الرجل الثاني في الفضل والتقوى من أسرة رسول الله هو حسن المثنى بن الإمام الحسن المجتبى رضي الله عنه . نقل عنه في ص 001 من كتاب دراسة في نصوص الإمامة أنه قال : ( لو أراد النبي ^ أن يخلف علي لقال أيها الناس هذا ولي أمري والقائم عليكم بعدي ... إلى أن يقول ... أقسم بالله سبحانه أن الله تعالى لو آثر علياً لأجل هذا الأمر ولم يقدم علي كرم الله وجهه لكان أعظم الناس خطأً ) ولم يرد في أي حديث أن رسول الله ^ قد قال : علي خليفتي بعد وفاتي ، مع أن الفصيح عليه أن يتكلم بالكلام الفصيح الواضح الذي يفهمه جميع الناس ، لا أن يمتدح علياً بشكل لا يفهم المخاطبون منه انحصار الخلافة فيه ، وبعدها يأتي أهل العجم بعد مئات السنين ليقولوا إن علياً هو المقصود .
أما قوله : ( لكان أعظم الناس ) يعني كان واجباً على علي أن لا يجلس في بيته ويُقدم منذ الساعة الأولى بكل ما أوتي من القوة لا أن يقول طبقاً لنهج البلاغة الخطبة رقم 502 ( والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية إربة ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها ) وقال في الخطبة رقم 022 ( بسطتم يدي فكففتها ومددتموها فقبضتها ... حتى انقطعت النعل وسقط الرداء ووطئ الضعيف ) . وقال في الخطبة رقم 19 ( دعوني والتمسوا غيري .. وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً ) وقال في الخطبة رقم 731 : ( تقولون البيعة البيعة فقبضت كفي فبسطتموها ) وقال في الرسالة رقم 1 : ( بايعني الناس غير مستكرهين ولا مجبرين بل طائعين مخيرين ) .
وقال في الرسالة رقم 45 : ( إني لم أرد الناس حتى أرادوني ولم أبايعهم حتى بايعوني ) وأمثال هذه الكلمات كثيرة في نهج البلاغة ، إذن لو أن الله عينه فإنه لا يستطيع أن يتبرأ من الخلافة بكل هذا الكلام .(154/445)
ولقد تبرأ من الخلافة إلى درجة أنه كان يقول : ( هذا ماء آجن ولقمة يغص بها آكلها ) بناءً على هذا لو أوجب الله عليه الحكم لم يستطع إظهار أمور كهذه ، والعجب أنه لم يدع في مكان ما أنّه الإمام المنصوص ، غير أنه بعد قرنين من الزمان أو ثلاثة جاء صانعوا النصوص وادعوا له ذلك وأصبحوا أحرص على إمامته من الإمام نفسه .
الثالث : كتبت في تفسير الفرات ص 181 طبع نجف أن أحمد بن قاسم روى عن أبي خالد الواسطي أن أبا هاشم لما سمي بقاسم بن كثير سأل زيد بن علي بن الحسين عن الإمام المفترض الطاعة ؟! فأجابه بأمور إلى أن يقول : والله لم يدع أحدنا سواء من أبناء الحسن رضي الله عنهم أو من أبناء الحسين أن فينا إمام مفترض الطاعة علينا أنفسنا أو على جميع المسلمين ، والله لم يدع أبي علي بن الحسين طوال أيامي معه ادعاءً كهذا حتى قبض الله روحه ، ولم يدع أخي الإمام الباقر طوال ما كنت معه ادعاءً كهذا حتى قبض الله روحه لكي لا يستطيع أحد أن يدعي مقاماً كهذا لأخي بعده ، لا والله ولكنكم فئة تكذبون ، يا أبا هاشم إن الإمام فينا الذي وجبت طاعته علينا وعلى جميع المسلمين هو الذي يخرج بسيفه ويدعو الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله ^ ويغلب بهذا القصد ويجري أحكامه ، وأما الذي يتكئ على فراشه وهو محكوم بأحكام الآخرين ويجري عليه أحكام الجائرين كيف يكون إماماً مفروضاً ومفروض الطاعة على جميع المسلمين ، ألا يا أبا هاشم ، نحن لا نعرف إماماً كهذا .(154/446)
يقول المؤلف : مع هذا المنطق الحق يمكن القضاء على النفاق القائم بين المسلمين ، ويمكن التغلب على المشاكل أما الإساءة إلى الفرق الإسلامية فهذا لا يحل أي إشكال بل إنه يزيد الأمور سوءً ، صحيح أن علياً كان أعلم الصحابة وأفضلهم(1) ولكنه لم يعرف نفسه بالإمام المنصوص وهو في بعض كلماته اعتبر نفسه أحق بالخلافة من غيره وقال : ( لقد علمتم إني أحق بها من غيري ) أما أن يكون غيره من الغاصبين فلم يدع ادعاءً كهذا قط ، ويستفاد من خطب نهج البلاغة أن سيدنا الأمير اعتبر حكم الخلفاء صحيحاً وكان مؤيداً لهم ، فالحقيقة هي أن علياً وأبناءه العلماء كزيد والإمام الباقر ومحمد بن عبدالله النفس الزكية كانوا أئمة ومرشدين ومرجعاً للحلال والحرام ... سواء كان ذلك في زمن الخلفاء أم بعدهم ، ولم ينكر أحد فضلهم وعلمهم ، حتى قال الخليفة الثاني من باب الإنصاف : لولا علي لهلك عمر .
وهذا مقام لا يمكن أن يغصب ولكن الإمام بمعنى الحاكم المنصوص لم يكن قط .
الرابع : إن سيدنا أمير المؤمنين رضي الله عنه كما ذكر في التواريخ المعتبرة كمروج الذهب ج2 ص 24 والبداية والنهاية ص 823 أن بعض أصحابه سألوه حين موته هل نبايع الحسن بعدك ؟ فقال : لا آمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر ، يعني أنتم مختارون ، ولمّا سأله أهل الكوفة قبل ضربه ! ألا تستخلف . فأجابهم : لا ، ولكن أترككم كما ترككم رسول الله ، حيث تختارون أنتم من تريدونه ، ولم يقل : جعلت ابني ولياً للعهد ، بل إن معاوية هو الذي
جعل يزيد خليفة له ، وكذلك لما توفي جنابه وأخبر سيدنا الحسن رضي الله عنه بوفاته ، قام ابن عباس وقال : ( إن أمير المؤمنين توفي وقد ترك لكم خلفاً فإن أجبتم خرج إليكم وإن كرهتم فلا أحد على أحد ) فبكى الناس وقالوا : بل يخرج إلينا .(154/447)
إذن تمت البيعة للإمام الحسن باختيار الناس له لا بوصية سيدنا الأمير له ، ولا بنص من الله ورسوله وإذا كان ثمة نص من الله كان على سيدنا الأمير رضي الله عنه أن يقوله ولا يكتمه ، يتبين من هذا أن جنابه لم يسمع بشيء من هذا وكذلك لم يسمع أحد من أصحابه نصاً كهذا ولم يتكلموا عنه ، وقال جنابه أيضاً في الرسالة السادسة من نهج البلاغة : ( إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان لله رضى فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه ، فإن أبى فقاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين ) .
ونقل عنه أيضاً أنه قال : ( فإن بيعتي لا تكون إلا عن رضى المسلمين ) وقال أيضاً في أول يوم خلافته وبيعته ( أيها الناس عن ملأٍ وأُذُنٍ ، أمركم هذا ليس لأحد حق إلا من أمرتم ) وقال في الخطبة رقم 43 من نهج البلاغة : ( وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة ) وأيضاً نقل في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد أنه جنابه رضي الله عنه قال : ( وإن الله عالم من فوق سمائه وعرشه أني كنت كارهاً للولاية على أمة محمد ^ حتى أجمع رأيكم على ذلك ) . وورد في كتب التاريخ والحديث أن الناس عندما أرادوا بيعته بعد مقتل عثمان رضي الله عنه نهاهم : ( فقال : لا تفعلوا فلأن أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً ) .(154/448)
الخامس : كما ذكر في التاريخ الكامل لابن الأثير ج 2 ص 712 . عندما كان رسول الله ^ في مرضه الأخير واحتضاره أخذ عمه العباس يد علي وقال : أنا أرى الموت في جبهة رسول الله ^ اذهب إليه واسأله فيمن تكون الولاية بعدكم ؟ وإن كان هذا الأمر فينا فنعلم وإن كان في غيرنا أوصى به إلينا . قال سيدنا علي رضي الله عنه : ( لئن سألناها رسول الله ^ فمنعناها لا يعطناها الناس أبداً ، والله لا أسألها رسول الله ) فيتبين من ذلك أن لا علي ولا العباس قد اطلعا على هذه النصوص . ( التي تدل على أن الإمامة من عند الله ) !!.
السادس : أن سيدنا الإمام الحسين رضي الله عنه لم يقم حتى بايعه أهل الكوفة وكثير من البلاد الأخرى مع نائبه وحين دعوه لم يستند بإمامته إلى هذه النصوص قط ، وفي جميع خطبه واحتجاجاته التي ألقاها بين الناس لم يفتح فاه مرة بالنص على إمامته أو إمامه أبيه ، كما ذكر في المجلد 44 من البحار ص 433 ، بعد إرسال رسائل متوالية إليه رضي الله عنه حيث وصل عددها إلى اثنى عشر ألف رسالة فأجاب أهل الكوفة بما يلي : ( من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين وأنا باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل فإن كتب إلي بأنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجى والفضل على مثل ما قدّمت به رسلكم وقرأت في كتبكم فإني أَقْدِم إليكم إن شاء الله ... إلى النهاية ) .(154/449)
السابع : لم يسمع سيدنا محمد بن الحنفية رضي الله عنه ابن أمير المؤمنين بهذه النصوص ، لأنه باتفاق التواريخ كما رووا في هذا الكافي وفي كتاب إعلام الورى للطبرسي ص 251 وفي كتاب الاحتجاج عن أبي عبيدة وزرارة عن سيدنا الباقر رضي الله عنه أنه قال : ( لما قتل الحسين جاء محمد بن الحنفية إلى علي بن الحسين فخلا به وقال قد قتل أبوك ولم يوصِ وأنا عمك وصنو أبيك وولادتي من علي وأنا في سني وقدمي أحق بها منك ) . والآن إذا كان محمد بن الحنفية ذلك السيد المبجل وممدوح أهل البيت إذا كان يعرف هذه النصوص فلم يتكلم بكلام كهذا .
ولو أن الغلاة قد زادوا في ذيل الخبر وأرادوا أن يستندوا بشهادة الحجر الأسود لإمامة علي بن الحسين ، فيجب القول إنه لم تكن هناك حاجة لشهادة الحجر الأسود مع وجود هذه النصوص بعد أن ذيل هذا الخبر الذي هو من صنع يد سياسة التفريق . ثم إن الكيسانية عدوه إماماً مدة مديدة .
الثامن : قيام السادات العلوية وبيعة الناس لهم ، ولو كانت هناك نصوص قد اطلع عليها المؤمنون لما قام السادات ولما بايعهم الناس . لماذا بايع أهل الكوفة الذين كانوا مدة مديدة تحت منبر علي مع زيد بن علي بن الحسين ، والعجب من صانعي النصوص ( أي الوضاعون ) مع أن مذهب زيد كان معلوماً وكان يقول أن شرط الإمامة هو القيام بالسيف مع هذا كذبوا عليه واختلقوا خبراً ، كما رووا في الكافي وكتاب كفاية الأثر :
أن جابراً جاء إلى الإمام لإقناع زيد ودرس معه النصوص ( نصوص الإمامة ) لحضرات الأئمة ، هذا مع العلم بأن زيداً ولد في عام 08هـ وتوفي جابر في عام 47هـ ، فلا زيد رأى جابر ولا جابر رآه ، وكيف يكون جابر قد رآه مع أنه كان ضريراً في أواخر عمره ، ولكن هؤلاء صانعي النصوص كانوا يعشقون اختلاق الأخبار مهما كانت مخالفة للتاريخ والواقع .(154/450)
التاسع : سيدنا النفس الزكية محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسين المجتبى الذي هو من كبار أسرة النبي قام للإمامة وبايعه أهل المدينة خاصة بنو هاشم والعلويون ، حتى ساعده سيدنا الصادق رضي الله عنه وكان ابناه موسى وعبدالله في ركابه طبقاً لما جاء في كتاب مقاتل الطالبيين وسائر الكتب ، وقام السيد المبجل عيسى بن زيد بن علي بن الحسين مع محمد بن عبدالله . وقال : من يتخلف عن بيعة محمد بن عبدالله أضرب رقبته ( ارجعوا إلى باب ما يفصل بين المحق والمبطل في الإمامة في هذا الكتاب الكافي ) ، وإن كانت هنالك نصوص لم تخف على هؤلاء الكرام الذين كانوا علماء بحق زهاد ولم يقوموا . والعجب هو أن هؤلاء صانعي النصوص ! ردوا للإمامة المنصوصة من عند الله عن حسين بن زيد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم الذي قام مع محمد بن عبدالله فيرجى الرجوع إلى كفاية الأثر ودراسة في نصوص الإمامة ص 061 ( وهو باللغة الفارسية ) .
العاشر : قام الشهيد المبجل حسين بن علي بن الحسين بن الحسن المجتبى ، شهيد الفخ الذي اعتبره جميع المحدثين ذا جلالة وفضيلة ومنهم الحاج شيخ عباس القمي في منتهى الآمال نقل عن سيدنا الجواد رضي الله عنه أنه قال : لم يرَ مقتلاً أعظم من الفخ لنا معشر أهل البيت بعد كربلاء ، والفخ واقعة على بعد فرسخ من مكة المكرمة حيث قام حسين بن علي للإمامة وحارب هناك مع بني العباس . وقتل مع كثير من السادات العلويين .
والآن ترى لو رأى هؤلاء الكرام هذه النصوص كيف قاموا للإمامة ؟!.(154/451)
ومن جملة السادات العلويين الذين قاموا في عصر الأئمة أنفسهم أو بايعوا أئمة غير الأئمة المنصوص عليهم ! السيد المبجل عبدالله بن الحسن بن الحسن المجتبى ، والآخر هو عبدالله بن محمد بن عبدالله بن الحسن الملقب بالأشقر الذي قام في بلاد الهند واستشهد ، والآخر علي بن محمد بن عبدالله المحض ، والآخر حسن بن محمد بن عبدالله المحض الذي استشهد في واقعة الفخ مع حسين بن علي ، والآخر إبراهيم بن عبدالله المحض حيث كان عالماً فاضلاً وقام للإمامة في البصرة واستشهد مع الخمري ، والآخر سيدنا يحيى بن عبدالله المحض الذي كان في واقعة الفخ مع حسين بن علي ثم ذهب إلى كيلان وديلم وقام للإمامة وبايعه الناس وقويت شوكته حيث خاف منه هارون الرشيد وآخر الأمر أمنه هارون الرشيد مع رسائله الكثيرة وأرسل له مائتي ألف دينار وأدّى قروض حسين بن علي شهيد الفخ ونقض هارون العهد في نهاية الأمر واستشهد بالمكر والحيلة ، وأخذ وهب بن وهب البختري رسالة أمانة في مجلس هارون ومزقها وأعطاه هارون في المقابل مليوناً وست مائة وألف درهم ، وجعله قاضياً . وقد قال أبو فراس الشاعر في ذم هارون الرشيد :
ويحيى هذا هو الذي روى في هذا الكافي في ( باب ما يفصل به بين المحق والمبطل ) أنه كتب إلى موسى بن جعفر رضي الله عنه ودعاه إلى إمامة نفسه بهذه العبارة : أما بعد فإني أوصي نفسي بتقوى الله وبها أوصيك فإنها وصية الله في الأولين ووصيته في الآخرين ، خير في من ورد علي من أعوان الله على دينه ونشر طاعته بما كان من ترحمك مع خذلانك وقد شاورتك في الدعوة للرضا من آل محمد ^ وقد احتجبها أبوك من قبلك وقديماً أوعيتم ما ليس لكم وبسطتم آمالكم إلى ما لم يعطكم الله فاستهويتم وأضللتم وأنا محذُرك ما حذر الله من نفسه .
ثم كما ورد في الكافي هذا في ص 763 ، أجابه الإمام موسى بن جعفر : ( أتاني كتابك تذكر فيه أني مدع وأبي من قبل وما سمعت ذلك مني ... إلى النهاية ) .(154/452)
المختصر أن جنابه أنكر وإن كان نصاً كتبه إليه ، بل علمه ذلك السيد المبجل نفسه ، فإذن ما قاله الوضاعون من أن الهدف من قيام السادات العلويين كان الدعوة إلى ما يرضي آل محمد يعني الأئمة الإثنى عشر يظهر كذبه بوضوح في هذا الحديث وأمثاله ، حيث أنهم قاموا لينشروا دين الله وليقوموا بالإمامة هم أنفسهم لا أن يدعو إلى غيرهم .
ومن جملة الذين قاموا للإمامة محمد بن جعفر الصادق في مكة المكرمة . بايعوه في الخلافة والإمامة ، وسموه أمير المؤمنين حيث أرسل هارون الرشيد علي بن موسى الرضا إليه ليطفئ نار الحرب بينه وبين محمد بن جعفر وقد امتنع عن ذلك بكل شجاعة وتهيأ للحرب ، والآخر سليمان بن عبدالله المحض الذي استشهد في الفخ مع حسين بن علي . وأيضاً إدريس ابن عبدالله المحض وقد كان هو الآخر أيضاً استشهد في الفخ مع حسين بن علي الشهيد وهرب بعدها إلى أفريقيا وذهب إلى مدينة فاس وطنجة وقام للإمامة ودعا الناس هنالك ليقبلوا إمامته وبايعوه ، وعظم ملكه ومدح رسول الله ^ في رواية ابن إدريس هذا وقال : ( عليكم بإدريس بن إدريس فإنّه نجيب أهل البيت وشُجاعهم ) .
والآخر هو أحمد بن عبدالله بن إبراهيم بن إسماعيل الديباج ، الذي خرج على المأمون بمعاونة أبو السرايا له . وقام للإمامة ورفع صوته وروى عن سيدنا الباقر أنه قال يستولي رجل من أهل البيت على الكوفة في عام 991 في شهر جمادي الأولى ويخطب على منبر الكوفة ، يباهي الله ملائكته به . وكذلك أناس آخرون قاموا للإمامة كعبدالله الأفطح بن الإمام الصادق رضي الله عنه ، وأحمد بن موسى الكاظم وزيد بن موسى وأمثالهم وإن كان هناك نص كان عليهم أن يعرفوه لا أن يعرفه عدد من الوضاعين الغلاة ولا يكون غيرهم على علم به .
الحادي عشر : من الذين لم يعلموا بهذه النصوص الإثنى عشرية الإمام الصادق رضي الله عنه الذي اختار ابنه اسماعيل للإمامة ولما توفي قال الإمام :(154/453)
حصل البداء من الله . وهذا الأمر واضح من أبواب الكافي ومن جملة ذلك . الخبر العاشر في باب الإشارة والنص على أبي محمد رضي الله عنه ، وعلى هذا فإن كان الإمام الصادق يعلم هذه النصوص فلم جعل إسماعيل إماماً ؟!.
الثاني عشر : ومن الذين لم يكن لهم علم بهذه النصوص سيدنا الهادي رضي الله عنه الذي اختار أبا جعفر السيد محمد للإمامة بعده ، ولما توفي جعل أبا محمد سيدنا الحسن إماماً ، كما أشير في الكافي إلى هذا الأمر ومر ذكره في باب الإشارة والنص على أبي محمد ، وإن كان سيدنا الهادي رضي الله عنه يعلم بهذه النصوص لم ينصب السيد محمداً للإمامة حتى يموت هو ، وعندها يقول الإمام حصل البداء .
الثالث عشر : ومن الذين لم يكن لهم علم بهذه النصوص ، سيدنا موسى بن جعفر رضي الله عنه كما ذكر في الخبر رقم 41 باب الإشارة والنص على أبي الحسن الرضاحيث لم يعلم موسى بن جعفر رضي الله عنهما من هو الإمام بعده ويقول : رأيت رسول الله ^ وعلي المرتضى رضي الله عنه في الرؤيا حيث قالا لي : أنت ذاهب وأحد أبنائك وصيك بعدك ، يقول سيدنا الكاظم رضي الله عنه رأيت جميع أبنائي في عالم الرؤيا وقلت لرسول الله ^ أي أبنائي وصيي ؟ : قال رسول الله ^ : ابنك علي وأراني علياً .
فتبين من هذه النصوص بوضوح أن الأئمة الإثنى عشر أنفسهم لم يكن لهم علم بهذه النصوص ولم يدعوا في أي مجلس أو محفل في حضرة عشرة من أصحابهم حيث يقول : إننا أئمة منصوص علينا من عند الله مع أننا ذكرنا في باب الإشارة والنص على أبي الحسن الرضا الذي مر في الكافي هذا ، أسماء مائة ونيف من أصحاب الأئمة ، حيث لم يعرف أحدهم أن الأئمة يجب أن يكونوا اثنى عشر إماماً حتى أنهم لم يعرفوا أسماء الأئمة وأشخاصهم بعد إمامهم المعاصر.. وهنا أيضاً نذكر أسماء عدد من خاصة الأئمة عليهم السلام ليعلم أن هذه النصوص المختلقة والموضوعة لم تكن في عصرهم بل وضعت بعد ذلك .(154/454)
خاصة أن أصحاب الأئمة لم يعلموا بهذه النصوص .
هنا نذكر أسماء عدد آخر من كبار خواص الأئمة :
الأول : أبو حمزة الثمالي ، واسمه ثابت بن دينار وقال الإمام الصادق رضي الله عنه إنه في عصره كسليمان ولقمان الحكيم ولم يكن يعرف من هو الإمام بعد الإمام الصادق ، وعندما سمع خبر وفاة الإمام الصادق وقف على قبر الأمير رضي الله عنه وقال لأعرابي بعد أن صاح صيحة وضرب يده بالأرض سائلاً هل سمعت أنه قد أوصى بشيء أو قد عين وصيه ؟!.
قال الأعرابي : وصى لابنه عبدالله وموسى ومنصور الدوانيقي . قال أبو حمزة : الحمد لله الذي لم يضلنا .
أما صانعو النصوص فقد نسبوا إليه حديث علي بن أبي حمزة البطائني الواقفي .
الثاني : مؤمن الطاق ، أعني أبا جعفر الأحول الذي كان من خاصة أصحاب الإمام الباقر والإمام الصادق والإمام الكاظم رضي الله عنهم . روى عن هشام بن سالم أنه قال : كنت ومؤمن الطاق في المدينة بعد وفاة الصادق وقد اجتمع حول عبدالله بن جعفر الصادق رضي الله عنه لإمامته حيث كان هو الابن الأكبر للإمام الصادق رضي الله عنه وسألناه مسائل لم يستطع الإجابة عليها ثم خرجنا من عنده في ضلال وحيرة وما عرفنا من نقصد وقلنا : إلى المرجئة ؟ إلى القدرية ؟ إلى الزيدية ؟ إلى المعتزلة ! إلى الخوارج ، ويرجى الرجوع إلى كتب الرجال ، والآن لو كانت هذه النصوص موجودة فلماذا لم يعلم بها علي أبي حمزة ومؤمن الطاق وتعتريهما الحيرة بعد وفاة الإمام .
الثالث : السيد هشام بن سالم الذي مضى ذكره في الرقم الثاني حيث كان من خاصة أصحاب الإمام الصادق وكان متحيراً بعد وفاته ، والعجب أنهم وضعوا إحدى نصوص الإثنى عشرية عن قوله ، يعني أنه عرف وما عرف معاً ، يعني كان متحيراً وغير متحير !!.(154/455)
الرابع : السيد زرارة بن أعين الذي هو من خاصة أصحاب الأئمة ويلتفت إليه الشيعة كثيراً نقل أن الإمام الصادق قال : إن هؤلاء الأربعة هم أحب الناس إلي أحياءً وأمواتاً نجباء ، أمناء الله على حلاله وحرامه لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة . هذا الشخص يعني زرارة لما سمع بوفاة الإمام الصادق وأن الناس مالوا إلى عبدالله ابنه الأكبر أرسل ابنه إلى المدينة ليتحقق ويتعلم من الإمام اللاحق ، ولما أحس بالاحتضار وأوشك عليه كان ابنه عبيد لم يرجع من المدينة فبحث عنه فقالوا له : لم يرجع بعد من المدينة فطلب القرآن وقال : يا إلهي أنا لا أدري من الإمام ، أنا أقبل بكل ما في هذا الكتاب وأقبل من يصدق هذا الكتاب . وقال ليس لي إمام إلا هذا الكتاب .
الخامس : محمد بن عبدالله الطيار الذي ذكر تحيره في كتب الرجال .
السادس : مفضل بن عمر .
السابع : أبو بصير الذي يهتم به الشيعة كثيراً وقد وجد الطريق بإرشاد هشام له بعد وفاة الإمام الصادق .
الثامن : أحمد بن محمد بن خالد البرقي الذي كان من المتحيرين من أصحاب الأئمة وذكر خبر تحيره في هذا الباب في الخبر الثاني .
التاسع : فيض بن المختار الذي ذكر تحيره في هذا الكافي في باب الإشارة والنص على أبي الحسن موسى .
العاشر : داود البرقي الذي ذكر تحيره في الباب المذكور .
تلك عشرة كاملة !!.
وموطن السؤال الآن : كيف أن هؤلاء الذين هم من خواص أصحاب الأئمة لم يكونوا على علم بالنصوص الواردة بشأن الأئمة الإثنى عشر ولم يسمعوا بها . ولكن في عصرنا أصبح ـ أي النص على الأئمة ـ من ضروريات المذهب تقليداً معروفاً عن الوضاعين الكذابين ، وكل من لا يعرف ذلك فيعد من الذين لا دين لهم . ولو كان هناك ثمة نص حقيقي لما قام الخلاف بين المذاهب الشيعية نفسها .(154/456)
واقرؤا إن شئتم كتاب فرق الشيعة الذي ألفه العالم الشيعي الكبير أبو محمد حسن بن موسى النوبختي وكتاب المقالات والفرق للباحث والمحقق الشيعي سعد بن عبدالله الأشعري ، ثم انظروا كيف وجد في عصر الأئمة أكثر من سبعين مذهباً وفرقة للشيعة ، فلو كان هناك نص ثابت لما وجدت كل هذه المذاهب .
إذن للوصول إلى الحق ومعرفة الحق من الباطل لا بد من الرجوع إلى الكتب التي تدعو إلى الوحدة الإسلامية ككتاب « الطريق إلى الوحدة الإسلامية » تأليف السيد مصطفى طباطائي .
[ باب : أصحاب الأئمة رضي الله عنهم ]
نحن حتى الآن ذكرنا شرح حال رواة الكافي من خلال رواياتهم ودراستنا لها ، وقد كانوا من أصحاب الأئمة أيضاً وأشرنا إلى أن بعض من كانوا حول الأئمة كانوا على درجة كبيرة من عدم الإيمان بحيث سعوا إلى تخريب الإسلام قدر ما استطاعوا في ظل اسم الإمام ، وباسم الإسلام أوجدوا عشرات المذاهب القائمة على الكفر والإشراك والخرافة ، وأوجدوا فرقاً متعددة ، ويجب العلم أن هؤلاء الرواة الذين أتوا ودسوا الشرك والكفر والخرافة في أصول الدين وخالفوا القرآن باسم الأئمة هم ذاتهم الذين رووا أموراً باسم الأئمة في الفروع وعلى هذا يجب دراسة الروايات المنقولة عنهم وإظهار المختلقات منها ، ومن أراد أن يطلع أكثر على أحوال أصحاب الأئمة وشرح حالهم فعليه أن يرجع إلى كتب التاريخ والرجال والحديث ويرجع إلى أقوال الأئمة أنفسهم حيث هم أنفسهم كانوا غير راضين عن أصحابهم كما قال الإمام الصادق بشأن المغيرة : ( إن المغيرة بن سعيد لعنه الله دس في كتب أصحاب أبي ( الإمام الباقر ) أحاديث لم يحدث بها أبي ، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا محمد ^ فإنا إذا حدثنا قلنا : قال الله تعالى وقال رسول الله ^ : ( ج2 من البحار باب ـ 92 ) .(154/457)
وروى في البحار أيضاً في الباب نفسه في الحديث رقم 36 عن الإمام الصادق أنه قال : ( كان المغيرة يتعمد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة فكان يدس فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي رضي الله عنه ثم يدفعها إلى أصحابه فيأمرهم أن يبثوها في الشيعة فكل ما كان في أصحاب أبي رضي الله عنه من الغلو فذاك مما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم ) .
أيضاً في الباب نفسه في الحديث 26 قال سيدنا الرضا رضي الله عنه : ( إن أبا الخطاب كذب على أبي عبدالله رضي الله عنه ، لعن الله أبا الخطاب وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتاب أصحاب أبي عبدالله رضي الله عنه فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن . فإنا إن تحدثنا تحدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة ، إنا عن الله ورسله نحدث ) ولا بد من العلم أن الوضع في الحديث بدأ منذ عصر رسول الله^ نفسه كما قال سيدنا الأمير رضي الله عنه في خطبة 102 من نهج البلاغة :
( ولقد كذب على رسول الله ^ على عهده حتى قام خطيباً فقال : من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ) وقال أيضاً الإمام الباقر رضي الله عنه في البحار ج2 باب 82 الحديث 41 ( يحدثون ويروون عنا مالم نقل تجنياً منهم لنا وكذباً منهم علينا وتقرباً إلى ولاتهم وقضاتهم بالزور والكذب وكان عظم ذلك وكثرته في زمن معاوية بعد موت الحسن رضي الله عنه ، وغير ذلك من أقوال الأئمة بشأن أصحابهم ومن كان يدور من حولهم ، وهذا أمر لا يتسع المجال لشرحه هنا .
لا بد من الذكر هنا أن أصحاب أمير المؤمنين كانوا أحسن من أصحاب سائر الأئمة يعني بالمقارنة بأصحاب سائر الأئمة ، كان أصحابه طيبون ، ومع ذلك صاح سيدنا الأمير رضي الله عنه من أصحابه أيضاً .(154/458)
وقال في نهج البلاغة في الخطبة رقم 611 : ( ولهمّتْ كل امرءٍ منكم نفسه لا يلتفت إلى غيرها ولكنكم نسيتم ما ذكرتم وآمنتم ما حذرتكم فتاه عنكم رأيكم وتشتت عليكم أمركم ولوددت أن الله فرق بيني وبينكم ) .
وقال في الخطبة رقم 711 لأصحابه : ( فلا أموال بذلتموها ولا أنفس خاطرتم بها للذي خلقها تكرمون بالله على عباده ولا تكرمون الله في عباده ) .
وقال في الخطبة رقم 911 لهم : ( ما بالكم لا سددتم لرشد ولا هديتم لقصد ؟.. والله لولا رجائي الشهادة عند لقائي العدو لو قد حُمَّ لي لقاؤه لقربت ركابي ثم شخصت عنكم فلا أطلبكم ما اختلف جنوب وشمال ) ( طعانين عيابين حيادين رواغين إنه لا غناء في كثرة عددكم مع قلة اجتماع قلوبكم ) .
وقال في الخطبة رقم 321 : ( وكأني أنظر إليكم تَكِشّون كشيش الضِباب ولا تأخذون حقاً ولا تمنعون ضيماً ) وقال في الخطبة 521 : ( وما أنتم بوثيقة يعلق بها ولا زوافر عز يعتصم إليها لبئس حشاش نار ا لحرب أنتم ، أف لكم لقد لقيت منكم بَرْحاً .. فلا أحرار صدق عند النداء ولا إخوان ثقة عند النجاء ) .
وقال في الخطبة رقم 131 لهؤلاء : ( أظأركم على الحق وأنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد ) .
ورجح أصحاب معاوية في الخطبة رقم 52 على أصحابه وقال : ( إن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم .. وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم ... اللهم إني قد مللتهم وملوني وسئمتهم وسئموني فأبدلني بهم خيراً منهم وأبدلهم بي شراً مني ) .(154/459)
وعاتب هؤلاء ( أصحابه ) في رقم خطبة 92 كلياً ، ومن جملة ذلك أنه قال : ( ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسهم الأخيب ) وعاتب عامة أصحابه في خطبة رقم 43 ومن جملة قوله ؛ ( ما أنتم إلا كإبل ضّل رعاتها ، فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر ) . وقال في الخطبة رقم 53 : ( فأبيتم علي إباء المخالفين الجفاة والمنابذين العصاة حتى ارتاب الناصح بنصحه ) . وقال في الخطبة رقم 93 : ( لا أباً لكم ما تنتظرون بنصركم ربكم ، أما دين يجمعكم ولا حمية تحمشكم ، أقوم فيكم مستصرخاً وأناديكم متغوثاً فلا تسمعون لي قولاً ، فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر وتثاقلتم تثاقل النضو الأدبَر ) .
وكم عاتبهم في الخطبة رقم 69 ومن جملة ذلك قوله : (لوددت والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم ... صم ذوو أسماع وبكم ذوو كلام وعمي ذوو أبصار ) . وقال في الخطبة رقم 321 : ( وقد اصطلحتم على الغل فيما بينكم ... إلخ ) وقال في الخطبة رقم 601 في فرارهم من حرب : ( وقد رأيت جولتكم وانحيازكم عن صفوفكم ) وقال في وصفهم في الخطبة رقم 701 : ( أيقاظاً نوماً وشهوداً غيباً وناظرة عمياء وسامعة صماء وناطقة بكماء ) .
وقال في الخطبة رقم 561 : ( لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل ) وقال في الخطبة رقم 971 : ( التي إذا أمرتُ لم تُطع وإذا دعوتُ لم تُجب إن أُمهِلتُم خِفتُم وإن حوربتم خِرتم ) وفي الخطبة رقم 991 : ( لقد كنت أمسي أميراً فأصبحت اليوم مأموراً وكنت أمس ناهياً فأصبحت اليوم منهياً ) .
وقال في الخطبة رقم 021 : ( أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي كناقش الشوكة بالشوكة وهو يعلم أن ضلعها معها ) وقال في ذمهم في الرسالة رقم 53 : ( فمنهم الآتي كارهاً ومنهم المُعتل كاذباً فوالله لولا طعمي عند لقائي عدوي في الشهادة وتوطيني نفسي على النية لأحببت أن لا أبقى مع هؤلاء يوماً واحداً ولا ألتقي بهم أبداً ) .(154/460)
وذمهم في الخطبة رقم رقم 352 في باب الحكم ( والله ما تكفونني أنفسكم فكيف تكفونني غيركم إن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها فإني اليوم لأشكو حيف رعيتي كأنني المقود وهم القادة أو الموزوع وهم الوزعة ) وسائر كلماته رضي الله عنه بشأن أصحابه وحتى قادته وموظفي حكومته ، حيث كانوا أحسن أصحابه وخاصتهم هم الذين خانوا على الغالب ، كابن عباس ومصقلة بن هبيرة وزياد بن أبيه وكميل بن زياد وأبو موسى الأشعري ومنذر بن جارود(1) وأمثالهم الذين ورد ذكرهم في نهج البلاغة في قسم كتبه رضي الله عنه ، مع أنه كان بيده الشريفة السيف والجلد لم يستطع أن يصلح أصحابه ويوصلهم إلى الحق ، وأما أصحاب سائر الأئمة رضي الله عنهم الذين كانوا بلا شك أسوأ حالاً من أصحاب سيدنا الأمير ، وربما إحدى العلل في ذلك كانت عدم وجود قدرة بيد سائر الأئمة وكانوا محكومين بالحكم الجائر ، ولذا فعل أصحابهم ما تراءى لهم ووضعوا ما مالوا إليه .
[ باب : في أنه إذا قيل في الرجل شيء لم يكن فيه
وكان في ولد ولده فإنه هو الذي قيل فيه ]
روى في هذا الباب ثلاثة أحاديث . عد المجلسي الثاني منها مجهولاً والثالث ضعيفاً ، ونحن نقول بعدم اعتبار الحديث الأول بسبب علي بن إبراهيم القائل بتحريف القرآن وبسبب أبيه الذي هو مجهول لأن هؤلاء يعتبرون الإمام عالماً بالغيب ، وضعوا أخباراً باسم الإمام ، وعندما تبين أنها كذب جاؤوا هنا في هذا الباب واختلقوا خبراً يقول إن الإمام الصادق رضي الله عنه قال : إذا أخبر الإمام بخبر ولم يقع ولم يطابق الواقع فلا تكذبوه لأنه يمكن أن يصدق ذلك الخبر بالشخص أو بأولاده أو أحفاده ، وهذا كلام باطل أما متونها : قال في الخبر الأول إن الله أوحى إلى عمران أني واهب لك صبياً مباركاً ، فحدث عمران امرأته حنة ولم يتحقق ذلك بل وهبه الله بنتاً سميت مريم ، ثم أعطى مريم ابناً وكان الخبر الإلهي صادقاً بشأن مريم وابنها .(154/461)
وحاشا ابن عباس وأبو موسى من الخيانة .
يجب القول إن الإمام لا يقول كلاماً كهذا مخالفاً للواقع بأن الله قال لعمران سوف أهب لك ابناً ثم لم يعطه بل أعطى مريم ـ فهل مريم هي عمران ـ نعوذ بالله ـ هل العطاء لمريم عطاء لعمران ، ثم قاس في هذا الخبر كلام الله بكلام الإمام ، حيث لو قال الإمام لشخص ما كلاماً ولم يتحقق فيه فيمكن أن يتحقق في ابنه أو حفيده .
فمثلاً لو قال الإمام إن زيداً خائن فقد لا يكون هو الخائن بل ربما حفيده أو ابنه .
أولاً : لا يصح قياس كلام الإمام بكلام الله تعالى .
ثانياً : إذا كان يحق للإمام أن يقول شيئاً في حق أحد يخالف الواقع فإنه يحق للمأموم والآخرين أن يعملوا مثله ، لأن حكم الإمام والمأموم سواء في الإسلام .
في الحديث الثالث : روى عن الإمام الصادق رضي الله عنه أنه قال : قد يقوم الرجل بعدل أو جور وينسب إليه ولم يكن قام به فربما يكون القائم به هو ابنه أو حفيده من بعده ، وهذا يخالف القرآن الذي قال : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } حيث ذكر ذلك في سورة فاطر وسورة الإسراء والأنعام والزمر والنجم .
[ باب : أن الأئمة كلهم قائمون بأمر الله تعالى ]
روى الكليني ثلاث روايات في هذا الباب . وعد المجلسي الثلاثة ضعيفة ومجهولة ، وفيه رواة سيئون كعلي بن الحكم الذي قال في باب فضل القرآن في الكافي هذا أنهم حذفوا إحدى عشر ألف آية من القرآن وأتلفوها وبقي ستة آلاف آية من سبعة عشر ألف آية ، ورواته الآخرون أيضاً من الغلاة أو المجهولين ، على كل حال روى هؤلاء الرواة أن الإمام قال : إن الأئمة كلهم قائمون بأمر الله ، بناءً على هذين الخبرين يستشكل على الشيعة حيث يطلقون القائم على إمام واحد لهم ، ويخالفون قول سيدنا الباقر والصادق رضي الله عنهما .(154/462)
وأما الخبر الثالث : روى عن سهل بن زياد الكذاب الوضاع عن رجل مثله وقد نقلا كذباً عن الإمام أنه قال في سورة الإسراء الآية 17 : { يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلاً } . قال الإمام : إمامهم الذي بين أظهرهم هو قائم أهل زمانه . يجب القول أولاً إن هذا الحديث لا يتعلق بهذا الباب ، وثانياً بقرينة ( فمن أوتي كتابه بيمينه ) القصد من الإمام هو رسالة الأعمال ـ في يوم القيامة ـ حيث يأتي كل شخص وأمامه رسالة أعماله ـ ويقرؤها ـ فلا تتعلق هذه الآية بإمام الزمان بشيء ـ ليكون قائماً أو لا يكون . أراد سهل بن زياد الكذاب ورواة أمثاله أن يقولوا إن الإمام الصادق لم يرَ جملة { فمن أوتي كتابه بيمينه } أو نسيها .
[ باب : صلة الإمام رضي الله عنه ]
روى هنا سبعة أخبار . حيث عد المجلسي خمسة منها ضعيفة ومرسلة ومرفوعة ، ولكننا نقول بعدم اعتبارها جميعاً لأن فيها رواة كيونس بن ظبيان الذي لعن من قبل الإمام الرضا ، وقال يونس رأيت الله مسح بيده على رأسي ، وكعلي بن الحكم الذي يقول حُذفتْ من القرآن أحد عشر ألف آية ، وكمحمد بن سنان الكذاب المشهور الذي كان من الغلاة ، والخبيري الذي كان فاسد المذهب وضعيف الحديث ومن الغلاة ، هؤلاء الفسادون عرّفوا الأئمة كطالبى الدنيا والحريصون عليها ، رووا في هذا الباب في الحديث السابع أن الإمام الصادق رضي الله عنه قال : أنا أكثر مالاً وثروة من جميع أهل المدينة ، وقال في الحديث الأول ، من عد الإمام محتاجاً لأموال الناس فهو كافر . والآن لماذا هو كافر ؟ هل أنكر أصول الدين أو فروعه ؟!.(154/463)
روى في الحديث السادس : أن الإمام الصادق رضي الله عنه قال : درهم يوصل به الإمام أفضل من ألفي درهم فيما سواه من وجوه البر . وقال في الحديث الخامس : درهم يوصل به الإمام أعظم وزناً من أحد ) إن هؤلاء لا يعرفون ما الذي يروونه فهم مرة يعرّفون الإمام بأنه يجب أن يبر ويعطى ولو درهماً واحداً ، ومرة أخرى يقولون إنه غني عن أموال جميع الناس .
كما روى صاحب وسائل الشيعة لما توفي الإمام كان له عدد من الخدم والحشم والجواري ، مع هذا لم يتعفف عن أخذ درهم ، وبعد ذلك يعتبرون وصل الإمام أعظم من أي إنفاق !.
فهل ذكروا هذه الأخبار لتمجيد الإمام أم للذّم والقدح به ؟، وهل علوم الأئمة رضي الله عنهم هي من صنف هذه الأخبار الخرافية التي ينقلها الكليني ؟ ولقد أوّل المجلسي جميع هذه التناقضات وقام بتوجيهها وأراد أن يصحح المفاسد بقوة القلم فقال مثلاً عندما قال الإمام في الخبر السابع : ( إني لآخذ من أحدكم الدرهم وإني لمن أكثر أهل المدينة مالاً ما أريد بذلك إلا أن تطهروا ) يقول المجلسي يعني تتطهروا من المعاصي والأخلاق الذميمة مع أن أخذ المال لا علاقة له بتطهير النفس من الأخلاق الذميمة .
[ باب : الفيء والأنفال وتفسير الخمس وحدوده ]
قبل أن يذكر الكليني روايات في هذا الباب بدأ بفتاويه ونقل آرائه مع أنه نقل أخباراً عن الأئمة في باب البدع والرأي والأبواب الأخرى ، ومما ذكره فيها أنه لا يجوز الإفتاء والرأي في الدين غير أنه هو نفسه لم يعمل بذلك فهو إما أنه لم ينتبه إلى هذا التضارب بهذا الأمر أو أنه عالم بذلك ولكن لا يعمل به أو أنه كان بلا عقيدة ثابتة أصلاً .(154/464)
ومما قال برأيه فيه في هذا الباب إن آدم لما أصبح خليفة الله أعطى الله جميع الدنيا لخليفته وهذا خطأ لأن الله لم يجعل آدم خليفته بل جعله خليفة السابقين من الجن ونَسناس وأشباه الآدميين الذين كانوا مفسدين سفاكين وهلكوا ، وهؤلاء المفسدون لم يكونوا مالكي الدنيا كما فهم الملائكة ذلك من كلام الله ( إني جاعل في الأرض خليفة ) أي أن الله سيجعل خليفة للسابقين المفسدين ( سواء الجن أو أشباه البشر أو غيرهما ) ولم يقل الله : ( جاعل في الأرض خليفتي ) أو خليفة الله ، ولقد وضحنا ذلك سابقاً .
إذن الكليني ، كمؤلفي عصرنا هؤلاء الذين يكتبون تقليداً من بعضهم . ذكر الكليني في هذه المقدمة أموراً لا دليل عليها ، ذكر أن الدنيا كلها عندما أصبحت لآدم فإنما هي بعده للإمام ، ثم إذا أصبحت الدنيا بعد ذلك بيد أعداء الله ثم رجعت للمسلمين بالحرب فهي فيء ، والفيء مال الإمام ، مع أن الفيء لبيت المال ويجب على الإمام أو ولاة أمور المسلمين أن يصرفوها في إصلاح أمور المسلمين لا أن يكون هذا المال للإمام الجالس في بيته يتصرف به كيف يشاء !!.
جعل الكليني الآية التي نزلت في الغنائم الحربية ـ يعني الآية 14 من سورة الأنفال عن الفيء خاصة بخلفاء آدم يعني الأئمة وسوف نبين في مكان آخر خطأ هؤلاء وأمثالهم . المختصر أن الكليني يريد أن يقول إن الأرض كلها ملك للإمام .(154/465)
روى الكليني هنا ثمانية وعشرين خبراً ، عد المجلسي سبعة عشر منها ما بين ضعيف ومجهول ومرسل ونحن نرى أنها غير معتبرة جميعها لأن رواتها غير معتد بهم .. ترى هل نأخذ برواية أمثال علي بن إبراهيم القائل بتحريف القرآن أو أبان بن أبي عياش وسليم بن قيس المجهول الحال الذي كان في كتبه أكاذيب كثيرة ... أو معلى بن محمد الغالي ؟ يقول الراوي في الخبر الخامس : قال بعض أصحابنا وأظنه اليسارى حيث أن الكليني نفسه لم يعرفه على وجه اليقين ، ورواة أحاديثه الأخرى كعلي بن الحكم الذي اعتبر أحد عشر ألف آية من القرآن محذوفة وناقصة ، ومثل علي بن أبي حمزة البطائني الواقفي الذي تلاعب بأموال سيدنا الكاظم رضي الله عنه وخانه واختلسها وأمثال هؤلاء كثير .
أما متونها : على الغالب من أوهام الرواة ونسيجهم وهم الذين لا يعرفون الله ولا رسوله ، أورد في الحديث الأول الآية السابعة من سورة الحشر ونسب إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه أنه قال : ( هذه الآية التي هي في الفيء كلها خاصة بنا ) مع أن هذه الآية وسورة الحشر نزلت بشأن أموال يهود بني النضير باتفاق السنة والشيعة ، ذلك أنه عندما تهيأ بنو النضير لمحاربة المسلمين ، حاصر المسلمون قلعتهم خمسة عشر يوماً حتى اضطر هؤلاء للخروج من المدينة وحملوا معهم ما يستطيعون حمله من الدواب وتركوا البيوت والأرض والأموال ، وقسم رسول الله ^ أموالهم بين المهاجرين الذين لم يكن لهم مأوى ومسكن ، ولم يعط الأنصار شيئاً إلا لأبي دجانة وسهل بن حنيف وحارث بن الصمة الذين كانوا فقراء .
والآن كأن علياً رضي الله عنه لم يطلع كالكليني ورواته على الموضوع وعلى نزول الآيات إذ قال جميع تلك الأموال خاصة لعلي وأولاده ، ولكن رسول الله عمل بخلافه ولم يعطِ شيئاً لعلي ولا الحسنين رضي الله عنهما !.(154/466)
وارجع أيها القارئ الكريم إلى الآية في سورة الحشر ، حيث قال تعالى : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللّه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } .
فهل كان الكليني أو سليم بن قيس عديمي الاطلاع إلى هذا الحد أم أنهما لم يعتقدا أصلاً بسنة الرسول ^ ولم يعملا بها ؟.
في الحديث الثاني : قال الإمام الباقر رضي الله عنه إن الآية 14 من سورة الأنفال : واعلموا أنما غنمتم من شيء ... ( لذي القربى ) خاصة بنا . والآن لنقرأ معاً بقية الآية : إن آيات الأنفال كلها تتعلق بالحرب والقتال مع المشركين وخاصة هذه الآية نزلت في غزوة بدر حتى جاء في آخر الآية .. { يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير } { إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم } حيث ذكرت في هذه الآية موقعة غزوة بدر ، ولما انتصر المسلمون في بدر وأخذوا الغنائم قال الله في الآية المذكورة : { واعلموا أنما غنمتم من شيء ـ في ذلك اليوم ـ فإن لله خمسه ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } ذكر الكليني هنا في الحديث الرابع أن القصد من اليتامى والمساكين وابن السبيل هن نحن آل محمد ، يعني أيتام آل محمد ومساكين آل محمد وابن السبيل من آل محمد .
والآن أنى للقارئ أن لا يتعجب .. فهل من المعقول أن تفسر الآية على هذا النحو : أعط غنائم بدر لأيتام آل محمد ولم يكن لرسول الله في حياته آل أيتام ومساكين ولم يعط غنائم بدر لآله يعني أولاده ولا أيتامه حيث لم يكن له أيتام ... فيبدو أن رسول الله عمل بخلاف تفسيرهم لهذه الآية فأعطى الأيتام والمساكين وابن السبيل من المسلمين ولم يخص أهل بيته بشيء منها خلافاً لهذه الروايات .. فهل فهم رواة الكليني هذه الآية خيراً مما فهمها رسول الله ^ ؟!.(154/467)
والأمر الآخر الذي جاء في روايات الكليني هذه هو أن الأئمة سئلوا عن زكاة معادن الذهب والفضة والحديد والرصاص والصفر ، فقالوا : الخمس ، يعني زكاتها خمسها ، وهذه الكلمة ( الخمس ) هي عدد كسري رياضي وليس موضوعاً دينياً ولكن الكليني ورواته توهموا أنها موضوع ديني مع أن الخمس نوع من أنواع الزكاة في بعض الأموال وقد تكون العشر في بعضها وقد تكون نصف العشر في بعضها الآخر وأحياناً تكون ربع العشر ، وفي بعض الأموال هي الخمس . كما وردت في الحديث الثامن من هذا الباب ، حيث سئل سيدنا الباقر عن زكاة معادن الذهب والفضة والحديد والرصاص والصفر ، فقال : فيها الخمس ، يعني زكاتها الخمس ، والأحاديث مثل هذا الحديث كثيرة حيث ذكر فيها كلمة الزكاة أيضاً .
وروى في الحديث الخامس : لما فتحت فدك لرسول الله ^ قال الله لرسوله : وآت ذا القربى حقه والمسكين فسأل رسول الله جبريل عليه السلام : من هو ذا القربى وما حقه ؟ فأوحى الله إليه أن ذا القربى فاطمة وحقها فدك ! فأعطى رسول الله ^ فدك لفاطمة فقبلتها منه ، فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله ^ فلما ولي أبو بكر أخرج عنها وكلاءها ، فأتته فسألته أن يردها عليها فطلب منها الشهود فأتت بالشهود ، فكتب إليها أن تترك التعرض للأرض فخرجت والكتاب معها فلقيها عمر فانتزع الكتاب من يدها وتفل عليه ومزقه .
ونحن نقول : لو صح هذا الحديث لكانت فدك ملك لفاطمة ، وأصبحت ملكها في حياة الرسول ^ فتكون الروايات التي وردت في البحار وسائر الكتب حيث جاءت فاطمة رضي الله عنها إلى المسجد وقالت إن فدك كانت ملك رسول الله ^ وقد أورثني إياها لأني ابنته ^ فتكون كلها كذب لأن الشيء الذي ترثه فاطمة لا معنى أن يرثه غيرها من النبي ^ والعجب أن يرد في هذا الحديث قول موسى بن جعفر رضي الله عنه للخليفة العباس ، حدود فدك هي :(154/468)
جبل أحد ـ وعريش مصر ـ وسيف البحر ـ ودومة الجندل في الشام . فكأن الخليفة عباس المهدي قبل ذلك وقال أنظر فيه . فهل يمكن أن يقول سيدنا موسى بن جعفر للخليفة كلاماً مخالفاً للواقع ؟!.
ألم يعرف الخليفة حدود فدك فلم يعترض ؟ أم أن هذا الحديث من نسج خيال الرواة ؟!.
والأمر الآخر الذي ورد في هذه الروايات هو أن الأنفال يجب أن تكون بعد رسول الله ^ والأنفال عبارة عن الغابات والجبال والمعادن والأنهار والأراضي الموات والأشياء ذات القيمة للسلاطين والأراضي التي أعرض أصحابها عنها ، حيث يجب أن تكون بيد إمام المسلمين يعني الوالي وحاكم المسلمين بعد رسول الله ^ ، والأئمة عليهم السلام قالوا ذلك أيضاً ولكن الكليني ورواته توهموا أن القصد من كلمة الإمام هذه هو الإمام المنصوص الذي يعده الغلاة إماماً .
والأمر الآخر الذي ورد في الحديث العاشر هو القصد من الآية 14 في سورة الأنفال حيث تتعلق بالغنائم الحربية ، حيث قال الإمام : هي والله الإفادة يوماً بيوم يعني أن القصد هو الفائدة اليومية من العمل والكسب مع أن هذا الحديث مخالف لسنة رسول الله ^ ولم يأخذ علي المرتضى خمساً من أهل الكسب والعمل ولا تتعلق الآية المذكورة بالكسب والعمل ولم يقل الله فيها : وآتوا خمسه ، وإن كان هو الكسب والعمل فيجب القول إن ( أوتوا ) ولكنه بما أنها كانت الغنائم ولا صاحب للغنائم قال : ( واعلموا ) فتبين أن تطبيق الآية على الفائدة اليومية من الكسب والعمل هو من نسيج الرواة ، وكذلك هي الأحاديث أرقام 11 ـ 21 ـ 31 .
والأمر الآخر هو أنه قال في الحديث العاشر هذا : إن الإمام سمح للشيعة بالخمس وجعلهم في حل أن لا يعطوا حيث يقول : ( إلا أن أبي جعل الشيعة في حل ليزكوا ) فإذن الفقهاء الذين يقولون إن الشيعة عليهم أن يعطوا الخمس يخالفون هذا الحديث وهذا السماع بالخمس أيضاً ورد في الحديثين رقم 61 ـ 22 .(154/469)
كما قال في الحديث السادس عشر : ( إلا أن شيعتنا الأطيبين فإنه محلل لهم لميلادهم ) وقال في الحديث العشرين ( وقد طيبنا ذلك لشيعتنا لتطيب ولادتهم ولتزكوا ولادتهم ) بالإضافة إلى ذلك ورد أثنا عشر حديثاً يتحلل فيها الشيعة من الخمس في كتاب الوسائل حيث قالوا لا خمس على الشيعة ، فيرجى الرجوع إليه . ثم إنه توجد آيات في القرآن تجعل لكل شيء زكاة ، ولكل تجارة وكسب وعمل زكاة ، ولا تنحصر الزكاة بالأمور التسعة التي قال بها الفقهاء ، وقد قرن الله الزكاة بالصلاة في آيات كثيرة ، وكل ما كان له أهمية أكبر فالآيات المتعلقة به تكون أكثر .. كالزكاة حيث قال الله مراراً : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } وقال في سورة البينة الآية 5 : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } . وقال في سورة المؤمنون : { قد أفلح المؤمنون .. الذين هم للزكاة فاعلون } .
زد على ذلك الآيات التي أوجبت الزكاة على كل شيء في الكسب والعمل حيث تشمل التجارة والكسب والبيع أيضاً ، ونزلت الآية 83 من سورة النور صراحة { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار } .
هذه الآية صريحة في وجوب الزكاة على التجارة والبيع ، فهل توجد في القرآن آية صريحة كهذه بشأن الخمس الذي يأخذونه في عصرنا الحاضر ؟ قطعاً لا ، والذين لا يوجبون الزكاة في التجارة والبيع فبماذا يجيبون الله يوم القيامة بشأن هذه الآية 04 ، أين ذكرت الزكاة على الإبل صراحة في القرآن حيث يقولون بوجوب ذلك ولكن في زكاة التجارة حيث لها آية صريحة كهذه فهم لا يوجبون ذلك !.(154/470)
إذن لا بد أن نترك الروايات المخالفة للقرآن التي وضعها الوضاعون وأن لا نعتبرها لأن القرآن أوجب الزكاة في كل شيء . ثانياً : إن هذه الروايات المخالفة للقرآن تخالف روايات كثيرة توافق القرآن وقد أوجبت الزكاة في كل شيء يعني في غير الأشياء التسعة أيضاً . مثل ما قاله أبو بصير : قلت لسيدنا الصادق رضي الله عنه : هل في الأرز شيء ؟ فقال : نعم ثم قال : إن المدينة لم تكن يومئذ أرض أرز فيقال فيه ولكنه قد وجبت ( الزكاة ) فيه وكيف لا يكون فيه وعامة خراج العراق منه ؟!.
ويبين هذا الحديث صراحة أن رسول الله ^ لم يأخذ الزكاة في الأرز مثلاً لأن المدينة لم تكن أرض أرز ! فليس المعنى أن ينحصر وجوب الزكاة في تسعة أشياء ( والجدير بالذكر أن هذا الحديث وأمثاله الذي نذكره موجود في أمهات كتب الشيعة ) .
ومن ذلك أيضاً ما نقله التهذيب عن زرارة حيث يسأل الإمام الصادق رضي الله عنه : هل في الذرة زكاة ؟. فيقول الإمام : الذرة والعدس والسلت والحبوب منها وعليها مثل ما في الحنطة والشعير وكل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق التي فيها الزكاة فعليه الزكاة ، وأيضاً سئل رسول الله ^ والإمام الصادق أيضاً عن زكاة الأرز وغيره من الحبوب ، هل فيها زكاة ؟.
قالا : نعم كالحنطة والتمر ، وكذلك روى عن رسول الله ^ أنه قال : « فيما سقت الأنهار والعيون والغيوث أو كان بعلاً العشر وفيما سقى بالسَّوَاني والنَّاضِح نصف العشر » وروى عن محمد بن مسلم أنه قال : سألت أبا عبدالله رضي الله عنه عن الذهب كم فيه من الزكاة ؟ قال : إذا بلغ قيمته مئتي درهم ففيه الزكاة ) ويجعل الإمام في هذا الحديث ملاك الزكاة هي القيمة وليس ثمة بحث عن المصكوك والمنقوش ، وقال سيدنا الأمير رضي الله عنه : من كان له مال وعليه مال فليحسب ماله وما عليه فإن كان ماله فضل على مائتي درهم فليعط خمسة دراهم وإن لم يكن له فضل على مائتي درهم فليس عليه شيء ) .(154/471)
وهناك أحاديث كثيرة جعل الله فيها الزكاة في كل شيء ولا يتسع المجال لذكر كل ذلك في هذا المختصر ، وقال الإمام الصادق رضي الله عنه ( في كل شيء زكاة ) وقال رسول الله ^ : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولو لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة » كما قال الله هذا في القرآن في سورة التوبة الآية 5 : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } وقال سيدنا الرسول ^ في رسالته إلى أهل عمان ( من محمد رسول الله إلى أهل عمان أما بعد فأقروا بشهادة أن لا إله إلا الله والنبي رسول الله وأدوا الزكاة واحضروا المساجد وإلا غَزَوتُكم )(1) .
والشيعة نفسها تقول في الصحيفة السجادية في زيارة الإمام الحسين رضي الله عنه ( أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة ) ويطلب سيدنا السجاد التوفيق من الله قائلاً : ( أن نخلص أموالنا من التبعات وأن نطهرها بإخراج الزكاة ) .
وقال سيدنا الأمير رضي الله عنه في نهج البلاغة : ( حصنوا أموالكم بالزكاة ) وقال أيضاً : ( لكل شيء زكاة ) وكذلك وردت الأخبار الأخرى ولا بد من الرجوع إلى أمهات الكتب . والآن كيف غضوا النظر عن كل هذه ( الروايات ) وانحصرت الزكاة بتسعة أشياء ؛ إن هذا لشيء عجاب ، وللدراسة المتعمقة في موضع الزكاة يحسن الرجوع إلى كتاب الزكاة للسيد قلمداران(2) .
( وفي الختام )(154/472)
تم المجلد الأول من الكافي الذي هو في أصول العقائد ويجب العلم أن فروع الكافي أيضاً قد رويت عن هؤلاء الرواة الغلاة والكذابين الخرافيين ومجهولي الحال أنفسهم الذين نقل عنهم الأصول وقلما يكون حديث في الفروع يكون جميع رواته سليمي العقيدة ومن أهل العدل ويتوافق متنه مع القرآن والسنة والعقل ولا يكون فيه إشكال ، ولو شئنا أن نعد الخرافات الواردة في الفروع فسوف نحتاج مجلدات ضخمة لذلك ، وكتاب الكافي الذي يقع في ثمانية مجلدات وطبعه شيخ في طهران ، وها نحن نورد نماذج من تلك الأحاديث الخرافية المخالفة لكتاب الله والعقل منتزعة من مجلدات الفروع لتكون لنا من الباقيات الصالحات .
1 ــ في المجلد الثاني باب طينة المؤمن والكافر ؛ أخبار هذا الباب توجب الجبر وسلب الاختيار من السعيد والشقي ، خاصة الحديث الأول وكذلك عالم الذر الذي أخذ الله فيه العهد من النطف حيث جميعها تخالف العقل والقرآن وهي مخالفة للاختيار والتكليف .
2 ــ في المجلد الثاني في باب فضل القرآن الحديث الثامن والعشرين ، روى علي بن الحكم عن هشام بن سالم عن الإمام الصادق رضي الله عنه أنه قال : ( إن القرآن الذي جاء به جبرائيل إلى محمد ^ سبعة عشر ألف آية ) .
وعلى القارئ أن يعلم أن القرآن المتواتر بين المسلمين من صدر الإسلام إلى عصرنا هذا لا تزيد آياته على 6326 آية ليدرك بسرعة أن هذه الرواية تريد أن تقول إن قرابة أحد عشر ألف آية قد حذفت من القرآن وسرقت ولم يعلم بها أحد إلا علي بن الحكم وهشام بن سالم وقد سمعا ذلك من الإمام هما فقط .
ونسيا أن الله قال في سورة الحجر الآية 9 : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } ، ومن سوء الحظ أن علماء الشيعة يعترفون بهذه الأحاديث إذ يقولون إن رواتها ثقاة دون أن يتمعنوا ما جاء في متنها !.(154/473)
3 ــ المجلد الثامن من الكافي يعني الروضة ص 232 : عن عبدالله بن طلحة قال سألت أبا عبدالله عن الوزغ فقال : نجس ومسخ كله إذا قتلته فاغتسل ثم قال الإمام : كان أبي الإمام الباقر جالساً عند الكعبة وكان معه رجل يتحدث معه وإذا بالوزغ يظهر ويحرك لسانه ، فقال أبي الباقر لذلك الرجل هل تعلم ما يقول هذا الوزغ ؟ قال : لا ، ماذا يقول ؟ قال الإمام : يقول هذا الوزغ إذا ذكرتم عثمان بكلمة فحش فسوف أسب علياً . قال الإمام الصادق فقال أبي الإمام الباقر رضي الله عنه : لا يموت أحد من بني أمية حتى يكون بصورة الوزغ ، ولما أشرف عبدالملك بن مروان على الموت أصبح وزغاً وهرب ولما ضيعه أبناؤه كبر عليهم وتحيروا ثم استقر رأيهم أن يضموا خشباً بهيئة الرجل ويلبسونه لباساً من الحديد ثم كفنوه ودفنوه ولم يطلع على ذلك أحد إلا أنا وأبنائي .
4 ــ يقول في مجلد الروضة ص 98 عن أبان بن تغلب عن أبي عبدالله قال سألت الإمام الصادق رضي الله عنه عن الأرض على أي شيء هي ؟ قال على السمك . قلت السمك على أي شيء ؟ قال على الماء ، قلت الماء على أي شيء هو قال على حجر . قلت الحجر على أي شيء هو قال على قرن بقر . قلت : البقر على أي شيء هو ؟ قال : على التراب قلت فالتراب على أي شيء هو . قال هيهات حار علم العلماء هنا !!.(154/474)
5 ــ المجلد الثالث باب اللباس الذي تكره الصلاة فيه الحديث الثاني عشر ص 004 عن أبي عبدالله قال سألت الإمام الصادق رضي الله عنه عن رجل في سفر ومعه سكين يصلي ؟ قال : لا بأس على المسافر أن يكون معه مفتاح يخاف نسيانه أو يكون معه سيف أو أسلحة في الحرب وفي غير هذه الصورة لا تجوز الصلاة في شيء من الحديد لأن الحديد نجس ومسخ ، بناءً على هذه الروايات التي تقول إن الحديد نجس ، فجميع المصانع والسيارات نجسة والإبر والأقفال وأكثر الأشياء الحديدية نجسة وإذا كانت إبرة مع المصلي في الصلاة فصلاته باطلة ، وهذا الحديث مخالف للقرآن بدليل ما جاء في القرآن في سورة الحديد حيث قال الله في الآية 52 : { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز } هذه هي المعارف والعلوم التي نقلها هؤلاء الرواة عن الأئمة عليهم السلام ونرجو من الله تعالى أن لا يرى أعداء الإسلام هذا الكتاب ورواياته ، ونحن قد ذكرنا هذه الأحاديث الخمسة كنماذج .
نظرة في الكافي ومدّعي الشيعة :
وإذا تأمل أحد في الكافي ودروسه بدقة وبلا تعصب وغرض فإنه ينتهي إلى أن هذا الكتاب أبطل ما جاء به صانعو المذهب الشيعي . يقول الشيعة : قال رسول الله ^ شيعة علي هم الفائزون ، هذه الجملة ترد الشيعة الإصطلاحية لأن علياً رضي الله عنه لم يأت بمذهب ولم يصنع مذهباً باسمه ، إذن الشيعة الذين صنعوا المذهب ليسوا من أتباعه وشيعته ، بل هم مخالفون له ولم تكن أصول دين علي رضي الله عنه إلا الإيمان بالله ورسوله لا الإيمان بالأئمة والرجال الآخرين ، وعلى هذا فإن كتاب الكافي الذي يلزم الإيمان بغير الله والرسول والقيامة بعيد جداً عن إسلام علي رضي الله عنه .(154/475)
وبمقتضى الآية 951 من سورة الأنعام : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء } فلا محمد ^ من هؤلاء ولا علي رضي الله عنه . وطريق علي رضي الله عنه هو غير طريق هؤلاء وكتابهم ، وأصول علي رضي الله عنه غير أصول هؤلاء وفروعهم ، وكان رسول الله ^ وعلي رضي الله عنه فقط متبعين لكتاب الله وعاملين به ، وبهذه المناسبة فقد قال الله تعالى في سورة الروم الآية 13 ـ 23 : { ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون } نحن الشيعة الحقة حيث سمينا أنفسنا مسلمين فحسب ولم نصنع مذهباً كما لم يصنع قبلنا سيدنا علي رضي الله عنه مذهباً لنفسه . والغريب أن علماء الشيعة يقولون إن مداركنا المذهبية والدينية هي الأدلة الأربعة ويعنون كتاب الله والعقل وسنة الرسول ^ والإجماع . ويقولون إذا وجد حكم الله بواحدة من هذه الأربعة وجب العمل بها .. يقولون هذا ولكنهم ينسون كل هذا الكلام عند العمل ويقولون إن القرآن قد حرّف أو أنه ظني الدلالة ولا بد من الرجوع إلى الحديث في فهمه ، وبهذه الذريعة يخرجون القرآن من ميدان عملهم ويتركونه .
أما بشأن العقل فهم لا يعبأون بالعقل أيضاً . وبشأن السنة يقولون لا بد من الرجوع إلى الحديث .
أما الإجماع فيسندونه إلى الحديث ، وهذا يعني أن الأدلة الأربعة هي الحديث والحديث فقط .
الأحاديث المتضادة والمتناقضة والتي أكثرها يخالف العقل والقرآن والسنة والتاريخ وغيرها .
نرجو أن يستفيق شعبنا وأن لا ينخدع علماؤنا بالحواشي والتقاريظ الموضوعة لأي كتاب وعليهم أن يقرأوا الكتاب نفسه .. والسلام على من اتبع الهدى .
تم بعون الله وله الحمد .(154/476)
قال الله فيما يتعلق بالمشركين والموحدين في الآية السابقة { فأي الفريقين أحق بالأمن تعلق بالذين لم يوفوا بعهد الولاية مع أن جميع المفسرين من الشيعة والسنة قالوا أن هذه الآية تتعلق بعلي وفاطمة والحسين رضي الله عنهم الذين وفوا بنذرهم .
الحديث السادس : قال الله في الآية 66 من سورة المائدة بشأن اليهود والنصارى : { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } نقل الراوي الجاهل أن القصد من الآية هو ولاية علي ، ولم يسأله الرواة الذين أتوا بعده ما علاقة الآية بالولاية ؟!.
حديث الحديث السابع : نقل الراوي المسكين أن الآية 32 من سورة الشورى : { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } نقل أن ذوي القربى هم الأئمة ، وهذا المسكين كألوف أمثاله لم ينتبه أن ( في القربى ) في الآية غير ( ذي القربى ) لأن ذوي القربى بمعنى أقرباء الشخص وقرابته ، أما في القربى فتعني التقرب إلى الله يعني لا أسألكم أجراً إلا المودة في التقرب إلى الله أو التقرب من بعضكم بعضاً . والآية مكية وفي مكة لم يكن سيدنا الأمير رضي الله عنه قد تزوج بعد ولم يكن الحسنين قد ولدا بعد ومع ذلك يفسرون الآية بهم .
والناظر في تفسير مجمع البيان وسائر التفاسير يظهر له جهل هؤلاء الرواة ، علاوة على هذا فالمودة أمر قلبي ولا يمكن طلبه من الناس والتوصية به وكلمة إلا في هذه الآية استثناء منقطع كما قال أيضاً في سورة الفرقان الآية 75 : { قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً } ولم يطلب أحد من الأنبياء أجراً من الناس لرسالتهم قط كما قال سيدنا نوح عليه السلام : { ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله } .(154/477)
وفي الحديث الثامن : قال علي بن أبي حمزة البطائني الواقفي الخبيث الذي أسس المذهب الواقفي واختلس أموال الإمام أن القرآن قد حرف يعني في آية 17 من سورة الأحزاب : { ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } أنها نزلت بعدها جملة ( في ولاية علي والأئمة من بعده ) في هذه الآية وأنقصوها . والآن هذا المسكين الضال لم يبين ما الناقص ؟ ومن اليقين أن سيدنا علي هو عدو للذي يقول بتحريف القرآن وأن الله لم يحفظه ـ نعوذ بالله ـ وأن الآية { وإنا له لحافظون } هي كذب .
وفي الحديث التاسع : الراوي الذي لا يعرف اسمه ولا يعلم أحد أي حيوان هو يقول : قد نقص من الآية 35 من سورة الأحزاب : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } جملة ( في علي والأئمة ) وقد حرفت .
أنا لا أدري لماذا يحرص هؤلاء على أن يخربوا القرآن ويجعلوه محرفاً ومغشوشاً وكل ذلك باسم الإمام ، وذلك كي لا يتوجه أحد نحو القرآن . والعجيب أن الشيعة يعشقون هذه الروايات الباطلة المخربة للقرآن ويتبعونها ليل نهار .
وفي الحديث العاشر : سأل رجل ولم يعينوا اسم السائل ولا مذهبه ولا من المسؤول ، سأل عن الآية 321 من سورة طه حيث قال الله : { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } فأجابه ذلك الشخص ( هداية الله لا هدايتي أنا حيث أنا من الأئمة ) ترى من أراد الإمام أن يقول هنا بأني أنا الله . أو قال بأن الله قال : هداي وعمل بالتقية ولا بد أن يقول هداهم يعني هداية الأئمة .
وفي الحديث الحادي عشر : روى أحدهم ولا نعرف اسمه ولا مذهبه روى أن المقصود من الآية 2 من سورة البلد : { ووالد وما ولد } وأن الوالد هو علي وما ولد هم أولاده ، أما من أحد يقول له ، ولد فعل ماض وفي مكة لم يكن علي متزوجاً ولم يكن له ولد وهذه السورة مكية .(154/478)
وفي الحديث الثاني عشر : روى علي بن حسان الكذاب المغالي عن عبدالرحمن الكذاب الفاسد العقيدة عن الإمام أنه قال : أن القصد من ذي القربى في الآية 14 من سورة الأنفال : { واعلموا أنما غنتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول ولذي القربى } هو أمير الؤمنين والأئمة . ونقول أن هذه الآية نزلت في غزوة بدر وفي ذلك الحين لم يكن هناك أئمة في الدنيا بعد ، وإذا كان القصد هو أقرباء الرسول فلا ينحصرون بالأئمة الإثني عشر .
وفي الحديث 31 : يقول عبدالله بن سنان الخازن لديوان المنصور الدوانقي وراوي الخرافات المخالفة للقرآن .
يقول : سألت الإمام عن الآية 181 من سورة الأعراف : { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } فقال الإمام : هم الأئمة . يعني عندما قال الله ممن خلقنا أمة يهدون إلى الحق ويرجعون إلى الله فهذه صفة منحصرة بالأئمة .
يقول الكاتب : إن هذا يعني إن كل هؤلاء الذين هداهم الدعاة إلى الحق لا وجود لهم ولا حقيقة . ومثل هذا ما قاله عبدالله بن سنان الكذاب ، حتى الأنبياء لم يهدوا أحداً لأن هذا العمل ينحصر بالأئمة . فبالله عليكم انظروا كيف يحرف هؤلاء الآيات القرآنية ويتلاعبون بها .
في الحديث 41 : روى علي بن حسان وعبدالرحمن بن كثير وكلاهما من الضعاف والكذابين أن الإمام قال : في تفسير الآية 7 من سورة آل عمران : { هو الذي أنزل عليكم الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } أن المقصود من تلك الآيات المحكمات التي أنزلت هم الأئمة وأمير المؤمنين ، وأن الآيات المتشابهات التي أنزلت هم أبو بكر وعمر ، وهنا يجدر القول بأن لعنة الله على الكاذبين والذين ملؤوا الكتب الدينية بالأكاذيب الواهية . هل أنزل الله القرآن على رسوله أم على عمر وعلي ؟ انظروا كيف اجترؤا على القرآن وتلاعبوا بآياته .(154/479)
في الحديث 61 : قال الحلبي ـ ولا يعلم ما مذهبه ـ قال الإمام لما قال الله لرسوله في سورة الأنفال الآية 16 : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } أن القصد من الآية هو : يا أيها الرسول كن من أتباع الأئمة ، ولم يكن أحد ليقول لهذا الراوي ، عندما نزلت هذه الآية لم يكن هناك إمام ولا مذهب وعلى هذا فهؤلاء الرواة لم يكن لهم هدف سوى الضلال .
في الحديث 71 : قال الإمام في الآية 91 من سورة الانشقاق وهي مكية : { لتركبن طبقاً على طبق } أن مصداقة الآية هم فلان وفلان وفلان ولكنه جعل ذلك مبهماً ليكون غمزاً على الخلفاء يوجد بلبلة يستفيد منها أصحاب الأئمة المنافقين ( وتمام القول في الراوية أن الإمام قال : يا زرارة أو لم تركب هذه الأمة بعد نبيها طبقاً عن طبق في أمر فلان وفلان وفلان ) .
والحديث 81 : يروي عن أبي الحسن ولا يُعلم من هو أبو الحسن هذا وصاحب أي إمام هو حيث قال أن القصد من الآية 15 من سورة القصص : { ولقد وصلنا لهم القول } قال أبو الحسن أن القصد لقد وصل الأئمة إمام بعد آخر مع أن سورة القصص مكية ووصلنا فعل ماض وكأنه يقول أن الله تعالى أراد أن يقول ـ نعوذ بالله ـ نوصل لهم القول للأئمة اللاحقين ولكن هذا خطأ ولا يعرف أبو الحسن الماضي من المضارع والمستقبل ، أم أن الله أخطأ ـ نعوذ بالله ـ أم ماذا ؟!.
الراوي كاذب ويستهزء بالقرآن لكي يصنع الأكذوبة الواهية ويثبت أن القرّاء لا يفهمون . بالإضافة إلى أنّ القول هو الكلام ، والإمام ليس بكلام .
وفي الحديث 91 : بشأن الآية 631 من سورة البقرة قال الله للمسلمين في مقال اليهود والنصارى : قولوا نحن نؤمن بما أنزل على جميع الأنبياء ولا نفرق بينهم . فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإلا فهم في ضلال .(154/480)
نقل الراوي عن الإمام أن المخاطبين في هذه الآية هم علي وفاطمة والحسنين فقط . ويبدو أنهم لا يعتبرون باقي الناس مكلفين . بالإضافة إلى ذلك لا بد أن يقال لهؤلاء الرواة المغرضين أن الحسنين لم يولدا إلى الدنيا عندما نزلت الآية أو على الأقل كانا صبيين فكيف خاطبهم الله وترك سائر الناس البالغين هل الله له قرابة مع أحد ؟!. ـ حاشا لله ـ .
في الحديث 02 : في الآية 86 من سورة آل عمران لما قال الله : { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا } روي أن الذين آمنوا كانوا هم الأئمة وأتباعهم فقط ، مع أن جملة { والذين آمنوا } تدل على الماضي ، وفي وقت نزول الآية لم يكن هناك أئمة وأتباعهم ، بالإضافة إلى ذلك لا دليل على لصق الآية بعدد خاص من المؤمنين وهي عامة في كل المؤمنين .
وفي الحديث 12 : في الآية 91 من سورة الأنعام عندما قال الله لرسوله : { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } .
روى الراوي : بلغ فقط للذين سمعوا بوجود الأئمة من آل بيت محمد ، أليست هذه التأويلات الباطلة كفر وتلاعب بالقرآن .
وفي الحديث 22 ـ 32: تلاعبوا بالآية 511 من سورة طه حيث قال الله تعالى : { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً } روى الراوي أن الله عهد إلى آدم أن أوصياء من آل محمد والمهدي وسيرتهم هكذا . مع أن القرآن يقول غير ذلك . حيث قلنا لآدم : { لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } ولا علاقة لهذا بآل محمد إلا في نظر الغلاة الكذابين الذين صنعوا الروايات واختلفوها .
وفي الحديث 42 : روي بشأن الآية 34 من سورة الأحزاب حيث قال الله لرسوله : { فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم } قال الإمام : ( صراط مستقيم ) المقصود هو علي ، يعني أنك على علي وهكذا تصبح الجملة مضحكة !.(154/481)
وهذا الإمام الذي تكلم بهذا ما عرف أن علياً يصلي خمس أوقات ويقرأ في صلاته سورة الحمد ، ويقول : اهدنا الصراط المستقيم . يعني أن علياً هو الصراط المستقيم فصلاته وطلبه الهداية كانت مزحاً ـ نعوذ بالله ـ أيها القارئ انظر كيف استهزء كتاب الكليني بالله وسخر بصلاة علي .
وفي الحديث 52 : روى أحمد البرقي الشاك في الدين ومحمد بن سنان الكذاب ، والمنخل الضعيف عن جابر بن يزيد المغالي في المذهب أن القرآن حرف وسرق منه كلمة في علي من الآية 09 من سورة البقرة ولم يطلع أحد على ذلك إلا المنخل المخبول ! مع أن هذه الآية تتعلق باليهود الذين لم يستجيبوا للإسلام ولا تتعلق بعلي رضي الله عنه وهؤلاء الرواة يريدون أن يسقطوا الإسلام والقرآن من الاعتبار باسم علي .
في الحديث 62 : عن الآية 32 من سورة البقرة : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } قال الإمام : إن كنتم في ريب مما نزلنا من الآيات بشأن علي فأتوا بسورة من مثله .
يجب القول :
أولاً : ترى بأية سورة آية سوف يأتي الكفار الذين يعدون علي ضالاً .
ثانياً : ما هي الآيات التي نزلت بشأن علي . ليس لدينا آيات كهذه في القرآن .
ثالثاً : يقول أن القرآن قد حرف وسرقوا كلمة ( في علي ) يجب القول أن القرآن لم يسرق بل لقد تكفل الله بحفظه بحيث لا تسرق منه كلمة واحدة ولا يسرق وقال { وإنا له لحافظون } بل وعد بحفظ القرآن ، وهو وإن الله سبحانه ليس بغافل ولا عاجز ولا جاهل ـ نعوذ بالله ـ فهذه الروايات كلها خزعبلات وخزافات ، باطلة لا أساس لها .
والمختصر أن جميع هذا الباب من هذه الموهومات والمزخرفات ، وا أسفاً لعمر الإنسان أن يتلف في قراءة هذه الأباطيل والترهات .
[ باب : فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية ](154/482)
روى الكليني 9 أحاديث في هذا الباب عد المجلسي 8 منها ضعيفة أو مرسلة أو مجهولة ، وفيها رواة سيئوا السمعة كسهل بن زياد الكذاب وصالح بن عقبة الجبري المذهب وعده علماء الرجال من الغلاة والكذابين وعبدالله بن محمد الجعفي حيث ضعفه جميع علماء الرجال ، وكتبوه في الكافي خطأ ( عبدالله بن محمد الجعفري ) والجعفري خطأ . وسلمة بن الخطاب فاسد المذهب الواقفي حيث ضعفه علماء الرجال أيضاً ، ويونس بن يعقوب الفطحي المذهب وناقل الخرافات ، ومحمد بن الجمهور الذي لا دين له وأمثالهم كثير .
ونقول : لماذا اعتمد الكليني على هذا الصنف من الناس وهل يمكن أخذ الدين من هؤلاء الأشخاص الذين هم من أسوأ الناس سمعة .
على كل حال متون الروايات في هذا الباب كلها كسابقتها حفنة من الموضوعات المخالفة للقرآن جاءت باسم الولاية .
يقول في الحديث الأول والتاسع : ( أخذ الله عهد الولاية من شيعتنا في عالم الذر ) ، يجب القول أن عالم الذر الذي كانت ذرات النطفة في اللاشعور في ظهر آدم هو من الخرافات والموهومات لأن الله يأخذ العهد من ذي شعور مكلفة لا من الذرات التي لا تشعر ، بالإضافة إلى هذا أن الموهوم جبر إلا إذا قال أحد أن أمر ولايته جبر وقهر .(154/483)
يقول في الحديث الثاني : من أحبه الله خلقه من طينة الجنة ومن أبغض كان من طينة النار مع أن النار لا طينة لها . على كلٍ يجب القول أولاً إن هذا جبر . وثانياً لم يكن لله عداوة مع أحد . وبعد ذلك لإثبات هذا الموهوم استدل الإمام بالآية 78 من سورة الزخرف : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } يعني لئن سألت عابدي الأصنام من خلقهم ليقولن الله يعني لا يقولون الصنم . ولا تتعلق هذه الآية بعالم الذر وطين الجنة والنار ، ترى هل الإمام الباقر يرى رأي هؤلاء الرواة ؟ وهل كان عديم الاطلاع إلى هذا الحد بحيث يستدل بلا مناسبة بآية غير متعلقة بالموضوع . فيجب الفهم أن هذه الأحاديث وضعها أناس مغرضون وجهال . والأعجب من ذلك أن في هذا الباب استدل لعالم الذر والطينة بالآية 47 من سورة يونس حيث قال الله : { ثم بعثنا من بعده رسلاً إلى قومهم فجاؤهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل } يعني أن الكفار السابقين كذبوا رسلهم كعادتهم وبعد تكذيبهم لم يؤمنوا تكبراً وغطرسة .
ولم يكن أحد يسأل هؤلاء الجهال ما علاقة هذه الآية بالولاية أو بعالم الذر والطينة ؟.
يقول في حديث 3 ـ 4 ـ 6 : ما من نبي جاء قط إلا بولايتنا ، وهنا نقول لعنة الله على الكاذبين ألم ير هؤلاء القرآن حيث يقول تعالى : { ولقد أرسلنا رسلنا ... ليقوم الناس بالقسط } والعجيب هو أنهم نقلوا هذه الروايات وقبلوها .
في الحديث 5 : قال الإمام : دين جميع الملائكة هو ولايتنا . والآن يجب القول : ( إذا كانت هذه الولاية هي دين جميع الملائكة والأنبياء فلماذا لم يبينها الله في القرآن لأمة محمد ولم يفهمها إلا عدد من الرواة الغلاة الكذابين ) .
وإذا كان هؤلاء الرواة يريدون أن يثبتوا محبة الأئمة لشعبنا فإن هذا أمر لا ينكره أحد ولا حاجة لوضع كل هذه الروايات .(154/484)
وفي الحديث السابع والثامن : ورواتهما من أكذب الكذابين كمحمد بن الجمهور وعبدالله بن سنان ويونس حيث جاء فيهما أن المعرفة بعلي هي من أصول الدين وهي مناط الكفر والإيمان ، من عرفه فهو مؤمن ومن لم يعرفه فهو كافر . هنا يرد عدد من الأسئلة .
أولاً : إذا كان علي من أصول الدين فماذا كان دين علي نفسه ، وهل آمن بنفسه وعندما عرف نفسه أصبح مسلماً أم لا ؟.
الثاني : هل علي هو تابع للدين الإسلامي أم هو أصل له أو فرع ؟.
الثالث : ما الفرق بين أصول الدين وفروعه ؟.
الرابع : لماذا لم يبين الله هذا الأصل ، ولم يقل لنا يجب عليكم أن تؤمنوا بهذا الأصل .
وعلى سبيل المثال فإن القرآن بين أصول الإيمان والكفر في سورة النساء في الآية 631 حيث قال : { ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً } ولم يقل من كفر بعلي أو الشخص الفلاني أو لم يعرفه فهو كافر . إضافة إلى هذا فقد قال علي نفسه في نهج البلاغة في خطبة رقم 302 وسائر خطبة أنا أتبع الدين ولم يقل أنا أصل للدين أو فرع له .
والآن بأية جرأة يزيد هؤلاء الرواة الكذابين أصول الدين أو ينقصونها . وهل العلماء الذين قبلوا هذه الروايات لا علم لهم بأصول الدين ؟!.
وفي الحديث التاسع : روي شيئاً مخالفاً للعقل حيث يقول أن أرواح الشيعة خلقت قبل أبدانهم بألفي عام . ولكن القرآن قال في خلقتهم في سورة المؤمنون الآية 41 : { فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } . ثم أنشأناه خلقاً آخر : هو الروح وبارك الله نفسه عندما ذكر خلق الروح . فيظهر هنا أن إيجاد الروح وإنشائه بعد إتمام خلق البدن لا قبله بألفي عام حسبما جاء في الحديث .
[ باب : في معرفتهم أوليائهم والتفويض لهم ](154/485)
روى في هذا الباب ثلاثة أحاديث عد المجلسي إثنين منها ضعيفاً ومجهولاً ، والآخر مختلف فيه ، والعجب العجاب هو أن الكليني أخذ رواياته من الذين إما هم مجهولون أو ضعاف أو من القائلين بتحريف القرآن أو من المشركين والغلاة ، من جملة ذلك هنا الحديث الأول رواه عن صالح بن سهل الذي عده علماء الرجال مشركاً وقالوا أنه كان كذاباً ومغالياً وكانت صنعته هي وضع الأحاديث وكان من القائلين بألوهية سيدنا الصادق رضي الله عنه فقد اختلق أن رجلاً قال لأمير المؤمنين أنا أحبك فقال له : كذبت فحلف الرجل مراراً وكرر ذلك ، فكذبه أيضاً . هنا لا بد أن نقول أن الأنبياء لم يطلعوا على بواطن الناس كما قال الله لرسوله في سورة التوبة الآية 34 : { عفالله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } لأن رسول الله أذن للذين استأذنوا منه لعدم الحضور إلى الحرب وعدوا أنفسهم من المعذورين لأنه لم يعلم صدقهم من كذبهم . قال الله عفالله عنك لم أذنت لهم بلا علم ولا تحقيق . وعندما قال الله في الآية 101 : { ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم } وفي سورة آل عمران الآية 92 : { قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله } لأن عالم السر والخفاء هو الله فقط . وفي سورة الشعراء عندما قال قوم نوح لنبيهم عليه السلام : إن أتباعك هم الأرذلون أجابهم في الآية 211 لا علم لي بباطنهم وأعمالهم { قال وما علمي بما كانوا يعملون } وفي سورة عبس عاتب الله رسوله : { عبس وتولى . أن جاءه الأعمى . وما يدريك لعله يتزكى } وثمة مئات من الآيات الأخرى تدل على ذلك . وبهذا يكون القول بأن علياً رضي الله عنه يعلم باطن أحد هو قول مخالف لمائة آية من القرآن . بالإضافة إلى ذلك جاء في هذا الحديث قال ( علي ) إن الأرواح خلقت قبل الأبدان بألفي عام ، وهذا مخالف للآية 41 من سورة المؤمنين حيث أن الله يخلق الروح بعد إتمام خلق البدن .(154/486)
وانظر أيها القارئ الكريم إلى ما قاله الله لرسوله في الآية 101 من سورة التوبة من حيث أنه لا يعرف المنافقين ولكن الكليني يقول في الحديث الثاني إن الإمام الباقر رضي الله عنه قال : إننا نعرف كل من نراه هل يصدر هذا عن مؤمن أم عن منافق ؟ ترى ما السبب الذي جعل الكليني يجمع كل حديث مخالف للقرآن في كتابه . ولعل هناك من سيقول أن الكيلني كان عامياً قليل الثقاة ولم يفهم ولم تكن لديه قوة التمييز ونجيبه إذن لماذا أثنى العلماء اللاحقون على كتابه إلى هذا الحد ؟ وما الغرض وما الفائدة من ذلك ؟!.
في الحديث الثالث : استدل الإمام الصادق بالآية 93 من سورة ص ولكنه حرّف الآية لأن الله قال : { هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب } وهذه الآية تتعلق بسيدنا سليمان عليه السلام حيث قال الله له إن هذه السلطنة والملك هو عطاؤنا فامنن أو أمسك . ولكن الإمام الصادق قرأها هكذا : ( هذا عطاؤنا فامنن أو أعط بغير حساب ) فغير الإمام الصادق الآية وبدلها وقرأ أعط بدلاً من أمسك . وقال هي كذلك في قراءة علي .
أليس في نقل هذه الرواية ووضعها ما يدل على ضلال الرواة وانحرافهم لأنهم قصدوا إلى تحقير القرآن وتحريفه .
ثانياً : لقد قاس الإمام نفسه بسيدنا سليمان وأجاب في مسألة واحدة بثلاثة أجوبة مختلفة ، واستدل نحن نجيب بما نشاء بدليل أن سليمان أعطى ما شاء ومن أراد أو لم يعط .
فهل القياس صحيح وذلك أيضاً القياس مع الفاروق ، أعطى سليمان مالاً لمن أراد أو لم يعط ولكن هؤلاء يغيرون حكم الله كما شاء لهم هواهم وكأن الآية لا تشملهم { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ... هم الظالمون ... هم الفاسقون } ماذا نعمل بهذه الروايات التي تخالف القرآن والعقل ؟ ولماذا ينقلونها كل يوم في كتبهم ؟.
[ أبواب التاريخ باب مولد النبي ^ ووفاته ^ ](154/487)
اعلم أن الكليني ابتدء بادئ ذي بدء في هذا الباب من ولادة الرسول ^ ووفاته ولم يذكر السند ولا الراوي ولا أي مدرك ويطابق ما قاله كثير من المؤرخين ، روى الكليني هنا 04 حديثاً وعد المجلسي 03 منها ضعيفاً ومجهولاً ومرسلاً ومرفوعاً وغير صحيح ورواتها على الغالب معيوبون وسيئو السمعة . على كل عرف ولادة النبي ^ أيضاً 21 ربيع الأول ، وهذا مخالف لعقيدة الشيعية حيث يعتبرونها في 71 ربيع الأول وعد وفاته ^ أيضاً 21 ربيع الأول وهذا أيضاً مخالف لعقيدة الشيعة حيث يعدونها 82 صفر . ولكن هذا يتوافق مع أهل السنة في الولادة وفي الوفاة أيضاً .
كأن الكليني نفسه كان بسيطاً ولم يكن يفرق بين المسلمين ولكن خطأه هو ما نقله عن الرواة المغرضين المفسدين صانعي المذاهب .
مثلاً روى الحديث الثالث : عن محمد بن عيسى وكان مذهبه الغلو وعن محمد بن عبدالرحمن وهو مجهول ومتنه يخالف العقل والقرآن لأنه يقول : خلق الله محمداً وعلياً قبل خلقه الكون وهذا مخالف للآية 41 من سورة المؤمنين حيث قال أن خلق الروح بعد إتمام خلق الجسم بالإضافة إلى ذلك فإن كل موجود يحتاج إلى ظرف ولا بد أن يخلق في ظرف ، مع هذا لم يخلق الأنبياء قبل الكون بل خلقهم بعد ذلك ، وبعد ذلك يقول جمعت أرواحكم وجعلتها واحداً وهذا يخالف العقل لأن شيئين لا يصبحان شيئاً واحداً ويقول بعد ذلك قسمت ذلك إلى قسمين ، والقسمين إلى أربع ، هذه التقسيمات يمكن القول بها في الجواهر الكثيفة أما في الروح فهذا غير ممكن ، ولكن الراوي قال ما شاء لأنه كا عامياً وصانعاً للمذاهب .(154/488)
في الحديث الخامس : ورواية محمد بن سنان الكذاب يقول أن الله فوض أمور خلق الكون إلى محمد وعلي وفاطمة وهؤلاء يحلون ما يشاؤون ويحرمون ما يشاؤون وكأن مشيئة الله هي اتباع مشيئة هؤلاء ، وانظروا أيها القراء كيف حقر هؤلاء الكذابون الله الذي كل يوم هو في شأن وجعلوا الله تابعاً لمحمد وعلي وفاطمة وقالوا بالتفويض في التكوين والتشريع مع أن القائل بالتفويض كافر .
في الحديث السادس : رواية صالح بن سهل المشرك لأنه قال بربوبية سيدنا الصادق وألوهيته .
قال هذا المشرك بعالم الذر في هذا الحديث عن قول الإمام الصادق مع أن عالم الذر مخالف للعقل والقرآن .
والحديث الثامن : رواه عن سهل بن زياد الكذاب السيء السمعة ويونس بن يعقوب وهو من الغلاة وهذان المسكينان رويا أن الله لما خلق السموات والأرض أمر المنادي بنداء شهادات ثلاث :
بشهادة التوحيد والنبوة وأن علياً أمير المؤمنين حقاً . فأما التوحيد والنبوة فليس فيهما كلمة حقاً هذا هو الذي جعل الشيخ صدوق يقول في ( زمن لا يحضره الفقيه ) : لعنة الله على من زادوا الشهادة الثالثة في الأذان وكانوا من المفوضة الذين أدخلوا أنفسهم في الشيعة .
وفي الحديث التاسع : أيضاً جعل خلق الأرواح قبل خلق الأجسام فهذا مخالف للآية 41 من سورة المؤمنين ورواته حسين بن عبدالله ومحمد بن إبراهيم وأحمد بن علي والثلاثة كلهم مجهولون مهملون وليس مستغرباً أن يروي هؤلاء روايات مخالفة للقرآن .
وكذلك الحال في الخبر العاشر : مع أن رواته محمد بن سنان المشهور بالكذب وجابر بن يزيد وهو من الغلاة .
وفي الحديث الحادي عشر والعشرين : روى سهل بن زياد الكذاب وأمثاله أنه كان في رسول الله ^ ثلاثة أشياء لم تكن في غيره .
أولاً : لم يكن له ظل ، وكان لا يمر في طريق إلا وفيه عطره حتى بعد يومين أو ثلاثة ، وكان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له .(154/489)
ولكن أحداً لم يسأل هؤلاء الكذابين لو كان لرسول الله ^ آثار كهذه لما أنكر نبوته أحد ولما كذبه وعانده أحد ولأسلموا له كلهم جميعاً ولما احتاج إلى كل ذلك الجهاد من الكر والفر في الحروب .
في هذا الباب الخبر 31 : أمر مضحك جداً ... ذلك لما عرج برسول الله ^ أوقفه جبريل موقفاً فقال له : مكانك يا محمد ، إن ربك يصلي ( يعني اصبر حتى تنتهي صلاة ربك ) فتعجب رسول الله ^ كما يتعجب كل سامع مسلم عاقل حيث يتساءل لماذا يصلي الله ، ولذا سأل رسول الله ^ يا جبريل كيف يصلي ؟ فأجاب جبريل ، سبوح قدوس ... إلى النهاية .
يجب القول أن هؤلاء الرواة المكرة كعلي بن أبي حمزة البطائني الواقفي صانع المذهب ، لا يمكن لهم أن يختلقوا أفضل من ذلك ... ولذا كان الله ـ نعوذ بالله ـ هو مرمى هدفهم هذه المرة .
في الحديث 51 ـ 61 : فيه أحمد بن محمد البرقي الشاك في الدين وابن فضال الواقفي وأبو جميلة الكذاب الذي عده جميع علماء الرجال ضعيفاً ووضاعاً للحديث وكذاباً .
روى الكليني وأستاذه علي بن إبراهيم عن هؤلاء السيئي السمعة روايات مخالفة للقرآن تماماً ، ومن جملة ذلك هذان الحديثان اللذان يقولان أن رسول الله ^ عرف أسماء أمته وأحوالها الصالح منهم والطالح وأهل النار منهم وغير أهل النار وعرف جميع أسمائهم وكانوا في قبضته مع أن القرآن يقول خلاف ذلك في سورة التوبة الآية 34 ـ 101 أنك لا تعرف من حولك ونحن نعلمهم . فضلاً عن سائر الأمة .
والحديث 81 : نقله عن أسوأ الناس ، أحمد بن هلال العبرتائي الذي لعنه الإمام وهو عن أمية بن علي القيسي الذي ذمه جميع علماء الرجال ووصفوه بالغلو والكذب وقد روى هو عن درست بن منصور الواقفي غير الواقف على حدود الله .
ولست أدري ألم يجد الكليني أحسن من هؤلاء الرواة .(154/490)
في الحديث 91 : نقل رواية تقول أنه بعد وفاة رسول الله ^ أتى آتٍ من الله ، وعد كثيراً من المدح والتعازي . والآن يجب أن نسأل هؤلاء الرواة المجهولين : هل بعد وفاة رسول الله ^ يأتي أحد بالرسالة أو الوحي ؟!.
وفي الحديث 52 : روى أن عبدالمطلب سأل فيل أصحاب الفيل ، هل تعلم لماذا أتوا بك ؟ فأجاب الفيل : لا ، والآن إذا سألنا هذا الراوي الجاهل لماذا أجاب ذلك الفيل وحده الذي يدعى محمود ولم يجد غيره من الفيلة فلربما أجاب أن ذلك الفيل كان مسلماً والبقية كانوا كفاراً .
وإذا سألنا لماذا سأل عبدالمطلب الفيل ؟ وهل الفيل يعقل ويكلف ؟ لقالوا : هذه معجزة عبدالمطلب . وإذا قلنا لهم : هل لغير الأنبياء معجزة من البشر . وإن قالوا نعم . قلت لهم : إذاً لم تثبت نبوة الأنبياء لقالوا لك : عقلك قاصر والفضول هنا ممنوع !.
في الحديث 72 : يقول أن رسول الله ^ رضع من ثدي أبي طالب مدة من الزمن ، وراوي هذا الحديث البطائني الذي أسس المذهب الواقفي ، والآخر درست الواقفي غير الواقف على حدود الله .
والسؤال : ما هي اعتبارات روايات من هذا القبيل يأتي بها بعض الرواة !.
في الحديث التاسع والثلاثين : سئل عن معنى جملة ( السلام على رسول الله ) من الإمام ، وكان السائل داود بن كثير الرقي الذي ضعفه علماء الرجال وعدوه فاسد المذهب ومرجع للغلاة والراوي عنه أيضاً هو محمد بن سنان الكذاب . والآن لنرَ ماذا كان جواب الإمام ! أو ماذا اختلقوا على لسان الإمام . قال : السلام هو أرض فيها كل ما تريدون ـ ولا خصومة فيها ـ أعدها الله للنبي وأهل البيت والشيعة .
ويبدو أن هؤلاء الرواة لم يعرفوا لغة العرب . فبناءً على هذه الرواية وعندما يقول الناس ( السلام على رسول الله ) يجب أن يقولوا ( السلام لرسول الله ) ولكن الرواة كانوا جهلة وهل كان الكليني إلا كأهل إيران لم يكن له معرفة في كلام العرب .
[ باب : النهي عن الإشراف على قبر النبي ^ ](154/491)
روى حديثاً واحداً في هذا الباب ورواته أيضاً أحمد بن محمد البرقي الشاك في الدين . روي عن جعفر المثنى حيث قال الممقاني في المجلد الأول من كتابه في الرجال ص 122 ، ضعفه علماء الرجال وعدوه واقفياً هذا سند الحديث ! وأما متنه ، يقول جعفر المثنى ، كنت في باب المدينة وقد سقط سقف المسجد الذي يشرف على القبر والعمال يصعدون وينزلون ونحن جماعة ، فقلت لأصحابنا من منكم له موعد يدخل علي أبي عبدالله ( الإمام الصادق ) الليلة ؟ ليصعد عن الصعود والإشراف على قبر رسول الله هل جائز أم لا ؟ ( لأن الشيعة الخرافيين عابدي الأوثان والقبور يحترمون القبر أكثر من صاحبه ) .
قال إسماعيل بن عمار الصيرفي ومهران بن أبي النصر ، نحن ... فلما كان الغد اجتمعنا ، قال إسماعيل ذهبنا وسألنا الإمام . فقال : ما أحب لأحد منهم أن يعلو فوقه ولا آمنه أن يرى شيئاً يذهب منه بصره أو يراه قائماً يصلي أو يراه مع بعض أزواجه ، وإذا كان هذا الحديث صحيحاً يظهر أن هناك علوماً ينسبونها إلى آل محمد وهذا الحديث من جملة هذه الأشياء ! وهذا يعني أن رسول الله ^ بعد مرور مئات السنين لم يزل في القبر ولم يذهب من عالم الفناء إلى عالم البقاء وأن الآيات القرآنية عندما تقول { لهم دار السلام عند ربهم } و { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } وعالم البرزخ وعدم اطلاع الأنبياء عليهم السلام من الدنيا بناءً على الآية 901 من سورة المائدة والآيات الأخرى كلها ـ نعوذ بالله ـ كذب ، وبعد مائة سنة من وفاته ووفاة أزواجه من بعده يريد أن يخلو بأزواجه في القبر !!.
هذا ما يقوله الرواة الغلاة الذين نصبوا أنفسهم حجة بينما هم لا دين لهم وجلهم من العوام ولكن روايتهم أصبحت حجة لنا اليوم ، والذين يطلبون أو يسعون لانحطاط المسلمين ويخافون من القرآن يقولون أن القرآن ظني الدلالة ولا بد أن يترك ويتمسك بأخبار كهذه للانغماس في الجهل والانحطاط يوماً بعد يوم .(154/492)
[ باب : مولد أمير المؤمنين ]
يقول الكليني في هذا الباب ، ولد علي رضي الله عنه من أمه فاطمة بنت أسد رضي الله عنها بعد الثلاثين من عام الفيل وهذا الكلام يرد جميع الروايات القائلة أن علياً أو نوره كان قبل خلق العالم وآدم في سورة الإنسان التي يقولون أنها نزلت بشأن علي رضي الله عنه . قال الله : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً . إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه } خلق الإنسان يعني علي رضي الله عنه من نطفة الأب والأم لا من النور ولا من شيء آخر ، على كل حال ورد أحد عشر خبراً في هذا الباب عد المجلسي 8 منها ضعيفة ومجهولة ومرسلة ومرفوعة ، أما متونها فهي طافحة بالموضوعات المخالفة للقرآن .
يقول في الخبر الأول والثالث : أبو طالب كان يعلم الغيب وأخبر عنه مع أن القرآن يقول : { لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } وفي الخبر الثاني وراويه محمد بن جمهور الكذاب الفاسد المذهب ، قال أشعاراً أحل فيها جميع المحرمات الإلهية ، عندما قال إن الناس يحشرون في القيامة عراة ، قالت فاطمة بنت أسد : واسوأتاه . فقال لها الرسول لله فإني أسأل الله أن يستثنيك ويكسيك . ولما كان الكلام عن ضغطة القبر قالت : واضعفاه . فقال لها الرسول لله فإني أسأل الله أن يكفيك ذلك .(154/493)
والسؤال الآن : هو هل المقررات الإلهية في القيامة تتغير من أجل أحد وهل فيها استثناءات . بالإضافة إلى ذلك يقول في هذا الخبر لما مرضت فاطمة رضي الله عنها عقل لسانها وأشارت بيدها إلى رسول الله . والسؤال الآن إذا كان علي أو رسول الله ^ هما وسيلتا الشفاء لدى الشيعة فلماذا لم يشفياها . إضافة إلى أنه لا حاجة بها إلى الإشارة لأن الأئمة في عقيدة الشيعة يعرفون ما في ضمائر الناس . وفي آخر هذا الخبر روى محمد بن الجمهور الذي لم يعتقد بالإسلام أن رسول الله لما وضع جسد فاطمة في القبر ناجاها وقال : ابنك ابنك ، ولما استوضحه أصحابه قال : لما سألها الملكان عن الولي والإمامة لم تستطع أن تجيب فعلمتها ابنك ابنك .
وهنا أيضاً سؤال : هل كان إمام علي من أصول الدين في زمن النبي ^ وحياته ؟ وإذا كانت كذلك فلماذا لم تعلم بها الأم في حياتها ؟ إن هؤلاء الرواة الذين لم يكن لهم عقيدة وإيمان ينسجون لنا أصول الدين !!.
وفي الخبر الرابع : روى البرقي الشاك في الدين عن أحمد بن زيد المهمل المجهول وهو روى عن عمر بن إبراهيم المجهول المهمل وهو عن عبدالملك بن عمر المجهول المهمل وهو عن السيد بن صفوان المهمل المجهول ، يعني روى مجهول عن مجهول عن مجهول آخر وهو روى عن مجهول أن مجهولاً لا يعرف اسمه ولا حاله ولا مذهبه جاء بعد وفاة سيدنا الأمير وبكى ومدح مدحاً كثيراً ثم غاب .
ولكن أحداً لم يسأل : هل أصبح هذا سنداً ومدركاً .
أما الخبر 5 ـ 6 : بغض النظر عن رواتهما ، يدلان أن قبر سيدنا الأمير لم يعرف مكانه إلى زمن سيدنا الصادق ولم تكن له أمارة أو علامة . إذاً فالروايات التي تقول : إذاً فالروايات التي تقول : إذا ذهبت إلى زيارته إن رأيت القبة فقل كذا وإذا وصلت باب المدينة فقل كذا وإذا وصلت إلى باب الصحن فقل كذا وادع الدعاء الفلاني وإذا وصلت إلى الضريح فقل كذا وكذا كلها مختلفة ومن كذب الرواة .(154/494)
وأما الخبر السابع : روى سلمة بن الخطاب الذي عده علماء الرجال ضعيفاً ولا اعتبار له عن محمد بن عبدالله المجهول والكذاب المعروف أو عن عبدالله بن القاسم المشرك الذي قال بربوبية الإمام الصادق وإذا كان هو الحضرمي فهو من الكذابين والغلاة وفاسدي المذهب وذمه علماء الرجال كثيراً وقالوا : لا يعتنى بروايته . رواة كهؤلاء رووا أن علياً رضي الله عنه لما انتهى إلى قبر عربي تلملم بلسانه وخرج ذلك الميت من قبره وهو يتكلم بلسان الفرس فقال له الأمير : ألم تمت وأنت رجل من العرب . قال : بلى ولكننا على سنة فلان فانقلبت ألسنتنا .
وإذا أردنا أن نقبل حديثاً كهذا من هؤلاء الرواة فعلينا أن ننكر كثيراً من الآيات القرآنية . لأن الله قال كثيراً : { وهو الذي يحي ويميت } وقال : { إنا نحن نحي الموتى } وقال أيضاً : { إنا نحن نحيي ونميت } بالإضافة إلى ذلك قال ذلك الرجل : متنا على سنة فلان وفلان ولم يعيين من هو هذا الفلان .
ولم يبينوا لنا لماذا من يموت على غير سنة علي يصبح لسانه فارسياً ؟!. ثم هل لعلي سنة غير سنة النبي ^ ؟ وهل نكون خارجين عن الإسلام إذا لم نقبل روايات هؤلاء الغلاة المشركين فيما يتعلق في الإحياء والإماتة . وهل نفقد إيماننا حينئذٍ ؟!.
[ باب : مولد الزهراء فاطمة رضي الله عنها ](154/495)
روى الكليني في أبواب المواليد في كتابه ليبين تاريخ ولادة الأئمة ووفاتهم ، ولكنه بدأ بالثناء والمدح عن قول الغلاة ، وإن هذا المدح والثناء هو السبب في فرحة شعبنا ولكنه جعل هذا الشعب المسكين يغفل عن أصول الدين والقواعد الإسلامية ، ولو كانت تلك المدائح مبنية على القواعد الدينية الصحيحة لما كان لنا عليها أي إشكال ولكن أكثرها لا يتوافق مع القواعد الدينية إطلاقاً ذلك أن بعض المغالين من المسلمين وبسبب فعل هؤلاء الرواة جعلوا الأئمة أعلى من البشر ويصفونهم بصفات أعلى من مستوى البشر مع أن جدهم رسول الله قال في القرآن { أنا بشر مثلكم } . ونقل هؤلاء الرواة كرامات ومعجزات كثيرة للأئمة حيث لم ينقل عشرها عن رسول الله . وفي عصرنا ألوف المداحين والنائحين لا يعرفون عشرة آيات من القرآن ولكنهم يحفظون ألوف الأشعار الوهمية والروايات المخالفة للقرآن في مدح الأئمة وجعلوا الدين متجراً لبضاعتهم .
مثلاً جاء في الحديث الرابع : أن الإمام الحسن دعا فنبتت نخلة ثم صارت إلى حالها فأورقت وحملت رطباً . فقال الجمّال ... سحرٌ والله !.
وجاء في الحديث الخامس : أن لله مدينتين في المشرق والمغرب عليهما سور من حديد وعلى كل واحدة منهما ألف ألف مصراع وفيها سبعون سبعون ألف لغة وكل لغة بخلاف الأخرى . وقال الإمام الحسن : وأنا أعرف جميع تلك اللغات وأنا وأخي حجة على جميع تلك اللغات ولا حجة غيرنا ( وما فيهما وما بينهما وما عليهما حجة غيري وغير الحسين أخي ) .(154/496)
والآن إذا قال أحد أنه في عصرنا قد كشفت مدن المشرق والمغرب بالطائرات والسفن الفضائية ولم توجد مدينة كهذه فيبدو أن هؤلاء الرواة توغلوا بالكذب واختلقوا هذه الأشياء الخرافية ليشغلوا المسلمين ومن يكذب بها ولا يوقن بها يكفرونه فوراً . بالإضافة إلى ذلك قال الله تعالى في سورة النساء الآية 561 . { لا حجة بعد الرسل } . وعلي رضي الله عنه جعل القرآن حجة كافية في نهج البلاغة وقال : ( أرسله بحجة كافية ) وقال في خطبة 09 ( تمت بنبينا محمد ^حجته ) فكيف يكون الإمام الحسن حجة ، وإذا أراد أحد المنصفين أن يظهر أمراً كهذا فإن كثير من المغرضين الغوغائيين يكفرونه لأنه يقول الحق . وهذه هي نتيجة مثل هذه الروايات المختلفة ولا نتيجة لها إلا الانحطاط والبعد عن جوهر الإسلام .
وفي الخبر السادس : روى رواية تقول أن الإمام الحسن أخبر عن الغيب ومع أن قدمه المبارك ورم في المشي وأصيب من جراء ذلك مع وجود المركب وعلى الرغم من ذلك فإنه لم يقبل الركوب ليحفظ سلامته ويركب مع أن حفظ الصحة واجب على كل أحد سواء في ذلك الإمام أو المأموم .
ولكن هذه الرواية لأنها في المدح يجب قبولها ولو كانت مخالفة للعقل والقرآن !.
يقول القرآن : لا يعلم الغيب أحد إلا الله ولكن هذا الخبر يقول : لا ، الإمام يعلم الغيب .
[ باب : مولد الحسين بن علي رضي الله عنهما ]
هنا بعد ذكر تاريخ ولادة الإمام الحسين ووفاته وشهادته روى تسعة أحاديث وأكثرها مجهولة وضعيفة ومرسلة ومرفوعة .
وأما متونها : جاء في الخبر الثاني : أنه بين ولادة الإمام الحسن والإمام الحسين كانت المدة هي طهراً واحداً ، يظهر أن السيدة فاطمة كانت لها حالة الطهر وغير الطهر فيكون هذا خلافاً للخبر الذي روي عن مولد فاطمة أنها رضي الله عنها لا تحيض .(154/497)
في الخبر الثالث : يقول أن الآية 51 من سورة الأحقاف : { ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثين شهراً } . يقولون أن هذه الآية نزلت في الإمام الحسين . وكأن الراوي لم يعرف أن هذه السورة مكية ، ولم يكن سيدنا الحسين قد ولد كي تنزل الآية بشأنه بالإضافة إلى ذلك لا يمكن أن تنزل الآية القرآنية لشخص واحد ، لأن كل أم تشعر بصعوبة الحمل ووضع الحمل ولا يختص ذلك بأم الإمام . بالإضافة إلى ذلك يقول في هذا الخبر والخبر الرابع أن السيدة الزهراء كانت غير راضية من ولادة الحسين ولم يفرحها ذلك .
أما أنا فلا أظن أن السيدة فاطمة يمكن أن تكون كذلك لأنها حتماً كانت راضية بكل ما أعطاها الله وهذا الرضا هو من مميزات الإيمان ولا يمكن القول أنها كانت غير راضية .
وزاد في الخبر الرابع : عندما قال الإمام الحسين ( أصلح لي في ذريتي ) أصبح كل أولاده أئمة ولو لم يقلها لما كانوا كلهم أئمة . فإذا صح هذا الحديث تكون تلك الروايات التي تقول أن الله عين الخلفاء والأوصياء والأئمة بعد رسول الله باسمهم وشخصهم سواء قبل الخلقة أو بعد بعثته ^ كلها مختلفة وكذب . لأن هذا الحديث الرابع جعل إمامة الأئمة موقوفة بمشيئة الإمام الحسين حيث قال : ( أصلح لي في ذريتي ) .
انظروا إلى هؤلاء الرواة كيف غابت عنهم حافظتهم ، وغفلوا عن أخبارهم المتناقضة ومن أعجب العجب أن يكون ألوف العلماء التابعين لهم واللاحقين قد خدعوا بهذه الروايات وبناءً على أخبار هؤلاء أوجدوا مذهباً .
يقول في تتمة الخبر الرابع أن الإمام الحسين لم يرضع من أنثى بل كان يؤتى به إلى النبي ^ فيلقمه لسانه ويتغذى به ، وهذا كذب واضح لأنه تغذى من حليب أمه كما هو ثابت .(154/498)
وفي الخبر الخامس : ولا يظهر ما اسم راويه لأنه لم يذكر اسمه ، قال عن قول الله عزوجل في سورة الصافات الآيتين 88 ـ 98 بشأن إبراهيم حيث قال : { فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم } كي لا يذهب مع الناس إلى النزهة ويبقى وحده ليكسر أصنامهم . قال هذا الراوي أن سيدنا إبراهيم نظر في النجوم وأرجى حساباته فعرف ما سيحدث لسيدنا الحسين فقال إني سقيم ... وبناءً على ذلك فلعل أبا الحسين وجده العظيمين كانا في مرض دائم لأنهم كانوا عارفين بمقتل الإمام الحسين رضي الله عنه !!..
روى في الخبر السادس : عندما لاحظت الملائكة مصيبة الإمام الحسين ضجت بالبكاء فأقام الله لهم ظل القائم وقال : بهذا أنتقم لهذا .
والسؤال هو : ترى عندما يأتي الإمام القائم هل سيكون قتلة الإمام الحسين موجودون وأحياء لينتقم منهم ، وإن كنت تقول بالرجعة وتربط هذا بها فيجب أن تعلم أن الرجعة مخالفة لكثير من آيات القرآن كما قال الله تعالى : { ثم إنكم بعد ذلك لميتون . ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ... حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعون . لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ... لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } .
والآيات الكثيرة التي ترد الرجعة ، ولا ندري ألم يحسب هؤلاء الرواة حساباً لمقولاتهم وموضوعاتهم ؟ وهل هم حقاً لم يفهموا ما الذي يختلقونه ؟ أم أن ذلك الإمام الذي نقل عنه هذه المختلفات كان قليل الفهم والملاحظة إلى هذه الدرجة !.
وهل هذه الأشياء هي من علوم الأئمة رضي الله عنهم والعجيب هو أنه يقول أن الملائكة ضجوا لمصيبة الحسين وناحوا .
ويقول في الخبر التالي أن الإمام الحسين اختار القتل ولقاء الله ويقول الشيعة أن الإمام الحسين كان يعشق لقاء الله ولهذا قاتلوه وقدموا له خدمة وألحقوه بمعشوقة ، وعلى الإمام القائم أن لا يغض الطرف عن هذه الخدمة وينتقم منهم .(154/499)
ويقول في الخبر الثامن ( بل هو تتمة السابع ) عندما أراد جيش كربلاء أن يطأ جسد الحسين بخيله فهمت ذلك فضة من الغيب وذهبت إلى جزيرة في البحر وأخبرت الأسد وجاء ذلك الأسد ووضع يديه على جسد الإمام وعندما رأى الجيش أن الأسد مانعهم دونه غضوا الطرف عن أن يطأوه . في هذا الخبر عدة جمل مخالفة للقرآن والحس .
الأول : أن السيدة فضة علمت الغيب وإرادة الجيش وقصده . وقال الله : أن العلم بما في الصدور خاص لله .
الثاني : أنها ذهبت إلى جزيرة في البحر مع أنه في كربلاء لا توجد جزيرة ولا بحر وحتى الآن لا يوجد شيء كهذا .
الثالث : هل الجيش الذي لم يخف من الإمام خاف من الأسد .
الرابع : لا يعلم أحد أصلاً صحة وجود فضة في كربلاء .
وفي الخبر التاسع : نقلوا أخباراً لا تفيد بشيء ورواها عدد من المجهولين والمهملين ولا يعلم أحد ماذا كانت صفتهم ومذهبهم . ولا أحد يعلم هدفهم من ذكر هذه الأخبار .
[ باب : مولد علي بن الحسين رضي الله عنهما ](154/500)
هنا بعد ذكر تاريخ ولادة سيدنا السجاد رضي الله عنه ووفاته روى ستة أحاديث عد المجلسي أربعة منها ضعيفة ومرسلة ومجهولة ، وفيها رواة كإبراهيم بن إسحاق الذي ضعفه علماء الرجال وعدوه فاسد المذهب غالياً فاسقاً مبتدعاً وعبدالرحمن بن عبدالله الخزاعي المجهول وابن فضال الواقفي المذهب ومحمد بن عيسى الغالي وأحمد بن محمد البرقي الشاك في الدين ومحمد بن سنان الكذاب الوضاع المعروف وأمثالهم . أما متونها : قال الإمام في الحديث الأول : لما أسروا بنت يزدجرد في خلافة عمر وأتوا بها إلى المدينة جعلها سيدنا الأمير رضي الله عنه من الفيء وسهم الإمام الحسين . يظهر أن سيدنا علي رضي الله عنه قد قبل حكم الخليفة وبيت المال والأسرى الذين أسروا بأمرهم ، بناءً على هذا لا يمكن اعتبار الخلفاء غاصبين ، ويقول في الخبر الثاني قال الإمام أن الناقة التي حملت الإمام السجاد إلى الحج بعد وفاة السجاد علمت تلك الناقة مكان قبره الذي لم تره قط وكان علمها من الغيب وجاءت إلى القبر وأهلكت نفسها . فلا بد من القول أن قول الله : { لا يعلم الغيب إلا الله } وعندما قال : { فقل إنما الغيب لله } يناقض هذا الخبر ... لأن الناقة أيضاً تعلم الغيب وكذلك الخبر الثالث .
وفي عصرنا تركوا الناقة التي حملت حملاً في الشارع في مشهد خراسان وذهبت الناقة داخل صحن الإمام الرضا فأحاطها الناس وأحدثوا صخباً وقالوا أن الناقة أتت لزيارة الإمام وبدؤا يجزون شعرها تبركاً بها وآذوها بذلك حتى ماتت .
وبعد ذلك جاء أحد علماء الشيعة ومجتهديهم إلى بيتي وسألني : ماذا تقول في هذه المعجزة وأن الناقة أتت إلى الزيارة هل تنكر هذا ؟ فسألته : لماذا اتراها أتت تلك الناقة بالذات ولم تأت غيرها ؟ وهنا أجابني ذلك المجتهد : أن هذه الناقة كان شيعية والباقيات سنيات !.(155/1)
ولكن يظهر من هذا الباب في كتاب الكافي ويستفاد منه أن هناك ناقة أخرى كانت شيعية ولا تنحصر النوق الشيعيات بواحدة بل قد تكونان اثنتان !.
ويقول في الحديث الرابع : إن الإمام أخبر عن موت شيء في الماء . ولكن هذا مخالف للقرآن ولا يرضى الإمام أن ينسب أحد إليه الأخبار المخالفة للقرآن ، لأن القرآن يقول : { لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } . وقال في آخر سورة لقمان : { وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت } وقال علي رضي الله عنه في نهج البلاغة في الخطبة 941 أنا لا أعلم موعد موتي وذلك خاص بالله تعالى . وكذلك في الخطبة 621 وفي رسالة 13 ـ 23 وغيرها ... فأي مرض أصاب هؤلاء الرواة حتى ينسبوا مثل هذه الأخبار إلى الإمام .
[ باب : مولد أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنهما ]
وروى في هذا الباب بعد ذكر تاريخ ولادة سيدنا الباقر ووفاته ستة أحاديث عد المجلسي خمسة منها ما بين ضعيف ومجهول ولا اعتبار له . وأما متونها فيقول في الحديث الأول : كانت أم سيدنا الباقر قاعدة عند جدار فتصدع الجدار وكاد أن يسقط فأشارت إليه بيدها واستخلفت الجدار أن لا يسقط فبقي الجدار معلقاً حتى مرت هي .
هنا يجب السؤال : هل يسمع الجدار ويعقل ؟ وهل تثبت المعجزات لغير الأنبياء ؟.
ثم إن سيدنا موسى عندما وصل إلى الجدار الذي يكاد أن يسقط لم يستحلفه لكي لا يقع ، ولم يقل له إن الله لا يأذن لك بالسقوط . بل إن القصة تقول في سورة الكهف أن الخضر باشر بتعمير ذلك الجدار حين قال الله تعالى وفي الآية 77 : { فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجراً } .
يقول في الحديث الثاني : مر جابر بن عبدالله في المدينة في طريق فيه كتّاب فرأى فيه الإمام الباقر وسأل عن اسمه وقبله وبلغه سلام رسول الله ^ .(155/2)
يظهر من هذا الخبر أن سيدنا الباقر كان يذهب إلى المكاتب لتحصيل العلم والكتابة وأن علم الإمام علم تحصيلي ، وأنّ ما جاء في باب أن الأئمة قد أوتوا العلم وباب أن الأئمة ورثوا علم النبي وباب أن الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء وسائر الأبواب ، نقول يظهر أنها كلها من وضع الرواة الجهلة .
وكذلك ما جاء في الخبر الثالث من هذا الباب حيث قال الراوي : هل كان رسول الله ^ وارثاً لعلوم جميع الأنبياء وأنتم ورثة علم الرسول ؟ قال الإمام : نعم . ثم قال : هل تقدرون أن تحيوا الموتى وتشفوا المرضى قال : نعم بإذن الله .
والسؤال : ترى هل تلكم الله مع الإمام حتى يأذن له بكل ذلك ؟ بالإضافة إلى ذلك جاء في القرآن أن إحياء الموتى وشفاء المرضى لله وحده فقط ، وورد في دعاء الجوشن الكبير ، قال رسول الله ^ لا يحيي الموتى إلا هو لا يشفي المرضى إلا هو ، وخزائن القدرة ليس لدى الرسول ولا لدى الإمام . كما قال الله لرسوله : { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله } فتكون هذه الأخبار مخالفة للقرآن ومن صنع المغرضين ، ويقول أبو بصير في نهاية هذا الخبر : كنت أعمى فمسح الإمام على وجهي فأبصرت .
ولذا ففي عصرنا يذهب بعض الماكرين الذين سمعوا هذه الأخبار إلى قبور الأئمة وأولاد الأئمة ويجعلون أنفسهم عمياناً وبعد مدة من التمسح بالقبر يصيح ويحدث ضجة مدعياً أنه قد كان أعمى فشفاه الإمام .
كما أنهم أحدثوا ضحة كبيرة في زمن فرهاد مرزا بن فتحعلى شاه في مشهد الإمام الرضا وقد حققنا في ذلك وكشفنا خداع هؤلاء المخادعين فيرجى الرجوع إلى كتابنا ( الخرافات ... في زيارات القبور ) للمؤلف نفسه ، والكتب الأخرى في هذا المجال .(155/3)
والعجيب في آخر هذا الخبر أن الإمام يقول لأبي بصير إذا كنت تريد أن تكون لك الجنة خالصة فعد كما كنت . فقبل أبو بصير فمسح الإمام وجه أبي بصير وعاد إلى ما كان والإشكال هو أن الأنبياء لا يعدون أنفسهم من أهل الجنة ، وعلي رضي الله عنه يقول في دعاء كميل ( ليت شعري ) وأدعيته مليئة بأنه كان يخاف من عاقبة أمره وأوصى أولاده قائلاً أن لا نجاة لهم إلا بالتقوى . ولكن هنا قال الإمام لأبي بصير أنك من أهل الجنة .
وفي الحديث الرابع : قال الراوي كنت عند الإمام يوماً إذ وقع زوج حمائم عند الإمام وتكلما معه ساعة ثم طارا إلى الحائط وحط الذكر على الأنثى ثم نهضا . فقلت : ما قصتهما . قال : يا ابن مسلم ، كل شيء خلق الله من طير أو بهيمة أو شيء فيه روح فهو أسمع لنا وأطوع من بني آدم ! إن هذا الحمام ظن بامرأته فحلفت له ما فعلت وقالت : نرضى بمحمد بن علي حكماً . فرضينا بي فأخبرته أنه لها ظالم فصدقها .
والسؤال الآن هو : إن كان جدهم رسول الله لم يكن يعرف لغة اليهود العبرية فكيف يعلم هو لغة الحيوان وحتى عندما افتروا على عائشة ظلماً وزوراً لم يعلم طهارتها واستشار فيها سيدنا علي رضي الله عنه ولكنه هو أيضاً لم يعلم شيئاً وقال لرسول الله ^ اترك عائشة . حتى نزلت آيات البراءة والتطهير .
والحال أنه كيف يعلم الإمام الباقر عفه الطيور ؟ أليس هذا مخالفاً للقرآن ؟ أليس هذا من وضع الغلاة وهل يمكن أخذ سند مذهبي عن قول هؤلاء الرواة المجهولين ؟!.
[ باب : مولد أبي عبدالله جعفر بن محمد رضي الله عنهم ](155/4)
روى الكليني بعد ذكر تاريخ ولادة الإمام الصادق ووفاته ثمانية أحاديث وجعل العلامة المجلسي ثمانية ما بين ضعيف ومجهول وغير معتبر . وأما متونها فهي : جاء في الحديث الأول أن للإمام الباقر قال : إني أدعو في الليل والنهار ألف مرة لأهل المعصية من شيعتنا . فهل لهذا المقال حقيقة ؟. ألا يكون هذا مشجعاً للشيعة على الغرور والصلف والتمادي في المعصية ، وإن كان هذا عمل حسن من الإمام فعليه أن لا يبوح به لأحد .
وجاء في الحديث الثاني : أن موظفي المنصور ألقوا النار في دار الإمام الصادق وعندما اشتعلت النار كان الإمام يمشي فيها ويتخطاها وقال : أنا ابن إبراهيم خليل الله . وهذا العمل مخالف للعقل والقرآن .
لأن سيدنا إيراهيم لم يذهب ويلقي بنفسه في النار بل ألقاه أعداؤه فجعل الله النار عليه برداً وسلاماً . كما قال في القرآن . { قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } . ولكنه في هذا الخبر جعل الإمام الصادق يتخطى النار ويمشي فيها طواعية .
ثانياً : إن اجتناب الخطر واجب بحكم العقل والقرآن سواء في ذلك الإمام أو المأموم .
ثالثاً : ليس لأحد من الناس أن يفتخر بآبائه وأجداده ويمشي على النار .
إن هؤلاء الرواة يظنون أن هذه الروايات هي مزايا في حق الإمام بينما تعتبر نقيصة في حق الإمام العاقل العالم العامل .
وفي الحديث الثالث : روى المعلى بن محمد الغالي قصته عن البرقي الشاك في الدين والذي كذبه أقوى من صدقه ، وهكذا فإن الذين يشكون في دينهم يصنعون لنا المذاهب !
وفي الحديث الرابع : يونس بن ظبيان الملعون الذي لعنه . الإمام الرضا ألف مرة . قال هذا الخبيث : رأيت الله في الكعبة ووضع يده على رأسي . رأسي .(155/5)
نقول : رجل كهذا وأمثاله نقلوا أن الإمام قال خلافاً للقرآن : إن خزائن الأرض ومفاتيحها بيدنا مع أن الله قال لرسوله : { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله } وقال في مكان آخر : ( إن من شيء إلا عندنا خزائنه ) بالإضافة إلى ذلك فإن كانت مفاتيح الأرض ومعادنها وخزائنها بيد الإمام فقد كان من الأجدر به أن يستخرج النفط والذهب والمعادن الأخرى للمسلمين ولا يتركها بيد الكفار ويكون المسلمون أسرى للكفار وقواهم .
روى في الحديث الخامس : أن الإمام الصادق رضي الله عنه ضمن الجنة لغاشٍ شارب للخمر إذا ترك ذلك مع أن هذا يخالف آيات القرآن لأن الله قال لرسوله في سورة آل عمران الآية 21 : { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } وقال في سورة الزمر الآية 91 : { أفأنت تنقذ من في النار } وقال في آية أخرى : { وما أنت عليهم بوكيل } وكأن الله أوكل للإمام أن يضمن الجنة للعاصين . لست أدري هل للأئمة أن يخالفوا كتاب الله ؟! والأعجب أن ذلك العاصي مات فقال الإمام لأبي بصير بعد موته : قد وفى صاحبك بوعده ، ويظهر أن الجنة كانت باختيار الإمام والأعجب من هذا كله أن القرآن يقول : { لا يعلم الغيب إلا الله } ولكن أبا بصير قال : فلما دخلت على الإمام قال لي منذ أن دخلت البيت ولا تزال إحدى رجليّ في الصحن والأخرى في دهليز داره : يا أبا بصير قد وفينا لصاحبك . فيبدو أن الإمام علم من الغيب أن الرجل مات ودخل الجنة .
وكذلك في الخبر السادس : قال الإمام الصادق ، كان الإمام يعلم الغيب وقال : يا هذا اتق الله وأخبره بما هو جار بين المنصور ورسوله ، مع أن القرآن يقول صراحة : { لا يعلم الغيب إلا الله } فهل هذه هي الأخبار المخالفة للقرآن هي علوم الأئمة رضي الله عنهم ؟!.
[ باب : مولد أبي الحسن موسى بن جعفر ](155/6)
روى الكليني في هذا الباب بعد ذكر ولادة سيدنا موسى بن جعفر رضي الله عنه ووفاته تسعة أحاديث عن المجلسي سبعة منها ما بين ضعيف ومجهول أما متونها فتدل على أن سيدنا الكاظم كان يعلم الغيب وأخبر عنه مراراً بالإضافة إلى ذلك فهذه الروايات تخالف القرآن لأن الله قال : { لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } ولدينا قرائن تدل على أن هذه الروايات موضوعة وكاذبة ومن جملة هذه الدلائل أن علماء محدثين من الشيعة قالوا أنه كان لسيدنا الكاظم ثلاثة وكلاء يقومون بأموره وكان الناس بواسطتهم يوصلون أمورهم إلى الإمام . أحدهم علي بن أبي حمزة البطائني والثاني عثمان بن عيسى والثالث زياد بن مروان القندي وهؤلاء الثلاثة كلهم صاروا خونة من بعده إذ أنه عندما توفي سيدنا الكاظم رضي الله عنه في السجن أكلوا الأموال التي كانت لديهم وتصرفوا بالجواري الموجودة عندهم وادعوا أن موسى بن جعفر لم يمت بل غاب وسيظهر في آخر الزمان . وهؤلاء هم الذين أوجدوا المذهب الواقفي والسبعي ( من الأئمة السبعة ) وقد لعنهم سيدنا الرضا فلو كان سيدنا الكاظم يعلم الغيب لما وثق بهم وجعلهم قيمين على أمواله وأموره .
[ باب : مولد أبي الحسن الرضا رضي الله عنهم ](155/7)
ذكر في هذا الباب أحد عشر خبراً جعل المجلسي ثمانية منها ما بين ضعيف ومجهول ومرسل ، ولا يمكن للمسلم أن يتخذ من هذه الأخبار أساساً ومنبعاً لعقيدته وسنداً إلهياً يقوم عليه المذهب ، وهذه الأخبار الإحدى عشر عبارة عن أخبار غيبية حيث أن الرواة الغلاة نقلوها عن الإمام أو هي معجزات صدرت بحق الإمام بادعاء هؤلاء الغلاة ، وقد نقلت أضعاف هذه المعجزات عن مرشدي الصوفية أو زعماء المذاهب الأخرى ولا تترتب عليها أية فائدة وليست هي من شروط الإمامة ولا يشترط في الإمام الإخبار عن الغيب وعمل السحر والكهنة أو فعل خوارق العادات كسحرة الهند بل يشترط في الإمامة والحكم العلم والعدالة وحسن التدبير . كان من الأفضل أن يقوم هؤلاء الأئمة بدل تناقل هذه المعجزات والأخبار والمغيبات باختراعات تفيد الأمة الإسلامية ، أو يحفروا عدواً من الأقنية للمياه ويبنوا المصانع لتفيد عامة المسلمين . وإننا نوجب الاحترام والسيادة والإمامة لكل من يرشد الناس إلى الحق ويجاهد في ذلك دون أن ينتظر المعجزات ويدعم مكانته بها . ولذلك فيجب أن يتوجه المرء أولاً نحو الحقائق الصحيحة للدين والعقائد الأصيلة فيه وبعدها يستطيع أن يقدر هل مدعو الإمامة يبنون ادعاءهم على الحقائق والعقائد الإسلامية أم أنهم فقط يهدفون إلى تبجيل أنفسهم وسيادتهم .
[ باب : مولد أبي جعفر محمد بن علي الثاني
رضي الله عنهما ]
ذكر في هذا الباب بعد ذكر تاريخ ولادة سيدنا جواد الأئمة ووفاته اثنا عشر خبراً ، عد المجلسي أحد عشر منها ما بين ضعيف ومجهول ومرسل ، وفيها رواة سيئو السمعة ومجهولون كمحمد بن حسان الذي عده علماء الرجال ضعيفاً وراوياً للروايات الضعيفة وسهل بن زياد الكذاب وأمثاله .
أما متونها فقد جاء في الحديث الأول أن علي بن خالد الزيدي قال : كنت في العبادة ودخل الإمام الجواد وأخذني بطي الأرض إلى مسجد في الكوفة وإلى مسجد الرسول والمسجد الحرام ثم أرجعني !.(155/8)
وهنا يجب القول أن رسول الله ^ عندما أخرجوه من مكة ذهب إلى غار ثور وكان حافي القدمين ومن ثم ذهب إلى المدينة ولم تكن له معجزة طي الأرض ، وأما الإمام الجواد والذي لم يكن له مقام النبوة فقد طويت له الأرض ! إن هؤلاء الغلاة غالوا في الأئمة قدر ما استطاعوا .
وفي الحديث الثاني : يقول الراوي الخرافي أنه أراد أن يأخذ التراب الذي يطأ عليه سيدنا الجواد وسعى عدة أيام ولم يوفق وانتبه سيدنا الجواد إلى ذلك ، وبذل جهده لكي لا يتمكن ذلك الراوي من جمع التراب ويتاجر بذلك ، مع أن الرواة ربما جعلوا ذلك من معجزات الإمام مع أنه كان من واجبه عليه أن يمنعه صراحة . ويظهر أن محتوى هذه الكتب المذهبية هو أعمال الناس المساكين المتزلفين .
استدل في الحديث الثالث : بالآية 21 من سورة مريم التي قالها الله بشأن سيدنا يحيى { وآتيناه الحكم صبياً } أن سيدنا الجواد حاز مقام الإمامة في السابعة أو التاسعة من عمره ، فلا بد أن نقول كما أشرنا سابقاً أن هذا قياس مع الفارق وهو باطل ، لأنه إذا حاز طفل مقام النبوة فلا يمكن أن يصل أي طفل آخر إلى النبوة قياساً عليه .
ثم إن النبي يوحى إليه ولكن الإمام لا يوحى إليه ، وكلمة { آتيناه الحكم صبياً } تفيد أن الحكم غير معلوم في هذه الآية وربما يكون القضاء أو الحكمة ، ومن أين يثبت أنها النبوة .(155/9)
في الحديث الخامس : قال داود بن قاسم الجعفري المعروف بأبي هاشم الذي تتناقض رواياته وهي مليئة بالغلو ، كما سيأتي بيانه في باب عدد الأئمة أن الإمام أخبر عن الغيب وبين رسائل لم يظهر أصحابها ولا عناوينها ويجب القول : أن الآيات التي تقول { لا يعلم الغيب إلاّ الله } ترد هذا الخبر إلا إذا قلنا : أن أبا هاشم نفسه كان يهيء الحافظة والإمام عرف الرسائل بحسن حافظته ومن علاماتها عرف ممن هي ولمن . وكذلك الحديث التالي حيث انتبه الإمام إلى عطش الراوي وسقاه ماءً . ومع أن الكليني أراد أن يجعل من هذه معجزة ! ولكننا نقول أن شروط الإمامة هي الحكمة والعدالة والتدبير الحسن وليس ما يرويه الكليني .
في الحدث 7 : ذكر أن الإمام الجواد أجاب عن 000.03 مسألة في مجلس واحد . ولكن أحداً لم يسأل علي بن إبراهيم هذا الذي كان يقول بتحريف القرآن ماذا كانت تلك المسائل ، وإن كل مسألة مهما كانت بسيطة تحتاج وسطياً إلى عشرين دقيقة لبيانها فتحتاج إذن 000.03 مسألة إلى عشرة آلاف ساعة من الوقت ، وهذا يعني أن ذلك استغرق مجلساً واحداً طال سنين .. ما هذا الغلو !.
ترى لماذا لم يفعل الأنبياء هذه الأعمال ولم ينسبها أحد إليهم .
الحديث 9 ـ 21 : فيه محامل صحيحة غير إعجازية وليس من المفيد أن نقضي أكثر من أشهر من عمرنا في كتاب مثل الكافي ومهملاته .
[ باب : مولد أبي الحسن علي بن محمد رضي الله عنهما ]
ولد سيدنا أبو الحسن الهادي علي بن محمد رضي الله عنهم في أواسط ذي الحجة عام 012 وتوفي عام 452 في الرابع من جمادي الآخرة وحمله المتوكل بواسطة يحيى بن هرثمة من المدينة إلى سر من رأى ، وتوفي هناك ودفن فيها كما نقل الكليني . وروى هنا 9 ـ أحاديث ضعف المجلسي جميعها أو قال بجهالتها أو إرسالها ولذا نحن لن نتعرض إلى ذكر رواتها .(155/10)
أما متونها في الخبر الأول : أخبر الإمام الهادي بقتل الواثق بالله وجلوس المتوكل مكانه أخبر بذلك خيران الراوي حيث أن الواثق مات قبل تلك النبوءة بستة أيام حيث أن الراوي خيران كان مسافراً وأتى من العراق ولم يطلع على ذلك . هذا الخبر برأي الكليني معجزة ورواه في كتابه مع أن كثيراً من الأخبار تصل إلى المدينة قبل المسافر ، وهنا قال الإمام : الناس يقولون هكذا ، ولكن الراوي توهم أن الإمام أخبر عن الغيب والعجيب أنه لم يصدق نفي الإمام لذلك .
وفي الحديث الثاني : أرى الإمام للراوي الجنة والحور والقصور التي لم يطلع الرسول عليها بنص القرآن ، أراه ذلك في السجن ، ترى ألم يعرف الكليني أن هذا الخبر مخالف للقرآن . قال الله في سورة الأعراف الآية 781 : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل علمها عند ربي } . ثم هل الجنة موجودة الآن أم أنها ستوجد ؟ كثير من المحققين يقولون أن الجنة الآن غير مخلوقة والله أعلم . فهل نقول أن الإمام قال بعمل السحر والطلاسم . هذا لا يليق به .
وفي الخبر الثالث : أن قصاب الإمام كرمه الله عمل بطي الأرض حسب قوله وذلك أولاً أن الراوي مجهول الحال وثانياً أن رسول الله في هجرته المباركة لم يتح له شيء كذا ولم يعطه الله كرامة كهذه . وفي الخبر الرابع مرض المتوكل من خراج أصابه وطلب العلاج من الإمام فأمره أن يؤخذ كسب الشاة فيخلط بماء ورد ويوضع عليه ففعلوا وتحسنت صحة المتوكل .
هل يمكن القول أن هذا العمل معجزة . يبدو أن الكليني يعتبر ذلك معجزة .. يعني إذا لم يفعل إمام المسلمين وحاكمهم هذا العمل فإمامته باطلة ، وكذلك هي الأخبار الأخرى !.
[ باب : مولد أبي محمد الحسن بن علي رضي الله عنهما ](155/11)
يقول الكليني أن ولادته كانت في شهر رمضان وفي نسخة أخرى في ربيع الأول 232 ووفاته في ربيع الأول 062 ودفن في سر من رأى روى هنا 72 حديثاً ، وعد المجلسي 62 منها ضعيفة ومرسلة ومجهولة ولا يمكن الاعتماد عليها لأن أكثر رواتها مجهولو الأحوال ومن الضعفاء وكانوا من موظفي الحكومة العباسية . والآن كيف يمكننا أن نقبل كل هذه الأحاديث ونصدقها ، وماذا نفعل بالأحاديث المخالفة للقرآنه والأخبار الغيبية والإخبار بما في ضمير الناس والتصورات المذهبية حيث يقول القرآن لا يعرفها إلا الله .
هل الأخبار هي التي تحكم على القرآن أم أن القرآن هو الحاكم عليها ؟ هل القرآن هو الميزان أم الخبر ؟.
[ باب : مولد الصاحب رضي الله عنه ]
روى الكليني في هذا الباب 13 حديثاً وعد العلامة المجلسي 22 منها بين ضعيف ومجهول ، وجمع الكليني هذه الأخبار لإثبات ولادة الإمام ووجوده . مع أن رواة هذه الأخبار على الأكثر مجهولو الأحوال ومجهولو الهوية وضعاف ، ولا يثبت شيء بقول هؤلاء .
ثانياً : لم يأتِ هؤلاء في رواياتهم بما يدل على رؤية الإمام ولندرس نحن هذه الأخبار واحداً واحداً .
أما الحديث الأول : فقد روى عن أحمد البرقي الشاك في الدين والمذهب وقد أخرجه أهل قم منها ، هذا الشخص روى أن توقيعاً جاء من الإمام الحسن لما قتلوا الزبيري وكان قد كتب فيه : هذا جزاء من زعم أنه يقتلني وليس لي عقب ، ثم أضاف البرقي نفسه قال : ولد له ولد ، ولكن لم يأت بدليل .
وأما الحديث الثاني : فقد نقل الرواة المجهولو الأحوال عن رجل من أهل فارس لم يذكر اسمه ولا مذهبه ومسلكه أنه قال : كنت في بيت أبي محمد فرأيت جارية معها شيء معطر قلت لها : اكشفي عما معك فكشفت عن غلام أبيض حسن الوجه وكشف عن بطنه فإذا شعر نابت من لبته إلى لبته أخضر ليس بأسود . ثم قال : هذا صاحبكم .
والآن من هذا الفارسي لا أحد يعلم ذلك ! ومن كانت تلك الجارية ومن كان ذلك الطفل أيضاً لا أحد يعلم .(155/12)
أما الحديث الثالث : نقله عن رجل سمي بغانم الهندي الذي ذهب إلى بغداد ، وجاء أحدهم إليه وقال له : هل أنت غانم الهندي قال : نعم وأخذه إلى بستان فرأى شخصاً جالساً فقال له مرحباً يا فلان وتكلم معه باللغة الهندية وسأله عن حاله . وقال له : هل تريد أن تحج مع أهل قم قال : نعم . قال : لا تحج معهم وانصرف سنتك هذه وحج في قابل . والآن لا أحد يعلم من الذي رآه وقال له لا تذهب إلى الحج ! هل كان غرض ذلك الهندي المجهول أن يثبت المذهب الإثنا عشري بهذه التفاصيل التافهة ، وهل يثبت المذهب بكلام رجل هندي مجهول الحال ؟ وهل يجوز لأحد أن يأتي بمذهب بعد نبي الإسلام ودين الإسلام ؟ هل يجوز أن تنحصر الإمامة والقيادة بإثنى عشر شخصاً ؟!.
أما الحديث الرابع : فيه حسن بن نضر وأبو صدام الذي كان وكيل ناحية على حد قول الممقاني في المجلد الأول من كتابه في الرجال ص 213 ، وكانت قد تجمعت لديه أموال وتحير وقام بالتحقيق حتى ذهب إلى سر من رأى وأخذوه إلى بيت عليه ستر فنودي منه ، أحمد الله ولا تشكنّ وأما هو لم ير أحداً ولم يعين من كان المنادي وماذا كان حسبه ونسبه . يقول المؤلف : هل أصبحت هذه هي الحجة ؟ وهل يمكن الإجابة غداً في القيامة عندما يسأل الله هؤلاء الرواة المجاهيل ؟! يريد الكليني أن يعد الناس كلهم من جملة الذين كانوا وكلاء الإمام وكانوا متحيرين .(155/13)
أما الحديث الخامس : قال محمد بن علي بن مهريار الذي ادعى أبوه علي بن مهريار الوكالة عن الأئمة وجمع مالاً كثيراً وصرف على نفسه ، يقول ابنه هنا ، كنت أشك في وجود الإمام وعدم وجود إمام بعد سيدنا العسكري وقد جمعت أموالاً كثيراً عند أبي وحملها أبي وركب السفينة ، وخرجت معه ماشياً فتوعك توعكاً شديداً وقال : يا بني ردني فهو الموت . وقال لي : اتق الله في هذا المال وأوصى إلي فمات . فقلت في نفسي : لم يكن أبي ليوصي بشيء غير صحيح ، وحملت الأموال معي إلى العراق واشتريت داراً على الشط وبقيت أياماً ... إلى أن يقول في النهاية : حتى وصلتني رقعة فيها : جعلناك مكان أبيك ، مع أن هذا الوكيل بن الوكيل لا رأى الإمام ولا نقل دليلاً . فهل يمكن إثبات شيء عن طريق هؤلاء الوكلاء الذين جمعوا أموال الناس وكانوا متحيرين ! ربما كانوا من الذين جمعوا أموال الشيعة البسطاء باسم الوكالة وسرقوها .
أما الحديث السادس : فهذا أقل صدقاً من الكل لأن أبا عبدالله النسائي ( ولا يُعلم اسمه ولا عمله ) يقول : أوصلت أشياء إلى المرزباني ولا أحد يعلم من هو وماذا كان عمله ، ولماذا أوصل إليه أموالاً حيث كان فيها سوار وردّه وأمر بكسره ، فكسره وأرسل له الذهب الخالص وقبل .
والآن يجب السؤال : من هو أبو عبدالله النسائي ومن هو المرزباني ؟ وذهب ذلك السوار ترى من أية مسكينة كان ؟ وما هذا الخبر الذي لا أول له ولا آخر ؟! نرجو من الله أن لا يكتشف أعداء الإسلام أن في كتبنا مثل هذه الموهومات !.
أما الحديث السابع : فهو أكثر نقصاً من سابقه لأنه يقول قال الفضل الخراز المدايني ولا يعلم من هو وماذا كان عمله ، قال : إن قوماً من أهل المدينة من الطالبيين كانوا يقولون بالحق ، وكانت الوظائف ترد عليهم فلما توفي أبو محمد ( سيدنا العسكري ) رجع قوم منهم عن القول بالولد فوردت الوظائف على من ثبت منهم على القول بالولد وقطع عن الباقين .(155/14)
حسن ! ما نتيجة هذا الخبر وما الفائدة منه ؟ وما هدف الكليني من ذكره ، لا أحد يعلم ذلك ، ربما كان ذلك بشأن كثرة سواد الجيش بالله عليكم هل هذا الحديث صحيح ؟!.
أما الحديث الثامن : هو مثل سابقيه لأنه يقول : أوصل رجل من أهل السواد مالاً ! والآن من كان هذا الرجل وماذا كان اسمه ؟ وأي مال هذا وأين أوصله ؟ لماذا لم يعين في هذا الحديث ؟ ثم رد عليه وقيل له : اخرج حق ولد عمك ، والسؤال : هو أن القرآن يقول : لا يعلم الغيب إلا الله . فمن هذا الذي أخبر عن الغيب إن كان هو الإمام فهل يوحى إليه ؟ وإن كان مرشداً أو شيخاً أو شيطاناً ، فمن الممكن أن يكون ذلك من وحي الشيطان . وبالإضافة إلى ذلك لا يعرف الراوي محمد بن علي ، ومن كان المقصود أصلاً .
أما الخبر التاسع : قال قاسم بن الهلال وكأنه كان وكيلاً لأحد الوجهاء ، ولد لي عدة بنين ، فكنت أكتب وأسأل الدعاء فلم يأت الجواب ومات كلهم ، فلما ولد لي الحسن ابني كتبتُ وتضرعت فأجبتُ . والسؤال هو : إلى من كتب ؟ لا يُعلم ، وإن كان كتب إلى الإمام هل كان الإمام يعلم الغيب ويعلم أن أبناده لا يبقون حتى لم يجب وبالإضافة إلى ذلك يقول : احترام الإمام مع الخدام يعني أن الوكالاء يخبرون عن الغيب عن الإمام وتكون لهم معجزات وذلك لكي يزيد الناس في دفع الضرائب ، وإلا فإن العالم ليس مخبراً عن الغيب ، ثم إنه يمكن أن يكون ابنه الحسن بقي بالصدفة .. فلم يكن ثمة دعاء مستجاب ولا معجزة ؟!.
أما الخبر العاشر : وهذا أيضاً مهمل كسابقه لأنه يقول : قال أبو عبدالله بن صالح المجهول الحال ولا نعلم مذهبه ولا عمله ، خرجت سنة من السنين من بغداد ، ولا معنى لهذه الجملة ، ولا بد أن يقول خرجت من بغداد فاستأذنت في الخروج فلم يؤذن لي ، فأقمت اثنتين وعشرين يوماً فأذن لي . لا أحد يعلم ممن استأذن هذا المجهول ومن أذن له بعد 22 يوماً ، وماذا يريد الكليني أن يثبت بهذه القصص التي لا أول لها ولا آخر .(155/15)
أما الخبر الحادي عشر : أيضاً كسابقه لأنه روي عن مجهول عن نضر بن صباح البجلي وهو أيضاً مجهول ومهمل وهذا روي عن مجهول آخر يسمى محمد بن يوسف الشاشي قال : خرج لي باسور في مقعدتي فأريته الأطباء وأنفقت عليه مالاً ، فقالوا : لا نعرف له دواء . فكتبت رقعة أسأل الدعاء ، فوقع عليه السلام إلي : ألبسك الله العافية وجعلك معنا في الدنيا والآخرة . قال : فما مرت علي جمعة حتى عوفيت والموضوع هنا هو أن هذا المجهول يريد أن يقول إن الإمام مستجاب الدعوة ، وإن كان الأمر كذلك فقد كان من الواجب أن يشفى فوراً لا بعد أسبوع ، بالإضافة إلى ذلك إذا فتح رأس الباسور فإنه يشفى بعد عدة أيام سواء كان الداعي مستجاب الدعوة أم لم يكن ، ولسنا ندري هل يقصد الكليني بهذه الأخبار أن يملأ كتابه أم ترى كان له هدف آخر ، وإلا فإن هذه الأخبار لا ترد باطلاً ولا تثبت حقاً .
أما الخبر الثاني عشر : فهو أيضاً كسابقه ، روى علي المجهول عن علي بن الحسن اليماني وهو أيضاً مهمل مجهول قال كنت ببغداد فتهيأت قافلة لليمانيين فأردت الخروج معها ، فكتبت ألتمس الإذن في ذلك فجاءت رسالة فيها : لا تخرج معهم ، فليس لك في الخروج معهم خيرة وأقم بالكوفة ، فأقمت وخرجت القافلة فخرجت عليهم ( حنظلة ) وهي قبيلة فاجتاحتهم . وكتبت أستأذن في ركوب الماء فلم يؤذن لي ، فسألت عن المراكب التي خرجت في تلك السنة في البحر فما سلم منها مركب . ثم يقول : ذهبت إلى سامراء وصليت في المسجد وبعد فراغي من الزيارة إذ بخادم قد جاءني فأخذني إلى بيت حسين بن أحمد ثم سارّه ، ولم إدرِ ما قال له ، حتى آتاني جميع ما أحتاج إليه ، وجلست عنده ثلاثة أيام واستأذنته في الزيارة من الداخل فأذن له ، فزرته ليلاً .(155/16)
يقول المؤلف : هذا الحديث أشبه ما يكون بمن يروي حلماً رآه في نومه . من هو هذا المستأذن ؟ وهل كل من أراد السفر عليه أن يستأذنه من جهة الإمام الغائب ، إن كان قصده من الإذن هي الجهة فإن هذا الجواب الذي أتى به مخالف للقرآن لأن الله قال في سورة الأحقاف لرسوله : { قل ... ما أدري ما يفعل بي ولا بكم } ولكن هذا المجهول يقول : إن المجيب علم أن اللصوص يهاجمون القافلة الفلانية أو يهلك المسافرون في البحر ، وهذا خلاف القرآن وبالنهاية أخذوه إلى بيت حسين بن أحمد ، من كان هذا وماذا كان عمله ولماذا بقي عنده ثلاثة أيام ، ومن زار ؟ وما معنى الداخل والخارج . يقول المؤلف : إن الناس يظنون أن كتاب الكافي كتاب علمي معقول ولا يتوقعون أبداً أن يكون فيه مثل هذه الموهومات والمهملات .
أما الحديث الثالث عشر : فهو كسابقيه بل أشد إهمالاً منها جميعاً ، ولأنه طويل جداً فإنه يشبه حديث المرء مع نفسه بحيث لا يرتبط أول الكلام بآخره ، وليته احتوى موضوعاً علمياً أو معقولاً .
أما الحديث الرابع عشر : روى علي وهو شخص مجهول عن مجهول عن محمد بن الحسن وهو مجهول ومهمل قال : شككت في أمر حاجز ( كان يدعي وكالة الإمام الغائب وما عرف هويته ) فجمعت شيئاً ثم صرت إلى العسكر ( سر من رأى ) فخرج إلى ( رفعة ) : ليس فينا شك ولا فيمن يقوم مقامنا بأمرنا ، رد ما معك إلى حاجز بن يزيد . يقول المؤلف : انظروا إلى هذا الحديث قال مجهول : شككت في أمر مجهول آخر ، ثم ذهبت سامراء وكتب مجهول لم أره .. هل هذا أصبح مدركاً دينياً ، هل هذه المهملات هي علوم الأئمة .(155/17)
أما الحديث الخامس عشر : روى علي بن محمد غير معلوم الحال ، عن محمد بن صالح وفيه اختلاف عند علماء الرجال . هل وكيل الدهقان مجهول الحال أم وكيل سيدنا العسكري ، أم وكيل ابنه ؟ وكان من الذين جمعوا أموالاً باسم الإمام ! ترى ماذا عمل بتلك الأموال ! لا يعرف ذلك أحد ، لأن الإمام إذا غاب لم تعد له حاجة في أموال الناس . على كل حال يقول هذا الذي لا يُعلم حاله : عندما توفي أبي ، صار الأمر لي وكان لأبي على الناس سفاتج من مال الغريم . يقول الممقاني يعني من مال الإمام : ( يظهر أن أباه أيضاً أخذ الوجوهات باسم الإمام ) فكتبت إليه ، أعلمه فكتب : طالبهم واستقص عليهم . فقضاني الناس إلا رجلاً واحداً كانت عليه سفتجة بأربعمائة دينار فجئت إليه أطالبه فماطلني واستخف بي ابنه وسفه علي . فشكوته إلى أبيه فقال : وماذا كان ؟ فقبضت على لحيته وأخذت برجله وسحبته إلى وسط الدار وركلته ركلاً شديداً فخرج ابنه يستغيث بأهل بغداد ويقول : قمّي رافضي قتل والدي ، فاجتمع علي منهم خلق كثير فركبت دابتي وقلت : أحسنتم يا أهل بغداد تميلون مع الظالم على الغريب ، أنا رجل من أهل همذان من أهل السنة وهذا ينسبني إلى أهل قم والرفض ليذهب بحقي ومالي ، فمالوا عليه وأرادوا أن يدخلوا حانوته حتى أوقفتهم . وطلب إلى صاحب السفتجة وحلف بالطلاق أن يوفيني مالي متى أبعدتهم عنه .
أيها القاريء الكريم : انظر كيف أخذوا أموال الناس بالقوة باسم وكالة الإمام وفضلاً عن هذا جمعوا هذه الأشياء كأحاديث ذكروها في خيرة كتبهم باسم علوم الأئمة ، وأثبتوا هذه الموهومات كأدلة على وجود إمام الزمان وولادته ، مع أنها لا تتعلق بالولادة ولا بالزعامة أبداً .(155/18)
وأخبار هذا الباب كلها من هذا القبيل وفيها أسوأ من هذه ، ونقل الأخبار من الغيب عن الإمام الغائب على الأكثر وناقلوها لم يطلعوا على القرآن إطلاقاً وهم كذلك مجهولو الأحوال ، وارجع أيها القاريء الكريم إلى باقي الأخبار في هذا الباب فستجد الغرائب . ومن جانب آخر فإن الشيعة على الرغم من أنهم يعتقدون بالنواب الأربعة في الغيبة الصغرى فإنهم في هذا الباب يعتقدون بالوكالة والنيابة ويؤمنون بها .
[ باب : ما جاء في الإثني عشر والنص عليهم ]
روى في هذا الباب عشرين حديثاً وعد العلامة المجلسي 71 منها ما بين ضعيف ومجهول ومرفوع وأراد الكليني أن يثبت في هذا الباب الإمامة المنحصرة بالإثني عشر ولكنه أخطأ وأثبتها لثلاثة عشر ، مع أن إمامة الإسلام وقيادته وحكمه غير منحصر ولا محدد لأن الله أعطى هذا الحق لكل عبد يسعى ويسأل الله أن يكون إمام للمتقين كما ذكر الله في صفات الرحمن في سورة الفرقان الآية 47 : { والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً } .
يعني أن العلم والصدق والتقوى والعمل الصالح والتعلم ليس منحصراً في الإسلام بأحد ، وكذلك الأمر بالنسبة للإمامة والقيادة أو لنقل أن الحكم ليس انحصارياً ولكن الكليني وأمثاله سعوا أن يجعلوه انحصارياً بالأحاديث المختلفة والروايات المجهولة . والآن نحن نثبت في هذا الباب أن أخبار الكليني جميعها لا اعتبار لها ولا يمكن أن نترك ما ورد في القرآن بسببها .
أما الحديث الأول : روى عن البرقي وذكر في سند الحديث الثاني أن محمد بن يحيى الأشعري القمي قال لمحمد بن حسن الصغار يا أبا جعفر أحببت أن يرد هذا الخبر عن غير طريق أحمد بن أبي عبدالله البرقي ( ذلك أن البرقي كان شاكاً في دينه ومذهبه وحيراناً ) فأجابه محمد بن حسن الصغار أن البرقي روى هذا الخبر قبل حيرته وشكه وتحيره بعشر سنين .(155/19)
فانظر أيها القاريء الكريم إلى الذين يشكون في دينهم ومذهبهم كيف يوجدون لنا المذاهب وأسانيدها أيضاً .
روى البرقي في هذا الحديث عن أبي هاشم الجعفري وهذا له أخبار متناقضة أيضاً في موضوع الإمامة نفسها روى هنا عن الإمام التاسع أن الخضر قد جاء إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه وعد أسماء الأئمة وعددهم إلى الثاني عشر وفهم ذلك أبو هاشم ورواه . ولكن أبا هاشم هذا بعد مضي عدة سنين لم يعرف الإمام الحادي عشر .
وفي كتاب الكافي هذا في باب الإشارة والنص على أبي محمد رضي الله عنه في الحديث العاشر يقول أبو هاشم نفسه : كنت عند الإمام الهادي وظننت أن أبا جعفر سيد محمد ابنه كان إماماً . ولما توفي هذا الابن كنت أفكر وأقول : ربما أبو جعفر سيد محمد وأبو محمد حسن العسكري في هذا العصر مثل موسى بن جعفر وإسماعيل بن جعفر وقصتهما مثل قصتهعما حيث كان المفروض أن يصبح موسى بن جعفر ، ولما توفي ( أي قبل الإمامة ) أصبح إسماعيل بن جعفر إماماً .
فيظهر من هذا الباب أن السيد هاشم لم يكن يعرف من هو الإمام الذي يلي الإمام اعلاشر . وأما هنا فيبدو أنه عرف ذلك وقبل سنوات ... فلسنا ندري عرف أو لم يعرف !.
وهذا هو التناقض ! والآن كيف لم يفهم الكليني هذه الأخبار وهي على هذه الدرجة من الوضوح في التناقض وأورد خبرين متناقضين في كتابه ؟!.
أما متن الخبر ففيه علائم الكذب والاختلاق ، وهذا الخبر الذي نقل عن أبي هاشم أن أمير المؤمنين أقبل ومعه الحسن بن علي وهو متوكيء على يد سلمان فدخل المسجد الحرام فجلس إذ أقبل رجل حسن الهيئة واللباس فسلم على أمير المؤمنين وجلس ثم قال : يا أمير المؤمنين أريد أن أسألك عن ثلاث مسائل إن أخبرتني بهن علمت أن القوم ركبوا من أمرك ما قضى عليهم ـ أي أخذوا حقك ! ـ وأنهم ليسوا بمأمونين في دنياهم وآخرتهم .(155/20)
وهنا لا بد من القول أن الخبر لم يذكر في أي تاريخ كان علياً رضي الله عنه في مكة مع أن الإمام الحسن كان متوكئاً كالسلاطين المدللين على يد سلمان الشيب ! وقد كان سلمان آنذاك قد غدا مسناً وضعيفاً وعلي رضي الله عنه كان رجلاً قوياً . حسناً إن الخبر يقول : جاء رجل حسن الهيئة وسأل عن ثلاثة أشياء وقال : إذا أجاب عنها علي دل ذلك على أنهم غصبوا حقه !.
والآن لنتساءل ما هي تلك الأشياء الثلاثة ؟ وهل كانت متعلقة بشؤون المملكة والحكم أم لا ؟.
فقال له علي اسأل ما بدا لك ! قال : أخبرني عن الرجل إذا نام أين تذهب روحه ؟ وعن الرجل كيف يذكر وينسى ؟ وعن الرجل كيف يشبه ولده الأخوال والأعمام ؟. فالتفت سيدنا علي إلى الحسن فقال : يا أبا محمد أجبه . قال : فأجابه الحسن . وهنا لا بد من التساؤل عن أشياء كثيرة فالظاهر أن الإمام الحسن كان كبيراً وكان متأهلاً وله ولد يدعى محمداً ولذا كان يقال له أبو محمد . وجاء في عام كهذا إلى الحج ، وليس في التاريخ شيء كهذا .(155/21)
ثانياً : أراد الراوي الوضاع أن يوهم الناس أن الإمام الحسن سيكون إماماً بعد علي رضي الله عنهم إذ هو استطاع أن يجيب عن تلك المسائل الثلاث . والآن لا بد من التفكير : هل تراها كانت الأجوبة صحيحة أم أن الراوي الكذاب توهّم ذلك ؟! وأما جواب الإمام الحسن كما جاءني في كتاب إكمال الدين لصدوق في باب ما أخبر به الحسن بن علي بن أبي طالب من وقوع الغيبة وهو : قال أما ما سألت عنه من أمر الإنسان إذا نام أين تذهب روحه ، فإن روحه تعلق بالريح ( ولم يبين أي ريح ) والريح معلق بالهواء ( ولا ندري ما هو الفرق بين الريح والهواء ) حتى يفيق صاحب الروح بإذن الله ثم ليأذن الله للروح بالرجوع ، ثم يلصق الروح إلى الريح ويجذب الريح إلى الهواء ويرجع الروح ويسكن إلى جسم صاحبه ! وإذا لم يأذن الله بذلك فلن يستيقظ صاحب الروح إلى القيامة . وأما مسألة التذكر والنسيان فقلب المرء في حقة وعليهما طبق وإذا صلى المرء على محمد وآله في ذلك الحين ( حين النسيان ) ارتفع الطبق عن الحقة وتذكر المرء كل ما نسيه ، وإذا لم يصل أو صلى صلاة مبتورة كأن لم يذكر آل محمد بقي ذلك الطبق على حاله على الحقة ويظلم القلب وينسى المرء ما ذكره وهنا لا بد أن نسأل الراوي الوضاع : فلماذا يتذكر أولئك الذين ليسوا بمسلمين إذن ما نسوه بلا صلاة على النبي وآله ؟. وأما الجواب عن المسألة الثالثة : لماذا يشبه الولد عمه وخاله فعلّته هو أن الرجل إذا قارب زوجته بقلب ساكن وعروق هادئة وجسم غير مضطرب فنزل النطفة في الرحم نفسه وفي هذه الحال يشبه الولد الأم والأب ولكن في حالة الاضطراب تنزل على بعض العروق وإذا نزلت على عروق الأعمام أشبههم وإذا نزلت على عروق الأخوال أشبههم !!.(155/22)
ونحن نرجو الله أن لا تصل هذه الروايات إلى أيدي الأطباء الاخصائيين بعلم الأجنة وغير المسلمين لكي لا يتصوروا أن هذه الموضوعات هي من المعارف الإسلامية وأن حكام المسلمين قد سادوا العالم بهذه الموهومات والخرفات !.
