و كانت رضي الله عنها إذا قرأت { و قرن في بيوتكن }[ الأحزاب/33] بكت حتى يبتل خمارها ، و كانت حينما تذكر الجمل تقول : وددت أني كنت جلست كما جلس أصحابي ، و في رواية ابن أبي شيبة : وددت أني كنت غصناً رطباً و لم أسر مسيري هذا . سير أعلام النبلاء للذهبي (2/177) و مجمع الزوائد للهيثمي (7/238) و ابن أبي شيبة في المصنف (15/281) .
و العقل يقطع بأنه لامناص من القول بتخطئة إحدى الطائفتين المتقاتلتين اللتين وقع فيهما مئات القتلى ،
و لاشك أن عائشة رضي الله عنها هي المخطئة ؛ لأسباب كثيرة و أدلة واضحة ، منها ندمها على خروجها ، و ذلك هو اللائق بفضلها و كمالها ، و ذلك مما يدل على أن خطأها من الخطأ المغفور ، بل المأجور .
قال الإمام الزيلعي في نصب الراية : و قد أظهرت عائشة الندم كما أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب عن ابن أبي عتيق - عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - قال : قالت عائشة لابن عمر : يا أبا عبد الرحمن ما منعك أن تنهاني عن مسيري ؟ قال : رأيت رجلاً غلب عليك – يعني ابن الزبير – فقالت : أما والله لو نهيتني ما خرجت . قال الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة : و لهذا الأثر طرق أخرى ، فقال الذهبي في السير : عن قيس قال : قالت عائشة ، و كانت تحدث نفسها أن تدفن في بيتها فقالت : إني قد أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثاً ، ادفنوني مع أزواجه ، فدفنت بالبقيع رضي الله عنها . قلت – أي الذهبي - : تعني بالحدث مسيرها يوم الجمل ، فإنها ندمت ندامة كلية و تابت من ذلك ، على أنها ما فعلت ذلك إلا متأولة ، قاصدة للخير ، كما اجتهد طلحة و الزبير و جماعة من كبار الصحابة رضي الله عن الجميع . انظر : السلسلة الصحيحة (1/854-855) .(116/103)
يقول شيخ الإسلام في منهاج السنة ( 4/316-317 ، 321-322 ) و (6/208 ، 363 ) : إن عائشة لم تخرج للقتال ، و إنما خرجت بقصد الإصلاح بين الناس و ظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين ، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى ، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها ، و هكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال فندم طلحة و الزبير رضي الله عنهم أجمعين .
و يقول الإمام القرطبي في تفسيره (8/321-322) في تفسير سورة الحجرات ما نصه : لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به ، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه و أرادوا الله عز وجل .. هذا مع ما قد ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض - يشير إلى حديث أبي هريرة عند مسلم (4/1880) و نصه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو و أبو بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة والزبير ، فتحركت الصخرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد . والترمذي (5/644) و انظر : كتاب فضائل الصحابة للنسائي (ص113) بتحقيق فاروق حمادة ، و ابن ماجة في فضائل طلحة ( 1/46) و الأصفهاني في الإمامة ( ص371-372) - ، فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصياناً لم يكن بالقتل فيه شهيداً .. و مما يدل على ذلك ما قد صح و انتشر من إخبار عليّ بأن قاتل الزبير في النار ، و قوله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بشر قاتل ابن صفية بالنار – تقدم تخريجه - ، و إذا كان كذلك فقد ثبت أن طلحة و الزبير غير عاصيين و لا آثمين بالقتال - أي أنهما معذوران باجتهادهما - لأن ذلك لو كان كذلك ، لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في طلحة شهيد ، و لم يخبر أن قاتل الزبير في النار، و إذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنهم ، و البراءة منهم ، و تفسيقهم و إبطال فضائلهم و جهادهم ، رضي الله تعالى عنهم .(116/104)
و على ذلك إذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يجوز عليهم الخطأ كما يجوز على كل بشر ، فحينئذ نستطيع أن نقبل ما يحدث في تصرفاتهم من أخطاء غير مقصودة ، و إنما وقعت نتيجة اجتهاد لم يوفقوا فيه إلى الصواب ، لكنهم مثابون على الإخلاص في اجتهادهم إن شاء الله .
و لقد أخطأ من قال بأن الباعث لخروج طلحة والزبير هو ما كانا عليه من الطمع في الخلافة والتآمر على الناس بذلك .
فينفي ابن شبّة في كتابه أخبار البصرة هذا الزعم بقوله : إن أحداً لم ينقل أن عائشة و من معها نازعوا علياً في الخلافة ، و لا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة ، و إنما أنكروا على علي منعه - أي تأخيره - من قتل قتلة عثمان و ترك الاقتصاص منهم . أورده الحافظ في الفتح (13/60-61) .
و يقول ابن حزم في الفصل في الملل (4/238-239) : فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها ، أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي و لا خلافاً عليه ، و لا نقضاً لبيعته و لو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته ، و هذا ما لا يشك فيه أحد و لا ينكره أحد ، فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلماً .
وقد كان التقاء الفريقين في الجمل يوم الخميس في النصف من جمادى الآخرة سنة ست و ثلاثين ، تاريخ خليفة (ص184-185) - و هي أصح الروايات في تحديد تاريخ وقعة الجمل - و كان القتال بعد صلاة الظهر فما غربت الشمس و حول الجمل أحد ممن كان يذب عنه . أورده الحافظ في الفتح (13/62) .
