعه .
(فصل)
قال الرافضي : (( الوجه الثاني : في الدلالة على وجوب اتّباع مذهب الإمامية : ما قاله شيخنا الإمام الأعظم خواجه نصير الملة والحق والدين محمد بن الحسن الطوسي ، قدّس الله روحه ، وقد سألته عن المذاهب فقال : بحثنا عنها وعن قول رسول الله ( :(( ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقه ،منها فرقة ناجية ، والباقي فى النار))(2)
__________
(1) 1 ) الآية 121 من سورة الأنعام .
(2) 2 ) سنن أبي داود ج4 ص 276 والترمذي ج4ص134 .(173/299)
، وقد عين الفرقة الناجية والهالكة في حديث أخر صحيح متفق عليه ، وهو قوله : (( مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح : من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق )) ، فوجدنا الفرقه الناجية هي فرقة الإمامية، لأنهم باينوا جميع المذاهب، وجميع المذاهب
قد اشتركت في أصول العقائد )).
فيقال : الجواب من وجوه:
أحدها : أن هذا الإمامي قد كَّفر من قال : ان الله موجب بالذات ، كما تقدم من قوله : يلزم أن يكون الله موجباً بذاته لا مختارا فيلزم الكفر .
وهذا الذي جعله شيخه الأعظم واحتج بقوله، هو ممن يقول بأن الله موجب بالذات ، ويقول بقدم العالم،كما ذكرذلك فى كتاب ((شرح الإشارات)) له. فيلزم على قوله أن يكون شيخه هذا الذي احتج به كافراً، والكافر لا يُقبل قوله في دين المسلمين .
الثاني: أن هذا الرجل قد اشتهر عند الخاص والعام أنه كان وزير الملاحدة الباطنية الإسماعيلية بالألموت(1) ، ثم لما قدم الترك المشركون الى بلاد المسلمين ، وجاءوا الى بغداد ،دار الخلافة ، كان هذا منجما مشيرا لملك الترك المشركين هولاكو أشار عليه بقتل الخليفة ، وقتل أهل العلم والدين، واستبقاء أهل الصناعات والتجارات الذين ينفعونه في الدنيا ، وأنه استولى على الوقف الذي للمسلمين ، وكان يعطي منه ما شاء الله لعلماء المشركين وشيوخهم من البخشية السحرة وأمثالهم وأنه لما بنى الرَّصد الذي بمراغة على طريق الصابئة المشركين ، كان أبخس الناس نصيبا منه من كان إلى أهلِ الملل أقرب ، وأوفرهم نصيبا من كان أبعدهم عن الملل ، مثل الصابئة المشركين ومثل المعطّلة وسائر المشركون ، وإن ارتزقوا بالنجوم والطب ونحو ذلك .
__________
(1) 1 ) اسم قلعه في جبال الديلم بناها أحد ملوك الديلم .(173/300)
ومن المشهور عنه وعن أتباعه الاستهتار بواجبات الإسلام ومحرَّماته، لا يحافظون على الفرائض كالصلوات ، ولا ينزعون من محارم الله من الفواحش والخمر وغير ذلك من المنكرات ، حتى أنهم في شهر رمضان يُذكر عنهم من إضاعة الصلوات ، وارتكاب الفواحش ، وشرب الخمر –ما يعرفه أهل الخبرة بهم ، ولم يكن لهم قوة وظهور إلا مع المشركين ، الذين دينهم شر من دين اليهود والنصارى .
ولهذا كان كلما قوى الإسلام في المغل وغيرهم من ترك ، ضعف أمر هؤلاء لفرط معاداتهم للإسلام وأهله . ولهذا كانوا من أنقص الناس منزلة عند الأمير نوروز المجاهد في سبيل الله الشهيد ، الذي دعا ملك المغل غازان إلى الإسلام ، والتزم له أن ينصره إذا أسلم ، وقتل المشركين الذين لم يسلموا من البخشية السحرة وغيرهم ، وهدم البذخانات ، وكسر الأصنام ومزق سدنتها كل ممزق ، وألزم اليهود والنصارى بالجزية والصغار ، وبسببه ظهر الإسلام في المغل وأتباعهم .
وبالجملة فأمر هذا الطوسى وأتباعه عند المسلمين أشهر وأعرف من أن يعرف ويوصف . ومع هذا فقد قيل : إنه كان آخر عمره يحافظ على الصلوات الخمس ويشتغل بتفسير البغوى والفقه ونحو ذلك . فإن كان قد تاب من الإلحاد فالله يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات . والله تعالى يقول: { َيا عباِديَ الَّذِينَ أَسْرَفوا عَلَى أنفسِهِمْ لا تَقْنَطوا مِن رَّحْمَة الله إنَّ اللهَ يَغْفِر الذُنوبَ جميعا } (1) .
لكن ما ذكره عن هذا ، إن كان قبل التوبة لم يُقبل قوله ، وإن كان بعد التوبة لم يكن قد تاب من الرفض ، بل من الإلحاد وحده . وعلى التقديرين فلا يُقبل قوله . والأظهر أنه إنما كان يجتمع به وبأمثاله لما كان منجما للمغل المشركين ، والإلحاد معروف من حاله إذ ذلك .
__________
(1) 1 ) الآية 53 من سورة الزمر .(173/301)
فمن يقدح في مثل أبي بكر وعمر وعثمان ، وغيرهم من السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار ، ويطعن على مثل مالك والشافعي وأي حنيفة وأحمد بن حنبل وأتباعهم ، ويعيرهم بغلطات بعضهم في مثل إباحة الشطرنج والغناء ، كيف يليق به أن يحتج لمذهبه بقول مثل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرِّمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق ، ويستحلون المحرَّمات المجمع على تحريمها ، كالفواحش والخمر ، في مثل شهر رمضان ، الذين أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات ، وخرقوا سياج الشرائع ، واستخفّوا بحرمات الدين ، وسلكوا غير طريق المؤمنين ، فهم كما قيل فيهم :
الدين يشكو بلية من فرقة فلسفية
لا يشهدون صلاة إلا لأجل التقية
ولا ترى الشرع إلا سياسة مدنية
ويؤثرون عليه مناهجا فلسفية
ولكن هذا حال الرافضة : دائما يعادون أولياء الله المتقين ـ من السابقين الأولين ،من المهاجرين والأنصار ، والذين اتّبعوا بإحسان ، ويوالون الكفّار والمنافقين . فإن أعظم الناس نفاقا في المنتسبين إلى الإسلام هم الملاحدة الباطنية الإسماعيلية ، فمن احتج بأقوالهم في نصرة قوله ، مع ما تقدم من طعنه على أقوال أئمة المسلمين – كان من أعظم الناس موالاة لأهل النفاق ، ومعاداة لأهل الإيمان .
ومن العجب أن هذا المصنف الرافضي الخبيث الكذّاب المفتري ، يذكر أبا بكر وعمر وعثمان ، وسائر السابقين والأوَّلين والتابعين ، وسائر أئمة المسلمين ، من أهل العلم والدين بالعظائم التي يفتريها عليهم هو وإخوانه، ويجيء إلى من قد اشتُهر عند المسلمين بمحادته لله ورسوله ، فيقول : ((قال شيخنا الأعظم )) ، ويقول ((قدس الله روحه )) مع شهادته بالكفر عليه وعلى أمثاله ،ومع لعنة طائفته لخيار المؤمنين من الأولين والآخرين .(173/302)
وهؤلاء داخلون في معنى قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ نَصِيرًا } (1).
فإن هؤلاء الإمامية أوتوا نصيبا من الكتاب ، إذ كانوا مقرِّين ببعض ما في الكتاب المنزَّل ، وفيهم شعبة من الإيمان بالجبت وهو السحر ، والطاغوت وهو كل ما يعبد من دون الله ، فإنهم يعظِّمون الفلسفة المتضمنة لذلك ، ويرون الدعاء والعبادة للموتى ، واتخاذ المساجد على القبور ، ويجعلون السفر إليها حجا له مناسك ، ويقولون : (( مناسك حج المشاهد )).
وحدثني الثقات أن فيهم من يرون الحج إليها أعظم من الحج إلى البيت العتيق، فيرون الإشراك بالله أعظم من عبادة الله ، وهذا من أعظم الإيمان بالطاغوت .
وهم يقولون لمن يقرُّون بكفره من القائلين بقدم العالم ودعوة الكواكب، والمسوِّغين للشرك : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ، فإنهم فضّلوا هؤلاء الملاحدة المشركين على السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. وليس هذا ببدع من الرافضة ، فقد عُرف من موالاتهم لليهود والنصارى والمشركين ،ومعاونتهم على قتال المسلمين ، ما يعرفه الخاص والعام ، حتى قيل : أنه ما اقتتل يهودي ومسلم ، ولا مشرك ومسلم – إلا كان الرافضي مع اليهودي والنصراني والمشرك.
الوجه الثالث : أنه قد عرف كل أحد أن الإسماعيلية والنصيرية هم من الطوائف الذين يظهرون التشيع ، وإن كانوا في الباطن كفّاراً منسلخين عن كل ملة ، والنصيرية هم من غلاة الرافضة الذين يدّعون إلهية عليّ وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى باتفاق المسلمين .
__________
(1) 1 ) الآيتان 51-52 من سورة النساء .(173/303)
والإسماعيلية الباطنية أكفر منهم ، فإن حقيقة قولهم التعطيل . أما أصحاب الناموس الأكبر والبلاغ الأعظم ، الذي هو آخر المراتب عندهم ، فهم من الدهرية القائلين بأن العالم لا فاعل له : لا علة ولا خالق . ويقولون : ليس بيننا وبين الفلاسفة خلاف إلا في واجب الوجود ، ، فإنهم يثبتونه ، وهو شيء لا حقيقة له ، ويستهزئون بأسماء الله عز وجل ، ولا سيما هذا الاسم الذي هو الله ، فإن منهم من يكتبه على أسفل قدميه ويطؤه .
وأما من هو دون هؤلاء فيقول بالسابق وبالتالي ، الذين عبّروا بهما عن العقل والنفس عند الفلاسفة ، وعن النور والظلمة عند المجوس ، وركَّبوا لهم مذهبا من مذاهب الصابئة والمجوس ظاهره التشيع .
ولا ريب أن المجوس والصابئة شر من اليهود والنصارى ، ولكن تظاهروا بالتشيع .
قالوا :لأن الشيعة أسرع الطوائف استجابة لنا ، لما فيهم من الخروج عن الشريعة ، ولما فيهم من الجهل وتصديق المجهولات .
ولهذا كان أئمتهم في الباطن فلاسفة ، كالنصير الطوسي هذا ، وكسنان البصري الذي كان بحصونهم بالشام ، وكان يقول : قد رَفَعت عنهم الصوم والصلاة والحج والزكاة .
فإذا كانت الإسماعيلية إنما يتظاهرون في الإسلام بالتشيع ، ومنه دخلوا وبه ظهروا ، وأهله هم المهاجرين إليهم ، لا إلى الله ورسوله ، وهم أنصارهم لا أنصار الله ورسوله – عُلم أن شهادة الإسماعيلية للشيعة بأنهم على حق شهادة مردودة باتفاق العقلاء .
فإن هذا الشاهد : إن كان يعرف أن ما هو عليه مخالف لدين الإسلام في الباطن ، وإنما أظهر التشيع لينفق به عند المسلمين ، فهو محتاج إلى تعظيم التشيع ، وشهادته له شهادة المرء نفسه ، فهو كشهادة الآدمي لنفسه ، لكنه في هذه الشهادة يعلم أنه يكذب ، وإنما كذب فيها كما كذب في سائر أحواله ، وإن كان يعتقد دين الإسلام في الباطن ، ويظن أن هؤلاء على دين الإسلام ، كان أيضا شاهداً لنفسه ، لكن مع جهله وضلاله .(173/304)
وعلى التقديرين فشهادة المرء لنفسه لا تُقبل ، سواء علم كذب نفسه أو اعتقد صدق نفسه . كما في السنن عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : (( لا تُقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي غمر على أخيه ))(1) . وهؤلاء خصمان أظِنّاء متهمون ذو غمر على أهل السنة والجماعة ، فشهادتهم مردودة بكل طريق .