وبعد ذلك أعجب السائل الحسن الهيئة واللباس بهذه الأجوبة وبدأ يشهد لله بالوحدانية وبرسالة الرسول وإمامة الأئمة واحداً تلو الآخر باسم كل إمام واسم أبيه . والظاهر أن هذا السائل كانت تشغله هذه المسائل أعواماً طوالاً وكان حملها ثقيلاً على قلبه وعقله .. وعندما حلت هذه المشاكل الكبيرة والهامة وجب عليه تقديراً أن يلهج بالثناء والاعتراف بالفضل لا للمجيب وحده بل لأمه وأبيه وأبنائه وأقربائه وأوصيائه !!.
وعندما ذكر أسماء الأئمة إلى الثاني عشر وشهد على ذلك قال في النهاية : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ثم قام فمضى . فقال أمير المؤمنين : يا أبا محمد اتبعه فانظر أين يقصد ؟ فخرج وأعلم أمير المؤمنين بذلك فقال علي : هو الخضر عليه السلام !!.(155/23)
ولنسأل الآن هذا الراوي الوضاع الأفاك : من هو الخضر ؟ وما عمله ؟ وقصة حياته من الموهومات ! بالإضافة إلى ذلك : ما هذا العمل الذي فعله ، وإذا شاء أن يثبت حقانية علي والأئمة فلماذا جاء وجلس وقال ومضى ولم يعرفه أحد حتى الحسن ، وماذا تفيد شهادته لعلي . وإذا كان القصد هو إثبات خلافة الأئمة فقد كان عليه أن يعرف نفسه إلى العموم ثم يشهد بكل هذا ليكون حجة على الناس . ولكن يظهر من الرواية أنه لم يكن هناك أحد غير هذا السائل ولكن صانعي المذاهب لم يتنبهوا إلى سوء نتائج مقالاتهم وقد كان همهم هو تخريب الإسلام وإيجاد التفرقة بين أبنائه ونحن قد بينا في أبواب النصوص على الأئمة أن أصحاب الأئمة لم يكن أحدهم يعرف هذه الأخبار المختلقة والموضوعة ولم يعرفوا أسماء الأئمة الإثني عشر باسمهم ورسمهم . حتى أن كل واحد منهم كان يلح في سؤال إمامه عن الإمام الذي يليه .
وحتى أبو هاشم هذا نفسه راوي هذا الحديث لم يعرف أيضاً كما ذكرنا في باب النص على أبي محمد الحسن بن علي وحتى بعض الأوقات الأئمة أنفسهم لم يكونوا يعرفون من سيكون الإمام بعدهم ، كما عين الإمام الصادق رضي الله عنه إسماعيل بعد نفسه وقد توفي قبل الإمام الصادق وقال الإمام : حصل البداء ! وسيكون الإمام ابني موسى وعين سيدنا الهادي أبو جعفر السيد محمد وقد توفي في زمان أبيه . وقال الإمام رضي الله عنه حصل البداء ! وسيكون الإمام ابني الآخر أبو محمد . والآن إذا سأل أحد : كيف لم ينتبه علماء الشيعة إلى ذلك اختلاق هذه النصوص ؟ الجواب : أن حب الشيء يعمي ويصم .(155/24)
ذلك أنه عندما قتل أولاد علي رضي الله عنه ظلماً اتجهت قلوب الناس وتأثرت عطفاً وبكاءً عليهم ومن جانب آخر عندما كان الحكم بيد الأمويين والعباسيين تنبه الناس إلى أولاد علي رضي الله عنهم وكل همهم وتفكيرهم كان منصباً لرفع ظلم الحكام عنهم وكانوا يأملون أن يأتي من يأخذ لأولاد علي حقهم ويكون أحسن من النظام القائم ، ولذا أصبح كل من يضع حديثاً ويختلفه باسم أولاد علي وفضلهم يقبله عامة الناس بلا شك وبدون تأمل . وعلى سبيل المثال اختلقوا أحاديث تقول أنه سوف يأتي شخص من أولاد علي في آخر الأمر وسيهدم نظم الظلم هذه ، ولأن الناس كانوا يقبلون كل حديث .(155/25)
ولذا عمد عدد من المغرضين والذين لا دين لهم إلى ذلك ووجدوا الفرصة مناسبة لهم للإيقاع وبث التفرقة بين المسلمين قدر ما استطاعوا ذلك عن طريق وضع الأحاديث المختلقة ، ولذا قامت مذاهب كثيرة نتيجة لهذه الأحاديث الموضوعة ، وللأسف صدق بعض علماء المسلمين والمذهبيين هذه الموضوعات بسبب بساطتهم وجمعوها في كتبهم ، وأكثر هذه الموضوعات وجدت في القرن الثالث الإسلامي حين كانت الدولة الإسلامية في أوجها وفي كمال قدرتها .. وكان المغرضون يحترقون حسداً مما وصلت إليه الدولة الإسلامية من ازدهار وحضارة ، ولم يجدوا بداً من تخريب ذلك فدخلوا الإسلام ظاهراً ليكيدوا له في الخفاء . وكان لهم ذلك وفعلاً لجأوا إلى وضع الأحاديث الكاذبة وخدعوا بعض المتعصبين مذهبياً فأخذ هؤلاء تلك الأحاديث ليدعموا بها مذاهبهم وظنوا صحتها بالتأويلات والتوجيهات التي لا علاقة لها بذلك وحتى لو كانت باطلة بطلاناً محضاً . ومن جهة أخرى فقد كانت تسعون في الماءة من هذه الأحاديث مخالفة للقرآن ، ونحن لا نظن أن الله يغفر لهذه الفئات التي أوجدت التفرقة وقامت على العناد والجهل ، وكان من جراء ذلك قيام مذاهب لا تتفق أقوال أتباعها وأقوالهم مع القرآن ، وليس في القرآن أي ذكر لها ، وقد كانوا يعتبرون كل ما لم يعتبره الله ورسوله من أركان الدين وأصوله ، نقول : كل ذلك كانوا يعتبرونه من الأصول والأركان فجاؤوا بذلك بدين جديد .
وعلى سبيل المثال : لقد اختلقوا ألوف الأحاديث والمعجزات لإثبات الإمام المنصوص عليه وصاروا يعدون إنكارها كفراً ويعدون الخرافات والأكاذيب المختلفة حجة .. مع أن الله تعالى نفى أية حجة بعد رسله كما في سورة النساء : الآية 561 ولكن صانعي المذاهب يقولون قال الإمام : أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم ) وبهذه الواسطة جعلوا مختلقات الأموات العوام حجة لشعبنا ومصدراً لاستعباده !.(155/26)
أما الحديث الثاني : فهو الحديث الأول نفسه وقد روي عن البرقي وأبي هاشم الجعفري نفسهما ، والمتن واحد .
وأما الحديث الثالث : فهو حديث لوح جابر وله أهمية كبيرة عند الإمامية والشيعة وعلاقتهما كبيرة به مع أنه لا اعتبار له من حيث السند والمتن معاً ، ونحن قد بينا بطلانه في كتابنا الخرافات الوفور في زيارات القبور من ص 761 إلى ص 081 وبينا كذبه ، وأوردنا 62 نقداً لمتنه . ولأن الشيعة تعظم هذا الحديث كثيراً ، لذا نذكر هنا ما ذكرناه في الكتاب الآنف الذكر بشأن هذا الحديث .
إعلم أن جابر الأنصاري كان من أصحاب رسول الله ^ وكان حسن السمعة ، ولأنه كان حسن السمعة فقد نقل أحد علماء الرجال عن سفيان الثوري أنه قال : وضع باسمه ثلاثون ألف حديثاً ولم يكن يعرف هو نفسه شيئاً عنها ( أي جابر ) ولسوف يتبرأ ذلك الرجل الثقة من هذه الأحاديث المكذوبة المنسوبة إليه .
يقول المؤلف : إذا كان قد وجد في عصر سفيان الثوري قبل ألف وثلاثمائة سنة من قام بوضع هذا العدد الضخم من الأحاديث ، فبعد هذا يكون من باب أولى وضع أكاذيب كثيرة باسمه وتنسب إليه ، ومن جملة هذه الموضوعات هذا الخبر الذي روى في هذا الباب من الكافي . وروِى هذا الخبر في كتاب إكمال الدين للشيخ صدوق وأيضاً في كتاب إثبات الهداة للشيخ حر العاملي وكذلك في كتاب عيون أخبار الرضا وفي سائر كتب الشيعة أيضاً ، ويظهر الكذب المزيف بوضوح بيّن في سنده ومتنه ونحن نورد الخبر بتمامه كما نقله الكليني ثم ندرسه .(155/27)
وروى محمد بن يحيى ومحمد بن عبدالله بن عبدالله بن جعفر عن الحسن بن ظريف وعلي بن محمد ، عن صالح بن أبي حماد عن بكر بن صالح عن عبدالرحمن بن سالم ، عن أبي بصير ، عن أبي عبدالله رضي الله عنه قال : قال أبي لجابر بن عبدالله الأنصاري إن لي إليك حاجة فمتى تجد وقتاً مناسباً أخلو بك فأسألك عنها . فقال جابر : أي وقت من الأوقات تحب فأنا حاضر ، فخلا به في يوم من الأيام . فقال له : يا جابر أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أمي فاطمة عليها السلام بنت رسول الله ^ وما أخبرتك به أمي أنه مكتوب في ذلك اللوح . فقال جابر : أشهد بالله أني دخلت على أمك فاطمة عليها السلام في حياة رسول الله ^ فهنأتها بولادة الحسين ورأيت في يديها لوحاً أخضر ظننت
ونحن نقول : هذا حسن لقد امتحن كل واحد من أصحاب الأئمة حتى وصلوا إلى الشقاوة أو السعادة فلماذا لم يظهر بعد ، الإمام المنتظر وإذا كان سوف يظهر بعد ألف وأربعمائة سنة فماذا ينفعهم ظهوره . وإن امتحان الله عباده يكون لكمالهم ونضجهم هم ويكون الامتحان كما قال القرآن بالشدة والخوف ... { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال ، والأنفس والثمرات وبشر الصابرين } ولا يتعلق الامتحان أصلاً بغيبة الإمام أو ظهوره وقد كان الامتحان قبل أن تكون الأئمة وسوف يبقى حتى بعد ذهاب الأئمة .
فلا ينحصر الامتحان بغيبة أحد أو إمام ولا معنى لذلك أصلاً ، نعم أحد وسائل الامتحان هو وجود الولي العادل أو الظالم ولكن الكليني قصر الامتحان على عدم وجود الإمام وغيبته فقط .
[ باب : أنه من عرف إمامه لم يضره تقدم هذا الأمر
أو تأخره ]
روى في هذا الباب سبع روايات عد المجلسي ست منها ضعافاً وعد السابع مجهولاً وفيه رواة معيوبين كحزير ومحمد بن جمهور الكذاب الغالي ، وكعلي بن أبي حمزة البطائني الواقفي .(155/28)
وأما متنها ففيه إشارة إلى معرفة الإمام ولكن لم يبين لماذا يعرف الإمام كل شيء ؟ هل الإمام من أصول الدين أو فروعه أم الإمام تابع للإسلام ، سئل الفضيل بن يسار عن الآية 17 من سورة الإسراء ، قال الله فيها : { يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلاً } .
ولا ندري ماذا يريد الفضيل أن يقول بشأن هذه الآية والإمام لم يبين أيضاً ما هو الإمام ومن هو ؟ قال فقط : إعرفه وإذا عرفته فلا يضرك تقدم ظهوره أو تأخر ، ولقد كان الفضيل هذا من صانعي الأئمة وأراد أن يقول أن كلمة الإمام ذكرت في هذه الآية للولي .
ولكنه ما عرف أنه قد ورد في لسان العرب والمسلمين أن الإمام يطلق على الكتاب وكذلك لصحائف الأعمال وللوالي كذلك ويقال للذي يهدي الناس أو يضلهم ويقال للأم أيضاً كما ذكر الطبرسي ذيل هذه الآية وهذه المعاني .
وقد أطلق القرآن كلمة الإمام على هذه المعاني ولكن الفضيل لم ينتبه ولم يبين له الإمام أيضاً ما هو وجه الصواب . ترى من هو المقصود من كلمة الإمام في هذه الآية ؟ وتجب استخراج معنى كلمة الإمام هنا من القرائن المرافقة للكلمة .
وعلى سبيل المثال في هذه الآية المقصود من كلمة الإمام هو كتاب الأعمال أو كتابهم الديني بدليل ما جاء في نهاية الآية : { فأولئك يقرؤون كتابهم } والأخبار التي تقول : ( من مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية . أو مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة الجاهلية ) ونرى أن المقصود من كلمة الإمام في هذه الأخبار هو القرآن ، وقد أطلقت كلمة الإمام كثيراً على القرآن في كلمات الرسول ^ وكذلك في كلمات الأئمة ومنه سيدنا الأمير رضي الله عنه في نهج البلاغة ، وخاصة في الروايات التي قد وردت كلمة ( لم يعرف ) لأن المعرفة بشيء تعني العلم به ومعرفته وفهمه بشكل حسن وإدراكه ويصح هذا بشأن الآيات القرآنية .(155/29)
أما الإمام الغائب فكيف تمكن معرفته ؟ وعلى كل حال فمع أن المقصود من الإمام لم يظهر في هذه الروايات نفسها ولكن بالقرائن العقلية يمكن القول بأن كتاب الله هو المقصود ، وهو في زماننا القرآن الكريم وكل من لم يطلع عليه ولم يعرف ما يحتويه يكون كافراً ككفار الجاهلية بل أسوأ منهم لأنهم كانوا إذا استغاثوا بغير الله في دعائهم وتوسلوا بكبرائهم فإنه لم يكن لهم كتاب ولا هداية ، ولكن المسلمين علمهم كتابهم مائة مرة أن لا يستغيثوا بغير الله ولا يجعلوا أحداً غيره حاضراً وناظراً .
ولكن لم يستمع هؤلاء لذلك وكأنه لا علم لهم فهم أسوأ بذلك وأدنى من كفار الجاهلية ، ومع هذا يمكن أن يقول أحد أيضاً : من هو المقصود من هؤلاء في تلك الروايات ، أهو الإمام البشري ؟ وفي الجواب لا بد أن نقول أنه هل يمكن أن تكون معرفة بشر تابع للدين أشد ضرورة من معرفة الدين نفسه والقرآن ، ذلك أنه إذا لم يطلع على القرآن أحد صار من غير الممكن أن نعرف التابع من المتبوع . ثم إذا كان القصد من معرفة الإمام هو أنه أصل الدين أو فرعه أو أحد المؤثرات في الكون فهذا هو عين الكفر والشرك أو بالتالي فإن التغاضي عنه من أكبر أسباب السعادة والنجاة .
[ باب : من ادعى الإمامة وليس لها بأهل ومن جحد الأئمة
أو بعضهم ومن أثبت الإمامة لمن ليس لها بأهل ]
روى إثني عشر حديثاً في هذا الباب في ذم الذين يدعون الإمامة وليسوا لها بأهل وفي ذم الذين ينكرون الإمام الحق ولكن لم يتبين من هذه الأحاديث ما هي أهلية الإمامة ، وإذا كان القصد من الإمام هو والي المسلمين فهي لم تبين ما الذي يشترط في الإمام ؟ فلا فائدة إذن من الروايات المبهمة .(155/30)
وأما إسنادها ورواتها فقد قال المجلسي بضعف أحد عشر حديثاً منها وجهالتها لأن رواتها معلومي الحال كمحمد بن سنان الكذاب المشهور ومن الغلاة والآخر أبو سلام وأبو وهب كلاهما مجهولان ، ومحمد بن الجمهور أيضاً أحد الرواة من الكذابين الوضاعين وحاله معلوم ... وهكذا ...
وأما المتون : علاوة على الإبهام وقلة الفائدة ففيه إشكال آخر وهو أنه خصص الآية بالأئمة علماً بأنها عامة ولا علاقة لها بالإمامة كالآية 06 من سورة الزمر : { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين } ولأنها نزلت في مكة فهي تتعلق بكل من يتكبر ويجعل دينه وسلوكه منسوباً إلى الله سواء إماماً كان أو مأموماً أو لا أحد منهما !.
ذلك أنه في مكة لم يكن هناك إمام وإمامة وكذلك في سورة الأعراف الآية 82 : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن لله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون } والمتفق عليه أن هذه السورة مكية وتتعلق الآية بكل ما يعمل السوء ويعتبره جبراً إلهياً ولا يتعلق هذا بمدعي الإمامة ، وكذلك تمسك بالحديث 11 في تفسير الآية من 561 حتى الآن 761 من سورة البقرة : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله ، والذين آمنوا أشد حباً لله } وهذه الآية أيضاً عامة ولا تختص بمحبة الإمام الحق أو الباطل ، ولكن هؤلاء الرواة تلاعبوا بالآيات بقدر ما وسعهم وباسم الإمام وتحت ظل النفاق ونشروا أوهامهم !.
[ باب : من مات وليس له إمام من أئمة الهدى
وهو من الباب الأول ](155/31)
روى هنا أربعة أحاديث ضعف المجلسي ثلاثة منها . والحديث الرابع خبر أحاد ولا يمكن الاعتماد عليه والاحتجاج به في العقائد خاصة إذا كان رواته من أمثال عبدالكريم بن عمرو الواقفي الغالي مرجع الغلاة وعابدي الأئمة وكمالك بن عامر المهمل والمجهول ـ على كل يقول رسول الله ^ من مات وليس له إمام فقد مات ميتة جاهلية ـ والقصد من هذا الحديث هو الإمام الذي جعله الله هادياً ، وليس للمسلمين إمام معين صرح القرآن بكونه هادياً غير القرآن نفسه ... لأنه قد وردت آيات كثيرة أن القرآن هو سبب الهداية ومنها الآية 2 من سورة البقرة : { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } وجعل أتباعه هم المفلحون { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } وقد انحصرت الهداية بالقرآن في الآية 021 حيث قال تعالى : { قل إن هدى الله هو الهدى } وفي الآية 951 جعل كل من يكتم هدى الله وبيانه ملعوناً . وقال : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } والكتمان هو خلاف البيان فيجب أن تتلى آيات القرآن على الناس علناً لأنها بيان للعموم كما جاء في سورة آل عمران الآية 831 وقال : { هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين } وقال في سورة البقرة الآية 581 : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } وقال في سورة النمل الآية 98 : { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } وجعل الله القرآن إماماً بعد التوراة وقال في سورة الأحقاف الآية 26 : { ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً } ومئات الآيات الأخرى .(155/32)
والآن إذا لم يقبل الرواة الغلاة المجهولون آيات القرآن ويتركوا الإمام الموهوم ، وظلوا يعتبرون كل من يتبع القرآن بلا إمام ميتته ميتة جاهلية فإنهم لم ينصفوا إطلاقاً . حيث يقول سيدنا الأمير رضي الله عنه نفسه في الصحيفة العلوية في دعائه بعد التسليم من الصلاة : ( أشهد أن رسولك نبي وأن الكتاب الذي أنزل إليه إمامي ) .
ويقول في الخطبة 541 من نهج البلاغة بعد مدح القرآن ( كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم ) .
بناءً على هذا ، هؤلاء الرواة الضالون الغلاة الذين يريدون أن يجعلوا اتباع القرآن يعني المؤتمين به من أتباع الجاهلية والباطل ، وهم أنفسهم أضل من كل ضال ويدعون كذباً أنهم مؤتمون بعلي وأنه إمامهم كذباً وافتراءً ، لأن إمام سيدنا علي كان هو القرآن ويجب كذلك أن يكون إمام أوليائه الصادقين أيضاً هو القرآن .
ويمكن أن نقول أن رسول الله ^ قصد من هذا أن على المسلمين أن لا يختاروا إماماً ظالماً فاسداً عندما يختارون الوالي للمسلمين ولا يسلطوا على المسلمين مجهول حال . والأخبار التي تقول ( بني الإسلام على خمس الصلاة والزكاة والحج والجهاد والولاية وما نودي بشيء كما نودي بالولاية ) . لأن الأربع الأخرى تكون بوجود الوالي الحسن الذي يجري أحكام الإسلام ، أعني التأكيد على الوالي المسلم أكثر من غيره لأن تنفيذ جميع أحكام الإسلام منوط بالحاكم الصالح . كما قال الإمام الباقر رضي الله عنه ( بني الإسلام على خمس أشياء : الصلاة والزكاة والحج والولاية وأفضلهن الولاية لأنها مفتاحهن ، والوالي هو الدليل عليهن ) .
[ باب : فيمن عرف الحق من أهل البيت ومن أنكر ](155/33)
روى ثلاثة أحاديث في هذا الباب عن رواة سمعتهم سيئة كعلي بن الحكم الذي روي في باب فضل القرآن حيث إدعى أن إحدى عشر ألف آية من القرآن سرقت ولم يعلم بها أحد سواه ، وكعلي بن محمد الوشاء وربعي بن عبدالله حيث كانوا جميعاً من غلاة المذهب ويقولون بتحريف القرآن ، ولذا ضعف المجلسي الحديث الثاني والثالث . وأما متونها : قال الأئمة : كل من هو من آل بيت الرسول سواء كان عارفاً للحق أو منكراً له فله الأجر أو عليه العقاب ضعفين : هذا حق ولكن لا يتعلق بالأئمة الإثني عشر كما جاء في رواية الحديث الأول من هذا الباب بشأن الحسين بن علي شهيد الفخ أنه وأهل بيته من أهل الجنة وأنهم ليسوا كسائر الناس يعني لا يتساوون معهم في شيء ، قال الله في أزواج النبي ^ في القرآن :
{ يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيراً ، ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل عملاً صالحاً نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقاً كريماً } .
[ باب : ما يجب على الناس عند مضي الإمام ]
روى ثلاثة أحاديث لتحدد الواجب على الناس بعد موت الإمام ولكن لم يعين التكليف المعقول بهذا الشأن ، وقد ورد في الحديث الذي روي عن سيدنا الأمير حيث حدد فيه واجب المسلم بعد موت الوالي والإمام وقال : ( والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعد أن يموت إمامهم أو يقتل ضالاً كان أو مهتدياً مظلوماً أو ظالماً أن يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا رجلاً ولا يبتدئوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة ) وقد كتب سيدنا الأمير هذا إلى معاوية فيرجى الرجوع إلى الكتاب ( دراسة في نصوص الإمامة ص 86 باللغة الفارسية ) .
[ باب : في أن الإمام متى يعلم أن الأمر قد صار إليه ](155/34)
روى في هذا الباب ستة أحاديث ، ثلاثة منها لا تتعلق بالباب والثلاثة الأخرى المتعلقة بالباب تقول بإلهام الإمام التالي وبعلمه للغيب وتصفه بالتواضع . وفي الجواب نقول : إذا كان الإمام في هذه الأخبار بمعنى الوالي فلا معنى لذلك ولا مفهوم للإلهام لدى الناس عامة وإلا لا دعى عن إنسان ذلك ثم لا يكون ذلك حجة على الناس بل يجب على الناس أن يختاروا إماماً عالماً يعمل بكتاب الله وسنة الرسول سواء كان مطلعاً على موت الإمام السابقة أم لا !.
[ باب : حالات الأئمة رضي الله عنهم في السن ]
يريد الكليني أن يثبت الإمامة والحجية في هذا الباب للطفل الذي يعده إماماً وهو ابن يوم أو ابن سنة .
ونقل روايات قاس فيها الإمام على سيدنا عيسى وسيدنا يحيى عليهما السلام مع أن القياس ( وخاصة في المذهب الشيعي باطل ) وخصوصاً في الأمور العقدية الأصولية وإذا كان عندهم القياس في الفروع باطلاً فكيف يصح في الأصول لا سيما القياس الذي يرد في روايات كرواية سهل بن زياد الكذاب وآخرين مجهولين وقد عد المجلسي خمس من روايات هذا الباب ضعيفة ومجهولة .
إضافة إلى أنه يجب على الإمام كالمأموم أن يطلب العلم لأنه لا يوحى إليه ، والطفل الحديث الولادة لا علم له ولا معرفة وقد قال الله في سورة النحل الآية 87 : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا } فأي إمام هذا إلا الإمام المكذب بالقرآن ؟ وهل الإمامة لعبة الأطفال ؟ يرجى الرجوع إلى باب الإشارة والنص على صاحب الدر للتفصيل .
[ باب : أن الإمام لا يغسله إلا إمام من الأئمة ]
روى هنا ثلاثة أحاديث يعدها المجلسي كلها ضعيفة ، وكيف يثبت شيء من هذه الأحاديث ورواتها كلهم من الضعفاء والغلاة ؟ ثم هل يمكن القول أن كل من لا يقبل هذه الأحاديث فهو كافر من أهل الباطل ؟ لا والله .(155/35)
روى في هذا الباب ثلاثة أحاديث عن أشخاص سيئي السمعة كمحمد بن الجمهور الفاسق الذي كان يروّج الكفر والفسق بأشعاره ، ويونس بن يعقوب الفطحي المذهب وكان من الكذابين أو يونس بن ظبيان الغالي الوضاع ولعنه سيدنا الرضا رضي الله عنه . والحال أن متون هذه الروايات لا تتفق مع التاريخ .
لأن ساداتنا الرضا وموسى بن جعفر والإمام الحسين توفوا وقت لم يكن أولادهم حاضرين في غسلهم . ويمكن أن يقول أحد القصاصين أن سيدنا الجواد والسجاد جاء من المدينة إلى خراسان أو كربلاء بطيّ الأرض .
ونقول في الجواب أن رسول الله ^ وهو أعلى مقاماً من جميع الأئمة عندما أرادوا قتله في مكة هاجر ماشياً حافياً ولم تكن له معجزة طي الأرض .
ثانياً : أن معجزة التصديق الإلهي لمقام النبوة إنما هي لمنكري النبوة ... فما معنى طي الأرض هنا ؟ ولمن ومن رآه وأثبته ؟ فضلاً عن هذا فلا فرق بين غسل الإمام وغيره وهو واجب كفائي على المسلمين الحاضرين لا الغائبين !.
[ باب : مواليد الأئمة رضي الله عنهم ]
روى ثمانية أحاديث في هذا الباب وعد المجلسي خمسة منها ضعيفة واثنين منها مجهولين ومرسلين وفيه رواة سيئي السمعة كمحمد بن سليمان الديلمي الكذاب الضعيف المغالي وعلي بن أبي حمزة البطائني رأس السلسة الواقفية الذي اختلس أموال سيدنا موسى بن جعفر وكان من أعداء الأئمة .
هذا الصنف من الرواة نقلوا خرافات عن ولادة الأئمة خلافاً للعقل والقرآن وفيها يقول الحديث الأول قال الإمام : لما أن كانت الليلة التي علق فيها ابن في رحم أمه أتاني آتٍ بكأس فيها شربة أرق من الماء وألين من الزبد وأحلى من الشهد وأبرد من الثلج وأبيض من اللبن فشربت فجامعت فعلق ابني هذا المولود وكتب على ساعده الأيمن وهو في بطن أمه الآية : { وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } .(155/36)
ثم إذا وقع من بطن أمه وقع واضعاً يده على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء ، فأما وضعه يديه على الأرض فإنه يقبض كل علم الله أنزله من السماء إلى الأرض وأما رفعه رأسه إلى السماء فإن منادياً ينادي به من بُطنان العرش من قبل رب العزة من الأفق الأعلى باسمه واسم أبيه فيقول : يا فلان ابن فلان ! اثبت اثبت فلعظيم خلقتك ... أنت صفوتي من خلقي وموضع سري وعيبة علمي وأميني علي وحيي وخليفتي في أرضي ... إلى آخر ما وضع هذا الوضاع العدو لله ولرسوله .
ترى لماذا لم يدع رسول الله كل ذلك لنفسه ؟ ولماذا لم تذكر في القرآن مثل هذه المميزات لرسول الله ^ بل لقد ذكر خلافها فقال حيناً { أنا بشر مثلكم } وحيناً آخر { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } . أما في هذا الحديث المختلق فقد كانت له العلوم كلها وهو في بطن أمه !.
إضافة إلى أنه قال : نزل ملك على الإمام ومعه الشراب ! فهل ينزل الملك على الإمام ؟!.
ولماذا لا تقولون صراحة أن الإمام أفضل من النبي لأن الإمام تنزل عليه الملائكة في عمر أقل من عمر الرسول ؟.
بعد ذلك أتى بالآية القرآنية التي نزلت في وصف إتمام القرآن وعظمته بحيث لا يمكن أحد من أن يبدل كلماته ... أتى بها بشأن ساعد الإمام ووصفه وكأنه يريد أن يتلاعب بالقرآن .
ثم جعل الإمام في الساعة الأولى لولادته موضع سر الله وحافظ علمه وخليفته ... ذلك الإمام المولود في الساعة ... وأما رسول الله ^ فهو لم يصبح موضع السر من الله إلا بعد أن بلغ الأربعين عاماً .
ثم إنه ليس لله موضع سر ولا حافظ لعلمه لأن علمه هو عين ذاته ... كما أنه ليس لله خليفة ومحال أن يغيب الله ويستخلف أحداً مكانه ـ نعوذ بالله ـ ولكن هذا الراوي الجاهل نسج ما شاء .
وقد ذكرنا ذلك في باب أن الأئمة هم خلفاء الله في الأرض فيرجى الرجوع إليه .(155/37)
ثم إنهم يذكرون في هذه الرواية أن الآية كتبت على ساعد الإمام الأيمن ولكنهم في الخبر التالي يقولون أنها تكتب بين عينيه في جبهته ، وفي الخبر السادس يقولون أن الإمام يسمع كلام الناس وهو في بطن أمه وأسوأ من ذلك كله قولهم أن الإمام وهو في بطن أمه توضع له أعمدة من النور يرى بها الناس جميعاً في كل مدينة ... وكل هذا يخالف القرآن والعقل لأن الله هو ستار العيوب ولا يطلع أحداً على أعمال عباده وكرر الله في القرآن { وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيرا } ... ترى ألم يقرأ هؤلاء القرآن ؟ وهل كان لهم دين أصلاً ؟
ثم ذكر في الخبر السابع بعد هذه الخرافة عن يونس بن ظبيان اللاديني والذي لعنه الإمام الرضا رضي الله عنه وابن الفضال الواقفي الذي كان من الكلاب الممطرة ( الذي قبل رأس الإمام ليرضيه عن هذه الكفريات هل كانت كل هذه العلوم الإلهية لآل محمد ^ ثم لم ينتبه إليها إلا عدو من هؤلاء الرواة اللادينيين ؟!.
ثم اختلق موضوعاً آخر في الخبر الثامن عن الإمام الباقر يسخر ويضحك منه أي عاقل ، فقد ذكر عشرة آيات للإمام منها مثلاً أنه لا يكون جنباً ولا يعطش وينظر من ورائه كما ينظر أمامه وتفوح من غائطه ريح المسك !!.
فهل هذه الخرافات من قول الإمام ؟ إننا لا نعتقد ذلك أبداً :
والآن ترى لماذا وضعوا مثل هذه الأخبار في أحسن كتبهم المذهبية ؟ هل يريدون تشويه صورة الإسلام بهذه الخرافات ؟ وإذا كان الإمام لا يمر بحالة الجنابة فكيف يكون منه أولاده ؟!
أما من عقل لهؤلاء الرواة ؟ وهل هذه المتاهات هي عبارة من المذهب الجعفري ؟!.
[ باب : لولا أن الأئمة يزدادون لنفد ما عندهم ](155/38)
روى عدة أحاديث في هذا الباب ، أولها ضعيف لوجود سهل بن زياد الكذاب فاسد العقيدة والأحاديث الأخرى مرسلة وأما المتن : لولا أنا نزداد ـ أي علماً ـ لأنفدنا ، وهذا لا يصح لأن الله قال لرسوله وهو أعلى من أي إمام ، في سورة الأنبياء الآية 58 : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } وقال في سورة طه الآية 411 لرسوله : { قل رب زدني علماً } وعلم الأنبياء والأولياء ينفد لا محالة ، سواء يزيدونها أم لا ، أما في هذه الأحاديث ، فيقول الرواة إن علم الإمام يزداد ، إذن لا ينفد ، وهذا يخالف القرآن والعقل ، يقول الله في سورة النحل ، الآية 69 : { ما عندكم ينفد } وهولاء الغلاة يسعون إلى أن يرفعوا الإمام إلى مقام الألوهية معتبرين علمه كعلمه تعالى مع أن الأئمة اعترفوا مراراً بجهلهم في أدعيتهم ، وفي حديثين آخرين في هذا الباب استشكل الراوي أحد الأئمة فقال إن علمكم يزداد ولا يعرف ذلك عن الرسول فعلمكم يزيد عن علم الرسول ^ فأجاب الإمام ما يأتينا من العلم زيادة يعرض على الرسول ^ حتى لا يزيد علمنا على علمه ، وهنا يخبر الإمام عن عالم آخر ، مع أنه لا يعرف أحد شيئاً عن الآخرة والبرزخ إلا الله تعالى ، وبالإضافة إلى أن عالم الآخرة ليس عالم التكليف وهناك لا يعرف أحد شيئاً عن الدنيا حتى الأنبياء عليهم السلام ، يرجع إلى سورة المائدة الآية 901 .
[ باب : نادر فيه ذكر الغيب ]
جاءت في هذا الباب أربع روايات كلها متناقضة ومتعارضة مع بعضها البعض ، وهؤلاء الرواة المجهولون على حد قول المجلسي الذي عدّ الروايتين مجهوليتين ، كأنهم أعرضوا عن القرآن وأن لهم عداوة معه .(155/39)
إذ لم يقرؤوا صريح آياته ليعلموا أن الله تعالى أعلن في سورة النمل الآية 56 : { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } وقال لرسوله في سورة الأنعام الآية 05 : { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب } وقال في سورة يونس الآية 02 : { فقل إنما الغيب لله } وكثير من الآيات الأخرى ، إذن ما غرض ذلك الرجل الفارسي المجهول الذي جاء ذكره في هذا الباب حين سأل الإمام : هل تعلم الغيب ؟ فأجاب الإمام يُبسط لنا العلم فنعلم ويقبض عنا فلا نعلم . وقال : سرُّ الله عزوجل أسرّه لجبرائيل وأسرّه جبرائيل لمحمد وأسرّ ، محمد من شاء الله ، لا بد أن يقال هل الله يمزح في القرآن ـ العياذ بالله ـ حيث يبسط الغيب للإمام حيناً ويعطي سره لجبرائيل ، إلى آخر الحديث أليس هذا تلاعب بكلمات الله ، وبدينه وبكتابه ؟! هل يعطي الله سره لأحد وهل أعطى محمد سر الله لمن شاء ؟! لا بد أن يوضح هنا كي يفهم الغلاة ، أن الله يكشف لرسوله المصطفى المختار الأخبار الغيبية التي لا يعرفها أحد ويطلعه على ذلك أحياناً كما جاء في سورة الجن الآية 62 : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسولٍ } وكما جاء في سورة هود الآية 94 : بعد بيان قصة نوح ، يقول تعالى : { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } وبعد أن يوح الله لبعض رسله بعض تلك الأخبار الغيبية فإن ذلك الرسول يخبر أصحابه وأمته بها ويؤمن بها الإمام والمأموم على حد سواء ، وكما قال في سورة البقرة الآية 2 و 3 : { هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب } والرسول الكريم وأصحابه وأمته الأتقياء يصدقون بذلك الغيب ويؤمنون به ويعدون من المؤمنين بالغيب ، إذن يصبح رسول الله والمتقون من أصحابه وأمته مؤمنين بالغيب لا عالمين به لأن العالم بالغيب هو الله تعالى الذي يعرف الغيب بنفسه ولم يأخذه من أحد ، على خلاف الرسول وأتباعه الذين يؤمنون(155/40)
بأخبار الغيب ، إذن العالم بالغيب هو الله وحده والمؤمنون بالغيب هم عباده المتقون ، هذا الأمر بهذا الوضوح لم يفهمه الرواة ولا الناقلون عنهم ، وكانوا لا يفكرون إلا بإغداق الصفات والخصال الخارقة للإمام وحده .
وفي الخبر الأوّل أجاب الإمام بجواب لا يتعلق بالغيب أصلاً ، وفي الخبر الثاني قال الإمام : لله علمُ مفيض بفيضه على الملائكة ولله علم موقوف عن .. ولكن ما جواب الآية : { عالم الغيب } وما هو ؟ ومن هو ؟ لم يبين ذلك ، وأما في الخبر الثالث قال صراحة : يا عجباً لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب ما يعلم الغيب إلا اللَّهُ عزوجل ، وسدير وأبو بصير اللذان أحبا أن يعظما الإمام ، اختلا مع الإمام بعد المجلس حيث لم يعجبهما أن يصغر الإمام نفسه بأن يقول لا أعلم الغيب وأراد منه أن يعظم نفسه قليلاً ويثني على علمه وعندها صنعا أخباراً لا توافق القرآن ومن المتأكد أن الإمام الذي يجب عليه أن يكون عالماً بالقرآن لا يقول كلاماً كهذا ، لأن هذا الإمام نفسه يقول في صدر الحديث لقد هممت بضرب جاريتي فلانة فهربت مني فما علمت في أيّ بيوت الدار هي ؟ كيف يقول في آخر الخبر أنا أعلم الغيب ويقول أفمن عنده علم الكتاب كلّه أفهم أمّن عنده بعض علم الكتاب ؟ ولما قال تعالى في سورة الرعد الآية 34 { ويقول الذين كفروا لستَ مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } .(155/41)
قال الإمام والذي عنده علم الكتاب ، قد أشارت الآية إلينا ونحن الذين عندنا علم الكتاب ، والآن لا بد من أن نتأمل في هذه الآية ، هذه آية من سورة مكية ، الكفار الذين قالوا لمحمد لست مرسلاً ولست رسولاً من الله ، فأجابهم الله بجواب لا بد أن يكون مقنعاً وكافياً ، فبماذا أجاب ؟ قال : { كفى بالله شهيداً بيني وبينكم } وأمّا قوله تعالى : { الذي عنده علم الكتاب } فعلى قول الشيعة مثلاً المعنى علي أولاده رضي الله عنهم ، هل الكفار الذين لا يؤمنون للنبي يقبلون شهادة على الذي ربى في بيت النبي ولم يكن عمره يتجاوز عشر سنوات وربي في بيته وأولاده الذين لم يولدوا بعد ؟! هل شهادة هؤلاء تكفى لكفار ؟! الذين لا يقبلون كلام محمد هل يستجيبون بكلام صبي في بيته !! هل كلام الله لغو ـ العياذ بالله ـ فاعلم أن القول الصحيح أن الله قدم شاهدين لصدق رسالة محمد ^ وصحتها ، ليؤمن الكفار به ، الأول شهادته نفسه أن نزل إليه كتاب يعجز الناس كلهم عن إتيان سورة مثله والآخر شهادة الذين يعلمون التوراة والإنجيل وهم أهل الكتاب الذين رأوا اسم محمد ^ ووصفه في كتبهم ودليلنا الآيات القرآنية الأخرى ، حيث استشهد الله بشهادة علماء أهل الكتاب للكفار كالآية 791 من سورة الشعراء : { وإنه لفي زبر الأولين أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } وقال في سورة القصص الآية 25 : { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به أنه الحق من ربنا } وقال في سورة العنكبوت الآية 74 : { فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به } وقال في سورة الأعراف الآية 751 : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } وقال في سورة المدثر الآية 12 : { ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون } وقال في سورة الأنعام الآية 02 : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } وفي سورة(155/42)
التوبة الآية 641 وفي سورة آل عمران الآية 18 وفي كثير من الآيات الأخرى ، وفي غالب السور المكية وكلها شاهدة على أن المقصود من آية : { ومن عنده علم الكتاب } التي وردت في آخر سورة الرعد هم علماء أهل الكتاب ، كما جاء في هذه السورة نفسها الآية 63 : { والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك } وكل هذه الآيات تصدق وتفسر بعضها بعضاً وشهد علماء .
علماء أهل الكتاب الذين آمنوا في ذلك الزمن كما جاء في سورة المائدة الآيات 28 إلى 58 ، تتبين هذه من تفسيرهم للآية أي من هو { من عنده علم الكتاب } . هل يأتي هؤلاء الغلاة العوام ليفسروا طبقاً لرواية الكافي أن الله قال في هذه الآية أن { من عنده علم الكتاب } هو علي وبنوه ، حيث أن لهم ولاية تكوينية على العالم كله بدليل أن عندهم علم الكتاب كله ، هل يمكن أن يكون الإمام الصادق كان جاهلاً بكل هذه الآيات القرآنية فيتبع الغلاة ويقول إن الله قال لكفار أن يسألوا صبياً كان في بيت محمد وقال في الرد على الكفار أنه سيكون ولي أمر العالم صبياً . هل يعقل كل هذا ؟ فلا بد لمقلدي الكليني أن يحجموا عن تقليده .
وفي كتب مدّعي العلم في زمننا هذا دعوى لتقليد الكليني وهم يستدلون بهذه الرواية وهذه الآية . وأن علياً رضي الله عنه متصرف بالكون وأمور العالم كله . إذن نحن بناءً على قول سيدنا الرضا رضي الله عنه حيث قال في هذا الكافي نفسه في باب إبطال الرؤية : ( إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها ) نكذب رواية الكليني هذه .
في الحديث الرابع : من هذا الباب يقول عمار ساباطي الفطحي المذهب : سألت الإمام هل يعلم الغيب . فقال لا . ولكن إذا شاء أن يعلم فإن الله يعلمه .(155/43)
لا بد أن يقال لهذا الراوي الكذاب : أيظهر من كلامكم أن الله عندما قال : { لا يعلم الغيب إلا الله } وحصر علم الغيب بهه وحده ... كان هذا باطلاً ـ والعياذ بالله ـ وأن الإمام وحده يمكن له أن يعلم الغيب . ثم هل يوحى إلى الإمام ... فإن كان يوحى إليه فلماذا قال سيدنا أمير المؤمنين رضي الله عنه ( ختم بمحمد الوحي ) ، ثم هل يتبع الله الإمام ويطيعه ليعلم الإمام كلما شاء الإمام نفسه !!.
[ باب : أن الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى
الملائكة والأنبياء والرسل عليه السلام ]
ذكر في هذا الباب رواة كذابين وفاسدي العقيدة كسهل بن زياد وعلي بن أبي حمزة البطائني الواقفي الذي إختلس ألوف الدنانير من الإمام موسى بن جعفر رضي الله عنهم وأمثال هؤلاء زعموا أن الإمام يعلم جميع ما تعلمه الملائكة والأنبياء والرسل ، دون أن يسألهم أحد عن فائدة هذه العلوم ؟ وإذا كان الإمام عارفاً كل هذه العلوم فلماذا لم يسخر الجن والإنس ليقيم حكومة عادلة وإذا كان يعرف منطق الطير فإن عليه أن يكشف علوماً مفيدة ، وإذا كان يعرف فوائد الأشجار فإن عليه أن يبين خواصها وإذا كان يعرف الجراثيم فإن عليه أن يكشف الأمراض كباستور وأمثاله ، وإذا كان يعرف الكهرباء فلماذا لم يسخره ، وإذا كان يعرف الطباعة فلماذا لم يصنع مطبعة لينشر حقائق الإسلام ، لتزول كل هذه الخرافات والفرق المتمثلة بالإسلام ، وإذا كان يعرف علوم الكون والصناعات فقد كان عليه أن يصنع سفينة فضائية ويصنع الإذاعة والتلفاز وهكذا ... لماذا لم يفعل كل ذلك وترك المجال لكفار أروبا يكشفون كل ذلك ؟! وإذا كان يعرف هذه العلوم ولم يبينها فلا بد أنه كان بخيلاً ، وكان يضنٌ بها على الأمة ، إن المرء ليحار في أمر هؤلاء الجهال الذين انحصر همهم في الغلو بحق الإمام والمغالاة بأوصافه .
[ باب : في أن الأئمة إذا شاؤوا أن يعلموا علموا ](155/44)
روى في هذا الباب ثلاثة أحاديث عن رواة كذابين ، كسهل بن زياد ، حيث قال : إن الإمام إذا شاء أن يعلم فإن الله يعلمه .
هذه الأخبار تخالف العقل والقرآن ، لأن مشيئة الله وإرادته ليستا تبعاً للإمام فيعلم متى شاء ذلك . بل ليس هذا تابعاً حتى لمشيئة الرسل فقد دعي الرسل ولم يجبهم الله تعالى إلا عندما شاء هو ذلك .
قال الله تعالى في سورة الدهر في الآية 03 : { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } . وقال في سورة التكوير الآية 92 : { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين } .
يقول الله تعالى في هاتين الآيتين أن مشيئتكم تابعة لمشيئة الله ولا بد من أن تطلبوا الهداية والتوفيق منه . ونحن قد أردنا لكم الاختيار والمشيئة .
ويقول الإمام الصادق في دعائه : يا من يفعل ما يشاء ولا يفعل ما يشاء غيره .
إذن روايات هذا الباب تخالف العقل والقرآن معاً ، لأن أي عقل سليم لا يمكن أن يدعي في أن الله تابع لعبده إلا عقول الغلاة الجهال الكفرة .
[ باب : أن الأئمة يعلمون متى يموتون
وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم ]
هذا الباب الذي خالف القرآن صراحة جاء فيه عدة أحاديث وهي كلها إما ضعيفة أو مرسلة ، وعد المجلسي منها سبعة مرسلة وضعيفة ، ونحن نعجب فأي كتاب هذا الذي يسعى في جمع أخبار أكثرها تخالف القرآن أو تغالي في تعظيم الأئمة ، وكأن هؤلاء يعتبرون قول سلمة بن الخطاب المغالي وسهل بن زياد الكذاب وأمثالهما خير من قول الله تعالى .(155/45)
وروى في هذا الباب في الحديث الأول عن سالمة بن الخطاب المغالي وعبدالله بن القاسم البطل وهو أيضاً من الغلاة ومن الكذابين . إن كل إمام لا يعلم ما الذي سوف يحدث له وما يؤول إليه فهو ليس بإمام ولا حجة . مع أن الله تعالى قال لرسوله ^ في سورة الأحقاف الآية 9 : { قل ... وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } هل يعقل أن رسول الله الذي يوحى إليه لا يدري ما يفعل به وما يحصل له في حين أن الإمام الذي لا يوحى إليه يعلم ذلك .. أي دين هذا الذي اختلقه الغلا ؟!.
جاء في هذا الباب : قال الإمام أنا أعلم متى أموت ، ولكن الله قال في سورة لقمان الآية 43 : { وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت } وقال أمير المؤمنين في نهج البلاغة في خطبة 741 قبل وفاته وبعد أن أصابه ابن ملجم : ( أيها الناس كل امرئ ملاق ما يفر منه في فراره ، والأجل مساق النفس والهرب منه موافاته . كم أطردت الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر فأبى الله إلا إخفاءه . هيهات علم مخزون ) وقال في هذه الخطبة بناء على آيات القرآن أن لا علم لأحد بوقوع الموت وكذلك قرأ في خطبته 821 الآية 43 من سورة لقمان .
{ إن الله عنده علم الساعة ينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت } ويقول بعد ذلك فهذا من علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله . وهذا الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله ولا يعلمه نبي ولا وصي . ويقول في رسالته 32 بعد أن جرحه ابن ملجم حيث لا علم له بموته : ( إن أبق فأنا وليُّ دمي وإن أفن فالفناء ميعادي ) . وفي رسالته المعروفة لمالك الأشتر النخعي ( الرسالة 25 من نهج البلاغة ) وبما أنه لم يكن يعلم وقت موته يقول : ( وأنا أسأل الله سعة رحمته ... أن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة ) .(155/46)
وكان في دعواته دائم الخوف طالباً للشهادة كدعائه في خطبة 32 من نهج البلاغة ، وكذلك في دعائه في حرب صفين قبل أن يرفع معاوية المصاحف على السيوف قال : ( فإذا كان ما لا بد منه الموت فاجعل منيّتي قتلاً في سبيلك ) . وكذلك في دعائه في صفين : ( وإن أظفرتهم علينا فارزقنا الشهادة ) وكذلك في سائر دعواته رضي الله عنه ) .
إذن يتبين طبقاً لكلام الله ورسوله وأمير المؤمنين أنه لا علم لأحد بوقت موته سواء في ذلك الإمام أو المأموم ، والناس في الإسلام سواء لا فرق بين إمام ومأموم فهو ليس ديناً عنصرياً .
علماء أهل الكتاب الذين آمنوا في ذلك الزمن كما جاء في سورة المائدة الآيات 28 إلى 58 ، تتبين هذه الحقيقة من تفسيرهم للآية أي هو { من عنده علم الكتاب } . هل يأتي هؤلاء الغلاة العوام ليفسروا طبقاً لرواية الكافي أن الله قال في هذه الآية أن { من عنده علم الكتاب } هو علي وبنوه ، حيث أن لهم ولاية تكوينية على العالم كله بدليل أن عندهم علم الكتاب كله ، هل يمكن أن يكون الإمام الصادق كان جاهلاً بكل هذه الآيات القرآنية فيتبع الغلاة ويقول إن الله قال لكفار أن يسألوا صبياً كان في بي محمد وقال في الرد على الكفار أنه سيكون ولي أمر العالم صبياً . هل يعقل كل هذا ؟ بما سيجيب الكليني ورواته الله تعالى يوم القيامة حين يسألهم عن تلاعبهم بآيات القرآن إلى هذا الحد . فلا بدّ لمقلدي الكليني أن يحجموا عن تقليده .
وفي كتب العلم في زمننا هذا دعوى لتقليد الكليني وهم يستدلون بهذه الرواية وهذه الآية .
وأن علياً عليه السلام متصرف بالكون وأمور العالم كله . إذن نحن بناءً على قول سيدنا الرضى عليه السلام حيث قال في هذا الكافي نفسه في باب إبطال الرؤية : ( إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها ) فهو يكذب رواية الكليني هذه .(155/47)
في الحديث الرابع : من هذا الباب يقول عمار ساباطي الفطحي المذهب : سألت الإمام هل يعلم الغيب ؟ فقال : لا . ولكن إذا شاء أن يعلم فإن الله يعلمه .
لا بد أن يقال لهذا الراوي الكذاب : أيظهر من كلامكم أن الله عندما قال : { لا يعلم الغيب إلا الله } وحصر علم الغيب به وحده . كان هذا باطلاً ـ والعياذ بالله ـ وأن الإمام وحده يمكن له أن يعلم الغيب .
ثم هل يوحى إلى الإمام .. فإن كان يوحى إليه فلماذا قال سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام ( ختم بمحمد الوحي ) ، ثم هل يتبع الله الإمام ويطيعه ليعلم الإمام كلما شاء الإمام نفسه .
أما الكليني ورواته فخلافاً للقرآن والعقل وقول سيدنا الأمير رضي الله عنه يريدون أن يجعلوا الإمام عالماً بوقت موته . أليس هذا الإمام الذي يقولون عنه بأنه يعلم وقت موته ، أليس هو من الذين يتبعون القرآن أم لا علم له بالقرآن ، أم أنه جاء بمذهب جديد . أم ترى أن الرواة يكذبون عليه .
وفي الحديث الثاني نقل عن شيخ مجهول من وعاظ السلاطين دخل السجن بدعوة من السندي بن شاهك رئيس شرطة هارون الرشيد ، ونقل عن موسى بن جعفر رضي الله عنه قوله : أني أموت بعد غد . فهل كان موسى بن جعفر جاهلاً بالقرآن وصادقاً في حدسه أم أن هذا الشيخ كان يكذب فيما قاله .(155/48)
وفي الحديث الرابع : سأل حسن بن الجهم ـ والله يعلم هدفه ـ سأل الإمام ، بل لقد ذكر الأشياء التي سمعها من الغلاة أن أمير المؤمنين كان يعرف قاتله والليلة التي يقتل فيها ـ وسمع صياح الإوَزّ الذي كان يخبر عن موته ـ ( أي أن الإوَزّ ـ نعوذ بالله ـ تعلم الغيب وهي التي أخبرت عن موته ) وطلبت أم كلثوم إليه أن يصلي في البيت ولكن سيدنا الأمير لم يقبل وخرج تلك الليلة بلا سلاح مع أنه عرف قاتله من قبل سيفه وهذا ليس جائزاً له فأجابه الإمام الرضا ، نعم هكذا كان ولكن قدر الله وما شاء فعل ، وتمسك سهل بن زياد الكذاب وعدة من الرواة مثله بهذه المقولة من أن أمير المؤمنين كان يعلم بموته ، وهذا افتراء وكذب ـ نعوذ بالله ـ بدليل ما ورد في خطبة في نهج البلاغة الخطبة 741 أو في سائر خطبه حين قال بأنه لا يعلم وقت موته ، وهذا كذب على الله كذلك .
إذ أن القرآن نزل خلافاً للواقع ـ والعياذ بالله ـ بناءً على أقوالهم ، فهم يدعون أن الإمام يعلم كل شيء ولذا بناءً على رواية سهل بن زياد الفاسد المذهب لا بد أن يعلم الإمام وقت موته ، وهنا يقال :
عندما قال الله سبحانه في القرآن : { لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } كان هناك استثناء آخر وهو أنه لا يعلم الغيب إلا الله والإوَزّ ؟!.
وفي الحديث الخامس : روى شيئاً عجيباً يخالف كل العقول ، حيث قال الإمام الكاظم أن الله غضب على الشيعة وخيرني إما أنا أفتدي بنفسي أو أفتدي بشيعتي .
لا بد هنا من طرح هذا السؤال : هل يوحى إلى الإمام ؟ ولماذا لم يغضب الله على أهل السنة مثلاً ، إضافة إلى أن الإمام أشرف من المأموم عندهم فهل يفتدى الأدنى بالأعلى ؟.
فإننا مثلاً لا نجد من يفتدي أغنامه بولده ... إلا عند علي بن إبراهيم وأمثاله من الرواة والكليني والأعجب من ذلك أنهم تمسكوا بهذا الحديث الفاضح واتخذوه دليلاً على علم الإمام بموته مع أنه لا علاقة له أصلاً بذلك .(155/49)
وفي الحديث السادس : نقل عن الإمام الرضا أنه قال لرجل يسمى المسافر : إني رأيت رسول الله في المنام ليلة أمس وقال : يا علي ما عندنا خير لك . واستدلوا بهذا على أن الإمام يعلم وقت موته . مع أن هذا القول لا يدل على ذلك إطلاقاً .
إن هؤلاء يريدون أن يثبتوا بهذه الأقوال الواهية المتحيرة أن الإمام ـ خلافاً للقرآن ـ يعلم وقت وفاته ولقد فرق هؤلاء بين القرآن وما عليه الأئمة رضي الله عنهم ، وجعلوا كلا الطريقين مخالفاً للآخر .
وكذلك في الحديث السابع : يقول : قال الإمام الباقر صاح أبو زين العابدين من وراء الجدار وقال : يا محمد تعال وعجل . واستدلوا بهذا على علم الإمام بموته أن هذا لا يدل على ذلك وهو كالخبر السابق .
وفي الخبر الثامن : روى علي بن الحكم الخرافي راوي حديث سلسلة الحمار ، وسيف بن عمير الملعون الذي لعن من قبل الأئمة على حد قول الممقاني ، أن الإمام الحسين خيّر بين أن ينتصر ويهزم حكومة يزيد وبين أن يقتل ويلقى الله . واختار الإمام الحسين القتل . بناءً على رواية هؤلاء الكذابين الوضاعين لم يقم الإمام الحسين لدفع الظلم ونشر العدالة بل قام للقتل أيضاً مع أن الإمام الصادق قال : قتل الحسين كان مصيبة فوق المصائب . ويقول سيدنا الأمير رضي الله عنه في رسالة 54 من نهج البلاغة بشأن معاوية :
( سأجهد في أن أطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد ) ، ويكتب لعمرو بن العاص في رسالة 93 من نهج البلاغة : ( فإن يمكن الله منك ومن ابن أبي سفيان أجزكما بما قدمتما وإن تعجزا وتبعثرا فما أمامكما شر لكما ) .
إذن بناءً على هذا إذا كان الإمام الحسين راغباً في القتل لم يصب الإمام الصادق وسيدنا الأمير رضي الله عنه ونعوذ بالله من أفكار الغلاة .(155/50)
ولا بد أن نسأل الكليني ورواته : إذا كان الإمام الحسين اختار الشهادة فما علاقة هذه بعلم الإمام رضي الله عنه بموته ؟ ثم هل يوحى إلى الإمام ؟!.
[ باب : أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون
وأنه لا يخفى عليهم شيء ]
روى في هذا الباب ستة أحاديث يعد المجلسي خمسة منها ضعيفة ومجهولة ، وأحد رواتها إبراهيم بن إسحاق الأحمر النهاوندي الفاسق والمبتدع وقد ضعفه علماء الرجال وسموه من الغلاة وقالوا في مذهبه والآخر سيف التمار الذي تخالف أخباره القرآن . والآخر أحمد بن محمد البرقي الشاك في الدين والآخر محمد بن سنان وهو من الكذابين المشهورين ومن الغلاة والآخر يونس بن يعقوب الفطحي المذهب والآخر سهل بن زياد الكذاب .
ماذا يتوقع من رواه كهؤلاء سوى ضرب الإسلام والكيد له والغلو في أشخاص ذوي سيرة حسنة لاصطياد السمك في الماء بعد تعكيره بترهاتهم .
روى هؤلاء عن الإمام الصادق في الحديث الأول : أن جماعة من الشيعة أتوا إلى الإمام ـ والله أعلم أنهم كانوا من هؤلاء الغلاة ـ قال سيف التمار عن الإمام : لقد جعلوا علينا جاسوساً ـ وربما كان هذا سيف التمار نفسه ـ ولكن سيفاً يقول نظرنا يميناً وشمالاً فلم نر أحداً . وقلنا : لا يوجد جاسوس . فتبين لنا أن الإمام تكلم خلافاً للواقع وبلا علم . فحلف الإمام ثلاث مرات برب الكعبة بأنه أعلم وأزكى من موسى والخضر عليهما السلام فهما قد أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما سيكون وما هو كائن إلى يوم القيامة ولكنه ( أي الإمام ) أعطي ذلك إرثاً عن رسول الله .
لا بد أن نسأل سيف التمار :
أولاً : إن الإمام الذي لم يعلم شيئاً عن أصحابه وتكلم على خلاف الواقع بأن هناك جاسوساً مع أنه لم يكن ثمة جاسوس فأنى لذلك الإمام أن يعلم ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة .
ثانياً : قال رسول الله ^ : « علامة الكذب كثرة الحلف » فلماذا إذاً يحلف الإمام ثلاث مرات بأنه أعلم من موسى .(155/51)
ثالثاً : من أين عرفتم أن موسى والخضر كان لهما علم ما كان ، وموسى نفسه لم يدع هذا ، ولم يعلم بما كان حين وجوده في الطور ولم يعرف عن عبادة قومه للعجل . فيقول له الله تعالى : { قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري } ولما رجع من الطور ووجد أن قومه قد فتنوا بالشرك غضب جداً وقال لهم : { بئسما خلفتموني من بعدي } حتى أنه لم يعلم أن أخاه لم يقصر في نصحهم فأخذ بلحيته ورأسه ولم يعرف أنه منعهم من عبادة العجل حتى قال له هارون : { إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء } ثم اختار موسى من قومه سبعين رجلاً لميقات جبل الطور ولكنهم جميعاً كانوا ممن غضب الله عليهم .
وأمثال هذا كثير ... ويستفاد من القرآن الكريم أنه عليه السلام لم يعلم بما كان .
رابعاً : إن العلم لا يورث إلا عند الرواة القائلين بالخرافة .
خامساً : قال الله تعالى مراراً لرسوله في القرآن الكريم : { قل ما أدري ... وما أدراك ... إن أدري ... وما كنت تدري ... لا تدري ... ما يدريك } . ومع كل ذلك كيف يمكن الادعاء أن الرسول علم ما كان وما سيكون فضلاً عن أن يورث ذلك لغيره . وحتى رسول الله ^ عندما كان يسأل عما لا يعلم كان يصبر حتى ينزل الوحي ... فكيف يمكن للإمام الذي لا يوحى إليه أن يعلم ما كان وما سيكون .
وانتبهوا إلى الحديث الثاني : كيف أحاط عدد من الشيعة الخرافيين بالإمام من أمثال حارث بن المغيرة وعدد من الناس المجهولين وسمعوا أن الإمام قال : أنا أعلم ما في السموات وما في الأرض وما في الجنة وما في النار وما كان وما سيكون ، ثم مكث الإمام برهة ورأى أن هذا الكلام قد كبر على المستمعين ولم يصدقوه فقال : لقد تعلمت هذا العلم من كتاب الله حيث يقول الله عزوجل { وفيه تبيان كل شيء } .(155/52)
أولاً : لا بد أن يقال أن رسول الله ^ الذي هو أعلى من كل إمام لم يدّع شيئاً كهذا . ويقول الله سبحانه له في سورة الإسراء : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } ورسول الله نفسه يقول في دعائه : إلهي أنت العالم وأنا الجاهل .
ثانياً : قال الإمام : تعلمت كل هذه العلوم من كتاب الله . ثم قرأ الآية خطأ .
هذه الآية التي ذكرها الإمام ( فيه تبيان كل شيء ) هي في سورة النحل الآية 98 حيث قال الله تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } فظاهر أن الآية ليست كما ذكر ـ فيه تبيان لكل شيء ـ فهل يعقل أن يكون الإمام الصادق جاهلاً بالقرآن إلى هذه الدرجة فيقرأ آياته خطأ ... ثم يكون فوق ذلك عالماً بما في السموات والأرض . إذن من المتأكد أن هذا الكذب من صنع رواة الكليني .
مقدمة المراجع ..............................................................................................
مقدمة المترجم ..............................................................................................
المقدمة الأولى ..............................................................................................
المقدمة الثانية ................................................................................................
شرح بعض المصطلحات الحديثية كما في مذهب الشيعة .........................
كتاب العقل والجهل ....................................................................................
كتاب فضل العلم ..........................................................................................
باب فرض العلم ووجوب طاعته .......................................................
باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء ..............................................(155/53)
باب أصناف الناس ............................................................................
باب ثواب العالم والمتعلم ...................................................................
باب صفة العلماء ...............................................................................
باب حق العالم ..................................................................................
باب فقد العلماء .................................................................................
باب مجالسة العلماء وصحبتهم ........................................................
باب سؤال العالم وتذاكره .................................................................
باب بذل العلم ...................................................................................
باب النهي عن القول بغير علم ..........................................................
باب من عمل بغير علم ......................................................................
باب استعمال العلم ............................................................................
باب المستأكل بعلمه والمباهي به ........................................................
باب لزوم الحجة على العالم وتشديد الأمر عليه ................................
باب النوادر ........................................................................................
باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة .......................................
باب التقليد ..............................................(155/54)
الفهرس
الموضوع ... الصفحة
المقدمة……………...…………………….…….. 4
تمهيد: الرحمة أساس الدعوة………………..………….10
الفرقان…………………………...…………….11
ما هو الحق ؟…………………….……………….12
القرآن مرجعنا .. وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -………….…………..…12
الباب الأول
المنهج القرآني في الدعوة وإحداث التغيير الاجتماعي.……….……...13
من مزايا المنهج……………………….…...….……..14
الفصل الأول: المنهج من خلال الخطاب القرآني للأديان الكبرى…….15
1- المنهج من خلال سورة (البقرة) وخطابها لليهود………….…15
الدعوة إلى الحق……………………….………………..15
التحذير من الباطل…………………….……….…….….16
اليهود - التأريخ المخزي.……………..………………....16
الانحرافات الحاضرة………………..……………….……17
أشواط من ذكر الباطل أخرى……………………………18
ثم الإعلان عن فشل المنهج الترضوي………………………..19
قطع صلة اليهود بأنبيائهم………………..…………….20
نبرة الاستعلاء الإيمانية…………………..……………20
عدم الاكتفاء بمدح المتبوع دون الدعوة إلى اتباعه………….….21
الأركان أو العناصر الخمسة للمنهج القرآني…………21
2- المنهج من خلال سورة (آل عمران) وخطابها للنصارى…………22
أركان المنهج………………………………………..22
1- إنكار تفاصيل الباطل ولعن ظلامه………………………22
- اتباع المتشابهات وترك المحكمات…………………………22
- تكفيرهم وكشف زيفهم…………………………..22
- نقض الميثاق وخيانة الأمانة………………………….24
ليسوا سواء………………………………………24
2- الدعوة إلى الالتزام بالحق……………………………24
3- مدح المتبوع……………………………………..25
4- الدعوة إلى اتباع ما كان عليه المسيح - عليه السلام - والأنبياء الآخرون……..25
5- قطع الصلة بين النصارى ورموزهم………..…………….25
القصص الحق…………………………….……….26
الصبر على دعوتهم……………………………………26
3- المنهج من خلال سورة (الأنعام) وخطابها للمشركين……………27
أركان المنهج………………………………….……..27
- إنكار الباطل ولعن ظلامه تفصيلاً………………..………27
- الإعراض عن(156/1)
الحق…………………………………27
- الشرك…………………………………………..27
- الكفر باليوم الآخر………………………………….27
- جحود الحق………………………………..………28
- دعاء غير الرب………………………………………28
- اتخاذ الدين لهواً ولعباً………………………………….28
- إنكار النبوة…………………………………………28
- إضافة الزوجة والولد إلى الله جل وعلا…………………..….28
- وصف الكبراء بأنهم مجرمون ماكرون………………………..28
- الشعائر والذبائح الشركية وقتل الأولاد والتحليل والتحريم بالهوى……..29
- الاحتجاج بالقدر……………………………………29
- الوصايا العشر أغلبها محرمات جاء النهي عنها……………….. 29
1- إنكار الباطل مقدم على تبيان الحق…………………………29
2- الدعوة إلى الحق وهو الإسلام وأساسه التوحيد…………………30
3- مدح المتبوع بما فيه دون غلو……………………………31
4- الدعوة إلى اتباع الممدوح……………………………..32
5- قطع الصلة بين المشركين وإبراهيم - عليه السلام - ……………………32
4- المنهج من خلال سورة (التوبة) وخطابها للمنافقين………………32
النفاق أخطر ولهجة الإنكار أغلظ……………………………32
منهج السورة مع المنافقين………………………………….34
المنهج ملخص في الفضح والإنكار فقط………………………..35
- التخلف عن الجهاد مع التحجج بشتى الأعذار…………………35
- التربص بالمؤمنين والكيد لهم………………………………36
- الفرح بمصيبة المؤمنين والحزن بفرحهم………………………..36
- الكسل عن الصلاة وكراهية الإنفاق…………………………36
- لمز المؤمنين والسخرية منهم سخطاً لأنفسهم وأنانية……………….36
- ادعاؤهم أنهم من المؤمنين………………………………..37
- المنهج التقريبي الترضوي………………………………..37
- حذرهم من الفضيحة………………………………….37
- الاستهزاء بالله ورسوله وآياته……………………………..37
- اتخاذ الأوكار التخريبية التآمرية باسم المساجد…………………..37
المعالم الرئيسية للمنهج القرآني مع المنافقين………………………38
الفصل الثاني: منهج الأنبياء جميعاً……………………………39
مع ركب الأنبياء عليهم السلام…………………………….41
إبراهيم - عليه السلام - …………………………………………41
نوح(156/2)
- عليه السلام - ………………………………………..41
موسى - عليه السلام - ……………………………………….41
المسيح - عليه السلام - …………………………………………42
أسلوب أول الطغاة……………………………………..43
بحر متلاطم من الآيات………………………………….44
الفصل الثالث: مفاهيم وحقائق قرآنية…………………………45
1-إنكار الأوضاع الجاهلية بالتفصيل…………………………..45
2-النفي والإنكار مقدم على الإثبات والإقرار……………………45
3-فضح الباطل -كبيان الحق- أصل مقصود لذاته وهدف أصيل من أهداف الدعوة………………………..………………………46
4-خيرية الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر……………….49
5-الجدال بالتي أحسن إنما هو مع من التزم حدود الأدب……………49
6-اللين ليس قاعدة ثابتة. وليس من لوازمه عدم إنكار المنكر………..50
7-الحوار يقوم على إبطال الباطل وإحقاق الحق…………………..50
8-الموعظة كذلك أمر ونهي…………………………….51
9-وكذلك النصيحة أمر ونهي……………………………52
10-لا دعوة ولا رسالة إلا بإحقاق الحق وإبطال الباطل……………53
11-عدم التسوية بين رؤوس الباطل وجمهوره في المعاملة……………53
12-السب والشتم إحدى فقرات المنهج………………………55
13-التسامح شعارنا ولكن ليس على حساب الحق……………….56
14-نتعاون على مصلحة الوطن لا على حساب الدين…………….56
15-المناورة حكمة ولكنها استثناء وليست قاعدة ثابتة……………..58
16-الدعوة أسلوب ومضمون…………………………….59
17-لا أساس للمنهج الترضوي في شرعنا………………………59
18-ثبات المنهج القرآني وعمومه…………………………..60
الباب الثاني(156/3)
التشيع العربي والتشيع الفارسي ومعالم المنهج المطلوب…………….63
الفصل الأول: التشيع المقبول والتشيع المرفوض…………………..63
و بئس (الرفض) المرفوض………………………………….64
ونحارب الميوعة………………………………………..67
التركة ثقيلة…………………………………………..67
أسوأ ما وجدتم…………………………………………67
وباء متوطن وليس حالات طارئة…………………………..68
الفصل الثاني: من عقائد التشيع الفارسي وأحكامه و فتاويه……………69
اعتقاد تحريف القرآن…………………………………….69
الغلو الكفري في الرجال………………………………….71
الغلو في المراقد مع تحقير الكعبة (شرفها الله) أو التهوين من شأنها……….71
الفساد والتحلل الخلقي…………………………………73
تكفير أهل السنة واستحلال دمائهم وأموالهم……………………80
الفصل الثالث: الخطة السرية لآيات الشيعة في إيران……………….84
ضرب أسس القوة………………………………………85
ضرب الدولة بالعلماء وتدمير الاقتصاد…………………………85
أسلوب تنفيذ الخطة…………………………………….86
العداء الأبدي…………………………………………86
مراحل تنفيذ الخطة………………………………………87
المرحلة الأولى………………………………………….87
المرحلة الثانية…………………………………………..87
المرحلة الثالثة………………………………………….88
المرحلة الرابعة…………………………………………88
المرحلة الخامسة………………………………………..89
شيعة من هؤلاء ؟………………………………………89
هل نحن جادون ؟!……………………………………..90
ماذا بقي من شرك المشركين وانحراف أهل الكتاب وخداع المنافقين ؟……90
الفصل الرابع: معالم المنهج المطلوب في خطاب التشيع الفارسي في ضوء المنهج القرآني…………………………………………….92
لا بد من تطبيق المنهج الإلهي القرآني………………………….92
1-التاريخ سلاح فعال في المعركة……………………………93
2-إنكار أباطيلهم ومنكراتهم بتفاصيلها صراحة ومواجهة…………….94
تحريف الكتاب………………………………………..94
(التقية) والتلون والنفاق……………………………………94
عدم علم عوامهم بكتابهم…………………………………94
أكل أموال الناس بالباطل…………………………………..94
ادعاء النجاة في الآخرة…………………………………94
التقليد الأعمى(156/4)
واتخاذ الفقهاء أرباباً من دون الله…………………..95
قتل دعاة الحق…………………………………………95
استحلال أموال المخالفين ونقض عهودهم……………………….96
3-نبرة الاستعلاء الإيمانية…………………………………96
مقارنة مع الواقع………………………………………97
لماذا انقلبت الأمور إلى هذا الحد؟!…………………………..98
4-غرس الهزيمة النفسية في داخل الخصم وإجباره على استجداء العطف…99
5-اعتماد أسلوب الهجوم……………………………….100
6-اللهجة أشد والمعالجة أولى……………………………..101
7-التحذير من اتخاذهم بطانة وتوظيفهم في مواقع القرار……....…101
8-عدم الاعتراف بمساجدهم الضرارية واعتبارها أوكارا للتجسس والتخريب102
مقارنة بين (مسجد ضرار) القديم والحديث…………………….103
9-تبني العروبة……………………………………….104
10-قطع صلتهم بالرموز الصالحة…………………………..105
11-التفريق بين الموقف المبدئي والموقف العملي………………….105
12-ليسوا سواء !……………………………………106
13-دعوتهم إلى تبني القرآن منهجاً للتعلم دون سواه……………..106
14-الدعوة إلى اتباع المحكم دون المتشابه…………………….107
15-القصص الحق…………………………………….108
16-النسب والمصاهرة…………………………………110
17-خيرية الأمة وفلاحها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر……….111
18-فشل المنهج الترضوي وبطلانه…………………………112
تركنا المنهج الإلهي فخسرنا……………………………..115
الباب الثالث(156/5)
قضيتنا بين الغزو الشرقي والغزو الغربي………………………116
الفصل الأول: قضية شرقية لا غربية…………………………117
عقدة شرقية قديمة……………………………………..117
الغزو الشرقي والغزو الغربي………………………………118
شرقية لا غربية…………………………………….118
بين إيران واليهود……………………………………..119
الفصل الثاني: بين الثقافة المصرية والثقافة السعودية………………..120
الثقافة المصرية………………………………………120
الثقافة السعودية………………………………………120
القضية خاصة وعامة…………………………………..121
الهروب المقنع من الواقع…………………………………122
صمت مطبق………………………………………..122
القضية بين قاعدة الانطلاق ومحور الحركة……………………...123
ثبوت القاعدة وتغير المحور……………………………….123
ضرورة التفريق بين التوحيد والردود على الشرك………………...124
حقيقة الخلل في الثقافة السعودية والثقافة المصرية…………………125
الفصل الثالث: ما الذي يحدد القضية ؟………………………128
الواقع يحدد (القضية) والوحي يضع أسس الحل………………….130
أولوية (القضية) بين النظرية والتطبيق………………………..131
علاقة الزمان والمكان بـ (القضية)…………………………132
الفصل الرابع: ما هي قضيتنا نحن أهل العراق ؟…………………132
أهمية تبني (القضية)…………………………………….133
الدعوة إلى العبادة ؟ أم إلى تبني (القضية) ………………………134
كافر ينصر (القضية) خير لنا من مسلم يعيش لنفسه…………......135
الباب الرابع
التشيع الفارسي بين الأمراض والعقد النفسية والانحرافات الفكرية والسلوكية136(156/6)
الفصل الأول: التشخيص أساس العلاج…………………….137
التشيع الفارسي خلاصة أخلاق الفرس ونفسيتهم المعقدة…………..138
(الفارسية) عقدة وظاهرة عامة غير مختصة بالفارسي أصلاً…………139
العجمي والمستعجم…………………………………..140
الفصل الثاني: إجماع الخبراء…………………………….141
الأمريكي جاك ميلوك و(الشخصية الإيرانية ومكوناتها)……………..141
الخصائص المميزة للشخصية الإيرانية…………………………141
الفرنسي أدور سابيليه و(إيران من الجانب الآخر)………………146
الأستاذ الدكتور عماد عبد السلام رؤوف و(مقدمة كتاب الصراع العراقي الفارسي)…………………………………………..148
الفصل الثالث: الأمراض والعقد النفسية في الشخصية الفارسية……….152
1-عقدة الحقد…………………………………….152
2-عقدة الشك والتوجس والارتياب……………………….153
3-الدونية أو عقدة الشعور بالنقص…………………………157
4-عقدة التحلل والفساد……………………………….158
5-عقدة الغدر…………………………………….163
6-الكذب………………………………………..163
7-عقدة (السيد) أو الاستعلاء والغطرسة…………………..164
8-العدوانية أو عقدة الاعتداء على الغير………………………167
9-عقدة الشعور بالاضطهاد……………………………168
10-عقدة التعصب…………………………………..172
11-الوقاحة أو الصفاقة………………………………..173
12-اللؤم ونكران الجميل……………………………….175
13-الخداع والتضليل………………………………….176
14-الملق والتذلل والمسكنة……………………………….177
15-تأليه الحاكم……………………………………177
16-الخرافية……………………………………….178
تركيبة متشابكة من العقد النفسية المركبة…………………….179
بين (الفارسي) واليهودي……………………………….180
(الفارسية) وباء …………………………………….180
الباب الخامس(156/7)
الحل بين المنهج الترضوي و المنهج القرآني النبوي………………..182
الفصل الأول: المنهج الترضوي - حل؟ أم مشكلة تحتاج إلى حل؟!……183
الهزيمة النفسية وحلول العقل الباطن الوهمية…………………..183
منهج المقاربات…………………………………….185
منهج غير واع لتشييع أهل السنة فارسياً……………………..187
اكذب .. اكذب .. حتى تُصدِّق…………………………191
لا ربح بل خسارة اجتاحت رأس المال……………………..193
عبد الحسين الأميني النجفي نموذج ومثال……………………..194
يقدمون الورود لمن يبصقون في وجوههم……………………197
منهج قديم لكنه بائس…………………………………197
حصاد القرون……………………………………….198
المتأخرون شر من المتقدمين…………………………….202
كلام يهتز له العرش!…………………………………204
فأين أساطين التشيع وأدعياء التقريب؟!………………………206
منهج فاشل…………………………………………209
شهادة الواقع………………………………………..210
سر قوة الرافضة………………………………………211
تجارب الأمم………………………………………..214
نجاح المنهج القرآني النبوي……………………………….214
ربح وهمي على حساب رأس المال………………………….215
خرق كبير في جدار التحصين الداخلي………………………215
المنهج القرآني .. أولاً تحصين، وثانياً ربح…………………….216
إلى الذات ندعو أم .. إلى الله؟……………………………..218
طريقة ذكية لتكميم أفواه الأغبياء……………………………219
لست موكلاً بهداية الناس وإنما بدعوتهم……………………….219
الصنمية الذاتية………………………………………..220
هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو السبب في نفرة اليهود؟…………………..221
الابتلاء سنة…………………………………………221
شرعنا أم آراؤنا……………………………………..221
الفصل الثاني: أسلوب الدعوة بين كسب الفرد وتغيير المجتمع……….222
قانون لتغيير الفرد وآخر لتغيير المجتمع………………………..222
بين الصدع بالحق للمجتمع والحوار الشخصي للأفراد……………222
إشكالية النصوص الشرعية……………………………….223
ننطلق من المتفق عليه لنحسم المختلف فيه……………………..224
قانون تغيير المجتمع طبقاً للمنهج القرآني…………………….225
الإسلام دعوة(156/8)
تغييرية جماعية اجتماعية ذات منهج تغييري جماعي اجتماعي وليس هو دعوة فردية ……………………………………..229
لا بد من (المشكلة) كمرحلة من مراحل التغيير………………..229
سلعة الله غالية………………………………………231
لا تعارض مع التغيير الفردي…………………………….232
نزيد العدد أم نغير المجتمع؟……………………………..233
نصف سني يساوي نصف رافضي…………………………233
الاعتدال في وسط التطرف اعوجاج…………………………234
المصادر…………………………………..………….236
الفهرس……………..……………………………….238(156/9)
لا بدّ من لعن
الظلام
بحث في جذور المأساة الحقيقية ومعالم المنهج المطلوب في خطاب التشيع الفارسي في ضوء المنهج القرآني
كي لا ننسى
د. نذير عريان البابلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء
إلى..أحفاد المثنى وخالد وسعد و القعقاع
إلى.. أبناء العروبة والإسلام
الذين أدركوا العلاقة الصميمية بين عروبتهم ودينهم
وعاشوا واقعهم زماناً ومكاناً
في ظل كتاب ربهم وسنة نبيهم
قرآن كريم
{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
{ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهيمَ إِلا مَنْ سَفهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }
حديث شريف(157/1)
عن ابن مسعود ?- رضي الله عنه -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله و شريبه و قعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض. ثم قال: { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون * ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون } ثم قال: (كلا والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ولتأخذنّ على يد الظالم و لتأطرنّه على الحق أطرا ولتقصرنّه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم) أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن.
المقدمة
1. كان العراق - منذ القدم - الحد الشرقي للثقافة السامية تجاه ثقافة أخرى قوية هي الآرية. فهو لذلك ساحة صراع ثقافي اجتماعي بين السامية والآرية منذ فجر السلالات(1). ثم صار العراق الحد الشرقي للثقافة العربية حفيدة الثقافات السامية ووريثتها تجاه الأعجمية. فهو لذلك ساحة صراع سياسي ثقافي بين العروبة والأعجمية منذ ظهور العرب على المسرح في دولتهم المركزية الجديدة(2) في ظل الإسلام.
ومن الممكن بسهولة استعمال عبارة الحروب العراقية الإيرانية التي تستخدم عند السياسيين والإعلاميين لوصف تاريخ البلدين المتجاورين. فقد كان هذا التاريخ الذي يمتد إلى أكثر من أربعة آلاف سنة قبل الميلاد مخضباً بدماء الجنود العراقيين الذين دافعوا عن حدودهم الشرقية ضد هجمات الأقوام التي سكنت مناطق جبال زاجروس و خوزستان المتاخمة للحدود العراقية (3).(157/2)
2. ومن عجائب حقائق التأريخ أنه لم تقم حضارة في العراق قط إلا وكانت نهايتها على يد الفرس أو الغزاة القادمين من الشرق !. فسومر دمرها العيلاميون وأحرقوا عاصمتها (أور) عام (2006 ق.م.) وقادوا الملك العراقي (آبي ـ سين) أسيراً إلى عاصمتهم (سوسة) وكانت مأساةً ظل العراقيون يذكرونها بالأسى والحزن مئات السنين. وكذلك (أكد) و(بابل) و (الحضر) و (آشور). وآخرها (الحيرة) إذ كانت نهاية ملكها (النعمان بن المنذر) على يد (كسرى برويز) أو (كسرى الثاني).
ولما جاء الإسلام وقامت حضارته في العراق كانت نهاية عاصمتها (بغداد) على أيدي المغول ولكن.. بتخطيط وتحريض من الوزير الفارسي (ابن العلقمي) وتعاونه مع وزير هولاكو (نصير الدين الطوسي) الفارسي ! بعد أن قضى الفرس في تآمرهم ضد دولة العرب أو دولة الإسلام ستة قرون ونصف قرن خاضوا خلالها مئات الثورات والحروب، وحاكوا آلاف الدسائس، وسفكوا أنهاراً من الدماء، وأهلكوا الحرث والنسل، وأشاعوا الفساد، ودمروا البلاد والعباد !..
لقد ظل صراع الفرس مع العراقيين خصوصاً والعرب عموماً كما هو قبل الإسلام وبعده لم يتغير منه سوى العناوين واللافتات، أما المضامين والأهداف والغايات فهي هي سوى أنها صارت هذه المرة تتغلغل تحت طيات العمائم.
كل الذي تغير هو أن المفاهيم المجوسية والأحقاد الفارسية صارت تصدر إلينا باسم جديد وذريعة جديدة، بعد أن تأكد لأساطين السياسة الفارسية عدم قدرتهم على مواجهة الإسلام علناً فأمسوا يكيدون له سراً متقمصين مبادئه ويرفعون شعاراته ويتبنون شعائره بعد تفريغها من محتواها وملئها بمحتوى آخر هو المحتوى الفارسي الذي ليس له من الإسلام سوى الإسم والعنوان واللافتة والشعار. وصاروا يصدرون إلينا هذا (الإسلام) المصنع حسب التفصيلة الفارسية باسم التشيع لأهل البيت.(157/3)
3. وأصيب الإسلام في بلاد فارس بمثل ما أصيبت به أخته المسيحية في بلاد الرومان فترومت المسيحية ـ كما قيل ـ ولم تتنصر الرومانية، كذلك تمجست الديانة الإسلامية ولم تسلم المجوسية الفارسية.
وكما صار الرومان الوثنيون يغزون أرض العرب باسم الصليب، كذلك صار الفرس المجوس يغزون بلادنا وأرضنا باسم أهل البيت.وكما استباح أولئك دماءنا باسم المسيح الصليب، استباح هؤلاء دماءنا باسم الحسين الشهيد.
وكما تأسس دين كامل على حادثة صلب المسيح (ع) المزعومة كذلك تأسس دين كامل على حادثة قتل الحسين (رض) التي صيغت صياغة وأخرجت إخراجاً !والضحية في كلتا الحالتين العرب و الإسلام.
ونجح الفرس في استغلال الأحداث ـ كالخلاف بين علي ومعاوية والحسين ويزيد ـ وصناعتها وتزويرها ليحولوها من إطارها السياسي إلى إطار ديني إعتقادي يستثمرونه متى شاؤوا خدمة لأغراضهم السياسية. أي أنهم حولوا التشيع من قضية سياسية إلى قضية دينية تستثمر عند الطلب لمصلحة سياسية.
كل ذلك يتم في جو مشبع بالروايات الملفقة المنسوبة زوراً لأئمة أهل البيت العلوي، ومشحون بالعاطفة الجياشة والدموع حزناً على (مصائب أهل البيت).
وتمكنوا بذلك من استمالة الملايين من البسطاء، وجرهم إلى صورة مشوهة للدين تحت ستار (التشيع) ونسبة ما اخترعوه من روايات وما ابتدعوه من عقائد وعبادات إلى الأئمة الثقات.
إن هذا (التشيع) المشوه الذي نطلق عليه اسم (التشيع الفارسي) أو (الرفض) ما هو إلا (فارسية) مجوسية بكل ما فيها من حقد تأريخي دفين ومعلن وعقد نفسية تاريخية غير قابلة للعلاج ألبسوها ثوب الإسلام وتوجوها بشعار التشيع لأهل البيت !.
وإن هو إلا حلقة واحدة متميزة في سلسلة طويلة من الصراع الأبدي الذي لم يتوقف ـ ولن يتوقف ـ تمتد حلقاتها إلى مدى ستين قرناً من الزمان المكتوب !(157/4)
إن ميزة هذه الحلقة كونها مغلفة تتخفى ولا تعلن عن نفسها صراحة، بسبب تغير الظروف لا أكثر، أما الحقد والعقد، والأفكار والعقائد، والفساد والاعتداء فهو هو ! بل صار أدهى وأمر وأنكى وأخطر بسبب هذا التغليف والتخفي والـ..(تقية).
4. أما نحن أبناء هذا الجيل فقد كشفت لنا الأحداث الدامية التي عشناها من حرب الثماني سنوات وأعمال الغدر والخيانة على هامش العدوان الأمريكاني الصليبي اليهودي على بلدنا والاحتفاظ بالأسرى العراقيين في زنازين القهر في إيران وقد مر على تأريخ أسرهم لحد الآن 2002 م أكثر من عشرين عاماً ! مع المعاملة اللاإنسانية التي لم نسمع عنها في الخيال، وغيرها من الأحداث، والواقع المعاش، جميعها كشفت لنا عن أمور وأمور ودفعتنا إلى ضرورة إجراء مراجعة تأريخية واقعية شاملة لنكتشف حقيقة مؤلمة خطيرة هي : أن العداء (الفارسي) لأمتنا وديننا وعراقنا عداء أبدي تمتد جذوره عميقة في أغوار الزمان وتتفرع أغصان شجرته الخبيثة دونما نهاية ! وأن كل موقف عدائي نواجهه لا يصح أن نفسره تفسيراً ساذجاً يقف به عند حدود أسبابه المباشرة ودوافعه الظاهرة، بل علينا أن نعتقد جازمين أن ذلك الموقف الجزئي (ما هو إلا امتداد لموقف (فارسي) راسخ معادٍ للعراق والأمة العربية والإسلامية. اتخذ في كل مرحلة سماته المنسجمة مع طبيعتها.. لقد اعتنق الفرس الإسلام كسائر شعوب المشرق لكنهم حاربوه من داخله، وتعلموا الآداب العربية لكنهم حاربوها بما تعلموه منها، وكتبوا بالحروف العربية لكنهم شنوا حرباً على اللغة العربية نفسها. لأن العقلية (الفارسية) تنظر الى الحضارة العربية بعين واحدة. إنها تتأثر بها لأنها مضطرة إلى ذلك لنقص في مستواها الحضاري ، وتعاديها في الوقت نفسه لأنها تمثل خطراً يهدد سيطرتها على القوميات العديدة التي تحيط بها)(4).(157/5)
ولقد شاء الله تعالى بحكمته أن يجعل من إيران بلداً متفوقاً في عدده ومساحته، ويجعل العراق متفوقاً في معناه وقيمته فكان أن أدى ذلك إلى أن تصاب إيران بعقدة الشعور بالنقص تجاه العراق كما يشعر الكبير الفارغ بالانتفاخ تجاه من هو أقل حجماً وأكبر نفساً ومعنى، وفي الوقت نفسه ظل العراق يستشعر قيمته ويعتز بنفسه فلا يستجيب لكبرياء ذلك الخصم الفارغ المنفوخ.
إن هذا العداء المتأصل تجاه أمتنا وحضارتنا يمثل عقدة مترسخة في نفسية كل الشعوب الإيرانية ـ إلا من رحم ـ لا سيما من أمسك منهم بزمام الحكم . (فمع أن سلالات غير فارسية حكمت إيران في بعض العهود إلا أن سياستها لم تكن لتختلف عن السياسة الفارسية التقليدية التي ذكرنا، فالأفشاريون و الزنديون و القاجاريون مثلاً وهم ليسوا فرساً لم يكونوا ليصبحوا (شاهات) لإيران لو لم يلتزموا بـ (العقدة الفارسية) فيحذوا حذو أسلافهم في معاداة الأمة العربية وسلب أراضيها ومياهها وتشويه دينها وثقافتها)(5).
5. وفي الحقبة الأخيرة استشرى خطر (الرفض) لا سيما بعد مجيء الشاه المعمم (الخميني) إلى سدة الحكم في إيران، فبدأت تتكون له قواعد وتمتد استطالات خارج حدودها طالت أماكن ومواقع حساسة لا ينبغي أن تطالها، وصار له وجود في دول وأقاليم كالشام والخليج وأفريقيا وشرق آسيا، طبقاً إلى خطة مرسومة سلفاً يقوم على تنفيذها دول ومنظمات ـ وليس أفراداً وتجمعات محدودة ـ وضعت العراق على رأس القائمة وجعلته أول هدف من أهدافها.(157/6)
6. إن كل من وضع هذه الصورة بجميع أجزائها أمام عينيه لا بد أن يحكم بأن التصدي لهذا الخطر الشعوبي والغزو الفارسي الشرقي هو (واجب الوقت) بالنسبة لنا أهل العراق، وأن مجاهدة الشعوبية وملاحقة رؤوسها وذيولها هو أعظم أنواع الجهاد التي ينبغي أن نقوم بها في هذا الزمان والمكان. إنه لا يقل عن جهاد خالد والمثنى في تحرير غربي العراق وسعد و القعقاع في القادسية وما بعدها ! بل هو أصعب وأكثر مرارة، وأدعى للإحباط لقلة الناصر وكثرة الخاذل وضعف الإمكانيات وغفلة الأمة وانشغال أبنائها بـ (الغزو الغربي) جانحين إلى تعميمات وقضايا بعيدة عن مشكلة العراق الرئيسية، غير منتبهين إلى ضرورة الربط بين الزمان والمكان، مع أن الانشغال بقضايا الزمان دون المكان كالانشغال بقضايا المكان دون الزمان، كلاهما يؤدي إلى نتيجة واحدة هي الجمود والانعزالية وتوقف الحركة.
وإذا كان ذلك كذلك فإن على كل من تصدى للعلاج أو المواجهة أن يضع في حسابه هذه الصورة بجميع أجزائها وعمقها وامتداداتها، وأن يحذر من النظرة السطحية أو المجتزأة وإلا خسر الجولة وحلت به الهزيمة. وهو الواقع.
7. ومع هذا ـ وقبله وبعده ـ علينا أن ننطلق في خطواتنا و إدارة عجلة الصراع مع الباطل من القرآن العظيم وتطبيقات السنة النبوية المطهرة، وأن نخضع أفكارنا وآراءنا وحركتنا لأحكام الوحي النازل وليس العكس. مع الأخذ بنظر الاعتبار إمكانية تغير هذه الأحكام طبقا للظرف زماناً ومكاناً، وأعيانا كذلك. على أن نظل نفرق بين حكم الله من حيث الأصل والعزيمة ، وبينه من حيث مراعاة الظرف والأخذ بالرخصة حتى لا تنقلب الأمور ويتحول الحرام حلالا أو جائزا في كل الأحوال، أو الواجب حراما كذلك فتضيع معالم الدين أو يمسي مطية لأهوائنا، ومظلة يستريح تحتها ضعفنا، ويلوذ بها نكولنا عن تحمل أعباء الطريق.(157/7)
8. لقد نظرت إلى هذا كله، وأجلت النظر كثيراً في التاريخ القديم والحديث، وأسباب الصراع العامة والخاصة وعشت الواقع، ولم تشغلني أحداث العصر أو الزمان عن أن أعيش واقعي بآلامه وآماله وأتجرع مرارته وغصصه. ورغم أن عينيّ كانتا تغرورقان بالدموع وتختنقان على الدوام وهما تنظران بين حين وآخر إلى شهيد جديد يسقط ضحية الغدر والخيانة لا يقل منزلة عن شهداء فلسطين وحطين إلا أن ذلك لم يمنعهما من رؤية الطريق وتحديد معالمه رغم ضبابيته على امتداد الأفق البعيد.
ووقفت طويلا أمام كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وسيرته العملية لأستخلص منهما وصفة للعلاج المناسب، فهالني وأرعبني- وأنا أتلفت حولي علّني أجد أثراً لتلك الوصفة- ما اكتشفته من سطحية و غثائية وابتعاد عن المنهج الرباني وذهول عن الواقع وعدم شعور بمصائب (الأهل)، والتحليق عالياً أو التردي عميقاً –لا فرق- في أودية الخيال، والضرب الطويل في صحراء من السراب كلف الأمة قروناً من الجهود العقيمة والتضحيات الضائعة السقيمة.
وأخيراً.. عرفت أن سبب ذلك ضعف المناعة الفكرية رغم المنعة العسكرية وما تحققه الحكومات الوطنية من انتصارات في الميدان العسكري. وذلك راجع- بالدرجة الأساس- إلى ما غزا تراثنا العظيم من ميوعة تجاه الغزو الفكري الشرقي، والى ما يسود الساحة اليوم – ومن قبل- من منهج دعوي يعتمد أساساً على الابتعاد عن التعرض للباطل، وعن كل ما يزعج أهله ويثيرهم أو …(ينفرهم). على اعتبار أن (بيان الحق كفيل بزوال الباطل). ومع السكوت عن الباطل السكوت عن الدعوة إلى مفردات الحق (المثيرة)(المزعجة).
مما يستدل به أصحاب هذا المنهج الحكمة الصينية القائلة:(157/8)
(بدلاً من أن تلعن الظلام أشعل شمعة). ومنه: ضرورة أن تكون الدعوة (هادئة) لينة على طول الخط كما قال تعالى لموسى و هرون عليهما السلام حينما أرسلهما إلى فرعون: { فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } طه/44 وقال: { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } العنكبوت/46 وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (ما كان الرفق في شيء إلا زانه..) وقد ترفق برأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول وقال لولده عبد الله حين خشي أن يقتله: (بل نترفق به). ومنه: أن إنكار الباطل ينفر أهله ويبعدهم من الحق.
وينكر هذا المنهج- مع ذلك- جميع أساليب الشدة في إنكار الباطل، ويأبى فضح رؤوس الضلال بأسمائهم أو بأوصافهم، أو السخرية منهم مطلقاً أو سبهم ولعنهم أو إعلان العداوة لهم والبراءة منهم ولو كان من باب الرد بالمثل! ويعتمد اللين كاسلوب وحيد لا محيص عنه ولا محيد.
9. ونحن – كأمة مسلمة عظيمة مرجعها كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ولها منهج دعوي واضح ومفصل في هذا المرجع، سار عليه النبي القائد والأنبياء الكرام من قبل ودعاة الحق من بعد ـ حين نقارن بين المنهج السائد والمنهج الإلهي النبوي نجد البون شاسعاً بين المنهجين!
وشتان بين منهج نازل من السماء وآخر نابع من الضغط الاجتماعي الملتقي مع النفس البشرية الضعيفة وهي تبغي (السلامة أولاً) وآخراً، مؤثرة إياها على المواجهة المتعبة أو.. الخطرة مما يؤدي بها إلى تجاهل -أو التغافل عن- جميع الآيات والأدلة الواضحة البينة المعارضة رغم صراحتها وكثرتها.(157/9)
10. إن هذا المنهج الأرضي الترضوي المتستر برقاعات من الأدلة المقطعة والمقتطعة ثم الملصقة بحذق بعضها إلى جنب بعض هو السبب الأساس وراء الإخفاقات المتوالية والمتوازية عبر القرون،و التراجع المستمر أمام الزحف الشعوبي الشرس الذي تزداد شراسته وتشتد ضراوته طرديا مع تراجعنا وتخاذلنا و(هدوئنا) بسبب ذلك المنهج الذي يغرس الهزيمة النفسية في أعماق حملته، و المنخدعين بسلاسة ونعومته، جاعلاً منهم حمائم سلام وادعة خانعة، في جوٍ يزدحم بالصقور والنسور الكاسرة التي تزداد شهيتها ويقوى طمعها بفريستها كلما ازدادت وداعة و خناعة.
لقد تخرجت على هذا المنهج أجيال غاية ما تطمع في الحصول عليه كلمة رضا أو نظرة عطف من وجوه صفراء كالحة، تختفي وراءها قلوب امتلأت غيظاً وحقداً، وصف الله تعالى أصحابها فقال: { لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } آل عمران / 118
11. وهكذا اختلت الغاية والوسيلة معا.
أما الغاية فلأنها صارت إرضاء الناس لا إرضاء الله.
وأما الوسيلة فاختلت تبعا لاختلال الغاية فصارت منهجاً أرضيا ترضوياً ولم يعد إلهيا نبوياً! رغم أن الله تعالى قد بين لنا أن الطريق الموصل إلى غايتنا من مرضاته، وتغيير الواقع وتصحيح انحرافاته، محفوف بالمكاره لا يجوزه إلى نهايته إلا الصابرون المبصرون الذين يأخذون بعزائم الأمور كما قال سبحانه: { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ } آل عمران/186،واعتقد - كما أنت- أنه يصعب الجمع بين رضا الله ورضا خصومه.(157/10)
وشتان شتان بين من جعل الله تعالى غايته، وإرضاءه بغيته، وبين من عكس الأمر فظل يلهث خلف سراب يطلب في الدنيا السلامة، ويحاول عبثاً ترضية خصوم أطوارهم غريبة وأخلاقهم عجيبة إن دهنت لهم لا يدهنون! وإذا أنكرت هم يغضبون!! وإذا سكت- لتسلم- لا يسكتون!!!.
12. وفي هذا الكتاب جولة واسعة في بيان المنهج الإلهي النبوي، وفساد المنهج الأرضي الترضوي، في وقت نحن بأمسَّ الحاجة فيه إلى إصلاح حالنا وإنقاذ عراقنا وعروبتنا وإسلامنا من براثن الأخطبوط الشعوبي اليهودي الصليبي الذي اختار من اختار أن يمثل أمامه دور الانبطاح والانفتاح طمعاً في مرضاته والسلامة من شروره ومكره و غدراته، وإن كان فيه غضب الرب ومخالفة أوامره وآياته. وتلك – معاذ الله- غاية اللاهثين وراء السراب.. وما أكثرهم!
هدانا الله تعالى وإياهم، واخذ بأيدينا وأيديهم إلى سبيل النجاة، وطريق السلامة والعزة والحياة.. آمين.
(1) (2) (3) دماء على نهر الكرخا ص 11، 31، 19 حسن السوداني.
(4) (5) الصراع العراقي الفارسي ـ المقدمة ـ د. عماد عبدالسلام رؤوف.
تمهيد
الرحمة أساس الدعوة
المسلم الحق إنسان يحمل بين جنبيه عاطفة صادقة جياشة تجاه الخلق أجمعين.
هذه العاطفة الصادقة هي التي تحمله على أن يدعو إلى الحق ويرحم الخلق ويمضي في طريقه يلقي إليهم بالثمر وإن رموه بالحجر!
زاده: (اللهم اغفر لقومي فانهم لا يعلمون). يضرب فيه عرق من وراثة (الرحمة المهداة) الذي وصفه الرب فقال: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) } الأنبياء.
والرحمة الحقيقية تلزم صاحبها أن يوضح لمن سلك منهم سبيل الضلال أن نهاية سبيله الهلاك وسوء المآل، ولو استطاع استعمل معه القوة ليمنعه. أرأيت والدا رفيقا رأى ولده متجها إلى هاوية من نار؟!(157/11)
بل إن هذا دليل الصدق في العاطفة والقوة في العلاقة الرابطة، بل هو غاية الرحمة كما عبر عنها تلميذ النبي - صلى الله عليه وسلم - سيدنا أبو هريرة الدوسي - رضي الله عنه - في تفسير قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } آل عمران/110. فقال: خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام!.
ولم تفارق النبي المعلم - صلى الله عليه وسلم - رحمته بل كانت تلازم دعوته من أول يوم وهو يندد بآلهة المشركين ويعلن بأنها لا تنفع ولا تسمع ولا تضر ولا تدفع، ويضلل آباءهم ويسفه أحلامهم حين احتجوا لما يصنعون بما كان يصنع أولئك الآباء الذين لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون!.
ويشتد النبي - صلى الله عليه وسلم - أحيانا في دعوته، ويعلو في نبرته حتى يحمر وجهه وتنتفخ أوداجه، ويلين أحياناً حتى تتندى عيونه الكريمة بالدموع حسرة على قومه ولسان حاله يقول: { يا ليت قومي يعلمون } يس/26 فإن للشدة في ظل الرحمة موضعاً لو جعلنا اللين فيه بدلاً، لم يبق للرحمة معنى أو جدوى، كما أن للين موضعه في ذلك الظل الظليل. ألم يقل الشاعر الحكيم:
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه
إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم!
وقد تكون الشدة رداً بالمثل كما قال تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } (البقرة/194)، وقال : { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } (العنكبوت/46).(157/12)
وليس من دين الله الصبر المستديم على الضيم أو الاعتداء. بل الحكمة تلزم المسلم أن يعرف متى يصبر ويعفو، ومتى ينتصر ويقسو وقد قال تعالى مادحاً : { والذين إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ } (الشورى/39) فلم يكن النبي- صلى الله عليه وسلم - متناقضاً مع نفسه -وهو الرحمة المهداة- حين سمل أعين الغادرين من قبيلتي رعل و ذكوان وقطع أيديهم وأرجلهم وتركهم وهم على هذه الحال في الشمس يستسقون الماء فلا يسقون ويستغيثون ولا يغاثون حتى ماتوا ! جزاءاً وفاقاً، وإلا لعمّ الفساد وأمن العابثون فتجرؤوا فزالت الرحمة من المجتمع. إن هؤلاء قوم أفسدتهم الرحمة فحقهم أن يحرموا منها جزاءاً و شفاءاً وحماية للناس و.. رحمة بهم كما قال تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (البقرة/179) والقصاص موت ولكن.. لا بد منه أحياناً لتحفظ الحياة!
ولنا في التاريخ عبرة. عثمان بن عفان- رضي الله عنه - اللين الحيي الكريم الرحيم ماذا نفعه لينه يوم شغب عليه الشاغبون (الرعليون)؟
ما ضر عثمان –غفر الله له- يومها لو وضع سيفه على متنه وجز (رؤوساً أينعت وحان قطافها)؟!! إذن لجنب الأمة أنهاراً من الدماء وفتناً عصفت حتى كادت تأتي عليها لا زلنا نلعق جراحها ونعاني آثارها، ولساد الأمن وعمت الرحمة.
الفرقان:(157/13)
ولقد فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - -وهو يدعو الناس- بين الحق والباطل تفريقاً ما عليه مزيد. أليس الكتاب الذي انزل عليه هو (الفرقان) ! وصرح بفساد ما عليه المشركون تصريحاً ليس معه تأويل أو إبهام وكذلك فعل مع اليهود والنصارى حتى قال لهم: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } (المائدة/ 68). وفضح أحبارهم ورهبانهم فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (التوبة/34)
وواجه جمهورهم بالحقيقة المرة وهي أنهم { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } (التوبة/31)، بل كفرهم صراحة وشهد لهم بالنار مع انهم يعيشون معه في مدينة واحدة، وبينه وبينهم وثيقة تعايش ومعاهدة! لكن ذلك لم يحمله على ان يجامل أو يكتم عنهم الحق والحقيقة. { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ } (الطارق/11-14)
إن اللين وحده ميوعة لا تليق بالجادين ولا تنبغي لحَمَلَة قضية صدقوا في حملها وجدوا في تبليغها ونقلها. إنما ذلك شأن الأدعياء الذين نذروا الدين لأنفسهم وليس أنفسهم للدين.. كما يدعون.
وإن الشدة وحدها غلظة وفظاظة تعبر عن عوج في النفس، وضيق في الأفق لا يليق بمن سمت غايته، ولا ينبغي لمن عظمت قضيته، و(إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق)، وإن طريقه لطويل وغايته وراء الأفق- أو قل هي عنده- فمن انبت واشتد على طول الطريق تعب وانقطع، فلا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع.
ما هو الحق؟:(157/14)
ببيان الحق يزول الباطل. هكذا يقولون. أي دع الخلق للخالق ولا تتعرض لباطلهم بسوء. ولكننا نعلم أن لوجه الحق جانبين أو له جناحين لا يطير إلا بهما مجتمعين. أو قل: له عينان إحداهما تنظر إلى المعروف فتمدحه وتدعو إليه، والأخرى تنظر إلى المنكر فتذمه وتنكره و..تدعو عليه.
فالحق لا يُعرف ولا يبصر ولا يَستقيم إلا بأن يبين وجهه بجانبيه،وينظر بعينيه، ويطير بجناحيه.وإلا كان مبهما أعور كسيرا وهو الواضح المبصر المستقيم.
من أجل هذا جاء في التنزيل : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا } (البقرة/256)، فكان الكفر بالطاغوت قرين الإيمان بالله بل.. مقدما عليه!
القرآن مرجعنا..وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
مهما بدت لنا المناهج والأفكار جذابة قوية، فان شرط قبولها لدينا نحن المسلمين أن لا تصطدم مع كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فان كان في مسألة معينة رأي وللقران قول فان من شروط إيمان المرء أن لا يقدم بين يدي الله ورسوله. فالقول ما قال الله ورسوله والحكم حكمهما.
بيان الحق كفيل بزوال الباطل..رأي.
إياك وتنفير الناس..رأي.
لا تذكر أباطيل الرافضة ولا ترد عليها..رأي
اذكر لهم من الحق ما لا ينكرون، ودع ما سواه مما لا يقبلون..رأي.
ينبغي أن تكون الدعوة لينة وهادئة دائما..رأي.
الشدة مرفوضة على طول الخط..رأي.
بدل أن تلعن الظلام أشعل شمعة..رأي.
وتسمية هذا كله (حكمة)..رأي كذلك.
فما هو حكم الله تعالى وحكم رسول - صلى الله عليه وسلم -؟
أو ما هو المنهج الإلهي النبوي في الدعوة إلى الحق وتغيير الباطل وإصلاح الفرد والمجتمع؟
الباب الأول
المنهج القرآني
في الدعوة وإحداث التغيير الاجتماعي
من مزايا المنهج
1. الوضوح والثبوت القطعي:(157/15)
ليس المنهج القرآني في الدعوة والتغيير من الموضوعات الظنية التي يسوغ فيها الاختلاف وتعدد الآراء، أو الخفية التي تحتاج إلى بحث وتنقير. بل هو واضح ظاهر للعيان كظهور الماء في البحر المحيط لا تحجز رؤيته الشطآن ولا ينبغي ان يختلف فيه مسلمان، لكثرة أدلته من جهة ووضوحها وصراحتها من جهة أخرى.
والحقيقة التي لمستها أني لم أبحث موضوعاً- بعد مسائل الإيمان والعقيدة- في القرآن فوجدت عليه من الأدلة الكثيرة الصريحة كهذا الموضوع حتى كدت أغرق فيها من كثرتها وصعوبة احتوائها وتصنيفها!
2. الثبات أو القدم والخلود:
ومن مزايا هذا المنهج قدمه وخلوده. فهو منهج الأنبياء عليهم السلام والدعاة الذين قص الله تعالى علينا نبأهم جميعا، على اختلاف أممهم وظروفهم وأزمنتهم وأمكنتهم. إنه منهج واحد لم يتغير بتغير هذه العوامل وغيرها من المتغيرات! مما يدل على ثباته ووحدانيته حتى يمكن ان نقول فيه: إنه يغير ولا يتغير!
3. العموم!:
لقد واجه الأنبياء عليهم السلام بهذا المنهج أديانا مختلفة.وواجه النبي - صلى الله عليه وسلم - أديانا ثلاثة اليهودية والنصرانية والشرك ومعها النفاق الذي يمكن تصنيفه على أنه دين رابع.(157/16)
إن بين هذه الأديان اختلافات جذرية وبين أهلها بعضهم مع بعض كذلك، لكننا حين نتابع المنهج في سور القرآن وآياته التي اختصت بعلاج أي دين من هذه الأديان نجده واحداً رغم تلك الاختلافات بين الأديان وبين الأعيان. وإذن فحين نعرض للمنهج في تعامله مع اليهود والنصارى والمشركين وكذلك المنافقين كلاً على حدة من خلال السور الأربع (البقرة وآل عمران والأنعام والتوبة) التي تعتبر مختصة بالتعامل مع هذه الأديان على التوالي- فإنما نستخلص منهجاً عاماً للتعامل مع جميع الأديان والفرق التي جانبت الصواب وضلت الطريق، وليس منهجاً خاصاً مقتصراً على من سبق ذكرهم فإذا خرجنا مثلا إلى المجوسية أو الزندقة أو البوذية كان علينا أن نبحث لها عن منهج ملائم غير المنهج القرآني الذي نجده هو هو مع جميع الأديان التي واجهها الأنبياء على مر التاريخ.
إن هذا الثبات مع هذا التنوع والاختلاف دليل واضح على العمومية. كما أن القاعدة الفقهية الأصولية التي تقول: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب صالحة التطبيق هنا.
ولهذا نجد النبي - صلى الله عليه وسلم - تحرك بالمنهج نفسه في مكة المكرمة حيث المشركون، وفي المدينة المنورة حيث اليهود وكذلك المشركون ومعهم المنافقون، واستعمله مع النصارى كذلك. وأرى أن السبب في ذلك يعود إلى أمرين اثنين:
أولهما: أن الباطل مهما اختلف في ظاهره وفروعه وتفصيلاته وحتى أصوله المميزة من قوم إلى قوم ودين إلى دين فهو واحد في حقيقته وجذوره ومرتكزاته !
وثانيهما: أن البشر- مهما اختلفوا في أجناسهم وألوانهم وظروفهم ومواقعهم وأزمنتهم فهم- متشابهون في التركيبة الأساسية للنفوس والعقول { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } (الروم/30).
الفصل الأول
المنهج من خلال الخطاب القرآني
للأديان الباطلة الكبرى
1. المنهج من خلال سورة (البقرة) وخطابها لليهود :(157/17)
خاطبت سورة (البقرة) في جزئها الأول اليهود. ولليهود مع البقر والعجول مواقف وقصص، فجاء هذا الاسم ليعبر عن تعلق السورة الكريمة بهم. كما أن (آل عمران) هم عائلة عيسى - عليه السلام - فسميت السورة باسمهم لتعلقها بالنصارى ونبيهم المسيح. كذلك سورة (الأنعام) سميت بهذا الاسم لاختصاصها بخطاب مشركي العرب وقريش الذين اشتهروا دينيا واجتماعياً بذبح القرابين من الأنعام وتقديمها للأصنام. أما سورة (التوبة) فلها اسم آخر هو (براءة) يلخص حقيقة خطاب الله تعالى للمنافقين في شيء واحد هو البراءة منهم ومن أعمالهم ـ وكذلك المشركين ـ حتى يتوبوا.
الدعوة إلى الحق:
ابتدأت السورة بدعوة اليهود إلى الدين الحق وفاء بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم مع الله عز وجل: { يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } ثم علت نبرة الخطاب بعد هذه البداية (الهادئة) شيئاً قليلاً في الآية الثانية: { وَآمِنوا بِمَا أَنزلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } ثم علت أكثر في الآية الثالثة: { وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون } وظلت النبرة في علوها المتصاعد آية آية حتى دمغتهم بتذكيرهم بأجدادهم الذين خالفوا الأمر وارتكبوا ما نهوا عنه فغضب الله عليهم فقال لهم: { كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِين } .
التحذير من الباطل:(157/18)
ومع الدعوة إلى الحق، والإيمان بالإسلام، والأمر بالصبر والصلاة والزكاة، تجد التحذير من أباطيلهم وانحرافاتهم متشابكا متداخلا. فليس هناك من تورية ولا مجاملة بل وضوح وصراحة كاملة، في ذكر حقائق مرة عن دينهم المبدل وما هم عليه من أخلاق وتلبيس وكتم للحق عن علم، وازدواجية لا تتناسب مع حملة كتاب وأمة رسالة.
ولم تكتف ببيان الحق البعيد عن الإثارة بل أمرتهم بالحق المعطل الذي ينفرون من ذكره وأمرِهم به، وزادت فذكرت تفاصيل باطلهم وذكرتهم بمخازيهم وكشفت عن سوءاتهم ما مضى منها وما حضر، إلى أن جردتهم من الانتساب الحقيقي لركب الأنبياء عليهم السلام إبراهيم وموسى وإسحاق ويعقوب والأسباط في الوقت الذي أعلنت أن هؤلاء (مسلمون) ليسوا يهودا ولا نصارى ولا مشركين، وأن الوريث الوحيد لهم الذي يستحق تلك النسبة هم (المسلمون) حملة المنهج الحق الذي كان يحمله أولئك الأنبياء الكرام عليهم السلام الذي تنصل عن حمله اليهود فكان مثلهم كمثل الحمير تحمل أسفارا!
اليهود- التاريخ المخزي:
بعد الشوط الأول الذي انتهى بأمرهم بالصبر والصلاة يبتدئ شوط آخر طويل يتعلق بتاريخهم، وملخصه نعم وغفران يقابله جحود وكفران! وتفلت وعصيان !! بل تكبر وتبجح وطغيان!!!(157/19)
وفيه سلسلة طويلة من المخازي وسوء الأفعال والأخلاق غالبها في صيغة الخطاب المباشر كأن الذين ارتكبوا تلك المخازي والآثام ليسوا جيلاً أو أجيالا مضت وانقضت وانما هو هذا الجيل الحاضر المخاطب: { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)َ)وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنزيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ(157/20)
الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)… وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ … (61) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ…(63)ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ… (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ(65) …ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً …(74) }
ذلك ليلفت الأنظار إلى أن النفوس واحدة فلو تكررت التجربة لتكرر الفعل!
الانحرافات الحاضرة:
استغرق الشوط السابق خمساً وعشرين آية قبل أن تنتقل السورة من استعراض مخازي الماضي إلى مخازي الواقع. ولا شك أن هذا أدعى للنفرة وأشد إيلاما للنفس. وكان يمكن لليهود أن يقولوا: إن محمدا يردد مآسي الماضي، بل يُحمِّلنا تبعاتها وينكأ جراحاً قد اندملت بدلاً من أن ينشغل بعلاج الجروح التي تجددت! أليس الأولى به –إن كان جادا في ادعائه ودعوته، ومخلصا في مد أيدي اللقاء والتعاون بيننا- أن يسكت عن مساوئنا أو –على الأقل- يتناسى ما مضى منها؟ أليس كتابه يقضي بـ { أَلاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } النجم/38؟ فمالنا ولمن مات فكان من سكان القبور؟ بل ما لمحمد ولهم؟ ألا يتركهم يرتاحون في قبورهم حتى يخرجهم منها ليجلدهم وهم موتى لا يقدرون على الرد ولا عن أنفسهم يدفعون!(157/21)
كل هذا ممكن ولعلهم قالوه وسخروا من هذا (التناقض) بين الدعوى والسلوك! ولكن القرآن ومنهجه له شأن آخر!! أليست هذه النفوس المخاطبة كالنفوس الميتة سواءاً بسواء ؟ ثم إن هؤلاء لم يتنصلوا من أفعال أسلافهم ومقترفات أيديهم، ولم يشعروا تجاهها بالخجل. بل على العكس فإنهم يتبجحون بتلك الأفعال وذلك التاريخ وزادوا فادّعوا أنهم شعب الله المختار! وانهم { أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } المائدة/18!!
ان في هذه لذكرى ودرساً قرآنياً عظيماً ! درساً يعلم الأمة أن من كان له مثل هذا التاريخ المخزي ثم هو يشمخ بأنفه ويفخر به بدلاً من أن يتنصل عنه ويعتذر منه ينبغي أن يدمغ بذلك التاريخ ويعيّر به ليعرف حقيقة نفسه ويشعر بأن الناس يعرفونه على حقيقته علّ ذلك يردعه ويجعله يشعر بالنقص إزاء ذلك. ولعه يرعوي أو –على الأقل- يتأدب وهو يتعامل مع الأتقياء الأطهار!
قارن هذا بموقف العرب آنذاك من اليهود واحترامهم لهم ومجاملتهم بل الرجوع إليهم في بعض المسائل الدينية! ورد الفعل اليهودي إزاء هذا الموقف المجامل!!
ولقد تعذُرُ العرب الأوائل في هذا لافتقادهم الكتاب المقرر والمنهج المحرر، فما عذر الأواخر إذا انتكسوا إلى تلك الجاهلية مع وجود الكتاب المنزل والمنهج المفصل مع اليهود واخوتهم وأشباههم ومن هو أخطر منهم وأخزى؟!
وتأمل موقف اليهود اليوم مع الفاتيكان وكيف يتهمون بابواته دائماً بأنهم يضطهدون اليهود كيف فعل فعله في نفوس النصارى حتى باتوا يشعرون بعقدة الذنب فصاروا يحاولون عبثاً أن يبرؤوا أنفسهم ويداووا نقصهم. ولأول مرة في تاريخ الكنيسة البابوية يعلن البابا براءة اليهود من دم المسيح. ولكن هل اكتفى اليهود بهذا؟! كلا! فإن المريض بعقدة الاضطهاد لا يكف عن الشكوى والعويل ولو كان في وسط النعيم!(157/22)
ولا زال اللوبي اليهودي مستمراً في شكواه وتهمه والفاتيكان في اعتذاراته وتنازلاته دون جدوى! وها هو اليوم يعلن على لسان البابا يوحنا بولص السادس عن سابقة أخرى لم تحدث له من قبل وهي الموافقة على فتح ملفات الفاتيكان الخاصة بالبابا يبوس الثاني عشر من الفترة المحصورة بين عام 1922-1939 لمراجعتها من أجل تبرئته من علاقته بالنازية الألمانية ومعاداته للسامية!
يقول البابا الأخير مبرراً ذلك: أنه يريد أن يضع حداً لاتهام يهودي غير عادل ضد البابا المذكور! ولن يستطيع أن يضع حدا لمسلسل الاتهام! إنه يطرق الباب الموصود بل جداراً ليس له من باب ولا جواب!
قارن هذا مع طريقة القرآن ومنهجه في علاج أولئك المصابين بعقدة الاضطهاد تجد الطريقتين مختلفتين والمنهجين كلاً في طريق.
ولعلك إذا سألت البابا لأجابك: إنها (الحكمة)! :
وإذا كان البابا يضطر إلى الجنوح تجاه الضغط والإرهاب الفكري إلى عقله وهواه لأنه بلا كتاب منزل ولا منهج واضح مفصل، فلماذا يجنح الجانحون من الذين يدعون حمل الكتاب ومعرفة المنهج الصواب إلى ما يجنح إليه النصارى الضالون شبرا بشبر وذراعاً بذراع! أم (إنها السنن ورب الكعبة) ! (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه وراءهم) ! (ولو كان فيهم من يأتي أمه عيانا لكان في هذه الأمة من يفعله) ! وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!
أشواط من ذكر الباطل أخرى:(157/23)
ويبتدئ شوط آخر يتناول تفاصيل أخرى لباطلهم وانحرافاتهم الواقعة يبتدئ بقوله تعالى: { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ…(76) } { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُون (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً…(80) }
واستمرت الآيات وتوالت الأشواط تعدد مساوئ اليهود المعاصرين في حوالي خمسين آية، من نقض المواثيق والتكبر عن الحق والكفر بما انزل الله على الغير وإنكار ما يعرفون من الحق، والتعصب للطائفة ودعوى عدم الفهم، والحرص على الحياة أي حياة، وعداوة جبريل - عليه السلام - والسحر والحسد، ولي الألسنة بالطعن واللمز، وقتل دعاة الحق من الأنبياء وتكذيبهم : { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون (87) } .
ثم الإعلان عن فشل المنهج الترضوي:
بعد كل هذا تصل الأشواط إلى حقيقة في غاية الأهمية ألا وهي: فشل المنهج المبني على محاولة إرضاء أمثال هؤلاء، والإعلان عن أن إرضاءهم غاية لا تدرك إلا بشيء واحد هو اتباع ملتهم وتلبية رغباتهم وأهوائهم فتكون مثلهم !(157/24)
نجد هذه الحقيقة العظيمة في قوله تعالى : { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) }
ألا ترى أيها المسلم القارئ للقرآن المتدبر له كيف جعل الله تعالى هداه ومنهاجه في جانب، والمنهج القائم على الترضية في الجانب الآخر المقابل! ويسمي هذا هوى وذاك هدى.. هدى الله الذي مالكم من دونه من ولي ولا نصير من هؤلاء الذين تحاولون عبثا ترضيتهم، حتى تكونوا مثلهم!
إن اليهود- وكذلك النصارى- صنعوا لهم دينا يوافق أهواءهم ويحقق أغراضهم وأهدافهم نسبوه زورا إلى الله. فما لم تتبع أنت هذه الأهواء - والخطاب لخيرة الدعاة وأحكمهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم --أي هذا الدين المزور والملة المعوجة فلن يرضوا عنك، رغم انك تدعو صادقا إلى اتباع ما جاء به إبراهيم وموسى وبقية أنبيائهم : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ (136) } فلو كانوا صادقين في تدينهم ومتبعين حقاً لنبيهم موسى وغيره من الأنبياء لكان هذا كافياً في رضاهم عنك واتباعهم ملتك لأنها ملة أولئك الأنبياء عليهم السلام. لكنهم لا يرون إلا اتباع ما اخترعوه هم بأهوائهم فهم لن يرضوا عنك أبدا لأنك تريد الاجتماع على دين الأنبياء وهم يأبون إلا اتباع الملة التي اخترعوها بالأهواء.(157/25)
إذن الرضا الذي تطلبونه لن يتحقق إلا بإحدى وسيلتين : إما أن تتبعوا ملتهم فما لكم من الله من ولي ولا نصير، وإما ان يتبعوا ملتكم وما هم بفاعلين. فاستمسكوا بما انتم عليه من الحق غير مداهنين ولا مجاملين، وادعوهم بثقة إلى الحق المبين { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) } ولا يفوتنك أن تستشعر هذه العزة الإيمانية التي افتقدناها من زمان في ظل المناهج الترضوية الهوائية.
إن هذه الآيات تضع أهلها أمام خيارين لا ثالث لهما: فإما أن نحترم أنفسنا ونكف عن المداهنات الباطلة والمحاولات الآيسة الفاشلة طمعاً في إرضاء خصوم لا يرضون. وإما أن نقطع الشوط إلى نهايته فنكون مثلهم ونرتاح من هذا العناء { مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ (143) } النساء.
قطع صلة اليهود بأنبيائهم:(157/26)
ومن معالم المنهج البارزة التأكيد على انه لا علاقة بين ابراهيم عليه السلام ومن بعده من أنبياء بني اسرائيل كيعقوب وموسى عليهم السلام وبين اولئك اليهود المتبجحين زورا بالانتساب إلى أولئك الأنبياء الكرام، مع بيان ان الانتساب الأجوف المجرد عن الايمان والعمل بما جاؤوا به لا قيمة له الميزان. انه اهواء سفهاء ودعاوى أغبياء: { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَا ءَامَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)… أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ ءَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) } .(157/27)
ويعيد الله تعالى المعنى نفسه في سورة (آل عمران) بقوله : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) } فليس لإبراهيم المسلم الحنيف علاقة باليهود والنصارى ولا بالمشركين لأنه ما كان يهوديا ولا نصرانيا ولا كان من المشركين. فقطع صلة هذه الطوائف به قطعا صريحاً باتاً وأبطل ادعاءهم بالانتساب إليه لأنهم اتبعوا أهواءهم ومللهم ورغبوا عن ملة إبراهيم : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (130) }
نبرة الاستعلاء الإيمانية:
وتأمل نبرة الاستعلاء في هذه الآيات! تلك التي تغرس الثقة في نفوس المؤمنين وتجعلهم في منأى عن التردي في حمأة الشعور بالنقص المؤدي بهم إلى الجنوح إلى محاولات الترضية المخجلة المتمثلة في كيل المدائح المجردة للرموز المتبعة كذبا عسى أن يلين أولئك المتبعون فيصدقوا أننا نحب رموزهم ونتبعهم حقاً، فيرضوا عنا ونكون منهم ويكونوا منا.(157/28)
كلا. بل القرآن لا يعترف بانتسابهم هذا من الأساس. إنه يسحب البساط من تحتهم ويجعله تحت المنتسبين الحقيقيين. فعلى اليهود وأمثالهم أن يثبتوا لهم صدق دعواهم ويأتوا إليهم ليرضوهم ويفوزوا بمنحهم صك التوثيق والاعتراف، وذلك بالإيمان بمثل ما آمن به المؤمنون المتبعون حقيقة لمنهج الأنبياء عليهم السلام: { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا (137) } فالإيمان الحق إيمانكم وهو المقياس، وهو النموذج الذي يقاس عليه ويحتذى حذوه. فانتم الأصل وانتم المرجع وعلى اليهود ان يأتوا إليكم صاغرين تابعين، وإلا فـ { إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ (137) } فالكافي هو الله فارجع إليه واتبع منهجه تفز بنصره ورضاه، وتكن على يقين من أنك على هداه. وأما من خالف وأبى فلا تأبه لهم ولا تنشغل برضاهم أو سخطهم فان الله سيكفيك ويغنيك ويحميك.
عدم الاكتفاء بمدح المتبوع دون الدعوة إلى اتباعه:
وجملة القول ان القرآن الكريم حين يذكر المتبوع لا يكتفي بمدحه دون أن يقرنه بالدعوة إلى الغاية العليا منه إلا وهو الالتزام بمنهجه مع التصريح بأن الاتباع هؤلاء كاذبون في ادعائهم التبعية بالدليل القائم على ذكر تفاصيل ما يكذب دعواهم من انحرافاتهم المخالفة لمنهجه ودينه ودعوته.
هذا هو منهج القرآن وهذه هي ملة إبراهيم- عليه السلام - { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (130) }
الأركان أو العناصر الخمسة للمنهج القرآني:
يتبين من خلال التتبع الدقيق لآيات القرآن الكريم أن المنهج القراني المرسوم للدعوة والتغيير يقوم على أركان خمسة هي:
1. ذكر الباطل بتفاصيله. وإنكاره بحذافيره. ولعن ظلامه والتنديد به وبأصحابه وإن كرهوا ! وإن نفروا.
2. الدعوة إلى الالتزام بالحق.
3. مدح المتبوع بما فيه دون إفراط أو تفريط.(157/29)
4. الدعوة إلى اتباع منهجه دون الاكتفاء بمدحه، أو الاعتراف بالحب والانتساب المجرد عن الاتّباع.
5. قطع الصلة بين التابع والمتبوع، وتجريد التابع من كل دعاواه التي تربطه بالمتبوع.
ويلاحظ على المنهج انه لا يعير أدنى اهتمام لمسالة نفرة أصحاب الباطل من هذا الأسلوب وانزعاجهم من مواجهتهم بأباطيلهم.بل إن إنكار منكرهم وإبطال باطلهم هو أول ركن من أركان هذا المنهج القرآني العظيم.
المنهج من خلال سورة (آل عمران) وخطابها للنصارى:
وعلى النهج نفسه سارت سورة (آل عمران) في خطابها للنصارى خصوصاً وأهل الكتاب عموماً. ولم تختلف عنها إلا في حدة لهجتها إذ اختلفت فخفّت بعض الشيء لاختلاف النصارى عن اليهود في وقاحتهم وسوء أخلاقهم.
(أركان المنهج)
1. إنكار تفاصيل الباطل ولعن ظلامه:
- اتباع المتشابهات وترك المحكمات :
ابتدأت السورة بتعظيم الكتب المنزلة على أهل الكتاب (التوراة والإنجيل) يتقدمها ذكر الكتاب المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وبيان أنها أنزلت هدى للناس لو التزموا بها. أما غير الملتزمين بها فهم قسمان :
1. قسم يكفر بها صراحة : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ(4) }
2.وقسم يتظاهر باتباعها. لكنه يسلك في هذا الاتباع منهجاً منحرفاً يؤدي به إلى النتيجة نفسها التي وصل إليها الكافرون صراحةً، ملخصه اتخاذ المتشابهات منها أصلاً معتمداً بمعزل عن المحكمات التي هي الأصل الذي ينبغي أن يعتمد ويتبع وتفهم على ضوئه المتشابهات ويرجع في فهمها إليه.(157/30)
لقد ترك النصارى محكم قول عيسى - عليه السلام - الذي اخبرنا الله عنه فقال انه قال: { َإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) } واتبعوا شبهة ما أنزل الله بها من سلطان هي كون عيسى قد ولد من دون أب ليستنبطوا منها أنه ابن الله وانه اله مع الله بل هو الله نفسه تجسد فرأيناه ،تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
هذا المنهج الفاسد هو الذي عبرت عنه السورة في بدايتها فقالت: { هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ(7) } إنه المنهج الذي ما ضل قوم إلا اتبعوه. وما اتبعه قوم إلا ضلّوا !
- تكفيرهم وكشف زيفهم:
{ إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) }
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) }(157/31)
{ لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) }
{ قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ(32) }
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)… فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(64) }
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) }
وجاء في سياق هذه الآيات الأمر بإيجاد الأمة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر وأن هذا هو سر خيريتها: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) }(157/32)
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ (110) } فبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس بالمداهنات والمجاملات وكتمان الحقائق يكون الفلاح ووحدة المجتمع . وبعكسه يكون التفرق والاختلاف والخسارة مهما حاولنا التجمع والحفاظ على الوحدة . لأن التجمع على غير الحق ممحوق البركة لا يكون. وان كان لا يدوم. ولذلك جاء النهي بقوله: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) } بعد الأمر بتكوين الأمة الداعية إلى الخير الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر. فتأمل كيف جعل هذا مقابل هذا! أي ان الوحدة والجماعة في شرعنا لا ينبغي أن تبنى على مداراة الباطل وكتمان الحق حفاظاً على المشاعر، فيكون التسالم على ترك المعروف وإقرار المنكر. بل على العكس فان هذا هو أساس الفرقة مهما بدا أصحابه في ظاهرهم مجتمعين موحدين !
- نقض الميثاق وخيانة الأمانة:
{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) }
- (ليسوا سواءا):(157/33)
وفي وسط هذا يتبدى الإنصاف بذكر أن في هؤلاء صنفاً آخر إذا عرف الحق اتبعه. إذن علينا دعوتهم وبيان الحق لهم. يقول تعالى: { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَاتِ اللَّهِ ءَانَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) }
{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا (75) }
{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) }
إن هذا الصنف لا يضره ولا (ينفره) في المحصلة النهائية ذكر المساوئ التي تلطخ بها أهل ملته، ولا تزعجه الحقائق مهما تكن مرة بدليل أن السورة تكلمت عن هذه الحقائق بصراحة تامة.بل ذلك أدعى لاتباع الحق وترك الباطل، لأن من كان الحق بغيته اتبعه من أي جهة كان. أما من كان الهوى سائقه وغايته فلن تنفع معه المجاملات بل ولا المداهنات!
2.الدعوة إلى الالتزام بالحق:(157/34)
نستطيع أن نقول : إن الأمر بالمعروف والدعوة إلى الالتزام بالحق في اغلب آيات السورة لا يظهر إلا من خلال النهي عن المنكر والتنديد بالباطل والتحذير منه. ولم أجد فيها إلا القليل من الآيات الخالصة في دعوتها إلى المعروف المحض. من ذلك: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ (19)… وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا (20) }
{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ
يُرْجَعُونَ (83) }
{ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) }
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَينَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) }
3.مدح المتبوع:(157/35)
{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)… فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا…(37) } { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِين َ(42)… إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) } .. الخ الآيات التي جاءت في مولده ودعوته إلى ان تنتهي بوفاته - عليه السلام - ورفعه إلى السماء .
4.الدعوة إلى اتباع ما كان عليه المسيح- عليه السلام - والأنبياء الآخرون :
{ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) }
{ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعوهُ(68) }
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا(64) }(157/36)
{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا ءَاتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ
الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(85) }
5. قطع الصلة بين النصارى ورموزهم :
{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (67) }(157/37)
{ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(52) }
فالحواريون تلاميذ عيسى - عليه السلام - مسلمون وليسوا نصارى فأولئك على دين وهؤلاء على دين آخر.
6.القصص الحق :
انتهت قصة ميلاد المسيح - عليه السلام - بإبطال عقيدة النصارى في كونه ابناً لله احتجاجاً بولادته العجيبة من غير أب وغيرها من العقائد . ثم كان التعليقُ على القصة بقوله تعالى: { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (62) } فالقصص الحق ما كان غايته إحقاق الحق وإبطال الباطل لا إلهاء الناس بما يشغلهم عما ينفعهم ولا يحذرهم مما يضرهم، أو ما كان مسوقاً لغرض المدح المجرد. { فَإِنْ تَوَلَّوْا } أنجاملهم كي لا نخدش مشاعرهم؟ { ? فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ(63) }
7.الصبر على دعوتهم:
وتنتهي السورة بالأمر بالصبر على أذاهم بسبب الابتلاء بدعوتهم ومجاهدتهم على ذلك كما قال سبحانه: { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ منَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ(186) }
وفي آخر آية يقول الله سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) }
"ملاحظة" :
يلاحظ هنا أن لعن الظلام وإنكار الباطل وتعريته جاء مفصلاً على عكس بيان الحق والدعوة إليه فقد جاء في غالبه من خلال الأمر الأول .
سورة (النساء) و(المائدة)(157/38)
ما سورة (النساء) و(المائدة) إلا استمرار في الحديث عن اليهود والنصارى وتعريتهم إلى حد الجلد طبقاً لهذا المنهج الذي فصل فيهما أكثر في ذمهم مؤكداً بوضوح على ضرورة مفاصلتهم والبراءة منهم وعدم موالاتهم، مبيناً ان هذا شأن المنافقين الذين يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة تحت شتى الذرائع والحجج.
3- المنهج من خلال سورة (الأنعام) وخطابها للمشركين:
سورة (الأنعام) اختصت بدعوة مشركي العرب والرد على أباطيلهم. وقد سارت السورة الكريمة على المنهج نفسه دون أدنى تغيير. ونستطيع معاً متابعة فقرات المنهج بأركانه الخمسة من خلال السورة ببساطة تامة ، فتعال معي:
(أركان المنهج)
1. إنكار الباطل ولعن ظلامه تفصيلاً:
لقد أنكرت السورة ما عليه المشركون من انحرافات في العقيدة والسلوك والشعائر والعبادة، وبالتفصيل دون اعتبار لرضاهم وغضبهم، مبينة أن هذا التفصيل مقصود لذاته لأنه ضروري من أجل غاية عظيمة هي كشف حقيقة المجرمين وتبيين سبيلهم حتى لا يقع أحد فيه:
{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ(55) } من هذه الانحرافات :
- الإعراض عن الحق :
{ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ ءَايَةٍ مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ…(6) وَلَوْ نزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ(7)… }
- الشرك:
{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(14) }(157/39)
{ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(19) … وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ(22)ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(24) }
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْترى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) }
- الكفر باليوم الآخر:
{ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ(29)وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ(31) }
- جحود الحق:
{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ(33) }
- دعاء غير الرب:
{ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(40)بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ(41) }(157/40)
{ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ(56) }
{ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ(63)قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) }
{ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا(71) }
- اتخاذ الدين لعباً ولهواً:
{ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا(70) }
وهو يشبه ما جاء في قوله تعالى في سورة الأنفال عن صلاتهم:
{ وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً(35) }
- إنكار النبوة:
{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ(91) }
- إضافة الزوجة والولد إلى الله جل وعلا:
{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(101) }
- وصف الكبراء بأنهم مجرمون ماكرون:(157/41)
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا
يَمْكُرُونَ (124) }
- الشعائر والذبائح الشركية وقتل الأولاد والتحليل والتحريم بالهوى:
{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُون َ(136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون َ(137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) }
- الاحتجاج بالقدر:(157/42)
{ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا ءَابَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) }
- الوصايا العشر أغلبها محرمات جاء النهي عنها:
{ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(151) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) }
- إنكار الباطل مقدم على تبيان الحق:(157/43)
وردت في السورة كثير من مفردات الباطل المنكرة التي أدين بها المشركون وسفهت بها أحلامهم يصعب احصاؤها، حتى يمكن أن نقول مقارنة بما دعت إليه السورة من مفردات الحق: إن القاعدة في المنهج القرآني معاكسة لما عليه المنهج الترضوي القائم على ذكر بعض مفردات الحق دون التعرض للباطل. ذلك أن المنهج القرآني يقوم على التنديد بالباطل وإنكاره تفصيلاً اكثر مما يقوم على ذكر مفردات الحق بتفاصيلها.
وهذا هو الذي يتماشى مع المنطق. فإن الانتقال من مذهب أو دين إلى آخر لا يكون أو يصح إلا بترك جميع ما عليه ذلك الدين من مخالفات للدين الجديد، ثم بعد ذلك يكون الالتزام بما عليه هذا الدين من خصائص تمثل الحق. والترك مقدم على الفعل تقدم التخلية على التحلية. ولهذا كانت شهادة الدخول إلى الإسلام قائمة على النفي أولاً قبل الإثبات: (لا إله.. إلا الله) ، ويصدقه قوله تعالى : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى(256) } البقرة وقوله : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ(11) } التوبة. فقدم التوبة من الشرك وهي مفتوحة مطلقة على الالتزام بالحق وهو محدد بالصلاة والزكاة.
ويلاحظ ان القرآن يدعو إلى أصول الحق وأساسياته ويترك كثيراً من تفاصيله إلى السنة، بينما يضيف إلى إنكار أصول الباطل كثيراً من تفاصيله.
كذلك يمكن أن نقول: إن الدعوة إلى الحق في المنهج القرآني كثيراً ما تكون من خلال إنكار المنكر على اعتبار ان ما نفي أو أنكر فالحق في خلافه .
2. الدعوة إلى الحق وهو الإسلام وأساسه التوحيد:(157/44)
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ(2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ(3) }
{ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(18) }(157/45)
{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ(65) }(157/46)
{ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) }
{ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الأصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) }
{ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ(118) }
3. مدح المتبوع بما فيه دون غلو:(157/47)
أثنت السورة على خليل الله إبراهيم - عليه السلام - دون غلو أو تقصير . وإبراهيم هو أبو العرب إليه ينتسبون وبه يفخرون وبدينه يدعون أنهم يدينون. من ذلك إيرادها لقصة محاججته لأبيه وقومه في قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا ءَالِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(74) -إلى قوله- نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(83) } .
ويلاحظ هنا أن إبراهيم - عليه السلام - واجه أباه بقوله: { إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } وألقاها بوجهه صراحة دون تردد أو مجاملة بعد أن أنكر عليه اتخاذه الأصنام آلهة! وتكمل الآيات وهي تذكر مجموعة من الأنبياء الكرام جاء عنهم قوله تعالى: { ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(88) } فالأنبياء عليه السلام - إبراهيم فمن دون- يحاسبون ولو أشركوا لما تقبل الله تعالى أعمالهم. وهذا فيه علاج للغلو فيهم ولنا فيه درس عظيم ونحن نتعامل مع الغلاة.
4. الدعوة إلى اتباع الممدوح:
ذكرت السورة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأنبياء آخرين أثنت عليهم ابتداءاً وانتهت بالدعوة إلى اتباعهم والإقتداء بهم وذلك في قوله تعالى: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاً هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ…الْمُحْسِنِينَ (84) -إلى قوله- أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ(90) }
5. قطع الصلة بين المشركين وإبراهيم - عليه السلام -:(157/48)
وبلغ المنهج ذروته في نهاية السورة حين أعلنت أنه لا علاقة بين المشركين وبين إبراهيم - عليه السلام - لان إبراهيم كان حنيفاً مسلماً وهؤلاء مشركون. وصرحت أن المنتسب الحقيقي لهذا النبي العظيم هو محمد- صلى الله عليه وسلم -? وأتباعه ،لأنهم اتبعوا ملته ، ونصروا دينه وحملوا فكرته: { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) }
هذا هو المنهج الإلهي وهذه هي ملة إبراهيم { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (130) } البقرة.
4- المنهج من خلال سورة (التوبة) وخطابها للمنافقين:
المنهج نفسه نجده مطبقاً مع مبطلين من نوع آخر هم المنافقون، سوى أن المنافقين ليس لهم سلف من الصالحين ينتسبون إليهم يمكن مدحهم ودعوتهم إلى اتباعهم والتأسي بهم، أو التصريح بقطع الصلة فيما بينهم ما داموا على باطلهم ونفاقهم فهذه الفقرات الثلاث محذوفة من المنهج لهذا السبب الموضوعي .
ـ النفاق أخطر ولهجة الإنكار أغلظ:
ونلاحظ فرقاً يعزز المنهج. ذلك أن القرآن العظيم يعطي للمنافقين من الاهتمام أكبر من اهتمامه بالكفار الصرحاء من اليهود والنصارى والمشركين! فالتركيز على أباطيلهم وصفاتهم وكشف سوءاتهم وأساليبهم أشد مما هو عليه مع الكفار! وكذلك لهجة الخطاب نجدها أعنف وأغلظ!
نلاحظ هذا في القرآن من أوله حين تحدث عن الكافرين الواضحين في آيتين فقط، بينما حجز للكافرين المبطنين (المنافقين) مساحة بلغت ثلاث عشرة آية (1)!
__________
(1) البقرة/8-20.(157/49)
وما ذلك إلا لأن دور المنافق في النكاية بالأمة أنكى وأخطر وأكثر استمرارية إذ هو يعمل بلا انقطاع في السلم والحرب. وخطره هذا راجع إلى خفائه وتستره.
عكس الكافر المعلن الذي يحفز الأمة للاستعداد والحذر. بينما لا يكون مثله مع المنافق لخفائه. فلا بد من أن تأتي جرعة التحفيز القرآني ضده أكبر، ليتم التوازن.
(إن نكبة الأمة بالمنافقين - كما تثبت الوقائع يوماً بعد يوم- تسبق كل النكبات وأن نكايتهم فيها وجنايتهم عليها تزيد على كل النكايات والجنايات فالكفر الظاهر على خطره وضرره -يعجز في كل مرة يواجه فيها أمة الإسلام أن ينفرد بإحراز انتصار شامل عليها، ما لم يكن مسنوداً بطابور خامس من داخل أوطان المسلمين ويتسمى بأسماء المسلمين، يمد الأعداء بالعون ويخلص لهم في النصيحة ويزيل أمامهم العقبات ويفتح البوابات)(1).
وفي أول تعرض للقرآن لأول معركة خسرها المسلمون في تاريخهم (أحد) لا تتحدث سورة (آل عمران) عن المعركة بكلمة قبل أن تقدم لها بثلاث آيات طوال عن دور البطانة المنافقة والإشارة إلى علاقتها بوقوع الخسارة . وكما أن الحديث عن دور المنافقين هنا جاء كالمقدمة عن الحديث عن المعركة مع الكافرين فإن دورهم التآمري على الأمة يجيء دائماً كالمقدمة والتوطئة لدور الكافرين!!!.
وكذلك فعل رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول حين تمكن أن يتسلل بكيده إلى ثلث الجيش المتوجه للقاء الكافرين في (أحد) فيؤثر على معنوياتهم ويقنعهم بعدم جدوى القتال مع..مع من؟ مع محمد - صلى الله عليه وسلم -!
__________
(1) جهاد المنافقين - ص3، عبد العزيز كامل.(157/50)
يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) }
وتقع غزوة تبوك مع الروم ليكون للمنافقين فيها دورهم كما هو شأنهم دائماً فتنزل سورة (التوبة) التي سميت بـ(الفاضحة) أيضاً لفضحها المنافقين و(البحوث) لأنها تبحث عن أسرارهم وتكشفها للمسلمين حتى يكونوا منهم على حذر وترقب و(براءة) لتلخص العلاقة مع المنافقين بإظهار البراءة.وهذه بعض الوقفات مع هذه السورة العظيمة ومنهجها في التعامل مع المنافقين.
منهج السورة مع المنافقين:(157/51)
بعد أن تحدثت السورة عن معركة الإسلام مع خصومه من المشركين واليهود والنصارى أي الكفار الواضحين انتقلت إلى فضح دور المنافقين في هذه المعركة في حديث مسهب عن صفاتهم وتصرفاتهم وأساليبهم ونواياهم المريضة التي يحاولون إخفاءها جاهدين وتلميعها وابتغاء التبريرات الظاهرة لتسويغها وتمريرها. لكن القرآن يكشفها ويفضحها رافضاً أي تعليل واعتذار أو محاولة التقاء وهمي في وسط الطريق. وفي ذلك إرشاد لنا إلى ضرورة هتك الأستار وتمزيق اللافتات التي يرفعها هؤلاء المفترون وعدم الاعتراف بأي شعار أو عنوان لهم حتى لا نعطي لهم فرصة التستر بها والعمل من ورائها أو خلالها.
ـ المنهج ملخص في الفضح والإنكار فقط:
لم أجد في السورة سوى شيء واحد هو (البراءة) من المنافقين، والنكير الشديد عليهم، وفضح جميع ما يتعلق بدورهم من تفاصيل. أما دعوتهم إلى التوبة والرجوع إلى الحق فلم أجد لها أثرا سوى إشارات خفيفة قليلة هي إلى اليأس من توبتهم أقرب منها إلى الطمع فيها. وهو فرق أصيل ومهم في تفاصيل المنهج يعززه ويبرزه، ويبطل أساس المنهج الترضوي.
هذه الإشارات جاءت في قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ(59) } و(لو) حرف امتناع لامتناع، يشير إلى اليأس والعدم أكثر من الوجود والطمع.
وفي قوله: { وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(61) }(157/52)
وقوله: { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إسلامهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(74) } { لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ(66) }
وليس في هذه الآيات الأربع من دعوة أو ترغيب في (توبتهم). إنما جاءت الإشارات من باب الافتراض أن ذلك قد يقع أو يكون مع خشونة في الأسلوب ! وما عداها فليس فيه إلا الفضح والإنكار والشتم إلى حد الجلد والرجم كأن الله يريد ان يقول: إن هؤلاء قوم لا أمل في شفائهم، فليس من علاج إلا التحذير منهم ومن أمراضهم حتى لا يعدوا الأصحاء. فكان التركيز على أعراض مرضهم الداخلية والخارجية وعلاماته حتى يتم التشخيص والفرز لا من أجل العلاج ،ولكن من أجل الحذر. اقرأ هذه الآيات:
{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ(52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ(53)…إلى قوله…فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ(55) }
{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ(77) }(157/53)
{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(80) }
{ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ(87) }
{ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(93) }
{ الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(97) }
{ لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(110) }
{ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ(125)أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ(126)وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ(127) }
والسبب في هذا -والله أعلم- (أن المنافقين ومرضى النفوس لا يتيسر علاج أدوائهم من داخل أنفسهم- في غالب الأحيان- لفقدان الوازع وغياب الضمير. ولما كانت عللهم متعدية في الضرر إلى غيرهم، لزم توجيه علاجهم من خارج ذواتهم لا طلباً لبرئهم هم بقدر ما هو لأجل حفظ الناس من شرور أمراضهم)(1).
ولنأتِ الآن إلى بعض الأمور التي أنكرتها السورة عليهم وأغلظت في لهجة الإنكار:
ـ التخلف عن الجهاد مع التحجج بشتى الأعذار:
__________
(1) المصدر السابق ص13.(157/54)
{ لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُون (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) }
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ(49) }
{ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) } ..
وآيات كثيرة غير هذه.
ـ التربص بالمؤمنين والكيد لهم:
{ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47))لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورُ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ) (48) }(157/55)
{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ(52) }
{ وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(98) }
ـ الفرح بمصيبة المؤمنين والحزن بفرحهم:
{ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ(50) }
ـ الكسل عن الصلاة وكراهية الإنفاق:
{ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ(54) }
{ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءَاتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ(75)فَلَمَّا ءَاتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ(76)فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ(77)أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ(78) }
ـ لمز المؤمنين والسخرية منهم سخطاً لأنفسهم وأنانية:
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ(58) }
{ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ(61) }
{ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(79) }
ـ ادعاؤهم أنهم من المؤمنين :(157/56)
{ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ(56)لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ(57) } وهذا ينسف المنهج الترضوي من الأساس، { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ(67) }
ـ المنهج التقريبي الترضوي:
{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ(62) }
{ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ(96) }
ـ حذرهم من الفضيحة:
{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64))وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) } لاحظ أن القرآن يصر على فضحهم وعدم سترهم
{ وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ(127) }
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ(78) }
ـ الاستهزاء بالله ورسوله وآياته:(157/57)
{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ(64)وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ(65) }
ـ اتخاذ الأوكار التخريبية التآمرية باسم المساجد:
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(110) }
المعالم الرئيسية للمنهج القرآني مع المنافقين
1. التركيز الشديد على ذكر فضائحهم وأباطيلهم ولعن ظلامهم حتى يكاد أن يكون هو العنصر الوحيد من عناصر المنهج!
2. الغلظة الشديدة في الخطاب ومواجهة القوم بأباطيلهم أكثر مما هي عليه مع الكفار الصرحاء.(157/58)
3. عدم إعطائهم الفرصة للقيام بما يؤدي مستقبلاً إلى استقلاليتهم وانحيازهم ليظهروا كطرف له كيانه الخاص ومعالمه الدالة عليه. بل ضرب بيد من حديد أول بادرة لذلك متمثلة بمسجد (ضرار). بل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسع الأمر الإلهي إلى أبعد حدوده، فقام بهدم المسجد وحرقه وإزالة معالمه مع أن ظاهر الأمر ليس فيه اكثر من النهي عن الصلاة فيه: { لا تقم فيه أبدا(108) }
4. كبت المنافقين وجعلهم يعيشون حالة من الخوف والشعور بالنقص، تعبر عن نفسها بمحاولات الترضية وادعاء أنهم من المؤمنين ،والقسم بالله على صدق ما يدعون، والمجيء إلى الصلاة ولو كسالى، والإنفاق ولو كارهين. إنهم { يحسبون كل صيحة عليهم(4) } المنافقون. وفي الوقت نفسه واجه القرآن كل تلك المحاولات بالرفض الواضح والاستنكاف من قبولهم أو اعتبارهم من المؤمنين أو الالتقاء معهم في وسط الطريق.
ويستحيل على نفس مؤمنة تقرأ آيات سورة (التوبة) بإمعان وتدبر، وتفكر وتأثر إلا وتخرج منها مشبعة بالثقة العالية بعيدا عن السقوط في مهاوي المعاناة من الشعور بمركب النقص الذي يزرعه في النفس المنهج الترضوي ذلك المنهج الخائب!
إن سورة (التوبة) تعلمنا الرفض الإيماني المستعلي على كل محاولة للترضية وإن جاءت محمولة على طبق من ذهب فوق منديل من حرير! بل تعلمنا أن نكفأ ذلك الطبق في وجه من جاء به!! فكيف يرضى مسلم لنفسه أن يعمل حمالاً لتلك الأطباق الخائبة يدور بها خلف ظهور الزنادقة المنافقين؟!
الفصل الثاني
منهج الأنبياء جميعاً
جاء في صريح آي القرآن ما يلخص منهج الأنبياء عليهم السلام في دعوتهم أقوامهم بغض النظر عن اختلاف أجناسهم أو عقائدهم أو ظروفهم زمانا ومكانا، أو أحوالهم قوة وضعفاً. ويأمر المؤمنين جميعاً- متى وأينما كانوا- بالتأسي بهم في هذا المنهج.(157/59)
من ذلك ما جاء في سورة (الممتحنة) من قوله تعالى: { ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي منهج عام دائم صالح للتأسي والاقتداء { في إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } على منهجه من الأنبياء والدعاة { إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ } هذا تفصيل المنهج ومحل الاقتداء { إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ } وهذه أول فقرة من فقراته (البراءة)من أهل الباطل والرمي بها في وجوههم قبل البراءة من الباطل نفسه: { وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } والكفر بهم بأشخاصهم وأعيانهم وعدم الاعتراف بهم: { كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا } أي ظهر واستعلن من غير خفاء { وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ } والعداوة بالأبدان و الأفعال مقدمة على البغضاء في القلوب { أَبَداً } ودائماً { حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } وتنتهوا عما انتم فيه من باطل وعبادة لغير الله وعداوة لدينه وأوليائه. { إلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } إلا هذه الخصلة فلا تفعلوها. وذلك لعلم الله تعالى بالنفوس وضعفها وجنوحها إلى التهرب من تحمل أعباء المواجهة وتبعاتها من تشويه السمعة إلى فقدان المصالح والمركز الاجتماعي إلى الأذى الذي قد يصل إلى القتل، فتتعلق بـ(ما تشابه منه) رغم الأمر ووضوح القول! ويكون احتجاجها بالمواقف الجزئية الاستثنائية المرتبطة بظرفها وسببها لتتخذ منها منهجاً معتمداً ثابتاً! مثل استغفار إبراهيم - عليه السلام - لأبيه واستغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن سلول وترفقه بِهِ . فتجعل من مهادنة المبطلين ومجاملتهم أو مداهنتهم الأساس والمنهج دون أن توضع موضعها وتنزل على مواردها. فجاء النهي عن هذه الخصلة صراحة. وبيّن الله تعالى -حيث نهى(157/60)
رسوله - صلى الله عليه وسلم - نفسه عن مثلها مع المنافقين- أن ما فعله إبراهيم كان له سبب فهو خاص به فقال: { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ(114) } التوبة بعد أن قال: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) }
ولثقل هذا المنهج ارشد الله تعالى حملته ومتبعيه إلى الاستعانة عليه بالتوكل على الله والإنابة إليه والإيمان العميق بالمصير إليه ذاكراً أن سالكيه يدعون قائلين:
{ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(4) } فمن توكل على الله لم يخضع لضغوط الترهيب ولا دواعي الترغيب.
أما الترهيب فقد جاء ذكره في قوله: { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا } أي لا تسلطهم علينا بذنوبنا فيفتنونا ويمنعونا من الإيمان { وَاغْفِرْ لَنَا رَبّنَا } ما اقترفنا من ذنوب قد توقعنا في الفتنة { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(5) }
وأما الترغيب فجاء في قوله: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } فمن قصر رجاءه على ربه، واحتسب اجره وثوابه لديه هانت في عينه الدنيا وما فيها، فلم يرغب أحدا سواه.
(ومن يتول) فيعرض عن هذا المنهج رهبة أو رغبة أو ضعف يقين { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ } لا يحتاج أحدا { الْحَمِيد(6) } لا يريد كثرة على دغل، ولا يفعل ولا يأمر إلا بما يحمد عليه. فمنهجه خير المناهج ودينه خير الأديان مهما بدا للعقول لضعف النفوس أن الغير خير!(157/61)
ومن صدق رجاء العبد وتوكله عليه أن يؤمن بان الهداية بيد الله لا بيده فمهما اجتهد في جذب القلوب- إلى الله أو إلى نفسه- بغير سبب الله ومنهجه فلن يكون ما يريد. أما إذا اطمأن إلى صحة منهج الله ووثق به وان كان في غير ما يهوى ويرى فصدع بالحق ونصح الخلق فإن الله تعالى سيهدي – إن شاء- من بين لهم الحق من الباطل وقام بالإنكار عليهم وإن أدى ذلك إلى العداوة والبغضاء ابتداء فان الله قدير على هداية من يراه أهلا لهدايته وإضلال من يشاء ممن يستحق الضلالة.
إن هذا المنهج لن يؤدي -في النهاية- إلى نفرة الناس الذين لا ينبغي تنفيرهم
-كما يتصور الكثيرون-
كيف! والمنهج منهجه! والقلوب بيده يقلبها كيف يشاء!
ولذلك قال تعالى: { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(7) }
وتأمل بين من ومن يجعل الله المودة؟! { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ } ! أي هؤلاء الذين قلتم لهم: { إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } وما دام أن الذي (يجعل) هو الله (والله قدير) فكِل أمرك إليه واطمئن إلى منهجه وهداه.(157/62)
لقد نفذ الصحابة الذين نزلت عليهم هذه الآيات ما جاء فيها إلى حد أنهم صاروا يتحرجون من البر العادي بمن لا يعادي الدين من أقاربهم وذوي أرحامهم، ولم يحاولوا أن يتفلتوا منها أو يبطلوا مفعولها بالتأويل يقولون : هذا ينفر الناس ويمنعهم من الاهتداء كما نفعل اليوم فأنزل الله: { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8)إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(9) } مفرقاً بين نوعين من أهل الباطل: مسالم أجاز بره، ومحارب حرم مودته وهو المقصود بإعلان البراءة والعداوة.
- مع ركب الأنبياء عليهم السلام -
إبراهيم - عليه السلام -:
تأمل كيف يخاطب أباه الكافر: { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً (43) يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا(45) }(157/63)
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ(51) } ما هذا الرشد الذي أوتيه إبراهيم؟! { إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ(52) } فبدأ بالإنكار أولاً ثم ثنى بان صرح لهم قائلاً: { لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(54) } .
ولم يكتف حتى هددهم بالكيد لأصنامهم، ونفذ ما هدد به فعلاً فحطمها وسخر منهم بان ترك كبيرها وعلق الفأس برقبته وأشار إليه وهو يقول: { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) } ثم أنكر عليهم وهو يتأفف: { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) } الأنبياء. أفنحن أرشد ممن شهد الله له بالحلم والعلم والرشاد!
نوح - عليه السلام -:
{ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ(38)فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ(39) } هود. إنه يلعن ظلامهم ويقابل سخريتهم بمثلها ويزيد فيهددهم بالخزي والعذاب المقيم.
موسى - عليه السلام -:
وكذلك فعل موسى - عليه السلام - النبي الذي أوصاه الله تعالى باللين في الخطاب فقال له ولأخيه هارون - عليه السلام - وقد أرسلهما إلى فرعون: { فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(44) } .(157/64)
وحين نقرا الآيات كلها في سورة (طه) يتبين لنا بوضوح أنه ليس من شرط القول اللين أن لا يتضمن حقا يدعى إليه أو باطلا ينكر عليه وإن أزعجه ذلك. يقول تعالى: { فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ(47) } وفرعون لا يعترف برب فلو قالا: رسولا الله أو رسولا الرب لكان أخف وقعا وألين من هذه الإضافة التي تشير صراحة إلى أن فرعون مربوب لا رب، مع ما فيها من لمز بما يعتقد من ربوبية نفسه. ليس هذا فحسب! وإنما معه: { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ(47) } وهما مطلبان يثيران حفيظة كل طاغية بل كل حاكم: المطالبة بالانفصال بجزء من شعبه، واتهامه بظلمه من قبل واحد من الرعية مطلوب للعدالة بتهمة قتل سابقة! ثم يتبعه بقوله: { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ(47) } مرة أخرى (ربك) ثم { وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ.. } على من؟ : { عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى(47) } وليس على فرعون! ثم ينهي خطابه بقوله: { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(48) } وهو تهديد ووعيد وشتم ووسم بالتكذيب والتولي عن اتباع الهدى فلا سلام اذن بين الفريقين!
وتذكر لنا سورة (الإسراء) أن موسى حين قال له فرعون: { إِنِّي لأظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا(101) } غضب وردها عليه قائلاً: { وَإِنِّي لأظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا(102) } واحدة بواحدة والبادئ اظلم!
وحين جاء السحرة { قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى(61) } طه. ولم يسرها في نفسه خشية نفرتهم. ولم يمنع ذلك السحرة من قبول الحق حين رأوا الآيات فأيقنوا بها.(157/65)
بل آمنوا على الفور { وألْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى(70) } رغم أنه صرح لهم بأنهم كذابون مفترون خائبون! بل قد يكون هذا هو الذي أيقظ أحاسيسهم وولد عندهم انتباهة الصحو باتجاه الإيمان! من يدري! فليس شيء اشد وقعاً على نفوس المفترين من صاحب حق يصدع بحقه.
المسيح - عليه السلام -:
وعلى المنهج نفسه سار المسيح (ع) رسول الحب والسلام: { وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ(72) } المائدة.
خاتم الأنبياء وقدوتهم محمد - صلى الله عليه وسلم -:
وعلى الخطى نفسها سار خاتم الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم - كما مر بنا ونحن نستعرض المنهج من خلال السور الأربع (البقرة وآل عمران والأنعام والتوبة) ومن أول يوم وفي أول سورة نزلت سورة (العلق) يأتي قوله تعالى: { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9)عَبْدًا إِذَا صَلَّى(10) } وهو أبو جهل الذي وصمته الآيات بالطغيان : { كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى(6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى(7) } ثم تتابعت آيات السورة تشهر به وتوعده وتعريه { أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(13) }
{ كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) } هذا والنبي - صلى الله عليه وسلم - في أول دعوته قليل مستضعف!(157/66)
وتنزل السورة الثانية (القلم) وفيها سب مقذع للوليد بن المغيرة أو الاخنس بن شريق: { وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ(10)هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ(11)مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ(12)عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ(13) } .ثم كرت السورة على قريش تنكر عليهم وتسخر منهم.
وهكذا السورة الثالثة (المزمل) وكذلك الرابعة (المدثر) التي اختتمت بعد أن جاء في أولها سب ووعيد للوليد بن المغيرة بالإنكار على المشركين ووصفهم بالمجرمين وتشبيههم في أعراضهم عن الحق بالحمير حين تفر من الأسد أو الصياد { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ(49)كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ(50)فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ(51) }
وتتوالى السور المكية تنادي بالويل والثبور على رؤوس الكفار وتندد وتسب وتشتم:
{ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) -إلى قوله - فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ(5) }
روى الشيخان وغيرهما عن ابن عباس قال: لما نزل قوله تعالى { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى صعد الصفا فهتف ينادي: (يا صباحاه) فاجتمعت إليه قريش فقال: (أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني؟) قالوا: بلى قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد) فقال أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا فانزل الله: { ? تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } إلى آخرها.
وأبو لهب عم النبي- صلى الله عليه وسلم -. والعم بمنزلة الأب فهو أولى بالبر والرفق من غيره والنبي- صلى الله عليه وسلم - في حاجة إلى مداراته وحمايته. وارعد لها أنف أبي لهب وكذلك امرأته وثارت ثائرتها حتى جاءت بحجر تريد ان ترمي به رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فصرف الله بصرها عنه فانصرفت وهي تسبه وتهجوه. أما كان النبي ودعوته في غنى عن هذه المشاكل وفي حاجة إلى (الهدوء) والموادعة ؟!
ـ أسلوبٌ أذل الطغاة:(157/67)
إن رؤوس الكفر لا يرغم معاطسهم ويذل رؤوسهم ويجعلهم يشعرون بالصغار إلا كلام شديد يوازي ما هم عليه من طغيان وفساد ومنزلة في قيادة الكفر والخطيئة.
إن هذا الأسلوب هو الذي أذل تلك الرؤوس، وهزم تلك النفوس حتى جاؤوا يعرضون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -وهو ضعيف لا يملك شيئاً سوى الكلمة القوية المدوية- أن يسمح لهم بالاقتراب منه ليعبدوا إلهه مرة ويعبد آلهتهم مرة بعد أن عرضوا عليه المال والنساء والسيادة والملك فأبى!ما الذي يحمل قريش وهي صاحبة القوة والسلطان على أن تتنازل إلى هذا المدى؟!
إنها الكلمة القوية الواثقة والموقف الشجاع والمنهج اللاعن للظلام والأصنام.
ولو اتبع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - الأسلوب (الهادئ) المجامل لما ربح هذا الربح الذي لا يعتبره- صلى الله عليه وسلم - ربحاً مقبولاً دون أن يتم التنازل من قبلهم كاملاً غير منقوص فينبذوا آلهتهم وينحازوا تماماً إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وتنزل سورة (الكافرون) رداً عليهم فيغدو بها - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد الحرام ليصكهم بها في وجوههم:
{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)… } إلى خاتمتها. حزم وصراحة ووضوح!