و أما عن عدد قتلى معركة الجمل فقد بالغ المؤرخون في ذكرهم فمن مقلل و من مكثر على حسب ميل الناس و أهوائهم ؛ لكن العدد الحقيقي لقتلى معركة الجمل فقد كان ضئيلاً جداً للأسباب التالية :-
1 - قصر مدة القتال ، حيث أخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن القتال نشب بعد الظهر ، فما غربت
الشمس و حول الجمل أحد ممن كان يذب عنه .(116/105)
2 - الطبيعة الدفاعية للقتال ، حيث كان كل فريق يدافع عن نفسه ليس إلا .
3 - تحرج كل فريق من القتال لما يعلمون من عظم حرمة دم المسلم .
4 - قياساً بعدد شهداء المسلمين في معركة اليرموك - ثلاثة آلاف شهيد ، تاريخ الطبري (3/402) - و معركة القادسية - ثمانية آلاف و خمسمائة شهيد ، تاريخ الطبري (3/564) - و هي التي استمرت عدة أيام ، فإن العدد الحقيقي لقتلى معركة الجمل يعد ضئيلاً جداً . هذا مع الأخذ بالاعتبار شراسة تلك المعارك و حدتها لكونها من المعارك الفاصلة في تاريخ الأمم .
5 - أورد خليفة بن خياط في تاريخه (ص187-190) بياناً بأسماء من حفظ من قتلى يوم الجمل ، فكانوا قريباً من المائة . فلو فرضنا أن عددهم كان مائتين و ليس مائة ، فإن هذا يعني أن قتلى معركة الجمل لا يتجاوز المائتين . و هذا هو الراجح للأسباب و الحيثيات السابقة و الله أعلم بالصواب . أنظر حول هذا الموضوع كتاب : استشهاد عثمان و وقعة الجمل لخالد الغيث (ص214-215) .
و هذا العدد مصداق لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسائه : ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تخرج فتنبحها كلاب الحوأب ، يقتل عن يمينها و عن يسارها قتلى كثير ، ثم تنجو بعد ما كادت . السلسلة الصحيحة (1/853 ) .
حال ابن سبأ و مصيره بعد هذه الأحداث .
تعددت الروايات في ذكر مصير عبد الله بن سبأ ، هل أحرق مع أصحابه ؟
أم أنه نفي مع من نفي إلى سباط في المدائن ؟
أقول : الراجح والله أعلم و هو الذي أعتقده ، أنه نفي إلى سباط ، و مات هناك ؛ و الأدلة على ذلك كثيرة جداً ، و هاك مختصرها :-
أولاً : الأدلة على كون علي أحرق جماعته ، دون ذكر لحرق ابن سبأ معهم :-(116/106)
إن خبر إحراق علي بن أبي طالب رضي الله عنه لطائفة السبئية ، تكشف عنه الروايات الصحيحة في كتب الصحاح و السنن و المساند . أنظر خبره معهم عند البخاري في صحيحه (4/21) ، (8/50) ، و أبو داود في سننه (4/520) ، و النسائي (7/104) ، و الترمذي (4/59 ) و الحاكم في المستدرك (3/538-539) و صححه الألباني في صحيح أبي داود (3/822) .
فقد ذكر الإمام البخاري عن عكرمة مولى ابن عباس قال أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال : لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي النبي صلى الله عليه وسلم لا تعذبوا بعذاب الله ) و لقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه ) . البخاري مع الفتح (12/279) .
ذكر الجُوزَجَاني في أحوال الرجال ( ص37-38 ) ، و ابن حجر في الفتح ( 12/270) بإسناد حسن : أن السبئية غلت في الكفر ، فزعمت أن علياً إلهاً ، حتى حرّقهم بالنار إنكاراً عليهم ، و استبصاراً في أمرهم حين يقول :
لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري و دعوت قنبرا .
يقول ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص78-79) ، و في المعارف (ص 267) : إن عبد الله بن سبأ ادّعى الربوبية لعلي ، فأحرق علي أصحابه بالنار .
قال ابن حجر في لسان الميزان (3/389-390) : عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة ... ، و يقول عن طائفته : وله أتباع يقال لهم السبئية ، معتقدون الألوهية في علي بن أبي طالب ، و قد أحرقهم علي بالنار في خلافته .
يقول ابن حزم في الفصل في الملل والنحل (4/186) : و القسم الثاني من الفرق الغالية الذين يقولون بالإلهية لغير الله عز وجل فأولهم قوم من أصحاب عبد الله بن سبأ ... إلى أن قال : فقالوا مشافهة أنت هو ، فقال لهم و من هو ؟ قال : أنت الله ، فاستعظم الأمر و أمر بنار فأججت و أحرقهم بالنار .(116/107)
و يؤكد الفخر الرازي كغيره من أصحاب المقالات والفرق خبر إحراق علي لطائفة من السبئية . انظر : اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ( ص 57 ) .
ثانياً : الأدلة على كون علي أحرق جماعته ، و أحرق ابن سبأ معهم :-
ذكر المامقاني في تنقيح المقال (2/184) : أن علياً حرّق عبد الله بن سبأ في جملة سبعين رجلاً ادعوا فيه الإلهية والنبوة .
وقال الذهبي في ميزان الاعتدال (2/426) : أحسب أن علياً حرّقه – يقصد عبد الله بن سبأ – بالنار . و هو هنا لا يجزم بذلك بل وضعه موضع الشك .
أما الكشي فقد جزم بأن علياً رضي الله عنه قد أحرق عبد الله بن سبأ مع جملة أصحابه ، و قد نقل أكثر من رواية تنص على أن علياً حينما بلغه غلو ابن سبأ و دعواه الألوهية فيه ، دعاه و سأله فأقر بذلك ، و طلب إليه أن يرجع عن ذلك ، فأبى فحبسه واستتابه ثلاثة أيام فلم يتب فأحرقه بالنار . انظر هذا النص عند الناشئ الأكبر في مسائل الإمامة (ص 22 ) .