الوجه الرابع : أن يُقال : أولا أنتم قوم لا تحتجون بمثل هذه الأحاديث، فإن هذا الحديث إنما يرويه أهل السنة بأسانيد أهل السنة ، والحديث نفسه ليس في الصحيحين ، بل قد طعن فيه بعض أهل الحديث كابن حزم وغيره ، ولكن قد رواه أهل السنن ، كأبي داود والترمذي وابن ماجة ، ورواه أهل المسانيد ، كالإمام أحمد وغيره(2) .
فمن أين لكم على أصولكم ثبوته حتى تحتجوا به ؟ وبتقدير ثبوته فهو من أخبار الآحاد ، فكيف يجوز أن تحتجوا في أصل من أصول الدين وإضلال جميع المسلمين – إلا فرقة واحدة – بأخبار الآحاد التي لا يحتجون هم بها في الفروع العملية ؟!.
وهل هذا إلا من أعظم التناقض والجهل ؟!
__________
(1) انظر المسند ج10 ص224 وج11 ص138 ، 163 تحقيق أحمد شاكر .
(2) يعني حديث الافتراق رواه أبو داود ج5 ص4 ، 5 والترمذي رقم 3991 في الفتن ، وقال : إنه حسن صحيح وغيرهما وله طرق كثيرة .(173/305)
الوجه الخامس : أن الحديث روى تفسيره فيه من وجهين : أحدهما : أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سأل عن الفرقة الناجية ، فقال : (( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) وفي الرواية الأخرى قال : (( هم الجماعة )). وكل من التفسيرين يناقض قول الإمامية ، ويقتضي أنهم خارجون عن الفرقة الناجية ، فإنهم خارجون عن جماعة المسلمين : يكفرون أو يفسِّقون أئمة الجماعة ، كأبي بكر وعمر وعثمان ، دع معاوية وملوك بني أمية وبني العباس ، وكذلك يكفِّرون أو يفسِّقون علماء الجماعة وعبّادهم ، كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي وأمثال هؤلاء ، وهم أبعد الناس عن معرفة سير الصحابة والإقتداء بهم ، لا في حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا بعده ، فإن هذا إنما يعرفه أهل العلم بالحديث والمنقولات ، والمعرفة بالرجال الضعفاء والثقات ، وهم من أعظم الناس جهلا بالحديث وبغضا له ، ومعاداة لأهله ، فإذا كان وصف الفرقة الناجية : أتباع الصحابة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وذلك شعار السنة والجماعة – كانت الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة ، فالسنة ما كان صلى الله تعالى عليه وسلم هو وأصحابه عليه في عهده ، مما أمرهم به وأقرَّهم عليه أو فعله هو ، والجماعة هم المجتمعون الذين ما فرَّقوا دينهم وكانوا شيعا ، فالذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعا خارجون عن الجماعة قد برَّأ الله نبيه منهم ، فعُلم بذلك أن هذا وصف أهل السنة و الجماعة ، لا وصف الرافضة، وأن هذا الحديث وصف الفرقة الناجية باتّباع سنته التي كان عليها هو وأصحابه ، وبلزوم جماعة المسلمين .(173/306)
فإن قيل : فقد قال في الحديث : (( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) ، فمن خرج عن تلك الطريقة بعده لم يكن على طريقة الفرقة الناجية ، وقد ارتد ناس بعده فليسوا من الفرقة الناجية .
قلنا : نعم وأشهر الناس بالردة خصوم أبي بكر الصديق( وأتباعه كمسيلمة الكذَّاب وأتباعه وغيرهم . وهؤلاء تتولاهم الرافضة كما ذكر ذلك غير واحد من شيوخهم ، مثل هذا الإمامي وغيره ، ويقولون : إنهم كانوا على حق ، وأن الصديق قاتلهم بغير حق . ثم مِن أظهر الناس ردة الغالية الذين حرَّقهم علي ّ( بالنار لما ادّعوا فيه الإلهية وهم السبائية أتباع عبد الله بن سبأ الذين أظهروا سب أبي بكر وعمر .
وأول من ظهر عنه دعوى النبوة من المنتسبين إلى الإسلام المختار بن أبي عبيد وكان من الشيعة ، فعُلم أن أعظم الناس ردة هم في الشيعة أكثر منهم في سائر الطوائف ، ولهذا لا يُعرف ردة أسوأ حالا من ردة الغالية كالنصيرية ، ومن ردة الإسماعيلية الباطنية ونحوهم ، وأشهر الناس بقتال المرتدين هو أبو بكر الصديق ( ، فلا يكون المرتدون في طائفة أكثر منها في خصوم أبي بكر الصديق ، فدل ذلك على أن المرتدين الذين لم يزالوا مرتدين على أعقابهم ، هم بالرافضة أوْلى منهم بأهل السنة والجماعة .
وهذا بيِّن يعرفه كل عاقل يعرف الإسلام وأهله ، ولا يستريب أحد أن جنس المرتدين في المنتسبين إلى التشيع أعظم وأفحش كفرا من جنس المرتدين المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة ، إن كان فيهم مرتد.(173/307)
الوجه السادس : أن يقال : هذه الحجة التي احتج بها الطوسي على أن الإمامية هم الفرقة الناجية كذب في وصفها ، كما هي باطلة في دلالتها . وذلك أن قوله : (( باينوا جميع المذاهب ، وجميع المذاهب قد اشتركت في أصول العقائد )) إن أراد بذلك أنهم باينو جميع المذاهب فيما اختصوا به ، فهذا شأن جميع المذاهب ، فإن الخوارج أيضا باينوا جميع المذاهب فيما اختصوا به من التكفير بالذنوب ، ومن تكفير علي ( ، ومن إسقاط طاعة الرسول فيما لم يخبر به عن الله ، وتجويز الظلم عليه في قسْمهِ والجور في حكمه ، وإسقاط اتّباع السنة المتواترة التي تخالف ما يُظن أنه ظاهر القرآن ، كقطع السارق من المنكب وأمثال ذلك .
الوجه السابع : أن يُقال : مباينتهم لجميع المذاهب هو على فساد قولهم أدل منه على صحة قولهم ؛ فإن مجرد انفراد طائفة عن جميع الطوائف لا يدل على أنه هو الصواب ، واشتراك أولئك في قول لا يدل على أنه باطل.
فإن قيل : إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جعل أمته ثلاثا وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، فدل على أنها لا بد أن تفارق هذه الواحدة سائر الاثنتين وسبعين فرقة .(173/308)
قلنا : نعم . وكذلك يدل الحديث على مفارقة الثنتين وسبعين بعضها بعضا ، كما فارقت هذه الواحدة . فليس في الحديث ما يدل على اشتراك الثنتين والسبعين في أصول العقائد ، بل ليس في ظاهر الحديث إلا مباينة الثلاث والسبعين كل طائفة للأخرى . وحينئذ فمعلوم أن جهة الافتراق جهة ذم لا جهة مدح ، فإن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف ، وذم التفريق والاختلاف، فقال تعالى : { واْعتَصِموا بِحَبْلِ اللهِ جميعًا وَلا تَفَرَّقوا } (1)وقال: { وَلاَ تَكُونوا كالَّذينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّنَاتْ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ.يَوْمَ تَبْيَضْ وُجوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجوهٌ فَأَمّا الَّذينَ اسْوَدَّتْ وُجوهُهُم } (2).
قال ابن عباس وغيره : تبيض وجوه أهل السنة وتسودُّ وجوه أهل البدعة والفرقة . وقال تعالى : { إنَّ الَّذينَ فَرَّقوا دِينَهُمْ وَكانوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْءٍ } (3) وقال : { وَما اخْتَلَفَ فيهِ إِلاّ الَّذينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ بَغْيًا بَينَهُم } (4) وقال: { وَما تَفَرَّقَ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ } (5) .
__________
(1) الآية 103 من سورة آل عمران .
(2) الآيتان 105 ، 106 من سورة آل عمران .
(3) الآية 159 من سورة الأنعام .
(4) الآية 213 من سورة البقرة .
(5) الآية 4 من سورة البينة .(173/309)
وإذا كان كذلك فأعظم الطوائف مفارقة للجماعة و افتراقا في نفسها أولى الطوائف الذم ، و أقلها افتراقا ومفارقة للجماعة أقربها إلى الحق . وإذا كانت الإمامية أوْلى بمفارقة سائر طوائف الأمة فهم أبعد عن الحق ، لا سيما وهم في أنفسهم أكثر اختلافا من جميع فرق الأمة ، حتى يقال : إنهم ثنتان وسبعون فرقة . وهذا القدر فيما نقله عن هذا الطوسي بعضُ أصحابه، وقال : كان يقول : الشيعة تبلغ فرقهم ثنتين وسبعين فرقة ، أو كما قال . وقد صنَّف الحسن بن موسى النوبختي وغيره في تعديد فرق الشيعة .
وأما أهل الجماعة فهم أقل اختلافا في أصول دينهم من سائر الطوائف، وهم أقرب إلى كل طائفة من كل طائفة إلى ضدّها ، فهم الوسط في أهل الإسلام كما أن أهل الإسلام هم الوسط في أهل الملل : هم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل وأهل التمثيل .
وقال صلى الله تعالى عليه وسلم : (( خير الأمور أوسطها )) وحينئذ أهل السنة والجماعة خير الفرق.
وفي باب القدر بين أهل التكذيب به وأهل الاحتجاج به ، وفي باب الأسماء والأحكام بين الوعيدية والمرجئة ، وفي باب الصحابة بين الغلاة والجفاة ، فلا يغلون في عليّ غلو الرافضة ، ولا يكفِّرونه تكفير الخوارج ، ولا يكفِّرون أبا بكر وعثمان كما تكفِّرهم الروافض ، ولا يكفِّرون عثمان وعليا كما يُكفرهما الخوارج .
الوجه الثامن : أن يقال : إن الشيعة ليس لهم قول واحد اتفقوا عليه ، فإن القول الذي ذكره هذا قول من أقوال الإمامية ، ومن الإمامية طوائف تخالف هؤلاء في التوحيد والعدل ، كما تقدم حكايته . وجمهور الشيعة تخالف الإمامية في الاثنى عشر ، فالزيدية والإسماعيلية وغيرهم متفقون على إنكار إمامة الاثنى عشر.(173/310)
وهؤلاء الإمامية الاثنا عشرية يقولون : إن أصول الدين أربعة : التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والإمامة. وهم مختلفون في التوحيد والعدل والإمامة . وأما النبوة فغايتهم أن يكونوا مقرِّين بها كإقرار سائر الأمة. واختلافهم في الإمامة أعظم من اختلاف سائر الأمة ، فإن قالت الاثنا عشرية: نحن أكثر من هذه الطوائف ، فيكون الحق معنا دونهم . قيل لهم : وأهل السنة أكثر منكم ، فيكون الحق معهم دونكم ، فغايتكم أن تكون سائر فرق الإمامية معكم بمنزلتكم مع سائر المسلمين ، والإسلام هو دين الله الذي يجمع أهل الحق .
(فصل )
قال الرافضي : ((الوجه الثالث:أن الإمامية جازمون بحصول النجاة لهم ولأئمتهم ، قاطعون بذلك ، وبحصول ضدها لغيرهم . وأهل السنة لا يجيزون ولا يجزمون بذلك لا لهم ولا لغيرهم . فيكون اتّباع أولئك أوْلى ، لأنَّا لو فرضنا مثلا خروج شخصين من بغداد يريدان الكوفة ، فوجدا طريقين سلك كل منهما طريقا ، فخرج ثالث يطلب الكوفة : فسأل أحدهما : إلى أين تذهب؟ فقال إلى الكوفة . فقال له : هل طريقك توصلك إليها ؟ وهل طريقك آمن أم مخوف ؟ وهل طريق صاحبك تؤديه إلى الكوفة ؟ وهل هو آمن أم مخوف ؟ فقال : لا أعلم شيئا من ذلك . ثم سأل صاحبه فقال أعلم أن طريقي يوصِّلني إلى الكوفة ، وأنه آمن ، وأعلم أن طريق صاحبي لا يؤديه إلى الكوفة ، وأنه ليس بآمن ، فإن الثالث إن تابع الأول عدَّه العقلاء سفيها ، وإن تابع الثاني نُسب إلى الأخذ بالحزم )) .
هكذا ذكره في كتابه ، والصواب أن يُقال : وسأل الثاني فقال له الثاني: لا أعلم أن طريقي تؤديني إلى الكوفة ولا أعلم أنه آمن أم مخوف .