{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } هكذا انتم كافرون ولا تستحقون أن تنادوا بغير هذا الوصف أو الاسم. وفيه ما فيه من ازدراء وفوقية واستعلاء. إن دينكم باطل وانتم كافرون { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } ولا لقاء بيننا أبداً !
يقول الإمام مالك رحمه الله تعالى:(لن يصلح آخر هذا الأمة إلا بما صلح عليه أولها) وإذا كان ذلك كذلك فان من أهم أسباب عدم صلاح الحال شيوع ذلك المنهج الأرضي الترضوي المخالف للمنهج السماوي النبوي الذي صلح به أول الأمة .(157/68)
لقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة براكين تتفجر وزلازل ترتج وزوابع تدوي ! ما نزل منزلاً ولا طرق نادياً أو مجتمعاً إلا وصرخ فيه مندداً بالمشركين وآلهتهم منكراً عليهم ما هم فيه من باطل وفساد: { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى(20)أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى(21)تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى(22)إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى(23) } النجم.
{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى(33)وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى(34) } النجم.
{ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) (43) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ(52)… } الواقعة.
ـ بحر متلاطم من الآيات:
لو أردت كتابة جميع الآيات الخاصة بالموضوع لاقتضى ذلك مني كتابة اكثر القرآن ! وهذا لا يمكن ولا داعي له فان العاقل تكفيه آية صريحة أو آيتان وان كان لا بد فتجمع له أطراف الموضوع في بضع آيات بينات وإلا غرقنا في بحر متلاطم من النصوص القرآنية يصعب خوضه على الخائضين!
الفصل الثالث
مفاهيم وحقائق قرآنية
1. إنكار الأوضاع الجاهلية بالتفصيل:(157/69)
من الحقائق القرآنية أن آيات القرآن ما تركت شيئاً من أوضاع الجاهلية إلا وأنكرته، ودعت إلى تركه وإزالته، سواء منها ما تعلق بالدين أو الدنيا. من الصلاة: { وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً(35) } الأنفال. إلى وأد البنات: { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8)بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ(9) } التكوير. وتضمنت سورة (الإسراء) جملة من المنكرات ابتدأت بالشرك وانتهت به مروراً بالتبذير والتقتير وقتل الولد والزنا وقتل النفس وأكل مال اليتيم والتطفيف في الميزان والمكيال، وعدم التثبت في القول والتكبر والاختيال.
وسفه القرآن أحلام آبائهم وحرم التقليد الأعمى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ(170) } البقرة
وأنكر المظاهر البدعية والشعائر الشركية كالذبائح للأوثان والنذور وما أهل به لغير الله. ونهى عن أكل الميتة ولحم الخنزير. وتدخل في أنظمة الجاهلية الاجتماعية فابطل التبني وحرم بعض أنواع الأنكحة. وهكذا…
وهذا كله مما أثار عليه المجتمع فصار يحاربه ويكيد له ويزدريه ويتهمه ويشوه سمعته، في الوقت الذي كان ينعم أصحاب (الدعوة الهادئة) (الحكيمة) من(الموحدين) بالأمن والدعة والسلام والتكريم والاحترام من المجتمع الذي يخالفونه في عقائده وشعائره ويعرفون ما عليه من باطل لكنهم اختاروا (طريق السلامة أولاً) تجنباً لحدوث أي اصطدام.
ترى! لو ظل أولئك الأحناف الموحدون مئات من السنين ولو كثروا فصاروا بالمئات أو الآلاف هل يتغير بهم المجتمع؟!
إن هؤلاء جميعاً وعلى امتداد الزمان لا يساوون واحداً من الموحدين عرف المنهج الإلهي التغييري (الثوري) حق معرفته وطبقه في حياته ومسيرته!
2. النفي والإنكار مقدم على الإثبات والإقرار:(157/70)
أساس الدين شهادة التوحيد وقد بدأت بالنفي (لا اله) قبل الإثبات (إلا الله). ومن المعلوم أن الله لا يقبل إيمان عبد أثبت لغيره ألوهية مع ألوهيته فان هذا والجاحد سواء. يقول تعالى: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا (256) } البقرة. فقدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله لان هذا لا يستقيم ولا يصح مع ذاك، كما قال سبحانه: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بل الله فاعبد وكن من الشاكرين } الزمر.والملاحظ أن القرآن يسهب في إنكار المنكر ويفصل فيه أكثر من الدعوة إلى الحق خصوصاً مع المنافقين فانه لا يكاد يدعوهم إلى شيء سوى انه يسلط الضوء على سوءاتهم، ويكشف مخازيهم وعوراتهم، ويغلظ لهم في ذلك كأشد ما يكون الإغلاظ.
إن تغيير الدين أو المذهب الفكري من أصعب الأمور على نفس المخلوق البشري،حتى إن الإنسان -في كثير من الأحيان- ليتشبث بدينه وطائفته ومذهبه الفكري-وإن تبين له بطلانه-إلى حد الموت في سبيله!
لهذا فإن بيان مزايا الدين الجديد لا يكفي للانتقال إليه وترك الدين القديم ما لم يتبين للإنسان بطلان ما كان عليه من دين.هذا إذا كان ذلك الإنسان طالباً للحق.أما النفوس الخربة النافرة من الحق المتشبثة بما هي عليه -و إن كان باطلاً- فلا علاج لها في الحالتين.
فالناس قسمان:
قسم إذا عرف الحق اتبعه.وهؤلاء لا بد-حتى ينتقلوا من الباطل إلى الحق-أن يعرفوا أولاً أنهم على باطل.و هذا يستلزم تعريفهم بتفاصيل باطلهم.(157/71)
وقسم في الظلمات ليس بخارج منها سواء عليه أذكرنا باطله أم لم نذكره .فترك بيان الباطل و عدم إنكاره من أجل هؤلاء الذين لا أمل في هدايتهم يتسبب في خسارة القسم الأول الذين يحتاجون ضرورة إلى معرفة ما هم عليه من باطل ليتحقق انتقالهم منه إلى الحق المبين.يقول تعالى: { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } (الأنعام:36)
ويقول: { فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) } (الروم:52)
3. فضح الباطل - كبيان الحق- أصلٌ مقصودٌ لذاته وهدفٌ أصيلٌ من أهداف الدعوة :
يقول تعالى: { وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } (الأنعام:55)
ويقول: { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } (الأنفال:37)
فتفصيل الآيات وإقامة الدلائل الواضحة من أجل تشخيص الباطل، وكشف طرقه وأساليبه وأهدافه أمر مقصود شرعاً قصداً أولياً مستقلاً عن موضوع بيان الحق. بل لا يتم بيان الحق إلا بكمال بيان الباطل. فهو يدخل في باب (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ،ولذلك أسباب جوهرية لا يصح التفريط بها منها:(157/72)
- إن بيان الحق وحده دون تشخيص الباطل وتفصيله لا يكفي عند أغلب الناس للتمييز بينهما ولا لمعرفة الباطل وصولاً إلى واجب تجنبه وعدم الوقوع في بعض مفرداته التي قد تكون مهلكة. إلا القلة من الأذكياء والموهوبين الذين يمتلكون القدرة على المقارنة والمقابلة والربط والتحليل والاستنتاج. وحتى هؤلاء لا يمكن أن يصلوا تماماً إلى الغاية المطلوبة، وإلا لما قال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: (كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني) أي أن معرفة الخير وحده لا تكفي في تجنب الشر ، وذلك كتحصيل حاصل عن العجز عن معرفته أولاً بمجرد معرفة الخير.
والدين لم ينزل خاصاً للأذكياء والموهوبين، وإنما جاء عاماً للخلق أجمعين. ولذلك جاءت الآيات والأحاديث شاملة مفصلة لهذا وهذا.
واستمع لما جاء في (الظلال) :(أما ختام هذه الآية القصيرة :((ولتستبين سبيل المجرمين))
فهو شأن عجيب ! .. إنه يكشف عن خطة المنهج القرآني في العقيدة والحركة بهذه العقيدة ! إن هذا المنهج لا يعنى ببيان الحق وإظهاره حتى تستبين سبيل المؤمنين الصالحين فحسب . إنما يعنى كذلك ببيان الباطل وكشفه حتى تستبين سبيل الضالين المجرمين أيضاً ..إن استبانة سبيل المجرمين ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين . وذلك كالخط الفاصل يرسم عند مفرق الطريق !
إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله - سبحانه - ليتعامل مع النفوس البشرية .. ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر، والتأكد من أن هذا باطل ممحض وشر خالص، وأن ذلك حق ممحض وخير خالص ..(157/73)
- (كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنَّهُ على الحق ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحادده ويحاربه إنما هو على الباطل .. وأنه يسلك سبيل المجرمين، الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدواً منهم ((وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين)) ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون عن ثقة، وفي وضوح، وعن يقين.إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح .
واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات .
ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم . فهما صفحتان متقابلتان وطريقان مفترقان .. ولا بد من وضوح الألوان والخطوط.
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلاماتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلاماتهم بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين … وهذا التحديد كان قائماً وهذا الوضوح كان كاملاً يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه. وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين ..
ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا .. إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين …تهجر الإسلام حقيقة وتعلنه اسماً وتتنكر لمقومات الإسلام اعتقاداً … وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام !
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق المشركين المجرمين، واختلاط الشارات والعناوين ، والتباس الأسماء والصفات، والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق !(157/74)
يعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة فيعكفون عليها توسيعاً وتمييعاً وتلبيساً وتخليطاً حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام !
هذه هي المشقة الكبرى .. وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل !
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين .. ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة . ولا تأخذهم فيها خشية ولا خوف ولا تقعدهم عنها لومة لائم ولا صيحة صائح …
إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون !... ((وكذلك نفصل الآيات ، ولتستبين سبيل المجرمين)) ..
أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة ؛ وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة ؛ كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة ، ولا يعوقها غبش ، ولا يميعها لبس . فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم ((المسلمون)) وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم ((المجرمون)) …((وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)) (1).
- إقامة الحجة على المعاند:وهي إحدى المقاصد العظمى من وراء بعثة الله للرسل كما قال سبحانه: { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } (النساء: 165) وقال: { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى } (طه:134) ، وقال : { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } (الأنفال:42)، والبينة ـ كما هي متعلقة بالحق ـ متعلقة بالباطل كذلك.
__________
(1) في ظلال القرآن ص 1105 ـ 1107 سيد قطب / المجلد الثاني ـ الطبعة الشرعية السابعة عشرة 1412 هـ ـ 1992 م ـ دار الشروق.(157/75)
إن البعض يغفل عن استحضار مقاصد الدعوة وهي متعددة، ليتوهم أن للدعوة غاية واحدة هي استجابة الناس واتباعهم للحق. ويتخذ من ذلك مقياساً وحيداً لصحة الدعوات ونجاحها أو خطئها وفشلها. فيبتعد عن كل ما يتصوره يؤدي إلى نفرتهم، ويسعى إلى تجميعهم ولو على حساب الحق والحقيقة. إنه ينسى أن هناك صنفاً من الناس - وهم كثير - يكرهون الحق لذاته ويعادون أهله، ويحبون الباطل لذاته ويوالون أهله { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } (البقرة:6) . ومع ذلك فالواجب الشرعي يلزمنا بالقيام تجاههم بأمر الدعوة والبيان إقامةً للحجة . لقد قال سبحانه عن اليهود: { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُم } (البقرة: 75) وفي الوقت نفسه لم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوتهم { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } (الأعراف: 164).
4. خيرية الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ثلاثة عناصر صارت بها أمة الإسلام خير الأمم (القديمة والحديثة واللاحقة) جمعها قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (آل عمران: 110). هي: 1- الأمر بالمعروف 2- والنهي عن المنكر 3-والإيمان بالله.
فإنكار المنكر ولعن الظلام أحد أركان الخيرية الثلاثة التي لا تتحقق هذه الخيرية إلا بها مجتمعة.
واعتقد أن تأخير الإيمان بالذكر يشير إلى أنه لاوجود للإيمان إذا ترك الأمران الأولان أو أحدهما. فهما كالسياج الحامي للبستان إذا هدم تسلطت عليه الحيوانات واللصوص والعابثون. فلا خير في أمة تركت النهي عن المنكر أو أحد هذه الأركان بل ولا إيمان!(157/76)
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الإيمان) وفي رواية: (ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).
إن ترك إنكار المنكر هو السبب الذي من أجله خذل الله أمة بني إسرائيل ولعنها على لسان الأنبياء: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(78)كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79) } المائدة.
5. الجدال بالتي هي أحسن إنما هو مع من التزم حدود الأدب:
لكل ارض بذر ولكل داء دواء وإلا مات الزرع وأزمَنَ الداء. يقول تعالى: { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ولم يترك هذا بلا قيد إنما ألحقه بقوله: { إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ(46) } العنكبوت.فمن تجاوز الأدب فليس له عندنا إلا ما يرغمه جزاءا وفاقاً.
وفي القرآن مواقف لأحسن الناس أخلاقاً- الأنبياء تترجم هذا المبدأ الأخلاقي الواقعي: فهذا هود - عليه السلام - حين قال له قومه: { إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ } غضب و { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(54)مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ(55))إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) } هود.(157/77)
وحين قالوا له: { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(66) } و { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } (لأعراف:70) ماذا كان رده؟ هل بلعها وانصرف حتى لا ينفروا؟! أم { قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ مَا نزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ(71) } الأعراف؟!
6. اللين ليس قاعدة ثابتة وليس من لوازمه عدم إنكار المنكر:
اللين كأسلوبِ- وإن كان مطلوباً ابتداءً وأصلاً إلا أنه - ليس قاعدة ثابتة لا تغيرها مقتضيات تستدعي عكسها من الشدة والإغلاظ في القول وإلا لما قال إبراهيم عليه السلام لقومه: { أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ(66)أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(67) } الأنبياء. ولما قال لوط - عليه السلام - لقومه: { أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ(165)وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ(166)قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ(168) } الشعراء. هل كان يخاطب قومه بهذا وهو يشرب كوباً من العصير! أم كان يصرخ بها في وجوههم صراخاً؟!
ولا شك في أن الأنبياء - عليه السلام - أمروا بالرفق واللين ، ولكن مع هذا كانوا ينكرون ما عليه أقوامهم من باطل فلا تلازم بين هذا وعدم ذاك أو العكس.(157/78)
وألين دعوةِ دعوة المؤمن الذي ورد ذكره في سورة (يس)! ومع لينها أنكرت ما عليه المجتمع من باطل وإن اختلف الأسلوب: { وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(20)اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ(21)وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(22)ءَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ ءَالِهَةً…وَلا يُنْقِذُونِ(23)إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(24)إِنِّي ءَامَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ(25) } ! وكذلك فعل مؤمن آل فرعون. انظر الآيات 28-44 من سورة غافر.
7. الحوار يقوم على إبطال الباطل وإحقاق الحق:
تأمل ما جاء في سورة (الكهف) من حوار بين الرجل المؤمن والرجل الكافر الذي اغتر بما عنده من مال ومتاع! فيقول: { لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ… } (أكفرت؟) هذه أول كلمة في (الحوار) وهي إنكار وعيب وتهمة ينزعج لها كل سامع، ومع ذلك فان المؤمن لم يتلاعب بالألفاظ ولم يصور الحقيقة على غير صورتها ولم يزور في تسميتها بغير اسمها { أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) } !(157/79)
نعم لم يستجب صاحبه لنذيره وتحذيره، ولكن هذا ليس من شأن المؤمن ولا مسؤوليته. إنما شأنه أن يقول له الحق ويبين الحقيقة ثم: { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ(29) } .
ومما ينبغي ملاحظته أن قصة هذين الرجلين جاءت مباشرة بعد قوله تعالى: { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ… } فكأنها تطبيق وتفصيل.
وفي سورة (يوسف) حوار رائع بين نبي الله تعالى يوسف - عليه السلام - وبين صاحبي السجن كله لطف ولين ورقة ومع ذلك فقد قال لهم: { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ(40) } وقبلها قال: { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(39) } .
8. الموعظة كذلك أمر ونهي:
قد يتصور البعض أن (الموعظة) ليست إلا كلاما ليناً يجمع القلوب ولو على حساب الحق والحقيقة. لكن القرآن يعلمنا غير ذلك:
يقول تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يأمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(90) } النحل. فجعل الموعظة (أمراً) و(نهياً).(157/80)
ويقول: { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ } فكان أول الموعظة نهياً عن منكر الشرك: { يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(13) } وأخرها: { وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) } /لقمان ، وما بينهما نهي كذلك وأمر.
وحين قال قوم هود - عليه السلام - له: { سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ(136) } أي موعظة قصدوا؟ إنها : { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ(128)وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ(129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) } الشعراء .
بل سمى الله تعالى عقوبته لأصحاب السبت بأن جعلهم قردة وخنازير موعظة فقال: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ(65)فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ(66) } البقرة.
ومن ذلك عقوبة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لصبيغ بن عسل ذلك الرجل المفتون الذي كان يثير الشبهات ويسأل عن المتشابهات، فضربه عمر بالجريد والعصي حتى جعل الدم يسيل على قدميه وأمر الناس باعتزاله عاماً. وحين خرج الخوارج أرادوه ليخرج معهم فردهم قائلاً: لا والله لقد نفعتني (موعظة) العبد الصالح!
9. وكذلك النصيحة أمر ونهي:(157/81)
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الدين النصيحة) قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم)فاجتمع الدين كله في النصيحة .
في سورة (الأعراف) ذكر لعدة أنبياء منهم نوح وهود وصالح وشعيب عليهم السلام. اشترك هؤلاء الأربعة في وصف دعوتهم لأقوامهم بـ(النصيحة) فلننظر في مضامين هذه النصيحة:
أما نوح - عليه السلام -: { فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59))قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) }(157/82)
وهود - عليه السلام -: { قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) }
وكذلك صالح - عليه السلام -: { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) }(157/83)
وشعيب - عليه السلام -: { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ }
10. لا دعوة ولا رسالة إلا بإحقاق الحق وإبطال الباطل:
لكل دعوة مبادئ تدعو إليها وأوضاع اجتماعية خاطئة تنشد تصحيحها وتغييرها وإلا لم تكن دعوة، وفقدت مبررات وجودها وتعطلت رسالتها.
وهكذا كانت دعوة الرسل عليهم السلام جميعا. والقرآن شاهد حي على ذلك. لقد كانت دعوة كل نبي متضمنة للأمرين معا .(157/84)
يقول تعالى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمنتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) } الشورى . لاحظ عبارة (مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) و(فَلِذَلِكَ فَادْعُ) تجد معناها ما سبق ذكره من قوله: { أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه } وهو أمر ونهي ثقيل على نفوسهم لا يتحملون سماعه: (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه)!
وقال على لسان مؤمن آل فرعون: { وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ(41) } غافر. فما هي بنود دعوته؟ راجع الآيات في موضعها تجدها مزيجاً من إنكار الباطل والتذكير بالحق.
هذا هو دين الله وهذه دعوته ورسالته فمن شاء فليحملها على قدر استطاعته، وإلا فلينصرف بسلام فان دين الله اكرم من أن نتعامل معه كما يتعامل اللصوص حين يدخلون بيوتاً غير بيوتهم يأخذون منها ما يشتهون ويدعون ما لا يرغبون، على قاعدة ما خف حمله وغلا ثمنه!(157/85)
11. عدم التسوية بين رؤوس الباطل وجمهوره في المعاملة للباطل رؤوس وأكابر.. ولهؤلاء اتباع وجمهور:
أما الرؤوس من الأمراء والعلماء والمترفين والوجهاء فقد شن القرآن عليهم حرباً لا هوادة فيها! فهاجمهم وعراهم وشخصهم بأسمائهم أو بصفاتهم بل شتمهم وطعن فيهم وكفر بأشخاصهم كما فعل مع أبي لهب وأبي جهل والوليد ووجوه المجتمع المكي والمدني.
وهاجم كذلك علماء أهل الكتاب، حتى شبههم بالحمير والكلاب:
{ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(5) } الجمعة.
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتنا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ
الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) } الأعراف. والمثل لأحد علماء بني إسرائيل السابقين.
{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ(31) } التوبة
{ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ(34) } التوبة.إن علماء السوء هم أساس البلاء، ومصدر الفتنة والصد عن الحق والاهتداء، فهم أولى بالطعن، وعلى أهل الحق ان يبينوا للناس ان هؤلاء شر الخلق.
وأما الجمهور فقد قسمهم القرآن قسمين:(157/86)
1. قسم يعادي الدين وأهله فهؤلاء يلحقون بالرؤوس بلا فرق .
2. وقسم مسالم أجاز بره والإحسان إليه.
قال تعالى: { ? لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (9) } الممتحنة. وهؤلاء هم المعنيون بقوله قبلها بقليل: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) } وقوله في أول السورة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } (الممتحنة:1)(157/87)
مع الانتباه إلى أن القرآن كفّر الجميع المسالم والمحارب ولم يعترف لهم بدين: { قُلْ يَا أَهلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ (68) } المائدة.
بل شدد حتى وصفهم بأنهم (نجس): { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ(28) } التوبة.
وشبه تلك الجماهير السائمة الهائمة خلف علماء السوء - الكلاب والحمير بالقردة والأنعام والخنازير: { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) } البقرة.
12. السب والشتم إحدى فقرات المنهج:
لا يكتفي القرآن بفضح الباطل وإنكاره، وتسميته بما يستحقه من أسماء وصفات شركاً كان أم كفراً أم نفاقاً أم إجراماً دون مواربة أو مجاملة، حتى يوصل إلى أصحابه حقهم ومستحقهم من السب والشتم كاملاً غير منقوص! فيسميهم كفاراً ومشركين ونجساً ومنافقين ومجرمين ومبطلين. وفيما سبق من آيات في سورة (المسد) و(القلم) و (المدثر) و(الجمعة) وغيرها شاهد عدلٍ لا يرد.
ليس هذا فحسب بل يسمي البعض منهم بأسمائهم أو يشخصهم عيناً بصفاتهم!
إن رؤوس الكفر وقيادات الباطل وحاملي رايات الظلم والناعقين من ورائهم لا ينفع معهم سلوك سبيل المنطق والحوار أو الجدال بالتي هي أحسن! إن ذلك لا يزيدهم إلا عتواً وضلالاً عن سواء السبيل.
وليس من طريقة تردعهم، وتصل بهم وبأحلامهم إلى طريق مسدود، وتعلمهم أن تماديهم في الباطل ولجاجتهم في الدفاع عنه أو الدعوة إليه لا تعود عليه إلا بالخسارة والأذى، ولا تزيد أهل الحق إلا إصراراً على التمسك بحقهم كالطريقة التي تعامل الخصم بالمثل وتكيل له الصاع بالصاع، فتتحطم في النهاية نفسيته ويزهق باطله ويعلم أنَّهُ يسلك الطريق المسدود.(157/88)
إن علينا أن نعلم أنَّهُ (ليس في كل الأحوال يأتي الناس بالمنطق فقط وإنما بالإحساس بأن الطريق الذي يستخدمونه لا يصل بهم إلى نتيجة تحقق لهم الأهداف التي قرروها، وبكل ما يحقق الإحباط في نفوسهم)(1)
وفي قوله تعالى: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) } الممتحنة. دليل على أن البراءة لا تكون من الباطل فحسب، بل يجب أن تكون من أهله أيضاً حتى يتبرؤوا منه ، وإلا فان الفصل بين العمل وصاحبه غير ممكن غالباً وان الكفر ينبغي أن يتوجه إلى الأشخاص وليس إلى الأعمال فحسب.
فالقول بان الكره للعمل وليس للشخص يحتاج إلى إعادة نظر وجواز مرور شرعي. وفي أحسن الأحوال يمكن اعتباره فكرة جميلة تصلح في بعض الأحيان مع بعض الأعيان، وليس هو قاعدة ثابتة.
13. التسامح شعارنا ولكن .. ليس على حساب الحق:
الإسلام دين التسامح والتعايش السلمي بين الأديان المختلفة.ولكن لم نجد على مر تاريخه من لدن بعثة نوح - عليه السلام - إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - - ولو مرة واحدة - أن هذا التسامح استلزم إخفاء الحق أو الحقيقة.
لقد كان الإسلام مع تسامحه ودعوته إلى اللقاء والحوار صريحاً كل الصراحة في التفريق بين الحق والباطل، وتبيان الحقيقة مهما كانت مرة أو ثقيلة!
__________
(1) دين خميني، ص47 - صدام حسين.(157/89)
إن تسامحه مع اليهود والنصارى والمجوس لم يحمله على الاعتراف بأديانهم ولم يمنعه من الإعلان ببطلانها حتى قال: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ(73) } المائدة. وقال: { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ (96) } البقرة. وقال: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (التوبة:31) وقال.. وقال.. مما يصعب إحصاؤه من الحقائق المرة الثقيلة!
هذا وهو يدعو إلى الحوار واللقاء ولكن على الحق قائلاً: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) } آل عمران.
14. نتعاون على مصلحة الوطن لا على حساب الدين:
تغيب عن أذهان الكثيرين معادلة لا بد من الحفاظ على التوازن بين طرفيها . ويحل محلها التصور المختل الآتي :
إن الاختلاف في الدين أو الفكر أو الطائفة يستلزم الصراع بين المختلفين حلاً شرعياً وحيداً لهذا الاختلاف، وعدم جواز الالتقاء شرعاً على مصلحة الوطن الذي يضم الجميع .
ثم إن أصحاب هذا التصور ينقسمون فريقين :
1. فريق ينظر إلى طرف الحق والحقيقة والدين فيحرم الالتقاء أو يتحرج منه بل قد يجيز أو يستبيح حرمة المخالف دون اعتبار للمصلحة الوطنية الجامعة .(157/90)
2. وفريق ينظر إلى الطرف الآخر من المعادلة المتعلق بالمصلحة الوطنية فيرى أنه مضطر إلى القول بعدم وجود اختلاف أو يهون منه يقول: الدين واحد. أو لا اختلاف في الأصول وإنما هي مسائل فرعية! حتى رأيت وسمعت من يشهد للصابئة بصحة الدين! فيميع القضية دون اعتبار للحق وحرمة الدين. إنه يتطير من الاعتراف بوجود اختلاف حقيقي أو جوهري لأنه يتصور أن هذا يهدر الالتقاء والتعاون على تحقيق المصلحة الوطنية .وكلا الفريقين على خطأ ومعه صواب .
والخلاص من الخطأ للوصول إلى الصواب الخالص يفرض علينا النظر إلى كلا طرفي المعادلة، الدين والعقل يفرض هذا وهو ما طبقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عملياً.
فحين قدم - صلى الله عليه وسلم - المدينة وجد فيها طوائف ثلاثاً: المسلمين والمشركين واليهود. لم ينظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى طرف الحق والدين فقط ليجعل من الاختلاف الديني بين المسلمين والطائفتين الأخريين داعياً لأن ينعزل بـ (طائفته) عن المجتمع ليشن بعدها حرباً معلنة أو يمارس كيداً خفياً وتآمراً باطنياً - مستعملاً التقية- ضد الآخرين.
ولم ينظر إلى طرف المصلحة الوطنية العامة فقط، ليدع الصدع بالدين وبيان الحق من الباطل.(157/91)
كلا.. لقد نظر إلى طرفي المعادلة كليهما فوضع ميثاقاً مشتركاً بين الطوائف الثلاث أساسه المصلحة الوطنية المشتركة- حسب التعبير المعاصر- والدفاع عن الوطن المشترك (المدينة المنورة). وفي الوقت نفسه كان - صلى الله عليه وسلم - يعلن ان الدين الحق هو الإسلام وما عداه فكفر وضلال . لكنه لم يحارب أحداً من مواطنيه يختلف معه في الدين أو الرأي، ولم يغدر أو يتآمر في السر. وما حارب اليهود إلا لأنهم أخلّوا ببنود الاتفاق وفقرات الميثاق فخانوا الوطن وصاروا (عملاء) للعدو (الأجنبي) يراسلونه ويتآمرون معه على وطنهم. لقد حصروا نظرهم في زاوية واحدة وانتصروا لطائفتهم دون اعتبار للمصلحة الوطنية المشتركة أو لما يفرضه وجود الآخرين من حقوق والتزام.
لقد علمنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن اللقاء بين أبناء المجتمع الواحد يقوم على قاعدتين اثنتين لا قاعدة واحدة هما:
1. الدين أو المعتقد الواحد: بين أصحاب الدين الواحد.
2. المصلحة الوطنية المشتركة: بين عموم المواطنين على اختلاف أديانهم وطوائفهم.
إن ابن وطنك_ إن لم يكن أخاك في الدين أو الطائفة فهو_ أخوك في المواطنة. وانحل بذلك الإشكال وحل الاتزان بين طرفي المعادلة فلا داعي للتزمت أو التميع.
يقول تعالى: { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8))إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(9) } الممتحنة.(157/92)
{ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) } المائدة.
{ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِي أُنزلَ إِلَيْنَا وَأُنزلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(46) } العنكبوت.
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) }
آل عمران.
فلم يجعل القرآن من الاختلاف في الرأي أو الدين، أساساً أو مبرراً للتفرق أو عدم التعاون بين المختلفين. وفي الوقت نفسه لم يعتمد المجاملة وكتمان الحق وعدم إنكار الباطل أساساً أو وسيلة للحفاظ على هذا الاتفاق، بل صرح قائلاً: { إن الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام(19) } آل عمران. { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(85) } آل عمران.
{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (153) } الأنعام. وأن ما عدا الإسلام من اليهودية والنصرانية والشرك والمجوسية كفر وباطل. وجعل أساس التغيير الاجتماعي الحوار بالكلمة الحكيمة الواضحة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم.
15. المناورة حكمة ولكنها استثناء وليست قاعدة ثابتة:(157/93)
إن التلازم بين إحقاق الحق وإبطال الباطل هو القاعدة العريضة التي استندت إليها دعوة الإسلام ورسختها آيات القرآن وانطلق منها الأنبياء والدعاة والمصلحون جميعاً.
لكن هذا لا يعني أن الداعي لا يمكن أن تضطره ظروف خاصة تقدر بقدرها إلى أن يناور فيأخذ بالرخصة ويؤخر أو يؤجل إنكار الباطل أو بعض منه. ويفعل مع الحق وجزئياته بياناً وكتماناً مثل ذلك.
إن هذا مشروع ومطلوب ولا إشكال فيه. إنما الإشكال- بل الخطر- حين يجعل منه قاعدة ثابتة وطريقة دائمة مع أنه (رخصة) واستثناء وهما كالملح للطعام إذا كثر أفسده. فكيف إذا صار الطعام لا يستساغ لكثرة الملح والبهارات التي أضيفت إليه و(المقبلات) التي وضعت بين يديه! فكيف إذا حذف الطعام ولم يعد على المائدة إلا (المقبلات) والمجاملات أو المداهنات، إلى درجة أمسى فيها الأصل والقاعدة والأساس أمراً مستنكراً مستغرباً مستهجنا يشار إلى أصحابه بالبنان! وليس لهم حق الادعاء ولو على سبيل الاستثناء!
إن الميتة لا تباح إلا عند الاضطرار فالتحريم هو القانون والقاعدة ، والرخصة في أكلها استثناء من هذا القانون. إن قلب المعادلة بحيث يكون هذا مكان هذا فساد واعتداء لا نقرّه وإن فسد المزاج وحصل الاعوجاج.
16. الدعوة أسلوب ومضمون:
المضمون هو مادة الدعوة المقدمة للمدعوين. والأسلوب هو الوسيلة التي تنقل بها المادة الدعوية وتبلغ إليهم. والعلاقة الدعوية بين الأسلوب والمضمون كعلاقة الطبق بالطعام . فالطبق هو الوسيلة والأسلوب الذي به تنقل المادة الغذائية أو الطعام.
نعم. لا بد أن يكون الطبق نظيفاً وملائماً ويفضل أن يراعى فيه الذوق والجمال. ولكن في النهاية لا بد أن يوضع فيه الطعام ليقدم للآكلين. أما إذا قدم فارغاً أو ليس فيه الطعام المطلوب فالطبق لا قيمة له مهما كان حائزاً على مواصفات الذوق والنظافة والجمال .(157/94)
كذلك الدعوة وعلاقتها بالمضمون والأسلوب، سوى أن الأسلوب لا ينبغي أن يكون واحداً في جميع الأحوال ومع جميع الأعيان شدة وخشونة أو رقة وليونة.
إن اللين ينفع في حالة لا تنفع فيها الشدة وإلا جاءت النتائج عكسية، والعكس صحيح. فمن جنح إلى الشدة والخشونة دائماً، أو إلى الرفق والليونة دون مراعاة للأحوال والأعيان لم يصل إلى المطلوب { فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً(129) } النساء.
17. لا أساس للمنهج الترضوي في شرعنا:
إن هذا الذي قدمناه يدل دلالة قاطعة على أن المنهج الالهي التغييري يقوم على قاعدتين أو ركنين لا بد منهما جميعا مقترنين هما : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الدعوة إلى الخير والتحذير من الشر جنباً إلى جنب.
أما القول بان بيان الحق كفيل بزوال الباطل، أو لا تلعن الظلام بل اشعل شمعة فكلام هو أشبه بالتهويمات الشعرية منه بالحقائق الشرعية أو الأحكام الجدية الواقعية.
ولم نجد لأصحاب هذا المنهج الترضوي من دليل معتبر سوى شبهات و نصوص مبتورة عن سياقها أو حيثياتها وظروفها مثل قوله تعالى: { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } دون تلاوة لاحقتها: { إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم(46) } العنكبوت. ولا اعتبار بكون المقام مقام جدل وللجدل خصوصيات يختلف بها عن عموم الدعوة وهو مظهر واحد من مظاهرها، وهو شيء والإعلان بالحق والصدع بالأمر شيء آخر. ثم إن هذا متعلق بالأسلوب وما نحن فيه متعلق بالمضمون.
ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه) وهذا لا ينبغي أن يفهم بعيداً عن القواعد والأصول والنصوص الأخرى. فهو من الكلام الذي يخرج مخرج العموم ومراده الخصوص.(157/95)
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم -يشتد أحياناً حتى يخرج إلى السب كما فعل مع يهود قريضة حين خاطبهم قائلاً: (يا إخوة القردة والخنازير)! وقال الصديق - رضي الله عنه - لعروة بن مسعود يوم الحديبية: (امصص بظر اللات) وذلك في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليه!
ومما استدلوا به قوله - صلى الله عليه وسلم - عن عبد الله بن أبي بن سلول مخاطباً ابنه عبد الله: (بل نترفق به) ولم يقتله رغم ارتكابه ما يستحق القتل.
ويقال في هذا ما قيل في الذي قبله .
بل إن الله تعالى انزل بعده قوله : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا (61) } الأحزاب، القاضي بقتل المنافقين المجاهرين، ذاكراً أن هذا هو حكم الله الثابت الذي لا يتبدل ولا يتحول، أنزله في الشرائع القديمة، وأكده في الشريعة الإسلامية الخاتمة. وهو معنى قوله سبحانه بعدها مباشرة { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } (الأحزاب:62)
وبالجملة فإن هذه النصوص يجب أن تفهم في ضوء القواعد والأصول والأدلة الأخرى . وفي ضوء ظروفها وملابساتها وقيودها . ولا يصح بحال أن تتخذ ذريعة لإلغاء مئات النصوص القرآنية ومثلها من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأقواله.
18. ثبات المنهج القرآني وعمومه:
أشرت إلى هذين المعنيين في أول الكتاب، وذكرت أنهما من مزايا المنهج، وأرى أن الأمر يحتاج إلى تفصيل فأقول:(157/96)
إن النظر في المنهج الإلهي- وهو يواجه أصناف الباطل قديماً، وعند نزول القرآن، وعلى يد جميع الأنبياء والمصلحين- يقودنا إلى القول- ونحن نرى ثباته رغم تنوع الزمان والمكان والأعيان وأصناف الباطل واختلاف الأديان- بأن هذا المنهج الذي أراده الله طريقاً ومسلكاً لتغيير الباطل واحد غير قابل للاختلاف ، ثابت في الزمان والمكان ، عام لا يقبل التخصيص مع جميع الأديان والأعيان، مع الاحتفاظ بحق المناورة وجواز الاستثناء حسب القدرة دون أن يكون هذا هو القاعدة.
إن هذا المنهج ليس خاصاً باليهود دون النصارى ولا بالمشركين دون المنافقين، ولا بهؤلاء دون غيرهم من المبطلين، بل هو متوجه إلى الباطل حيث كان وفيمن تمثل كائناً من كان. إن مناط تعليقه وتطبيقه الباطل بغض النظر عن اسمه وصفته التي يظهر فيها شركاً أم يهودية أم نصرانية أم نفاقاً وزندقة وشعوبية أم أي مظهر آخر. فالصورة والعنوان ليس هو العلة، إنما العلة هي الباطل على اختلاف عناوينه ومضامينه.
اقرأ هذه الآيات:
{ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ(7)لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ(8) } الأنفال
{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ(55) } الأنعام
{ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(37) } الأنفال.
فالله تعالى يريد أن يبطل الباطل- أي باطل- بغض النظر عن هويته وجنسيته { وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } مهما كان إجرامهم كفراً أم شركاً أم زندقة . هذه العناوين لا تضر. وهذه الأسماء كلها لمسمى واحد هو الإجرام أو الباطل أو الخبيث لا فرق.(157/97)
ونحن نود أن غير ذات الشوكة تكون هي المنهج والوسيلة المتبعة للوصول إلى الهدف. وأي إنسان يود أن يسلك طريق الشوك والمشاكل؟! ولكنها إرادة الله أبت إلا أن يكون الطريق الموصل إليه محفوفاً بالمكاره وليس مفروشاً بالورود { وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } أو كرهنا نحن طالبين سبيل السلامة أو غير ذات الشوكة.
إن الله تعالى يريد أن ينكشف الإجرام انكشافاً لا مرية فيه حتى يعرف المجرمون من هم؟ ويشخَّصوا { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (42) } الأنفال. وليأخذ المجرمون جزاءهم من الاحتقار والنبذ والسب واللعن. وهذا لن يكون من دون أشواك.
ولو سألنا من هم المجرمون؟ أهم اليهود أم النصارى أم المجوس أم المنافقون أم الزنادقة؟ والجواب: إن كل من ارتكب جريمة منهم فهو مجرم بغض النظر عن نوع الجريمة . فإذا كان الشرك جريمة فالمشرك مجرم وإذا كانت الزندقة جريمة فكذلك الزنديق.
هؤلاء جميعاً يريد الله تعالى كشفهم وفضحهم ويريد تمييزهم عن الصف المؤمن، عن الطيب لأنهم خبثاء. والخبثاء لا يعبأ الله تعالى بأصنافهم وأسمائهم. إنهم أهون من ذلك. إنهم خبثاء وكفى. يركمون بعضهم فوق بعض دون قيمة لأحد دون أحد ولا تمييز. إنهم ركام فمن جاء ليميز بعضه عن بعض فقد أعطاه قيمة.
أرأيت حاوية القمامة كيف يجعل العاملون الأزبال فيها ركاماً دون تفريق! هل سمعت أو رأيت أحداً منهم يصنفها يقول : هذا خراء آدمي وهذا ذرق دجاجة وهذه روثة حمار!
ولا أرى أحداً بلغت به السفاهة والتفاهة والسخف إلى هذا المستوى. أو عنده فضل وقت ليعبث هذا العبث! إنه يركمه جميعاً بعضه فوق بعض فيجعله في تلك الحاوية التي تنقله إلى حيث الحرق أو التخلص منه بأي وسيلة أخرى.(157/98)
يقول تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ(110) } آل عمران . والمنكر هنا معرَّف بألف ولام الاستغراق ، فالأمة تنهى عن المنكر أي منكر بغض النظر عن وصفه وصنفه . وفي هذا تكمن خيريتها وقيمتها وعزتها .
حتى إذا انحدرت فصارت وظيفتها البحث في أصناف القذر والخبث وتصنيفه وتقديره فقدت هيبتها واحترامها.
أن الشرك باطل ومنكر وخبث وإجرام ، وكذلك اليهودية والنصرانية ، وكذلك النفاق والزندقة والمجوسية ،وكذلك الرفض والشعوبية ،والأمة المحترمة تركم هذا كله بعضه فوق بعض فتجعله ركاماً منبوذاً في مزبلة الواقع والتاريخ . ولا تشتغل بعبث العابثين.
إن الثوب الأبيض لا يليق بصاحبه أن يمتهن وظيفة تصنيف النجاسات و(تفليسها) بحثاً عن حبة بطيخ ضائعة!قد يقول قائل: إن الرافضة والشعوبيين محسوبون على المسلمين؟
ونقول: إن هذا أدعى لتطبيق المنهج أو القانون . فإن الباطل إذا لبس شارة الحق صار خفياً يحتاج إلى مزيد جهد لكشفه . فالتركيز عليه أولى ، والتحذير منه أشد . أرأيت سمّاً مخلوطاً في طعام وآخر معزولاً في قنينة أيهما أخطر؟ وأولى بالتحذير ؟(157/99)
ولذلك كان تركيز القرآن وتحذيره من المنافقين ولهجة خطابه أشد منها مع الكفار الصرحاء، مع أن المنافقين لهم حكم المسلمين، إن الرفض والشعوبية والزندقة والنفاق جنس واحد مظهره الإسلام والطهر وحقيقته الخبث والكفر .وإذا تساوى المسلم والكافر في فعلٍ هل نعطي المسلم صك براءة من تبعة الفعل؟. إن أفعالاً متساوية لا بد أن تنتج ردود أفعالٍ متساويةٍ وإلا حدث خرق للناموس. وناموس (الفعل وردّ الفعل) لا يَفهم كثيراً ولا قليلاً في مسألة جنسية الفاعل وأحواله المدنية.وإذا قتل عدو لك صديقاً ولبس ثيابه ثم طرق عليك الباب أتفتح له ذراعيك على مصراعيها وتأخذه بالأحضان تقول له : تفضل شرفتم!
لقد قتلت المجوسية الإسلام في أرضها وتبرقعت بثوبه ثم صارت تنوح عليه! فهل تريد مني أن ألغي عقلي لأصدق هذه المهزلة! أو أفقد اتزاني فأخلع ثيابي أو أمزقها لألطم معه تملقاً وتزلفا وأنا أعلم أنه أكذب الكاذبين أقول : أريد تقريبه وكسبه؟!
وإذا كنا نعذر عوام الرافضة وجهّالهم فنحكم لهم- بحسب الظاهر- بالإسلام لاستحكام الشبهة وعدم قيام علمائهم ولا علمائنا بواجب البيان والتعريف بدين الإسلام كما هو، فهل يعفينا هذا من السؤال عن حقيقة ما هم عليه من دين! ما علاقته بالإسلام؟ وكم نسبة الشبه بينهما؟ وهل هو إلى الإسلام أم إلى الكفر والزندقة أقرب؟(157/100)
الباب الثاني
التشيع العربي والتشيع الفارسي
ومعالم المنهج القرآني المطلوب
الفصل الأول
التشيع المقبول والتشيع المرفوض
التشيع تشيعان:
تشيع هو حب وتقدير لسيدنا علي - رضي الله عنه - وأهل بيته والصالحين من ذريته مع حب بقية أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أزواجه وأقربائه دون تفريق بينهم وبين أصحابه )رضي الله عنهم).
يؤمن بالكتاب والسنة كما جاءت عن طريق الصحابة والتابعين لهم بإحسان ،ينتمي لأمته ودينه وعروبته ووطنه ولا يشعر بالولاء لإيران.
يعرف أن التشيع جزء من السنة وفقرة من فقراتها الكثيرة. فهما شيء واحد وفرقة واحدة لا فرقتان. فهذا هو التشيع الذي نطلق عليه اسم التشيع العربي وهو ما نحرص عليه ونتبناه بغض النظر عن الاسم والعنوان.
علماً أن هذا التشيع لا وجود له في الواقع عند غير أهل السنة. وهو يعبر عن نفسه في ميلهم إلى علي أكثر من ميلهم إلى معاوية رضي الله عنهما. على أن بعضهم قد غلا فيه حتى خرج عن خط الاعتدال والاتزان. وهو - أي هذا الغلو- نوع من الرفض الذي سرى إليهم نرفضه ولا نقره.
وتشيع آخر أنتجته قريحة العجم، ونفايات عقول الأمم، يتخذ من الإسلام دثارا وحب أهل البيت شعاراً ليحقق أغراضه ومآربه، ويربط بإيران صاحبه، ولاءه وروحه وقلبه وقالبه. ويخلعه من أمته ووطنه بل يقلبه عدواً لهما، عدواً لا أصل له ولا عنوان.
وهو ما نطلق عليه اسم التشيع الفارسي أو الرفض أو الشعوبية وهو التشيع الذي نرفضه ونحاربه مهما بعدت المسافة وطال الزمان،وبئس (الرفض) المرفوض.
وإذا أردت التفصيل أقول:
هو التشيع الذي جعل من (حب أهل البيت) قضية. صارت هي الدين البديل عن الدين الثابت بالتنزيل.
هو التشيع الذي فرق بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه (رضي الله عنهم ) .(158/1)
ثم فرق بين الأصحاب فجعلهم قسمين: قسماً كفَّره ونبذه هم (الصحابة)، وقسماً قدسه وعبده هم (أهل البيت).ثم فرق بين (أهل البيت) أنفسهم! فشطب على أزواجه - صلى الله عليه وسلم - بالجملة حتى إذا أخرجهن من بيتهن واستراح من ضجيجهن كرّ على الباقين فشطرهم نصفين: علويين وعباسين!
وبعد أن كفر بالعباسيين رجع ليتفرغ للعلويين ويجعلهم فاطميين وحنفيين وبدويين وآخرين!ثم لم يكتف بهذا حتى فرق بين الفاطميين فصيرهم حسنيين وحسينيين .
ثم لم تزل عملية التقسيم والتهشيم - لعباً بالدين وتنفيساً عن حقد دفين- حتى كفر بالحسينيين جميعاً سوى تسعة رهط واحد منهم موهوم معدوم!ترى! هل اكتفى؟ أم اشتفى؟
كلا! فقد سل خنجر حقده ليمزق ثلاث بنات لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاهرات نيرات وهو ينفث ويقول: لسن بناته إنهن ربائبه من زوجته الأولى! أخرجوهن مأزورات غير مأجورات! فماذا بقي من (أهل البيت)!
التشيع الذي يرد أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - جميعاً، ويكفر بها جملة وتفصيلاً بحجة أنها جاءت عن طريق أصحابه وهم –في عرفه- مرتدون ناكثون مارقون!
ويستبدل بها روايات منحولة، وأقاويل وتهاويل مخبولة، منسوبة زوراً إلى سيدنا جعفر بن محمد رحمه الله وهو منها بريء! إنه تشيع بلا كتاب ولا سنة ولا أصحاب.
التشيع الذي يكفّر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول عنهم: إنهم زمرة طامعين لا هم لهم إلا البطن والفرج والكرسي.
التشيع الذي يكره العرب وينسب إليهم كل نقيصة ورذيلة! ولا يشعر بالانتماء إلى أمة العرب العظيمة التي اختارها الله تعالى لحمل دينه وإيصال رسالته إلى العالم أجمعين.
التشيع الذي يكفر بالوطن والوطنية ويربي أجيالاً لا جذور لها ولا شعور يدفعها إلى أحضان وطنها ويجعلها تضحي من أجله تقرباً إلى الله، بل تتقرب إليه بالكيد له و(الغدر والخيانة) . ألم تقرأ (صفحتها)؟!(158/2)
التشيع الذي يطعن بتاريخنا القديم والحديث ويلقبه بـ(التاريخ الأسود) ويشوه رموزنا.
التشيع الذي يقول: إن عمر الفاروق الذي أذل كسرى وكسر أنف كبريائه مأبون (ينكح في دبره) وإن أمه هي صهاك الزانية وإن علياً زنى بأخته في بيته وقد بات عنده تحت ذريعة (المتعة) ولذلك حرمها.
وإن خال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن أبي وقاص مبيد الأكاسرة وفاتح العراق نغل ابن سفاح بل بنو زهرة أخوال النبي جميعاً كذلك، وإن أبا سعد رجل من بني عذرة.
وإن عمرو بن العاص فاتح فلسطين ومحرر مصر ابن زنا كذلك. وعبد الله بن الزبير ابن أسماء ذات النطاقين وبطلة الهجرة أمير المؤمنين وخليفة المسلمين ابن (متعة).
التشيع الذي يجعل من الصديق والفاروق مغتصبين لمنصب الخلافة، ومن علي رجلاً ساكتاً عن الحق راضياً بالاغتصاب. بل لا يغار - وحاشاه- على دينه وعرضه وماله!!!
فالخلافة - وهي كالنبوة كما يقولون- اغتصبت منه وهو ساكت!
واغتصبت منه ابنته وضربت زوجته وهو ينظر إلى سيفه ذي الفقار، ولا يُغير ولا يغار!!
واغتصبت منه فدك - ما أدراك ما فدك أو فتك!!- فلم يفعل شيئاً!!!
التشيع الذي يطعن بزوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويلمزهن بالكفر والفاحشة ويرميهن بالبهتان.
التشيع الذي يشيع الإباحية والزنا تحت ستار (المتعة).
تشيع اللواطة والشذوذ وزنا المحارم الذي ينتشر كالسرطان ليلتهم البقية الباقية من الحياء والخلق الكريم.
التشيع الذي لا يعترف بعلمائنا وفقهائنا العظام ويطعن في الأئمة الأربعة وغيرهم من الشيوخ والأكابر كسيدنا الشيخ عبد القادر والإمام الغزالي وشيخ الإسلام أحمد بن تيمية وبقية أئمة الدين والعلماء العاملين المجاهدين. ويطعن في أهل البيت طعناً ظاهره الرحمة وباطنه العذاب!.(158/3)
التشيع الذي يجعل من أتباعه - أينما حلّوا- جالية إيرانية مرتبطة فكراً وسلوكاً، وشعاراً وشعوراً بإيران لا يصومون ولا يفطرون ولا يعيدون إلا معها ولا يوقتون إلا بتوقيتها. ومسخاً منخلعاً من وطنه وأبناء جلدته لا يشعر بشعورهم ولا يحس بضرورة التعاون أو التعايش معهم، فهم كاليهود - أينما حلوا- خربوا وأفسدوا! لأنهم لا ينتمون حقيقة إلى شيء اسمه الوطن.
التشيع الذي خرّج أجيالا تدين بالعبث بالممتلكات العامة تحت ذريعة استحلال أموال الدولة. وتنهب وتسلب وتفجّر وتقتل وتخرب على قاعدة: (( ليس علينا في الأميين (أبناء العامة) سبيل)) .
التشيع الذي لا يستقيم عنده ولاء إلا ببراء. أي ما لم تتبرأ من عمر فلست من أحباب علي، ولو أقسمت له برب السبع الطباق، وأشفعته بالطلاق والعتاق على أنك تحب علياً فإنك مجرم تستحق القتل ويباح مالك ! ألست تحب عمر!!
التشيع الذي لا يعرف التعايش السلمي بين أبناء الوطن الواحد ولا يعرف التسامح مع الرأي الآخر. القاعدة عنده : (إما أن أبدأ بك فآكلك وإما أكلتني لا محالة) ولو أقسمت له بالمصحف ألف مرة أنك لست متخلفاً إلى هذا الحد!
التشيع الذي يقدس الأحجار والأشجار والأستار والنار باسم أهل البيت.
التشيع الذي يكره تاريخه بـ (الفطرة) ويمتعض من ذكر أيامه الخالية الخالدة.
التشيع الذي يستقبل سنة المسلمين بالسواد والحزن والعويل . بينما يهش ويبش ليوم نوروز مفتتح سنة الفرس المجوس!
التشيع الذي اتخذ من أحباره ورهبانه، وسدنة قبابه وقضبانه أرباباً من دون الله.
التشيع الذي جعل من مراقد الأولياء ومشاهد الأصفياء ومواسم زياراتهم فرصاً لا تعوض من أجل اصطياد الأموال والعبث بالعقول والأعراض، ونشر الأمراض.
التشيع الذي يوجب الكذب ويدين بالنفاق والخداع تحت لافتة (التقية) يقول لك بلسانه: ليس بيننا من فرق إنما هي فروع فقهية واختلافات مذهبية وقلبه يسبح بلعنك وينبض قائلاً : متى تحين الفرصة؟!(158/4)
وإذا خلا وأمن قال: نحن لا نلتقي لا على إله ولا نبي ولا كتاب .
التشيع الذي يجعل من (قم) المدنسة، مهوى لأفئدة المسلمين ويسميها مقدسة! ويستهين بالكعبة أشرف البقاع وأقدسها ويجدف عليها.
التشيع الذي يعطل المساجد ويعمر المراقد والمشاهد ويجعل منها ومن بيوت عبادته مساجد ضرار وتفريق بين المؤمنين وزوايا إرصاد ، وأوكاراً للتجمع بلا جمعة ولا جماعة.
تشيع الشعارات البراقة والوعود الخداعة.
التشيع الذي يبيح ظلم الأسير وسلبه إنسانيته وتعذيبه و………… نكحه دون نكير!
التشيع الذي لو بعث الله تعالى رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى لما قر له قرار ولا هجع مطمئناً في دار قبل محاربته، واستئصال شأفته.
التشيع الذي لو قام علي - رضي الله عنه - من قبره ورآه كيف يشاع وينشر باسمه لصعق من ساعته، أو سل سيفه لمنازلته.
فإذا ذكرنا التشيع المذموم فهو هذا الذي نسميه أيضاً بالرفض أو الشعوبية. ولا نعذر أحدا بمجاملته أو مداهنته بل من فعل ذلك معه فهو شريكه في الجريمة قصد أم لم يقصد.
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة أو كنت تدري فالمصيبة أعظم
- ونحارب الميوعة:
ونؤمن بأن المائعين ليسوا سوى طابور خامس، أو (مبشرين) يمهدون الطريق ويعبدونه أمام الغزو الفكري والاستعمار الشرقي. إنهم أدلاء أذلاء يجوسون الديار بين يدي أولئك الغزاة البغاة، يدلونهم على المسارب والأنفاق ويرفعون فوق رؤوسهم لافتات الجواز والمرور، يختمون لهم هوياتهم المزورة ويوقعونها لهم بلا جزاء ولا شكور، ليمروا بلا عوائق ولا بوارق.
- التركة ثقيلة:(158/5)
وإنا لنعلم أن التركة ثقيلة والمهمة صعبة . ذلك أن الحق ثقيل والنطق به مر. ولكننا نعلم كذلك أنه بذلك تثقل الموازين وتكثر النياشين يوم القيامة. كما قال الصديق للفاروق رضي الله عنهما: (واعلم أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم. وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلاً. وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم. وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفاً).
- أسوأ ما وجدتم:
قد يقول قائل: لقد ذكرتم أسوأ ما وجدتم وهذا يتناقض مع الإنصاف ! هلا ذكرتم المحاسن لتتزن المعادلة؟!
ونقول: ولنفترض صحة ما تقول -على أنا تركنا كثيراً مما هو أدهى وأمر- فما الضير في ذلك؟!
هل يحسن مع بعض الذي ذكرناه من هذا السوء صحيح! وهل يستقيم مع اعوجاجه عدل!إن واحدة من هذه الخبائث تفسد كل طيب، وقطرة من السم تفسد قنينة من العسل. فيكون مدح العسل ـ بعدُ ـ نوعاً من الإجرام .
إن ديناً حوى هذه المنكرات الموبقات لا اعتبار لما فيه من معروف. والإسلام حين سفه دين قريش وأبطل بقية الأديان، لم يفعل ذلك لأنها صارت شراً محضاً ليس فيه من خير. كلا بل إن فيها الكثير من الخير والطيب والمعروف، ولكن ما فيها من شر وخبث ومنكر لا يسلم معه ما فيها مما يضادده، ولا يستقيم.
وأي خير يصح مع الشرك واتخاذ الأصنام والأحبار والرهبان أربابا من دون الله؟!
وما فعلناه إنما هو على طريقة القرآن. فإن القرآن لم يعدد مزايا الشرك واليهودية والنصرانية إنما وصمها بأسوأ ما فيها وإلا فما كل النصارى يقولون بألوهية المسيح، ولا اليهود جميعاً يقرّون كل ما عليه اليهود من أباطيل ولا المشركون. ولا أن هذه الأديان خلت من كل خير.(158/6)
والآن أعد قراءة ما كتبته لك آنفا عن التشيع الفارسي أو الرفض أو الشعوبية، أو استحضر صورته ثم قل لي: أي خير هذا الذي يمكن اعتباره ويصح حشره مع هذه الخزايا والبلايا؟!
- وباء متوطن وليس حالات طارئة:
ونحن – ولله الحمد- لم نتصيد شواذ الفتاوي وغرائب الأقوال، أو نوادر السلوك والأفعال، وطوارئ الأحوال. بل إن ما في هذه الصحائف يمثل صورة الواقع الذي عشناه ولمسناه وهو ما تغص به كتب القوم قديماً وحديثا.
وهذه شهادة نقدمها للأجيال الآتية كتبناها وسنسأل عنها يوم يقوم الأشهاد. شهادة قائمة على الدليل ،ونقسم عليها قسما لا رجعة فيه ولا بداء.
على أن القرآن ذكر لأهل الباطل أقوالاً يمكن اعتبارها شاذة أو نادرة أو قيلت في حالة نفسية معينة ودمغهم بها وحملهم مسئوليتها. وقد يكون قائلها فرداً واحداً أو بضعة أفراد!إن من الشاذ والنادر ما يهتز له العرش !أفيترك يمر بسلام وتلتمس له المعاذير؟!
خذ مثلاً قوله تعالى عن اليهود: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ينفق كيف يشاء وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(64) } المائدة. أتأملت كيف كان الرد! أفكل اليهود ردد هذا؟ أم إنه مقيد عندهم في كتبهم؟ كلا.. فكيف إذا كان الأمر مقيداً مردداً؟!!
الفصل الثاني
من عقائد التشيع الفارسي
وأهدافه وأحكامه وفتاويه
اعتقاد تحريف القرآن:
وهي عقيدة جميع علماء التشيع الفارسي بلا استثناء! على ان بعضهم يستعمل (التقية) في موضع، فينفي تلبسه بها ليثبتها في مواضع أخرى لا تخفى على المتتبع، كالطوسي شيخ الطائفة(1)
__________
(1) روى الطوسي في (تهذيب الأحكام) روايات صريحة في التحريف منها:
عن أبي عبد الله (ع) قرأ آية الوضوء فقال: (ليس هكذا تنزيلها إنما هي فاغسلوا وجوهكم وأيديكم من المرافق)
وعنه قال: (أكبر الكبائر سبع -إلى أن قال- وأما عقوق الوالدين فإن الله عز و جل قال في كتابه: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم و هو أب لهم)0
وفي تفسيره (التبيان) روى ما يلي:عن أبي عبد الله (ع) أنه قرأ قوله تعالى: )إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل محمد على العالمين) (آل عمران:33)
وعنه أيضاً أنه قرأ: (وجاءت سكرة الحق بالموت) (قّ:19) و روى في (أماليه) ما يلي:
عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال: إني لأدناهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بمنى -إلى أن قال- فأنزل الله تعالى: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون بعلي بن أبي طالب)
وروى النوري الطبرسي في كتابه (فصل الخطاب) -الدليل يز- الدليل الثاني عشر عن الطوسي في (أماليه) أنه روى عن أبي عبد الله (ع) أنه قرأ ) يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك في علي فإلّم تفعل فما بلغت رسالته)
وقال النوري الطبرسي: (إن قول الشيخ الطوسي-لمرة واحدة فقط-في مقدمة تفسيره التبيان بعدم وجود نقص في القرآن إنما قاله تقية)0 وكذلك اعترف حفيده الشيخ علي بن طاووس في كتابه (سعد السعود) و ذكر أن جده وضع هذا التفسير تقية0
بل الطوسي نفسه يعترف قائلاً وهو يرد حديثين وردا بتحريم الجمع بين المرأة وخالتها والمرأة وعمتها (إذا أجمع العامة على أمر و يدّعون أن هذا الأمر إجماع فحكمه تجري فيه التقية)
ومن المعلوم أن أهل السنة (العامة في تعبير الطوسي) مجمعون على عدم تحريف القرآن0ويروي حفيده ابن طاووس عن جده الطوسي هذه الرواية التي ينسبها إلى علي بن موسى الرضا أنه قال: وتكتب آية الكرسي على التنزيل وهي (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم فلا يظهر على غيبه أحدا من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه …) قال علي بن طاووس في كتابه (مهج الدعوات) في شرح قوله: (آية الكرسي على التنزيل): (هذا يدل على أنه قد سقط من آية الكرسي كلمات).
بل يروي الطوسي هذه الروايات في كتاب (المصباح):
في زيارة عاشوراء قال: (عن عبد الله بن سنان عن الصادق (ع) قال: اللهم إن كثيراً من الأمة ناصبت المستحفظين من الأئمة … وحرفت الكتاب).
وقال الطوسي في دعائه: (اللهم العن الرؤساء والقادة والأتباع من الأولين والآخرين الذين صدّوا عن سبيلك. اللهم أنزل بهم بأسك ونقمتك فإنهم كذبوا على رسولك وبدلوا نعمتك وأفسدوا عبادك وحرفوا كتابك وغيروا سنة نبيك ).
وقال في (تلخيصه): (إن من مطاعن عثمان ومن عظيم ما أقدم عليه جمع الناس على قراءة زيد وإحراقه المصاحف وإبطاله ما شك أنه من القرآن). قال النوري الطبرسي في كتابه (فصل الخطاب) معلقاً على قول الطوسي هذا: (ولولا جواز كون بعض ما أبطله أو جميعه من القرآن لما كان ذلك طعنا).
فهل هذا كلام من لا يؤمن أن كتاب الله محرف ؟!
لقد أسهبت في إيراد الأدلة على اعتقاد الطوسي (شيخ الطائفة) بالتحريف حتى لا أحتاج إلى إثبات عقائد البعض الآخر كالطبرسي صاحب تفسير (البيان) وابن بابويه القمي صاحب كتاب (من لا يحضره الفقيه) ممن صدّق كثير من أهل السنة الإشاعة القائلة بأنهم لا يقولون بالتحريف.ومن المتأخرين الخوئي الذي يقول بعد أن ينفي نفياً صريحاً وقوع التحريف في كتاب الله: (إن كثرة الروايات على وقوع التحريف في القرآن تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين. ولا أقل من الاطمئنان بذلك. ومنها ما روي بطريق معتبر) ـ البيان ص 226.
ويمكن مراجعة كتاب (القرآن وعلماء أصول ومراجع الشيعة الامامية الاثني عشرية) للسيد محمد اسكندر الياسري، للاطلاع على التفاصيل.(158/7)
والطبرسي صاحب تفسير (مجمع البيان) وابن بابويه القمي صاحب (من لا يحضره الفقيه). ومن المتأخرين الخوئي مرجع الطائفة وكبير الحوزة الذين انخدع البعض بمعسول كلامهم الخارج من مخرج (التقية) فصار يقول: إن هؤلاء لا يعتقدون بالتحريف.والحقيقة أن عقيدة التحريف -عندهم- من ضرورات (المذهب).(1)
ويكفي أن تعرف أنهم يوثقون جميع العلماء الذين صرحوا علانية بتحريف القرآن ! ولم نجد لأي أحد من علمائهم طعناً أو تكفيراً لأي واحد من أولئك الذين يقولون بالتحريف صراحة! ولا تسقيط لأي كتاب أو مصدر جاءت فيه هذه العقيدة الكفرية أو ألف من أجلها!
وهذا دليل واضح على رضاهم عن هذه العقيدة وإيمانهم بها رغم شناعتها وكفر قائلها بلا شك ولا تردد.
فهذا حسين محمد تقي النوري الطبرسي المتوفى عام 1320 هـ يؤلف كتاباً ضخماً يسميه: (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب) يقول في مقدمته: (هذا كتاب لطيف وسفر شريف عملته في إثبات تحريف القرآن وفضائح أهل الجور والعدوان)
ورغم أن كفر هذا اللعين صراح بواح لا يشك فيه إلا كافر مثله، فإن علماء الطائفة جميعاً تسالموا على مدحه وتعظيمه واتخذوا من كتابه (مستدرك الوسائل) أماً ومرجعاً، إذ هو أحد ثمانية مراجع روائية معتبرة عندهم، قالوا عنه:(لا يمكن أن يصل العالم إلى درجة الاجتهاد حتى يقرأ كتاب المستدرك للنوري الطبرسي) .
__________
(1) يقول أبو الحسن العاملي عن القول بالتحريف : (وعندي في وضوح صحة هذا القول بعد تتبع الأخبار وتفحص الآثار بحيث يمكن الحكم بكونه من ضروريات مذهب التشيع وأنه من أكبر مفاسد غصب الخلافة) ـ (مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار) مقدمة تفسير (البرهان) للبحراني/ الفصل الرابع من المقدمة الثانية تحت عنوان(بيان خلاصة أقوال علمائنا في تغيير القرآن وعدمه وتزييف استدلال من أنكر التغيير)، طبعة دار الكتب العلمية - طهران.(158/8)
وقد أطرته كتب الرجال لديهم إطراءاً لا يليق إلا بمن كان له من الإنجازات ما تفرد بها عن غيره.ويظهر أن هذا الذي تفرد به جرأته في تأليف كتابه المذكور عن تحريف القرآن.
يقول عنه عباس القمي في (الكنى والألقاب):الشيخ الأجل ثقة الإسلام والمسلمين مروّج علوم الأنبياء والمرسلين والأئمة الطاهرين الثقة الجليل العالم الكامل.. الباهر بالرواية والرافع لخميس المكارم أعظم راية…الخ من هذا الترويث، لخبيث يشهد لخبيث.ولست في مقام تفصيل هذه العقيدة الكفرية وفي ما ذكرته كفاية للمتأمل ومن شاء فليرجع إلى المؤلفات الخاصة بالموضوع.
الغلو الكفري في الرجال:
اقرأ هذا الباب في أصول الكافي للكليني(1): (باب إن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وإنه لا يخفى عليهم الشيء صلوات الله عليهم) وفيه: عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: أني لأعلم ما في السموات وما في الأرض وأعلم ما في الجنة وما في النار وأعلم ما كان وما يكون.
وجاء في موضع آخر(2): عن أبي عبد الله (ع) قال: كان أمير المؤمنين (ع) إماماً ثم كان الحسن(ع) إماما…من أنكر ذلك كان كمن أنكر معرفة الله تبارك وتعالى ومعرفة رسوله - صلى الله عليه وسلم -!
وهذا يستلزم تكفير المسلمين جميعاً، وما يترتب عليه من مفاسد واقعة كاستحلال الدم والمال.
ويروي أيضاً يقول(3): عن أبي عبد الله (ع) قال: الأئمة بمنزلة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إلا انهم ليسوا أنبياء ولا يحل لهم من النساء ما يحل للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأما ماخلا ذلك فهم بمنزلة رسول الله- صلى الله عليه وسلم -.
الغلو في المراقد مع تحقير الكعبة (شرّفها الله)أو التهوين من شأنها:
يروي الكليني عن أبي عبد الله أنه قال : إن المؤمن إذا أتى قبر الحسين (ع) يوم عرفة واغتسل من الفرات ثم توجه إليه كتب الله له بكل خطوة حجة بمناسكها- ولا اعلمه إلا قال- وغزوة(4).
__________
(1) 1/261.
(2) 1/181.
(3) 1/270.
(4) فروع الكافي 4/580.(158/9)
أما المجلسي فيروي عن أبي عبد الله انه قال: (إن الله أوحى إلى الكعبة لولا تربة كربلاء ما فضلتك، ولولا من تضمنه أرض كربلاء ما خلقتك ولا خلقت البيت الذي به افتخرت فقرّي واستقري وكوني ذَنَبا متواضعاً ذليلاً مهينا غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء وإلا سخت بك وهويت بك في نار جهنم)(1).
هل رأيت أحداً من الرافضة كفّر الكليني أو المجلسي أو طعن فيه أو تبرأ منه على هذا السخف وهذه الزندقة؟!
غاية ما يمكن ان يقولوه: ليس كل ما في (الكافي) للكليني أو (البحار) للمجلسي صحيح.وهو دفاع عنهم واستماتة في التمسك بهم رغم كفرهم وزندقتهم!
إن هذه الروايات الكفرية الموجودة في كتاب الكافي قال عنها الكليني في (مقدمته) لها أنها صحيحة. لأنه اشترط على نفسه أنهُ لا يروي إلا ما صح عنده. فهو يعتقد بكل ما يروي.
ثم هل هذا الذي يرويه مما يستسيغ مؤمن روايته حتى ولو على سبيل احتمالية صحته؟! لماذا يرويه لولا أنَّهُ يحتمل صحته؟ وهذا على الأقل ومن باب الجدل وإلا فإنه صرح بأنه صحيح عنده.
هل نبه مثلاً - كما يفعل محدثو أهل السنة- على وضعه وكذبه؟ بمعنى أنه رواه ليحذر منه. لماذا رواه إذن وبالسند هل تستحق هذه السخافات والنجاسات سنداً لفحصها؟ أم أنه وضع هذه الأسانيد ليوهم الجهّال بإمكانية الاعتماد عليها؟!
ومثله المجلسي صاحب اللسان السليط الذي كتب فصولاً كاملة بعشرات الصفحات في كفر أبي بكر وعمر ومئات الصفحات في كفر الصحابة ويعلن بذلك صراحة وينص عليه حرفياً(2)!
وإلى من يتصور مع كل هذا أن هذه العقائد الكفرية قديمة لم يعد لها وجود عند المعاصرين أنقل بعض الفتاوى المعاصرة مع التأكيد على حقيقةٍ من لم يعرفها فهو جاهل بحقيقة التشيع الفارسي تلك هي أن متأخري الرافضة شر من أوائلهم. وأن الرفض يتطور إلى الوراء كلما تقدم به الزمن وليس العكس :
__________
(1) بحار الأنوار 101/107.
(2) بحار الأنوار ج30.(158/10)
سئل محمد صادق الصدر: لماذا الإمام علي - عليه السلام - أفضل من الكعبة؟
فأجاب: أوضح الأمثلة الموضحة لذلك: وردت رواية بتفضيل كربلاء على البيت الحرام. ونحن نعلم أن علي- عليه السلام - خير من الحسين- عليه السلام - كما نطقت به الروايات أيضاً فيكون قبره خيراً من قبره فيكون أفضل من الكعبة أيضاً(1).وفي أول يوم جمعة قام بأدائها صرح بعد الصلاة وهو يرد على بعض الأسئلة الموجهة إليه بأن مسجد أمير المؤمنين وبيته أفضل من بيت الله والكلام مسجل على الشريط الخاص بتلك الجمعة.
أما الخوئي -أكبر مرجع للرافضة في زمانه وقد هلك في بداية التسعينات من القرن الماضي أي قبل حوالي عشر سنوات- فيفتي قائلاً:
(مسألة 561) الصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - تعادل عشرة آلاف صلاة
(مسألة 562) الصلاة عند علي- عليه السلام - بمئتي ألف صلاة
ويقول: إن الصلاة في مشاهد الأئمة عليهم السلام أفضل من المساجد(2)
وبعملية حسابية بسيطة : { 200000 (الصلاة عند علي ) ÷ 10000 (الصلاة في مسجد النبي ) =20 } أي أن الصلاة عند علي أفضل من الصلاة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرين مرة!
__________
(1) كراسة المسائل الدينية وأجوبتها الجزء الثاني- المسألة(9) ص5. ومن هنا لُقِّبَ النجف بـ(الأشرف). أي أشرف من كل البقاع حتى مكة!
(2) منهاج الصالحين 1/147.(158/11)
ولا أدري هل يريد الخوئي أن يقول : إن علياً أفضل من النبي عشرين مرة! { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ(118) } آل عمران . والذي يقول هذا الكلام لا ينطوي صدره إلا على اعتقاد أن محمدا ً- صلى الله عليه وسلم - لا شيء، ولكنه لا يستطيع التصريح به علانية خشية أن يفتضح أمره وينهتك ستره حتى لدى الحمقى من تلك القطعان الهائمة وراءه، فيضطر إلى الروغان وراء علي وادّعاء حبه. وإلا فإن ما يخفي صدره لا يخفى إلا على حمار أو مستحمر.
وأخيراً أسأل سؤالاً : هل أهان العرب في جاهليتهم كعبتهم هذه الإهانة؟!
أم أن (للعجم) دينهم وكعابهم التي لا علاقة لها بديننا وكعبتنا نحن العرب ..نحن المسلمين!
الفساد والتحلل الخلقي:
عذراً للقارئ وأنا أحمله على أن يتجشم عناء قراءة هذه السخافات، والبحث في هذه النجاسات، ولكني مضطر والمضطر له حكمه ورخصته. على أني أحاول أن أمر به سريعاً بين هذه القاذورات بشرط أن يضع منديله على أنفه ويشمر ثيابه وإلا فإن ما تحت الكعبين في النار:
يروي الكليني عن أبي عبد الله أنه قال: أكل الجزر يسخن الكليتين ويقيم الذكر. وعن أبي الحسن بلفظ: ينصب الذكر(1).
وعن أبي الحسن قال : العورة عورتان: القبل والدبر فأما الدبر فمستورٌ بالإليتين فإذا سترت القضيب والبيضتين فقد سترت العورة - وفي رواية- أما الدبر فقد سترته الإليتان وأما القبل فاستره بيدك(2).
__________
(1) فروع الكافي 6/372.
(2) م.ن 6/501.(158/12)
وعن أبي عبد الله قال : النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل نظرك إلى عورة حمار(1) وفيه تجويز النظر إلى عورة الكافرة بالنسبة للرجل وعورة الكافر بالنسبة للمرأة! لأن لفظ (من ليس بمسلم) ينصرف إلى الذكر والأنثى. فتكون الأفلام الجنسية جائزة من باب أولى وأدهى! وصدق الله القائل: { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً } (27) النساء.
أما السيستاني فيذهب إلى أكثر من ذلك! إنه يقول: يجوز النظر إلى أجساد السافرات المتبذلات بشرط عدم التلذذ الشهوي، ولا فرق في ذلك بين نساء الكفار وغيرهن، كما لا فرق بين الوجه والكفين وبين سائر ما جرت عادتهن على عدم ستره من أعضاء البدن(2)
أما قلت لكم : إن القوم يتطورون باستمرار!
عن علي بن سويد قال : قلت لأبي الحسن - عليه السلام - : أني مبتلى بالنظر إلى المرأة الجميلة فيعجبني النظر إليها؟ فقال لي: يا علي لا بأس إذا عرف الله من نيتك الصدق(3).
عن أبي جعفر قال: المرأة التي ملكت نفسها غير السفيهة ولا المولى عليها إن تزويجها بغير ولي جائز(4).
عن ميسر، قال: قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: ألقى المرأة بالفلاة التي ليس فيها أحد فأقول لها: لك زوج؟ فتقول: لا أفأتزوجها؟ قال: نعم هي المصدقة على نفسها(4).
هذه هي منزلة المرأة عند القوم لعبة لا أكثر! وكذلك الزواج! بل جاء ذلك صراحة كما في الرواية الآتية:
عن أبي عبد أنه قال: لا بأس أن ينام الرجل بين الأمتين والحرتين إنما نساؤكم بمنزلة اللعب(5).
عن أبي عبد الله أنه قال وقد سئل عن إتيان المرأة في دبرها: هي لعبتك لا تؤذها(6).
__________
(1) م.ن 6/501.
(2) المسائل المنتخبة ص348 مسألة(1020) دار المؤرخ العربي ط9-1416هـ-1996م وبمثله أفتى الخوئي في مسائله المنتخبة مسالة (1020) أيضاً ص 306 ط 15-1412هـ-1991م.
(3) فروع الكافي5/542.
(4) م. ن 5/391.
(5) م.ن 5/560
(6) م.ن 5/540(158/13)
أما شيخ الطائفة (الناعية) أبو جعفر الطوسي فيروي:
عن أبي يعقوب قال: سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن الرجل يأتي المرأة في دبرها؟ قال لا بأس إذا رضيت(1).
عن أبي الحسن الرضا وقد سئل عن إتيان الرجل المرأة من خلفها في دبرها؟ فقال: أحلتها آية من كتاب الله تعالى قول لوط - عليه السلام -: { هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } وقد علم أنهم لا يريدون إلا الدبر(2).
ويعلق على روايتين وردتا بتحريم هذا الفعل قائلاً:الوجه في هذين الخبرين ضرب من الكراهية لأن الأفضل تجنب ذلك وإن لم يكن محظورا…ويحتمل أن يكون الخبران وردا مورد التقية(3).
مسألة (67) أما وطؤها في الدبر ففيه إشكال وإن كان الأظهر جوازه مطلقاً مع رضاها وأما مع عدمه فالأحوط تركه(4).
مسألة (157): هل يجوز جماع الزوجة من الدبر في حالة الاختيار وإذا كان مضطراً لمرض في زوجته يمنعه من مجامعتها قبُُلاً أفتونا مأجورين .الجواب: جاز مطلقاً إذا كان برضا الزوجة والله العالم(5) !
الوطء في دبر الخنثى موجب للجنابة على الأحوط لزوماً … ولو أدخلت الخنثى في الرجل أو الأنثى مع عدم الإنزال لا يجب الغسل على الواطئ ولا على الموطوء .
وإذا أدخل الرجل بالخنثى وتلك الخنثى بالأنثى وجب الغسل على الخنثى دون الرجل والأنثى(6). ولك جائزة ثمينة أو مكافأة مجزية إذا عرفت السبب!
عن أبي عبد الله أنه قال: إذا زوج الرجل عبده ثم اشتهاها قال له:اعتزلها فإذا طمثت وطئها ثم يردها إليه إذا شاء(7).
__________
(1) الاستبصار 3/242 طبعة طهران، 1390 هـ.
(2) المصدر نفسه.
(3) الاستبصار 3/242 طبعة طهران 1390 هـ.
(4) المسائل المنتخبة للسيستاني ص35.
(5) طريق النجاة أية الله العظمى الشيخ علي الغروي ص46/ 1417هـ.
(6) منهاج الصالحين للخوئي 1/47-48.
(7) فروع الكافي للكليني5/481.(158/14)
ويفتري الكليني (ثقة الإسلام كما تلقبه الرافضة) على الله تعالى وينسب هذا الافتراء إلى أبي جعفر أي محمد بن علي بن الحسين فيفسر قوله تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّساءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ (24) } بما يلي: هو أن يأمر الرجل عبده وتحته أمته فيقول له: اعتزل امرأتك ولا تقربها ثم يحبسها عنه حتى تحيض ثم يمسكها فإذا حاضت بعد مسه إياها ردها عليه بغير نكاح(1) أي بغير عقد شرعي.
هل تصدق أن هذه الحيوانية المقيتة هي عين ما يأمر الله به في كتابه!! ويجعله شرعاً لعباده!! تعالى الله عما يقولون علواً عظيماً!
مسألة (989): لا تحرم الزوجة على زوجها بزناها وإن كانت مصرة على ذلك.
والأولى مع عدم التوبة أن يطلقها الزوج(2)(!!)
هل هذه الديانة أو الدياثة يمكن أن يقبلها عربي غيور أو مسلم يقرأ قوله تعالى: { وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ(3) } النور؟! ماذا يريد هؤلاء من ديننا ومجتمعنا وأخلاقنا!!ترى! بماذا يمكن أن نسمي دعاة الدياثة في لغة العرب؟!
الجماع في قُبل المرأة ودبرها يوجب الجنابة للرجل والمرأة.ولا يترك الاحتياط في وطء غير المرأة في الواطئ والموطوء(3) و(غير المرأة) ليس غير الرجل!!
ومما تتحقق به الجنابة الجماع. ويتحقق بدخول الحشفة في القبل أو الدبر من المرأة.
وأما في غيرها فالأحوط لزوما (وهنا أرجو من القارئ أن يتمهل ويقرأ فأمامه إشارة حمراء! ) الجمع بين الغسل والوضوء للواطئ والموطوء فيما إذا (تمهل أكثر!!) كانا محدثين بالحدث الأصغر. وإلا يكتفي بالغسل فقط(4)(!!!)
__________
(1) م.ن 5 /481.
(2) المسائل المنتخبة، السيستاني ص340.
(3) المسائل المنتخبة، للخوئي ص14-15 ط2 النجف 1399 هـ –1979م.
(4) منهاج الصالحين (أكرر: الصالحين) 1/47 مسألة (172).(158/15)
هل تصورت الأمر على حقيقته؟! صورة اللائط والملوط بِهِ! إنهما متوضئان!! لماذا؟! هل اللواطة عمل عبادي مقدس! أم ماذا؟! وبما أنهما متوضئان فيكتفي بعد اللواط بالغسل فقط! إذ لا حاجة للوضوء فإن اللواطة لا تفسده ولماذا تفسده؟!
لكن- والله أعلم! والخطأ في الاجتهاد معذور ومأجور!- إذا كانا محدثين الحدث الأصغر أي لم يكونا قد توضآ فعليهما أن يجمعا -أي بعد أن يتجامعا- بين الوضوء والغسل من باب الاحتياط وإبراء الذمة!
أما محمد الصدر فيجيز نكاح البهيمة قبلاً ودبراً دون أن يؤثر ذلك في صحة صومه بشرط عدم الإنزال! ويؤكد على أنه لا ضرر إذا كان الإدخال كاملاً.أما إذا أدخل الصائم ذكره في دبر رجل فصومه صحيح ما دامت الحشفة لم تدخل فيه بتمامها، وبشرط عدم الإنزال. وإلا فإن الفعل حلال زلال!! وهذا نص كلامه:
التصرف الأول: أن يدخل الرجل (ذكره) في (قبل أو دبر البهيمة).
وهنا يمكن تصحيح الصوم بالرغم من ذلك التصرف وإن كان الأفضل والمحبذ شرعاً هو البناء على عدم صحة الصوم. هذا إذا لم يسبب الإنزال. أما إذا سببه فسيبطل الصوم من جهة الإنزال.
التصرف الثاني: أن يدخل الرجل (ذكره) في (دبر ذكر آخر).
وهنا إذا دخلت الحشفة بتمامها بطل الصوم. أما إذا لم تدخل بتمامها فلا يبطل الصوم ما لم يسبب الإنزال فيبطل الصوم حينئذ من جهة الإنزال.
التصرف الثالث: أن يدخل الرجل (ذكره) في (قبل أو دبر الصبية غير البالغة).
وهنا كما في التصرف الثاني.
التصرف الرابع:أن يدخل الرجل (ذكره) في (غير القبل أو الدبر من المرأة أو الصبية أو الرجل أو الصبي أو البهيمة).
وهذا لا يكون مؤثراً على صحة الصوم ما لم يسبب الإنزال فيبطل الصوم حينئذ من جهة الإنزال.
التصرف السابع:أن تدخل (المرأة) (غير ذكر الرجل أو الصبي) في (قبلها أو دبرها) سواء كان الشيء الذي تدخله من سائر أعضاء جسد الرجل أو الصبي أو جسدها أم كان نوعاً آخر.(158/16)
وهذا لا يؤثر على صحة الصوم. (1)
ويمكن استغلال الفتوى والاستفادة منه للصائمين المصابين بالكآبة، أو لمن عنده مشكلة أو مصيبة وهموم ويحتاج إلى تسلية، بأن يؤجل هذه الممارسة أو الفعالية إلى قبيل مغيب الشمس ويحافظ على أعصابه ورباطة جأشه حتى إذا غابت الشمس وأذن المؤذن فإن شاء أنزل وإن شاء نزل هو حر وصيامه صحيح والعهدة على (المرجع الأعلى للمسلمين دام ظله أو (قده) )!
مسألة (992): إذا تزوج امرأة ثم لاط بأبيها أو أخيها أو ابنها لم تحرم عليه(2)
وللخميني في هذا المحفل الشيطاني نصيب. أنه يجيز التمتع حتى بالرضيعة! هل تصدق؟! اقرأ ماذا خطت يده القذرة: لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين دواماً كان النكاح أو منقطعاً. وأما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والضم والتفخيذ فلا بأس بها حتى في الرضيعة(3)(!)
ويخفف الخوئي وغيره من الفقهاء كعبد الأعلى السبزواري من وقع العبارة فيستعملون لفظ (الصغيرة) بدل (الرضيعة) مع الوصول إلى المعنى نفسه أو النتيجة نفسها إذ أن لفظ (الصغيرة) لغة يشمل (الرضيعة) فما فوق ما لم تدرك البلوغ.
مسألة (71) : يجوز التمتع بالصغيرة وإن كانت المدة قليلة لإمكان الاستمتاع بها بغير الوطء وإنما لا يجوز الدخول بها قبل بلوغها(4).
__________
(1) منية الصائمين ص 97، 98- محمد محمد صادق الصدر - الطبعة الأولى 1419هـ-1998م.
(2) المسائل المنتخبة، الخوئي ص300 وكذلك السيستاني.
(3) تحرير الوسيلة2/ 241 للخُبيثي.
(4) جامع الأحكام الشرعية/ المرجع الديني الأعلى في زمانه عبد الأعلى السبزواري ص468 مطبعة الآداب- النجف.(158/17)
ولك- بعد- أن تطلق لخيالك الخصب العنان طويلاً لتتصور مستقبل أخلاق طفلة صغيرة تتفرج على أعضاء الرجال التناسلية وتلحظ حركاتهم الجنسية وهم يقلبونها ظهراً لبطن وبطنا لظهر ويفعلون معها كل شيء إلا الجماع من القُبل! ثم يتركها الواحد منهم ليأتي الآخر ويفعل معها كما فعل السابق! هل تفهم الطفلة الفرق بين نكاح دائم ومنقطع وزنا؟!
هل يرضى إنسان كريم أو عنده ذرة من الكرامة والعفة مثل ذلك لابنته الصغيرة أو أخته أو قريبته أو أطفال العالمين أجمعين؟!
ما هو شعورك وأنت تتخيل وقوع ذلك لابنتك البريئة التي في عمر الزهور؟ مجرد تخيل! إن فقيها يجيز مثل هذا ما هو إلا شيطان رجيم في ثياب بشر! ولكن.. علام العجب؟ أليست هذه هي أخلاق مزدك وإباحية المجوس! ومن يشابه أَبَهُ فما ظلم.
مسألة (289) هل يجوز التمتع بالفتاة الأوربية الغربية من دون إذن وليها؟
الجواب: إذا فرضنا أن الولي أرخى عنان البنت وأوكلها إلى نفسها في شؤونها فلا تحتاج إلى الاستئذان حتى في المسلمة(1)(!)
هل رأيت! السائل يسأل عن حكم المسألة في أوربا أو مع الأوربيات والفقيه (يقوده) لينقل هذا الإباحية الأوربية إلى مجتمعاتنا الشرقية ومع المسلمات!
هل يجوز التمتع بالفتاة البكر المسلمة من دون إذن وليها إذا خافت على نفسها الوقوع في الحرام؟
الجواب: نعم لو منع وليها من التزويج بالكفو مع رغبتها إليه وكان المنع على خلاف مصلحتها سقط اعتبار إذنه. ويجوز إذا كان العقد المنقطع بشرط عدم الدخول لا قبلاً ولا دبراً(3). والسؤال الذي يفرض نفسه: وإذا اشترط الناكح الدخول دبراً هل يجب استئذان وليها المحترم؟ كيف يكون الاشتراط؟ وماذا يقول له؟!
__________
(1) مسائل وردود محمد صادق الصدر ص55 ط1- 1416هـ/1995.
(3 ) م.ن. ص55.(158/18)
ترى! لو وجد رجل ابنته أو أخته البكر بين أحضان رجل دون علمه، ماذا سيفعل؟ هل ينكس رأسه؟ أم يغمض عينيه؟ أم يرجع ليسألهما من وراء حجاب: أتزنيان- استغفر الله – أم تتمتعان على بركة الله؟! وماذا تتوقع أن يأتي الجواب إن شاء الله؟!كيف نفرق بين الزنا وهذه الحالة؟! وإذا حملت المرأة وأنكر الرجل علاقته بها ما هو الحل؟ أعند الطبيب العدلي؟! أبهذا جاء دين محمد؟!
صدقوني أن لهذه الفتاوى المتحللة تطبيقات يشيب لها الرأس! ما المانع في الزيارات العائلية بين الأقارب والأصدقاء أن يتفق أي شاب مع أية شابة من عائلة الزائر أو المزور ليختليا في مكان قصي ثم يفعلا ما يريدان من الضم والتقبيل والتكشف والترشف ولا بأس بالتعسف أو الذهاب أكثر من ذلك ما دام الإيلاج غير حاصل! والوالد المحترم في تلك اللحظات الثمينة جالس في صالة الضيوف (معززاً) (مكرماً) يتجاذب مع مضيفيه أطراف الحديث و(يترشف) الشاي بأمان وهدوء!
هذا إذا كانت المرأة بكراً. أما إذا كانت المسكينة (مظلومة) و(مضطهدة) و(وليها لا يزوجها من الكفء)، أو كانت ثيباً كأن تكون أم الزائر أو أخته الأرملة أو ابنته المطلقة فإنها فرصة العمر! إذ يمسي كل شيء جائزاً، وتمارس العملية الجنسية بالكامل ويتم الإيلاج قبلا- إن شئت أو دبراً. نعم يجوز ذلك كما يقول المرجع. والقاعدة الفقهية الشعبية تقول: (ضعها في رقبة عالم واخرج منها سالم)!
ثقوا ان فتوى (السيد) تذهب إلى أبعد من ذلك! إنها تعلم الفتاة أن تقول لأبيها أو ابنها أو أخيها لو اكتشف أمرها أو فتح الباب فوجدها أو رآها بين أحضان صاحبها: ارجع يا عديم الذوق! شيئاً من الحياء يا سيء الأدب!
مسألة (290) هل يجوز التمتع بالفتاة البكر الرشيدة التي توفي والدها وبقيت أمها وقد بلغت سن رشدها من دون إذن أحد؟(158/19)
الجواب: لا مانع من ذلك، إذا لم يكن لها جد من طرف الأب وإلا فالأحوط استحباباً الاستئذان منه(1). وهنا يحق لنا أن نسأل: لو وجدت هذه الأرملة المسكينة يوماً ما رجالاً غرباء في بيتها ورأتهم يمارسون الجنس مع بناتها وعلى فراشها! ماذا ستفعل؟ وما هو شعورها إذا قلن لها- أو قالوا-: إنهم يمارسون (المتعة)؟! والسؤال يطرح نفسه لو أنها لملمت حالها وذهبت إلى (السيد) فكان جوابه: بسمه تعالى يجوز ذلك؟!!
هل تصدقون أن هذه الفتاوى تُعلِّم الفتاة البكر كيف تمارس الجنس من دبرها (صوناً) لقبلها لتخدع فارس أحلامها الآتي من المجهول أنها مهر لم يسبق له الترويض في الطرق الوعرة.
لا تتصوروا أن ما نقلته هو أسوأ أو كل ما موجود! هل ذهبت إلى طبيب الباطنية وقال لك تحتاج إلى فحص لـ (الخروج)؟ في المختبر يأخذ المختبري عوداً خشبياً فيدخله فيه ثم يخرجه ليفرشه على زجاجة ثم يفحصه تحت المجهر. هذا كل ما فعلته أنا، مع لبس القفازات والأكمام.
ومع كل هذه الإباحية فإن الذنوب مغفورة ما دام فاعلها أمامياً يؤمن بولاية (الأئمة)! يروي الكليني كاذباً هذه الروايات عن هؤلاء (الأئمة):
- إن الله تعهد للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أن لا يغادر لشيعة علي (ع) صغيرةً ولا كبيرة. ولهم تبدل السيئات حسنات(2).
- إن الله يستحيي من تعذيب أمة دانت بولاية إمام عادل وإن كانت ظالمة سيئة(3).
- إن سيئة الشيعي خير من حسنة غيره(4).
- ما من مؤمن يقارف في يوميه وليلته أربعين كبيرة (هل تحتاج إلى أن أعيد لك العدد! أربعين!!) فيقول وهو نادم: (استغفر الله الذي لا اله إلا هو الحي القيوم بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام وأسأله أن يصلي على محمد وأن يتوب علي) إلا غفرها الله عز وجل. ولا خير فيمن يقارف في يوم أكثر من أربعين كبيرة(5).
__________
(1) م.ن. ص55.
(2) أصول الكافي1/444.
(3) م.ن 1/376.
(4) م. ن 2/464.
(5) م. ن 2/438-439.(158/20)
تكفير أهل السنة واستحلال دمائهم وأموالهم:
وأولهم الصحابة والخلفاء الراشدون وأمراء المؤمنين على اعتبار أنهم غصبوا علياً الخلافة وأنكروا الإمامة وهي كالنبوة(1) وأحد أصول الإيمان الخمسة عند الرافضة(2).
يروي الكليني بسنده التالف عن أبي جعفر أنه قال: ارتد الناس إلا ثلاثة نفر: سلمان وأبو ذر والمقداد ثم أناب الناس بعد. كان أول من أناب أبو ساسان وعمار وأبو عروة وشتيرة وكانوا سبعة. فلم يعرف حق أمير المؤمنين إلا هؤلاء السبعة(3).
وعن أبي الحسن أنه قال: نحن والله وشيعتنا ليس على ملة إبراهيم غيرنا وسائر الناس منها براء(4).
وعن أبي عبد الله انه قال: كان أمير المؤمنين (ع) إماماً ثم كان الحسن(ع) إماماً (….الخ) من أنكر ذلك كان كمن أنكر معرفة الله تبارك وتعالى ومعرفة رسوله- صلى الله عليه وسلم - (5).
وعنه أيضاً لا يسع الناس إلا معرفتنا ولا يعذر الناس بجهالتنا من عرفنا كان مؤمناً ومن أنكرنا كان كافراً(6).
وصرح ابن المطهر الحلي قائلاً:الإمامة لطف عام والنبوة لطف خاص وإنكار اللطف العام شر من إنكار اللطف الخاص (7).
ومن المتأخرين أو المعاصرين (آية الله العظمى) كاظم الحائري يقول: أن مقام الإمام فوق المقامات الأخرى -ما عدا مقام الربوبية قطعاً- التي يمكن أن يصل إليها الإنسان(8).
ولا شك أن منكر النبوة عموماً أو منكر نبوة محمد- صلى الله عليه وسلم - خصوصاً كافر كفراً صريحاً فإنكار (الإمامة) عند علماء الرافضة شر من إنكار النبوة أي أن منكرها كافر من باب أولى.
__________
(1) عقائد الإمامية الاثني عشرية ص75، للزنجاني والكتاب ممهور بتوثيق حبر الطائفة الخوئي.
(2) م. ن ص72.
(3) أصول الكافي 2/244.
(4) م.ن 1/435.
(5) م.ن1/181.
(6) م.ن1/187.
(7) الألفين ص3.
(8) الإمامة وقيادة المجتمع ص26.(158/21)
فما يردده البعض منهم من أن (الإمامة) من أصول المذهب وليس من أصول الدين موضوع للاستهلاك المحلي والدعاية واصطياد المغفلين وهو خارج من مخرج (التقية) لا أكثر.
ولهذا فإن السني عندهم مباح دمه وماله يغتالونه أو يقتلونه ويسرقون ماله متى ما وجدوا فرصة أو سبيلاً. وهو نجس نجاسة أشد من نجاسة المشرك كما يروي الكليني عن أبي عبد الله وقد سئل:
ألقى الذمي ويصافحني؟ قال: امسحها بالتراب وبالحائط قلت: فالناصب؟ قال: أغسلها.(1) ولذلك فإن كثيراً من الرافضة يغسلون الإناء أو يكسرونه إذا أكل فيه سني!
وهم لا يجيزون الصلاة خلفنا إلا حال التقية ولهم معابدهم الخاصة بهم. ولا يجيزون عقود زواجنا أو إنكاحنا نساءهم. سئل محمد صادق الصدر.
(مسألة 254): هل يجري على الناصبي من أحكام الزواج ما يجري على الكافر من بطلان العقد ابتداء وانفصال زوجته عنه ولو طرء النصب بعد العقد؟
الجواب: نعم يجري عليه حكم الكافر كاملاً(2).
أما الخوئي فيجيز الاستيلاء على مال السني بأي وسيلة فيقول: يجوز أخذ مال الناصب أينما وجد والأحوط وجوباً وجوب الخمس فيه من باب الغنيمة(3).
والناصب كلمة مخففة للتعبير عن السني أي الذي يحب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وإن احب علياً - رضي الله عنه - معهما(4).
ويقول الخوئي أيضاً: [حرمة الغيبة مشروطة بالإيمان. قوله: (ثم إن ظاهر الأخبار اختصاص حرمة الغيبة بالمؤمن). أقول: المراد من المؤمن هنا من آمن بالله وبرسوله وبالمعاد وبالأئمة الاثني عشر (ع) أولهم علي بن أبي طالب (ع) وآخرهم القائم الحجة المنتظر. ومن أنكر واحداً منهم جازت غيبته لوجوه:
__________
(1) أصول الكافي2/650.
(2) مسائل وردود ص63 الطبعة الثانية 1417هـ 1997م.
(3) منهاج الصالحين 1/ص 325.
(4) الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب ص99 الشيخ يوسف البحراني وسيأتي لاحقا زيادة بيان طبعة قم- 1419هـ.(158/22)
الوجه الأول: أنَّهُ ثبت في الروايات والأدعية والزيارات جواز لعن المخالفين، ووجوب البراءة منهم، وإكثار السب عليهم، واتهامهم، والوقيعة فيهم أي غيبتهم لأنهم من أهل البدع والريب،بل لا شبهة في كفرهم. لأن إنكار الولاية والأئمة حتى الواحد منهم والاعتقاد بخلافة غيرهم يوجب الكفر والزندقة، وتدل عليه الأخبار المتواترة الظاهرة في كفر منكر الولاية، وكفر المعتقد بالعقائد المذكورة، وما يشبهها من الضلالات.
ويدل عليه أيضاً قوله (ع) في الزيارة الجامعة: (ومن جحدكم كافرٌ)، وقوله (ع) فيها أيضاً: (ومن وحَّده قَبِلَ عنكم) فإنه ينتج بعكس النقيض أن من لم يقبل عنكم لم يوحده بل هو مشرك بالله العظيم.
وفي بعض الأحاديث الواردة في عدم وجوب قضاء الصلاة على المستبصر(1): (إن الحال التي كنت عليها أعظم من ترك ما تركت من الصلاة).
وفي جملة من الروايات: الناصب لنا أهل البيت شر من اليهود والنصارى، وأهون من الكلب، وأنه تعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، وأن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه. ومن البديهي أن جواز غيبتهم أهون من الأمور المذكورة…
الوجه الثاني: أن المخالفين بأجمعهم متجاهرون بالفسق لبطلان عملهم رأساً كما في الروايات المتضافرة. بل التزموا بما هو أعظم من الفسق كما عرفت وسيجيء أن المتجاهر بالفسق تجوز غيبته.
الوجه الثالث: أن المستفاد من الآية والروايات هو تحريم غيبة الأخ المؤمن. ومن البديهي أنَّهُ لا أخوَّة ولا عصمة بيننا وبين المخالفين…
__________
(1) أي الذي تحول من مذهب أهل السنة والجماعة إلى طائفة الرفض.(158/23)
الوجه الرابع: قيام السيرة المستمرة بين عوام الشيعة وعلمائهم على غيبة المخالفين، بل سبهم ولعنهم في جميع الأعصار والأمصار، بل في (الجواهر)(1) أن جواز ذلك من الضروريات].(2)
وأما استحلال الدم فتفيض بها المصادر المعتمدة. يقول رافضي لعين هو الشيخ يوسف البحراني تحت عنوان: حل دم الناصب وماله: أعلم أنه قد استفاضت الأخبار عنهم -سلام الله عليهم- بحل دماء أولئك المخالفين وحل أموالهم..فروى الشيخ (أي الطوسي) في الصحيح عن حفص بن البختري عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: خذ مال الناصب حيثما وجدته وادفع إلينا الخمس/تهذيب الأحكام4: 122.. وروى الصدوق في كتاب العلل الصحيح عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله (ع): ما تقول في قتل الناصب؟ قال: حلال الدم(3).
ومن تطبيقات هذه الفتاوي الحرب التي أشعلها الخميني ضدنا ثماني سنوات. ومنها عمليات الاغتيال والتفجيرات وسرقة الممتلكات العامة والمساجد وغيرها. ومنها اضطهاد أهل السنة في إيران واغتيال علمائهم وشخصياتهم المهمة وصب البانزين عليهم في الشوارع وإحراقهم وهو ما استفاضت بِهِ الأخبار وتناقلته الكتب والصحف والنشرات(4).
__________
(1) المقصود بـ (الجواهر) هو كتاب (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) تأليف الشيخ محمد حسن النجفي، المتوفى سنة 1242هـ ، الذي يلقبونه بـ (شيخ الفقهاء وإمام المحققين). ويسمون كتابه هذا بـ (مفخرة الشيعة). وقوله (من الضروريات) أي أن لعن اهل السنة وسبهم من ضروريات مذهب هؤلاء الملاعين!
(2) مصباح الفقاهة، 1/323-324، ط3 - 1371، مطبعة الغدير.
(3) الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب، ص 257، الشيخ يوسف البحراني.
(4) أنظر مثلاً: صحيفة (أيقاظ) التي تصدرها رابطة أهل السنة في إيران – مكتب لندن. وكتاب (وجاء دور المجوس) تأليف عبد الله الغريب- الجزء الثالث الخاص بأحوال أهل السنة في إيران.(158/24)
والحقيقة أن الاغتيال السياسي هو ديدن الفرس ودينهم منذ أن اغتالوا عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وقتلوا عثمان بن عفان وحاولوا اغتيال معاوية بن أبي سفيان والحسن بن علي وعمرو بن العاص وإلى اليوم.(158/25)
الفصل الثالث
الخطة السرية لآيات الشيعة في إيران
لتشييع المنطقة فارسياً خلال خمسين سنة
أو بروتوكولات حكماء (تهرون)
بين يديّ الرسالة التي نشرتها رابطة أهل السنة في إيران -مكتب لندن- وهي عبارة عن خطة سرية للغاية موجهة من شورى الثورة الثقافية الإيرانية إلى المحافظين في الولايات الإيرانية لتطبيقها في المناطق السنية في إيران ودول الجوار من أجل تشييعها، بعد أن اصطدمت تلك (الثورة البائسة) بجبل الصمود العراقي أثناء الحرب التي أوقدتها إيران وعملت على إبقائها مستعرة ثمان سنين. فنشأ الاتجاه الأقل تطرفاً والداعي إلى الحوار والتهدئة مع المحافظة على الأهداف نفسها سوى أن الهدوء والمكر الخفي يؤدي إلى تحقيق الأهداف والوصول إليها بطريقة اسهل كما يقول نص الخطة: (ان إسقاط ألف صديق أهون من إسقاط عدو واحد)(1).
وقبل أن أنقل مقتطفات من هذه الخطة أقول لمن يدفن رأسه في الرمال ذاهلاً عن واقعه ومشاكل بلده كأنه ليس منه ولا فيه ويقول: إن هذه الرسالة من وضع جهات لها أغراض من وراء وضعِها. أقول: لو كنت تعيش الواقع أو نظرت إليه نظرة واحدة متفحصة لعلمت وأدركت أن هناك خطة مدبرة تنفذ بإحكام من قبل إيران وأذرعها الأخطبوطية وما نراه ونلمسه خير دليل وشاهد. ولعلمت أيضاً أن المراحل الخمس للخطة قد قطعت منها في العراق إلى الآن - على الأقل- مرحلتان. وما هذه الرسالة أو الخطة المكتوبة إلا ترجمة حرفية لما يجري على الواقع ويتوقع مستقبلاً تماماً على الذي وقع.
إن العراقي الأصيل والصميم لا يحتاج إلى قراءة خطة مكتوبة ليحس بما يخطط له ويدبر في الخفاء. إن كونه عراقياً يعيش في أرض العراق يكفي. فكيف إذا صار يقرأ المؤامرات مرسومة ومكتوبة ثم هو يكذِّب سمعه وبصره! أفقد عقله! أم هو مشغول (بقضايا الأمة الكبرى!).
__________
(1) ص15.(159/1)
حين تقرأ الخطة يتأكد لك أن واضعيها أشبه بـ(حكماء صهيون) وأن الخطة أشبه ببروتوكولاتهم. وأن الرافضة كاليهود لا يؤمنون بالتعايش السلمي بين الأديان والمذاهب والطوائف، ولا يعرفون لغة الحوار الشريف وانهم لا يؤمنون بخيار ثالث بين العدم والوجود فإما أنت أو هم أو صراع مستمر حتى نهاية الشوط.
تبدأ الرسالة أو الخطة هكذا: (إذا لم نكن قادرين على تصدير ثورتنا إلى البلاد الإسلامية المجاورة فلا شك أن ثقافة تلك البلاد الممزوجة بثقافة الغرب سوف تهاجمنا وتنتصر علينا)(1) ثم تكمل الرسالة:
(إننا خلال ثلاث جلسات وبآراء شبه إجماعية من المشاركين وأعضاء واللجان وضعنا خطة خمسية تشمل خمس مراحل، ومدة كل مرحلة عشر سنوات لنقوم بتصدير الثورة الإسلامية إلى جميع الدول المجاورة ونوحد الإسلام أولاً، لأن الخطر الذي يواجهنا من الحكام الوهابيين وذوي الأصول السنية أكبر بكثير من الخطر الذي يواجهنا من الشرق والغرب)(2)
(بناء على هذا: يجب علينا أن نزيد نفوذنا في المناطق السنية داخل إيران وبخاصة المدن الحدودية ونزيد من عدد مساجدنا و(الحسينيات) ونقيم الاحتفالات المذهبية أكثر من ذي قبل وبجدية أكثر. ويجب أن نهيئ الجو في المدن التي يسكنها 90 إلى 100% من السنة حتى يتم ترحيل أعداد كبيرة من الشيعة من المدن والقرى الداخلية إليها ويقيمون فيها إلى الأبد للسكنى والعمل والتجارة. ويجب على الدولة والدوائر الحكومية أن تجعل هؤلاء المستوطنين تحت حمايتها بشكل مباشر ليتم إخراج إدارات المدن والمراكز الثقافية والاجتماعية بمرور الزمن من يد المواطنين السابقين من السنة)(3).
ضرب أسس القوة:
(نحن نعلم أن تثبيت أركان كل دولة والحفاظ على كل أمة أو شعب ينبني على أسس ثلاثة:
الأول: القوة التي تملكها السلطة الحاكمة.
الثاني: العلم والمعرفة عند العلماء والباحثين.
الثالث: الاقتصاد المتمركز في أيدي أصحاب رؤوس الأموال)
__________
(1) ص6.
(2) ص7.
(3) ص10.(159/2)
ضرب الدولة بالعلماء وتدمير الاقتصاد:
(إذا استطعنا أن نزلزل تلك الحكومات بإيجاد الخلاف بين الحكام والعلماء(1) وتشتيت أصحاب رؤوس الأموال في تلك البلاد ونجذبها إلى بلادنا أو إلى بلاد أخرى في العالم نكون بلا ريب قد حققنا نجاحا باهرا وملفتاً للنظر لأننا أفقدناهم تلك الأركان الثلاثة.
وأما بقية الشعوب التي تشكل 70 إلى 80% من سكان كل بلد فهم أتباع القوة والحكم ومنهمكون في أمور معيشتهم وتحصيل رزقهم من الخبز والمأوى ولذا فهم يدافعون عمن يملك القوة.(2)(إن سيطرتنا على هذه الدول (3) تعني السيطرة على نصف العالم)(4)
أسلوب تنفيذ الخطة :
(يجب علينا بادئ ذي بدء أن نحسن علاقتنا مع دول الجوار ويجب أن يكون هناك احترام متبادل وعلاقة وثيقة وصداقة بيننا وبينهم حتى إننا سوف نحسن علاقتنا مع العراق بعد الحرب وسقوط صدام حسين. ذلك أن إسقاط ألف صديق أهون من إسقاط عدو واحد.
وفي حال وجود علاقات ثقافية وسياسية واقتصادية بيننا وبينهم فسوف يهاجر بلا ريب عدد من الإيرانيين إلى هذه الدول، ويمكننا من خلالهم إرسال عدد من العملاء كمهاجرين ظاهراً، ويكونون في الحقيقة من العاملين في النظام، وسوف تحدد وظائفهم حين الخدمة والإرسال)(5).
العداء الأبدي:
__________
(1) أول المقصود بالعلماء هنا علماء الدين السنة.
(2) ص10-11.
(3) أي تركيا والعراق وافغانستان وباكستان وإمارات الخليج-انظر ص12 من الرسالة.
(4) ص14.
(5) ص14-15.(159/3)
(لا يكفي لأداء هذا الواجب المذهبي التضحية بالحياة والخبز والغالي والنفيس، بل يتوجب أن يكون هناك برنامج مدروس. ويجب إيجاد مخططات ولو كانت لخمسمائة عام مقبل فضلاً عن خمسين سنة. فنحن ورثة ملايين الشهداء(1) الذين قتلوا بيد الشياطين المتأسلمين (السنة) وجرت دماؤهم منذ وفاة الرسول في مجرى التاريخ إلى يومنا هذا ولم تجف هذه الدماء ليعتقد كل من يسمى مسلماً بـ(علي وأهل بيت رسول الله) ويعترف بأخطاء أجداده ويعترف بالتشيع كوارث أصيل للإسلام) (2)
والعبارة السابقة تبدأ هكذا: (صحيح أننا لم نكن في تلك الأيام لكن أجدادنا قد كانوا، وحياتنا اليوم ثمرة لأفكارهم وآرائهم ومساعيهم وربما لن نكون نحن أنفسنا في المستقبل لكن ثورتنا ومذهبنا باقيان)(3)
مراحل تنفيذ الخطة:
- المرحلة الأولى:
(ليس لدينا مشكلة في ترويج المذهب في أفغانستان وباكستان وتركيا والعراق والبحرين، وسنجعل الخطة العشرية الثانية هي الأولى في هذه الدول الخمس وعلى ذلك فمن واجب مهاجرينا - العملاء – المكلفين في بقية الدول ثلاثة أشياء:
1. شراء الأراضي والبيوت والشقق وإيجاد العمل ومتطلبات الحياة وإمكانياتها لأبناء مذهبهم ليعيشوا في تلك البلاد ويزيدوا عدد السكان.
__________
(1) الشهداء أي الفرس المجوس الذين قتلهم الصحابة في سبيل نشر الإسلام وتحرير العراق وفتح فارس وتخليصه من استعبادهم! فإننا لا نعرف للفرس شهداء قتلوا بعد وفاة الرسول سوى هؤلاء. وعبارة (التشيع وارث أصيل للإسلام) لا معنى لها إلا القضاء على الإسلام وإحلال التشيع الفارسي محله. لأن الوارث لا يكون إلا بعد موت مورثه! وما (علي وأهل بيت الرسول) إلا غطاء مضمونه أهل بيت كسرى والنار.
إذن هي حرب عدم أو وجود لا تنتهي بين الفرس والعرب والمجوس والإسلام.
(2) ص 17.
(3) ص16-17.(159/4)
2. العلاقة والصداقة مع أصحاب رؤوس الأموال في السوق والموظفين الإداريين خصوصاً الرؤوس الكبار والمشاهير والأفراد الذين يتمتعون بنفوذ وافر في الدوائر الحكومية.
3. هناك في بعض الدول قرى متفرقة في طور البناء وهناك خطط لبناء عشرات القرى والنواحي والمدن الصغيرة الأخرى. فيجب أن يشتري هؤلاء المهاجرون العملاء الذين أرسلناهم أكبر عدد من البيوت في تلك القرى ويبيعوا ذلك بسعر مناسب للأفراد والأشخاص الذين باعوا ممتلكاتهم في مراكز المدن. وبهذه الخطة تكون المدن ذات الكثافة السكانية قد أخرجت من أيديهم.
-المرحلة الثانية:
وهي ذات شقين، يتلخص الشق الأول بحث الشيعة على الطاعة واحترام القانون من أجل الحصول على التراخيص الرسمية للاحتفالات المذهبية وبناء الحسينيات. وإيجاد الأعمال الحرة في الأماكن ذات الكثافة السكانية العالية وترغيب الشباب بالعمل في الوظائف الحكومية والانخراط خاصة في سلك الجندية والحصول على جنسية البلاد بشتى الوسائل(1) مثل استغلال الأصدقاء وتقديم الهدايا الثمينة.
__________
(1) قبل حوالي سنتين ألقي القبض على ضابط في دائرة الجنسية في بغداد يقوم بمنح الجنسية العراقية للمتسللين الإيرانيين من أجل تسكينهم في بغداد.(159/5)
والشق الثاني يتلخص في إثارة علماء الدين من أهل السنة والجماعة ضد الدولة بحجة الفساد الاجتماعي وتوزيع منشورات انتقادية باسم بعض السلطات الدينية والشخصيات المذهبية من البلاد الأخرى على غرار ما فعله عبد الله بن سبأ على عهد عثمان- رضي الله عنه - تقول الرسالة: (وستقع أعمال مريبة وستؤدي إلى إيقاف عدد من المسؤولين السابقين أو تبديلهم وهذه الأعمال ستكون سبباً في سوء ظن الحكام بجميع المتدينين في بلادهم وهم لذلك سوف لن يعملوا على نشر الدين وبناء المساجد والأماكن الدينية وسوف يعتبرون كل الخطابات الدينية والاحتفالات المذهبية أعمالاً مناهضة لنظامهم، وفضلاً عن هذا سينمو الحقد والنفرة بين العلماء والحكام في تلك البلاد وحتى أهل السنة والوهابية سيفقدون حماية مراكزهم الداخلية ولن يكون لهم حماية خارجية إطلاقاً).
- المرحلة الثالثة:
تتلخص في ترسيخ إقدامهم في كل المواقع الاجتماعية وفي الوقت الذي يكون الانشقاق فيه بين علماء أهل السنة والحكام على أشده يتوجب على بعض المشايخ الرافضة (المشهورين من أهل تلك البلاد أن يعلنوا ولاءهم ودفاعهم عن حكام هذه البلاد وخاصة في المواسم المذهبية ويبرزوا التشيع كمذهب لا خطر منه عليهم وإذا أمكنهم أن يعلنوا ذلك للناس عبر وسائل الإعلام فعليهم ألا يترددوا ليلفتوا نظر الحكام ويحوزوا على رضاهم فيقلدوهم الوظائف الحكومية دون خوف منهم أو وجل) جنباً إلى جنب مع ضرب الاقتصاد.
- المرحلة الرابعة:
يقول نص الخطة: (وفي المرحلة الرابعة سيكون قد تهيأ أمامنا دول بين علمائها وحكامها مشاحنات، وتجار فيها على وشك الإفلاس والفرار، والناس مضطربون ومستعدون لبيع ممتلكاتهم بنصف قيمتها ليتمكنوا من السفر إلى أماكن آمنة.(159/6)
وفي وسط هذه المعمعة فإن عملاءنا ومهاجرينا سيعتبرون وحدهم حماة السلطة والحكم، وإذا عمل هؤلاء العملاء بيقظة فسيمكنهم أن يتبوءوا كبرى الوظائف المدنية والعسكرية ويضيقوا المسافة بينهم وبين المؤسسات الحاكمة والحكام. ومن مواقع كهذه يمكننا بسهولة بالغة أن نشي بالمخلصين لدى الحكام على أنهم خونة وهذا سيؤدي إلى توقيفهم أو طردهم أو استبدالهم بعناصرنا ولهذا العمل ذاته ثمرتان إيجابيتان.
أولاً: إن عناصرنا سيكسبون ثقة الحكام أكثر من ذي قبل.
ثانياً: إن سخط أهل السنة على الحكم يزداد بسبب قدرة الشيعة في الدوائر الحكومية وسيقوم أهل السنة من جراء هذا بأعمال مناوئة أكثر ضد الحكم. وفي هذه الفترة يتوجب على أفرادنا أن يقفوا إلى جانب الحكام ويدعو الناس إلى الصلح والهدوء ويشتروا في الوقت نفسه بيوت الذين هم على وشك الفرار وأملاكهم)
- المرحلة الخامسة:
ونصها: (وفي العشرية الخامسة فإن الجو سيكون قد أصبح مهيأً للثورة لأننا أخذنا منهم العناصر الثلاثة التي اشتملت على: الأمن والهدوء والراحة. والهيئة الحاكمة ستبدو كسفينة وسط الطوفان مشرفة على الغرق تقبل كل اقتراح للنجاة بأرواحها .
وفي هذه الفترة سنقترح عبر شخصيات معتمدة ومشهورة تشكيل مجلس شعبي لتهدئة الأوضاع، وسنساعد الحكام في المراقبة على الدوائر وضبط البلد. ولا ريب أنهم سيقبلون ذلك، وسيحوز مرشحونا وبأكثرية مطلقة على معظم كراسي المجلس. وهذا الأمر سوف يسبب فرار التجار والعلماء حتى الخدمة المخلصين.(159/7)
وبذلك سوف نستطيع تصدير ثورتنا الإسلامية إلى بلاد كثيرة دون حرب أو إراقة للدماء(1).وعلى فرض أن هذه الخطة لم تثمر في المرحلة العشرية الأخيرة فإنه يمكننا أن نقيم ثورة شعبية ونسلب السلطة من الحكام)(2).
شيعة من هؤلاء ؟!:
(إن المعنيين عن كل الإساءات و الانحرافات التي ذكرنا -والتي يعرفها التأريخ القريب والبعيد - قد يكونون من شيعة ما، ويتشيعون -أي يوالون ويناصرون جهة ما- ولكنهم ليسوا من شيعة علي، ولا هم على مبادئ الحسين (رضي الله عنهما).
وإن الامتحان لا ينطوي - لكي يحقق النجاح- على الشكل، وإنما الأساس فيه تمثل مادته.
وإن البكاء قد يكون طريقاً للخديعة ،أو تعبيراً عن تقصير في النفس، وليس بالضرورة طريقاً للإيمان الصحيح.
وإن جانبا من الأشكال والشكليات، قد تنطوي عليه الضرورة للتسلل إلى حيث ينبغي توجيه الرمية القاتلة، وليس إلى حيث ينبغي إطلاق الخير في ميدانه، وتقييد الشر في عقاله.
وإن هذا ما ينبغي أن تنتبه إليه شعوب إيران، وما يجب أن ينتبه إليه العرب، وكل المسلمين، أشد انتباه.)(3)
هل نحن جادون؟!:
هذا هو التشيع الفارسي! وهذا هو الرفض!! وهذه هي الشعوبية!!!
فماذا اعددنا من عدة لمواجهة هذا الخطر الماحق؟
أرجو أن يسأل كل واحد منا نفسه: هل يستشعر المسؤولية أمام الله جل وعلا عن مقاومة هذا الخطر؟
وإذا كان يملك هذا الشعور فهل هو إنسان جاد يحول الشعور إلى عمل إيجابي ويبحث عن أنجح الوسائل في مقاومته؟ وهل عَمِل - ولو قليلاً- وأتعب نفسه في سبيل ذلك؟
__________
(1) جاء في أول الرسالة: (والخطة التي رسمناها لتصدير الثورة-خلافاً لرأي كثير من أهل النظر-ستثمر دون ضجيج أو إراقة للدماء أو حتى رد فعل من القوى العظمى في العالم. وأن الأموال التي ستنفق في هذا السبيل لن تكون نفقات دون عوائد) ص10.
(2) ص18-25.
(3) خطاب يوم النصر العظيم -ص 25- صدام حسين.(159/8)
وهل إن الأمة في عراقنا الكبير أولاً وخارجه ثانياً قد أدت ما عليها تجاهه ووضعت من الخطط والبرامج المدروسة الجادة وقد وضعت في حسابها هدف القضاء النهائي على هذا السرطان الذي يوشك أن ينفلت من عقاله ويفلت من قمقمه؟ أو إيقاف زحفه- على الأقل-؟ أم إنها رُوِّضَت فرضيت بأوهام التقريب والحلول الوسط مع قوم لا يؤمنون بالتعايش السلمي ويكفرون به من الأساس؟
وليسأل بعد: هل هذا الذي نفعله مطابق للمنهج القرآني؟ أم هو خليط غير متجانس من إفرازات التاريخ، وضغط الواقع، وكلمة من هنا، وعبارة من هناك بعيداً عن منهج القرآن؟
استحضر الصورة الكاملة للتشيع الفارسي وخطره وغاياته ووسائله ثم أجب عن هذه الأسئلة، وعن اعتقادك في المنهج الترضوي هل يمكن أن يكون هو الحل؟!!
ماذا بقي من شرك المشركين وانحراف أهل الكتاب وخداع المنافقين، إذا وضعت الصورة كاملة أمامك تستطيع ان تقول: ماذا بقي من الشرك واليهودية والنصرانية والنفاق خارج هذه الصورة البشعة!
فـ(الأئمة) جعلوا آلهة يعلمون الغيب وما كان وما يكون ولا يخفى عليهم شيء. يضرون وينفعون ويُمرضون ويَشفون تنذر لهم النذور ويستعان بهم ويستغاث، ويقسم بهم أشد مما يقسم بالله! بل يتوجه إليهم بالدعاء والنداء ويزارون من بعيد!
ليس هذا فحسب! انهم أداة لتعطيل الدين: فالقرآن عندهم مخبوء إلى ظهور (المهدي) الموهوم، والسنة النبوية الصحيحة مرفوضة بحجة أنها مروية عن غير طريق (الأئمة). والجمعة معطلة لعدم عدالة الحاكم، والجماعة كذلك بل والجهاد إلا الفتن فهذه- شهد الله- من أول واجبات الدين.
لا يصومون مع المسلمين. وحتى الحج لا يحجون معنا إلا اضطراراً بدليل أنهم لا يعترفون بيوم عرفة ولا يعيدون الأضحى إلا في اليوم الثاني، ومراسيم الحج تؤدى كاملة تقريباً عند الحسين والعباس في كربلاء.(159/9)
وفصلت أماكن العبادة باسم (الأئمة)، واخترعت بدع وشعائر، وارتفعت قباب ومنائر ما أنزل الله بها من سلطان. وتحول الدين باسم الحسين إلى لطم ونياحة وعويل.
أما الفقهاء فقد اتخذوهم أرباباً من دون الله تعالى و(مراجع) يرجعون إليهم في الأصول والفروع دون تفريق، وفي الكبيرة والصغيرة بلا تحقيق، أو رجوع إلى
كتاب الله وسنة رسوله! بل يعتقدون أن فهم الكتاب والسنة حكر عليهم ولا يكون إلا بواسطتهم لا يستجيزون تخطئتهم وإنما يقلدونهم تقليدا أعمى حتى صرح كبار علمائهم أن الاعتراض على الفقيه بمنزلة الاعتراض على الله وهو شرك بالله! منهم محمد رضا المظفر وإبراهيم الزنجاني إذ يقول كلاهما بالنص الواحد:
(عقيدتنا في المجتهد الجامع للشرائط أنه نائب عام للإمام (ع) في حال غيبته. وهو الحاكم والرئيس المطلق. له ما للإمام في الفصل في القضايا والحكومة بين الناس، والراد عليه راد على الإمام والراد على الإمام راد على الله تعالى وهو على حد الشرك بالله كما جاء في الحديث عن صادق آل البيت (ع) (1).
وهذه في قرآننا هي عقيدة اليهود والنصارى في أحبارهم ورهبانهم كما أخبر تعالى عنهم فقال: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (31) } التوبة. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :(ألم يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم الحلال فاتبعتموهم؟) قال عدي بن حاتم - رضي الله عنه - يوم إسلامه: بلى يا رسول الله. قال: (فتلك عبادتكم إياهم).
وفي الوقت نفسه يستولون على أموالهم بحجة ما يسمونه بـ(الخمس) و(الحقوق الشرعية) و(ثلث الأموات) وغيرها من الأسماء والحيل يتمتعون بها وبأعراضهم باسم (المتعة) ويؤسسون الشركات المالية الضخمة في الدول الأجنبية كمؤسسة آل الخوئي في لندن.
__________
(1) عقائد الشيعة للمظفر ص9.
عقائد الإمامية الاثني عشرية للزنجاني ص114.(159/10)
إن جزءاً كبيراً من هذه الأموال يستثمرونها في التآمر السياسي وإثارة الفتن والقلاقل وعدم الاستقرار. يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ(34) } التوبة.
ومن أخطر الموارد التي تصب في جيوبهم الأموال التي يستولى عليها من المخالفين في العقيدة كما مر بنا في فتاواهم ورواياتهم كما قال تعالى عن اليهود حذو القذة بالقذة: { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(75) } آل عمران. وأظن أن الأحبار والرهبان واعتقد جازماً أن المشركين لم يبلغوا الدرك الذي تردى إليه فقهاء التشيع الفارسي في الإباحية الجنسية والزنا العلني باسم الدين.
أما النفاق والشقاق بعد سوء الأخلاق فحدث ولا حرج عن (تقيتهم) التي استحلوا باسمها الكذب والتلون بشتى الألوان والوجوه حتى جعلوا ذلك تسعة أعشار الدين(1)
__________
(1) يروي الكليني عن أبي جعفر أنه قال: التقية من ديني ودين آبائي، لا إيمان لمن لا تقية له- أصول الكافي2/219.
وعن أبى عبد الله أنه قال: إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له- 2/217 وعنه أيضاً انه قال: لا والله ما على وجه الأرض شيء احب اليّ من التقية يا حبيب إنه من كانت له تقية رفعه الله- 2/217
وعنه أيضاً أنه قال: ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف. انهم كانوا ليشهدون الأعياد ويشدون الزنانير فأعطاهم الله أجرهم مرتين- 2/218
أين هذا من قوله تعالى: { وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ(16) } الكهف!
وعن زرارة بن أعين عن أبي جعفر قال: سألته عن مسألة فأجابني ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ثم جاء رجل آخر أجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي. فلما خرج الرجلان قلت: يا ابن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت صاحبه؟ فقال: يا زرارة إن هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم… قال: ثم قلت لأبى عبد الله (ع) : شيعتكم لو حملتموهم على الاسنة أو على الناس لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين قال: فأجابني بمثل جواب أبيه- 1/65.(159/11)
!
فالتشيع الفارسي قد جمع الشر من أطرافه، وحوى سيئات الأديان الباطلة والمذاهب المنحرفة وزاد عليها بإضافات لا تجدها في غيره من الطوائف والأديان.
الفصل الرابع
معالم المنهج المطلوب في خطاب التشيع الفارسي
في ضوء المنهج القرآني
لا بد من تطبيق المنهج الإلهي القرآني:
لم أجد للتشيع الفارسي خصوصية أو سببا يجعله في منأى عن تطبيق المنهج الإلهي القرآني عليه أسوة بأخويه الشرك والنفاق واخوته اليهودية والنصرانية والمجوسية. بل وجدت- بعد السياحة الطويلة في كتاب الله المنظور وكتابه المسطور- أنه أولى الأديان بأن يطبق هذا المنهج عليه.
إن التشيع الفارسي دين جمع سيئات الأديان الباطلة كلها من الشرك والمجوسية واليهودية والنصرانية موضوعة في قالب من النفاق. أو هو حركة من حركات النفاق بمضامين شركية ومجوسية ويهودية ونصرانية وحتى بوذية وما لا يعلمه إلا الله!.
والآن نأتي إلى المعالم التفصيلية للمنهج المطلوب تطبيقه من خلال المقابلة بين النقاط المشتركة بين الفريقين- فريق التشيع الفارسي وفريق الأديان والمذاهب الباطلة- وكيف واجهها القرآن كما سبق الحديث عنه خلال السور الأربع -البقرة وآل عمران والأنعام والتوبة- وبعض ما تعلق بها الآيات.
1. التاريخ سلاح فعال في المعركة:
عند استعراض أول جولة من الآيات في سورة (البقرة) تلك التي اختصت باسترجاع تاريخ يهود قلت: (في هذا درس قرآني عظيم هو أن من شمخ بأنف قائم على تاريخ مخزٍ فإن المجاملة لا تنفع معه بل ينبغي أن يدمغ بذلك التاريخ ليعرف حقيقة نفسه ويرى أن الناس يعرفونه على حقيقته، علّ ذلك يردعه ويجعله يشعر بالنقص والصغار إزاء انكشاف حاله. ولعله يرعوي أو- على الأقل- يتأدب وهو يتعامل مع الأتقياء الأطهار).(159/12)
قارن هذا بتاريخ مساحته أربعة عشر قرناً من المخازي والآثام يحمله الرافضة الشعوبيون على ظهورهم ابتداءاً بقتل عمر وعثمان وعلي وظهور عبد الله بن سبأ والحركات الباطنية الهدامة على مر التاريخ، واستمر وهو يتضخم بالمخازي والآثام إلى يومنا هذا في عامنا هذا في بلدنا هذا الذي يلعنون فيه (خير أمة أخرجت للناس) ويطعنون بأشرف نسوة كن في بيت ويدعون تحريف الكتاب والسنة. ناهيك عن أكل أموال الناس بالباطل واستحلال الكذب والدجل والعمل (بالتقية) أي النفاق وهتك ستر المحصنات تحت لافتة (المتعة) أي الزنا باسم الشرع. ثم هم مع كل هذه الخزايا والدنايا يشمخون بأنوف ترعد، ويطلقون على أهل السنة اسم (أبناء العامة) أي أنهم أبناء الخاصة ! تماماً كاليهود الذين مع خزاياهم ودناياهم يدعون أهم (شعب الله المختار) وأنهم (أبناء الله وأحباؤه).
ثم انظر بعينك لترى في الوقت نفسه كثرة المجاملين والمداهنين من الحالمين بكلمة رضا من تلك الأفواه النتنة المتلطخة بسب أبي بكر وعمر وأمهات المؤمنين!
إن المنهج القرآني يفرض علينا أن نعرض التاريخ ونستعمله كسلاح في ميدان الصراع مع الشعوبية ودينها الباطل التشيع الفارسي. على أنه من المفيد جداً والضروري أن نقرأ تاريخ الفرس قبل الإسلام وصراعهم الأبدي مع العراقيين لنتعرف على جذور الصراع ونجد كثيراً من أوجه الشبه بل المطابقة الكلية بين الغابرين والمعاصرين ليكتشف الناس أنه لا فرق بين المتأخرين والمتقدمين سوى الأسماء والعناوين.
2. إنكار أباطيلهم ومنكراتهم بتفاصيلها صراحة ومواجهة:
هذه طائفة من الأباطيل التي أنكرها القرآن صراحة و مواجهة على أهلها من أصحاب الأديان الباطلة موجودة بعينها عند الرافضة:
- تحريف الكتاب:(159/13)
{ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(75) } البقرة. وهو نفسه موجود عند الرافضة إذ يدّعون تحريف القرآن.
- (التقية) والتلون والنفاق:
ثم قال: { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ(76) } البقرة هذا عن اليهود. وعن المنافقين قال الشيء نفسه في أول السورة: { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ(14) } . وهذا عينه موجود عند الرافضة باسم (التقية).
- عدم علم عوامهم بكتابهم:
ثم قال: { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ (78) } البقرة. وهذا حال جمهور الرافضة وعوامهم لا يفقهون من القرآن شيئاً سوى التلاوة الفارغة من الفهم والتدبر بسبب صرف علمائهم لهم عن ذلك بحجة أن القرآن صعب لا يدركه إلا العلماء مستدلين بقوله تعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ (7) }
آل عمران، أي الله والعلماء فقط. ويفتون لهم أن من أخطأ في قراءة حرف أو حركة من القرآن فهم آثم.
- أكل أموال الناس بالباطل:(159/14)
ثم قال: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاٍ (79) } البقرة وهذا ما يفعله علماء الرافضة إذ يستولون على أموال اتباعهم بحجة (الخمس) و(الحقوق الشرعية) وغيرها من المسميات التي اخترعوها افتراءا على الله شانهم شأن اليهود الذين نزل فيهم قوله السابق وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) } التوبة وما فعله الرافضة أشد وأنكى!
- ادعاء النجاة في الآخرة:
{ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً(80) } البقرة. والرافضة يدعون ما هو أشد من ذلك. إنهم يعتقدون أن من آمن بولاية علي فإن علياً سيسلمه يوم القيامة بطاقة نجاة من النار ودخول إلى الجنة ويسمون علياً (قسيم الجنة والنار) ويروون في ذلك الروايات الكاذبة وقد مر بعضها. وينشدون:
علي حبه جُنة ... قسيم النار والجنة(159/15)
ويكتبونه على واجهات المحال والسيارات. وعلماؤهم يقصون عليهم الأساطير في ترسيخ هذه العقيدة الفاسدة في محاضراتهم وأحاديثهم التي نسمعها ونراها على الأشرطة المسجلة. منها أنّ ناصبياً نذر إذا وهبه الله ولداً أن يقتل أحد الرافضة فكان له ما أراد. وبعد أن كبر ابنه أخذ خنجره وكمن لإحدى قوافل الزائرين لقبر أبي عبد الله الحسين عله يقتل واحداً منهم في غفلة من أصحابه لكن عينه غلبته فنام فرأى أن القيامة قد قامت وجيء به للحساب فأمر به إلى النار لكن أبا عبد الله يظهر له من بين الجموع ليخلصه قائلاً: لن تمس النار أحداً سقط على جسده غبار أقدام الماشين حفاة لزيارة قبري! وهنا تضج أفواه القطعان وهي تصيح: … أي (اللهم صل على محمد وآل محمد!) ليقول المتحدث الكذاب : فكيف إذن هي منزلة شيعة محمد وآله !!
- التقليد الأعمى واتخاذ الفقهاء أرباباً من دون الله:
{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ(31) } التوبة. أي أنزلوهم منزلة الله تعالى في الأمر والنهي والتشريع. وهو عقيدة الرافضة عينها مع فقهائهم حتى صرحوا بأن الرد عليهم بمنزلة الشرك بالله- كما مر بنا- وهي الأساس الذي استند إليه الخميني الدجال في القول بـ (ولاية الفقيه)
- قتل دعاة الحق:
{ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ(87) } البقرة.
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(21) } آل عمران.(159/16)
{ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(183) } آل عمران. وهو ديدن الرافضة أعداء الحق ودعاته منذ أن وجدوا يكيدون لهم ويخططون دائماً لاغتيالهم والوقيعة بهم إسكاتا لصوتهم الناطق بالحق منذ أن اغتالوا عمر بن الخطاب شهيد المحراب والمسلسل متواصل إلى عصرنا الحاضر فكان الشهيد الأستاذ أحمد الكسروي والشيخ محمد ضيائي وغيرهم في إيران والشهيد الشيخ نوري خلف الدليمي والشيخ محمد طه السامرائي والسيد محمد اسكندر الياسري في العراق وغيرهم وغيرهم!
- استحلال أموال المخالفين ونقض عهودهم :
{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(75) } آل عمران.
وهو ما يفتي به أحبار الرافضة وكتبهم طافحة به بل زادوا فأحلوا دماء مخالفيهم من أهل السنة والجماعة وغيرهم وقد مر بعض أقوالهم المتعلقة بذلك وسيأتي –إن شاء الله- مزيد بيان لخطورة هذا الأمر! وعدم الانتباه إليه مع خطورته!!
إن نقض العهود وعدم الإيفاء بالوعود صفة متأصلة عند الرافضة وما الاستيلاء على الطائرات العراقية المودعة عندهم إلا مثال بسيط على هذه الصفة الرذيلة عندهم. إن القرآن واضح في أمره بضرورة الإيفاء بالعهود والوعود والعقود كما قال سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(77) } آل عمران.(159/17)
أما كونهم يحملون العراق مسؤولية خسائر الحرب وهذه الطائرات تعتبر جزءا من تعويضات تلك الخسائر فهذه دعوى وحكم صادر من جهة الخصم وهذا يتناقض مع أوليات القضاء الإسلامي والعالمي إذ لا يصح أن يكون الخصم هو الحكم في قضية واحدة. فالاستيلاء على الوديعة دون حكم صادر من جهة حيادية لا يكون إلا عند اللصوص. فإذا كانت اللصوصية مبرقعة باسم الدين فذلك هو الكفر بعينه! ثم ما قيمة مجموعة من الطائرات أمام تشويه سمعة دولة تدعي أنها تمثل الإسلام لو كانت فعلا كذلك؟!
إن (أبناء الأصول) حين يتصرفون تصرفاً معينا يحسبون ألف حساب لـ(أصولهم) وعوائلهم التي ينتمون إليها. أما الأدعياء ومن لا (أصول) لهم فلهم شأن آخر وحساب غير هذا الحساب!
هذه أمثلة من المنكرات والأباطيل المشتركة بين الفريقين أفينكرها الله تعالى في كتابه العظيم وعلى لسان رسوله الكريم على قوم ونقرها نحن عند قوم آخرين؟! كيف؟! ولماذا؟!
3. نبرة الاستعلاء الإيمانية:
في خطاب القرآن العظيم لأهل الباطل نبرة استعلاء إيمانية واضحة تغرس الثقة في النفس وتجعل المؤمن في منأى عن حمأة الشعور بالنقص الذي هو السبب وراء محاولات الترضية المخجلة المتمثلة في كيل المدائح المجردة للرموز الصالحة عسى أن يعتقد المنتسبون زورا اليهم أننا نحبهم فيرضون عنا أملَ إبليس في الجنة.(159/18)
إن القرآن لا يعترف بتلك الانتسابات المزورة. انه يعلن بلا تردد أنها مزورة. وبهذا يسحب البساط من تحت أولئك المزورين المفترين ليجعله تحت المسلمين. وهنا يكون على اليهود وأمثالهم من النصارى والمشركين والمنافقين أن يأتوا ليرضوا المسلمين وعسى أن يقبلوهم. وذلك بالوقوف الحقيقي على هذا البساط الذي أزيح المبطلون من فوقه وصار تحت المسلمين. أي بالإيمان الصادق بمثل ما آمن به المسلمون: { فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَا ءَامَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا(137) } البقرة. فأنتم أيها المسلمون الأصل والمقياس والنموذج وهم- كائنا من يكونون- تبع. { وإن تولوا } ؟ فهذه مشكلتهم ولا قيمة لهم فلا تشغل نفسك بهم { وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(137) } البقرة.
إن هذا يفرض علينا منهجياً أن نصرح بعدم اعترافنا بصحة انتساب الرافضة إلى علي وأهل بيته، ونثبت أن ذلك دعوى مزورة بالأدلة المعتبرة، وأن لا نتردد في القول بأن علياً ما كان شيعياً ولا رافضياً ولا إمامياً ولا اثني عشرياً، بل كان حنيفاً مسلماً ملتزماً بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وجماعة المسلمين.(159/19)
نعم نمدحه بما فيه دون غلو أو تقصير. على أن لا يكون المدح مجرداً عن الدعوة إلى اتباعه أو عن التصريح بالمخالفات الشرعية التي ارتكبها الرافضة معه ولا عن الإعلان بأن علياً على دين والرافضة على دين آخر. مدحاً لا يوحي بالضعف والهزيمة النفسية ولا الرغبة في استعطاف الرافضة لعلهم يعترفون بنا أحبابا لعلي. بل على العكس علينا أن نشعرهم بأنهم هم بحاجة إلى أن يثبتوا لنا حبهم الحقيقي له، واتباعهم الصحيح لما كان عليه. فإن فعلوا وكانوا مثلنا وآمنوا بمثل ما آمنا بِهِ فقد اهتدوا. وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفينا الله تعالى أمرهم وهم أهون في عين الله من أن نركض وراءهم نلهث عساهم يرضون. إن علينا أن نقول الحق من ربنا فإن آمنوا فهو الواجب عليهم وإن غضبوا فما هم بمعتبين.
مقارنة مع الواقع:
قارن هذا مع المنهج الترضوي المتبع واقعاً مع الرافضة! إن أصحابه -بدلاً من أن يصرحوا بقطع صلة الرافضة بسيدنا علي - رضي الله عنه - وأهل بيته- راحوا يبذلون الجهود تلو الجهود في محاولات يائسة لترضيتهم عن طريق مدحه - رضي الله عنه - مدحاً يخرج أحياناً إلى الغلو أو مخالفة الحقائق التاريخية والمنطق العقلي عسى أن يقتنعوا أنا نحب علياً، مع ما يرافق ذلك من مجاملات على الباطل وعدم إنكاره.
إن في هذا شعوراً واعترافاً ضمنياً بأن الرافضة هم (أصحاب الامتياز) والحب الحقيقي والانتماء الحق لـ( أهل البيت)، وهم النموذج والأصل الذي يُتسابق إلى التشبه به والتقرب إليه. لقد سحب أصحاب المنهج الترضوي البساط من تحت أنفسهم وانحنوا بكل (أدب ولطف) ليضعوه تحت أقدام أولئك الأدعياء علهم يلقون إليهم بفتات كلمة أو نظرة عطف أو يربتون على رؤوسهم وهم يبتسمون ابتسامتهم الصفراء، وما هم بفاعلين حتى يلج الجمل في سم الخياط!(159/20)
والأمر كله لا يعدو أن يكون تعبيراً عن الشعور بعقدة نقص يعانون منها تولدت لطول ما اتهموا بمناصبة (أهل البيت)، وإشارة لا تخطئ- يعرفها المخالف قبل المؤالف- إلى ما في نفوسهم من هزيمة وضعف تجاه من هو أولى أن يصاب بها!
ومع أن المشكلة ليست في بغض أهل البيت وإنما في بغض الصحابة وعداوتهم والبراءة منهم وسبهم وتكفير من يحبهم لكنك ترى هؤلاء الترضويين يوحون بقلب المعادلة وعكس المشكلة فإذا بهم مع حبهم لعلي وبغض الرافضة للصحابة يحاولون جاهدين أن يثبتوا لأولئك الغلاة الحاقدين أنهم يحبون علياً!
وحين يكتشفون أن ما فعلوه لم يثمر شيئاً يرجعون باللوم إلى أنفسهم أنهم هم المقصرون، والحل مزيد من المدح دون اعتبار للأصول أو الذوق أو العقل أو الحقيقة التاريخية أو حقوق الآخرين حتى خرجوا إلى الكذب بل الغلو! حتى صرح البعض بأن أهل البيت مخلوقون من نور ذات الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا وهو كفر صريح. كل هذا يطرح مجرداً عن الدعوة إلى الاتباع الحقيقي لسيدنا علي ودون عرض موضوعي لحقيقة المشكلة.
لقد رأينا احتفالات يحضرها علماء مسؤولون يحبون الصحابة -ومنهم علي- حباً صادقاً. وإذا قام أحدهم يلقي كلمته وذكر علياً ترضى عنه وأحياناً يقول (كرم الله وجهه) أو (عليه السلام) أو يلقبه بـ(الإمام) ويمدحه مدحاً قد يخرج عن المشروع. فإذا جلس وقام الشيخ الرافضي يتحدث وذكر أحد الصحابة لا يترضى عنه ولو على سبيل المجاملة أو التزلف أو (تقية)! وإذا استشهد بقول لكبار الصحابة الكرام فإنما يستشهد به في مقام المدح لعلي لا أكثر دون ترض عن الصحابي أو الاتيان بما يشير إلى احترامه.
لماذا انقلبت الأمور إلى هذا الحد؟!:
نحن نعلم أن الرافضة قوم يؤمنون بـ(التقية) ويعملون بها. لكن (التقية) عند شعور الرافضي بالخوف أو رغبته بالوصول إلى هدف ما. فلماذا صار رافضتنا لا (يتقون)؟ بل يتبجحون ويهجمون وأصحابنا يجاملون ويتقون!(159/21)
لقد أخذ المنهج الترضوي عنصرا واحداً من عناصر المنهج القرآني وأركانه الخمسة وترك العناصر الباقية. ثم راح يشوه في هذا العنصر الوحيد الذي لا قيمة له دون بقية العناصر بالزيادة الخارجة عن الذوق والعقل والشرع فزاد الطين بلة والداء علة.
4. غرس الهزيمة النفسية في داخل الخصم وإجباره على استجداء العطف:
تأمل هذه الهزيمة النفسية التي غرسها المنهج القرآني في داخل المنافقين فصاروا يحاولون بشتى الوسائل ومختلف الأساليب والحيل أن يثبتوا للمؤمنين ولاءهم ويقسمون أغلظ الأيمان على أنهم منهم وأنه لا فرق بينهم وبينهم! في الوقت الذي يعلم القرآن المؤمنين كيف يتعاملون مع هذه الظواهر النفاقية فيحتقرونها ويرفضون القبول بالحلول الوسط أو الالتقاء في وسط الطريق على حساب الحق ومصلحة الأمة. إن المنهج القرآني يغرس الثقة في نفوس المؤمنين ويعلمهم فن العزة الإيمانية والاستعلاء على كل دنيء. اقرأ هذه الآيات في سورة (التوبة) :
{ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ(57) }
{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ ليُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ(62) }
{ يحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ(96) }(159/22)
{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) }
{ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ(94) }
{ وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ(127) }
وقال عن مسجدهم: { لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) }(159/23)
{ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) }
قارن هذه الصورة مع الصورة النفسية المهزوزة، والهزيمة التي يعاني منها أصحاب المنهج الترضوي. إنهم يعيشون وضعاً نفسياً مأساوياً مقلوباً كان عليهم أن يناضلوا ويجاهدوا ليجعلوا الخصم الشعوبي هو الذي يعيشه ويعاني منه فيأتي إليهم صاغراً يقدم إليهم مراسيم الولاء ويطبق (تقيته) حسب الأصول!
هل تأملت وضعهم البائس وهم يحاولون إرضاء هذا الخصم الذي استخفهم فأطاعوه فتفرعن عليهم، ويتملقونه بالقول إنه لا فرق بيننا ونحن معكم وبكم والدين واحد وليس بيننا من خلاف إلا في بعض الفرعيات البسيطة، وهو يمقتهم ويزدريهم ويصرح بأن لا لقاء ولا تعاون بل يكفرهم ويستحل حرماتهم ويتربص بهم الدوائر ويفرح إذا أصيبوا ويحزن إذا فرحوا ويلمزهم ويسخر منهم ولا يألوهم خبالاً ويستهزئ بكتابهم وسنة نبيهم ويطعن بأصحابه وأزواجه ويشتمهم ويلعنهم! لماذا هذا الوضع المقلوب؟!ومن المسؤول عن هذه المهزلة؟!
5. اعتماد أسلوب الهجوم:
القرآن يستعمل أسلوب الهجوم على مرتكزات الخصم كخط ثابت معتمد،و لا يجنح إلى الدفاع إلا في حالات معينة، و هذا هو الذي يهزم الخصم.
أما الدفاع فغايته أن يحافظ كل على موقعه، حتى في المعارك العسكرية،فما لم يحول القائد دفاعه إلى هجوم فلن يكسب المعركة.
ونصيحتي للمخلصين -وبكل قوة- أن يتخلصوا من حالة الدفاع التي هم عليها، فإنهم لن يكسبوا من ورائها إلا التعب، والمشغلة الفارغة.(159/24)
يأتيني بعضهم بشبهات مثل أحاديث في صحيح البخاري ومسلم استشكلها عليهم الرافضة، فأنصحهم قائلاً: قولوا لهم لنفترض أن ما تقولون عن البخاري ومسلم هو كما تقولون، ما هو البديل الذي عندكم إذا تخلينا عن صحيح البخاري ومسلم وبقية كتب الحديث عندنا؟ أغير كتاب الكافي وأمثاله؟!
فما جوابكم عن مئات بل آلاف الروايات الواضحة البطلان متناً، دون الحاجة إلى النظر في أسانيدها؟!
هنا سيحتار الرافضي وينهار أو ينهزم. وهذه النتيجة لن تحصل عليها ولو بقيت تدافع عن أحاديث أهل السنة عمرك كله.
وهكذا تقل الحاجة جداً إلى الدفاع عما عندنا، أو الجواب عن شبهاتهم ضدنا.
المطلوب إذن أن نهاجم مرتكزات الخصم، فإذا انهارت سهل علينا بعدها إقناعهم بالبديل. وإلا فإن الاستمرار على موقف الدفاع سيجعلنا في النهاية نخسر المعركة ونخرج منها منهزمين،وليس هو أكثر من تعبير عن الهزيمة النفسية التي يعاني منها المدافعون.
6. اللهجة أشد والمعالجة أولى:
اهتم القرآن بالمنافقين اهتماماً كبيراً رغم قلتهم مطلقاً ومقارنة مع الكفار. لقد خاطبهم القرآن وكان في لهجة خطابة شدة وغلظة أكثر مما هي عليه في خطابه للكافرين، حتى لقد جعلهم في منزلة أحط من منزلة إخوانهم الذين كفروا في النار فقال: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ(145) } النساء.(159/25)
وباطل الرافضة أشبه بباطل المنافقين منه بباطل الكافرين من حيث أنهم اتخذوا مبدأ (التقية) قاعدة لسلوكهم وتعاملهم مع مخالفيهم. وهو مبدأ المنافقين الذي أخبر عنه تعالى في مثل قوله: { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ(14) } البقرة. وتلك خصلة من خصال اليهود أيضاً كما قال تعالى : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ (76) } البقرة. وقال : { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(72) } آل عمران .
باختصار فإن الرفض كفر في قالب نفاق. وهذا يلزمنا بالتحذير من خطرهم تحذيراً أشد، وإنكار باطلهم إنكاراً أغلظ مما هو عليه مع الكفار وأشباههم من الملل والنحل.
7. التحذير من اتخاذهم بطانة وتوظيفهم في مواقع القرار:(159/26)
يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) } آل عمران.
إنها أخلاق المنافقين وأخلاق الروافض الشعوبيين سواء بسواء، لأن الرفض جنس من أجناس النفاق فهم:
1. { لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا } لا يقصرون في الكيد لنا والتآمر ضدنا وأبسط شيء يقومون به كتابة التقارير الصفراء الكاذبة التي لا تنقطع ليل نهار من أجل إلقاء بذور الشك وتمزيق الصف وضرب مصادر القوة ببعضها و(إيجاد الخلاف بين الحكام والعلماء) كما جاء في (الخطة السرية لآيات الشيعة في إيران) حتى يصل الكيد إلى التعاون مع الأجنبي كإيران وأمريكا والاستبشار بقدوم أمريكا. وأحداث عام 1991 شاهد. إنهم يشعلون الحروب ويمارسون الاغتيال السياسي ويثيرون الفتن.
{ وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ } يتمنون لنا كل ما يؤذينا ويرهقنا.
{ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } بلعن أسلافنا، والطعن في كتابنا، ورفض أحاديث نبينا، وإيعادنا بالويل والثبور حين تسنح الفرصة وتكفيرنا واستحلال دمائنا وأموالنا.
{ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } .(159/27)
{ هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ } وهذه مشكلة. فالكثيرون يحبونهم ويهونون من شأنهم ويفضون بأسرارهم إليهم ويضعون في أيديهم أخطر المواقع الحساسة يقولون: لا فرق بيننا! مع إنهم يتخذون التفرقة دينا ويستعملون مواقعهم للكيد والتآمر ولا تنفع معهم جميع أسباب المودة والتقريب ومظاهر المساواة ينكرون ما يرون ويفسرونه تفسيراً عكسياً ملؤه الشك والريبة. يسقطون على الغير ما موجود في نفوسهم. فنحن وإياهم كما تصف الآية { هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ } .
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ } وهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض تبعاً لأهوائهم وأغراضهم.
{ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ } بحكم مبدأ (التقية) فهم متمرسون في إظهار الولاء في الوجه، ويتحينون الفرص في الخلوات للانقضاض والانتقام.
إن استعمال هؤلاء واتخاذهم بطانة من أكبر أسباب الهزيمة والخسارة في المعارك العسكرية، ولذلك جاء ذكر هذه الآيات - التي تحذر من ذلك- مباشرة قبل الحديث عن معركة أحد التي خسرها المسلمون.
إن عبد الله بن سلول رجع بثلث الجيش في المرحلة الحرجة قبل وقوع المعركة. وسقطت بغداد بأيدي المغول بسبب البطانة المتمثلة بالوزير ابن العلقمي الفارسي. وهي حلقة من سلسلة طويلة من البطانات التي اتخذتها الخلافة العباسية. وفي عام 1991 عمل أحفاد ابن العلقمي بالعراق تمزيقاً وتقتيلاً وتدميراً وغدراً وخيانة ما عجز عنه الأمريكان وتحالفهم الشيطاني، وهاهم اليوم يستبشرون أملاً بان تكرر في عراقنا مأساة إخواننا الأفغان (تحالفاً جنوبياً) مع الأمريكان بدل (التحالف الشمالي) في أفغانستان الذي لولاه لما استطاع الأمريكان إسقاط حكومة (طالبان).
8. عدم الاعتراف بمساجدهم الضرارية واعتبارها أوكاراً للتجسس والتخريب:(159/28)
لقد حاول المنافقون -ومن وقت مبكر- أن يعزلوا أنفسهم في أوكار تجسسية تحت مسمى شرعي هو المسجد فاتخذ أبو عامر الفاسق هذا الوكر. وحتى يكتسب وكره هذا الصفة الشرعية طلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي ليصلي فيه و(يباركه)! وكان الله لهم بالمرصاد فأنزل على رسوله آيات بينات تفضحهم وتكشف نواياهم وتأمر باعتزال ذلك المكان الموبوء. يقول تعالى فيها:-
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) } . وذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - في تنفيذ الأمر الإلهي أبعد مذهب فهدم هذا الوكر النفاقي الشيطاني وأحرق مكانه بالنار! مع أن النص لا يأمر بأكثر من اعتزاله: { لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } .(159/29)
ويدور التاريخ دورته وينجح الرافضة في إنجاز ما عجز عنه المنافقون، فاتخذوا لهم (مساجد ضرار) في طول البلاد وعرضها صورتها صورة مسجد وحقيقتها أوكار للتآمر والإضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين ومواضع رصد وتجسس(1) وسراديب وأنفاق عبرت عن نفسها بوضوح في آذار عام 1991 على هامش الغزو الصليبي للخليج واعتدائه على العراق. وأقل ما فيها من شر وكفر أنها فرقت بين المسلمين فشطرتهم نصفين لا يلتقيان!
مقارنة بين (مسجد ضرار) القديم والحديث:
وإذا جئنا لنعمل مقارنة بين (مسجد ضرار) القديم والحديث لوجدنا أن الأخير شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل!
(مسجد ضرار) الحديث
(مسجد ضرار) القديم
1- يؤذن فيه ثلاث مرات.
1- يؤذن فيه خمس مرات.
2-له توقيتاته الخاصة به المختلفة عن التوقيتات الشرعية والرسمية.
2- توقيت الأذان فيه لا يختلف عن التوقيت في المسجد النبوي.
3- ألفاظ الأذان تختلف عنها في مساجد المسلمين. فقد أضافوا إليه إضافات بقدر الأذان الأصلي أو أكثر تبدأ بقول المؤذن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ثم تلاوة قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ… } الآية. ثم الصلاة على النبي وآله. ثم إضافة علي ولي الله وأولاده المعصومين حجج الله وحي على خير العمل. وتنتهي بزيادة لا اله إلا الله في آخر الأذان!
3- ألفاظ الأذان واحدة في المسجدين.
__________
(1) جاء في الخطة السرية لآيات الشيعة في إيران (ص9-الهامش): ويهتمون بهذه الحسينيات أكثر من اهتمامهم بالمساجد. وأما في خارج إيران فأصبحت مراكز تجسس لإيران كما نشرت ذلك بالتفاصيل جريدة (انقلاب إسلامي) لأبي الحسن بني صدر في العام الماضي وأعلنت عن المراكز الجاسوسية الإيرانية في دول الخليج –خاصة في الإمارات- بالاسم والعنوان والتاريخ وكيف أن المخابرات الإيرانية تجمع الأموال من التجار الإيرانيين في الإمارات.(159/30)
4- يصلون فرادى عادة.
4- يصلى فيه جماعة.
5- لا يصلون الجمعة ولا يستحلون الصلاة في مساجدنا إلا تقية أو منعزلين.
5- يصلي رواده الجمعة في المسجد النبوي.
6- شعائر الصلاة وهيئاتها تكاد تختلف تماماً، مثل الإسبال وعدم قول آمين وعدم التسليم والاستعاضة عنه بتحريك اليد ثلاثاً إلى الأعلى والأسفل. والقنوت قبل الركوع في الركعة الثانية..الخ.
6- ليس للصلاة شعائر وهيئات خاصة تختلف بها عن صلاة المسلمين.
7- وهؤلاء يمسحون.
7- يغسلون أرجلهم في الوضوء.
8- يتخذ المصلي فيه حجراً مدوراً يضع جبهته عليه في الصلاة.
8- لم يتخذوا فيه حجراً يصلون عليه.
9- المسجد مهان بإقامة اللطميات والنياحة ومجالس العزاء ووضع الكراسي وحتى الأكل والشرب والتدخين!
9- المسجد نظيف ومحترم.
10-أمره- ولله الحمد- تام ومعترف به وهو يؤدي دوره كاملاً حسب الخطة المرسومة.
10- لم يتم أمره بل فضحه الله وكشف حقيقته.
فأي الفريقين أحق بالعلاج وتقويم الاعوجاج؟!
9. تبني العروبة:
لا يشك مسلم سوي في فضل العرب، وأن الله اختارهم لأنهم أقدر الشعوب على حمل رسالته الخاتمة إلى الناس. فالاختيار مبني على أسباب ثابتة موجودة مسبقاً في داخل من اختارهم الله. وفي قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه (110) } آل عمران. دليل من حيث أن جودة الثمر نتاج بذر جيد في تربة طيبة ولا بد. فالبذر الجيد هو الرسالة النازلة، والتربة الطيبة هم العرب. ولذلك يقول سبحانه: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ (124) } الأنعام.(159/31)
والعروبة مادة الإسلام، والإسلام روح العروبة. فالطعن في أي واحد منهما طعن في الآخر. وفصل أحدهما عن الآخر كفصل الروح عن الجسد. وفي القرآن شواهد كثيرة على ما نقول، ولكننا لسنا في صدد إثبات هذه الحقيقة فالأمر مفروغ منه، وإنما في صدد ضرورة تبنيها، والانتباه إلى أهميتها في الخطاب.
والفرس -وخلافاً لكل الشعوب المسلمة- يكرهون العرب كما يكرهون الإسلام والمسلمين، ويطعنون فيهم جميعاً. فالفرس لا يعادوننا لأننا مسلمون فحسب، ولكن لأننا عرب أيضاً. فإدخال العروبة في معادلة الصراع ضرورة لكي يعتدل ميزان القوى المتصارعة المختل في غياب هذا العنصر الفعال.
لقد آن الأوان لكي نتخلص من ردود الفعل السلبية ضد من تطرف في تبني القومية فجعل العروبة بديلاً عن الإسلام، فكان الرد أن أخرجت العروبة من ساحة الصراع.
وإذا كان الإسلام هو الروح وهو الأصل والأساس، فلا يضيره - بل يشده ويقويه- أن تأخذ العروبة موقعها في سلم الخطاب دون إفراط أو تفريط.
10. قطع صلتهم بالرموز الصالحة :
من أركان المنهج القرآني التي سبق ذكرها قطع الصلة بين أهل الباطل ومن يدّعون الانتساب إليهم من الأنبياء والرجال الصالحين. فالقرآن العظيم لا يعترف بهذه الصلة ويصرح لهم بأنهم في جهة، ومن تعلقوا بهم في جهة أخرى بعيدة لا علاقة لهم بها. إنهم أناس منقطعون منبترون. وأن هذه الصلة دعوى كاذبة مزورة أن التشيع الفارسي يعتمد في بقائه على ادعائه الانتساب إلى (أهل البيت)، ويستمد قوته وأسباب وجوده واستمراره من هذه الدعوى. فتجريده منها يسحب البساط من تحته ويظهر وجهه الكالح على حقيقته. وهو ما يلزمنا به المنهج القرآني. أما الاقتصار على مدح علي - رضي الله عنه - فهو منهج المنهزمين البائسين.
11. التفريق بين الموقف المبدئي والموقف العملي:(159/32)
لقد كان القرآن واضحاً منذ البداية في موقفه المبدئي من المنافقين وحكمه الشرعي عليهم. لقد كشف أوراقهم وحكم عليهم بالكفر وفضح نواياهم وأوصافهم وأساليبهم حتى يتم التمييز بينهم وبين المؤمنين دون أن تختلط الأوراق ببعضها فتمر المؤامرة. وسورة (المنافقون) وغيرها واضحة الدلالة على ما نقول.
أما الموقف العملي فقد مر بمرحلتين: الأولى: مرحلة المداراة و(بل نترفق به) و(حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) ويظهر أن هذه المرحلة استمرت حتى معركة (أحد) في السنة الثالثة أو بعدها بقليل حين ثبت للنبي- صلى الله عليه وسلم - أن مجاملة هؤلاء وتوثيقهم باعتبارهم ضمن الصف المسلم يعود على الأمة بأعظم الخسارة أحوج ما تكون بحاجة إلى الربح أو الحفاظ على رأس المال، وذلك عندما استطاع ابن سلول أن يفسد على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ثلث جيشه المتوجه إلى المعركة. ولا شك أن هذه الخسارة في هذا الظرف لا تعادلها خسارة التفريط به من البداية حتى لو اتبعه مجموعة من عشيرته تعصباً وجاهلية. فإن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يترفق به من أجل اتباعه حفاظاً عليهم وها قد ثبت له أن هذا الأسلوب لا يعود عليه إلا بالخسارة فبدأت المرحلة الثانية: حين نزل قوله تعالى في سورة (الأحزاب): { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا(60)مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا(61)سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا(62) }(159/33)
وهذا يدل على أن قتل المنافقين وعدم الترفق بهم هو سنة قديمة ماضية وهو الحكم الأصلي معهم غير متعلق بالعوارض إلا إذا حال دون ذلك حائل كالذي ذكره النبي- صلى الله عليه وسلم - من أنه يخشى أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه. ولكن هذا في البداية والدعوة المدنية في أولها أما وقد اشتد عودها وعركتها الأحداث وصار التمييز ممكنا فإن الحكم يعود إلى أصله.
12. لَيْسُوا سَوَاءاً:
إن هذا لا يمنعنا من القول بأنهم { لَيْسُوا سَوَاءً } . ففي أوساط الرافضة أناس طيبون صادقون في تدينهم باطنا وظاهراً لا يعرفون النوايا الحقيقية لدعاة التشيع الفارسي يطلبون الحق ويأخذون به أينما وجدوه { خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(199) } آل عمران.
لكنهم جاهلون مطلوب منا تبصيرهم ودعوتهم وإنقاذهم من براثن الوحش الفارسي.
إن هؤلاء وسط قابل للتحول إلى أحد الطرفين فإما إلى الإسلام الصحيح إذا أحسنّا دعوتهم والتعامل معهم وإما إلى الرفض المقيت إذا تركناهم طعمة لأولئك الطامعين.
13. دعوتهم إلى تبني القرآن منهجاً للتعلم دون سواه:
يقول تعالى: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ(79) } آل عمران.
فالربانية تلزم العالم بدراسة الكتاب واتخاذه منهجاً لتعليم اتباعه منه يصدر وإليه يعود. فماذا فعل اليهود والنصارى؟(159/34)
لقد روضوا اتباعهم وعودوهم على طاعة أوامرهم والرجوع إلى أقوالهم دون اعتراض أو نقاش. وأوهموهم بأن الكتاب حكر عليهم وأنه لا يفهم من دونهم لقد أبعدوهم عنه ولم يعلموهم إياه بحجة أنَّهُ ما دام الكتاب لا يفهمه إلا العالم فلا داعي لإتعاب النفس في تدبره ومحاولة الاهتداء بِهِ مباشرة. والحل الرجوع إلى العالم بديلاً عنه وهذه هي العبادة لأن طاعة العلماء من دون نقاش، وإنزال أوامرهم منزلة أوامر الله تحليلاً وتحريماً عبادة لهم من دون الله.
وهذا ما فعله علماء التشيع الفارسي عن طريق مبدأ التقليد الأعمى. لقد ألغوا القرآن من واقع اتباعهم منهجا للاهتداء والتدبر وأبقوه كتاباً للقراءة المجردة والتبرك فحسب. أما الاهتداء فيكون بإطاعة أوامر العلماء وتقليدهم في كل شيء، ولذلك لا يهتمون بدراسته وتعليمه. وهذا عراقنا -والحمد لله- تعمه حملة لتعليم القرآن وتدريسه في المدارس والمساجد وغيرها إلا مساجد الرافضة وحسينياتهم وحوزاتهم لا تعرف شيئاً اسمه (دورة قرآنية) أو درس لتعليم القرآن.
لقد انسلخ علماء الرافضة من صفة (الربانية) ليتسلقوا مرتبة (الربوبية) يضاهئون الأحبار والرهبان حذو القذة بالقذة!
14. الدعوة إلى اتباع المحكم دون المتشابه:
من أعظم الحقائق القرآنية ما جاء في أول سورة (آل عمران) من أن ترك محكمات الكتاب وتأسيس الدين على متشابهاته أصل الشر وتكّون الأديان والمذاهب الباطلة. إنه يساوي الكفر بالآيات لأن كليهما يؤدي إلى نتيجة واحدة هي الضلال عن سواء السبيل .
يقول تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ(7) } آل عمران.(159/35)
وهذه علة الفرق الضالة جميعاً ومنهم الرافضة. لقد عطلت هذه الطائفة الانتفاع بالقرآن، وحولته إلى مصدر ضلال عن طريق اقتناص متشابه آياته والاعتماد عليها في تأسيس أصولها كـ(الإمامة) و(العصمة) والطعن في الصحابة وأكل أموال الناس بالباطل باسم (الخمس) وانتهاك أعراضهم باسم (المتعة)…الخ دون سند من آية محكمة صريحة!