ثالثاً : الأدلة على كون علي أحرق جماعته ، ومن ثم نفى ابن سبأ إلى سباط .
ذكر ابن تيمية في منهاج السنة ( 1/23 ، 30 ) و (3/459) و ابن عساكر في تاريخ دمشق (29/10) و الملطي في التنبيه والرد على أهل الأهواء و البدع للملطي ( ص 29- 30 ) : أن علياً حرّق جماعة من غلاة الشيعة و نفى بعضهم ، و من المنفيين عبد الله بن سبأ .
و ذكر البغدادي في الفرق بين الفرق ( ص223 ) : أن السبئية أظهروا بدعتهم في زمان علي رضي الله عنه فأحرق قوماً منهم و نفى ابن سبأ إلى سباط المدائن إذ نهاه ابن عباس رضي الله عنه عن قتله حينما بلغه غلوه فيه و أشار عليه بنفيه إلى المدائن حتى لا تختلف عليه أصحابه ، لاسيما و هو عازم على العودة إلى قتال أهل الشام .
و قال الشهرستاني في الملل والنحل (1/155) : السبائية أصحاب عبد الله بن سبأ الذي قال لعلي كرم الله وجهه : أنت أنت ، يعني الإله ، فنفاه إلى المدائن .(116/108)
و قال الجوزجاني في أحوال الرجال ( ص 38 ) : أن من مزاعم عبد الله بن سبأ ادعاءه أن القرآن جزء من تسعة أجزاء ، و علمه عند علي ، و أن علياً نفاه بعدما كان هم به .
والراجح في هذه المسألة أن ابن سبأ لم يحرق بل نفي إلى سباط في المدائن ، كما قال بذلك الكثير من أهل العلم ، والأدلة على كونه نفي ولم يحرق ، ما ذكرته قبل قليل من كونه لم يحرق بل نفي إلى سباط ، و ما سيأتي من كون ابن سبأ له ظهور بعد مقتل علي رضي الله عنه ، و يكفي الباحث أن يقف على هذه العبارات التي تجدها في كثير من المصادر ليتبين له أن ابن سبأ لم يحرق مع طائفته :-
قال ابن سبأ لمن جاءه بنعي علي رضي الله عنه : ( لو أتيتنا بدماغه في سبعين صرة ما صدقناك ، و لعلمنا أنه لم يمت ، و إنه لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه . مسائل الإمامة للناشئ الأكبر (ص 22 ) و كذلك أنظر إلى دلالة العبارة في الفرق بين الفرق للبغدادي (ص 234) ، و البدء والتاريخ لابن طاهر المقدسي (5/129) ، والمقالات والفرق للقمي (ص20-21) والبيان والتبيين للجاحظ (3/81) و المجروحين لابن حبان (1/298) و تثبيت دلائل النبوة للهمذاني (2/549) و فرق الشيعة للنوبختي (ص 43) .
ذكر الصفدي في ترجمة ابن سبأ : ابن سبأ رأس الطائفة السبئية ... ، قال لعلي رضي الله عنه أنت الإله ، فنفاه إلى المدائن ، فلما قُتل علي ، زعم ابن سبأ أنه لم يمت لأن فيه جزءاً إلهياً و أنّ ابن ملجم قتل شيطاناً تصوّر بصورة علي ، و أن علياً في السحاب ، و الرعد صوته و البرق سوطه ، و أنه سينزل إلى الأرض . الوافي بالوفيات (17/190 ) .
و جاء في الفرق الإسلامية للكرماني (ص 34 ) : أن علياً رضي الله عنه لما قتل زعم عبد الله بن سبأ أنه لم يمت وأن فيه الجزء الإلهي .(116/109)
و يذكر أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين (1/85) ، عبد الله بن سبأ و طائفته من ضمن أصناف الغلاة ، إذ يزعمون أنّ علياً لم يمت و أنه سيرجع إلى الدنيا فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً .
و هذا الذي ذكرت لا يعني أنه لم يقتل بيد غيره ، لكن و حسب علمي القاصر واطلاعي على الكثير من الكتب التي تحدثت عن هذا الموضوع ، فإنه لم يرد فيها ذكر شيء من هذا القبيل .
و لكن : هذا لا يمنع بأن جميع من شارك أو أعان في قتل عثمان رضي الله عنه قد قتل أو أصابه الله بعقاب من عنده ، و إن الله عز وجل لم يهمل الظالمين بل أذلهم و أخزاهم و انتقم منهم فلم ينج منهم أحد ، و هاكم بعض الأمثلة على ذلك :-
روى خليفة في تاريخه (ص175) . بإسناد صحيح : أن أول قطرة قطرت من دمه - أي عثمان - على المصحف ، ما حكت .
و أخرج أحمد بإسناد صحيح عن عَمْرة بنت أرطأة العدوية قالت :خرجت مع عائشة سنة قتل عثمان إلى مكة ، فمررنا بالمدينة و رأينا المصحف الذي قتل و هو في حجره ، فكانت أول قطرة من دمه على هذه الآية { فسيكفيكهم الله و هو السميع العليم } قالت عمرة : فما مات منهم رجل سوياً . انظر : فضائل الصحابة (1/501) بإسناد صحيح . و أخرجه أيضاً في الزهد (ص127-128) .