والجواب على هذا من وجوه :(173/311)
أحدها :أن يُقال : إن كان اتّباع الأئمة الذين تُدَّعى لهم الطاعة المطلقة، وأن ذلك يوجب لهم النجاة واجبا ، كان اتّباع خلفاء بني أمية الذين كانوا يوجبون طاعة أئمتهم طاعة مطلقة ويقولون : إن ذلك يوجب النجاة مصيبين على الحق ، وكانوا في سبِّهم عليا وغيره وقتالهم لمن قاتلوه من شيعة عليّ مصيبين ، لأنهم كانوا يعتقدون أن طاعة الأئمة واجبة في كل شيء ، وأن الإمام لا يؤاخذه الله بذنب ، وأنه لا ذنب لهم فيما أطاعوا فيه الإمام ، بل أولئك أوْلى بالحجة من الشيعة ، لأنهم كانوا مطيعين أئمة أقامهم الله ونصيهم وأيّدهم وملّكهم ، فإذا كان مذهب القدرية أن الله لا يفعل إلا ما هو الأصلح لعباده ،كان تولية أولئك الأئمة مصلحة لعباده .
ومعلوم ان اللطف والمصلحة التي حصلت بهم أعظم من اللطف والمصلحة التي حصلت بإمام معدوم أو عاجز . ولهذا حصل لاتّباع خلفاء بني أمية من المصلحة في دينهم ودنياهم ، أعظم مما حصل لاتّباع المنتظر ؛ فإن هؤلاء لم يحصل لهم إمام يأمرهم بشيء من المعروف ، ولا ينهاهم عن شيء من المنكر ، ولا يعينهم على شيء من مصلحة دينهم ولا دنياهم ، بخلاف أولئك ؛ فإنهم انتفعوا بأئمتهم منافع كثيرة في دينهم ودنياهم ، أعظم مما انتفع هؤلاء بأئمتهم .
فتبين أنه إن كانت حجة هؤلاء المنتسبين إلى مشايعة علي ّ( صحيحة ، فحجة أولئك المنتسبين إلى مشايعة عثمان ( أوْلى بالصحة ، وإن كانت باطلة فهذه أبطل منها . فإذا كان هؤلاء الشيعة متفقين مع سائر أهل السنة على أن جزم أولئك بنجاتهم إذا أطاعوا أولئك الأئمة طاعة مطلقة خطأ وضلال ، فخطأ هؤلاء وضلالهم إذا جزموا بنجاتهم لطاعتهم لمن يدّعي أنه نائب المعصوم – والمعصوم لا عين له ولا أثر – أعظم وأعظم ؛ فإن الشيعة ليس لهم أئمة يباشرونهم بالخطاب ، إلا شيوخهم الذين يأكلون أموالهم بالباطل، ويصدّونهم عن سبيل الله.(173/312)
الوجه الثاني : أن هذا المثل إنما كان يكون مطابقاً لو ثبت مقدمتان : إحداهما : أن لنا إماما معصوماً. والثانية : أنه أمر بكذا وكذا . وكلتا المقدمتين غير معلومة ، بل باطلة . دع المقدمة الأولى ، بل الثانية ، فإن الأئمة الذين يدّعى فيهم العصمة قد ماتوا منذ سنين كثيرة ، والمنتظر له غائب أكثر من أربعمائة وخمسين سنة ، وعند آخرين هو معدوم لم يوجد . والذين يُطاعون شيوخ من شيوخ الرافضة ، أو كتب صنّفها بعض شيوخ الرافضة ، وذكروا أن ما فيها منقول عن أولئك المعصومين . وهؤلاء الشيوخ المصنِّفون ليسوا معصومين بالاتفاق ، ولا مقطوعاً لهم بالنجاة .
فإذاً الرافضة لا يتّبعون إلا أئمة لا يقطعون بنجاتهم ولا سعادتهم ، فلم يكونوا قاطعين لا بنجاتهم ، ولا بنجاة أئمتهم الذين يباشرونهم بالأمر والنهي ، وهم أئمتهم ، وإنما هم في انتسابهم إلى أولئك الأئمة ، بمنزلة كثير من أتباع شيوخهم الذين ينتسبون إلى شيخ قد مات من مدة ،ولا يدرون بماذا أمر ، ولا عماذا نهى ، بل له اتباع يأكلون أموالهم بالباطل ويصدون عن سبيل الله ، يأمرونهم بالغلو في ذلك الشيخ وفي خلفائه ، وأن يتخذوهم أربابا ، وكما تأمر شيوخ الشيعة أتباعهم ، وكما تأمر شيوخ النصارى أتباعهم ، فهم يأمرونهم بالإشراك بالله وعبادة غير الله ، ويصدونهم عن سبيل الله ، فيخرجون عن حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وان محمداً رسول الله ، فإن التوحيد أن نعبد الله وحده ، فلا يُدعى إلا هو ، ولا يُخشى إلا هو ، ولا يتقى إلا هو ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يكون الدين إلا له ، لا لأحد من الخلق ، وأن لا نتخذ الملائكة والنبيين أرباباً ، فكيف بالأئمة والشيوخ والعلماء والملوك وغيرهم !؟(173/313)
والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم هو المبلِّغ عن الله أمره ونهيه ، فلا يُطاع مخلوق طاعة مطلقة إلا هو ، فإذا جُعل الغمام والشيخ كأنه إله يُدعى مع مغيبه وبعد موته ، ويُستغاث به ، ويُطلب منه الحوائج ، والطاعة إنما هي لشخص حاضر يأمر بما يريد ، وينهى عمّا يريد كان الميت مشبَّها بالله تعالى، والحي مشبهاً برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فيخرجون عن حقيقة الإسلام الذي أصله شهادة أن لا إله إلا الله ، وشهادة أن محمداً رسول الله .
ثم إن كثيراً منهم يتعلّقون بحكايات تُنقل عن ذلك الشيخ ، وكثير منها كذب عليه ، وبعضها خطأ منه ، فيَعدِلون عن النقل الصدق عن القائل المعصوم إلى نقل غير مصدَّق عن قائل غير معصوم . فإذا كان هؤلاء مخطئين في هذا ، فالشيعة أكثر وأعظم خطأ ، لأنهم أعظم كذبا فيما ينقلونه عن الأئمة ، وأعظم غلوا في دعوى عصمة الأئمة .
الوجه الثالث : منع الحكم في هذا المثال الذي ضربه وجعله أصلا قاس عليه،فان الرجل إذا قال له أحد الرجلين:طريقى آمن يوصلني،وقال له الآخر:لا علم لي بأن طريقي آمن يوصلني،أو قال ذلك الأول ، لم يحسن في العقل تصديق الأول بمجرد قوله ، بل يجوز عند العقلاء أن يكون هذا محتالا عليه ، يكذب حتى يصحبه في الطريق فيقتله ويأخذ ماله ، ويجوز أن يكون جاهلا لا يعرف ما في الطريق من الخوف ، وأما ذاك الرجل فلم يضمن للسائل شيئا ، بل رده إلى نظره ، فالحزم في مثل هذا أن ينظر الرجل أيّ الطريقين أولى بالسلوك : أحد ذينك الطريقين أو غيرهما .
فتبين أن مجرد الإقدام على الحزم لا يدل على علم صاحبه ولا على صدقه، وأن التوقف والإمساك حتى يتبين الدليل هو عادة العقلاء .
الوجه الرابع : أن يقال : قوله : (( إنهم جازمون بحصول النجاة لهم دون أهل السنة )) كذب ، فإنه إن أراد بذلك أن كل واحد ممن اعتقد اعتقادهم يدخل الجنة ، وإن تَرَك الواجبات وفَعَل المحرمات ، فليس هذا قول الإمامية ، ولا يقوله عاقل .(173/314)
وإن كان حب عليّ حسنة لا يضر معها سيئة ، فلا يضره ترك الصلوات ، ولا الفجور بالعلويّات ، ولا نيل أغراضه بسفك دماء بني هاشم إذا كان يحب عليًّا .
فإن قالوا : المحبة الصادقة تستلزم الموافقة ، عاد الأمر إلى أنه لا بد من أداء الواجبات وترك المحرمات . وإن أراد بذلك أنهم يعتقدون أن كل من اعتقد الاعتقاد الصحيح ، وأدى الواجبات ، وترك المحرّمات يدخل الجنة – فهذا اعتقاد أهل السنة ؛ فإنهم يجزمون بالنجاة لكل من اتّقى الله ، كما نطق به القرآن.
وإنما يتوقفون في الشخص المعين لعدم العلم بدخوله في المتيقن ، فإنه إذا علم أنه مات على التقوى عُلم أنه من أهل الجنة . ولهذا يشهدون بالجنة لمن شهد له الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولهم فيمن استفاض في الناس حسن الثناء عليه قولان .
فتبين أنه ليس في الإمامية جزم محمود اختُصوا به عن أهل السنة والجماعة . وإن قالوا : إنّا نجزم لكل شخص رأيناه ملتزماً للواجبات عندنا تاركاً للمحرمات ، بأنه من أهل الجنة ، من غير أن يخبرنا بباطنه معصوم . قيل : هذه المسألة لا تتعلق بالإمامية ، بل إن كان إلى هذا طريق صحيح فهو لأهل السنة ، وهم بسلوكه أحذق ، وإن لم يكن هنا طريق صحيح إلى ذلك ، كان ذلك قولا بلا علم ، فلا فضيلة فيه ، بل في عدمه .
ففي الجملة لا يدّعون علما صحيحا إلا وأهل السنة أحق به ، وما ادّعوه من الجهل فهو نقص وأهل السنة أبعد عنه .(173/315)
الوجه الخامس : أن أهل السنة يجزمون بحصول النجاة لأئمتهم أعظم من جزم الرافضة . وذلك أن أئمتهم بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هم السابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار ، وهم جازمون بحصول النجاة لهؤلاء ، فإنهم يشهدون ان العشرة في الجنة ، ويشهدون أن الله قال لأهل بدر: (( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )) ، بل يقولون : إنه ((لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة )) كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم(1) . فهؤلاء أكثر من ألف وأربعمائة إمام لأهل السنة ، يشهدون أنه لا يدخل النار منهم أحد ، وهي شهادة بعلم ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة .
الوجه السادس : أن يقال : أهل السنة يشهدون بالنجاة : إما مطلقا ، وإما معينا ، شهادة مستندة إلى علم . وأما الرافضة فإنهم إن شهدوا شهدوا بما لا يعلمون ، أو شهدوا بالزور الذي يعلمون أنه كذب ، فهم كما قال الشافعي رحمه الله : ما رأيت قوما أشهد بالزور من الرافضة .
الوجه السابع : أن الإمام الذي شهد له بالنجاة : إما أن يكون هو المطاع في كل شيء وإن نازعه غيره من المؤمنين ، أو هو مطاع فيما يأمر به من طاعة الله ورسوله ، وفيما يقوله باجتهاده إذا لم يعلم أن غيره أوْلى منه، ونحو ذلك . فإن كان الإمام هو الأول ، فلا إمام لأهل السنة بهذا الاعتبار إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهم يقولون كما قال مجاهد والحاكم ومالك وغيرهم : كل أحد يُؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله عليه السلام . وهم يشهدون لإمامهم أنه خير الخلائق ، ويشهدون ان كل من ائتم به ، ففعل ما أُمر به وترك ما نُهى عنه ، دخل الجنة . وهذه الشهادة بهذا وهذا هم فيها أتم من الرافضة من شهادتهم للعسكريِيْن وأمثالهما بأنه من أطاعهم دخل الجنة .
فثبت أن إمام أهل السنة أكمل ، وشهادتهم له ولهم إذا أطاعوه أكمل ، ولا سواء .
__________
(1) انظر البخاري ج3 ص46 ومسلم ج2 ص 822.(173/316)
ولكن قال الله تعالى : { ءآلله خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكون } (1)،فعند المقابلة يُذكر الخير المحض على الشر المحض ، وإن كان الشر المحض لا خير فيه .
وإن أرادوا بالإمام الإمام المقيَّد ، فذاك لا يُوجب أهل السنة طاعته ، إن لم يكن ما أمر به موافقا لأمر الإمام المطلق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهم إذا أطاعوه فيما أمر الله بطاعته فيه ، فإنما هم مطيعون لله ورسوله ، فلا يضرهم توقفهم في الإمام المقيَّد : هل هو في الجنة أم لا ؟ .