إن التأكيد على هذه الحقيقة وبيانها وتفصيلها وترسيخها في أذهان الناس ضرورة من ضرورات المنهج، لأنها تحسم الخلاف علميا بين أصحاب الحق الذين أسسوا دينهم على محكمات الكتاب، وبين أصحاب الباطل الذين أسسوا دينهم على متشابهاته ومنهم الرافضة. وبذلك نشطب على ذلك الكم الهائل من الأدلة المتشابهة التي ضيعت الكثير الكثير من عوام الناس بل وخواصهم أيضاً سواء كانت روايات أو متشابه الآيات أو آراء وعقليات غير منضبطة بصريح الكتاب.(1)
15. القصص الحق:
__________
(1) راجع لتفصيل هذا الموضوع المهم كتاب (العصمة)، رسالة (القواعد السديدة)، كتاب (المنهج القرآني الفاصل) جميعها للدكتور عبد الهادي الحسني.(159/36)
انتهت قصة ميلاد المسيح- عليه السلام - في سورة (آل عمران) بإبطال عقيدة النصارى في بنوته لله احتجاجاً بولادته العجيبة من غير أب وذلك في قوله تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(60) )فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إن هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ(63) } .
وفي قوله تعالى: { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ } بيان أن من القصص ما هو حق وما هو باطل. فالقصص الحق ما كانت له غاية هي إحقاق الحق وإبطال الباطل وأخذ العبرة للالتفات منه إلى الواقع من أجل علاجه من أمراضه. أما إلهاء الناس وقتل أوقاتهم بإشغالهم عما ينفعهم ولا يحذرهم مما يضرهم، فهو من القصص الباطل. { فَإِنْ تَوَلَّوْا } فنفروا وانزعجوا من الحقيقة المخالفة لما هم عليه؟ أنجاملهم فنخفي عنهم الحق كي لا نخدش مشاعرهم؟! كلا { فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ } .(159/37)
وجاء بعد هذه الآية قوله تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(64) } يعلمنا كيف نستغل القصص في دعوة من يدعون أنهم أتباع لمن نقص قصته ونذكر سيرته فندعوهم إلى الأصول المشتركة { ِإلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا } وبينهم للانطلاق منها إلى بحث الأمور المختلفة { َولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } .
وإن كان ذكر هذه الأمور مزعجا أو منفرا لبعضهم أو لهم جميعاً وهو ما عبر الله عنه بقوله: { فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي قد تكون النتيجة التولي جميعاً عن اتباع الحق { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } .
ثم جاء بعد هذه الآية ما يقطع العلاقة بين أهل الكتاب وإبراهيم - عليه السلام - صراحة فإبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولا مشركاً فإن كنتم أتباعاً حقيقيين لإبراهيم فاتركوا ديانتكم واتبعوه بأن تكونوا مسلمين: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(65) … مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) } آل عمران .(159/38)
هذا هو القصص الحق وهذا هو منهج الله في عرض القصص، وعلينا – إن كنا مؤمنين- أن نتبعه. فإذا تطرقنا –مثلاً- إلى حادثة (مقتل) سيدنا الحسين - رضي الله عنه - علينا أن ننزلها منزلتها دون زيادة أو نقصان. مع الانتباه إلى عدم الانسياق وراء الروايات السفيهة المُسِفَّة وان وردت في كتب التاريخ أو المصادر الحديثية التي تروي الصحيح والضعيف تلك التي رواها أبو مخنف الرافضي الشعوبي المحترق وأمثاله من الحاقدين أو غيرهم من الغافلين بادي الرأي.ولا يكفي في رواية هذه الحوادث- التي تتعلق بها ثوابت كثيرة من تاريخ الأمة وسمعة رجالها وعقيدتها وسياسة الدين الشرعية- أن نجد في الهامش أنها صحيحة السند فإن العواطف والمجاملات لها دور كبير في هذا التصحيح!
وهذا ما لمسناه. إنهم يأتون إلى عدة أسانيد ضعيفة أو تالفة فيجعلون من تعددها سبباً لتحسين السند من باب الحسن لغيره. وبما أن (الحسن) من أنواع (الصحيح) فالانزلاق إلى التصحيح عن طريق التورية والتلاعب بالألفاظ يسير. وهكذا صارت الرواية صحيحة!
ثم إن صحة السند لا تستلزم صحة المتن إلا بشروط منها السلامة من الشذوذ والعلة الخفية، وهما بابان واسعان يستلزمان معرفة غنية بالروايات والتاريخ وفلسفة وظروف الحدث والسياسة الشرعية، ومقدمات أخرى منها الخيوط الخفية للحدث أو جذور المؤامرة. وقبل هذا كله العلم بالقرآن وحقائقه الثابتة. وهذا كله يحتاج إلى نفوس سليمة من عقدة أصيبت بها الأمة -إلا من رحم- هي عقدة التقديس لـ(أهل البيت). وعند فقدان هذا كله أو بعضه تكون رؤيتنا للقصة ضربا من التحديق في جو مشحون بالضباب أو الغبار.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن المنهج القرآني يلزمنا بان نستثمر القصة من أجل بيان مخالفة الروافض للحسين في عقائدهم وشرائعهم وشعائرهم، ودعوتهم إلى اتباعه الاتباع الشرعي السليم.(159/39)
إن ما انزلق إليه البعض من المشايخ وغيرهم من الحديث عن (المقتل) في محرم ومن فوق منابر الجمعة أو في المحاضرات حديثاً مجرداً لا غاية له سوى استثارة العواطف واستدرار المدامع، تظاهراً بحبه يتعارض والمنهج الإلهي. بل إنه يجسم الحدث ويضخمه، ويصب في النتيجة النهائية في مجاري التشيع الفارسي.
إن المسيح - عليه السلام - نبي من أنبيائنا. والنصارى يجسمون دعوى صلبه و(مقتله) ويتخذون لها موسماً خاصاً بمراسيم وطقوس خاصة. لكننا لم نشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- وهو قدوتنا وأسوتنا- يعبر عن حبه للمسيح بمشاركتهم في مواسمهم ومراسيمهم -ولو بطريقة شرعية- أملاً بكسبهم وتأليف قلوبهم. ولنفترض أن المسلمين اليوم انساقوا وراء النصارى بحجة دعوتهم وتأليفهم فصاروا يحتفلون على طريقتهم الخاصة بهذه المناسبة ويجسمون المأساة بإظهار شعائر الحزن والحديث عن الحدث بطريقة ترقق القلوب وتثير الدموع. ماذا سيكسبون من وراء ذلك؟! إن النصارى لن يرضوا عنا ولن يتحولوا مسلمين بل العكس هو الذي سيكون! إنهم يتمسكون أكثر بباطلهم لأن ما يرونه ويسمعونه سيكون دليلاً مضافاً إلى أدلتهم في ما يعتقدون. وهذا ما يحدث بالضبط للرافضة حين نجعل من (المقتل) قضية مع زيادة أن أهل السنة يضعف يقينهم بما هم عليه وشيئاً فشيئاً سيقتربون من جانب الباطل ويترسخ عندهم بمرور الزمن شعور- ولو غامض- بصحة دعوى أهل الرفض مما يؤدي مستقبلاً ولو على مدى عشرات السنين إلى دفعهم للوقوع في شرك التشيع الفارسي.
16. النسب والمصاهرة:(159/40)
حين حضر يعقوب- عليه السلام - الموتُ { قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ ءَابَائِكَ } من آباء يعقوب ؟ { إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ…(133) } البقرة.
فإسماعيل - عليه السلام - إذن هو أحد آباء يعقوب (الذي هو إسرائيل). وفي ذلك إشارة إلى أن اليهود والمسلمين يلتقون في نسب واحد وهم أبناء أب واحد هو إبراهيم. بل إن إسماعيل أبا العرب هو أحد آباء يعقوب أبي اليهود حسب اعتراف يعقوب صراحة لأنه عمه أخو أبيه إسحاق، مما يدعو إلى التقارب والدينونة بدين واحد دين أولئك الآباء الذين ينتسب إليهم الجميع.
وخاطب القرآن مشركي قريش وذكر لهم أن هذا الدين الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - إنما هو دين أبيهم إبراهيم - عليه السلام -. مما يدل على مشروعية الحديث عن العلاقة الطيبة التي كانت تربط بين أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - وأقربائه وأهل بيته وذرياتهم من بعدهم وبيان أنهم أمة واحدة بعضهم من بعض أي مشروعية ما اصطلح عليه من عنوان (النسب والمصاهرة) بين الصحابة وأهل البيت.(159/41)
لكننا نجد فرقاً جوهرياً فاضحاً بين المنهج القرآني والمنهج الترضوي في طرح هذا الموضوع ذلك أن القرآن لم يكتف بذكر هذه الحقيقة التاريخية دون أن يضيف اليها الدعوة إلى اتباع أولئك الأنبياء أو الرموز مع التصريح بقطع الصلة بينهم وبين المنتسبين اليهم من اليهود والنصارى والمشركين. ولذلك جاء بعد تلك الآية قوله تعالى: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) } وقوله: { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ(159/42)
عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) } البقرة. ولم يكتف بهذا حتى صرح بسفاهتهم وقبائح أعمالهم فقال بعدها: { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) } البقرة. وهو ما قصر فيه أصحاب المنهج الترضوي خوفاً من نفور الرافضة عنهم ومداراةً لهم تنفيساً عن الشعور بعقدة النقص والهزيمة النفسية.
17. خيرية الأمة وفلاحها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
يقول تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ(110) } آل عمران.
{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(105) } آل عمران.
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(78)كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79) } المائدة.(159/43)
فبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -وليس بالمداهنة والمراوغة بدعوى (الحكمة)- يكون فلاح الأمة وتتحقق خيريتها وسيادتها على الأمم. وفي خلافه يكون التفرق والاختلاف والخسارة وتحل اللعنة مهما حاولنا أن نجمع ونحافظ على وحدتنا لأن التجمع على غير الحق ممحوق البركة لا يكون، وإن كان لا يدوم. ولذلك جاء قوله تعالى: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } بعد قوله: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } هذا في مقابل ذاك.
فإما دعوة إلى الخير وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وإما تفرق واختلاف. أي أن الجماعة في شرعنا لا تبنى على التسالم على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفاظا على المشاعر ومداراة لأهل الباطل، بل إن هذا أساس التفرق والاختلاف مهما بدا المجتمعون المداهنون في ظاهرهم مجتمعين موحَّدين.
وأي معروف أعظم من التوحيد؟ وأي منكر أنكر من الشرك بالله تعالى بواسطة الأنداد الذين ينسب اليهم علم الغيب المحيط والقدرة الخارقة. تنذر لهم النذور وتذبح لهم الذبائح ويُدعون مع الله ومن دونه ويحلل باسمهم الحرام ويحرم الحلال وتؤكل أموال الناس بالباطل وتستباح حرماتهم وأعراضهم ودماؤهم. وتكونت طبقات من العلماء والسادة والكبراء اتخذت أربابا من دون الله تفتي بالعظائم والمنكرات وتترك الجماعة والجماعات!
وأي خير في مجتمع أو أمة ترى كل هذا ولا تنكره! بل تقره ولا تكفره !! بل تتملق حاخاماته وسدنته ودعاته وحملته وزنادقته!!!
18. فشل المنهج الترضوي وبطلانه:(159/44)
لقد دعى النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود وأمثالهم بصدق وحرارة إلى اتباع ما جاء به أنبياؤهم وأعلن أنه يسير على منهاجهم ويتبع ملتهم كما اخبر تعالى فقال: { قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) } آل عمران .
ورغم هذا فإنهم لم يؤمنوا بمحمد- صلى الله عليه وسلم - ولم يتبعوه لأنهم كاذبون في دعواهم لا يدينون إلا بما اخترعوه بأهوائهم. فان اتبع محمد- صلى الله عليه وسلم - -وحاشاه- هذه الأهواء فعند ذلك فقط يرضون به ويتبعونه كما قال تعالى: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) } البقرة.
فالرضى إذن لا يحصل إلا بإحدى وسيلتين: فإما أن تتبع ملتهم وأهواءهم فـ { مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } ، وأما أن يتبعوا ملتك ودينك وليس هناك من حل وسط فاستمسك بالذي أنت عليه واصبر على كيدهم وعداوتهم حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.
ويظهر من إشارات القرآن ومن السيرة النبوية أن علاقة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأهل الكتاب مرت بمرحلتين:(159/45)
(المرحلة الأولى: مرحلة المجاملة لأهل الكتاب. وكان الهدف الأكبر من هذه المجاملة هو تأليف قلوبهم ودعوتهم إلى الإسلام. لا سيما وهم أهل الكتاب الأول وكانوا يستفتحون برسول الله- صلى الله عليه وسلم - على أهل المدينة من الأوس والخزرج فكان يحرص عليه الصلاة والسلام على موافقتهم ومجاملتهم في كثير من الأمور مما لا يمس أمور العقيدة. وخاصة في قضية العادات الاجتماعية حتى في تسريح شعره وكان يحرص على موافقتهم في أمور العبادات كما نعلم حين أمر المسلمين بالصيام في عاشوراء قائلاً: (نحن أحق وأولى بموسى منكم)(1).
المرحلة الثانية: وذلك حين أعلن اليهود حربهم العنيفة المشبوبة على المسلمين. فأصبح يحرص على مخالفتهم في كل شيء ليكون للمسلمين تميزهم الكامل حتى في العادات واللباس وليس في العبادات فقط كي ينهي هذه القدسية التي كانت لهم في نفوس المسلمين حين انحرفوا عن الحق وكفروا به:
{ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ(89) } البقرة. وقد وضح هذا التمييز الإسلامي في أكثر من جانب. وكانت هذه النقاط قد تم معظمها قبيل غزوة بدر. وكان ذلك كله بأمر من الله تعالى واستجابة لرغبة نبيه الكريم في هذه المفاصلة… وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ستة عشر شهراً قبلة اليهود وكان يحب أن يصرفه الله إلى الكعبة وقال لجبريل في ذلك فقال إنما أنا عبد فادع ربك واسأله فجعل يقلب وجه في السماء يرجو ذلك حتى أنزل الله عليه: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (144) } البقرة.
__________
(1) متفق عليه.(159/46)
لقد تمت المفاصلة بين المسلمين واليهود وأصبح للمسلمين قبلتهم الخاصة بهم نحو المسجد الحرام… ولم ينته الأمر في شعبان شهر التميز عند هذا الحد. فلقد جاء إضافة إلى التميز في قبلة الصلاة التميز في الصيام. لقد كان يوم عاشوراء هو يوم صوم المسلمين ولعلهم صاموه عاماً على الأقل وكان فريضة عليهم. وإذا بالآيات تترى لتؤكد تميز المسلمين في صومهم كذلك وإن كان الأصل في الصيام واحداً عند المؤمنين… فلقد أصبح رمضان منذ ذلك الوقت شهر الصيام الإسلامي وإن كان أصل الصيام قائماً بين المؤمنين. كما وإن أصل الصلاة قائم ومشترك بين المؤمنين لكن تميز القبلة يعني انفصالاً في الشعائر وتحديداً للهوية الإسلامية)(1)
وهذا يعني- والله أعلم- أنه لا بأس أن تبدأ الدعوة بالتماس الأمور المشتركة وإبرازها أملاً بتقريب الخصم- على أن هذا لا ينبغي أن يكون على طول الخط منهجاً ثابتاً وإنما إلى حين فإن آمنوا فبها وإلا تكون المقاطعة أو المفاصلة ولنا على هذا دليلان:
الأول: أن هذا السلوك كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤقتاً لم يدم أكثر من سنة وأربعة أشهر.
والثاني: أن هذا قد يكون اجتهادا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقره الله تعالى عليه إلى حين من أجل أن يقطع أمله من إيمانهم وذلك بالتجربة العلمية، وهي أبلغ في النفس من المعلومة الجاهزة. ولذلك لم يأت في القرآن توجيه بالتقارب والمجاملة إنما ورد العكس. ولا بد أن يكون هذا بعد مرور التجربة والتأكد من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من فشلها فنزل مثل قوله تعالى: { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(75) } البقرة.
__________
(1) المنهج الحركي للسيرة النبوية ص230-233 محمد منير الغضبان.(159/47)
وقوله: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ(120) } البقرة. وقوله: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ(145) } البقرة. وكأن هذه الآيات تقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا فائدة ترتجى من هؤلاء وقد ثبت لك ذلك عملياً فدع المجاملات وطريق المقاربات، حتى يمكن أن نقول: إن هذا من الأحكام المنسوخة وهو من باب نسخ السنة بالقرآن الذي هو أقوى أنواع النسخ. على أننا يمكن أن نقول: إن هذا متعلق بظرفه فيجوز أن يبدأ الداعية به حتى حين.
والذي ينبغي ملاحظته بقوة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين وجد أن خصومه لا يستجيبون رغم الملاينة والمقاربة غيّر الأسلوب وبدأ بمرحلة التميز والمفاصلة. عكس المنهج الترضوي فإنه حين عرض موضوع (النسب والمصاهرة) وحب أهل البيت…الخ ولم يجد استجابة من الرافضة صار يعطي المزيد من التنازلات. وحين تناقش أصحابه يقولون: نريد أن نثبت لهم أننا نحب علياً وأهل البيت! وحين تقول لهم: هل هناك أدنى دليل على أنكم لا تحبونهم؟ وهل دعوى بغض أهل البيت التي يدعيها الرافضة عليكم لها أدنى ما يبررها؟ وهل يمكن أن تثبتوا لقوم بهت ما تريدون إثباته من الحب مع أنه واضح بيَّن وأدلة إثباته لا تحتاج إلى مزيد؟!
وإذا أثبتم – وهو ثابت أصلاً- لهم أنكم تحبون علياً هل تنتهي المشكلة مع قوم يقولون: لا ولاء إلا ببراء ويقولون: ما ودك من أحب ضدك؟!
ثم متى كان أهل السنة يبغضون علياً حتى يدعي عليهم الرافضة ما يدعون ويفترون؟! لا تجد من إخوانك جواباً معقولاً!
يا قوم! إن مشكلتنا مع الرافضة كمشكلة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع يهود. فالمشكلة ليست في مخالفتنا لما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - أو ما كان عليه علي - رضي الله عنه - أو بغضنا له وإلا لانحلت المشكلة منذ البداية لعدم وجود مشكلة كهذه من الأساس.(159/48)
إننا نتمسك بالقرآن والسنة ونقيم ديننا على محكماتهما والقطعي منهما متسامحين في الظنيات التي هي مجال الاجتهاد والترجيح ولا اعتراض في مسائل الاجتهاد ونحب محمداً - صلى الله عليه وسلم - نبيناً وأهل بيته جميعاً لا نفرق بين أحد منهم كما يفعل الرافضة. إن مشكلتنا في مخالفتنا لملة الرفض التي صنعوها بأهوائهم وزخرفوها بأكاذيبهم تحقيقاً لأغراض موضوعة سلفا قد لا تنكشف لعوام الناس وجمهورهم ببساطة. ولن يرضوا عنا- مهما داهنا وتوسلنا- حتى نتبع ملتهم ولو أقسمنا لهم بين الركن والمقام أننا نحب أهل البيت مخلصين صادقين!
تركنا المنهج الإلهي فخسرنا:
وبهذا يظهر أن أحد الأسباب الكبرى في تفاقم الخطر الشرقي الزاحف، مع تراجعنا وخسارتنا كل يوم موقعا من مواقعنا هو تركنا المنهج الإلهي تحت ضغط الواقع واستبدالنا به منهجا آخر يعتمد الترضية وسيلة وغاية. وهو منهج قديم بال لم نكسب من ورائه سوى الخسائر المستمرة. إن هذا يدعو كل مؤمن غيور على دينه وقومه ووطنه إلى أن يراجع الحساب ويقلب أوراق دفتره من جديد على ضوء كتاب ربه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
الباب الثالث
قضيتنا
بين الغزو الشرقي والغزو الغربي
الفصل الأول
قضية شرقية لا غربية
عقدة شرقية قديمة:
الخوف من الشرق هاجس قديم، تعاقبت عليه الدهور ورسخته الحوادث حتى وصل إلى حد العقدة المرضية الكامنة في اللاشعور أو العقل الباطن للإنسان العربي قبل مجيء الإسلام.(159/49)
إن قسوة الفرس، وعنجهيتهم، وتكبرهم، وإصرارهم الذي لا مثيل له على الانتقام الذي لا تحده حدود، وغزوهم المتكرر المستديم للعراق وأرض العرب، وشدة تنكيلهم بخصومهم، وتمرسهم بأساليب المكر والغدر، واشتهارهم باعتماد الاغتيال في تصفية الخصوم. هذا وغيره مع طول فترة استعمارهم الوحشي وشدة وطأته إذ بلغ آخر استعمار لهم لأرض العراق قرابة اثني عشر قرنا (من 539ق. م-636م) وقد ذاق فيه العراقيون صنوف العذاب والمآسي طيلة هذه الأحقاب المتطاولة والمتراكمة دون بارقة أمل بالخلاص.
كل هذا سبب (رُهاباً)، وولد يأساً قاتلاً انتزع الأمل من النفوس في إمكانية طردهم فضلاً عن القضاء عليهم. ولقد جرب العرب مرارا وتكرارا أن يحررواً أنفسهم منهم فلم يحصلوا إلا على التنكيل والقتل الذريع والانتقام الذي طال حتى الآبار في الصحراء وكان من صوره ربط أيدي العربي بين فرسين وخلع أكتافه بهذه الطريقة الرعيبة الرهيبة والتي استعملها الخميني مع الأسرى العراقيين!
وشيئاً فشيئاً تولدت عند العرب عقدة خوف (أي رُهاب = phobia) استقرت في أعماق نفوسهم وصاروا يتناقلونها جيلاً بعد جيل!(159/50)
وقد يفسر هذا لماذا ظل الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يخطب في الناس ثلاثة أيام يدعوهم للتوجه إلى القتال في جبهة العراق فلم يستجب منهم أحد فغضب غضباً شديداً وصار يعيرهم ويثير نخوتهم فكان أول مجيب أبا عبيد الثقفي فصرخ قائلاً: (أنا لها أنا لها) فقال عمر: قد وليتك. مع أنهم لم يكونوا يترددون في الذهاب إلى أي وجه آخر غير هذا الوجه. وهذا لا يتناقض مع شجاعة العربي وإقدامه، لأن العقدة مرض -وليس طبيعة متأصلة- محلها العقل الباطن أو اللاشعور فحين يستحضر المصاب بها في وعيه أو عقله الواعي قواه ويحفزها بالاتجاه المعين يقاتل بضراوة رغم ما يشعر به من معاناة وكراهة مترسبة في ذلك المحل. لذلك كان العرب يقاتلون الفرس ويأبون التذلل لهم وفي والوقت نفسه يجدون في أنفسهم كراهة شديدة وعزوفاً عن هذا القتال لا يجدونه حين يقاتلون غيرهم كالروم مثلاً. إن إباءهم ورفضهم المقام على الذل وقتالهم لهم تفرضه عليهم طبيعتهم الشجاعة عندما تطفو لوازمها إلى مستوى الوعي وإن كراهتهم لقتالهم تفرضه عليهم العقدة المستقرة في اللاوعي.
وظل العرب بعد الإسلام يعانون من عداوة الفرس وغدرهم وعنجهيتهم وانتقامهم وأساليبهم الملتوية في تصفية الخصوم والى اليوم مما رسخ عقدة المرض هذه في نفوسهم أكثر فأكثر.
وتستطيع اليوم أن تلمس هذه العقدة المرضية في نفوس الكثيرين. إن الواحد منهم يرتعب حين يطلب منه العمل في مناطق يعتقد أن للذيول الفارسية وجوداً فيها! بل إن هذه العقدة تلازمهم في عقر دارهم فلا تدعهم يشعرون بالأمان أو الاطمئنان ما لم يجاملوا ويداهنوا ويمزقوا ويرقعوا!!
الغزو الشرقي والغزو الغربي:(159/51)
من الظواهر المنتشرة والتي تؤيد ما نقول: إن هؤلاء المعقدين فارسياً إذا تحدث أحدهم عن الغرب (الروم بالمصطلح القديم) والغزو الغربي والماسونية والصليبية والعولمة والعلمانية وأمريكا وأوربا واليهود ينطلق لسانه فصيحاً عالياً مدوياً يشتم ويلعن ويشخص بالأسماء ناسياً (هدوءه) و(حكمته)، وتغادر ذاكرته كل آيات اللين وأحاديث الرفق ووصايا (الحكمة) وتنقلب دعوته بقدرة قادر- من دعوة هادئة وادعة لينة (حكيمة) إلى دعوة هادرة ثائرة!!
شرقية لا غربية:هذا مع أن مشكلتنا نحن العراقيين شرقية أكثر منها غربية.
ومن درس التاريخ أو قرأه، وعاش الواقع عيشة معاناة ورصد وتحليل وربط بينه وبين الماضي أدرك هذه الحقيقة، وعجب كيف يغفل عنها أصحاب (القضية)!
إن نظرة فاحصة للتاريخ تنبئك أنه ما من حضارة قامت في بلاد الرافدين إلا وكانت نهايتها على يد الغزاة القادمين من الشرق،وتحدث عند الناظر اعتقاداً راسخاً بأن عداوة إيران للعراق عداوة أبدية، لم ينفع معها -ولن ينفع- إلا القوة قوة السلاح وقوة الفكر. وأن إيران حين اجتاحها الإسلام استطاعت أن تصنعه لصالحها ولقد ظلت تقاوم الدين الحق وتثور وتغتال وتتآمر على السلطة العربية المسلمة بغض النظر عن أدوارها ورموزها حتى إنها ثارت على علي نفسه ثلاث مرات رغم قصر مدة سلطته ولم يستطع أن يضبطها إلا بعد أن استعمل زياد بن أبيه والياً على خراسان.
لقد حرفت إيران الدين وصنعت لها منه ديناً آخر يختلف عن دين العرب في أصوله وفروعه ومصادره ورموزه، دينا يحقق أغراضها، ثم صدرته إلينا فصار لها اتباع بالملايين يعيشون في بغداد والقادسية وذي قار وقلوبهم معلقة بقم ومشهد وطهران، ومعبأة بالحقد والنوايا السيئة ضد أرضها وشعبها.(159/52)
إن الغزو الشرقي يغزو الدين نفسه يحرفه ويخربه من الداخل.أما الغزو الغربي فيدور ولا يدخل فيه. إنه يدعو إلى ترك الدين تارة بالتشكيك وتارة بالترغيب أو الترهيب. لكنه لم يصنع لنا دينا بديلاً كما فعل قادة الشرق أو الشر. لقد اكتفى بتجربته القديمة مع النصرانية حين حولها إلى صليبية وترك التجربة الأخرى لقرينه الشرقي فقام بها أتم قيام!
إن الغزو الغربي ينشر الملاهي والمسارح الداعرة وحانات الخمور والمواخير وصالونات الرقص. ويصدر الأفلام الجنسية وأسباب الرذيلة وكل ما يدخل في جنس (المعصية). أما الغزو الشرقي فما يفعله يدخل في جنس (البدعة) المغلظة المكفرة متسترين بحرب الخمور والسفور والتشدد في الحجاب ونشر المراقد والمساجد المزورة وقد ابتدعوا مئات البدع الاعتقادية والعبادية المعجونة بالحقد والمجوسية المقنعة، والمدهونة بالإباحية المبرقعة. والبدعة في شرعنا شر وأحب إلى إبليس من المعصية. وقد بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بحرب البدع الدينية قبل المعاصي الدنيوية.
بين إيران واليهود:
والخطر الإيراني يزيد في شره وضراوته وامتداده على الخطر اليهودي. إن إيران عدو ماكر شرس متمرس بالمكر والخديعة. يلبس لباس الدين فهو عدو منافق غير واضح. بينما اليهود -وإن كانوا لا يقلون مكراً وخديعة وحقداً عن إيران إلا إنهم- عدو واضح. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن اليهود لا يمتلكون مقومات البقاء والاستمرار أبداً إن أمامنا فرصة أكيدة ومتحققة حتماً -بإذن الله- لإزالتهم والقضاء عليهم وكل الدلائل الدينية والسياسية والاقتصادية والجغرافية تشير إلى ذلك فهم عدو مهما فعل وقتي لا يدوم. على عكس إيران فإنها عدو يمتلك أسباب القوة والبقاء والاستمرار ولا يمكن أن نفكر يوماً في إمكانية إزالته أو ترويضه.(159/53)
ثم إن الأمة جميعاً على وعي بالخطر اليهودي، وتعرف أن هناك قضية اسمها (القضية الفلسطينية) هي قضيتها المركزية. بينما القضية الشرقية ومصيبة الشعوبية لا بواكي لها حتى من أهلها إلا القلة الذين لا زال صوتهم مخنوقاً في جب. بل رفعت في وجهها رايات (التقريب) فميعت واختفت من أذهان الغالبية حتى في العراق!
الفصل الثاني
بين الثقافة المصرية والثقافة السعودية
تتنازع بيئتنا الدينية ثقافتان هما الثقافة المصرية والثقافة السعودية:
1. الثقافة المصرية:
تمتاز الثقافة المصرية بطروحاتها المعادية للصليبية واليهودية والماسونية والغزو الغربي عموما. وتكاد تخلو تماما من الإشارة إلى الغزو الشرقي.بل لا نكون مغالين إذا قلنا إن المصريين عموما يجهلون حقيقة هذه المشكلة ويتخبطون حين يتناولونها بالحديث. والسبب موقعهم الجغرافي وبعدهم عن بؤرة جراثيمها أي إيران. إن معلوماتهم عنها طفولية بدائية تجنح إلى التعميم وتهدف إلى التوفيق للتفرغ إلى العدو الأكبر بالنسبة إليهم إلا وهو الصليبية واليهودية وما شابه أو تعلق بهما. لهذا ولكون إخواننا المصريين ذوي طبيعة لينة متساهلة صاروا صيداً سهلاً في طريق الشرك الفارسي. لقد خدعتهم فروة الثعلب فصاروا يتصورون ويصورون أن المشكلة لا تعدو بعض المسائل الفروعية التي يتعصب لها جهلة الناس وعوامهم! أما العلماء فيعتقدون فيهم البراءة من التعصب والطائفية ويتعاطفون مع دموعهم التي يذرفونها كذبا حزنا على وحدة الأمة الضائعة مع إنهم أصل كل شر وأساس كل بلية، وما العوام إلا مترجمون أمناء لما يتكلم به العلماء. إنهم مجرد مقلدين يسيرون معصوبي الأعين وراء أولئك العلماء ولا يخرجون عن آرائهم وفتاويهم التي لو كانت صالحة صادقة لانصلح الحال منذ زمن بعيد. إن تأسيس (دار التقريب) في القاهرة دليل واضح على عدم إحاطة المصريين بهذا الموضوع مع حبنا واحترامنا لهم.
2. الثقافة السعودية:(159/54)
رغم أن هذه الثقافة أقرب من الثقافة المصرية إلى فهم هذه المسألة ومعرفة جذورها، وموقفها منها أقرب إلى الصواب لكن طروحاتها بعيدة عن واقعنا، وقد تكون فيها خشونة غير مناسبة. إن الغزو الشرقي لا يشكل لديهم ظاهرة واضحة، والتصدي له عندهم لم يرق إلى مستوى أن يكون هو القضية فهم مشغولون بشؤون أخرى كثيرة منها ما صار على ذمة التاريخ ولم يعد له وجود في الواقع.
وبين هذه الثقافة وهذه الثقافة ضاعت الأجيال المتدينة في بلادنا. والنتيجة أننا فقدنا قضيتنا وصارت طروحاتنا بعيدة عن واقعنا. وإذا ساغ لنا أن نعذر المصري أو السعودي في موقفه من هذه القضية وعدم انتباهه إلى خطورة الغزو الشرقي، فما هو عذر العراقي الذي يدس رأسه في القش ليبحث له عن نافذة ينظر من خلالها إلى الأفق البعيد عن دائرته وواقعه؟!
القضية خاصة وعامة:
للامة قضاياها، ولكل بلد ينتمي إلى الأمة خصوصيته، ومطلوب منا في أي بلد نكون أن نتفاعل مع قضايا أمتنا وإلا فقدنا هويتنا وانتماءنا وقوتنا ووحدتنا. لكن أن نكون (أميين) إلى هذه الدرجة التي تركنا فيها (النار) تلتهم بيتنا ونحن نتفرج على ما يحدث بحجة أننا مشغولون بمصيبة العشيرة التي قد لا نستطيع عملياً أن نفعل لها أكثر من التفرج واجترار الأحاديث فهذا لا يصح عقلاً ولا يستقيم شرعا! بل هو تعطيل لطاقات الجمهور وإلهاؤه عن أن يقوم بدوره على أرض الواقع أو في الميدان الذي يتحرك فيه.
حضرت مرة محاضرة لأحد المشايخ الكرام. وفي آخر المحاضرة وقد كانت قيمة من حيث موضوعها، توجه إلينا بالسؤال التالي:
ما هو العمل المطلوب منا القيام به؟ ثم أجاب على سؤاله قائلاً:
أولاً: حماية بيت المقدس من عمليات الهدم التي تجري تحته..(159/55)
لكنه بعد أن انتهى من حديثه وصلينا العشاء ركب سيارته وانطلق إلى بيته فكان ذلك أول عمل قام به هو بعد الصلاة، والسلام على الحاضرين! وانفض الجمع كلاً إلى بيته كذلك! ولا زالت عمليات الحفر تجري تحت بيت المقدس.
ماذا يمكن لمصل في مسجد أن يفعل لبيت المقدس وبينه وبينه حدود وقيود؟ لا شيء سوى الحزن والدعاء! لقد فات شيخنا الكريم أن العمل الذي طلبه منا عمل حكومات وجماعات أو دول وليس عمل أفراد فكان الأولى به أن يوجه طلبه هذا إلى من ينبغي أن يوجه إليه أو إلى الجهة القادرة عليه. وأما هؤلاء المساكين الذين ينظرون إليه وهم لا (يبصرون) فكان عليه أن يطلب منهم عملاً يستطيعون القيام به في الزمان والمكان المعين حتى يقترن القول بالفعل وتتعود الأمة على العمل وإلا كنا أمة خطابات وشعارات وكفى.
وفات شيخنا- وهو ذو علم جم- التفريق بين ما هو مطلوب أولاً من الناحية النظرية وما هو مطلوب أولاً من الناحية العملية وإلا وقعنا في متاهة لن نخرج منها. إن ما قاله مطلوب أولاً ولكن من الناحية القيمية النظرية. أما من الناحية الواقعية الممكنة فقد يموت الفرد المسلم المخاطب في ذلك المسجد ولا يفعل شيئاً. فالحديث عنه وعن أمثاله من المشاريع النظرية فردياً -إذا زاد عن حده أو وضع في غير موضعه- تضييع للوقت وتبذير للجهود وتعطيل لطاقات الجمهور. وكل ما نؤديه يكون شيخاً يتكلم وأستاذاً يحاضر وجمهوراً ساكناً يسمع ويبلع و… لا شيء بعدها.
الهروب المقنع من الواقع:
إن الحديث المر عن الشيشان وكشمير والفلبين وأفغانستان وغيرها من البلدان الإسلامية المنكوبة، مع الذهول عن مشاكل البلد أو الواقع الذي نعيش فيه ما هو -في كثير من الأحيان- إلا تعبير عن الهروب من هذا الواقع، مع إيهام النفس بأن المتحدث (يهتم بأمر المسلمين).(159/56)
يخيل إلي أن كثيراً من هؤلاء الواهمين لو طارت الشيشان فحطت في بابل أو ذي قار لما أعطاها من الاهتمام معشار اهتمامه الحالي بها لأن ذلك يستلزم منه عملاً يؤديه وهو لا يريد أن يعمل. وإلا لعاش مشكلة أهله ووطنه الذي هو أقرب إليه وأولى بمعروفه.
سمعت أحدهم يقول بحماس: آه! لو أستطيع الوصول إلى (أسامة بن لادن) لأعطيته جميع ما أملك. قلت له -وكانت بيني وبينه دالة وميانة- : لا أُصدق. فإني لم أرك يوماً تتبرع ولو بمبلغ ضئيل من أجل قضية أهلك وبلدك وأنت على وعي بها والقضيتان من جنس واحد وكلنا في الهوى (أسامة).
إن الذي لا يثير عطفه منظر أطفاله الجائعين العراة، ولا يستدر دمعته حالهم وهم يتضورون جوعاً أو يتسولون، كيف تريد مني أن أصدق أنه مخلص في الحديث عن معاناة الجيران؟! وقديماً قيل: (الأقربون أولى بالمعروف).
ومع ألمي وشعوري بمعاناة أخوتي من العرب والمسلمين والمظلومين في كل مكان إلا أنني أجد نفسي منساقاً فطرياً لأن أتألم وأتعاطف مع معاناة أهلي ووطني أكثر من غيرهم، { وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَاب الله (74) } الأنفال.
ومع احترامي لكل الثقافات المحترمة، لكنني أؤمن أن لنا- نحن العراقيين- ثقافتنا وخصوصيتنا التي تتناسب مع واقعنا ومشاكلنا التي تتمحور حولها قضيتنا. واعتقد جازماً أن هذا لا يتناقض مع اهتمامنا بمشاكل وقضايا أمتنا. إن الصدق والواقعية يفرضان علينا أن نتبع هذا التسلسل في الاهتمام، والتفريق بين ما هو أول في النظر وما هو أول في العمل، والله يحب الصادقين ويحب العاملين.
صمت مطبق:
علماء الدين عندنا ومشايخنا والناطقون باسمه- إلا الأقل- ساكتون بل بدؤوا يتدحرجون من قمة العزة الإيمانية إلى سفح المجاملات والمداهنات والهزيمة النفسية.(159/57)
ومع أن طروحات المؤسسات الثقافية الرسمية في كثير من الأحيان جيدة وقيمة، إلا أنها تخاطب النخبة ولم تنزل إلى مستوى فهم الجمهور أو الشارع- كما يحلو للبعض أن يسميه- ولم تنجح في كسب ثقته أو حشد اهتمامه باتجاه القضية. لقد عقدت ندوات عديدة عن الشعوبية وخطرها نقلت تلفزيونياً ووثقت في كتب ونشريات وألفت معها كتب جادة قيمة تناولت التآمر الإيراني والصراع العراقي الفارسي وتاريخه ووقائعه ولكن بأسلوب نخبوي يخاطب الجمهور من وراء أبراج عاجية، ذلك الجمهور الذي نجح الجهلة و(الروزخونية) في كسبه وتجييره لصالحهم.
القضية بين قاعدة الانطلاق ومحور الحركة:
لقد بعث الله –جل وعلا- النبيين- عليهم السلام- مصلحين اجتماعيين، إن معنى كونهم (مصلحين) يستلزم وجود خلل يريدون إصلاحه. ومعنى كونهم (اجتماعيين) يستلزم أن يكون الخلل يعاني منه المجتمع حقيقة وواقعا، وهذا هو الفرق بين المصلحين الاجتماعيين وبين الفلاسفة وأمثالهم من المفكرين التجريديين أو الشعراء الحالمين.
المصلح الاجتماعي يرصد الخلل الواقع في مجتمعه، ثم يجتهد في وضع الحلول العملية المناسبة.ولا بد قطعا لكل حل جاد من (قاعدة) فكرية يستند إليها وينطلق منها.
إن القاعدة التي انطلق منها النبيون جميعا هي توحيد الله تعالى كما أخبر سبحانه فقال: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ(36) } .
أما الخلل الاجتماعي الذي جاهد كل نبي في سبيل إصلاحه، وجعله محوراً لحركته و(قضيته) فاختلف من نبي إلى نبي تبعاً لاختلاف مجتمعاتهم وأنواع الخلل التي عانى منها كل مجتمع من تلك المجتمعات.
لقد انطلق نوح - عليه السلام - من قاعدة التوحيد وهو يعالج عبادة الأصنام والشرك بالصالحين الخمسة ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وإبراهيم - عليه السلام - انطلق من القاعدة نفسها وهو يعالج عبادة الأصنام والشرك بالكواكب والنجوم.(159/58)
وكذلك لوط- عليه السلام - وهو يعالج الشذوذ الجنسي الذي اجتاح قومه. وشعيب - عليه السلام - انشغل بمعالجة الانحراف الاقتصادي في أسواق قريته مستندا إلى القاعدة نفسها.
وموسى - عليه السلام - كان يناضل من أجل تخليص أمته من الاضطهاد السياسي متمثلاً بفرعون، والانحراف الاقتصادي متمثلاً بقارون. ثم خرج بقومه من أجل أن يقيم لهم دولة التوحيد في الأرض المقدسة ولكن كل ذلك كان على ضوء التوحيد.وكذلك بقية الأنبياء عليهم السلام.
ثبوت القاعدة وتغير المحور:
نستخلص مما سبق أن الأنبياء اختلفوا في المحاور التي دارت حولها قضاياهم مع اتفاقهم في قاعدة الانطلاق. لقد اجتمعوا في القاعدة أو المنطلق الذي هو التوحيد. وافترقوا في القضية أو المحور الذي هو المشكلة الاجتماعية التي حاولوا علاجها.
ضرورة التفريق بين التوحيد والردود على الشرك:
هنا مسألة ينبغي أن نتوقف عندها لأن معرفتها صارت ضرورة. هي أن التوحيد الذي نؤمن به ونقصده في حديثنا ليس هو ذلك (التوحيد) الذي هو في حقيقته ردود أفعال فكرية إزاء المظاهر الشركية.
إن التوحيد أصل وفعل وليس رد فعل. والتوحيد ثابت والشرك متغير، فلكل قوم مظاهرهم الشركية. فقد تكون أحجارا وقد تكون كواكب ونجوماً، وقد تكون أشجاراً وقد تكون مراقد ومشاهد، وقد تكون تحاكماً إلى شرع غير شرع الله. كما إنها قد تكون شركاً اقتصادياً أو سياسياً. وتكون اتخاذاً للعلماء أرباباً من دون الله. وتكون إلحاداً في أسماء الله وصفاته. وتكون عبادة للبقر أو أي صنف من أصناف الحيوانات. وتكون إنكاراً لربوبية الله- وإن كان هذا كفراً خالصاً- وقد تكون مظاهر أخرى. أو تكون هذا كله مجتمعاً أو مقترنا بنسبة أو بأخرى.(159/59)
وحين يعالج النبي أو المصلح نوعاً أو أكثر من هذه الأنواع أو المظاهر الشركية فإنما يعالجه طبقاً إلى قاعدة التوحيد الثابتة وهي: إفراد الله تعالى بالعبادة والخضوع لأمره ونهيه وشرعه، والحب الأعظم والخوف والرجاء غير متعلقين بالأسباب الظاهرة، مع إفراده بما يختص به من أسماء وصفات وأعظمها العلم المحيط والقدرة النافذة بلا حدود. إن هذا ثابت في نفسه أما معالجات المظاهر الشركية طبقاً إلى الأصل الذي هو التوحيد الثابت فتختلف حسب المظهر الشركي.
التوحيد كالنظرية الهندسية أو القاعدة الرياضية الثابتة. والشرك كالمسائل أو التمارين التي تحتاج حلاً طبقاً إلى النظرية أو القاعدة. ويمكن أن نحل عشرات المسائل الرياضية استناداً إلى قاعدة واحدة. إن حلول المسائل الرياضية أو الهندسية ليست هي القاعدة أو النظرية إنما هي اشتقاقات واستطالات استندت إلى تلك القاعدة.
وكذلك معالجات المظاهر الشركية. إن الردود الفكرية أو الاعتقادية المتعلقة بالشرك والتي نجدها في كتب (التوحيد) أو (الاعتقاد) أو (السنة) ليست هي التوحيد. التوحيد ثابت لا يتغير وهذه الردود متغيرة حسب نوع الشرك الذي وضعت لعلاجه.
التوحيد غاية والرد على الشرك لا يقصد ما لم يكن الشرك موجودا. والتوحيد حاجة دائمة بدوام الله إلى الأبد والرد على الشرك نحتاجه على قدر وجود الشرك، فإذا زال يمسي الحديث عنه زيادة لا معنى لها على عكس التوحيد فإننا نحتاجه حتى ونحن في جنات النعيم!(159/60)
وهكذا يتبين لنا أن من الخطأ الجسيم اعتماد كتاب معين على الدوام أو تعميمه في كل زمان ومكان واعتبار الردود الاعتقادية في أي فترة من الفترات أو مكان من الأمكنة كانت تعاني من انحرافات في العقيدة جاءت تلك الردود لعلاجها –هي التوحيد الذي أراده الله تعالى أساساً وقاعدة لحلول مشاكلنا الدينية والدنيوية. لقد وجدت الكثيرين إذا ذكر التوحيد فإنما يعني به التوحيد الموجود في كتاب معين أو الذي تمثله تلك الردود دون أن ينتبه إلى الفرق بين هذا وذاك وإلى أن بعض ما يتصوره توحيداً مطلوباً قد استنفد غرضه لأن الظاهرة الشركية لم تعد موجودة فيكون مثله كمثل هندي مسلم في العراق يؤلف الردود تلو الردود على ظاهرة الشرك في البقر الموجودة في الهند وليس في العراق.
نعم يمكن الاستفادة مما كتب أو نتخذ كتاباً معيناً مرجعاً للتغيير إذا تشابه الخلل وصرنا نعاني من المظهر الشركي الذي ألف الكتاب من أجله وإلا فإن في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما يكفي ويغني. فإن لم نفعل تحول (التوحيد) الذي نتصوره إلى فلسفة ميتة غير قابلة لتغيير أو إحياء المجتمع لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
ومما ينبغي معرفته أن القضية قد يكون محورها علاج الشرك أو مسألة شركية معينة وقد يكون المحور مسألة أخلاقية أو سياسية أو اقتصادية…الخ حسب حجمها وأثرها في المجتمع. وقد تجتمع عدة مسائل لتشكل قضايا تقترن ببعضها لتكون هي القضية.
وخلاصة القول أن هناك (قاعدة) انطلاق وأساس بناء هو التوحيد وهناك مشكلة اجتماعية تحتاج إلى علاج هو (القضية). وقد تكون المشكلة هي الشرك والرد عليه هو القضية ولكن لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون الرد على الشرك هو القاعدة التي هي التوحيد.
حقيقة الخلل في الثقافة السعودية والثقافة المصرية:(159/61)
معضلة الثقافة السعودية أنها تخلط بين القاعدة والمحور. فتجعل من التوحيد الذي هو القاعدة محوراً تدور حوله قضاياها دون الالتفات إلى الفرق بين القاعدة والمحور من ناحية، وتغير المحور أو القضية وعدم ثباتها من ناحية أخرى. مما أدى بهم إلى الجمود والعزلة عن الواقع أي المشاكل الاجتماعية الواقعية التي ينبغي أن ينشغلوا بعلاجها على ضوء القاعدة. وهذا يعني فقدان القضية أو الانشغال بقضايا وهمية أو غير مهمة أو ليست هي الأهم. ويؤدي إلى الوقوع في مطب التجريد، حتى لقد انتهوا بالتوحيد إلى ما يشبه الفلسفة فإن الدين أو الفكر عموما إذا تجرد عن الواقع صار طروحات فلسفية مجردة.
ولقد استمر السعوديون في توحيدهم الفلسفي وتهويماتهم وأوهامهم دون أن يدركوا -أو تكون- لهم قضية حتى استفاقوا على ضربات البسطال الأمريكي تطرق أبوابهم وتطال أرضهم وتقض مضاجع النائمين الحالمين حول طيبة والحرم.
إن هذا الخلط بين القاعدة والمحور ليس له إلا نتيجة واحدة هي الجمود والعزلة عن المعاناة الحقيقية للمجتمع، والمراوحة أو القفز العمودي فوق موضع واحد لا يتغير مما يؤدي بـ(الموحد) إلى أن يكون في واد ومجتمعه في واد آخر. ويؤدي بدولة (التوحيد) إلى ان تكون أسوأ نموذج للإسلام مع وجود الوهم بأنهم يمثلون التوحيد أصدق تمثيل!
ألا فليعلم الأخ (الموحد) أنه لو كان هذا (التوحيد) الذي تتبناه الأنظمة هو التوحيد الحقيقي بشموله وحيويته وشموخه وقدرته على التغيير، التوحيد الذي يسري في أوصال الأمة أو المجتمع فتتحد وتنتفض حياة وجهاداً، لما تبنته أبداً لأنه سيطيح بهم وبعروشهم، ولكانت أمريكا عدواً لهم ولحاربتهم واتخذتهم أعداء لا أنظمة صديقة -كما تطلق عليهم- ولما أطلقوا على أمريكا وبريطانيا والدول الصليبية الأخرى اللقب نفسه. ولكان الإطلاق المتبادل بينهما إطلاقاً من نوع آخر!(159/62)
إن هذا (التوحيد) عبارة عن مجموعة ردود فكرية على مظاهر شركية لم يعد لها وجود في بلادهم التي صارت تعاني من أنواع جديدة من الشرك أعظمها الشرك السياسي والاقتصادي بالطاعة والخضوع والولاء للأجنبي وتصريف الثروات على أمره ومراده وليس على أمر الله تعالى وشريعته. مخالفين بذلك مقتضى كون الله تعالى هو الناصر وهو الرازق كما قال سبحانه: { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ(20)أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ(21) } الملك.
إن على (الموحدين) أن يعيدوا النظر في دراسة (توحيدهم) ويفرقوا بوضوح بين التوحيد الذي جاء به الوحي من رب العالمين، وهذه الردود التي فرضتها الظروف والمظاهر الشركية المتغيرة.
وأما الثقافة المصرية:فإنها تجعل العراقي يفكر في مشاكل مصر أكثر من مشاكل محيطه وواقعه، وينشغل بغير (قضيته). وسينتهي به المطاف آخر الأمر إلى النهاية نفسها التي تنتهي به إليها الثقافة السعودية من حيث الجمود والعزلة عن المعاناة الحقيقة التي يعيشها المجتمع والمراوحة أو القفز العمودي بغض النظر عن نوعية الجمود والعزل ودرجتها، ما لم نجر عليها التحويرات المناسبة لواقعنا حذفاً وإضافة وتطويراً.
وفي غياب هذا التحوير الضروري صار أكثر الدعاة والوعاظ يطرحون مواضيع فكرية تجريدية استهلكت وقودها منذ عقود فجمدت عجلتها وتوقفت مفاصلها حتى أكلها الصدأ، وهي اليوم تقتات على سمعتها ومجدها (أيام زمان) ليس إلا.(159/63)
لقد فقدوا العطاء الحقيقي الفاعل. وغالب طروحاتهم تدور حول مسائل فكرية تجريدية أشبه بالفلسفة كذلك. إنها تعبر عن ترف فكري إلى حد الترهل، وإعياء إلى حد العجز عن القدرة على التفاعل الإيجابي مع قضايا الواقع- وليس العصر- وإن كانت في نفسها قيمة من حيث الموضوع، وقد تكون متجاوبة مع واقع آخر على امتداد الأفق العريض.
إنهم يتحدثون عن العولمة والماسونية والغزو الفكري الغربي، في حين أن الملايين من مجتمعهم الذي يعيشون فيه حاضرين غائبين يزدحمون حول المراقد يلطمون الصدور ويشحنونها ترقبا ليوم الانتقام في محيط لا تجد كلمة التوحيد أو الحق لها فيه سبيلا غير مصبوغ بالخوف والتضييق بل.. الدم! دون أن يهز هذا الوضع المأساوي وترا واحداً من أوتار قلوبهم، أو يشغل ولو سنتيما واحداً من مساحة عقولهم.
ملخص القول: إن عدم لحاظ (القضية) جعل (التوحيد) السعودي جامداً يراوح في مكانه، محنطاً لا يتفاعل مع الحياة.وإن عدم لحاظ (الواقع) جعل الفكر المصري يجمد عندنا في كثير من جوانبه ويجعلنا كذلك جامدين نراوح في مكاننا.
ومن هنا فإن اعتراضنا لا ينبغي أن يفهم على أنه منصب على مضمون الفكرين أو الثقافتين، بقدر انصبابه على التوظيف العملي والواقعي لذلك المضمون.(159/64)
الفصل الثالث
ما الذي يحدد القضية؟
أمران اثنان مقترنان يجب أن يؤخذا بنظر الاعتبار من أجل تحديد القضية هما:
1. حجم المشكلة في نفسها.
2. الواقعية: وهي تتعلق بالمكان والإمكان. بمعنى أن تكون المشكلة موجودة في الواقع أو المكان، وعلاجها ممكنا وليس مستحيلاً في الإمكان. وبتعبير آخر أن تكون المشكلة موجودة وجديرة بالاهتمام في المكان المعين وممكنة الحل فيه. وإلا لم تكن هي القضية بل موضوعاً نظريا أو فكريا مجردا.
إن الموازنة بين حجم المشكلة أو المسألة وواقعيتها في معادلة (القضية) تفرض أن تكون (القضية) هي أكبر مشكلة ممكنة الحل أو مسألة ممكنة التحقيق في الظرف المعين وليست هي الأكبر من حيث الإطلاق والتجريد.
فإذا كانت المشكلة أو المسألة في ذاتها كبيرة، لكن إما أن المجتمع لا يعاني منها أو ليست ممكنة الحل أو التحقيق فيه فلا يصح أن تكون هي (القضية). إنما (القضية) هي المشكلة التي يعاني منها المجتمع حقيقة وإن كانت أقل حجماً في ذاتها. وقد يعاني المجتمع من مشاكل متعددة فأكبرها يتوجه إليه الاهتمام وتكون هي (القضية) التي تحتل المركز أو المحور، وتتوزع بقية المشاكل حول المحور قريبا أو بعيدا حسب حجمها وإمكانية حلها ضمن المدى المنظور. ولهذا اختلف الأنبياء عليهم السلام في قضاياهم.(160/1)
بل نجد ما هو أبلغ حين ننظر إلى واقعين أو مكانين مختلفين في زمن واحد لنرى أن القضية تختلف في دعوة واحدة لنبي واحد تبعاً لاختلاف المكان! وهذا ما حصل لمهاجري الحبشة، إذ اختلفت دعوة النجاشي في الحبشة ومعه المهاجرون في محورها عن محور اهتمام دعوة النبي- صلى الله عليه وسلم - في المدينة المنورة، ففي الوقت الذي كان اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - منصباً فيه على الأعداء والجهاد من أجل نشر الإسلام، كان اهتمام النجاشي منصباً على كيفية الحفاظ على سلامة المهاجرين في بلده الذي لم يكن من واجبهم الدعوة إلى الإسلام في ذلك البلد فضلاً عن القتال أو الجهاد في سبيل هذه القضية. ولو جعلوا من ذلك قضية لهم –كما هو شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بلده- لقضي عليهم أجمعين.
هل هناك اعظم من قضية يحملها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ كلا ولكن اختلاف المكان والإمكان رغم وحدة الزمان جعل الفريقين يختلفان في (القضية).
وإن من المسائل ما هي كبيرة أو عظيمة في ذاتها ولكنها غير ممكنة التحقيق في المكان المعين فهذه لا تصلح أن تكون محور الاهتمام والحركة أي لا تصلح أن تكون هي (القضية).
مثلاً: تحكيم الشريعة الإسلامية مسألة عظيمة لكنها غير ممكنة التحقيق في أمريكا أو فرنسا فلا ينبغي أن تكون هي (القضية) في مثل هذين البلدين. ولذلك لم يكن في حساب النجاشي - رضي الله عنه - يومذاك أن يحكم الشريعة الإسلامية أو يكون في الحبشة حكم إسلامي ولا أراد منه النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك. ولقد بلغ نبي الله يوسف - عليه السلام - رتبة الوزير في دولة مصر لكنه لم يسع إلى تحقيق مثل هذا الهدف.(160/2)
ومنها ما يمكن أن نسميه بالقضايا الجماعية. وهي القضايا التي تحتاج إلى جماعة أو دولة من اجل إنجازها. فلا ينبغي أن يطالب الأفراد بتبنيها عمليا. وإلا فإن الأمر لا يعدو أن يكون نوعاً من العبث أو الخيال الجميل غير المستند إلى ارض الواقع. وأهل النظر يقولون: (يسع الفرد ما لا يسع الجماعة، ويسع الجماعة ما لا يسع الفرد).
إن هذا يلزمنا بالتفريق بين القضايا الفردية والقضايا الجماعية فنشغل الأفراد بما يناسبهم من قضايا ممكنة التحقيق بالنسبة للأفراد ونترك القضايا الأخرى التي لا يمكن تحقيقها لأنها بطبيعتها جماعية. وأقصد بالإشغال والترك الناحية العملية فقط أما الناحية النظرية والتثقيفية فلها شأن آخر. أي مطلوب منا أن نثقف الأفراد بما يتعلق بالقضايا الجماعية، على أن نكون واعين بالفرق بين ما هو عملي من القضايا وما هو نظري فكري تثقيفي. ومن دون هذا التفريق تصاب الدعوات بالترف والترهل الفكري وتنتهي إلى العجز والجمود والانعزال عن الواقع وعدم تحسس الآلام الحقيقية للجمهور. والسبب أنها قد تسرف في الحديث عن مسائل جماعية مع أنها تخاطب أفراداً عاجزين عن التفاعل عملياً معها. كما فعل صاحبنا المحاضر حين خاطبنا في نهاية المحاضرة ونحن في المسجد فقال: إن أول عمل مطلوب منا أن نحمي بيت المقدس من عمليات الحفر والهدم التي تجري تحته. ثم ركب سيارته وانطلق إلى بيته فكان ذلك أول عمل قام به! وقد مر ذكرها. فإشغال الجمهور بالحديث عن العولمة –مثلاً- والماسونية والغزو الغربي ومآسي المسلمين في الشيشان وكشمير…الخ من المسائل المشابهة نوع من الترف الفكري المخالف للمنهج الإسلامي الواقعي. ونوع من الهروب المقنع من الواقع أو الذهول اليائس عنه. وهو ليس أكثر من حركة في فراغ أو قفز عمودي فوق نقطة واحدة وهدر للطاقات وقتل للوقت أو تبذيره فيما يتصور أنه مجد ومطلوب. وحين أقول: (إشغال الجمهور بالحديث) لا أقصد مجرد الحديث الذي به يحصل(160/3)
العلم وتتكون الثقافة ويعبر به المسلم عن مشاعره وإسلامه تجاه قضايا أمته فإن هذا واجب. ولكن أقصد كثرة التركيز في الحديث بحيث تتحول هذه المسائل إلى (قضايا) في واقع غير واقعها.
إن القوى المنظمة القادرة على علاج هذه المسائل كالدولة من حقها أن تجعل لها من الاهتمام ما يوازيها لأن هذا الاهتمام ممكن بالنسبة للدولة أن يتحول إلى فعل إيجابي وواقع متحرك.
أما الآخرون فمن الأجدى لهم أن ينصرفوا إلى الاهتمام بما يمكن تحقيقه بالنسبة إليهم وإلا فإن من العبث أن يشغل الإنسان نفسه بعمل زائد عن الحاجة إلا إذا كان يعاني من البطالة فهو يبحث له عن عمل يقتل به فراغه! ودعاة الحق أسمى من أن يكونوا كذلك.
إن اهتمام الدولة بالتثقيف ضد أمريكا والصليبية واليهودية والعولمة والغزو العربي ينبغي أن يكون حافراً للآخرين إلى أن يوفروا جهودهم لقضايا أخرى عملية أجدى وأنفع على المستوى العملي لأن هذه الموضوعات تدخل ضمن باب القضايا الجماعية، وتحويل الحديث عنها إلى فعل إيجابي غير ممكن مع الفردية. ومن شروط (القضية) أن تكون عملية واقعية ممكنة الحل أو التحقيق.
لا بأس أن تأخذ هذه المسائل حيزاً من اهتمامنا بالقدر المناسب. على أن لا نعتقد إن اهتمامنا هذا يجعلنا أصحاب (قضية) لا سيما إذا استحضرنا أن الإسلام دين العمل والواقعية وليس دين الفكر المجرد.
إن واقعنا وواقعيتنا أو (نجاشيتنا) تفرض علينا أن يكون محور قضيتنا غير هذه المسائل التي قد تكون قريباً من ذلك المحور أو تبتعد قليلاً أو كثيراً. وقد يأتي يوم أو ظرف تزحف إحداها حتى تحتل المركز وتكون هي (القضية) في اللحظة والموقع المعين. فما صلح في مكان وزمان معينين قد لا يصلح حين يفترق المكان وإن حصل الاتحاد في الزمان. والعكس صحيح أي حين يتحد المكان ويفترق الزمان.
الواقع يحدد (القضية) والوحي يضع أسس الحل:(160/4)
إن تحديد أي قضية لها علاقة أساسية بالواقع. فالواقع لا غيره هو الذي يحدد (القضية). أما القرآن والسنة -وبقية المصادر التشريعية- فتضع أسس الحل ولا تحدد (القضية).
لقد كان القرآن الكريم تنزل آياته تبعاً لأسباب واقعية تستدعي نزولها. أي أن الواقع سابق أو متقدم على النزول. فإذا عكسنا المعادلة تحول الدين إلى موضوعات فكرية مجردة منعزلة عن الواقع ميتة لا حياة فيها.
إن القرآن هو الروح، والواقع هو الجسد الذي تتمثل فيه هذه الروح فإذا انفصلت الروح عن الجسد أو افترقا كان الموت لأن الموت افتراق الروح عن الجسد وليس عدمها .فإذا فصلنا القرآن عن الواقع توقف تأثيره الفاعل ودوره القيادي في توجيه الحياة.إن المهام أو القضايا لا يصح أن تحدد ذهنياً أو قرآنياً بل واقعياً وإلا كان الواقعيون من أصحاب التوجه غير الديني أقرب إلى الناس ومعاناتهم من أصحاب التوجه الديني لأنهم يعيشون واقعهم ويشاركونهم معاناتهم.
صحيح أن لهم حلولهم ولنا حلولنا المنطلقة من الكتاب والسنة. ولكن إذا لم ننطلق أساساً من الواقع كنا كمن يضع علاجاً مثالياً لمرض غير موجود، في الوقت الذي يترك المرضى يعانون فيه مما يعانون من أمراض تنهك صحتهم وتنغص عيشتهم. وفي هذه الحال يكون المعاون الطبي أو المضمد أو (العشاب) أو حتى المشعوذ و(العراف) أقرب إلى المريض لأنه يشاركه همومه ومعاناته ويحاول علاجها له وإن أخطأ في التشخيص أو العلاج أو كان علاجه غير متكامل. وحينذاك سينعزل الطبيب المثالي ويضيع في مثاليته، ولن يجد من يستمع إلى نصائحه، ولا من يستعمل (وصفته) البعيدة عن واقع الناس ومعاناتهم مهما كان عالما حاذقا.
إن الواقع يرسم لنا معالم (القضية)، والقرآن الكريم يرسم لنا معالم الحل. هذه هي القسمة العادلة بينهما.(160/5)
وإن عدم الانطلاق من الواقع في تحديد (القضية) لا يقل خطراً عن عدم الانطلاق من القرآن والسنة في علاجها وتقديم أسس الحل والخطوات الأساسية في سبيل ذلك العلاج.
والحقيقة المرة أن كثيرا من الدعاة والخطباء والوعاظ والكتاب والمحاضرين والأساتذة لا ينطلقون من الواقع، بل يطرحون- وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا- مفاهيم الإسلام وقضايا المسلمين مجردة عن الواقع الذي نعيشه، ولا يدرون أنهم بصنيعهم هذا يسيئون إلى الإسلام إساءة لا تقل عن إساءة الذين لا يرجعون إلى الدين في حلول مشاكل مجتمعاتهم! بل قد تزيد عليها من بعض الجوانب حين يهتم هؤلاء بالواقع ومشاكله ويحاولون تقديم الحلول المناسبة لها!!
أولوية (القضية) بين النظرية والتطبيق:
يخلط البعض بين كون المسألة أولى في ذاتها أي من الناحية النظرية، وبين هذه الأولوية إذا اقترنت بالزمان والمكان المعينين أي من الناحية العملية. والسبب في هذا الخلط عدم إدراك علاقة الزمان والمكان بالموضوع وأثرهما في تغيير الأولوية مما يؤدي إلى الوهم بأن ما كان أولاً في المرتبة نظرياً هو كذلك دوماً عملياً وتطبيقياً.
إن هذا خلل كبير في منهج التفكير وخطأ قاتل. لأن الحقيقة غير ذلك تماماً، فقد تكون مسألة ما أولى من الناحية النظرية لكنها يجب أن تحتل المرتبة العاشرة في سلم الأولويات العملية. والعكس صحيح كل الصحة!.
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أرسل معاذاً - رضي الله عنه - إلى اليمن أمره بالدعوة إلى التوحيد أولاً ثم الصلاة ثم الزكاة آخراً فقال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة. فإن هم أجابوك لذلك فاخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم).(160/6)
وهذا معناه أن المجتمع الموحد تكون الأولوية العملية فيه للصلاة. والمجتمع الموحد المصلي تكون الأولوية فيه للزكاة… وهكذا. أي أننا لو افترضنا أن معاذاً دعا أهل اليمن إلى التوحيد فاستجابوا وفي هذه المرحلة توفي أو سافر فجاء داع آخر فإن الأولوية –بالنسبة إليه بسبب التغير الذي حصل في الواقع- لن تكون للتوحيد، وإنما للصلاة وإن كانت الصلاة دون التوحيد من ناحية المرتبة النظرية لكن الواقع جعلها تحتل المرتبة الأولى من الاهتمام عملياً.إن حمل السلاح والجهاد به في سبيل الله أعلى في المرتبة من الحفاظ على سلامة مجموعة من الأفراد. لكن الواقع جعل الأولوية بالنسبة للنجاشي للأدنى دون الأعلى.هكذا ينبغي أن ننظر إلى جميع المسائل دون استثناء: القضية الفلسطينية، الماسونية، العلمانية، العولمة الغزو الغربي، الغزو الشرقي …الخ.
علاقة الزمان والمكان بـ(القضية):
إن لكل واقع أو مكان أولوياته التي يختلف بها عن واقع أو مكان آخر وإن اتحدا في الزمان. إن القفز فوق المكان وتجاوزه على أجنحة الزمان حركة في فراغ تجعلنا نستهلك طاقاتنا في أعمال لن تزحزحنا شبراً عن نقطة القفز أو الشروع مهما بذلنا من جهد وحرقنا من وقود!
ويؤسفني أن أقول: إن الغالبية يجيدون هذا النوع من القفز –ولا يجيدون غيره- إجادة تامة هي كل ما عندهم من مؤهلات. والخلل يكمن في أنهم يعيشون الزمان دون المكان. وهذا يؤدي إلى تعطيل طاقات الجمهور وحرقها في غير مكانها الصحيح. لأنهم يشغلونهم أو يلهونهم بالقضايا النظرية دون العملية. وغالبية الناس لا تمتلك القدرة وليس عندها قوة إبصار تفرق بها بين الأولوية الزمانية والأولوية المكانية ولا بين الأولوية من حيث النظرية وبينها من حيث التطبيق.
الفصل الرابع
ما هي قضيتنا نحن أهل العراق؟(160/7)
قلنا- فيما سبق- إن محور الاهتمام والحركة يجب أن يكون المشكلة الكبرى التي يعاني منها المجتمع حقيقة وواقعاً. بشرط أن تكون قابلة للحل والمعالجة ضمن الإمكانات والمدى المنظور. وبعبارة أخرى، إنَّهُ أعظم مشكلة واقعية قابلة للحل عملياً وليس المشكلة الأعظم أو الأخطر مطلقاً وتجريداً.
أي أننا إذا وجدنا المشكلة الكبرى لا يمكن حلها أو ليست في واقعنا فإننا ننتقل إلى التي بعدها حتى يتوفر شرط الواقعية مكانا وإمكانا.
إن يوسف - عليه السلام - جعل محور اهتمامه إنقاذ شعب مصر من المجاعة وليس ذلك أعظم في المرتبة من التوحيد أو تحكيم شرع الله وإقامة دولة الإسلام لكن هذا مطلوب غير عملي. وما فعله يوسف - عليه السلام - يشبه ما فعله النجاشي - رضي الله عنه - على عهد النبي- صلى الله عليه وسلم -، وما عليه المسلمون اليوم المتواجدون في أمريكا وفرنسا وأوربا عموما.
أما إذا اجتمعت الشروط الثلاثة في مشكلة ما بحيث كانت هي الأخطر نظريا وموجودة واقعياً وقابلة للحل عملياً، فإن هذا يرشحها لأن تكون هي (القضية) بلا منافس. فالذهول عنها أو نسيانها أو تغليفها ووضعها على الرف والانشغال بسواها ترف فكري لا يليق بالمصلحين، وهروب من الواقع أو تول عن الزحف يزري بمن يحسب نفسه على المؤمنين المجاهدين.
إننا في العراق نواجه –ومنذ فجر التاريخ- خطراً هو أكبر الأخطار بل هو مجمع الشر وأم الخبائث من الشرك والنفاق واستباحة الدماء والأموال والأعراض والطائفية والفرقة والتآمر والكيد والدس والاغتيال الفكري والجسدي والولاء للأجنبي والطعن في الكتاب والسنة والتاريخ والرموز…الخ وقد استطاع أن يجند لصالحه الملايين.
هذا الخطر هو الشعوبية أو المجوسية المقنعة. إنه التشيع الفارسي أو الغزو الشرقي. فالوقوف بوجه هذا الخطر هو (قضيتنا) الأولى. وهي القضية التي نستطيع توجيه كل الجهود نظريا وعملياً علماء وعامة قادة وجماهير باتجاهها، وحشدها لحلها وعلاجها.(160/8)
أهمية تبني (القضية):
ينظر البعض إلى مسائل الحياة ومشاكلها أو مسائل الدين نفسه نظرة جزئية مفككة فينشغل بمسألة ما يجعلها محط نظره ومحور اهتمامه وحركته ليهمل بقية المسائل. وهكذا يفعل كل فريق. وفي النهاية ينقسم المسلمون في البلد الواحد أقساما غير متجانسة تتنافر فيما بينها وتختلف تبعاً لاختلاف المسائل التي تبناها كل فريق على حدة دون اتفاق أو تنسيق. وهذا ما نهى الله عنه وذمه بقوله: { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) } المؤمنون. إن هذا يقطع المقتسمين أنفسهم ويحيلهم شيعاً وأحزاباً متنافرة كما قال تعالى: { فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ… (14) } المائدة. فأخذ بعض الدين ونسيان بعضه يؤدي إلى هذه النتيجة المأساوية.
وللخروج من هذا المأزق –لا سيما وان الإنسان لا يمكن له عملياً تطبيق جميع المطالب والاهتمام بجميع المسائل جملة واحدة- لا بد من اللجوء إلى نظرية (القضية). حيث ستحل لنا هذه النظرية جميع الإشكالات وتعطي جميع المسائل الممكنة ما يناسبها من اهتمام. إن نظرية (القضية) تعلمنا أن للدعوة محوراً هو المشكلة أو المسألة الكبرى في الواقع المعين تدور حوله (القضية) استناداً إلى قاعدة التوحيد.
إن محورية الدعوة لا تعني أبدا إهمال المسائل الأخرى غير المحورية، وهي تقترب أو تبتعد عن المركز الذي تستقر فيه المسألة الكبرى وتتحرك لتكون هي محور الاهتمام أو (القضية). بل إن الأمر على العكس تماماً. فإن وضع اليد على المحور وتشخيص (القضية) يعطي لبقية المسائل أهميتها وحيويتها كلاً بحسبها، ويحركها ليجعلها تدور في فلكها الخاص بها وهي تنشدُّ إلى المحور بدل أن تظل جامدة ميتة أو مغلفة لا حراك فيها.(160/9)
إن (القضية) هي النظام أو السلك الذي يشد حبات العقد ليصنع منها تركيباً جميلاً مترابطاً. وبفقدان ذلك النظام أو انقطاع السلك تنفرط الحبات أو الخرز فلا يبقى هناك عقد. إن لكل دعوة قضية تنبع من واقعها تشد المسائل المطروحة كما يشد النظام حبات العقد فإذا انفقدت (القضية) انفرط عقد هذه المسائل وفقدت حيويتها وصارت بلا هدف يمكن تحقيقه من ورائها.
وبهذا يتبخر الاعتراض القائل بأن الدعوة لا يصح أن تحصر في علاج التشيع الفارسي وتهمل بقية القضايا. لأنه سيصبح واضحاً أن تبني هذه القضية لا يلغي أياً من القضايا المطلوبة، بل يمنحها الحيوية والحياة ويجعلها تتحرك وتدور حول محور يمور بالفاعلية والحركة والنشاط، فمن جعل التوحيد وتصحيح العقيدة غايته نقول له: إن هذا المطلب أول خطوة في طريق (القضية).
ومن جعل التقوى والتزكية القلبية شاغله نقول له: إن هذا هو لب التوحيد وعماد العقيدة، ومن جعل العبادة هدفه ووجهته نقول له: إن (قضيتنا) لا يصلح لحملها إلا جيل عابد، ومن جعل الجهاد طريقه ووسيلته قلنا له: لا (قضية) بلا جهاد ولا جهاد بلا (قضية) . وجهادنا أعظم الجهاد في الواقع الذي نعيشه لأنه يجاهد المنكر الأكبر والأصعب فيه، ومن أراد حشد الناس وتأليفهم درءاً للفرقة وحفاظا على الجماعة قلنا له: إن الحشد لا بد أن يكون من أجل (قضية) فالقضية الحقيقية أعظم وسيلة لتحقيق هذه الغاية.فتبني هذه القضية تحل مشاكل العراق دينياً واجتماعيا وسياسياً.
ونقول بعد:(160/10)
إن (قضيتنا) لا تنجح دون وعي بالسياسة والواقع وما يدور في العالم. وتحتاج إلى معرفة عميقة بالنفس البشرية وصيغ التعامل معها والسنن الكونية في التغيير، والى معرفة بالكتاب والسنة والسيرة والتاريخ والجغرافية كذلك واللغة والعقائد والفرق، والتعرف على الدسائس والمؤامرات وعلاقات الفرس باليهودية والصليبية. ولا يحملها إلا وطني صادق وعروبي غيور. وهكذا ما من مسألة ولا علم مهم أو ضروري إلا وتجد القضية في حاجة إليه، وتعطيه من الاهتمام ما يناسبه. فرق جوهري هو أن هذه المسائل والعلوم تكون حية متوهجة متحركة حين تكون في خدمة (القضية)، وميتة خامدة جامدة حين تنعزل منفردة على قارعة الطريق.
الدعوة إلى العبادة؟ أم إلى تبني (القضية) :
لقد جاء الإسلام ليصنع مجتمعاً يحمل (قضية) أي له رسالة، لا مجتمعاً عابداً مجرداً ليس له رسالة في الحياة.
لقد صنع الإسلام اتباعاً كل واحد منهم يشعر أنه صاحب (قضية). أما العبادة فهي وقود (القضية)، وزادها الذي لا بد منه لمواصلة المسير. وهي بمعناها الأشمل تتضمن (القضية) لأن العبادة التي أرادها الإسلام ذروة سنامها الجهاد، والجهاد لا يكون بلا قضية . والمجتمع الفاقد لـ (القضية) فاقد للجهاد مهما بدا مسلماً عابداً ملتزماً بشرع الله.وحين تتبنى الدعوات العبادة بمعناها الضيق وليس (القضية) تكون قد أخطأت خطأً فادحاً وأسلمت للغير زمام الأمور يقول تعالى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين َ(19) } التوبة.(160/11)
فالمجتمع الإسلامي مجتمع جهاد لا مجتمع عبادة بالمعنى المحدود للعبادة حين تخلو من مضامين (القضية) والجهاد. ولذلك قطع الله تعالى الولاية والنصرة الكاملة بين المسلمين الذين أرادوا الإسلام مجرد عبادة دون تحمل تكاليف (القضية) فلم يهاجروا وبين المهاجرين والأنصار أصحاب (القضية) فقال: { إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(72) } الأنفال.
كافر ينصر (القضية) خير لنا من مسلم يعيش لنفسه:
وفي هذه الآية مفارقة عجيبة هي أنه إذا حصل قتال بين مؤمنين لا يحملون (القضية) وبين كافرين لكن بينهم وبين أصحاب (القضية) ميثاقاً وعهداً فلا يحل الوقوف مع المؤمنين ضد هؤلاء الكافرين المرتبطين مع المؤمنين الصادقين بميثاق يلزم نصر بعضهم بعضاً، لأن هذا الميثاق يجعل الكافر حاملاً لـ(القضية) بصورة أو بأخرى. فالقرآن من هذه الناحية يعطي قيمة لمن نصر (القضية) بأي صورة وإن كان كافراً ويفضله على من تنصل عن حملها ونكل عن تكاليفها وإن كان مؤمناً! بل أن فتح مكة -الحدث السياسي الأعظم في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -- كان سببه الوفاء بميثاق النصرة بينه وبين قبيلة خزاعة الكافرة التي اعتدت عليها قريش فنقضت ميثاق الهدنة. إذن كم أعطى الله جل وعلا لـ(لقضية) من تعظيم ومنزلة!(160/12)
وتأمل! كيف نزلت سورة المدثر التي تأمر النبي بالقيام بأمر الدعوة والإنذار (القضية) بعد سورة المزمل التي تأمر النبي بقيام الليل (العبادة). والملاحظ أن الله تعالى خفف في موضوع (العبادة) في آخر السورة، بينما اشتدت (القضية) وظلت تشتد وتتطور إلى آخر يوم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وإذا نظرت إلى الواقع تجد الرافضة اهتموا بـ (القضية) على حساب العبادة بينما انصرف اهتمام أهل السنة إلى العبادة على حساب (القضية)! فكيف سيعتدل الميزان وتتزن المعادلة ويكون الغلب لأهل الحق إذا استمرت الحال على ما هي عليه خمسين عاماً أخرى ؟!
من هذا وغيره -وهو كثير- يتضح لك الخطأ الفادح الذي يقع فيه من جعل همه ودعوته العبادة وليس (القضية).
الباب الرابع
التشيع الفارسي
بين الأمراض والعقد النفسية والانحرافات الفكرية والسلوكية
الفصل الأول
التشخيص أساس العلاج
إن التعامل مع أي شخص لا يستقيم دون معرفة تامة بعقليته ونفسيته وأخلاقه وما الذي يثيره ويجذبه أو يزعجه وينفره؟ وهل هناك فرصة أو مجال لكسبه؟ أم على قلوب أقفالها؟ والأطباء يقولون: التشخيص أساس العلاج.
أن بعض المتحدثين يقع في تعميمات ساذجة ويطلق الأحكام ويعتمد القياس دون النظر إلى نواحي الاختلاف أو الفارق بين هذا وذاك أو دراسة شاملة عميقة من أجل الوصول إلى تلك المعرفة أو ذلك التشخيص كي يكون تعامله أو علاجه قائماً على أساس علمي صالح للاعتماد.
بعض الأمراض (هستيرية) في طبيعتها أي ليست حقيقية وإنما هي أعراض لمرض نفسي يتستر بتلك الأعراض لخوف المريض من الإفصاح عن السبب الحقيقي وإن كان هذا الخوف مترسباً في اللاوعي أي كامناً في الأعماق بحيث لا يشعر به المريض نفسه.(160/13)
مثلاً: شخص يتهرب من مسؤولية عائلته. هو يخاف من الإفصاح عن هذه الرغبة أو مواجهتها. فكيف يوفق بين تنفيذ رغبته في التهرب من المسؤولية وبين عدم الإفصاح عنها؟ هنا يكون المرض الهستيري هو الحل أو الحيلة النفسية التي تحقق لهذا الشخص التوفيق المطلوب وتوجد له العذر المقبول للتنصل من المسؤولية العائلية فيغدو مريضاً يشكو من أعراض عضوية لكنها وهمية لا وجود لها.
إن هذا المريض لا يمكن أن يشفى من هذه الأعراض أو المرض الهستيري مهما وصف له الطبيب من علاج. لأن العلاج يعمل في جهة غير جهة المرض بسبب الخطأ في التشخيص. فالمرض نفسي والعلاج عضوي. أي أن العلاج وجميع المحاولات الطبية لن تكون أكثر من قفز في فراغ، وإن طبيباً لا ينظر إلى المريض نظرة شمولية لا يمكن أن ينجح في توصيف العلاج مهما بذل من محاولات.
إن الساحة الدعوية أو الدينية تعج بمثل هذا الطبيب ممن يجيد الكلام عن كثير من الموضوعات الفكرية والفقهية والروحية لكنه لا يمتلك النظرة الشمولية وليس عنده معرفة بالنفسية الإنسانية أفرادا وجماعات وشعوباً وقبائل وطوائف ومذاهب. ولا قابلية على تحويل هذه المعرفة إلى فعل إيجابي مؤثر. ولا خبرة ميدانية تجعله قادراً على توظيف ما عنده من مفاهيم ومعرفة في محلها المناسب.
التشيع الفارسي خلاصة أخلاق الفرس ونفسيتهم المعقدة:
إن الرفض أو التشيع الفارسي دين اخترعه الفرس من أجل التنفيس عن أحقادهم وعقدهم وتحقيق أغراضهم ومطامعهم لكنهم ستروا سوأته بستار (التشيع) ليروج على الناس ويجد له بينهم آذاناً صاغية.
ومن الطبيعي أن كل فكرة أو مبدأ ينتشر حين ينتشر وهو يحمل معه أخلاق أصحابه وعقليتهم ونفسيتهم ولا يمكن أن ينتشر مجرداً عن ذلك.
فالعرب حين خرجوا إلى العالم بدينهم حملوا معهم أخلاقهم وروحهم وطرائق تفكيرهم ولم يكن تأثر العالم بهم مقتصرا على دينهم فقط بل تجاوزه فوصل إلى لغتهم وأساليب معيشتهم وأزيائهم وآداب مائدتهم.(160/14)
فانتشر الإسلام وانتشر معه الوفاء بالوعد والالتزام بالعهد والعفو والسماحة والصدق والعدل وحرية التعبير عن الرأي والعقلية المنضبطة بالدليل البعيدة عن الخرافة القائمة على العلم المؤسس على التجربة والمتحرر من الفلسفة.
والشيء نفسه حصل حين اندفع الفرس بدينهم المحرف (التشيع الفارسي) فإنهم نشروا معه أخلاقهم وأفكارهم أو عقائدهم المسبقة وعقليتهم الخرافية ونفسيتهم المعقدة بل وألسنتهم المعوجة وأزياءهم وطعامهم وعاداتهم وتقاليدهم وتواريخهم ومشاعرهم وطقوسهم وفلكلورهم فتجد جمهور المتدينين بدينهم مصابا بالعقد والأمراض ومتصفا بالأخلاق ومتمتعا بالعقلية الفارسية نفسها على تفاوت في درجات الإصابة وظهور الأعراض شدة وضعفا. حتى إنها قد تزيد في البعض عنها في (الفارسي) المصاب بها أصلا!
إن المسيحية حين خرجت من أرض العرب ووصلت إلى روما ارتدت الينا صليبية تحمل أحقاد الرومانيين وعقدهم وخرافاتهم وعقائدهم وأخلاق الأوربيين ورذائلهم منسوبة زورا إلى المسيح و( العذراء). وهكذا تحول جمهور المسيحيين -دون أن يشعروا- إلى صليبين وهم يحسبون أنهم لا زالوا على دين المسيح.
إن الأوربي حين صار مصدر الديانة وانتقلت عاصمة المسيحية إلى (روما) و(القسطنطينية) صار يصدر إلينا أخلاقه وعقائده وعقليته ونفسيته المريضة باسم (المسيحية).(160/15)
والشيء نفسه حصل للإسلام حين خرج من أرض العرب إلى بلاد فارس ثم صار يصدر إلينا من (قم) و(مشهد) باسم (التشيع لأهل البيت). فكل من أصيب به -إلا من رحم- ينبغي أن ننظر إليه على أنه مريض بالعقد ومصابا بالأمراض الفارسية نفسها. فإذا أردنا أن نصف له علاجاً فمن خلال هذه النظرة لنصل إلى التشخيص السليم وهو أن الرفض أو التشيع الفارسي عبارة عن أمراض وعقد نفسية قبل أن يكون انحرافات عقدية أو فكرية وسلوكية، وأن التعامل الناجح مع المتشيعين فارسيا ينبغي أن ينبني على هذا الأساس مهما بدا سوداوياً أو تشاؤمياً -كما قد يحلو للبعض أن يسميه- لكنه الواقع والحقيقة التي يجب علينا أن نعترف بها ونواجهها بشجاعة مهما كانت مرة أو كريهة المنظر وإلا أخطأنا في توصيف العلاج.
إن الحقيقة التي نطق بها القرآن عن اليهود قائلاً: { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ…(75) } البقرة. مهما يمكن أن يقال عنها لكن ذلك لم يمنع من الاعتراف بها ومواجهتها وبهذا عرف المسلم يومها أين يضع قدمه.
(الفارسية) عقدة وظاهرة عامة غير مختصة بالفارسي أصلاً:
إن النفسية الفارسية المعقدة، والسلوك المنحرف المنعكس عنها ليس مختصا بالفرس وحدهم فلا يمكن أن يصاب بها غير الفارسي أصلاً. إنما هي عقدة مرضية تصيب كل من تأثر بها،وظاهرة اجتماعية توجد في كل مجتمع تقبَّل جراثيمها وإن لم يكن فارسياً في عنصره أو إيرانيا في منشئه.
إن (الفارسية) تشبه (الوباء) الذي لا تعرف جراثيمه لغة الأنساب فتصيب أجناساً أخرى عاشرت الفرس وتأثرت بهم لا سيما من وصل منهم إلى رأس السلطة في إيران لأنه يجد نفسه مضطراً إلى أن تتمثل فيه جميع الأمراض والعقد النفسية الفارسية وإلا لن يتمكن من ضم تلك الأشتات المختلفة من العناصر والشعوب التي تقطن الهضبة الإيرانية تحت جناحيه.(160/16)
إن رغبة الفارسي في السيطرة على شعوب الهضبة الإيرانية التي تفوقه عدداً وتتفوق عليه حضارة وتسلط عليه ضغطا يفوق حجمه الحقيقي جعلته دوما يجنح إلى أساليب ملتوية وحيل غير مألوفة يوازن بها هذا التفوق ويصل بها إلى هدفه من السيطرة.
لقد ترسخت هذه الأساليب الملتوية والحيل الشاذة على مر الدهور وكر العصور حتى صارت جزءا من شخصيته وسمة أو طابعا يدمغ تلك الشخصية أي تحولت إلى عقد نفسية عميقة متأصلة.
أما من صار على رأس السلطة هناك فلا بد أن يتقمص تلك الشخصية ويصاب بتلك العقدة النفسية وإن لم يكن فارسياً في أصله وعنصره وإلا فقد زمام السيطرة على دفة الحكم.
وكما أن رجلاً جاءت به الأقدار ليكون حاكماً أو شيخاً لقبيلة غير قبيلته لا يمكن له أن يقود القبيلة بتقاليد وأعراف غير تقاليدها وأعرافها. وإنما عليه -لكي يستمر في قيادتها- أن يتقمص روحها وشخصيتها ويتمثل سلوكها ويعبر عن أمالها وتطلعاتها وإلا رفضته وفقد القدرة على قيادها. بل إن هذا الحاكم أو الشيخ عادة ما يكون متطرفاً في كل ذلك إلى الحد الذي يتفوق فيه على ابن القبيلة الأصيل لأن عقدة الشعور بالغربة أو الدخالة كثيراً ما تدفع الدخلاء إلى هذا التطرف أو التصرف ليغطوا به على هذا الشعور الذي لن يشفوا منه مهما تطرفوا وكيف تصرفوا!(160/17)
كذلك فعل كل حاكم إيراني من أصل غير فارسي. انه يحكم إيران بروحية الفرس ونفسيتهم وأعرافهم وتقاليدهم، وقد يتطرف في سلوكه وعدوانيته فيتفوق على مثيله الفارسي على قاعدة (ملكي أكثر من الملك) كما فعل الصفويون ومن لف لفهم. يقول الدكتور عماد عبد السلام رؤوف: (ومع أن سلالات غير فارسية حكمت إيران في بعض العهود إلا أن سياستها لم تكن لتختلف عن السياسة الفارسية التقليدية التي ذكرنا. فالافشاريون والزنديون والقاجاريون مثلا وهم ليسوا فرساً لم يكونوا ليصبحوا (شاهات) لإيران لو لم يلتزموا (بالعقدة الفارسية) فيحذون حذو أسلافهم في معاداة الأمة العربية.(1)
وعلى هذا الأساس فإن (الفارسية) قد تتمثل في شخص عربي الأصل فيكون بلاءاً أكثر من الفارسي نفسه. وهنا يمسي التفريق بين عالم أو فقيه عربي وآخر فارسي يحمل كلاهما العقيدة والعقدة نفسها بلاهة وحمقا.
العجمي والمستعجم:
إن هذا يجرنا إلى الحذر من العربي أو العراقي المصاب بـ(الفارسية) أكثر من الفارسي أو الإيراني نفسه! لأن الأول يزيد على الثاني بكونه يعاني من عقدة (الدخالة) التي تجعل من عدوانيته وحقده أكثر تطرفاً وحدة.
بل قد نجد فارسياً بريئاً من هذا المرض إلى الحد الذي نعتبره فيه عربيا في لغته وروحه وديانته فمن أحب العرب وتكلم بلسانهم فهو عربي.
وخلاصة القول: أن العجمي والمستعجم طينة واحدة. هذا إذا لم يكن المستعجم أكثر شراً وأضل عن سواء السبيل. ومن هنا جاءت المقولة: (إذا استعجم العربي فاقتلوه). لأن العربي المستعجم شر من العجمي نسباً وأصلاً!
__________
(1) الصراع العراقي الفارسي-المقدمة ص18 .(160/18)
الفصل الثاني
إجماع الخبراء
ليس سرا هذا الذي أقول عن الشخصية (الفارسية)، إنه أمر تواطأ على معرفته وذكره العام والخاص ممن تعامل مع الإيرانيين وخبر حياتهم وأخلاقهم، وكيف تعدت هذه الأخلاق إلى المتأثرين بهم والمتشيعين لهم ، سوى أن العالم يختلف عن غيره في عمق النظرة والقدرة على الرصد والتحليل، وربط الأسباب بالمسببات والنتائج بالمقدمات.
وهذه طائفة من أقوال بعض العلماء أو الخبراء من الأجانب والعرب شاهداً لما أقول:
1. الأمريكي جاك ميلوك و(الشخصية الإيرانية ومكوناتها) :
جاك ميلوك باحث أقدم في جامعة (الدفاع الوطني الأمريكية) شغل منصب نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكية ومستشار الوزير في الوزارة نفسها، ورئيس البعثة الدبلوماسية الأمريكية في طهران. وهو اختصاصي في الشؤون السياسية والاقتصادية لمنطقة الشرق الأدنى الآسيوية.كتب هذا الباحث الخبير فصلاً بعنوان (الشخصية الإيرانية ومكوناتها) ضمن كتاب (الثورة الإيرانية والتمدن الحديث). اقتطف منه هذه المقاطع باختصار وتلخيص.
يقول جاك ميلوك:لقد كان أحد تلك الفحوصات التقييمية المليئة بالآراء لهذه المسألة المعقدة- مسألة الشخصية الوطنية الإيرانية- قد جرى بإشراف الأستاذ (البروفسور) مارفن زونيس الذي كان يبحث عن دليل تجريبي من أجل التأكيد على صحة بعض الانطباعات الخاصة وذلك بواسطة استبيانات أعدت بعناية لذلك الغرض.لقد تمت دراسة وفحص (300) ثلاثمائة شخصية إيرانية كان الأستاذ زونيس يشعر بأنها كانت تمثل النخبة السياسية الممتازة في إيران بغض النظر عن كون تلك الشخصيات داخل الحكم أو خارجه في إيران.
الخصائص المميزة للشخصية الإيرانية:
ولقد وجد الأستاذ زونيس أن هناك أربع خصائص متميزة تقف شامخة كعلامات خاصة دالة على الشخصية الإيرانية والسلوك الإيراني. وقد سمى الأستاذ زونيس تلك العلامات المميزة كالآتي:(161/1)
1. الإيمان بأن السلوك البشري تهيمن عليه المصالح الذاتية وحدها. وهذا الإيمان يتخذ صفتين السخرية والتهكم تعبيراً له.
2. سوء الظن أو الارتياب.
3.القلق وعدم الاستقرار.
4. الاستغلال الشخصي للأفراد بعضهم البعض.
ونقل انطباع شاه إيران نفسه عن الشخصية الإيرانية بأنها مولعة بالنفاق والمراءاة ، وبعدم الرغبة في العمل الجماعي، وبعدم الإحساس بوجود الآخرين. وتتمتع بضعف المبادئ.
وفي سنة 1964 عمل معهد الإيمان والدراسات الاجتماعية في جامعة طهران دراسة مفصلة جاء فيها:
الغدر:
إن الفرس يشبهون رجلاً يعيش قبل فترة تكون المجتمع -أي انفرادياً- رجلا مدفوعاً في حياته بواسطة رغباته الطبيعية التي يتربع على قمتها الخوف وذلك من أجل الحفاظ على أنفسهم من أخطار الهجمات.
وبسبب شكوكهم وعدم ثقتهم بالآخرين فليس لديهم القدرة على الامتزاج. انهم يبحثون عن الأمان في الانعزالية عن الناس أو بواسطة توجيه ضربتهم الأولى(1).
إن هناك نظرة سلبية تجاه الطبيعة وتجاه الإنسان تدفع نفسها لتطور شعوراً يتحتم بموجبه على كل فرد أن يكون متيقظاً واعياً بصورة مستمرة لاقتناص الفرص لحماية نفسه وذاته ضد قوى الحقد والضغينة المتهيئة لتدميره لو لم يقم بحماية شخصه وذاته.
الشك:
إن رفض الأجنبي لقبول رشوة ما (في إيران) أمر لا يظن فيه غالباً على أنه مبدأ نزاهة جديرة بالثناء والإطراء، ولكن ذلك الرفض يحمل على أنه دليل أو برهان على أن ذلك الأجنبي ممتنع عن أخذها أما طمعاً في رشوة أغلى ثمناً أو أن له رغبة في التعامل مع طرف ثالث.
الوقاحة:
وفي قطعة أدبية مشهورة في الأدب الفارسي ينصح أحد الحكام الإيرانيين من ذوي العقل الراجح ابنه حول الكيفية التي يتوجب على الابن اتباعها من أجل أن يكسب حياته في إيران قائلاً:(لا تتخوف من سوء استعمالك للحق أو السلطة ولا من الإذلال أو تشويه السمعة والافتراء…
__________
(1) أي الغدر.(161/2)
وعندما يجري طردك خارج أحد الأبواب تعال وادخل بابتسامة من باب آخر…
كن وقحاً ومتغطرسا وغبياً، لأنه من الضروري في بعض الأحيان التظاهر بالغباوة لأن في ذلك فائدة.حاول أن تقيم علاقات مع أولئك الذين يتبوءون مناصب عالية. اتفق في الرأي مع أي شخص بغض النظر عن ماهية رأيه، وذلك من أجل أن تجتذب تأييد عطفه الأكبر).
ومن مظاهر الوقاحة ما يحدث في حالة قيام نزاع بين أجنبي في إيران وبين إيراني، وإحالة النزاع إلى سلطة إيرانية للفصل فيه. فهناك عادة عمومية بين الإيرانيين لوضع اللوم على الأجنبي لأي ضرر من الممكن أن يكون قد حصل، وعدم الاعتراف بأي مسؤولية ذاتية. ومن غير المحتمل أن يكون الأجنبي قادراً على استعمال نفوذ أو قوة أصدقاء له من الإيرانيين المتنفذين في الجهاز الإيراني كله. وإذا افترضنا جدلاً أنه جرى الظن بأن لدى بعض الأجانب في إيران بعض النفوذ في هذا القسم أو ذاك فان الإيرانيين يقومون بزيارتهم أو بالاتصال بهم بدون حياء أو خجل من أجل أن يقوم هؤلاء الأجانب باستخدام ذلك النفوذ المزعوم لمصلحة الإيرانيين!
النزعة الفردية:
ويتحدث الباحث عن النزعة الفردية لدى الإيراني إلا أن هناك دوائر ضيقة للتجمع. وهي عادة مجموعة صغيرة تتألف من حوالي (15) خمسة عشر عضواً منتظمين من أجل الوصول إلى هدف عام مشترك، كحلقات لعب الورق، وقراءة الأشعار، وإقامة الحفلات. وهناك حلقات لممارسة السياسة.
وإذا كان بعض أفراد المجموعة في داخل السلطة بينما الآخرون منهم خارجها فلا حاجة لأن يعاني أي واحد من هؤلاء الباقين خارجها من نقص ما على نحو غير ملائم. وعندما تجري ترقية أحد أعضاء هذه العصبة إلى مركز ذي أهمية أعلى فإنه من الممكن استدعاء أعضاء آخرين من نفس الزمرة لإشغال المناصب الأخرى.(161/3)
إن أحد الأهداف الأساسية للانتماء إلى إحدى الحلقات المؤثرة هو الحصول على غطاء من الأمان والطمأنينة.(1)
الارتياب وسوء الظن:
إن الشعور بعدم الأمان مغروس عميقا عند الإيرانيين. وأكثر من ذلك فإنه لا يمكن الوثوق من الطبيعة ولا الاعتماد على المخلوق البشري. إن هناك توقعات بحصول التضليل والخداع في مكان ما. وهكذا يجد الفرد الإيراني نفسه داخل دائرة مليئة بالمرارة.
إن الناس في أثناء توقعاتهم بحصول التضليل وحلول الخديعة بهم يقومون بالبحث عن موازنة التحالفات بأخرى معاكسة لها. وبهذه الطريقة تتحقق نبوءة كل واحد فيهم بوقوع التضليل(2).
إن هذا الشعور بالارتياب يجعل الإيراني يعتقد بأنه ليس هناك شيء بنفس البساطة والاستفادة التي ربما يظهر عليها، وانه لا يمكن قبول الأمور على أساس قيمتها السطحية أو الظاهرية(3).
وهذا شيء واضح في قصة مشهورة جداً عن الفارسي الأصلي جداً: الملا ناصر الدين، وذلك عندما يطلب ناصر الدين من أحد الحمالين مساعدته في نقل حقيبة إلى داره:
الحمال: فديتك بنفسي يا مولاي وأين دارك؟
__________
(1) من الملاحظ اجتماعيا في بلدنا انه عندما يكون أحد هؤلاء في حزب سياسي وآخر ضمن مؤسسة دينية تعمل ضد الحزب يقوم الأول بوظيفة التغطية على عمل الثاني للوصول إلى الهدف المشترك الذي فرض على كل واحد منهم دوراً في الحياة أو وظيفة تختلف في ظاهرها عن وظيفة الآخر.
(2) أي أن كل واحد منهم يقوم بتضليل وخداع الآخرين لأنه يريد أن يحمي نفسه مما يتوقعه من تضليل صاحبه. والنتيجة أن الجميع يخدع بعضهم بعضاً وحين يكتشف أحدهم خداع الآخر ويثبت له ذلك على الواقع يترسخ اعتقاده بأن صاحبه كان يخادعه في حين أن هذه المخادعة قد تكون وقعت لحماية النفس مما يتوقعه من خداع الآخر.
(3) من هنا جاءت المقولة عند أصحاب التشيع الفارسي بأن لكل ظاهر باطنا ولكل تنزيل تأويلاً.(161/4)
ناصر الدين: (باستغراب) يا لك من شخص متوحش وسيء الصيت وربما سارق يجب رفسه! هل تظنني ساذجاً حتى أخبرك موقع داري؟
ويقول الشخص الإيراني العادي: إذا ما كنت نزاعاً إلى الثقة بالآخرين فسوف يقوم البقية باستغلالي لذلك فإنه من السخف والحماقة أن يكون المرء واثقاً مما حوله.وبسبب عدم الشعور بالاطمئنان يتواجد هناك شعور بعدم الرغبة في أن يصبح شخص ملتزما التزاماً عميقا جداً تجاه فرد ما مهما كان أو تجاه قضية ما.
إن لدى الإيرانيين مركب الخوف من كل ما هو أجنبي أو غريب ويثير لديهم غلوا في التعصب لوطنهم وتفاخراً عميقاً بجميع الأشياء الفارسية.
الشعور بالاستثنائية:
ويتنامى هناك شعور بالاستثنائية الفذة التي لا مثيل لها ويصبح الشعور مثل درع يحتمي وراءه الفرد ويخفي نفسه أثناء فترة التطور الثقافي السريع . وهذا يجعل الهوية الإيرانية قادرة على البقاء بالرغم من تعرضها لموجات مختلفة من الغزوات، وقادرة على امتصاص مؤثرات ثقافية كانت تواجهها بدون أن تغوص الهوية الإيرانية الذاتية إلى القعر.
وأهم الأمثلة البارزة المثيرة للنظر للامتصاص الثقافي كان الغزو (كذا) العربي لإيران وإدخال الإسلام فيها. وقد اختار الإيرانيون من الدين الإسلامي فرعا جديداً هو المذهب الشيعي أكثر من اختيارهم للعقيدة الإسلامية الكاملة التي قدمها لهم العرب الغزاة.
ويتبع ذلك الشعور بالاستثنائية الفذة أيضاً من كبرياء لها ما يبررها. إن هذا الغرور الإيراني يتطور إلى نفاد صبر أثناء تلقي العلم من الأجانب من غير الإيرانيين، والى رفض الاعتراف بارتكاب الأخطاء. إن الإيرانيين لكونهم ضيقي الصدور بالتعلم من غيرهم وقناعتهم بأنهم العارفون الأحسن بالأمور غالباً ما يهملون التفاصيل الدقيقة ويقومون بتوبيخ معلميهم الأجانب بعنف وقسوة. إنهم يرفضون الاعتراف بالجهل وعدم المعرفة بالشيء.(161/5)
إن هذا الموقف بالذات هو الذي يجعل مسألة رؤية الفرد الإيراني لوجهات النظر الأخرى (المخالفة لوجهة نظره الذاتية) أمرا صعباً. ويجعل كذلك إقامة علاقات متبادلة بين نتائج أفعاله وأعماله وبين مجريات الأحداث أمراً شاقاً له صعوباته(1).
الكذب:
إن الصفة الفارسية المميزة الأخرى التي نمت وترعرعت من التاريخ والديانة هي الميل إلى الكذب.إن ما يدعى بالفارسية (Taqjyah)(2) ومعناها التخفي الديني تحت مظهر كاذب. إن هذا الإخفاء يسمح للفرد الفارسي أن يخفي دينه أو أن ينبذ ممارسات دينية معينة من أجل أن يتخلص من خطر محتمل أو محقق بالموت يتهدده من قبل أولئك المعارضين لمعتقداته الدينية.
حتى إن ممارسة استعمال ذلك التخفي أصبحت منتشرة في مناطق معروفة بارتباطاتها العلمانية والدنيوية. حتى إن المثل القائل: (احجب عن العيون ذهابك ومآبك وعقيدتك) هو واحد من عدد كبير من تحذيرات شرعية مماثلة موجودة في الجعبة التجارية الفارسية.
إن التدريب المبكر على الإخفاء قد ساهم كثيراً في كمية الشعور الأساسي بعدم الثقة والارتياب الموجود على نطاق واسع في جميع زوايا مجتمعهم.
إن المعنيين بدراسة إيران وشؤونها متفقون عموماً على الاستنتاج القائل بأن الارتياب وعدم الاطمئنان والتخفي الديني تحت مظهر كاذب هي مميزات الإيرانيين.
أما محمد رضا بهلوي فقد ذكر هذه المميزات بصورة فظة وذلك بقوله: (ان الفرس يكذبون)، وقد اشتكى الشاه السابق أيضاً من أن الكذب ذاته يجري تمجيده على أساس أنه فضيلة مقتبساً في شكواه ما جاء في كتاب الشاعر الفارسي سعدي:(إن الكلمات التي تخدعك وتضللك، ولكنها تسعد قلبك هي أغلى من الصدق.وتزيد في قيمتها عن الشيء الذي يجعلك حزينا ويعكر مزاجك).
الملق والمداهنة:
__________
(1) أي لا يعترف بمسؤوليته تجاه السلبيات التي يسببها.
(2) التقية.(161/6)
إن الملق والمداهنة والغش يجب أن تكون جميعا الأدوات التي يحتاجها الفرد لأجل أن يتقدم ويصعد إلى أعلى.لقد قال زعيم إيراني: إن الإيرانيين هم مثل الحرباء. إنهم يغيرون ألوانهم كل يوم وتتلون سياساتهم بما يتناسب مع ألوانهم المتغيرة.
إن استعمال تعبيرات مثل: (إنني عبدك المطيع) أو مثل (إنني التراب الذي تطؤه قدماك) أو (دعني أقبل رجليك ألف مرة) هي جميعها جزء صغير من مفردات قياسية للغة اليومية التحادثية.
إن التملق والمداهنة من الوسائل التي تبقي الشخص على قيد الحياة. في السوق يجري استخدام الخداع والحيلة وتثور الثائرات غضباً وبسبب كون الزمن عاملاً رخيصاً من وجهة النظر الإيرانية فإن إجراءات إتمام الصفقة التجارية يمكن أن تطول لفترة زمنية أطول، وأثناء ذلك يتم نسيان هذه الصفقة التجارية ذاتها تقريباً ويصبح الصراع بين ذاتين مفردتين هو الغاية الأساسية.
2.الفرنسي أدور سابيليه و(إيران من الجانب الآخر):
وهو باحث متخصص في شؤون الشرق الأوسط والقضايا الإسلامية والساحة الإيرانية. كان صديقاً للشاه والدكتور مصدق. في كتابه (إيران مستودع البارود) كتب فصلا بعنوان (إيران من الجانب الآخر) هذا ملخصه باختصار:
إن هضاب إيران المرتفعة طالما خضعت أراضيها إلى نير الاحتلال الأجنبي ولا تزال تتردد فوق أراضيها أصداء وقع حوافر الفرسان الطورانيين والمقدونيين والعرب والمغول والأتراك والأفغان، غير أن حضارتها لم تتوقف عن مواصلة سيرها. كانت إيران تشبه أشجار الحور البيضاء في تبريز تنحني أمام العواصف ولكنها لا تتحطم. وكان الغزاة يتأثرون بهذه القيم الحضارية للبلاد المحتلة ويحاولون الإفادة منها.(161/7)
وفي حوالي القرن السابع انهارت الإمبراطورية الساسانية في الداخل عند الفتح العربي وأصبحت إيران ولاية تابعة للخلافة بعد فرض العقيدة الإسلامية في كل البلاد.وبدا لأول وهلة بان الفكر الفارسي قد طمست آثاره ولم يعد له وجود أو استمرار في هذه المرة. ولكن الحقيقة لم تكن كذلك. وأخذت الثقافة الفارسية تتسلل إلى داخل البيئة الإسلامية حتى أصبحت هذه الثقافة وكأنها جزء من الفكر الإسلامي.
وعلى خلاف الشعوب الأخرى لم يمتزج الفرس بوشائج الصلة الوثيقة مع العرب حملة الراية الإسلامية، بل حافظ الفرس على شخصيتهم الذاتية حتى في ظل الإسلام. ففي مقابل المذهب السني الشائع بين العرب اخترعوا المذهب الشيعي. وعندما كان مجموع المسلمين يخضعون لسلطان الخليفة فان الإيرانيين اتخذوا من المذهب الشيعي ذريعة لمناهضة شرعية الخلافة باعتبار عدم جواز الإمامة إلا حصراً بسلالة علي. واستعان الفرس بالتكتل الشيعي لتحقيق مآربهم.
إن الفرس مسلمون، ولكنهم يختلفون عن المسلمين الآخرين. ومن هذا المنطلق استطاعوا الاستمرار على تحصين أنفسهم ضد الانصهار.
لقد اتبع الإيرانيون التعاليم الدينية التي جاء بها العرب (الأجانب) الفاتحون، ولكنهم لم يلبثوا أن أجروا عليها التعديلات لكي يجعلوها ملائمة لأهوائهم وتقاليدهم. إن الفتح وفرض السيطرة لم يغير من الطبيعة الذاتية للشخصية الفارسية. إن الشعب الإيراني لا يتقبل بسهولة تغيير ما ألفه في حياته اليومية من تقاليد تمتد جذورها إلى ما قبل خمسة آلاف سنة.
المراوغة والخداع والباطنية :(161/8)
يرى الأجنبي في الفارسي مسلما يمارس شعائر الدين غير أنه لا يمكن له أن يجزم بأنه من المؤمنين. وقد تعلم الناس أن لا يظهروا معتقداتهم بصورة علنية. وكانوا عند الضرورة لا يترددون في التظاهر بإنكارها ويلجؤون إلى التحايل والمراوغات لخداع خصومهم. ولا يزال يوجد حتى الآن فئات يمكن اعتبارها مسلمة من الناحية الرسمية غير أن أفراد عوائلها يمارسون الطقوس الزرادشتية المتوارثة.
وكذلك بعض اليهود الذين اعتنقوا الإسلام ولكنهم لا يزالون يتمسكون بالشعائر اليهودية حيث أنهم يمتنعون مثلاً عن إشعال النار في يوم السبت. وفي منطقة كردستان الإيرانية يوجد بعض المسيحيين الذين يؤدون الصلاة ظاهرياً وفقا للشعائر الإسلامية، وقد أدت هذه السلوكية بالشعب الفارسي إلى التزام جانب الشك والحذر.
الازدواجية:
الثنائية عند الفارسي هي صفته المميزة ففي أعماق نفسه حماس منقطع النظير، ومشاعر أشبه ما تكون بالأعراض المرضية، أما في الظاهر فهو متحلل من كل ارتباطاته بالقيم والأعراف والتقاليد. متصوف في قرارة نفسه، مخاتل وماكر في تصرفاته الظاهرية.
الطبيعة الإيحائية:
وتتخذ تصرفات الفارسي في غالب الأحيان مظهراً مسرحياً سواء كان ذا طابع مأساوي أو هزلي حسب الظروف.
إن الإفراط في تمثيل المآسي تجعل الإنسان يعيش فيها! فعند حلول أيام عاشوراء تنتشر حشود المؤمنين المتعصبين في شوارع المدن الإيرانية وهم يولولون وينتحبون ويلحقون الأذى بأنفسهم احتفاء بذكرى فاجعة مقتل الأمام الحسين وكأنهم كانوا شهودها!
في ليلة صافية الأديم وفي قرية صغيرة تقع جوار رضائية عرضت إحدى السينمات المتجولة فلماً غربياً على شاشة نصبت في الهواء الطلق. وعندها اختطف أحد أفراد العصابة بطلة الفلم بوحشية وأردفها على جواده سارع الحاضرون(1) إلى امتطاء خيولهم واندفعوا لمطاردة الخاطف!
الغطرسة واحتقار الغير:
__________
(1) أي المشاهدون.(161/9)
إن الفارسي إنسان متغطرس، وأكثر ميلاً من غيره لاحتقار الغريب فيما إذا اعتقد بأنه يحاول إخضاعه وإذلاله، أو أنه يتحاشاه عند الاقتضاء. والفارسي بطبيعته المتغطرسة لا يتردد في إظهار إعجابه بنفسه.وعندما يحس الفارسي بالسعادة يتظاهر دائماً بالمرارة والألم!
3. الأستاذ الدكتور عماد عبد السلام رؤوف و(مقدمة كتاب الصراع العراقي الفارسي):
في المقدمة الرائعة التي كتبها الدكتور عماد عبد السلام رؤوف وهو أحد علماء التاريخ العراقيين المعروفين نجد تحليلاً عميقاً للأسباب والدوافع التي تختفي وراء النفسية الفارسية المعقدة وما ينضح عنها من سلوك وتصرفات.
إن الخبيرين السابقين وصف كل واحد منهما الحالة وأعراضها. أما الدكتور عماد عبد السلام فقد غاص وراء الأسباب الكامنة لها ووضع أيدينا على الجذور الضاربة في أعماق النفس (الفارسية).
إن السلوك (الفارسي) يجعل الناظر يسأل دائماً: لماذا يتصرف الفارسي ويسلك هكذا؟ ومن الصعوبة أن يجد جواباً شافيا لهذا السؤال المحير عن السلوك (الفارسي) الغريب!
إن الدكتور عماد عبد السلام قد أجاب عن هذا السؤال المحير جواباً شافياً كافياً حين قال وهو يحلل أسباب إصرار الحكومة الإيرانية على مواصلة عدوانها المسلح ضد العراق رغم كل الوساطات ومحاولات الصلح طيلة ثماني سنين من الحرب الدامية:
(إن موقفاً معانداً كهذا لم يكن ناتجا عن أسباب آنية قوامها ما يحدث بين الدول المتجاورة من خلافات ويحل بالوسائل السياسية عادة… إنما هو امتداد لموقف فارسي راسخ معاد للعراق والأمة العربية اتخذ فيه في كل مرحلة سماته المنسجمة مع طبيعتها. فمنذ العصور القديمة، وحتى ما قبل ظهور الإسلام اتخذ العداء الفارسي شكل الغزو العسكري السافر… واتخذ في العصور الإسلامية شكلا مستترا لكنه أكثر خبثا وخطورة تمثل بالحركات الشعوبية العلنية منها والباطنية المناهضة لقيم الإسلام والثقافة والقيم العربية…
وضع إيران الجيوبولوتيكي:(161/10)
فما هي إذن الأسباب الثابتة لهذا الصراع الطويل عبر المراحل التاريخية المتعاقبة؟
إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في وضع إيران الجغرافي- السياسي نفسه. فالخارطة القومية لإيران توضح بجلاء أنها كيان لا قومي بمعنى أنها لم تقم تحقيقا للروح القومية الجمعية. فإيران كيان سياسي تتعدد فيه القوميات وتتباين حتى تصل إلى نحو خمس أو ست قوميات رئيسة.
ومن المهم أن نلاحظ أن أحجام هذه القوميات متقاربة على نحو لا يجعل منها(1) أكثرية ويجعل القوميات الأخرى أقلية، بل ليس من الممكن إطلاق لفظ (أقلية) على إحداها إلا إذا اعتبرنا سائر القوميات الأخرى كلاً على حدة…
يحق لنا أن نتساءل: إذا كان كيان إيران لا قومياً فلماذا هو كيان أصلا؟ ولم اتخذت حدودها شكلها المعروف الآن؟
وبعبارة أخرى: إذا كان هدف القوميات هو تحقيق إرادتها المستقلة المتمثلة بشكل دولة، ولم تكن في إيران قومية رئيسة فما هو مبرر وجود دولة إيران؟ عن أي هدف قومي تعبر؟ وأية إرادة تمثل؟…
إن لهذه القوميات جميعاً - باستثناء الفرس- امتدادات واسعة خارج حدود إيران نفسها فالعرب هم جزء من أمتهم العربية. والأكراد يتوزعون على منطقة ليس في إيران منها إلا جزء فحسب، وللأذربيجانيين امتداد كبير يشمل مساحات واسعة من تركيا والاتحاد السوفيتي، أما البلوج فهم جزء من شعب يقيم نصفه الأخر في باكستان وأفغانستان. وهكذا فان جميع هذه القوميات لها إمتداداتها خارج الرقعة السياسية لإيران. فوجوهها- من ثم- إلى خارج إيران لا إلى داخلها، فهي لا تمثل الإرادة المكونة للدولة المركزية الإيرانية. ومن المؤكد ان هذه الدولة ليست هدفا لأي منها إذ لا مصلحة لهم فيها بحال.
الفرس أقل عدداً وأدنى حضارة:
__________
(1) أي من أي واحدة من هذه القوميات.(161/11)
الفرس هم الوحيدون الذين ليست لهم إمتدادات قومية خارج إيران. فهم إذن عامل (الشد) الوحيد الذي يشد هذه القوميات المتباينة في نطاق دولة واحدة. ولكنهم من جهة أخرى كانوا أقل وأدنى حضارة من أن يستطيعوا ممارسة دورهم في شد هذه القوميات وتجميعها تحت سيطرتهم. لذا فقد كان الفعل السياسي والعسكري الفارسي على الدوام أكبر من حجمهم الحقيقي.
لقد كانوا فعليا مجرد قومية وسط قوميات متعددة لكل منها تراثها وحضارتها ووطنها. ولكن الفرس مارسوا دورهم بصفتهم القومية المركزية الوحيدة أو القومية العليا في جميع (أوطان) تلك القوميات إضافة إلى وطنهم نفسه، واتسم توسعهم على حساب قوميات الهضبة الإيرانية الأخرى بالسمة العسكرية البحتة. لذا فقد جاءت ثماره على شكل احتلال فعلي وليس نتيجة مد حضاري فارسي مثلاً أو حركة مركزية تستقطب تلك الشعوب نحو ثقافة واحدة…
إن استمرار سياسة شد القوميات في دولة واحدة كان يعني استمرار سيطرة الفرس على هذه القوميات. بمعنى أن عودة القوميات إلى ممارسة مصائرها المستقلة كان يساوي تفكك السيطرة الفارسية وانهيارها. وهو أمر وقف الحكام الفرس ضده على الدوام… ولم يكن الفرس على مستوى حضاري مكافئ للحضارات المتقدمة الموجودة إلى الغرب منهم، لذا فقد اخذوا موقعهم كـ(متلق) للحضارة لا صانع لها فالديانة الزرادشتية لم تكن فارسية وإنما ميدية… بل إن الفارسية(1) لم تكتب قط بأحرف فارسية وإنما بالمسمارية العراقية فالآرامية والعربية. وامتد تأثير الحضارات العربية منذ قبل الإسلام وبعده إلى معظم مناحي الحياة الاجتماعية الفارسية وتركت آثارها واضحة في مجالات الفنون والعمارة فضلاً عن الإدارة والقوانين حتى عد الباحثون -ومنهم أكثر تعصبا للفرس- دولهم القديمة بأنها مجرد استمرار للدول الرافدينية…
العدوانية والتوجس والشك:
__________
(1) أي اللغة الفارسية.(161/12)
لقد أدرك الفرس أن تحقيق سيطرتهم على عدد كبير من القوميات يفوقهم بعضها عددا وحضارة لا يكون إلا بإخضاعها إلى ضغط تحد خارجي وإثارة شعور التوجس لديها من خطر ما يأتي من الخارج. وعليه فقد وظف الفرس التحديات المختلفة في المنطقة لصالح تأكيد هيمنتهم على قوميات ما عرف بإيران.
وكان التحدي الحقيقي أمام الفرس هو ذلك التحدي القادم من غرب إيران أي من الوطن العربي. بيد أنَّهُ -على قوته- لم يكن عسكريا بقدر ما كان حضاريا…
مركب الشعور بالنقص:
وكان إحساس الفرس بتخلفهم تجاه الفعل الحضاري الآتي من الغرب يتخذ وضعا حادا انعكس على شكل رد فعل غير حضاري نحوه استهدف تدمير الحضارة فيه، أو مكافأة تأثيره على الأقل، ولكن بالفعل العسكري وحده. وبذا فقد أصبح التوسع إلى الخارج وبخاصة باتجاه الوطن العربي الوجه الآخر لسياسة فرض الهيمنة السياسية والعسكرية على شعوب الهضبة الإيرانية في الداخل… وكان التوسع الخارجي بحد ذاته يقدم مبررا قوياً لسياسة التوسع الداخلي بضم القوميات غير الفارسية في إيران تحت قبضة حكومة مركزية قوية.
(الفارسية) عقدة وعقيدة توسعية:
وهكذا تحولت (الفارسية) من كونها إحدى قوميات (إيران) إلى عقيدة توسعية تعبر عن جيوبولوتيكية لا تحقق أغراضها إلا بالتوسع المستمر أكثر من تعبيرها عن إرادة أمة قومية بذاتها. وهذا ما يفسر ظهور سلالات حاكمة في إيران من غير الفرس التزمت بسياسة الفرس نفسها… فالافشاريون والزنديون والقاجاريون مثلاً- وهم ليسوا فرساً- لم يكونوا ليصبحوا (شاهات) لإيران لو لم يلتزموا (بالعقدة الفارسية) فيحذون حذو أسلافهم في معاداة الأمة العربية وسلب أراضيها ومياهها سواء أكان ذلك في العراق، أم في الاحواز، وسواحل الخليج العربي…
عقيدة وعقدة عداء ضد العرب:(161/13)
لقد تحول مركب النقص الحضاري هذا على مر العصور إلى عقيدة راسخة معادية لكل الحضارات العربية أو التي وجدت في الأرض العربية. بل انه تحول في اللاوعي الفارسي إلى نزعة عدوانية مدمرة لكل فكرة بل قيمة تأتي من هذا الاتجاه. وظف الحكام الفرس هذه العقدة النفسية في صالح هيمنتهم على القوميات المحيطة بهم بأن أشعروها على الدوام بأن تصديهم لهذه المؤثرات رهين باستمرار الهيمنة المركزية عليها(1)…
اللؤم ونكران الجميل:
ولما لم يكن هذا الغرب يمثل إلا مصدر إشعاع للحضارة لا خطرا ماديا حقيقيا فإن العقلية الفارسية تعودت ان تنظر إلى هذه الحضارة بعين واحدة. إنها تتأثر بها لأنها مضطرة إلى ذلك لنقص في مستواها الحضاري، وتعاديها في الوقت نفسه لأنها تمثل خطراً يهدد سيطرتها على القوميات العديدة التي تحيط بها، فلقد اعتنق الفرس الإسلام كسائر شعوب المشرق لكنهم حاربوه من داخله، وتعلموا الآداب العربية لكنهم حاربوها بما تعلموه منها، وكتبوا بالحرف العربية لكنهم شنوا حرباً على اللغة العربية نفسها.
الخوف والحقد والملق:
ومع أن العرب لم يكونوا عدوانيين تجاه الفرس أو غيرهم، وإنما هداة ورسل دين مساواة جديد فان هذه الحقيقة لم تكن تنفذ إلى اللاوعي الفارسي حيث تكمن عقدة الخوف والكره من كل ما هو عربي. فمن الثابت تاريخياً أن دهاقنة الفرس تملقوا العرب بعد زوال سلطانهم السياسي توسلا إلى الإبقاء على مركزهم الاجتماعي والاقتصادي بين الشعوب غير الفارسية. حتى إذا ما ضعف كيان العرب السياسي –وكان للفرس نصيبهم البارز في هذا الضعف- عادوا إلى ممارسة دورهم السابق في إحياء التقاليد السياسية القديمة بإنشاء الدولة التي توظف فيها عقدة الكره والخوف لصالح هيمنة الفرس عليها.
المسكنة والشعور بالاضطهاد:
__________
(1) وهذا ما توحي بِهِ إيران إلى الشيعة في العراق وغيره من الدول المجاورة.(161/14)
إن التاريخ لم يسجل أية أعمال عدائية قام بها العرب ضد إيران بل العكس دائماً. وعلى الرغم من ذلك فان الفرس كانوا يصورون أي عدوان يقومون هم به على الأمة العربية بأنه (دفاع عن النفس) حتى اصبح هذا قانوناً ثابتاً في السياسة الخارجية الفارسية في مختلف مراحل التاريخ. ومعنى هذا أنهم إن لم يجدوا خطرا حقيقياً يهدد بلادهم من الغرب فإن عليهم ان يوحوا إلى شعوبهم بمثل هذا الخطر. وهو ما يفسر- بوضوح- لم كانت إيران أكثر أطماعا بجيرانها الغربيين كلما تعرضت وحدتها السياسية إلى خطر التجزئة في الداخل، وطالبت شعوبها بحقوقها القومية التي بخسها الفرس عبر التاريخ.
وهكذا فإن أحياء مظاهر ومفاهيم متخلفة، وإسقاطها على الحاضر، وخلق جو من اللاعقلانية، وتأجيج النعرات البدائية والعصبيات القائمة على أسس بالية لا ظل لها في الواقع، قد أصبح إحدى الوسائل الثابتة في لمِّ شعث قوميات عديدة، لكل منها ثقافتها وتراثها المستقل.
ولما لم يكن كالنزعات العدائية اكثر بدائية وتخلفا، فقد أضحت إثارة هذه النزعات وإقناعها بين حين وآخر بمزيد من الأعمال العدوانية التوسعية يمثل علاجا مناسبا لأية حالة تفكك تتعرض لها (الوحدة الداخلية)(1).
الفصل الثالث
الأمراض والعقد النفسية في الشخصية الفارسية
من خلال هذه الأقوال والتحليلات العلمية. ومن خلال المعرفة الخاصة والخبرة الميدانية الطويلة الأمد (بالشخصية الفارسية) المتمثلة بكل شعوبي أو رافضي أو متشيع فارسيا وإن كان عربياً أو هاشمياً في أصله، يمكن استخلاص جملة من الأمراض والعقد النفسية المكونة لتلك الشخصية التي نطلق عليها اسم (الشخصية الفارسية) من أهمها:
1- عقدة الحقد:
الحقد داء وعقدة متأصلة في نفسية الفارسي، بل هي عقدة مركبة لا يمكن لوجوده ان يستمر بدونها! إنها القوة الضاغطة التي يستطيع بها تجميع عناصره المشتتة، ويسوقها باتجاه واحد.
__________
(1) الصراع العراقي الفارسي- المقدمة ص11-ص17.(161/15)
أما الحب فهو غير قادر على جعله قاعدة لانطلاقه، وإلا فقد اجتماع هذه العناصر المشتتة في قبضته الواحدة،لأنها ستتجه إيجابيا إلى غير وجهته.
(لقد أدرك الفرس أن تحقيق سيطرتهم على عدد كبير من القوميات يفوقهم بعضها عددا وحضارة لا يكون إلا بإخضاعها إلى ضغط تحد خارجي، وإثارة شعور التوجس لديها من خلال خطر ما يأتي من الخارج)(1).
إذن الحقد ضرورة لبقاء الفارسي على قمة الهرم في الهضبة الإيرانية التي لا يتربع عليها إلا من سلك السلوك نفسه واعتمد إثارة كل أمر يؤدي بشعوب الهضبة المتناثرة إلى أن تخاف وتحقد على الدوام حفاظاً على تماسكها تحت قاعدة الهرم.وما اللعن والطعن إلا تعبير عن هذه العقدة التي يغذونها برواية كل قبيح مخترع وإلصاقه بتاريخ الأمة ورموزها. ومن ذلك اختراع المآسي التي تعرض لها (أهل البيت) وتضخيمها وإقامة مجالس التعزية والنواح على أولئك (المظلومين) المقتَّلين بـ(بكربلَو).
وتأمل التناسب بين نفسية الفارسي المدمرة الحاقدة وبين النار التي اشتهر بعبادتها من دون بقية قوى الطبيعة!
من القصص التي يتداولها الناس عن الخميني أن جاراً له حين كان في مدينة النجف ضرب ابنٌ له ابناً للخميني، فظل الخميني مقاطعاً لجاره رغم الوساطات المتعددة للصلح بينهما حتى خرج من العراق إلى وكره في باريس!
وأبرز صور الحقد الفارسي ما فعلته إيران بأسرانا الذين أذاقتهم صنوف العذاب الخارجة عن كل معقول. ولا زالت تحتفظ ببعضهم منذ اثنين وعشرينا عاماً!
2- عقدة الشك والتوجس والارتياب:
__________
(1) مقدمة كتاب الصراع العراقي الفارسي-مصدر سابق.(161/16)
(الفارسي) شخص يقبع في داخل الخوف، أو يقبع الخوف في داخله -لا فرق- يتوجس دوما من تصرفات الآخرين ويشك في نواياهم. إن شعوره الحقيقي بالضعف تجاه المحيطين به جعله يلتجئ إلى هذه الحيل النفسية عبر التاريخ من أجل حماية نفسه منهم. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ولأجل السيطرة عليهم فإنه يثير لديهم الخوف من كل ما هو أجنبي وينمي هذه العقدة في نفوسهم ليحقق التفافهم حوله على أنه الملاذ الآمن الوحيد.
(لقد أدرك الفرس أن تحقيق سيطرتهم على عدد كبير من القوميات يفوقهم بعضها عددا وحضارة لا يكون إلا بإخضاعها إلى ضغط تحد خارجي وإثارة شعور التوجس لديها من خطر ما يأتي من الخارج).(1)
وبفعل تراكم الزمن وعوامله ترسخ هذا الشعور حتى غدا عقدة بل صار سجية لا تفارق (الفارسي) أبدا ومرضا معديا يصيب الآخرين الذين يثقون به ويتأثرون بفكره وديانته. فتجد أحدهم لا يطمئن أبداً إلى سلامة نية الآخرين تجاهه، ويفسر تصرفاتهم الطبيعية وأعمالهم الطيبة ويؤولها دائماً أو يحملها على غير ظاهرها. وهو ما لمسناه واضحا وفاشيا في أوساط المستعجمين أو المتشيعين فارسياً حتى من تغير منهم في فكره، ولكنه ظل مستعجماً في عقله ونفسه وشعوره وخلقه، ويمارس عملية (إسقاط) ما بداخله من عيوب على الآخرين.
__________
(1) المصدر نفسه.(161/17)
(إن هذا الشعور بالارتياب يجعل الإيراني يعتقد بأنه ليس هناك شيء بنفس البساطة والاستفادة التي ربما يظهر عليها، وإنه لا يمكن قبول الأمور على أساس قيمتها السطحية أو الظاهرية)(1). وفي قصة (الملا ناصر الدين والحمال) المار ذكرها تصوير دقيق لهذه النفسية المفعمة بالشك والتوجس والارتياب من الآخرين. (إن الشعور بعدم الأمان مغروس عميقا عند الإيراني. واكثر من ذلك فإنه لا يمكن الوثوق من الطبيعة ولا الاعتماد على المخلوق البشري. إن هناك توقعاً بحصول التضليل والخداع في مكان ما. وهكذا يجد الفرد الإيراني نفسه داخل دائرة مليئة بالمرارة)(2). و(ان المعنيين بدراسة إيران وشؤونها متفقون عموما على الاستنتاج القائل بأن الارتياب وعدم الاطمئنان والتخفي الديني تحت مظهر كاذب هي مميزات الإيرانيين)(3).
حتى الكتاب والسنة وأقوال الأئمة تعاملوا معها على هذا الأساس. فإن لكل آية أو حديث عندهم باطنا غير ظاهره. وكل قول أو تصرف لعالم أو إمام يمكن أن يفسر على قاعدة (التقية).
إن ظواهر النصوص والتصرفات ما هي- في تصورهم- إلا أغطية كثيفة لمقاصد بعيدة جداً بعدا يمكن أن يصل إلى حد الانقطاع بين الصلة الظاهرية والباطنية للفظ فلا يعود للغة وضوابطها عندهم أي اعتبار!
__________
(1) جاك ميلوك- مصدر سابق.
(2) م. ن.
(3) م. ن.(161/18)
يروي الكليني عن موسى بن جعفر أنه سئل عن قوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } الأعراف/33 فقال إن هذا القرآن له ظهر وبطن فجميع ما حرم الله في القرآن هو الظاهر والباطن من ذلك أئمة الجور. وجميع ما أحل الله تعالى في الكتاب هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الحق(1).
ومن هذا الباب ادعاؤهم ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما اصطحب أبا بكر في الهجرة حتى لا يشي به أو يدل عليه!
وهكذا تعاملوا مع أحداث التاريخ. إنهم لا ينظرون إلى الحدث بموضوعية بل يفسرونه طبقاً إلى هذه العقدة. بل يصنعونه ثم يروونه كما يحلو لهم ويتمنون أن يكون قد وقع، لا كما وقع بالفعل. فعلي زوّج ابنته أم كلثوم لعمر (تقية) وخوفا واغتصابا! و سمى أولاده باسم أبي بكر وعمر وعثمان ملقا و(تقية) كذلك. والحسن بايع معاوية (تقية) أيضاً.
ومن ذلك أنهم يكابرون منطق الأحداث مكابرة عجيبة فلا يصدقون –مثلا- أن أحدا ممن اتخذوهم (أئمة) مات ميتة طبيعية فهم بين مسموم ومقتول ومخنوق!
حتى (المهدي) المعدوم اختفى خوفاً على نفسه من القتل رغم إجماع المؤرخين على العلاقة الحسنة بين البيت العباسي والبيت العلوي آنذاك!
__________
(1) أصول الكافي 1/374. ولا أدري كيف يمكن أن يفسر الكليني على هذا الأساس أو القاعدة الكلية قوله تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ (187) } البقرة!(161/19)
ويظهر أن (المهدي) نفسه أصيب –هو الآخر- بهذه العقدة المزمنة –عقدة الشك وعدم الثقة بالآخرين. فرغم تغير الأحوال وظهور دول تنادي صباح مساء- حتى بحت أصواتها- بخروجه وفرجه العاجل، إلا أن المسكين لا يصدق كلامهم ولا يثق بأحد منهم! فمن يدري لعلهم نصبوا له كميناً وهذا النداء ما هو إلا خديعة ومكر أو فخ لاصطياده فهو مستمر بالاختفاء وعدم الظهور حتى يفاجأ بيوم النشور! وإلا لخرج منذ زمن بعيد.
وبسبب هذه العقدة فإن الإحسان لا يجدي معهم نفعا رغم أن المرء مجبول على حب من أحسن إليه. إلا (الفارسي) لشكه، وتوجسه، ووجود عقد أخرى تتساند فيما بينها كالدونية وعقدة الشعور بالنقص فهو لئيم يكره من يحسن إليه لظنه إنما يريد إذلاله! فهو كما قال الشاعر
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فإذا لنت معهم بالكلام قالوا: ضعيف. وإن أحسنت إليهم قالوا: متملق. وإن أعلنت بالإخوة قالوا: ماكر مخادع. وإن تقربت منهم قالوا: كيد وخطة مدبرة! وهي أخلاقهم (يسقطونها) على الآخرين!
ومما ينسب إلى سيدنا علي - رضي الله عنه - في هذا المجال قوله: عجبت لقوم إذا أكرمتهم احتقروك، وإذا احتقرتهم أكرموك!
وإذا استقرينا التاريخ فقد لا نجد أحدا أحسن إليهم كالخليفة العباسي المأمون بن الخليفة الرشيد حتى أفضى بولاية العهد إلى العلوي علي بن موسى ولقبه بـ(الرضا) حتى صار علماً عليه، وزوجه ابنته!
لقد كلف هذا الأمر وهو نقل الخلافة من البيت العباسي إلى البيت العلوي تضحيات جسيمة وخسائر فادحة كادت أن تودي بملكه إذ ثار عليه العرب في بغداد وبايعوا بدله عمه إبراهيم خليفة للمسلمين الذي تلقب بـ(المبارك) واستمرت الحروب بينهما سنتين أزهقت فيها آلاف الأنفس!(161/20)
لم يكن المأمون مضطرا إلى هذه المغامرة. فليس من قوة أجبرته على ذلك وجعلته يتحمل في سبيله ما تحمل. وقد كان في استطاعته أن يعزل علياً ويحبط محاولة عمه الذي ثار معه العرب في العراق جميعاً. لكنه ظل وفياً بعهده حتى تغلب عليه واستقرت له الأمور.
ويشاء الله تعالى أن يموت ولي العهد وصهر الخليفة وابن عمه علي بن موسى الرضا حتف أنفه. فكيف تعاملت العقلية (الفارسية) المعقدة مع الحدث؟ قالوا: لقد مات مسموماً، والذي سمه المأمون!
واخترعوا قصة عنقود العنب المسموم الذي قدمه له المأمون بنفسه. ثم صاروا يجسدون هذه الأسطورة على شكل صورة تجمع بين المأمون وعلي هذا في قصر الخلافة الفاره والمأمون يقدم العنقود لعلي وعلي ماد يده إليه والصورة منتشرة جداً تعلق في البيوت والمقاهي والمطاعم والمحال العامة!
ولم يكسب المأمون من عنائه وجهوده التي حرقها في خدمتهم سوى اللعن والطعن وتشويه السمعة!
وهذا شأنهم مع كل حاكم من غير ملتهم مهما تقرب إليهم وتسامح معهم وخدم قضيتهم وعمر مزاراتهم ومشاهدهم وقام بعمارتها وزيارتها!
إن هذه النفسية المعقدة المفعمة بالشك لا تستجيب لسياق المنطق. ورواياتهم مليئة بالتناقض لكنهم يتقبلونها رغم تناقضها لأنهم يفكرون بنفوسهم لا بعقولهم. وإذا كان الأمر كذلك فإن النفس المعقدة المعوجة تنتج فكراً معقداً معوجاً متناقضاً. ويمسي العقل في هذه الحال مجرد نقطة عبور خالية من الحرس!
تأمل كيف يعتقدون أن الحسن بن علي- رضي الله عنه - قد مات مسموماً أيضاً وعلى يد زوجته! إن امرأة تسم زوجها حتى الموت ليست صالحة، وليست أهلاً لأن يتزوجها الصالحون. فكيف تزوجها الحسن وهو - عندهم- معصوم من الخطأ!(161/21)
لكن عقدة الشك والتعصب والحقد وعقداً أخرى تكفي لبلع هذا التناقض وزيادة دون أدنى شعور بِهِ! مع جنوحهم إلى الاحتجاج بالمتشابهات مثل اقتران نوح - عليه السلام - ولوط- عليه السلام - كذلك بامرأتين كافرتين مع عصمتهما. وهو نوع من الاحتجاج للخطيئة بالخطأ! فـ(العصمة) التي ألصقوها بالحسن لا تشبه عصمة الأنبياء الثابتة لهم عليهم السلام.(فعصمة الأئمة) مطلقة غير قابلة للخطأ وعصمة الأنبياء ليست كذلك.
ثم إن الزواج من امرأة تتآمر على زوجها بسبب شهوتها ورغبتها في رجل آخر إلى حد القيام بسمه يستلزم سوء الاختيار والخطأ الحتمي فيه من قبل الزوج. ولا شك أن سيدنا الحسن- رضي الله عنه - حين اختار هذه المرأة إنما اختارها لدينها وخلقها. ولا بد أنه سأل عنها وتثبت من ذلك ثم بعده أقدم على الزواج منها. فما فعلته بعد- مما يقوله الرافضة- يستلزم عدم التثبت، والخطأ في تصور صلاحها وهو يتناقض مع (العصمة) المطلقة أو نضطر إلى القول بأن الحسن تزوجها لغايات دنيوية فقط وهو ما لا يليق بصغار الصالحين فكيف بكبار المصلحين؟!
ثم أن الرافضة يعتقدون أن (الإمام) يعلم الغيب وما كان وما يكون(1) فهلا علم الحسن بأن امرأته غير صالحة أو أنها ستسمه فلماذا أقدم على الاقتران بها؟ أفيعمل إنسان على جلب الشر والسوء لنفسه؟! يقول تعالى وهو يخاطب نبيه - صلى الله عليه وسلم - { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوء(188) } الأعراف.
__________
(1) راجع أصول الكافي للكليني 1/261 باب (إن الأئمة يعلمون ما كان وما يكون وانه لا يخفى عليهم الشيء صلوات الله عليهم).(161/22)
لقد تزوج هذه المرأة (جعدة بنت الأشعث) بعد موت الحسن ابن عمه العباس بن عبد الله بن عباس، ثم تزوجت من يعقوب بن طلحة. أفيغيب عن أبناء عم الحسن أنها سمته، ويعلم ذلك الشذاذ المفترون؟! أم أنهم أمنوا على أنفسهم من امرأة تسم زوجها؟! أم ماذا؟!
ورغم كل هذا فالأسطورة باقية تقاوم جميع عوامل التعرية! وتستطيع أن تجرب بنفسك وتناقش رافضياً حول هذا الموضوع لترى مكونات الحشوة الدماغية التي ترقد مستقرة في قحفه ! وتسمع أن الحسن صار يلفظ قطع كبده من فمه! وأنا لا ادري ما الذي جاء بالكبد إلى المعدة مع أن الكبد في يمين التجويف البطني والمعدة في شماله! ما هذا الأنبوب المجوف الذي يصل بينهما؟ أم أن أحشاء (الأئمة) تختلف تشريحياً عن أحشاء بني آدم؟!
3- الدونية أو عقدة الشعور بالنقص:
مر بنا أن الفرس أقلية منقطعة بالنسبة لمجموع شعوب الهضبة الإيرانية، وأن بعض هذه الشعوب يفوقهم في مستواه العلمي والحضاري بحيث أخذ الفرس موقعهم على الدوام كـ(متلق) للحضارة لا صانع لها. وهذا أصل كل العقد في النفسية (الفارسية).
إن الرغبة في السيطرة من قبل الفرس في قلتهم العددية وتدنيهم الحضاري على شعوب تفوقهم عددا وحضارة ولها امتدادات خارجية ولد عندهم شعورا بالنقص ترسخ بمرور الزمن وتراكم المعاناة حتى صار عقدة لا تفارقهم. مثلهم كمثل شخص جاءت به ظروف الحياة ليقود فريقاً من الرجال يفوقونه في تحضرهم وتحصيلهم العلمي وقوتهم ووجاهتهم، فإذا لم يكن متماسكاً نفسياً نشأ عنده –ولا بد- مركب الشعور بالنقص تجاههم.
إن الدونية أو عقدة الشعور بالنقص تجعل صاحبها يستجيب سلبياً أو عكسياً تجاه المؤثرات الخارجية الإيجابية، ويتعامل بلؤم مع من يحسن إليه لأنه يرى فيه شبحاً مزعجا يذكره بـ (دونيته) ونقصه.(161/23)
إن (الدوني) شخص متناقض: فهو يقبل الإحسان لحاجته إليه، لكنه يشعر بالكراهية تجاه من يحسن إليه وينزعج من رؤيته ويتمنى الخلاص منه بل يسعى في الكيد له وإزاحته من أمامه.
في إحدى المحافظات الجنوبية كان (المحافظ) كثيرا ما يحسن إلى (رجل دين) أو (سيد) ويحترمه ويقضي حوائجه ثم كان مصير (المحافظ) أيام (الغدر والخيانة) القتل على يد ذلك (الديِّس) الدوني اللئيم!
إننا ما لم نفهم هذه العقدة عند العجمي والمستعجم فإن إحساننا يذهب هباء ولا يصل بنا إلى النتيجة الطبيعية المتوقعة لتلك المقدمة بل لا نجني من ورائه إلا المتاعب.
لقد كان هذا نصيب العرب على مر التاريخ جزاء إحسانهم إلى الفرس الذي تمثل بدينهم ورسالتهم التي حملوها إليهم – وهو أعظم إحسان- وبحضارتهم العظيمة. لكن العقلية (الفارسية) تعودت أن تنظر إلى هذه الحضارة بعين واحدة. إنها تتأثر بها لاضطرارها إلى ذلك بسبب النقص الذي تعاني منه في مستواها الحضاري، وتعاديها في الوقت نفسه لأنها تمثل خطراً يهدد سيطرتها وكيانها.
إن كل الشعوب التي اعتنقت الإسلام تحتفظ بالجميل للعرب وتحترمهم وتقدمهم إلا العجم فمع ادعائهم الإسلام يشعرون بالحقد والكراهية تجاه من حمله إليهم لا سيما الصحابة وخصوصا الفاروق عمر - رضي الله عنه - الذي كان أول ضحية لحقدهم ودونيتهم وغدرهم.
4- عقدة التحلل والفساد :
التحلل والفساد عند (الفارسي) دين وهوية وشخصية. وإذا كانت هناك شعوب اشتهرت بالفساد الخلقي والإباحية فإن الشعب الوحيد -على ما يبدو- الذي أطّر فساده بالدين وأعطاه مشروعية دينية هو الشعب الإيراني. ومنذ أقدم عصور التاريخ.فالزرادشتية تبيح زواج الابن لأمه والأب لابنته والأخ لأخته ! (1).
__________
(1) دماء على نهر الكرخا، ص 73 - حسن السوداني.(161/24)
و المزدكية تقول باشتراك الناس في الأموال والنساء وأصبحت دين الدولة الرسمي في عهد الملك قباذ الأول عام 488م. يقول ابن النديم: (وصاحبهم القديم مزدك أمرهم بتناول اللذات و الانعكاف على بلوغ الشهوات والأكل والشرب والاختلاط وترك الاستبداد بعضهم على بعض ولهم مشاركة في الحرم والأهل لا يمتنع الواحد منهم عن حرمة الآخر ولا يمنعه)(1).
و الخرمية -وهي ديانة متطورة عن المزدكية، وتعني بالعربية دين الفرح- تمتاز بالإباحية العامة(2).
وتسللت هذه الرذائل متسترة بالدين إلى جميع الفرق التي انتسبت للتشيع. مثل الواقفة الذين وقفوا بالإمامة على موسى بن جعفر. وهم اتباع محمد بن بشير وقد قالوا بإباحة المحارم والفروج والغلمان وترك الفرائض (3).
والخطابية اتباع أبي الخطاب الأسدي بالولاء الذين يبيحون المحارم من الزنا و اللواطة والسرقة وشرب الخمر وشهادة الزور وترك الفرائض (4).
والمنصورية اتباع أبي منصور العجلي بالولاء وقد استحلوا المحارم ونكاح الأمهات والبنات(5).
و النصيرية اتباع محمد بن نصير النميري بالولاء الذي قال بألوهية الحسن العسكري وادعى النبوة وحلل المحارم ونكاح الرجال. ويروي بعضهم أنه رآه وغلام على ظهره(6).
إن الرفض أو التشيع الفارسي ليس إلا حالة متطورة لهذه الفرق التي كان أحد أسباب اندثارها وعدم قدرتها على الصمود والاستمرار وضوحها و علنيتها بسبب قلة خبرتها في ذلك الزمن وتخبطها في تجاربها.
__________
(1) الفهرست، ص 493. عن دماء على نهر الكرخا، ص 73.
(2) دماء على نهر الكرخا، ص74.
(3) التشيع بين مفهوم الأئمة والمفهوم الفارسي، ص35 - محمد البنداري.
(4) م. ن ، ص31.
(5) م. ن.
(6) م. ن، ص34.(161/25)
ويخطئ من يتصور أن هذه الفرق بادت وانتهت حقيقة. كلا فإن كل الذي حصل هو أنها صارت تستفيد من التجارب والأخطاء لتكون أكثر باطنية. وتغلف مقاصدها لتظهر باسم التشيع لأهل البيت أو الأمامية أو الاثني عشرية. وهو ما نطلق عليه اسم الرفض أو التشيع الفارسي الذي يعتبر حالة متطورة جداً عن تلك الحالات البدائية الأولية.
إن إباحية الجنس والمال في الديانة المزدكية و الخرمية وغيرها من الديانات الفارسية القديمة ظهرت عند الإمامية بشكل مقبول مؤطر باسم شرعي، ويمكن ربطه ببعض الألفاظ القرآنية.
أما إباحية المال فظهرت باسم (الخمس) و(الحقوق الشرعية) وما شابه.
وأما الإباحية الجنسية فظهرت باسم (المتعة) التي تغني صاحبها وتعوضه عن أشد حالات التحلل والفساد الجنسي. والتي هي تقليد زرادشتي قديم. تقول د. شهلا حائري وهي حفيدة المرجع الديني الإيراني آية الله حائري :
(عند الزرادشتيين يحق للزوج أو رب العائلة إعطاء زوجته أو ابنته من خلال إجراءات رسمية رداً على طلب رسمي إلى أي رجل من قومه يطلبها كزوجة مؤقتة لفترة محددة.وفي هذه الحالة تبقى المرأة زوجة دائمة لزوجها الأصلي وفي الوقت نفسه تصبح زوجة مؤقتة لرجل آخر.وأي طفل يولد خلال فترة الزواج المؤقت يعود إلى الزوج الدائم أو لوالد المرأة وفقاً للحالة)(1).
وتنقل اندهاش الدبلوماسيين والمسافرين والمبشرين الغربيين الذين زاروا إيران خلال القرنين الماضيين، ورعبهم أحياناً من الشهوانية التي يتضمنها زواج المتعة!
وقد وصف أحدهم (كورزون 1892) مدينة مشهد بأنها (المدينة الأكثر انحلالاً على الصعيد الأخلاقي في آسيا) (2).
ولك أن تتخيل نسبة الفساد الذي يسببه نكاح المتعة في مجتمع بحيث أنه يثير عجب قوم منحدرين في مجتمعات متحللة حتى يصابوا بالدهشة أو الرعب من تحلل ذلك المجتمع وشهوانيته كما تعبر الكاتبة !.
__________
(1) المتعة، ص 40 ـ د. شهلا حائري.
(2) م. ن، ص 39.(161/26)
فلا غرو أن تجد الشخصية (الفارسية) تمتاز بالانسياق وراء الشهوات والرغبات، وعدم القدرة على الصمود أمام دواعيها.
إن تلبية رغبات الذات والاستجابة لنداء الحيوانية الكامنة فيها، والدوران حولها هو الطبع الأصيل لدى (الفارسي). وهذا أساس كل شر. كما أن الصبر أساس كل خير. (إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد -كما ورد عن علي (رض)- فإذا قطع الرأس مات الجسد، ثم قال: ألا لا إيمان لمن لا صبر له).
إن عدم الصبر عند المصيبة والذي يعبر عن نفسه بالنياحة واللطم وإيذاء الجسد، يخرج هو والفساد الخلقي والشذوذ الجنسي عند (الفارسي) من مخرج واحد. كلاهما منبعه عدم الصبر او قلّته لأن الذي لا صبر له عند المصيبة لا صبر له أمام الشهوة، حتى لتستطيع أن تقول: إن النسبة بينهما طردية، وإن الفساد والشذوذ يكون على قدر النياحة والعويل، أو أن النياحة والعويل تكون على قدر الفساد والشذوذ.. لا فرق !.
وأعتقد أن هذا هو السر الذي يجعل من أولئك الذين يتقدمون الصفوف ويحشدون الجماهير في المسيرات والتجمعات الحزينة أفسد خلق الله ! وهو ما يبدو في ظاهره متناقضاً وفي حقيقته متسقاً متفقاً.
والذي رأيناه ولمسناه أن هؤلاء الرؤوس ينحدرون عادة من عوائل متحللة خلقياً يصل بعضها إلى حد الشهرة !. وأن أخبار سقوطهم وفسادهم معروفة منتشرة ومشتهرة يتندر بها في أوساط المحيط.
إن هذه النادرة ليست إلا قطرة من مستنقع عالم التشيع الفارسي الآسن.. في إحدى ليالي محرم المقمرة وفي بيت من البيوت الريفية القريبة من مركز المدينة، وبعد ساعات حافلة بالبكاء والعويل واللطم على (مصائب أهل البيت الأطهار) خرج (رأس النفيضة) يقضي حاجة. لكنه أبطأ الرجوع وأطال الغياب فخرج بعضهم وراءه يتحسسون خبره، فإذا بهم يجدونه يكمل مهمته وهو يلطم على ضوء القمر لطماً من نوع آخر حمارة كانت مربوطة على مقربة من البيت !.(161/27)
وأحس صاحبنا أنه قد انكشف أمره، فقطع نضاله من لحظته، وولى هارباً على وجهه، تاركاً أغراضه ولوازم عمله. فذهبوا بها إليه صباح اليوم التالي.
ترى ! هل انقطع هذا القذر عن وظيفته في النياحة والبكاء على (مصائب أهل البيت الأطهار)؟ أو وجدت تلك القطعان الضالة في أخلاقه وما فعله ما يدعوهم الى مقاطعته أو محاربته ؟ كلا..لأنهم لو فعلوا ذلك لم يجدوا بديلاً خيراً منه !!، فالكل (يلطمون). ويجيدون (اللطم) بجميع أنواعه وأشكاله!
أما أخبار المراجع فحدث ولا حرج ! وأن المرجع الفلاني أهديت إليه شابة لكنه لكبر سنه وتقدم شيخوخته غير قادر على تلبية فطرتها، فتولى ابنه الشاب المهمة عنه فشيء عادي وعلى كل لسان ! ولا من مشكلة !.
الكل يعرف أن تحت البراقع منافع و.. مراتع ، ولكن الأمور تسير بانسيابية وهدوء، لا يعكر صفوها شيء.
أما المجتمع الإيراني وفساده فلا يقل عن أي مجتمع أوربي متحلل. فرق واحد يميز بينهما هو وجود البرقع أو (البوشية) المتناسبة مع الطبيعة النفاقية ومبدأ (التقية).
وللإيراني ولع خاص بالشذوذ ونكاح الذكر أو الغلام. ولعل هذا هو السبب وراء انتشار اسم (غلام) بينهم.
وقد انسحب هذا الولع على علاقتهم الزوجية فتاوى أجمعوا بها على جواز ممارسة الأسلوب نفسه مع الزوجة. على أن بعضهم يغلف فتواه بالكراهة التي هي مجرد كلمة لا أثر لها عند الفعل.
وانتقل نكاح المحارم إلى جميع المجتمعات التي تدين بالتشيع الفارسي. إن أشد المجتمعات تديناً بالتشيع الفارسي، أشدها ابتلاءاً باللواط ونكاح المحارم والشذوذ الجنسي. وما كثرة الحديث عن هذه القاذورات في (الرسائل العملية) للفقهاء إلا انعكاس للواقع الاجتماعي الفاسد.(161/28)
والعجيب أن الفقيه لا يهمه من جريمة مثل نكاح والد الزوجة وعمها وأخيها وأمها سوى صحة العقد من فساده، والسؤال عما إذا كان الفعل وقع قبل العقد أم بعده!! مع أنه يلقب نفسه بـ (الحاكم الشرعي) اللقب الذي يخوله حق التصرف بالأموال والأنفس والأعراض !.
يقول الخوئي: إذا تزوج امرأة ثم لاط بأبيها أو أخيها أو ابنها لم تحرم عليه.(1)
وإن عملية جنسية شاذة مقرفة لا يفعلها إلا شياطين، ينفذها ثلاثة مع بعضهم في وقت واحد -ذكر وأنثى و خنثى لا تثير لدى الأخ الخوئي انتباهاً إلى شيء سوى التفكير في مسألة الغسل وعلى من يجب ؟.
يقول (قده): لو أدخلت الخنثى في الرجل أو الأنثى مع عدم الإنزال لا يجب الغسل على الواطئ ولا على الموطوء !.
وإذا أدخل الرجل بالخنثى وتلك الخنثى بالأنثى وجب الغسل على الخنثى دون الرجل والأنثى!.(2)
هذا في كتاب اسمه (منهاج الصالحين) ! فكيف إذن هو منهاج الفاسدين عندهم؟! وماذا يتضمن كتاب أكثر من هذا حتى يمكن تسميته بـ (منهاج الفاسدين) ؟!
إن قوماً يجعلون شر أنواع الفساد وأكثره شذوذاً منهاجاً للصلاح وسبيلاً للصالحين هم أفسد خلق الله وأضلهم عن سواء السبيل.
__________
(1) المسائل المنتخبة، ص300 - مسألة (992).
(2) منهاج الصالحين، 1/47.(161/29)
في أحد الأعياد كنت أتجول بالسيارة في أحد هذه المجتمعات التي يخيم عليها ظلام التشيع الفارسي ويكثر فيها (الصالحون) من طراز صاحبنا، رأيت معمماً يسير بمحاذاة أحد الشوارع الفرعية، هممت بدافع طبيعي أن أسلم عليه لكنني استرجعت وعيي فاحتقرته في نفسي وقلت: هؤلاء أولى أن يحتقروا ولا يكرموا، وإذا بمضيفي يقول لي : أتعرف هذا ؟ قلت: لا. قال:هذا شيخ (جبار) تزوج (فلانة) أشهر امرأة بالزنا في المدينة! وحين اعترض عليه بعضهم قائلاً إنك شيخ وإمام حسينية ماذا تقول للناس إذا رأوك تسير مع زانية مشهورة بالزنا ؟ أجابهم : بسيطة أضع على وجهها (بوشية). وضحكت (بألم) ! قلت: حتى يتم (التبويش) ويكون من الجهتين!.
ولإدمان الذات (الفارسية) وتطبعها بهذه الرذائل والنجاسات حتى صارت جزءاً لا يتجزأ منها، ومفردات يومية يتعاملون بها دون أن تثير لديهم أدنى تحسس تجاهها تجدهم يتهمون -وبلا تردد- أشرف الخلق بمثلها. بدءاً بالصحابة الأخيار والذين تبؤوا الدار والإيمان وشهد الله تعالى لهم بصدق النية وحسن الخلق !.
إنهم (يسقطون) رذائلهم على غيرهم ولا يتصورون مدى وقع هذا الفعل على الطيبين الطاهرين حين تتهم رموزهم الطاهرة الزكية بهذه التهم الفارسية المزدكية التي لم يعرفها المجتمع العربي قبل ظهور التشيع الفارسي، حتى قال أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان رحمه الله: لولا ما قصه الله علينا من أمر قوم لوط لما خطر في بالي أن ذكراً ينزو على ذكر !.
ولشدة سقوط المتشيعين فارسياً وتفسخهم خلقياً وصلوا بتهمهم إلى أطهر بيت على وجه الأرض -بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فاخترقوا حجابه ولاكوا بألسنتهم القذرة سمعة أزواجه أمهات المؤمنين وهم يعوون كالكلاب ويطوفون كالذباب.(161/30)
ومن هذا الباب كثرة ذكر المسائل الجنسية و بأحط الألفاظ والأوصاف المرذولة في كتبهم ورسائلهم العملية. إن هذه الرسائل ـ وهي في حقيقتها رذائل ـ تذكر (أعمالاً شنيعة يهتز لها العرش لا لشيء إلا لذكر الحيل والمخارج (الشرعية) للتحلل من إثمها ! فتحس أن هذه الجرائم والرذائل ممارسات عادية قد أدمن الناس على فعلها ويمكن إتيانها أو ارتكابها بلا نكير حتى من العلماء !.
كل الذي يشغل الفقيه من جريمة مثل اللواطة هو هل أن الاغتسال منها واجب أم على الأحوط !!.
وينفق الكلام -وبإفراط- في ذكر أمور يخجل حتى القلم من تسطيرها مثل: اللواط بوالد الزوجة أو أخيها أو عمها أو جدها أو إتيان أمها وخالتها ومصائب و بلاوي عمت و طمت وقال الغلام وحكى الأمرد وأدخل فأوقب ).(1)
ترى ! ... ما علاج هؤلاء ؟!. ... وبأي أسلوب نحسم هذا الداء، ونخلص مجتمعاتنا من هذا البلاء؟!.
5- الغدر:
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يخاطب العرب المتوجهين لتحرير العراق: (احذروا العجم فإنهم غَدَرة مَكَرة) فالغدر خلق أصيل عرف به العجم منذ القدم.
ومن أسبابه الشعور بعقدة النقص والدون أو الضعف. فإن الضعيف إذا سنحت له الفرصة لا يريدها تفلت من يده لخوفه من فواتها إلى الأبد. وانعدام الثقة بالنفس وقدرتها على اصطناع الفرص عند الحاجة فهو لا يعفو عند المقدرة أبداً.
يحدثنا التاريخ أن (الهرمز) قائد الفرس في معركة (ذات السلاسل) لم يخجل أو يتردد من الخروج المخزي على تقاليد الفروسية حين بيت كمينا وطلب من خالد بن الوليد قائد العرب أن يبرز له حتى إذا التقيا خرج الكمين ليقتل خالد مع أن الشرف العسكري وأعراف العسكرية تستلزم أن تكون المبارزة واحدا لواحد أو اثنين لاثنين وهكذا.
__________
(1) سياحة في عالم التشيع، ص 115 ـ للسيد محب الدين الكاظمي.(161/31)
ومن أسبابه عقدة اللؤم التي تجعلهم يتمردون على من يحسن إليهم، ويبغضونه ويتطيرون من رؤيته، لأنها تشعرهم بفضله ونقصهم. لكنهم لا يجدون مبررا لعداوته في العلن فيكيدون له في السر ويغدرون به. يشجعهم على ذلك عقدة التوجس والارتياب والشك في كل تصرف أو فعل فلا يأخذونه على ظاهره بل لا بد أن له تفسيرا سلبياً في الباطن عندهم. ولقد مر بنا سابقاً في الدراسات النفسية (إن الفرس يشبهون رجلاً مدفوعاً في حياته بواسطة رغباته الطبيعية التي يتربع على قمتها الخوف. وذلك من أجل الحفاظ على أنفسهم من أخطاء الهجمات. وبسبب شكوكهم وعدم ثقتهم بالآخرين فليس لديهم القدرة على الامتزاج. إنهم يبحثون عن الأمان في الانعزالية عن الناس أو بواسطة توجيه ضربتهم الأولى).
6- الكذب:
الكذب هو الشعار القومي للفرس! حتى إنك لتستطيع أن تقول: فارسي لا يكذب ليس بفارسي!
فالكذب مغروس في خلاياهم. أتدري أن اكبر دولتين في القدرة أو التفنن في تزوير العملة إيران والكيان الصهيوني! والتزوير أحد أنواع الكذب.
ويظل السبب الأساسي لهذه العقدة -وكل عقدة لدى (الفارسي)- رغبته في السيطرة على من يفوقه عددا ومعنى.
إن شد القوميات المختلفة باتجاه الداخل وعزلها عن امتداداتها الخارجية تحت القبضة الفارسية لا يتم إلا بالكذب والدعاوى التي تصور لهذه القوميات أن خطراً ما يهددهم من الخارج! فإن لم يكن هناك من خطر حقيقي اختلقوا أسبابا للمشاكل والخصومات الخارجية يدعون فيها دائماً أنهم مظلومون معتدى عليهم فالكذب ضرورة من ضرورات الحياة كالطعام والشراب والهواء بالنسبة لـ(الفارسي) لا يستطيع المقاومة والبقاء بدونه.
وقد عشنا الواقع عيانا وسماعا وقرأنا الكتب وتعاملنا مع الرافضة فما رأينا أكذب منهم! إن الكذب عند الرافضي مهنة! ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قال: سبحان من خلق الكذب وجعل تسعة أعشاره في الرافضة.(161/32)
ودخل الإسلام بلاد فارس فما تغير من كذبهم إلا الاسم وبقي المضمون كما هو! كما هو ديدنهم مع بقية أوامر الدين ونواهيه. يأخذون منها الاسم والمصطلح ليعطوا لكل اسم بعد تطويعه وتحويره ما يناسبه من مضامين فارسية مجوسية.
فالزنا والإباحة المجوسية: (متعة)
وأكل أموال الناس بالباطل: (خمس) و(حقوق شرعية)
وتأليه البشر وعبادة (رجال الدين): (إمامة)
والفتن وتحليل دم المسلم والاغتيال السياسي: (جهاد)…وهكذا!
أما الكذب- شعار الفرس القومي فأطلقوا عليه اسم: (التقية) وجعلوه تسعة أعشار الدين! وقالوا: جعفر الصادق يقول ذلك(1)!
ولا أدري كيف ينسب للصادق تقديس الكذب إلى هذا الحد!
وعن محمد بن علي أنه قال: (التقية من ديني ودين آبائي. ولا إيمان لمن لا تقية له)(2).
ولا شك أن هذا هو دين العجم وإيمانهم الذي دفعهم للقيام بأكبر عملية تزوير للدين في التاريخ –كتابا وسنة وأحكاماً. وللتاريخ أيضاً!
ما بالك بقوم يشتكي الكذاب من كذبهم !كما مر بنا عن الشاه المقبور محمد رضا بهلوي (الذي يقول: إن الكذب ذاته يجري تمجيده عند الفرس على أساس أنه فضيلة) مقتبسا في شكواه ما جاء في قصيدة الشاعر الفارسي المشهور سعدي من قوله: (إن الكلمات التي تخدعك وتضللك ولكنها تسعد قلبك هي أغلى من الصدق…الخ).
7- عقدة (السيد) أو الاستعلاء والغطرسة:
تتنازع (الفارسي) عقد تبدو في ظاهرها متناقضة، ولكنها في حقيقتها تنبع من مصدر واحد وتتفاعل فيما بينها بتناسق وتساند. فهو من ناحية يعاني من عقدة الشعور بالنقص ومن ناحية أخرى يحيط نفسه بمظاهر الفخفخة والكبرياء ويتصرف بغطرسة واستعلاء. والحقيقة أن هذه من تلك!
__________
(1) أصول الكافي للكليني 2/217.
(2) الصدر نفسه 2/219.(161/33)
إن الاستعلاء والكبرياء ما هو إلا غلاف يحيط به نفسه لستر شعوره بالنقص إزاء الآخرين! كما فعل إبليس مع آدم - عليه السلام - حين فضله الله تعالى فـ { أبى وستكبر } و { قال أنا خير منه } . وكما فعل اليهود من بعد حين ادعوا إنهم(شعب الله المختار) و(قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه).
ثلاثة حين عجزوا عن حيازة الأفضلية بالفعل وشعروا بالدون جنحوا إلى التبجح بالعنصر: (إبليس واليهود والفرس) حتى تحول ذلك فيهم إلى (عقدة) وأي عقدة!
إنهم من ناحية أفسد خلق الله تعالى فعلاً، ومن ناحية أكثرهم تبجحاً واعتزازا بالأصل والعنصر؟ ولهذا قال الخبراء -كما مر بنا- (الفارسي إنسان متغطرس وأكثر ميلاً إلى احتقار الغريب فيما إذا اعتقد بأنه يحاول إخضاعه وإذلاله). وهو دائما يعتقد هذا في الغريب لإصابته بـ(عقدة الشك) (ومركب الخوف من كل ما هو أجنبي وغريب ويثير لديهم غلوا في التعصب لوطنهم وتفاخرا عميقا بجميع الأشياء الفارسية و يتنامى عندهم شعور بالاستثنائية الفذة التي لا مثيل لها)
تأمل اسم أول دولة لهم في التاريخ عيلام :Hal-tampt ! ان معناه (بلاد السيد) فـ(Hal) تعني(بلاد) و(tampt) (سيد)(1).