روى ابن عساكر في تاريخه (39/446-447) عن ابن سيرين قال : كنت أطوف بالكعبة فإذا رجل يقول : اللهم اغفر لي و ما أظن أن تغفر لي ! قلت : يا عبد الله ! ما سمعت أحداً يقول ما تقول ! قال : كنت أعطيت الله عهداً إن قدرت أن ألطم وجه عثمان إلا لطمته ، فلما قتل و وضع على سريره في البيت ، و الناس يجيئون فيصلون عليه فدخلت كأني أصلي عليه ، فوجدت خلوة فرفعت الثوب عن وجهه فلطمت وجهه و سجيته و قد يبست يميني ، قال محمد بن سيرين : رأيتها يابسة كأنها عود .(116/110)
و عن قتادة أن رجلاً من بني سدوس قال : كنت فيمن قتل عثمان فما منهم رجل إلا أصابته عقوبة غيري ، قال قتادة : فما مات حتى عمي . أنساب الأشراف للبلاذري (5/102) .
و روى مبارك بن فضالة قال : سمعت الحسن البصري يقول : ما علمت أحداً أشرِك في دم عثمان رضي الله
عنه و لا أعان عليه إلا قُتل . و في رواية أخرى : لم يدع الله الفسقة - قتلة عثمان - حتى قتلهم بكل أرض . تاريخ المدينة المنورة لابن شبّة (4/1252) .
دور هذا اليهودي في نشأة الرافضة ، وسيكون الحديث فيها عن الجانب الديني الذي قام به عبد الله بن سبأ في تلك الفتنة لإبعاد المسلمين عن دينهم .
قام هذا اليهودي الخبيث بدعوة من اغتر به من عوام المسلمين إلى بعض المبادئ اليهودية وغلف دعوته هذه بالتظاهر بحب آل البيت والدعوة إلى ولايتهم والبراءة من أعدائهم ، فاغتر به جماعة ممن لم يتمكن الإسلام في قلوبهم من الأعراب و حديثي العهد بالإسلام ، حتى غدوا يكونون فرقة دينية تخالف في عقيدتها العقيدة الإسلامية وتستمد أفكارها ومبادئها من الديانة اليهودية .
فانتسبت هذه الفرقة إلى مؤسسها ومبتدعها ابن سبأ ، فأطلق عليها السبأية ومن السبأية استمدت الرافضة عقيدتها وأصولها فتأثرت بتلك المبادئ اليهودية المغلفة التي دعا إليها ابن سبأ .
ولهذا اشتهر بن العلماء أن عبد الله بن سبأ هو أول من ابتدع الرفض وأن الرفض مأخوذ من اليهودية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/483) : و قد ذكر أهل العلم أن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ ، فإنه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية و طلب أن يفسد الإسلام ، كما فعل بولص النصراني – الذي كان يهودياً – في إفساد دين النصارى .(116/111)
و قال في موضع آخر من الفتاوى (4/428) : إن الذي ابتدع الرفض كان يهودياً أظهر الإسلام نفاقاً ، و دس إلى الجهال دسائس يقدح بها في أصل الإيمان ، و لهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة .
ويقول أيضاً في موضع آخر من الفتاوى (4/435) : وأصل الرفض من المنافقين الزنادقة ، فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق ، وأظهر الغلو في علي بدعوى الإمامة والنص عليه ، وادعى العصمة له و لهذا لما كان مبدأه من النفاق قال بعض السلف : حب أبي بكر وعمر إيمان و بغضهما نفاق ، و حب بني هاشم إيمان و بغضهم نفاق .
قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية (ص 578) : إن أصل الرفض إنما أحدثه منافق زنديق ، قصد إبطال دين الإسلام والقدح في الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر العلماء ، فإن عبد الله بن سبأ لما أظهر الإسلام ، أراد أن يفسد دين الإسلام بمكره و خبثه ، كما فعل بولص بدين النصرانية ، فأظهر التنسك ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى سعى في الفتنة عثمان و قتله .(116/112)
و قد أكدت كذلك الدراسات الحديثة أن أصل الرفض يهودي و واضعه يهودي ماكر أراد أن يفسد على المسلمين عقيدتهم وينحرف بهم عن الدين الصحيح ، يقول عبد الله القصيمي في كتاب الصراع بين الإسلام والوثنية (1/11) بعد أن تحدث عن ظاهرة الغلو في علي بن أبي طالب : أما واضع بذور هذه الضلالة ومتولي كبرها عبد الله بن سبأ ، فطلبه علي ليوقع به أشد العذاب ولكنه كان أحذر من الغراب ، فهرب وترك البلاد و ما كان هروبه وضعاً لأوزار هذه الفتنة المدمرة وتسليماً بالهزيمة ، بل كان هروباً بهذه الآراء ضناً عليها بالقبر والقتل ليضل بها المسلمين ويفتن بها المفتونين وتبقى عاراً و ناراً إلى يوم الدين ، تطايرت دعاوى هذا الرجل ومبتدعاته في كل جانب ، و رن صداها في أركان المملكة الإسلامية رنيناً مراً مزعجاً واهتزت لها قلوب ومسامع و طربت لها قلوب و مسامع ، و رددت صداها أفواه خلقت لهذا ، و رددتها أفواه أخرى ، و طال الترديد والترجيع حتى نفذت إلى قلوب رخوة لا تتماسك فحلتها حلول العقيدة ، ثم تفاعلت حتى صارت عقيدة ثابتة تراق الدماء في سبيلها و يعادى الأهل والصحب غضباً لها و صارت فيما بعد معروفة بالمذهب الشيعي والعقيدة الشيعية .