الوجه الثامن : أن يُقال : إن الله قد ضمن السعادة لمن أطاعه وأطاع رسوله ، وتوعّد بالشقاء لمن لم يفعل ذلك ، فمناط السعادة طاعة الله ورسوله . كما قال تعالى : { وَمَن يُطِعْ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلئِكَ مَعَ الَّذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقينَ والشُّهَداءْ وَالصَّالِحينَ وَحَسَنَ أولَئِكَ رَفيقًا } (2) وأمثال ذلك .
وإذا كان كذلك والله تعالى يقول : { فاتَّقوا الله ما اسْتَطَعْتُمْ } (3) فمن اجتهد في طاعة الله ورسوله بحسب استطاعته كان من أهل الجنة .
فقول الرافضة : لن يدخل الجنّة إلا من كان إماميا ، كقول اليهود والنصارى : { َلنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ، تِلْكَ أَمَانِّيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ ِللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون } (4) .
__________
(1) الآية 59 من سورة النمل .
(2) الآية 69 من سورة النساء .
(3) الآية 69 من سورة النساء .
(4) الآيتان 111 ، 112 من سورة البقرة .(173/317)
ومن المعلوم أن المنتظر الذي يدّعيه الرافضي لا يجب على أحد طاعته ، فإنه لا يُعلم له قول منقول عنه ، فإذاً من أطاع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم دخل الجنة وإن لم يؤمن بهذا الإمام ، ومن آمن بهذا الإمام لم يدخل الجنة إلا إذا أطاع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، فطاعة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم هي مدار السعادة وجودا وعدما ، وهي الفارقة بين أهل الجنة والنار ، ومحمد صلى لله تعالى عليه وسلم فرّق بين الناس ، والله سبحانه وتعالى قد دل الخلق على طاعته بما بينه لهم ، فتبين أن أهل السنة جازمون بالسعادة والنجاة لمن كان من أهل السنّة .
(فصل)
قال الرافضي: الوجه الرابع : أن الإمامية أخذوا مذهبهم عن الأئمة المعصومين المشهورين بالفضل والعلم ولزهد والورع ، والاشتغال في كل وقت بالعبادة والدعاء وتلاوة القرآن ،والمداومة على ذلك من زمن الطفولة إلى آخر العمر ، ومنهم من يعلم الناس العلوم ، ونزل في حقهم : { هلْ أَتَى } وآية الطهارة ، وإيجاب المودة لهم ، وآية الابتهال وغير ذلك . وكان علي ّ( يصلّي في كل يوم وليلة ألف ركعة ، ويتلو القرآن مع شدّة ابتلائه بالحروب والجهاد .
فأولهم عليّ بن أبي طالب ( كان أفضل الخلق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وجعله الله نفس رسول الله حيث قال: { وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ } (1)
__________
(1) الآية 61 من سورة آل عمران .(173/318)
وواخاه رسول الله وزوّجه ابنته ، وفَضْلُهُ لا يخفى وظهرت منه معجزات كثيرة ، حتى ادَّعى قوم فيه الربوبية وقتلهم ، وصار إلى مقالتهم آخرون إلى هذه الغاية كالغلاة والنصيرية . وكان ولداه سبطا رسول الله ( سيدا شباب أهل الجنة ، إمامين بنص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وكانا أزهد الناس وأعلمهم في زمانهما ، وجاهدا في الله حق جهاده حتى قتلا ، ولبس الحسن الصوف تحت ثيابه الفاخرة من غير أن يشعر أحد بذلك ، وأخذ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يوما الحسين على فخذه الأيمن ، وإبراهيم على فخذه الأيسر ، فنزل جبرائيل عليه السلام وقال: إن الله تعالى لم يكن ليجمع لك بينهما ، فاختر من شئت منهما ، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : إذا مات الحسين بكيت أنا وعليّ وفاطمة ، وإذا مات إبراهيم بكيت أنا عليه ، فاختار موت إبراهيم فمات بعد ثلاثة أيام ، وكان إذا جاء الحسين بعد ذلك يقبله ويقول : أهلا ومرحبا بمن فديته بابني إبراهيم .
وكان علي بن الحسين زين العابدين يصوم نهاره ويصوم ليله ، ويتلو الكتاب العزيز ، ويصلّي كل يوم وليلة ألف ركعة ، ويدعو كل ركعتين بالأدعية المنقولة عنه وعن آبائه ثم يرمي الصحيفة كالمتضجر ، ويقول : أنّى لي بعبادة عليّ ، وكان يبكي كثيراً حتى أخذت الدموع من لحم خديه ، وسجد حتى سمى ذا الثَفِنات ، وسماه رسول الله ( سيد العابدين .
وكان قد حج هشام بن عبد الملك فاجتهد أن يستلم الحجر فلم يمكنه من الزحام ، فجاء زين العابدين فوقف الناس له وتَنَحَّوْا عن الحجر حتى استلمه ، ولم يبق عند الحجر سواه ، فقال هشام بن عبد الملك : من هذا فقال الفرزدق وذكر أبيات الشعر المشهورة فبعث إليه الإمام زين العابدين بألف دينار ، فردها ، وقال: إنما قلت هذا غضباً لله ولرسوله ، فما آخذ عليه أجرا ، فقال عي بن الحسين : نحن أهل بيت لا يعود إلينا ما خرج منا فقبلها الفرزدق .(173/319)
وكان بالمدينة قوم يأتيهم رزقهم ليلا ولا يعرفون ممن هو ، فلما مات زين العابدين ، انقطع ذلك عنهم وعرفوا أنه كان منه .
وكان ابنه محمد الباقر أعظم الناس زهداً وعبادة ، بَقَرَ السجودُ جبهتَه، وكان أعلم أهل وقته ، سمَّاه رسول الله (الباقر ، وجاء جابر بن عبد الله الأنصاري إليه وهو صغير في الكُتَّاب ، فقال له : جدّك رسول الله ( يسلّم عليك . فقال : وعلى جدّي السلام . فقيل لجابر كيف هو ؟ قال كنت جالساً عند رسول الله ( والحسين في حجره وهو فهذا لو قُدِّر أن جميع الناس ظهر منهم الأمر بقتله ، فكيف وجمهورهم أنكروا قتله ، ودافع عنه من دافع في بيته ، كالحسن بن عليّ وعبد الله بن الزبير وغيرهما ؟
ثم دعوى المدّعي الإجماع على قتل عثمان مع ظهور الإنكار من جماهير الأمة له وقيامهم في الانتصار له والانتقام ممن قتله،أظهر كذبا من دعوى المدّعى إجماع الأمة على قتل الحسين ( .
فلو قال قائل:إن الحسين قتل بإجماع الناس،لان الذين قاتلوه وقتلوه لم يدفعهم أحد عن ذلك،لم يكن كذبه بأظهر من كذب المدّعى للإجماع على قتل عثمان؛فإن الحسين ( لم يعظم إنكار الأمة لقتله،كما عظم إنكارهم لقتل عثمان،ولا انتصر له جيوش كالجيوش الذين انتصرت لعثمان،ولا انتقم أعوانه من أعدائه كما انتقم أعوان عثمان من أعدائه،ولا حصل بقتله من الفتنة والشر والفساد ما حصل بقتل عثمان، ولا كان قتله أعظم إنكاراً عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من قتل عثمان؛فإن عثمان من أعيان السابقين الأولين من المهاجرين من طبقة عليّ وطلحة والزبير ، وهو خليفة للمسلمين أجمعوا على بيعته ، بل لم يُشْهر في الأمة سيفاً ولا قتل على ولايته أحداً ، وكان يغزو بالمسلمين الكفّار بالسيف ، وكان السيف في خلافته كما كان في خلافة أبي بكر وعمر مسلولا على الكفَّار ، مكفوفا عن أهل القبلة .(173/320)
وأما قوله : (( إن عائشة كانت في كل وقت تأمر بقتل عثمان ، وتقول في كل وقت:اقتلوا نعثلا ، قتل الله نعثلا ، ولما بلغها قتله فرحت بذلك)).
فيقال له : أولا : أين النقل الثابت عن عائشة بذلك ؟
ويقال : ثانيا : المنقول الثابت عنها يكذّب ذلك ، ويبين أنها أنكرت قتله ، وذمّت من قتله ، ودعت على أخيها محمد وغيره لمشاركتهم في ذلك .
ويقال : ثالثا : هب أن واحدا من الصحابة : عائشة أو غيرها قال في ذلك على وجه الغضب ، لإنكاره بعض ما ينكر ، فليس قوله حجة ، ولا يقدح ذلك لا في إيمان القائل ولا المقول له ، بل قد يكون كلاهما وليًّا لله تعالى من أهل الجنة ، ويظن أحدهما جواز قتل الآخر ، بل يظن كفره ، وهو مخطئ في هذا الظن .
والكلام في الناس يجب أن يكون في علم وعدل ، لا بجهل وظلم ، كحال أهل البدع ؛ فإن الرافضة تعمد إلى أقوام متقاربين في الفضيلة ، تريد أن تجعل أحدهما معصوماً من الذنوب والخطايا ، والآخر مأثوماً فاسقا أو كافرا ، فيظهر جهلهم وتناقضهم ، كاليهودي والنصراني إذا أراد أن يثبت نبوّة موسى أو عيسى ، مع قدحه في نبوة محمد (، فإنه يظهر عجزه وجهله وتناقضه .
وأما قوله : (( إنها سألت من تولّى الخلافة ؟ فقالوا : عليّ فخرجت لقتاله على دم عثمان فأي ذنب كان لعليّ في ذلك ؟)).
فيقال له : أولا : قول القائل إن عائشة وطلحة والزبير اتهموا عليًّا بأنه قتل عثمان وقاتلوه على ذلك –كذب بيّن ، بل إنما طلبوا القتلة الذين كانوا تحيّزوا إلى عليّ ،وهم يعلمون أن براءة عليّ من دم عثمان كبراءتهم وأعظم ، لكن القتلة كانوا قد أووا إليه ، فطلبوا قتل القتلة ، ولكن كانوا عاجزين عن ذلك هم وعليّ ، لأن القوم كانت لهم قبائل يذبُّون عنهم .(173/321)
والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء ، فصار الأكابر رضى الله عنهم عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها . وهذا شأن الفتن كما قال تعالى : { وَاتّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيَبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَةً } (1) .وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله .
وأيضا قوله : (( أي ذنب كان لعليّ في قتله؟ )) .
تناقض منه ، فإنه يزعم أن عليًّا كان ممن يستحل قتله وقتاله ، وممن ألَّب عليه وقام في ذلك ، فإن عليًّا ( نسبه إلى قتل عثمان كثير من شيعته ومن شيعة عثمان ، هؤلاء لبغضهم لعثمان وهؤلاء لبغضهم لعليّ ، وأما جماهير المسلمين فيعلمون كذب الطائفتين عَلَى عليّ .
والرافضة تقول : إن عليّا كان ممن يستحل قتل عثمان ، بل وقتل أبي بكر وعمر ، وترى أن الإعانة على قتله من الطاعات والقربات . فكيف يقول من هذا اعتقاده : أيّ ذنب كان لعليّ على ذلك ؟ وإنما يليق هذا التنزيه لعليّ بأقوال أهل السنة ، لكن الرافضة من أعظم الناس تناقضا .
وأما قوله : (( وكيف استجاز طلحة والزبير وغيرهما مطاوعته على ذلك ؟ وبأي وجه يلقون رسول الله (؟ مع ان الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره وأخرجها من منزلها وسافر بها كان أشد الناس عداوة له )) .
فيقال : هذا من تناقض الرافضة وجهلهم ؛ فإنهم يرمون عائشة بالعظائم ، ثم منهم من يرميها بالفاحشة التي برَّأها الله منها ، وأنزل القرآن في ذلك .
__________
(1) الآية 25 من سورة الأنفال .(173/322)
ثم إنهم لفرط جهلهم يدّعون ذلك في غيرها من نساء الأنبياء ، فيزعمون أن امرأة نوح كانت بَغِيًّا ، وأن الابن الذي دعاه نوح لم يكن منه وإنما كان منها ، وأن معنى قوله : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح } (1) .أن هذا الولد من عملٍ غير صالح . ومنهم من يقرأ : { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ } (2) . يريدون : ابنها ، ويحتجون بقوله : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } . و يتأوّلون قوله تعالى :
{ ضرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا } (3) على أن امرأة نوح خانته في فراشه، وأنها كانت قَحبة .