بل أطلقوا على أنفسهم اسم (السادة) و(الأحرار) حتى صار هذا الاسم علما على الفرس! فإذا قيل (السادة) أو (الأحرار) فإنما يعني بِهِ القائل (الفرس) لا غير. وبهذا يظهر أن لقب (السيد) علماً على (رجال الدين) فارسي المصدر، لا سيما إذا استحضرت أنهم لا يفرقون بين (رجل الدين) ورجل المُلك، وعلمت أن الدين والملك عندهم محصور في بيت واحد.
__________
(1) الصراع العراقي الفارسي ص46-مصدر سابق.(161/34)
وظل الفرس يسمون أنفسهم كذلك تعصباً لعنصرهم واحتقارا لغيرهم من الشعوب لا سيما العرب لأنهم يشعرون تجاههم بـ (عقدة الدون). ومن طريف ما يذكر في هذا الصدد أن أحد علماء السنة المعروفين في شيراز على عهد الشاه إسماعيل الصفوي وهو شمس الدين الخفري حين تقدم بين يدي الشاه من أجل امتحانه في سب الخلفاء الثلاثة انبرى يلعنهم لعناً شنيعا فنجى بذلك من الذبح، ولما خرج من عند الشاه عاتبه أصحابه وقالوا له: كيف ارتددت عن دينك ولعنت أئمتك الثلاثة ؟! فأجابهم: لأجل هؤلاء الأعراب الثلاثة أقتل أنا مع ما أنا عليه من الفضل والكمال!(1) أنظر كيف عبر عذره عن (عقدته) الكامنة في نفسه- عقدة (السيد)!
والسيد لا يلتفت إلى إحسان العبد تجاهه لاعتقاده أن ذلك حق من حقوقه. وكل ما يقدمه (العبد) تجاه (السيد) يعتبر خدمة واجبة عليه لا يستحق عليها الشكر.
ولا يلتفت السيد إلى رأي العبد كذلك، ولا يسمع لكلامه بل قد لا يسمح له بالكلام في حضرته أصلاً لأنه عبد.
إن عقدة (السيد) عند العجمي والمستعجم تبطل مفعول أي إحسان تقدمه إليه من أجل تقريبه وكسبه. وتجعل آذانه في صمم عن سماع كلامك ورأيك ما لم يكن كلام سيد يمتاز بالقوة والجرأة والاستعلاء اللذين يمتاز به كلام السادة مع العبيد.
إن هذه العقدة تفرض على من يتعامل مع المصابين بها أحد خيارين: فإما أن يتعامل معهم كـ(سيد)، وإما أن يعاملوه كعبد! وليس من خيار ثالث.(لأنهم هكذا دائماً يفسرون كل مجاملة على أنها ضعف).(2)
__________
(1) لمحات اجتماعية، 1/58، الدكتور علي الوردي.
(2) دين خميني، ص38 - صدام حسين.(161/35)
إن اللين واللطف وجميع أساليب التقريب ليست أكثر من (مغذ) أو حقنة (فيتامينات) تغذي هذه العقدة عند (الفارسي) وتقويها! مما يؤدي بِهِ إلى أن يبتعد أكثر عن (اللينين). و يتصامم عن سماع كلامهم ولا يعاملهم باحترام، لأن (السيد) لا يحترم إلا سيداً مثله، ولا يعتبر إحسانه إليه. فإذا أردت منه أن يحترمك ويسمع لكلامك فكن سيداً مثله في خطابك وموقفك وكلمه بلغة السيد ولهجته، وإن علوت أكثر وأشعرته بأنك فوقه وأنه دونك فهذا أجدى. وإلا فإن الطريق الآخر مسدود. والتاريخ - وكذلك الواقع- خير شاهد.
لقد ثبت تاريخياً أن (الفرس) لا يحترمون إلا القوي ولا يعترفون إلا به ولا ينصاعون إلا للقوة ولا يفهمون سوى خطابها ولغتها. وما من مرة تولى فيها الحكم في العراق حاكم ضعيف إلا وتحرك العجم باتجاهه يغزونه ويعتدون عليه. وما من حاكم قوي إلا وله معهم موقعة يلقنهم فيها أحكم الدروس وأبلغها. من أوتوحيكال و سرجون إلى حمورابي و نبوخذ نصر إلى آشور بانيبال و سميراميس إلى أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وصولاً إلى صدام حسين. عندها قد يسمعون له وهو يتكلم لهم عن (أسطورة) الجار وحقوقه أو الدين ولوازمه وآدابه.
كاليهود تماماً! أخذ الله عليهم الميثاق وهم تحت الطور الذي يكاد ينقض عليهم، ثم ما إن ذهب عنهم الخوف حتى تولوا فكانوا من المعرضين! وعلى هذا الأساس تعامل معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنجح أيما نجاح.
ولقد أثبتت الوقائع، والأحداث والواقع، أن جميع محاولات التقريب لم تجد مع الرافضة شيئاً، وأن الأفكار التقريبية و الدعوات اللينة أو (الهادئة) وكلمات المدح والتزلف تنقلب عندهم -لفساد مزاجهم- إلى سلاح متفجر يحاربوننا به ويفجرونه في وجوهنا كل حين. إن هذا لا يزيدهم إلا عتواً وخبالاً، ولا نكسب منه إلا مزيداً من الأدلة أو الأسلحة التي تستعمل ضدنا بوقاحة وصلف!(161/36)
هل أجدت معهم هذه المقولات الخانعة: (لولا علي لهلك عمر) (لولا السنتان لهلك النعمان) (إن جعفر الصادق هو إمام المذاهب)..الخ؟!
على العكس! لقد استعملوها بالمقلوب واعتبروها أدلة على جهل عمر وأبي حنيفة، وأن الأصل هو التشيع وما عداه ففرع وعالة.إن السيد –أيها السادة!- لا يحترم إلا سيداً مثله أو يزيد عليه.
8- العدوانية أو عقدة الاعتداء على الغير:
(الفارسي) -كاليهودي- عدائي مخرب بطبعه! إن الاعتداء على الغير هو الأساس الذي بنى عليه كيانه ووجوده، مع الادعاء أن الغير هو المعتدي. إن ذلك يهيء له حجة جاهزة يحشد بها شتات الشعوب المتنافرة تحت سيطرته ويوجه أنظارهم نحو الخارج، وإلا تفككت البنية السياسية للدولة وخرجت عن قبضته لأن تلك الشعوب ستتوجه أنظارها إليه وتنشغل به عن الآخرين، مما يؤدي إلى سقوطه حتما لوجود خلل حقيقي في ميزان القوى لديه هو غير قادر على تجنبه أو تلافيه.
(لقد أدرك الفرس أن تحقيق سيطرتهم على عدد كبير من القوميات يفوقهم بعضها عددا وحضارة لا يكون إلا بإخضاعها إلى ضغط تحد خارجي وإثارة شعور التوجس لديها من خطر ما يأتي من الخارج ) كما تفعل أمريكا اليوم مع دول الخليج وهي تلوح لهم بالخطر القادم من العراق كي تضم هذه الدول تحت جناحها وتشغلهم عن العمل ضدها. إنها توجه أنظارهم إلى الخارج بدلاً من الداخل (وعليه فقد وظف الفرس التحديات المختلفة في المنطقة لصالح تأكيد هيمنتهم على قوميات ما عرف بإيران).
تلاقح العقد:
إذن إثارة المشاكل الحدودية والاعتداء على الجيران ضرورة من ضرورات الوجود الفارسي والدولة الإيرانية. فالفارسي لا يكون إلا عدائياً.(161/37)
وهذه هي العقدة حين تترسخ الصفة وتمسي لازماً من لوازم وجود الموصوف، تسندها عقد أخرى تغذيها وتحافظ عليها وتنميها. مثل الكذب الذي يفيدهم في تصوير المعتدي بصورة المعتدى عليه وبالعكس، وعقدة الشعور بالاضطهاد التي لابد منها لإسناد الكذب نفسيا ومعنويا من أجل استحصال الحق المشروع في الرد على الاعتداء المفترض وتبريره. وعقدة الدون التي تجعلهم يحسون بتخلفهم الحضاري والمادي تجاه من يتفوق عليهم (ويتخذ ذلك وضعا حادا ينعكس على شكل رد فعل غير حضاري يستهدف تدمير الحضارة فيه).. وهكذا تتلاقح العقد فيما بينها وتتزاوج تزاوجا غير مشروع وتبيت محضنا لتفريخ عقد أخرى { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } الشورى: 40.
وبعد مجيء الإسلام (تعرض العقل الفارسي القديم إلى إحباط عنيف أدى إلى إعادة تغيير منظومة الروابط و البنى العقلية لإنتاج سلوك خاص. ولم تكن هذه الاستجابات الإحباطية بموجبها لغرض امتصاص الحضارة العربية والعقيدة الإسلامية والانتماء الصادق إليها، بل لغرض الوقاية منها والابتعاد عن تأثيرها كلما أمكن ذلك…ومن الاستجابات الأولية أمام الإحباط هي العدائية. ولما كان العدوان المادي والحربي قد فشل بعد الفتوحات الإسلامية فإن العقل الإيراني راح يبحث عن وسائل الهدم والتحطيم والعنف لتهديد الكيان العربي – الإسلامي وقد وجد لذلك عدة طرق شعورية ولا شعورية. فالشعورية منها كانت مخططة مدبرة…و اللاشعورية منها كانت انفعالية نزقة هوائية)(1).
9- عقدة الشعور بالاضطهاد:
إن عقدة الشعور بالاضطهاد مكملة لعقدة الاعتداء، وضرورة من ضرورات صمودها ودوامها فهي كالغذاء الذي لابد منه لبقائها، وكالوقود اللازم لاستمرارها.
__________
(1) الحقد الفارسي لماذا ؟ص155 المقدم عبد الجبار محمود السامرائي.(161/38)
فكما أن الاعتداء ضرورة من ضرورات البقاء عند (الفارسي)، فكذلك الادعاء بأن الغير هو المعتدي ضرورة لتبرير ذلك الاعتداء وإعطائه زخما من الفاعلية والتجدد.
ومن هنا نشأت عقدة الشعور بالاضطهاد و المظلومية. فهو مظلوم دائما بسبب أو بدون سبب، وقع عليه ظلم أم لم يقع، معتديا كان أم معتدى عليه. كأن الله سبحانه خلقه ليعتدي ويؤذي دون أن يكون للآخرين حق في رد اعتدائه وأذاه! فالاعتداء والأذى واجب من واجباته، وسكوت المعتدى عليه حق من حقوقه! فإن قام بالرد بالمثل جزاءا أو دفاعاً عن النفس فان (الفارسي) لا ينظر إلا بعين واحدة تلك التي ترى الفعل المرتد دون الفعل المسبب له.
ولهذا قال الخبراء: (ان الفرس كانوا يصورون أي عدوان يقومون هم به على الأمة العربية بأنه (دفاع عن النفس) حتى أصبح قانونا ثابتا في السياسة الخارجية في مختلف مراحل التاريخ).
إن عقدة الشعور بالاضطهاد وراء الشعائر والطقوس التي عزلت المتشيع فارسياً عن محيطه ومجتمعه، في شعوره وسلوكه وولائه وانتمائه. بل جعلته آلة تخريب بيد الأجنبي العجمي الذي يلوح له بأنه مضطهد مظلوم وانه يسعى لإنقاذه، ويبادله الشعور بالظلم والاضطهاد إلى حد النواح والبكاء ولطم الصدور والخدود، وشق الثياب السود، حزنا وأسى.
وهي التي تجعله يتلذذ بمجالس النياحة وحلقات اللطم والبكاء تحت ذريعة مظلمة (أهل البيت) دون ملل مهما تكرر الحديث أو كان أسطوريا أو خارجا عن الذوق أو منطق العقل والشرع والتاريخ! بل يتفاعل معه إلى حد البكاء والعويل بل لطم الخدود والصدور و(تطبير) الرؤوس وجلد الظهور بالسياط و(الزناجيل) وأذى الجسد بأنواع الأذى إلى حد فقدان الوعي أو الموت!
وهو تعبير وتنفيس عن عقدة أخرى هي عقدة الشعور بالذنب ذلك الشعور الذي تكون وتراكم بسبب خذلانهم المتكرر للخارجين من البيت العلوي على مر التاريخ.(161/39)
ويصبح الحديث عن الحسين و (مقتله)، و(مصيبة أهل البيت) بسبب هذه العقدة كأنه حديث عن النفس ومصائبها. إنه (مظلوم) كما (ظلم الحسين)، و(مضطهد) كما (اضطهد). ويتحول الحسين إلى رمز لـ(المظلومين) و( المضطهدين). فمهما حاولت أن تستثير عقلة ليفكر تفكيراً منطقياً فيقتنع بان الحسين - رضي الله عنه - لم يضطهده أحد. بل عاش عيشة الأمراء ومات ميتة الكرماء.
أما أنه قتل، فقد قتل في ميدان معركة سعى إليها بقدمه، كما قتل ويقتل الملايين، ومنهم من هو أشنع قِتلة و أكثر عذابا وألما، أقول: مهما حاولت فربما لا تفلح معه لأن نداء عاطفته المعقدة أقوى من منبهات عقله المخدر المقيد بقيود لن يستطيع معها أن يكتشف حتى الموت أن (المقتل) أسطورة أصلها صفحة واحدة كثّرها المتاجرون حتى صارت رواية تقرأ! و.. مسرحية تمثل!
اضطهاد (الأئمة):
وبسبب هذه العقدة يعتقد الرافضي أن (أئمته) جميعا عاشوا مضطهدين، وماتوا جميعا ميتة ليست طبيعية ما بين مسموم ومقتول ومخنوق وهارب من وجه العدالة مختف في الكهوف والسراديب! مع أن الحقيقة الواقعة والمسيرة التاريخية غير ذلك!
لقد عاش علي - رضي الله عنه - حياته وزيرا ومات خليفة وأميراً. وكذلك سيدنا الحسين - رضي الله عنه -. ولطالما ذهب هو وأخوه سيدنا الحسين إلى دمشق معززين مكرمين ورجعا إلى المدينة بالهدايا والهبات. أما ان الحسين قتل فقد قتل –كما قلت- بسبب خروجه على خليفة المسلمين في معركة سعى إليها بنفسه. وتلك نهاية طبيعية لكل خارج لم يُعِدَّ للأمر عدته. وكل سلطان لا يرضى من أحد منازعته مهما كانت منزلته. وليس في ذلك اضطهاد، فما كل قتيل مضطهد.
وأما السبي فأسطورة مختلقة. وليس بين المسلمين سبي إنما ذلك للكافرين.(161/40)
وعاش علي بن الحسين في المدينة بحرية تامة وكان أحد فقهائها الكبار الذين يتحلق حولهم طلبة العلم دون تضييق. وكذلك كان ابنه محمد وحفيده جعفر الذي لقبه الخليفة أبو جعفر المنصور بـ(الصادق) حين وشي به إليه فاستقدمه فأنكر فقال له: أنت (الصادق) وهم الكاذبون. ثم أكرمه ورده معززا مكرما.
وما يحصل من المتابعة والمساءلة والاستقدام أمر طبيعي لا ينكر وقوعه، لأنه يحصل بأسباب موضوعية ليست خاصة ولا مقصودة. إذ الزمان زمان فتنة وخروج متكرر بسبب العجم الذين يبحثون لهم عن رموز علوية أو هاشمية للتمرد والثورة وكثيراً ما يفلحون في استزلال هذه الرموز كما حصل مع زيد بن علي وابنه يحيى وعبد الله بن الحسن وأبنائه الأربعة. وغيرهم كثير.
ومن الطبيعي أن يثير هذا توجساً دائمياً لدى الخليفة لا سيما من الرموز العلوية التي كثر الخروج من أوساطها.
ويحدث أحيانا أن يرسل إلى من تحوم حوله الشبهة منهم وتكتب عنه التقارير ليحقق معه ثم يفرج عنه بعد أن تثبت براءته، أو يأخذ العهد عليه بعدم الخروج وإثارة الفتنة. وقد تكون التقارير مزورة أو مضخمة أو صحيحة. كما حصل لموسى بن جعفر وقد كاد له البرامكة منذ زمن المهدي والد الرشيد فلم يفلحوا، و اكثروا من الوشاية به حتى إنهم استطاعوا أن يستعملوا ابن أخيه محمد بن إسماعيل –حسب رواية الأصفهاني- في التجسس عليه فكتب عنه تقريراً مفصلاً مفاده أن لموسى أتباعا يكاتبهم ويكاتبونه ويجبون إليه الأموال من الآفاق فاعتقله الرشيد تحوطا وأوصى به إلى الفضل بن يحيى البرمكي وأوصاه بالإحسان إليه لكنه استغل غياب الرشيد وسفره إلى الشام فدس إليه الفارسي السندي بن شاهك فاغتاله(1).
وليس في الأمر -كما ترى- اضطهاد مقصود. وما حدث لموسى يحدث لغيره كثيراً. هذا هو الاستثناء الوحيد وهذه ملابساته!
__________
(1) مقاتل الطالبين ص232-ص236 لأبي فرج الأصفهاني.(161/41)
وأما البقية فلم يحدث لهم ما يسوؤهم أو ينغص عليهم رغد عيشهم. لقد كان علي بن موسى –كما يحدثنا التاريخ- وأحفاده من بعده على وفاق تام مع البيت العباسي الحاكم. فلقد اسند إليه المأمون ولاية العهد، وزوجه ابنته، وعاش معه عيشه الوزراء حتى مات بقدر الله على فراشه فقال المعقدون: مات مسموما بيد المأمون!
وتزوج ابنه محمد ابنة المأمون الأخرى فهو صهر الخليفة! هل هناك أنعم وأهدأ بالاً من صهر الخليفة؟! فأين هو الاضطهاد ! قوم يعيشون في قصور الخلفاء وينكحون بناتهم ويتقلبون في نعمتهم ظهرا لبطن، وبطنا لظهر قياما وقعودا وعلى جنوبهم!
اللهم نسألك (اضطهادا) كهذا (الاضطهاد)!
واستمرت العلاقة حسنة بين البيتين حتى مات الحسن العسكري الذي عاش في سامراء مترفا تحوطه الجواري، وتطوف عليه السراري وتجبى إليه الأموال في أحسن حال وأنعم بال وأوفر نوال. ولما كان الحسن عقيما فلم يخلف عقبا وورثه أمه وأخوه اخترع له المعقدون ولداً وللولد اسماً وقصة! تقول العصفورة:إن (محمد) بن الحسن الطفل الصغير اختفى في سرداب في سامراء خوفا على نفسه من الخليفة!
ولا بد لك من أن تصدق أن الخليفة قد خاف طفلا فهو يسعى في طلبه وقتله. بينما هو يترك أباه الرجل القوي الغني الرمز يسرح ويمرح لم يتعرض له بسوء قط ! وإلا فإنك من (أعداء أهل البيت وظالميهم).
مقارنة مع الأئمة الأربعة:
ولو أجرينا مقارنة سريعة بين (الأئمة الأحد عشر) والأئمة الأربعة لوجدنا الفارق بينهما كبيرا من حيث التعرض للأذى والمضايقات أو ما يمكن ان نطلق عليه اسم (الاضطهاد).
لقد تعرض الأئمة الأربعة لمضايقات كثيرة وحبس بعضهم وضرب واختفى وضربت عليه الإقامة الجبرية. كل ذلك لأسباب موضوعية لا علاقة لها عموما بالاضطهاد.
فالإمام أبو حنيفة حبس مرات حتى قيل: إنه مات في الحبس!
والإمام مالك ضرب حتى قيل: سقطت أو خلعت يداه!
والإمام الشافعي جيء به مكبلاً من اليمن إلى بغداد.(161/42)
وأما الإمام ابن حنبل فمحنته أشهر من أن تذكر! ولقد ضيق عليه وحرم من الاتصال بالناس قرابة ثلاثين عاماً!
وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية طورد وشرد ونفي وأوذي وسجن مرات حتى مات أخيراً في السجن!فإذا كان الرافضة مضطهدين، فماذا نقول نحن؟!
المتشيع فارسياً كاليهودي مخرب أينما حل:
لا نقول شيئاً! لأننا –ولله الحمد- رزقنا السلامة من أمراض الفرس وعقدهم.إن هذه العقدة وراء الشخصية العدائية والتخريبية أو الانتقامية لدى المتشيع فارسياً. فهو يسرق ويؤذي ويخرج على القانون إلى حد القتل والاغتيال والتفجير. فإذا عوقب طبقا إلى القانون ضج بالعويل والصراخ: أنا مظلوم أنا مضطهد! ومهما خرب وآذى واعتدى فهو بذلك ينتقم لنفسه (المضطهدة) ويسترد بعض حقها المسلوب حتى صار الخروج على القانون حقا من حقوق الشعوبي أو الرافضي.
يدعم هذا ويسنده نفسيته المعقدة المريضة والمصابة بعقد أخرى مثل عقدة (السيد). فالسيد لا يشعر بظلمه أو اعتدائه على عبده لأنه مُلك له يفعل به ما يشاء. لهذا فمهما أحسنت الدولة أو الآخرون إليهم فلن يعتبروه إحسانا وإنما واجبا يؤدى تجاههم بلا جزاء ولا شكور.
وللأسباب نفسها يسبون رموزنا وصحابة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ويبغضونهم ثم يرمون بالتهمة علينا يقولون: إنكم تبغضون علياً وذريته! في الوقت الذي يشرّحون فيه أئمتنا وعلماءنا تشريحا منكراً دون أن يحسوا بأنهم يسيئون إلينا بذلك! وفي المقابل يتحسسون تحسساً شديداً من الإشارة إلى أن علياً –مثلاً- أخطأ في كذا وإن شفع القائل قوله بعبارة (رضي الله عنه) أو (كرم الله وجهه) أو حتى (عليه السلام). إن هذه اللواحق لن تحسب لقائلها ولا تصلح دليلاً على صدقه في حبه لعلي لأن عقدة الشك تصور مبعثها بصورة الملق و النفاق.
وعقدة الاستعلاء والسيد تجعلها واجباً لا شكر عليه.(161/43)
وعقدة الاضطهاد والكراهية وبقية العقد ستمسح كل أثر لها ثم تكر على تلك الكلمة (أخطأ علي) فتضخمها لتجعل منها كفرا وجحودا وحقدا واضطهادا لأهل البيت يجب أن يواجه بما يناسبه بل يزيد عليه من الاعتداء والانتقام!
كان أحد هؤلاء المعقدين يتحدثون في مجلس عن كرامات جذع نخلة في الحلة، وكيف أن الشفلات وآلات القطع والقلع عجزت عن اجتثاثه أو قطعه فتركوه على حاله وحولوا الطريق إلى جانبه! فقال له صديق لي: أجرة الشفل واللوري عليَّ والدلالة عليك وأنا أتعهد لك بقلعه من جذوره ومن هذه اللحظة!
يقول صديقي: فالتفت إلي مبهوتا ثم دقق النظر محدقاً في وجهي وبعد برهة قال باشمئزاز: إلا تخبروني ما هو سر عداوتكم لأهل البيت؟!!
10- عقدة التعصب:
التعصب مرض اجتماعي خطير يعبر عن طفولية حضارية وبدائية فكرية وبدوية عنصرية، يؤدي بصاحبه إلى ان لا يستجيب لشواهد الحق مهما وضحت ولا أسباب الرفق والإحسان مهما تنوعت وكثرت!
إنه ينظر إلى الأشياء والحقائق بمنظار واحد، هو منظار الطائفة التي ينتمي إليها فالحق ما وافق طائفته والباطل ما خالفها!
إن مثل المتعصب في النظر إلى طائفته –كما يقول الدكتور علي الوردي في أحد كتبه- كمثل البدوي في النظر إلى قبيلته. إن الحق لا يعنيه في أي جانب يكون بقدر ما يعنيه موقف القبيلة!وهي صفة متأصلة في اليهود الذين { إِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ(91) } البقرة. فالحق (ما أنزل عليهم) لا (ما أنزل) مطلقاً. فما نزل على غيرهم هو الباطل، لسبب بسيط هو أنه أنزل على غيرهم!
وهكذا وجدنا اتباع التشيع الفارسي متعصبين إلى حد العقدة، والعقدة الشائكة المركبة المتشابكة الأسباب والجذور.(161/44)
إنها عقدة وعقيدة وولاء وتقليد وتاريخ وجغرافيا وعنصر وهوية! لا يرون الحق إلا في جانبهم مهما كانت أفكارهم باطلة وخارجة عن العقل أو العرف والمألوف. ويكفرون غيرهم طبقا إلى هذه الأفكار السمجة، ويلمزونهم بشتى الألقاب والنعوت مثل (أبناء العامة) و(الوهابية) و(النواصب). وكلها نعوت مكفرة عندهم. يغذي هذه العقدة حقد (مجوسي فارسي) عميق ضد الإسلام، وضد العرب أولئك القوم الذين أزاحوا الفارسي و أطفأوا ناره وكبتوا أهله ودمروا عرشه وحطموا تاجه.
11- الوقاحة أو الصفاقة :
الوقاحة: قلة الحياء ومثلها الصفاقة. و(الفارسي) إنسان وقح صفيق، بسبب اعتياده على إتيان النواقص التي يندفع إليها مضطرا لحماية نفسه كالكذب والخداع والغدر والاعتداء وهو يحاول الوصول إلى غايات أكبر من حجمه. وبسبب كثرة هذه الرذائل أو النواقص التي يرتكبها فإنها كثيراً ما تنكشف، مما يزيده جرأة في تعاطيها حتى تصير مفردات يومية يتعامل بها في حياته الاجتماعية دون تردد أو خجل!
لهذا صار (الفارسي) ذا طبيعة وقحة لا يتأثر بإتيان الرذائل كما قيل:
من يَهُنْ يسهَل الهوانُ عليهِ
ما لجُرحٍ بميتٍ إيلامُ
يغذي ذلك شعوره بالنقص وعقدة الدون، والناقص لا يستنكف من النقائص لأنه كما قيل: الذي في الأسفل لا يخشى السقوط.
يطلق على الشخصية المصابة بمرض الوقاحة في علم الأمراض النفسية اسم (الشخصية السيكوباثية).(161/45)
يقول الدكتور علي الوردي: وقد يصح تعريبه بـ(داء الصفاقة) فالشخص المصاب بهذا الداء يتميز عن غيره بوجود ضعف في تناسق ذاته من الناحية الزمنية فهو لا يبالي بما فعل في الماضي أو ما سوف يفعل في المستقبل ولا يستحي منهما. إنَّهُ قد يستقرض منك مبلغاً من النقود على أن يرجعه إليك بعد ساعة. ثم تمضي عليه الساعة والساعتان وعشرات الساعات دون أن يشعر بأهمية وعده. وربما قابلك بعدئذ بوقاحة كأنه لم يستقرض منك شيئاً وهو قد يبتسم لك ابتسامة بلهاء ثم يكرر الوعد لك مرة بعد مرة بلا جدوى.
إن الشخص (الصفيق) قد يخونك أو يغشك أو يغتابك أو يهاجمك بصلافة ثم ينسى ذلك ويريد منك أن تنساه أيضاً.
ومما يجدر ذكره أن الشخص السوي قد يرتكب مثل هذه الأفعال ولكنه يخجل منها عادة ويحاول الاعتذار عنها أو تبريرها. أما الشخص (الصفيق) فهو يرتكب تلك الأفعال بلا اكتراث كأنه لم يفعل شيئاً يستحق اللوم …
لا ننكر أن الشخص (الصفيق) قد يستفيد في بعض الظروف فقلة الحياء فيه تجعله ناجحا في انتهاز الفرص أحيانا إنه يستطيع ان يتزعم كل مظاهرة ويقف في كل حفلة ويتزلف لدى كل متنفذ. والمعروف عن بعض المتنفذين أنهم يحتاجون إلى شخص من هذا الطراز لكي يقوم بخدمتهم في المهمات التي لا يرضى أن يقوم بها الأشخاص الأسوياء(1).
ويقول فرويد عن الشخص السيكوباثي: (كثيراً ما نجده يندفع بقوة لإتباع نزعاته وأهوائه المكبوتة دون أدنى اعتبار للقيم والمعايير الأخلاقية أو لما يفرضه المجتمع من أنظمة وتقاليد).
ويقول عن هذه الفئة: (نجد من بينهم الكاذب الماهر ذا الخيال الخصب والخائن المراوغ والأرعن المتهور الأناني. ومنهم كذلك من لا يقبل أي نقد أو نصح أو إرشاد)(2).
__________
(1) لمحات اجتماعية 2/312-313 الدكتور علي الوردي.
(2) الشذوذ النفسي عند الجنسين ص188-189ط2 بيروت.(161/46)
و(الوقاحة) عند الفرس سجية اجتماعية محمودة وليست رذيلة ممقوتة. إن الأدب الفارسي بمجد (الوقاحة) كما يمجد (الكذب). ولا بأس بإعادة ما مر بنا سابقاً من قول الخبير الأمريكي جاك ميلوك عن هذه الصفة:
(في قطعة أدبية مشهورة في الأدب الفارسي ينصح أحد الحكماء الإيرانيين من ذوي العقل الراجح ابنه حول الكيفية التي يتوجب على الابن إتباعها من أجل أن يكسب حياته في إيران:
لا تتخوف من سوء استعمالك للحق أو للسلطة، ولا من الإذلال أو تشويه السمعة أو الافتراء… وعندما يجري طردك خارج أحد الأبواب تعال وادخل بابتسامة من باب أخرى…
كن وقحا ومتغطرسا وغبياً لأنه من الضروري في بعض الأحيان التظاهر بالغباوة لأن في ذلك فائدة).و(الوقاحة) ظاهرة لمسناها في الوسط الرافضي المستعجم.
جاءني مرة واحد من هؤلاء يناقشني في مسائل تتعلق بالتشيع الفارسي قال لي: كيف تتهم علماءنا بأنهم يقولون عن (الإمام علي) إنه دابة الأرض؟
قلت له: هذه حقيقة وليست تهمة. وممن قالها محمد الصدر قال: مستحيل. قلت: علام هذا المستحيل؟ إن له رسالة اسمها (الرجعة) فيها هذا الكلام. قال هذا غير صحيح. قلت: هل اطلعت على الرسالة؟ قال: نعم وليس فيها ما تدعيه عنه.
كنت لحظتها أبحث بين الكتب. ولما أخرجت الرسالة وأخذت أقلبها لأقع على موضع الشاهد منها إذا به يقول: نعم موجود هذا الكلام وليس فيه من شيء فالدابة كل ما دب على الأرض(!!)وعجبت من (صفاقته)!!لقد قالها دون تلعثم! ودون أن تتغير ملامح وجهه!
واستمر في حديثه وجدله كأنه لم يفعل شيئاً! مع أنَّهُ لو كان إنساناً سوياً لذاب خجلاً ولاذ بالصمت ليغادر الجلسة إلى أقرب حمام كي يغسل العرق الذي جلله!ولكنها (الصفاقة)!(161/47)
تلك السجية الفارسية التي من مظاهرها ما نراه أثناء الخصومة حين يتمادى البعض منهم إلى حد (الفجور) فلا يدع وسيلة لإيذاء خصمه وتشويه سمعته وبصورة علنية سافرة إلا استخدمها، حتى إذا انتهت أسباب الخصومة يعود هؤلاء المختصمون إلى حد (الفجور) أصدقاء يتحدثون كأن لم يكن بينهم شيء!
والمتدينون منهم يغلفون هذه (الصفاقة) بأسماء ومبادئ شرعية كالعفو والصفح والمغفرة و(عفا الله عما سلف)…الخ وما هي إلا وقاحة وصفاقة ورقاعة لأن أصحاب العفو والصفح والمغفرة لا يفجرون في الخصومة.
خاصمني بعض هؤلاء خصومة فاجرة شديدة لم تنفع معها كل محاولات الإصلاح والنصيحة. ومرت الأيام فإذا ببعضهم يقبل بعد صلاة الجمعة ليسلم عليَّ ويصافحني. ومددت يدي أرد عليهم السلام.
وبعد حين سمعت أنهم يشكون من عدم تقديري لهم لأن سلامي عليهم كان باردا! لعلهم كانوا يريدونه بالأحضان ومضخما بالقبلات! مع أن حقهم -الذي لا يستحقون غيره- الطرد بلا سلام ولا كلام!
إن داء (الصفاقة) هو الذي يجعل (الفارسي) لا يتردد من سب الصحابة في وجهك ببرودة أعصاب و جمودة وجه كأنه يترحم عليهم! دون أن يعير لشعورك أدنى اعتبار. حتى إذا أنكرت عليه قال لك متغيظاً: لماذا تكرهون (أهل البيت)؟
ولك مني جائزة مجزية إذا تمكنت من حل هذا اللغز الذي يجعل من الدفاع عن الصحابة هجوماً على (أهل البيت)!!
12- اللؤم ونكران الجميل:
المتشيع فارسياً شخص لئيم، لا سيما من تمكن هذا التشيع منه فقضى على جميع العناصر الفطرية الطيبة في داخله. فهو لا يعرف الوفاء والجزاء على الإحسان بالإحسان. إن له ذاكرةً لا تلتقط إلا إساءة من أساء إليه. وإذا ألجئ أحدهم إلى تذكيره بالإحسان بادر إلى إنكاره و جحوده.واللئيم عادة ما يقصد بالإساءة من أحسن إليه.
وتاريخ إيران القديم والحديث مليء بالشواهد!(161/48)
في عام 664ق.م حصل شقاق في البيت العيلامي المالك لجأ على أثره أبناء الملك السابق (اورتاكو) إلى البلاط الآشوري مع رماة سهامهم ومرافقيهم بسبب عداء الملك الجديد (تيومان) لهم.
ومنحهم الملك الآشوري (آشور بانيبال) حق اللجوء، ورفض كل طلبات الملك العيلامي بتسليمهم إليه.بعد حوالي عشر سنوات أي في عام 653ق.م. هاجم تيومان ملك عيلام بلاد بابل بجيش كبير، فتصدى له الآشوريون وأوقعوا به هزيمة منكرة وقبضوا على الملك العيلامي (تيومان) وقطعوا رأسه وأرسلوه إلى (آشور بانيبال) في نينوى. بعدها أعاد آشور بانيبال أولاد الملك السابق الذين لجؤوا إليه ونصبهم على عرش عيلام. فانظر كيف رد هؤلاء عليه؟ وكيف كان (إحسانهم) إليه؟!
بعد عام واحد أي في سنة 652 ق.م. قامت ثورة انفصالية في بابل بقيادة (شمش شموكين) شقيق (آشور بانيبال) فما كان من ملك عيلام- الذي كان لاجئاً في البلاط الآشوري أكثر من عشر سنين آمناً منعماً ثم تمكن بفضل آشور بانيبال من استرداد عرشه- إلا أن سارع لمساندة الثائر الانفصالي ضد أخيه وأرسل جيشا بقيادة ابن (تيومان) مع قواد آخرين لمساعدته. فكان هذا أول مكافأة قام بأدائها ملك عيلام تجاه ملك آشور رداً على إحسان الأخير إليه(1).
تماما كما فعل ًحفيده وخلفه الخميني الدجال الذي آواه العراق وقدمت له حكومته أسباب العيش والحماية أكثر من عشر سنين فكان أول عمل قام به بعد تولي العرش سنة 1979م أن شن حرباً ضروساً على البلد الذي آواه بعد عام واحد من ذلك دامت ثماني سنين!
__________
(1) الصراع العراقي الفارسي ص72-74 -مصدر سابق.(161/49)
كذلك فعل كسرى (برويز) مع (النعمان بن المنذر) الذي احتضن والده (المنذر بن النعمان) جد كسرى المذكور (بهرام بن يزدجرد) فقام بتربيته ورعايته ولما مات أبوه (يزدجرد) أراد عظماء المملكة حجب الملك عنه فجهز (المنذر) عشرة آلاف (وقيل ثلاثين ألف) فارس من فرسان العرب وذوي البأس والنجدة بقيادة ابنه (النعمان) ووجههم إلى (طيسفون) أو (المدائن) مما جعل الفرس يذعنون للأمر ويتوجون (بهرام) ملكاً عليهم. فكان الجزاء أن قتل حفيده (برويز) (النعمان بن المنذر) وسلبه ملكه(1).
وفي الوقت الذي يحاول الإيرانيون نكران فضل الحضارة العربية عليهم بشتى الطرق والأساليب ومنها اعتبار بعض الشخصيات العربية المفكرة ذات أصل فارسي نجد الشعب الأسباني -مثلا- لا يزال إلى اليوم يعترف بفضل الحضارة العربية عليه بصراحة وفخر(2).
13- الخداع والتضليل:
مر بنا قول الخبراء بـ(أن الشعور بعدم الأمان مغروس عميقا عند الإيرانيين) و(أن الناس في أثناء توقعاتهم بحصول التضليل وحلول الخديعة بهم يقومون بالبحث عن موازنة التحالفات بأخرى معاكسة لها وبهذه الطريقة تتحقق نبوءة كل واحد فيهم بوقوع التضليل).
أي أن الإيراني يتوقع عادة أن الغير يحاول خداعه وتضليله فيقوم هو من جانبه بخداعه وتضليله حماية لنفسه على قاعدة (أتغدى به قبل أن يتعشى بي) والنتيجة أن الجميع يخدع بعضهم بعضاً!ً بحيث تحول الخداع والتضليل و(التقية) إلى ظاهرة اجتماعية في كل مجتمع مستعجم فضلاً عن المجتمع الإيراني العجمي.
14- الملق والتذلل والمسكنة:
تظهر على (الفارسي) صفتان تبدوان -في ظاهرهما- متناقضتين، فهو متكبر متغطرس ولكن مع من هو دونه أو مع من يقوم تجاهه بمراسيم الاحترام. وذلك بسبب عقدة (السيد). وهو متذلل متمسكن يتملق، ولكن مع من يذله أو هو أقوى منه بسبب عقدة الشعور بالنقص.
__________
(1) المصدر نفسه ص108، ص113.
(2) الحقد الفارسي لماذا؟ ص156- مصدر سابق.(161/50)
إن المثل القائل: (يتمسكن حتى يتمكن) ينطبق عليه تمام الانطباق. ولقد رأينا العجم في مجتمعنا يبدؤون سلم الوجاهة والنفوذ من تحت سطح البحر خدماً في البيوت والدوائر وفراشين ويمتهنون مهناً أخلاقية دنيئة و.. من هناك يرتقون!
يقول جاك ميلوك: (إن الملق والمداهنة والكذب والغش يجب أن تكون جميعا الأدوات التي يحتاجها الفرد لأجل أن يتقدم ويصعد إلى أعلى …إن استعمال تعبيرات مثل: (إنني عبدك المطيع) أو مثل (إنني التراب الذي تطؤه قدماك) أو (دعني اقبل رجليك ألف مرة) هي جميعها جزء صغير من مفردات قياسية للغة اليومية التحادثية). مثلهم كمثل إخوانهم اليهود الذين { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ(61) } البقرة. وتجدهم { أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ(96) } البقرة. أي حياة! وفي الوقت نفسه يقولون: { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ (118) } المائدة.
ومن مظاهر الملق عند المستعجم تقديسهم للعلماء إلى حد التأليه واتخاذهم أربابا من دون الله يتذللون لهم ويقبلون أيديهم ويمارسون معهم جميع طقوس الخضوع الذليل التي لا تليق بعربي أو مسلم كريم.
15- تأليه الحاكم:
يقول السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي:(161/51)
(كانت الأكاسرة ملوك فارس يدَّعون أنه يجري في عروقهم دم إلهي. وكان الفرس ينظرون إليهم كآلهة، ويعتقدون أن في طبيعتهم شيئا علويا مقدساً فكانوا يكفِّرون(1) لهم وينشدون الأناشيد بألوهيتهم. ويرونهم فوق القانون، وفوق الانتقاد، وفوق البشر. لا يجري اسمهم على لسانهم ولا يجلس أحد في مجلسهم(2). ويعتقدون أن لهم حقا على كل إنسان، وليس لإنسان حق عليهم. وأن ما يرضخون لأحد من فضول أموالهم وفتات نعيمهم إنما هو صدقة وتكرم من غير استحقاق. وليس للناس قبلهم إلا السمع والطاعة.
وخصصوا بيتا معينا وهو البيت الكياني فكانوا يعتقدون أن لأفراده وحدهم الحق أن يلبسوا التاج ويجبوا الخراج. وهذا الحق ينتقل فيهم كابرا عن كابر وأباً عن جد لا ينازعهم ذلك إلا ظالم، ولا ينافسهم إلا دعي نذل. فكانوا يدينون بالملك وبالوراثة في البيت المالك لا يبغون عنه بدلا ولا يريدون عنه محيصا)(3).
بعد أن اكتسح الإسلام بلاد فارس أسقط الفرس صفات التأليه هذه على من أسموهم بـ(الأئمة) من البيت العلوي، وحصروا الملك الوهمي في هذا البيت فاعتقدوا أن كل من نازعه الملك دعي ملعون. ومن هنا ولدت فكرة (الإمامة). إنها فكرة فارسية مجوسية ألبست ثوبا عربيا وعنوانا إسلاميا. ثم اسقطوا هذه الصفات بعد (الأئمة) على الفقيه الذي يلقبونه –ويلقب هو نفسه أيضاً –بـ(الحاكم الشرعي)!
__________
(1) أي يضعون أيديهم على صدورهم أمامهم ويطأطئون رؤوسهم على عكس ما يفعلون في صلاتهم! وقد شددوا في هذه المسألة حتى حكموا ببطلان صلاة من كفَّر في صلاته!
(2) من المعروف أن البعض في الجنوب العراقي يُقسم بمكان (السيد)!
(3) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص49-50، السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي، الطبعة العاشرة 1397 هـ – 1977م، دار الأنصار –مصر.(161/52)
إن هذه العقدة هي السبب الكامن وراء طاعة العلماء طاعة عمياء صماء مهما كانوا منحرفين فاسدين! إن الفقيه في حقيقته ملك من ملوك بلاد فارس القديمة مسلط على النفوس والأموال والأعراض يتصرف فيها مطلق اليد بلا رقيب ولا حسيب!
16- الخرافية:
الفرس قوم مشهورون بأساطيرهم وخرافاتهم. ذوو عقلية خرافية شغوفة بالأساطير والقصص الغريبة، وقابلة لتصديقها ببساطة. وتواريخهم تعج بالأساطير عن ملوكهم وأوصافهم السوبرمانية. وقد انتقلت هذه الأساطير باسم الدين إلى تواليفهم الدينية وألصقت تلك الأوصاف الطرزانية بـ(الأئمة) و(المراجع) الذين يلتقون في سراديبهم بـ(صاحب الزمان) ذلك الرجل الأسطوري الذي تغيب في سرداب منذ اثني عشر قرنا وسيخرج يوما ليملأ الأرض –بلمسة ساحر- عدلا بعد ان ملئت جورا!.
حدثني أحد الأسرى العائدين من إيران أن ضابطاً إيرانيا برتبة نقيب من مسؤولي أقفاص الأسرى أظهر يوما دهشته من بعض (الأعمال) اليدوية التي صنعها الأسرى فقال له أحدهم ساخرا: إن هناك ما هو أعجب! إن بعض الأسرى يخطط ليصنع طيارة من (قزانات) الطعام ليهرب بها إلى العراق. وصدق الضابط ما قالت العصفورة فأصدر أمره فورا بعدم إبقاء (القزانات) لحظة واحدة بعد الانتهاء من توزيع (الطعام)!
يقول أدور سابيليه: (ولد الخميني سنة 1900 وبعد بضعة أشهر من ولادته مات والده مصطفى الذي غادر إلى زيارة النجف، غير انه اغتيل في الواقع على مسافة قريبة من قريته.
وبسبب ميل الإيرانيين دائما إلى الإيمان بالأساطير فإنهم أشاعوا رواية تقول بأن والد آية الله الخميني قد اغتيل من قبل رضا شاه والد العاهل الأخير. وهذا ما جعل الابن ينشأ على روح الكراهية نحو أسرة بهلوي. مع أن رضا بهلوي لم يكن معروفاً بعدُ في عام 1900 ولم يتسلم السلطة إلا في عام 1920 لكي يجلس على العرش عام 1925 أي بعد مرور ربع قرن على وفاة مصطفى!(161/53)
والحقيقة أن هذا الأخير قد مات على أثر مشاجرة حدثت بين ملاك الأراضي. غير ان زوجته (هاجر ساغافي) عادت سيراً على الأقدام إلى المدينة، وأدت شهادة بشأن وفاة زوجها حيث قالت بأنه أدين وحكم عليه شنقاً)(1)
ولهذا يصدقون ما يقوله (الروزخونية) عن (مقتل) الحسين و(والسبايا) والقصص العجيبة عن رأسه الذي رفع على رمح يدل التائهين المتوجهين إلى الشام!
لقد كنت فيما مضى أعجب حين اقرأ في كتاب (الكافي) للكليني- مثلاً- لما أجد فيه من الأقاصيص الخرافية وأقول: كيف تجرأ المؤلف على تسطير هذه الخرافات دون أن يخشى من سقوط كتابه فإن العقلاء يمجون هذا وينبذونه !
ولكن بعد أن تعرفت على العقلية (الفارسية) زال العجب.بل صرت أعتقد أن خرافية الكتاب أحد أسباب نجاحه عندهم!
تركيبة متشابكة من العقد النفسية المركبة:
نحن إذن أمام تركيبة غريبة من العقد النفسية المركبة المتشابكة، يقوم بعضها على بعض، ويغذي بعضها بعضاً، وتتساند فيما بينها لتنتج حقداً متأججاً تعبر عنه باستمرار (عدوانية) لا تهدأ إلا لتثور. فهدوؤها كمون، و ثورانها جنون!
أطلق الدكتور عماد عبد السلام رؤوف على هذه التركيبة النفسية مصطلح (العقدة الفارسية).
إن (العقدة الفارسية) جزء لا يتجزأ من النفسية (الفارسية) يلتجئ إليها صاحبها كضرب من الحيل النفسية من اجل حماية نفسه التي يشعر على الدوام بأنها مهددة لذلك هو لا يستطيع التخلي عن هذه العقدة- أو العقيدة أيضاً- لأنه سيجد نفسه المهددة بالخطر قد صارت بلا حماية وبتعبير آخر: إنه يرى أن التخلي عن هذه العقدة يساوي التخلي عن حياته!
لهذا فإن المصابين بـ(العقدة الفارسية) لا يجيدون الإصغاء إلى نداء العقل والحكمة أو الضمير والرحمة أو المبادئ والقيم أو الأعراف والقوانين.
__________
(1) إيران مستودع البارود- مصدر سابق.(161/54)
لغة واحدة يفهمونها هي القوة!إنهم يحترمون القوي ويستجيبون له استجابة غير طبيعية. إنهم يستخذون له ويتملقونه ويبوسون قدميه بل حذاءه، وينحنون إلى حد الافتراش!
لكنهم ينقضّون على من يرونه أضعف وأدنى يذلونه ويجبرونه على الملق والاستكانة. لا يعرفون الوسطية فهم بين ضعيف مستخذي وقوي مستضري! و متهاجهم: تمسكن حتى تتمكن.
النار معبودهم. وبينهم وبين النار مشاعر وحوار، وصفات مشتركة: الهيجان والجنون والتدمير والتخريب والقوة العمياء والقسوة والحقد الأسود، إنهم يرون أنفسهم ويجدونها فيها، فعبادتهم لها تعبير عن أنانيتهم وعبادتهم لهذه النفوس الهائجة المخربة الحاقدة، ومن النار خلق إبليس. وهذا هو سر العلاقة الرابطة بين (الفارسي) والشيطان.
بين (الفارسي) واليهودي:
وبينهم وبين اليهود صلات مشتركة وصفات. وهو ما يفسر لنا سر العلاقة التاريخية الجامعة بينهما. وقديما قيل: شبيه الشيء منجذب إليه، وعلى أشكالها تقع الطيور، وقديماً -أيضاً- عبد اليهود العجل رمز القوة عند قدماء المصريين.(161/55)
ولو كانت نفوسهم سوية أبية لكفروا به وحطموه، لأنه معبود أعدائهم الذين أذلوهم واضطهدوهم. لكنها نفوس خربة منحرفة لا تستجيب إلا لمنطق القوة التي تقدسها وتحترمها إلى حد العبادة. ولا تنقاد إلا لمن يذلها ويقهرها. ولأمرٍ ما كانت معجزتهم (العصا) - عَلامةَ الانصياع والإذلال. وقد أخذ الله تعالى عليهم الميثاق تحت الطور الذي رفعه فوقهم كالظلة. وكانت مواعظ النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ومحاولاته السلمية تذهب دائما أدراج الرياح فكان - صلى الله عليه وسلم - في كل مرة يلتجئ إلى القوة كحل أخير أو نهائي وحيد، لدفع ضرهم إن لم يفلح في كسب نفعهم حتى قال الرب جل وعلا: { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(75)وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ(76) } البقرة. وهي أخلاق المصابين بـ(عقدة الفارسية) يحرفون كلام الله وتسعة أعشار دينهم الكذب والتقية!
ولأمرٍ ما قرن سبحانه في سورة البقرة بين ذكر (تقية) المنافقين فقال: { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ(14) } وبين ذكر النار فقال: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ (17) } وحقد دفين.
(الفارسية) وباء:(161/56)
تجد (الفارسية) في المجتمعات التي ترزح تحت وطأة التشيع الفارسي ظاهرةً منتشرةً كالوباء المتوطن. صحيح أن البعض قد أفلتوا منها كما هو شأن الوباء لا يصيب الجميع. إلا أن المحصلة النهائية للمجتمع أنه مجتمع مريض.وكل مجتمع يسلط على أفراده ضغطا اجتماعيا لا يمكن مقاومته ببساطة يجعله يتبنى ما عليه المجتمع من أفكار وميول وعادات وأخلاق وسلوك، حسب قانون اجتماعي يسميه المختصون بـ(التنويم الاجتماعي).
يقول الدكتور علي الوردي: (إن الإنسان يخضع في حياته الاجتماعية لتنويم يشبه من بعض الوجوه التنويم المغناطيسي وهو ما يمكن أن نسميه بـ(التنويم الاجتماعي ). فالمجتمع يسلط على الإنسان منذ طفولته الباكرة إيحاءاً مكررا في مختلف شؤون العقائد والقيم والاعتبارات الاجتماعية. وهو بذلك يضع تفكير الإنسان في قوالب معينة يصعب الخروج منها. هذا هو الذي يجعل الإنسان الذي نشأ في بيئة معينة ينطبع تفكيره غالباً بما في تلك البيئة من عقائد دينية وميول سياسية واتجاهات عاطفية وما أشبه. فهو يظن أنَّهُ اتخذ تلك العقائد والميول بإرادته واختياره ولا يدري أنَّهُ في الحقيقة صنيعة بيئته الاجتماعية. ولو أنَّهُ نشأ في بيئة أخرى لكان تفكيره على نمط آخر)(1).
إن المجتمع المتشيع فارسياً يسلط على أفراده طبقاً إلى هذا القانون ضغطا اجتماعيا يجعلهم يستسلمون في النهاية ويصابون بـ(العقدة الفارسية). ويتحول التشيع عندهم –شاؤوا أم أبوا- إلى تشيع فارسي بكل ما فيه من أفكار وميول وعادات وأخلاق وسلوك وعقد نفسية تصب في محصلتها النهائية في مجاري المصالح الفارسية.
ولقد لاحظنا ميدانيا أن هذه العقدة قد يتعدى ضررها إلى غير الرافضة من المستوطنين في تلك المجتمعات، فتجده رافضيا (فارسيا) في خلقه وسلوكه، وإن كان غيره في اعتقاده وفكره!
__________
(1) لمحات اجتماعية 1/6 مصدر سابق.(161/57)
الباب الخامس
الحل
بين المنهج الترضوي
و المنهج القرآني النبوي
الفصل الأول
المنهج الترضوي
حل؟ أم مشكلة تحتاج إلى حل؟!
ما هو الحل؟:
التشيع الفارسي مشكلة خطيرة، تعد من كبريات المشاكل الدينية والسياسية والاجتماعية لاسيما في بلدنا (العراق).
وليس خطره قاصراً على الدين فقط. بل هو يجتاح الدين والأخلاق والسياسة والاقتصاد والوطنية، وكيان الأمة ومفاهيمها وقيمها وثوابتها. فالتصدي له ضرورة حتمية من أجل إنقاذ هذه القيم جميعاً.
إن هذا الخطر المتعدد الجوانب يحتم على الجميع مواجهته، ووضع الخطط والبرامج لحله وعلاجه…
وإذا كان ذلك كذلك فإن من الضروري على من تصدى لهذه المهمة الصعبة أن يضع نصب عينيه ذلك الخليط المتشابك من الأمراض والعقد النفسية، وان يكون جاداً كل الجد، ومقدراً موقعه فيدرك المسؤولية الدينية والوطنية والقومية، والمسؤولية التاريخية التي ينبغي أن يتحملها كل من وضع نفسه هذا الموضع.
كثيرون هم الذين رأيناهم يُدلون بدلائهم في هذا المخاض يقترحون الحلول ويصفون العلاج وهم يتقمصون (صدرية) الطبيب دون أن يتحلى أحدهم بأدنى ما يفرضه عليه هذا العنوان من جدية وعمل ومتابعة، ومعاناة وتجربة ميدانية باحثة فاحصة تمنح صاحبها الخبرة العملية اللازمة. فليس من تصور صحيح لماهية المشكلة، ولا معرفة بجذورها وامتداداتها ولا دراسة لأسبابها وبواعثها القريبة ولا البعيدة.
أما الخطط والبرامج وتحديد الأهداف المرحلية والنهائية فأبعد ما تكون عن البال فضلا عن العمل الصائب ومقارعة الباطل وبذل الجهد في الميدان المطلوب.(162/1)
كل ما موجود كلمات هائمة ، و(حكم) نظرية مفعمة بالخوف، ومقيدة بـ(الحذر) إلى حد الجمود، ومجاملات إلى حد الميوعة، وتصورات بعيدة عن الواقع تراكمت أو عشعشت في الأذهان، دون نظام أو دراسة أو تنسيق، وتجمعت كما تتجمع الأوراق التالفة الممزقة إلى جانب جدار مهمل قديم! ثم… ينفض الجمع كلاً إلى وجهته أو .. بيته الهادئ القريب.
الهزيمة النفسية وحلول العقل الباطن الوهمية:
كثير من الناس- إذا وصلوا إلى مرحلة اليأس من تغيير ما يودون تغييره، أو انهزموا نفسياً أمام الخصم الذي يئسوا من دحره أو التغلب عليه- يعيشون أحلامهم وأمانيهم، ويحاولون تحقيقها بطريقة أخرى، تجمع بين اليأس الذي يجتاح نفوسهم والحركة المفروضة عليهم أن يقوموا بها في سبيل الوصول إلى الهدف المطلوب من التغيير والتغلب على الخصم.أي الهدف الميؤوس منه.
ملخص القول أن هناك ثلاثة أمور:
هدف ميؤوس منه.
2-عمل أو حركة لا بد من القيام بها في سبيل الوصول إلى ذلك الهدف.
3- أناس مهزومون نفسياً ويائسون من الوصول إلى هدفهم، لا يريدون أن يسلموا أو يعترفوا بالهزيمة أمام أنفسهم، أو يقال عنهم: إنهم يائسون منهزمون.
فما العمل للتوفيق بين هذه الأمور المتناقضة؟ بين عقل واعٍ لا يريد أن يُسلِّم بالهزيمة، وعقل باطن يائس مهزوم ؟ هنا يأتي دور الحيل النفسية من أجل إنهاء هذا الصراع.
إن هذا الصنف من المنهزمين في قرارة أنفسهم،اليائسين من الوصول إلى أهدافهم، يعيشون نوعاً من الخيالات المضحكة و هم يطرحون أفكاراً تجريدية،وحلولاً نظرية غير واقعية! وتظل هذه الأفكار و(الحلول) تراود خيالاتهم دون أن ينتبهوا إلى الفجوة الحاصلة بين ما يحلمون به،والواقع الذي يبتعد -كلما طال الزمن- عن أحلامهم وأمانيهم.(162/2)
وكلما ألقوا نظرة على هذا الواقع الذي لم يتغير رغم أحلامهم وخيالاتهم وأمانيهم، رجعوا بأبصارهم على أفكارهم يعدلون فيها، ويقلمون من استطالاتها متهمين هذه الاستطالات بأنها السبب في عدم تغير الحال، وسوء المآل!
وهكذا…تستمر عملية التقليم والتأقلم حتى يأتي زمان تجد فيه أفكارهم المقلمة المتأقلمة قد اقتربت كثيراً من أفكار الخصم، التي تشتد وتبتعد عن نقطة الوسط كلما طال الزمن! بل صارت في خدمتها،ووسيلة من وسائل تثبيتها،وزيادة حدتها وفسادها! ولعل التحليل النفسي يعيننا في تفسير هذه الظاهرة:
إن العقل الواعي يريد التغلب على الخصم، ولا يريد التسليم بالهزيمة.لكن العقل الباطن تكمن فيه عقدة الهزيمة، واليأس من الغلب، ويريد تجنب أي نوع من الصراع مع الخصم على أرض الواقع، حتى لا يحصل له أي ضرر أو أذى!
إن هذا يولد صراعاً في داخل النفس. ولأجل إنهاء هذا الصراع، لا بد من القيام بعملية خداع وتوفيق بين هذين الموقفين المتناقضين.
هنا يأتي دور العقل الباطن للقيام بهذه العملية من خلال تقديمه (حلاً) وهمياً يخدع به العقل الواعي،ويجعله يعتقد أن هذا حل يوصل إلى الهدف المطلوب،بينما ينعم العقل الباطن مطمئناً إلى أنه لن يواجه على الواقع أي حركة تجلب له ضرراً أو أذى! لأن هذا النوع من الحلول لا يثير الخصم في الاتجاه غير المرغوب.
إن هذه الحلول ذات وجهين، كل واحد منهما يرضي أحد العقلين:العقل الواعي يريد حلاً، وهذه (حلول). والعقل الباطن يائس لا يريد أن يعمل شيئاً،وهذه (الحلول) وهمية غير عملية! وهكذا يخدع العقل الباطن العقل الواعي، وتنحل المشكلة، وينتهي الصراع بينهما! تأمل وضع العرب اليوم! وكيف تفعل الهزيمة النفسية بأصحابها!
إنهم يطالبون بعقد مؤتمرات لتحديد معنى (الإرهاب)! ويصرخون بأعلى أصواتهم أن الإسلام لا علاقة له (بالإرهاب)! ويتصورون أن هذا هو الحل، أو يخدعون الآخرين بما يقولون.(162/3)
وخارج هذا الصراخ والضجيج، والتصورات والأوهام، وعمليات التضليل والخداع نجد الواقع يصول فيه المجرمون ويجولون، دون التفات إلى مصطلحات، أو المطالبة بعقد مؤتمرات، أو نفي أو إثبات!
إن الحل الصحيح ليس في عقد مؤتمر أو نفي تهمة،أو تحديد معنى مصطلح أو كلمة.إنه في إعداد ما يستطاع من قوة.لكن اليائسين المنهزمين لا يريدون أن يفعلوا. فماذا يفعلون؟ أيبقون مكتوفي الأيدي يتفرجون؟! هذا غير مقبول!
فماذا يفعلون؟ لا بد من حركة مكتوفة! هذا هو (الحل).
إنها حركة في ظاهرها، ومكتوفة وهمية في حقيقتها. ولهذا هم يطالبون بعقد المؤتمرات لتحديد المصطلحات أو القيام بالمصالحات ليثبتوا لعالم المجرمين أنهم مسالمون لا يضمرون شراً لأحد! ولو وعوا حالهم لعلموا أنهم يسيرون في عكس الاتجاه المفروض! وأنهم يبتعدون كلما طال الزمن عن أهدافهم التي أعلنوا على رؤوس الملأ أنها لهم أهداف.
إن هؤلاء يشبههم-أو يشبهون-تماماً أولئك المنهزمين اليائسين من دعاة المنهج الترضوي الذين يتصورون أو يصورون للآخرين أن حل معضلة التشيع الفارسي هو في تغيير كلمات أو استحداث مصطلحات و(نسب ومصاهرات)، أو عقد ندوات وأمسيات، أو المشاركة في احتفالات!
منهج المقاربات:
هذا المنهج هو صورة عملية من صور المنهج الترضوي. ملخصه عبارة عن كلمة واحدة هي البحث عن وسائل قربى تجمع بين أهل الحق وأهل الباطل ولو على حساب الحق.
وهو منهج فاشل جملة وتفصيلاً. لأسباب عديدة منها: فساد الغاية لأن الغاية يجب أن تكون إرضاء الله تعالى بينما هي هنا إرضاء أهل الباطل وكل عمل غير خالص لله ممحوق البركة محكوم عليه بالفشل من الخطوة الأولى. ثم أن هؤلاء لا يرضون مهما تقربت منهم وجاملت وداهنت!(162/4)
فهذا التقرب من جانب واحد فقط. فهو خسارة بلا مقابل. وما مثلنا ومثلهم في هذا إلا كما قال تعالى: { هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } (آل عمران:119).
ودوافعه الحقيقية هزيمة نفسية يعاني منها صاحبها تعبر عن نفسها بهذا الأسلوب. هكذا يقرر العلماء المختصون. والمهزوم نفسياً لا ينتصر ولا يفلح أبدا.بينما يعلمنا القرآن الإباء والعزة الإيمانية فلو كان التقرب من المقابل عليك أن ترفضه ما لم يكن حقيقياً صادقاً مبنياً على أسس سليمة.
فكيف إذا كان الأمر بالمقلوب؟! فالواقع أن أصحاب الحق يتقربون والروافض يرفضون ويتهربون! والواقع يرينا ما هو أنكى! يرينا تقهقر أصحاب الحق ورجوعهم إلى الوراء عن طريق تقديم المزيد من التنازلات طمعا في الوهم، وأصحاب الباطل يتقدمون!
أين هذا من قول تلميذ من تلاميذ القرآن في مدرسة محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الفضل بن العباس رضي الله عنهما:
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم
الله يعلم أنّا لا نحبكم
وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
ولا نلومكم أن لا تحبونا
إن علماء النفس والاجتماع يقررون أن أول درجات الهزيمة التي يخطوها المغلوب تجاه الغالب تبدأ بالبحث عن نقاط التقاء ووسائل قربى وعلامات شبه بين فكر الغالب وفكر المغلوب. ثم تستمر سلسلة التداعيات والانهيارات التي بدأت من هذه النقطة.(162/5)
إن هؤلاء العلماء يقولون : إنه عندما تنتصر حضارة على حضارة (تتولد عند
-المغلوب- إحدى قابليتين: قابلية الانتماء للمنتصر أو المتغلب كما يقول ابن خلدون أو تتولد لديه حالات الرفض السلبي. فحالة قابلية الانتماء للمتغلب تبدأ بفكر (المقاربات) حيث تنزع الأمة المغلوبة إلى البحث عن صلات قربى مع فكر الغالب. فتُقارَب الديمقراطية الغربية بالشورى الإسلامية مثلاً، متناسين بذلك فوارق النموذج المعرفي والحضاري وآثارها في الفرق بين الديموقراطية ذات الجذر الفردي الليبرالي والقائمة على تقنين الصراع، وبين الشورى الإسلامية القائمة على وحدة الجماعة ونبذ الصراع… وهناك مقاربات أخرى لا يتسع المجال لذكرها. وهذا كله ناتج عن تأثرنا بنسق حضاري ومعرفي متداخل في وعينا بحكم الهيمنة العالمية. كما أن هناك من لجأ إلى الرفض السلبي عبر الاكتفاء بالمقارنات بين ما لدينا وما لديهم. فبالغ في تمجيد ما لدينا واعتبره الصورة المثالية بحيث طغى هذا التمجيد الذاتي بطريقة دفاعية على تناول ما لدينا من تراث بالنقد والتحليل للكشف عن ضعفه وجوانب قصوره).(1)
ويظهر أن المغلوب يصاب بشهوة عارمة نحو إرضاء الغالب تجعله لا يشعر بحجم التنازلات والخطى التي يقطعها إلى الوراء طمعا في ذلك الرضا الموهوم وأداء مراسيم (الحب من جانب واحد).
__________
(1) أبعاد غائبة عن فكر وممارسات الحركات الإسلامية المعاصرة ص17-18 الدكتور طه جابر العلواني- المعهد العالمي للفكر الإسلامي الطبعة الأولى 1417 هـ/1996م فيرندن- فيرجينيا- الولايات المتحدة الأمريكية.(162/6)
والدليل الواقعي على هذا التقرير هو أن أصحاب منهج (المقاربات) أو المنهج الترضوي بدلاً من أن يتقدموا - أو على الأقل يرابطوا في مواقعهم وينتظروا ردة الفعل المقابلة على خطوتهم الأولى - صاروا يتقهقرون ويقدمون المزيد من التنازلات أملاً في كسب رضاء المقابل الذي لا يرضى ولن يرضى حتى تتبع ملته كاملة غير منقوصة وأول فقرة من فقراتها البراءة من الصديق والفاروق.
منهج غير واع لتشييع أهل السنة فارسياً:
حين تقيس المسافة بين نقطة البداية التي انطلق منها هؤلاء الترضويون، وبين ما وصلوا إليه ، وتستمر في النزول لرؤية نقطة النهاية في مسلسل التراجع تتيقن أن هذا (المنهج) ما هو إلا برنامج أو منهج غير واع لتشييع أهل السنة فارسياً، والواقع خير شاهد لمن كان له عقل يفكر ويحلل، وعينان تبصران وترصدان.
لقد كانت البداية من طرح مسألة الأسماء المشتركة و(النسب والمصاهرات) وهي خطوة جيدة ومطلوبة ينبغي أن تتبع بخطوات إيجابية. مثل بيان العلاقة بين علماء الأمة وأئمة المذاهب أو الفقهاء الكبار كالشافعي وجعفر وزيد ممن يمت بصلة قرابة إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - وبين غيرهم كأبي حنيفة وسعيد بن المسيب وأحمد بن حنبل وأمثالهم. ثم فضح الجريمة التاريخية الكبرى حين دخل الفرس على خط (أهل البيت) بعد القرن الثالث الهجري وانتهاء عصر الأئمة الكبار. ويستمر المسلسل صعدا في بيان التشيع الفارسي وأصوله وقواعده وأهدافه ورموزه والتفريق بينه وبين التشيع العربي الذي هو حب واقتداء وليس دينا آخر أو حزبا سياسيا. لكن هذا لم يحصل كما يفرضه المنطق ولوازم العمل الإصلاحي الثابت الواثق والشجاع المستند على قواعد صحيحة وله أهدافه الواضحة ومنهجه المدروس.
فما الذي حصل؟
كأن أصحاب هذا (المنهج) كانوا يتوقعون أنهم بمجرد عرضهم لموضوع (النسب والمصاهرات) سيكسبون الجولة فيرضى عنهم الرافضة ويأتون إليهم أفواجا أفواجاً مهللين مكبرين!(162/7)
إن هذا لم يحصل -ولن يحصل- لأن القضية أعقد بكثير مما يتصورون. والواقع يشهد بغير ما يحلمون .فما الذي حصل إذن ؟ الذي حصل أن بعضهم صار يرضي نفسه المهزومة المهزوزة بخيالات ساذجة، ويحاول البرهنة على صحة منهجه بأوهام لا أساس لها !
قرأت لواحد من هؤلاء قبل بضع سنوات في جريدة أردنية هذه الواقعة الخيالية:
شكى لي أحد المشايخ في الجنوب من قلة المصلين في مسجده فنصحته بطرح موضوع العلاقة بين أهل البيت والصحابة والنسب والمصاهرة في خطب الجمعة. يقول: فجاءني الشيخ بعد بضعة أشهر يطلب معونتي من أجل توسيع المسجد الذي ضاق بكثرة المصلين!!.ويشهد الله على أن هذا لا أصل له! فإما أن الشيخ كذب عليه، وإما أن صاحبنا تكلم من نسج خياله !
وعندي من القصص المشابهة ما يكفي للتدليل على أن أصحاب هذا المنهج غير واقعيين ولا جادين.
وبعد أن أدرك هؤلاء أن الخطوة الأولى لم تأتهم بالنتيجة المطلوبة، خطوا خطوة أخرى بل خطوات ولكن إلى الوراء!
وكلما خطوا خطوة واكتشفوا أنها لم تأتهم بالنتيجة المطلوبة، اتبعوها بخطوة أخرى وإن كانت على حساب الحق والحقيقة، والدين والعقيدة، والمنطق والواقع والتاريخ! من هذه الخطوات الورائية: (روى ابن عساكر بسنده عن علي (ع): النجف أرض السلام ومهبط أرواح المؤمنين ونعم المضجع للمؤمن هي)!
ما الذي نكسبه لديننا من هذا الكلام الساقط سنداً ومتناً؟ وأول العالمين بسقوطه من خطه ونشره! يكتب هذا ويعلق في أكثر من مكان أو زاوية من زوايا معرض فني مقام في جامع لا يرتاده إلا أهل السنة عموماً!!(162/8)
ومن عجائب المفارقات أن أصحابنا حين طرحوا مشروعهم الترضوي وجعلوا غايته كسب الرافضة وتغييرهم أو تقريبهم يفترض أن ينتقلوا بطروحاتهم إلى أوساط الرافضة ومساجدهم وقنوات الاتصال الأخرى بهم. لكنهم بدلاً من ذلك راحوا يخبون في نشر أفكارهم (التقريبية) هذه في أوساط السنة ومساجدهم وهو ما لا يحتاجونه أولاً. وسوف يؤدي إلى إضعاف مناعتهم ونقل المفاهيم المائعة إليهم ثانياً. وليس هو الميدان الصحيح ولا الهدف المرسوم لحركتهم ثالثا. ولم يجرؤوا على اختراق الوسط الرافضي أو التحرك خلاله فكان مثلهم كمثل رياضي يسابق نفسه خارج سياج الملعب أو ميدان السباق! أو مجنون يضاحك نفسه باجترار النكات الفارغة وحده! أو (طرشان) يتحاورون فيما بينهم.
يقال: إن (سيداً) جلس في الشمس يوماً وصار ينادي على الظل مدعياً أنه قادر على جعله يتحول إليه. ولما كثر النداء دون جدوى قام فتحول هو إلى الظل وهو يقول: من لم يأت معك تعال معه!
وجاءني يوما شاب يسألني قائلاً: لقد ذهبت إلى زيارة الحسين والعباس وطفت حول قبورهم وأنا أعلم أن الطواف حول القبور حرام وشرك فماذا أفعل؟
قلت له: ما حملك على ذلك؟
قال: إنهم يتهموننا بالتشدد فأردت أن أدفع التهمة عن نفسي.
قلت هل ذهب معك أحد من هؤلاء الذين يتهموك؟
قال: لا.
قلت : هل ذهب أحد غيرهم معك؟
قال: لا
قلت : ذهبت إذن وحدك؟
قال: نعم !
حدقت فيه بقوة لأكتشف هل هذا الذي يتكلم معي إنسان سوي أم مخبول؟!
وصدق الله القائل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ (119) } آل عمران.(162/9)
في مجلة محدودة الانتشار لا يقرؤها إلا فئة قليلة من أهل السنة فقط قرأت هذا الكلام!:
الإمام جعفر الصادق (ع): إمام الشيعة الجعفرية…وهو الإمام السادس من السلسلة الذهبية لأئمة أهل البيت الكرام…لقد أيد حركة زيد بن علي من أئمة المذهب كل من الإمام أبي حنيفة والإمام مالك أنس حباً وكرامة لأهل البيت ودفاعاً عنهم وعن حقهم (1)
__________
(1) الفتوى/العدد 88- ربيع الثاني 1421، تموز 2000.
قام الدكتور ابراهيم أمين عزيز الجاف بتحقيق الروايات المنسوبة إلى الإمام أبي حنيفة (رحمه الله) المتعلقة بالإفتاء بالخروج على الخلفاء، وأنه كان يناصر الخارجين على الخلافة الإسلامية مثل ابراهيم بن عبدالله بن الحسن،في رسالته (مناهج المحدثين في نقد الروايات التاريخية) التي نال عنها شهادة الدكتوراه بدرجة امتياز ، من مجلس معهد التاريخ العربي في بغداد. وتوصل إلى بطلان نسبتها إلى الإمام أبي حنيفة للأسباب الآتية:
1.عدم صحة أسانيدها .
2. بطلان متونها . ومن ذلك أن ابراهيم حين خرج في الكوفة في أول رمضان عام 145 هـ كان أبو حنيفة حينها في بغداد منذ ثمانية أشهر تلبية لأمر الخليفة المنصور (رحمه الله) الذي اختاره ضمن اللجنة المؤلفة للإشراف على تخطيط مدينة بغداد وبنائها . وتقول الرواية : إن الخليفة المنصور قد أرسل في طلب أبي حنيفة بعد خروج إبراهيم وقتله مباشرة ، فلما وصل بغداد بقي فيها سجيناً خمسة عشر يوماً ثم سقاه السم فمات ! في حين أن الثابت تأريخياً أن أبا حنيفة مات بعد مقتل ابراهيم المذكور بخمس سنين أي في عام 150 هـ !
3.تعارضها مع روايات أخرى جيدة الإسناد صادرة عن الإمام أبي حنيفة في وجوب طاعة الخلفاء وعدم جواز مخالفتهم فضلاً عن الخروج عليهم .
4. تعارضها مع القواعد الفقهية التي أقرها أبو حنيفة وعليها إجماع أئمة المذهب الحنفي وبقية الفقهاء في عدم جواز الخروج على السلطان إلا في حالة واحدة هي وقوع الكفر الصريح منه/ أنظر الرسالة المذكورة ص 363 ـ 368.(162/10)
…الخ
لو كان المتكلم شيعياً إمامياً اثني عشرياً لقلنا: صاحب عقيدة يتكلم عن عقيدته الإمامة بما يشاء. أما وصاحب هذا الكلام رجل سني محترم فلا أدري ما معنى قوله: (إمام سادس- عليه السلام - في سلسلة ذهبية للأئمة) سوى أن المتكلم إمامي أثنى عشري أو
-في أحسن الأحوال- مجامل في أقصى درجات المجاملة.
يقول تعالى: { فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ(8)وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ(9) } القلم، وأنا لا أعلم كذباً كـ(التقية) ولا اكذب من قوم (اتقاهم) أكذبهم! ثم هم مهما دهنت لهم لا يدهنون!
في أحد احتفالات المولد العلوي في محافظة النجف تكلم اثنان من أهل السنة فما تركوا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا موضوعاً في فضائل علي إلا وقالوه. وكانوا يمرون بطلحة مثلاً فلا يترضون عنه وبعلي فيسبقونه بـ(الإمام) ويلحقونه بـ(عليه السلام) أو-على الأقل-(كرم الله وجه).(162/11)
ثم قام معمم شيعي يتكلم وجاء على لسانه ذكر عائشة وأبي بكر في معرض الاستشهاد بكلامهما مدحاً لعلي دون أن يترضى على واحد منهما! وجاء بالرواية الموضوعة التي يهرف بها الجاهلون وملخصها أن أبا بكر وعلي وقفا يوما عند باب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول أحدهما لصاحبه: تفضل أدخل فيرد الآخر قائلاً: كيف أتقدم على رجل قال الله تعالى فيه كذا وقال رسوله كذا وله من الفضل كذا؟! تفضل أنت فادخل. فيجيبه: وكيف أدخل قبل رجل قال الله فيه كذا… وهكذا تستمر المسرحية حوالي ساعة والرواية في ثلاث صفحات كبار حتى نزل جبرائيل وميكائيل وخرج رسول الله… الخ ! تصور كيف رواها هذا المستعجم دون حياء أو قطرة ماء! قال : وقف الإمام علي (ع) وأبو بكر عند باب رسول الله صلى الله عليه وآله فقال علي (ع) تقدم يا أبا بكر فادخل فقال أبو بكر: وكيف أتقدم على رجل سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول فيه: إن منزلة علي مني بمنزلتي من ربي!... ونام الملك شهريار وانقطعت شهرزاد عن الكلام المباح إلى الصباح!
وكذلك لو قال شيعي إمامي: إن أبا حنيفة ومالكاً أيدا زيداً في خروجه (حباً وكرامة لأهل البيت ودفاعاً عنهم وعن حقهم) لما استغربت ولقلت: صاحب عقيدة يؤيد عقيدته بكل وسيلة ولو بالكذب!
أما وقائل هذا الكلام كما وصفت فأنا لا ادري أي حق لأهل البيت في الخلافة دون بقية قريش؟! إذن علام تولى أبو بكر وعمر وعثمان الخلافة ولم يعطوها علياً (حباً وكرامة لأهل البيت ودفاعا عنهم وعن حقهم)!
إن حجر الزاوية وقطب الرحى في الخلاف المزمن بين الإمامية وغيرهم من المسلمين هو اعتقاد أحقية أهل البيت في خلافة المسلمين. فمن اعتقد ذلك فهو شيعي إمامي.
فهل صار الأخ الكاتب كذلك وهو لا يدري؟!
وهل هذا هو (التقريب) و(الوسطية) التي يريدونها لنا؟ أم إن (إخواننا) الرافضة استفادوا أو يستفيدون شيئاً من هذا الكلام سوى ثباتهم على اعتقادهم اكثر ؟(162/12)
ثم ماذا تتوقعون الخطوة اللاحقة في هذا المسلسل الترضوي الطويل؟! (الأرض مقابل السلام)؟ أم ماذا ؟
ولا أريد أن أسترسل أكثر في مناقشة جميع ما ورد في ذلك المقال لأدخل في جدل حول صحة تسمية الشيعة المعاصرين (بالجعفرية) . وهل الشيعة مذهب فقهي فرعي لتصح تسميتهم بـ(الجعفرية)؟ وهل حقاً انهم يتبعون الإمام جعفر بن محمد في الفروع؟ أم يتبعون الخوئي والخميني والصدر والسيستاني ؟
فما دخلك أنت أيها السني بما يدعون ويكذبون؟! لماذا تؤيد كلامهم وتوقع على ادعائهم؟!ولو كان هذا الكلام في مجلة ذائعة الشهرة واسعة الانتشار يمكن ان تقع في يد الشيعي قبل السني لأمكن أن يقال : ان هذا كلام موجه إلى الشيعي ترطيبا لقلبه وتقريباً له من الصف بغض النظر عما في هذا القول من مجازفة.
أما والمجلة لا يقرؤها إلا فئة محدودة من أهل السنة فلا معنى له ولا فائدة ترتجى منه سوى أنه فقرة من فقرات برنامج تمييع أهل السنة وتشييعهم فارسياً. ذلك البرنامج الذي صرنا نغرق في لجته شيئاً فشيئا دون أن ندري!
اكذب .. ثم اكذب.. حتى تُصدِّق:
لقد كثرت المجاملات وأمست سنة ماضية يشب عليها الصغير ويهرم عليها الكبير إذا تركت قيل تركت السنة والحكمة.حتى لقد صارت دليلاً وعلامة على نجاح الداعي! فأكثرهم نجاحا هو أكثرهم مجاملة! أليس الجميع راضين عنه!
ولكثرتها وتكرارها صار أصحابها يصدقونها ويتعاملون بها على أنها حقيقة واقعة مع أنهم حين بدؤوا بها قالوا: لا بأس في الإصلاح بالكذب فنحن نريد أن نقرب القلوب ونداوي الجراح وإذا بهم في نهاية المطاف مثلهم كمثل بائع متجول يحمل طبقا من الطعام يطوف به حتى إذا تعب من كثرة الطواف دون أن يجد أحداً يشتريه قعد فأكله.(162/13)
في الاحتفال الآنف الذكر بدأ المتكلم الأول -وهو يحمل شهادة دكتوراه في الشريعة- فافتتح كلامه بذكر الآية الكريمة: { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى (23) } الشورى. قائلا: إنها نزلت في حق علي وأهل البيت!
وقام بعده أحد المشايخ ليقول: جاء في الحديث الصحيح عن ابن عباس أنهم سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من (القربى) الذين أوجب الله علينا مودتهم يا رسول الله؟ فقال: (علي وفاطمة وابناهما)!
ولا أدري كيف خفي على (الشيخ) وهو (شيخ)! أن الآية مكية و(ابناهما) لم يولدا إلا في المدينة! فالرواية من صنع كذاب لا يعرف كيف يكذب.
ثم كيف خفي على (دكتور) في الشريعة أن الفرق بين (القربى) والأقارب كالفرق بين الصحبة والصاحب، فالقربى والصحبة معنى ذهني وليست شخصا إلا إذا أضيف إليها كلمة (ذو) فيقال: ذو قربى وذو صحبة!.
وفي كل الأحوال فإن الرافضة لا تستفيد من هذه المداهنات شيئاً ولن نستفيد نحن شيئاً أيضاً.
كل ما سنخرج به أنهم سيقولون: إذا كنت تقر بهذا فلماذا تناصب أمير المؤمنين العداء؟! ولا سبب سوى أنك توالي أبا بكر! وهذا وإن لم يكن سبباً كافياً عندك فإنه يكفي عندهم وزيادة! إنهم يفكرون بطريقة أخرى غير الطريقة التي نفكر بها ومن الضروري أن نفهم طرائق تفكيرهم.
إنك حين تقول: قال عمر: لولا علي لهلك عمر ويقول: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو حسن. (وفي رواية) لا أبقاني الله بأرض ليس فيها أبو حسن. وتتصور أنك سوف تقربهم منك فأنت واهم !
إنهم يفكرون هكذا.. يقولون: هذا دليل على جهل عمر. ويخرجون بنتيجة هي عدم صلاحيته للخلافة. فلولا علي الذي كانوا يفزعون إليه في كل معضلة لما استقرت خلافتهم. ولماذا علي لا غيره؟ لأنه معصوم لا يخطئ ولا يخفى عليه شيء فهو (الإمام) إذن دونهم! وكتبهم مشحونة بهذا رغم أن الحقيقة التاريخية في خلاف ذلك.(162/14)
فحين خلت الأرض من عمر كثرت المعضلات على علي وتعقدت فلم يحل واحدة منها قط! وتعقدت حتى غادر الوجود مخلفاً لمن جاء من بعده تركة ثقيلة .
وعمر لم تنحل معضلاته لأن علياً قام بحلها. فإن عثمان يوم كثرت عليه المعضلات لم يغن عنه علي شيئاً حتى قتل أشنع قِتلة!
ولو كان عمر حياً لما وجدت معضلة أصلاً. ثم تبين بعد حين أن فاقد الشيء لا يعطيه فكثرت المعضلات حول أبو الحسن وتعقدت وانفرطت الأمور ولا من حل.
إن عمر انحلت معضلاته لأنه عمر القائل الفاعل: إن الناس لا يصلحهم إلا لين في غير ضعف وشدة في غير عنف. هذا قانون عمر الذي كان يحل به المعضلات.
وجاء عثمان ليسوس الناس باللين على طول الخط، وجاء من بعده علي ليسوسهم بالعنف على طول الخط فتعقدت الأمور ولم تنحل المعضلات.
هذا هو حكم التاريخ بلا مجاملة! والله تعالى اعلم ببواطن الأمور وحقائقها ورضي الله تعالى عن قوم نتقرب إلى الله بحبهم والاستغفار لهم، ولكن الإنصاف واجب. والميزان حق.
لا ربح.. بل خسارة اجتاحت رأس المال:
إن مثل أصحاب المنهج الترضوي كمثل شخص حضر مجلس خصومة عشائري. أحد أطرافه وقح صلف متعنت حاقد مسموم، يعتقد أن خصمه –وهو بريء- قتل أباه وذبح ابنه واستباح ماله وعرضه. فهو لا يرضى بغير الاعتراف الكامل بهذه الجرائم وإدانته رغم ضعف الأدلة ثم القصاص بأن يقتل المتهم وعشيرته وتحرق بيوتهم وتسبى نساؤهم وذراريهم!
وهو في كل هذا يتصيد كلمة من هنا وعبارة من هناك ولو كانت تقال من أجل تقريب وجهات النظر وترطيب القلوب ليجعل منها دليلاً يدمغ بها خصمه! كأن يقال: افترض أن خصمك قد قتل حقا أباك وفعل ما تقول أليس لهذا من حل؟ فيقوم بحذف كلمة (افترض) ليجعل مما قيل اعترافاً صريحاً بصحة دعواه، ويبتر (الهمزة) من عبارة (أليس لهذا من حل) من أجل أن يلغي جميع الحلول.(162/15)
هل لهذا العتل الزنيم من حل سوى أن تقوم وتسحق أنفه، بعد أن تهزأ من كلامه وتعتبره لغوا لا قيمة له ما دام ليس عليه من دليل؟!
في هذا المجلس العشائري ومع هذه الحيثيات يقوم ذلك الشخص (الطيب) ليطلب من المتهم أن يقوم ويقبّل رأس خصمه ويعطيه بعض المال جبراً لخاطره!
إن هذا العرض لا يزيد المشكلة إلا تعقيداً. إن خصما وقحاً كهذا سيستغل الفرصة ليقول: لولا أن المتهم قد قام حقا بالجريمة لما وافق على هذا العرض!
إن هذا كل ما سيحصل عليه المتهم مهما بالغ في عروضه وتعويضاته. إنها ليست أكثر من أدلة اتهام تحتسب ضده. فالأولى مع خصم كهذا أن يحترم نفسه ويحافظ على وقاره واتزانه دون أن تهزه جميع الحركات البهلوانية والادعاءات العنترية التي أمامه!
وهذا كل ما حصل لنا ونحن نتبع خطوات المنهج الترضوي ونركض لاهثين منذ مئات السنين!
هل بقيت لنا كلمة لم نقلها؟! أو موقف بائس لم نقفه؟!فماذا كانت النتيجة؟! أم يتصور اللاحقون أنهم اكتشفوا شيئاً غاب عن أنظار السابقين؟!
كلا. فلقد قتل في هذا الطريق من كل مئة تسعة وتسعون، ولا من معتبر! بل الكل يقول: لعلي أنا الناجي!
ولقد قالوا: إن جعفر الصادق (ع) إمام الأئمة وأستاذ المذاهب. وإن أئمة المذاهب الأربعة درسوا على يده وأولهم أبو حنيفة ناكر الجميل -على حد تعبيرهم- ووضعوا لهذه الكذبة توقيعاً باسم أبي حنيفة مذيلاً بقوله: (لولا السنتان لهلك النعمان) وما دروا أن صانع هذا وصانع (لولا علي لهلك عمر) واحد.
فماذا قال الخصم الوقح الحاقد؟ قال: نحن الأصل وكل المذاهب الأخرى باطلة. إن أصحابها تعلموا العلم من إمام الأئمة ثم خرجوا عليه وأنكروا جميله.
هذا ما قالوه و(هذا ما كنزتم لا نفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون)!(162/16)
ألم تعلموا أن جعفر والنعمان ولدا في سنة واحدة تقريباً.(1) فمن درس على يد من؟ لا سيما وأن هذا الذي يقال لم يثبت تاريخياً.
وأن الشافعي ولد بعد موت جعفر بسنتين(2). وأحمد بن حنبل ولد بعد ولادة الشافعي بأربع عشرة سنة! أفتخدعون أنفسكم أم توهمون الآخرين؟!
عبد الحسين الأميني النجفي نموذج ومثال:
ليس هذا الذي أقوله استنتاج. إنه شيء تطفح به كتبهم وتغص به تواليفهم! خذ مثالاً: عبد الحسين المفتري النجفي وتوليفه (الغدير في الكتاب والسنة والأدب).
تحت يدي منه المجلد السادس.إن غالب هذا المجلد محاولة لإثبات جهل عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه وعدم صلاحيته للخلافة، مستشهداً بعبارات وكلمات يرددها المغفلون وهم يحاولون ببلاهة أن يرضوا عبد الحسين هذا وأمثاله دون طائل، كما يفعل السائرون في مسيرة الذل والاستسلام المخزي أملاً بإرضاء يهود.
لقد ظلوا يتنازلون ويتراجعون حتى فقدوا كل شيء ولم يبق لهم ما يتنازلون عنه أو يتفاوضون عليه!لقد سوّد هذا الرقيع مئتين وخمسين صفحة من هذا المجلد في الطعن بالإمام الفاروق وهو يحاول إثبات كونه جاهلاً بالكتاب والسنة والفقه تحت عنوان (نوادر الأثر في علم عمر)!
من ذلك ما جاء تحت عنوان: (جهل الخليفة بكتاب الله).
يقول هذا الدعي: إن عمر بن الخطاب رفعت إليه امرأة ولدت لستة فهمّ برجمها فبلغ ذلك علياً فقال: ليس عليها رجم. وتستمر القصة حتى تنتهي بقول عمر لولا علي لهلك عمر، وفي لفظ سبط ابن الجوزي: اللهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب.
__________
(1) ولد جعفر عام 78هـ وقيل عام 80هـ وولد أبو حنيفة عام 80هـ .
(2) ولد الشافعي عام 150هـ وتوفي جعفر عام 148 هـ.(162/17)
وبعد عدة روايات مشابهة يعلق هذا الرقيع قائلا: أليس عارا أنً يشغل فراغ النبي الأعظم أناس هذا شانهم في القضاء؟ أمن العدل أن يسلط على الأنفس والأعراض والدماء رجال هذا مبلغهم من العلم؟ أمن الأنصاف أن تقوض النواميس الإسلامية(1) وطقوس الأمة وربقة المسلمين إلى يد خلائف هذه سيرتهم؟ لاها الله وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحانه الله وتعالى عما يشركون وما كنت لديهم إذ اجمعوا أمرهم وهم يمكرون فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب اليم(2).
ومن ذلك أنه أورد عدة روايات يدور فيها نقاش بين عمر وبعض الرعية وحين يتبين لعمر أن الصواب مع غيره يقول: كل الناس أفقه من عمر. وهي كلمة ينبغي أن تكتب لهذا الإمام العظيم بأحرف من نور دلالة على تواضعه وكيف أن الرعية كانت تعيش في كنفه بكامل حريتها في التعبير عن رأيها دون خوف أو تحفظ ولو كان في هذا التعبير تخطيء لرأي أمير المؤمنين !
وفيها تظهر الثقة التامة بالنفس فإن الجاهل والناقص يستحيل أن يتفوه بهذه الكلمة خشية من انكشاف أمره خصوصاً إذا كان في منصب عمر. إن الجهل والنقص عند السلطان لا يحمله إلا على الاستبداد وظلم الرعية مع ادعاء الكمال والرشاد: { مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ(29) } غافر.
ولكن انظر كيف تنقلب هذه الفضائل في أذهان هؤلاء الروافض المقلوبة المعكوسة!
يقول هذا الرقيع: وقد عد ابن الجوزي هذه الفضيحة المخزية من مناقب عمر. وتبعه شاعر النيل حافظ إبراهيم ونظمها في قصيدته العمرية فقال تحت عنوان: مثال رجوعه إلى الحق… وبعد أن أورد القصيدة ليكثر بها كتابه الفارغ قال: هكذا يعمي الحب ويصم ويجعل الموبقات مكرمات ويبدل السيئات حسنات(3).
__________
(1) يقصد النواميس الكسروية وطقوس الأمة المجوسية.
(2) ص 93-95.
(3) ص 122.(162/18)
أعمى أصم ، بل هكذا يعمي الحقد الفارسي ويصم ويجعل المكرمات موبقات ويبدل الحسنات سيئات! ويأبى الله تعالى إلا أن يفضح هؤلاء ويخزيهم ويدينهم من أفواههم!
تأمل كيف تورط هذا الأعمى الأصم فجاء بهذه الرواية التي لا يصدقها إلا أعمى أصم مثله لا يدري ما يقول، وجعلها تحت عنوان: (الخليفة لا يدري ما يقول): (أتي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - برجل اسود ومعه امرأة سوداء فقال: يا أمير المؤمنين إني أغرس غرساً أسود وهذه سوداء على ما ترى فقد أتتني بولد أحمر فقالت المرأة: والله يا أمير المؤمنين ما خنته وإنه لولده. فبقي عمر لا يدري ما يقول. فسئل عن ذلك علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال للأسود: هل واقعت امرأتك وهي حائض؟ قال: قد كان ذلك. قال علي: الله اكبر إن النطفة إذا خلطت بالدم فخلق الله عز وجل منها خلقاً كان أحمر. فلا تنكر ولدك فأنت جنيت على نفسك –الطرق الحكمية ص47).
ومن المعلوم فسلجياً أو وظيفياً استحالة الحمل أثناء الحيض. وعلي - رضي الله عنه - أسمى من أن يهرف بما لا يعرف.
فالقصة من وضع جاهل أراد أن يحطّ من شأن عمر ويرفع من شأن علي فلم يوفق!
وإذا كانت هذه الخرافات يمكن أن يصدقها الناس في العصور القديمة فما عذر هذا الرقيع وهو يعيش في عصر العلم وتقدم الطب لولا أنه أعمى أصم لا يدري ما يقول؟(162/19)
وجاء بقصة عن امرأتين وضعت إحداهما ذكراً والأخرى أنثى وكلاهما تدعي الذكر وتنتفي من البنت. وكالعادة (بقي عمر لا يدري ما يقول)، وكالعادة أيضاً يظهر علي على المسرح بصورة دراماتيكية ليدعو بقدح ويقول لإحداهما: احلبي. فحلبت فوزنه ثم وزن حليب الأخرى فوجده على النصف من لبن الأولى فقال لها: خذي ابنتك. وهنا يتوجه إلى الجمهور ليقول: أما علمتم أن لبن الجارية على النصف من لبن الغلام وأن ميراثها نصف ميراثه وأن عقلها نصف عقله وأن شهادتها نصف شهادته وأن ديتها نصف ديته وهي على النصف في كل شيء. فأعجب بِهِ عمر إعجابا شديداً ثم قال: أبا الحسن لا أبقاني الله لشدة لست لها ولا في بلد لست فيه(1).
ولو كان هذا الرقيع حيا لنصحته أن يقدم هذه المعلومات الكارتونية في بحث إلى الجهات العلمية عله يحصل على ( براءة اكتشاف ) تعينه على مواصلة أبحاثه حتى لا نحرم من نوادر علمه وآثاره!
وبعد لهاث طويل دلع لسانه ليقول:
(إن الأخذ بمجامع تلكم الأحاديث من النوادر المذكورة ومئات من أمثالها يعطينا خبرا بأن الخليفة لم يكن متحليا بما أوجبته أعلام الأمة في الإمامة من الاجتهاد.قال إمام الحرمين الجويني في (الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد) ص426: من شرائط الإمام أن يكون من أهل الاجتهاد بحيث لا يحتاج إلى استفتاء غيره في الحوادث. وهذا متفق عليه أ. هـ. فأين يقع من هذا الشرط بعد إصفاق الأمة عليه رجل لم يعط بسطة من العلم ولم يكن ما كان يعلمه يغنيه عن الناس وإنما الأمة كانت في غنى عن ثرى علمه. وحديث استفتاء غيره ملأ كتب الحديث والسنن وشحن معاجم التاريخ والسنن فماذا بعد الحق إلا الضلال)(2).
هكذا يفكر أساطين التشيع الفارسي! وهكذا علَّموا جمهورهم.وهكذا يفكر العجم في العموم إلا من رحم.
__________
(1) ص 173.
(2) ص328.(162/20)
إن الطرائق التقليدية في الخطاب لا تنفع مع أمثال هؤلاء. لا بد من خطاب آخر إن لم ينفع معهم- فعلى الأقل- لا يضر غيرهم .إننا ومنذ ثلاثة عشر قرناً نخاطبهم خطاباً لا يفهمونه.
لقد آن لكل إنسان أن يدرك أن الجدران ليس لها من آذان!
يقدمون الورود لمن يبصقون في وجوههم:
ومع هذا كله نجد من علماء السنة من يكيل المديح لهذا الرقيع وكتابه!هذا الشيخ محمد سعيد العرفي وهو من علماء سوريا الذين يمتازون بالحرية والاستقلال الفكري والجرأة الأدبية. صاحب كتاب (سر انحلال الأمة العربية ووهن المسلمين). لكنه - ككثير من علمائنا- ليس عنده مناعة فكرية ضد التشيع الفارسي ولا خبرة بأساليب علاجه . وهذا بعض ما جاء من تقريظ للكتاب وصاحبه:
(سماحة الحجة العلامة الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي المكرم…قد أسعدني الحظ بمطالعة أجزائكم الثلاثة: الأول والثاني والرابع من كتب (الغدير في الكتاب والسنة والأدب)… فلم استطع أن أكتم ما يختلج به ضميري من سرور متواصل وسعادة غير منقطعة لأني لا أنكر أن هذا الباب قد طرحه كثير من فطاحل الرجال إلا أنهم لم يوفوه حقه كما فعل الحجة الأميني فلقد دون آراء لم يستطع الأولون على أن يأتوا بمثلها… إذن لا لوم علي إذا قلت: إن المؤلف قد جمع في هذه الأجزاء الثلاثة من العلوم والآداب ما صير (الغدير) عيداً شاملاً لكل مؤمن… وصلى الله على سيدنا محمد وآله الأطهار وسلم تسليما)(162/21)
ولا تنس أن تلاحظ المجاملة الأخيرة بإضافة (الأطهار) إلى (آله)، وعدم إشفاعها بذكر (صحبه) حتى لا يجرح شعور المؤلف الرقيق الذي أبت صفاقة وجهه ووقاحته الفارسية عليه أن يجعل لصاحب هذا التقريظ فضلاً بل جعل الفضل لنفسه عليه لأنه سمح لمثله أن يقرظ كتابه كما جاء ذلك صريحاً بقوله الذي تقدم التقريظ: (كتاب كريم جاءنا من البحاثة المفضال… فنحن تقديرا لمقامه العلمي والأدبي الشامخ وإعجاباً بخلائقه الكريمة ننشر الكتاب بلفظه مشفوعاً بشكر غير مجذوذ)!
هل رأيتم رجلا يقول لضيوفه: (تشرفتم بزيارتي)!
منهج قديم لكنه بائس:
قد يتصور أصحاب المنهج الترضوي أنهم وقعوا على اكتشاف جديد لم يعرفه الأولون. ووجدوا الدواء السحري الذي ظلت الأمة تتخبط قرونا وهي تحاول العثور عليه! إذن ما بقي إلا أن تجربه لتشفى بإذن الله!
والحقيقة أن هذا (الدواء) قديم وقديم جداً! ومن قدمه تحول إلى سم، لأن فترة صلاحية استعماله انتهت منذ زمن بعيد.. وبعيد جداً!ولقد جربناه فما ازددنا به إلا خبالا ووبالا!
وإن لم تصدقوا فانظروا إلى الواقع! إنه لا يزداد إلا سوءا وترديا رغم امتلاء الكتب والمصادر بهذه (الوصفة) المشؤومة، ورغم أن الدعاة والخطباء والوعاظ والمتصدرين يلهجون بها صباح مساء.
إن التقرب إلى التشيع الفارسي زلفى قديمة قدم كتب الحديث والتفسير وأسباب النزول والعقائد والتاريخ والسير والمواعظ والرقائق والأدب.
خذ المسند والمستدرك وتاريخ الخلفاء والعقد الفريد، تغنيك عما ألف من قبل ومن بعد، ويزيد!فماذا كانت النتيجة؟! معكوسة تماماً!(162/22)
لقد تضررنا بهذا الركام الذي لم ينتفع به رافضي واحد! وصرنا في النهاية نصدق هذه المجاملات المائعة من طول ما تلقيناها بألسنتنا ورددناها بأفواهنا بحيث إذا خرج من بيننا من ينكرها صرنا نحن الذين نقول له: إنك تسيء إلى أهل البيت فانتقلت دائرة الصراع إلى ساحتنا! هذا كل ما جنيناه بأيدينا! وإذا استمرت الحال على ما هي عليه من التدهور فالمستقبل لا يبشر بخير!
حصاد القرون:
بين يدي كتاب بعنوان (الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب) مؤلفه- كما ورد في غلافه - الفقيه المحدث الشيخ يوسف بن الشيخ احمد بن إبراهيم البحراني 1107-1186 هـ.ق تحقيق السيد مهدي الرجائي. تاريخ طبع الكتاب 1419هـ.ق وعنوان الطبع: (قم… الجمهورية الإسلامية الإيرانية).
فالكتاب مطبوع قبل ثلاث سنوات فقط وبإشراف المسؤولين في (الجمهورية الإسلامية الإيرانية) التي تبكي بدموع التماسيح على التقريب ووحدة المسلمين الضائعة!
موضوع الكتاب إثبات أن الناصب أو الناصبي هو من قدم أبا بكر وعمر على علي، أو أحبهما وإن لم يبغض علياً. أي إثبات أن أهل السنة جميعا نواصب يحل دمهم ومالهم!
يقول هذا الكافر الزنديق: (اعلم أنه قد ورد عنهم عليهم السلام إن مَظهَر هذه العداوة والدليل عليها أحد شيئين: إما تقديم الجبت والطاغوت(1) والقول بإمامتهما أو بغض شيعتهم ومواليهم من حيث التشيع.
أما الأول فقد رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر مما استطرفه من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم لمولانا أبى الحسن الهادي (ع) في جملة مسائل محمد بن علي بن عيسى قال: كتبت إليه أساله عن الناصب هل احتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت واعتقاده بإمامتهما؟ فرجع الجواب: من كان على هذا فهو ناصب.
وهذا الحديث كما ترى صريح في ثبوت النصب والعداوة لكل مقدم للجبت والطاغوت…
__________
(1) أي أبي بكر وعمر رضوان الله تعالى عليهما.(162/23)
وأما الثاني فقد رواه الصدوق طاب ثراه في كتاب العلل بسنده إلى عبد الله بن سنان عن الصادق (ع) قال: ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت. لأنك لا تجد رجلاً يقول: أنا أبغض محمداً وآل محمد. ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وأنكم من شيعتنا. ورواه في معاني الأخبار بسند معتبر.)(1)
(ولقد أجاد فيما أنشد وأفاد شيخنا أبو الحسن سليمان بن عبد الله البحراني طيب الله ثراه وجعل الجنة مثواه حيث قال:
لحى الله من ولى الصهاكي(2) إمرة
ومن أطرف الأشياء عند أولي النهى
زنيم دعي أمه هي أخته
أبوه لعمري جده ثم خاله
إلا أبلغ الأنصار مني ألوكةً
وقل لهم ضلت حلومكم كما
رضيتم عديا بعد تيم ونعثلا
وأجلسه في مجلس العقد والحل
خلافة ذاك الفاجر الكافر النغل
وعمته فيما رواه ذوو الفضل
فبخ له من لغية طيب الأصل
قوارعها تنكي القرائح كالنبل
رضيتم بجلفيِّ العتاة ذوي الجهل
وزفرا كما حدتم عن السيد الجزل(3)
أورد هذه الأبيات وهو يبصق في وجه الإمام الرازي رحمه الله الذي قدم لهم باقة ورد!
__________
(1) ص99-ص100.
(2) الصهاكي لا غيره هو الذي دك عرش كسرى ونكس رايته وأخمد ناره!.
(3) ص107.(162/24)
يقول البحراني ناقلاً قول الشوشتري: (فأما قول عالمهم الحافظ البارع الطيبي في شرح المشكاة حيث قال: ونعم ما قال الإمام الرازي في تفسيره: نحن معاشر أهل السنة بحمد الله ركبنا سفينة(1) محبة أهل البيت واهتدينا بنجم هدى أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم -. فمن باب تخمير النار بالهشيم وتغطئة لهبها بالحمم حذرا من نشوء الافتضاح ومخافة على المذهب من السخافة وهل هذه الدعوى إلا كما إذا حاول أهل الكتاب من اليهود والنصارى ادعاء أنهم الذين يحبون محمدا - صلى الله عليه وسلم - ويتمسكون به دون أمة أجابته من المسلمين الذين يؤمنون بنبوته ويدينون بدينه انتهى كلامه زيد مقامه).وفي موضع آخر يورد أبيات شعر لأحد المائعين من حملة أكاليل الورود ثم يبصق في وجهه ويلطمه بالحذاء! تقول هذه الأبيات الوردية المائعة الخانعة:
أهوى علياً أمير المؤمنين ولا
ولا أقول إذا لم يعطيا فدكا
الله أعلم ماذا يأتيان بِهِ
أرضى بسب أبي بكر ولا عمرا
بنت النبي رسول الله: قد كفرا
يوم القيامة من عذر إذا اعتذرا
هذه الأبيات المائعة يرسلها أحد مشايخ الملة الضائعة، واسمه صالح بن الحسن الجزائري إلى الشيخ البهائي قائلاً: هذه الأبيات لبعض النواصب- تبر الله أعمارهم وأخرب ديارهم- فالمأمول من أنفاسكم الطاهرة وألطافكم الظاهرة أن تشرفوا خادمكم بجواب منظوم عن هذه الأبيات نكسر به سورة هذا الناصب وأمثاله من الطغاة.
__________
(1) تأمل مداهنات أصحابنا غفر الله لهم وكيف يرمزون إلى أكاذيب الرافضة كأنهم يثبتونها دون أن يصرحوا! فلا هم صرحوا وصاروا رافضة ولا هم حافظوا على رزانتهم ومقامهم فلم يقتربوا من مباءة هذه السخافات التي منها ما لفقه الرافضة من رواية السفينة الغارقة التي صارت أشلاء كل شلو في لجة تلعب بها الأعاصير وقد غرق جميع من علق بها!(162/25)
فيجيبه البهائي: الإجابة عما هدر به هذا المخذول(1):
يا أيها المدعي حب الوصي ولم
كذبت والله في دعوى محبته
وكيف تهوى أمير المؤمنين وقد
فإن تكن صادقا فيما نطقت بِهِ
وأنكر النص في خم وبيعته
أتيت تبغي قيام العذر في فدك
إن كان في غصب حق الطهر فاطمة
فكل ذنب له عذر غداة غد
فلا تقولوا لمن أيامه صرفت
لكن إبليس أغواكم وصيركم
تسمح بسب أبي بكر ولا عمرا
تبت يداك ستصلى في غدٍ سقرا
أراك في سب من عاداه مفتكرا
فابرأ إلى الله ممن خان أو غدرا
وقال إن رسول الله قد هجرا
أتحسب الأمر بالتمويه مستترا
سيقبل العذر ممن جاء معتذرا
وكل ظلم يرى في الحشر مغتفرا
في سب شيخكم: قد ضل أو كفرا
عمياً وصماً فلا سمعاً ولا بصرا
ويعلق البحراني على هذه الأبيات بقوله : ولقد أجاد في هذا المجال من قال: لعمرك ما ودك من والى ضدك ولا أحبك من صوب غاصبك(2)
فتأمل – وأعجب- كيف يهدر المخذولون من أهل السنة بالتزلف إليهم ثم انظر بم يرجع الهادرون!
والمشكلة أن اللاحق لا يعتبر بالسابق بل لسان حاله يقول: أنتم السابقون ونحن بكم أن شاء الله لاحقون. أنتم فرطنا ونحن بالأثر!.
فإذا ذكَّرته قال: إن هذا كلام المتعصبين من المتقدمين. ولقد تغير القوم وهاهم يمدون أيديهم إلينا بالتقريب ونسيان الماضي ونحن أبناء اليوم وعفا الله عما سلف! حتى رأيت أحد أفاضل الكتاب ومن هو من خيرة المفكرين والمنظرين من يسلك الخميني وخليفته خامنئي في سلك المقربين المعتدلين وهما هما في إجرامهم وحقدهم على الأمة والصحابة وتكفيرهم واستحلال دماء أهل السنة!
__________
(1) وصدق البهائي في وصفه لذلك المائع بـ(المخذول) وتشبيهه له بالبعير حين يهدر.
(2) ص 146.(162/26)
ولم يكتف بهذين الزنيمين بل سلك معهم عبد الحسين الموسوي الكذاب الأشر صاحب فرية (المراجعات)، ومحمد القمي الذي يقول عن الفاروق أنه مصاب بداء لا يشفيه منه إلا ماء الرجال! وآخرين لا يذكر واحداً منهم إلا ويقدم لاسمه بكلمة (الإمام) مثل محمد باقر الصدر مؤسس حزب الدعوة المفسد، ومحسن الحكيم الانجليزي المدسوس!
انظر إليه كيف يقول: قد توالت دعوات الإمام الخميني للوحدة الإسلامية بين السنة والشيعة. وطلب من الشيعة في الحج تجنب كل ما من شأنه تفرقة صفوف المسلمين (!)… أما السيد علي خامنه ئي رئيس الجمهورية فيعتبر وحدة المسلمين في العالم اليوم إحدى المسائل الهامة الضرورية. أما الذي يقول باستحالة الوحدة بين السنة والشيعة فهو جاهل في الإسلام)(1)!
ومما جاء في كتاب ذلك الرافضي الخبيث يوسف البحراني تحت عنوان: (حل دم الناصب وماله): (اعلم أنه قد استفاضت الأخبار عنهم- عليهم السلام- بحل دماء أولئك المخالفين وحل أموالهم مع أمن الفاعل على نفسه أو ماله وإخوانه من الضرر) واستشهد على فتواه الكافرة هذه بعدة روايات منسوبة إلى جعفر بن محمد وأبيه محمد بن علي وولده موسى بن جعفر رويت في كتاب (تهذيب الأحكام) لأبي جعفر الطوسي و(علل الشرائع) للقمي و(الكافي) للكليني و(الأنوار النعمانية) لنعمة الله الجزائري. ثم قال: (وحينئذ فبموجب ما دلت عليه هذه الأخبار وصرحت (كذا) به أولئك العلماء الأبرار لو أمكن لأحد اغتيال شيء من نفوس هؤلاء وأموالهم من غير استلزامه لضرر عليه أو على أحد من إخوانه جاز له فيما بينه وبين الله تعالى)(2).
هذه حقيقة الخميني وخامنئي وثمار دولتهم (الإسلامية).
__________
(1) الفكر الإسلامي المعاصر والتحديات ص76-77، منير شفيق، دار البراق للنشر - تونس. الطبعة الثالثة 1411هـ-1991م، الناشر للطباعة والنشر بيروت - لبنان.
(2) ص275 وما بعدها.(162/27)
وأما دعوتهم للتقريب وقولهم بوجوب الوحدة بين أهل السنة والشيعة فيتولون هم الجواب عنها. يقول يوسف البحراني هذا:
(قد ورد الأمر في الشريعة المحمدية أن احجبوا دينكم بالتقية. ولعل هذا هو السر في تصريح علمائنا المتأخرين بإسلام أولئك المخالفين كما قد نقل فضلاؤنا المتأخرين (كذا) عن الشيخ (أي الطوسي) من أنه أظهر تلك في بعض مصنفاته تقية لقوله بكفرهم كما نقله عنه غير واحد من الأصحاب)(1).
المتأخرون شر من المتقدمين:
يخطئ من يظن أن الرافضة تغيروا – أو يمكن وهم على حالهم هذه أن يتغيروا- إلى الأحسن، ويخطئ من لا يعتقد أن الرافضة يزدادون شراً كلما تقدم بهم الزمن!
حينما كنت اقرأ في كتاب (المراجعات) و(الفصول المهمة في تأليف الأمة) وأمثالهما من تواليف المفتري عبد الحسين الرافضي كنت أعجب من جرأته على الكذب والتحايل والتلون! حتى إذا خرج علينا التيجاني السماوي بتواليفه تذكرت المثل القائل: إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصاراً وقلت: ما على هذا مزيد. فإذا بنا نفاجأ بمن هو أكثر سما وحقدا، وأسلَط لساناً وأطوله وأشده انغماسا في المستنقعات القذرة!
بين يدي كتاب آخر – وقائمة الكتب لا يحيط بها البصر- عنوانه قريب من عنوان الكتاب السابق (الشهاب الثاقب المحتج بكتاب الله على الناصب) لمؤلف معاصر من الحلة اسمه عالم سبيط النيلي باسم مستعار هو الشيخ أبو علي السودائي.
من تتصور هذا (الناصب) الذي يريد أن يثقبه هذا النيلي بشهابه؟ إنَّهُ أحمد الكاتب الرجل الشيعي الذي لم يخرج عن الشيعة إلا في مسألة واحدة هي مسألة (المهدي المنتظر)، صاحب كتاب (تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه)!
فإذا كان أحمد الكاتب من النواصب ففي أي خانة أم تحت أي عنوان يضعنا هؤلاء النواعب؟!
انظر لترى كيف ينفث هذا الحاقد المعقد حمم حقده ويصب جام غضبه على صاحبه وابن جلدته!:
__________
(1) ص 280.(162/28)
(تباً لك أيها الكاتب الغبي الذي لم يحسن المدخل فأعيت عليه المخارج. أقسم بالله العظيم لولا الاقتداء بعلي بن أبي طالب (ع) في عدم تكليم الجهال والمنافقين لكلمتك بكلام آخر أجعلك فيه عبرة لكل معتبر. لكن هيهات يمر ذلك بسلام عليك فانتظر فادحة تحل بك وفاقرة تقصم عماد ظهرك تتبعها رادفة تنقلك إلى النار وقريباً وقريباً جداً(1) فانتظر وتربص فإنه وعد حق على لسان الرسول المصدق - صلى الله عليه وسلم - واللعنة على عدوه والراد عليه)(2).
وكتابه هذا من أعجب ما اطلعت عليه من كتب تفوح قذارة وتموج بالنتن! لقد شتم الصحابة شتما مقذعا أهونه التصريح بكفرهم ! وقذف أمهات المؤمنين قذفاً اخترق به حجاب الله الذي ضربه تعالى حولهن!هذه نتف مما جاء فيه وأنا متردد بين تقييدها وتركها:
(حينما حكم الأشباه والنظائر من غير مشورة المؤمنين قامت المعارضة على السلطة القرشية المسندة من قبل اليهود والروم (3) بأحلاف سرية ومعاهدات خفية تستر عليها المجرمون وظهرت رائحتها فيما بعد من خلال فلتات السنة المؤرخين وعبر الأحداث. ولكن هذه الأمة(4) لا زالت تزور وتكذب وتماري في الحق. فلماذا اتفقت كلمة العرب على محمد - صلى الله عليه وسلم - واختلفت بشأن أبي بكر؟
__________
(1) يظهر أن هذا الدعاء أو الوعد قد تحقق واستجيب ولكن بالمقلوب ! فقد سمعت ان هذا النيلي قد قتل بعد تسطيره لهذا الكلام بقليل أي في آخر عام 2000 وسلم احمد الكتاب ولازال حياً إلى اليوم.
ولا استبعد أن يكون الله تعالى قد انتقم لأصحاب نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه من هذا الأفاك القذر الذي تفوه على عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - بكلام لا يمكن أن يتفوه به إنسان عنده ذرة من الشرف!
(2) ص23.
(3) يظهر أن أبا بكر غدر بالروم أيضاً فغزاهم رغم حلفه السري معهم!
(4) من هذه الأمة؟ أمة اليهود أم النصارى أم أمة الإسلام!.(162/29)
هل ارتدت العرب فعلا يا أبناء المكذبين أم كانوا معارضة(1) سياسية على حكومة لا شرعية؟… لقد بلغ طغيان أبي بكر أنه أجبر أسرى المعارضة على الإقرار بأن (قتلاهم في النار وقتلى جيش أبي بكر في الجنة) فتصور!! وكأن هذا الطاغية له صلاحية بلغت الحدود حتى حل محل رضوان ومالك خازني الجنة والنار… لقد ارتدت حسب زعمهم العرب إلا قريش!
ولو لاحظنا أحداث الردة لوجدناها أكذوبة. بل الردة هي في قريش. وأما العرب فهي على الأمر الأول. ولكن بعض الكفرة استغل الأحداث والانقسام فادعى النبوة. وتوجد معلومات أخرى(2) أن المدعين للنبوة أرسلوا من قبل القيادة الجديدة أصلاً باتفاق مع اليهود وذلك لإسناد محاربتهم لهم بسند شرعي وأن المتابعين لمسيلمة الكذاب وسجاح قد وقعوا بين فكين وأن القيادة الجديدة ضحكت عليهم حتى حرضتهم على الردة ودفعت لهم الأموال وغدرت بهم فأبادتهم… فافهموا التاريخ أولاً والقرآن ثانياً وكلام الأولياء ثالثاً قبل تؤلفوا الكتب يا أولاد الخنا والعار وشذاذ الأفاق وزبالة تاريخ الأمم)(3).
ويقول عن (الإمامة): (بلاء ومحنة لا كرسي يسيل اللعاب لرؤيته كما هو عند أبي بكر وعمر وعثمان صاحب القميص… وقد كان جده المعاهر المحكوم عليه بالنفي إلى الشام أقر رغم عهره بضرورة تنفيذ أمر النفي الذي حكمت به العرب. فكم ورث إذن من العهر حتى بلغ هذا الحد؟ وهل هناك من عاهر يموت ولده وزوجته جوعاً وعطشاً ويرفض تسليم السلطة إلا ذلك النوع من المعاهرين الذين يعبدون الكرسي؟!)(4)
__________
(1) من بطل هذه المعارضة؟.
(2) أين نجد هذه (المعلومات الأخرى)؟! في أي سرداب؟
(3) ص39-42.
(4) ص44-45.(162/30)
وقال وهو لا يزال يلف بين مراثه ومعتلفه: (اتباع اثنا (كذا) عشر متفقين في القول خير من اتباع ثلاثة مختلفين في كل شيء وأربعة فقهاء وثلاثة عشر (كذا) فرقة من المتكلمين وستة عشر من الصوفية. واتباع من تسري (كذا)! في أجسادهم شيء من رائحة صاحب الرسالة خير من اتباع عدي وتيم وهي منبوذة عند قريش… واتباع إمام عليم خير من اتباع إمام جاهل أقر أن ربات الحجال والعجائز أفقه منه. واتباع إمام أبي أئمة خير من اتباع إمام ابتر وإمام ابتر وإمام ثالث ابتر… واتباع إمام ذي حياء خير من اتباع جاسوس كان جاسوساً لقريش على النبي وبقيت الوظيفة وحبها في نفسه حتى كان يتسور على الدور ويهتك الستور. وقد أفحمه شارب الخمر حيث قال له: يا عدو الله أتشرب الخمر؟ فقال السكران: أنت يا عمر عدو الله. أنا فعلت واحدة وأنت فعلت ثلاثة: فقد تسورت وقد قال الله: { واتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } … يا للزمان الذي جعلنا نقارن بين اختيار علي الوصية وعمر الشورى! فان عمر الشورى لا يقارن أصلا بهذا (السكران الفقيه) لا والله ولا يساوي نعليه فانه أضر نفسه وحفظ أخلاقا من كتاب ربه فكيف يقارن بمن أفسد العالم ومنع رحمة الله من الدوام؟)(1)
__________
(1) ص51. وكيف لا يكون -عند المجوس المبرقعين- من حطم إمبراطورية المجوس وأخمد نارها مانعاً (لرحمة الله ) من الدوام؟!.(162/31)
وقال: (يكفي أن تعلم أن فضائل عمر المذكورة في التاريخ صحيحة كلها، ولكن على معناها الصحيح في اللغة لا بالمعنى الساذج لدى المفسرين وهذه أمثلة منها…: اخرج الترمذي عن عائشة عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر) وهذا غير معقول إلا إذا كان زعيمهم… ولا يفر الشيطان إلا من سيده ورئيسه كما يفر الناس من جبار من جنسهم… لو كان ثمة احتمال في إيمان أبى بكر وعمر لآمن الناس كلهم ولم يختلف من أمته رجلان لأنهما أكفر الخلق… وأخرج الحفاظ عن مجاهد قال: (كنا نتحدث أن الشياطين كانت مصفدة في إمارة عمر)… ولا معنى لهذا إلا أن يكونوا قد اكتفوا بعمله فبقوا لا شغل لهم)(1)..
كلام يهتز له العرش!:
هذا الذي سأكتبه هو ما يمكن أن يكتب وينقل وقد لا يوافقني الكثيرون على كتابته لعظمته! مع أني اضطررت إلى الإعراض عن تقييد عبارات بل صفحات كثيرة جداً لا اجرؤ على تقييدها ولو على أساس أن ناقل الكفر ليس بكافر!
من ذلك الذي استطعت نقله: (لماذا أصر أبو بكر وعمر على تزويج ابنتيهما من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدما يئسا من التزوج بفاطمة؟
لقد كانت الخطة موضوعة سلفا. فهما جاسوستان على النبي - صلى الله عليه وسلم - مدربتان كأحسن ما يكون التدريب. وقامتا بالدور الموكول بهما بكل أمانة. وجاء تحريم الزواج بهن من بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ضربة موجعة.
__________
(1) ص95-100.(162/32)
إن الخطة كانت ترمي إلى الانتهاء من موضوع النبي بسرعة، ومن ثم يأخذن حريتهن في الزواج من بعده أو بالطلاق خصوصاً وأنهن شابات دون سائر نسائه العجائز.من هنا أصيبت عائشة بخيبة أمل وحصل عندها ما يسمى اليوم بازدواج الشخصية وأصيبت بمرض نفسي. وهذا المرض واضح جداً في كل سلوكها اللاحق وخاصة فيما يتعلق بالعلاقة الجنسية ذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لم يطأها قط فهي رجس. وكان شرطه للوطء هو أن تؤمن بالله ورسوله وتكفر بأبيها وتؤمن بوليها وكان - صلى الله عليه وسلم - ينصحها ويرشدها لكن الكفر المتأصل فيها أبى عليها الإيمان)(1)
( قامت بحادثة تسمى عند المفسرين حادثة الإفك وهي حادثة ملفقة فإن تأخرها عن الركب لم يكن من الإفك وإنما حقيقة تاريخية نفذت فيها وصايا وأوامر خاصة من القيادة العليا فحاولت الإساءة إلى الرسول ولو على حساب سمعتها! وقد جعلها هذا -وبحسب دراستي لنفسيتها- جعلها تكره الطرفين في آن واحد: محمد الرسول وأعداءه على حد سواء. ولذلك قامت بالسلسلة الطويلة من الأعمال اللاحقة بعدما رجعت الفضيحة اليها).(2)
وقال هذا اللعين: (كانت عائشة أكبر متبرجة في التاريخ البشري لأننا لا نعلم أي واحدة من الملكات مثل ملكة سبأ أو تدمر أو غيرها خرجت بنفسها على رأس الجيش ووقفت بين الصفوف… عائشة هي أكبر متبرجة في تاريخ النساء ولها السبق في هذا المضمار. ومن هي؟ إنها ابنة أبيها (كلمة الذين كفروا) في الغار فلا تستهن بقدراتها الفائقة ومكرها وحيلها الغريبة فهي أبرع امرأة في التحريف والتزوير والتبرج ولا غرابة ما دام محمد أعظم الخلق فالضد إنما يظهر فضله الضد)(3) ثم اتهم هذا الخبيث أم المؤمنين بأمور لا استحل نقلها فالله حسيبه. والحمد لله الذي انتقم منه سريعا فلم يمهله حتى سلط عليه من أزهق روحه إلى جهنم وبئس المصير!فأين أساطين التشيع وأدعياء التقريب؟!
__________
(1) ص208.
(2) ص209.
(3) ص213.(162/33)
لقد أهدر الخميني المقبور دم سليمان رشدي الرافضي الهندي دعاية وتطبيلا ورئاء الناس. أنا لم أقرأ كتابه ولكن قد لا يكون فيه ما هو أسوا مما كتب هذا الخبيث! فهل سمعت بواحد من أدعياء التشيع أنكر عليه أو تبرأ منه؟!على العكس! له كتيب اسمه (نجوم القرآن المبين في ولاية أمير المؤمنين)
جاء في أوله تحت عنوان (تعريف) عدة كلمات لبعض الذيول والنكرات(1) منقولة (عن مجموعة مقالات منشورة في الصحف العراقية)- هكذا جاء النص- هذه نماذج منها:
إن عالم سبيط كان جريئا في كتاباته قويا في حججه(2)
إن عالم سبيط هو هدية العصر لفكرنا المعاصر(3)
لعل رحيل عالم سبيط قطع سيرة حياة فكرية أثمرت خلال فترة وجيزة عن مشروعات وتأسيسات هامة في فحص ونقد الكثير من جوانب الفكر اللغوي(4)
عالم سبيط الذي ضاعت علينا به فرصة تاريخية لتغيير المعرفة الإنسانية(5).
إن هؤلاء ذرية بعضها من بعض مثل أحدهم (كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث).
ولا أريد أن أسود هذه الصفحات البيض بأمثلة مما سطره الآخرون كنعمة الله الجزائري ومحمد التيجاني السماوي ومحمد رضا الزنيم أو الحكيم وغيرهم ممن يقيئون قذارة ونجساً على تاريخ هذه الأمة ورجالها ورموزها الذين لا مثيل لهم في الأمم جميعا كما قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ(110) } آل عمران وقال - صلى الله عليه وسلم -: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) رواه البخاري.
إن أولئك الطاعنين الذين يقيئون حقداً ورجسا- وكل علماء الرافضة ودعاتهم كذلك –هل تزيدهم المجاملات ومحاولات التقريب إلا غروراً، وعتواً ونفوراً، وطغيانا وكفرا وتماديا وجرأة؟!
__________
(1) وهم أساتذة جامعات يمارسون تخريب عقل الشباب العلمي العراقي.
(2) د. حكمت الخفاجي.
(3) د. قيس حمزة.
(4) خضير ميري (فيلسوف عراقي).
(5) د. حسين سرمد.(162/34)
وما مثلهم ومثل أصحاب المنهج الترضوي ومثل أصحاب المنهج القرآني النبوي إلا كمثل رجل سوء استزل امرأة فقبلها فإذا بأخيها ينظر إليه! ودهش الرجل لموقف أخيها البارد الذي لقيه في اليوم الثاني فألقى التحية عليه وصافحه. وفي اليوم الثالث رآه ممسكا بذراعها يتأبطه وهما يمشيان على الكورنيش فلم يفعل شيئا! ثم رآه بعد ذلك مختليا بها في حديقة عامة! ترى!ماذا سيفعل بها ذلك الرجل في المرة الخامسة أو ما بعدها؟!
وكان لذلك الديوث أخ غيور كان صغيراً فكبر وقد وقعت الواقعة بعد المرة السابعة فصاح يوماً بأعلى صوته: لا بد لهذا الخنا من نهاية فإذا بأخيه يرد عليه قائلاً: يا أخي خفض من صوتك فما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه. والكلمة الطيبة صدقة. قولوا للناس حسنا. إحذر أن يسمع صاحبنا صوتك فينخدش شعوره أو ينجرح إحساسه أو ينفر فنخسره!
أيها السادة! إن الدين أغلى من العرض! فكيف إذا طعن في الدين والعرض؟! وأي عرض!! عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشرف الخلق و(أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم)!!
وليس هذا الطعن شأن العلماء وحدهم بل إن جمهور العامة معهم يظاهرونهم ويناصرونهم ويتلذذون بمطاعنهم فينا وفي ديننا وإسلامنا! ولهم في طاعة علمائهم والسرعة في تمثل أقوالهم وتوجيهاتهم وتطبيقها وتحويلها إلى مفردات يتعاملون بها حالة عجيبة مهما بدت طائفية حاقدة أو خارجة عن المعقول !
حين ظهر الشيخ أسامة بن لادن على سطح الأحداث التي ارتج لها العالم ماتت رموز التشيع الفارسي حسدا وغيظا أن لا يكون – ولن يكون ولم يكن- عندهم من الرجال مثله كما حسدت يهودُ العربَ حين خرج محمد - صلى الله عليه وسلم - من أوساطهم وليس من وسط اليهود.(162/35)
وبما أن الرافضة هم أساتذة الصنعة في الكذب والدعاية المضللة، فقد صاروا يشيعون عن ابن لادن أنه عميل أمريكي وبائع مخدرات وقاتل سفاح قتل من الشيعة عشرات الآلاف…الخ وصدق جمهور الببغاوات هذه الشائعات دون أدنى صعوبة، وإذا بهم يرددونها من خلفهم إلى حد أنهم صاروا يعيروننا بهذا الإنسان العلم الذي تكفي عَلَميته لأن يتشرف بها العالم أجمع، ويلمزونه بـ(الوهابي) دون حياء أو أدنى شعور بالخجل! وفي المقابل يتبجحون بموقف إيران الخياني النفاقي في مظاهرتها لقوى الصليبية الأمريكية وتعاونها العلني معها دون أن ينتابهم ذرة شعور بالنقص تجاهه.
ويظهرون التلذذ بما تحققه أمريكا والتحالف الشيطاني الشمالي من انتصارات وتلحقه من أذى بالمجاهدين الأفغان من حركة طالبان الحاكمة وأنصارهم. وقبل انهيار الحركة وانسحابها إلى الجبال كانوا يروجون الإشاعات عن هزيمتهم، ويشيعون أخبار استسلامهم مقدما استبشارا وأمنية!
إن قوما يفتخرون بالعار يجلل رؤوسهم ويشمخون بأنوفهم على من يكلل رأسَه تاجُ الإيمان والجهاد والسمو والطهر ليسوا من بني آدم في شيء.إنهم أبالسة ! وإلا فإني لا أستطيع أن أتخيل مخلوقاً غير إبليس يمكن أن يرفع رأساً مضخما بالنتن على من يحيط رأسه إكليل الجواهر والذهب والياقوت.
هل رأيت إنسانا غاطساً في خزان للمياه الثقيلة يسب رجلاً خرج لتوه من حمام وقد عطر جسده بأطيب العطور يقول له: ابتعد عني أيها القذر!
أنا رأيت أمثال هذا! إنهم دعاة التشيع الفارسي والسائرون في ركابهم!
كيف يعالج هؤلاء المرضى المخبولون الذين استحبوا العمى على الهدى؟! هل ينفع معهم أن نقول: لا فرق بيننا، ونحن وإياكم سواء، وإن عليا زوج ابنته أم كلثوم بنت فاطمة من عمر، وأن له من الأولاد أبا بكر وعمر وعثمان، وأننا نحب أهل البيت؟ هذا إذا لم نصل إلى حد المداهنة والغلو في علي وذريته.(162/36)
لقد قلنا هذا وأضعافه ومنذ مئات السنين فماذا كانت النتيجة!إذا وصل التردي العقلي والفكري إلى هذه الدرجة فهل من علاج سوى الصدمة؟!!
نعم قد لا يستعيد الكثير منهم وعيه بهذه الطريقة، وليس من شأننا أن نحيي الموتى كما قال تعالى: { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) } النمل.
إنما –على الأقل- نبعد الآخرين عن السقوط والتردي، وننقذ من يمكن إنقاذه ممن أصيبوا -أو يكادون أن يصابوا- بهذا الداء الوبيل.
وعلى أضعف الاحتمالات يؤدي الإنسان ما عليه ويقول الحقيقة ويقوم بدوره في إنكار المنكر. وإلا ضرب الله قلوب بعضنا ببعض وأحل علينا ما نستحق كما قال سبحانه: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) } المائدة.(162/37)
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض) ثم قال: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } إلى قوله: { فَاسِقُونَ } ثم قال: (كلا والله لتأمرون بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ولتأخذنّ على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن.
هذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان متكئاً فقال: (لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا)(1).
__________
(1) رياض الصالحين ص96-97 باب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الطبعة العاشرة- دار المأمون للتراث-مكتبة المنار.(162/38)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل! رواه مسلم(1).
وعن حذيفة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم) رواه الترمذي وقال: حديث حسن(2).
منهج فاشل:
أمام هذه الهجمة الشاملة الشرسة لم يستطع المنهج الترضوي إثبات صلاحيته للمواجهة. لا في علاج الحالة ولا في إيقاف زحفها وانتشارها. هذا على الصعيد العملي.
وأما على الصعيد النظري فإن المنهج الترضوي ما هو إلا مولود غير شرعي للتزاوج الحاصل بين نفس ضعيفة وواقع ضاغط. ولم يولد ولادة طبيعية شرعية من خلال كتاب الله وسنة رسوله.كل مستنده تعلل بالواقع أو فهم خاطئ، يقوم على اجتزاء النصوص وانتقاء الأدلة ليتمكن من تفسير (الحكمة) بالسكوت عن الباطل ومداهنته، و(الموعظة الحسنة) بالرقائق التي تداعب العواطف وتخدر العقول ولو بالقصص المختلقة والروايات الضعيفة الواهية بل الغالية أملاً في رضا قد ولى زمانه وانقضى!
نعم! (للضرورة أحكامها) وهي قاعدة فقهية أصولية عظيمة. لكن (الضرورات تقدر بقدرها)(3) وهي قاعدة فقهية أصولية أيضاً تكمل الأولى وتوجهها (فما جاء لعذر يبطل بزوال العذر)(4).
__________
(1) المصدر نفسه ص93.
(2) المصدر نفسه ص96.
(3) الوجيز في أصول الفقه ص389 الدكتور عبد الكريم زيدان الطبعة السادسة 1397هـ-1977م الدار العربية للطباعة-بغداد.
(4) المصدر نفسه.(162/39)
وهذا التقدير يختلف زماناً ومكاناً وأعيانا.وهذه القواعد تتعلق (بالرخصة) وهي الأحكام الاستثنائية المتعلقة بالعوارض الطارئة وليست أحكاماً أصلية دائمية.
وفي كل الأحوال لا يصح أن نعطي للشذوذ والاستثناء و(الرخصة) حكم القاعدة والأصل و(العزيمة). فالميتة حكمها الأصلي والدائم الحرمة. ولا يقال عنها: حلال أبداً إلا أنها تباح عند الاضطرار. وحتى لو دامت حالة الاضطرار فان هذا لا يحيل الحكم الشرعي ويجعله بالمقلوب.
أما أن نجعل من العوارض الآنية حالة مرْضية نتعايش معها ونرضى بدوامها، ومن الأحكام الاستثنائية أحكاما أصلية فذلك شذوذ خطير، علينا علاجه وتصحيحه.
شهادة الواقع:
قد نختلف في تفاصيل طرق العلاج ونخطئ في توصيف دواء جديد فعال للحالة. إلا أنه لا ينبغي أن نختلف في شيء واحد هو أن المنهج الحالي الذي نسير عليه منهج فاشل فاشل. إن لم نكتشف فشله من حيث النظر والتأصيل، ففشله واضح -وواضح جداً- من حيث الفعل والتحصيل. ونظرة بسيطة على الواقع تنبيك عن هذا الفشل الذريع!
إن أصحاب المنهج الترضوي يراهنون على الواقع ويجعلونه حجة على فشل أي منهج آخر! فهلا نظروا إلى الواقع ليستدلوا به على فشل منهجهم المطبق منذ قرون أم يحسبون أنهم جاؤوا بجديد أو اكتشفوا شيئاً لم يعرفه الأولون؟
دونكم هذا الواقع وما فعل فيه هذا المنهج البائس!ألسنا نتراجع على مر الزمن أمام الزحف الشعوبي؟
انظروا إلى الواقع قبل مئة عام فقط ، ثم انظروا إليه اليوم واحكموا بأنفسكم على منهج هذه نتائجه! تأملوا وجه بغداد قبل خمسين عاماً فقط. ثم تأملوه اليوم لتروا كم تجهم! وكم حصلت فيه من تجاعيد وأخاديد!
طف في أسواقها. وانظر إلى أصحابها. وتأمل ما رفع من شعاراتها. ثم انظر لحالك تجدها كما قال أبو الطيب المتنبي:
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسانِ(162/40)
أيسركم أن تسلموها بعد خمسين عاماً هدية باردة على طبق من ذهب إلى أولئك الشعوبيين الحاقدين؟! ثم يمموا وجوهكم شطر نينوى والأنبار واحكموا بأنفسكم!
سر قوة الرافضة:
ثم اسمحوا لي أن أوجه إلى حضراتكم هذا السؤال: ما الذي تتصورونه وراء انتشار التشيع الفارسي وقوة الرافضة ؟ الهجوم أم الدفاع؟
هل رأيتم رافضياً يعرف الدفاع أو اللعب في منطقة الوسط؟ أم كلهم مهاجمون من الطراز الأول، يجاهرون بالسب واللعن والشتم والطعن . وفي الوقت نفسه يصرخون : نحن مظلومون مضطهدون؟! حتى كدنا نصدق الأسطورة! بل صرنا نردد ما يقولون!
وهاهم أولاء خطباؤنا وشعراؤنا يخطبون في عاشوراء ويتحدثون عن (مظلمة) الحسين و(مقتله)!
صحيح إنهم لم ينزلوا إلى ذلك المستوى، ولكن اصبروا قليلاً! وسترون! إن أول الغيث قطرة ثم ينهمر. تقولون: نريد كسب العوام من الرافضة نستدرجهم شيئاً فشيئاً . ألا تدركون أنكم مهما فعلتم وخطبتم وبكيتم فإنكم ملعونون على لسان رستم ويزدجرد بن بوران، ما لم تكفروا بأبي بكر وعمر وعثمان!
أم أن اكتشاف هذه الحقيقة يحتاج إلى ذكاء وتفكر وعناء!
أيها الأحبة! إن فعلكم هذا هزيمة في كل القياسات ولا ثمرة من ورائه سوى أضعاف مناعة أهل السنة وتمييعهم لتشييعهم فارسياً بهدوء، وتسليمهم هدية باردة بلا جزاء ولا شكور.وإن منهجكم هذا لا يُصلح أسرة واحدة. ولا يصلح منهجاً أو قانوناً حتى في اللعب!
تخيلوا فريقاً كروياً انسحب إلى منطقة الدفاع، وصار لاعبوه يتجنبون التقرب من خط الوسط بل أعلنوا ذلك واعتبروه من محرمات اللعبة وفرضوه على أنفسهم دون أن يلزموا الفريق المقابل بالمثل.(162/41)
إن هذا سيسحب الخصم إلى الأمام، ويحول لاعبيه جميعاً إلى مهاجمين وعليك – بعد- تصور النتيجة!هذا هو الذي جرأ علينا أولئك الأقزام القذرين وجعلنا نخرج – أو نكاد- من الساحة مهزومين!لقد فرض الرافضة دينهم بأسلوب الهجوم الكاسح العنيف وكسبوا إلى صفوفهم الكثيرين وبلعن أبي بكر وعمر!(1)
__________
(1) خذ مثالاً على ذلك جريدة تصدر في مصر باسم (صوت أهل البيت)، تدعو إلى التشيع الفارسي بأسلوب هجومي شديد،من أول صفحة من صفحاتها الست عشرة إلى آخرها،رغم أنه لا يوجد في مصر شيعة، وإن وجدوا فأفراد قلائل لا يشكلون(أقلية) أو نسبة معتبرة!
ومع ذلك فإن القائمين عليها لا يجاملون ولا يترددون من ذكر ما يؤمنون به، بل يهاجمون أهل السنة، ومؤسساتهم،وجمعياتهم بكل وقاحة وصلافة!
بين يديّ العدد السادس عشر.محرم 1422-أبريل 2001،هذه نتف قليلة مما جاء في هذا العدد كأمثلة على ما قلت:
((ما معنى أن يطلقوا على أنفسهم (الجماعة والسنة)؟! فهل كان الإمام علي(ع) منكراً لسنة النبي (ص)؟! وهل أنكر أنصار الإمام-شيعته-تلك السنة؟!!
إن سنة معاوية وشيعته-أنصاره- فقط كانت إصدار الأوامر إلى خطبائه للهجوم على آل بيت النبي (ص) فوق المنابر ولعنهم في مقدمة كل خطبة!! لعن من طهرهم الله سبحانه وتعالى من الرجس.هذه هي سنة الجماعة والسنة!!
يقيناً فإنه سوف يأتي اليوم الذي بشر به النبي(ص) بقدوم الإمام المهدي المنتظر(ع) وأعتقد أنه سيرفع شعار:أعدموا المفسدين بأمعاء المبغضين!!على غرار الثورة الفرنسية أعدموا آخر نبيل بأمعاء آخر قسيس!! المجلس الأعلى يجدد مطالبته باستعادة الأزهر أو تغيير اسمه
تحت هذا العنوان جاء ما يلي: جدد المجلس الأعلى لرعاية آل البيت مطالبته لزعامات السادة الأشراف بالعمل في اتجاه استعادة الأزهر الفاطمي أو تغيير اسمه لكي لا يكون سبة في جبين الفاطميين بعدما أصبح مرتعاً للوهابيين واليهود!! وقال المجلس في رسالة بعثها إلى زعامات آل البيت:إن الصمت على حالة الأزهر وقد أصبح مصدراً لتزييف تاريخ الأجداد يعد جريمة لا يبرر سوءتها ادعاء أو مبرر. وأن قبول تحول الأزهر من حالته التي أسس من أجلها كي يكون منارة لبث إشعاعه إلى كل أرجاء الدنيا بالفكر النبوي الشريف إلى كونه أصبح بوقاً لقتلة آل البيت يمجد في معاوية قاتل الإمام الحسن(ع) والذي شق عصا الطاعة على أمير المؤمنين(ع) ويزيد ابنه قاتل الإمام الحسين(ع) وباقي الفئة الباغية وهو أمر لا يخدم إلا أعداء الإسلام واليهود بالذات.لماذا رفض الأزهر مسرحية الحسين ثائراً؟!
مما جاء تحت هذا العنوان:يا سادة إن الأمر جد خطير وقضية الحسين سوف تفتح الطريق إلى تصحيح الدين لتنبذ وإلى الأبد أولئك الفئة الباغية المستترة خلف ما يسمى بالسلف الصالح وما هم سوى حملة لفكر قتلة آل البيت..آل البيت الذين كانوا أول اختبار لإسلام المسلمين فكان القتل فيهم والتشرد والتعذيب والسجون من أجل الحق . وعموماً فإن شيخ الأزهر الذي لطم مواطناً طالبه بإعلان الجهاد ضد الصهاينة ولم يراع حرمة المسجد سوف لا يضيف برأيه وموقفه شيئاً أكثر مما فعله الطغاة والمجرمين (كذا) ضد آل البيت .
... ويا كل من تريدون موافقة الأزهر على مثل هذه الأعمال ننصحكم بألا تفعلوها فهم لا يريدون إلا يزيد عالماً أو معاوية بطلاً أو شارون صديقاً !!من أهداف آل البيت حقهم في تنظيم الحج بموكبهم من مصر ومعهم أبناء المغرب العربي للوصول إلى الأراضي الحجازية عبر درب الحجاج بأم الرشراش .
المطالبة بحق الأشراف في كافة الأقطار العربية في الحج بدون جواز سفر فقط تصدرها جهة مسؤولة عن آل البيت .
حقهم في إقامة مدينة كبيرة لهم بالأراضي الحجازية وحقهم في تنظيم ملتقيات شباب الأشراف من خلال مخيمات تسع آلاف (كذا) منهم للتعارف والتواصل .
حقهم في ممتلكاتهم وأوقافهم داخل الأراضي الحجازية وحقهم في الخمس الذي نص عليه القرآن والحقوق الأخرى .] تأمل عبارة (الأراضي الحجازية) دون (الأراضي المقدسة) !!ولو كانت كربلاء أو قم لقالوا: (المقدسة) ولو كانت النجف لقالوا: (الأشرف) [
إشكالية الغدير نموذجاً
... تحت هذا العنوان جاء ما يلي : … وذلك بالضبط ما حصل منذ السقيفة . حيث كان هم جميع الأطراف المتنازعة القبض على السلطة بأي ثمن وبأي وسيلة وخصوصاً بعد صدور إشارات واضحة تدل بما لا لبس فيه على أن من الأطراف ، أعني قريشاً وممثليها بشكل خاص ، لن يترددوا في حال حرمانهم من السلطة في ضرب المشروع الإسلامي من أساسه . ( العصيان العلني لأمر النبي المشدد بإرسال بعث أسامة ، وقولة : إن النبي ليهجر) .
... هكذا..فإنه عندما نكثت الأمة بما في عنقها من بيعة لإمامها وخليفة نبيها، فإن البيعة نفسها أصبحت غير قائمة كموجب سياسي على الإمام … فمن المعلوم أن الإمام ابتلي خلال فترة حكمه بثلاث حركات معارضة :
أولاها: تلك التي قادها . ذلك الرجل الذي لم يدخل الإسلام قلبه . ولكنه دخل في الإسلام حاملاً هماً واحداً هو الثأر من هذا الدين الذي انتزع من بيته زعامة قريش ومكة. والغريب المريب أنه منح ابتداءاً من الخليفة الثاني كل الفرصة لبناء دولة شبه مستقلة له في الشام …
أما ثانيتها: فهي قريش ، سيدة شمال الجزيرة التي خسرت هي الأخرى موقعها المعنوي والمالي الممتاز بالإسلام ولم تجد سبباً للاعتراض على الخلفاء الثلاثة الأول لأسباب واضحة …
وأما ثالثتها: فهم الخوارج … على الرغم من افتقار كل هذه الحركات للمصداقية الفكرية والأخلاقية والسياسية ، فإن الإمام تعامل معها بوصفها جماعات تتمتع بالحقوق الأساسية.فحاورها وحاول ردها إلى الطريق الصواب .
... العبابدة يطالبون بتغيير اسم جامع عمرو بن العاص إلى جامع محمد بن أبو (كذا) بكر الصديق(رضي الله عنه ) ( وسبب ذلك كما جاء تحت هذا العنوان هو ) ما ارتكبه عمرو بن العاص في حق آل البيت خاصة وعموم المسلمين الصحابة عامة وتحديداً ما وقع على جدهم محمد بن أبو بكر الصديق ( رضي الله عنه) على يد عمرو بن العاص الذي قتله ومثل بجثته في مصر وأدخلها داخل أحشاء حمار وأحرقها !!(162/42)
ترى! لو لجؤوا إلى الأسلوب الترضوي، وجاملونا فجاهروا بالترضي عن الصحابة ومدحهم. وفعلوا هذا في مساجدهم وحوزاتهم ومنابرهم، واقتصروا على عقائدهم وشعائرهم سراً فيما بينهم ولم يجاهروا بها إلا على سبيل الدفاع. أتراهم ينجحون ويحققون هذا الذي حققوه؟ كلا والله!
فإن لم تستفيدوا من كتاب ربكم وسنة نبيكم ولا من تاريخكم وتراثكم فاستفيدوا من تجارب خصومكم!
تجارب الأمم:
إن المنهج الترضوي فاشل بدليل الوحي، ودليل العقل والتحليل النفسي ودليل التاريخ وتجارب الأمم.
خذوا النهضة العلمية الأوربية مثلاً. أن هذه النهضة لم تظهر للوجود وتصبح واقعاً، ولم تنتصر على سلطان الكنيسة لولا النضال والدم والصراخ والهجوم والتنديد الشديد بباطل الكنيسة وخرافاتها!
ترى لو قعد العلماء في بيوتهم واقتصروا بعلمهم على أنفسهم، أو بلغوه سراً هنا وتلميحاً هناك، واستعملوا (الحكمة) فجاملوا الكنيسة ومدحوا أحبارها ورهبانها -كما نفعل اليوم مع حاخامات قم وطهران- هل كان للعلم أن ينتصر على الجهل، والعقل على الخرافة والشعوذة؟!
ونصيحتي لإخواننا الترضويين –وبحكم الواقع الذي ارتضوه حكماً بيننا– أن يرجعوا إلى منهجهم العزيز وشرعهم الحكيم، ويتبرؤوا من منهجهم الترضوي السقيم. فمن أبى فنصيحتي له –أيضاً- أن يلملم أغراضه ويضع عصاه على متنه ويغادر الميدان قبل فوات الأوان وحلول غضب الرحمان { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .
نجاح المنهج القرآني النبوي:(162/43)
وفي المقابل وجدنا المنهج القرآني النبوي سليماً من الناحية التأصيلية النظرية ، وناجحاً من الناحية العملية التجريبية. أما من حيث التأصيل فهو يقوم على الأدلة القطعية من الكتاب والسنة. وأما من حيث التطبيق فقد حقق – بحمد الله- نجاحاً ملموسا على صعيد الأفراد وعلى صعيد المجتمع كذلك، في بعض المناطق التي وجد له فيها فرصة للتطبيق . ولن ينقضي جيل أو جيلان حتى تبرز نتائجهُ- بإذن الله- ظاهرة للعيان بشرط حصول التكامل الفكري والعملي، وأن يجد له ثلة تمشي به في الناس.
ومن مزاياه أن المهتدين به يهتدون عن قناعة تامة، وفهم شمولي لمواطن الخطأ والصواب، لا يحتاجون بعده منا إلى مداراة، ومجاملات أو مداهنات على حساب الحق والحقيقة تشعر معها كأنك تحمل أحدهم على رقبتك أو كأنه جاثم على صدرك. أو كأنه الرقيب الذي يلتقط عليك كل كلمة أو حركة أو همهمة ولا تدري متى يتعكر مزاجه فينفر أو يصعب عليك علاجه كما هو الشأن لدى المنهج الترضوي،الذي مع كل هذا العنت فان القادمين من خلاله ليسوا – في غالبهم- سوى أرقام فارغة أو سالبة تتضخم بها أرصدة الدعوات التي تستعجل الحصاد حتى إذا جيء بهم إلى موقع الاختبار لمعرفة القيمة الحقيقية تبخر ذلك الرصيد!
ربح وهمي على حساب رأس المال:
أرأيت تاجراً يضيع رأسماله أو يغامر به في صفقة خطرة، من أجل ربح لا يساوي عُشُرَه؟! كلا. فإن التاجر الحقيقي هو الذي يفكر أولاً بالمحافظة على رأس المال ثم يفكر من بعد بما يمكن أن يجنيه من ربح وإلا كان ربحه وهما اجتزأه من رأسماله الضائع!
وهذا هو كل ما جنيناه من وراء لهاثنا خلف المنهج الترضوي.إننا نتوهم أننا نربح شيئاً دون أن نلتفت إلى أن هذا الربح إنما حصل على حساب زعزعة الصف الداخلي وهزيمته النفسية.
وفي الوقت نفسه ترى الباطل يقوى ويشتد، لأنه يكسب في كل يوم توثيقاً من خصمه، ودفعاً نفسياً لأصحابه وأنصاره يزيدهم تمسكاً به.(162/44)
والنتيجة الإجمالية - بغض النظر عن بعض التفصيلات التي لا تؤثر على تلك النتيجة -أن الباطل يقوى ويشتد وصفك يضعف ويتمزق ويرتد، ويلتحق كثير منه- وأحياناً بالجملة– ليكونوا في الصف الآخر!
خرق كبير في جدار التحصين الداخلي:
إن مداهنة التشيع الفارسي وترديد مقولاته –ولو بعد تلميعها وإخراجها إخراجاً مناسباً– يجعل هذه المقولات تتغلغل شيئاً فشيئاً في صفوف أهل الحق، مع شعور مستمر بالضعف، يتراكم فيؤدي إلى هزيمة نفسية قاتلة تؤدي بأهلها إلى أن يكون همهم الهام وشغلهم الشاغل كيف ترضي المقابل وتثبت له أنك تحب (أهل البيت) بدلاً من أن تجعله هو الذي ينهزم نفسياً فيكون همه وشغله كيف يثبت لك أنه يحب الصحابة فيترك سبهم والمجاهرة بعداوتهم. وهذه هي المشكلة حقاً.
وهكذا تحدث الخروقات وتكثر وتتصل فيما بينها وتتسع في جدار التحصين الداخلي حتى ينهار دون أن تنتبه إليه! لأنك مهموم ومشغول عنه بمحاولاتك اللاهثة في تقريب أولئك النافرين. وليس لذلك في حقيقته إلا معنى واحد هو إعطاؤهم جواز المرور من خلال الجدار المخترق مع الوهم بأن هذا كسب وهو في الواقع اختراق واحتلال، لأنك حين تعلن فتقول: (لا فرق بيننا) فإن أصحابك يصدقون ما تقول ويحملون القول محمل العموم لأنهم لا يعرفون (التقية) ولا يؤمنون بها. ولا حدود التورية التي تقصدها فيفسحون المجال واسعا لدعاة التشيع الفارسي يصولون ويجولون. في حين أن أصحابهم محصنون بعدة حصون! وعندهم مناعة فكرية ونفسية تجاهك. انهم يجيدون فهم ما يقصده مراجعهم ودعاتهم إذا قالوا: (لا فرق بيننا). إنهم يدركون أن أشياخهم لا يعنون ما يقولون. إنما هم (يتقون).(162/45)
إن هذه المقولة وأمثالها لن تكون في الواقع أكثر من عقد توثيق موقع وبإمضائك ومعترف به من قبلك يمنح السارق حق الدخول آمنا مطمئنا إلى بيتك مع جميع مراسيم الاحترام. وستصحو يوما فلا تجد في بيتك شيئاً. هذا إذا لم يدّع السارق ملكية البيت ويطالبك بمغادرته فورا وإخلاء البيت لأهل البيت. لقد صار السراق هم أهل البيت.
أما أنت فحتى لو تسللت إلى بيوتهم بناءاً على عقد التوثيق فإنك ستدخلها مع الإيماء المسبق بأنك لص- شئت أم أبيت- فأهل البيت محصنون ضدك، يعاملونك بتوجس وريبة ومن وراء جدر وخطوط دفاعية متعددة منها (التقية)، ومنها العقد النفسية كعقدة الشك وعقدة التعصب وعقدة الكراهية…الخ.
المنهج القرآني .. أولاً تحصين، وثانياً ربح:
لو سألتني: ما سر القوة التي يتمتع بها الرفض أو التشيع الفارسي؟ لأجبتك: ضعف أهل السنة والجماعة أو أهل التشيع العربي.
لأن القاعدة الشرعية والاجتماعية تقول: إن قوة أهل الباطل نابعة من ضعف أهل الحق، فالحق قوي بذاته أما الباطل فضعيف بهذه الذات لأن مصدره ضعف وليس قوة. وأعد قراءة العبارة السابقة:(قوة أهل الباطل نابعة من ضعف أهل الحق.) فالباطل ليس قويا إنما أهله يمكن أن يكونوا أقوياء مقارنة بضعف - وليس قوة- أهل الحق. والضعف مضاف إلى (أهل الحق) وليس إلى (الحق) نفسه. لأن الحق قوي على كل حال. وإذن قوة أهل الباطل نابعة من ضعف… والضعف لا ينتج إلا ضعفا فأهل الباطل ضعفاء دوماً . ولكن إذا هبطت قوة أهل الحق دون المستوى المقارن ظهر الباطل وأهله أقوياء. لكن هذه القوة وهمية نسبية وليست حقيقة ذاتية.
إن قلب المعادلة بسيط جداً. زد في قوة أهل الحق إلى المستوى المطلوب عندها يظهر الباطل وأهله على حقيقتهم أمام الحق وأهله ويتحقق قوله تعالى: { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) } الإسراء.(162/46)
إن هذا القانون الكوني الكلي يلزمنا بأن نبحث عن القوة والضعف في داخلنا، ولا نرمي على الغير بنواقصنا. فلولا ضعف الضعيف ما غُزيَ في عقر داره. وهكذا قال الله تعالى يخاطب الجيل الأول: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(165) } آل عمران.
فإذا كنت تعتقد أنك على الحق، وأردت أن تنتصر على خصمك فانتصر أولاً على ضعفك وفكر بتقوية صفك وإعداده و إمداده.
إن هذه الحقيقة تكشف لنا بوضوح عن فشل المنهج الترضوي لأنه يريد اختراق الصف المقابل بطريقة لا تزيد صفه الداخلي إلا ضعفا وتمزقا وهزيمة! أما المنهج القرآني النبوي فأول ما يحققه من ربح أنه يلتفت إلى صفه الداخلي فيقويه ويحصنه ليجعله قويا متماسكاً واثقا من نفسه قادرا على التحرك والتعرض واختراق التحصينات التي تعترضه.
وهذا إنجاز كبير جداً لا بد منه أولاً لأنه قاعدة الانطلاق، ولأنه يجعلك تدخل الميدان برأسمال قوي كبير من امتلكه طمع في الربح حقيقة لا أماني. إن هذه الخطوة هي الخطوة الأولى التي يتوجب علينا نقلها من أجل التقدم إلى الأمام .
وما دمنا نتجنبها - كما هو حالنا ومنذ قرون- فلن نتقدم أبداً بل سنستمر بالتراجع حتى نعود إلى منهجنا ونثوب إلى رشدنا.
إن تلك القاعدة الكونية الكلية تبين لنا أن هزيمة أهل الباطل تتحقق بمجرد حصول القوة لأهل الحق. فربح الصف الداخلي وتقويته أول ما ينبغي التفكير فيه قبل الزج به في صراع يعرضه للخسارة الفادحة المحققة.
أما أن نضيع أنفسنا وأجيالنا في توهم كسب الآخرين بداخل ممزق ضعيف، نشارك نحن بتمزيقه وتمييعه وزيادة ضعفه فليس من فعل الحكماء الجادين.(162/47)
إن أقل ما نربحه باتباعنا المنهج القرآني- وهو ليس بقليل- صفنا الداخلي والاطمئنان على رأس المال. بعدها يمكن أن نسعى مطمئنين إلى هداية الآخرين وربحهم بكسبهم إلى جانب الحق وأهله.
بينما المنهج الترضوي أقل ما يعرضنا له من خسارة - وليس ذلك بقليل- المقامرة بجمهور الحق وقاعدة الانطلاق ورأس المال على طاولة لا يتقن أصحاب ذلك المنهج أو جمهورهم قواعد اللعبة عليها. على أمل كسب حفنة من أنصاف التابعين لا يزيدون الصف الداخلي إلا ضعفا وخبالا وسرعان ما تراهم يتبخرون حين تشرق عليهم شمس الحقيقة أو الحق الصريح.
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار (واجب الوقت) وضرورة النظر في الواقع يمكنني أن أقول: إن من الخطأ في هذه المرحلة التفكير في الربح بقدر التفكير في تجنب الخسارة والاطمئنان على سلامة رأس المال وإيقاف النزيف الداخلي والاختراق المستمر منذ قرون! على أني أرجو أن لا يفهم من كلامي القول بأن من الخطأ التفكير في الربح مطلقاً. كلا وإنما أقصد الأمر من الناحية النسبية. وسواء أخطأت في هذا أم كنت على صواب فإن واحداً من الأمرين –أو كليهما- لن يتحقق من دون اتباع المنهج القرآني، انه المنهج الوحيد الذي به نتجنب الخسارة ونحقق الربح الوافر بإذن الله تعالى.
إلى الذات ندعو أم .. إلى الله؟:(162/48)
بعض الكتاب والخطباء والمحاضرين يضمن حديثه عبارات (ترضوية) (تقريبية) تصل إلى حد المداهنة، تقوم على تأويل بعض الآيات ودهنها ببعض ضعيف الروايات، أو حمل صحيحها –لأدنى شبهة- على غير محملها. وقد يدعي المتحدث أو الكاتب صحة الضعيف منها، أو يدلس في ذلك بنسبتها إلى مصدرها دون تحقيق علمي. مع علمه بأن المصادر فيها ما هو صحيح، وما هو ضعيف وموضوع. ويشفع ذلك كله بإطلاق أحكام فقهية ومعلومات تاريخية، أو أقوال أخرى جزافا بلا تثبت. مع سابقة (الإمام) ولاحقة (عليه السلام) ثم يجتمع عليه بعد المحاضرة بعض الروافض يمدحونه ويباركون كلامه مما يدفعه إلى المزيد من التنازلات المقبلة حتى يصل إلى حد السكوت عن كل كلمة يمكن أن تهدم ما (بناه) من ذلك المديح أو القبول. إنه يعرف جيداً أن (أهل الكوفة) متقلبو المزاج من الممكن أن يخسرهم جملة بكلمة مفردة ! فهو دائم التحفظ والحذر كأنه يمشي حافياً في أرض الشوك – عافاه الله -.
ويخرج من ذلك كله بدعوى أو وهم أنه تمكن -وبهذا الأسلوب- من كسبهم، وأن هذه هي (الحكمة)، وهي الطريقة الصحيحة الحكيمة لتغيير الرافضة. فإذا سألته عن أدلة إثبات صحة دعواه قال: (تجربتي) و(قلت) و(فعلت) مع مبالغات في تصوير مدى النجاح الذي تحقق على يديه في الميدان تصل إلى حد لا يليق.
بينما الحقيقة المرة أن صاحبنا مكسوب لا كاسب. وعلى رأي المثل: من لم يأت معك فتعال معه.ونحن لسنا ضد العبارات التلطيفية ولا الكلمات التي تؤلف القلوب و(تكيف) الجو. ولكن.. بالمعروف.
أما النزول إلى هذا المستوى من (اللطف) و(الكيف) فيجعلنا أن نسأل: أنت تدعو إلى من؟ إلى الله أم إلى …نفسك؟
سلوا أنفسكم هذا السؤال ودعوها تجيب عنه بلا قيود. أم أنكم مثقلون بعناوين اجتماعية ووظيفية تريدون الاحتفاظ بها { مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (25) } العنكبوت.(162/49)
اقرؤوا هذه الآية { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين (108) } يوسف .
وأعيدوا قراءة الآية مرة أخرى مع التركيز على عبارة (إلى الله) تجدوها تقول : (إلى الله) لا..(إلى الذات).
ولو كانت الدعوة إلى الذات لاستراح الدعاة. ولكان ما مطلوب منا أن نفعله أيسر شيء وأهونه! لأن الأمر لا يعدو مدح المدعوين على ما هم عليه من حق وباطل. ويمكن التقدم خطوة وتطوير (الدعوة) بصنع الأطعمة والأشربة، وإقامة الدعوات والحفلات، وتوزيع الأموال والهدايا والهبات –وهو ما يفعله البعض- وأنا ضامن لكم التفاف الكثيرين حولكم. ولكنني في الوقت نفسه ضامن لكم أنكم ما غيرتم عقولهم ولا كسبتم قلوبهم لأن الله يقول: { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ (63) } الأنفال. (الله) وليس غيره.
ولو كانت هذه هي الدعوة التي أمرنا الله تعالى بها لهان الخطب ولكان أهون شيء دعوة المشركين وأهل الكتاب والسيخ والمجوس إذ ليس من خصومة ولا خلاف ولا صراع ولا قتال! إذن علام أتعب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه فيما أتعبها فيه؟!
كلا. يجب أن تكون الدعوة لله والى الله وعلى منهج الله وإن أرعدت أنوف المبطلين.
طريقة ذكية لتكميم أفواه الأغبياء، لقد بلغ دعاة التشيع الفارسي شأوا بعيداً في المكر والخديعة لا سيما مع أناس تغلب عليهم السلامة والظاهرية.(162/50)
من ذلك أنهم يوعزون إلى البعض منهم بمدح أولئك المجاملين والتقرب إليهم والتملق لهم، إن هذا يولد ارتياحاً في النفوس لأنها مجبولة على حب المدح مما يدعوها إلى طلب المزيد. وهذا لا يكون إلا بمزيد من التنازلات. وشيئاً فشيئاً يتضخم الوهم بنجاح الدعوة والشعور بامتلاك شخصية الداعية الناجح المؤثر الذي استطاع أن يكسب إلى صفه هؤلاء (المداحين)! حتى ينتهي به المطاف إلى السكوت عن كل حق متروك وباطل مرتكب حذراً من نفرتهم وانفضاضهم، وخسارة تلك الألسنة العسلية اللطيفة . وهكذا يصل دعاة الرفض والشعوبية إلى أهدافهم ويكممون أفواها كان الأولى بها أن تتعطر بالدعوة الحقة إلى الحق المبين.
لست موكلا بهداية الناس وإنما بدعوتهم:
حين أمر الله تعالى عباده بالدعوة إليه لم يشترط لقبولها منهم إقبال الناس عليها واستجابتهم لها. إنما اشترط – جل وعلا- البيان بالوسائل والأساليب التي ذكرها في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -،والبيان لا يكون بياناً إلا إذا كان فيه الفرقان بين الحق والباطل. وإلا كان تلبيساً وتدليساً.
ومن بداية الكتاب يذكر الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن الناس لا يمكن اجتماعهم على الحق. إنما ينقسمون إزاءه أقساماً أهمها ثلاثة: مؤمنون وكافرون ومنافقون، مهما أوتيت من حكمة وتوفيق واهتديت إليه من وسائل وأساليب: { الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)… إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(6)… وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ(8) } البقرة.
وقد لا يهتدي أحد بدعوتك ولو رزقت تأييد الأنبياء!(162/51)
إن من الناس من يكره الحق لذاته كما قال سبحانه: { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ(70) } المؤمنون. وأعظم الحق التوحيد، وإن من القلوب قلوباً إذا ذكر الله وحده اشمأزت وأبت { وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(45) } الزمر.
ويبقى واجبك على كل حال أن تقول الحق: { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (29) } الكهف. فأنت غير موكل بهداية الناس. وإنما مكلف بدعوتهم إلى الحق وإن نفروا ونخروا. أما الهادي فهو الله: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) } القصص.
إن الهداية بضاعة الله وسلعته الغالية، لا يهبها إلا لمن يستحقها. والله غني عن أن يعرض هذه البضاعة الكريمة على السابلة يعلقها برقابهم تعليقاً أو يلصقها بأيديهم المرتخية إلصاقا. إن هؤلاء في حاجة إلى شيء واحد هو إقامة الحجة عليهم: { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ(42) } الأنفال. وكتمان الحقائق المنفرة يتعارض من البينة ومع إرادة الله في إقامة الحجة على الهالكين.
أما أنت فلست تعلم ما في النفوس وليس ذلك من شأنك. إنما شأنك: { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (29) } فلعلك تدعو من لا يريد الله هدايته ممن قال فيهم: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) } النساء.
الصنمية الذاتية:(162/52)
إن التفلت من منهج الله حذراً من نفرة الناس قد يعبر عن جملة أمراض نفسية خفية. منها الصنمية الذاتية الكامنة في الأعماق والتي تجعل من صاحبها شخصاً يعتقد في نفسه أنه هو الصانع وهو الهادي. وقد يكون تعبيراً عن شك خفي في صلاحية المنهج القرآني لهداية الناس فهو يستبدل الذي هو خير- في اعتقاده- بالذي هو أدنى.