أما إحسان إلهي ظهير رحمه الله فيؤكد بعد طول بحث في كتب القوم والذي أكسبه مزيداً من الخبرة بالرافضة وعقائدهم أن عقيدتهم قد بنيت على أسس يهودية بواسطة عبد الله بن سبأ . فيقول : وأما دين الإمامية و مذهب الاثنى عشرية ليس إلا مبني على تلك الأسس التي وضعتها اليهودية الأثيمة بواسطة عبد الله بن سبأ الصنعاني اليمني الشهير بابن السوداء . انظر : الشيعة والسنة ( ص 29) .
فتأكد بهذه النقولات التي جاءت في كتب أهل السنة أن أصل الرفض إنما أحدثه عبد الله بن سبأ اليهودي ، وأن الرافضة ليست من الإسلام في شيء .(116/113)
وقد اعترف بذلك كبار علماء الشيعة ومؤرخوهم ، فها هو الكشي - أحد كبار علماء التراجم عندهم في القرن الرابع ( ت340هـ ) – ينقل هذا النص عن بعض علمائهم فيقول : ذكر بعض أهل العلم أن عبدالله بن سبأ كان يهودياً فأسلم و والى علياً عليه السلام وكان يقول و هو على يهوديته في يوشع بن نون وضي موسى بالغلو ، فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي عليه السلام مثل ذلك ، و كان أول من أشهر القول بفرض إمامة علي وأظهر البراءة من أعدائه ، و كاشف مخالفيه وأكفرهم ، فمن ههنا قال من خالف الشيعة أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية . انظر : رجال الكشي (ص 71 ) .
و هذا النص مشهور عند علماء الرافضة و قد تناقله علماؤهم و جاء ذكره في أكثر من كتاب من كتبهم المعتمدة والموثقة .
فقد ذكره الأشعري القمي ( ت301هـ ) في المقالات والفرق (ص 20 ) ، حين يقول : فمن هاهنا قال من خالف الشيعة : إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية .
و ذكره النوبختي ( ت 310هـ ) في فرق الشيعة ( ص 44 ) ، حين يقول : فمن هنا قال من خالف الشيعة : إن أصل الرفض مأخوذ من اليهود .
و ذكره المامقاني ( ت 1351هـ ) في تنقيح المقال (2 /184) .
فهؤلاء كبار مؤرخي الرافضة و محققيهم يعترفون بيهودية ابن سبأ وأنه كان يقول بوصية موسى بيوشع في يهوديته فقال بهذه العقيدة في إسلامه في علي بن أبي طالب وأنه وصي النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه أول من نادى بإمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وتبرأ من مخالفيه ، ثم يقرون بأنه إنما نسبت الرافضة لليهودية لذلك .
ففي هذا الاعتراف الذي نسجله على كبار علماء الرافضة أعظم دليل على أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية وهو ملزم لكل من يشكك في هذه الحقيقة من علماء الرافضة المعاصرين ومن تأثر بأقوالهم من الكتاب المحدثين .(116/114)
وكما دلت كتب السنة والشيعة على أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية بواسطة عبد الله بن سبأ ، فكذلك كتب المستشرقين تشهد بذلك .
يقول المستشرق الألماني يوليوس فلهاوزن : ومنشأ السبأية يرجع إلى زمان علي والحسن وتنسب إلى عبد الله بن سبأ وكما يتضح من اسمه الغريب فإنه كان أيضاً يمنياً ، والواقع أنه من العاصمة صنعاء ، و يقال أيضاً إنه كان يهودياً ، و هذا يقود إلى القول بأصل يهودي لفرقة السبأية ، و المسلمون يطلقون اليهودي على ما ليس في الواقع ، بيد أن يلوح أن مذهب الشيعة الذي ينسب إلى عبد الله بن سبأ أنه مؤسسه إنما يرجع إلى اليهود أقرب من أن يرجع إلى الإيرانيين . الخوارج والشيعة (ص 170-171) .
أما المستشرق المجري أجناس جولد تسيهر ، فهو يرى أن فكرة المهدي و عقيدة الرجعة عند الرافضة قد تأثرت بالديانة اليهودية والنصرانية ، و أن الغلو في علي إنما صاغه عبد الله بن سبأ اليهودي ، فيقول : إن الفكرة المهدية التي أدت إلى نظرية الإمامة والتي تجلت معالمها في الاعتقاد بالرجعة ينبغي أن نرجعها كلها – كما رأينا – إلى المؤثرات اليهودية والمسيحية ، كما أن الإغراق في تأليه علي الذي صاغه في مبدأ الأمر عبد الله بن سبأ ، حدث ذلك في بيئة سامية عذراء لم تكن قد تسربت إليها بعد الأفكار الآرية . انظر : العقيدة والشريعة في الإسلام ( ص 205 ) .
فهذه أقوال العلماء من سنة وشيعة و مستشرقين ، كلها تؤكد أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية ، وأن واضعه و مبتدعه في الإسلام هو عبد الله بن سبأ اليهودي ، و قد دل أيضاً على أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية ، و لهذا عدد من الأدلة :-(116/115)
الأول : أن عقائد الرافضة التي انفردوا بها عن سائر الفرق الإسلامية كعقيدة الوصية والرجعة والبداءة والتقية و ما يدعونه في أئمتهم من الغلو ليس لها أصل في الإسلام ، و لا يوجد نص واحد لا من كتاب ولا من سنة يدل على هذه العقائد ، بل إن الكتاب والسنة وإجماع الأمة تشهد ببطلان هذه العقائد وبراءة الإسلام منها .