وضاهوا في ذلك المنافقين والفاسقين أهل الإفك الذين رموا عائشة بالإفك والفاحشة ولم يتوبوا ، و فيهم خطب النبي ( فقال :(( يا أيها الناس من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا،ولقد ذكروا رجلا ، والله ما علمت عليه إلا خيرا ))(4) .
ومن المعلوم أنه من أعظم أنواع الأذى للإنسان أن يكذب على امرأته رجل ويقول إنها بغى ويجعل الزوج زوج قحبة ، فإن هذا من أعظم ما يشتم به الناس بعضهم بعضا ، حتى أنهم يقولون في المبالغة : شتمه بالزاى والقاف مبالغة في شتمه .
__________
(1) الآية 46 من سورة هود .
(2) الآية 42 من سورة هود .
(3) الآية 10 من سورة التحريم .
(4) رواه البخاري : 3/173 وغيره وتقدم ص .(173/323)
والرمي بالفاحشة – دون سائر المعاصي – جعل الله فيه حد القذف ، لأن الأذى الذي يحصل به للمرمى لا يحصل مثله بغيره ،فإنه لو رُمِيَ بالكفر أمكنه تكذيب الرامي بما يظهره من الإسلام ، بخلاف الرمي بالفاحشة ؛ فإنه لا يمكنه تكذيب المفترى بما يضاد ذلك ، فإن الفاحشة تخفى وتكتم مع تظاهر الإنسان بخلاف ذلك ، وأما أهل السنة فعندهم أنه ما بغت امرأة نبي قط ، وأن ابن نوح كان ابنه . كما قال الله تعالى وهو أصدق القائلين : { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَه } ، وكما قال نوح : { َيا ُبنيَّ ارْكَبْ مَعَنَا } ،وقال: { إِنَّ ابْنِي مِن ْأَهْلِي } .
فالله ورسوله يقولان : إنه ابنه ، وهؤلاء الكاذبون المفترون المؤذون للأنبياء يقولون : إنه ليس ابنه . والله تعالى لم يقل : إنه ليس ابنك، ولكن قال: { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } .
ثم من جهل الرافضة أنهم يعظّمون أنساب الأنبياء : آباءهم وأبناءهم ويقدحون في أزواجهم ؛ كل ذلك عصبية واتّباع هوى حتى يعظّمون فاطمة والحسن والحسين ، ويقدحون في عائشة أم المؤمنين ، فيقولون – أو من يقول منهم - :إن آزر أبا إبراهيم كان مؤمنا ، وأن أبوي النبي ( كانا مؤمنَيْنِ، حتى لا يقولون : إن النبي يكون أبوه كافرا ، فإذا كان أبوه كافرا أمكن أن يكون ابنه كافراً ، فلا يكون في مجرد النسب فضيلة .
وأما قوله : (( كيف أطاعها على ذلك عشرات ألوف من المسلمين وساعدوها على حرب أمير المؤمنين ، ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله (لما طلبت حقّها من أبي بكر( ، ولا شخص واحد كلَّمه بكلمة واحدة )) .(173/324)
فيقال : أولا : هذا من أعظم الحجج عليك ؛ فإنه لا يشك عاقل أن القوم كانوا يحبون رسول الله ( ويعظمونه ويعظمون قبيلته وبنته أعظم مما يعظمون أبا بكر وعمر،ولو لم يكن هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.فكيف إذا كان هو رسول الله ( الذي هو أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم؟ولا يستريب عاقل أن العرب-قريشا وغير قريش-كانت تدين لبني عبد مناف وتعظّمهم أعظم مما يعظّمون بني تيم وعدي،ولهذا لما مات رسول الله (وتولّى أبو بكر،قيل لأبي قحافة:مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.فقال:حدث عظيم،فمن ولي بعده؟ قالوا أبو بكر. قال : أو رضيت بنو عبد مناف وبنو مخزوم ؟ قالوا : نعم . قال : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، أو كما قال .
ولهذا جاء أبو سفيان إلى عليّ فقال : أرضيتم أن يكون هذا الأمر في بني تيم ؟ فقال : يا أبا سفيان إن أمر الإسلام ليس كأمر الجاهلية ، أو كما قال.
فإذا كان المسلمون كلهم ليس فيهم من قال : إن فاطمة رضى الله عنها مظلومة ، ولا أن لها حقًا عند أبي بكر وعمر رضى الله عنهما ولا أنهما ظلماها ، ولا تكلّم أحد في هذا بكلمة واحدة-دل ذلك على أن القوم كانوا يعلمون أنها ليست مظلومة ، إذ لو علموا أنها مظلومة لكان تركهم لنصرتها : إما عجزا عن نصرتها ، وإما إهمالا وإضاعة لحقها ، وإما بغضا فيها ، إذ الفعل الذي يقدر عليه الإنسان إذا أراده إرادة جازمة فعله لا محالة ، فإذا لم يرده – مع قيام المقتضى لإرادته –فإما أن يكون جاهلا به ، أو له معارض يمنعه من إرادته ، فلو كانت مظلومة مع شرفها وشرف قبيلتها وأقاربها ، وأن أباها أفضل الخلق وأحبهم إلى أمته ، وهم يعلمون أنها مظلومة –لكانوا إما عاجزين عن نصرتها ، وإما أن يكون لهم معارض عارض إرادة النصر مع بغضها ، وكلا الأمرين باطل ؛ فإن القوم ما كانوا كلهم عاجزين أن يتكلم واحد منهم بكلمة حق ،وهم كانوا أقدر على تغيير ما هو أعظم من هذا .(173/325)
وهذا وغيره مما يبيّن أن الأمر على نقيض ما تقوله الرافضة من أكاذيبهم ، وأن القوم كانوا يعلمون أن فاطمة لم تكن مظلومة أصلا ، فكيف ينتصر القوم لعثمان حتى سفكوا دماءهم ، ، ولا ينتصرون لمن هو أحب إليهم من عثمان ،وهو رسول الله (وأهل بيته ؟!
(فصل )
قال الرافضي : (( وسمّوها أم المؤمنين ولم يسمّوا غيرها بذلك ، ولم يسمّوا أخاها محمد بن أبي بكر- مع عظم شأنه وقربه من منزلة أبيه وأخته عائشة أم المؤمنين – فلم يسموه خال المؤمنين ، وسموا معوية بن أبي سفيان خال المؤمنين ، لأن أخته أم حبيبة بنت أبي سفيان إحدى زوجات النبي (، وأخت محمد بن أبي بكر وأبوه أعظم من أخت معاوية ومن أبيها )) .
والجواب أن يقال : أما قوله (( إنهم سموا عائشةرضى الله عنها أم المؤمنين ولم يسموا غيرها بذلك )).
فهذا من البهتان الواضح الظاهر لكل أحد ، وما أدرى هل هذا الرجل وأمثاله يتعمّدون الكذب ، أم أعمى الله أبصارهم لفرط هواهم ، حتى خفى عليهم أن هذا كذب ؟ وهم ينكرون على بعض النواصب أن الحسن لما قال لهم أما تعلمون أني ابن فاطمة بنت رسول الله (؟ قالوا : والله ما نعلم ذلك . وهذا لا يقوله ولا يجحد نسب الحسين إلا متعمداً للكذب والافتراء ، ومن أعمى الله بصيرته باتّباع هواه حتى يخفى عليه مثل هذا ؟ فإن عين الهوى عمياء . والرافضة أعظم جحداً للحق تعمدا ، وأعمى من هؤلاء ؛ فإن منهم – من المنتسبين إليهم – كالنصيرية وغيرهم من يقول : إن الحسن و الحسين ما كانا أولاد عليّ ، بل أولاد سلمان الفارسي . ومنهم من يقول : إن عليًّا لم يمت، وكذلك يقولون عن غيره .(173/326)
ومنهم من يقول : إن أبا بكر وعمر ليسا مدفونين عند النبي صلى الله عليه وسلم،ومنهم من يقول:إن رقية وأم كلثوم زوجتى عثمان ليستا بنتى النبي صلى الله عليه وسلم،ولكن هما بنتا خديجة من غيره.ولهم في المكابرات وجحد العلومات بالضرورة أعظم مما لأولئك النواصب الذين قتلوا الحسين.وهذا مما يبين أنهم أكذب وأظلم وأجهل من قتلة الحسين.
وذلك أنه من المعلوم أن كل واحدة من أزواج النبي ( يقال لها ((أم المؤمنين))عائشة،وحفصة،و زينب بنت جحش ،وأم سلمة ،و سودة بنت زمعة،وميمونة بنت الحارث الهلالية،وجويرية بنت الحارث المصطلقية،وصفية بنت حي بن أخطب الهارونية،رضي الله عنهن.وقد قال الله تعالى: { النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم } (1) . وهذا أمر معلوم للأمة علما عاما،وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح هؤلاء بعد موته على غيره،وعلى وجوب احترامهن؛فهن أمهات المؤمنين في الحرمة والتحريم،ولسن أمهات المؤمنين في المحرمية،فلا يجوز لغير أقاربهن الخلوة بهن،ولا السفر بهن،كما يخلو الرجل ويسافر بذوات محارمه.
وأما قوله:((وعظم شأنه)).
فإن أراد عظم نسبه،فالنسب لاحرمة له عندهم،لقدحهم في أبيه وأخته.وأما أهل السنة فإنما يعظّمون بالتقوى،لا بمجرد النسب.قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُم } (2) . وإن أراد عظم شأنه لسابقته وهجرته ونصرته وجهاده ، فهو ليس من الصحابة : لا من المهاجرين ولا من الأنصار . وإن أراد بعظم شأنه أنه كان من أعلم الناس وأَدْيَنهم ، فليس الأمر كذلك .
وأما قوله : (( وأخت محمد وأبوه أعظم من أخت معاوية وأبيها )) .
__________
(1) الآية 6 من سورة الأحزاب .
(2) الآية13 من سورة الحجرات.(173/327)
فيقال : هذه الحجة باطلة على الأصلين . وذلك أن أهل السنة لا يفضلون الرجل إلا بنفسه ، فلا ينفع محمداً قربه من أبي بكر وعائشة ، ولا يضر معاوية أن يكون ذلك أفضل نسبا منه ، وهذا أصل معروف لأهل السنة، كما لم يضر السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا ، كبلال وصهيب وخبّاب وأمثالهم ، أن يكون من تأخر عنهم من الطلقاء وغيرهم ، كأبي سفيان بن حرب وابنيه معاوية ويزيد وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب ونحوهم ، أعظم نسبا منهم .
(فصل)
قال الرافضي : (( مع أن رسول الله ( لعن معاوية الطليق بن الطليق اللعين بن اللعين ، وقال : إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه . وكان من المؤلفة قلوبهم ، وقاتل عليًّا وهو عندهم رابع الخلفاء ، إمام حق ، وكل من حارب إمام حق فهو باغ ظالم )) .
قال : (( وسبب ذلك محبة محمد بن أبي بكر لعليّ عليه السلام ، ومفارقته لأبيه ، وبغض معاوية لعليّ ومحاربته له . وسموه كاتب الوحي ولم يكتب له كلمة واحدة من الوحي ، بل كان يكتب له رسائل . وقد كان بين يدي النبي (أربعة عشر نفسا يكتبون الوحي ، أولهم وأخصهم وأقربهم إليه عليّ بن أبي طالب عليه السلام،مع أن معاوية لم يزل مشركا بالله تعالى في مدة كون النبي ( مبعوثا يكذّب بالوحي ويهزأ بالشرع)).
والجواب:أن يقال((أما ما ذكره من أن النبي ( لعن معاوية وأمر بقتله إذا رؤى على المنبر ،فهذا الحديث ليس في شيء من كتب الإسلام التي يرجع إليها في علم النقل،وهو عند أهل المعرفة بالحديث كذب موضوع مختلق على النبي صلى الله عليه وسلم،وهذا الرافضي الراوي له لم يذكر له إسنادا حتى ينظر فيه،وقد ذكره أبو الفرج بن الجوزي في الموضوعات.(173/328)
ومما يبيّن كذبه أن منبر النبي (قد صعد عليه بعد معاوية من كان معاوية خيراً منه باتفاق المسلمين.فإن كان يجب قتل من صعد عليه لمجرد الصعود على المنبر،وجب قتل هؤلاء كلهم.ثم هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن مجرد صعود المنبر لا يبيح قتل مسلم.وإن أمر بقتله لكونه تولّى الأمر وهو لا يصلح،فيجب قتل كل من تولّى الأمر بعد معاوية ممن معاوية أفضل منه.وهذا خلاف ما تواترت به السنن عن النبي (من نهيه عن قتل ولاة الأمور وقتالهم،كما تقدم بيانه.