ضعف الإيمان بالقدر:
وعلى كل حال فهو يعبر عن خلل في الإيمان بقدر الله القائل: { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ(7) } الممتحنة. فالعداوة السابقة بسبب الثبات على الحق الصريح والدعوة إليه بلسان واضح فصيح لم تقم حاجزاً أمام المودة اللاحقة، لأنها عداوة لله وفي الله وعلى منهجه وهداه.وبما أن الله هو الهادي وهو القادر فينبغي أن نكل أمورنا كلها إليه ونطمئن إلى اختياره وحكمته وقدرته { وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) } الممتحنة. فالله (غني) عن الكثرة، و(حميد) لا يقبل إلا طيباً خالصاً ولو كان قليلاً. هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - هو السبب في نفرة اليهود؟(162/53)
والله يضل من يشاء لعلمه بعدم استحقاقه الهداية. وقد يكون هذا فرداً أو جماعة صغيرة أو تكبر حتى تكون أمة يكتب الله عليها الشقاء كاليهود الذين قال الله عنهم: { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) } البقرة. وقال: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ (145) } البقرة. أفنقول إن سبب نفرتهم ما كان يواجههم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آيات القرآن التي فضحت مخازيهم وكشفت زيفهم ومساويهم وشتمتهم حتى وصفتهم باخس الصفات وأحط صنف من الحيوانات كالقردة والخنازير والكلاب والحمير!
فلو أن القرآن كان قد لان معهم في خطابه لكان ربما اهتدوا؟! يمكن أن يقول هذا الكثيرون! ولكن من غير المسلمين، فإذا خلف من بعدهم خلوف مثلهم أو أسوأ منهم، أفتنقلب السنة في حقنا ويكون واجباً علينا أن نواجههم بالورد والياسمين ومخالفة منهج رب العالمين؟!
لماذا؟ حتى لا ننفرهم؟! لأن تنفيرهم مخالف لـ(حكمة) الدعوة. إذن طبقوا (حكمتكم) هذه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه وانظروا ما حكمكم عليه؟ بل ما حكمه عليكم!
وعندها حكموا بالحكم نفسه على من اتبع سنته في دعوته وطبق منهجه في سيرته وحركته.
الابتلاء سنّة:
وقد تكون نفرة الناس ابتلاءاً من الله يختبر فيه إيمان الصادقين وصحة عبوديتهم. فإن العبد لا يبلغ حقيقة العبودية حتى يطيع سيده فيما يرى وفيما لا يرى لكنه في الحالة الثانية يرضى ويسلم ويقول: سيدي أعلم وأحكم { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ (7) } آل عمران.(162/54)
ثم قد يكون الفتح من بعد ذلك: { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ(7) } الممتحنة. والله حين كلفنا حمل دينه والتحرك بدعوته ما قال لنا: إن الناس - ومن أول صيحة- سيستجيبون لنا ويأتون أفواجاً إنما قال: { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) } الأعراف. فضمن لنا العاقبة. فمن صحت بدايته صحت عاقبته ونهايته وقد تكون العاقبة في الآخرة وليس في الدنيا. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ويأتي النبي وليس معه أحد) عبرة وأي عبرة!وقياس صحة المنهج في صحة الاتّباع، وليس في كثرة الأتباع.
والعبد الحقيقي في كل ذلك مسلم أمره إلى الله، صابر على الابتلاء إلى خط النهاية، مهما كانت النتائج ما دام يسير على منهج الله يريد وجهه ولو قل الناصر وكثر الخاذل وكره المبطلون.
شرعنا أم آراؤنا:
وخلاصة القول أن نسأل: هل الحكم في ديننا على أية مسألة إلى شرعنا أم إلى آرائنا وعقولنا؟
فإن كان إلى شرعنا –وليس من جواب غيره- فإن شرعنا واضح في منهجه وقد تركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
أما من جنح إلى عقله ورأيه، وهواه وضعفه، وحملته الظروف وضغط الواقع على أن يجنح إلى ما يرى فليس يعدم آية من هنا وحديثاً من هناك، وحادثة مجتزأه، وقصة مزورة يدعم بها رأيه اتباعاً للمتشابهات. ولكن تبقى الحجة البالغة، والحقيقة الدامغة في شرع الله وحده وليست في الآراء والأهواء وإن زوقت وزخرفت.
الفصل الثاني
أسلوب الدعوة
بين كسب الفرد وتغيير المجتمع
قانون لتغيير الفرد وآخر لتغيير المجتمع:(162/55)
المنهج الترضوي لا يدرك الفرق بين القانون أو الأسلوب اللازم لتغيير الفرد أو مجموعة من الأفراد، وبين القانون أو الأسلوب اللازم لتغيير المجموع أو المجتمع، وهذا خلل كبير وخطير في المنهج يجعله مشلولاً وعاجزاً عن إحداث التغيير الاجتماعي.
نعم قد ينجح في استمالة بعض الأفراد ولكن على حساب خسارة المجتمع والتفريط به ككل.إن السكوت وعدم الإعلان بالحقيقة الصريحة في وسط المجتمع خشية أن نفقد عدة أشخاص تربطنا معهم علاقة من أي نوع، أو جاؤوا إلى المسجد القريب مثلاً يؤدي إلى أن يظل المجتمع سادراً في غيه، جاهلاً بحاله، مستمراً في ضلاله. لأنه لم يجد أو يسمع من يعرفه بالحق من الباطل.
إن مواجهة الخطر المحدق بنا بسبب إيران وذيولها وهم يرفعون شعار التشيع الفارسي لا تكون إلا بـ (فضحه ومصارحة الشعب والوقوف بصلابة بوجهه وعدم الليونة ورفض أية مساومة لأن الشعار جدي والعاملين على تطبيقه جديون، قد يناورون مثلما حاولوا أن يكسبوا السوريين والليبيين لكن لهذا خطاً لاحقاً يقع في العمق…فدعهم أولاً يحطمون الخطوط الأمامية،وعندما يصلون إلى سوريا سيكون الأمر هيناً عند ذاك،لأنهم حينئذ يتنصلون عن أي التزام… كيف نواجه هذا المخطط؟
نواجهه بمصارحة شعبنا ونعبئ إمكانياتنا، نتضامن ونرفض الألاعيب الإيرانية)(1)
بين الصدع بالحق للمجتمع والحوار الشخصي للأَفراد:
قد يتغير الفرد بالحوار الشخصي والأساليب الفردية المحدودة. ولكن المجتمع سيظل في عزلة عن هذا التغيير. ولا يتأثر به إلى الحد الذي يمكن اعتباره كبيراً وشاملاً ما لم يحصل الصدع العلني بالحق ويستغرق زمناً قد يطول جيلاً أو جيلين تبعاً لتوفر العوامل والظروف المطلوبة.
__________
(1) دين خميني، 42، 43 - صدام حسين.(162/56)
إن العقل الجمعي للمجتمع لا يتغير قط إلا بهذا الأسلوب الذي يجعله يتأثر ويستجيب -بلا وعي، وشيئاً فشيئاً- لدواعي الحق الذي تتغلغل فقراته على مدى الزمن المطلوب حتى يأتي يوم يكون فيه مهيأً للضربة الأخيرة فيسقط الجدار وقد يكون سقوطه فجأة لطول ما تفاعلت فيه عوامل التغيير مثله كمثل بحيرة ماء تضرب أمواجها جداراً من طين، أو تحفر في ذراته شيئاً فشيئاً. إنه يتصدع -ولو ببطء- حتى يأتي يوم فينهار.
صحيح أن هذا الأسلوب يتسبب في نفرة المجتمع في بداية الأمر، وإثارة المشاكل كما حصل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولكن ذلك ليس دليلاً على عدم جدواه. وليس العلاج بالترك والنكوص. ومن قال بذلك فإنه لا يعرف مراحل العلاج أو محطات السير.
إن من العلاج ما يثير السخونة أو الشعور بالمرارة أولاً. وقد يسبب التقيؤ أو انقلاب المزاج. ولكن الطبيب يقول: اصبر على هذه الآثار الجانبية وإلا لن يحصل الشفاء.فالعلاج إذن بالصبر والمصابرة والمرابطة.
المشكلة أن الكثيرين لا يريدون أن يتسببوا في مشكلة، ولا يتحملوا الآثار الجانبية للعلاج. ويجعلون من أي حالة عارضة غير مرغوبة دليلاً على الفشل، وهذه عقبة ما لم نقتحمها ونتجاوزها لنذوق حلاوة عاقبتها فلن نصل إلى الهدف أبدا.
إشكالية النصوص الشرعية :
إن هذا يلزمنا بأن نفرق بوضوح بين أسلوب الإعلان بالدعوة خطاباً للمجتمع، وبين الحوار الفردي في الزوايا الضيقة أو اللقاءات الخاصة أو العلاقات الاجتماعية الفردية توصلاً إلى تغيير الفرد. وعندها سننزل النصوص الشرعية التي تبدو مختلفة أو متعارضة منازلها.(162/57)
إن المنهج الترضوي لا يدرك الفرق بين النصوص الموجهة لدعوة الفرد والنصوص الموجهة لدعوة المجتمع. إنَّهُ يأتي إلى قوله تعالى – مثلاً- : { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) } سبأ. فيجعل منه قاعدة متبعة في الحالتين ويغمض الطرف عن النصوص الأخرى مثل: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)… } الكافرون. بينما تقضي الأصول بأن نوفق بين النصوص جميعها. وذلك بأن نحدد موارد النصوص التي تختلف بها بعضها عن بعض، فيختلف إعمال النصوص باختلاف مواردها. وهنا يزول الأشكال. لا أن نُعمِل بعضاً ونعطل بعضاً.
إن آية (سبأ) المارة الذكر أسلوب جدلي رفيع المستوى بين الداعي وبين فرد أو مجموعة أفراد يضعهم فيه وجهاً لوجه أمام المشكلة مفترضاً افتراضاً جدلياً احتمالية وجود الخطأ في أي طرف من الطرفين وكذلك الصواب. ويمكن للداعي أن يستعمل هذا الأسلوب من فوق المنبر أو أي وسيلة إعلان عامة مفترضاً في ذهنه حواراً جدلياً قائماً بينه وبين المجتمع المدعو، بشرط أن يستمر في هذا الحوار إلى نهايته التي يظهر فيها من الذي هو على الهدى ومن الذي هو على ضلال.
إن هذا الأسلوب لا يصلح أن يكون قاعدة عامة مطردة، أو عنوانا للإعلان عن دعوة تغييرية عظيمة شاملة تعرض على الملأ، وإلا ضاع الحق من الباطل وماعت الدعوة، وفقدت مبرر وجودها. لأن الداعي إذا كان يحتمل حقيقة –لا جدلاً- وجود الخطأ في ما يدعو إليه والصواب في القضية التي يريد تغييرها فقد الحجة التي يستند إليها في دعوته وإلزام المجتمع بها وما عاد هناك أي داع للضجيج والإنكار وفتنة الناس وتفريقهم، لأن الإلزام لا يكون بما هو ظني ومحتمل، إنما يكون بما هو حق جزما وقطعاً، فعلاً أو تركاً.(162/58)
ولو عدنا إلى الآية وقرأناها بإمعان لظهر ذلك لنا بوضوح وظهر لنا معه بطلان شعار: (لا فرق بيننا) الموضوع للمزايدة والاستهلاك فإن النص لم يقل: (وَإِنَّا و إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)، وإنما يقول: { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مبين } فجاء بحرف (أو) الذي يفيد التخيير، ولم يأت بـ(الواو) الذي هو للاشتراك.
ومعنى هذا أن واحداً من الفريقين فقط على هدى. وأما الآخر فعلى ضلال قطعاً. أما ان يكون كلاهما على هدى أو كلاهما على ضلال فكلا.إذن الآية واضحة منذ البداية في عدم قبول الحلول الوسطية الترضوية . فالافتراض موضوع للجدل لا أكثر من أجل إثارة الخصم باتجاه النقاش بأسلوب هادئ.
ومع هذا فالحوار ينتهي هكذا: { قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) } سبأ. أي ببيان انهم مشركون وأنهم على ضلال ودعوتهم مرفوضة بأشد أساليب الإنكار والرفض: (كلا)!
وفي الآية دروس كثيرة منها: أنه لا بأس في الحوار أن نقول: إن ديننا واحد وقرآننا واحد ونبينا واحد وما شابه من الكلمات الهادئة اللينة على أن يكون ذلك مجرد نقطة عبور أو انطلاق مشتركة للوصول إلى نتيجة واحدة واضحة هي أن مفاهيم الخصم لا تستقيم مع هذه القواعد والمبادئ التي اتخذناها أساسا للرجوع والتفاهم.
ننطلق من المتفق عليه لنحسم المختلف فيه:(162/59)
ولو رجعنا إلى القرآن فإننا نجده يعلمنا في نقاشاتنا وحواراتنا أن ننطلق من القواعد والمفاهيم المشتركة المتفق عليها لبحث المختلف فيه وصولاً للاتفاق عليه طبقا إلى تلك القضايا المشتركة كما قال تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(64) } آل عمران. وكما تنص عليه آية سبأ نفسها قائلة: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ (24) } فكون الله هو الرزاق أمر مشترك متفق عليه .
وما لم نستثمر المتفق عليه من اجل حسم المختلف فيه المتعلق به، فإننا نظل نراوح فوق تلك الأرضية المشتركة ونقفز لنرجع إلى النقطة نفسها حتى نتعب أو ننهار! خشية أن نفقد من لا فائدة من التوقف معه عند هذه المرحلة الميتة.
أما المنهج الإلهي فيعلمنا أن أسلوب تغيير المجتمع يختلف عن أسلوب تغيير الفرد. فلكل أسلوبه وقانونه. والخلط بينهما يضيع علينا هذا أو هذا. فلا يجوز استعمال أي من القانونين في غير محله.
قانون تغيير المجتمع طبقا للمنهج القرآني:
دار بيني وبين صديق لي الحوار الآتي:
- لقد شتمت الخميني في محاضرتك! وهذا غير صحيح لأنه سينفّر من يحبه. ولقد أثار هذا ضجة في المنطقة التي حول المسجد.
- لا بأس بما تقول. ولكن قل لي: إذا اختلفنا فالحكم إلى من؟ شرعنا أم آرائنا؟
- بل شرعنا.
- أحسنت وأصبت فاسمع مني: إن في القرآن العظيم وكذلك السنة المطهرة وسيرة النبي- صلى الله عليه وسلم - العطرة شتماً لرؤوس الكفر والباطل.
- نعم ، ولكنها قليلة.
- بل هي كثيرة جداً بحيث يصعب حصرها. وهي تشتم وتلعن هذه الرؤوس وبالأسماء أو بالصفات الواضحة المشخصة عينا.(162/60)
خذ مثلاً: أبا لهب وهو ليس شراً من الخميني ، بل هو أشرف منه نسباً. وخير خلقاً. وأخف كفراً وأقل شراً وضررا. لقد شتمه القرآن بقوله في سورة المسد: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1)… } الخ السورة. وخرج بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألقاها في وجهه وأمام الملأ وهو عمه والعم في مقام الأب كما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (عم الرجل صنو أبيه)!
ولك أن تلاحظ أن السورة لم تكتف بشتم الرجل دون أن تقرن معه امرأته! وهذا أكثر إثارة لدى العربي ! إن أحداً يشتمك لا يسيء اليك كما يسيء حين يشتم زوجتك في وجهك.
والوليد بن المغيرة كم مرة شتمه القرآن! اقرأ -مثلاً- سورة (القلم) لتجد الأوصاف الشنيعة التي شتم بها: { وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ(11)مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) }
ونزلت فيه آيات من سورة (المدثر) تلعنه وتتوعده: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا(12)وَبَنِينَ شُهُودًا(13)وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا(14)ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ(15)كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا(16)سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا(17)إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18)فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19)ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20)ثُمَّ نَظَرَ(21)ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(22)ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ(23)فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24)إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ(25)سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(26) }
(وظللت أسرد عليه أمثال هذه النصوص القرآنية العظيمة وهو ينظر الي كأنه يسمعها لأول مرة). ثم قال:
- نعم. ولكن هذا مع الكفار.
(قلت في نفسي: هذا هروب. وهو اعتراف غير مباشر بصحة الرد، فإن صرف الموضوع إلى جهة أخرى معناه اعتقاد صحته من حيث الأساس وانحصر الخلاف في التطبيق) ثم قلت:(162/61)
- من قال لك إن العلة هي الكفر؟ ولماذا لا يكون مناط الحكم الباطل عموماً، كفراً فما دونه فحيثما وجد أنكرته ولعنت رؤوسه؟
يقول تعالى: { وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ(7)لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ(8) } الأنفال. فقطع دابر الكافرين تفريع للقاعدة الكلية (إبطال الباطل) وتطبيق لها. وليس هو الصورة الوحيدة أو العلة التي أناط الله بها هذا الحكم.
والقرآن شتم المنافقين وفضحهم ولعن رؤوسهم كعبد الله بن أبي بن سلول. مع أن لهم حكم المسلمين، وظاهرهم مسلم يطالبون بما يطالب به المسلمون من أحكام، وتطبق عليهم الحدود الإسلامية، ويخاطبون بالخطاب نفسه الذي يخاطب به المسلمون: (يا آيها الذي آمنوا).
ثم من حكم للخميني بالإسلام وشهد له بالإيمان؟! إنَّهُ أقذر صورة للنفاق والزندقة. بل الكفر الصريح! هو وكل العلماء الذين على شاكلته.
وعاد صديقي إلى نقطة البداية ليقول:
- صحيح. ولكن هذا ينفر الناس. إن أحد هؤلاء كان في المسجد فخرج محتجا!
- وليكن، من قال لك إن نفرة النافرين حجة على صحة الدعوة ومقياس لخطئها من صوابها؟ ألم يقل الله تعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ(49)كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ(50)فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ(51) } المدثر. فرد على نفرتهم بما يزيدهم عتواً ونفورا !
ماذا تريد أن نفعل للحمير إذا نفرت وضفنت(1) ؟ أنقدم لها الحشيش ونمسح على ظهورها، ونرش العطور على وجوهها ؟!
__________
(1) ضَفَن البعير برجله: خبط بها. وضفن بغائطه: رمى بِهِ - مجمل اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس.(162/62)
- إن الدعوة التي لا ينفر منها الحمير ليست بدعوة لأنها ستمسي يوماً -ولا بد- مجمعاً لهؤلاء الحمير أو المستحمرين! وستكون أنت مسؤولاً عن دفع تكاليف الشعير. وإلا ستخلو الحظيرة أخيراً من (أهلها)، وتحصل على لقب (أفشل داعية) بجدارة! فماذا ستفعل؟!
بل أقول لك سرا من أسرار الدعوة والتغيير الاجتماعي: أتدرى أن التغيير يبدأ من هنا؟! من الإثارة والنفرة وتحريك السواكن الجامدة والعقول الخامدة.إنه ما من دعوة من الدعوات نجحت إلا وبدأت هذه البداية
- كيف!
- سينفر المجتمع أولاً. وهذا لا ينبغي أن يجرك إلى أن تغير خطتك أو تنحرف عن خطك. بل استمر في سيرك ودعوتك وأعلِ من نبرتك وهذا سيؤدي إلى.. نفور أكثر!
- فاستمر على ما أنت عليه وسترى!
سيأتي يوم فيه يصمتون. عندها أعلم أنهم أصيبوا بالذهول وأن الصدمة قد بدأ مفعولها وأنهم بعد حين تتحرك خلايا أدمغتهم الجامدة المتحجرة وتتشكل من جديد لتبدأ بالانتباه بشيء من الجدية إلى ما تدعو إليه والتفكر فيه. ستقول لهم أنفسهم: لولا أن ما يدعو إليه هذا الداع حق لما تمسك به هذا التمسك. فهل نحن حقا على باطل؟! وهذا أول علامات الوهن والانهيار في جدار الباطل. إنه الصمت والتأمل.
وهنا يتحول أهل الباطل من حالة الهجوم وإلقاء الشبهات والضجيج والمطالبة بعقد حلقات الجدل والنقاش إلى حالة أخرى تتمثل بالهروب وعدم المواجهة، والاكتفاء بحالة الدفاع عند الاضطرار، فاعلم أنك قد قطعت شوطا كبيرا في سيرك بالاتجاه الصحيح.
لقد انتهت مرحلة وبدأت مرحلة أخرى:
انتهت مرحلة الهجوم وبدأت مرحلة الدفاع. عليك هنا أن تستثمر الحالة وتحول دفاعك إلى هجوم لتقضي على آخر سواتر المقاومة لخصم قد انهزم نفسيا وفقد الحماس في الدعوة إلى أفكاره المنحرفة التي بدأت تتزعزع ثقته بها حتى مع أبنائه وعائلته.
أي أن الجيل القادم سيكون ضعيف التعلق بباطله ويكون- هو والجيل الذي بعده- من حصة أهل الحق إن شاء الله.(162/63)
إن الجيل الأول عموماً لا بد أن نقبل خسارته ونفرته - هذا على أسوأ الاحتمالات- ثمناً لربح الأجيال القادمة بشرط ان تتضافر الجهود للدعوة بهذا الأسلوب وأن لا يقف الترضويون حاجزاً أمامها يصدون ويوعدون مع أملنا بالمخلصين منهم أن يلتحقوا بالركب السائر في طريق الأنبياء.
على أن هذا لا يلزم منه أن لا تظل عصابة من الرافضة -لا سيما الرؤوس والمنتفعون والمغرضون- تثير الفتن وتحاول الكيد بشتى الوسائل والأساليب.و هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وبغض النظر عن تفاصيل المراحل التي مرت بها دعوته -إذ لكل مرحلة ظرفها الذي يصنعها مما يؤدي إلى اختلاف أو تشابه المراحل بين الدعوات وقد تختلف في تفاصيلها تبعا لتشابه الظروف وتسلسلها -فإنه - صلى الله عليه وسلم - صدع بالحق وجهر بالدعوة وسفه آراء المجتمع وضلل آباءهم وشتم كبراءهم وفضحهم وفضح أباطيلهم.
ولولا هذه الشدة وهذا الهجوم العنيف لما رضخ المشركون وجاؤوا إليه صاغرين يتوسلون -للوصول إليه- بالملك والمال والنساء، مقابل شيء واحد هو أن يدعهم وشأنهم. بل كانوا يطلبون إليه أحيانا أن يسكت مجرد سكوت عن تضليل آبائهم. ولكنه يصر -في مقابل ذلك كله- على ما هو عليه! فماذا كانت النتيجة؟
تقربوا إليه أكثر فعرضوا عليه حلاً وسطاً أن يعبدوا إلهه وحده فترة ويعبد آلهتهم مثلها. لكنه يجيبهم بصراحة وغلظة ويرمي بها في وجوههم: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) } الكافرون.
هذا هو المنهج. فمن وجد في نفسه القوة وعلو الهمة، فليمض على نوره وهداه وإلا فليدع الخلق وشأنهم.(162/64)
هل رأيت كيف أذل هذا المنهج العزيز رؤوس الباطل فجعلهم يقدمون التنازلات تلو التنازلات؟ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثابت على موقفه لا يتزعزع ولا يتزحزح قويا صريحا. رغم أنه لم يكن يملك سلاحا، ولم يشهر في وجوههم قنبلة ولا وجه عليهم مدفعا لينهاروا هذا الانهيار!
أرأيت قوة هذا المنهج وفاعليته في هزيمة الخصوم!
هذا ما نحتاجه. وهذا ما نحن بأمس الحاجة إليه اليوم كي نعيد الثقة إلى النفوس. فإنك ترى الأمر بالمقلوب!
أهل الباطل ثابتون على موقفهم لا يتزحزحون، معلنين بباطلهم لا يترددون، وأهل الحق يقدمون لهم التنازلات تلو التنازلات لعلهم يرضون أو يصفحون ثم هم لا يستجيبون!
ماذا تريد مني أن أفعل في زمان انهار الكثير من أهله أو كادوا في دينهم كما انهاروا في سياستهم -إلا من رحم- ؟!
ألا ترى الشبه واضحا بين التنازلات السياسية أمام اليهود طمعا في إرضائهم أو اتقاء شرهم، وبين التنازلات الدينية أمام الشعوبيين طمعا في إرضائهم أو اتقاء شرهم؟!
والنتيجة الملموسة أنَّهُ لا هؤلاء يرضون ولا هؤلاء يرضون! أليس العكس هو الذي يجب أن يكون؟!هل ترى في المنهج الترضوي قدرة على أداء هذا (الواجب) وإنجازه؟! قدرة على قلب هذه المعادلة الظالمة؟!
هذا هو المطلوب وهو واجب الوقت في بلدنا. فلنبحث عن منهج آخر.
(وصمت صديقي طويلا وراح في تفكير عميق ولم يرد علي) فقلت له:
أقول لك -وبكل تواضع- إن لنا تجربة ميدانية منضبطة بنور الوحي أرجو أن تنتبهوا إليها وتستفيدوا منها قبل فوات الأوان.
الإسلام دعوة تغييرية جماعية اجتماعية ذات منهج تغييري جماعي اجتماعي وليس هو دعوة فردية:
الإسلام دين جماعي جاء للجماعة قبل الفرد، والإسلام ليس علاقة قاصرة بين الفرد وربه مجردة عن المجتمع ومنعزلة عنه. نعم هو علاقة بين العبد أو الفرد وربه ولكن من خلال المجتمع.(162/65)
إذن جاء الإسلام لتغيير المجتمع ككل، وليس لخطاب فرد أو مجموعة من الأفراد. فلا بد أن يكون له منهجه المناسب، وبرنامجه الخاص بهذا الهدف. أي منهج تغييري جماعي صالح لبلوغ الهدف المرسوم. لهذا اتجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدعوته إلى مجتمعه ولم تشغله دعوته الفردية عن هذه المهمة الاجتماعية. بل سخر الأولى في خدمة الثانية. ملخص القول أن الإسلام دعوة تغييرية جماعية قبل أن يكون دعوة فردية موجهة لإصلاح فرد أو مجموعة من الأفراد بمعزل عن المجتمع.
إن منهجه التغييري الجماعي يقوم أول ما يقوم على الإعلان الواضح بالدعوة والصدع بالحق وإنكار ما عليه المجتمع من باطل، دون الاكتفاء بطرح الأفكار في الزوايا الضيقة. ولو كان بالإمكان -طبقا لطبيعة البشر والقوانين الاجتماعية التي وضعها الله تعالى في خلقه- إحداث تغيير شمولي في أفكار المجتمع وأوضاعه بغير هذا الأسلوب لما اختاره الإسلام وطبقه الرسول لأنه دين التسامح والحنفية السمحة. وما خُيِّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما. وهو القائل: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه).
إذن من غير الممكن بلوغ هذا الهدف العظيم ما لم يكن هناك وضوح في الفصل بين الحق والباطل، وصراحة في مواجهة المجتمع في إنكار هذا، والدعوة إلى ذاك.
أما مجاملة المجتمع علنا والاقتصار ببيان الحق من الباطل على الأفراد في المجالس الخاصة والأماكن المغلقة فلا يمكن –في يوم من الأيام ولم يحصل في التاريخ- أن يؤدي إلى التغيير الاجتماعي المطلوب الذي هو مهمة الإسلام الأولى، وينبغي أن يكون مهمة كل مسلم وداع إلى الإسلام بحق.
لا بد من (المشكلة) كمرحلة من مراحل التغيير:(162/66)
{ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(137)هذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ(138)وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139) } آل عمران.
كل دعوة نجحت على مر التاريخ شكلت في زمانها مشكلة اجتماعية كبيرة في مجتمعها في أول مرحلة من مراحلها!
خذ الثورة العلمية الأوربية مثلاً –كما نوهت فيما سبق- كم عانى العلماء من الاضطهاد والتشريد والقتل والتحريق على يد الكنبسة! لو لم يشكل أولئك العلماء الأفذاذ المناضلون مشكلة كبيرة هددت الوجود الباطل لدى (رجال الدين) هل كان يحدث هذا؟ ولو لم تمر تلك الدعوة أو الثورة بهذه المرحلة أو المشكلة أكان بالإمكان أن يكتب لها النجاح؟
تصور! لو أن كل عالم أسر بما عنده لمن يثق به فقط، واقتصر بدعوته على مجالسه الخاصة. أما في العلن والمحافل والمنتديات فيجري تمجيد الخرافة على حساب العقل ومجاملة الجهل على حساب العلم، ومداهنة الكنيسة تجنباً للمشاكل –هل كان قد حصل التغيير المطلوب؟! على العكس. ستذهب دعواتهم هواءاً في شبك وصيحة في واد!
سقراط مثل آخر ما الذي ميع دعوته التوحيدية؟ إنها مجاملة تلميذه إفلاطون- الذي رأى كيف أعدم أستاذه بالسم- التي أنتجت وثنية أرسطو تلميذ افلاطون!
والأحناف الموحدون كانوا موجودين في المجتمع العربي. ولقد كانوا يتمنون الإصلاح ويقومون ببعض ما عليهم من بيان للتوحيد وإنكار للشرك ولكن..بـ(هدوء) ودون إثارة وبالقدر الذي لا يسبب (مشكلة).
فهل استطاعوا إصلاح المجتمع وإحداث التغيير المطلوب؟ كلا. لماذا؟(162/67)
لأن الطبخة لم تنضج على نار (المشاكل) التي لا بد منها ليكون الطعام سائغ المذاق.لقد كانوا يدركون حجم ما يسببه لهم التغيير والإصلاح من مشاكل ما كان عندهم الاستعداد لمواجهتها وتحملها، فكانوا يتحاشونها لأنها كانت تمثل لديهم –كما لدينا اليوم- إشارة الخطر الحمراء التي لا بد عندها من تخفيف الضغط حتى ينزل السهم أو الإشارة دونها.
هذا ورقة بن نوفل- رضي الله عنه - يقول لرسول الله- صلى الله عليه وسلم - من أول يوم حين أتاه يستعلمه حقيقة ما رآه من أمر الوحي ويخبره قبل أن يعلم النبي نفسه بهذه الحقيقة الخطيرة والسنة التغيرية الاجتماعية أو العقبة التي لا بد من اقتحامها:
(يا ليتني فيها جذعا إذ يخرجك قومك فأنصرك نصرا مؤزرا) فيسأله - صلى الله عليه وسلم - مستغربا: (أوَمخرجيَّ هم؟!) فيجيبه: (ما جاء أحد قومه بمثل ما جئت به إلا عُودِيَ وأوذي)
إن كثيراً من المشايخ اليوم والدعاة والمفكرين والمسؤولين يمثلون دور ورقة بن نوفل ونحن بأمس الحاجة إلى دور محمد بن عبد الله. ولعل بعضهم لا يريد أن يكون في واجهة المواجهة، فإذا تقدم الصفوف غيره كان من ورائه ينصره ويؤازره.
افترض أن الأحناف قد كثروا في تلك المجتمعات حتى صاروا يعدون بالمئات وظلوا عشرات السنين بل مئاتها يهمسون بدعوتهم هنا وهناك دون أن يرتقوا بها إلى مستوى (القضية)، ويبلغوا بها سطح الأحداث لتكون هي الأولى وهي (المشكلة)، هل كانوا يحققون هدفهم وأمنيتهم من التغيير المطلوب على مستوى المجتمع كله ما لم يخرج من بينهم (محمد)!
فما لنا نمجد محمدا بأقوالنا، ونصنع ما صنع ورقة بأفعالنا؟ في زمن هبت فيه الريح شديدة عاصفة لا يمكن أن يصمد في وجهها ورقة، ولو كثرت الأوراق وتجمعت وصارت بالآلاف.
سلعة الله غالية:(162/68)
جنوح الإنسان إلى المسالمة والدعة مغروس في فطرته، وتردده من تحمل التكاليف وارد وليس بمستغرب. ولكن سلعة الله غالية، والجنة لا تنال إلا بمخالفة دواعي الطبع ونوازع النفس التي لا تتلاءم مع الشرع. ومن هنا جاء الحث على الجهاد والترغيب فيه والترهيب من النكول عنه كما في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) } المائدة. والقرآن يخبرنا أن التردد راود كل نفس ولم يسلم منه حتى الأنبياء الكرام عليهم السلام وليس في ذلك من عيب ما لم يستسلم له الإنسان:
{ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ…(37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا(38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) } الأحزاب.
وقبلها قال: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا(36) } الأحزاب.(162/69)
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحاول-مندفعاً بطبيعته البشرية-تجربة وسائل أخرى أكثر سلاسة، والسير في طرق أقل وعورة لعلها تكسب إلى دعوته أولئك النافرين المعرضين الذين يؤذيه إعراضهم وصدودهم أشد الأذى.أليس من وسيلة يتجنب بها هذا الإعراض والصدود والعداوة والبغضاء؟
إنهم يعدونه بالإيمان إن هو استجاب لمطالبهم في تحقيق بعض الخوارق مثل تفجير نهر في جزيرة العرب، أو إنزال كتاب من السماء.
ويظهر أنَّهُ كان يسأل الله ذلك وقد يكون ألح في هذا السؤال فأنزل الله تعالى: { وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وَقَالُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنزلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(35) } الأنعام.
وقبلها مباشرة قال سبحانه: { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ (34) } الأنعام.
ونحن نعلم ذلك من إخواننا ونعطيهم بعض العذر كبشر وحسابهم على الله تعالى. ولكن لا نعذرهم في تطويع النصوص وتقطيعها لتجعل في خدمة الضعف البشري. ونطمع في ان يتجاوزوا ضعفهم ويطوعوا أنفسهم لتكون في خدمة (القضية).
لا تعارض مع التغيير الفردي:(162/70)
إن تطبيق المنهج القرآني من أجل إحداث التغيير الاجتماعي لا يتعارض أبدا مع الدعوة الفردية أو الحوار الخاص وتكوين العلاقات وعقد اللقاءات كما يبدو لمن ينظر إلى الأمر من خارجه. فلكل أسلوبه ومجاله.
وهكذا كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الأمرين بحيث لم يجعل من أحدهما سببا لإلغاء الآخر أو معارضته. ولم يقف إعلانه بالدعوة عائقا أمام تلك الحوارات واللقاءات.
على العكس فإن الصدع بالحق يحرك السواكن ويثير العقول ويدفع النفوس باتجاه النقاش والجدل والحوار الذي ينبغي أن نستثمره ونجعله -كما أوصى ربنا- بالحسنى وحسب الضوابط الشرعية. ويؤدي كذلك -وبقوة- إلى مراجعة الأفكار وإثارة الحوارات الذاتية والمثنوية مما يعطي للأفراد فرصة اكبر للوصول إلى الحقيقة مستقبلاً وتنشيط الدعوة الفردية.
فالمنهج القرآني يكسب الفرد والمجتمع، عكس المنهج الترضوي الذي يخسر المجتمع على وهم ربح الفرد. ولكن لا بد من مرور فترة زمنية يأخذ فيها التغيير مستحقه من النضج.
إن هذا- حتى يتم- يحتاج إلى تكامل دعوي يقترن فيه الصدع بالحق من قبل ما يكفي من الدعاة والكتاب والخطباء والمفكرين والمحاضرين الذين يتقدمون الصفوف، بالحركة من قبل الجمهور الواعي الساند الحامل لـ(القضية) بعد أن يكون قد أدرك أبعادها مسبقاً بواسطة أولئك المتقدمين. فالصدع بالحق لا بد أن يقترن بالحركة من قبل ذلك الجمهور متمثلة بالحوار الشخصي وتقديم الوسائل البيانية من الكتاب الهادف والشريط المناسب. إن هذا كله ينشط التغيير الفردي ويكسب باستمرار مزيدا من الأنصار الحقيقيين وليسوا أرقاما فارغة لا قيمة لها. وفي الوقت نفسه نكون قد قمنا بواجبنا تجاه المجتمع الذي نأمل أن يتغير باتجاه الهدف إذا تكاملت فيه عناصر التغيير ضمن الزمن المعين.(162/71)
ومع هذا كله نقول: لا بأس أن يخسر التاجر عشرة آلاف في زاوية لـ(يربح المليون) في الزاوية الأخرى. لقد حصلت الخسارة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن الربح تحقق من بعد وهو القائل: (لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله)
نزيد العدد أم نغير المجتمع؟:
قد تؤدي المجاملة على حساب الحقائق المزعجة إلى كسب سريع لعدد من الأشخاص قلوا أم كثروا. هذا صحيح وواقع. وقد يغري هذا العدد البعض من (الدعاة) ويجعلهم يتوهمون النجاح دون أن ينتبهوا إلى أن الثمن المدفوع مقدما مقابل هذا النجاح الموهوم باهض جدا لا تعوضه كل الأرباح المتوهمة لأنه هو المجتمع نفسه! فنكون قد ضيعنا الكل مقابل جزء لا قيمة له لا من حيث الكمية ولا من حيث النوعية.
أما الكمية: فما قيمة عشرة أشخاص أو مائة أو حتى ألف في هذا المجتمع المتلاطم؟. ومن باب الطرفة غير البعيدة عن الواقع نقول: إن هذا العدد يمكن الحصول عليه بوسائل أخرى أكثر (هدوءاً) وأبعد عن حصول المشاكل مثل تشجيع الزواج المبكر وتعدد الزوجات دونما داع لهذه الجهود المضنية المزعجة.
وأما من حيث النوعية فإن أغلب هؤلاء الأفراد لم يتغيروا إلى المستوى المطلوب. بل لازالوا يعانون من رواسبهم القديمة التي يعجز المنهج الترضوي عن إزالتها. فهم معرضون للاهتزاز والارتكاس بمجرد أن يسمعوا كلمة الحق والحقيقة المزعجة. أفنظل نكتم عنهم هذه الكلمة؟! فما قيمة الاجتماع على الباطل؟!
نصف سني يساوي نصف رافضي:
إن أنصاف المتغيرين هؤلاء يشكلون خطراً على الصف الداخلي. وذلك من عدة نواح: منها تسلل المدسوسين فيما بينهم الذين يوفر لهم المنهج الترضوي جميع أسباب الحماية ومظلات التستر والاختفاء ليعملوا عملهم في تخريب الصف وكسب ما يستطيعون كسبه إلى جانبهم عن الطريق العلاقات الشخصية وإثارة الشكوك وإلقاء الشبهات في أوساط أهل السنة والتأثير عليهم بشتى الوسائل والحيل.(162/72)
وهناك ناحية أخرى خطرة جداً قد لا ينتبه إليها ألا وهي أن هؤلاء الأنصاف –إذا لم تتوفر لهم فرصة التغيير المطلوب ولا بد أن البعض منهم لن تتوفر له هذه الفرصة فيظل كما هو – سيحسبون مستقبلا على الصف الداخلي ويكون منهم الخطيب والأستاذ والمحاضر والكاتب والمتدين العادي. ولا شك أن ما سوف يطرحونه سيكون مخلوطا وليس صافياً. وعندها -وبعد اكتسابهم للهوية بتأثير الزمن- سيستقبل الوسط هذا الخليط على أنه هو الحق.
فمن الكاسب في هذه الحالة و(لله الدين الخالص) والشيطان يقبل بأي تابع؟! ويمكن تصوير الخطر الناتج بالمثل التالي: افترض أن رافضياً استطاع أن يغير سنيا إلى النصف فصار نصفه رافضياً ونصفه سنياً، وأن هذا الصنف –النصف قد كثر بيننا وصار يتكلم بألسنتنا ويبث أفكاره المشوشة المخلوطة فيما بيننا أليس في هذا خطرٌ علينا؟
والآن قل لي: أليس السني الذي نصفه رافضي يساوي الرافضي الذي تغير فصار نصفه سنيا؟!
لماذا نرفض الأول ونرضى بالثاني؟! ما الفرق؟!
هذا ما أردت قوله لك. إن الصنف -نصف سني = الصنف– نصف رافضي.
وإن هؤلاء الأصناف- الأنصاف ما لم نقطع معهم الشوط إلى نهايته طبقا إلى المنهج القرآني لنغيرهم التغيير المطلوب فانهم يشكلون خطر مستقبلياً علينا لا يقل عن خطر الفرس حين دخلوا في الإسلام جملة واحدة واكتسبوا الهوية على عجرهم وبجرهم، فقاموا بأخطر الأدوار في هدم دولة الإسلام.
إن هؤلاء الأصناف-الأنصاف سيمارسون دورهم -بقصد أو بغير قصد- في تنصيف أهل السنة حتى يتغير وجه السنة الحقيقية ويبدو غريبا على أهلها وهي مرحلة متقدمة باتجاه التشيع الفارسي. إن المنهج الترضوي عاجز كل العجز عن إحداث التغيير المطلوب لهؤلاء الأصناف بل هو صالح جداً لإنتاج المزيد منهم. ولهذا أرى أن السير على هذا المنهج والاستمرار عليه ما هو إلا خطة غير واعية لتشييع أهل السنة فارسياً.
الاعتدال في وسط التطرف اعوجاج:(162/73)
وأخيراً اختم –بحمد الله- هذه الجولة الواسعة بكلام حكيم من حكماء الدعوة والتغيير في هذا العصر هو الدكتور حسن الترابي وهو يتحدث عن سنة من سنن التغيير الاجتماعي:
قال –تحت عنوان: الاعتدال أم الأقدام-:
أن يكون الاتزان بين الثبات والتطور حكمة مطلوبة، فإن مخاطبة المجتمع المسلم الحاضر بمعاني المحافظة والحذر من التغيير بقدر مساو لمخاطبته بدواعي النهضة والحركة، إنما هو في مثل ظروفنا وضع للأمور في غير مواضعها وسبب لإضرار بالغ بالمجتمع ودينه. والخطاب المناسب لمجتمع نائم خامد قرونا طويلة أن نبادره بالمنبهات ودواعي الحركة الحرة. وأن نصيح له أن تيقظ! جاهد! اجتهد! حتى إذا جاد بالحركة وتباركت نهضته لدرجة نخشى عليه فيها الجنوح والفوضى عندئذ يجوز أن ندعوه لما هو الأسلم والأحوط…. وهذه الروح في تربيتنا الدينية لا بد من أن نتجاوزها الآن ولا نتواصى اليوم بالمحافظة بل لا ينبغي إطلاق الدعوة إلى الاعتدال لأننا لو اعتدلنا نكون قد ظلمنا ولو اقتصدنا نكون قد فرطنا.
أما وقع التجديد الديني من حيث اللطف أو العنف فإنه يأتي تبعاً لظروف التحول الاجتماعي. فحين تكون عهود الفترة قد تطاولت وآثار الجمود تراكمت لا يولد العهد التجديدي إلا بعسر شديد، ولا يتم إلا بمجاهدات عظيمة. ويمكن أن يسمى الأمر عندئذ بعثاً أو ثورة لعظم النقلة بين الموات القديم إلى الحياة المنبعثة وفور الحركة الطارئة على السكون القديم.(162/74)
ولما كانت حدة المفارقة وشدة وقعها تستفز القديم المستقر وتزلزل قواعده الجامدة فإن التجديد يغلب أن يستصحب شيئاً من الحدة والشدة فتأتي لغته لاذعة صافعة وتأتي تدابير تنفيذه كثيفة عنيفة. وتؤدي المدافعة الجهادية إلى مجابهة بينة تنصب القديم وحلفاءه في وجه القائمين بالجديد.والأولى بالمسلمين بالطبع أن يرفقوا في الجدال فلا يقولوا إلا التي هي أحسن، وأن يتجنبوا الفتنة والقتال إلا إذا استحكم البغي وصار الجهر بالسوء والانتصار بالقوة ضرورة يقتضيها الواجب من الدين.
إن الجمود والثورة كليهما سبب فتنة في الدين، بل يغري أيهما بالآخر، ذلك أن الجمود يؤدي إلى أن يخلد الإنسان في مقامه بينما يقتضي الدين مقاماً جديداً فتزداد الشقة والغربة بينه وبين دينه، ويزداد بانسلابه من الدين تصلباً في أوهامه وأهوائه حتى لا يترك رجاء للإنابة الرفيقة، ويصبح الإصلاح العنيف لزاما ليكسر حدة المقاومة ويستدرك كل القصور المتراكم وتنبعث الثورة التي تقع عندئذ بقوة اندفاع هائل لتحقيق الإصلاح الشامل(1).
__________
(1) تجديد الفكر الديني /94-96، 166،167 الدكتور حسن الترابي.(162/75)
إن هذا يذكرني بالرد الإلهي العنيف البعيد عن الوسطية على اليهود حين غلوا في شأن القبلة وجعلوا منها قضية ومشكلة اشغلوا بها المجتمع المدني حينا من الزمن، وأثاروا من ورائها غبارا كثيفا من التشكيك والبلبلة ملأ الجو كله. وكانت شبهات قوية كادت تزعزع الصف الداخلي حتى قال سبحانه: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(114)وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(115) } البقرة. لا سيما وقد جندوا اخوانهم المنافقين معهم في هذه المهمة الخطيرة والفتنة المستطيرة.
لقد ناقش القرآن هذا الأمر مطولاً. ومن خلال النقاش نرى أن اليهود قد غلوا في موضوع القبلة -لحاجة في أنفسهم- غلواً كبيراً. فكان الرد من جنس الفعل غلوا في التهوين من شأنها، حتى إن صيغة الخطاب القرآني جاءت تنفي في ظاهرها أن يكون التوجه إلى هذا الاتجاه أو ذاك من البر: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ..(177) } البقرة. مع أن التوجه إلى الكعبة ركن من أركان الصلاة لا تتم إلا به فكيف لا يكون من البر لولا أن الاعتدال والوسطية في وسط الجنوح والتطرف اعوجاج.(162/76)
إن هذا يكشف لنا كشفاً واضحاً أن صيحات الوسطية لا تجدي مع الرافضة كثيراً. وأن علينا إعادة الحساب من جديد في كل ما قيل وطرح من أفكار أثبت الواقع فشلها. ومن القوانين الفيزياوية أن (القوة × ذراعها = المقاومة × ذراعها).وهذا يعني أنه إذا وقف الخصم في طرف المعادلة فليكن وقوفك أنت أو مكانك في الطرف الآخر مبتعداً عن نقطة الوسط بالقدر المكافئ لابتعاد الخصم وقوته حتى يحصل الاعتدال. وإلا فإن الوقوف أو الاستقرار والجمود في نقطة الوسط مع تطرف الخصم لا يحدث الموازنة مهما حاولت، ومهما أرسلت مع الريح رسائل الحب من جانب واحد. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الأحد 18 محرم 1423مـ(162/77)
المصادر
حسب تسلسل ورودها في الكتاب
القرآن الكريم
صحيح مسلم
الإمام مسلم
رياض الصالحين
الإمام النووي
1- دماء على نهر الكرخا
حسن السوداني، ط1 - 1980 - مطبعة الحضارة - بيروت
2- الصراع العراقي الفارسي
مجموعة من المؤرخين، بغداد - 1983
3- دين خميني
صدام حسين
4- جهاد المنافقين
عبد العزيز كامل
5- فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب
حسن محمد تقي علي النوري الطبرسي
6- فقيه من لا يحضره الفقيه
محمد بن علي بن بابويه القمي، ط5 - 1390 - دار الكتب الإسلامية - طهران
7- البيان
أبو القاسم الخوئي، دار التوحيد للنشر والتوزيع، الكويت - 1399 – 1979
8- القرآن وعلماء أصول ومراجع الشيعة الإمامية الإثني عشرية
السيد محمد اسكندر الياسري
9- مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار
أبو الحسن العاملي، دار الكتب العلمية - طهران
10- أصول الكافي
محمد بن يعقوب الكليني، طهران - 1377
11- فروع الكافي
محمد بن يعقوب الكليني، طهران - 1377
12- بحار الأنوار
محمد باقر المجلسي
13- كراسة المسائل الدينية
محمد محمد صادق الصدر
14- منهاج الصالحين
أبو القاسم الخوئي
15- المسائل المنتخبة
أبو القاسم الخوئي، ط15 - 1412-1991
16-المسائل المنتخبة
علي السيستاني، ط9 - 1416 - 1996 - دار المؤرخ العربي
17- الاستبصار
أبو جعفر الطوسي، طهران - 1390
18- طريق النجاة
علي الغروي، 1417
19- منية الصائمين
محمد محمد صادق الصدر، ط1 - 1419 - 1998
20- تحرير الوسيلة
الخميني
21- جامع الأحكام الشرعية
عبد الأعلى السبزواري، مطبعة الآداب - النجف
22- مسائل وردود
محمد محمد صادق الصدر، ط1 - 1416 - 1995
23- عقائد الإمامية الإثني عشرية
إبراهيم الزنجاني، ط2 - 1393 - 1973 -مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت - لبنان
24- الإمامة وقيادة المجتمع
كاظم الحائري(163/1)
25- الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب
يوسف البحراني، قم - 1419
26- مصباح الفقاهة
أبو القاسم الخوئي، ط3 - مطبعة الغدير - 1371
27- إيقاظ
صحيفة تصدرها رابطة أهل السنة في إيران-مكتب لندن
28-أحوال أهل السنة في إيران
عبد الله محمد الغريب،ط1 -1410-1990 -القاهرة
29- الخطة السرية لآيات الشيعة في إيران
الدكتور عبد الرحيم البلوشي
30- خطاب يوم النصر العظيم 8/8/1997
صدام حسين
31- عقائد الشيعة
محمد رضا المظفر، المطبعة الحيدرية - النجف - 1373 - 1954
32- المنهج الحركي للسيرة النبوية
محمد منير الغضبان
33- الشخصية الإيرانية ومكوناتها
جاك ميلوك
34- إيران مستودع البارود
أدور سابيليه
35- التشيع بين مفهوم الأئمة والمفهوم الفارسي
محمد البنداري، ط1 - 1408 - 1988 - دار عمار - عمان
36- المتعة
الدكتورة شهلا حائري، ط7 - 1996 - شركة المطبوعات للتوزيع والنشر - بيروت - لبنان
37- سياحة في عالم التشيع
السيد محب الدين الكاظمي
38- لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث
الدكتور علي الوردي، مطبعة الإرشاد - بغداد- 1969
39- الحقد الفارسي لماذا ؟
المقدم عبد الجبار محمود السامرائي، مطبعة التوجيه السياسي – 1989
40- مقاتل الطالبيين
أبو الفرج الأصفهاني
41- الشذوذ النفسي عن الجنسين
سيجموند فرويد، ط2 - بيروت
42- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين
السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي، ط10 - 1397 - 1977 – دار الأنصار - مصر
43- أبعاد غائبة عن فكر وممارسات الحركات الإسلامية المعاصرة
الدكتور طه جابر العلواني
44- مجلة الفتوى
العدد 88/ 2000
45- مناهج المحدثين في نقد الروايات التاريخية (رسالة دكتوراه)
الدكتور إبراهيم أمين عزيز
46- الغدير في الكتاب والسنة والأدب
عبد الحسين الأميني، دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان - 1387 – 1967(163/2)
47- الشهاب الثاقب المحتج بكتاب الله على الناصب
أبو علي السودائي
48- الفكر الإسلامي المعاصر والتحديات
منير شفيق، ط3 - 1411 - 1991 - دار البراق للنشر – تونس
49- نجوم القرآن المبين في ولاية أمير المؤمنين
عالم سبيط النيلي
50- الوجيز في أصول الفقه
الدكتور عبد الكريم زيدان، ط6 - 1397 - 1977 - الدار العربية للطباعة - بغداد
51- جريدة صوت آل البيت
العدد السادس عشر، مصر
52- مجمل اللغة
أبو الحسين أحمد بن فارس
53- تجديد الفكر الديني
الدكتور حسن الترابي(163/3)
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
كنا في جمعية صلاح الدين نتحدث عن الحاجة إلى كتاب مختصر عن أصول الشيعة الإثني عشرية شريطة أن يستفيد منه العامة والخاصة، وبينما كنا نبحث عمن يكتبه من أهل العلم والاختصاص وصلنا هذا الكتاب "لله.. ثم للتاريخ" لمؤلفه السيد حسين الموسوي من علماء النجف، وبعد قراءته وجدناه يفي بالغرض وزيادة.
أما الزيادة التي نعنيها، فهي مؤلف الكتاب الذي يعتبر عالماً من كبار علماء الشيعة، وبحكم دراسته وتدريسه في حوزات النجف، فقد كانت صلاته قوية مع كبار علماء وآيات الشيعة من أمثال: كاشف الغطاء، والخوئي، والصدر، والخميني، وعبد الحسين شرف الدين الذي كان يتردد على النجف، وفضلاً عن هذا وذاك فقد كان والد المؤلف عالماً من علماء الشيعة.
تحدث المؤلف في كتابه عن غرائب تجاربه مع مراجع الشيعة بأسلوب شيق ومختصر، وبعد ذكر ما كان يحدث له معهم كلهم أو مع واحد منهم كان يرد قراءه إلى أمهات كتبهم التي تنص على مشروعية هذا الفعل القبيح.
وكل من يتناول هذا الكتاب بالقراءة المتأنية سوف يلمس صدق المؤلف [ولا نزكي على الله أحداً]، واختلاف طريقته عن طريقة من سبقه من المؤلفين الشيعة الذين نقدوا بعض أصول مذهبهم.
جزى الله المؤلف كل خير على هذا الكتاب النفيس، وأبعد عنه شرور الحاقدين الموتورين، فقد سمعنا أنهم يتربصون به الدوائر ولهذا فإنه لم يذكر اسمه الصحيح، خوفاً من أن يكتشف أمره ويحصل له ما لا يحمد عقباه[انظر (ص 91) من الكتاب]، والله نسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
... ... ... ... ... جمعية صلاح الدين الخيرية
14 صفر 1422
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وآله الطيبين الطاهرين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.(164/1)
أما بعد: فإن المسلم يعلم أن الحياة تنتهي بالموت، ثم يتقرر المصير: إما إلى الجنة وإما إلى النار، ولا شك أن المسلم حريص على أن يكون من أهل الجنة، لذا لا بد أن يعمل على إرضاء ربه جل وعلا، وأن يبتعد عن كل ما نهى عنه، مما يوقع الإنسان في غضب الله ثم في عقابه، ولهذا نرى المسلم يحرص على طاعة ربه وسلوك كل ما يقربه إليه، وهذا دأب المسلم من عوام الناس، فكيف إذا كان من خواصهم؟.
إن الحياة كما هو معلوم فيها سبل كثيرة ومغريات وفيرة، والعاقل من سلك السبيل الذي ينتهي به إلى الجنة وإن كان صعباً، وأن يترك السبيل الذي ينتهي به إلى النار وإن كان سهلاً ميسوراً.
هذه رواية صيغت على شكل بحث، قلتها بلساني، وقيدتها ببناني قصدت بها وجه الله ونفع إخواني ما دمت حياً قبل أن أُدرج في أكفاني.
ولدت في كربلاء، ونشأت في بيئة شيعية في ظل والدي المتدين.
درست في مدارس المدينة حتى صرت شاباً يافعاً، فبعث بي والدي إلى الحوزة العلمية النجفية أم الحوزات في العالم لأنهل من علم فحول العلماء ومشاهيرهم في هذا العصر أمثال سماحة الإمام السيد محمّد آل الحسين كاشف الغطاء.
درسنا في النجف في مدرستها العلمية العلية، وكانت الأمنية أن يأتي اليوم الذي أصبح فيه مرجعاً دينياً أتبوأ فيه زعامة الحوزة، وأخدم ديني وأمتي وأنهض بالمسلمين.
وكنت أطمح أن أرى المسلمين أمة واحدة، وشعباً واحداً، يقودهم إمام واحد، في الوقت عينه أرى دول الكفر تتحطم وتتهاوى صروحها أمام أمة الإسلام هذه، وهناك أمنيات كثيرة مما يتمناها كل شاب مسلم غيور، وكنت أتساءل:
ما الذي أدى بنا إلى هذه الحال المزرية من التخلف والتمزق والتفرق؟!
وأتساءل عن أشياء أخرى كثيرة تمر في خاطري، كما تمر في خاطر كل شاب مسلم، ولكن لا أجد لهذه الأسئلة جواباً.(164/2)
ويسر الله تعالى لي الالتحاق بالدراسة وطلب العلم، وخلال سنوات الدراسة كانت ترد عليّ نصوص تستوقفني، وقضايا تشغل بالي، وحوادث تحيرني، ولكن كنت أتهم نفسي بسوء الفهم وقلة الإدراك، وحاولت مرة أن أطرح شيئاً من ذلك على أحد السادة من أساتذة الحوزة العلمية، وكان الرجل ذكياً إذ عرف كيف يعالج فيّ هذه الأسئلة، فأراد أن يجهز عليها في مهدها بكلمات يسيرة، فقال لي:
ماذا تدرس في الحوزة؟
قلت له: مذهب أهل البيت طبعاً
فقال لي: هل تشك في مذهب أهل البيت؟!
فأجبته بقوة: معاذ الله.
فقال: إذن أبعد هذه الوساوس عن نفسك فأنت من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وأهل البيت تلقوا عن محمّد صلى الله عليه وآله، ومحمد تلقى من الله تعالى.
سكت قليلاً حتى ارتاحت نفسي، ثم قلت له: بارك الله فيك شفيتني من هذه الوساوس.
ثم عدت إلى دراستي، وعادت إليَّ تلك الأسئلة والاستفسارات، وكلما تقدمت في الدراسة ازدادت الأسئلة وكثرت القضايا والمؤاخذات.
المهم أني أنهيت الدراسة بتفوق حتى حصلت على إجازتي العلمية في نيل درجة الاجتهاد من أوحد زمانه سماحة العميد محمّد الحسين آل كاشف الغطاء زعيم الحوزة، وعند ذلك بدأت أفكر جدياً في هذا الموضوع، فنحن ندرس مذهب أهل البيت، ولكن أجد فيما ندرسه مطاعن في أهل البيت (عليهم السلام) ندرس أمور الشريعة لنعبد الله بها، ولكن فيها نصوصاً صريحة في الكفر بالله تعالى.
أي ربي ما هذا الذي ندرسه؟! أيمكن أن يكون هذا هو مذهب أهل البيت حقاً؟!
إن هذا يسبب انفصاماً في شخصية المرء، إذ كيف يعبد الله وهو يكفر به؟
كيف يقتفي أثر الرسول صلى الله عليه وآله، وهو يطعن به؟!
كيف يتبع أهل البيت ويحبهم ويدرس مذهبهم، وهو يسبهم ويشتمهم؟!(164/3)
رحماك ربي ولطفك بي، إن لم تدركني برحمتك لأكونن من الضالين بل من الخاسرين. وأعود وأسأل نفسي: ما موقف هؤلاء السادة والأئمة وكل الذين تقدموا من فحول العلماء، ما موقفهم من هذا؟ أما كانوا يرون هذا الذي أرى؟ أما كانوا يدرسون هذا الذي درست؟.
بلى، بل إن الكثير من هذه الكتب هي مؤلفاتهم هم، وفيها ما سطرته أقلامهم، فكان هذا يدمي قلبي ويزيده ألماً وحسرة.
وكنت بحاجة إلى شخص أشكو إليه همومي وأبث أحزاني، فاهتديت أخيراً إلى فكرة طيبة وهي دراسة شاملة أعيد فيها النظر في مادتي العلمية، فقرأت كل ما وقفت عليه من المصادر المعتبرة وحتى غير المعتبرة، بل قرأت كل كتاب وقع في يدي، فكانت تستوقفني فقرات ونصوص كنت أشعر بحاجة لأن أعلق عليها، فأخذت أنقل تلك النصوص وأعلق عليها بما يجول في نفسي، فلما انتهيت من قراءة المصادر المعتبرة، وجدت عندي أكداساً من قصاصات الورق فاحتفظت بها عسى أن يأتي يوم يقضي الله فيه أمراً كان مفعولاً.
وبقيت علاقاتي حسنة مع كل المراجع الدينية والعلماء والسادة الذين قابلتهم، وكنت أخالطهم لأصل إلى نتيجة تعينني إذا ما اتخذت يوماً القرار الصعب، فوقفت على الكثير حتى صارت قناعتي تامة في اتخاذ القرار الصعب، ولكني كنت انتظر الفرصة المناسبة. وكنت أنظر إلى صديقي العلامة السيد موسى الموسوي فأراه مثلاً طيباً عندما أعلن رفضه للانحراف الذي طرأ على المنهج الشيعي، ومحاولاته الجادة في تصحيح هذا المنهج. ثم صدر كتاب الأخ السيد أحمد الكاتب (تطور الفكر الشيعي) وبعد أن طالعته وجدت أن دوري قد حان في قول الحق وتبصير إخواني المخدوعين، فإننا كعلماء مسؤولون عنهم يوم القيامة فلا بد لنا من تبصيرهم بالحق وإن كان مراً.
ولعل أسلوبي يختلف عن أسلوب السيدين الموسوي والكاتب في طرح نتاجاتنا العلمية، وهذا بسبب ما توصل إليه كل منا من خلال دراسته التي قام بها.(164/4)
ولعل السيدين المذكورين في ظرف يختلف عن ظرفي، ذلك أن كلاً منهما قد غادر العراق واستقر في دولة من دول الغرب، وبدأ العمل من هناك.
أما أنا فما زلت داخل العراق وفي النجف بالذات، والإمكانات المتوافرة لدي لا ترقى إلى إمكانات السيدين المذكورين، لأني وبعد تفكير طويل في البقاء أو المغادرة، قررت البقاء والعمل هنا صابراً محتسباً ذلك عند الله تعالى، وأنا على يقين أن هناك الكثير من السادة ممن يشعرون بتأنيب الضمير لسكوتهم ورضاهم مما يرونه ويشاهدونه، ومما يقرأونه في أمهات المصادر المتوافرة عندهم، فأسأل الله تعالى أن يجعل كتابي حافزاً لهم في مراجعة النفس وترك سبيل الباطل وسلوك سبيل الحق، فإن العمر قصير والحجة قائمة عليهم، فلم يبق لهم بعد ذلك من عذر.
وهناك بعض السادة ممن تربطني بهم علاقات استجابوا لدعوتي لهم - والحمد لله - فقد اطلعوا على هذه الحقائق التي توصلت إليها وبدؤوا هم أيضاً بدعوة الآخرين فنسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياهم لتبصير الناس بالحقيقة، وتحذيرهم من مغبة الانجراف في الباطل، إنه أكرم مسؤول.
وإني لأعلم أن كتابي هذا سيلقى الرفض والتكذيب والاتهامات الباطلة، وهذا لا يضرني، فإني قد وضعت هذا كله في حسابي، وسيتهمونني بالعمالة لإسرائيل أو أمريكا، أو يتهمونني أني بعت ديني وضميري بعرض من الدنيا، وهذا ليس ببعيد ولا بغريب، فقد اتهموا صديقنا العلامة السيد موسى الموسوي بمثل هذا، حتى قال السيد علي الغروي: إن ملك السعودية فهد بن عبد العزيز قد أغرى الدكتور الموسوي بامرأة جميلة من آل سعود وبتحسين وضعه المادي، فوضع له مبلغاً محترماً في أحد البنوك الأمريكية لقاء انخراطه في مذهب الوهابيين!!.(164/5)
فإذا كان هذا نصيب الدكتور الموسوي من الكذب والافتراء والإشاعات الرخيصة، فما هو نصيبي أنا وماذا سيشيعون عني؟! ولعلهم يبحثون عني ليقتلوني كما قتلوا قبلي من صدع بالحق، فقد قتلوا نجل مولانا الراحل آية الله العظمى الإمام السيد أبي الحسن الأصفهاني أكبر أئمة الشيعة من بعد عصر الغيبة الكبرى وإلى اليوم، وسيد علماء الشيعة بلا منازع عندما أراد تصحيح منهج الشيعة ونبذ الخرافات التي دخلت عليه، فلم يرق لهم ذلك، فذبحوا نجله كما يذبح الكبش ليصدوا هذا الإمام عن منهجه في تصحيح الانحراف الشيعي، كما قتلوا قبله السيد أحمد الكسروي عندما أعلن براءته من هذا الانحراف، وأراد أن يصحح المنهج الشيعي فقطعوه إرباً إرباً.
وهناك الكثيرون ممن انتهوا إلى مثل هذه النهاية جراء رفضهم تلك العقائد الباطلة التي دخلت إلى التشيع، فليس بغريب إذا ما أرادوا لي مثل هذا المصير.
إن هذا كله لا يهمني، وحسبي أني أقول الحق، وأنصح إخواني وأذكرهم وألفت نظرهم إلى الحقيقة، ولو كنت أريد شيئاً من متاع الحياة الدنيا فإن المتعة والخمس كفيلان بتحقيق ذلك لي، كما يفعل الآخرون حتى صاروا هم أثرياء البلد وبعضهم يركب أفضل أنواع السيارات بأحدث موديلاتها، ولكني والحمد لله أعرضت عن هذا كله منذ أن عرفت الحقيقة، وأنا الآن أكسب رزقي ورزق عائلتي بالأعمال التجارية الشريفة.
لقد تناولت في هذا الكتاب موضوعات محددة، ليقف إخواني كلهم على الحقيقة، حتى لا تبقى هناك غشاوة على بصر أي فرد كان منهم.
وفي النية تأليف كتب أخرى تتعلق بموضوعات غير هذه، ليكون المسلمون جميعاً على بينة، فلا يبقى عذراً لغافل أو حجة لجاهل.(164/6)
وأنا على يقين أن كتابي هذا سيلقى القبول عند طلاب الحق - وهم كثيرون والحمد لله - وأما من فضل البقاء في الضلالة -لئلا يخسر مركزه فتضيع منه المتعة والخمس- من (أولئك) الذين لبسوا العمائم وركبوا عجلات (المرسيدس) و(السوبر) فهؤلاء ليس لنا معهم كلام، والله حسيبهم على ما اقترفوا ويقترفون في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
عبد الله بن سبأ
إن الشائع عندنا -معاشر الشيعة- أن عبد الله بن سبأ شخصية وهمية لا حقيقة لها، اخترعها أهل السنة من أجل الطعن بالشيعة ومعتقداتهم، فنسبوا إليه تأسيس التشيع، ليصدوا الناس عنهم وعن مذهب أهل البيت.
وسألت السيد محمّد الحسين آل كاشف الغطاء عن ابن سبأ فقال:
إن ابن سبأ خرافة وضعها الأمويون والعباسيون حقداً على آل البيت الأطهار، فينبغي للعاقل أن لا يشغل نفسه بهذه الشخصية.
ولكني وجدت في كتابه المعروف (أصل الشيعة وأصولها) ص40-41 ما يدل على وجود هذه الشخصية وثبوتها حيث قال: "أما عبد الله بن سبأ الذي يلصقونه بالشيعة أو يلصقون الشيعة به، فهذه كتب الشيعة بأجمعها تعلن بلعنه والبراءة منه..".
ولا شك أن هذا تصريح بوجود هذه الشخصية، فلما راجعته في ذلك قال: إنا قلنا هذا تقية، فالكتاب المذكور مقصود به أهل السنة، ولهذا اتبعت قولي المذكور بقولي بعده: "على أنه ليس من البعيد رأي القائل أن عبد الله بن سبأ (وأمثاله) كلها أحاديث خرافة وضعها القصاصون وأرباب السمر المجوف".
وقد ألف السيد مرتضى العسكري كتابه (عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى) أنكر فيه وجود شخصية ابن سبأ، كما أنكرها أيضاً السيد محمّد جواد مغنية في تقديمه لكتاب السيد العسكري المذكور.(164/7)
وعبد الله بن سبأ هو أحد الأسباب التي ينقم من أجلها أغلب الشيعة على أهل السنة. ولا شك أن الذين تحدثوا عن ابن سبأ من أهل السنة لا يحصون كثرة ولكن لا يعول الشيعة عليهم لأجل الخلاف معهم.
بيد أننا إذا قرأنا كتبنا المعتبرة نجد أن ابن سبأ شخصية حقيقية وإن أنكرها علماؤنا أو بعضهم. وإليك البيان:
1- عن أبي جعفر - عليه السلام -: (أن عبد الله بن سبأ كان يدعي النبوة ويزعم أن أمير المؤمنين هو الله -تعالى عن ذلك- فبلغ ذلك أمير المؤمنين - عليه السلام - فدعاه وسأله فأقر بذلك وقال: نعم أنت هو، وقد كان قد ألقى في روعي أنت الله وأني نبي، فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: ويلك قد سخر منك الشيطان، فارجع عن هذا ثكلتك أمك وتب، فأبى، فحبسه، واستتابه ثلاثة أيام، فلم يتب، فأحرقه بالنار وقال: "إن الشيطان استهواه، فكان يأتيه ويلقي في روعه ذلك").
وعن أبي عبد الله أنه قال: (لعن الله عبد الله بن سبأ، إنه ادعى الربوبية في أمير المؤمنين - عليه السلام -، وكان والله أمير المؤمنين - عليه السلام - عبداً لله طائعاً، الويل لمن كذب علينا، وإن قوماً يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا نبرأ إلى الله منهم، نبرأ إلى الله منهم)، (معرفة أخبار الرجال) للكشي (70-71)، وهناك روايات أخرى.
2- وقال المامقاني: (عبد الله بن سبأ الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلو) وقال: (غال ملعون، حرقه أمير المؤمنين - عليه السلام - بالنار، وكان يزعم أن علياً إله، وأنه نبي) (تنقيح المقال في علم الرجال)، (2/183، 184).(164/8)
3- وقال النوبختي: (السبئية قالوا بإمامة علي وأنها فرض من الله عز وجل وهم أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان ممن أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم وقال: "إن علياً - عليه السلام - أمره بذلك" فأخذه عليّ فسأله عن قوله هذا، فأقر به فأمر بقتله فصاح الناس إليه: يا أمير المؤمنين أتقتل رجلاً يدعو إلى حبكم أهل البيت وإلى ولايتك والبراءة من أعدائك؟ فصيره إلى المدائن.
وحكى جماعة من أهل العلم أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى علياً وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بعد موسى عليه السلام بهذه المقالة، فقال في إسلامه في علي بن أبي طالب بمثل ذلك، وهو أول من شهر القول بفرض إمامة علي - عليه السلام - وأظهر البراءة من أعدائه .. فمن هنا قال من خالف الشيعة: إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية) (فرق الشيعة)، (32-44).
4- وقال سعد بن عبد الله الأشعري القمي في معرض كلامه عن السبئية: (السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ، وهو عبد الله بن وهب الراسبي الهمداني، وساعده على ذلك عبد الله بن خرسي وابن اسود وهما من أجل أصحابه، وكان أول من أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم) (المقالات والفرق)، (20).
5- وقال الصدوق:
وقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: (إذا فرغ أحدكم من الصلاة فليرفع يديه إلى السماء وينصب في الدعاء، فقال ابن سبأ: يا أمير المؤمنين أليس الله عز وجل بكل مكان؟ قال: بلى، قال: فلم يرفع يديه إلى السماء؟
فقال: أو ما تقرأ: { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات:22]، فمن أين يطلب الرزق إلا موضعه؟ وموضعه -الرزق- ما وعد الله عز وجل السماء) (من لا يحضره الفقيه) (1/229).(164/9)
6- وذكر ابن أبي الحديد أن عبد الله بن سبأ قام إلى علي وهو يخطب فقال له: (أنت أنت، وجعل يكررها، فقال له -علي- ويلك من أنا، فقال: أنت الله، فأمر بأخذه وأخذ قوم كانوا معه على رأيه)، شرح نهج البلاغة (5/5).
7- وقال السيد نعمة الله الجزائري:
(قال عبد الله بن سبأ لعلي - عليه السلام -: أنت الإله حقاً، فنفاه علي - عليه السلام - إلى المدائن، وقيل أنه كان يهودياً فأسلم، وكان في اليهودية يقول في يوشع بن نون وفي موسى مثل ما قال في علي) (الأنوار النعمانية) (2/234).
فهذه سبعة نصوص من مصادر معتبرة ومتنوعة بعضها في الرجال وبعضها في الفقه والفرق، وتركنا النقل عن مصادر كثيرة لئلا نطيل كلها تثبت وجود شخصية اسمها عبد الله بن سبأ، فلا يمكننا بعد نفي وجودها خصوصاً وإن أمير المؤمنين - عليه السلام - قد أنزل بابن سبأ عقاباً على قوله فيه بأنه إله، وهذا يعني أن أمير المؤمنين - عليه السلام - قد التقى عبد الله بن سبأ وكفى بأمير المؤمنين حجة فلا يمكن بعد ذلك إنكار وجوده.
نستفيد من النصوص المتقدمة ما يأتي:
1- إثبات وجود شخصية ابن سبأ ووجود فرقة تناصره وتنادي بقوله، وهذه الفرقة تعرف بالسبئية.
2- إن ابن سبأ هذا كان يهودياً فأظهر الإسلام، وهو وإن أظهر الإسلام إلا أن الحقيقة أنه بقي على يهوديته، وأخذ يبث سمومه من خلال ذلك.
3- إنه هو الذي أظهر الطعن في أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة، وكان أول من قال بذلك، وهو أول من قال بإمامة أمير المؤمنين - عليه السلام -، وهو الذي قال بأنه - عليه السلام - وصى النبي صلى الله عليه وآله، وأنه نقل هذا القول عن اليهودية، وأنه ما قال هذا إلا محبة لأهل البيت ودعوة لولايتهم، والتبرؤ من أعدائهم -وهم الصحابة ومن ولاهم بزعمه-.(164/10)
إذن شخصية عبد الله بن سبأ حقيقة لا يمكن تجاهلها أو إنكارها، ولهذا ورد التنصيص عليها وعلى وجودها في كتبنا ومصادرنا المعتبرة، وللاستزادة في معرفة هذه الشخصية، انظر المصادر الآتية:
الغارات للثقفي، رجال الطوسي، الرجال للحلي، قاموس الرجال للتستري، دائرة المعارف المسماة بمقتبس الأثر للأعلمي الحائري، الكنى والألقاب لعباس القمي، حل الإشكال لأحمد بن طاووس المتوفى سنة (673)، الرجال لابن داود، التحرير للطاووسي، مجمع الرجال للقهبائي، نقد الرجال للتفرشي، جامع الرواة للمقدسي الأردبيلي مناقب آل أبي طالب لابن شهر أشوب، مرآة الأنوار لمحمد بن طاهر العاملي، فهذه على سبيل المثال لا الحصر أكثر من عشرين مصدراً من مصادرنا تنص كلها على وجود ابن سبأ، فالعجب كل العجب من فقهائنا أمثال المرتضى العسكري والسيد محمّد جواد مغنية وغيرهما في نفي وجود هذه الشخصية، ولا شك أن قولهم ليس فيه شيء من الصحة.
الحقيقة في انتساب الشيعة لأهل البيت
إن من الشائع عندنا معاشر الشيعة، اختصاصنا بأهل البيت، فالمذهب الشيعي كله قائم على محبة أهل البيت -حسب رأينا- إذ الولاء والبراء مع العامة -وهم أهل السنة- بسبب أهل البيت، والبراءة من الصحابة وفي مقدمتهم الخلفاء الثلاثة وعائشة بنت أبي بكر بسبب الموقف من أهل البيت، والراسخ في عقول الشيعة جميعاً صغيرهم وكبيرهم، عالمهم وجاهلهم، ذكرهم وأنثاهم، أن الصحابة ظلموا أهل البيت، وسفكوا دماءهم واستباحوا حرماتهم.
وإن أهل السنة ناصبوا أهل البيت العداء، ولذلك لا يتردد أحدنا في تسميتهم بالنواصب، ونستذكر دائماً دم الحسين الشهيد - عليه السلام -، ولكن كتبنا المعتبرة عندنا تبين لنا الحقيقة، إذ تذكر لنا تذمر أهل البيت صلوات الله عليهم من شيعتهم، وتذكر لنا ما فعله الشيعة الأوائل بأهل البيت، وتذكر لنا من الذي سفك دماء أهل البيت عليهم السلام، ومن الذي تسبب في مقتلهم واستباحة حرماتهم.(164/11)
قال أمير المؤمنين - عليه السلام -: (لو ميزت شيعتي لما وجدتهم إلا واصفة، ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين، ولو تمحصتهم لما خلص من الألف واحد) (الكافي/الروضة 8/338).
وقال أمير المؤمنين - عليه السلام -:
(يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال، لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة جرت والله ندماً وأعقبت صدماً.. قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرعتموني نغب التهام أنفاساً، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب، ولكن لا رأي لمن لا يطاع) (نهج البلاغة 70، 71).
وقال لهم موبخاً: منيت بكم بثلاث، واثنتين:
(صم ذوو أسماع، وبكم ذوو كلام، وعمي ذوو أبصار، لا أحرار صدق عند اللقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء .. قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها) (نهج البلاغة 142).
قال لهم ذلك بسبب تخاذلهم وغدرهم بأمير المؤمنين - عليه السلام - وله فيهم كلام كثير.
وقال الإمام الحسين - عليه السلام - في دعائه على شيعته:
(اللهم إن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترض الولاة عنهم أبداً، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا فقتلونا) (الإرشاد للمفيد 241).
وقد خاطبهم مرة أخرى ودعا عليهم، فكان مما قال:
(لكنكم استسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الدبا، وتهافتم كتهافت الفراش، ثم نقضتموها، سفهاً وبعداً وسحقاً لطواغيت هذه الأمة وبقية الأحزاب ونبذة الكتاب، ثم انتم هؤلاء تتخاذلون عنا وتقتلوننا، ألا لعنة الله على الظالمين) (الاحتجاج 2/24).
وهذه النصوص تبين لنا من هم قتلة الحسين الحقيقيون، إنهم شيعته أهل الكوفة، أي أجدادنا، فلماذا نحمل أهل السنة مسؤولية مقتل الحسين - عليه السلام -؟!
ولهذا قال السيد محسن الأمين:(164/12)
(بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفاً، غدروا به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم، وقتلوه) (أعيان الشيعة/القسم الأول 34).
وقال الحسن - عليه السلام -:
(أرى والله معاوية خيراً لي من هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي وأخذوا مالي، والله لأن آخذ من معاوية ما أحقن به من دمي وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي، والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوا بي إليه سلماً، ووالله لأن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير) (الاحتجاج 2/10).
وقال الإمام زين العابدين - عليه السلام - لأهل الكوفة:
(هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق ثم قاتلتموه وخذلتموه .. بأي عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يقول لكم: قاتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أمتي) (الاحتجاج 2/32).
وقال أيضاً عنهم:
(إن هؤلاء يبكون علينا فمن قتلنا غيرهم؟) (الاحتجاج 2/29).
وقال الباقر - عليه السلام -:
(لو كان الناس كلهم لنا شيعة لكان ثلاثة أرباعهم بنا شكاكاً والربع الآخر أحمق) (رجال الكشي 79).
وقال الصادق - عليه السلام -:
(أما والله لو أجد منكم ثلاثة مؤمنين يكتمون حديثي ما استحللت أن أكتمهم حديثاً) (أصول الكافي 1/496).
وقالت فاطمة الصغرى عليها السلام في خطبة لها في أهل الكوفة:(164/13)
(يا أهل الكوفة، يا أهل الغدر والمكر والخيلاء، إنا أهل البيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا فجعل بلاءنا حسناً .. فكفرتمونا وكذبتمونا ورأيتم قتالنا حلالاً وأموالنا نهباً .. كما قتلتم جدنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت .. تباً لكم فانتظروا اللعنة والعذاب فكأن قد حل بكم .. ويذيق بعضكم بأس ما تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين. تباً لكم يأهل الكوفة، كم قرأت لرسول الله صلى الله عليه وآله قبلكم، ثم غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب وجدي، وبنيه وعترته الطيبين.
فرد علينا أحد أهل الكوفة مفتخراً فقال:
نحن قتلنا علياً وبني علي ... بسيوف هندية ورماحِ
وسبينا نساءهم سبي تركٍ ... ونطحناهمُ فأيُّ نطاحِ (الاحتجاج 2/28)
وقالت زينب بنت أمير المؤمنين صلوات الله عليها لأهل الكوفة تقريعاً لهم: (أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر والخذل .. إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، هل فيكم إلا الصلف والعجب والشنف والكذب .. أتبكون أخي؟! أجل والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فقد ابليتم بعارها .. وانى ترخصون قتل سليل خاتم النبوة ..) (الاحتجاج 2/29-30).
نستفيد من هذه النصوص وقد -أعرضنا عن كثير غيرها- ما يأتي:
1- ملل وضجر أمير المؤمنين وذريته من شيعتهم أهل الكوفة لغدرهم ومكرهم وتخاذلهم.
2- تخاذل أهل الكوفة وغدرهم تسبب في سفك دماء أهل البيت واستباحة حرماتهم.
3- إن أهل البيت عليهم السلام يحملون شيعتهم مسؤولية مقتل الحسين - عليه السلام - ومن معه وقد اعترف أحدهم برده على فاطمة الصغرى بأنهم هم الذين قتلوا علياً وبنيه وسبوا نساءهم كما قدمنا لك.(164/14)
4- إن أهل البيت عليهم السلام دعوا على شيعتهم ووصفوهم بأنهم طواغيت هذه الأمة وبقية الأحزاب ونبذة الكتاب، ثم زادوا على تلك بقولهم: ألا لعنة الله على الظالمين ولهذا جاؤوا إلى أبي عبد الله - عليه السلام -، فقالوا له:
(إنا قد نبزنا نبزاً أثقل ظهورنا وماتت له أفئدتنا، واستحلت له الولاة دماءنا في حديث رواه لهم فقهاؤهم، فقال أبو عبد الله عليه السلام: الرافضة؟ قالوا: نعم، فقال: لا والله ما هم سموكم .. ولكن الله سماكم به) (الكافي 5/34).
فبين أبو عبد الله أن الله سماهم (الرافضة) وليس أهل السنة.
لقد قرأت هذه النصوص مراراً، وفكرت فيها كثيراً، ونقلتها في ملف خاص وسهرت الليالي ذوات العدد أنعم النظر فيها -وفي غيرها الذي بلغ أضعاف أضعاف ما نقلته لك- فلم أنتبه لنفسي إلا وأنا أقول بصوت مرتفع: كان الله في عونكم يا أهل البيت على ما لقيتم من شيعتكم.
نحن نعلم جميعاً ما لاقاه أنبياء الله ورسله عليهم السلام من أذى أقوامهم، وما لاقاه نبينا صلى الله عليه وآله، ولكني عجبت من اثنين، من موسى - عليه السلام - وصبره على بني إسرائيل، إذ نلاحظ أن القرآن الكريم تحدث عن موسى - عليه السلام - أكثر من غيره، وبين صبره على أكثر أذى بني إسرائيل ومراوغاتهم وحبائلهم ودسائسهم.
وأعجب من أهل البيت سلام الله عليهم على كثرة ما لقوه من أذى من أهل الكوفة وعلى عظيم صبرهم على أهل الكوفة مركز الشيعة، على خيانتهم لهم وغدرهم بهم وقتلهم لهم وسلبهم أموالهم، وصبر أهل البيت على هذا كله، ومع هذا نلقي باللائمة على أهل السنة ونحملهم المسؤولية!.
وعندما نقرأ في كتبنا المعتبرة نجد فيها عجباً عجاباً، قد لا يصدق أحدنا إذا قلنا: إن كتبنا معاشر الشيعة -تطعن بأهل البيت عليهم السلام وتطعن بالنبي صلى الله عليه وآله- وإليك البيان:(164/15)
عن أمير المؤمنين - عليه السلام - إن غُفيراً -حمار رسول الله صلى الله عليه وآله- قال له: بأبي أنت وأمي -يا رسول الله- إن أبي حدثني عن أبيه عن جده عن أبيه: (أنه كان مع نوح في السفينة، فقام إليه نوح فمسح على كفله ثم قال: يخرج من صلب هذا الحمار حمار يركبه سيد النبيين وخاتمهم، فالحمد لله الذي جعلني ذلك الحمار) (أصول الكافي 1/237).
وهذه الرواية تفيدنا بما يأتي:
1- الحمار يتكلم!
2- الحمار يخاطب رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله: فداك أبي وأمي!، مع أن المسلمين هم الذين يفدون رسول الله صلوات الله عليه بآبائهم وأمهاتهم لا الحمير.
3- الحمار يقول: (حدثني أبي عن جدي إلى جده الرابع!) مع أن بين نوح ومحمد ألوفاً من السنين، بينما يقول الحمار أن جده الرابع كان مع نوح في السفينة. كنا نقرأ أصول الكافي مرة مع بعض طلبة الحوزة في النجف على الإمام الخوئي فرد الإمام الخوئي قائلاً:
انظروا إلى هذه المعجزة، نوح سلام الله عليه يخبر بمحمد - عليه السلام - وبنبوته قبل ولادته بألوف السنين.
بقيت كلمات الإمام الخوئي تتردد في مسمعي مدة وأنا أقول في نفسي:
وكيف يمكن أن تكون هذه معجزة وفيها حمار يقول لرسول الله صلى الله عليه وآله: بأبي أنت وأمي؟! وكيف يمكن لأمير المؤمنين سلام الله عليه أن ينقل مثل هذه الرواية؟!.
لكني سكت كما سكت غيري من السامعين.
ونقل الصدوق عن الرضا - عليه السلام - في قوله تعالى: { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } [الأحزاب:37]، قال الرضا مفسراً هذه الآية:
(إن رسول الله صلى الله عليه وآله قصد دار زيد بن حارثة في أمر أراده، فرأى امرأته زينب تغتسل فقال لها: سبحان الذي خلقك) (عيون أخبار الرضا 112).(164/16)
فهل ينظر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى امرأة رجل مسلم ويشتهيها ويعجب بها ثم يقول لها سبحان الذي خلقك؟!، أليس هذا طعناً برسول الله صلى الله عليه وآله؟!.
وعن أمير المؤمنين أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وعنده أبو بكر وعمر (فجلست بينه وبين عائشة، فقالت عائشة: ما وجدت إلا فخذي وفخذ رسول الله؟ فقال: مه يا عائشة) (البرهان في تفسير القرآن 4/225).
وجاء مرة أخرى فلم يجد مكاناً فأشار إليه رسول الله: ههنا -يعني خلفه- وعائشة قائمة خلفه وعليها كساء: فجاء علي - عليه السلام - فقعد بين رسول الله وبين عائشة، فقالت وهي غاضبة: (ما وجدت لاستك -دبرك أو مؤخرتك- موضعاً غير حجري؟ فغضب رسول الله وقال: يا حميراء لا تؤذيني في أخي) (كتاب سليم بن قيس 179).
وروى المجلسي أن أمير المؤمنين قال: (سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وآله، ليس له خادم غيري، وكان له لحاف ليس له غيره، ومعه عائشه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله ينام بيني وبين عائشة ليس علينا ثلاثتنا لحاف غيره، فإذا قام إلى الصلاة -صلاة الليل- يحط بيده اللحاف من وسطه بيني وبين عائشة حتى يمس اللحاف الفراش الذي تحتنا) (بحار الأنوار 40/2).
هل يرضى رسول الله صلى الله عليه وآله أن يجلس علي في حجر عائشة امرأته؟ ألا يغار رسول الله صلى الله عليه وآله على امرأته وشريكة حياته إذا تركها في فراش واحد مع ابن عمه الذي لا يعتبر من المحارم؟ ثم كيف يرتضي أمير المؤمنين ذلك لنفسه؟!.
قال السيد علي غروي أحد أكبر العلماء في الحوزة: (إن النبي صلى الله عليه وآله لا بد أن يدخل فرجه النار، لأنه وطئ بعض المشركات) يريد بذلك زواجه من عائشة وحفصة، وهذا كما هو معلوم فيه إساءة إلى النبي صلى الله عليه وآله، لأنه لو كان فرج رسول الله صلى الله عليه وآله يدخل النار فلن يدخل الجنة أحد أبداً.
أكتفي بهذه الروايات الست المتعلقة برسول الله صلوات الله عليه لأنتقل إلى غيرها.(164/17)
فقد أوردوا روايات في أمير المؤمنين - عليه السلام - هذه بعضها:
عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: (أتى عمر بامرأة قد تعلقت برجل من الأنصار كانت تهواه، فأخذت بيضة وصبت البياض على ثيابها وبين فخذيها فقام علي فنظر بين فخذيها فاتهمها) (بحار الأنوار (40/303).
ونحن نتساءل هل ينظر أمير المؤمنين بين فخذي امرأة أجنبية؟ وهل يعقل أن ينقل الإمام الصادق هذا الخبر؟ وهل يقول هذا الكلام رجل أحب أهل البيت؟
وعن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: قامت امرأة شنيعة إلى أمير المؤمنين وهو على المنبر فقالت: هذا قاتل الأحبة، فنظر إليها وقال لها:
(يا سلفع يا جريئة يا بذيّة يا مذكرّة يا التي لا تحيض كما تحيض النساء يا التي علي منها شيء بين مدلى) (البحار 41/293).
فهل يتلفظ أمير المؤمنين بمثل هذا الكلام البذئ؟ هل يخاطب امرأة بقوله يا التي علي منها شيء بين مدلى؟ وهل ينقل الصادق - عليه السلام - مثل هذا الكلام الباطل؟ لو كانت هذه الروايات في كتب أهل السنة لأقمنا الدنيا ولم نقعدها، ولفضحناهم شر فضيحة، ولكن في كتبنا نحن الشيعة!
وفي الاحتجاج للطبرسي أن فاطمة سلام الله عليها قالت لأمير المؤمنين - عليه السلام -:
يا ابن أبي طالب! اشتملت مشيمة الجنين وقعدت حجرة الظنين. وروى الطبرسي في الاحتجاج أيضاً كيف أن عمر ومن معه اقتادوا أمير المؤمنين - عليه السلام - والحبل في عنقه وهم يجرونه جراً حتى انتهى به إلى أبي بكر ثم نادى بقوله: ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني!! ونحن نسأل يا ترى أكان أمير المؤمنين جباناً إلى هذا الحد؟
وانظر وصفهم لأمير المؤمنين - عليه السلام - إذ قالت فاطمة عنه.
(إن نساء قريش تحدثني عنه إنه رجل دحداح البطن، طويل الذراعين ضخم الكراديس، أنزع، عظيم العينين، لمنكبه مشاش كمشاش البعير، ضاحك السن لا مال له) (تفسير القمي 2/336).
وعن أبي إسحاق أنه قال:(164/18)
(أدخلني أبي المسجد يوم الجمعة فرفعني فرأيت علياً يخطب على المنبر شيخاً، أصلع، ناتئ الجبهة، عريض ما بين المنكبين في عينه اطرغشاش (يعني لين في عينه) مقاتل الطالبين).
فهل كانت هذه أوصاف أمير المؤمنين - عليه السلام -؟؟
نكتفي بهذا القدر لننتقل إلى روايات تتعلق بفاطمة سلام الله عليها.
روى أبو جعفر الكليني في أصول الكافي أن فاطمة أخذت بتلابيب عمر إليها، وفي كتاب سليم بن قيس (أنها سلام الله عليها تقدمت إلى أبي بكر وعمر في قضية فدك وتشاجرت معهما، وتكلمت في وسط الناس وصاحت وجمع الناس إليها) (253).
فهل كانت عرمة حتى تفعل هذا؟
وروى الكليني في الفروع أنها سلام الله عليها ما كانت راضية بزواجها من علي - عليه السلام - إذ دخل عليها أبوها - عليه السلام - وهي تبكي فقال لها: ما يبكيك؟ فوالله لو كان في أهلي خير منه ما زوجتكه، وما أنا زوجتك ولكن الله زوجك، ولما دخل عليها أبوها صلوات الله عليه ومعه بريده: لما أبصرت أباها دمعت عيناها، قال ما يبكيك يا بنيتي؟ قالت: (قلة الطعم، وكثرة الهم، وشدة الغم، وقالت في رواية: والله لقد اشتد حزني واشتدت فاقتي وطال سقمي) (كشف الغمة 1/149-150) وقد وصفوا علياً - عليه السلام - وصفاً جامعاً فقالوا: (كان - عليه السلام - أسمر مربوعاً، وهو إلى القصر أقرب، عظيم البطن، دقيق الأصابع، غليظ الذراعين حَمِش الساقين في عينه لين عظيم اللحية أصلع، ناتئ الجبهة) (مقاتل الطالبين 27).(164/19)
فإذا كانت هذه أوصاف أمير المؤمنين كما يقولون فكيف يمكن أن ترضى به؟ ونكتفي بهذه النصوص حرصاً على عدم الإطالة، وكانت الرغبة أن ننقل ما ورد من نصوص بحق كل واحد من الأئمة عليهم السلام، ثم عدلنا عن ذلك إلى الاكتفاء بخمس روايات وردت بحق كل واحد، ثم رأينا أن الأمر أيضاً يطول إذ نقلنا خمس روايات وردت بحق النبي صلوات الله عليه وخمساً أخرى بحق أمير المؤمنين وخمساً أخرى بحق فاطمة سلام الله عليها فاستغفرق ذلك صفحات عديدة، لذلك سنحاول أن نختصر أكثر حتى نطلع على خفايا أكثر.
نقل الكليني في الأصول من الكافي: أن جبريل نزل على محمّد صلى الله عليه وآله فقال له: يا محمّد إن الله يبشرك بمولود يولد من فاطمة تقتله أمتك من بعدك فقال: يا جبريل وعلى ربي السلام، لا حاجة لي في مولود يولد من فاطمة، تقتله أمتي من بعدي، فعرج ثم هبط فقال مثل ذلك: يا جبريل وعلى ربي السلام، لا حاجة لي في مولود تقتله أمتي من بعدي. فعرج ثم هبط فقال مثل ذلك: يا جبريل وعلى ربي السلام لا حاجة لي في مولود تقتله أمتي من بعدي. فعرج جبريل إلى السماء ثم هبط فقال: يا محمّد إن ربك يقرئك السلام ويبشرك بأنه جاعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية، فقال: إني رضيت، ثم أرسل إلى فاطمة أن الله يبشرني بمولود يولد لك تقتله أمتي من بعدي، فأرسلت إليه أن لا حاجة لي في مولود تقتله أمتك من بعدك، وأرسل إليها إن الله عز وجل جعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية، فأرسلت إليه إني رضيت، فحملته كرهاً .. ووضعته كرهاً ولم يرضع الحسين من فاطمة عليها السلام ولا من أنثى، كان يؤتى بالنبي صلى الله عليه وآله فيضع إبهامه في فيه فيمص ما يكفيه اليومين والثلاثة).(164/20)
ولست أدري هل كان رسول الله صلى الله عليه وآله يرد أمراً بشره الله به؟ وهل كانت الزهراء سلام الله عليها ترد أمراً قد قضاه الله وأراد تبشيرها به فتقول: (لا حاجة لي به)؟. وهل حملت بالحملين وهي كارهة له ووضعته وهي كارهة له؟ وهل امتنعت عن ارضاعه حتى كان يؤتى بالنبي صلوات الله عليه ليرضعه من إبهامه ما يكفيه اليومين والثلاثة؟
إن سيدنا ومولانا الحسين الشهيد سلام الله عليه أجل وأعظم من أن يقال بحقه مثل هذا الكلام، وهو أجل وأعظم من أن تكره أمه حمله ووضعه. إن نساء الدنيا يتمنين أن تلد كل واحدة منهن عشرات الأولاد مثل الإمام الحسين سلام ربي عليه، فكيف يمكن للزهراء الطاهرة العفيفة أن تكره حمل الحسين وتكره وضعه وتمتنع عن إرضاعه؟؟
في جلسة ضمت عدداً من السادة وطلاب الحوزة العلمية تحدث الإمام الخوئي فيها عن موضوعات شتى ثم ختم كلامه بقوله: قاتل الله الكفرة. قلنا: من هم؟ قال: النواصب -أهل السنة- يسبون الحسين صلوات الله عليه بل يسبون أهل البيت!!.
ماذا أقول للإمام الخوئي؟!
لما زوج أمير المؤمنين - عليه السلام - ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب، نقل أبو جعفر الكليني عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه قال في ذلك الزواج: (إن ذلك فرج غصبناه!!!) (فروع الكافي 2/141).
ونسأل قائل هذا الكلام: هل تزوج عمر أم كلثوم زواجاً شرعياً أم اغتصبها غصباً؟ إن الكلام المنسوب إلى الصادق - عليه السلام - واضح المعنى، فهل يقول أبو عبد الله مثل هذا الكلام الباطل عن ابنة المرتضى - عليه السلام -؟
ثم لو كان عمر اغتصب أم كلثوم فكيف رضي أبوها أسد الله وذو الفقار وفتى قريش بذلك؟!.
عندما نقرأ في الروضة من الكافي (8/101)، في حديث أبي بصير مع المرأة التي جاءت إلى أبي عبد الله تسأل عن (أبي بكر وعمر) فقال لها: توليهما، قالت: فأقول لربي إذا لقيته أنك أمرتني بولايتهما؟ قال: نعم.(164/21)
فهل الذي يأمر بتولي عمر نتهمه بأنه اغتصب امرأة من أهل البيت؟؟
لما سألت الإمام الخوئي عن قول أبي عبد الله للمرأة بتولي أبي بكر وعمر، قال: إنما قال لها ذلك تقية!!.
وأقول للإمام الخوئي: إن المرأة كانت من شيعة أهل البيت، وأبو بصير من أصحاب الصادق - عليه السلام - فما كان هناك موجب للقول بالتقية لو كان ذلك صحيحاً، فالحق إن هذا التبرير الذي قال به أبو القاسم الخوئي غير صحيح.
وأما الحسن - عليه السلام - فقد روى المفيد في الإرشاد عن أهل الكوفة أنهم: شدوا على فسطاطه وانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته فبقى جالساً متقلداً السيف بغير رداء) (ص190) أيبقى الحسن - عليه السلام - بغير رداء مكشوف العورة أمام الناس؟ أهذه محبة؟.
ودخل سفيان بن أبي ليلى على الحسن - عليه السلام - وهو في داره فقال للإمام الحسن: (السلام عليك يا مذل المؤمنين! قال وما علمك بذلك؟ قال: عمدت إلى أمر الأمة فخلعته من عنقك، وقلدته هذه الطاغية يحكم بغير ما أنزل الله؟) (رجال الكشي 103).
هل كان الحسن - عليه السلام - مذلاً للمؤمنين؟ أم أنه كان معزاً لهم لأنه حقن دمائهم ووحد صفوفهم بتصرفه الحكيم ونظره الثاقب؟
فلو أن الحسن - عليه السلام - حارب معاوية وقاتله على الخلافة لأريق بحر من دماء المسلمين، ولقتل منهم عدد لا يحصيه إلا الله تبارك وتعالى، ولمزقت الأمة تمزيقاً ولما قامت لها قائمة من ذلك الوقت.
وللأسف فإن هذا القول ينسب إلى أبي عبد الله - عليه السلام - ووالله إنه لبريء من هذا الكلام وأمثاله.
وأما الإمام الصادق فقد ناله منهم شتى أنواع الأذى ونسبوا إليه كل قبيح، اقرأ معي هذا النص:
عن زرارة قال: (سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن التشهد .. قلت التحيات والصلوات .. فسألته عن التشهد فقال كمثله، قال: التحيات والصلوات، فلما خرجت ضرطت في لحيته وقلت: لا يفلح أبداً) (رجال الكشي 142).(164/22)
حق لنا أن نبكي دماً على الإمام الصادق - عليه السلام - نعم ..كلمة قذرة كهذه تقال في حق الإمام أبي عبد الله؟ أيضرط زرارة في لحية أبي عبد الله - عليه السلام -؟! أيقول عن الصادق - عليه السلام - لا يفلح أبداً؟؟
لقد مضى على تأليف كتاب الكشي عشرة قرون، وتداولته أيدي علماء الشيعة كلهم على اختلاف فرقهم، فما رأيت أحداً منهم اعترض على هذا الكلام أو أنكره أو نبه عليه، وحتى الإمام الخوئي، لما شرع في تأليف كتابه الضخم (معجم رجال الحديث) فإني كنت أحد الذين ساعدوه في تأليف هذا السفر وفي جمع الروايات من بطون الكتب، لما قرأنا هذه الرواية على مسمعه أطرق قليلاً، ثم قال: لكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة، ما زاد على ذلك، ولكن أيها الإمام الجليل إن الهفوة تكون بسبب غفلة أو خطأ غير مقصود، إن قوة العلاقة بك إذا كنت لك بمنزلة الولد للوالد، وكنت مني بمنزلة الوالد لولده تحتم علي أن أحمل كلامك على حسن النية وسلامة الطوية وإلا لما كنت أرضى منك السكوت على هذه الإهانة على الإمام الصادق أبي عبد الله - عليه السلام -.
وقال ثقة الإسلام الكليني (حدثني هشام بن الحكم وحماد عن زرارة قال: قلت في نفسي: شيخ لا علم له بالخصومة -والمراد إمامه-)
وقد كتبوا في شرح هذا الحديث:
إن هذا الشيخ عجوز لا عقل له ولا يحسن الكلام مع الخصم.
فهل الإمام الصادق (لا عقل له)؟.
إن قلبي ليعتصر ألماً وحزناً، فإن هذا السباب وهذه الشتائم وهذه الجرأة لا يستحقها أهل البيت الكرام، فينبغي التأدب معهم.
وأما العباس وابنه عبد الله، وابنه الآخر عبيد الله، وعقيل عليهم السلام جميعاً فلم يسلموا من الطعن والغمز واللمز، اقرأ معي هذه النصوص.
روى الكشي أن قوله تعالى: { لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } نزلت فيه -أي في العباس- (رجال الكشي 54).(164/23)
وقوله تعالى: { وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً } وقوله تعالى: { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ } نزلنا فيه (52-53) وروى الكشي أيضاً أن أمير المؤمنين - عليه السلام - دعا على عبد الله بن العباس وأخيه عبيدالله فقال: (اللهم العن ابني فلان -يعني عبد الله وعبيدالله- واعم أبصارهما كما عميت قلوبهما الأجلين في رقبتي، واجعل عمى أبصارهما دليلاً على عمى قلوبهما) (52).
وروى ثقة الإسلام أبو جعفر الكليني في الفروع عن الإمام الباقر قال في أمير المؤمنين: (وبقي معه رجلان ضعيفان ذليلان حديثا عهد بالإسلام، عباس وعقيل)
إن الآيات الثلاث التي زعم الكشي أنها نزلت في العباس معناها الحكم عليه بالكفر والخلود في النار يوم القيامة، وإلا قل لي بالله عليك ما معنى قوله: { فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً } ؟.
وأما أن أمير المؤمنين - عليه السلام - دعا على ولدي العباس عبد الله وعبيدالله باللعن وعمى البصر وعمى القلب فهذا تكفير لهما.
إن عبد الله بن العباس تلقبه العامة -أهل السنة- بترجمان القرآن وحبر الأمة، فكيف نلعنه نحن وندعي محبة أهل البيت عليهم السلام؟
وأما عقيل - عليه السلام - فهو أخو أمير المؤمنين فهل هو ذليل وحديث عهد بالإسلام؟!
وأما الإمام زين العابدين علي بن الحسين فقد روى الكليني: أن يزيد بن معاوية سأله أن يكون عبداً له، فرضي - عليه السلام - أن يكون عبداً ليزيد إذ قال له: (قد أقررت لك بما سألت، أنا عبد مكره فإن شئت فأمسك وإن شئت فبع) (الروضة من الكافي 8/235).
فانظر قوله وانظر معناه:
(قد أقررت بأني عبد لك، وأنا عبد مكره فإن شئت فأبقني عبداً لك وإن شئت أن تبيعني فبعني) فهل يكون الإمام - عليه السلام - عبداً ليزيد يبيعه متى شاء، ويبقي عليه متى شاء؟(164/24)
إذا أردنا أن نستقصي ما قيل في أهل البيت جميعاً فإن الكلام يطول بنا إذ لم يسلم واحد منهم من كلمة نابية أو عبارة قبيحة أو عمل شنيع فقد نسبت إليهم أعمال شنيعة كثيرة وفي أمهات مصادرنا وسيأتيك شيء من ذلك في فصل قادم.
إقرأ معي هذه الرواية:
عن أبي عبد الله - عليه السلام -: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله لا ينام حتى يقبل عرض وجه فاطمة) (بحار الأنوار 43/42).
(وكان يضع وجهه الكريم بين ثديي فاطمة عليها السلام) (بحار الأنوار 43/78).
إن فاطمة سلام الله عليها امرأة بالغة فهل يعقل أن يضع رسول الله وجهه بين ثدييها؟! فإذا كان هذا نصيب رسول الله صلوات الله عليه ونصيب فاطمة فما نصيب غيرهما؟ لقد شكوا في الإمام محمّد القانع هل هو ابن الرضا أم أنه ابن (..).
إقرأ معي هذا النص:
عن علي بن جعفر الباقر أنه قيل للرضا - عليه السلام -:
(ما كان فينا إمام قط حائل اللون -أي تغير واسود- فقال لهم الرضا - عليه السلام -: هل ابني، قالوا: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قد قضى بالقافة -مفردها قائف وهو الذي يعرف الآثار والأشباه ويحكم بالنسب- فبيننا وبينك القافة، قال: ابعثوا أنتم إليه فأما أنا فلا، ولا تعلموهم لما دعوتهم ولتكونوا في بيوتكم.(164/25)
فلما جاءوا أقعدونا في البستان واصطف عمومته واخوته وأخواته، وأخذوا الرضا - عليه السلام -، وألبسوه جبة صوف وقلنسوة منها، ووضعوا على عنقه مسحاة وقالوا له: ادخل البستان كأنك تعمل فيه، ثم جاءوا بأبي جعفر - عليه السلام - فقالوا: الحقوا هذا الغلام بأبيه، فقالوا: ليس له ههنا أب ولكن هذا عم أبيه، وهذا عمه وهذه عمته، وإن يكن له ههنا أب فهو صاحب البستان، فإن قدميه وقدميه واحدة، فلما رجع أبو الحسن قالوا: هذا أبوه) (أصول الكافي 1/322)، أي أنهم شكوا في كون محمّد القانع سلام الله عليه ابن الرضا - عليه السلام -، بينما يؤكد الرضا - عليه السلام - أنه ابنه، وأما الباقون فإنهم أنكروا ذلك ولهذا قالوا: (ما كان فينا إمام قط حائل اللون) ولا شك أن هذا طعن في عرض الرضا - عليه السلام - واتهام لامرأته وشك في عفتها، ولهذا ذهبوا فأتوا بالقافة، وحكم القافة بأن محمداً القانع هو ابن الرضا - عليه السلام - لصلبه، عند ذلك رضوا وسكتوا.
من الممكن اتهام الآخرين بمثل هذه التهمة، وقد يصدق الناس ذلك، أما اتهام أهل البيت صلوات الله عليهم فهذا من أشنع ما يكون، وللأسف فإن مصادرنا التي نزعم أنها نقلت علم أهل البيت مليئة بمثل هذا الباطل ولا حول ولا قوة إلا بالله. عندما قرأنا هذا النص أيام دراستنا في الحوزة مر عليه علماؤنا ومراجعنا مرور الكرام، وما زلت أذكر تعليل الخوئي عندما عرضت عليه هذا النص إذ قال ناقلاً عن السيد آل كاشف الغطاء: إنما فعلوا ذلك لحرصهم على بقاء نسلهم نقياً!!.
بل اتهموا الرضا سلام الله عليه بأنه كان يعشق بنت عم المأمون وهي تعشقه، (انظر عيون أخبار الرضا 153).
ولقبوا جعفراً بجعفر الكذاب فسبوه وشتموه مع أنه أخو الحسن العسكري فقال الكليني: (هو معلن الفسق فاجر، ماجن شريب للخمور أقل ما رأيته من الرجال وأهتكهم لنفسه، خفيف قليل في نفسه) (أصول الكافي 1/504).(164/26)
فهل في أهل البيت سلام الله عليهم شريب خمر؟! أو فاسق؟ أو فاجر؟
إذا أردنا أن نعرف تفاصيل أكثر فعلينا أن نقرأ المصادر المعتبرة عندنا لنعرف ماذا قيل في حق الباقين منهم عليهم السلام، ولنعرف كيف قتلت ذرياتهم الطاهرة وأين قتلوا؟ ومن الذين قتلهم؟
لقد قتل عدد كبير منهم في ضواحي بلاد فارس بأيدي أناس من تلك المناطق، ولولا أني أخشى الإطالة أكثر مما ذكرت، لذكرت أسماء من أحصيته منهم وأسماء من قتلهم، ولكن أحيل القارئ الكريم إلى كتاب مقاتل الطالبين للأصفهاني فإنه كفيل ببيان ذلك.
وأعلم أن أكثر من تعرض للطعن والغمز واللمز الإمامان محمّد الباقر وابنه جعفر الصادق عليهما السلام وعلى آبائهما، فقد نسبت إليهم أغلب المسائل كالقول بالتقية والمتعة واللواطة بالنساء وإعارة الفرج و.. و.. إلخ
وهما سلام الله عليهما بريئان من هذا كله.
المتعة وما يتعلق بها
كنت أود أن أجعل عنوان هذا الفصل (المرأة عند الشيعة) لكني عدلت عن ذلك لأني رأيت أن كل الروايات التي روتها كتبنا تنسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وإلى أمير المؤمنين وأبي عبد الله - عليه السلام - وغيرهما من الأئمة.
فما أردت أن يصيب الأئمة عليهم السلام أي طعن لأن في تلك الروايات من قبيح الكلام ما لا يرضاه أحدنا لنفسه فكيف يرضاه لرسول الله صلى الله عليه وآله وللأئمة عليهم السلام.
لقد استغلت المتعة أبشع استغلال، وأهينت المرأة شر إهانة، وصار الكثيرون يشبعون رغباتهم الجنسية تحت ستار المتعة وباسم الدين، عملاً بقوله تعالى: { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } [النساء:24]، لقد أوردوا روايات في الترغيب بالمتعة، وحددوا أو رتبوا عليها الثواب وعلى تاركها العقاب، بل اعتبروا كل من لم يعمل بها ليس مسلماً. اقرأ معي هذه النصوص:(164/27)
قال النبي صلى الله عليه وآله: (من تمتع بامرأة مؤمنة كأنما زار الكعبة سبعين مرة) فهل الذي يتمتع كمن زار الكعبة سبعين مرة؟ وبمن؟ بامرأة مؤمنة؟ وروى الصدوق عن الصادق - عليه السلام - قال:
(إن المتعة ديني ودين آبائي فمن عمل بها عمل بديننا، ومن أنكرها أنكر ديننا، واعتقد بغير ديننا) (من لا يحضره الفقيه 3/366) وهذا تكفير لمن لم يقبل بالمتعة.
وقيل لأبي عبد الله - عليه السلام -: هل للمتمتع ثواب؟ قال: (إن كان يريد بذلك وجه الله لم يكلمها كلمة إلا كتب الله له بها حسنة، فإذا دنا منها غفر الله له بذلك ذنباً، فإذا اغتسل غفر الله له بقدر ما مر من الماء على شعره) (من لا يحضره الفقيه 3/366).
وقال النبي صلى الله عليه وآله: (من تمتع مرة أمن سخط الجبار، ومن تمتع مرتين حشر مع الأبرار، ومن تمتع ثلاث مرات زاحمني في الجنان) (من لا يحضره الفقيه 3/366)، قلت: ورغبة في نيل هذا الثواب فإن علماء الحوزة في النجف وجميع الحسينيات ومشاهد الأئمة يتمتعون بكثرة، وأخص بالذكر منهم السيد الصدر والبروجرودي والشيرازي والقزويني والطباطبائي، والسيد المدني إضافة إلى الشاب الصاعد أبو الحارث الياسري وغيرهم، فإنهم يتمتعون بكثرة وكل يوم رغبة في نيل هذا الثواب ومزاحمة النبي صلوات الله عليه في الجنان.
وروى السيد فتح الله الكاشاني في تفسير منهج الصادقين عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: من تمتع مرة كانت درجته كدرجة الحسين - عليه السلام -، ومن تمتع مرتين فدرجته كدرجة الحسن - عليه السلام -، ومن تمتع ثلاث مرات كانت درجته كدرجة علي بن أبي طالب - عليه السلام - ومن تمتع أربع فدرجته كدرجتي).
لو فرضنا أن رجلاً قذراً تمتع مرة أفتكون درجته كدرجة الحسين - عليه السلام -؟ وإذا تمتع مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً كانت درجة الحسن وعلي والنبي عليهم السلام؟ أمنزلة النبي صلوات الله عليه ومنزلة الأئمة هينة إلى هذا الحد؟؟(164/28)
وحتى ولو كان المتمتع هذا قد بلغ في الإيمان مرتبة عالية أيكون كدرجة الحسين؟ أو أخيه؟ أو أبيه أو جده؟
إن مقام الحسين أسمى وأعلى من أن يبلغه أحد مهما كان قوي الإيمان، ودرجة الحسن وعلي والنبي عليهم السلام جميعاً لا يبلغها أحد مهما سما وعلا إيمانه.
لقد أجازوا التمتع حتى بالهاشمية كما روى ذلك الطوسي في (التهذيب 2/193).
أقول: إن الهاشميات أرفع من أن يتمتع بهن، فهن سليلات النبوة ومن أهل البيت فحاشا لهن ذلك، وسيأتي السبب إن شاء الله، وقد بين الكليني أن المتعة تجوز ولو لضجعة واحدة بين الرجل والمرأة، وهذا منصوص عليه في فروع (الكافي 5/460).
ولا يشترط أن تكون المتمتع بها بالغة راشدة، بل قالوا يمكن التمتع بمن في العاشرة من العمر ولهذا روى الكليني في (الفروع 5/463)، والطوسي في (التهذيب 7/255)، أنه قيل لأبي عبد الله - عليه السلام -:
(الجارية الصغيرة هل يتمتع بها الرجل؟ فقال: نعم إلا أن تكون صبية تخدع. قيل: وما الحد الذي إذا بلغته لم تخدع؟ قال: عشر سنين).
وهذه النصوص كلها سيأتي الرد عليها إن شاء الله، ولكني أقول: إن ما نسب إلى أبي عبد الله - عليه السلام - في جواز التمتع بمن كانت في العاشرة من عمرها، أقول: قد ذهب بعضهم إلى جواز التمتع بمن هي دون هذا السن.
لما كان الإمام الخميني مقيماً في العراق كنا نتردد إليه ونطلب منه العلم حتى صارت علاقتنا معه وثيقة جداً، وقد اتفق مرة أن وجهت إليه دعوة من مدينة تلعفر وهي مدينة تقع غرب الموصل على مسيرة ساعة ونصف تقريباً بالسيارة، فطلبني للسفر معه فسافرت معه، فاستقبلونا وأكرمونا غاية الكرم مدة بقائنا عند إحدى العوائل الشيعية المقيمة هناك، وقد قطعوا عهداً بنشر التشيع في تلك الأرجاء وما زالوا يحتفظون بصورة تذكارية لنا تم تصويرها في دارهم.(164/29)
ولما انتهت مدة السفر رجعنا، وفي طريق عودتنا ومرورنا في بغداد أراد الإمام أن نرتاح من عناء السفر، فأمر بالتوجه إلى منطقة العطيفية حيث يسكن هناك رجل إيراني الأصل يقال له سيد صاحب، كانت بينه وبين الإمام معرفة قوية.
فرح سيد صاحب بمجيئنا، وكان وصولنا إليه عند الظهر، فصنع لنا غداء فاخراً واتصل ببعض أقاربه فحضروا وازدحم منزله احتفاء بنا، وطلب سيد صاحب إلينا المبيت عنده تلك الليلة فوافق الإمام، ثم لما كان العشاء أتونا بالعشاء، وكان الحاضرون يقبلون يد الإمام ويسألونه ويجيب عن أسئلتهم، ولما حان وقت النوم وكان الحاضرون قد انصرفوا إلا أهل الدار، أبصر الإمام الخميني صبية بعمر أربع سنوات أو خمس ولكنها جميلة جداً، فطلب الإمام من أبيها سيد صاحب إحضارها للتمتع بها فوافق أبوها بفرح بالغ، فبات الإمام الخميني والصبية في حضنه ونحن نسمع بكاءها وصريخها.
المهم أنه أمضى تلك الليلة فلما أصبح الصباح وجلسنا لتناول الإفطار نظر إلي فوجد علامات الإنكار واضحة في وجهي؛ إذ كيف يتمتع بهذه الطفلة الصغيرة وفي الدار شابات بالغات راشدات كان بإمكانه التمتع بإحداهن فلم يفعل؟
فقال لي: سيد حسين ما تقول في التمتع بالطفلة؟
قلت له: سيد القول قولك، والصواب فعلك، وأنت إمام مجتهد، ولا يمكن لمثلي أن يرى أو يقول إلا ما تراه أنت أو تقوله، -ومعلوم أني لا يمكنني الاعتراض وقتذاك-.
فقال: سيد حسين؛ إن التمتع بها جائز ولكن بالمداعبة والتقبيل والتفخيذ.
أما الجماع فإنها لا تقوى عليه.
وكان الإمام الخميني يرى جواز التمتع حتى بالرضيعة فقال: (لا بأس بالتمتع بالرضيعة ضماً وتفخيذاً -أي يضع ذكره بين فخذيها- وتقبيلاً) انظر كتابه (تحرير الوسيلة 2/241 مسألة رقم 12).
جلست مرة عند الإمام الخوئي في مكتبه، فدخل علينا شابان يبدوا أنهما اختلفا في مسألة فاتفقا على سؤال الإمام الخوئي ليدلهما على الجواب.(164/30)
فسأله أحدهما قائلاً: سيد ما تقول في المتعة أحلال هي أم حرام؟
نظر إليه الإمام الخوئي وقد أوجس من سؤاله أمراً ثم قال له: أين تسكن؟ قال الشاب السائل: أسكن الموصل وأقيم هنا في النجف منذ شهرين تقريباً.
قال له الإمام: أنت سني إذن؟
قال الشاب: نعم.
قال الإمام: المتعة عندنا حلال وعندكم حرام.
فقال له الشاب: أنا هنا منذ شهرين تقريباً غريب في هذه الديار فهلا زوجتني ابنتك لأتمتع بها ريثما أعود إلى أهلي؟
فحملق فيه الإمام هنيهة ثم قال له: أنا سيد وهذا حرام على السادة وحلال عند عوام الشيعة.
ونظر الشاب إلى السيد الخوئي وهو مبتسم ونظرته توحي أنه علم أن الخوئي قد عمل بالتقية.
ثم قاما فانصرفا، فاستأذنت الإمام الخوئي في الخروج فلحقت بالشابين فعلمت أن السائل سني وصاحبه شيعي اختلفا في المتعة أحلال أم حرام فاتفقا على سؤال المرجع الديني الإمام الخوئي، فلما حادثت الشابين انفجر الشاب الشيعي قائلاً: يا مجرمين تبيحون لأنفسكم التمتع ببناتنا وتخبروننا بأنه حلال وأنكم تتقربون بذلك إلى الله، وتحرمون علينا التمتع ببناتكم؟
وراح يسب ويشتم، وأقسم أنه سيتحول إلى مذهب أهل السنة، فأخذت أهدئ به ثم أقسمت له أن المتعة حرام وبينت له الأدلة على ذلك.
إن المتعة كانت مباحة في العصر الجاهلي، ولما جاء الإسلام أبقى عليها مدة ثم حرمت يوم خيبر، لكن المتعارف عليه عند الشيعة عند جماهير فقهائنا أن عمر بن الخطاب هو الذي حرمها، وهذا ما يرويه بعض فقهائنا.
والصواب في المسألة أنها حرمت يوم خيبر.
قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه:
(حرم رسول الله صلى الله عليه وآله يوم خيبر لحوم الحمر الأهلية ونكاح المتعة) انظر (التهذيب 2/186)، (الاستبصار 2/142)، (وسائل الشيعة 14/441).
وسئل أبو عبد الله - عليه السلام -:
(كان المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله يتزوجون بغير بينة؟ قال: لا) (انظر التهذيب 2/189).(164/31)
وعلق الطوسي على ذلك بقوله: إنه لم يرد من ذلك النكاح الدائم بل أراد منه المتعة ولهذا أورد هذا النص من باب المتعة.
لا شك أن هذين النصين حجة قاطعة في نسخ حكم المتعة وإبطاله.
وأمير المؤمنين صلوات الله عليه نقل تحريمها عن النبي صلى الله عليه وآله وهذا يعني أن أمير المؤمنين قد قال بحرمتها من يوم خيبر، ولا شك أن الأئمة من بعده قد عرفوا حكم المتعة بعد علمهم بتحريمها، وهنا نقف بين أخبار منقولة وصريحة في تحريم المتعة وبين أخبار منسوبة إلى الأئمة في الحث عليها وعلى العمل بها.
وهذه مشكلة يحتار المسلم إزاءها أيتمتع أم لا؟
إن الصواب هو ترك المتعة لأنها حرام كما ثبت نقله عن أمير المؤمنين - عليه السلام -، وأما الأخبار التي نسبت إلى الأئمة؛ فلا شك أن نسبتها إليهم غير صحيحة بل هي أخبار مفتراة عليهم، إذ ما كان للأئمة عليهم السلام أن يخالفوا أمراً حرمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسار عليه أمير المؤمنين من بعده، وهم -أي الأئمة- الذين تلقوا هذا العلم كابراً عن كابر لأنهم ذرية بعضها من بعض.
لما سئل أبو عبد الله - عليه السلام -: (كان المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله يتزوجون بغير بينة؟ قال: لا) فلولا علمه بتحريم المتعة لما قال: لا، خصوصاً وإن الخبر صحيح في أن السؤال كان عن المتعة وأن أبا جعفر الطوسي راوي الخبر أورده في باب المتعة كما أسلفنا.
وما كان لأبي عبد الله والأئمة من قبله ومن بعده أن يخالفوا أمر رسول الله صلوات الله عليه أو أن يحلوا أمراً حرمه أو أن يتبدعوا شيئاً ما كان معروفاً في عهده - عليه السلام -.
وبذلك يتبين أن الأخبار التي تحث على التمتع ما قال الأئمة منها حرفاً واحداً، بل افتراها وتقولها عليهم أناس زنادقة أرادوا الطعن بأهل البيت الكرام والإساءة إليهم، وإلا بم تفسر إباحتهم التمتع بالهاشمية وتكفيرهم لمن لا يتمتع؟(164/32)
مع أن الأئمة عليهم السلام لم ينقل عن واحد منهم نقلاً ثابتاً أنه تمتع مرة أو قال بحلية المتعة، أيكونون قد دانوا بغير دين الإسلام؟
فإذا توضح لنا هذا ندرك أن الذين وضعوا تلك الأخبار هم قوم زنادقة أرادوا الطعن بأهل البيت والأئمة عليهم السلام، لأن العمل بتلك الأخبار فيه تكفير للأئمة .. فتنبه.
روى الكليني عن أبي عبد الله - عليه السلام - أن امرأة جاءت إلى عمر بن الخطاب فقالت: (إني زنيت، فأمر أن ترجم، فأخبر أمير المؤمنين - عليه السلام - فقال: كيف زنيت؟
فقالت: مررت بالبادية فأصابني عطش شديد فاستسقيت أعرابياً فأبى إلا إن مكنته من نفسي، فلما أجهدني العطش وخفت على نفسي سقاني فأمكنته من نفسي، فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: تزويج ورب الكعبة) (الفروع 2/198).
إن المتعة كما هو معروف تكون عن تراض بين الطرفين وعن رغبة منهما.
أما في هذه الرواية فإن المرأة المذكورة مضطرة ومجبورة فساومها على نفسها مقابل شربة ماء، وليست هي في حكم الزانية حتى تطلب من عمر أن يطهرها وفوق ذلك -وهذا مهم- إن أمير المؤمنين - عليه السلام - هو الذي روى تحريم المتعة في نقله عن النبي صلى الله عليه وآله يوم خيبر فكيف يفتي هنا بأن هذا نكاح متعة؟! وفتواه على سبيل الحل والإقرار والرضا منه بفعل الرجل والمرأة!!؟
إن هذه الفتوى لو قالها أحد طلاب العلم لعدت سقطة بل غلطة يعاب عليه بسببها، فكيف تنسب إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - وهو من هو في العلم والفتيا؟
إن الذي نسب هذه الفتوى لأمير المؤمنين إما حاقد أراد الطعن به، وإما ذو غرض وهو اخترع هذه القصة فنسبها لأمير المؤمنين ليضفي الشرعية على المتعة كي يسوغ لنفسه ولأمثاله استباحة الفروج باسم الدين حتى وإن أدى ذلك إلى الكذب على الأئمة عليهم السلام بل على النبي صلى الله عليه وآله.
وإن المفاسد المترتبة على المتعة كبيرة ومتعددة الجوانب:(164/33)
1- فهي مخالفة للنصوص الشرعية لأنها تحليل لما حرم الله.
2- لقد ترتب على هذا اختلاق الروايات الكاذبة ونسبتها إلى الأئمة عليهم السلام مع ما في تلك الروايات من مطاعن قاسية لا يرضاها لهم من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
3- ومن مفاسدها إباحة التمتع بالمرأة المحصنة -أي المتزوجة- رغم أنها في عصمة رجل دون علم زوجها، وفي هذه الحالة لا يأمن الأزواج على زوجاتهم فقد تتزوج المرأة متعة دون علم زوجها الشرعي ودون رضاه، وهذه مفسدة ما بعدها مفسدة، انظر (فروع الكافي 5/463)، (تهذيب الأحكام 7/554)، (الاستبصار 3/145)، وليت شعري ما رأي الرجل وما شعوره إذا اكتشف أن امرأته التي في عصمته متزوجة من رجل آخر غيره زواج متعة؟!
4- والآباء أيضاً لا يأمنون على بناتهم الباكرات إذ قد يتزوجن متعة دون علم آبائهن، وقد يفاجأ الأب أن ابنته الباكر قد حملت، .. لم؟ كيف؟ لا يدري .. ممن؟ لا يدري أيضاً فقد تزوجت من واحد فمن هو؟ لا أحد يدري لأنه تركها وذهب.
5- إن أغلب الذين يتمتعون، يبيحون لأنفسهم التمتع ببنات الناس، ولكن لو تقدم أحد لخطبة بناتهم أو قريباتهم فأراد أن يتزوجها متعة، لما وافق ولما رضي، لأنه يرى هذا الزواج أشبه بالزنا وإن هذا عار عليه، وهو يشعر بهذا من خلال تمتعه ببنات الناس فلا شك أنه يمتنع عن تزويج بناته للآخرين متعة، أي أنه يبيح لنفسه التمتع ببنات الناس وفي المقابل يحرم على الناس أن يتمتعوا ببناته.
إذا كانت المتعة مشروعة أو أمراً مباحاً، فلم هذا التحرج في إباحة تمتع الغرباء ببناته وقريباته؟
6- إن المتعة ليس فيها إشهاد ولا إعلان ولا رضى ولي أمر المخطوبة، ولا يقع شيء من ميراث المتمتع للمتمتع بها، إنما هي مستأجرة كما نسب ذلك القول إلى أبي عبد الله - عليه السلام - فكيف يمكن إباحتها وإشاعتها بين الناس؟(164/34)
7- إن المتعة فتحت المجال أمام الساقطين والساقطات من الشباب والشابات في لصق ما عندهم من فجور بالدين، وأدى ذلك إلى تشويه صورة الدين والمتدينين.
وبذلك يتبين لنا أضرار المتعة دينياً واجتماعياً وخلقياً، ولهذا حرمت المتعة ولو كان فيها مصالح لما حرمت، ولكن لما كانت كثيرة المفاسد حرمها رسول الله صلى الله عليه وآله، وحرمها أمير المؤمنين - عليه السلام -.
تنبيه:
سألت الإمام الخوئي عن قول أمير المؤمنين في تحريم المتعة يوم خيبر، وعن قول أبي عبد الله في إجابة السائل عن الزواج بغير بينة أكان معروفاً على عهد النبي - عليه السلام -؟ فقال: إن قول أمير المؤمنين - عليه السلام - في تحريم المتعة يوم خيبر إنما يشمل تحريمها في ذلك اليوم فقط لا يتعدى التحريم إلى ما بعده.
وأما قول أبي عبد الله للسائل، فقال الإمام الخوئي: إنما قال أبو عبد الله ذلك تقية وهذا متفق عليه بين فقهائنا.
قلت: والحق إن قول فقهائنا لم يكن صائباً، ذلك أن تحريم المتعة يوم خيبر صاحبه تحريم لحوم الحمر الأهلية وتحريم لحوم الحمر الأهلية جرى العمل عليه من يوم خيبر وإلى يومنا هذا وسيبقى إلى قيام الساعة.
فدعوى تخصيص تحريم المتعة بيوم خيبر فقط دعوى مجردة لم يقم عليها دليل، خصوصاً وأن حرمة لحوم الحمر الأهلية والتي هي قرينة المتعة في التحريم بقي العمل عليها إلى يومنا هذا.
وفوق ذلك لو كان تحريم المتعة خاصاً بيوم خيبر فقط، لورد التصريح من النبي صلى الله عليه وآله بنسخ تلك الحرمة، على أنه يجب أن لا يغيب عن بالنا أن علة إباحة المتعة هي السفر والحرب، فكيف تحرم في تلك الحرب والمقاتل أحوج ما يكون إليها خصوصاً وأنه في غربة من أهله وما ملكت يمينه، ثم تباح في السلم؟
إن معنى قوله - عليه السلام - إنها حرمت يوم خيبر أي أن بداية تحريمها كان يوم خيبر وأما أقوال فقهائنا إنما هو تلاعب في النصوص لا أكثر.(164/35)
فالحق إن تحريم المتعة ولحوم الحمر الأهلية متلازمان، نزل الحكم بحرمتها يوم خيبر وهو باقٍ إلى قيام الساعة، وليس هناك من داعٍ لتأويل كلام أمير المؤمنين - عليه السلام - من أجل إشباع رغبات النفس وشهواتها في البحث الدائم عن الجميلات والفاتنات من النساء للتمتع بهن والتلذذ باسم الدين وعلى حسابه.
وأما أن قول أبي عبد الله - عليه السلام - في جوابه للسائل كان تقية، أقول: إن السائل كان من شيعة أبي عبد الله فليس هناك ما يبرر القول بالتقية خصوصاً وانه يوافق الخبر المنقول عن الأمير - عليه السلام - في تحريم المتعة يوم خيبر.
إن المتعة التي أباحها فقهاؤنا تعطي الحق للرجل في أن يتمتع بعدد لا حصر له من النسوة، ولو بألف امرأة وفي وقت واحد.
وكم من متمتع جمع بين المرأة وأمها، وبين المرأة وأختها، وبين المرأة وعمتها أو خالتها وهو لا يدري.
جاءتني امرأة تستفسر مني عن حادثة حصلت معها، إذ أخبرتني أن أحد السادة وهو السيد حسين الصدر كان قد تمتع بها قبل أكثر من عشرين سنة فحملت منه، فلما أشبع رغبته منها فارقها، وبعد مدة رزقت ببنت، وأقسمت أنها حملت منه هو إذ لم يتمتع بها وقتذاك أحد غيره.
وبعد أن كبرت البنت وصارت شابة جميلة متأهلة للزواج، اكتشفت الأم أن ابنتها حبلى، فلما سألتها عن سبب حملها، أخبرتها البنت أن السيد المذكور استمتع بها فحملت منه، فدهشت الأم وفقدت صوابها، إذ أخبرت ابنتها أن هذا السيد هو أبوها وأخبرتها القصة، فكيف يتمتع بالأم واليوم يأتي ليتمتع بابنتها التي هي ابنته هو؟
ثم جاءتني مستفسرة عن موقف السيد المذكور منها ومن ابنتها التي ولدتها منه.
إن الحوادث من هذا النوع كثيرة جداً، فقد تمتع أحدهم بفتاة تبين له فيما بعد أنها أخته من المتعة، ومنهم من تمتع بامرأة أبيه.(164/36)
وفي إيراد الحوادث من هذا القبيل لا يستطيع أحد حصرها، وقد رأينا ذلك بقول الله تعالى: { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [النور:23]، فمن لم يتمكن من الزواج الشرعي بسبب قلة ذات اليد فعليه بالاستعفاف ريثما يرزقه الله من فضله كي يستطيع الزواج.
فلو كانت المتعة حلالاً لما أمره بالاستعفاف والانتظار ريثما تتيسر أمور الزواج بل لأرشده إلى المتعة كي يقضي وطره بدلاً من المكوث والتحرق بنار الشهوة.
وقال الله تعالى: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } -إلى قوله- { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النساء:25].
فأرشد الذين لا يستطيعون الزواج لقلة ذات اليد أن يتزوجوا مما ملكت أيمانهم، ومن عجز حتى عن ملك اليمين؛ أمره بالصبر، ولو كانت المتعة حلالاً لأرشده إليها.
ولا بد لنا أن ننقل نصوصاً أخرى عن الأئمة عليهم السلام في إثبات تحريم المتعة:
عن عبد الله بن سنان قال سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن المتعة فقال: (لا تدنس نفسك بها) (بحار الأنوار 100/318).
وهذا صريح في قول أبي عبد الله - عليه السلام - إن المتعة تدنس النفس ولو كانت حلالاً لما صارت في هذا الحكم، ولم يكتف الصادق - عليه السلام - بذلك بل صرح بتحريمها:
عن عمار قال: قال أبو عبد الله - عليه السلام - لي ولسليمان بن خالد: (قد حرمت عليكما المتعة) (فروع الكافي 2/48)، (وسائل الشيعة 14/450).
وكان - عليه السلام - يوبخ أصحابه ويحذرهم من المتعة فقال: أما يستحي أحدكم أن يرى موضع فيحمل ذلك على صالحي إخوانه وأصحابه؟ (الفروع 2/44)، (وسائل الشيعة 1/450).(164/37)
ولما سأل علي بن يقطين أبا الحسن - عليه السلام - عن المتعة أجابه: (ما أنت وذاك؟ قد أغناك الله عنها) (الفروع 2/43)، الوسائل (14/449).
نعم إن الله تعالى أغنى الناس عن المتعة بالزواج الشرعي الدائم.
ولهذا لم ينقل أن أحداً تمتع بامرأة من أهل البيت عليهم السلام، فلو كان حلالاً لفعلن، ويؤيد ذلك أن عبد الله بن عمير قال لأبي جعفر - عليه السلام -: (يسرك أن نساءك وبناتك وأخواتك وبنات عمك يفعلن؟ -أي يتمتعن- فأعرض عنه أبو جعفر - عليه السلام - حين ذكر نساءه وبنات عمه) (الفروع 2/42)، (التهذيب 2/186)، وبهذا يتأكد لكل مسلم عاقل أن المتعة حرام، لمخالفتها لنصوص القرآن الكريم وللسنة ولأقوال الأئمة عليهم السلام.
والناظر للآيات القرآنية الكريمة والنصوص المتقدمة في تحريم المتعة -إن كان طالباً للحق محباً له- لا يملك إلا أن يحكم ببطلان تلك الروايات التي تحث على المتعة لمعارضتها لصريح القرآن وصريح السنة المنقولة عن أهل البيت عليهم السلام ولما يترتب عليها من مفاسد لا حصر لها بينا شيئاً منها فيما مضى.
إن من المعلوم أن دين الإسلام جاء ليحث على الفضائل وينهى عن الرذائل، وجاء ليحقق للعباد المصالح التي تستقيم بها حياتهم، ولا شك أن المتعة مما لا تستقيم بها الحياة إن حققت للفرد مصلحة واحدة -افتراضاً- فإنها تسبب مفاسد جملة أجملناها في النقاط الماضية.(164/38)
إن انتشار العمل بالمتعة جر إلى إعارة الفرج، وإعارة الفرج معناها أن يعطي الرجل امرأته أو أمته إلى رجل آخر فيحل له أن يتمتع بها أو أن يصنع بها ما يريد، فإذا ما أراد رجل ما أن يسافر أودع امرأته عند جاره أو صديقه أو أي شخص كان يختاره، فيبيح له أن يصنع بها ما يشاء طيلة مدة سفره. والسبب معلوم حتى يطمئن الزوج على امرأته لئلا تزني في غيابه (!!) وهناك طريقة ثانية لإعارة الفرج إذا نزل أحد ضيفاً عند قوم، وأرادوا إكرامه فإن صاحب الدار يعير امرأته للضيف طيلة مدة إقامته عندهم، فيحل له منها كل شيء، وللأسف يروون في ذلك روايات ينسبونها إلى الإمام الصادق - عليه السلام - وإلى أبيه أبي جعفر سلام الله عليه.
روى الطوسي عن محمّد عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت:
(الرجل يحل لأخيه فرج جاريته؟ قال: نعم لا بأس به له ما أحل له منها) (الاستبصار 3/136).
وروى الكليني والطوسي عن محمّد بن مضارب قال: قال لي أبو عبد الله - عليه السلام -: (يا محمّد خذ هذه الجارية تخدمك وتصيب منها، فإذا خرجت فارددها إلينا) (الكافي؟)، (الفروع 2/200)، (الاستبصار 3/136).
قلت: لو اجتمعت البشرية بأسرها فأقسمت أن الإمامين الصادق والباقر عليهما السلام قالا هذا الكلام ما أنا بمصدق؟
إن الإمامين سلام الله عليهما أجل وأعظم من أن يقولا مثل هذا الكلام الباطل، فلا يبيحا هذا العمل المقزز الذي يتنافى مع الخلق الإسلامي الرفيع، بل هذه هي الدياثة، لا شك أن الأئمة سلام الله عليهم ورثوا هذا العلم كابراً عن كابر فنسبة هذا القول وهذا العمل إليهما إنما هو نسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فهو إذن تشريع إلهي.
في زيارتنا للهند ولقائنا بأئمة الشيعة هناك كالسيد النقوي وغيره مررنا بجماعة من الهندوس وعبدة البقر والسيخ وغيرهم من أتباع الديانات الوثنية، وقرأنا كثيراً فما وجدنا ديناً من تلك الأديان الباطلة يبيح هذا العمل ويحله لأتباعه.(164/39)
فكيف يمكن لدين الإسلام أن يبيح مثل هذا العمل الخسيس الذي يتنافى مع أبسط مقومات الأخلاق؟
زرنا الحوزة القائمية في إيران فوجدنا السادة هناك يبيحون إعارة الفروج، وممن أفتى بإباحة ذلك السيد لطف الله الصافي وغيره ولذا فإن موضوع إعارة الفرج منتشر في عموم إيران، واستمر العمل به حتى بعد الإطاحة بالشاه محمّد رضا بهلوي ومجيء آية الله العظمى الإمام الخميني الموسوي، وبعد رحيل الإمام الخميني أيضاً استمر العمل عليه، وكان هذا أحد الأسباب(1) التي أدت إلى فشل أول دولة شيعية في العصر الحديث، كان الشيعة في عموم بلاد العالم يتطلعون إليها، مما حدا بمعظم السادة إلى التبرء منها، بل ومهاجمتها أيضاً، فهذا صديقنا العلامة السيد موسى الموسوي سماها (الثورة البائسة) وألف كتباً وبحوثاً ونشر مقالات في مهاجمتها وبيان أخطائها.
وقال السيد جواد الموسوي: إن الثورة الإسلامية في إيران ليس لها من الإسلام إلا الاسم.
وكان آية الله العظمى السيد محمّد كاظم شريعتمداري من أشد المعارضين لها لما رآه من انحراف واضح عن جادة الإسلام.
وهناك كثير من السادة ممن أعرفهم معرفة شخصية انتقدوا حكومة الإمام الخميني ونفروا منها.
__________
(1) - لقد خاب ظني وظن كثير من السادة بحكومة الإمام الخميني، فكنا نتوقع أن تكون إيران معقل الإسلام، ولكن للأسف فقد بدأت تصفية المعارضين وإراقة دمائهم مع عوائلهم، وصارت أنهار الدماء تجري بلا رحمة، وكان يفترض أن يتم القضاء على ما أحدثه آل بهلوي من فساد، ولكن الفساد استمر حتى بعد مجيء الإمام الخميني، فالحمامات مختلطة رجالاً ونساءً، والزنا كان علناً وأصبح سراً ولكن بصورة أوسع، والتبرج بقي كما هو بحيث تخرج المرأة بالبنطال وبكامل زينتها وقد وضعت فقط غطاء الرأس عدا الرشوة والسرقة وغيرها.(164/40)
ومما يؤسف له أن السادة هنا أفتوا بجواز إعارة الفرج، وهناك كثير من العوائل في جنوب العراق وفي بغداد في منطقة الثورة ممن يمارس هذا الفعل بناء على فتاوى كثير من السادة منهم السيستاني والصدر والشيرازي والطباطبائي والبروجردي وغيرهم، وكثير منهم إذا حل ضيفاً عند أحد استعار منه امرأته إذا رآها جميلة، وتبقى مستعارة عنده حتى مغادرته.
إن الواجب أن نحذر العوام من هذا الفعل الشنيع، وأن لا يقبلوا فتاوى السادة بإباحة هذا العمل المقزز الذي كان للأصابع الخفية التي تعمل من وراء الكواليس الدور الكبير في دسه في الدين ونشره بين الناس.
ولم يقتصر الأمر على هذا، بل أباحوا اللواطة بالنساء ورووا أيضاً روايات نسبوها إلى الأئمة سلام الله عليهم، فقد روى الطوسي عن عبد الله بن أبي اليعفور قال: (سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن الرجل يأتي المرأة من دبرها قال: لا بأس إذا رضيت، قلت: فأين قول الله تعالى: { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } فقال: هذا في طلب الولد، فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله، إن الله تعالى يقول: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ) (الاستبصار 3/243).
وروى الطوسي أيضاً عن موسى بن عبد الملك عن رجل قال: (سألت أبا الحسن الرضا - عليه السلام - عن إتيان الرجل المرأة من خلفها في دبرها فقال: أحلتها آية من كتاب الله قول لوط - عليه السلام -: { هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } فقد علم أنهم لا يريدون الفرج) (الاستبصار 3/243).
وروى الطوسي عن علي بن الحكم قال: سمعت صفوان يقول: قلت للرضا - عليه السلام -: (إن رجلاً من مواليك أمرني أن أسألك عن مسألة فهابك واستحيى منك أن يسألك، قال: ما هي؟ قال: للرجل أن يأتي امرأته في دبرها؟ قال: نعم ذلك له) المصدر السابق.(164/41)
لا شك أن هذه الأخبار معارضة لنص القرآن، إذ يقول الله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } [البقرة:222]، فلو كان إتيان الدبر مباحاً لأمر اعتزال الفرج فقط ولقال (فاعتزلوا فروج النساء في المحيض).
ولكن لما كان الدبر محرماً إتيانه أمر باعتزال الفروج والأدبار في محيض النساء بقوله: { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ } .
ثم بين الله تعالى بعد ذلك من أين يأتي الرجل امرأته فقال تعالى: { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } [البقرة:222].
والله تعالى أمر بإتيان الفروج فقال: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } [البقرة:223]، والحرث هو موضع طلب الولد.
إن رواية أبي اليعفور عن أبي عبد الله مفهومها أن طلب الولد يكون في الفروج لقوله في قوله تعالى: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } هذا في طلب الولد، فمفهوم الرواية تخصيص الفروج لطلب الولد، وأما قضاء الوطر والشهوة فهو في الأدبار، وسياق الرواية واضح في إعطاء هذا المفهوم.
وهذا غلط لأن الفروج ليست مخصصة لطلب الولد فقط بل لقضاء الوطر والشهوة أيضاً، وهذا واقع العشرة بين الأزواج من لدن آدم - عليه السلام - وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأبو عبد الله أجل وأرفع من أن يقول هذا القول الباطل. ولو افترضنا جواز إتيان الدبر لما كان هناك معنى للآية الكريمة { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } لأنه قد علم -على الافتراض المذكور- أن الإتيان يكون في القبل والدبر وليس هناك موضع ثالث يمكن إتيانه.
فلم يبق أي معنى للآية ولا للأمر الوارد فيها.(164/42)
ولكن لما كان أحد الموضعين محرماً لا يجوز إتيانه، والآخر حلالاً احتيج إلى بيان الموضع الذي يجب أن يؤتى، فكان أمر الله تعالى بإتيان الحرث، والحرث هو موضع طلب الولد وهذا الموضع يؤتى لطلب الولد ولقضاء الوطر أيضاً.
أما الرواية المنسوبة إلى الرضا - عليه السلام - في إباحة اللواطة بالنساء واستدلاله بقولة لوط - عليه السلام -.
أقول: إن تفسير الآية قول الله تعالى: { هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } [هود:78]، قد ورد في آية أخرى في قوله تعالى: { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ } [العنكبوت:28]، وقطع السبيل لا يعني ما يفعله قطاع الطرق وحدهم .. لا، وإنما معناه أيضاً قطع النسل بالإتيان في غير موضع طلب الولد أي في الأدبار، فلو استمر الناس في إتيان الأدبار -أدبار الرجال والنساء- وتركوا أيضاً طلب الولد لانقرضت البشرية وانقطع النسل.
فالآية الكريمة تعطي هذا المعنى أيضاً وبخاصة إذا لاحظنا سياق الآية مما قبلها. ولا مرية أن هذا لا يخفى على الإمام الرضا - عليه السلام - فثبت بذلك كذب نسبة تلك الرواية إليه.
إن إتيان النساء في أدبارهن لم يقل به إلا الشيعة وبالذات الإمامية الاثنا عشرية.
اعلم أن جميع السادة في حوزة النجف والحوزات الأخرى بل وفي كل مكان يمارسون هذا الفعل.
وكان صديقنا الحجة السيد أحمد الوائلي يقول بأنه منذ أن اطلع على هذه الروايات بدأ ممارسة هذا الفعل وقليلاً ما يأتي امرأة في قبلها.
وكلما التقيت واحداً من السادة وفي كل مكان فإني أسأله في حرمة إتيان النساء في الأدبار أو حله فيقول لي بأنه حلال ويذكر الروايات في حليتها منها الروايات التي تقدمت الإشارة إليها.(164/43)
ولم يكتفوا بإباحية اللواطة بالنساء بل أباح كثير منهم حتى اللواطة بالذكور وبالذات المردان. كنا أحد الأيام في الحوزة فوردت الأخبار بأن سماحة السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي قد وصل بغداد، وسيصل إلى الحوزة ليلتقي سماحة الإمام آل كاشف الغطاء. وكان السيد شرف الدين قد سطع نجمه عند عوام الشيعة وخواصهم، خاصة بعد أن صدر بعض مؤلفاته كالمراجعات، والنص والاجتهاد.
ولما وصل النجف زار الحوزة فكان الاحتفاء به عظيماً من قبل الكادر الحوزي علماء وطلاباً وفي جلسة له في مكتب السيد آل كاشف الغطاء ضمت عدداً من السادة وبعض طلاب الحوزة، وكنت أحد الحاضرين، وفي أثناء هذه الجلسة دخل شاب في عنفوان شبابه فسلم فرد الحاضرون السلام، فقال للسيد آل كاشف الغطاء:
سيد عندي سؤال، فقال له السيد: وجه سؤالك إلى السيد شرف الدين
-فأحاله إلى ضيفه السيد شرف الدين تقديراً وإكراماً له-
قال السائل: سيد أنا أدرس في لندن للحصول على الدكتوراه، وأنا ما زلت أعزب غير متزوج، وأريد امرأة تعينني هناك -لم يفصح عن قصده أول الأمر- فقال له السيد شرف الدين:تزوج ثم خذ زوجتك معك.
فقال الرجل: صعب علي أن تسكن امرأة من بلادي معي هناك.
فعرف السيد شرف الدين قصده فقال له: تريد أن تتزوج امرأة بريطانية إذن؟
قال الرجل: نعم، فقال له شرف الدين: هذا لا يجوز، فالزواج باليهودية أو النصرانية حرام.
فقال الرجل: كيف أصنع إذن؟
فقال له السيد شرف الدين: ابحث عن مسلمة مقيمة هناك عربية أو هندية أو أي جنسية أخرى بشرط أن تكون مسلمة.
فقال الرجل: بحثت كثيراً فلم أجد مسلمات مقيمات هناك تصلح إحداهن زوجة لي، وحتى أردت أن أتمتع فلم أجد، وليس أمامي خيار إما الزنا وإما الزواج وكلاهما متعذر علي.
أما الزنا فإني مبتعد عنه لأنه حرام، وأما الزواج فمتعذر علي كما ترى وأنا أبقى هناك سنة كاملة أو أكثر ثم أعود إجازة لمدة شهر، وهذا كما تعلم سفر طويل فماذا أفعل؟(164/44)
سكت(1) السيد شرف الدين قليلاً ثم قال: إن وضعك هذا محرج فعلاً .. على أية حال أذكر أني قرأت رواية للإمام جعفر الصادق - عليه السلام -، إذ جاءه رجل يسافر كثيراً ويتعذر عليه اصطحاب امرأته أو التمتع في البلد الذي يسافر إليه بحيث أنه يعاني مثلما تعاني أنت، فقال له أبو عبد الله - عليه السلام -: (إذا طال بك السفر فعليك بنكح الذكر)(2) هذا جواب سؤالك.
خرج الرجل وعليه علامات الارتياب من هذا الجواب، وأما الحاضرون ومنهم السيد زعيم الحوزة فلم ينبس أحد منهم ببنت شفة.
ضبط أحد السادة في الحوزة وهو يلوط بصبي أمرد من الدارسين في الحوزة. وصل الخبر إلى أسماع الكثيرين، وفي اليوم التالي بينما كان السيد المشار إليه يتمشى في الرواق، اقترب منه سيد آخر من علماء الحوزة أيضاً- وكان قد بلغه الخبر -فخاطبه بالفصحى مازحاً: سيد ما تقول في ضرب الحلق(3)؟
فأجابه السيد الأول بمزاح أشد قائلاً له وبالفصحى أيضاً: يستحسن إدخال الحشفة فقط، وقهقه الاثنان بقوة!!؟؟
وهناك سيد من علماء الحوزة مشهور باللواطة، رأى صبياً يمشي مع سيد آخر من علماء الحوزة أيضاً، فسأله: من هذا الصبي الذي معك؟
فأجابه: هذا ابني فلان.
__________
(1) - يبدو أنه احتار في جواب السائل، ولما سنحت لي فرصة الانفراد بالسيد آل كاشف الغطاء سألته عن هذه الرواية التي ذكرها السيد شرف الدين فقال لي: لم أقف عليها فيما قرأت، ومنذ ذلك الوقت وأنا أحاول أن أجد مصدر تلك الرواية في كل ما قرأت، وكل ما وقع بيدي من كتب الأخبار؛ فلم أعثر على مصدر لها، وأظن أنه ارتجلها لئلا يحرج بالجواب أمام الحاضرين.
(2) - أخبرني بعض تلاميذ السيد شرف الدين أنه في زيارته لأوروبا كان يتمتع بالأوربيات كثيراً وبخاصة الجميلات منهن، فكان يستأجر كل يوم واحدة، وكان متزوجاً من شابة مسيحية مارونية، فلماذا يحل لنفسه ما يحرمه على غيره؟.
(3) - يريد بذلك حلقة الدبر.(164/45)
فقال له: لم لا ترسله إلينا لنقوم بتدريسه وتعليمه كي يصبح عالماً مثلك؟
فأجابه ساخراً: أيها السافل الحقير أتريد أن آتيك به لتفعل به (كذا وكذا)!؟
وهذه الحادثة حدثني بها أحد الثقات من أساتذة الحوزة(1).
لقد رأينا الكثير من هذه الحوادث، وما سمعناه أكثر بكثير حتى إن صديقنا المفضال السيد عباس جمع حوادث كثيرة جداً ودونها بتفاصيلها وتواريخها وأسماء أصحابها، وهو ينوي إصدارها في كتاب أراد أن يسميه (فضائح الحوزة العلمية في النجف) لأن الواجب كشف الحقائق للعوام من الشيعة أولئك المساكين الذين لا يعلمون ما يجري وراء الكواليس، ولا يعلمون ما يفعله السادة، فيرسل أحدهم امرأته أو بنته أو أخته لغرض الزيارة أو لطلب الولد أو لتقديم (مراد للحسين) فيستلمها السادة وخاصة إذا كانت جميلة ليفجروا بها ويفعلوا بها كل منكر ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الخمس
إن الخمس استغل هو الآخر استغلالاً بشعاً من قبل الفقهاء والمجتهدين، وصار مورداً يدر على السادة والمجتهدين أموالاً طائلة جداً، مع أن نصوص الشرع تدل على أن عوام الشيعة في حل من دفع الخمس، بل هو مباح لهم لا يجب عليهم إخراجه، وإنما يتصرفون فيه كما يتصرفون في سائر أموالهم ومكاسبهم، بل إن الذي يدفع الخمس للسادة والمجتهدين يعتبر آثماً لأنه خالف النصوص التي وردت عن أمير المؤمنين وأئمة أهل البيت سلام الله عليهم.
وحتى يقف القارئ اللبيب على حقيقة هذا الخمس وكيفية التصرف فيه سنستعرض موضوع الخمس وتطوره تاريخياً، وندعم بذلك نصوص الشرع وأقوال الأئمة وفتاوى المجتهدين الذين يعتد بهم ويعول على كلامهم.
1- عن ضريس الكناني قال أبو عبد الله - عليه السلام -: من أين دخل على الناس الزنا؟
__________
(1) - وليس بغريب ولا عجيب، فإن بعض المنظومات التي كنا نقرؤها تنص على ذلك نصاً لا شبهة له، ألم يقل الناظر "وجائز نكاح الغلام الأمرد..".(164/46)
قلت لا أدري جعلت فداك، قال من قبل خمسنا أهل البيت إلا شيعتنا الأطيبين فإنه محلل لهم لميلادهم (أصول الكافي 2/502) شرح الشيخ مصطفى.
2- عن حكيم مؤذن بن عيسى قال: سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن قوله تعالى:
{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } [الأنفال:41]، فقال أبو عبد الله - عليه السلام - بمرفقيه على ركبتيه ثم أشار بيده فقال: (هي والله الإفادة يوماً بيوم إلا أن أبي جعل شيعته في حل ليزكوا) (الكافي 2/499).
3- عن عمر بن يزيد قال: رأيت مسمعاً بالمدينة وقد كان حمل إلى أبي عبد الله تلك السنة مالا فرده أبو عبد الله .. إلى أن قال: يا أبا سيار قد طيبناه لك، وأحللناك منه فضم إليك مالك وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون حتى يقوم قائمنا) (أصول الكافي 2/268).
4- عن محمّد بن مسلم عن أحدهما - عليه السلام - قال: إن أشد ما فيه الناس يوم القيامة أن يقوم صاحب الخمس فيقول: يا رب خمسي، وقد طيبنا ذلك لشيعتنا لتطيب ولاداتهم ولتزكوا ولاداتهم (أصول الكافي 2/502).
5- عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: (إن الناس كلهم يعيشون في فضل مظلتنا إلا أنا أحللنا شيعتنا من ذلك) (من لا يحضره الفقيه 2/243).
6- عن يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبد الله - عليه السلام - فدخل عليه رجل من القناطين فقال: (جعلت فداك، تقع في أيدينا الأرباح والأموال والتجارات ونعرف أن حقكم فيها ثابت وإنا عن ذلك مقصرون، فقال - عليه السلام -: ما أنصفناكم إن كلفناكم ذلك) (من لا يحضره الفقيه 2/23).
7- عن علي بن مهزيار أنه قال: قرأت في كتاب لأبي جعفر - عليه السلام - جاءه رجل يسأله أن يجعله في حل من مأكله ومشربه من الخمس، فكتب - عليه السلام - بخطه: (من أعوزه شيء من حقي فهو في حل) (من لا يحضره الفقيه 2/23).(164/47)
8- جاء رجل إلى أمير المؤمنين - عليه السلام -، قال: أصبت مالاً أرمضت فيه أفلي توبة؟ قال: (اتني بخمسي، فأتاه بخمسه، فقال - عليه السلام -: هو لك إن الرجل إذا تاب تاب ماله معه) (من لا يحضره الفقيه 2/22).
فهذه الروايات وغيرها كثير صريحة في إعفاء الشيعة من الخمس وإنهم في حل من دفعه فمن أراد أن يستخلصه لنفسه أو أن يأكله ولا يدفع منه لأهل البيت شيئاً فهو في حل من دفعه وله ما أراد ولا إثم عليه، بل لا يجب عليهم الدفع حتى يقوم القائم كما في الرواية الثالثة.
ولو كان الإمام موجوداً فلا يعطى له حتى يقوم قائم أهل البيت، فكيف يمكن إذن إعطاؤه للفقهاء والمجتهدين؟!
فتاوى الفقهاء المعتمدين في إعفاء الشيعة من دفع الخمس.
بناء على النصوص المتقدمة وعلى غيرها كثير المصرحة بإعفاء الشيعة من دفع الخمس صدرت فتاوى من كبار الفقهاء والمجتهدين ممن لهم باع في العلم واحتلوا مكانة رفيعة بين العلماء، في إباحة الخمس للشيعة وعدم دفعه لأي شخص كان حتى يقوم قائم أهل البيت:
1- المحقق الحلي نجم الدين جعفر بن الحسن المتوفى (676هـ).
أكد ثبوت إباحة المنافع والمساكن والمتجر حال الغيبة وقال: لا يجب إخراج حصة الموجودين من أرباب الخمس منها (انظر كتاب شرائع الإسلام 182-183 كتاب الخمس ).
2- يحيى بن سعيد الحلي المتوفى (690هـ).
مال إلى نظرية إباحة الخمس وغيره للشيعة كرماً من الأئمة وفضلاً كما في (كتابه الجامع للشرائع ص151).
3- الحسن بن المطهر الحلي الذي عاش في القرن الثامن أفتى بإباحة الخمس للشيعة وإعفائهم من دفعه كما في (كتاب تحرير الأحكام 75).
4- الشهيد الثاني المتوفى (966هـ) قال في (مجمع الفائدة والبرهان 4/355-358) ذهب إلى إباحة الخمس بشكل مطلق وقال: إن الأصح هو ذلك كما في كتاب (مسالك الأفهام 68).(164/48)
5- المقدس الأردبيلي المتوفى (993هـ) وهو أفقه فقهاء عصره حتى لقبوه بالمقدس قال بإباحة مطلق التصرف في أموال الغائب للشيعة خصوصاً مع الاحتياج، وقال: إن عموم الأخبار تدل على السقوط بالكلية في زمان الغيبة والحضور بمعنى عدم الوجوب والحتم لعدم وجود دليل قوي على الأرباح والمكاسب ولعدم وجود الغنيمة.
قلت: وقوله هذا مستنبط من قوله تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } [الأنفال:41]، ثم بين أن هناك روايات عن المهدي تقول أبحنا الخمس للشيعة.
6- العلامة سلار قال: إن الأئمة قد أحلوا الخمس في زمان الغيبة فضلاً وكرماً للشيعة خاصة انظر كتاب (المراسيم 633).
7- السيد محمّد علي طباطبائي المتوفى أول القرن الحادي عشر قال: إن الأصح هو الإباحة (مدارك الأفهام 344).
8- محمّد باقر السبزواري المتوفى أواخر القرن الحادي عشر قال:
المستفاد من الأخبار الكثيرة في بحث الأرباح كصحيحة الحارث بن المغيرة وصحيحة الفضلاء ورواية محمّد بن مسلم ورواية داود بن كثير ورواية إسحاق بن يعقوب ورواية عبد الله بن سنان وصحيحة زرارة وصحيحة علي بن مهزيار وصحيحة كريب: إباحة الخمس للشيعة.
وتصدى للرد على بعض الإشكاليات الواردة على هذا الرأي وقال: إن أخبار الإباحة أصح وأصرح فلا يسوغ العدول عنها بالإخبار المذكورة.
وبالجملة فإن القول بإباحة الخمس في زمان الغيبة لا يخلو من قوة انظر (كتاب ذخيرة المعاد 292).
9- محمّد حسن الفيض الكاشاني في كتابه مفاتيح الشريعة (229) مفتاح (260) اختار القول بسقوط ما يختص بالمهدي، قال: لتحليل الأئمة ذلك للشيعة.
10- جعفر كاشف الغطاء المتوفى (1227هـ) في كشف الغطاء (364): ذكر إباحة الأئمة للخمس وعدم وجوب دفعه إليهم.
11- محمّد حسن النجفي المتوفى (1266) في (جواهر الكلام 16/141).
قطع بإباحة الخمس للشيعة في زمن الغيبة بل والحضور الذي هو كالغيبة، وبين أن الأخبار تكاد تكون متواترة.(164/49)
12- ونختم بالشيخ رضا الهمداني المتوفى (1310هـ) في كتابه مصباح الفقيه
(155): فقد أباح الخمس حال الغيبة، والشيخ الهمداني هذا متأخر جداً قبل حوالي قرن من الزمان أو أكثر.
وهكذا نرى أن القول بإباحة الخمس للشيعة وإعفائهم من دفعه هو قول مشتهر عند كل المجتهدين المتقدمين منهم والمتأخرين، وقد جرى العمل عليه إلى أوائل القرن الرابع عشر فضلاً عن كونه مما وردت النصوص بإباحته، فكيف يمكن والحال هذه دفع الخمس إلى الفقهاء والمجتهدين؟، مع أن الأئمة سلام الله عليهم رفضوا الخمس وأرجعوه إلى أصحابه وأعفوهم من دفعه، أيكون الفقهاء والمجتهدون أفضل من الأئمة سلام الله عليهم؟
إن فتاوى إباحة الخمس للشيعة لا تقتصر على هؤلاء الذين ذكرنا من الفقهاء والمجتهدين لا وإنما هناك أضعاف هذا العدد الذي ذكرنا وعلى مر هذه القرون ولكننا اخترنا من كل قرن واحداً من الفقهاء القائلين بعدم دفع الخمس لكي يتضح لنا أن القول بعدم وجوب الخمس قد قال به كثير من الفقهاء وعلى مر الزمان لأنه هو القول الراجح في المسألة، ولموافقته للنصوص وعمل الأئمة عليهم السلام.
ولنأخذ فتوتيين لعلمين من أعلام المنهج الشيعي هما: الشيخ المفيد والشيخ الطوسي، قال الشيخ المفيد:
قد اختلف قوم من أصحابنا في ذلك -أي الخمس- عند الغيبة، وقد ذهب كل فريق منهم إلى مقال (ثم يذكر عدد المقالات) منها قوله:
منهم من يسقط قول إخراجه لغيبة الإمام(1)، وما تقدم من الرخص فيه من الأخبار. وبعضهم يوجب كنزه -أي دفنه- ويتأول خبراً ورد: (إن الأرض تظهر كنوزها عند ظهور الإمام، وأنه - عليه السلام - إذا قام دله الله على الكنوز فيأخذها من كل مكان).
ثم يختار قولاً منها فيقول:
__________
(1) - يعني إذا كان الإمام غائباً فلمن يعطيه؟(164/50)
بعزل الخمس لصاحب الأمر -يعني المهدي- فإن خشي إدراك الموت قبل ظهوره وصى به إلى من يثق به في عقله وديانته حتى يسلم إلى الإمام، إن أدرك قيامه، وإلا وصى به إلى من يقوم مقامه بالثقة والديانة، ثم على هذا الشرط إلى أن يقوم الإمام، قال: وهذا القول عندي أوضح من جميع ما تقدم، لأن الخمس حق لغائب لم يرسم فيه قبل غيبة رسماً يجب الانتهاء إليه.
ثم قال: ويجري ذلك مجرى الزكاة التي يقدم عند حلولها مستحقها فلا يجب عند ذلك سقوطها، وقال: إذا ذهب ذاهب إلى ما ذكرناه من شطر الخمس الذي هو خالص الإمام، وجعل الشطر الآخر لأيتام آل محمّد وأبناء سبيلهم مساكينهم على ما جاء في القرآن.
قال: فمن فعل هذا لم تبعد إصابته الحق في ذلك بل كان على صواب، وإنما اختلف أصحابنا في هذا الباب انظر (المقنعة 46).
وقال الشيخ الطوسي المتوفى (460ه_) مؤسس الحوزة النجفية وأول زعيم لها: بعد أن ذكر أحكام الخمس قال: هذا في حال ظهور الإمام(1).
ثم قال: فأما في حال الغيبة فقد رخصوا لشيعتهم التصرف في حقوقهم من المناكح والمتجر والمساكن.
فأما ما عدا ذلك فلا يجوز التصرف فيه على حال، وما يستحقونه من الأخماس في الكنوز وغيرها في حال الغيبة، فقد اختلف قول أصحابنا فيه وليس نص معين(2)، إلا أن كل واحد منهم -أي فقهاء الشيعة- قال قولاً يقتضيه الاحتياط.
ثم حصر الطوسي هذه الأقوال في أربعة:
1- قال بعضهم أنه جار في حال الاستتار مجرى ما أبيح لنا من المناكح والمتاجر -يعني طالما كان الإمام غائباً أو مستتراً فكل شيء مباح- وهذا هو أصح الأقوال لأنه موافق للنصوص الواردة عن الأئمة، وبه قال كثير من الفقهاء.
__________
(1) - معنى ذلك أن الخمس في حال ظهور الإمام له حكم، وفي حال غيبة هذا الإمام أو عدم تمكنه فله حكم آخر.
(2) - قوله لعدم وجود نص معين فيه نظر ذلك أن هناك نصوصاً كثيرة في إباحة الخمس للشيعة في زمن الغيبة وقد أسلفنا بعضها.(164/51)
2- وقال قوم أنه يجب الاحتفاظ به أو حفظه ما دام الإنسان حياً، فإذا حضرته الوفاة وصى به إلى من يثق به من إخوانه المؤمنين ليسلمه إلى صاحب الأمر إذا حضر، أو يوصى به حسبما وصى به إلى أن يوصله إلى صاحب الأمر.
3- وقال قوم: يجب أن يقسم الخمس ستة أقسام، ثلاثة أقسام للإمام تدفن أو تودع عند من يوثق به، وهذا القول قد اختاره الطوسي.
والأقسام الثلاثة الأخرى وتوزع على مستحقيها من أيتام آل محمّد صلى الله عليه وآله ومساكنهم وأبناء سبيلهم، وهذا مما ينبغي العمل عليه.