أما ما يستدل به الرافضة لصحة هذه العقائد من أدلة لا يخلو من حالين ؛ إما أن يكون هذا الدليل الذي يستدلون به صحيحاً و لكن لا حاجة لهم فيه ، وإما أن يكون موضوعاً لا يصح الاستدلال به ، و هذه حال غالب أدلتهم ، فإنهم لما لم يجدوا ما يستدلون به من الشرع لعقائدهم أخذوا يضعون الروايات على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى لسان علي بن أبي طالب وبنيه ليحتجوا بها على ما ذهبوا إليه من عقائد فاسدة ، و لهذا اشتهر بين أهل العلم أن الرافضة أكذب الفرق المنتسبة للإسلام ، فهم لا يروون عنهم و حذوا الناس من كذبهم .
الثاني : أن عقائد الرافضة التي انفردوا بها عن سائر الطوائف الإسلامية قد انتقلت إليهم من اليهودية ، و قد تتبعت هذه العقائد فوجدتها لا تخلوا من : إما أن تكون عقيدة يهودية خالصة ، وإما أن يكون لها أصل عند اليهود .
الثالث : تصريح العلماء من سنة و شيعة بأن أول من أحدث الغلو في علي رضي الله عنه وأحدث عقيدتي الوصية والرجعة هو عبد الله بن سبأ اليهودي ، و قد نقلنا سابقاً النص الذي ذكره الأشعري القمي والكشي والنوبختي والمامقاني و فيه اعترافهم بأن عبد الله بن سبأ أول من أحدث القول بالوصية لعلي بن أبي طالب والقول بفرض إمامته ، وأظهر فيه البراءة من مخالفيه .(116/116)
يذكر الشهرستاني في الملل والنحل (1/174) ، أن ابن سبأ أول من أظهر القول بالنص بإمامة علي رضي الله عنه ، و منه انشعبت أصناف الغلاة ، و يتحدث عن السبأية فيقول : و هم أول من قال بالتوقف والغيبة والرجعة و قالت بتناسخ الجزء الإلهي في الأئمة بعد علي رضي الله عنه .
و يذكر المقريزي في الخطط (2/356-357) : أن ابن سبأ أحدث في زمن علي رضي الله عنه القول بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي ، وأحدث القول برجعته بعد موته إلى الحياة الدنيا .
ونحن إذا عرفنا ما لهذه العقائد – التي أكد العلماء أن أول من أحدثها في الإسلام ابن سبأ اليهودي – من ثقل في ميزان عقيدة الرافضة بل إنها تعد الأساس الذي أنبتت عليه عقائد الرافضة الأخرى ، ندرك دور اليهود الكبير في نشأة الرافضة .
رابعاً : تصريح عبد الله بن سبأ نفسه بأنه أخذ عقيدة الوصية من التوراة ، فقد نقل البغدادي في الفرق بين الفرق (ص 235) عن الشعبي ، أن ابن السوداء ذكر لأهل الكوفة : أنه وجد في التوراة أن لكل نبي وصياً وأن علياً رضي الله عنه وصي محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه خير الأوصياء و كما أن محمداً خير الأنبياء .
وإذا أجرينا مقارنة سريعة بين بعض معتقدات الشيعة ، نرى أنها توافق بعض معتقدات السبئية ، كما توضحها المقارنة التالية :-
المعتقدات السبئية ( اليهودية ) ..
1 – الرجعة : أي رجعة علي رضي الله عنه إلى الدنيا قبل يوم القيامة ، و هي فكرة مأخوذة من العهد القديم – المحرّف - . انظر : إصحاح (4) فقرة : 5 .
المعتقدات الشيعية ( الرافضية ) ..
1 – جاء في (أوائل المقالات في المذاهب المختارات) لشيخهم المفيد (ص 51) : واتفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة ، وإن كان بينهم في معنى الرجعة خلاف .
المعتقدات السبئية ( اليهودية ) ..(116/117)
2 – الوصية : أي وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه بالخلافة من بعده ، و هي فكرة مأخوذة من العهد القديم – المحرّف -. انظر : إصحاح (34) فقرة : 9 .
المعتقدات الشيعية ( الرافضية ) ..
2 – جاء في الأصول من الكافي للكليني (1/294) : فكان علي عليه السلام و كان حقه الوصية التي جعلت له ، والاسم الأكبر ، و ميراث العلم ، وآثار علم النبوة .
المعتقدات السبئية ( اليهودية ) ..
3 – الألوهية : ومن لوازمها علم علي رضي الله عنه للغيب . راجع الضعفاء والمتروكين لابن حبان (3/8) و ميزان الاعتدال للذهبي (4/161) و المقالات والفرق للقمي (ص 21) . حيث ذكروا جميعاً ما تعمه السبئية من أن علياً رضي الله عنه قادر على إحياء الموتى وأنه كان راضياً عن ألوهيته و لكنه حرقهم بالنار لأنهم أفشوا السر ، ثم أحياهم بعد ذلك ، و أنه يعلم الغيب .
المعتقدات الشيعية ( الرافضية ) ..
3 – من لوازم الألوهية كما جاء في الأصول من الكافي للكليني (1/258) : إن الإمام إذا شاء أن يعلم علم . و قد عقد بعد ذلك باباً عنوانه : ( أن الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم ) . كما يقول زعيمهم الخميني في الحكومة الإسلامية (ص 47) : إن للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية ، وخلافة تكوينية ، تخضع لولايتها و سيطرتها جميع ذرات هذا الكون .
المعتقدات السبئية ( اليهودية ) ..
4 – علم علي رضي الله عنه لتسعة أعشار القرآن الكريم ، والتي كتمها الرسول صلى الله عليه وسلم ! راجع : عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام للدكتور سليمان العودة (ص 207) .
المعتقدات الشيعية ( الرافضية ) ..(116/118)
4 – جاء في الأصول من الكافي (1/239) رواية منسوبة إلى جعفر الصادق يقول فيها : وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام ، قال – أي الراوي - : قلت : وما مصحف فاطمة عليها السلام ؟ قال : مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات ، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد .
المعتقدات السبئية ( اليهودية ) ..
5 – سب الصحابة ، ولاسيما الخلفاء الثلاثة الذين تولوا الخلافة قبل علي رضي الله عنه ، و هم أبو بكر و عمر و عثمان رضي الله عنهم . راجع فرق الشيعة للنوبختي (ص 43-44 ) و المقالات والفرق للقمي ( ص 20 ) .
المعتقدات الشيعية ( الرافضية ) ..
5 – جاء في الأصول من الكافي (1/32) : عندما يزعمونه من قول الله تعالى {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم} – لاحظ أن هذا النص دمج بين آيتين مختلفتين من القرآن الكريم من سورة[النساء /137] و [آل عمران/90] - : إنها نزلت في فلان وفلان و فلان ، آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر ، و كفروا حيث عرضت عليهم الولاية . – و المقصود من فلان وفلان وفلان : أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كما أبان ذلك شارح الكافي ! نقلاً عن الشيعة والسنة لإحسان إلهي ظهير ( ص 42) . وجاء عن المفيد في أوائل المقالات في المذاهب والمختارات (ص 48 ) : واتفقت الإمامية والزيدية والخوارج على أن الناكثين والقاسطين من أهل البصرة والشام أجمعين كفار ضلال ملعونون بحربهم أمير المؤمنين عليه السلام ، وأنهم بذلك في النار مخلدون ! – و بعد هذا يظهر من يقول أن الزيدية هم أقرب فرق الشيعة لأهل السنة !! - .
المعتقدات السبئية ( اليهودية ) ..
6 – البداء : و هو نشأة رأي جديد لم يك موجوداً من قبل ، وهو من معتقدان السبئية ، الذي يلزم منه ظهور ما كان خافياً على الله . راجع : التنبيه والرد للملطي (ص19) والفرق بين الفرق ( ص 36 ) .
المعتقدات الشيعية ( الرافضية ) ..(116/119)
6 – جاء في الأصول من الكافي للكليني (1/146-148) بعد أن عقد فيه كتاب التوحيد باب البداء : لو يعلم الناس ما في القول بالبدأ من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه .
و بعد : فقد دلت هذه الأدلة مضافاً إلى ما أوردناه من النقولات السابقة عن بعض العلماء من سنة وشيعة ، و شهادة بعض المستشرقين من إثبات دور عبد الله بن سبأ في نشأة الرافضة وإثبات أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية .
و في ختام هذه المقالة نكون قد وصلنا إلى نهاية سلسلة حلقات عبد الله بن سبأ ، و إلى أن نلتقي أستودعكم الله والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته ، و الحمد لله على فضلة و توفيقه .
وتقبلوا تحيات : أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..(116/120)
طرق أهل الباطل
في
نشر الخرافة
إعداد
الدكتور/ إبراهيم بن محمد بن عبد الله البريكان
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين بالدمام
قام بصف الكتاب ونشره
أبو عمر الدوسري
www.frqan.com
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فلما لهذا الموضوع من الأهمية ، ولرغبة بعض الإخوة الفضلاء في طباعته ليعم النفع به ، أعدت النظر في عباراته وقمت ببعض الإصلاحات السريعة التي لا بد منها ، ومراجعة بعض الألفاظ وإبدالها بما هو أصح منها مع المحافظة على جوهر الموضوع وبساطة اللغة التي ألقي بها . هذا وأسأل الله أن ينفع بهذه الرسالة كل من قرأها أو سمعها وألا يحرمني أجرها ، إنه جواد كريم.
كتبه د/ إبراهيم البريكان
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين بالدمام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن اتبع هداه، أما بعد ،،،،(117/1)
فما أحسن أن يلتقي المسلمون على مائدة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم متذكرين ومذاكرين ما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم، ولما كان أهم مقومات الوجود لهذه الأمة المحمدية هي تمسكها بالحق الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى : ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله )) (1) . ولما كان ذلك الحق الذي بعث به محمد صلى الله عليه مشتمل على العلم الصحيح وعلى العمل الذي يقوم عليه بناء الكيان الإنساني كان لا بد لهذا الحق من أن يحاط وأن يصان على مدى الدهور والأيام حتى يبقى صافياً كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، من هذا المنطلق كان التعرف على طرق أهل الباطل وأساليبهم من أعظم الأمور النافعة في اكتشافهم ومعرفتهم وإدراك خطرهم . فإن الإنسان إذا علم من أين يأتيه عدوه كان من السهل عليه أن يقاومه بما استطاع من سبيل ، والحق والباطل خصمان عنيدان منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإبليس فلم يزل الحق والباطل يتصارعان في الوجود الإنساني ، ولما كان الحق بطبيعته نور الله الذي أنزله على عباده كان له من القوة الذاتية ما ترفعه وتكون النفوس متطلعة إليه طالبة له بطبعها وذلك أن الله سبحانه وتعالى فطر هذا الإنسان عندما خلقه على الحق ، قال صلى الله عليه وسلم : ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه ) (2) .
كيف يرد الباطل على النفوس ؟
والحق أصل في البشر ، والباطل أمر وارد على نفوسهم وإنما يرد الباطل على النفوس من طريقين :
الطريق الأول : ضعف الحق في نفوسهم وعدم استبانة حدوده لعقولهم .
الطريق الثاني : قوة الباطل بما له من المواد التي تمده بالقوة من أمور طبيعية نفسية تتعلق بالناس من شهوة عارمة وهوى مطاع .