ثم الأمة متفقة على خلاف هذا ؛ فإنها لم تقتل كل من تولّى أمرها ولا استحلّت ذلك .ثم هذا يوجب من الفساد والهرج ما هو أعظم من ولاية كل ظالم ، فكيف يأمر النبي (بشيء يكون فعله أعظم فسادا من تركه ؟ !
وأما قوله : (( إنه الطليق ابن الطليق )) .
فهذا ليس نعت ذم ، فإن الطلقاء هم مسلمة الفتح ، الذين أسلموا عام فتح مكة ، وأطلقهم النبي (، وكانوا نحواً من ألفَىْ رجل ، وفيهم من صار من خيار المسلمين ، كالحارث بن هشام ، وسهل بن عمرو ، وصفوان بن أميّة ، وعكرمة بن أبي جهل ، ويزيد بن أبي سفيان ، وحكيم بن حزام ، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي ( الذي كان يهجوه ثم حسن إسلامه، وعتّاب بن أسيد الذي ولاّه النبي ( مكة لما فتحها ، وغير هؤلاء ممن حَسُنَ إسلامه .(173/329)
ومعاوية ممن حَسُن إسلامه باتفاق أهل العلم . ولهذا ولاّه عمر بن الخطاب( موضع أخيه يزيد بن أبي سفيان لما مات أخوه يزيد بالشام ، وكان يزيد بن أبي سفيان من خيار الناس ، وكان أحد الأمراء الذين بعثهم أبو بكر وعمر لفتح الشام : يزيد بن أبي سفيان ، وشرحبيل بن حسنة ، وعمرو بن العاص ، مع أبي عُبيدة بن الجراح ، وخالد بن الوليد ، فلما توفي يزيد بن أبي سفيان ولّى عمر مكانه أخاه معاوية ، وعمر لم تكن تأخذه في الله لومة لائم ، وليس هو ممن يحابى في الولاية ، ولا كان ممن يحب أبا سفيان أباه ، بل كان من أعظم الناس عداوة لأبيه أبي سفيان قبل الإسلام ، حتى أنه لما جاء به العباس يوم فتح مكة كان عمر حريصا على قتله ، حتى جرى بينه وبين العباس نوع من المخاشنة بسبب بغض عمر لأبي سفيان . فتولية عمر لابنه معاوية ليس لها سبب دنيوي ، ولولا استحقاقه للإمارة لما أمّره .
وأما قوله : (( كان معاوية من المؤَلَّفة قلوبهم )) .
نعم وأكثر الطلقاء كلهم من المؤلفة قلوبهم ، كالحارث بن هشام ، وابن أخيه عكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو ، وصفوان بن أمية ، وحكيم بن حزام ، وهؤلاء من خيار المسلمين . والمؤلَّفة قلوبهم غالبهم حسُن إسلامه ، وكان الرجل منهم يُسلم أول النهار رغبة منه في الدنيا ، فلا يجيء آخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس .
وأما قوله : (( وقاتل عليًّا وهو عندهم رابع لخلفاء إمام حق ، وكل من قاتل إمام حقٍ فهو باغ ظالم )) .(173/330)
فيقال له : أولا : الباغي قد يكون متأوّلا معتقدا أنه على حق ، وقد يكون متعمدا يعلم أنه باغٍ ، وقد يكون بَغْيُهُ مركّبا من شبهة وشهوة ، وهو الغالب . وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة ؛ فإنهم لا ينزّهون معاوية ولا من هو أفضل منه من الذنوب ، فضلا عن تنزيههم عن الخطأ في الإجتهاد ، بل يقولون : إن الذنوب لها أسباب تُدفع عقوبتها من التوبة والاستغفار ، والحسنات الماحية ، والمصائب المكفِّرة ، وغير ذلك .وهذا أمر يعم الصحابة وغيرهم .
ويقال لهم : ثانيا : أما أهل السنة فأصلهم مستقيم مطّرد في هذا الباب . وأما أنتم فمتناقضون . وذلك أن النواصب – من الخوارج وغيرهم – الذين يكفّرون عليًّا أو يفسِّقونه أو يشكّون في عدالته من المعتزلة والمروانية وغيرهم ، لو قالوا لكم : ما الدليل على إيمان عليّ وإمامته وعدله ؟ لم يكن لكم حجة ؛ فإنكم إن احتججتم بما تواتر من إسلامه وعبادته ، قالوا لكم : وهذا متواتر عن الصحابة ، والتابعين والخلفاء الثلاثة ، وخلفاء بني أمية كمعاوية ويزيد وعبد الملك وغيرهم ، وأنتم تقدحون في إيمانهم ، فليس قدحنا في إيمان عليّ وغيره إلا وقدحكم في إيمان هؤلاء أعظم ، والذين تقدحون أنتم فيهم أعظم من الذين نقدح نحن فيهم . وإن احتججتم بما في القرآن من الثناء والمدح . قالوا : آيات القرآن عامة تتناول أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم مثل ما تتناول عليًّا وأعظم من ذلك . وأنتم قد أخرجتم هؤلاء من المدح والثناء فإخراجنا عليًّا أيسر . وإن قلتم بما جاء عن النبي ( في فضائله : قالوا : هذه الفضائل روتها الصحابة الذين رووا فضائل أولئك ، فإن كانوا عدولا فاقبلوا الجميع ، وإن كانوا فسَّاقا فإن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبيَّنوا ، وليس لأحد أن يقول في الشهود : إنهم إن شهدوا لي كانوا عدولا ، وإن شهدوا عليّ كانوا فسّاقا ، أو : إن شهدوا بمدح من أحببته كانوا عدولا ، وإن شهدوا بمدح من أبغضته كانوا فسَّاقا .(173/331)
وأما قوله((إن سبب ذلك محبة محمد بن أبي بكر لعليّ ،ومفارقته لأبيه )) .
فكذب بيّن . وذلك أن محمد بن أبي بكر في حياة أبيه لم يكن إلا طفلا له أقل من ثلاث سنين ، وبعد موت أبيه كان من أشد الناس تعظيما لأبيه، وبه كان يتشرف ، وكانت له بذلك حرمة عند الناس .
وأما قوله : (( إن سبب قولهم لمعاوية : إنه خال المؤمنين دون محمد، إن محمداً هذا كان يحب عليًّا ،ومعاوية كان يبغضه )) .
فيقال : هذا كذب أيضا؛ فإن عبد الله بن عمر كان أحق بهذا المعنى من هذا وهذا ، وهو لم يقاتل لا مع هذا ولا مع هذا ، وكان معظِّما لعليّ ، محباً له ، يذكر فضائله ومناقبه ، وكان مبايعا لمعاوية لما اجتمع عليه الناس غير خارج عليه ، وأخته أفضل من أخت معاوية ، وأبوه أفضل من أبي معاوية ، والناس أ كثر محبة وتعظيماً له من معاوية ومحمد ،ومع هذا فلم يشتهر عنه أنه خال المؤمنين . فعُلم أنه ليس سبب ذلك ما ذكره .
( فصل )
وأما قول الرافضي : ((وسمّوه كاتب الوحي ولم يكتب له كلمة واحدة من الوحي )) .
فهذا قول بلا حجة ولا علم ، فما الدليل على أنه لم يكتب كلمة واحدة من الوحي ، وإنما كان يكتب له رسائل ؟
وقوله : ((إن كتاب الوحي كانوا بضعة عشر أخصّهم وأقربهم إليه عليّ )) .
فلا ريب أن عليًّا كان ممن يكتب له أيضا ، كما كتب الصلح بينه وبين المشركين عام الحديبية . ولكن كان يكتب له أبو بكر وعمر أيضا ، ويكتب له زيد بن ثابت بلا ريب .
ففي الصحيحين أن زيد بن ثابت لما نزلت: { لاَّ َيسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِين } (1) .كتبها له(2) .وكتب له أبو بكر وعمر ، وعثمان ،وعليّ، وعامر بن فهيرة ، وعبد الله بن الأرقم ، وأبيّ بن كعب ، وثابت بن قيس ، وخالد بن سعيد بن العاص،وحنظلة بن الربيع الأسدي ،وزيد بن ثابت ومعاوية،وشُرحبيل بن حسنة رضى الله عنهم .
__________
(1) الآية 95 من سورة النساء .
(2) 2 ) انظر البخاري :ج6 ص48 ، ومسلم : ج3 ص1508.(173/332)
وأما قوله :(( إن معاوية لم يزل مشركاً مدة كون النبي ( مبعوثا)) .
فيقال : لا ريب أن معاوية وأباه وأخاه وغيرهم أسلموا عام فتح مكة ، قبل موت النبي ( بنحو من ثلاث سنين ، فكيف يكون مشركا مدة المبعث ، ومعاوية ( كان حين بُعث النبي ( صغيرا، كانت هند ترقِّصه . ومعاوية ( أسلم مع مسلمة الفتح ، مثل أخيه يزيد ، وسهيل بن عمرو ، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبي سفيان بن حرب وهؤلاء كانوا قبل إسلامهم أعظم كفراً ومحاربة للنبي ( من معاوية .
(فصل)
قال الرافضي : (( وكان باليمن يوم الفتح يطعن على رسول الله (، وكتب إلى أبيه صخر بن حرب يعيّره بإسلامه ،ويقول : أَصَبَوْتَ إلى دين محمد؟ .
والجواب : أما قوله : (( كان باليمن يطعن على النبي (وكتب إلى أبيه صخر بن حرب يعيّره بإسلامه)) .
فهذا من الكذب المعلوم ؛ فإن معاوية إنما كان بمكة ، لم يكن باليمن ، وأبوه أسلم قبل دخول النبي ( مكة بمر الظهران ليلة نزل بها ، وقال له العباس : إن أبا سفيان يحب الشرف . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( من دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن ))(1) .
وأما قوله : (( إن الفتح كان في رمضان لثمان من مقدم النبي (المدينة )) فهذا صحيح .
وأما قوله : (( إن معاوية كان مقيما على شِرْكِهِ هاربا من النبي (، لأنه كان قدر أهدر دمه، فهرب إلى مكة ، فلما لم يجد له مأوى صار إلى النبي ( مضطراً ، فأظهر الإسلام ، وكان إسلامه قبل موت النبي ( بخمسة أشهر )) .
__________
(1) رواه مسلم 3/1407.(173/333)
فهذا من أظهر الكذب ؛ فإن معاوية أسلم عام الفتح باتفاق الناس، وقد تقدّم قوله: (( إنه من المؤلفة قلوبهم )) والمؤلفة قلوبهم أعطاهم النبي (عام حنين من غنائم هَوَازن ، وكان معاوية ممن أعطاه منها ، والنبي ( كان يتألّف السادة المطاعين في عشائرهم ، فإن كان معاوية هاربا لم يكن من المؤلفة قلوبهم ، ولو لم يسلم إلا قبل موت النبي ( بخمسة أشهر لم يُعط شيئاً من غنائم حنين .
ومن كانت غايته أن يؤمن لم يحتج إلى تأليف .
ومما يبين كذب ما ذكره هذا الرافضي أنه لم يتأخر إسلام أحد من قريش إلى هذه الغاية ، وأهل السير والمغازى متفقون على أنه لم يكن معاوية ممن أُهدر دمه عام الفتح .
وأما قوله : (( إنه استحق أن يُوصف بذلك دون غيره )) .
ففرية على أهل السنة ؛ فإنه ليس فيهم من يقول : إن هذا من خصائص معاوية ، بل هو واحد من كتاب الوحي . وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فارتد عن الإسلام ، وافترى على النبي (، ثم إنه عاد إلى الإسلام.
وأما قوله:(( إنه نزل فيه : { ولكن مَّن شرح بالكفر صدراً } (1) الآية.
فهو باطل ؛ فإن هذه الآية نزلت بمكة ، لما أُكره عمَّار وبلال على الكفر . وردة هذا كانت بالمدينة بعد الهجرة ، ولو قُدِّر أنه نزلت فيه هذه الآية؛ فالنبي ( قَبِل إسلامه وبايعه .