وهذا القول مطابق لفتوى المفيد في قياس الخمس على الزكاة.
ثم يقول: (ولو إن الإنسان استعمل الاحتياط وعمل على أحد الأقوال المقدم ذكرها من إجزاء الدفن أو الوصاة لم يكن مأثوماً) انتهى بتصرف يسير.
لقد حصر الشيخ الطوسي التصرف في الخمس حال الغيبة في هذه الأقوال الأربعة المتقدمة واختار هو القول الرابع منها(1)، وبين أن الإنسان إذا اختار أي قول من هذه الأقوال وعمل به لم يكن آثماً.
ونحن نلاحظ هذه الأقوال الأربعة، فهي وإن اختلف بينها في بعض التفاصيل لكنها أجمعت على شيء واحد نحن بصدد بيانه وهو أن هذه الأموال -أي الخمس- التي هي حق الإمام الغائب أو حق غيره لا تصرف للسادة ولا المجتهدين.
ورغم أن الأقوال الأربعة المتقدمة اختلفت من جهة صرف أموال الخمس، إلا أنها ليس فيها تلميح فضلاً عن التصريح بوجوب أو إباحة إعطاء الخمس أو جزء منه للسادة والمجتهدين.
إن القول الرابع والذي اختاره الشيخ الطوسي هو الذي كان عليه الشيعة، والطوسي كما لا يخفى هو مؤسس الحوزة العلمية وهو شيخ الطائفة.
ترى أكان الشيخ وجماهير الشيعة في عصره وقبله وبعده مخطئين؟
فهذه فتوى أول زعيم للحوزة العلمية النجفية.
ولنر فتوى آخر زعيم للحوزة نفسها مولانا الإمام الراحل أبي القاسم الخوئي ليتضح لنا أن الفتوى بين أول زعيم للحوزة، وفتوى آخر زعيم لها.
__________
(1) - وهو قول كثير من الفقهاء.(164/52)
قال الإمام الخوئي في بيان مستحق الخمس ومصرفه:
يقسم الخمس في زماننا زمان الغيبة نصفين:
نصف لإمام العصر الحجة المنتظر (عج)(1)، وجعل أرواحنا فداه.
ونصف لبني هاشم أيتامهم ومساكينهم وأبناء السبيل .. إلى أن قال:
النصف الذي يرجع للإمام عليه وعلى آبائه أفضل الصلاة والسلام، يرجع فيه في زمان الغيبة إلى نائبه وهو الفقيه المأمون العارف بمصارفه، إما بالدفع إليه أو الاستئذان منه .. الخ انظر كتاب (ضياء الصالحين مسألة 1259 ص347)، إن فتوى الإمام الخوئي تختلف عن فتوى الشيخ الطوسي، فالشيخ الطوسي لا يقول بإعطاء الخمس أو شيء منه إلى الفقيه المجتهد وقد عمل بنص فتواه جماهير الشيعة المعاصرون له.
بينما نرى فتوى مولانا الراحل الإمام الخوئي تنص على إعطاء الخمس أو جزء منه للفقيه والمجتهد.
ملخص تطور نظرية الخمس
القول الأول:
بعد انقطاع سلسلة الإمامة وغيبة الإمام المهدي هو أن الخمس من حق الإمام الغائب، وليس لفقيه ولا سيد ولا مجتهد حق فيه، ولهذا ادعى أكثر من عشرين شخصاً النيابة عن الإمام الغائب، من أجل أن يأخذوا الخمس فقالوا: نحن نلتقي الإمام الغائب، ويمكننا إعطاؤه أخماس المكاسب التي ترد.
وكان هذا في زمن الغيبة الصغرى، وبقي بعدها مدة قرن أو قرنين من الزمان، ولم يكن الخمس يعطى للمجتهد أو السيد، وفي هذه الفترة ظهرت الكتب الأربعة المعروفة بالصحاح الأربعة الأولى، وكلها تنقل عن الأئمة إباحة الخمس للشيعة وإعفاءهم منه.
ولم تكن هناك أية فتوى في إعطاء الأخماس للسادة والمجتهدين.
القول الثاني:
ثم تطور الأمر، بعد أن كان الشيعة في حل من دفع الخمس في زمن الغيبة كما سبق بيانه؛ تطور الأمر فقالوا بوجوب إخراج الخمس، إذا أراد أصحاب الأغراض التخلص من القول الأول، فقالوا يجب إخراج الخمس على أن يدفن في الأرض حتى يخرج الإمام المهدي.
القول الثالث:
__________
(1) - هذه عند الشيعة معناها عجل الله فرجه.(164/53)
ثم تطور الأمر فقالوا يجب أن يودع عند شخص أمين، وأفضل من يقع عليه الاختيار لهذه الأمانة هم فقهاء المذهب، مع التنبيه على أن هذا للاستحباب وليس على سبيل الحتم والإلزام، ولا يجوز للفقيه أن يتصرف به بل يحتفظ به حتى يوصله إلى المهدي.
وهنا ترد ملاحظة مهمة وهي:
من الفقهاء من حفظ الأموال المودعة عنده، ثم بعد موته قال ذووه عنها لنا أموال مودعة عنده يجب أن تودع عند من يأتي بعده؟
لا شك أن الجواب الصحيح هو: لا يوجد مثل هذا الشخص، ولم نسمع أو نقرأ عن شخص كهذا ثبت أن أموال الناس -أعني الخمس- كانت مودعة عنده ثم انتقلت إلى من يأتي بعده.
والصواب: إن كل من أودعت عندهم الأموال جاء ورثتهم فاقتسموا تلك الأموال بينهم على أنها مال موروث من آبائهم، فذهب خمس الإمام إلى ورثة الفقيه الأمين، هذا إذا كان الفقيه أميناً ولم يستخلص ذلك المال لنفسه!!.
ومن الجدير بالذكر أن القاضي ابن بهراج أو براج طور هذا الأمر من الاستحباب إلى الوجوب، فكان أول من قال بضرورة إيداع سهم الإمام عند من يوثق به من الفقهاء والمجتهدين حتى يسلمه إلى الإمام الغائب إن أدركه، أو يوصي به إلى من يثق به ممن يأتي بعده ليسلمه للإمام. وهذا منصوص عليه في كتاب (المهذب 8/80) وهذه خطوة مهمة جداً.
القول الرابع:
ثم جاء العلماء المتأخرون فطوروا المسألة شيئاً فشيئاً، حتى كان التطور قبل الأخير فقالوا بوجوب إعطاء الخمس للفقهاء لكي يقسموه بين مستحقيه من الأيتام والمساكين من أهل البيت، والمرجح أن الفقيه ابن حمزة هو أول من مال إلى هذا القول في القرن السادس، كما نص على ذلك في كتاب (الوسيلة في نيل الفضيلة 182) واعتبر هذا أفضل من قيام صاحب الخمس بتوزيعه بنفسه وبخاصة، إذا لم يكن يحسن القسمة.
القول الخامس:(164/54)
واستمر التطور شيئاً فشيئاً في الأزمنة المتأخرة -وقد يكون قبل قرن من الزمان- حتى جاءت الخطوة الأخيرة فقال بعض الفقهاء بجواز التصرف بسهم الإمام في بعض الوجوه التي يراها الفقيه مثل الأنفاق على طلبة العلم، وإقامة دعائم الدين وغير ذلك، كما أفتى به السيد محسن الحكيم في مستمسك (العروة الوثقى 9/584).
هذا مع قوله: بعدم الحاجة في الرجوع إلى الفقيه في صرف حصة الإمام.
وهذا يعني أن صرف حصة الفقيه هي قضية ظهرت في هذه الأزمان المتأخرة جداً، فهم ينظرون إلى واقعهم فيرون مدارسهم ومطابعهم وما تحتاجه من نفقات.
وكذلك ينظرون في حاجاتهم الشخصية، فكيف يمكنهم معالجة هذا كله وتسديد هذه الحاجات؟ علماً أن هذا يتطلب مبالغ طائلة.
فكانت نظرتهم إلى الخمس كأفضل مورد يسد حاجاتهم كلها، ويحقق لهم منافع شخصية وثروات ضخمة جداً، كما نلاحظه اليوم عند الفقهاء والمجتهدين.
إن القضية مرت في أدوار وتطورات كثيرة، حتى استقرت أخيراً على وجوب إعطاء أخماس المكاسب للفقهاء والمجتهدين، وبذلك يتبين لنا أن الخمس لم ينص عليه كتاب ولا سنة ولا قول إمام، بل هو قول ظهر في الزمن المتأخر، قاله بعض المجتهدين، وهو مخالف للكتاب والسنة وأئمة أهل البيت ولأقوال وفتاوى الفقهاء والمجتهدين والمعتد بهم.
وإني أهيب بإخواني وأبنائي الشيعة أن يمتنعوا عن دفع أخماس مكاسبهم وأرباحهم إلى السادة المجتهدين، لأنها حلال لهم هم وليس للسيد أو الفقيه أي حق فيها، ومن أعطى الخمس إلى المجتهد أو الفقيه فإنه يكون قد ارتكب إثماً لمخالفته لأقوال الأئمة إذ أن الخمس ساقط عن الشيعة حتى يظهر القائم.
وأرى من الضروري أن أذكر قول آية الله العظمى الإمام الخميني في المسألة، فإنه كان قد تحدث عنها في محاضرات ألقاها على مسامعنا جميعاً في الحوزة عام
(1389هـ)، ثم جمعها في كتاب الحكومة الإسلامية أو ولاية الفقيه:(164/55)
فكان مما قال: يا لقصر النظر لو قلنا إن تشريع الخمس جاء لتأمين معايش ذرية الرسول صلى الله عليه وآله فحسب.
أنه يكفيهم ويزيدهم جزء ضليل من آلاف -كذا قال- جزء من هذه المالية الضخمة، بل تكفيهم أخماس سوق واحد كسوق بغداد مثلاً من تلك الأسواق التجارية الضخمة كسوق طهران ودمشق وإسلام بول وما أشبه ذلك، فماذا يصبح حال بقية المال؟.
ثم يقول: إنني أرى الحكم الإسلامي العادل لا يتطلب تكاليف باهظة في شؤون تافهة أو في غير المصالح العامة.
ثم يقول: لم تكن ضريبة الخمس جباية لتأمين حاجة السادة آل الرسول صلى الله عليه وآله فحسب، أو الزكاة تفريقاً على الفقراء والمساكين، وإنما تزيد على حاجاتهم بأضعاف.
فهل بعد ذلك يترك الإسلام جباية الخمس والزكاة وما أشبه نظراً إلى تأمين حاجة السادة والفقراء، أو يكون مصير الزائد طعمة في البحار أو دفناً في التراب أو نحو ذلك؟
كان عدد السادة ممن يجوز لهم الارتزاق بالخمس يوم ذاك -يعني في صدر الإسلام- لم يتجاوز المائة، ولو نفرض عددهم نصف مليون، هل من المعقول أن نتصور اهتمام الإسلام بفرض الخمس هذه المالية الضخمة، التي تتضخم وتزداد في تضخمها كلما توسعت التجارة والصناعات كما هي اليوم كل ذلك لغاية إشباع آل الرسول صلى الله عليه وآله؟
كلا انظر كتابه المذكور (1/39-40-42) طبعة مطبعة الآداب في النجف.
إن الإمام الخميني يصرح بأن أموال الخمس ضخمة جداً، هذا في ذلك الوقت لما كان الإمام يحاضر في الحوزة، فكم هي ضخمة إذن في يومنا هذا؟
ويصرح الإمام أيضاً أن جزءاً واحداً من آلاف الأجزاء من هذه المالية الضخمة يكفي أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، فماذا يفعل بالأجزاء الكثيرة المتبقية؟؟.
لا بد أن توزع على الفقهاء والمجتهدين حسب مفهوم قول الإمام الخميني.(164/56)
ولهذا فإن الإمام الخميني كان ذا ثروة ضخمة جداً في إقامته في العراق حتى أنه لما أراد السفر إلى فرنسا للإقامة فيها فإنه حول رصيده ذلك من الدينار العراقي إلى الدولار الأمريكي وأودعه في مصارف باريس بفوائد مصرفية ضخمة.
إن فساد الإنسان يأتي من طريقين: الجنس والمال، وكلاهما متوافر للسادة.
فالفروج والأدبار عن طريق المتعة وغيرها. والمال عن طريق الخمس وما يلقى في العتبات والمشاهد، فمن منهم يصمد أمام هذه المغريات، وبخاصة إذا علمنا أن بعضهم ما سلك هذا الطريق إلا من أجل إشباع رغباته في الجنس والمال؟؟!!.
تنبيه:
لقد بدأ التنافس بين السادة والمجتهدين للحصول على الخمس، ولهذا بدأ كل منهم بتخفيض نسبة الخمس المأخوذة من الناس حتى يتوافد الناس إليه أكثر من غيره فابتكروا أساليب شيطانية، فقد جاء رجل إلى السيد علي السيستاني فقال له:
إن الحقوق -الخمس- المترتبة علي خمسة ملايين، وأنا أريد أن أدفع نصف هذا المبلغ أي أريد أن أدفع مليونين ونصف فقط، فقال له السيد السيستاني: هات المليونين والنصف، فدفعها إليه الرجل، فأخذها منه السيستاني، ثم قال له: قد وهبتها لك -أي ارجع المبلغ إلى الرجل- فأخذ الرجل المبلغ، ثم قال له السيستاني: أدفع المبلغ لي مرة ثانية، فدفعه الرجل إليه، فقال له السيستاني: صار الآن مجموع ما دفعته إلي من الخمس خمسة ملايين فقد برأت ذمتك من الحقوق. فلما رأى السادة الآخرون ذلك، قاموا هم أيضاً بتخفيض نسبة الخمس واستخدموا الطريقة ذاتها بل ابتكروا طرقاً أخرى حتى يتحول الناس إليهم، وصارت منافسة (شريفة!) بين السادة للحصول على الخمس، وصارت نسبة الخمس أشبه بالمناقصة وكثير من الأغنياء قام بدفع الخمس لمن يأخذ نسبة أقل.(164/57)
ولما رأى زعيم الحوزة أن المنافسة على الخمس صارت شديدة، وأن نسبة ما يرده هو من الخمس صارت قليلة، أصدر فتواه بعدم جواز دفع الخمس لكل من هب ودب من السادة، بل لا يدفع إلا لشخصيات معدودة وله حصة الأسد أو لوكلائه الذين وزعهم في المناطق.
وبعد استلامه هذه الأموال، يقوم بتحويلها إلى ذهب بسبب وضع العملة العراقية الحالية، حيث يملك الآن غرفتين مملوءتين بالذهب.
وأما ما يسرقه الوكلاء دون علم السيد فحدث ولا حرج.
قال أمير المؤمنين - عليه السلام -: (طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، أولئك اتخذوا الأرض بساطاً وترابها فراشاً، وماءها طيباً والقرآن شعاراً والدعاء دثاراً، ثم قرضوا الدنيا قرضاً على منهاج المسيح .. إن داود - عليه السلام - قام في مثل هذه الساعة من الليل فقال: إنها ساعة لا يدعو فيها عبداً إلا استجيب له، إلا أن يكون عشاراً أو عريفاً أو شرطياً) (نهج البلاغة 4/24) قارن بين كلام الأمير - عليه السلام - وبين أحوال السادة واحكم بنفسك، إن هذا النص وغيره من النصوص العظيمة ليس لها أي صدى عند السادة والفقهاء، وحياة الترف والنعيم والبذخ التي يعيشونها أنستهم زهد أمير المؤمنين، وأعمت أبصارهم عن تدبر كلامه والالتزام بمضمونه.
إن العشار هو الذي يأخذ ضريبة العشر، فلا يستجاب دعاؤه كما قال - عليه السلام -، فكيف بالخماس؟ الذي يأخذ الخمس من الناس؟ إن الخماس لا يستجاب له من باب أولى، لأن ما يأخذه من الخمس ضعف ما يأخذه العشار، نسأل الله العافية.
تنبيه آخر:(164/58)
عرفنا مما سبق أن الخمس لا يعطى للفقهاء ولا المجتهدين، واتضح لنا هذا الأمر من خلال بحث الموضوع من كل جوانبه، ويحسن بنا أن ننبه إلى أن الفقهاء والمراجع الدينية يزعمون أنهم من أهل البيت فترى أحدهم يروي لك سلسلة نسبه إلى الكاظم - عليه السلام -. اعلم أنه يستحيل أن يكون هذا الكم الهائل من فقهاء العراق وإيران وسورية ولبنان ودول الخليج والهند وباكستان وغيرها من أهل البيت، ومن أحصى فقهاء العراق وجد أن من المحال أن يكون عددهم الذي لا يحصى من أهل البيت، فكيف إذا ما أحصينا فقهاء البلاد الأخرى ومجتهديها؟ لا شك أن عددهم يبلغ أضعافاً مضاعفة، فهل يمكن أن يكون هؤلاء جميعاً من أهل البيت؟؟
وفوق ذلك إن شجرة الأنساب تباع وتشترى في الحوزة، فمن أراد الحصول على شرف النسبة لأهل البيت فما عليه إلا أن يأتي بأخته أو امرأته إذا كانت جميلة إلى أحد السادة ليتمتع بها، أو أن يأتيه بمبلغ من المال وسيحصل بإحدى الطريقتين على شرف النسبة.
وهذا أمر معروف في الحوزة.
لذلك أقول: لا يغرنكم ما يصنعه بعض السادة والمؤلفين عندما يضع أحدهم شجرة نسبه في الصفحة الأولى من كتابه ليخدع البسطاء والمساكين كي يبعثوا له أخماس مكاسبهم.
وفي ختام مبحث الخمس لا يفوتني أن أذكر قول صديقي المفضال الشاعر البارع المجيد أحمد الصافي النجفي رحمه الله، والذي تعرفت عليه بعد حصولي على درجة الاجتهاد فصرنا صديقين حميمين رغم فارق السن بيني وبينه، إذ كان يكبرني بنحو ثلاثين سنة أو أكثر عندما قال لي: ولدي حسين لا تدنس نفسك بالخمس فإنه سحت، وناقشني في موضوع الخمس حتى أقنعني بحرمته، ثم ذكر لي أبياتاً كان قد نظمها بهذا الخصوص احتفظت بها في محفظة ذكرياتي وأنقلها للقراء الكرام بنصها قال رحمه الله:
وكيف يسوغ الشحذ للرجل الشهم
لذاك فإن الجهل خير من العلم
يعيشون من مال الأنام بذا الاسم
لتعطي بذل بل لتؤخذ بالرغم
ولم تكُ في أبناء يعرب من قِدم(164/59)
عجبت لقوم شحذهم(1) باسم دينهم
لئن كان تحصيل العلوم مسوغاً
وهل كان في عهد النبي عصابة
لئن أوجب الله الزكاة فلم تكن
أتانا بها أبناء ساسان حرفة
الكتب السماوية
لا شك عند المسلمين جميعهم أن القرآن هو الكتاب السماوي المنزل من عند الله على نبي الإسلام محمّد بن عبد الله صلوات الله عليه.
ولكن كثرة قراءتي ومطالعتي في مصادرنا المعتبرة، أوقفتني على أسماء كتب أخرى يدعي فقهاؤها أنها نزلت على النبي صلوات الله عليه، وأنه اختص بها أمير المؤمنين - عليه السلام -، وهذه الكتب هي:
1- الجامعة:
عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال: أنا محمد، وإن عندنا الجامعة، وما يدريهم ما الجامعة؟!
قال: قلت: جعلت فداك وما الجامعة؟.
قال: صحيفة طولها سبعون ذارعاً بذراع رسول الله صلى الله عليه وآله وإملائه من فلق فيه وخط علي - عليه السلام -، فيها كل حلال وحرام، وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش..
إلخ انظر (الكافي 1/239)، (بحار الأنوار 26/22).
وهناك روايات أخرى كثيرة تجدها في الكافي والبحار وبصائر الدرجات ووسائل الشيعة إنما اقتصرنا على رواية واحدة روماً للاختصار.
لست أدري إذا كانت الجامعة حقيقة أم لا، وفيها كل ما يحتاجه الناس إلى يوم القيامة؟ فلماذا أخفيت إذن؟ وحرمنا منها ومما فيها مما يحتاجه الناس إلى يوم القيامة من حلال وحرام وأحكام؟ أليس هذا كتماناً للعلم؟.
2- صحيفة الناموس:
عن الرضا - عليه السلام - في حديث علامات الإمام قال: وتكون صحيفة عنده فيها أسماء شيعتهم إلى يوم القيامة، وصحيفة فيها أسماء أعدائهم إلى يوم القيامة. انظر (بحار الأنوار 25/117)، (ومجلد 26 ففيه روايات أخرى).
__________
(1) - الشحذ: الاستجداء أو التسول.(164/60)
وأنا أتساءل: أية صحيفة هذه التي تتسع لأسماء الشيعة إلى يوم القيامة؟!!! لو سجلنا أسماء شيعة العراق في يومنا هذا لاحتجنا إلى مائة مجلد في أقل تقدير. فكيف لو سجلنا أسماء شيعة إيران والهند وباكستان وسورية ولبنان ودول الخليج وغيرها؟ بل كم نحتاج لو سجلنا أسماء جميع الذين ماتوا من الشيعة وعلى مدى كل القرون التي مضت منذ ظهور التشيع وإلى عصرنا!.
وكم نحتاج لتسجيل أسماء الشيعة في القرون القادمة إلى يوم القيامة؟.
وكم نحتاج لتسجيل أسماء خصومهم منذ ظهور صحيفة الناموس وإلى يوم القيامة؟!
لو أن البحر صار مداداً ومن ورائه سبعة أبحر، لما كان كافياً لتسجيل هذا الكم الهائل من الأسماء.
ولو جمعنا كل الكومبيوترات والعقول الإلكترونية بأحدث أنواعها لما استطاعت أن تستوعب هذا الرقم الخيالي بل التعجيزي من الأسماء.
إن عقول العامة من الناس لا يمكنها أن تقبل هذه الرواية وأمثالها فكيف يقبلها العقلاء؟!.
إن من المحال أن يقول الأئمة عليهم السلام مثل هذا الكلام الذي لا يقبله عقل ولا منطق، ولو اطلع عليه -أي على هذه الرواية- أعداؤنا لتكلموا بما يحلو لهم، ولطعنوا بدين الإسلام، ولتكلموا وتندروا بما يشفي غيظ قلوبهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
3- صحيفة العبيطة:
عن أمير المؤمنين - عليه السلام - قال: .. وأيم الله إن عندي لصحفاً كثيرة قطائع رسول الله صلى الله عليه وآله، وأهل بيته وإن فيها لصحيفة يقال لها العبيطة، وما ورد على العرب أشد منها، وإن فيها لستين قبيلة من العرب بهرجة، مالها في دين الله من نصيب (بحار الأنوار 26/37).
إن هذه الرواية ليست مقبولة ولا معقولة، فإذا كان هذا العدد من القبائل ليس لها نصيب في دين الله فمعنى هذا أنه لا يوجد مسلم واحد له في دين الله نصيب.
ثم تخصيص القبائل العربية بهذا الحكم القاسي يشم منه رائحة الشعوبية وسيأتي توضيح ذلك في فصل قادم.
4- صحيفة ذؤابة السيف:(164/61)
عن أبي بصير عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه كان في ذؤابة سيف رسول الله صلى الله عليه وآله صحيفة صغيرة فيها الأحرف التي يفتح كل حرف منها ألف حرف.
قال أبو بصير: قال أبو عبد الله: فما خرج منها إلا حرفان حتى الساعة (بحار الأنوار 26/56).
قلت: وأين الأحرف الأخرى؟ ألا يفترض أن تخرج حتى يستفيد منها شيعة أهل البيت؟ أم أنها ستبقى مكتومة حتى يقوم القائم؟
5- صحيفة علي وهي صحيفة أخرى وجدت في ذؤابة السيف:
عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: وجد في ذؤابة سيف رسول الله صلى الله عليه وآله صحيفة فإذا فيها مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم، إن أعتى الناس على الله يوم القيامة من قتل غير قاتله، ومن ضرب غير ضاربه، ومن تولى غير مواليه فهو كافر بما أنزل الله تعالى على محمد صلى الله عليه وآله، ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً (بحار الأنوار 27/65، 104/375).
6- الجفر: وهو نوعان: الجفر الأبيض والجفر الأحمر:
عن أبي العلاء قال: سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول: إن عندي الجفر الأبيض قال: فقلت: أي شيء فيه؟
قال: زبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وصحف إبراهيم عليهم السلام والحلال والحرام..، وعندي الجفر الأحمر.
قال: قلت: وأي شيء في الجفر الأحمر؟
قال: السلاح، وذلك إنما يفتح للدم يفتحه صاحب السيف للقتل.
فقال له عبد الله بن أبي اليعفور: أصلحك الله، أيعرف هذا بنو الحسن؟
فقال: أي والله كما يعرفون الليل أنه ليل والنهار أنه نهار، ولكنهم يحملهم الحسد وطلب الدنيا على الجحود والإنكار، ولو طلبوا الحق بالحق لكان خيراً لهم (أصول الكافي 1/24).
وقد سألت مولانا الراحل الإمام الخوئي عن الجفر الأحمر، من الذي يفتحه ودم من الذي يراق؟(164/62)
فقال: يفتحه صاحب الزمان عجل الله فرجه، ويريق به دماء العامة النواصب -أهل السنة- فيمزقهم شذر مذر، ويجعل دماءهم تجري كدجلة والفرات، ولينتقمن من صنمي قريش -يقصد أبا بكر وعمر- وابنتيهما -يقصد عائشة وحفصة- ومن نعثل -يقصد عثمان- ومن بني أمية والعباس فينبش قبورهم نبشاً.
قلت: إن قول الإمام الخوئي فيه إسراف إذ أن أهل البيت عليهم السلام، أجل وأعظم من أن ينبشوا قبر ميت مضى على موته قرون طويلة.
إن الأئمة سلام الله عليهم كانوا يقابلون إساءة المسيء بالإحسان إليه والعفو والصفح عنه، فلا يعقل أن ينبشوا قبور الأموات لينتقموا منهم، ويقيموا عليهم الحدود، فالميت لا يقام عليه حد، وأهل البيت سلام الله عليهم عرفوا بالوداعة والسماحة والطيب.
7- مصحف فاطمة:
أ- عن علي بن سعيد عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: (.. وعندنا والله مصحف فاطمة ما فيه آية من كتاب الله، وإنه لإملاء رسول الله صلوات الله عليه وآله بخط علي - عليه السلام - بيده) (بحار الأنوار 26/41).
ب- وعن محمد بن مسلم عن أحدهما - عليه السلام -: (..وخلفت فاطمة مصحفاً، ما هو قرآن، ولكنه كلام من كلام الله أنزل عليها، إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وخط علي - عليه السلام -) (البحار 26/42).
ج_عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبد الله - عليه السلام -: (..وعندنا مصحف فاطمة عليها السلام، أما والله ما فيه حرف من القرآن، ولكنه إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وخط علي) (البحار 26/48).
قلت: إذا كان الكتاب من إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وخط علي، فلم كتمه عن الأمة؟ والله تعالى قد أمر رسوله صلى الله عليه وآله أن يبلغ كل ما أنزل إليه قال الله تعالى: { يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [المائدة:67].(164/63)
فكيف يمكن لرسول الله صلى الله عليه وآله أن يكتم عن المسلمين جميعاً هذا القرآن، وكيف يمكن لأمير المؤمنين - عليه السلام - والأئمة من بعده أن يكتموه عن شيعتهم؟!.
8- التوراة والإنجيل والزبور:
عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه كان يقرأ الإنجيل والتوراة والزبور بالسيريانية انظر (الحجة من الكافي 1/207)، باب أن الأئمة عليهم السلام عندهم جميع الكتب التي نزلت من الله عز وجل، وأنهم يعرفونها كلها على اختلاف ألسنتها.
9- القرآن:
والقرآن لا يحتاج لإثباته نص، ولكن كتب فقهائنا وأقوال جميع مجتهدينا تنص على أنه محرف، وهو الوحيد الذي أصابه التحريف من بين كل تلك الكتب.
وقد جمع المحدث النوري الطبرسي في إثبات تحريفه كتاباً ضخم الحجم سماه: (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) جمع فيه أكثر من ألفي رواية تنص على التحريف، وجمع فيه أقوال جميع الفقهاء وعلماء الشيعة في التصريح بتحريف القرآن الموجود بين أيدي المسلمين حيث أثبت أن جميع علماء الشيعة وفقهائهم المتقدمين منهم والمتأخرين يقولون إن هذا القرآن الموجود اليوم بين أيدي المسلمين محرف.
قال السيد هاشم البحراني: وعندي في وضوح صحة هذا القول -أي القول بتحريف القرآن- بعد تتبع الأخبار وتفحص الآثار بحيث يمكن الحكم بكونه من ضروريات مذهب التشيع، وأنه من أكبر مقاصد غصب الخلافة فتدبر (مقدمة البرهان، الفصل الرابع 49).
وقال السيد نعمة الله الجزائري رداً على من يقول بعدم التحريف:
إن تسليم تواتره عن الوحي الإلهي، وكون الكل قد نزل به الروح الأمين يفضي إلى طرح الأخبار المستفيضة، مع أن أصحابنا قد أطبقوا على صحتها والتصديق بها، (الأنوار النعمانية 2/357)، ولهذا قال أبو جعفر كما نقل عنه جابر: (ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما نزل إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده) (الحجة من الكافي 1/26).(164/64)
ولا شك أن هذا النص صريح في إثبات تحريف القرآن الموجود اليوم عند المسلمين.
والقرآن الحقيقي هو الذي كان عند علي والأئمة من بعده عليهم السلام، حتى صار عند القائم عليه وعلى آبائه الصلاة والسلام.
ولهذا قال الإمام الخوئي في وصيته لنا وهو على فراش الموت، عندما أوصانا كادر التدريس في الحوزة:
(عليكم بهذا القرآن حتى يظهر قرآن فاطمة)
وقرآن فاطمة الذي يقصده الإمام هو المصحف الذي جمعه علي - عليه السلام - والذي تقدمت الإشارة إليه آنفاً.
إن من أغرب الأمور وأنكرها أن تكون كل هذه الكتب قد نزلت من عند الله، واختص بها أمير المؤمنين سلام الله عليه والأئمة من بعده، ولكنها تبقى مكتومة عن الأمة وبالذات عن شيعة أهل البيت، سوى قرآن بسيط قد عبثت به الأيادي فزادت فيه ما زادت، وأنقصت منه ما أنقصت - على حد قول فقهائنا-
إذا كانت هذه الكتب قد نزلت من عند الله حقاً، وحازها أمير المؤمنين صدقاً فما معنى إخفائها عن الأمة وهي من أحوج ما تكون إليها في حياتها وفي عبادتها لربها؟
علل كثير من فقهائنا ذلك لأجل الخوف عليها من الخصوم!!
ولنا أن نسأل: أيكون أمير المؤمنين وأسد بني هاشم جباناً بحيث لا يستطيع أن يدافع عنها؟!
أيكتم أمرها ويحرم الأمة منها خوفاً من خصومه؟!
لا والذي رفع السماء بغير عمد، ما كان لابن أبي طالب أن يخاف غير الله وإذا سألنا: ماذا يفعل أمير المؤمنين والأئمة من بعده بالزبور والتوراة والإنجيل حتى يتداولوها فيما بينهم ويقرؤونها في سرهم؟
إذا كانت النصوص تدعي أن أمير المؤمنين وحده حاز القرآن كاملاً وحاز كل تلك الكتب والصحائف الأخرى؛ فما حاجته إلى الزبور والتوراة والإنجيل؟ وبخاصة إذا علمنا أن هذه الكتب نسخت بنزول القرآن؟
إني أشم رائحة أيد خبيثة فهي التي دست هذه الروايات وكذبت على الأئمة وسيأتي إثبات ذلك في فصل خاص إن شاء الله.(164/65)
نحن نعلم أن الإسلام ليس له إلا كتاب واحد هو القرآن الكريم، وأما تعدد الكتب فهذا من خصائص اليهود والنصارى كما هو واضح في كتبهم المقدسة المتعددة.
فالقول بأن أمير المؤمنين حاز كتباً متعددة، وأن هذه الكتب كلها من عند الله، وأنها كتب حوت قضايا شرعية هو قول باطل، أدخله إلينا بعض اليهود الذين تستروا بالتشيع.
نظرة الشيعة إلى أهل السنة
عندما نطالع كتبنا المعتبرة وأقوال فقهائنا ومجتهدينا نجد أن العدو الوحيد للشيعة هم أهل السنة، ولذا وصفوهم بأوصاف وسموهم بأسماء: فسموهم (العامة) وسموهم النواصب، وما زال الاعتقاد عند معاشر الشيعة أن لكل فرد من أهل السنة ذيلاً في دبره، وإذا شتم أحدهم الآخر وأراد أن يغلظ له في الشتيمة قال له: (عظم سني في قبر أبيك) وذلك لنجاسة السني في نظرهم إلى درجة لو اغتسل ألف مرة لما طهر ولما ذهبت عنه نجاسته.
ما زلت أذكر أن والدي رحمه الله التقى رجلاً غريباً في أحد أسواق المدينة، وكان والدي رحمه الله محباً للخير إلى حد بعيد، فجاء به إلى دارنا ليحل ضيفاً عندنا في تلك الليلة فأكرمناه بما شاء الله تعالى، وجلسنا للسمر بعد العشاء وكنت وقتها شاباً في أول دراستي في الحوزة، ومن خلال حديثنا تبين أن الرجل سني المذهب ومن أطراف سامراء جاء إلى النجف لحاجة ما، بات الرجل تلك الليلة، ولما أصبح أتيناه بطعام الإفطار فتناول طعامه ثم هم بالرحيل، فعرض عليه والدي رحمه الله مبلغاً من المال فلربما يحتاجه في سفره، شكر الرجل حسن ضيافتنا، فلما غادر أمر والدي بحرق الفراش الذي نام فيه وتطهير الإناء الذي أكل فيه تطهيراً جيداً لاعتقاده بنجاسة السني وهذا اعتقاد الشيعة جميعاً، إذ أن فقهاءنا قرنوا السني بالكافر والمشرك والخنزير وجعلوه من الأعيان النجسة ولهذا:(164/66)
1- وجب الاختلاف معهم: فقد روى الصدوق عن علي بن أسباط قال: قلت للرضا - عليه السلام -: يحدث الأمر لا أجد بداً من معرفته، وليس في البلد الذي أنا فيه من أستفتيه من مواليك؟ قال: فقال: ائت فقيه البلد فاستفته في أمرك فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه فإن الحق فيه (عيون أخبار الرضا 1/275 ط.طهران).
وعن الحسين بن خالد عن الرضا أنه قال: (شيعتنا المسلمون لأمرنا، الآخذون بقولنا المخالفون لأعدائنا، فمن لم يكن كذلك فليس منا) (الفصول المهمة 225 ط.قم).
وعن المفضل بن عمر عن جعفر أنه قال: (كذب من زعم أنه من شيعتنا وهو متوثق بعروة غيرنا) (الفصول المهمة 225).
2- عدم جواز العمل بما يوافق العامة ويوافق طريقتهم:
وهذا باب عقده الحر العاملي في كتابه وسائل الشيعة فقال:
والأحاديث في ذلك متواترة .. فمن ذلك قول الصادق - عليه السلام - في الحديثين المختلفين: أعرضوهما على أخبار العامة، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه.
وقال الصادق - عليه السلام -: إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم.
وقال - عليه السلام -: خذ بما فيه خلاف العامة، وقال: ما خالف العامة ففيه الرشاد.
وقال - عليه السلام -: ما أنتم والله على شيء مما هم فيه، ولا هم على شيء مما أنتم فيه فخالفوهم فما هم من الحنيفية على شيء.
وقوله - عليه السلام -: والله ما جعل الله لأحد خيرة في أتباع غيرنا، وإن من وافقنا خالف عدونا، ومن وافق عدونا في قول أو عمل فليس منا ولا نحن منه.
وقول العبد الصالح - عليه السلام - في الحديثين المختلفين: خذ بما خالف القوم، وما وافق القوم فاجتنبه.
وقول الرضا - عليه السلام -: إذا ورد عليكم خبران متعارضان فانظروا إلى ما يخالف منهما العامة فخذوه، وانظروا بما يوافق أخبارهم فدعوه.
وقول الصادق - عليه السلام -: والله ما بقي في أيديهم شيء من الحق إلا استقبال القبلة انظر (الفصول المهمة 325-326).(164/67)
وقال الحر عن هذه الأخبار بأنها: (قد تجاوزت حد التواتر، فالعجب من بعض المتأخرين حيث ظن أن الدليل هنا خبر واحد).
وقال أيضاً: (واعلم أنه يظهر من هذه الأحاديث المتواترة بطلان أكثر القواعد الأصولية المذكورة في كتب العامة) (الفصول المهمة 326).
3- أنهم لا يجتمعون مع السنة على شيء: قال السيد نعمة الله الجزائري:
(إنا لا نجتمع معهم -أي مع السنة- على إله ولا على نبي ولا على إمام، وذلك أنهم يقولون: إن ربهم هو الذي كان محمد نبيه وخليفته من بعده أبو بكر.
ونحن لا نقول بهذا الرب ولا بذلك النبي، بل نقول: إن الرب الذي خليفة نبيه أبو بكر ليس ربنا ولا ذلك النبي نبينا)(1).
(الأنوار الجزائرية 2/278)، باب نور في حقيقة دين الإمامية والعلة التي من أجلها يجب الأخذ بخلاف ما تقوله العامة:
عقد الصدوق هذا الباب في علل الشرائع فقال:
عن أبي إسحاق الأرجائي رفعه قال: قال أبو عبد الله - عليه السلام -:
أتدري لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما تقوله العامة؟
فقلت: لا ندري.
فقال: إن علياً لم يكن يدين الله بدين إلا خالف عليه الأمة إلى غيره إرادة لإبطال أمره. وكانوا يسألون أمير المؤمنين - عليه السلام - عن الشيء الذي لا يعلمونه فإذا أفتاهم جعلوا له ضداً من عندهم ليلبسوا على الناس) (531 طبع إيران)
__________
(1) - إن الواقع يثبت أن الله تعالى هو رب العالمين، ومحمد صلى الله عليه وآله هو نبيه، وأبو بكر خليفة محمد على الأمة سواء كانت خلافته شرعية أم لا، فكلام السيد الجزائري خطير للغاية فهو يعني: إذا ثبت أن أبا بكر خليفة محمد، ومحمد نبي الله فإن السيد الجزائري لا يعترف بهذا الإله ولا نبيه محمد، والواقع يثبت أن أبا بكر خليفة محمد سواء كانت خلافته شرعية أم لا، وقد عرضت الأمر على الإمام الخوئي فسألته عن الحكم الشرعي في الموضوع بصورة غير مباشرة في قصة مشابهة فقال: إن من يقول هذا الكلام فهو كافر بالله ورسوله وأهل البيت عليهم السلام.(164/68)
ويتبادر إلى الأذهان السؤال الآتي:
لو فرضنا أن الحق كان مع العامة في مسألة ما أيجب علينا أن نأخذ بخلاف قولهم؟ أجابني السيد محمد باقر الصدر مرة فقال: نعم يجب الأخذ بخلاف قولهم، لأن الأخذ بخلاف قولهم وإن كان خطأ فهو أهون من موافقتهم على افتراض وجود الحق عندهم في تلك المسألة.
إن كراهية الشيعة لأهل السنة ليست وليدة اليوم، ولا تختص بالسنة المعاصرين بل هي كراهية عميقة تمتد إلى الجيل الأول لأهل السنة وأعني الصحابة ما عدا ثلاثة منهم وهم أبو ذر والمقداد وسلمان، ولهذا روى الكليني عن أبي جعفر قال: (كان الناس أهل ردة بعد النبي صلى الله عليه وآله إلا ثلاثة المقداد بن الأسود وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري) (روضة الكافي 8/246).
لو سألنا اليهود: من هم أفضل الناس في ملتكم؟
لقالوا: إنهم أصحاب موسى.
ولو سألنا النصارى: من هم أفضل الناس في أمتكم؟
لقالوا: إنهم حواريو عيسى.
ولو سألنا الشيعة: من هم أسوأ الناس في نظركم وعقيدتكم؟
لقالوا: إنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله.
إن أصحاب محمد هم أكثر الناس تعرضاً لسب الشيعة ولعنهم وطعنهم وبالذات أبو بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة زوجتا النبي صلوات الله عليه، ولهذا ورد في دعاء صنمي قريش: (اللهم العن صنمي قريش -أبو بكر وعمر- وجبتيهما وطاغوتيهما، وابنتيهما -عائشة وحفصة..الخ) وهذا دعاء منصوص عليه في الكتب المعتبرة. وكان الإمام الخميني يقوله بعد صلاة الصبح كل يوم.
عن حمزة بن محمد الطيار أنه قال: ذكرنا محمد بن أبي بكر عند أبي عبد الله - عليه السلام - فقال: (رحمه الله وصلى عليه، قال محمد بن أبي بكر لأمير المؤمنين يوماً من الأيام: أبسط يدك أبايعك، فقال: أو ما فعلت؟
قال: بلى، فبسط يده، فقال:
أشهد أنك إمام مفترض طاعته، وإن أبي - يريد أبا بكر أباه - في النار) (رجال الكشي 61).(164/69)
وعن شعيب عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: (ما من أهل بيت إلا وفيهم نجيب من أنفسهم، وأنجب النجباء من أهل بيت سوء محمد بن أبي بكر) (الكشي 61).
وأما عمر فقال السيد نعمة الله الجزائري:
(إن عمر بن الخطاب كان مصاباً بداء في دبره لا يهدأ إلا بماء الرجال) (الأنوار النعمانية 1/63).
واعلم أن في مدينة كاشان الإيرانية في منطقة تسمى (باغي فين) مشهداً على غرار الجندي المجهول فيه قبر وهمي لأبي لؤلؤة فيروز الفارسي المجوسي قاتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حيث أطلقوا عليه ما معناه بالعربية (مرقد باب شجاع الدين) وباب شجاع الدين هو لقب أطلقوه على أبي لؤلؤة لقتله عمر بن الخطاب، وقد كتب على جدران هذا المشهد بالفارسي (مرك بر أبو بكر، مرك بر عمر، مرك بر عثمان) ومعناه بالعربية: الموت لأبي بكر الموت لعمر الموت لعثمان.
وهذا المشهد يزار من قبل الإيرانيين، وتلقى فيه الأموال والتبرعات، وقد رأيت هذا المشهد بنفسي، وكانت وزارة الإرشاد الإيرانية قد باشرت بتوسيعه وتجديده، وفوق ذلك قاموا بطبع صورة المشهد على كارتات تستخدم لإرسال الرسائل والمكاتيب.
روى الكليني عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: (..إن الشيخين -أبا بكر وعمر- فارقا الدنيا ولم يتوبا ولم يذكرا ما صنعا بأمير المؤمنين - عليه السلام - فعليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) (روضة الكافي 8/246).
وأما عثمان فعن علي بن يونس البياضي: كان عثمان ممن يلعب به وكان مخنثاً (الصراط المستقيم 2/30).
وأما عائشة فقد قال ابن رجب البرسي: (إن عائشة جمعت أربعين ديناراً من خيانة (مشارف أنوار اليقين 86).
وإني أتساءل: إذا كان الخلفاء الثلاثة بهذه الصفات فلم بايعهم أمير المؤمنين - عليه السلام -؟ ولم صار وزيراً لثلاثتهم طيلة مدة خلافتهم؟
أكان يخافهم؟ معاذ الله.(164/70)
ثم اذا كان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب مصاباً بداء في دبره ولا يهدأ إلا بماء الرجال كما قال السيد الجزائري، فكيف إذن زوجه أمير المؤمنين - عليه السلام - ابنته أم كلثوم؟ أكانت إصابته بهذا الداء، خافية على أمير المؤمنين - عليه السلام - وعرفها السيد الجزائري؟!.. إن الموضوع لا يحتاج إلى أكثر من استعمال العقل للحظات.
وروى الكليني: (إن الناس كلهم أولاد زنا أو قال بغايا ما خلا شيعتنا) (الروضة 8/135).
ولهذا أباحوا دماء أهل السنة وأموالهم فعن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: ما تقول في قتل الناصب؟
فقال: حلال الدم، ولكني أتقي عليك، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطاً أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد عليك فافعل) (وسائل الشيعة 18/463)، (بحار الأنوار 27/231).
وعلق الإمام الخميني على هذا بقوله: فإن استطعت أن تأخذ ماله فخذه، وابعث إلينا بالخمس.
وقال السيد نعمة الله الجزائري: (إن علي بن يقطين وزير الرشيد اجتمع في حبسه جماعة من المخالفين، فأمر غلمانه وهدموا أسقف المحبس على المحبوسين فماتوا كلهم وكانوا خمسمائة رجل) (الأنوار النعمانية 3/308).(164/71)
وتحدثنا كتب التاريخ عما جرى في بغداد عند دخول هولاكو فيها، فإنه ارتكب أكبر مجزرة عرفها التاريخ، بحيث صبغ نهر دجلة باللون الأحمر لكثرة من قتل من أهل السنة، فانهار من الدماء جرت في نهر دجلة، حتى تغير لونه فصار أحمر، وصبغ مرة أخرى باللون الأزرق لكثرة الكتب التي ألقيت فيه، وكل هذا بسبب الوزيرين النصير الطوسي ومحمد بن العلقمي فقد كانا وزيرين للخليفة العباسي، وكانا شيعيين، وكانت تجري بينهما وبين هولاكو مراسلات سرية حيث تمكنا من إقناع هولاكو بدخول بغداد وإسقاط الخلافة العباسية التي كانا وزيرين فيها، وكانت لهما اليد الطولى في الحكم، ولكنهما لم يرتضيا تلك الخلافة لأنها تدين بمذهب أهل السنة، فدخل هولاكو بغداد وأسقط الخلافة العباسية، ثم ما لبثا حتى صارا وزيرين لهولاكو مع أن هولاكو كان وثنياً.
ومع ذلك فإن الإمام الخميني يترضى على ابن يقطين والطوسي والعلقمي، ويعتبر ما قاموا به يعد من أعظم الخدمات الجليلة لدين الإسلام.
وأختم هذا الباب بكلمة أخيرة وهي شاملة وجامعة في هذا الباب قول السيد نعمة الله الجزائري في حكم النواصب (أهل السنة) فقال: إنهم كفار أنجاس بإجماع علماء الشيعة الإمامية، وإنهم شر من اليهود والنصارى، وإن من علامات الناصبي تقديم غير علي عليه في الإمامة) (الأنوار النعمانية 2/206-207).
وهكذا نرى أن حكم الشيعة في أهل السنة يتلخص بما يأتي:(164/72)
أنهم كفار، أنجاس، شر من اليهود والنصارى، أولاد بغايا، يجب قتلهم وأخذ أموالهم، لا يمكن الالتقاء معهم في شيء لا في رب ولا في نبي ولا في إمام ولا يجوز موافقتهم في قول أو عمل، ويجب لعنهم وشتمهم وبالذات الجيل الأول أولئك الذين أثنى الله تعالى عليهم في القرآن الكريم، والذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله في دعوته وجهاده .. وإلا فقل لي بالله عليك من الذي كان مع النبي صلوات الله عليه في كل المعارك التي خاضها مع الكفار؟، فمشاركتهم في تلك الحروب كلها دليل على صدق إيمانهم وجهادهم فلا يلتفت إلى ما يقوله فقهاؤنا.
لما انتهى حكم آل بهلوي في إيران على أثر قيام الثورة الإسلامية وتسلم الإمام الخميني زمام الأمور فيها، توجب على علماء الشيعة زيارة وتهنئة الإمام بهذا النصر العظيم لقيام أول دولة شيعية في العصر الحديث يحكمها الفقهاء.
وكان واجب التهنئة يقع علي شخصياً أكثر من غيري لعلاقتي الوثيقة بالإمام الخميني، فزرت إيران بعد شهر ونصف -وربما أكثر- من دخول الإمام طهران إثر عودته من منفاه باريس، فرحب بي كثيراً، وكانت زيارتي منفردة عن زيارة وفد علماء الشيعة في العراق.
وفي جلسة خاصة مع الإمام قال لي: سيد حسين آن الأوان لتنفيذ وصايا الأئمة صلوات الله عليهم، سنسفك دماء النواصب ونقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم، ولن نترك أحداً منهم يفلت من العقاب، وستكون أموالهم خالصة لشيعة أهل البيت، وسنمحو مكة والمدينة من وجه الأرض لأن هاتين المدينتين صارتا معقل الوهابيين، ولا بد أن تكون كربلاء أرض الله المباركة المقدسة، قبلة للناس في الصلاة وسنحقق بذلك حلم الأئمة عليهم السلام، لقد قامت دولتنا التي جاهدنا سنوات طويلة من أجل إقامتها، وما بقي إلا التنفيذ!!.
ملاحظة:(164/73)
اعلم أن حقد الشيعة على العامة -أهل السنة- حقد لا مثيل له، ولهذا أجاز فقهاؤنا الكذب على أهل السنة وإلصاق التهم الكاذبة بهم والافتراء عليهم ووصفهم بالقبائح.
والآن ينظر الشيعة إلى أهل السنة نظرة حاقدة بناء على توجيهات صدرت من مراجع عليا، وصدرت التوجيهات إلى أفراد الشيعة بوجوب التغلغل في أجهزة الدولة ومؤسساتها وبخاصة المهمة منها كالجيش والأمن والمخابرات وغيرها من المسالك المهمة فضلاً عن صفوف الحزب.
وينتظر الجميع -بفارغ الصبر- ساعة الصفر لإعلان الجهاد والانقضاض على أهل السنة، حيث يتصور عموم الشيعة أنهم بذلك يقدمون خدمة لأهل البيت صلوات الله عليهم، ونسوا أن الذي يدفعهم إلى هذا أناس يعملون وراء الكواليس ستأتي الإشارة إليهم في الفصل الآتي.
أثر العناصر الأجنبية في صنع التشيع
عرفنا في الفصل الأول من هذا الكتاب دور اليهودي عبد الله بن سبأ في صنع التشيع وهذه حقيقة يتغافل عنها الشيعة جميعاً من عوامهم وخواصهم.
لقد فكرت كثيراً في هذا الموضوع وعلى مدى سنوات طوال، فاكتشفت كما اكتشف غيري أن هناك رجالاً لهم دور خطير في إدخال عقائد باطلة وأفكار فاسدة إلى التشيع.
إن مكوثي هذه المدة الطويلة في حوزة النجف العلمية التي هي أم الحوزات، واطلاعي على أمهات المصادر جعلني أقف على حقائق خطيرة يجهلها أو يتجاهلها الكثيرون، واكتشفت شخصيات مريبة كان لها دور كبير في انحراف المنهج الشيعي إلى ما هو عليه اليوم، فما فعله أهل الكوفة بأهل البيت عليهم السلام وخيانتهم لهم كما تقدم بيانه يدلك على أن الذين فعلوا ذلك بهم كانوا من المتسترين بالتشيع والموالاة لأهل البيت.
ولنأخذ نماذج من هؤلاء المتسترين بالتشيع:
هشام بن الحكم:
وهشام هذا حديثه في الصحاح الثمانية وغيرها.
إن هشام تسبب في سجن الإمام الكاظم ومن ثم قتله، ففي رجال الكشي (أن هشام بن الحكم ضال مضل شرك في دم أبي الحسن - عليه السلام - 229).(164/74)
(قال هشام لأبي الحسن - عليه السلام -: أوصني، قال أوصيك أن تتقي الله في دمي) (رجال الكشي 226).
وقد طلب منه أبو الحسن - عليه السلام - أن يمسك عن الكلام، فأمسك شهراً ثم عاد فقال له أبو الحسن: (يا هشام أيسرك أن تشرك في دم امرئ مسلم؟
قال: لا.
قال: وكيف تشرك في دمي؟ فإن سكت وإلا فهو الذبح.
فما سكت حتى كان من أمره ما كان - عليه السلام -) (رجال الكشي 231).
أيمكن لرجل مخلص لأهل البيت أن يشرك في قتل هذا الإمام - عليه السلام -؟.
اقرأ معي هذه النصوص:
عن محمد بن الفرج الرخجي قال: كتبت إلى أبي الحسن - عليه السلام - أسأله عما قال هشام بن الحكم في الجسم، وهشام بن سالم -الجواليقي- في الصورة.
فكتب: دع عنك حيرة الحيران واستعذ بالله من الشيطان ليس القول ما قال الهشامان (أصول الكافي 1/105، بحار الأنوار 3/288، الفصول المهمة 51).
لقد زعم هشام بن الحكم أن الله جسم، وزعم هشام بن سالم أن الله صورة.
وعن إبراهيم بن محمد الخزاز، ومحمد بن الحسين قالا: دخلنا على أبي الحسن الرضا - عليه السلام -، فحكينا له ما روي أن محمداً رأى ربه في هيئة الشاب الموفق في سن أبناء الثلاثين سنة، رجلاه في خضره، وقلنا:
(إن هشام بن سالم وصاحب الطاق والميثمي يقولون: إنه أجوف إلى السرة والباقي صمد..الخ) (أصول الكافي 1/101)، (بحار الأنوار 4/40).
فهل يعقل أن الله تعالى في هيئة شاب في ثلاثين سنة، وأنه أجوف إلى السرة؟؟.
إن هذا الكلام يوافق بالضبط قول اليهود في توراتهم أن الله عبارة عن إنسان كبير الحجم وهذا منصوص عليه في سفر التكوين من توراة اليهود.
فهذه آثار يهودية أدخلت إلى التشيع على يد هشام بن الحكم المتسبب والمشترك في مقتل الإمام الكاظم - عليه السلام -، ويد هشام بن سالم وشيطان الطاق والميثمي علي بن إسماعيل صاحب كتاب الإمامة.
ولو نظرنا في كتبنا المعتبرة كالصحاح الثمانية وغيرها لوجدنا أحاديث هؤلاء في قائمة الصدارة.(164/75)
زرارة بن أعين:
قال الشيخ الطوسي: (إن زرارة من أسرة نصرانية، وإن جده (سنسن وقيل سبسن) كان راهباً نصرانياً، وكان أبوه عبداً رومياً لرجل من بني شيبان) (الفهرست 104)، وزرارة هو الذي قال: (سألت أبا عبد الله عن التشهد .. إلى أن قال: فلما خرجت ضرطت في لحيته وقلت: لا يفلح أبداً)(1) (رجال الكشي 142).
وقال زرارة أيضاً: (والله لو حدثت بكل ما سمعته من أبي عبد الله لانتفخت ذكور الرجال على الخشب)(2) (رجال الكشي 123).
عن ابن مسكان قال: سمعت زرارة يقول:
(رحم الله أبا جعفر، وأما جعفر فإن في قلبي عليه لفتة.
فقلت له: وما حمل زرارة على هذا؟
قال: حمله على هذا أن أبا عبد الله أخرج مخازيه) (الكشي 131).
ولهذا قال أبو عبد الله فيه: (لعن الله زرارة) (133).
وقال أبو عبد الله - عليه السلام - أيضاً: اللهم لو لم تكن جهنم إلا سكرجة(3) لوسعها آل أعين بن سنسن (133).
وقال أبو عبد الله: لعن الله بريداً، لعن الله زرارة (134).
وقال أيضاً: لا يموت زرارة إلا تائهاً عليه لعنة الله (134)، وقال أبو عبد الله أيضاً: هذا زرارة بن أعين، هذا والله من الذين وصفهم الله تعالى في كتابه العزيز
{ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً } [الفرقان:23] (رجال الكشي 136).
__________
(1) - إن من يضرط في لحية أبي عبد الله - عليه السلام - ويقول عنه لا يفلح أبداً لا يمكن أن يكون مسلماً ومخلصاً لأهل البيت عليهم السلام.
(2) - وهذا اتهام منه لأبي عبد الله ومراده أن أبا عبد الله قد حدثه بقضايا مخزية كثيراً شهوة الرجال بحيث لا يمكنهم ضبط النفس عند سماعهم ذلك إلا إذا قضى أحدهم شهوته حتى ولو على خشبة.
(3) - سكرجة: هو إناء صغير يؤكل فيه الشيء القليل، وهذه الكلمة فارسية معربة.(164/76)
وقال: إن قوماً يعارون الإيمان عارية، ثم يسلبونه، فيقال لهم يوم القيامة المعارون، أما إن زرارة بن أعين لمنهم (141) وقال أيضاً: إن مرض فلا تعده، وإن مات فلا تشهد جنازته.
فقيل له: زرارة؟ متعجباً، قال نعم زرارة شر من اليهود والنصارى ومن قال إن الله ثالث ثلاثة. إن الله قد نكس زرارة، وقال: إن زرارة قد شك في إمامتي فاستوهبته من ربي(1)(138).
قلت: فإذا كان زرارة من أسرة نصرانية وكان قد شك في إمامة أبي عبد الله، وهو الذي قال بأنه ضرط في لحية أبي عبد الله وقال عنه لا يفلح أبداً فما الذي نتوقع أن يقدمه لدين الإسلام؟؟.
إن صحاحنا طافحة بأحاديث زرارة، وهو في مركز الصدارة بين الرواة، وهو الذي كذب على أهل البيت وأدخل في الإسلام بدعاً ما أدخل مثلها أحد كما قال أبو عبد الله، ومن راجع صحاحنا وجد مصداق هذا الكلام، ومثله بريد حتى إن أبا عبد الله - عليه السلام - لعنهما.
أبو بصير ليث بن البختري.
أبو بصير هذا تجرأ على أبي الحسن موسى الكاظم - عليه السلام - عندما سئل - عليه السلام - عن رجل تزوج امرأة لها زوج ولم يعلم.
قال أبو الحسن - عليه السلام -: (ترجم المرأة وليس على الرجل شيء إذا لم يعلم) .. فضرب أبو بصير المرادي على صدره يحكها وقال: أظن صاحبنا ما تكامل علمه (رجال الكشي 154).
أي أنه يتهم الكاظم - عليه السلام - بقلة العلم!!.
ومرة تذاكر ابن أبي اليعفور وأبو بصير في أمر الدنيا، فقال أبو بصير:
__________
(1) - إن عامة مراجعنا وعلمائنا يفسرون قول أبي عبد الله وطعنه في زرارة على أنه من باب التقية، وهذا طبعاً مردود فإذا كان قول أبي عبد الله من باب التقية، فماذا يكون قول زرارة وطعنه في أبي عبد الله عندما قال لعنه الله بأنه ضرط في لحية أبي عبد الله أهو تقية أيضاً؟؟.
لا إن هذا يثبت لنا أن قطيعة كانت بين أبي عبد الله وزرارة سببها أقوال زرارة وأفعاله الشنيعة وبدعه المنكرة وإلا لما قال فيه أبو عبد الله ما قال.(164/77)
أما إن صاحبكم لو ظفر بها لاستأثر بها، فأغفى -أبو بصير- فجاء كلب يريد أن يشغر(1) عليه، فقام حماد بن عثمان ليطرده، فقال له ابن أبي يعفور: دعه، فجاءه حتى شغر في أذنيه (رجال الكشي 154).
أي أنه يتهم أبا عبد الله بالركون إلى الدنيا وحب الاستئثار بها فعاقبه الله تعالى بأن أرسل كلباً فبال بأذنيه جزاء له على ما قال في أبي عبد الله.
وعن حماد الناب قال: جلس أبو بصير على باب أبي عبد الله - عليه السلام - ليطلب الإذن، فلم يؤذن له فقال: لو كان معنا طبق لأذن، قال فجاء كلب فشغر في وجه أبي بصير، فقال -أبو بصير- أف أف ما هذا(2)؟.
فقال له جليسه: هذا كلب شغر في وجهك (رجال الكشي 155).
أي أنه يتهم أبا عبد الله - عليه السلام - بحب الثريد والطعام اللذيذ بحيث لا يأذن لأحد بالدخول عليه إلا إذا كان معه طبق طعام، لكن الله تعالى عاقبه أيضاً فأرسل كلباً فبال في وجهه عقاباً له على ما قال في أبي عبد الله - عليه السلام -.
ولم يكن أبو بصير موثوقاً في أخلاقه، ولهذا قال شاهداً على نفسه بذلك: كنت أقرئ امرأة كنت أعلمها القرآن، فمازحتها بشيء!!
قال: فقدمت على أبي جعفر - عليه السلام - -أي تشتكيه- قال: فقال لي أبو جعفر: يا أبا بصير أي شيء قلت للمرأة؟
قال: قلت بيدي هكذا وغطى وجهه!!
قال: فقال أبو جعفر: لا تعودن عليها (رجال الكشي 154).
أي أن أبا بصير مد يده ليلمس شيئاً من جسدها بغرض المداعبة (!!) والممازحة، مع أنه كان يقرئها القرآن!!.
وكان أبو بصير مخلطاً:
فعن محمّد بن مسعود قال: سألت علي بن الحسن عن أبي بصير فقال:
أبو بصير كان يكنى أبا محمّد وكان مولى لبني أسد وكان مكفوفاً.
فسألته هل يتهم بالغلو؟ فقال: أما الغلو فلا، لم يكن يتهم ولكن كان مخلطاً. (رجال الكشي 154).
قلت: أحاديثه في الصحاح كثيرة جداً وفيها عجب عجاب، فإذا كان مخلطاً فماذا أدخل في الدين من تخليط؟
__________
(1) - رفع رجله ليبول.
(2) - لأنه كان أعمى البصر.(164/78)
إن أحاديثه فيها عجب عجاب أليست هي من تخليطه؟؟
علماء طبرستان:
لقد ظهر في طبرستان جماعة تظاهروا بالعلم، وهم ممن اندسوا في التشيع لغرض الفساد والإفساد. من المعلوم أن الإنسان تشهد عليه آثاره، فإن كانت آثاره حسنة فهذا دليل حسن سلوكه وخلقه واعتقاده وسلامة سريرته، والعكس بالعكس فإن الآثار السيئة تدل على سوء من خلفها سواء في سلوكه أو خلقه أو اعتقاده وتدل على فساد سريرته.
إن بعض علماء طبرستان تركوا مخلفات تثير الشكوك حول شخصياتهم، ولنأخذ ثلاثة من أشهر من خرج من طبرستان:
1- الميرزا حسين بن تقي النوري الطبرسي مؤلف كتاب (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) جمع فيه أكثر من ألفي رواية من كتب الشيعة ليثبت بها تحريف القرآن الكريم. وجمع أقوال الفقهاء والمجتهدين، وكتابه وصمة عار في جبين كل شيعي.
إن اليهود والنصارى يقولون بأن القرآن محرف، فما الفرق بين كلام الطبرسي وبين كلام اليهود والنصارى؟ وهل هناك مسلم صادق في إسلامه يشهد على الكتاب الذي أنزله الله تعالى وتكفل بحفظه، يشهد عليه بالتحريف والتزوير والتبديل؟؟.
2- أحمد بن علي بن أبي طالب(1) الطبرسي صاحب كتاب (الاحتجاج).
أورد في كتابه روايات مصرحة بتحريف القرآن، وأورد أيضاً روايات زعم فيها أن العلاقة بين أمير المؤمنين والصحابة كانت سيئة جداً، وهذه الروايات هي التي تتسبب في تمزيق وحدة المسلمين، وكل من يقرأ هذا الكتاب يجد أن مؤلفه لم يكن سليم النية.
3- فضل بن الحسن الطبرسي صاحب مجمع البيان في تفسير القرآن، ذاك التفسير الذي شحنه بالمغالطات والتأويل المتكلف والتفسير الجاف المخالف لأبسط قواعد التفسير.
__________
(1) - أطلق على نفسه هذا الاسم لقصد التمويه حتى يتسنى له بث سمومه، وإلا فإن مثله لا يصح أن ينسب نفسه للتراب الذي كان يدوسه أمير المؤمنين - عليه السلام -. علماً أنه لا يعرف له أصل ولا تعرف له ترجمة.(164/79)
إن منطقة طبرستان والمناطق المجاورة لها مليئة باليهود الخزر، وهؤلاء الطبرسيون هم من يهود الخزر المتسترين بالإسلام، فمؤلفاتهم من أكبر الكتب الطاعنة بدين الإسلام بحيث لو قارنا بين (فصل الخطاب) وبين مؤلفات المستشرقين الطاعنة بدين الإسلام لرأينا (فصل الخطاب) أشد طعناً بالإسلام من مؤلفات أولئك المستشرقين.
وهكذا مؤلفات الآخرين.
توفي أحد السادة المدرسين في الحوزة النجفية، فغسلت جثمانه مبتغياً بذلك وجه الله، وساعدني في غسله بعض أولاده، فاكتشفت أثناء الغسل أن الفقيه الراحل غير مختون!! ولا أستطيع الآن أن أذكر اسم هذا (الفقيد) لأن أولاده يعرفون من الذي غسل أباهم فإذا ذكرته عرفوني وعرفوا بالتالي أني مؤلف هذا الكتاب واكتشف أمري ويحصل ما لا يحمد عقباه.
وهناك بعض السادة في الحوزة لي عليهم ملاحظات تثير الشكوك حولهم والريب، وأنا والحمد لله دائب البحث والتحري للتأكد من حقيقتهم.
ولنر لوناً آخر من آثار العناصر الأجنبية في التشيع، فقد عبثت هذه العناصر بكتبنا المعتبرة ومراجعنا المهمة، ولنأخذ نماذج يطلع القارئ من خلالها على حجم هذا العبث ومداه.
إن كتاب الكافي هو أعظم المصادر الشيعية على الإطلاق، فهو موثق من قبل الإمام الثاني عشر المعصوم الذي لا يخطئ ولا يغلط، إذ لما ألف الكليني كتاب الكافي عرضه على الإمام الثاني عشر في سردابه في سامراء، فقال الإمام الثاني عشر سلام الله عليه (الكافي كاف لشيعتنا) (انظر مقدمة الكافي 25).
قال السيد المحقق عباس القمي: (الكافي هو أجل الكتب الإسلامية وأعظم المصنفات الإمامية والذي لم يعمل للإمامية مثله)، قال المولى محمّد أمين الاسترابادي في محكي فوائده: (سمعنا من مشايخنا وعلمائنا أنه لم يصنف في الإسلام كتاب يوازيه أو يدانيه) (الكنى والألقاب 3/98).
ولكن اقرأ معي هذه الأقوال:(164/80)
قال الخوانساري: (اختلفوا في كتاب الروضة الذي يضم مجموعة من الأبواب هل هو أحد كتب الكافي الذي هو من تأليف الكليني أو مزيد عليه فيما بعد؟) (روضات الجنات 6/118).
قال الشيخ الثقة السيد حسين بن السيد حيدر الكركي العاملي المتوفى (1076هـ): (إن كتاب الكافي خمسون كتاباً بالأسانيد التي فيه لكل حديث متصل بالأئمة عليهم السلام) (روضات الجنات 6/114).
بينما يقول السيد أبو جعفر الطوسي المتوفى (460هـ).
(إن كتاب الكافي مشتمل على ثلاثين كتاباً) (الفهرست 161).
يتبين لنا من الأقوال المتقدمة أن ما زيد على الكافي ما بين القرن الخامس والقرن الحادي عشر، عشرون كتاباً وكل كتاب يضم الكثير من الأبواب، أي أن نسبة ما زيد في كتاب الكافي طيلة هذه المدة يبلغ 40% عدا تبديل الروايات وتغيير ألفاظها وحذف فقرات وإضافة أخرى فمن الذي زاد في الكافي عشرين كتاباً؟ .. أيمكن أن يكون إنساناً نزيهاً؟؟
وهل هو شخص واحد أم أشخاص كثيرون تتابعوا طيلة هذه القرون على الزيادة والتغيير والتبديل والعبث به؟؟!!
ونسأل: أما زال الكافي موثقاً من قبل المعصوم الذي لا يخطئ ولا يغلط؟؟!!(164/81)
ولنأخذ كتاباً آخر يأتي بالمرتبة الثانية بعد الكافي وهو أيضاً أحد الصحاح الأربعة الأولى، إنه كتاب (تهذيب الأحكام) للشيخ الطوسي مؤسس حوزة النجف، فإن فقهاءنا وعلماءنا يذكرون على أنه الآن (13590) حديثاً، بينما يذكر الطوسي نفسه مؤلف الكتاب -كما في عدة الأصول- أن تهذيب الأحكام هذا أكثر من (5000) حديث، أي لا يزيد في كل الأحوال عن (6000) حديث، فمن الذي زاد في الكتاب هذا الكم الهائل من الأحاديث الذي جاوز عدده العدد الأصلي لأحاديث الكتاب؟ مع ملاحظة البلايا التي رويت في الكافي وتهذيب الأحكام وغيرهما، فلا شك أنها إضافات لأيد خفية تسترت بالإسلام، والإسلام منها بريء، فهذا حال أعظم كتابين فما بالك لو تابعنا حال المصادر الأخرى ماذا نجد؟؟ ولهذا قال السيد هاشم معروف الحسني:
(وضع قصاص الشيعة مع ما وضعه أعداء الأئمة عدداً كثيراً من هذا النوع للأئمة الهداة) وقال أيضاً:
(وبعد التتبع في الأحاديث المنتشرة في مجاميع الحديث كالكافي والوافي وغيرهما نجد أن الغلاة والحاقدين على الأئمة الهداة لم يتركوا باباً من الأبواب إلا ودخلوا منه لإفساد أحاديث الأئمة والإساءة إلى سمعتهم) (الموضوعات 165، 253) وقد اعتذر بذلك الشيخ الطوسي في مقدمة التهذيب فقال: (ذاكرني بعض الأصدقاء بأحاديث أصحابنا وما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد، حتى لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابله ما ينافيه، حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا) ورغم حرص الطوسي على صيانة كتابه إلا أنه تعرض للتحريف كما رأيت.
في زيارتي للهند التقيت السيد دلدار علي فأهداني نسخة من كتابه (أساس الأصول) جاء في (ص51): (إن الأحاديث المأثورة عن الأئمة مختلفة جداً لا يكاد يوجد حديث إلا وفي مقابله ما ينافيه، ولا يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده) وهذا الذي دفع الجم الغفير إلى ترك مذهب الشيعة.(164/82)
ولننظر في القول بتحريف القرآن، فإن أول كتاب نص على التحريف هو كتاب سليم بن قيس الهلالي (ت90 هـ) فإنه أورد روايتين فقط، وهو أول كتاب ظهر للشيعة، ولا يوجد فيه غير هاتين الروايتين.
ولكن إن رجعنا إلى كتبنا المعتبرة والتي كتبت بعد كتاب سليم بن قيس بدهور فإن ما وصل إلينا منها طافح بروايات التحريف، حتى تسنى للنوري الطبرسي جمع أكثر من ألفي رواية في كتابه (فصل الخطاب).
فمن الذي وضع هذه الروايات؟ وبخاصة إذا رجعنا إلى ما ذكرناه آنفاً في بيان ما أضيف إلى الكتب وبالذات الصحاح تبين أن هذه الروايات وضعت في الأزمان المتأخرة عن كتاب سليم بن قيس وقد يكون في القرن السادس أو السابع، حتى أن الصدوق المتوفى (381هـ) قال: (إن من نسب للشيعة مثل هذا القول -أي التحريف- فهو كاذب) لأنه لم يسمع بمثل هذه الروايات، ولو كانت موجودة فعلاً لعلم بها أو لسمع.
وكذلك الطوسي أنكر نسبة هذا الأمر إلى الشيعة كما في تفسير (التبيان في تفسير القرآن) ط. النجف (1383هـ) وأما كتاب سليم بن قيس فهو مكذوب على سليم بن قيس وضعه أبان بن أبي عياش ثم نسبه إلى سليم.
وأبان هذا قال عنه ابن المطهر الحلي والأردبيلي: (ضعيف جداً وينسب أصحابنا وضع كتاب سليم بن قيس إليه) انظر (رجال الحلي ص206)، (جامع الرواة للأردبيلي 1/9).
ولما قامت الدولة الصفوية صار هناك مجال كبير لوضع الروايات وإلصاقها بالإمام الصادق وبغيره من الأئمة سلام الله عليهم. بعد هذا الموجز السريع تبين لنا أن مصنفات علمائنا لا يوثق بها، ولا يعتمد عليها، إذ لم يعتن بها، ولهذا عبثت بها أيدي العدى، فكان من أمرها ما قد عرفت.
والآن نريد أن نعرج على لون آخر من آثار العناصر الأجنبية في التشيع.
إنها قضية الإمام الثاني عشر وهي قضية خطيرة جداً.(164/83)
لقد تناول الأخ الفاضل السيد أحمد الكاتب هذا الموضوع فبين أن الإمام الثاني عشر لا حقيقة له، ولا وجود لشخصه، وقد كفانا الفاضل المذكور مهمة البحث في هذا الموضوع، ولكني أقول: كيف يكون له وجود وقد نصت كتبنا المعتبرة على أن الحسن العسكري -الإمام الحادي عشر- توفي ولم يكن له ولد، وقد نظروا في نسائه وجواريه عند موته فلم يجدوا واحدة منهن حاملاً أو ذات ولد. راجع لذلك كتاب (الغيبة للطوسي 74)، (الإرشاد للمفيد 345)، (أعلام الورى للفضل الطبرسي 380) (المقالات والفرق للأشعري للقمي 102).
وقد حقق الأخ الفاضل السيد أحمد الكاتب في مسألة نواب الإمام الثاني عشر، فأثبت أنهم قوم من الدجلة ادعوا النيابة من أجل الاستحواذ على ما يراد من أموال الخمس وما يلقى في المرقد أو عند السرداب من تبرعات.
ولنر ما يصنعه الإمام الثاني عشر المعروف بالقائم أو المنتظر عند خروجه:
1- يضع السيف في العرب:
(روى المجلسي أن المنتظر يسير في العرب بما في الجفر الأحمر وهو قتلهم) (بحار الأنوار 52/318).
وروى أيضاً: (ما بقي بيننا وبين العرب إلا الذبح) (بحارا لأنوار 52/349).
وروى أيضاً: (اتق العرب فإن لهم خبر سوء، أما إنه لم يخرج مع القائم منهم واحد) (بحار الأنوار 52/333).
قلت: فإذا كان كثير من الشيعة هم من أصل عربي؛ أيشهر القائم السيف عليهم ويذبحهم؟؟
لا .. لا.. إن وراء هذه النصوص رجالاً لعبوا دوراً خطيراً في بث هذه السموم. لا تستغربن ما دام كسرى قد خلص من النار إذ روى المجلسي عن أمير المؤمنين: (إن الله قد خلصه -أي كسرى- من النار وإن النار محرمة عليه) (البحار 41/4).
هل يعقل إن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه يقول إن الله قد خلص كسرى من النار، وإن النار محرمة عليه؟؟
2- يهدم المسجد الحرام، والمسجد النبوي.(164/84)
روى المجلسي: (أن القائم يهدم المسجد الحرام حتى يرده إلى أساسه والمسجد النبوي إلى أساسه) (بحار الأنوار 52/338)، (الغيبة للطوسي 282).
وبين المجلسي: (أن أول ما يبدأ به -القائم- يخرج هذين -يعني أبا بكر وعمر- رطبين غضين ويذريهما في الريح ويكسر المسجد) (البحار 52/386).
إن من المتعارف عليه، بل المسلم به عند جميع فقهائنا وعلمائنا أن الكعبة ليس لها أهمية، وأن كربلاء خير منها وأفضل، فكربلاء حسب النصوص التي أوردها فقهاؤنا هي أفضل بقاع الأرض، وهي أرض الله المختارة المقدسة المباركة، وهي حرم الله ورسوله وقبلة الإسلام وفي تربتها الشفاء، ولا تدانيها أرض أو بقعة أخرى حتى الكعبة.
وكان أستاذنا السيد محمّد الحسين آل كاشف الغطاء يتمثل دائماً بهذا البيت:
لكربلا بانَ علوُّ الرتبة
ومن حديث كربلا والكعبة
وقال آخر:
هي الطفوف فطف سبعاً بمغناها ... ... فما لمكة معنى مثل معناها
أرض ولكنها السبع الشداد لها ... ... دانت وطأطأ أعلاها لأدناها
ولنا أن نسأل: لماذا يكسر القائم المسجد ويهدمه ويرجعه إلى أساسه؟
والجواب: لأن من سيبقى من المسلمين لا يتجاوزون عشر عددهم كما بين الطوسي:
(لا يكون هذا الأمر حتى يذهب تسعة أعشار الناس) (الغيبة 146).
بسبب إعمال القائم سيفه عموماً وفي المسلمين خصوصاً.
3- يقيم حكم آل داود:
وعقد الكليني بابا في أن الأئمة عليهم السلام إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم آل داود، ولا يسألون البينة ثم روى عن أبي عبد الله قال: (إذا قام قائم آل محمّد حكم بحكم داود وسليمان ولا يسأل بينة) (الأصول من الكافي 1/397).
وروى المجلسي: (يقوم القائم بأمر جديد وكتاب جديد وقضاء جديد) (البحار 52/354)، (غيبة النعماني 154).
وقال أبو عبد الله - عليه السلام -: (لكأني انظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس على كتاب جديد) (البحار 52/135)، (الغيبة 176).(164/85)
ونختم هذه الفقرة بهذه الرواية المروعة، فقد روى المجلسي عن أبي عبد الله - عليه السلام -: (لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا خرج لأحب أكثرهم ألا يروه مما يقتل من الناس .. حتى يقول كثير من الناس: ليس هذا من آل محمد، ولو كان من آل محمّد لرحم) (البحار 52/353)، (الغيبة 135).
واستوضحت السيد الصدر عن هذه الرواية فقال: (إن القتل الحاصل بالناس أكثره مختص بالمسلمين) ثم أهدى لي نسخة من كتابه (تاريخ ما بعد الظهور) حيث كان قد بين ذلك في كتابه المذكور، وعلى النسخة الإهداء بخط يده.
ولا بد لنا من التعليق على هذه الروايات فنقول:
لماذا يعمل القائم سيفه في العرب؟ ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله عربياً؟
ألم يكن أمير المؤمنين وذريته الأطهار من العرب؟
بل القائم الذي يعمل سيفه في العرب كما يقولون أليس هو نفسه من ذرية أمير المؤمنين؟ وبالتالي أليس هو عربياً؟!
أليس في العرب الملايين ممن يؤمن بالقائم وبخروجه؟
فلماذا يخصص العرب بالقتل والذبح؟ وكيف يقال: لا يخرج مع القائم منهم واحد؟
وكيف يمكن أن يهدم المسجد الحرام والمسجد النبوي؟ مع أن المسجد الحرام هو قبلة المسلمين كما نص عليه القرآن وبين أنه أول بيت وجد على وجه الأرض، وكان رسول الله صلوات الله عليه قد صلى فيه، وصلى فيه أيضاً أمير المؤمنين والأئمة من بعده وخصوصاً الإمام الصادق الذي مكث فيه مدة طويلة.
لقد كان ظننا أن القائم سيعيد المسجد الحرام بعد هدمه إلى ما كان عليه زمن النبي صلى الله عليه وآله وقبل التوسعة، ولكن تبين لي فيما بعد أن المراد من قوله (يرجعه إلى أساسه) أي يهدمه ويسويه بالأرض، لأن قبلة الصلاة ستتحول إلى الكوفة.
روى الفيض الكاشاني: (يا أهل الكوفة لقد حباكم الله عز وجل بما لم يحب أحد من فضل، مصلاكم بيت آدم وبيت نوح وبيت إدريس ومصلى إبراهيم .. ولا تذهب الأيام حتى ينصب الحجر الأسود فيه) (الوافي 1/215).(164/86)
إذن نقل الحجر الأسود من مكة إلى الكوفة وجعل الكوفة مصلى بيت آدم ونوح وإدريس وإبراهيم دليل على اتخاذ الكوفة قبلة للصلاة بعد هدم المسجد الحرام، إذ بعد هذا لا معنى لإرجاعه إلى ما كان عليه قبل التوسعة ولا تبقى له فائدة، فلا بد له من الإزالة والهدم -حسبما ورد في الروايات- وتكون القبلة والحجر الأسود في الكوفة، وقد علمنا فيما سبق أن الكعبة ليست بذات أهيمة عند فقهائنا، فلا بد إذن من هدمها.
ونعود لنسأل مرة أخرى: ما هو الأمر الجديد الذي يقوم به القائم؟
وما هو الكتاب الجديد والقضاء الجديد؟
إن كان الأمر الذي يقوم به من صلب حكم آل محمّد فليس هو إذن بجديد.
وإن كان الكتاب من الكتب التي استأثر بها أمير المؤمنين حسبما تدعيه الروايات الواردة في كتبنا فليس هو بكتاب جديد.
وإن كان القضاء في أقضية محمّد وآله، والكتاب من غير كتبهم والقضاء من غير أقضيتهم فهو فعلا أمر جديد وقضاء جديد وكيف لا يكون جديدا والقائم سيحكم بحكم آل داود كما مر؟
أنه أمر من حكم آل داود، وكتاب من كتبهم، وقضاء من قضاء شريعتهم. ولهذا كان جديدا، ولذلك ورد في الرواية: (لكأني أنظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس على كتاب جديد) كما مر بيانه.
بقي أن تعلم أن ما يصنعه القائم حسبما جاء في الرواية المروعة، فإنه سيثخن في القتل بحيث يتمنى الناس ألا يروه لكثرة ما يقتل من الناس وبصورة بشعة لا رحمة فيها ولاشفقة، حتى يقول كثير من الناس ليس هذا من آل محمد، ولو كان من آل محمّد لرحم!!.
وبدورنا نسأل: بمن سيفتك القائم؟ ودماء من هذه التي سيجريها بهذه الصورة البشعة؟!.
إنها دماء المسلمين كما نصت عليه الروايات، وكما بين السيد الصدر.(164/87)
إذن ظهور القائم سيكون نقمة على المسلمين لا رحمة لهم، ولهم الحق إن قالوا أنه ليس من آل محمّد نعم لأن آل محمّد يرحمون ويشفقون على المسلمين، أما القائم فإنه لا يرحم ولا يشفق، فليس هو إذن من آل محمد، ثم أليس هو -أي القائم- سيملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً؟
فأين العدل إذن إذا كان سيقتل تسعة أعشار الناس وخاصة المسلمين؟ وهذا لم يفعله في تاريخ البشرية أحد، ولا حتى الشيوعيون الذين كانوا حريصين على تطبيق نظريتهم على حساب الناس. فتأمل!!
لقد أسلفنا أن القائم لا حقيقة له، وأنه غير موجود، ولكنه إذا قام فسيحكم بحكم آل داود وسيقضي على العرب والمسلمين ويقتلهم قتلا لا رحمة فيه ولا شفقة، ويهدم المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وآله، ويأخذ الحجر الأسود، ويأتي بأمر جديد وكتاب جديد، ويقضي بقضاء جديد، فمن هو هذا القائم؟ وما المقصود به؟
إن الحقيقة التي توصلت إليها بعد دراسة استغرقت سنوات طوالاً ومراجعة لأمهات المصادر هي أن القائم كناية عن قيام دولة إسرائيل أو هو المسيح الدجال، لأن الحسن العسكري ليس له ولد كما أسلفنا وأثبتنا، ولهذا روى عن أبي عبد الله - عليه السلام - -وهو بريء من ذلك-: (ما لمن خالفنا في دولتنا نصيب، إن الله قد أحل لنا دماءهم عند قيام قائمنا) (البحار 52/376).
ولماذا حكم آل داود؟ أليس هذا إشارة إلى الأصول اليهودية لهذه الدعوة؟
وقيام دولة إسرائيل لابد أن يسودها حكم آل داود، ودولة إسرائيل إذا قامت، فإن من مخططاتها القضاء على العرب خصوصاً المسلمين والمسلمين عموماً كما هو مقرر في بروتوكولاتهم، تقضي عليهم قضاء مبرماً وتقتلهم قتلاً لا رحمة فيه ولا شفقة.(164/88)
وحلم دولة إسرائيل هو هدم قبلة المسلمين وتسويتها بالأرض، ثم هدم المسجد النبوي والعودة إلى يثرب التي أخرجوا منها، وإذا قامت فستفرض أمراً جديداً، وتضع بدل القرآن كتاباً جديداً، وتقضي بقضاء جديد، ولا تسأل بينة، لأن سؤال البينة من خصائص المسلمين، ولهذا تسود الفوضى والظلم بسبب العنصرية اليهودية.
ويحسن بنا أن ننبه إلى أن أصحابنا اختاروا لهم اثني عشر إماماً، وهذا عمل مقصود فهذا العدد يمثل عدد أسباط بني إسرائيل، ولم يكتفوا بذلك بل أطلقوا على أنفسهم تسمية (الاثني عشرية) تيمناً بهذا العدد، وكرهوا جبريل - عليه السلام - والروح الأمين كما وصفه الله تعالى في القرآن الكريم، وقالوا إنه خان الأمانة إذ يفترض أن ينزل على علي - عليه السلام -، ولكنه حاد عنه، فنزل إلى محمّد - عليه السلام -، فخان بذلك الأمانة.
ولهذا كرهوا جبريل، وهذه هي صفة بني إسرائيل في كراهتهم له، ولهذا رد الله عليهم بقوله تعالى: { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } [البقرة:97-98]، فوصف من عادى جبريل بالكفر، وأخبر أن من عاداه فإنه عدو لله تعالى.
ومن أعظم آثار العناصر الأجنبية في حرف التشيع عن ركب الأمة الإسلامية هو القول بترك الجمعة وعدم جوازها إلا وراء إمام معصوم.
لقد صدرت في الآونة الأخيرة فتاوى تجوز إقامة صلاة الجمعة في الحسينيات، وهذا عمل عظيم، ولي والحمد لله جهود كبيرة في حث المراجع العليا على هذا العمل وإني احتسب أجري عند الله تعالى.(164/89)
ولكني أتساءل: من الذي تسبب في حرمان كل تلك الأجيال وعلى مدى ألف سنة تقريباً من صلاة الجمعة؟ فأية يد خبيثة هذه التي استطاعت بدهائها وسيطرتها أن تحرم الشيعة من صلاة الجمعة، مع وجود النص القرآني الصريح في وجوب إقامة الجمعة؟؟!
وما زالت الأيادي الخفية تعمل وتبث سمومها، فقد أصدرت زعامة الحوزة في يومنا هذا تعليمات بوجوب إكثار الفساد والظلم ونشره بين الناس، لأن كثرة الفساد تعجل في خروج الإمام المهدي -القائم- من سردابه، وقد استجاب كثير من الشيعة لذلك، وطبقوا هذه التعليمات ومارسوا الفساد بكل ألوانه، وكان السيد البروجردي يشرف على تطبيقها في مدينة الثورة في بغداد، فإذا ما مشى رجل في أحد شوارع الثورة فرأى امرأة أعجبته، فإنها تستجيب له بابتسامة منه أو إشارة بطرف عينه. ولم تكتف زعامة الحوزة بذلك، بل أرادت تعميم هذا الفساد ليشمل كل أنحاء العراق، ولهذا قاموا باستئجار باصات نقل كبيرة لغرض السياحة والاصطياف في شمال العراق.
وقاموا بترغيب العوائل الساكنة في مدن الجنوب بالسفر إلى الشمال، فترى العوائل المسافرة تتكون كل عائلة منها من رجل عجوز وامرأته الطاعنة في السن بثياب رثة لا يملك أحدهم ثمن وجبة عشاء فضلاً عن نفقة السياحة والاصطياف، وقد اصطحبت كل عائلة معها عدداً من الفتيات الجميلات، فإذا ما وصلت القافلة إلى محافظة من المحافظات التي تمر بها وهي، صلاح الدين-تكريت-الموصل، دهوك، أربيل، كركوك، حط المسافرون رحالهم فيها أياماً، ثم تبدأ الفتيات بالنزول إلى أسواق تلك المحافظة، فيعرضن أنفسهن على الشباب لتتم (الصفقات المحرمة) وأما فترة بقاء العوائل في المصايف فإني أعجز عن وصف ما يجري.
إن الغاية من إصدار هذه التعليمات هي نشر الفساد وتدمير البلاد، وأما خروج الإمام الثاني عشر المعروف بالقائم فأنا واثق بأنهم يدركون أن لا وجود لهذا الإمام.
فانظروا إلى هذه الأيدي الخبيثة ماذا فعلت وماذا تفعل!!!
الخاتمة(164/90)
بعد هذه الرحلة المرهقة في بيان تلك الحقائق المؤلمة، ما الذي يجب علي فعله؟
هل أبقى في مكاني ومنصبي وأجمع الأموال الضخمة من البسطاء والسذج باسم الخمس والتبرعات للمشاهد، وأركب السيارات الفاخرة (!!) وأتمتع بالجميلات؟ أم أترك عرض الدنيا الزائل وأبتعد عن هذه المحرمات، وأصدع بالحق -لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس-؟
لقد عرفت أن عبد الله بن سبأ اليهودي هو الذي أسس التشيع، وفرق المسلمين وجعل العداوة والبغضاء بينهم، بعد أن كان الحب والإيمان يجمع بينهم، ويؤلف قلوبهم، وعرفت أيضاً ما صنعه أجدادنا -أهل الكوفة- بأهل البيت، وما روته كتبنا في نبذ الأئمة والطعن بهم، وضجر أهل البيت من شيعتهم كما سبق القول، ويكفي قول أمير المؤمنين - عليه السلام - في بيان حقيقتهم:
(لو ميزت شيعتي لما وجدتهم إلا واصفة، ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين، ولو تمحصتهم لما خلص من الألف واحد) (الكافي 8/338).
وعرفت أنهم يكذبون الله تعالى، فإن الله تعالى بين أن القرآن الكريم لم تعبث به الأيادي، ولن تقدر لأن الله تكفل بحفظه، وأما فقهاؤنا فيقولون إن القرآن محرف، فيردون بذلك قول الله تعالى، فمن أصدق؟ أأصدقهم؟ أم أصدق الله تعالى؟ وعرفت أن المتعة محرمة، ولكن فقهاؤنا أباحوها، وجرت إباحتها إلى إباحة غيرها وكان آخرها اللواط بالمردان من الشباب.
وعرفت أن الخمس لا يجب على الشيعة دفعه ولا إعطاؤه للفقهاء والمجتهدين بل هو حل لهم حتى يقوم القائم، ولكن فقهاؤنا هم الذين أوجبوا على الناس دفعه وإخراجه وذلك لمآربهم -أي الفقهاء- الشخصية ومنافعهم الذاتية.
وعرفت أن التشيع قد عبثت به أياد خفية هي التي صنعت فيه ما صنعت - كما أوضحنا في الفصول السابقة - فما الذي يبقيني في التشيع بعد ذلك؟
ولهذا ورد عن محمّد بن سليمان عن أبيه قال: قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -:(164/91)
(جعلت فداك، فإنا قد نبزنا نبزاً أثقل ظهورنا وماتت له أفئدتنا، واستحلت لله الولاة دماءنا في حديث رواه لهم فقهاؤهم.
قال أبو عبد الله - عليه السلام -: الرافضة؟ فقلت: نعم.
قال: لا والله ما هم سموكم به ولكن الله سماكم به) (روضة الكافي 5/34).
فإذا كان أبو عبد الله قد شهد عليهم بأنهم رافضة -لرفضهم أهل البيت- وأن الله تعالى سماهم به فما الذي يبقيني معهم؟ وعن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله يقول: (لو قام قائمنا بدأ بكذابي الشيعة فقتلهم) (رجال الكشي 253) ترجمة ابن الخطاب، لماذا يبدأ بكذابي الشيعة فيقتلهم؟
يقتلهم قبل غيرهم لقباحة ما افتروه وجعلوه ديناً يتقربون به إلى الله تعالى به كقولهم بإباحة المتعة واللواط، وقولهم بوجوب إخراج خمس الأموال، وكقولهم بتحريف القرآن والبدء لله تعالى ورجعة الأئمة، وكل السادة والفقهاء والمجتهدين يؤمنون بهذه العقائد وغيرها، فمن منهم سينجو من سيف القائم -عجل الله فرجه-؟؟
وعن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: (ما أنزل الله سبحانه آية في المنافقين إلا وهي فيمن ينتحل التشيع) (رجال الكشي 254 أبي الخطاب).
صدق أبو عبد الله بأبي هو وأمي، فإذا كانت الآيات التي نزلت في المنافقين منطبقة على من ينتحل التشيع، فكيف يمكنني أن أبقى معهم؟؟
وهل يصح بعد هذا أن يدعوا أنهم على مذهب أهل البيت؟؟، وهل يصح أن يدعوا محبة أهل البيت؟
لقد عرفت الآن أجوبة تلك الأسئلة التي كانت تحيرني وتشغل بالي.(164/92)
بعد وقوفي على هذه الحقائق وعلى غيرها، أخذت أبحث عن سبب كوني ولدت شيعياً، وعن سبب تشيع أهلي وأقربائي، فعرفت أن عشيرتي كانت على مذهب أهل السنة، ولكن قبل حوالي مائة وخمسين سنة جاء من إيران بعض دعاة التشيع إلى جنوب العراق، فاتصلوا ببعض رؤساء العشائر، واستغلوا طيب قلوبهم وقلة علمهم، فخدعوهم بزخرف القول، فكان ذلك سبب دخولهم في المنهج الشيعي، فهناك الكثير من العشائر والبطون تشيعت بهذه الطريقة بعد أن كانت على مذهب أهل السنة.
ومن الضروري أن أذكر بعض هذه العشائر أداء لأمانة العلم:
فمنهم بنو ربيعة، بنو تميم، الخزاعل، الزبيدات، العمير وهم بطن من تميم، الخزرج، شمرطوكة الدوار، الدفافعة، آل محمّد وهم من عشائر العمارة، عشائر الديوانية وهم آل أقرع وآل بدير وعفج والجبور والجليحة، وعشيرة كعب، وبنو لام وغيرها كثير.
وهؤلاء العشائر كلهم من العشائر العراقية الأصيلة المعروفة في العراق، وهم معروفون بشجاعتهم وكرمهم ونخوتهم، وهم عشائر كبيرة لها وزنها وثقلها إذ هم من العشائر العربية الأصيلة، ولكن مع الأسف تشيعوا منذ أكثر من مائة وخمسين سنة بسبب موجات دعاة الشيعة الذين وفدوا إليهم من إيران، فاحتالوا عليهم وشيعوهم بطريقة أو بأخرى.
ونسيت هذه العشائر الباسلة -رغم تشيعها- أن سيف القائم ينتظر رقابهم ليفتك بهم كما مر بيانه، إذ أن الإمام الثاني عشر المعروف بالقائم سيقتل العرب شر قتلة رغم كونهم من شيعته، وهذا ما صرحت به كتبنا -معاشر الشيعة- فلتنتظر تلك العشائر سيف القائم ليفتك بها.(164/93)
لقد أخذ الله تعالى العهد على أهل العلم أن يبينوا للناس الحق، وها أنا ذا أبينه للناس، وأوقظ النيام وأنبه الغافلين، وأدعو هذه العشائر العربية الأصيلة أن ترجع إلى أصلها، وألا تبقى تحت تأثير أصحاب العمائم الذين يأخذون منهم أموالهم باسم الخمس والتبرعات للمشاهد، ويعتدون على شرف نسائهم باسم المتعة، وكل من الخمس والمتعة محرم كما سبق بيانه، وأدعو هذه العشائر الأصيلة لمراجعة تاريخها وتاريخ أسلافها ليقفوا على الحقيقة التي طمسها الفقهاء والمجتهدون وأصحاب العمائم حرصاً منهم على بقاء منافعهم الشخصية.
وبهذا أكون قد أديت جزءاً من الواجب.
الله أسألك بمحبتي لنبيك المختار وبمحبتي لأهل بيته الأطهار أن تضع لهذا الكتاب القبول في الدنيا والآخرة، وأن تجعله خالصاً لوجهك الكريم، وأن تنفع به النفع العميم، والحمد لله من قبل ومن بعد.
الفهرست
المقدمة ... 5
مقدمة الكاتب ... 7
عبد الله بن سبأ ...
الحقيقة في انتساب الشيعة لأهل البيت ...
المتعة وما يتعلق بها ...
الخمس ...
ملخص تطور نظرية الخمس ...
الكتب السماوية ...
1- الجامعة: ... 71
2- صحيفة الناموس: ... 72
3- صحيفة العبيطة: ...
4- صحيفة ذؤابة السيف: ...
5- صحيفة علي وهي صحيفة أخرى وجدت في ذؤابة السيف: ...
6- الجفر: وهو نوعان: الجفر الأبيض والجفر الأحمر: ...
7- مصحف فاطمة: ...
8- التوراة والإنجيل والزبور: ...
9- القرآن: ...
نظرة الشيعة إلى أهل السنة ... 79
أثر العناصر الأجنبية في صنع التشيع ... 89
الخاتمة ... 107
الفهرست ... 112(164/94)
ما قاله الثقلان
في أولياء الرحمن
بقلم
عبد الله بن جوران الخضير
* حقوق الطبع محفوظة *
* الطبعة الثانية *
(1426هـ - 2005م)
((بسم الله الرحمن الرحيم))
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين.. وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة وهداية ونوراً للعالمين وعلى آل بيته مشاعل الهدى ومصابيح الدجى، وعلى أصحابه الأتقياء مبلغي وحي السماء، وعلى من تبع هداهم إلى يوم الدين...
أما بعد:
فمن نعمة الله السابغة ومنته البالغة أن أرسل إلينا رسولاً من أنفسنا، همه وغاية دعوته أن يزكينا ويخرجنا من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
وبعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى -عليه الصلاة والسلام- حمل لواء هذه الدعوة المباركة من بعده عصبة، جاءت على اختيار واصطفاء من الرحمن سبحانه وتعالى، فعلم ما في قلوبهم، وإلى ماذا تطمح نفوسهم، فأنزل عليهم رضوانه، ومنحهم سبحانه غفرانه.
وهذا الرضوان العظيم، والغفران العميم، لم يكونا ليحلان إلا عندما بان أمر هذه الجماعة الزكية النقية بأحوال وأقوال أدهشت المعادي قبل المحب، وكما قيل: (كل إناءٍ بالذي فيه ينضح). لكن مع كل ما بذلوه وأفنوا أنفسهم لأجله إلا أنه لم يرض طائفة من الناس إما جهلا منها بحقيقة الصحابة، أو أن قرب عهدهم بالإسلام كشف ضحالة علمهم بالإسلام، وعدم رسوخ إيمانهم في دين الرحمن، فسعت على علم من فريق منها، وجهلا من فريق آخر اقتادته العواطف جهلا في المضي وراء أقوال باطلة مزخرفة، لتقويض أركان هذا الدين العظيم بالنخر في أساسه، والسعي إلى نسف غراسه، وذلك بالجري الحثيث في طريق موحش، ألا وهو: الطعن في نقلة هذا الدين، وهم (الصحابة) الأخيار، رضي الله عنهم أجمعين.(165/1)
وهذه الوريقات فيها بيان شافٍ -بإذن الله- وإظهار لمكانة أولئك النفر من الرجال والنساء؛ لأن من أحب إنساناً أحب أحبابه وتقبلهم بقبول حسن، وأبغض أعداءهم ومبغضيهم، وهذه سنة ماضية في الخلق لا يحيد عنها أو يشط إلا الشواذ والحاقدون؛ لأننا والله نحبهم ونحب كل من أحبه النبي صلى الله عليه وسلم، ومات وهو راضٍ عنه؛ لأن ديننا قوامه وعمدة أساسه: الحب في الله لأوليائه، والبغض فيه سبحانه لأعدائه.
وإن كنت قد قصرت في توضيح هذا الجانب، فسبب ذلك أن الواضح المعروف لا يحتاج إلى التبيين، ويعسر على الأذهان القول فيه لتوضيحه، فالواضح لا تزيده التعريفات إلا غموضاً وتحيراً، وكما قيل: (وفسر الماء بعد الجهد بالماء). وهذا الجلاء إن كنت لم أستوف جوانبه فلن أعدم من محب ناصح يوجهني إلى الصواب، ويرشدني إلى أفضل المنطق والجواب، لترسخ القدم على طريق محبة النبي عليه الصلاة والسلام وآله الأطهار، وصحبه الأخيار، رضي الله عنهم وغفر لهم.
المدخل
اختلط على كثير من الناس التفريق بين مفهوم الصحبة في اللغة عن مفهومها في الاصطلاح لأسباب كثيرة، منها:
1- قلة فهمهم واطلاعهم في هذا الجانب.
2- عدم معرفتهم في تمييز ذلك؛ لأن بضاعتهم في اللغة العربية مزجاة وشحيحة.
لهذين السببين نجد أن أقدامهم قد زلت في فهم الصواب، فنسبوا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأقوال والأفعال الباطلة، وافتروا عليهم الكثير من الاعتقادات الخطيرة كالنفاق والردة وغيرها، مستدلين على ذلك الزعم بما تشابه لهم من الآيات أو من القرائن والدلالات، من خلال فهم سقيم، ونظر عقيم، بأن التقطوا كلمات متناثرة في أحاديث صحيحة متواترة، ومن ثَمَّ تأويلها تأويلات باطلة، فيها الدلالة على ضحالة علمهم ورداءة فهمهم.(165/2)
ولعدم معرفتهم اللغة العربية، أو بالاستدلال على دعواهم بروايات ضعيفة أو موضوعة لم تثبت صحتها عن النبي صلى الله عليه وسلم , فيتمسكون بها تمسك الغريق بحبال الوهم الباطلة، مما يستبين لمناقشهم عند الكلام معهم عدم درايتهم ودراستهم وإحاطتهم بعلم عظيم يعصم من زلل كبير، ألا وهو علم (مصطلح الحديث)، وعلم (معرفة أحوال الرجال).
لذا وجب قبل الشروع في بيان عدالة الصحابة، أن أبين جملة من الأمور المهمة من خلال التساؤلات الآتية:
- ما تعريف لفظ: (الصحابة)؟
- هل المنافقون من (الصحابة)؟
- هل المرتدون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يشملهم مسمى (الصحابي)؟
- ما أقوال آل البيت عليهم السلام فيهم؟
- لماذا حدث الشقاق والخلاف فيما بينهم إن كان الله سبحانه قد رضي عنهم؟
- ما الدليل على قُرب أو بُعد آل البيت عليهم السلام من الصحابة رضي الله عنهم ؟
تساؤلات وشبهات سنجد جوابها -بإذن الله- عند قراءتنا لهذه الصفحات التي تتناول على وجه الخصوص شهادة وأقوال الثقلين: (كتاب الله وآل البيت الطاهرين عليهم السلام) في عدالة ومكانة الصحابة رضوان الله عليهم ضمن المباحث الآتية:
المبحث الأول: تعريف لفظ الصحابي: لغة واصطلاحاً.
المبحث الثاني: ثناء الثقلين (كتاب الله والعترة) على الصحابة، وفق المطالب الآتية:
المطلب الأول: ثناء الثقلين على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
المطلب الثاني: ثناء الثقلين على الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم.
المطلب الثالث: ثناء الثقلين على المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم.
المطلب الرابع: ثناء الثقلين على أهل بدر رضي الله عنهم.
المطلب الخامس: ثناء الثقلين على من أنفق وقاتل قبل الفتح وبعده رضي الله عنهم.
المبحث الثالث: كيف ظهرت الفتن بين الصحابة رضي الله عنهم ؟ ومن هو أول من أشعلها؟
المبحث الرابع: المؤامرة ضد الإسلام والمسلمين.
المبحث الخامس: الموقف الصحيح من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.(165/3)
المبحث السادس: الأسماء والمصاهرات بين الصحابة رضي الله عنهم والآل عليهم السلام.
المبحث السابع: شبهات وردود.
الخاتمة: وفيها مجموعة من الخواطر التي تجول في ذهن المسلم، من بعد سماعه لما يقذف به الصحابة من دعاوى وشبهات، ومن بعد تصفحه لهذه الرسالة يجدر الاستفسار حولها؛ لترتاح النفس من شجن يقلقها.
وفي النفس شجون وهموم تجاه هذا الموضوع، لتجدد وتكاثر الشبهات في كل وقت وزمن، وفي أماكن متعددة، لكن لعل ما ذكرته فيه البيان الناجع والرد الناجح لبعض التساؤلات وتفنيد الشبهات، وإزالة الغفلة التي رانت على قلوب بعض المسلمين، نوفق من بعدها بإذن الله إلى الصواب والحق الذي يرضاه الله سبحانه لنا.
المبحث الأول:
تعريف لفظ (الصحابة)
لزاماً علينا قبل أن نشرع في بيان الأدلة الدالة على عدالة الصحابة، أن نبين مفهوم كلمة (الصحابة)؛ لأن جلاء المعنى لهذه الكلمة، وبيان حدود إطلاقها، ومن يتصف بها، ومن هو المعني بهذه الكلمة المباركة - فيه التوفيق لما بعده من علم ودراسة.
وهذا البيان لا يكون إلا من جهتي اللغة والاصطلاح.
أولاً: تعريف لفظ (الصحابي) لغة:
الصحابي: نسبة إلى صاحب، وله معانٍ عدة تدور في جملتها حول الملازمة والانقياد(1).
وقبل بيان بعض استخدامات الصحبة في اللغة، ينبغي التنبه إلى أن بعض هذه الاستخدامات لا تندرج ضمن التعريفات الاصطلاحية، إذ هي وفق التعريف اللغوي غير مقيدة بقيود منضبطة وفق ما سنعرفه، لذا وجب أن أسوق جملة من معاني الصحبة اللغوية للاحتراز عند إطلاق هذه الكلمة، ومنها:
1- الصحبة المجازية: وهي التي تطلق على اثنين بينهما وصف مشترك، وقد يكون بينهما أمد بعيد، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أزواجه: (إنكن صواحب يوسف)(2).
2- الصحبة الإضافية: وهي التي تضاف للشيء لوجود متعلق به، كما يقال: (صاحب مال، صاحب علم... إلخ).
__________
(1) لسان العرب: (1/519).
(2) بحار الأنوار: (28/137).(165/4)
3- صحبة القائم بالمسئولية: وهذا كما في قوله تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً)) [المدثر:31].
4- صحبة اللقيا: تطلق الصحبة على التلاقي الذي يقع بين اثنين، ولو لمرة واحدة لسبب ما، ثم ينقطع.
وهذا كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر...)(1) الحديث، فسمى المشتري (صاحباً) مع أن اللقيا وقعت مرة واحدة مع البائع حين يشتري منه السلع.
5- صحبة المجاورة: وهي التي تطلق على المؤمن والكافر والعكس، وهو مصداق ما جاء في قوله تعالى: ((قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً)) [الكهف:37].
وكما في قوله تعالى: ((فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً)) [الكهف:34].
ويجوز أن تطلق الصحبة على من لا يعرف صاحبه ولم يلتق به يوماً، كما قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه للغلامين من الأنصار اللذين كانا يبحثان عن أبي جهل في غزوة بدر يريدان قتله بسبب سبه للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: (هذا صاحبكما الذي تسألان عنه)(2).
ووفق ما سبق ذكره فاستخدام مدلول الصحبة اللغوية لا يعمم، إذ لو كان (الصحابي) يُعرّف بالصحبة اللغوية وفق الاستخدامات التي مرت، لكنّا نحن جميعاً في عداد الصحابة, ولكان اليهود والمنافقون والنصارى والمشركون الذين لقوا النبي صلى الله عليه وسلم كذلك من باب أولى، إذ لا يشترط في اللغة للفظ المصاحبة اللقاء المستمر أو الإيمان بالله والموت على ذلك.
تنبيه:
__________
(1) مستدرك الوسائل: (13/299).
(2) بحار الأنوار: (19/327).(165/5)
في قصة تطاول المنافق عبد الله بن أبي بن سلول على النبي صلى الله عليه وسلم، طلب عمر رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بضرب عنقه، فقال له: (دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)(1).
فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصحبة للمنافق في هذا الحديث، لكنه قصد الاستعمال اللغوي لا الاصطلاحي، وهذا من بلاغته صلى الله عليه وسلم وحكمته، ووفق ما تعارف عليه العرب في لغتهم، ولم يكن هناك من محذور في فهم الإطلاق اللغوي، وذلك لأمرين:
الأول: أن الإطلاق اللغوي لا يقصد منه التفريق بين الإيمان والنفاق؛ لأنه ليس له ضابط.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن سبب منع عمر رضي الله عنه عن قتله للمنافق: (حتى لا يتحدث الناس)، والناس المشار إليهم هنا هم فئة مقابلة للصحابة؛ لأن القرآن حينما خاطب أهل الإيمان كان يخاطبهم بقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) [البقرة:153] وحينما كان يوجه الكلام للكفار أو لعموم الناس مؤمنهم وكافرهم كان خطابه: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) [البقرة:21].
__________
(1) شرح أصول الكافي/ مولى محمد سالم المازندراني: (12/487). وانظر: الصحيح من السيرة/ السيد جعفر مرتضى: (6/163).(165/6)
ومن المعلوم بداهة أن الكفار هم أكثر الناس عداوة وحرصاً على الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، ولذلك حينما يقتل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بن سلول، فلن يقول الكفار بأنه قد قتل منافقاً يستحق القتل، بل سيقال: (إن محمداً يقتل أصحابه)، وسينتشر الخبر بين العرب ويتحقق ما يرمي إليه الكفار، وهو صد الناس عن قبول هذه الدعوة والالتفاف حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هذا التحديد اللغوي في فهم معنى الصحابي عسيراً أو مشكلاً عند الكفار أو المنافقين، فضلاً عن سائر المسلمين الأوائل؛ لأنهم كانوا أهل اللغة وفرسانها والبارعين في دروبها وميادينها، فمن اقتدى بفهمهم وسار على دربهم، وفقه الله لفهم سديد ورأي رشيد لكثير من المعضلات والمبهمات.
ثانياً: تعريف الصحابي اصطلاحاً:
تعددت العبارات الموضحة لتعريف الصحابي اصطلاحاً، وكان من أدقها وأوضحها وأشملها بياناً هو: (من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام).
قال الشهيد الثاني(1): (الصحابي: من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ومات على الإسلام، وإن تخللت ردته بين لقيّه مؤمنا به، وبين موته مسلماً على الأظهر، والمراد باللقاء ما هو أعم من المجالسة والمماشاة ووصول أحدهما إلى الآخر, وإن لم يكالمه ولم يره)(2).
ولتوضيح التعريف السابق أقول:
* (من لقي النبي صلى الله عليه وسلم) أي: في حياته، سواء نظر إليه، أو من لم يستطع النظر إليه كعبد الله بن أم مكتوم؛ فإنه كان أعمى ولقي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره.
وأما من أسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ورآه قبل دفنه فلا يعد صحابياً.
__________
(1) العلامة/ زين الدين بن نور الدين العاملي الجبعي (ت:965هـ).
(2) الرعاية: (ص:339).(165/7)
* (مؤمناً به) أي: يشترط الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به، فمن لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو على الكفر من أهل الكتاب والمنافقين وغيرهم، سواء أسلم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أو لم يسلم فلا صحبة له.
* (مات على الإسلام) أي: أن من مات على الردة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقال عنه: إنه صحابي، ولا كرامة له.
الخلاصة:
مما سبق يتضح لنا جلياً أهمية التعامل مع اللغة والاصطلاح في بيان المصطلحات الشرعية وفق فهم العلماء المتخصصين، بعيداً عن التفسير بالرأي أو الهوى، ولأهمية هذا الجانب المؤسس للفهم الصحيح لما سيأتي أحببت أن أبينه كمدخل في المسألة، وذلك قبل الولوج في صلب الموضوع، وهو ثناء الثقلين (القرآن والعترة) على أولياء الرحمن (الصحابة رضي الله عنهم).
المبحث الثاني:
ثناء الثقلين على الصحابة رضي الله عنهم
يجب على كل مسلم أن يعتقد علو مكانة أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم أفضل الأمم، وأن خير قرون الإسلام قرنهم، وذلك لسبقهم للإسلام، وشرف اختصاصهم بصحبة خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، والجهاد معه، وتحمل الشريعة عنه، وتبليغها لمن بعده صلى الله عليه وسلم.
وأن يعتقد المسلم كذلك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليسوا على درجة واحدة في الفضل والمرتبة، بل تتفاوت مرتبتهم في الفضل بحسب سبقهم إلى الإسلام والجهاد والهجرة، وبحسب ما قاموا به رضي الله عنهم من أعمال تجاه نبيهم ودينهم.
فالمسلمون يقدمون المهاجرين على الأنصار، ويقدمون أهل بدر على أهل بيعة الرضوان، ويقدمون من أسلم قبل الفتح وقاتل على غيرهم، وفق ما جاء ذكره وتفصيله عن الثقلين (كتاب الله والعترة الطاهرة عليهم السلام)، اللذين أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بحبهم.(165/8)
وقد شهد الثقلان على عدالة الصحابة من بعد رضا الله عنهم، واستفاضت الروايات الدالة على الثناء عليهم؛ لجميل أفعالهم وكريم أقوالهم.
وذكر هذا الثناء لمن حازه هو محور البيان في هذا البحث، وفق المطالب الآتية:
المطلب الأول: ثناء الثقلين (القرآن والعترة عليهم السلام) على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
المطلب الثاني: ثناء الثقلين على الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم.
المطلب الثالث: ثناء الثقلين على المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم.
المطلب الرابع: ثناء الثقلين على أهل بدر رضي الله عنهم.
المطلب الخامس: ثناء الثقلين على من أنفق وقاتل قبل الفتح وبعده رضي الله عنهم.
المطلب الأول: ثناء الثقلين على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
إن المسلم العاقل يقرأ القرآن الكريم، ويتمعن في آياته، حيث إن الآيات الكريمة قد استفاضت في ذكر فضائل ومناقب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف اختارهم الله واصطفاهم وعدلهم وزكاهم ووصفهم بأوصاف القبول.
* الثناء على الصحابة رضي الله عنهم في كتاب الله:
قال تعالى: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) [الفتح:29].
قال الشيخ محمد باقر الناصري:(165/9)
((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)) أي: يطلبون بذلك مزيد نعم الله عليهم ورضوانه عنهم، ((سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)) علامتهم يوم القيامة أن تكون مواضع سجودهم أشد بياضاً، ((ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ)) يعني: أن ما ذكر من وصفهم هو عين ما وصفوا به في التوراة، وكذلك ((فِي الإِنْجِيلِ)) أي: فراخه... ((فَآزَرَهُ)) فاشتد وأعانه فغلظ ذلك الزرع فقام على ساقه وأصوله حتى بلغ الغاية، قال الواحدي: هذا المثل ضربه الله تعالى بمحمد وأصحابه، فالزرع محمد صلى الله عليه وسلم، والشطأ أصحابه والمؤمنون حوله، وكانوا في ضعف وقلة كما يكون أول الزرع ثم قوى بعضهم بعضاً، ((لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ)) أي: في ذلك غيظ الكفار بكثرة المؤمنين واتفاقهم على الطاعة(1).
وقال تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)) [التوبة:100].
قال الشيخ أمين ا لدين أبو علي الطبرسي:
هم الذين صلوا إلى القبلتين، وقيل: الذين شهدوا بدراً، ومن (الأنصار): أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا اثني عشر رجلاً، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين رجلاً، والذين حين قدم عليهم مصعب بن عمير فعلمهم القرآن(2).
تنبيه:
__________
(1) تفسير مختصر مجمع البيان، وانظر: جامع الجوامع، من وحي القرآن (سورة الفتح:29).
(2) تفسير جامع الجوامع, وانظر: تفسير من وحي القرآن، العياشي (سورة التوبة:100).(165/10)
حاولت طائفة من أهل الفتن والأهواء إبعاد تلك الآية عن تأويلها الصريح الواضح بالثناء على الصحابة، وقالوا بأن تلك الآيات لا تفيد الثناء على عموم الصحابة؛ لأن الله قال في نهاية الآية الأولى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) [الفتح:29]، وقال تعالى في الآية الثانية: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)) [التوبة:100].
فلفظ: (منهم) و(من) في الآيتين، يعني: من بعضهم، وليس جميع الصحابة.
ولبيان ذلك اللبس في الفهم، نبين الأمور الآتية:
أولاً: أن الله تبارك وتعالى بيَّن في كتابه آيات محكمات -أي: صريحة- لا تأويل فيها، ومن حاول أن يعبث في بتأويلها فسينفضح أمره، وينكشف تخبطه.
ومنها آيات متشابهة, أي: فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم. فالأصل في ذلك رد المتشابه إلى المحكم، فمن فعل ذلك اهتدى، ومن عكس انعكس.
ثانياً: أن كلمة (منهم) في قوله تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) [الفتح:29] وكلمة (من) في قوله تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)) [التوبة:100] ليست للتبعيض كما يتوهم البعض، وإنما جاءت في هاتين الآيتيين على أحد معنيين:
المعنى الأول: أن (من) بمعنى: من جنسهم، ومن أمثالهم.
وهذا كما في قوله تعالى: ((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)) [الحج:30].(165/11)
ولا يستقيم في المعنى أن الله تبارك وتعالى أمرنا أن اجتناب بعض الأوثان، وترك بعضها فلا نجتنبه، بل أمرنا أن نجتنب جميع الأوثان في قوله: ((فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)) [الحج:30] أي: فاجتنبوا الرجس من جنس وأمثال هذه الأوثان.
المعنى الثاني: أن لفظ (من) تأتي للتأكيد وللجنس .
وهذا كما في قوله تعالى: ((وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً)) [الإسراء:82]فهل هناك مسلم عاقل يفهم أن معنى الآية هو أن بعض القرآن شفاء ورحمة، وبعضه ليس كذلك؟
لكن يفهم المسلم أن القرآن كله شفاء ورحمة، وأن الله تبارك وتعالى أكّد في الآية الكريمة السابقة أن القرآن كله شفاء ورحمة.
ثالثاً: أن سياق الآية الأولى فيه مدح وثناء على جميع الصحابة، وليس فيه ذم لبعضهم، قال الله عز وجل: ((أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً)) [الفتح:29] فزكى الله تبارك وتعالى ظاهرهم بالسجود والركوع والذل له، وزكى باطنهم أيضاً في قوله: ((يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)) [الفتح:29].
بل إن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يذم أقواماً فإنه يبين ظاهرهم وباطنهم، كما قال تعالى عن المنافقين: ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً)) [النساء:142].(165/12)
فبذلك يتبين لنا أن قوله تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) [الفتح:29]، وقوله تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)) [التوبة:100] أي: من جنسهم، أو للتأكيد على حالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم.
* ثناء آل البيت عليهم السلام على الصحابة الكرام رضي الله عنهم:
ولأجل هذا الثناء المبارك في كتاب الله كانت البشارة من النبي صلى الله عليه وسلم عظيمة لمن أدرك الصحابة، أو رأى واحداً منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (طوبى لمن رآني، وطوبى لمن رأى من رآني، وطوبى لمن رأى من رأى من رآني)(1).
ولله در أمير المؤمنين علي عليه السلام وهو الخبير بحال إخوانه، بعد أن جرّب أهل الكوفة ورأى خذلانهم له، قال متذكراً ومادحاً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى أحداً يشبههم منكم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذُكِر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفاً من العقاب ورجاء للثواب)(2).
ويصف الإمام علي عليه السلام حاله وحال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واستبسالهم جميعاً في وجه الأعداء بقوله:
__________
(1) أمالي الصدوق: (ص400), أمالي الطوسي: (ص:440) , الخصال: (2/342)، بحار الأنوار: (22/305).
(2) نهج البلاغة: (ص:143)، وانظر: الكافي: (2/236)، بحار الأنوار: (66/307).(165/13)
(ولقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نقتُل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً ومضيّا على اللَّقَم، وصبراً على مضض الألم، وجِدّاً في جهاد العدِّو، ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرة لنا من عدونا، ومرة لعدونا منا، فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت وأنزل علينا النصر، حتى استقر الإسلام ملقياً جرانه، ومتبوِّئاً أوطانه، ولعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم -يعني أصحابه- ما قام للدين عمود، ولا اخضرَّ للإيمان عود، وأيم الله لتحتلبنها دماً، ولتتبعنها ندماً)(1).
وعلى هذا المنوال الجميل، والمنهج المستقيم سارت السلسلة الزكية من آل بيت النبي عليهم السلام في الثناء العاطر على رفقاء جدهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
__________
(1) نهج البلاغة: (ص:91)، بحار الأنوار: (32/549).(165/14)
فهذا الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام يدعو في صلاته لأصحاب جده المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويقول: (اللهم وأصحاب محمد خاصة، الذين أحسنوا الصحبة، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته وانتصروا به، ومن كانوا منطوين على محبته، يرجون تجارةً لن تبور في مودته، والذين هجرتهم العشائر، إذ تعلقوا بعروته، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته , فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك، وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك وكانوا مع رسولك دعاةً لك وإليك، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم، وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه، ومن كثَّرت في اعتزاز دينك من مظلومهم , اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ)) [الحشر:10] خير جزائك، الذين قصدوا سمتهم، وتحرَّوا جهتهم، ومضوا على شاكلتهم، لم يثنهم ريبٌ في بصيرتهم، ولم يختلجهم شك في قفوِ آثارهم والائتمام بهداية منارهم، مُكانفين ومُؤازرين لهم يدينون بدينهم، ويهتدون بهديهم، يَتّفقون عليهم ولا يتهمونهم فيما أدوا إليهم , اللهم وصلِّ على التابعين من يومنا هذا إلى يوم الدين وعلى أزواجهم وعلى ذُرِّياتهم، وعلى من أطاعك منهم صلاةً تعصمهم بها من معصيتك، وتفسح لهم في رياض جنَّتك، وتمنعهم بها من كيد الشيطان)(1). انتهى.
وعن الصادق عليه السلام، عن آبائه، عن علي عليه السلام قال: (أوصيكم بأصحاب نبيكم لا تسبوهم، الذين لم يحدثوا بعده حدثاً، ولم يؤووا محدثاً؛ فإن رسول الله أوصى بهم الخير)(2).
__________
(1) الصحيفة السجادية: (ص:42).
(2) بحار الأنوار: (22/305).(165/15)
ومن المعلوم أن وجود النبي صلى الله عليه وسلم خير على الأرض لأهلها، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم من بعده، وذلك لعظيم شأنهم، وعلو قدرهم في التزامهم بهدي سيد البشر صلى الله عليه وسلم، ومن ثمَّ استجاب الله لدعائهم لخير الأمة.
فعن موسى بن جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أمنة لأصحابي، فإذا قبضت دنا من أصحابي ما يُوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا قبض أصحابي دنا من أمتي ما يُوعدون، ولا يزال هذا الدين ظاهراً على الأديان كلها ما دام فيكم من قد رآني) (1).
وعن موسى بن جعفر عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القرون أربع: أنا في أفضلها قرناً، ثم الثاني، ثم الثالث، فإذا كان الرابع التقى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، فقبض الله كتابه من صدور بني آدم، فيبعث الله ريحاً سوداء، ثم لا يبقى أحد سوى الله تعالى إلا قبضه الله إليه)(2).
ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بالخير والرحمة لمن سيخلفه من بعده، من غير تعيين منه على معين بالإمامة، وجعل صفة من سيخلفه سيره على هديه صلى الله عليه وسلم، للدلالة على اجتماع كلمة الصحابة على من سيختارونه من بعده.
فعن الرضا عليه السلام، عن آبائه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارحم خلفائي -ثلاث مرات- قيل له: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون أحاديثي وسنتي، فيسلمونها الناس من بعدي)(3).
ولأجل مكانة الصحابة السامقة، تمنى نبي الله موسى عليه السلام أن يرى أولئك النفر الذين حازوا كل هذا الفضل العظيم.
__________
(1) بحار الأنوار: (22/309)، وانظر: نوادر الراوندي: (ص:23).
(2) بحار الأنوار: (22/309).
(3) بحار الأنوار: (2/144).(165/16)
فعن الرضا عليه السلام قال: (لما بعث الله عز وجل موسى بن عمران واصطفاه نجياً، وفلق له البحر، ونجَّى بني إسرائيل، وأعطاه التوراة والألواح رأى مكانه من ربه عز وجل، فقال موسى: يا رب، فإن كان آل محمد كذلك، فهل في أصحاب الأنبياء أكرم عندك من صحابتي؟ قال الله عز وجل: يا موسى، أما علمت أن فضل صحابة محمد على جميع صحابة المرسلين كفضل آل محمد على جميع آل النبيين، وكفضل محمد على جميع النبيين فقال موسى: يا رب، ليتني كنت أراهم! فأوحى الله عز وجل إليه: يا موسى، إنك لن تراهم، فليس هذا أوان ظهورهم، ولكن سوف تراهم في الجنات -جنات عدن والفردوس- بحضرة محمد، في نعيمها يتقلبون، وفي خيراتها يتبحبحون)(1).
تساؤل:
لو سأل سائل: بم نال الصحابة كل هذا الثناء العاطر من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وحازوا هذه المراتب العلى؟
فالإجابة تأتي من الروايات الكثيرة الواردة عن آل البيت عليهم السلام، والدالة على عظيم خلق وأدب وتوقير الصحابة الكبير للنبي صلى الله عليه وسلم، وتبين الحب الجم له، ومنها:
ما ذكره المجلسي في بحاره عن القاضي في الشفاء في ذكر عادة الصحابة في توقيرهم للنبي صلى الله عليه وسلم، من رواية أسامة بن شريك أنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حوله كأنما على رءوسهم الطير)(2).
__________
(1) بحار الأنوار: (13/340), تفسير الإمام العسكري: (ص:31)، تأويل الآيات: (ص:411).
(2) بحار الأنوار: (17/32).(165/17)
وهذا عروة بن مسعود حين وجهته قريش عام القضية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى من تعظيم أصحابه له، وأنه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه وكادوا يقتتلون(1) عليه، ولا يبصق بصاقاً ولا يتنخم نخامة إلا تلقوها بأكفهم فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم ولا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له، فلما رجع إلى قريش قال: (يا معشر قريش، إني أتيت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قومه قط مثل محمد في أصحابه)(2).
وعن أنس: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل)(3).
وفي حديث: (فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً القرفصاء أرعدت من الفرق هيبة له وتعظيماً)(4).
وفي حديث المغيرة: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرعون بابه بالأظافر)(5).
وقال البراء بن عازب رضي الله عنه: (لقد كنت أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمر، فأؤخره سنين من هيبته.. ثم قال رضي الله عنه: واعلم أن حُرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم كما كان حال حياته، وذلك عند ذكره صلى الله عليه وسلم، وذكر حديثه وسنته وسماع اسم سيرته ومعاملة آله وعترته، وتعظيم أهل بيته وصحابته)(6).
فهل بلغ أسماعكم أو وقعت أعينكم على مثل هذا الأدب والتوقير؟ فيالها من دلالات حب من الصحابة رضي الله عنهم لسيد البشر صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: ثناء الثقلين على الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم:
__________
(1) وفي الأصل: يقتلون.
(2) المصدر نفسه.
(3) المصدر نفسه.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.(165/18)
من بعد أن تبين لنا كيف فاض المدح والثناء على الصحب الكرام، جاء التخصيص والتقييد على طائفة منهم وهم الخلفاء الراشدين الثلاثة الأول.
فخص الثقلان (كتاب الله وعترته آل البيت) بثنائهم وكريم مدحهم الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم، فما ذُكر في كتاب الله من ثناء على الصحابة فالخلفاء الثلاثة داخلون فيه من باب أولى، وأما عترة آل البيت فقد نال الخلفاء الثلاثة من ثنائهم الشيء الكثير لتميزهم وانفرادهم بخصائص لم تتوفر في غيرهم من الصحابة، وللعلاقة الوطيدة بين الخلفاء الثلاثة وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت أشهر من نار على علم.
فقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وحفصة ابنتي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، بل لم يتزوج هاشمية وله إحدى عشرة امرأة، وزوج ابنتيه: رقية وأم كلثوم لعثمان بن عفان(1) وزوج الإمام علي عليه السلام ابنته أم كلثوم لعمر بن الخطاب(2)، وسمى أولاده بأسمائهم وكذا أبناؤه(3).
ويمكن أن يستدل على حسن علاقة بعضهم ببعض، وعلى ما بينهم من مودة ومحبة وطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما يظهر هذا جلياً لمن صلح قلبه، وزالت غشاوة التعصب عن بصره، وقلَّب بصره في كتب التاريخ بأمور كثيرة وروايات عدة.
ولقد اكتفيت ببعض الروايات التي ساقها العلماء في كتبهم عن الأئمة عليهم السلام والدالة على هذا الثناء.
قال الإمام علي عليه السلام: (ولعمري إن مكانهما في الإسلام لعظيم، وإن المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد، رحمهما الله وجزاهما بأحسن ما عملا)(4).
وقال عليه السلام مثنياً على خلافة الثلاثة، وعلى من اختارهم:
__________
(1) انظر بحار الأنوار: (22/202)، إعلام الورى: (ص:141).
(2) انظر الكافي: (6/115)، مرآة العقول: (21/199).
(3) انظر: (ص:64) من هذا الكتاب.
(4) انظر وقعة صفين: (ص:88)، شرح نهج البلاغة: (15/76).(165/19)
(إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضا، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتِّباع سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى)(1).
وقال الإمام علي عليه السلام مثنياً على عمر بن الخطاب: (لله بلاء فلان! فلقد قوّم الأود، وداوى العمد، وأقام السُنّة، وخلف الفتنة، ذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها، وسبق شرها، أدى إلى الله طاعته، واتقاه بحقه)(2).
وقال أيضاً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في حياته، حين شاوره في الخروج إلى غزو الروم: (إنك متى تَسِرْ إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة -ستر ووقاية- دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً مجرباً واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى كنت رِدءاً للناس ومثابة للمسلمين)(3).
وتجاوز التقدير من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما حتى بعد وفاتهما بوقت طويل، حيث إنهم مضوا على هديهما ولم يغيروا شيئاً أمرا به، بل كانوا ينهلون من علمهما وفتاواهما رضي الله عنهما، ودليل ذلك:
ما قاله الإمام علي عليه السلام حين سُئِل في رد فدك -وكان حينئذٍ الخليفة-: (إني لأستحي من الله أن أرد شيئاً منع منه أبو بكر، وأمضاه عمر)(4).
__________
(1) نهج البلاغة: (ص:366)، البحار: (33/76).
(2) نهج البلاغة: (ص:350).
(3) نهج البلاغة: (ص:192)، بحار الأنوار: (31/135).
(4) شرح نهج البلاغة: (16/252).(165/20)
وقد حث الإمام محمد الباقر عليه السلام شيعته بأن يفعلوا مثل ما فعل، حين تعلم واقتدى بأبي بكر الصديق، وذلك عندما سُئل عن جواز حلية السيف، فقال: نعم، قد حلَّى أبو بكر الصديق سيفه بالفضة! فقال (أي: السائل): أتقول هذا؟ فوثب الإمام عن مكانه، فقال: (نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل له: الصديق فلا صدّق الله قوله في الدنيا والآخرة)(1).
فهؤلاء آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهم أقرب الناس عهداً بالشيخين، لم يفتهم ما عملا ولا غاب عنهم ما فعلا, ألا تكفينا شهادتهم ورأيهم في أولئك النفر، أم نريد هدياً وقولاً غير هديهم وقولهم عليهم السلام ؟!!
ثالثاً: ثناء الثقلين على المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم:
فضّل الله سبحانه وتعالى المهاجرين والأنصار على سائر الصحابة رضي الله عنهم، وذلك لسبقهم في الاستجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام، ودخولهم فيها، وتحملهم الأذى لأجلها.
وفضّل الله تبارك وتعالى المهاجرين على الأنصار؛ لأن المهاجرين جمعوا بين الهجرة والنصرة، وقد تركوا أهلهم وأموالهم وأوطانهم وخرجوا إلى أرض هم فيها غرباء طالبين فقط الأجر ونصرة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما الأنصار فقد أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم في بلادهم، فنصروه وقسموا أموالهم ونساءهم، نصرة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد شهد الثقلان (كتاب الله وعترة النبي صلى الله عليه وسلم) على فضلهم والرضا عنهم وتتابعت واستفاضت الآيات الكريمة الموضحة لحال الصحابة، المبينة لفضلهم الكبير ورضا رب العالمين عنهم، وتنوعت عبارات الأئمة من آل البيت عليهم السلام المفسرة للآيات في هذا، ومما جاء في ذلك:
* ثناء القرآن الكريم على المهاجرين والأنصار:
__________
(1) كشف الغمة: (2/147).(165/21)
قال تعالى: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)) [الحشر:8-9].
قال الشيخ محمد باقر الناصري:
(((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ)) إلى المدينة هرباً من مكة ومن غيرها ((أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ)) جاءوا ((يَبْتَغُونَ)) يطلبون ((فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)) أي: وينصرون دين الله، ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ)) يعني: المدينة حيث سكنها الأنصار قبل المهاجرين , أو قبل إيمان المهاجرين وهم أصحاب ليلة العقبة سبعون رجلاً بايعوا رسول الله على حرب الأبيض والأحمر، ((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)) وقد أحسنوا إلى المهاجرين، وأسكنوهم دورهم، وأشركوهم في أموالهم، ولا يجدون في قلوبهم حسداً ولا غيظاً مما أعطي المهاجرون دونهم من مال بني النضير، ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) أي: مع فقرهم وحاجتهم ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) أي: ومن يدفع بخل نفسه ((فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)) الناجحون الفائزون بثواب الله)(1).
وقال الشيخ محمد السبزواري النجفي:
__________
(1) تفسير مختصر مجمع البيان، وانظر: تفسير الكاشف، المنير: (سورة الحشر: 8-10).(165/22)
((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ)) الذين تركوا مكة وقصدوا المدينة هجرة نبيهم صلى الله عليه وسلم ومن دار الحرب إلى دار السلام، وهم ((الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ)) التي كانوا يملكونها ((يَبْتَغُونَ)) يطلبون.. ((فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)) راغبين بفضله ورضاه ورحمته.. ((وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ)) أي: يهاجرون نصرة لدينه وينصرون.. ((وَرَسُولَهُ)) بتقويته على أعدائه ((أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ)) فعلاً؛ لأنهم قصدوا نصر الدين، واستجابوا لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن مدح أهل مكة وغيرها من المهاجرين مدح الأنصار من أهل المدينة؛ لأنهم طابت أنفسهم من الفيء فرضوا تقسيمه على المهاجرين المحتاجين، فقال.. ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ)) أي: سكنوا المدينة، وهي دار الهجرة التي تبوأها الأنصار قبل المهاجرين ((وَالإِيمَانَ)) إذ لم يؤمنوا قبل المهاجرين، بل آمنوا بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم إلا قليل منهم.
أما عطف الإيمان على الدار في التبوّء، فهو عطف ظاهري لا معنوي؛ لأن الإيمان لا يتبوأ، وتقديره وآثروا الإيمان على الكفر ((مِنْ قَبْلِهِمْ)) يعني: قبل قدوم المهاجرين إليهم حين أحسنوا إليهم، بأن أسكنوهم بيوتهم وشاركوهم في أموالهم ((وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا)) أي: لم يكن في قلوبهم حزازة ولا غيظ ولا حسد بسبب ما أخذ المهاجرون من الفيء الذي استولوا عليه من مال بني النضير، بل طابت به نفوسهم وكانوا ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ)) أي: يقدمون المهاجرين ويفضلونهم على أنفسهم في العطاء ((وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) أي: ولو كانت بهم حاجة وفقر، وذلك رأفة بإخوانهم وطلباً للأجر والثواب ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) أي: الفائزون بثواب الله تعالى الرابحون لجنته ونعيمها (1).
__________
(1) تفسير الجديد (سورة الحشر: 8-10).(165/23)
وقال تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) [الأنفال:74-75].
قال الشيخ محمد السبزواري النجفي:
((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا)) أي: الذين صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جاء به من عند الله، وأيقنوا بوجود الله ووحدانيته، وتركوا ديارهم فراراً بدينهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربوا معه لينصروا دينه وشريعته ((أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً)) [الأنفال:74] هم المصدقون فعلاً، قولاً وعملاً، وقد حققوا إيمانهم حتى برهنوا أنه إيمان حق، فهؤلاء ((لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)) أي: أعد الله لهم (مغفرة): تجاوزاً عن سيئاتهم، ورزقاً كريماً: واسعاً عظيماً لا ينغصه شيء من المكدرات... ((وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا)) [الأنفال:75] أي: الذين آمنوا بعد فتح مكة، وقيل: هم الذين آمنوا بعد إيمانكم ((وَهَاجَرُوا)) إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرتكم الأولى ((وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ)) فقاتلوا الكفار والمشركين بجانبكم ((فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ)) فهم من جملتكم إيماناً وهجرةً وجهاداً وحكماً في الموالاة والميراث والنصرة، رغم تأخر إيمانهم وهجرتهم(1).
وقال تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ)) [التوبة:20].
__________
(1) تفسير الجديد، وانظر: الصافي، الوجيز، تقريب القرآن (سورة الأنفال:74).(165/24)
قال السيد محمد حسين فضل الله:
((الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا)) وتحملوا ما تحملوه من هجرة الوطن، إلى حيث يملك الإنسان حرية الحركة في الدعوة والجهاد، ويبتعد عن مواطن الضغط الذي قد يعرضه للفتنة في دينه، وذلك دليل الإخلاص العظيم لله فيما يمثله من التمرد على كل العواطف الذاتية والخصائص الحميمة، من أجل الله وحده، والذين جاهدوا ((فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ)) فيما بذلوه من أموالهم للدعوة وللجهاد، وفيما واجهوه من أخطاء مادية ومعنوية في هذا الاتجاه، حيث فقدوا أي معنى للجانب الشخصي فيما يعيشون، وتحولوا إلى عنصر متحرك في نطاق الجوانب العامة المتصلة بالله، وبالحياة، أولئك ((أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ)) من كل النماذج الأخرى التي قد تعمل الخير في المجالات المحدودة ((وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ)) برحمته ورضوانه وجنته(1).
وقال تعالى: ((رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)) [آل عمران:193-195].
قال السيد عبد الله شبر:
__________
(1) تفسير من وحي القرآن، وانظر: التبيان، تقريب القرآن (سورة التوبة:20).(165/25)
((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ الثَّوَابِ)) ما طلبوا ((أَنِّي)) بأني ((لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى)) بيان لعامله ((بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)) بجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد أو الإسلام ((فَالَّذِينَ هَاجَرُوا)) الشرك أو أوطانهم أو قومهم للدين ((وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي)) من أجل ديني وبسببه ((وَقَاتَلُوا)) المشركين.. ((وَقُتِلُوا)) واستشهدوا، والواو لا توجب الترتيب، إذ المراد لما قيل لهم قاتلوا.. ((لأكَفِّرَنَّ)) لأمحون ((وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)) يستحقونه منه.. ((وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)) على الأعمال لا يقدر عليه أحد سواه(1).
فتمعن -أيها القارئ المحب لآل البيت- ما سبق، فهو نزر يسير مما جاء في فضل الصحابة عموماً رضي الله عنهم.
* ثناء النبي صلى الله عليه وسلم والعترة على المهاجرين والأنصار:
جاءت الروايات الصحيحة عن آل البيت عليهم السلام الدالة على فضل المهاجرين والأنصار مستفيضة، أسوق منها الآتي:
عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة، والطلقاء من قريش، والعتقاء من ثقيف، بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة)(2).
__________
(1) تفسير شبر (سورة آل عمران: 195).
(2) أمالي الطوسي: (ص:268), بحار الأنوار: (22/311).(165/26)
وفي الخبر عن كعب بن عجرة: (إن المهاجرين والأنصار وبني هاشم اختصموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أينا أولى به وأحب إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: أما أنتم يا معشر الأنصار فإنما أنا أخوكم، فقالوا: الله أكبر! ذهبنا به ورب الكعبة! قال صلى الله عليه وسلم: وأما أنتم معشر المهاجرين فإنما أنا منكم، فقالوا: الله أكبر! ذهبنا به ورب الكعبة! قال صلى الله عليه وسلم: وأما أنتم يا بني هاشم فأنتم مني وإلي. فقمنا وكلنا راض مغتبط برسول الله صلى الله عليه وسلم)(1).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إني تارك فيكم الثقلين إلا أن أحدهما أكبر من الآخر... وقال: ألا إن أهل بيتي عيني التي آوي إليها، ألا وإن الأنصار ترسي فاعفوا عن مسيئهم، وأعينوا محسنهم)(2).
وهذه النصوص المباركة لم تكن غائبة عن أذهان آل البيت، بل إنهم وعوها وحفظوها، ومن ذلك ما كان من مدح الإمام علي عليه السلام للمهاجرين في جوابه لمعاوية، فيقول: (فاز أهل السبق بسبقهم، وذهب المهاجرون الأولون بفضلهم)(3).
وقال عليه السلام: (وفي المهاجرين خير كثير نعرفه، جزاهم الله خير الجزاء)(4).
وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبراً من الأرض استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم)(5).
__________
(1) المناقب: (3/331)، بحار الأنوار: (22/312).
(2) بحار الأنوار: (22/311).
(3) نهج البلاغة: (ص:374), بحار الأنوار: (33/104)، وقعة صفين: (ص:149).
(4) وقعة صفين: (ص:88)، بحار الأنوار: (33/110).
(5) بحار الأنوار: (19/31)، مجموعة ورام: (1/33)، تفسير الصافي: (1/490)، تفسير نور الثقلين: (1/541).(165/27)
وما سبق غيض من فيض، وقطرات من بحر عظيم يفيض على القلوب فيكون بلسماً شافياً ونوراً هادياً، يحيا به من كان غافلاً، أو أراد طائفة يقتدى بفضائلها ومناقبها، ولله در الآل عليهم السلام حين أثنوا على الصحابة رضي الله عنهم ولم يستثنوا من هذا الثناء والمديح أي أحد منهم.
رابعاً: ثناء الثقلين على أهل بدر رضي الله عنهم:
من بعد المديح العام للصحابة رضي الله عنهم ثم بقسميهم: المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم جاء التحديد لفئات محددة من الصحابة، لتميزهم بعمل عظيم أو سبب خاص فحازوا مزيد فضل عن غيرهم.
فقد جعل الله سبحانه وتعالى الأفضلية والمراتب العظيمة في الصحابة لمن شهد معركة بدر من المسلمين، وكانوا حينئذٍ قلة، ولم يستعدوا لقتال أو مواجهة ضد صناديد قريش الكفار حين أتاهم المنادي لمواجهة قافلة الكفار.
لكن تحقق النصر المبين بفضل الله ومنته على أيدي هؤلاء القلة، الذين أرهبوا العرب وأخافوهم، وجعلت هذه الغزوة لهم منزلة عظيمة بين القبائل العربية.
وقد اطَّلع الله على أعمال هؤلاء الأطهار، وبشرهم بأنهم لن يموتوا على الكفر، وأن ذنوبهم مغفورة لهم بإذنه سبحانه.
وهذا ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما أراد أن يضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه فقال له: (وما يدريك -يا عمر- لعل الله اطلع على أهل بدر فغفر لهم، فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غُفِرَ لكم)(1).
وهذه تزكية وشهادة أبدية من الله سبحانه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لأهل بدر وأنه راض عنهم إلى يوم القيامة.
خامساً: ثناء الثقلين على من أنفق وقاتل قبل الفتح وبعده:
من بعد ثناء الله على أهل بدر رضي الله عنهم، لمسارعتهم إلى القتال مع النبي صلى الله عليه وسلم من غير دعوة وميعاد، اتسعت دائرة الثناء لتشمل أولئك الذين أنفقوا وقاتلوا قبل الفتح.
__________
(1) انظر: بحار الأنوار: (21/92)، شرح نهج البلاغة: (17/89).(165/28)
والمسلم يؤمن بأفضلية أولئك الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا من الصحابة رضي الله عنهم، على من أنفق من بعد الفتح وقاتل.
والفتح المقصود به (صلح الحديبية)، كما قال تعالى: ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)) [الفتح:1].
والحديبية: بئر قرب مكة، وقعت عندها بيعة الرضوان، وصلح الحديبية تحت شجرة كانت هناك، حينما صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن دخول مكة فبايعوه على الموت.
وخُص أصحاب الفتح أو صلح الحديبية بهذه الخصيصة من الفضل وعلو المكانة؛ للحاجة القاهرة التي ألمت بالنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في وقتها إلى العدد والعدة في ظروف عصيبة، وكان الصلح وما جرى بعده من مبايعة بين الصحابة رضوان الله عليهم والنبي صلى الله عليه وسلم، فتحا مبينا للنتائج الباهرة التي تبعته من بعد ذلك.
وقد بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، وكان عددهم يتجاوز ألف صحابي، ولعدم حضور عثمان في المبايعة- نتيجة ذهابه للوساطة من قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة - ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بإحدى يديه الشريفتين على الأخرى مبايعة لعثمان بن عفان رضي الله عنه.
لكن بعض المسلمين قالوا: طوبى لعثمان قد طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، وأحلّ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كان ليفعل، فلما جاء عثمان رضي الله عنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطفت بالبيت؟ فقال: ما كنت لأطوف بالبيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطف به)(1).
__________
(1) انظر: الكافي: (8/325)، بحار الأنوار: (20/365).(165/29)
فسُميت هذه البيعة فتحاً، لما حصل بسببها وبعدها من الخير الكثير والنصر المبين للمسلمين، وقد أثنى الله تبارك وتعالى على هؤلاء الأطهار، وزكى ظاهرهم وباطنهم، فقال سبحانه: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)) [الفتح:18].
قال الشيخ أمين الدين أبو علي الطبرسي:
(إنما سميت بيعة الرضوان بهذه الآية، (لأنهم) (1) بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية تحت الشجرة المعروفة وهي شجرة السَّمُرة ((فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ)) من صدق النية في القتال والصبر والوفاء، وكان عددهم ألفاً وخمسمائة أو وثلاثمائة ((فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ)) والضمير للمؤمنين, والسكينة هي اللطف المقوي لقلوبهم كالطمأنينة ((وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)) يعني: فتح خيبر(2).
وقال تعالى: ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) [الحديد:10].
قال الشيخ محمد السبزواري النجفي:
__________
(1) لأنهم: زيادة ليتضح المعنى.
(2) تفسير جامع الجوامع، وانظر: مقتنيات الدرر، تقريب القرآن (سورة الفتح:18).(165/30)
(((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ)) أي: لا يتساوى ((مَنْ أَنْفَقَ)) من ماله في سبيل الله ((مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ)) الكفار, فإن ((أُوْلَئِكَ)) الفاعلين لذلك ((أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا)) أي: بعد فتح مكة أعزها الله، فالنفقة على جيش الإسلام مع الجهاد قبل فتحها، أعظم ثواباً عند الله من النفقة والجهاد بعده ((وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)) أي: وعد هؤلاء وهؤلاء بالجنة وإن تفاضلوا في درجاتها ((وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) أي أنه عليم بكل ما تفعلونه ولا يخفى عليه شيء من حالكم ومقالكم وإنفاقكم وجهادكم، بل هو أعلم بجميع تصرفاتكم ونياتكم)(1).
وقد حكم الله تبارك وتعالى لمن وعد بالحسنى بالجنة بقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ)) [الأنبياء:101-103].
قال أبو جعفر الطوسي:
(((إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى)) يعني: الوعد بالجنة...ثم قال: وأخبر تعالى أن من هذه صفته مبتعد عن النار ناءٍ عنها)(2).
__________
(1) تفسير الجديد، وانظر: تفسير الصافي، شبر، مقتنيات الدرر, الجوهر الثمين: في تفسير (سورة الحديد:10).
(2) تفسير التبيان، وانظر: تفسير الجديد: في تفسير (سورة الأنبياء:101).(165/31)
وكما كان الحال في عسر وضيق على الصحابة قبل وأثناء صلح الحديبية، تميزت غزوة تبوك ببيان الحال الكاشف للمنافقين عن المخلصين في المدينة، وفي فترة من الوقت خدّاعة لقلوب بعض الناس، حيث جاء القرآن جلياً في ذلك، فقال تعالى عن الصحابة رضي الله عنهم الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: ((لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) [التوبة:117].
قال السيد محمد تقي المدرسي:
((لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)) توبة الله على النبي تعني المزيد من بركاته عليه، ولكن بالنسبة إلى المهاجرين والأنصار قد تعني أيضاً غفران ذنوبهم، ولكن بماذا وكيف غفرت ذنوبهم؟بأنهم اتبعوا الرسول في ساعات الشدة، ولأن ذلك كان عملاً كبيراً، والله سبحانه يغفر بسبب الحسنات الكبيرة الذنوب الصغيرة، لذلك أكدت الآية على هذه الحقيقة ((الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ)) فالصبر في ساعة العسرة عمل عظيم يغفر الله تعالى بسببه سائر الأعمال الصغيرة)(1).
__________
(1) تفسيرمن هدي القرآن، وانظر: تفسير الجديد، من وحي القرآن (سورة التوبة:117).(165/32)
وقال الشيخ الطبرسي: (تهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب لغزو الروم، وكتب إلى قبائل العرب ممن دخل في الإسلام وبعث إليهم الرسل يرغبهم في الجهاد والغزو... فلما تهيأ للخروج قام خطيباً فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ورغب في المواساة وتقوية الضعيف والإنفاق، فكان أول من أنفق فيها عثمان بن عفان، جاء بأواني من فضة فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجهز ناساً من أهل الضعف، وهو الذي يقال: إنه جهز جيش العسرة، وقدم العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنفق نفقة حسنة وجهز، وسارع فيها الأنصار، وأنفق عبد الرحمن والزبير وطلحة، وأنفق ناس من المنافقين رياء وسمعة)(1).
فكل ما سبق من الآيات والروايات الباهرة تكفي وتوضح شأن أولئك النفر الذين بذلوا كل شيء في نصرة دين الله سبحانه وتعالى، وإعلاءٍ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن تتبع أقوال العلماء المحبين لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم الآنفة، ونظر بعين التعقل وبنور الإنصاف، استبان له فضل تلك العصبة المباركة ذات الأفعال المخلصة المستضيئة بنور النبوة، لتمسكهم بسنة حبيبهم المصطفى صلى الله عليه وسلم، فشهد لهم الثقلان بهذه المنزلة العالية.
المبحث الثالث:
كيف ظهرت الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم ؟
بعد أن بيّنا بفضل الله الروايات الدالة على فضل الصحابة رضي الله عنهم والمجلية لكبير شأنهم عند الأئمة عليهم السلام والعلماء، وذلك من خلال الآيات القرآنية، والروايات المنقولة عن العترة عليهم السلام، يتبادر إلى أذهان فئة من المسلمين تساؤل هام: كيف إذاً وقع التفرق والخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم وهم أهل الفضل والاتباع لدين الله؟
أولاً: أول من أشعل الفتنة بين المسلمين:
__________
(1) انظر إعلام الورى: (ص:121), بحار الأنوار: (21/244).(165/33)
لعل العيش الهنيء الذي ساد مجتمع الصحابة رضي الله عنهم، وكثرة الفتوحات المباركة والانتصارات العظيمة على أعداء الله، ابتداءً بطرد اليهود من المدينة ثم من الجزيرة وتبعه بفترة تقويض عرش فارس، ودخول جماعات جديدة في دين الإسلام والعيش مع المسلمين، وهم أهل فكر وأعراف سابقة لم ينزعوها من أذهانهم،أوجد تربة خصبة لبذر الشقاق والفرقة في صفوف الأمة المسلمة.
ومع ما سبق بيانه من رغد العيش وكثرة الفتوحات فإن كل ذلك لم يناسب أهل الأهواء، فحاولوا جاهدين بذر وسائل الفرقة في هذا المجتمع المبارك المثالي، واستماتوا في إشعال نار التفرق والابتداع في الدين الإسلامي من خلال تفريق صفوف الصحابة رضي الله عنهم.
فكانت أول مداخل الشر أشعال نار الفتنة وزرع بذور الشبهة من خلال إغواء النفوس المريضة، فتم ابتداع قضية الطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يوهن جمع الصحابة ويفرق صفوف المسلمين ويضعف قوتهم.
فكان الذي تولى كبره في هذا الأمر، ورفع راية ذلك المكر الخبيث، عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أثار الناس ابتداءً بالخروج لقتل خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وبعد ذلك قام بالكذب على لسان الإمام علي عليه السلام، ونسب إليه جملة من الأقوال والمعتقدات اليهودية، وروجها وأشاعها بين كثير من قاصري النظر وضعاف الإيمان ومحبي الفتن، فنشر بينهم الغلو والألوهية في علي عليه السلام، وادّعى أن له خلافة ووصية قد غصبت منه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من قبل الصحابة رضي الله عنهم.
ولما تطاير شرر هذه البدع الخطيرة بين الناس، وزين الشيطان لهم أعمالهم، تناهت أقوالهم إلى سمع وعلم أمير المؤمنين علي عليه السلام، فغضب ولم يتهاون ولم يغض الطرف عن هذه المقولات الشنيعة، فما كان منه إلا أن حفر الأخاديد وأشعل فيها النيران وهدد بإحراق كل من لم يتراجع عن هذا الافتراء الخطير، فأحرق منهم عدداً، وأجلى قوماً آخرين.(165/34)
وقد نقل المجلسي في بحاره أن رجلاً قال لأمير المؤمنين عليه السلام: (إن على باب المسجد قوماً يزعمون أنك ربهم! فدعاهم فقال: ويلكم! إنما أنا عبد الله مثلكم، آكل الطعام، وأشرب الشراب، فاتقوا الله وارجعوا.
فأتوه في اليوم الثاني والثالث، فقالوا مثل ذلك، فقال لهم عليه السلام: والله إن تبتم وإلا قتلتكم أخبث قتلة , فدعا قنبراً وأتى بقدوم، وحفر لهم أخدوداً بين باب المسجد والقصر، فدعا بالحطب فطرحه والنار فيه، وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعون! فأبوا، فقذف بهم فيها حتى احترقوا.
وقال بعض أصحابه: لم يحرقهم، وإنما أدخن عليهم. ثم قال عليه السلام:
لما رأيت الأمر أمر منكرا ... أوقدت ناري ودعوت قنبرا
ثم احتفرت حفراً وحفرا ... وقنبر يحطم حطماً منكرا(1)
فحذار أن يذهب بك التفكير -أيها القارئ الكريم- إلى أن هذه الشخصية التي حاكت المؤامرة الخبيثة كانت من نسج الخيال، أو جاءت من وهن المقال، بل كانت متواجدة في الساحة الإسلامية، تدبر وتخطط، لذا لم يغفل عن بيان حالها العلماء، وكشفوا عوارها، فذكروا دورها الخبيث في تفريق صف الأسرة الإسلامية الواحدة، ونشر المفاسد الخطيرة في أذهان العوام.
وقد ترجم شخصية عبد الله بن سبأ كثير من العلماء، منهم:
1- سعد بن عبد الله الأشعري القمي (301 هـ): فقال: هذه الفرقة تسمى السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ، وهو عبد الله بن وهب الراسبي الهمداني، وساعده على ذلك عبد الله بن حرسي وابن أسود، وهما من أجلّة أصحابه، وكان أول من أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم(2).
__________
(1) بحار الأنوار: (34/414).
(2) المقالات والفرق: (ص:20).(165/35)
2- النوبختي (310هـ): فقال: أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان ممن أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم، وقال: إن علياً عليه السلام أمر بذلك فأخذه علي فسأله عن قوله هذا، فأقر به، فأمر بقتله، فصاح الناس إليه: يا أمير المؤمنين! أتقتل رجلاً يدعو إلى حبكم أهل البيت، وإلى ولايتك والبراء من أعدائك؟ فصيره إلى المدائن، إلى أن قال:...ولما بلغ عبد الله بن سبأ نعي الإمام علي بالمدائن قال للذي نعاه: كذبت، لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة، وأقمت على قتله سبعين عدلاً لعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل، ولا يموت حتى يملك الأرض(1).
3- الكشي (369هـ): فقال: عن أبان بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لعن الله عبد الله بن سبأ أنه ادعى الربوبية في أمير المؤمنين عليه السلام، وكان -والله- أمير المؤمنين عليه السلام عبداً لله طائعاً، الويل لمن كذب علينا، وإن قوماً يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، نبرأ إلى الله منهم، نبرأ إلى الله منهم.
وقال أيضاً: ذكر بعض أهل العلم أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم، ووالى علياً عليه السلام، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصي موسى بالغلو، فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي عليه السلام مثل ذلك، وكان أول من أشهر القول بفرض إمامة علي وأظهر البراءة من أعدائه، وكاشف مخالفيه وكفرهم(2).
4- شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي (460هـ): حيث ترجم في رجاله عبد الله بن سبأ في باب (أصحاب علي عليه السلام) وقال: عبد الله بن سبأ الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلو.
__________
(1) فرق الشيعة: (ص:22).
(2) انظر: رجال الكشي: (ص:107، 108).(165/36)
وجاء في حاشية الكتاب: عبد الله بن سبأ - بالسين المهملة المفتوحة والباء المنقطة تحتها نقطة - غالٍ ملعون، حرقه أمير المؤمنين علي عليه السلام بالنار، وكان يزعم أن علياً عليه السلام إله وأنه نبي(1).
5- العلامة علي القهبائي (1016هـ): قال في رجاله: عبد الله بن سبأ الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلو(2).
6- العلامة الأربلي (1101هـ): قال: غال ملعون... وإنه كان يزعم ألوهية علي ونبوته(3).
7- ميرزا النوري الطبرسي (1320هـ) فقد ذكر في كتابه مستدرك الوسائل في باب (حكم الغلاة والقدرية) رواية عن عمار الساباطي، قال: قدم أمير المؤمنين عليه السلام المدائن، فنزل بإيوان كسرى، وكان معه دلف بن مجير منجّم كسرى، فلما زال الزوال قال لدلف: قم معي... إلى أن قال: ثم نظر إلى جمجمة نخرة، فقال لبعض أصحابه: خذ هذه الجمجمة! وكانت مطروحة، وجاء إلى الإيوان وجلس فيه، ودعا بطست وصب فيه ماء، وقال له: دع هذه الجمجمة في الطست، ثم قال عليه السلام: أقسمت عليك يا جمجمة أخبريني من أنا؟ ومن أنتِ؟ فنطقت الجمجمة بلسان فصيح، وقالت: أما أنت فأمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وأما أنا فعبد الله، وابن أمة الله: كسرى أنوشروان , فانصرف القوم الذين كانوا معه من أهل ساباط إلى أهاليهم، وأخبروهم بما كان وبما سمعوه من الجمجمة، فاضطربوا واختلفوا في معنى أمير المؤمنين عليه السلام، وحضروه وقال بعضهم فيه مثل ما قال النصارى في المسيح، ومثل ما قال عبد الله بن سبأ وأصحابه , فقال له أصحابه: فإن تركتهم على هذا كفر الناس! فلما سمع ذلك منهم، قال لهم: ما تحبون أن أصنع بهم؟ قال: تحرقهم بالنار، كما أحرقت عبد الله بن سبأ وأصحابه(4).
__________
(1) رجال الطوسي: (ص:51).
(2) رجال القهبائي: (3/284).
(3) جامع الرواة: (1/485).
(4) مستدرك الوسائل: (18/168) , مدينة المعاجز: (1/226).(165/37)
فهذا صنيع العلماء غفر الله لهم في بيان حقيقة المفسدين وأقوالهم تجاه الغلاة الذين وضعوا في هذا الشرع المبارك الكذب والسم والإفراط، فهل نعي هذا الحق الواضح وما قاله الأولون في حق أمير المؤمنين؟
ثانياً: بداية الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم:
إن وقوع الفتن والقتال بين صحابة النبي صلى الله عليه وسلم إنما حصل بعد الانتهاء من المؤامرة التي اوقدها عبد الله بن سبأ اليهودي نتيجة نشره الحقد وبثه السموم بين الجهلة وضعاف الإيمان من مسلمة الأمصار, وقد أتت هذه المؤامرات بثمارها الخبيثة والتي قطفها الأوباش بالخروج على خليفة المسلمين عثمان بن عفان وقتله في داره.
وازداد الأمر سوءاً بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه، فانتشرت جراثيم الشر في صفوف المسلمين لتنفث سمومها، ذلك أنه لما بويع علي رضي الله عنه خليفة على المسلمين، اندس هؤلاء الخوارج السبئيون بين صفوف أهل المدينة وجيش المسلمين، ولم يكن بمقدور الإمام علي رضي الله عنه في وقتها إخراجهم وتصفيتهم، والأخذ بالثأر منهم في قتلهم لخليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه، خشية تفاقم الفتن والقتلى بين أهل المدينة، مثلما فعل الخليفة المظلوم عثمان رضي الله عنه.(165/38)
ولما طالبه أهل المدينة بمعاقبة من أجلب على عثمان بن عفان رضي الله عنه الشر، قال لهم الإمام علي عليه السلام: (يا إخوتاه! إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف لي بقوة والقوم المجلبون على حد شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم، وهاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، والتفت إليهم أعرابهم، وهم خلالكم ما شاءوا، وهل ترون موضعاً لقدرت على شيء تريدونه؟ إن هذا الأمر أمر جاهلية، وإن لهؤلاء القوم مادة - أي: عوناً - إن الناس من هذا الأمر - إذا حرك- على أمور: فرقة ترى ما ترون وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا ذاك، فاصبروا حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق مسمحة -أي: ميسرة- فاهدءوا عني، وانظروا ماذا يأتيكم به أمري، ولا تفعلوا فعلة تضعضع قوة وتسقط منه وتورث وهناً وذلة وسأمسك الأمر ما استمسك، وإذا لم أجد بداً فآخر الدواء الكي)(1).
منذ تلك اللحظات بدأت الفتن تتغلغل بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمفضية إلى انقسامهم إلى طوائف، لما أنقسمت الآراء وتعددت الأجتهادات، فترى طائفة وجوب السرعة في الأخذ بالثأر من قتلة خليفة المسلمين عثمان بن عفان، وطائفة أخرى ترى وجوب التريث حتى يستتب الأمر لأمير المؤمنين، فاندس أهل الفساد والسوء بين تلك الأطراف المجتهدة.
ونتيجة لهذا التفرق لم يهدأ بال أهل الفساد من ترك الأمر على ما هو عليه، بل استغلوا كل مناسبة لتأجيج نار الفرقة والخلاف والنفخ في نار الفتنة والسوء فانتهزوا سانحة خروج طائفة من الصحابة من مكة إلى العراق، فأسرعوا بتهييج العواطف أن هؤلاء أرادوا الشر، وتفرقة صفوف الأمة.. ووقعت معركة الجمل.
معركة الجمل:
__________
(1) نهج البلاغة: (ص:243), بحار الأنوار (31/502).(165/39)
تشير الروايات التاريخية إلى أنه لم يخرج طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم ومن معهم من مكة إلى العراق مقاتلين، ولا داعين أو طامعين لنزع الخلافة من علي رضي الله عنه، بل خرجوا إرادة الإصلاح وحسم الخلاف، وتجميع المسلمين بتوحيد كلمتهم، والانتقام من قتلة خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه وإخراجهم من صفوف المسلمين في العراق، هذا ما ذكرته كتب التاريخ، ولم تكن معركة الجمل هي الأخيرة ولكن تبعتها بعد فترة معركة صفين.
ويمكن إجمال هذا الحدث الكبير في الآتي:
لما اقترب موعد الاتفاق بين جيش علي وجيش طلحة والزبير رضي الله عنهم على إخراج هؤلاء الخوارج من الجيش وقتلهم، وانزوى كل صف إلى معسكره، بعد هذا الأمر أبى أولئك الخوارج هذا التجمع المبارك والهدوء؛ لأنه اجتماع على قتلهم وقتالهم فسعوا في بث الفتنة بين الجيشين، وإشعال القتال بينهم بمؤامرة أخرى تكشف عن مكرهم وغدرهم، فدبروا المؤامرة ليلاً في قتلهم من كلا الجيشين أفراداً، حتى ظن كل من الجيشين غدر الآخر، وخفيت هذه المكيدة على الفريقين، فكانت سبباً في نشوب الحرب بين الصفين.
معركة صفين:
لم تكن معركة صفين مختلفة عن واقعة الجمل بأطرافها أو الغاية منها، لذا ذكر علماء التاريخ أن سبب الخلاف والقتال بين علي ومعاوية في صفين لم يكن بسبب أن لمعاوية طمعاً وتطلعاً للخلافة كما يدعي ويروج له الكثير من الكتاب.
فمعاوية لم يرفع إلى الخلافة رأساً، ولم يبايع له بها أحد من المسلمين، ولم يقاتل علياً على أنه خليفة، بل كان سبب الخلاف بين خليفة المسلمين علي بن أبى طالب وأمير الشام معاوية أنه لم يمتثل بما أمره به خليفة المسلمين من عزله من ولاية الشام والإقرار له بالخلافة.(165/40)
كان معاوية يريد إنفاذ القصاص في قتلة خليفة المسلمين المغدور به عثمان، وقد أشيع عند أهل الشام أن الخليفة علياً امتنع عن معاقبة وملاحقة قتلة عثمان عند توليه خلافة المسلمين، وبدلاً من ذلك قاتل أهل الجمل، وترك أيضاً المدينة وسكن الكوفة وهي معقل قاتلي عثمان، وأن في جيشه من هو متهم في قتل خليفة المسلمين السابق.
وحرصاً من أمير المؤمنين على توضيح الأمر، وإبطال المزاعم المنشورة، ولم ّشتات المسلمين، أرسل كتاباً لمعاوية، مبيناً فيه إثبات أحقية خلافته كما ثبتت خلافة من قبله مع تبرؤه من دم عثمان رضي الله عنه، فقال: (إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتِّباع سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى , ولعمري يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان، ولتعلمن أني كنت في عزلة عنه إلا أن تتجنى، فتجنّ ما بدا لك، والسلام)(1).
فلما نشب القتال بين صفوف المسلمين، وسالت الدماء فيما بينهم، انتهت المعركة برفع جيش معاوية رضي الله عنه المصاحف، طالبين التحكيم فيما بينهم بما يرضي الله عز وجل فرضي خليفة المسلمين علي عليه السلام بهذا الطلب ورجع إلى الكوفة، ورجع معاوية رضي الله عنه إلى الشام بشروط اتفق عليها الطرفان.
__________
(1) نهج البلاغة: (ص:366)، بحار الأنوار: (33/76).(165/41)
وقد قصّ أمير المؤمنين علي عليه السلام للأمصار ما جرى بينه وبين أهل صفين، فقال: (وكان بدء أمرنا أنَّا التقينا والقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربنا واحد، ونبينا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله ولا يستزيدوننا، والأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان، ونحن منه براء)(1).
ولم يكن الأمر سرّاً، أو ما جرى بين الصحابة في صفين في خفاء عن المسلمين، أو عن أحد من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان الحدث جلياً معلوماً تتداوله ألسنة الأئمة فيما بينهم.
فقد روى الإمام جعفر الصادق عن أبيه: إن علياً عليه السلام كان يقول لأهل حربه: (إنا لم نقاتلهم على التكفير لهم، ولم نقاتلهم على التكفير لنا، ولكن رأينا أنَّا على الحق ورأوا أنهم على الحق)(2).
إن تلك الخلافات والفتن التي حدثت بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قتال فيما بينهم، مع بغي أحدهم على الآخر، وما حصل بينهم بعد ذلك من إصلاح وتحكيم بما يرضي الله عز وجل , ثم قبول كل من الطرفين بهذا الحكم، إنما يذكرنا بقول الله تبارك وتعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) [الحجرات:9-10].
قال الشيخ محمد باقر الناصري في تفسيره:
__________
(1) نهج البلاغة: (ص:448)، بحار الأنوار: (33/306).
(2) قرب الإسناد: (ص:45)، بحار الأنوار: (32/324).(165/42)
((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)) أي: فريقان من المؤمنين قاتل أحدهما الآخر، ((فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) وابذلوا الوسع في إصلاحهما، ((فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى)) بأن طلبت ما لا يحق لها، وقاتلت ظالمة معتدية، فانصروا الفئة المظلومة ((فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي)) لأنها ظالمة، ((حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ)) حتى ترجع إلى طاعة الله وتترك البغي والظلم، فإن رجعت وتابت فعودوا لإجراء الصلح بينهما، ((بِالْعَدْلِ)) دون ميل أو جور ((وَأَقْسِطُوا)) أي: اعدلوا، ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)) في الدين فأصلحوا بين الفريقين وأعينوا المظلوم وادفعوا الظالم عن ظلمه(1).
والحرص على الإصلاح والسعي، وإلى لمّ شعث المسلمين كان رجاء أمير المؤمنين علي عليه السلام، وكذلك البعد عن كل ما يوقع البغضاء والفرقة في نفوس المسلمين، لهذا سعى أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى البعد عن كل ما يثير الأحقاد ويفرق الصفوف ومن ذلك: القول السيئ، فنهى من كان في جيشه عن لعن وشتم جيش معاوية بن أبي سفيان، مع حدوث القتال فيما بينهم.
__________
(1) تفسير مختصر مجمع البيان (3/308)، وانظر أيضاً: تفسير المعين، بيان السعادة، مقتنيات الدرر، الميزان، الكاشف في تفسير سورة الحجرات: (9-10).(165/43)
فعن عبد الله بن شريك قال: (خرج حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يظهران البراءة واللعن لأهل(1) الشام، فأرسل إليهما علي عليه السلام: أن كفّا عما يبلغني عنكما. فأتياه فقالا: يا أمير المؤمنين، ألسنا محقين؟ قال: بلى. قالا: أوليسوا مبطلين؟ قال: بلى. قالا: فلم منعتنا من شتمهم؟ قال: كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين يشهدون ويتبرءون، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم، فقلتم: من سيرتهم كذا وكذا، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق منهم من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به، كان هذا أحب إلي وخيراً لكم)(2).
وهذا النهي منه عليه السلام لم يكن لخاصة شيعته فقط، بل جهر بنهيه عليه السلام وأوصى جيشه بأكمله، قاصداً أن يعمم هذا النهي لكل زمان ومكان، فقال لجيشه في صفين أيضاً: (إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصَوَب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم)(3).
ما بعد استشهاد الإمام علي عليه السلام:
وبعدما قُتل أمير المؤمنين علي عليه السلام شهيداً على يد الخارجي الغادر ابن ملجم بويع لابنه الحسن عليه السلام بالخلافة على المسلمين، فما كان منه إلا أن جمع صفوف المسلمين، وتحققت فيه معجزة النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) وفي الأصل: من أهل الشام.
(2) مستدرك الوسائل: (12/306)، بحار الأنوار: (32/399)، وقعة صفين: (ص:102).
(3) نهج البلاغة: (ص:323)، بحار الأنوار: (32/561).(165/44)
فعن أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن بن علي عليه السلام إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه مرة، ويقول: (إن هذا ابني سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين)(1).
وقد جعل الإمام الحسن بن علي عليه السلام أحد شروط الصلح مع معاوية، أن يحكم في الناس بالكتاب والسنة، وعلى سيرة الخلفاء الراشدين(2).
ومما يدل على التلاحم الأخوي والتراحم الديني بين أمير المؤمنين علي ومعاوية رضي الله عنهما - مع ما كان بينهما من اختلاف اجتهادي – فقد كان معاوية كلما تذكر علياً بعد استشهاده بكى على فقده وترحم عليه.
فعن الأصبغ بن نباتة قال: (دخل ضرار بن ضمرة النهشلي على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فقال له: صف لي علياً ؟ قال: أو تعفيني ؟ فقال: لا، بل صفه لي.
قال ضرار: رحم الله علياً! كان والله فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويقربنا إذا زرناه، لا يغلق له دوننا باب، ولا يحجبنا عنه حاجب، ونحن -والله- مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه لهيبته، ولا نبتديه لعظمته، فإذا تبسم فمن مثل اللؤلؤ المنظوم.
فقال معاوية: زدني في صفته. فقال ضرار: رحم الله علياً كان -والله- طويل السهاد، قليل الرقاد، يتلو كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار...
قال: فبكى معاوية وقال: حسبك يا ضرار! كذلك والله كان علي، رحم الله أبا الحسن)(3).
__________
(1) كشف الغمة: (1/519)، بحار الأنوار: (43/298)، عوالي اللآلي: (1/102).
(2) انظر: كشف الغمة: (1/570)، بحار الأنوار: (44/64).
(3) بحار الأنوار: (41/14)، أمالي الصدوق:(624).(165/45)
هذا هو حال الإخوة في الزمن الماضي، لم يمنع اختلافهم في الاجتهاد من تراحمهم وخلو قلوبهم من الغل والبغضاء، والتاريخ خيرُ معين لفهم حوادث الزمن الماضي، بعيداً عن أقوال مبناها عاطفة هوجاء تتقاذف بالمسلم في كل صوب، وليس له من بعد ذلك إلا زيغ الشيطان وشبهاته تتحكم به، والعياذ بالله.
المبحث الرابع:
المؤامرة ضد الإسلام والمسلمين
اتخذ أعداء الله والمبغضون لوحدة الصف الإسلامي مما وقع بين الصحابة في وقت الفتنة من الاختلاف والاقتتال سبباً وذريعة للوقيعة بهم، والنيل من عدالتهم.
وقد جرى على هذا المخطط الفاسد بعض الكتاب المتقدمين والمتأخرين من أهل البدع والضلال، الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويتكلمون بما لا يحسنون، فجعلوا أنفسهم حكماً بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يصوبون بعضهم، ويخطئون آخرين بلا دليل وحجة، لا سبيل لهم إلا سبيل الجهل واتباع الهوى، وترديد ما يقوله المغرضون والحاقدون من المبتدعة وأذنابهم من الكتّاب الضالين، حتى شككوا الكثير من عوام المسلمين في كتاب الله (1) وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم عن طريق الطعن في عدالة الناقلين.
__________
(1) قال الكاشاني: وأما اعتقاد مشايخنا (ره) في ذلك فالظاهر من ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني طاب ثراه أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن؛ لأنه كان روى روايات في هذا المعنى في كتابه الكافي ولم يتعرض لقدح فيها، مع أنه ذكر في أول الكتاب أنه كان يثق بما رواه فيه، وكذلك أستاذه علي بن إبراهيم القمي (ره)، فإن تفسيره مملوء منه وله غلو فيه، وكذلك الشيخ أحمد بن أبى طالب الطبرسي، فإنه أيضاً نسج على منوالهما في كتابه الاحتجاج. (تفسير الصافي - المقدمة السادسة: (52), وانظر: كذلك تفسير القمي: (1/23)، آراء حول القرآن - آية الله علي الأصفهاني: (88)، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة - للميرزا حبيب الله الخوئي: (2/197).(165/46)
وقد اتخذ هؤلاء الكتاب لتقوية باطلهم وكلامهم المأفون عدة شبه وأساليب ملتوية خبيثة في سبيل تشويه التاريخ، وزرع الفتن والبغضاء بين المسلمين، ومن تلك الأساليب:
أولاً: إسقاط عدالة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
أشاع أولئك المرجفون بين العوام: كيف نأتمن ونطمئن بأخذنا القرآن والسنة من أناس قد وقعت منهم الذنوب والمعاصي؟ وكيف نأخذ ديننا من أناس قد حكم الله عليهم بالنفاق؟
فعندما تُطرح مثل هذه الشبه والسموم على المسلمين، فإن ملقيها لن يقصد على اليقين أعرابياً من مغموري الصحابة، لم يفصّل التاريخ في خبره، أو يسهب في أثره، أو في صحابية من عامة الصحابيات زنت ثم اعترفت فرجمها النبي صلى الله عليه وسلم، أو من رجل كان مبتلى بشرب الخمر فأقام النبي صلى الله عليه وسلم عليه الحد، ولا يريد بشبهته هذه أمثال حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه الذي زل في رأيه ولم يوفق في اجتهاده، عندما أخبر قريشاً بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم فاتحاً، فكل أولئك رضي الله عنهم قد تابوا إلى الله عز وجل، إما باستغفار وإنابة منهم، أو بإقامة حد دنيوي عليهم.
لكنه يتوجه بشبهته وطعنه مباشرة إلى كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم رضي الله عنهم، من خلال اختلاق القصص، وإبراز الخلافات بين هؤلاء الأطهار لتمهيد الطريق لإطفاء نور الله الذي سار عليه المسلمون، بإسقاط عدالة الصحابة ومن ثم يسهل عليهم ضرب كتاب الله، الذي نقلوه وحفظوه، ومن ثم سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، التي فيها تفصيل التشريعات الربانية، فيسهل بعد ذلك تفريق صفوف الإسلام والمسلمين، وجعل الفتن والبغضاء متأصلة بينهم.(165/47)
وهذا ملاحظ فيما يشاع بين المسلمين، وما يقوم به أهل الفتن والتدليس من ترويج ونشر للأحاديث المكذوبة على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كضرب الزهراء وإحراق بيتها، وضرب زوجها، واغتصاب خلافته من قبل كبار الصحابة، وغيرها كثير من الأكاذيب المتناثرة في الكتب الجامعة للأحاديث والروايات.
ومن العجيب في ذلك -والعجائب جمة- أننا لم نجد في هذه الروايات الداعية إلى الفرقة والاختلاف بين الصحابة رواية واحدة صحيحة، متصلة السند، إما مرفوعة إلى الإمام علي عليه السلام، أو لغيره من الصحابة، عن رواة عدول من شيعة آل البيت عليهم السلام تسند أمثال تلك المزاعم.
ولنكن على بينة وعلم:
1- إن الثناء على الصحابة قد تحقق في كتاب ربنا، وفي سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكذا على لسان العترة عليهم السلام (1).
2- إن مقولة: (إن من الصحابة منافقين) كذبٌ، لأن المنافقين ليسوا من الصحابة أساساً، والمنافقون كان جلهم معروفاً للنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، بأعيانهم أو بأوصافهم؛ لأن آيات القرآن قد بينت كل حركاتهم وسكناتهم، بل حتى خلجات نفوسهم .
وإذا أخذنا غزوة تبوك مثلاً، وهي من أواخر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، نجد أن هنالك من تخلف عنها بأعذار واهية، أو بدعوى خشية الافتتان بنساء الروم، وغيرها من الأعذار السَّمِجَة التي عادة ما يتعذر بها المنافقون حينما يكون هنالك جهاد في سبيل الله.
وقد ذكرها القرآن الكريم في مواضع كثيرة، في حين أن الصحابة رضي الله عنهم خرج أغلبهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يبق في المدينة إلا رجل معلوم النفاق، أو من له عذر عذره الله، أو من أذِن له النبي صلى الله عليه وسلم بالمكوث والتخلف.
__________
(1) انظر: (ص:13-35) من هذا الكتاب.(165/48)
ومما يدل على أن المنافقين معلوم أمرهم وأنهم ليسوا من الصحابة، أن رب العزة قد ذكر توبته على ثلاثة من أهل المدينة تخلفوا من غير عذر شرعي، وذلك لصدق توبتهم وعظيم إيمانهم، ووصف حالهم عند تخلفهم عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: ((لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)) [التوبة:117] إلى قوله تعالى: ((وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) [التوبة:118].
ومن الجدير بالقول أن آيات سورة التوبة قسمت أهل المدينة بعد غزوة تبوك إلى ثلاثة أصناف, ولم تتكلم عن طائفة رابعة، وهي التي أذِن لها النبي صلى الله عليه وسلم بالتخلف أمثال الإمام علي وابن أم مكتوم، ونفر من الفقراء الذين لم يجدوا ما يستعينون به على الخروج.
فبينت آيات سورة التوبة أن الرحمن تاب على الصحابة الذين شهدوا المعركة في الآية الأولى، وهم الصنف الأول، واستثنى في الآية الثانية المنافقين من مجتمع المدينة، الذين تخلفوا عن الخروج وهم من الصنف الثاني، ثم قص الله علينا شأن ثلاثة من الذين تخلفوا عن المعركة من الصحابة، وأنه سبحانه قد تاب عليهم، بسبب صدقهم مع نبيه صلى الله عليه وسلم وهم الصنف الثالث والأخير.
فأين النفاق في أولئك، مع وضوح الآيات الدالة على حقيقة ما وقع ؟!
بل إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا من أكثر الناس خوفاً من الله عز وجل خشية على أنفسهم أن يقعوا في النفاق.(165/49)
فعن سلام بن المستنير قال: (كنت عند أبي جعفر عليه السلام، فدخل عليه حمران بن أعين فسأله عن أشياء، فلما همّ حمران بالقيام قال لأبي جعفر عليه السلام: أخبرنا -أطال الله بقاءك لنا وأمتعنا بك- إنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترق قلوبنا وتسلو أنفسنا عن الدنيا ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرج من عندك، فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا. قال: فقال أبو جعفر عليه السلام: إنما هي القلوب مرة تصعب، ومرة تسهل، ثم قال أبو جعفر عليه السلام: أما إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، تخاف علينا النفاق؟ قال: فقال لهم: ولم تخافون ذلك؟ قالوا: إنا إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا ووجِلنا، ونسينا الدنيا وزهدنا، حتى كأنّا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل والأولاد، يكاد أن نحوّل عن الحال التي كنا عليها عندك، وحتى كأنّا لم نكن على شيء، أفتخاف علينا أن يكون هذا النفاق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا إن هذه من خطوات الشيطان ليرغبكم في الدنيا، والله لو أنكم تدومون على الحاله التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة، ومشيتم على الماء، ولولا أنكم تذنبون فتستغفرون الله لخلق الله خلقاً لكي يذنبوا ثم يستغفروا، فيغفر لهم، إن المؤمن مفتّنٌ توابٌ، أما سمعت قول الله عز وجل: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)) [البقرة:222]، وقال تعالى: ((اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)) [هود:3])(1).
__________
(1) الكافي:(2/423), بحار الأنوار: (6/41), تفسير العياشي: (1/109), مجموعة ورام: (2/210).(165/50)
3- إن الصحابة رضي الله عنهم معصومون في إجماعهم، فلا يمكن أن يجتمعوا على شيء من كبائر الذنوب أو صغيرها فيستحلونها ويفعلونها، وأما وقوع المعاصي من بعضهم ففيه الدلالة على عدم عصمة أفرادهم، ولا يضر هذا الزلل في عدالتهم، ولا يحطّ من مكانتهم.
ومما يدل على عدالتهم على وجه العموم، ما قام به الأئمة عليهم السلام من تمحيص لروايات الصحابة التي رووها عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يجدوا بعد الفحص والنظر صحابياً كذب كذبة واحدة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومع كثرة انتشار البدع في أواخر عهدهم كبدعة القدرية والخوارج والمرجئة، التي منشأها من تحكيم سقيم العقل وفساد الرأي، إلا أنه لم يوجد صحابي واحد في أولئك المبتدعة أبداً، وهذا يدل على أن الله قد اصطفاهم ورعاهم، وميزهم واختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونشر دينه القويم.
قال أبو عبد الله عليه السلام: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألفاً، ثمانية آلاف من المدينة، وألفان من مكة، وألفان من الطلقاء، ولم ير فيهم قدري ولا مرجئ ولا حروري ولا معتزلي ولا صاحب رأي، كانوا يبكون الليل والنهار، ويقولون: اقِْض أرواحنا من قبل أن نأكل خبز الخمير)(1).
وقد أثبت الإمام الصادق عليه السلام عدالة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على صدق ما يروونه في حديثهم للنبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) الخصال: (2/639)، بحار الأنوار: (22/305).(165/51)
فعن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: (ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني فيها بالجواب، ثم يجيئك غيري فتجيبه فيها بجواب آخر؟ فقال: إنا نجيب الناس على الزيادة والنقصان! قال: قلت: فأخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقوا على محمد أم كذبوا؟ قال: بل صدقوا، قال: قلت: فما بالهم اختلفوا؟ فقال: أما تعلم أن الرجل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله عن المسألة فيجيبه فيها بالجواب، ثم يجيبه بعد ذلك بما ينسخ ذلك الجواب، فنسخت الأحاديث بعضها بعضاً)(1).
ولو جاء مدّعٍ بدليل على وقوع كذب في الصحابة أو حدوث نفاق في قلوبهم لقيل له مباشرة: فأين الدليل الصريح على استثناء بعضهم من هذا الادعاء؟
4- لا يلزم من إثبات العدالة للصحابة رضي الله عنهم إثبات العصمة لهم من الأخطاء فهم بشر يخطئون ويصيبون، وإن كانت أخطاؤهم مغمورة في بحور حسناتهم.
فلهم من السوابق والفضائل التي لن يلحقهم فيها أحد، فهم الذين نصروا النبي صلى الله عليه وسلم حين اجتمع عليه العرب، وجاهدوا بأموالهم وأولادهم وأنفسهم، وقاتلوا آباءهم وإخوانهم وعشيرتهم، وبذلوا رقابهم لإعلاء كلمة الله، وكانوا سبباً في نشر ووصول هذا الدين العظيم إلينا، فهذه - بإذن الله-توجب مغفرة ما صدر منهم، ولو كان من أعظم الذنوب ما لم يصل إلى الكفر.
قال تعالى: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)) [آل عمران:159].
__________
(1) الكافي: (1/65)، بحار الأنوار: (2/228).(165/52)
قال العلامة المجلسي: (وإذا زالت العدالة بارتكاب ما يقدح فيها، فتعود بالتوبة بغير خلاف ظاهراً، وكذلك من حُدّ في معصية ثم تاب رجعت عدالته وقبلت شهادته، ونقل بعض الأصحاب إجماع الفرقة على ذلك)(1).
وقال السيد أبو القاسم الخوئي: (ترتفع العدالة بمجرد وقوع المعصية، وتعود بالتوبة والندم، وإنه لا يفرق في ذلك بين الصغيرة والكبيرة)(2).
وقال السيد محمد حسين فضل الله عن عدالة أئمة الجماعات المعاصرين، والذين هم أدنى منزلة ممن أكرمه الله بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العدالة ليست العصمة، فقد يعصي المؤمن العادل ثم يتوب بعد انتباهه لذلك، على هدي قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)) [الأعراف:201], وأما كيف تثبت العدالة؟
فذلك بحسب الظاهر في سلوكه العام في المجتمع، بحيث يرى الناس فيه الإنسان المستقيم في دينه، وفي أخلاقه الفردية، أو الاجتماعية المرتبطة بالحدود الشرعية، كما تثبت بالشياع المفيد للعلم أو الاطمئنان، وبخبر الثقة بعدالته، ولا قيمة لخبر الفاسق في العدالة سلباً أو إيجاباً)(3).
ثانياً: تشويه سيرة الصحابة رضي الله عنهم:
مما سبق بيانه وتفصيله عرفنا أن أعداء الإسلام والمفرقين لشمل المسلمين قد استخدموا أساليب خطيرة ومتنوعة لبلوغ غاية عظيمة ألا وهي تشويه حياة وسيرة الصحابة رضي الله عنهم، واستحلوا جميع الدروب والوسائل لتحقيق هذه الغاية، مما أدى إلى نتائج وخيمة وعواقب أليمة، كاستحلال لعنهم وسبهم، وإلصاق كل قبيح بهم.
وزيادة على ما مضى ذكره من أساليب قذرة، نزيد في بيان بعضها، ومنها:
1- اختلاق القصص، سواء كانت على لسان صحابي أو عدة من الصحابة رضي الله عنهم.
__________
(1) بحار الأنوار: (85/30).
(2) منهاج الصالحين: (2/12).
(3) المسائل الفقهية: (2/174).(165/53)
2- القيام بالزيادة في الحوادث الصحيحة أو النقصان منها، أو بإسنادها كذباً إلى كتب حديثية غير موجودة فيها.
3- القيام بتأويل الأحداث الصحيحة في آيات القرآن، والأحاديث النبوية الصحيحة تأويلاً باطلاً يتماشى مع أهوائهم ومعتقداتهم وبدعهم، كما قال الله عز وجل: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ)) [آل عمران:7].
4- التركيز على إظهار أخطاء الصحابة رضي الله عنهم التي صدرت منهم لقرب عهدهم - في بدء الدعوة والإسلام - بالجاهلية وتأثرهم بشيء منها في أول أمرهم، ومن ثم تغطية محاسنهم وتضحياتهم وجهادهم العظيم، بعد تمكّن التربية والإيمان في قلوبهم.
5- القيام بتأليف أبيات من الأشعار ونسبتها لشخصيات بارزة، والتي تتماشى مع دعوتهم في نشر فتنتهم بين المسلمين وتقويتها، مثلما نُسِب كذباً وزوراً لعلي بن أبى طالب عليه السلام الكثير من الأقوال والأبيات الشعرية(1).
ثالثاً: الغلو.. والتقول على العترة الكرام:
إن البهتان والتقول على العترة عليهم السلام لما ابتدأ أمره في زمنهم، ارتفعت أصواتهم عليهم السلام بالنهي عنه، وحذروا شيعتهم من خطورة التقول عليهم.
فجاء عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (رحِم اللهُ عبداً حبّبنا إلى الناس ولم يبغّضنا إليهم، أما والله! لو يروون محاسِن كلامنا لكانوا به أعز، وما استطاع أحد أن يتعلق عليهم بشيء، ولكنّ أحدهم يسمع الكلمة فيحط عليها عشراً)(2).
__________
(1) انظر: بحار الأنوار: (20/72، 118، 146، 238، 264، 21/35، 251)، مستدرك الوسائل: (8/119)، (13/75).
(2) الكافي: (8/229).(165/54)
وقال أيضاً: (إن ممن ينتحل هذا الأمر - يعني من: يدَّعي اتباعهم- ليكذب حتى إن الشيطان ليحتاج إلى كذبه)(1).
وقال كذلك: (إن الناس أولعوا بالكذب علينا، إن الله افترض عليهم لا يريد منهم غيره، وإني أحدث أحدهم بالحديث فلا يخرج من عندي حتى يتأوله على غير تأويله، وذلك بأنهم لا يطلبون بحديثنا وبحبنا ما عند الله، وإنما يطلبون الدنيا)(2).
ولأهمية الصدق والاتصاف به رغَّب العترة شيعتهم أن يتحلوا بهذا الخلق المبارك فمن ذلك ما قاله أبو عبد الله عليه السلام: (إنّا أهل بيت صديقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق الناس لهجة وأصدق البرية كلها، وكان مسيلمة يكذب عليه , وكان أمير المؤمنين عليه السلام أصدق من برأ الله بعد رسول الله، وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه ويفتري على الله الكذب عبد الله بن سبأ)(3).
وعن أبان بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (لعن الله عبد الله بن سبأ! إنه ادعى الربوبية في أمير المؤمنين عليه السلام، وكان والله أمير المؤمنين عليه السلام عبدَا لله طائعاً، الويل لمن كذب علينا، وإن قوماً يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، نبرأ إلى الله منهم، نبرأ إلى الله منهم)(4).
__________
(1) الكافي: (8/254)، بحار الأنوار، (25/296)، رجال الكشي: (ص:297).
(2) بحار الأنوار: (2/246).
(3) رجال الكشي: (ص:108)، بحار الأنوار: (25/287).
(4) رجال الكشي: (ص:107)، بحار الأنوار: (25/286).(165/55)
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: (دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن فيك مثلاً من عيسى أبغضته يهود خيبر حتى بهتوا أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلوه المنزلة التي ليس له ألا فإنه يهلك فيّ اثنان: محب مفرط يفرط بما ليس فيَّ، ومبغض يحمله بغضعه على أن يبهتني، ألا إني لست بنبي ولا يُوحى إلي، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله فحق عليكم طاعتي فيما أحببتم أو كرهتم)(1).
والغلو داء فتاك في كل عمل وقول، وتستفحل خطورته أكثر إذا كان في جانب الدين، فما الظن إن كان الغلو هو القائد في الحب أو البغض.
لأجل هذا حذر منه الأئمة، فجاء عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: (اللهم إني بريء من الغلاة كبراءة عيسى بن مريم من النصارى، اللهم اخذلهم أبداً، ولا تنصر منهم أحداً)(2).
وقال الإمام الصادق عليه السلام: (الغلاة شر خلق الله، يصغرون عظمة الله، ويدعون الربوبية لعباد الله، واللهِ إن الغلاة لشرٌ من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا)(3).
وجميع تلك الأساليب والطرق كانت -وما زالت- منذ وجودها طريقاً إلى تجدد العهد بشتم الصحابة وانتقاصهم وطرح عدالتهم، وغيرها من المثالب.
المبحث الخامس:
الموقف الصحيح (الحق) من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
إن الموقف الصحيح فيما حدث بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو موقف الاعتدال والوسط، بعيداً عن الإفراط والتفريط، والغلو والجفاء، كما قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)) [البقرة:143].
__________
(1) بحار الأنوار: (ص:35، 317)، العمدة: (ص:211).
(2) بحار الأنوار: (25/284).
(3) بحار الأنوار: (25/284).(165/56)
فواجب علينا أن نتولى جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وكذلك الذين اتبعوهم بإحسان، ونعرف فضلهم ومناقبهم ودرجاتهم كما ذكر الله عز وجل في كتابه، وما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن نمسك عما شجر بينهم في تلك الأزمنة.
وأن نعلم أن ما وقع بينهم بعد مقتل خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه من فتنة فمرجعه إلى تأويل واجتهاد، إذ كان كل واحد منهم يظن أنه على الحق دون غيره، مثلما كان يقول الإمام علي عليه السلام لأهل حربه: (إنا لم نقاتلهم على التكفير لهم، ولم نقاتلهم على التكفير لنا، ولكنا رأينا أنّا على الحق ورأوا أنهم على الحق)(1).
وعلينا أن نقتدي ونهتدي بهدي الأئمة الأطهار عليهم السلام فلا نلعن ولا نسب أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لنكون ممن قال الله تعالى فيهم: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) [الحشر:10].
قال الشيخ محمد باقر الناصري:
((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)) يعني من بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ((يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا)) أي يدعون ويستغفرون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان ((وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ)) أي حقداً وغشاً وعداوة للمؤمنين، ولا إشكال أن من أبغض مؤمنا، وأراد به السوء لأجل إيمانه فهو كافر، وإذا كان لغير ذلك فهو فاسق(2).
وقال الشيخ محمد السبزواري النجفي:
__________
(1) قرب الإسناد: (ص:45)، بحار الأنوار: (32/324).
(2) تفسير مختصر مجمع البيان، وانظر: تفسير الكاشف، المنير (سورة الحشر:10).(165/57)
((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)) يعني من بعد هؤلاء وهؤلاء، وهم سائر التابعين لهم إلى يوم القيامة ((يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ)) أي أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم من المؤمنين بالمغفرة والتجاوز عن الذنوب ((وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا)) أي لا تجعل فيها حقدا ولا كرها ولا غشا، واجعل قلوبنا معصومة عند ذلك لا تحب لهم إلا الخير ((رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) أي متجاوز عن خطاياهم متعطف عليهم بالرزق والمغفرة(1).
ولله در الإمام العابد الزاهد زين العابدين عليه السلام حين سنّ لنا منهجاً مباركاً يسير عليه أحبابه وشيعته، وذلك لما قدم إليه نفر من أهل العراق، فخاضوا في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلما فرغوا من كلامهم، قال لهم: (ألا تخبروني، أنتم من الذين قال الله فيهم ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ)) [الحشر:8]؟ قالوا: لا.
قال: فأنتم من الذين قال الله فيهم: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) [الحشر:9]؟ قالوا: لا.
__________
(1) تفسير الجديد (سورة الحشر:10).(165/58)
قال: أما أنتم قد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين، وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) [الحشر:10]، اخرُجُوا عني، فعل الله بكم)(1).
ولنتذكر قول المولى سبحانه: ((تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [البقرة:134].
قال محمد جواد مغنية:
هذه الآية تشير إلى مبدأ عام، وهو أن نتائج الأعمال وآثارها تعود غداً على العامل وحده، لا ينتفع بها من ينتسب إليه إن تكن خيراً، كما لا يتضرر بها غيره إن تكن شراً، وقرر الإسلام هذا المبدأ بأساليب شتى، منها الآية (164) من سورة الأنعام: ((وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى))، ومنها الآية (39) من سورة النجم: ((وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى))... ومنها قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم لوحيدته فاطمة (2): (يا فاطمة، اعملي ولا تقولي: إني ابنة محمد؛ فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً) وأمثال ذلك , والتبسط في هذا الموضوع إن دل على شيء فإنما يدل على أننا حتى اليوم نجهل أوضح الواضحات, وأظهر البديهيات(3).
وإذا أردت أن ترى المنهج الواقعي في حياة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم في إظهار محبة الصحابة والترابط الذي كان بينهم فاقرأ ما يأتي.
المبحث السادس:
الأسماء والمصاهرات بين الصحابة رضي الله عنهم والآل عليهم السلام
__________
(1) كشف الغمة: (2/78).
(2) الصحيح أنها ليست وحيدته بل من بناته أم كلثوم، ورقية، وزينب وإن كانت الزهراء ‘ أفضلهن. انظر: (ص:22) من هذا الكتاب.
(3) تفسير الكاشف: (سورة البقرة آية:134).(165/59)
لم يستطع بعض الجهلة إخفاء الحقائق التاريخية الدالة على ما حصل بين الصحابة وآل البيت عليهم السلام من محبة ومودة فيما بينهم ومن ذلك تسمية بعضهم بأسماء بعض، أو ما وقع بينهم من مصاهرات.
فهؤلاء الأطهار لم يسموا أو يزوجوا أولادهم لمصالح دنيوية، أو لإدراك مناصب فانية أو طمعاً في كثرة مال وعَرَض، لكنهم إنما سموا أولادهم بأسماء من يُقتدى بحالهم، وزوَّجوا بناتهم أناساً فيهم صفات طيبة مباركة حرصوا على نيلها مثل سلامة الدين وصفاء القلوب، وهذا الحرص كان نابعا من اتباعهم منهج سيد البشر المصطفى صلى الله عليه وسلم وكانوا يفتون به لشيعتهم المخلصين.
فعن إبراهيم بن محمد الهمداني قال: (كتبت إلى أبي جعفر؛ في التزويج، فأتاني كتابه بخطه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، ((إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)) [الأنفال:73] (1).
وفي فقه الإمام الرضا عليه السلام: (إن خطب إليك رجل رضيتم في دينه وخلقه فزوجوه ولا يمنعك فقره وفاقته، قال تعالى: ((وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ)) [النساء:130])(2).
__________
(1) الكافي: (5/347), تهذيب الأحكام: (7/396), وسائل الشيعة: (20/77).
(2) فقه الرضا: (ص: 235) , مستدرك الوسائل: (14 / 188) , بحار الأنوار: (100 / 372).(165/60)
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إن الله عز وجل لم يترك شيئاً مما يحتاج إليه إلا علمه نبيه صلى الله عليه وسلم فكان من تعليمه إياه أنه صعد المنبر ذات يوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس: إن جبريل عليه السلام أتاني عن اللطيف الخبير فقال: إن الأبكار بمنزلة الثمر على الشجر، إذا أدرك ثمارها فلم تجتن أفسدته الشمس ونثرته الرياح، وكذلك الأبكار إذا أدركن ما تدرك النساء فليس لهن دواء إلا البعولة، وإلا لم يؤمن عليهن الفساد لأنهن بشر.قال: فقام إليه رجل، فقال: يا رسول الله! فمن أزوج ؟ قال: الأكفاء. قال: يا رسول الله! من الأكفاء؟ فقال: المؤمنون بعضهم أكفاء بعض)(1).
وقال الصادق عليه السلام: (الكفو أن يكون عفيفاً وعنده يسار)(2).
وقد حذر العترة عليهم السلام من تزويج أولادهم من النواصب أو أصحاب الكبائر والمعاصي، لا سيما الكفار والمنافقين المرتدين.
فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: (لا يتزوج المؤمن الناصبة المعروفة بذلك)(3).
وعن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال له الفضيل: (أتزوج الناصبة؟ قال: لا، ولا كرامة. قلت: جعلت فداك، والله! إني لأقول لك هذا، ولو جاءني ببيت ملآن دراهم ما فعلت)(4).
وعن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (تزوج اليهودية والنصرانية أفضل، أو قال: خير من تزوج الناصب والناصبة)(5).
وعن أحمد بن محمد رفعه قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: (من زوج كريمته من شارب خمر فقد قطع رحمها)(6).
__________
(1) الكافي: (5/337)، تهذيب الأحكام: (7/397)، وسائل الشيعة: (20/61.
(2) من لا يحضره الفقيه: (3/394).
(3) الكافي: (5/348)، الاستبصار: (3/183)، وسائل الشيعة: (20/549).
(4) الكافي: (5/348).
(5) الكافي: (5/351).
(6) الكافي: (5/347)، تهذيب الأحكام: (7/398)، وسائل الشيعة: (20/79)، عوالي اللآلي: (3/341).(165/61)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من زوج كريمته بفاسق نزل عليه كل يوم ألف لعنة، ولا يصعد له عمل إلى السماء، ولا يستجاب له دعاؤه، ولا يقبل منه صرف ولا عدل)(1).
وقال أبو عبد الله عليه السلام أيضا: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شارب خمر لا يُزوج إذا خطب)(2).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من زوج كريمته من شارب خمر فكأنما ساقها إلى الزنا)(3).
وعن الحسين بن بشار الواسطي قال: (كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام: إن لي قرابة قد خطب إلي، وفي خلقه سوء! قال: لا تزوجه إن كان سيئ الخلق)(4).
فلا يعقل بعد هذا، ويستحيل حدوثاً أن يقدم آل البيت الأطهار على تزويج أولادهم من أناس مطعون في دينهم أو خلقهم.
ومما يدل على مراعاتهم لهذه القضية الهامة - مع خالص النصح فيما بينهم على الخير والإعانة عليه- أن أبا بكر وعمر وعثمان يسعون في تزويج فاطمة لعلي.
فعن الضحاك بن مزاحم قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: (أتاني أبو بكر وعمر فقالا: لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له فاطمة)(5).
وهذا نصح من الصحابين الجليلين للإمام علي عليه السلام تظهر رغبة الصحابة في مصاهرة علي بن أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما كان علي عليه السلام معسراً، قليل ذات اليد، لم يبخل أو يتقاعس عنه إخوانه بشيء عند زواجه.
وممن شارك في مساعدة الإمام علي في زواجه من فاطمة الزهراء عثمان بن عفان رضي الله عنه.
__________
(1) إرشاد القلوب: (1/174), مستدرك الوسائل: (5/279).
(2) الكافي: (5/348)، تهذيب الأحكام: (7/398)، وسائل الشيعة: (20/79)، عوالي اللآلي: (3/341).
(3) مستدرك الوسائل: (14/191) , عوالي اللآلي: (1/272).
(4) الكافي: (5/563)، من لا يحضره الفقيه: (3/409)، وسائل الشيعة: (20/81)، مستدرك الوسائل: (14/192)، بحار الأنوار: (100/234).
(5) انظر: أمالي الطوسي: (ص:39) , بحار الأنوار: (43/93).(165/62)
يقول الإمام علي عليه السلام راويا قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا الحسن انطلق الآن فبع درعك وأتني بثمنها حتى أهيئ لك ولابنتي فاطمة ما يصلحكما قال علي: فأخذت درعي فانطلقت به إلى السوق فبعته بأربعمائة درهم سود هجرية إلى عثمان بن عفان، فلما قبضت الدراهم منه، وقبض الدرع مني، قال: يا علي! ألست أولى بالدرع منك وأنت أولى بالدراهم مني؟! فقلت: بلى، قال: فإن هذا الدرع هدية مني إليك! فأخذت الدرع والدراهم وأقبلت إلى رسول الله، فطرحت الدرع والدراهم بين يديه وأخبرته بما كان من أمر عثمان، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بخير)(1).
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة بأن يشتروا للزهراء ما تحتاجه للعرس بإشراف من أبي بكر الصديق رضي الله عنه (2).
فالخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم خاصة، وغيرهم من الصحابة، ممن ساهم واشترك بل وممن أشهدهم النبي صلى الله عليه وسلم على زواج الإمام علي عليه السلام من فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لهم الدور الفعال في إتمام هذا الزواج المبارك.
قال أنس رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: (انطلق فادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير وبعددهم من الأنصار، قال: فانطلقت فدعوتهم له، فلما أخذوا مجالسهم قال: إني أشهدكم أني قد زوجت فاطمة من علي، على أربعمائة مثقال من فضة)(3).
__________
(1) انظر كشف الغمة: (1/358)، بحار الأنوار: (43/130).
(2) انظر: أمالي الطوسي: (ص:40)، بحار الأنوار: (43/94).
(3) كشف الغمة: (1/348)، بحار الأنوار: (43/119).(165/63)
ولا يخفى عليك -أيها القارئ الكريم- أن أهل البيت عليهم السلام من أحرص الناس على تزويج أولادهم من أهل الصلاح والتقى، وهم كذلك من أبعد الناس عن تزويج أولادهم للفساق والمنافقين ولا سيما النواصب والمرتدين، ومن ادعى أنهم زوجوا مرتداً أو منافقاً أو فاسقاً فقد أعظم عليهم الفرية، واتهمهم بمخالفة أفعالهم أقوالهم وهو شيء مقته الله على بني إسرائيل وعلى غيرهم، قال تبارك وتعالى: ((أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [البقرة:44]، والمحب يجلّ أهل البيت عليهم السلام من هذه الصفة، ويعتقد في حقهم أنهم ما زوجوا إلا عدلاً صالحاً.
وإليك أيها القارئ بعضاً من مصاهرات وأسماء أولاد أهل البيت عليهم السلام، لتعلم مقدار التداخل بين العترة والصحابة الدال على الحب والوفاق والود؛ لأنهم عليهم السلام يعتقدون صلاح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجوهم، وتزوجوا منهم، وسموا أبناءهم بأسمائهم.
1) الرسول صلى الله عليه وسلم:
من زوجاته: عائشة بنت أبي بكر الصديق.
حفصة بنت عمر بن الخطاب.
رمله بنت أبي سفيان.
أسماء من صاهروه: علي بن أبي طالب: وقد تزوج ابنته (فاطمة).
عثمان بن عفان: وقد تزوج ابنتيه (رقية) ثم (أم كلثوم).
أبو العاص بن الربيع، وقد تزوج ابنته (زينب).
2) علي بن أبي طالب عليه السلام:
من زوجاته - بعد وفاة فاطمة عليها السلام-:
أسماء بنت عميس (أرملة أبي بكر الصديق).
أمامة بنت أبي العاص بن الربيع(أمها زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم).
من أولاده: أبو بكر، عمر، عثمان.
أسماء من صاهروه: عمر بن الخطاب، وقد تزوج ابنته (أم كلثوم).
عبد الرحمن بن عامر بن كريز الأموي، وقد تزوج ابنته (خديجة).(165/64)
معاوية بن مروان بن الحكم، وقد تزوج ابنته (رملة).
... ... المنذر بن عبيدة بن الزبير بن العوام، وقد تزوج ابنته (فاطمة).
3) عقيل بن أبي طالب: من أولاده: عثمان
4) الحسن بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التيمي.
... ... حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر.
من أولاده: أبو بكر، عمر, طلحة.
أسماء من صاهروه: عبد الله بن الزبير بن العوام، وقد تزوج ابنته (أم الحسن).
عمرو بن الزبير بن العوام، وقد تزوج ابنته (رقية).
جعفر بن مصعب بن الزبير، وقد تزوج ابنته (مليكة).
... 5) الحسين بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: ليلى بنت أبي مرة (أمها ميمونة بنت أبي سفيان).
أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التيمي(1).
من أولاده: أبو بكر، عمر.
أسماء من صاهروه: عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وقد تزوج ابنته (فاطمة). ... ...
مصعب بن الزبير بن العوام، وقد تزوج ابنته (سكينة).
6) إسحاق بن جعفر بن أبي طالب:
من زوجاته: أم حكيم بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
7) عبد الله بن جعفر بن أبي طالب:
من أولاده: أبوبكر و معاوية
صاهره: عبدالملك بن مروان، وقد تزوج ابنته (أم أبيها)
8) علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (زين العابدين) ويكنى بأبي بكر(2):
من أولاده: عمر.
9) زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
صاهره: الوليد بن عبد الملك بن مروان، وقد تزوج ابنته (نفيسة).
10) الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب :
من زوجاته: أمينة بنت حمزة بن المنذر بن الزبير بن العوام.
11) الحسن (المثنى) بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: رملة بنت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي.
__________
(1) وكان أخوه الحسن قد أوصاه عند موته أن ينكح أم إسحاق.
(2) فرق الشيعة للنوبختي: (ص:53).(165/65)
صاهره: الوليد بن عبد الملك بن مروان وقد تزوج ابنته (زينب).
12) محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب:
من أولاده: عمر.
13) محمد (الباقر) بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
14) موسى (الجون) بن عبد الله المحض بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
صاهره: ابن أخي المنصور العباسي، وقد تزوج ابنته (أم كلثوم).
15) الحسين الأصغر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: خالدة بنت حمزة بن مصعب بن الزبير بن العوام
16) عبيد الله بن محمد بن عمر (الأطرف) بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: عمة أبي جعفر المنصور.
17) جعفر بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب:
من أولاده: عمر
18) الحسين الأصغر بن علي زين العابدين بن الحسين:
من زوجاته: خالدة بنت حمزة بن مصعب بن الزبير بن العوام
19) الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
من أولاده: عمر
20) جعفر (الصادق) بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
قال الإمام الصادق عليه السلام: (ولدني أبو بكر مرتين)(1), وكان يقال له: (عمود الشرف)(2).
21) الحسن (الأفطس) بن علي بن علي زين العابدين بن الحسين:
من زوجاته: بنت خالد بن أبي بكر بن عبدالله بن عمر بن الخطاب
22) محمد بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من أولاده: عمر
23) موسى بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: عبيدة بنت الزبير بن هشام بن عروة بن الزبير بن العوام.
24) جعفر الأكبر بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: فاطمة بنت عروة بن الزبير بن العوام
__________
(1) أي من قبل أمهاته: فأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق, وجدته والدة أم فروة هي: أسماء بنت عبدالرحمن بن أبي بكر. انظر كشف الغمة: (2/161).
(2) سر السلسلة العلوية: (33), عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: (195).(165/66)
25) عبدالله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: أم عمرو بنت عمرو بن الزبير بن عروة بن عمر بن الزبير
26) محمد بن عوف بن علي بن محمد بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: صفية بنت محمد بن مصعب بن الزبير
27) محمد بن عبدالله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: فاختة بنت فليح بن محمد بن المنذر بن الزبير
28) موسى الجون بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: أم سلمة بنت محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.
29) جعفر بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: فاطمة بنت عروة بن الزبير بن العوام.
30) عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: أم عمرو بنت عمرو بن الزبير بن عروة بن الزبير بن العوام.
31) محمد بن عوف بن علي بن محمد بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: صفية بنت محمد بن مصعب بن الزبير.
32) الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من أولاده: عمر
33) علي بن الحسين بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب:
من أولاده: عمر
34) موسى(الكاظم) بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي:
من أولاده: عمر , عائشة.
35) علي بن الحسن بن علي بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من زوجاته: فاطمة بنت عثمان بن عروة بن الزبير بن العوام.
36) يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:
من أولاده: عمر.
37) علي (الرضا) بن موسى بن جعفر الصادق. ويكنى بأبي بكر (1):
من زوجاته: أم حبيب بنت المأمون العباسي
له من الأولاد خمسة ذكور وبنت واحدة واسمها: عائشة. (2)
__________
(1) ذكر النوري الطبرسي في كتابه / النجم الثاقب في ألقاب وأسماء الحجة الغائب: 14 – أبو بكر وهي إحدى كنى الإمام الرضا كما ذكرها أبوالفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين.
(2) كشف الغمة: (2: 267)(165/67)
38) جعفر بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق:
من بناته: عائشة .
39) محمد (الجواد) بن علي بن موسى بن جعفر:
من زوجاته: أم الفضل بنت المأمون العباسي . (1)
40) علي (الهادي) بن محمد بن علي بن موسى:
من بناته: عائشة.(2)
وهذا الترابط والتلاحم الأسري المبارك، بين آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وبين الصحابة وغيرهم في التزاوج، وتسمية بعضهم بأسماء بعض، وكثرة المصاهرات بينهم، إنما تدل دلالة واضحة على مودتهم لبعضهم بعضاً, واستقامة دينهم ومنهجهم، وسلامة قلوبهم وألسنتهم فيما بينهم، لا كما يروج أصحاب الفتن والبغضاء، فتنبه رعاك الله.
المبحث السابع:
سؤال وجواب
__________
(1) ذكر الشيخ / محمد تقي التستري في كتابه : تواريخ النبي والآل ( ط – مؤسسة النشر الإسلامي – قم – ملحق بقاموس الرجال ) : وأما أزواج الرضا عليه السلام : فلم نقف على ذكر غير أم حبيب بنت المأمون , كما روى في العيون ( عيون أخبار لرضا عليه السلام 2 : 145 , الباب : 40 , ح 19 ) . وأما الجواد عليه السلام : فلم نقف أيضا على ذكر غير أم الفضل بنت المأمون أيضا.
(2) ومن أراد الإطلاع على هذه الحقائق فعليه أن يقرأ الكتب التي تتطرق للأنساب، وهي كالتالي:
(عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب لابن عنبة , الأصيلي في أنساب الطالبيين لابن الطقطقي, سر السلسلة العلوية لأبي نصر البخاري , الإرشاد للشيخ المفيد, منتهى الآمال للشيخ عباس القمي , تراجم أعلام النساء لمحمد حسين الأعلمي الحائري , كشف الغمة في معرفة الأئمة للأربلي , الأنوار النعمانية لنعمة الله الجزائري , أعيان النساء للشيخ محمد رضا الحكيمي, تاريخ اليعقوبي لأحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح , بحار الأنوار محمد باقر المجلسي, مقاتل الطالبيين لأبي فرج الأصفهاني, أنساب الأشراف للبلاذري , نسب قريش لمصعب الزبيري).(165/68)
أيها القارئ الكريم! بين يديك مجموعة من التساؤلات والاستفسارات نسمعها بين وقت وآخر من أهل الشبه والافتراءات، ممن يريد أن يقذف بأحقاده، وينفث عن كراهيته من خلال طعنات واهية كأمثال السراب، يريد من ورائها أن يوهن العلاقة الحميمة بين المسلمين وبين الصحابة، ومن ضمنهم آل بيت النبي عليهم السلام، أو يقصد اللمز والغمز على الصحابة رضوان الله عليهم، من خلال إظهار المساوئ وإلصاق التهم بهم، ويجهل هذا المأفون أن غمزه وسبه يلحقه ولا يضر جبال الخير شيئاً.
كناطح صخرة يوماً ليوهنها ... ... فما ضرها وأوهى قرنه الوعل
وما ستقع عليه عيناك أيها القارئ الكريم هي مجموعة من الشّبه التي يتعلق بها بعض الجهلة أو الحاقدين تجاه من سبقنا في اتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جعلت هذه الشّبهات على شكل أسئلة، يلحق كل سؤال الجواب عليه ليستبين الحق بإذن الله تعالى، ويوفقنا الله للسير على صراط الحق المبين.
السؤال الأول:
كيف يمكن لنا أن نقول بعدالة الصحابة جميعاً، والله تبارك وتعالى قد صرح بردتهم جميعاً بعد وفاة نبيه إلا ثلاثة منهم (1)، مثلما جاء في قوله تبارك وتعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) [آل عمران:144].
الجواب:
أولاً: يجب على القارئ لكتب التفسير أن يختار من يقرأ له من المفسرين، فيتحرى أصحاب العقائد الصحيحة، ممن شهد له العلماء المجتهدون بالعلم والفضل، ويكون على إلمام بأصول التفسير كأسباب نزول القرآن، والناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، وغيره حتى لا يفسر أو يأوّل كلام الله تعالى من غير علم.
__________
(1) انظر: رجال الكشي: (ص:11)، بحار الأنوار: (28/259) (71/220)، الاختصاص: (ص: 6).(165/69)
ثانياً: ذكر علماء التاريخ، وكذا المفسرون أن تلك الآية نزلت في واقعة محددة معلومة، وهي انهزام المسلمين في غزوة أحد، وكانت هذه الواقعة من أوائل الغزوات التي قاتل فيها المسلمون، فكيف يكون ما نزل في بداية الهجرة، وفي حادثة معينة محددة، دليلاً على ردة الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ؟!
قال الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره: سبب النزول، أن الآية الأولى من هاتين الآيتين ناظرة أيضاً إلى حادثة أخرى من حوادث معركة أحد، وهي الصيحة التي ارتفعت فجأة في ذروة القتال بين المسلمين والوثنين: أن قتلت محمداً، قتلت محمداً(1).
وقال محمد جواد مغنية في تفسيره: تشير هذه الآية إلى واقعة معينة وهي واقعة أحد(2).
ثالثاً: سياق الآية لا يدل على ردة الصحابة، بل فيه معاتبة وإرشاد من الله عز وجل للصحابة على ما كان منهم من هلع وجزع في غزوة أحد، عندما قيل لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قُتل , فيخبر الله هؤلاء النفر: أن محمداً بشر، اختاره الله لرسالته إلى خلقه وقد مضت قبله رسل، بعثهم الله لأقوامهم فأدوا الرسالة ومضوا وماتوا، وقُتل بعضهم، وأنه كما ماتت الرسل قبله سيموت صلى الله عليه وسلم، فليس الموت بمستحيل عليه ولربما القتل، ثم أكد ذلك، فقال سبحانه: ((أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)) [آل عمران:144] معناه: أفإن أماته الله، أو قتله الكفار، ارتددتم كفارا بعد إيمانكم فسمي الارتداد انقلاباً على العقب: وهو الرجوع القهقرى؛ لأن الردة خروج إلى أقبح الأديان، كما أن الانقلاب خروج إلى أقبح ما يكون من المشي.
والألف في قوله (أفإن مات): ألف إنكار، صورته صورة الاستفهام، كما في قوله تعالى: ((وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ)) [الأنبياء:34].
__________
(1) تفسير الأمثل: (2/169).
(2) تفسير الكاشف: (2/554).(165/70)
رابعاً: كيف نحكم على من انهزم من الصحابة بالردة وقد عفا الله عنهم بقوله:
((إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)) [آل عمران:155]؟!
خامساً: إن هذه الآية تذكرنا بموقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وشجاعته وقوة تعلقه بالله تبارك وتعالى، واستحضاره لآياته عند المواقف الصعبة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) [آل عمران:144].
حينما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في صدمة من شدة الموقف، فمنهم من أنكر موت النبي صلى الله عليه وسلم كعمر بن الخطاب رضي الله عنه لشدة تعلق قلبه بحبيبه، ومنهم من التزم الصمت وهو في حيرة، وارتد كذلك كثير من الأعراب عن الإسلام بسبب موت النبي صلى الله عليه وسلم، وترك بعضهم الزكاة وغيرها كما أسلفنا.
سادساً: من المعلوم أن الذي يرتد عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لا يقال عنه صحابي؛ لأن الصحابي في الشرع كما أسلفنا هو من لقي النبي مؤمناً به ومات على الإسلام، والذي يرتد عن الإسلام لا يكون منهم إلا إذا رجع إلى الإسلام من جديد .
السؤال الثاني:
كيف يمكن لنا أيضاً أن نحكم على عدالة وصدق من حكم الله على ردتهم وتبديلهم لدينهم يوم القيامة، مثلما هو وارد في حديث الحوض، والذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي أصحابي)، ثم أتاه الجواب الحاسم من ربه: إنهم لم يزالوا مرتدين منذ فارقتهم؟
الجواب:
يمكن توجيه هذا الاستدلال إلى الفهم الصحيح من خلال الآتي:(165/71)
أولاً: أن المراد بالأصحاب هنا هم المنافقون الذين كانوا يظهرون الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تبارك وتعالى: ((إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)) [المنافقون:1].
والمنافقون فيهم من عَلِمَ النبي صلى الله عليه وسلم باطنه - وهم الأكثر- وفيهم من لم يعلمه وأولئك الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي أصحابي) كانوا من المنافقين الذين خفي باطنهم على النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال جل وعلا: ((وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)) [التوبة:101].
فالذين قال فيهم (أصحابي) عند الحوض كانوا من المنافقين المتواجدين في المدينة، والذين كان يظن صلى الله عليه وسلم أنهم من الصحابة، ولم يكونوا كذلك، لعدم معرفته صلى الله عليه وسلم للغيب وأحوال الناس الباطنة، وكان الحكم الشرعي يقتضي الحكم على الظاهر فقط.
ثانياً: قد يكون المراد بالأصحاب هنا أولئك الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كحال الكثير من العرب المرتدين، وممن أسلموا في السنوات الأخيرة.
روى المجلسي في البحار عن السيد ابن طاوس أنه قال: ذكر العباس بن عبد الرحيم المروزي في تاريخه: لم يلبث الإسلام بعد فوت النبي صلى الله عليه وسلم في طوايف العرب إلا في أهل المدينة وأهل مكة وأهل الطائف، وارتد ساير الناس.(165/72)
ثم قال: ارتد بنو تميم والرباب واجتمعوا على مالك بن نويرة اليربوعي، وارتدت ربيعة كلها، وكانت لهم ثلاث عساكر، باليمامة مع مسيلمة الكذاب، وعسكر مع معرور الشيباني، وفيه بنو شيبان وعامة بكر بن وايل وعسكر مع الحطيم العبدي، وارتد أهل اليمن ارتد الأشعث بن قيس في كندة، وارتد أهل مأرب مع الأسود العنسي وارتد بنو عامر إلا علقة بن علاثة(1).
ثالثاً: قد يراد بكلمة (أصحابي) كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الطريق القويم، ولو لم يره، ويدل على هذا رواية: (أمتي، أمتي) ورواية: (إنهم أمتي).
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعرفهم)، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد بين أنه يعرف هذه الأمة من آثار الوضوء.
وهذا كما قال الله عز وجل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ((وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)) [الفرقان:30] فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يقصد بالقوم أصحابه ومن كان في زمنه، بل يقصد ما سيحدثه أتباعه من أمته من بعده بهجرانهم للقرآن.
فهؤلاء هم الذين يقول فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أصحابي أصحابي). فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.. أي: إنهم لم يزالوا مرتدين على أدبارهم منذ فارقتهم.
السؤال الثالث:
كيف نقول بعدالة الصحابة، والله قد ذمهم في عدة مواضع في كتابه بآيات صريحة:
مثل قوله سبحانه عند تثاقلهم عن الجهاد: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ)) [التوبة:38].
__________
(1) بحار الأنوار (28/11).(165/73)
وجاء وعيد الله وتحذيره لهم: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) [المائدة:54], وأيضاً ذم الله عدم خشوع قلوبهم لذكره، كما في قوله تعالى: ((أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)) [الحديد:16].
أو عند تركهم للنبي صلى الله عليه وسلم عند قدوم التجارة، فقال تعالى: ((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)) [الجمعة:11].
الجواب:
أولاً: يجب على المسلم أن يكون باحثاً عن الحق تاركاً للتعصب الفكري، طالباً للهداية كما نقرأ في صلاتنا قوله تعالى: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) [الفاتحة:6]، وأن يجتنب الباطل ولو كان صادراً من عالم أو شيخ يقلده؛ لأن الله ذم أهل التعصب، الذين قالوا: ((إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ)) [الزخرف:23].
ثانياً: لا بد أن نعلم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غير معصومين من الخطأ، والإسلام حفظهم من رذائل الجاهلية التي كانت متفشية في مجتمعاتهم.(165/74)
فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم داعياً إلى توحيد الله بفعل الطيبات، وترك ما كانوا عليه من مفاسد، استجابوا له وآمنوا به اختياراً منهم، فعلمهم الله ووجههم إلى الخير والصلاح، ونهاهم وحذرهم من المحرمات، فكان يناديهم في كتابه العزيز بقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)).
فالصحابة رضي الله عنهم قد تعلموا عن طريق الأخطاء الناتجة من بعضهم بسبب جهلهم بهذا الدين الجديد أو تأثرهم بالجاهلية، وهذا يشمل الصحابة من آل البيت كالعباس وحمزة وجعفر الطيار وغيرهم من الصحابة من غير آل البيت.
وهذه الأوامر والنواهي والتحذيرات لم ولن تختص بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقط بل هي حجة على الأمم المتبعة لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ثالثاً: الله تبارك وتعالى فرّق في ندائه بين أهل الإيمان وأهل الكفر، فحينما ينادي أهل الإيمان كان يخاطبهم بقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)).
وحين يوجه كلامه للكفار أو لعموم الناس، مؤمنهم وكافرهم كان يقول في خطابه لهم: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)).
رابعاً: لنفترض جدلاً أننا وإن لم نفهم القرآن ونفقه تفسيره، ماذا سيكون جوابنا حينما يقول لنا أحد المستشرقين المتعصبين: إن نبي الإسلام محمد بن عبد الله يطيع الكفار والمنافقين مثلما جاء في القرآن: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)) [الأحزاب:1].(165/75)
بل يدعي على ديننا فيقول: إن نبيكم يحلل ما حرمه الله فقط لإرضاء زوجاته، مثل ما في القرآن: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [التحريم:1], أو أن نبيكم كان يريد أن يصلي على المنافقين ليترحم عليهم: ((وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ)) [التوبة:84].
فلابد أن يكون جوابك أيها المحب بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعصي ربه فيما أمره به والآيات تفيد بأن الله تعالى يعلّم نبيه شرعه ودينه ليبلغه للناس، كما قال تعالى:
((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً)) [الأحزاب:45].
كما أن الله تبارك وتعالى قد بين في كثير من المواضع في كتابه العزيز، كقوله تعالى:
((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)) [التحريم:9].
((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ)) [الأحزاب:59].
خامساً: ما جوابنا يا ترى حينما يقول لنا أحد النواصب قاصداً الطعن بالإمام علي عليه السلام، ومستدلاً في طعنه عليه بظاهر القرآن والروايات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقول لنا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنزل الله عز وجل آية وفيها قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) إلا وعلي عليه السلام رأسها وأميرها)(1).
__________
(1) انظر اليقين في إمرة أمير المؤمنين: (ص:174، 177)، بحار الأنوار: (40/21).(165/76)
ودليل هذا ما ثبت في صحيفة الإمام الرضا عليه السلام قوله: (ليس في هذا القرآن ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) إلا في حقنا)(1).
فالجواب على هذا الناصبي لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يكون كالجواب على ذلك الناصبي الذي ناصب العداء عموماً لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم !!
السؤال الرابع:
كيف نقول بعدالة الصحابة، وهم قد عارضوا النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، بسبب عصيانهم لأمره، عندما أمرهم أن يحلقوا وينحروا فلم يستجيبوا لأمره؟ بل إن عمر صرح بالمعارضة لقرار النبي صلى الله عليه وسلم في اتفاقه وصلحه مع المشركين فقال للنبي: (ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى، قال عمر: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، فقال عمر: فلم نعط الدنية من ديننا إذاً)؟
الجواب:
أولاً: يجب على المسلم ألا يقذف التهم جزافاً من غير تبيين وتمحيص لأسباب الحوادث، وينبغي عليه أن يكون منصفاً إن أراد الحق، ولا يشنع ويقسو ابتداءً على أحد، وخاصة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بغير علم، ولابد أن يعرف مقدار حب الصحابة لنبيهم، والذي تجلى واضحاً في أحوال ومناسبات عديدة، ومنها مبادرتهم إلى التبرك بأثره صلى الله عليه وسلم من أخذ فضل وضوئه، ولم يكن ليبصق صلى الله عليه وسلم بصاقاً ولا يتنخم نخامة إلا ويتلقونها بأكفهم فيدلكوا بها وجوههم وأجسادهم، ولم تسقط منه شعرة صلى الله عليه وسلم إلا ويبتدرون إلى أخذها لنيل البركة منه، مثلما جاء في رواية عروة بن مسعود(2).
__________
(1) المناقب: (3/53)، البرهان (سورة البقرة آية:153).
(2) انظر: (ص:20) من هذا الكتاب.(165/77)
ثانياً: الصحابة في صلح الحديبية لم يعصوا النبي صلى الله عليه وسلم عندما أمرهم، بل كان لهم شوق عظيم لبيت الله الحرام، فتمنوا عندما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقطع العمرة والتحلل بحلق رؤوسهم لو يغيّر النبي صلى الله عليه وسلم من حكمه، أو ينزل الله تبارك وتعالى شيئاً من الوحي يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يدخل مكة، فانتظروا جميعهم (بلا استثناء) لعل شيئاً من ذلك يقع!، ولذلك تمهلوا قليلاً في تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم رغبة في حدوث مثل هذا الرجاء، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم عليهم حالقاً وناحراً هديه، علم الصحابة يقيناً حينئذ انقضاء رجائهم، وتحقق الأمر، فاستجابوا مباشرة عند ذلك لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فحلقوا رؤوسهم ونحروا هديهم دون تردد منهم، فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم:
((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)) [الفتح:18].
ثالثاً: عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يعارض قرار النبي صلى الله عليه وسلم في الصلح، بل كان يتباحث معه ويشاوره في أمر الأمة، مثلما كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم في مشاورته للصحابة وخاصة الكبار منهم، حيث إن المشاورة سنة يمتثلها النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بأمر من الله عز وجل، لما جاء في قوله تعالى: ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)) [آل عمران:159].(165/78)
قال الفيض الكاشاني عن قوله تعالى: ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)): في أمر الحرب وغيره، مما يصح أن يشاور فيه، استظهاراً برأيهم، وتطييباً لنفوسهم، وتمهيداً لسنة المشاورة للأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا وحدة أوحش من العُجب، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة. وجاء في نهج البلاغة: (من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها، وفي الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه). وفي الخصال عن الصادق عليه السلام: (وشاور في أمرك الذين يخشون الله).اهـ(1).
وفي تلك الحادثة أخذ النبي صلى الله عليه وسلم مشورة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في إرسال عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أهل مكة للمفاوضة معهم.
وقد ذكر الشيخ الطبرسي في تفسيره مجمع البيان قصة فتح الحديبية مختصرة وقال: قال ابن عباس: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يريد مكة، فلما بلغ الحديبية، وقفت ناقته، وزجرها فلم تنزجر، وبركت الناقة. فقال أصحابه: خلأت الناقة. فقال صلى الله عليه وسلم: ما هذا لها عادة، ولكن حبسها حابس الفيل، ودعا عمر بن الخطاب ليرسله إلى أهل مكة، ليأذنوا له بأن يدخل مكة، ويحل من عمرته، وينحر هديه، فقال: يا رسول الله! ما لي بها حميم، وإني أخاف قريشاً لشدة عداوتي إياها. ولكن أدلك على رجل هو أعز بها مني، عثمان بن عفان! فقال: صدقت)(2).
رابعاً: لماذا نشنع على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بسبب مشاورته للنبي صلى الله عليه وسلم ونتهمه بمعارضة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ونبني عليها طعوناً كثيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينهه عن ذلك الفعل، إن كان مستحقاً للنهي والزجر؟!
__________
(1) تفسير الصافي، وانظر: تفسير مجمع البيان، الجوهر الثمين، تفسير معين، تفسير شبر: في تفسير (سورة آل عمران آية:159).
(2) تفسير مجمع البيان: (9/194)، بحار الأنوار: (20/329).(165/79)
هل نحن أعلم وأفقه من نبينا صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه، وفي كيفية تعاملهم مع كلامه؟!
أو أننا علمنا أمراً قد خفي على النبي صلى الله عليه وسلم؟! أو أن هناك سبباً آخر لغيظنا وحنقنا على ما فعله عمر؟
إن مثل تلك المشاورة قد وقعت بين الإمام علي عليه السلام وشيعته، من أمثال حجر بن عدي في معركة صفين، حينما نهى الإمام علي عليه السلام جيشه عن لعن وسب معاوية رضي الله عنه وجيشه، وناقشه في هذه القضية حجر وغيره، ومع ذلك لم يطعن الإمام علي عليه السلام أو من جاء بعده على حجر بن عدي بسبب معارضته لأمر الإمام علي عليه السلام.
فعن عبد الله بن شريك قال: (خرج حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يُظهران البراءة واللعن من أهل الشام، فأرسل إليهما علي عليه السلام: أن كفّا عما يبلغني عنكما. فأتياه فقالا: يا أمير المؤمنين! ألسنا محقين؟ قال: بلى. قالا: أو ليسوا مبطلين؟ قال: بلى. قالا: فلم منعتنا من شتمهم؟ قال: كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين يشهدون ويتبرؤون)(1).
خامساً: لو سلمنا جدلاً بأن ما فعله عمر رضي الله عنه كان مجانباً للصواب بسبب معارضته لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فماذا سيكون جوابنا إن قال لنا أحد النواصب: (إن علياً عليه السلام كان من رؤوس المعارضين للنبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وقد عصى أمره مع سائر الصحابة في عدم حلق رؤوسهم وذبح هديهم؟
بل إن رفض علي بن أبي طالب لأمر النبي صلى الله عليه وسلم يفوق معارضة عمر بن الخطاب وذلك حينما طلب صلى الله عليه وسلم منه أن يمسح اسمه عندما كان يكتب كتاب الصلح مع مندوب قريش سهيل بن عمرو فرفض علي بن أبي طالب الانصياع لأمر المصطفى صلى الله عليه وسلم ؟
__________
(1) مستدرك الوسائل: (12/306)، بحار الأنوار: (32/399)، وقعة صفين: (ص:102).(165/80)
ودليل ذلك ما جاء عن أبي عبد الله عليه السلام، في حديث طويل في قصة صلح الحديبية: (إن أمير المؤمنين عليه السلام كتب كتاب الصلح: باسمك(1) اللهم، هذا ما تقاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والملأ من قريش، فقال سهيل بن عمرو: لو علمنا أنك رسول الله ما حاربناك، اكتب هذا ما تقاضى عليه محمد بن عبد الله، أتأنف من نسبك يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله وإن لم تقروا، ثم قال: امح يا علي! واكتب: محمد بن عبد الله، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ما أمحو اسمك من النبوة أبداً، فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده...) الخبر(2).
فبماذا سنرد على ذلك الناصبي حين يقول: لماذا يرفض علي بن أبي طالب أمر النبي صلى الله عليه وسلم حينما طلب منه أن يمحو اسمه؟ أعلي بن أبي طالب أتقى وأحرص وأعلم من النبي صلى الله عليه وسلم في عدم رغبته لمسح الاسم؟ بل تكررت منه المعارضة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم مثلما حصل في غزوة تبوك، حينما طلب منه النبي أن يمكث بالمدينة، كحال بعض الصحابة من أهل الأعذار، كابن أم مكتوم وغيره لأسباب معينة رآها النبي صلى الله عليه وسلم لكنه خرج ولحق بالنبي محاولاً أن يثنيه عن قراره ويأخذه معه للمعركة.
فعن عبد الله، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن سليمان بن بلال، عن جعيد بن عبد الرحمن، عن عائشة بنت سعد، عن أبيها سعد أن علياً عليه السلام خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء ثنية الوداع وهو يبكي ويقول: تخلفني مع الخوالف؟ فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة؟)(3).
__________
(1) وفي المصدر: بسمك.
(2) مستدرك الوسائل: (8/437).
(3) بحار الأنوار: (37/262)، العمدة: (ص:127).(165/81)
فلماذا ينزعج علي بن أبي طالب من أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بتركه بالمدينة في غزوة تبوك؟ أيعصي علي النبي صلى الله عليه وسلم في أمره؟هل كان علي يجهل أن استخلافه في المدينة منقبة وفضل له أم لا؟ فإن كان يجهل فهذه مصيبة، وإن كان يعلم فالمصيبة.. أعظم.
والرد على كل هذه التقولات على أمير المؤمنين عليه السلام، هو من مثل ما بيناه في حق أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.. فالحق واحد، وإن تعددت صور الافتراءات.
السؤال الخامس:
ماذا تقول من فعل الصحابة يوم الخميس قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة أيام، وما حصل بينهم من خلاف، ورفع أصواتهم عليه وعصيانهم لأمره صلى الله عليه وسلم في عدم إحضارهم الكتف والدواة ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده، واتهموه (بالهجر) وقال عنه عمر بن الخطاب: (قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله) حتى غضب عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجهم من بيته، وعبّر ابن عباس عن تلك الحادثة بأنها رزية؟
الجواب:
أولاً: لابد لنا أن نسأل أنفسنا أولاً: كيف كانت حالة النبي صلى الله عليه وسلم الصحية في تلك الفترة؟ وما سبب خلاف الصحابة عنده؟
إن تلك الحادثة حدثت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة أيام، وهو على فراشه، وكان يوعك وعكاً شديداً من شدة الألم، بل كان صلى الله عليه وسلم من قسوة الألم يغمى عليه تارة ويفيق تارة أخرى، وقال للصحابة حينها: (ائتوني اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً) فاختلف الصحابة فمنهم من أراد أن لا يجهد النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه، وظن أن الأمر لم يكن بحتم واجب إنما كان على سبيل الاختيار والتذكير، ومنهم من أراد إحضار الكتف والدواة للكتابة.(165/82)
ثانياً: ليس بمقدور أي كائن بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخيل ما دار في تلك اللحظة تخيلاً واضحاً، مثل أولئك الذين شهدوا تلك الحادثة، ونظروا إلى معاناة النبي صلى الله عليه وسلم في مرض الموت، خاصة وأنهم لم تمر عليهم حالة مشابهة من قبل بالنبي صلى الله عليه وسلم فاختلفت آراؤهم لعدم سبق علم بها.
ثالثاً: التمسك بهذه الحادثة على أن فيها مغمزاً ومطعناً في الصحابة رضي الله عنهم شيء جديد لم يسبق إليه أحد من قبل، ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم مرت عليهم الواقعة مرور الكرام وعلموا أنها لم تتضمن أي شبهة في اتهام الصحابة بعضهم لبعض بالنفاق أو الكفر أو عدم طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل من تأخر عنهم يكون أعلم وأبصر من أولئك الجمع كلهم الذين عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؟!
رابعاً: لو حصرنا النقاط التي يمكن أن يكون فيها مطعن في عدالة الصحابة رضي الله عنهم من هذه الحادثة، لأمكن حصرها في النقاط التالية:
أ) رفض الصحابة الإذعان لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
ب) اختلافهم عند النبي صلى الله عليه وسلم وارتفاع أصواتهم الدالة على عدم التوقير.
ت) رفضهم لطلب النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يتضمن التوصية لعلي عليه السلام بالخلافة من بعده.
ج) سوء كلام بعض الصحابة على مقام النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه بالهجر.
د) عمر بن الخطاب رفض الانصياع لطلب النبي صلى الله عليه وسلم.
ويمكن بيان الرد موجزاً على هذه الشبه بالآتي من القول:(165/83)
* (رد أمر النبي صلى الله عليه وسلم) الصحابة رضي الله عنهم لم يخالفوا طلب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم كانوا يظنون أن المرض لربما غلب على النبي صلى الله عليه وسلم مثل حال بقية الناس؛ لأن هذه أول مرة يرون النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة، وكانوا يعلمون أن كتاب الله بين أيديهم، والدين قد تم بيانه وكمل تشريعه، فلذا كانوا مترددين لعدم علمهم بالمقصود من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
* (اختلافهم وارتفاع أصواتهم) ليس هناك من دليل صريح يدل على ارتفاع أصواتهم على صوت النبي صلى الله عليه وسلم، ولو صدر هذا منهم لنزل الوحي بالتوبيخ واللوم من الله، خاصة وأن سورة الحجرات قد تم فيها تفصيل الأدب من حيث كيفية الكلام مع النبي صلى الله عليه وسلم.
والصحابة لم يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم بل رفعوا أصواتهم على بعضهم بسبب اختلافهم في الاستفسار وفي المقصود من طلب النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة لهم خاصة وأنه صلى الله عليه وسلم أمي لا يعرف الكتابة (1)، فلما طال نقاشهم فيما بينهم، نهرهم النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الخلاف فقط , ولو كان هناك أمر يتجاوز هذا الحد لنزل بهم أمر من الله سبحانه يجتث الخطأ من أساسه.
* (الوصية إلى علي عليه السلام) وهذا من أعجب الأقوال تجاه أمير المؤمنين عليه السلام، ومما يدل على التعجب والجنوح في الخيال فيه أن صاحب الشأن وهو علي عليه السلام لم يرد على باله هذا الأمر، فكيف علمه من جاء متأخراً عنه وعن الواقعة التي جرى فيها الأمر؟! ومن يدعي هذا لعلي، يمكن بيسر لمخالفه أن يدعي لغيره من الصحابة ويقول: بل كانت الوصية لأسامة بن زيد أو لأبي ذر أو لأبي عبيدة، وغيرهم كثير.
__________
(1) انظر: علل الشرائع: (1/126)، بحار الأنوار: (16/132).(165/84)
* (مقولة بعض الحاضرين: أهجر) ينبغي علينا أولاً أن نعلم أن الرواية لم تحدد من قال هذه الكلمة، فلعله أحد المنافقين الحاضرين، أو صحابي استفسر عن صحة النبي صلى الله عليه وسلم بعد مقولته عن الكتابة فقال: هل يقع منه الهجر كما يقع من أحدنا؟ فاختصر كل هذا القول بكلمة واحدة.
أو لعلها من استفهام القائل: كيف لا نأتي بالكتف والدواة؟! أيُظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يهجر بالكلام ويقول بالهذيان كغيره!
لأنه ربما اختلط عليه سماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لبحَّة في صوته أو غلبة اليبس بالحرارة على لسانه، مثلما يقع في الحميات الحارة، وقد ثبت بإجماع أهل السير أن نبينا صلى الله عليه وسلم كانت فيه بحة صوت عارضة له في مرض موته صلى الله عليه وسلم.
وغيرها كثير من السبل التي يمكن أن توجه فيها هذه الكلمة، خاصة من بعد نظرنا في اللغة العربية، وليس هناك من يعرف على وجه الدقة من كان موجودا في ذلك الموقف قرب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم نعلم على وجه العلم لا الحصر غير عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس ويجب ألا يستغرب القارئ من كثرة هذه التعليلات تجاه هذه الكلمة، لأن من قيلت أمامهم هذه الكلمة لم يعنفوا على القائل بل رب العزة سبحانه وتعالى الذي لا يخفى عليه شيء لم يوجه شيئا تجاه خليله وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
* (رفض عمر الامتثال لأمر النبي صلى الله عليه وسلم) كيف يظن بعمر رضي الله عنه أنه يرفض طلباً يسيراً للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي طوال مرافقته للنبي صلى الله عليه وسلم لم يبخل بشيء؟(165/85)
* وأما قول عمر بن الخطاب للصحابة: (قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله) فيمكن أن يوجه كالتالي: أن عمر أراد من الصحابة رضي الله عنهم أن لا يجهدوا النبي صلى الله عليه وسلم بالكلام وكثرة الأسئلة، وهو في المرض الشديد، شفقة عليه، وهذا ما يبينه قوله: (وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله) أي إن الله تعالى أكمل دينه وبيّن شرائعه في قوله: ((مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)) [الأنعام:38] وكما في قوله: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ)) [المائدة:3].
والذي يظهر من الكتاب الذي أراد أن يكتبه النبي صلى الله عليه وسلم أنه من باب الإرشاد والإصلاح، وليس بالأمر الجديد الواجب تبليغه، وليس أيضاً بالأمر الذي لابد من تبليغه ولا يستغنى عنه في الإسلام، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكذب ومعصوم من ترك بيان ما أمر ببيانه وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه.
ولو كان في ما يريد النبي صلى الله عليه وسلم إبلاغه شيء واجب ونافع للأمة فهل سيتركه الله من غير بيان قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ؟!
فإذا عرفنا ما سبق، فسيتبين لنا أنه لو كان صلى الله عليه وسلم مأموراً بتبليغ شيء حال مرضه أو صحته فإنه سيبلغه لا محالة، فلو كان مراده صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه بسبب اختلافهم ولا لغيره، لقوله تعالى: ((بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ)) [المائدة:67] كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه، فدل تركه له أن كتابته صلى الله عليه وسلم تحمل على الندب والتذكير لا على الوجوب والتشريع الجديد، وقد عاش صلى الله عليه وسلم أربعة أيام بعد ذلك، ولم يأمرهم بإعادة الكتابة.(165/86)
خامساً: لابد للمسلم أن يطهر قلبه من الحقد والبغض تجاه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يحبهم كما كان هدي الأئمة عليهم السلام، ونقول: إن التبس عليك أمر في حق الصحابة رضي الله عنهم أو غيرهم، فالتمس لهم العذر، كما ثبت عن الأئمة عليهم السلام أنهم قالوا: (احمل أخاك المؤمن على سبعين محملاً من الخير.. الحديث). وقولهم عليهم السلام: (كذّب سمعك وبصرك عن أخيك). وما رواه في الكافي عن الحسين بن المختار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام في كلام له: (ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنن بكلمة -خرجت من أخيك- سوءاً؛ وأنت تجد لها في الخير محلاً)... عن أبي بن كعب: (إذا رأيتم أحد إخوانكم في خصلة تستنكرونها منه فتأولوا لها سبعين تأويلاً..)(1) انتهى.
فمن الأولى علينا أن نسير على هدي الأئمة عليهم السلام، وأن نلتمس العذر لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما كانوا فيه من هلع وحيرة عند مشاهدتهم لحبيبهم وما يعانيه من ألم مبرح وهو ينازع سكرات الموت.
وقد أثنى الله تبارك وتعالى عليهم وقال عنهم: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران:110] وقد كانوا ينكرون على بعضهم في مسائل فقهية أقل من ذلك.
ولماذا نطعن الآن بعد مضي تلك القرون الكثيرة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الحادثة وغيرها؟! وما أهدافنا من ذلك؟
أنحن أعلم وأحرص على النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه؟!
أنحن نحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أصحابه؟!
أم أننا أصحاب هوى ؟!
__________
(1) انظر: الحدائق الناضرة: (15/353).(165/87)
سادساً: إن وصف ابن عباس رضي الله عنه لما جرى (بالرزية) عندما كان يروي الحديث، لم يكن عندما حدثت الحادثة، ولكنه كان يقولها بعد ذلك بسنين عندما يتذكر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وحزنه، والروايات كلها تدل على ذلك.
سابعاً: لو جرينا على درب الطعن والتفتيش عن سراب الشبه، فماذا سيكون ردنا لو قال لنا أحد النواصب: إن علي بن أبي طالب هو سبب تلك المشاكل؛ لأنه كان في كثير من الأوقات يعارض النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمتثل أمره، مثلما حدث منه في صلح الحديبية في عدم مسح اسم النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم حلق رأسه ونحر هديه كغيره من الصحابة، وعدم قبوله بالاستخلاف بالمدينة في غزوة تبوك.
بل شارك في رفض أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت عندما طلب منه ومن غيره أن يحضروا له الكتف والدواة حتى لا يضل المسلمون، فلم يستجب لذلك حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم، بل غيّر أحكام الشريعة الإسلامية في الحكم على الغلاة فعاقبهم بالإحراق بدلاً من القصاص الشرعي(1).
فبهذا السؤال يتضح لنا منهجية أعداء الإسلام ومن ناصب العداء لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً من ناصب العداء لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
السؤال السادس:
__________
(1) انظر: بحار الأنوار (34/414).(165/88)
لو قال لنا قائل: ماذا ستقول أيها المسلم في موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين لم يعط فاطمة حقها من ميراثها في أرض فدك وغيرها، بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم، وماتت وهي لا تكلمه؟ مع أن الله تبارك وتعالى قرر الميراث في كتابه العزيز فقال: ((يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)) [النساء:11] وقرره كذلك بين الأنبياء، فقال عن زكريا عليه السلام: ((وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً)) [مريم:5-6] وقال تعالى عن سليمان عليه السلام: ((وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ)) [النمل:16].
وبسبب هذا التصرف تجاه سيدة نساء العالمين عليها السلام، فإنه يكون قد أغضب النبي صلى الله عليه وسلم لقوله في حقها: (إن فاطمة بضعة مني، من أغضبها أغضبني).
الجواب:
أولاً: ينبغي أن لا ننسى أن لفاطمة وزوجها رضي الله عنه مكانة عظيمة عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه وغيره من الصحابة رضي الله عنهم.
ومن دلالة تلك المكانة أن أبا بكر رضي الله عنه هو الذي أشار على علي بن أبي طالب عليه السلام بالزواج من الزهراء (1)، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإشراف على تجهيزها للزواج من الإمام علي رضي الله عنه (2) وشاركته زوجته أسماء بنت عميس أيضاً في هذا التجهيز لفاطمة في يوم زفافها (3) ولما ماتت فاطمة الزهراء عليها السلام قامت زوجة أبي بكر رضي الله عنها نفسها بعد ذلك في تجهيز كفن الزهراء وتغسيلها(4).
__________
(1) بحار الأنوار: (43/93) (19/112).
(2) بحار الأنوار: (43/94)، الأمالي للطوسي: (ص:40).
(3) بحار الأنوار: (43/138).
(4) بحار الأنوار: (43/185).(165/89)
ثانياً: لعل الكثير من المسلمين في الزمن المعاصر يجهل أن أرض فدك كانت فيئاً من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من خيبر، والفيء ما يكون من غنيمة من غير حرب والقصة مذكورة بتمامها في سورة الحشر قال تعالى: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) [الحشر:7].
وما أفاءه الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فهو له صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم جعلها لحاجته وأهل بيته وصدقته، وكان يشرف على هذه الأرض ويرعاها، ولم يورثها أحدا من أهله، وهذا مسطور في كتب التاريخ , فلما توفي كان خليفته أبوبكر يقوم مقامه في ذلك وبعده عمر, وفي عهده طلب الإمام علي بن أبي طالب والعباس أن يقوما بالإشراف عليها فوافق عمر فكانت عندهما , ثم صارت إلى الإمام علي واستمرت في يده في عهد عمر وعهد عثمان وعهده , وبعد وفاته صار الإمام الحسن بن علي يشرف عليها، ثم الإمام الحسين، ثم الحسن بن الحسن (الحسن المثنى)، ومعه علي بن الحسين، ثم زيد بن الحسن, ولم يتملكها أحد.
ثالثاً: أما عن قضية الميراث، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن الأنبياء لا يورثون الأموال والدنانير بعد مماتهم كسائر الناس، فما تبقى عندهم من الأموال بعد مماتهم فهو صدقة، وهذا ما علِمه وبينه الأئمة عليهم السلام من بعده صلى الله عليه وسلم.(165/90)
فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به وإنه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض؛ حتى الحوت في البحر وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر)(1).
وقال أبو عبد الله عليه السلام أيضاً: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظاً وافراً)(2).
وعن جعفر عن أبيه عليه السلام: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يورث ديناراً ولا درهماً، ولا عبداً ولا وليدةً، ولا شاةً ولا بعيراً، ولقد قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن درعه مرهونة عند يهودي من يهود المدينة بعشرين صاعاً من شعير، استسلفها نفقة لأهله)(3).
فمن يملك فدك وسهم خيبر يستسلف عشرين صاعا ويرهن درعه !
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: (العلم أفضل من المال بسبعة:
الأول: أنه ميراث الأنبياء، والمال ميراث الفراعنة.
الثاني: العلم لا ينقص بالنفقة، والمال ينقص بها.
الثالث: يحتاج المال إلى الحافظ، والعلم يحفظ صاحبه.
الرابع: العلم يدخل في الكفن، ويبقى المال.
الخامس: المال يحصل للمؤمن والكافر، والعلم لا يحصل إلا للمؤمن خاصة.
__________
(1) الكافي: (1/34)، بحار الأنوار: (1/164)، أمالي الصدوق: (ص:60)، بصائر الدرجات:
(ص: 3)، ثواب الأعمال: (ص:131)، عوالي اللآلي: (1/358).
(2) الكافي: (1/32)، وسائل الشيعة: (27/78)، مستدرك الوسائل: (17/299)، الاختصاص: (ص:4) بصائر الدرجات: (ص:10).
(3) قرب الإسناد: (ص:44)، بحار الأنوار: (16/219).(165/91)
السادس: جميع الناس يحتاجون إلى صاحب العلم في أمر دينهم، ولا يحتاجون إلى صاحب المال.
السابع: العلم يقوي الرجل على المرور على الصراط، والمال يمنعه)(1). انتهى.
رابعاً: وأما القول بأحقية فاطمة عليها السلام في ميراث والدها استدلالا بقوله تعالى: ((وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً)) [مريم:5-6] وقوله تعالى: ((وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ)) [النمل:16]، فاستدلال باطل من العوام، يدل على قلة علمهم لأن الوراثة في هاتين الآيتين وراثة نبوة وعلم وحكمة، وليست وراثة مال، وذلك للأدلة النقلية والعقلية.
أما النقلية فقد مرَّ ذكرها , وأما العقلية فتستفاد مما يأتي:
الآية الأولى وهي قوله تبارك وتعالى: ((يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)) [مريم:6].
1- قال السيد محمد حسين فضل الله: ليكون امتدادا للخط الرسالي الذين يدعو إلى الله، ويعمل له، ويجاهد في سبيله، ولتستمر به الرسالة في روحه وفكره وعمله(2).
2- هل يعقل لنبي كريم يحرص على الجنة الباقية والنعيم الدائم أن يسأل الكريم سبحانه أن يهب الدنيا الفانية لأحد من أولاده ويورثها له ؟! فهذا لا يليق تأدباً من رجل صالح فكيف لنبي كريم أن يسأل الله أن يرزقه ولدا لا لشيء إلا ليرث دنياه الزائلة ؟!
3- أنبياء الله تبارك وتعالى هم الأسوة المباركة في أنهم يأمرون الناس بالبر ويعملونه، فإن أوصوا الناس بالإنفاق كيف يليق بهم أن يبقوا لديهم هذا العرض الفاني من متاع الدنيا؟ ((أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [البقرة:44]، بل نجدهم يتصدقون به في أوجه الخير.
__________
(1) بحار الأنوار: (1/185).
(2) تفسير من وحي القرآن (سورة مريم: 6).(165/92)
ومما يبين القول ويزيده جلاء وأن الإرث في كلام زكريا عليه السلام لم يكن مالاً ما تبينه النقطة الآتية.
4- لو أكملنا قوله تعالى: ((وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)) [مريم:6] لتبين لنا بوضوح ومن غير تردد أن الإرث المقصود هو العلم والنبوة وليس شيئاً آخر.
وبالله عليكم لو كان السؤال من النبي زكريا متعلقاً بالمال فهل بمقدور أي باحث في التاريخ أن يخبرنا كم شخصاً كان في بيت آل يعقوب؟ بل أين موقع يحيى عليه السلام في آل يعقوب؟
والقارئ -المنصف- في كتب التاريخ بعد أن يقرأ كتاب الله تبارك وتعالى يعلم يقيناً أن كل أنبياء بني إسرائيل من آل يعقوب ؛ لأن إسرائيل هو نبي الله يعقوب عليه السلام، فكيف ببقية بني إسرائيل من غير الأنبياء؟ ومع هذا العدد الكبير كم سيكون نصيب يحيى عليه السلام ؟
فلا شك أن فهم قوله تعالى: ((يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)) [مريم:6] من خلال فهم العلماء، وأيضاً التمعن في التفاسير المباركة والنظر التاريخي يردّ قول من يقول: إن الآية تتكلم عن وراثة المال.
ومن بداهة النظر والمعقول أنه لما ذكر يعقوب وهو نبي، وزكريا كذلك وهو من الأنبياء، لزم بمقتضى الفهم السليم أن نعلم أنه إنما أراد أن يرث النبوة والعلم والحكمة، ولم يكن يريد وراثة المال.
ثم إن زكريا لم يكن غنيا بل كان نجارا يأكل من عمل يده. فأين ذاك المال الذي سيرثه يحيى؟!
أما الاستدلال بالآية الثانية وهي قوله تعالى: ((وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ)) [النمل:16] فكذلك لم يرث منه المال، وإنما قصد ميراث النبوة والحكمة والعلم.
قال الشيخ محمد السبزواري النجفي: أي ورث الملك والنبوة بأن قام مقامه دون سائر بنيه وهم تسعة عشر(1).
__________
(1) تفسير الجديد، وانظر: تفسير معين (سورة النمل: 16).(165/93)
ومن المعلوم في روايات التاريخ أن نبي الله داود عليه السلام له الكثير من الزوجات وله العديد من الجواري، ورزقه الله العدد الكثير من الأولاد، فهل نقول إنه لم يرثه إلا سليمان؟
ومن المعلوم أيضا أن الإخوة يرثون من والدهم، فتخصيص سليمان بالإرث ليس بسديد ولا رشيد إن كان معه ورثة آخرون.
ولو سلمنا جدلاً أن الأمر يتعلق بإرث دنيوي، فما الفائدة من ذكره في كتاب ربنا تبارك وتعالى، ذلك أنه من الطبيعي أن الولد سيرث والده؟ فأين البلاغة أو العبرة والفائدة في كتاب ربنا من ذكر شيء معلوم حدوثه ووقوعه عند الناس؟
خامسا: وهنا قد يقف المحب للحق وقفة ويتساءل:
هل فاطمة الزهراء عليها السلام طلبت فدك من أبي بكر رضي الله عنه على أنه من باب الإرث، أم أنه كان هبة وهدية من أبيها صلى الله عليه وسلم وهبها وأهداها إياها بعد فتح خيبر؟
ذلك أن المقصود من هذا التساؤل ستظهر ثمرته تحديداً في نهاية القصة، ذلك أنه من المتفق عليه أن فاطمة عليها السلام بعد سؤالها لفدك من أبي بكر وذكر أبو بكر حجته في المنع ذهبت ولم تكلمه، فهل كانت تريد هذا الشيء على أنه كان إرثاً أو هبة من أبيها صلى الله عليه وسلم. فإن كان إرثاً فالأنبياء لا يورثون لا ديناراً ولا متاعاً كما بينا في القول , وإن كان هبة وهدية أهداها النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة، فلنا وقفة وتساؤل أيضاً في هذا.. فنقول:(165/94)
1- لم يعط النبي صلى الله عليه وسلم فدك لفاطمة عليها السلام في أي وقت من الأوقات، وقد علمت ذلك الزهراء عليها السلام حين طلبت فدك من أبي بكر رضي الله عنه، فطلبته منه على أنه من باب الإرث، لا من باب الهبة، ومن المعلوم تاريخيا أن فتح خيبر تم في أول السنة السابعة من الهجرة، وزينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم توفيت في السنة الثامنة، وأختها أم كلثوم توفيت في السنة التاسعة، فكيف يخص صلى الله عليه وسلم بالعطية فاطمة لوحدها ويدع أختها أم كلثوم وزينب عليهن السلام ؟!
فهذا اتهام صريح مباشر للنبي صلى الله عليه وسلم من أنه كان يفرق بين أولاده، وحاشاه عن ذلك صلى الله عليه وسلم.
2- وعلى سبيل الفرض، لو قلنا: إن أرض فدك كانت هبة لفاطمة عليها السلام، فهي عليها السلام إما أن تكون قد قبضتها أو لم تقبضها!
فإن كانت تسلمتها، فلماذا تأتي لأبي بكر رضي الله عنه وتطالبه بها؟ وإن لم تكن تسلمتها فإن الهبة من الناحية الشرعية إن لم تُقبض فكأنها لم تعط للموهوب له، وتكون حينئذ للورثة بعد موت الواهب.
سادساً: من المعلوم في الفقه الجعفري أنه ليس للنساء ميراث في عقار الأراضي بل يؤخذ لهن من قيمته، وهذا ما يروى عن الأئمة عليهم السلام:
فعن يزيد الصائغ قال: (سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن النساء هل يرثن الأرض؟ فقال: لا ولكن يرثن قيمة البناء، قال: قلت فإن الناس لا يرضون بذا، فقال: إذا وُلينا فلم يرضوا ضربناهم بالسوط، فإن لم يستقيموا ضربناهم بالسيف)(1).
__________
(1) الكافي: (7/129)، وانظر: وسائل الشيعة: (26/70) , تهذيب الأحكام: (9/299).(165/95)
وعن أبان الأحمر قال: (لا أعلمه إلا عن ميسر بياع الزطي، قال: سألته -يعني أبا عبدالله- عن النساء ما لهن من الميراث؟ قال: لهن قيمة الطوب والبناء والخشب والقصب، وأما الأرض والعقارات فلا ميراث لهن فيها، قال: قلت: فالثياب؟ قال: الثياب لهن نصيبهن، قال: قلت: كيف صار ذا ولهذه الثمن ولهذه الربع مسمى؟
قال: لأن المرأة ليس لها نسب ترث به، وإنما هي دخيل عليهم، وإنما صار هذا كذا كي لا تتزوج المرأة فيجيء زوجها أو ولدها من قوم آخرين فيزاحم قوماً في عقارهم)(1).
سابعاً: التعليل الصحيح والبيان الشافي لما جرى بين الزهراء وأبي بكر رضي الله عنهم هو الآتي إن شاء الله:
سيدة نساء أهل الجنة عليها السلام لم تدّع ما ليس لها، ولكنها عليها السلام طالبت بما ظنته حقاً لها، ولما بيّن لها أبو بكر رضي الله عنه سبب منعها من الميراث، ذهبت عليها السلام ولم تكلمه في هذا الأمر مرة أخرى.
والذي يشهد لصحة هذا التعليل والبيان؛ ما سار عليه الإمام علي عليه السلام من أنه لم يعط أولاده فدك حينما استلم خلافة المسلمين، وعندما سُئل في رد فدك قال: (إني لأستحي من الله أن أرد شيئاً منع منه أبو بكر، وأمضاه عمر)(2)، فإذا كان الحكم على أبي بكر رضي الله عنه أنه كان ظالماً لمنعه حق الزهراء عليها السلام، فهل يكون الحكم نازلاً كذلك على الإمام علي عليه السلام -والعياذ بالله-، لأنه لم يُرجع لأولاده الحق في ميراث والدتهم؟
والمحب لآل البيت وللمسلمين ينزه الجميع عن الظلم، ويبتعد عن سوء الظن بأبي بكر رضي الله عنه وغيره، وهذا ما تبينه النقطتان الآتيتان:
__________
(1) الكافي: (7/130).
(2) شرح نهج البلاغة: (16/252).(165/96)
ثامنا: لم يدّع أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذا المال لابنته عائشة أو لغيرها من أمهات المؤمنين، بل تضمن تحريم الميراث جميع آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم (1) وما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذا الفعل إلا عملاً بوصية النبي، فهل تمسك أبي بكر بوصية النبي صلى الله عليه وسلم خطأ؟!
تاسعا: لا يستلزم من عدم إعطاء أبي بكر الصديق رضي الله عنه الميراث لفاطمة أن يكون مبنياً على الكراهية والعداوة كما يروّج له أصحاب الفتن.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كذلك لم يعط ابنته فاطمة خادمة تساعدها على شؤون المنزل حينما طلبت منه، وهذا من المباح في الشرع، وفق المتيسر أو ما يراه صاحب الأمر، فهل نطعن كذلك في عدالة نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم ؟!
قال الإمام علي عليه السلام في حديث طويل: (...ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم لينصرف فقالت له فاطمة: يا أبتِ لا طاقة لي بخدمة البيت، فأخدمني خادماً تخدمني وتعينني على أمر البيت، فقال لها: يا فاطمة! أولا تريدين خيراً من الخادم؟ فقال علي: قولي: بلى، قالت: يا أبت! خيراً من الخادم؟ فقال: تسبحين الله عز وجل، في كل يوم ثلاثاً وثلاثين مرة، وتحمدينه ثلاثاً وثلاثين مرة، وتكبرينه أربعاً وثلاثين مرة، فذلك مئة باللسان وألف حسنة في الميزان)(2).
عاشرا: القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغضب لغضب فاطمة عليها السلام، فهذا صحيح ولا يختلف عليه اثنان.
لنعلم أن منع أبي بكر لم يكن بقصد إغضابها ؛ لأن المنع كان استجابة منه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يعيب أبا بكر الصديق رضي الله عنه، ولا غيره إن فعله.
__________
(1) بحار الأنوار: (29/70).
(2) كشف الغمة: (1/362) , بحار الأنوار: (43/134).(165/97)
ولا يلزم أيضا أن يكون كل غضب تغضبه الزهراء عليها السلام يغضب لأجله النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حدثت خلافات أسرية كثيرة بين الإمام علي والزهراء مثل ما يقع بين الأزواج، فهل سنطعن في عدالة الإمام علي وفق ما فهمه بعضهم مطلقا من حديث إغضاب الزهراء أيضا، ونقول: إن النبي قد غضب على علي عليه السلام لإغضابه الزهراء؟!
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بين ابن عمه وابنته سيدة نساء أهل الجنة رضي الله عنه موقف العدل والإنصاف، لا موقف العاطفة والانحياز الأبوي!
فعن أبى ذر رضي الله عنه قال: (كنت أنا وجعفر بن أبي طالب مهاجرين إلى بلاد الحبشة، فأهديت لجعفر جارية قيمتها أربعة آلاف درهم، فلما قدِمنا المدينة أهداها لعلي عليه السلام تخدمه، فجعلها علي عليه السلام في منزل فاطمة، فدخلت فاطمة عليها السلام يوما فنظرت إلى رأس علي عليه السلام في حجر الجارية، فقالت: يا أبا الحسن! فعلتها؟ فقال: لا، والله! يا بنت محمد! ما فعلت شيئاً، فما الذي تريدين؟ قالت: تأذن لي في المصير إلى منزل أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟فقال لها: قد أذنت لك. فتجلببت بجلبابها، وتبرقعت ببرقعها، وأرادت النبي صلى الله عليه وسلم، فهبط جبرائيل عليه السلام، فقال: يا محمد! إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: إن هذه فاطمة قد أقبلت إليك تشكو علياً، فلا تقبل منها في علي شيئاً!! , فدخلت فاطمة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت تشكين علياً؟ قالت: إي؛ ورب الكعبة! فقال لها: ارجعي إليه، فقولي له: رغِم أنفي لرضاكَ)(1).
__________
(1) علل الشرائع: (1/163)، المناقب: (3/342)، بحار الأنوار: (39/208).(165/98)
وعن جعفر بن محمد رضي الله عنه قال: (شكت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، فقالت: يا رسول الله! لا يدع شيئاً من رزقه إلا وزعه على المساكين! فقال لها: يا فاطمة! أتسخّطيني في أخي وابن عمي، إن سخطه سخطي، وإن سخطي سخط الله عز وجل)(1).
الحادي عشر: لنتذكر ابتداء أن من أهم أهداف أعداء الإسلام تفكيك وحدة المسلمين من خلال ترويج مقولات باطلة، ونشرأخبار مفتراة تدل على وجود البغضاء والشحناء في الجيل الأول المبارك، ولوسألنا أنفسنا وأعملنا عقولنا، ماذا سنستفيد من قصة يجدد العهد بذكرها في بعض مجالس المسلمين سنويا لتثير القلوب وتعصف بالعواطف للوصول إلى حالة نفسية نهايتها إثارة شائعات تروج لوجود عداوة مترسخة اتجاه آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
ذلك أن المنصف العاقل لو فتش في ما فعله أبو بكر رضي الله عنه تجاه فاطمة عليها السلام عند مطالبتها بأرض فدك، لوجد أن ما حكم به أبو بكر الصديق تجاه فدك ما كان إلا بموجب نص شرعي مستقى من قول المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي طاعته أمر مفروض، فما ذنبه تجاه ما أمر به فانقاد إليه ؟!
ولذا ماذا سنقول للطاعن من النواصب بسيدة نساء أهل الجنة حين يقول عنها:
غريب أمر فاطمة ! تغضب وتخالف عموم المسلمين، حتى يصل خصامها وغضبها للهجر الأبدي الذي ينهى عنه الإسلام، وما كان ذلك إلا عن هوى وعناد في نفسها، وشدة حب منها للأموال وأوساخ الدنيا الفانية، مثل ما حدث بينها وبين خليفة رسول الله أبي الصديق في طلبها للميراث، وعدم الامتثال لوصية أبيها النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أيضا قبل ذلك كثيرة الإزعاج للنبي صلى الله عليه وسلم في احتجاجها المتواصل على زواجها من علي بن أبي طالب بسبب فقره وقلة ماله، في بداية زواجهما، وبعد ذلك، وهذا ما ذكرته الروايات الثابتة، مثل:
__________
(1) بحار الأنوار: (43/153)، وانظر كشف الغمة: (1/473).(165/99)
عن أبي إسحاق السبيعي، عن الحارث، عن علي قال: (إن فاطمة شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألا ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلماً، وأحلمهم حلماً، وأكثرهم علماً؟ أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة، إلا ما جعل الله لمريم بنت عمران، وأن ابنيك سيدا شباب أهل الجنة)(1).
وعن أبي صالح عن ابن عباس: (أن فاطمة عليها السلام بكت للجوع والعري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقنعي -يا فاطمة- بزوجك، فوالله: إنه سيد في الدنيا سيد في الآخرة، وأصلح بينهما...)(2).
فيا أيها المحب للآل الطاهرين: أترضى أن تكون في زمرة المبغضين الحاقدين للآل الطاهرين كالنواصب وغيرهم ؟ أو أنك تدافع عن حمى الآل من خلال تمسكك بالهدي الصحيح المبارك، مع سلامة قلبك تجاه من كانوا مع سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فأي الفريقين تختار ؟
السؤال السابع:
لو قال لنا قائل: ماذا تقول عما فعله أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم عند مهاجمتهم بيت الإمام علي عليه السلام، وقاموا بربطه، وضرب زوجته حتى كسر ضلعها وأسقط جنينها، ثم أحرقوا منزلهم، على ما ذكرت الروايات التاريخية.
فهل مثل هذه الأفعال المشينة تدل على الحب والوئام، أم على السخط والكراهية والشقاق لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب:
أولاً: لا ينبغي لطالب الحق أن ينجرف بمجرد أن يقرأ رواية تاريخية وغيرها تتكلم عن أحبابه، ولا يعرف مصدرها، فضلاً عن أن يعلم صحيحها من سقيمها، ثم يحدث بها وينشرها بين العامة، ونجد من بعد هذا التسرع العاطفي من يتأثر بهذه الروايات فيمتلىء قلبه حقداً وبغضاً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) أمالي الطوسي: (248).
(2) المناقب: (3/319) , بحار الانوار: (24/99).(165/100)
لكن الواجب على المحب لآل البيت الطاهرين عليهم السلام وللخير والعلم أن يجتهد ويتحرى، وأن يكون دقيقاً في أخذه للروايات، فيتمسك بالصحيح والتي تنطبق عليه قواعد وشروط الحديث الصحيح، ولا يغتر بكثرة الروايات الموضوعة في حادثة معينة ولو اشتهرت.
ثانياً: إن هذه القصة من الأكذوبات التي يستخدمها أهل الفتن في تمزيق وتفريق صفوف المسلمين، لذلك فإننا نطالب كل باحث للحق أن يجتهد ويبحث عن رواية واحدة صحيحة، تثبت وتسند تلك القصة المختلقة، وتنطبق عليها قواعد وشروط الحديث الصحيح، من اتصال في السند، ومن رواية العدل الإمامي الضابط في حفظه.
ومن الغريب أننا نجد كثيراً من المتمسكين بهذه القصة يؤمنون يقيناً بتلك الرواية، تبعاً للعاطفة وحبا في كسب بعض المصالح الدنيوية الرخيصة، ولا ينظرون نظرة العاقل العالم في دينه مثل الفحص في صحة الإسناد وضعفه!
قال السيد هاشم معروف الحسني بعد ما أورد الروايات التي تتحدث عما جرى للزهراء عليها السلام.. إلى كثير من الروايات التي لا تثبت أسانيدها في مقابل النقد العلمي(1).
وقال أيضاً: ومهما كان الحال، فالحديث عن فدك وميراث الزهراء من أبيها ومواقفها من ذلك ومن الخلافة طويل وكثير، وبلا شك فإن الأصحاب والأعداء قد وضعوا القسم الأكبر مما هو بين أيدي الرواة ولا يثبت بعد التمحيص والتدقيق في تلك المرويات إلا قليل القليل(2).
وقال كاشف الغطاء: ولكن قضية ضرب الزهراء، ولطم خدها، مما لا يكاد يقبله وجداني، ويتقبله عقلي، ويقتنع به مشاعري, لا لأن القوم يتحرجون ويتورعون من هذه الجرأة العظيمة، بل لأن السجايا العربية والتقاليد الجاهلية -التي ركزتها الشريعة الإسلامية، وزادتها تأييداً وتأكيداً- تمنع بشدة أن تضرب المرأة (3).
__________
(1) انظر: سيرة الأئمة الاثني عشر: (1/133).
(2) المصدر السابق: (1/140).
(3) انظر: جنة المأوى: (ص:135).(165/101)
وقد سئل السيد الخوئي عن صحة رواية كسر ضلع الزهراء فأجابهم: على المشهور، ولم يحكم بصحتها(1).
ثالثاً: قد يقول قائل: إن عليا أُمِر بعدم مقاتلة الصحابة حين اعتدوا على زوجه سيدة نساء العالمين عليها السلام، لحفظ راية الإسلام من سقوطها وافتراق أهل الملة بعد وفاة النبي، وأمره بالصبر على أذاهم.
لكننا نقول ونتساءل:
ابتداء نقول بُعد هذه المقولة عن الصحة، وعلى فرض التسليم على ما قد قيل، فَلِمَ كانت منه المقاتلة يوم الجمل لجيش طلحة وأم المؤمنين عائشة حين خرجوا إلى أهل الكوفة -وكان هو في مكة- ثم قاتل من بعد ذلك جيش معاوية في صفين، وكذلك في النهروان حين قاتل الخوارج، فلم وقع منه كل هذا القتال وسفك الدماء، أليس في تلك الفعال دلالة منه على نبذ وصية النبي بعدم تفريق جماعة المسلمين ؟
لكن الصحيح الذي يتسق مع مجريات الواقع سابقاً أن علياً لم يأمره أحد بعدم المقاتلة إن وقع عليه ظلمٌ أو انتهكت حرمات الله، ومن ذلك ما يُدعى من وقوع ظلم على زوجه الكريمة وأنه لم ينتصر لها، وهذه الرواية قبل أن يتلفظ بها لسان مسلم ليتذكر حال أمير المؤمنين وغيرتَه على دين الله، ثم على أهله من آل بيت المصطفى صلوات ربي عليهم جميعاً.
وقد ثبت عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: (من قُتِل دون مظلمته فهو شهيد).(2)
فهل هذا المعتقد خاف عن أمير المؤمنين وفارس الشجعان؟!
وحذار أن يتلفظ مسلم عاقل بكلام يكون عليه لا له، وليس فيه نصرة لآل البيت الكرام، ذلك أن من يدعي أن علياً كان فارساً، وقاتل جيش طلحة، ومن بعده أهل صفين؛ نصرة لقضية الإمامة، فلِمَ كان بعيدا عن نصرة آل بيته حين ضربوا حتى كادوا أن يموتوا ؟!
__________
(1) انظر: صراط النجاة: (3/314).
(2) انظر الكافي: (5 / 52) , تهذيب الأحكام: (6 / 167) , وسائل الشيعة: (15 / 121).(165/102)
رابعا: يستطيع كل صاحب فتنة -لا يتقيد بالروايات الصحيحة- أن يروي روايات بلا أسانيد صحيحة، لمجرد وجودها وانتشارها في بعض الكتب التاريخية أو الأدبية، ويؤمن بها من بعد ذلك، وتصبح عنده من المسلمات اليقينية التي لا تقبل التشكيك في صحتها.
بل يستطيع كذلك كل مبغض وكاذب على العترة عليهم السلام أن يدعي أن قضية ضرب الزهراء وإسقاط جنينها وإحراق بيتها مؤامرة مدبرة، قام بها أبو بكر وعمر بالاشتراك مع زوجها الإمام علي، في سبيل القضاء على الزهراء عليها السلام.
ويكون هذا الهذيان والاتهام الباطل مبنياً وفق زعم ذلك المبغض على دلائل ومؤشرات يستنبطها من القصة المختلقة نفسها، وتكون وفق زعم المبغض كالآتي:
1- قام الإمام علي بتمثيلية متقنة حين وافق على تقييده عن طريق الصحابة عند دخولهم المنزل وعلى ضربه، ليوهم آل بيته بأنه ضحية هذا التجمع والتآمر، من قبل شخص عمره تجاوز الستين، والآخر جاوز الثالثة والخمسين، مع العلم بأن قوة الإمام علي لا يقاومها أحد من الإنس والجن، مثل ما نقل عنه أنه اقتلع باب خيبر العظيم لوحده بينما لا يستطيع حمله أربعون رجلاً.
2- اعتذار وتحجج الإمام علي عن عدم مقاومته للصحابة بسبب حرصه على المحافظة على حقن دماء المسلمين حجة واهية؛ لأن الصحابة قد ارتدوا بعد وفاة النبي إلا ثلاثة وفق ما تقرره الروايات عن آل البيت عليهم السلام ! فهل كان مقصود الإمام علي عليه السلام بدماء المسلمين هؤلاء الثلاثة فقط؟!! وهل دماء الصحابة أغلى وأزكى عنده من دم الزهراء عليها السلام، فلا يحافظ عليها ويدافع عنها؟!!
3- تزوج الإمام علي بعد وفاة الزهراء بتسع ليال بامرأة من بني حنيفة، ولقب ولدها بابن الحنفية, ووافق بعد ذلك على تزويج أم كلثوم ابنة الزهراء عليها السلام لعمر بن الخطاب أحد أعضاء المؤامرة، مما يدل على حرصه على توثيق الصلة مع أعداء زوجته، وعلى عدم حبه ووفائه للزهراء عليها السلام.(165/103)
4- عندما أصبح الإمام علي قاضياً ووزيراً في زمن الخليفة الأول والثاني، كان هذا مثل المكافأة جزاء لما قام به من إتقانه للدور.
5- حرصه على تسمية أولاده بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان، وتزوجه بأرملة أبي بكر، فيه الدلالة على حرصه على افتخاره بما صنعوا في الماضي وسعيه إلى تخليد ما قاموا به من أعمال، ولو كان ضد الزهراء.
6- لم يعط الإمام علي أولاد فاطمة الزهراء ميراثهم من والدتهم من فدك حينما استلم خلافة المسلمين، وسار على طريقة أصحابه الخلفاء من قبله، بل ولم يمنع التراويح ولا أعاد المتعة.
فهل يقبل المحب لآل البيت عليهم السلام أن ينسب صاحب الفتن الناصبي المبغض مثل هذه التهم إلى أصحاب النبي بضربهم للزهراء وإحراق بيتها، وتخاذل أمير المؤمنين عن نصرة الزهراء عليها السلام، بسبب تعلقه بمرويات مكذوبة تكون عليه، وليست له عند الاستدلال، أم ينافح ويبين الصواب والحق الذي يجمع ولا يفرق؟
السؤال الثامن:
ماذا تقول عن موقف أبي بكر الصديق، وما وقع في أول خلافته من إرساله الصحابة بقيادة خالد بن الوليد وإستباحتهم دماء المسلمين لمجرد جهلهم المتمثل في عدم دفع الزكاة، مثل ما فعلوا بقوم مالك بن نويرة، وقتل خالد له، ودخوله على زوجة مالك في نفس الليلة؟
الجواب:
أولاً: الزكاة أهم ركن من أركان الإسلام بعد الشهادتين والصلاة، وهي حق للفقراء والمساكين وغيرهم من مال الأغنياء، ولهذا كثيراً ما يقرن الله تبارك وتعالى ما بين الصلاة والزكاة في كتابه العزيز، مثل قوله تعالى:
* ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)) [البقرة:43].
* ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) [البقرة:110].(165/104)
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: (إن الله عز وجل قرن الزكاة بالصلاة فقال: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ))، فمن أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة لم يقم الصلاة)(1).
وعن محمد بن مسلم وأبي بصير وبريد وفضيل كلهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله عنه قالا: (فرض الله الزكاة مع الصلاة)(2).
لذلك فإن الحكم في تارك الزكاة كالحكم في تارك الصلاة ألا وهو القتل، وهذا ما أثبته الثقلان: (كتاب الله والأئمة عليهم السلام) قال تعالى: ((فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [التوبة:5].
وعن أبان بن تغلب قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: (دمان في الإسلام حلال من الله، لا يقضي فيهما أحد حتى يبعث الله قائمنا أهل البيت، فإذا بعث الله عز وجل قائمنا أهل البيت حكم فيهما بحكم الله، لا يريد عليهما بينة: الزاني المحصن يرجمه، ومانع الزكاة يضرب عنقه)(3).
وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس، عن ابن مسكان يرفعه، عن رجل، عن أبي جعفر عليه السلام قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ قال: قم يا فلان! قم يا فلان! قم يا فلان! حتى أخرج خمسة نفر فقال: اخرجوا من مسجدنا لا تصلوا فيه وأنتم لا تزكون)(4).
__________
(1) الكافي: (3/506)، من لا يحضره الفقيه: (2/10)، وسائل الشيعة: (9/22).
(2) الكافي: (3/497)، وسائل الشيعة: (9/13).
(3) الكافي: (3/503)، من لا يحضره الفقيه: (2/12)، وسائل الشيعة: (9/33)، مستدرك الوسائل:
(7 /25) , بحار الأنوار: (52/325).
(4) الكافي: (3/503)، من لا يحضره الفقيه: (2/12)، وسائل الشيعة: (9/24)، تهذيب الأحكام: (4/111).(165/105)
ثانياً: من المعلوم وفق الروايات التاريخية التي رواها كبار العلماء أنه قد ارتد الكثير من الأعراب عن الإسلام بعد موت النبي، وترك بعضهم الزكاة وغيرها.
وقد ذكر الطوسي في الأمالي عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم، قال: ارتد الأشعث بن قيس وأناس من العرب لما مات النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نصلي ولا نؤدي الزكاة، فأبى عليهم أبو بكر ذلك، وقال: لا أحُلّ عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أنقصكم شيئاً مما أخذ منكم نبي الله صلى الله عليه وسلم ولأجاهدنكم، ولو منعتموني عقالا مما أخذ منكم نبي لجاهدتكم عليه، ثم قرأ ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)) [آل عمران:144](1).
ولهذا الموقف العظيم أرسل أبو بكر الصديق رضي الله عنه جيوش المسلمين بقيادة خالد ابن الوليد رضي الله عنه لمحاربة هؤلاء المرتدين، وكان من الذين جاءهم خالد بن الوليد رضي الله عنه قوم مالك بن نويرة(2)، وكانوا قد منعوا زكاة أموالهم ولم يدفعوها لأبي بكر، ولا لغير أبي بكر.
ثالثاً: شنع الكثير من أهل الأهواء والفتن على أبي بكر الصديق رضي الله عنه في إرساله خالد بن الوليد رضي الله عنه في الغزوات والحروب، لقتل الناس، واستباحة أموالهم كما يقال زورا وبهتاناً.
والصحيح أن أبا بكر رضي الله عنه لم ينفرد بإرسال خالد بن الوليد رضي الله عنه لقيادة الجيوش، بل كان ممن سبقه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم خالداً رضي الله عنه وبعثه في عدة معارك لنشر الإسلام، كبعثه إلى الطائف، وأهل اليمن، والعزى، والبحرين، ودومة الجندل، وغيرها كثير.
__________
(1) الأمالي للطوسي: (ص:262)، بحار الأنوار: (28/11).
(2) انظر: (ص:74) من هذا الكتاب.(165/106)
ومع تلك البعثات العظيمة التي يُرسل إليها خالد رضي الله عنه من قبل النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الخلفاء، فإننا نجد من يطعن في ذلك الصحابي الجليل بإظهار زلاته والكذب عليه، وإخفاء حسناته، بقصد تشويه تاريخه ومكانته عند النبي صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: قال تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ)) [النور:55].
إن هذه الشروط الثلاثة حصلت للصحابة رضي الله عنهم، الاستخلاف وتمكين الدين، وإبدال الخوف، وهذا حينما ارتد الناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقاتلهم الصحابة فحصل بذلك الأمن والاستقرار.
خامساً: قصة قتل خالد رضي الله عنه لمالك بن نويرة، جاء فيها ثلاث روايات:
الأولى: أن خالد بن الوليد رضي الله عنه جاء لمالك بن نويرة وقومه، فقال لهم: أين زكاة الأموال؟ ما لكم فرقتم بين الصلاة والزكاة؟
فقال مالك بن نويرة: إن هذا المال كنا ندفعه لصاحبكم في حياته، فمات، فما بال أبي بكر؟ فغضب خالد بن الوليد وقال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟ فأمر ضرار بن الأزور أن يضرب عنقه.
وقيل: إن مالك بن نويرة قد تابع سجاح التي ادعت النبوة.
وهناك رواية ثالثة وهي: أن خالد بن الوليد رضي الله عنه لما كلم قوم مالك بن نويرة، وزجرهم عن هذا الأمر وأسَرَ منهم من أسر، قال لأحد حراسه: أدفئوا أسراكم؟ وكانت ليلة شاتية، وكان من لغة ثقيف (أدفئوا الرجل) تعني: اقتلوه، فظن الحارس أن خالداً رضي الله عنه يريد القتل، فقتلهم وفق فهمه بدون أمر خالد بن الوليد رضي الله عنه.(165/107)
ولو تمسكنا بأي رواية مما سبق، فإن كان الخطأ قد وقع من خالد بن الوليد في قتل مالك بن نويرة، فإن العذر يلحقه من باب قتله لمانع للزكاة، أو لمتابعة لسجاح الكذابة، أو أنه كان متأولاً، وهذا التأويل ليس بمسوغ لإقامة الحد والقصاص على خالد رضي الله عنه. ومثل ما وقع فيه خالد رضي الله عنه من خطأ، فإنه قد حدث مثله مع الصحابي الجليل أسامة بن زيد رضي الله عنهما، حينما تأول في قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، ولم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم عليه دية أو كفارة.
قال القمي في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) [النساء:94]: إنها نزلت لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر، وبعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الإسلام، وكان رجل من اليهود يقال له: مرداس بن نهيك الفدكي في بعض القرى، فلما أحس بخيل رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع أهله وماله، وصار في ناحية الجبل، فأقبل يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فمر به أسامة بن زيد فطعنه وقتله، فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ فقال: يا رسول الله إنما قالها تعوذاً من القتل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا شققت الغطاء عن قلبه، لا ما قال بلسانه قبلت، ولا ما كان في نفسه علمت، فحلف أسامة بعد ذلك أنه لا يقاتل أحداً شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)(1).
__________
(1) تفسير القمي: (1/148)، بحار الأنوار: (21/11)، مستدرك الوسائل: (16/79).(165/108)
سادساً: أما القول بأن خالدا رضي الله عنه قتل مالك بن نويرة، ثم تزوج امرأته في تلك الليلة، فهو قول تافه وباطل لا يستند على رواية صحيحة، ولا يستحق أن يضيع عليه شيء من مداد الحق، ويكفي في بيان تفاهة القول أننا نسأل كل إنسان يريد الإنصاف والعدل، فنقول له:
من أين عرفت أن خالد بن الوليد دخل على امرأة مالك بن نويرة في نفس الليلة التي قتل فيها زوجها؟ هل تستطيع أن تأتي بإسناد واحد صحيح يدل على زعمك؟
إن أهل الأهواء والفتن لم يكن لهم قدوة حسنة في حبهم لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا الإنصاف فيهم فيما حصل منهم، بل إنهم يهرفون بالروايات الضعيفة المتناثرة في الكتب، مع تحريفهم لمعانيها، وتأويلهم لها تأويلاً باطلاً، كما هو الحال في قصة زواج خالد بن الوليد رضي الله عنه من امرأة مالك بن نويرة، إذ جعلوا خالداً رضي الله عنه يحرص على قتل مالك لأجل الظفر بزوجته، وهذا من البهتان.
وهذا القول ليس بعسير على من يريد أن ينشر المطاعن والفتن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل يستطيع كل صاحب فتنة أن يتأول ويحرف القصص والروايات والتاريخ على وفق ما يهواه من الكذب وغيره، من دون الرجوع إلى الأسانيد الصحيحة الموافقة للصواب.
لهذا السبب نفسه استطاع المستشرقون أن يطعنوا في النبي صلى الله عليه وسلم كما طُعن في خالد بن الوليد.
فماذا سنقول ونرد لو قال لنا أحد المستشرقين الحاقدين: إن النبي قد نظر إلى امرأة زيد بن حارثة وهي تغتسل وأعجب بها، وطلقها من زوجها حتى تحل له.(165/109)
قال الرضا عليه السلام: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصد دار زيد بن حارثه بن شراحيل الكلبي في أمر أراده فرأى امرأته تغتسل فقال لها: سبحان الذي خلقك! وانما أراد بذلك تنزيه الباري عز وجل عن قول من زعم إن الملائكة بنات الله، فقال الله عز وجل: ((أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنْ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً)) [الإسراء:40] فقال النبي: لما رآها تغتسل: سبحان الذي خلقك أن يتخذ له ولداً يحتاج إلى هذا التطهير والاغتسال، فلما عاد زيد إلى منزله أخبرته امرأته بمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله لها: سبحان الذي خلقك! فلم يعلم زيد ما أراد بذلك، وظن أنه قال ذلك لما أعجبه من حسنها، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله! إن امرأتي في خلقها سوء، وإني أريد طلاقها! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك زوجك واتق الله. وقد كان الله عز وجل عرفه عدد أزواجه وأن تلك المرأة منهن فأخفى ذلك في نفسه ولم يبده لزيد وخشى الناس أن يقولوا: إن محمداً يقول لمولاه: إن امرأتك ستكون لي زوجة، يعيبونه بذلك، فأنزل الله عز وجل: ((وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ)) [الأحزاب:37] يعنى بالإسلام، ((وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ)) يعني بالعتق، ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)) [الأحزاب:37] ثم إن زيد بن حارثة طلقها واعتدت منه، فزوجها الله عز وجل من نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل بذلك قرآنا، فقال عز وجل: ((فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً)) [الأحزاب:37])(165/110)
(1).
فالمبغض الكافر يطير فرحاً بمثل هذه الأقاويل الواهية، لكن المحب للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه رضي الله عنهم يلتمس لهم العذر بعد العذر إن وقع منهم ما يظن أنه زلة أو هفوة، ويعتقد أنه ليس للنبي صلى الله عليه وسلم زلة أو هفوة لعصمته، وإن ثبت هذا الزلل تجاه الصحابة رضي الله عنهم برواية معتمدة مقبولة، فإن الواجب عليه أن لا يظهر المساوئ، بل يقذفها في بحار حسناتهم، ويدير ظهره لها ويغض النظر ويصم الآذان عنها؛ لأن دلالة الحب العفو والصفح والغفران.
وأما الروايات الباطلة، فهي كما قال تعالى: ((فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً)) [الرعد:17].
قبل الختام:
شجون عابرة
لقد عرفنا بالأدلة العقلية والنقلية أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم خير جيل عرفته البشرية كلها وهم خير الخلق بعد الأنبياء والمرسلين، وأن خير القرون كان قرنهم، كما قال تعالى: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران:110].
وأما القول بردتهم فلا يقبله مسلم عاقل، بل يستطيع كل مسلم عامي سليم المعتقد أن يبطل هذه المعتقدات الدخيلة على الإسلام ببعض تساؤلات، قد يحدث بها نفسه دون أن يرجع إلى القرآن والسنة، أو إلى عالم في الدين، وهي بمثابة شجون وخواطر ترد على ذهن المتبع للحق الموافق للعقل المستنير، فمن تلك الخواطر أن يقول - مثلاً-:
أولاً: كيف يستقيم -عقلاً- أن يكون أصحاب خاتم الأنبياء والمرسلين كفاراً وقد أثنى عليهم الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم، وكذا نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وآل بيته وزكَّى ظاهرهم وباطنهم؟ (2) فهل يثني الله عز وجل على منافقين وكفار ومرتدين؟! وهل يفعل ذلك النبي وآل بيته؟!!
__________
(1) عيون أخبار الرضا: (1/203) , الاحتجاج:(2/431) , بحار الأنوار: (22/216).
(2) انظر: (13- 35) من هذا الكتاب.(165/111)
ثانياً: إن المرتد إنما يرتد لشبهة أو شهوة، ومعلوم أن الشبهات والشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى وأكثر، حيث كان المسلمون إذ ذاك مستضعفين، والكفار قد استولوا على أرجاء الأرض، وكان المسلمون يؤذون بمكة، ويلقون من أقاربهم وغيرهم من المشركين من الأذى ما لا يعلمه إلا الله، وهم صابرون على الأذى متجرعون لمرارة البلوى، وقد اتبعوه صلى الله عليه وسلم وهو وحيد فرد في أمره، مقهور مغلوب وأهل الأرض يد واحدة في عداوته.
وقد هاجر بعض المسلمين وتركوا ديارهم وأموالهم، وتركوا ما كانوا عليه من الشرف والسؤدد في قومهم حباً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا كله إنما فعلوه طوعاً واختياراً ورغبة، فمن كان إيمانه راسخاً مثل الجبال الشامخة في حال الضعف والعوز، بالله عليكم كيف سيكون إيمانهم بعد ظهور آيات الإسلام، وانتشار راياته؟ وما الذي حملهم على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد، مثل عدم أخذهم بوصيته صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام بالخلافة، وهم يعلمون أن مخالفة أمره كُفر بربهم، ورجوع عن دينه؟!
فهل يعقل أن يطيع المهاجرون والأنصار جميعهم أبا بكر رضي الله عنه في الكفر بالله! ويتركوا اتباع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه، وهم الذين خرجوا من ديارهم يبتغون فضلا من الله ورضواناً، وينصرون الله ورسوله؟!
ثالثاً: كيف يكون يسيراً على النفس الإقدام على الحكم بكفر الصحابة وردتهم، مع أن الإمام علياً عليه السلام وهو العالم الفقيه، الذي روي عنه أنه قال: (سلوني قبل أن تفقدوني)، لم يكفر أحداً ممن قاتله من أهل الجمل وصفين، ولم يسبٍِِِِِِ ذرية أحد منهم ولا غنِم مالهم ، لكنه كان من أبعد الناس عن ذلك، وهذا فيمن قاتله فكيف بمن لم يقاتله كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم ؟!(165/112)
بل إنه لم يحكم على هؤلاء بحكم المرتدين، مثلما حكم أبو بكر رضي الله عنه وسائر الصحابة في بني حنيفة وأمثالهم من المرتدين، وكان عليه السلام ينادي المنادي في يوم الجمل ويقول له: (لا يتبع مدبر، ولا يجهز على جريح، ولا تكشف عورة، ولا يهتك ستر ! )(1).
وكما كان يقول الإمام علي عليه السلام لأهل حربه: (إنا لم نقاتلهم على التكفير لهم، ولم نقاتلهم على التكفير لنا، ولكنا رأينا أنا على الحق، ورأوا أنهم على الحق)(2).
رابعاً: كيف يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بمجالسة الصالحين، وينهانا عن مجالسة أهل السوء، وقد جالس النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة المرتدين المنافقين -كما يزعمون!- فمن المخطىء يا ترى؟! وكيف لا يحمي الله نبيه صلى الله عليه وسلم من هؤلاء المرتدين -كما يزعمون- في حياته وبعد موته؟!
خامساً: كيف يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بمصاهرة أهل الدين والخلق الحسن، وينهانا عن تزويج أهل الكبائر والذنوب، ثم يخالف هو بنفسه صلى الله عليه وسلم هذا الأمر ويصاهر المرتدين ويصاهرونه كأبي بكر وعمر وعثمان وأبي سفيان؟! فهل أخطأ النبي صلى الله عليه وسلم في مصاهرته لأولئك النفر؟
سادساً: لماذا يسمي أهل البيت عليهم السلام أبناءهم بأسماء كبار الصحابة؛ كأبي بكر وعمر وعثمان ويحرصون على ذلك؟ مع أن هذه الأسماء مهجورة في مجالس العزاء عندنا في هذا الزمان!
فمن ادعى أنهم كفار ومرتدون فله أن يجيز التسمية بأسماء فرعون وقارون وغيرهم، إذ الأمر مرجعه واحد، والكفر ملة واحدة.
ونحن نعلم جميعاً أنه ليس ثمة دلالة في إظهار الحب لآل البيت عليهم السلام، إلا النهل من منهلهم المبارك، مع التقيد بعلمهم المبارك.
__________
(1) انظر: مستدرك الوسائل: (11/52)، بحار الأنوار: (32/252).
(2) قرب الإسناد: (ص:45)، بحار الأنوار: (32/324).(165/113)
سابعاً: كيف نجوّز اللعن والسب على من خالف الإمام علياً عليه السلام وقتله؟ وقد أنكر الإمام عليه السلام بنفسه على شيعته لسبهم ولعنهم لمعاوية؟
وقال لهم: كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين؟! (1).
ثامناً: وفق ما يقرأه المنصف للتاريخ، فلم يثبت أن الصحابة نشروا فكرة باطلة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أو ثاروا عليه عندما أسس الدولة الإسلامية وعزز أركانها.
بل كانوا يحاولون جاهدين مساندته بأموالهم وأرواحهم، وبعضهم مات لأجل ذلك.. فهل المنافق يعمل كل ذلك؟ أم أنه يركن إلى حفظ نفسه، واقتناص الفرص لنيل حظوظ الدنيا؟!
تاسعاً: الفتوحات والملاحم الإسلامية، أليست فيها الدلالة على الصدق والثبات على منهج النبي صلى الله عليه وسلم ؟ أم إنها دلالة على حب الصحابة للدنيا، وهوى النفس، وزهق للأرواح والأنفس في الباطل؟
عاشراً: مؤسسو الدول المعاصرة يختارون الأكفاء من الرجال لمساندتهم في إنشاء دولتهم..
فهل يعقل أن الله أهمل نبيه من الرعاية والعناية، فاختار - تخبطاً من غير حسن تدبير ولا تقدير لعواقب الأمور- حفنة من المنافقين ليعينوا نبيه في نشر دينه، مع أنه خاتم الرسل، بل ويمكّن الله لهم في زمن خلافة الثلاثة، وغيرها من الدول الإسلامية؟!
حادي عشر: للعامي المسلم الحق في الاستفسار عن قضية هامة: إذا كان الصحابة مرتدين مارقين مغيرين لدين الله.. فعلى هذا فإن كل ما نُقل عنهم فهو باطل! مثل الأحكام الشرعية وغيرها...
إذاً: بأي شرع صحيح سوف نتعبد به ربنا ؟! وكيف نعتمد على قرآن نقله هؤلاء؟!
__________
(1) انظر: مستدرك الوسائل: (12/306)، بحار الأنوار: (32/399)، وقعة صفين: (ص:102).(165/114)
أيها القارئ الكريم: يجب علينا أن نعلم علم اليقين أن أعداء الإسلام ابتدعوا الطعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم هم الذين نقلوا القرآن والسنة بالأسانيد المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا توجد ديانة من الديانات على وجه الأرض يتوافر عندها إسناد متواتر لكتابها المقدس، أو لسنة نبيها -إن كانوا من أهل الكتب السماوية- إلا المسلمين، الذين يحبون أصحاب نبيهم صلى الله عليه وسلم ويوالونهم.
فالقرآن العظيم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وصلا إلينا عن طريق أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وإخوانهم رضي الله عنهم، ومن اتبعوهم بإحسان وساروا على خطاهم وهديهم، وبهذا يتبين لنا بوضوح امتداد المخطط الحاقد الذي يستهدف هدم الدين، وإبعاد المسلمين عن إسلامهم، واتباعهم ملة اليهود والنصارى، كما حذرنا ربنا تبارك وتعالى عنهم، فقال: ((وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)) [البقرة:120].
وآخر دعوانا أن نقول ما كان يقوله نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في دعاء القيام:
(اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
آمين.. آمين.. آمين..
قائمة المراجع
1- القرآن الكريم.
2- الاحتجاج - أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي - نشر مرتضى مشهد مقدسي (1413هـ).
3- الاختصاص - محمد بن محمد النعمان الملقب (بالمفيد) - انتشارات كنكرة جهاني - قم - (1413هـ).
4- إرشاد القلوب - حسن بن أبي الحسن الديلمي - انتشارات شريف رضا –
(1412هـ).
5- آراء حول القرآن - السيد الفاني الأصفاني - دار الهادي - بيروت.
6- إعلام الورى - أمين الدين فضل بن حسن الطبرسي - دار الكتب الإسلامية - طهران.(165/115)
7- أمالي الصدوق - لأبي جعفر محمد بن بابويه القمي المعروف (بالصدوق) - انتشارات كتابخانه إسلامية - (1362هـ).
8- أمالي الطوسي - تأليف شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي - انتشارات دار الثقافة - قم - (1414هـ).
9- بحار الأنوار - تأليف الشيخ محمد باقر المجلسي - مؤسسة الوفاء - بيروت - لبنان - (1404هـ).
10- بصائر الدرجات - محمد بن الحسن بن فروخ الصفار - مكتبة آية الله المرعشي - قم (1404هـ)
11- تأويل الآيات الظاهرة - للسيد شرف الدين حسين استرابادي - انتشارات جامعة مدرسين - قم - (1409هـ).
12- تهذيب الأحكام - أبو جعفر محمد عبد الحسن الطوسي - دار الكتب الإسلامية - طهران - (1365هـ).
13- تفسير الأمثل - ناصر مكارم الشيرازي - الطبعة الأولى - مؤسسة البعثة للطباعة والنشر - بيروت.
14- تفسير بيان السعادة - الحاج سلطان محمد الجنابذي، الطبعة الثانية، مطبعة جامعة طهران.
15- تفسير التبيان - أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، الطبعة الأولى، تحقيق: أحمد حبيب العاملي، قم، مكتب الإعلام الإسلامي.
16- تفسير تقريب القرآن - السيد محمد الحسيني الشيرازي، الطبعة الأولى مؤسسة الوفاء - بيروت.
17- تفسير جامع الجوامع - أمين الدين أبو علي الفضل الطبرسي، الطبعة الثالثة، مؤسسة النشر والطبع، جامعة طهران.
18- تفسير الجديد - الشيخ محمد السبزواري النجفي، الطبعة الأولى، دار التعارف للمطبوعات - بيروت.
19- تفسير الجوهر الثمين - السيد عبد الله شبر، الطبعة الأولى، مكتبة الألفين - الكويت.
20- تفسير شبر - السيد عبد الله شبر، الطبعة الأولى، دار البلاغة للطباعة والنشر - بيروت.
21- تفسير الصافي - المولى محسن الملقب بـ(الفيض الكاشاني)، الطبعة الأولى دار المرتضى للنشر - مشهد.
22- تفسير العياشي - أبو النضر محمد بن مسعود بن عياش، طهران - المكتبة العلمية الإسلامية.(165/116)
23- تفسير القمي - علي بن إبراهيم القمي - الطبعة الثالثة - قم - مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر.
24- تفسير الكاشف - محمد جواد مغنية، الطبعة الثالثة، دار العلم للملايين.
25- تفسير مجمع البيان - أمين الدين أبو علي الفضل الطبرسي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، (1379هـ).
26- تفسير مختصر مجمع البيان - الشيخ محمد باقر الناصري، الطباعة الثانية قم: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.
27- تفسير المعين - المولى نور الدين محمد بن مرتضى الكاشاني، الطبعة الأولى قم: مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي.
28- تفسير مقتنيات الدرر - مير سيد علي الحائري الطهراني، طهران - دار الكتب الإسلامية.
29- تفسير من هدي القرآن - السيد محمد تقي المدرسي، الطبعة الأولى، دار الهدى.
30- تفسير المنير - محمد الكرمي، قم، المطبعة العلمية (1402هـ).
31- تفسير من وحي القرآن - السيد محمد حسين فضل الله، الطبعة الثالثة بيروت، دار الزهراء للطباعة والنشر.
32- تفسير الميزان - السيد محمد حسين الطبطبائي، الطبعة الثالثة، طهران: دار الكتب الإسلامية.
33- تفسير نور الثقلين - الشيخ عبد علي بن جمعة الحويزي، الطبعة الثانية - قم: المطبعة العلمية.
34- تفسير الوجيز - علي بن الحسين بن أبي جامع العاملي - دار القرآن الكريم - قم - الطبعة الأولى.
35- ثواب الأعمال - لأبي جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي - انتشارات شريف رضا - قم - (1346هـ).
36- الحدائق الناضرة - المحقق البحراني - الناشر جماعة المدرسين - قم.
37- الخصال - لأبي جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي (الصدوق) - انتشارات جامعة مدرسين - قم - (1403هـ).
38- الدعوات - قطب الدين الراوندي - مدرسة الإمام المهدي (عج) - قم - (1407هـ)
39- رجال ابن داود - ابن داود الحلي - مؤسسة النشر في جامعة طهران - (1383هـ).(165/117)
40- رجال الطوسي - أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي - منشورات الرحمن - قم، إيران.
41- رجال الكشي - تأليف محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي - انتشارات دانشكار - مشهد - (1348هـ).
42- سر السلسلة العلوية - لابن نصر البخاري.
43- سيرة الأئمة الاثني عشر - السيد هاشم معروف الحسيني - طبعة دار المعارف - الطبعة السادسة.
44- شرح أصول الكافي - مولى محمد صالح المازندراني.
45- شرح نهج البلاغة - عبدالحميد بن أبي الحديد المعتزلي - كتابخانه آية الله المرعشي - قم- (1404هـ).
46- الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم - العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي - دار الهادي - بيروت - الطبعة الرابعة.
47- الصحيفة السجادية - الإمام علي بن الحسين (ع) - نشر الهادي - قم - (1376هـ).
48- صراط النجاة في أجوبة الاستفتاءات - آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي - دار المحجة البيضاء دار الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم الطبعة الأولى.
49- علل الشرائع: أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي (الصدوق) - انتشارات مكتبة الداوري - قم.
50- العمدة: لابن بطريق يحيى بن حسن الحلي - انتشارات جامعة مدرسين - قم - (1407هـ).
51 - عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب – لابن عنبة.
52- عوالي اللآلى: لابن أبي جمهور الأحسائي - انتشارات سيد الشهداء عليه السلام - قم - (1405هـ).
53- عيون أخبار الرضا عليه السلام: لأبي جعفر محمد بن علي (الصدوق) - انتشارات جهان - (1378هـ).
54- فرق الشيعة: للشيخ الحسن بن موسى النوبختي - الطبعة الثانية (1404هـ) - منشورات دار الأضواء - بيروت - لبنان.
55- فقه الرضا (ع) - نشر المؤتمر للإمام الرضا (ع) - (1406هـ).
56- قرب الإسناد - عبدالله بن جعفر الحميري - مكتبة نينوى - طهران.
57- الكافي - محمد بن يعقوب الكليني - دار الكتب الإسلامية - (1365هـ).(165/118)
58- كشف الغمة في معرفة الأئمة: لأبي الحسن علي بن عيسى الأربلي - جاب مكتبة بني هاشم تبريز - (1381هـ).
59- لسان العرب - للعلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور - دار الفكر للطباعة والنشر - الطبعة الأولى.
60- مجموعة ورام: لورام بن أبي فراس - انتشارات مكتبة الفقيه - قم.
61- مجمع الرجال: علي القهبائي - مؤسسة مطبوعاتي إسماعيلاتي.
62- مدينة المعاجز: السيد هاشم البحراني - مؤسسة المعارف الإسلامية - قم. ط. الأولى.
63- مستدرك الوسائل: لحسين النوري الطبرسي - مؤسسة آل البيت عليهم السلام - قم - (1408هـ).
64- المقالات والفرق: سعد بن عبدالله الأشعري - نشر مؤسسة مطبوعاتي عطاني طهران (1963م).
65- من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - مؤسسة النشر الإسلامي - قم - (1413هـ).
66- مناقب آل أبي طالب عليه السلام: لأبي جعفر محمد بن علي بن شهر آشوب المازندراني - مؤسسة انتشارات العلامة - قم - (1379هـ).
67- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: العلامة ميرزا حبيب الله الخوئي - مؤسسة دار الوفاء، بيروت.
68- نهج البلاغة - من كلام أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام - اختاره الشريف الرضي - انتشارات دار الهجرة - قم.
69- النوادر: السيد فضل الله الراوندي - مؤسسة دار الكتاب - قم.
70- وقعة صفين - نصر بن مزاحم بن سيار المنقري - مكتبة آية الله المرعشي - قم - (1403هـ).
71- وسائل الشيعة - محمد بن الحسن الحر العاملي - مؤسسة آل البيت - قم - (1409هـ).
فهرس المحتويات
المقدمة: ... 4
المدخل: ... 6
المبحث الأول: تعريف لفظ (الصحابة) ... 9
أولاً: تعريف لفظ (الصحابي) لغة: ... 9
ثانياً: تعريف الصحابي شرعاً: ... 12
المبحث الثاني: ثناء الثقلين على الصحابة رضي الله عنهم ... 13
أولاً: ثناء الثقلين على أصحاب النبي عليه السلام: ... 14
ثانياً: ثناء الثقلين على الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم: ... 22(165/119)
ثالثاً: ثناء الثقلين على المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم: ... 25
رابعاً: ثناء الثقلين على أهل بدر رضي الله عنهم: ... 31
خامساً: ثناء الثقلين على من أنفق وقاتل قبل الفتح وبعده: ... 31
المبحث الثالث: كيف ظهرت الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم ؟ ... 36
أولاً: أول من أشعل الفتنة بين المسلمين: ... 36
ثانياً: بداية الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم: ... 40
معركة الجمل: ... 42
معركة صفين: ... 43
ما بعد استشهاد الإمام علي عليه السلام: ... 46
المبحث الرابع: المؤامرة ضد الإسلام والمسلمين ... 48
أولاً: إسقاط عدالة أصحاب النبي عليه السلام: ... 48
ثانياً: تشويه سيرة الصحابة رضي الله عنهم: ... 54
ثالثاً: الغلو.. والتقول على العترة الكرام ... 76
المبحث الخامس: الموقف الصحيح (الحق) من أصحاب النبي عليه السلام ... 57
المبحث السادس: الأسماء والمصاهرات بين الصحابة رضي الله عنهم والآل عليهم السلام ... 60
المبحث السابع: سؤال وجواب ... 71
قبل الختام: شجون عابرة ... 109
قائمة المراجع ... 113
فهرس المحتويات ... 118(165/120)
مختصر
التُحفة الاثنى عشرية
شاه عبدالعزيز غلام حكيم الدهلوي
اختصره وهذبه علامة العراق
السيد محمود شكري الألوسي
مقدمة بقلم محب الدين الخطيب
مقدمة المختصر : السيد محمود شكري الألوسي
الباب الأول: في ذكر فرق الشيعة، وبيان أحوالهم ، وكيفية حدوثهم وتعداد مكايدهم
الباب الثاني: في بيان أقسام أخبار الشيعة ، وأحوال رجال أسانيدهم ، وطبقات أسلافهم
الباب الثالث: في الإلهيات . اختلاف السنة و الشيعة في معرفة الله بالوجوب العقلي أو الشرعي . ومخالفة الإمامية للكتاب والعترة
الباب الرابع: في النبوة . اعتقادهم أن بعث الأنبياء واجب على الله
الباب الخامس: في الإمامة . اهل السنة يوجبون على الأمة نصب الإمام . والشيعة يوجبونه على الله . ونتائج ذلك
الباب السادس: في بعض عقائد الإمامية المخالفة لعقائد أهل السنة
الباب السابع: في الأحكام الفقهية
الباب الثامن: مطاعنهم في الخلفاء الراشدين والصحابة وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم أجمعين
الباب التاسع: ما اختص به الشيعة ولم يوجد في غيرهم من فرق الإسلام
خاتمة: حملة رسالة الإسلام والأولون، وماكانوا عليه من المحبه والتعاون على الحق والخير، وكيف شوّة المغرضون جمال سيرتهم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لك اللهم لا أحصي ثناءً عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك .
اللهم صل على سيدنا محمد ، وعلى آل سيدنا محمد ، وعلى أصحاب سيدنا محمد وعلى أزواج سيدنا محمد ، وسلم تسليماً كثيراً .
وبعد : فإن الإسلام امتاز على أنظمة الدين والدنيا جميعاً بكماله ، ووفائه بحاجة المجتمع الإنساني ليكون به سعيداً في كل زمان ومكان ، كما أمتاز بحفظ الله له – في أصليه الأصيلين : القرآن الحكيم والحديث النبوي – بما لم يسبق له نظير في كل هداية عرفها البشر ز(166/1)
والمسلمون الأولون – الذين تولى الهادي الأعظم ( تربيتهم وتوجيههم وإعدادهم لالاضطلاع بمهمة الإسلام العظمى – كانوا المثل الكامل للعمل بالإسلام : في إيمانهم ، وطاعتهم لله ، وأخلاقهم الكريمة ، وسياستهم الحكيمة ، وفتوحهم الرحيمة ، وتكوينهم المجتمع الإسلامي الصالح ، والدولة الإنسانية المثاليّة . وقد كافأهم الله على ذلك بانتشار رسالته على أيديهم ، وذيوع دعوته بين الأمم إقتداء بهم ، واتباعاً لهم .
ولما تخطت رسالة الإسلام حدود الجزيرة العربية المباركة – فدخلت العراق وإيران شرقاً ، والشم شمالاً ، ومصر وإفريقية غرباً – كان ذلك سعادةً للخيار من أهل البلاد المفتوحة ، وغذاء لعقولهم ، وبهجةً وحبوراً تطمئن بهما قلوبهم . وشجىً للأشرار منهم ، وغصةً في حلوقهم ، ومبعث إحنةٍ وغلٍّ تسمّمت بهما دماؤهم وأرواحهم .
إن الأخيار من طبقات سالم مولى ابي حذيفة ، وعبد الله بن سلام ، وسلمان الفارسي ، فالحسن البصري ، وعبد الله بن المبارك ، فمحمد بن إسماعيل البخاري ، وأبي حاتم الرازي ، وابنه عبد الرحمن ، وأندادهم وتلاميذهم ، استقبلوا هداية الإسلام السليمة الأصلية بأرواحهم وعقولهم ، وفتحوا لها أبوابهم وصدورهم ، وأحلوا لغتها محلَّ لغاتهم ، وعملوا بسننها بدلاً من سننهم ، ونسخوا بإيمانها كل ما كانوا – أو كان آباؤهم – عليه من قبل . فساهموا في حفظ كتاب الله وسنة رسوله الأعظم ، وحرصوا على فهمها كما كان يفهمها أبوبكر وعمر وعثمان وعلي وعائشة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل ومن ائتم بهم وسار على منهاجهم ، حتى صاروا بنعمة الله إخواناً للمسلمين كصالحي المسلمين ، وأئمة المسلمين كسائر أئمة المسلمين .(166/2)
وإن الأشرار من طبقة الهرمزان ، وعبد الله بن سبا ، وعبد الله بن يسار ، وأبي بكر الكروس ، ورشيد الهجريّ ، ومحمد بن أبي زينب ، والأحول الخبيث شيطان الطاق ، وجهم بن صفوان ، وتلميذه هشام بن الحكم الذي كان غلاماً لأبي شاكر الديصاني ، وهشام الآخر وهو ابن سالم الجواليقي وكان يقول إن الله جسم ذو ابعاد ثلاثة ، والأحوص أحمد ابن إسحاق القمى الذي اختر لشيعة عصره عيد بابا شجاع الدين ، وبنوا أعين : زرارة وبكير وحمران وعيسى وعبد الجبار ، والمفضل بن عمر الذي وصفه جعفر الصادق بأنه كافر ومشرك وعده قدماء الشيعة من الغلاة ، ثم جاء شيعة عصرنا ينافحون عنه ويعتذرون له بأن ما كان يعدهُ قدماؤهم غلواً اصبح اليوم من ضروريات التشيع في شكله الحاضر ( أنظر كتابهم تنقيح المقال للمامقاني 3 : 240 – 241 ) وهذا اعترافُ علميٌّ في أهم كتبهم في الجرح والتعديل بأنهم الآن كلهم غلاة كما كان المفضل بن عمر الذي وصفه جعفر الصادق بالكفر والإشراك ، وإعلان منهم بأن المذهب الشيعي استقر الآن على ذلك الغلوّ ، وكل ما كان يعد في السابق غلواً فهو اليوم من ضروريات المذهب .
إن الأشرار ممن سميناً ، وألوفاً كثيرة مكن أمثالهم ، قد أبغضوا من صميم قلوبهم اصحاب محمد ( وأحبابه وأعوانه على الحق ، لأنهم أطفأو نار المجوسية إلى الأبد ، وأدخلوا إيران في نطاق دولة الإسلام ، وأقاموا المسجد الأقصى على انقاض الهيكل . فهذا ( الذنب ) الذي ارتكبه نحو المجوسية(166/3)
هم ودسائسهم جيشاً لجيش ، وجهاداً لجهاد ، ومعركة بعد معركة ، حتى هزمهم الله في كل موقف ، وخذلهم في كل ملحمة . فباتوا ينتظرون الفرص السانحة ، ويترقبون للمسلمين الأولين ما يترقبه المبطلون لأهل الحق في كل زمان ومكان . فلما لم ينالوا منهم شيئاً ، وطالت عليهم خلافة أمير المؤمنين عمر ، واتسعت الفتوح في زمنه ، وانتشرت كلمة الإسلام في آفاق مترامية الأطراف ، تآمروا حينئذ على سفك دم عمر وهو حمو رسول الله أبو أم المؤمنين حفصة ، وصهر عليّ بن أبي طالب زوج بنته أم كلثوم الكبرى التي ولدت له ابنه زيداً وبنته رقية ، وأم كلثوم بنت عليّهي التي كانت في بيت أمير المؤمنين عمر لما تآمر على قتله الهرمزان وأبو لؤلؤة وغيرهما . ولا يزال الشيعة إلى اليوم مسرورين بما ساء علياً وبنته أم كلثوم وسائر أهل البيت من سفك دم أعدل من حكم في الأرض بعد محمد ( وصاحبه في الغار المجاور لهما في المدفن النبوي الطاهر جواراً لا ينقطع في الدنيا ولا الآخرة . وقد ظن المجوس الذين قتلوا عمر أنهم قد قتلوا الإسلام بقتله ، ولكنهم ما لبثوا أن علموا أنهم باءوا من هذه بمثل الذي باءوا به من تلك ، وحفظ الله رسالته ، وحاط دعوة الحق بعين عنايته وجميل رعايته ، وعادت جيوش الإسلام في خلافة ذي النورين توغل فيما وراء إيران ، وتفتح لكلمة الله آفاقاً أخرى متجاوزة الحد المنيع الذي كانوا يسمونه (( باب الأبواب )) ، فلم تكن على وج الأرض يومئذ – ولا في العصر التالية إلى يوم القيامة – رايات تخفق بالنصر والعدل والرحمة كهذه الرايات النيرة الظافرة .(166/4)
حينئذ أيقن المجوس واليهود أن الإسلام إذا كان إسلاماً محمدياً صحيحاً لا يمكن أن يحارب وجهاً لوجه في معارك شريفة سافرة ، ولا سبيل إلى سحقه باغتيال أئمته وعظمائه . فأزمعوا الرأي أن يظاهروا بالإسلام ، وأن ينخرطوا في سلكه ، وأن يكونوا ( الطابور الخامس 9 في قلعته . ومن ذلك الحين رسموا خطتهم على أن يحتموا بحائط يقاتلون من ورائه الرسالة المحمدية وأهلها الأولين ، فتخيروا اسم (( علي )) ليتخذوه ردءاً لهم . وأول من اختار ذلك لهم يهوديٌّ ابن يهودي من أخبث من ولدتهم نساء اليهود منذ عبدوا العجل في زمن موسى إلى أن إخترعوا الفكرة الصهيونية في الزمن الأخير .
نقل المامقاني في كتابهم تنقيح المقال ( 2 : 184 ) عن الكشى راس علمائهم في الجرح والتعديل ما نصه : (( وذكر أهل العلم أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى علياً ، وكان يقول – وهو على يهوديته – في يوشع بن نون ( وصى موسى ) ، فقال في إسلامه في علي مثل ذلك وكان ( أي عبد الله بن سبأ ) أول من شهر القول بإمامة عليّ وأظهر البراءة من أعدائه ( ومراد الكشى من أعداء عليّ إخوانه وأحبابه اصحاب رسول الله ( ) ، وكاشف مخالفيه وكفرهم . فمن هنا قال من خالف الشيعة : إن أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهود )) . انتهى كلام الكشى إمام الشيعة
ي الجرح والتعديل ومؤرخ الرواية والرواة في نحلتهم ، وما ينبئك مثل خبير .(166/5)
وعبد الله بن سبا كان ملعوناً على لسان علي بن أبي طالب سلام الله عليه ، ودعوته كان مرذولة فيما كان بدين الله به كرم الله وجهه ، وقد طارد هذا الملعون وحرق بالنار من وصلت إليهم يده من أصحابه ودعائه ، وهذا هو المنتظر من إمام صالح راشد طالما خطب على منبر الكوفة فقال على رؤوس الشهاد : (( خير هذ الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر )) روي ذلك عنه من ثمانين وجهاً ورواه البخاري وغيره ، وكان كرم الله وجهه يقول (( لا أوتي باحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حد المفتري )) . ولما بلغت الجرأة والفجور باثنين من المتسممين بسموم عبد الله بن سبأ – ويقال لهما عجل وسعد ابنا عبد الله – فنالا من أم المؤمنين عائشة سلام الله عليها ، أمر عليٌّ القعقاع بن عمرو رضي الله عنهما بأن يجلد كل واحد منهما مائة جلدة ، وان يجردهما من ثيابهما ففعل . وكان ذلك بعد وقعة الجمل .(166/6)
هذا هو علي في صورته التاريخية الثابتة عنه بأوثق ما ثبتت حقائق الماضي ، وهو غير عليّ في صورته الوهمية الكاذبة التي يصوره بها الشيعة على أنه مراءٍ جبان يمدح إخوانه الصحابة تقيةً ونفاقاً ويضمر لهم البغضاء حسداً وأنانية . إن علياً اسمى من ذلك وأكرم عند الله . وصورته الصادقة هي التي ثبتت برواية الصادقين عن الصادقين من رواة أئمة السنة العلام الذين يخافون الله واليوم الآخر ويحبون علياً وآله حباً معقولاً سليماً من الآفات ، ويحفظون لهم كل كرامة وفضيلة . والصورة التي يصوره بها كذباً مجوس ههذ الأمة وتلاميذ اليهودي عبد الله بن سبأ صورة متناقضة جمعت بين تاليه عليّ ونعته باحط النعوت وأسوإها . ولم يكن كل شيعة عليّ في زمن عليّ من هذا الطراز ، بل كان فيهم كرام الصحابة وصالح المؤمنون ، والتحق بهم وأندس في صفوفهم الكفرة والحمقى والغلاة وضعاف العقول والكاذبون في إسلامهم ، ومنهم أتي رضوان الله عليه ، وهؤلاء هم الذين عاقوا هذا الإمام الأعظم عن أن يكون كما يحبه لنفسه وما يحبه الله له من نشر دعوة الله في آفاق أخرى لم تصل إليها دعوة الإسلام ، وشغلوه بحمايتهم قتلة عثمان ، وإن كان طالما أعلن لعنتهم على مسمع منهم وهم في كتائب جيشه ، أو في صفوف المصلين تحت منبره في مسجد الكوفة .
إن هذا الطراز الضال المريب من شيعة عليّ في زمن علي كثيرون وكثيرون ، وهم الذين كان عليّ يشكوهم ويتبرأ منهم ، وكتاب نهج البلاغة ملئ بذمهم والزراية عليهم . وإن موقفهم من ابنه الحسن معروف في التاريخ ، حتى لقد تجرأو على إسالة دمه من جسمه الشريف بغياً عليه ونذالة منهم وكفراً ، وهم الذين أغروا أخاه الحسين ودعوه من بلده إلى بلدهم ، ثم تولوا بأيديهم سفك دمه الطاهر ، وبعد مقتله خرجوا يستقبلون آله بعيون باكية .(166/7)
نقل علامة الشيعة في هذا العصر الشيخ هبة الدين الشهرستاني ما رواه الجاحظ عن خزيمة السدي قال : دخلت الكوفة فصادفت منصرف علي بن الحسين بالذرية من كربلاء إلى ابن زياد ، ورأيت نساء الكوفة يومئذٍ قياماً يندبن متهتكات الجيوب ، وسمعت علي بن الحسين وهو يقول بصوت ضئيل – وقد نحل من شدة المرض :
(( يا أهل الكوفة ، إنكم تبكون علينا ، فمن قتلنا غيركم ؟ ))
ورايت زينب بنت علي عليه السلام ، فلم ار والله خفرة أنطق منها بياناً ، قالت : (( يا اهل الكوفة ، يا أهل الختر والخذل ! فلا رقأت العبرة ، ولا هدأت الرنة . إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم . ألا وهل فيكم إلا الصلف والشنف ، وملق الإماء وغمز الأعداء ؟ وهل أنتم إلا كمرعي على دمنة ، أو كغضة على ملحودة ؟ ألا ساء ما قدمت أنفسكم . إن سخط الله عليكم ، وفي العذاب أنتم خالدون . أتبكون ؟ أي والله فأبكوا ، وإنكم والله أحرياء بالبكاء . فأبكوا كثيراً وأضحكوا قليلاً ، فلقد فزتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً )) .
ونقل عالمهم المامقاني في تنقيح المقال ( 1 : 38 ) عن إمامهم الكشى بسندٍ رجاله كلهم من الشيعة أن بريداً العجلى قال : كنت أنا وأبو الصباح الكناني عند ابي عبد الله ( أي جعفر الصادق ) فقال : (( كان أصحاب أبي خيراً منكم ، كان أصحاب أبي ورقاً لا شوك فيه ، وأنتم شوك لا ورق فيه )) . فقال أبو الصباح : جعلت فداك ، فنحن اصحاب أبيك ! قال : (( كنتم يومئذ خيراً منكم اليوم )) .
وبعده في الكتاب نفسه خبر آخر بأن أبا الصباح هذا الذي كان من كبار شيعة الصادق وأبيه الباقر قد عبث بثدي جارية ناهد خرجت له من منزل إمامه الباقر ، فأنبّه على ذلك …(166/8)
ونقل المامقاني ( 2 : 8 ) في ترجمة سدير بن حكيم الصيرفي عن آخر كتاب الروضة من ( الكافي ) عن المعلى قال : ذهبت بكتاب عبد السليم بن نعيم وسدير وغير واحد ( أي وغير واحد من شيعة جعفر الصادق ) إلى أبي عبد الله ( وهو جعفر الصادق ) … فضرب بالكتاب الأرض ثم قال: (( أف ، أف ، ما أنا لهؤلاء بإمام )) .
وفي ميزان الاعتدال للحافظ الذهبي ( 10 : 347 ) أن جعفر الصادق قال لابن السماك : (( إن زرارة بن أعين من أهل النار )) . وزرارة بن أعين هذا ممن يروى عنهم الكليني في الكاف نصيباً كبيراً من الأحاديث التي يكذبونها على آل بيت رسول الله ( ويعتبرونها ديناً .
ومن أعلامهم أبو بصير الذي كذب على جعفر الصادق فأدعي انه سمع منه قوله (( وإن عندنا لمصحف فاطمة ، مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات ، والله ما فيه من قرآنكم هذا حرف واحد )) . ومع أن طائفة كبيرة من دينهم وأحاديث بخاريتهم الذي يسمونه ( الكافي ) مروية عن أبي بصير هذا فإن علماءهم معترفون بأن أبا بصير مطعون في دينه ، لكنهم قالوا : (( إنه ثقة ، والطعن في دينه لايوجب الطعن !)) وعلماء الجرح والتعديل عند الشيعة إذا قالوا في رجل منهم (( إنه ثقة )) لا يريدون من هذا الوصف أنه صادق من أهل العدالة ، بقدر ما يريدون منه أنه معتصب لاتجاهاتهم ، مبعض للصحابة ، مجتهد في النيل منهم ، والافتراء عليهم .
وإذا تتبعت تراجم أعلام الشيعة في زمن أئمتهم رأيتهم بين كذابين ، وملاحدة ، وشعوبيين ، وفاسدي العقيدة ، ومذمومين من أمتهم ، أو عابثين بأثداء جواري أئمتهم ن وكل ما يخطر ببالك من نقائص . وسبب ذلك أن دينهم من أصله فاسد ، وهل يثمر الدين الفاسد إلا الفساد ؟ .(166/9)
قا لشيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة ( 1 ك 3 ) : (( إن أصل هذا المذهب من إحداث الزنادقة المنافقين الذين عاقبهم في حياته علي بن ابي طالب رضي الله عنه ، فحرق منهم طائفة بالنار وطلب قتل بعضهم ففروا من سيفه البتار ، وتوعد بالجلد طائفة مغيرية فيما عرف عنه من الأخبار )) .
وأخرج الحافظ ابن عساكر ( 4 : 165 ) أن الحسن المثنى ابن الحسن السبط ابن علي ابن أبي طالب سلام الله عليهم قال لرجل من الرافضة : (( والله لئن أمكننا منكم لنقطعنَّ أيديكم وارجلكم ، ثم لا نقبل منكم توبة )) . فقال له رجل : لم لا تقبل منهم توبة ؟ قال : (( نحن أعلم بهؤلاء منكم . إن هؤلاء إن شاءوا صدقةكم ، وإن شاءو كذبوكم وزعموا أن ذلك يستقيم لهم في ( التقية ) . ويلك! إن التقية هي باب رخصة للمسلم ، إذا اضطر إليها وخاف من ذي سلطان اعطاه غير ما في نفسه يدرا عن ذمة الله . وليست باب فضل ، وإنما الفضل في القيام بأمر الله وقول الحق . ويم الله ما بلغ من التقية أن يجعل بها لعبد من عباد الله أن يضل عباد الله )) .
بل إن جعفراً الصادق دمغهم بكلمته المشهورة التي رواها عنه محمد بن بابويه القمى في كتاب التوحيد ، وهي قوله (( القدرية مجوس هذه الأمة : أرادوا أن يصفوا الله بعدله ، فأخرجوه عن سلطانه )) . وكم له عليه السلام من كلمات فيهم كوى بها أجسادهم لو أن في أجسادهم حياة وشعوراً .
والإمام زيد بن علي زيد العابدين ابن الحسين ( عم جعفر الصادق ) من كبار علماء آل البيت وصلحائهم ، رُوي عنه في كتاب ( الحور العين ) لنشوان الحميري ص 185 أن الشيعة لما قالوا له في أبي بكر وعمر (( إن برئت منهما وإلا رفضناك )) فقال لهم رضي الله عنه : الله أكبر ، حدثني أبي أن رسول الله ( قال لعلي عليه السلام : (( إنه سيكون قوم يدعون حبنا ، لهم نبز يعرفون به ، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون )) . اذهبوا فأنتم ( الرافضة ! ) .(166/10)