وأما قوله : (( وقد روى عبد الله بن عمر قال : أتيت النبي ( فسمعته يقول : (( يطلع عليكم رجل يموت على غير سنتي )) فطلع معاوية . وقام النبي (خطيبا ، فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد وخرج ولم يسمع الخطبة ، فقال النبي (: (( لعن الله القائد والمقود ، أي يوم يكون للأمة مع معاوية ذي الإساءة )) .
فالجواب أن يقال أولا : نحن نطالب بصحة الحديث ؛ فإن الاحتجاج بالحديث لا يجوز إلا بعد ثبوته . ونحن نقول هذا في مقام المناظرة ، وإلا فنحن نعلم قطعا أنه كذب .
__________
(1) الآية 106 من سورة النحل .(173/334)
ويقال ثانيا : هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث التي يُرجع إليها في معرفة الحديث ، ولا له إسناد معروف .
وهذا المحتج به لم يذكر له إسناد . ثم من جهله أن يروي مثل هذا عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمر كان من أبعد الناس عن ثلب الصحابة، وأروى الناس لمناقبهم ، وقوله في مدح معاوية معروف ثابت عنه ، حيث يقول : ما رأيت بعد رسول الله (أَسْوَد من معاوية . قيل له : ولا أبو بكر و عمر ؟ فقال : كان أبو بكر وعمر خيرا منه ، وما رأيت بعد رسول الله (أسود من معاوية .
قال أحمد بن حنبل : السيد الحليم يعني معاوية ، وكان معاوية كريما حليما .
ثم إن خطب النبي ( لم تكن واحدة ، بل كان يخطب في الجمع والأعياد والحج وغير ذلك . ومعاوية وأبوه يشهدان الخطب، كما يشهدها المسلمون كلهم . افتراهما في كل خطبة كانا يقومان ويُمَكَّنان من ذلك ؟ هذا قدح في النبي ( وفي سائر المسلمين ، إذ يمكِّنون اثنين دائما يقومان ولا يحضران الخطبة ولا الجمعة . وإن كانا يشهدان كل خطبة ، فما بالهما يمتنعان من سماع خطبة واحدة قبل أن يتكلم بها ؟.
وأما قوله :(( إنه بالغ في محاربة علي )) .
فلا ريب أنه اقتتل العسكران : عسكر علي ومعاوية بصفين ، ولم يكن معاوية ممن يختار الحرب إبتداء ، بل كان من أشد الناس حرصا على أن لا يكون قتال ، وكان غيره أحرص على القتال منه .
(فصل)(173/335)
إذا تبين هذا فيقال : قول الرافضة من أفسد الأقوال وأشدها تناقضا ؛ فإنهم يعظّمون الأمر على من قاتل عليًّا ، ويمدحون من قتل عثمان ، مع أن الذم والإثم لمن قتل عثمان أعظم من الذم والإثم لمن قتل عليًّا ، فإن عثمان كان خليفة اجتمع الناس عليه ، ولم يقتل مسلما ، وقد قتلوه لينخلع من الأمر ، فكان عذره في أن يستمر على ولايته أعظم من عذر عليّ في طلبه لطاعتهم له ، وصَبَرَ عثمان حتى قُتل مظلوما شهيدا من غير أن يدفع عن نفسه ، وعليّ بدأ بالقتال أصحاب معاوية ، ولم يكونوا يقاتلونه ، ولكن امتنع من بيعته .
وإن قيل : إن عثمان فعل أشياء أنكروها .
قيل : تلك الأشياء لم تبح خلعه ولا قتله ، وإن أباحت خلعه وقتله كان ما نقموه على عليّ أوْلى أن يبيح ترك مبايعته .
وأما قوله : (( الخلافة ثلاثون سنة )) ونحو ذلك . فهذه الأحاديث لم تكن مشهورة شهرة يعلمها مثل أولئك ؛ إنما هي من نقل الخاصة لا سيما وليست من أحاديث الصحيحين وغيرهما.وإذا كان عبد الملك بن مروان خَفِيَ عليه قول النبي ( لعائشة رضى الله عنها:(( لولا أن قومك حديثوعهد بالجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين))(1) ونحو ذلك حتى هدم ما فعله ابن الزبير ، ثم لما بلغه ذلك قال : وددت أنّي وليته من ذلك ما تولاه . مع أن حديث عائشة رضى الله عنها ثابت صحيح متفق على صحته عند أهل العلم ، فلأن يخفى على معاوية وأصحابه قوله : (( الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا )) بطريق الأوْلى ، مع أن هذا في أول خلافة علي ّ( لا يدل على عليّ عيناً ، وإنما عُلمت دلالته على ذلك لما مات ( ، مع أنه ليس نصّاً في إثبات خليفة معيّن . وهم يقولون :
إذا كان لا ينصفنا إما تأويلا منه وإما عجزا منه عن نصرتنا ، فليس علينا أن نبايع من نُظلم بولايته .
وأما قوله : (( إن معاوية قتل جمعاً كثيرا من خيار الصحابة )) .
__________
(1) الحديث في البخاري ج2 ص 146 ومسلم ج2 ص968.(173/336)
فيقال : الذين قُتلوا قُتلوا من الطائفتين ؛ قتل هؤلاء من هؤلاء ، وهؤلاء من هؤلاء . وأكثر الذين كانوا يختارون القتال من الطائفتين لم يكونوا يطيعون لا عليّاً ولا معاوية ، وكان عليّ ومعاوية رضى الله عنهمما أطلب لكف الدماء من أكثر المقتتلين ، لكن غُلبا فيما وقع .والفتنة إذا ثارت عجز الحكماء عن إطفاء نارها ، وكان في العسكرين مثل الأشتر النخعي ، وهاشم بن عُتبة المرقال ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وأبي الأعور السلمى،ونحوهم من المحرضين على القتال : قوم ينتصرون لعثمان غاية الانتصار ، وقوم ينفِّرون عنه ، وقوم ينتصرون لعليّ وقوم ينفِّرون عنه .
وأما ما ذكره من لعن عليّ ، فإن التلاعن وقع من الطائفتين كما وقعت المحاربة ، وكان هؤلاء يلعنون رؤوس هؤلاء في دعائهم ، وهؤلاء يلعنون رؤوس هؤلاء في دعائهم . وقيل : إن كل طائفة كانت تقنت على الأخرى . والقتال باليد أعظم من التلاعن باللسان .
ثم من العجب أن الرافضة تنكر سب عليّ ، وهم يسبّون أبا بكر وعمر وعثمان ويكفِّرونهم ومن والاهم . ومعاوية ( وأصحابه ما كانوا يكفِّرون عليًّا، وإنما يكفِّره الخوارج المارقون ، والرافضة شر منهم .
ولا ريب أنه لا يجوز سب أحد من الصحابة : لا عليّ ولا عثمان ولا غيرهما ،ومن سب أبا بكر وعمر وعثمان فهو أعظم إثما ممن سب عليًّا ، وإن كان متأولا فتأويله أفسد من تأويل من سب عليًّا .
وأما قوله : (( إن معاوية سمّ الحسن )).
فهذا مما ذكره بعض الناس ، ولم يثبت ذلك ببيِّنة شرعية ، أو إقرار معتبر ، ولا بنقل يُجزم به . وهذا مما لا يمكن العلم به ، فالقول به قول بلا علم .
وأما قوله : (( وقتل ابنه يزيد مولانا الحسين ونهب نساءه )) .(173/337)
فيقال : إن يزيد لم يأمر بقتل الحسين باتفاق أهل النقل ، ولكن كتب إلى ابن زياد أن يمنعه عن ولاية العراق . والحسين( كان يظن أن أهل العراق ينصرونه ويفون له بما كتبوا إليه ، فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل ، فلما قتلوا مسلما وغدروا به وبايعوا ابن زياد ، أراد الرجوع فأدركته السرية الظالمة ،فطلب أن يذهب إلى يزيد،أو يذهب إلى الثغر،أو يرجع إلى بلده ، فلم يمكّنوه من شيء من ذلك حتى يستأسر لهم ، فامتنع ، فقاتلوه حتى قُتل مظلوما( ، ولما بلغ ذلك يزيد أظهر التوجّع على ذلك ، وظهر البكاء في داره ، ولم يسب له حريما أصلا ، بل أكرم أهل بيته ، وأجازهم حتى ردّهم إلى بلدهم .
وأما قوله : ((وكسر أبوه ثنيّة النبي (، وأكلت أمّه كبد حمزة عم النبي ()) .
فلا ريب أن أبا سفيان بن حرب كان قائد المشركين يوم أُحُد ، وكُسرت ذلك اليوم ثنيّة النبي (، كسرها بعض المشركين . لكن لم يقل أحد : إن أبا سفيان باشر ذلك ، وإنما كسرها عُتبة بن أبي وقاص، وأخذت هند كبد حمزة فلاكتها ، فلم تستطع أن تبلعها فلفظتها .
وكان هذا قبل إسلامهم ، ثم بعد ذلك أسلموا وحسن إسلامهم وإسلام هند ، وكان النبي ( يكرمها ، والإسلام يَجُبٌّ ما قبله ، وقد قال الله تعالى :
{ قُلْ ِللذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَر لَهُم مَا قَدْ سَلَفَ } (1) .
(فصل )
قال الرافضي : (( وسمّوا خالد بن الوليد سيف الله عناداً لأمير المؤمنين ، الذي هو أحق بهذا الاسم ، حيث قتل بسيفه الكفّار)) .
__________
(1) الآية 38 من سورة الأنفال .(173/338)
فيقال : أما تسمية خالد بن الوليد بسيف الله فليس هو مختصا به ، بل هو (( سيف من سيوف الله سلَّه الله على المشركين ))(1) هكذا جاء في الحديث عن النبي (. والنبي (هو أول من سمّاه بهذا الاسم ، كما ثبت في صحيح البخاري من حديث أيوب السختياني ، عن حميد بن هلال ، عن أنس بن مالك( أن النبي ( نَعَى زيدا و جعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيه خبرهم، فقال : (( أخذ الراية زيد فأُصيب ، ثم أخذها جعفر فأُصيب ، ثم أخذها ابن رواحة فأُصيب وعيناه تذرفان، حتى أخذها سيف من سيوف الله خالد حتى فتح الله عليهم ))(2).
وأما قوله : (( عليّ أحق بهذا الاسم )).
فيقال : أولا : من الذي نازع في ذلك ؟ ومن قال : إن عليًّا لم يكن سيفا من سيوف الله وقول النبي ( الذي ثبت في الصحيح يدل على أن لله سيوفا متعددة ، ولا ريب أن عليًّا من أعظمها . وما في المسلمين من يفضِّل خالدا على عليّ ،حتى يقال : إنهم جعلوا هذا مختصًّا بخالد . والتسمية بذلك وقعت من النبي ( في الحديث الصحيح ، فهو (الذي قال : إن خالدا سيف من سيوف الله.
ثم يقال : ثانيا : عليّ أجلّ قدرا من خالد ، وأجلّ من أن تجعل فضيلته أنه سيف من سيوف الله ؛ فإن عليًّا له من العلم والبيان والدين والإيمان والسابقة ما هو به أعظم من أن تُجعل فضيلته أنه سيف من سيوف الله ؛ فإن السيف خاصته القتال ،وعليّ كان القتال أحد فضائله ؛ بخلاف خالد فإنه كان هو فضيلته التي تميّز بها على غيره ،لم يتقدم بسابقة ولا كثرة علم ولا عظيم زهد ، وإنما تقدم بالقتال ؛ فلهذا عبّر عن خالد بأنه سيف من سيوف الله .
وقوله : (( إن عليّا قتل بسيفه الكفار )) .
__________
(1) أخرجه أحمد . انظر المسند ج1 ص 173 طبعة المعارف .
(2) البخاري : ج5 ص27 والمسند ج3 ص113.(173/339)
فلا ريب أنه لم يقتل إلا بعض الكفّار .وكذلك سائر المشهورين بالقتال من الصحابة كعمر والزبير وحمزة والمقداد وأبي طلحة والبراء بن مالك وغيرهم رضى الله عنهم ، ما منهم من أحد إلا قتل بسيفه طائفة من الكفّار.والبراء بن مالك قتل مائة رجل مبارزة ، غير من شَرَكَ في دمه .
وأما قوله : (( وقال فيه رسول الله (: عليّ سيف الله وسهم الله )).
فهذا الحديث لا يُعرف في شيء من كتب الحديث ، ولا له إسناد معروف ، ومعناه باطل ؛ فإن عليًّا ليس هو وحده سيف الله وسهمه . وهذه العبارة يقتضي ظاهرها الحصر.
وكذلك ما نقل عن عليّ( أنه قال على المنبر : (( أنا سيف الله على أعدائه ورحمته لأوليائه )) .
فهذا لا إسناد له ، ولا يُعرف له صحة . لكن إن كان قاله فمعناه صحيح ، وهو قدر مشترك بينه وبين أمثاله .
وأما قوله : (( وخالد لم يزل عدواً لرسول الله ( مكذِّبا له )) .
فهذا كان قبل إسلامه ، كما كان الصحابة كلهم مكذِّبين له قبل الإسلام، من بني هاشم وغير بني هاشم ، مثل أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وأخيه ربيعة ، وحمزة عمه ، وعقيل ،وغيره .
وقوله : (( وبعثة النبي ( إلى بني جَذِيمة ليأخذ منهم الصدقات ، فخانه وخالفه على أمره وقتل المسلمين ، فقام النبي ( خطيبا بالإنكار عليه رافعا يديه إلى السماء حتى شوهد بياض إبطيه، وهو يقول : (( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد )) ثم أنفذ إليه بأمير المؤمنين لتلافى فارطه ، وأمره أن يسترضى القوم من فعله )) .(173/340)
فيقال : هذا النقل فيه من الجهل والتحريف ما لا يخفى على من يعلم السيرة ؛ فإن النبي (أرسله إليهم بعد فتح مكة ليسلموا ، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا ، فقالوا : صبأنا صبأنا ، فلم يقبل ذلك منهم،وقال: إن هذا ليس بإسلام ، فقتلهم ، فأنكر ذلك عليه من معه من أعيان الصحابة ، كسالم مولى أبي حذيفة ، وعبد الله بن عمر ، وغيرهما . ولما بلغ ذلك النبي (رفع يديه إلى السماء وقال : (( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد )) . لأنه خاف أن يطالبه الله بما جرى عليهم من العدوان . وقد قال تعالى : { َفإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } (1)، ثم أرسل عليًّا ،وأرسل معه مالا ، فأعطاهم نصف الديات ، وضمن لهم ما تلف حتى مِيلَغَة الكلب ، ودفع إليهم ما بقي احتياطا لئلا يكون بقي شيء لم يعلم به .
ومع هذا فالنبي صلى الله لم يعزل خالدا عن الإمارة ، بل ما زال يؤمّره ويقدّمه ، لأن الأمير إذا جرى منه خطأ أو ذنب أُمر بالرجوع عن ذلك، وأُقرّ على ولايته ، ولم يكن خالدا معانداً للنبي (، بل كان مطيعا له ، ولكن لم يكن في الفقه والدين بمنزلة غيره ، فخفى عليه حكم هذه القضية .
ويُقال : إنه كان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، وكان ذلك مما حرّكه على قتلهم .وعليّ كان رسولا في ذلك .
وأما قوله : (( إنه أمره أن يسترضى القوم من فعله )) .
فكلامُ جاهل ؛ فإنما أرسله لإنصافهم وضمان ما تلف لهم ، لا لمجرد الاسترضاء .
وكذلك قوله عن خالد : (( إنه خانه وخالف أمره وقتل المسلمين )).
كذب على خالد ؛فإن خالدا لم يتعمد خيانة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مخالفة أمره ، ولا قتل من هو مسلم معصوم عنده ، ولكنه أخطأ كما أخطأ أسامة بن زيد في الذي قتله بعد أن قال : لا إله إلا الله ، وقتل السرية لصاحب الغنَيمْةَ الذي قال : أنا مسلم ، فقتلوه وأخذوا غنمه .
(فصل)
__________
(1) الآية 216 من سورة الشعراء .(173/341)
قال الرافضي : (( ولما قُبض النبي ( وأنفذه أبو بكر لقتال أهل اليمامة قتل منهم ألفا ومائتي نفر مع تظاهرهم بالإسلام ، وقتل مالك بن نويرة صبراً وهو مسلم ، وعرَّس بامرأته ، وسمّوا بني حنيفة أهل الردة لأنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر لأنهم لم يعتقدوا إمامته ، واستحلّ دماءهم وأموالهم ونساءهم حتى أنكر عمر عليه ، فسمّوا مانع الزكاة مرتداً ، ولم يسمّوا من استحلّ دماء المسلمين ومحاربة أمير المؤمنين مرتداً ، مع أنهم سمعوا قول النبي (: (( يا عليّ حربك حربي وسلمك سلمي ، ومحارب رسول الله (كافر بالإجماع )) .
والجواب بعد أن يقال : الله أكبر على هؤلاء المرتدين المفترين ، أتباع المرتدّين الذين برزوا بمعاداة الله ورسوله وكتابه ودينه ، ومرقوا من الإسلام ونبذوه وراء ظهورهم ، وشاقّوا الله ورسوله وعباده المؤمنين ، وتولوا أهل الردة والشقاق ، فإن هذا الفصل وأمثاله من كلامهم يحقق أن هؤلاء القوم المتعصبين على الصدّيق ( وحزبه ، من جنس المرتدّين الكفار ، كالمرتدين الذين قاتلهم الصديق ( .(173/342)
وذلك أن أهل اليمامة هم بنوا حنيفة الذين كانوا قد آمنوا بمسيلمة الكذاب ، الذي ادّعى النبوة في حياة النبي (، وكان قد قدم المدينة وأظهر الإسلام ، وقال : إن جعل محمد لي الأمر من بعده آمنت به . ثم لما صار إلى اليمامة ادّعى أنه شريك النبي ( في النبوّة، وأن النبي ( صدّقه على ذلك ، وشهد له الرَجَّال بن عُنْفُوة . وكان قد صنّف قرآنا يقول فيه : (( والطاحنات طحنا ، فالعاجنات عجنا ، فالخابزات خبزا ، إهالة وسمنا ، إن الأرض بيننا و بين قريش نصفين و لكن قريش قوم لا يعدلون )) . و منه قوله لعنه الله : (( يا ضفدع بنت ضفدعين ، نقّي كم تنقّين ، لا الماء تكدّرين . ولا الشارب تمنعين . رأسك في الماء وذنبك في الطين )) . ومنه قوله لعنه الله : (( الفيل وما أدراك ما الفيل ، له زلوم طويل ، إن ذلك من خلق ربنا الجليل )) ونحو ذلك من الهذيان السمج الذي قال فيه الصديق رضي الله عنه لقومه لما قرؤوه عليه : (( ويلكم أين يذهب بعقولكم ، إن هذا كلام لم يخرج من إله )) .
وكان هذا الكذّاب قد كتب للنبي (: (( من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله. أما بعد فإني قد أُشركت في الأمر معك )) . فكتب إليه رسول الله (: (( من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب )) . فلما توفي رسول الله ( بعث إليه أبو بكر خالد بن الوليد فقاتله بمن معه من المسلمين ، بعد أن قاتل خالد بن الوليد طليحة الأسديّ ، الذي كان أيضا قد ادّعى النبوة ، واتبعه طوائف من أهل نجد ، فلما نصر الله المؤمنين على هؤلاء وهزموهم ، وقُتل ذلك اليوم عُكاشة بن محصن الأسدي ، وأسلم بعد ذلك طليحة الأسدي هذا ، ذهبوا بعد ذلك إلى مسيلمة الكذّاب باليمامة ، ولقى المؤمنون في حربه شدة عظيمة ، وقتل في حربه طائفة من خيار الصحابة مثل زيد بن الخطاب ، وثابت بن قيس بن الشمّاس ، وأُسيد بن حضير وغيرهم .(173/343)
وفي الجملة فأمر مسيلمة الكذّاب وادعاؤه النبوة واتّباع بني حنيفة له باليمامة ، وقتال الصدّيق لهم على ذلك ، أمر متواتر مشهور ، قد علمه الخاص والعام ، كتواتر أمثاله . وليس هذا من العلم الذي تفرّد به الخاصّة ، بل علم الناس بذلك أظهر من علمهم بقتال الجمل وصفِّين ، فقد ذُكر عن بعض أهل الكلام أنه أنكر الجمل وصفِّين ، وهذا الإنكار – وإن كان باطلا – فلم نعلم أحدا أنكر قتال أهل اليمامة ، وأن مسيلمة الكذاب ادّعى النبوة ، وأنهم قاتلوه على ذلك .
لكن هؤلاء الرافضة من جحدهم لهذا وجهلهم به بمنزلة إنكارهم لكون أبي بكر وعمر دفنا عند النبي (، وإنكارهم لموالاة أبي بكر وعمر للنبي (، ودعواهم أنه نصَّ على عليّ بالخلافة . بل منهم من ينكر أن تكون زينب ورقيَّة وأم كلثوم من بنات النبي (، ويقولون : إنهن لخديجة من زوجها الذي كان كافرا قبل النبي (.
ومنهم من يقول : إن عمر غصب بنت عليّ حتى زوّجه بها ، وأنه تزوج غصباً في الإسلام . ومنهم من يقول : إنهم بعجوا بطن فاطمة حتى أُسقطت ، وهدموا سقف بيتها على من فيه ، وأمثال هذه الأكاذيب التي يعلم من له أدنى علم ومعرفة أنها كذب ، فهم دائما يعمدون إلى الأمور المعلومة المتواترة ينكرونها ، وإلى الأمور المعدومة التي لا حقيقة لها يثبتونها . فلهم أوفر نصيب من قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ } (1) ، فهم يفترون الكذب ويكذّبون بالحق ، وهذا حال المرتدين .
وهم يدّعون أن أبا بكر وعمر ومن اتّبعهما ارتدّوا عن الإسلام . وقد علم الخاص والعام أن أبا بكر هو الذي قاتل المرتدّين ، فإذا كانوا يدّعون أن أهل اليمامة مظلومون قُتلوا بغير حق ، وكانوا منكرين لقتال أولئك متأوّلين لهم ، كان هذا مما يحقق أن هؤلاء الخلف تبع لهؤلاء السلف ، وأن الصدّيق وأتباعه يقاتلون المرتدّين في كل زمان.
__________
(1) الآية 68 من سورة العنكبوت .(173/344)
وقوله : (( إنهم سمّوا بني حنيفة مرتدين ، لأنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر )) .
فهذا من أظهر الكذب وأبْيَنه ؛ فإنه إنما قاتل بني حنيفة لكونهم آمنوا بمسيلمة الكذَّاب ، واعتقدوا نبوّته . وأما مانعوا الزكاة فكانوا قوما آخرين غير بني حنيفة . وهؤلاء كان قد وقع لبعض الصحابة شبهة في جواز قتالهم . وأما بنو حنيفة فلم يتوقف أحد في وجوب قتالهم . وأما مانعوا الزكاة فإن عمر بن الخطاب ( قال: يا خليفة رسول الله كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله (: (( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقّها وحسابهم على الله )) . فقال أبو بكر : ألم يقل : (( إلا بحقها )) فإن الزكاة من حقها . والله لو منعوني عَنَاقا أو عُقالا كانوا يؤدّونه إلى رسول الله ( لقاتلهم عليه ))(1).
وهؤلاء لم يقاتلوهم لكونهم لم يؤدوها إلى الصدّيق ؛ فإنهم لو أعطوها بأنفسهم لمستحقيها ولم يؤدوها إليه لم يقاتلهم . هذا قول جمهور العلماء ، كأبي حنيفة وأحمد وغيرهما .وقالوا : إذا قالوا : نحن نؤديها بأنفسنا ولا ندفعها إلى الإمام ، لم يكن له قتالهم . فإن الصدّيق ( لم يقاتل أحداً على طاعته ، ولا ألزم أحدا بمبايعته . ولهذا لما تخلّف عن بيعته سعد لم يكرهه على ذلك .
فقول القائل : (( سمّوا بني حنيفة أهل الردة لأنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر ، لأنهم لم يعتقدوا إمامته )) من أظهر الكذب والفرية . وكذلك قوله : (( إن عمر أنكر قتال بني حنيفة )) .
وأما قوله : (( ولم يسمّوا من استحل دماء المسلمين ، ومحاربة أمير المؤمنين ، مرتداً ، مع أنهم سمعوا قول النبي (: (( يا عليّ حربك حربي وسلمك سلمي ومحارب رسول الله (كافر بالإجماع )) .
__________
(1) البخاري ج 9 ص93 ومسلم ج1 ص51 .(173/345)