تعريف الخرافة
__________
(1) سورة الصف آية 9
(2) رواه البخاري ك 23 ب 80 ، 93 ورواه مسلم ك 46ح 22-25 .(117/2)
والخرافة عرفاً : هي كل علم فاسد وعمل منحرف ، لأن الله سبحانه وتعالى استودع قلوب الناس قوة تسمى ( قوة التمييز ) ، وقوة التمييز هذه تجعل الإنسان يبصر الحق ويعرفه ومن هنا لما جاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه بتلك الخواطر التي ترد على القلوب فيستعظمون أمرها ويعظم عليهم التكلم بها فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ذاك صريخ الإيمان ) (1) . والمعنى : أن ما في قلوبكم من قوة تمييز أنكرت الباطل واستعظمت الكلام به والعمل به فهذا إشارة لقوة التمييز في القلوب وهو كون القلب ذو إرادة متوجة لإدراك الفرق بين الحق والباطل فتعرف الحق لأنه من نسجها وطبيعتها لأنها تغذت به ونمت على سقيه ، وأما القوة الثانية فهي قوة العمل الصالح وهي قوة منبعثة من القلب السليم الذي سلم من كل شهوة خفية ومن كل شبهة تكدره ، وذلك القلب إذا سلم من الشهوات والشبهات لا بد أن تظهر له ثمار تدل عليه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ). (2)
اتجاهات أهل الباطل
ولذا كانت صولة الباطل تتجه في اتجاهين :
الاتجاه الأول : إضعاف ذلك العلم الذي تمده الفطرة الحقة التي جعلها الله في عباده .
الاتجاه الثاني : وهو إفساد العمل المبني على تلك الإرادة السليمة الصحيحة التي استودعها الله قلوب عباده وأمدها بالحق الذي نعمت به وارتفعت به .
أهمية معرفة طرق أهل الباطل
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه 132 وأبوداود 5111 من حديث أبي هريرة ، أنظر زاد المعاد 2/461 تعليق الأرناؤوط طبع مؤسسة الرسالة ومكتبة المنار الإسلامية.
(2) رواه البخاري ك 2 ب 39(117/3)
ولئن كانت صولة الباطل في هذين الاتجاهين ، فإن تلك الصولة ظاهرية ليست بقوية ، لكن صولة الباطل قديماً كانت غير منظمة تحصل كيف ما كانت وينبعث الباطل من قلب المبطل فيسعى لنشره كيفما كان ، أما في زماننا هذا فإن الباطل صارت له أكاديميات علمية تدرسه وتسعى في نشره وترصد له الأموال وتعد له الرجال وتضع له المناهج وتخطط له الخطط وتؤصل له الأصول ، ومن خلال هذا التخطيط يظهر أن صولة الباطل في هذا الزمان أعظم من صولته في غيره ، ومن هنا تأتي أهمية معرفة طرق أهل الباطل في نشر باطلهم ، والباطل لا ينتشر إلا إذا أضعف سلطان الحق من جهة وأعد للباطل من جهة أخرى ، ويعتبر هذان الأمران سببان رئيسيان في نشر الخرافة .
فأما ضعف الحق والصد عنه فذاك أصل لا يدخل فيما نتكلم فيه وإنما الذي يهمنا في هذا المقام أن نتكلم عن طرق أهل الباطل في نشر الخرافة .
طرق أهل الباطل في نشر الخرافة
هذا وأساليبهم تنوعت وتكاثرت ولكننا نتعرض إلى ما يمكن التعرض له من أساليب الباطل التي تعتبر قديمة وحديثة .
اتباع المتشابه : فإن المبطل من أجل أن يؤثر على عقائد الناس ويفسدها يتبع ما تشابه عليه .
ما معنى المتشابه ؟(117/4)
المتشابه : هو ذلك الباطل الذي أشبه الحق لدقة الفرق بينه وبين الحق بحيث يشكل على بعض الناس ، ولقد اعتنى السلف الصالح رحمهم الله بقضية المتشابه وحرصوا على إظهارها وإبانتها وإيضاحها ، فما زالوا منذ أن أظهر أهل الباطل باطلهم وهم يعدون الخطب ويؤلفون الكتب في بيان ما اشتبه على أهل الباطل أو ما شبهوه على غيرهم من الناس ، وربنا سبحانه وتعالى وصف أهل الباطل بأن ذلك حالهم وهذا شأنهم أنهم يتجهون إلى الأمور التي تشتبه على الناس بحيث لا يعرفون ما فيها حقاً أو باطلاً لدقة ذلك الفرق بين ذلك الحق وذلك الباطل كما قال جل وعلا : (( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله )) (1) . إذاً المقصود الأساسي من اتباع الأمور المتشابهة هي حصول الفتنة في باب العلم وحصول الفتنة في باب العمل.
في باب العلم في أن تكون مفاهيم المسلمين حول دينهم مغلوطة . وفي باب العمل لتكون أعمال المسلمين أعمالاً غير موافقة للشريعة ولذا فهم يأتون ببعض الآيات القرآنية أو ببعض الأحاديث النبوية ثم يظهرونها للناس وتكون هذه الأحاديث ليست واضحة المعنى ولا ظاهرة المراد فيأتون وهم يعلمون أن هذه النصوص من الكتاب والسنة دالة على الحق
قطعاً لكن نظراً لأن هناك اشتباهاً فيها من جهة المعنى لاحتمالها ما يريدونه فيبرزونها على أساس أنها تدل على المعنى الذي يريدون من الباطل ، قصداً لأن يقولوا للمسلمين : إن هذا الذي تدعون باطل ، وما هو بباطل وبالتالي يؤثرون على ضعفاء العقول من المسلمين فيتبعون ما هم عليه من الباطل .
__________
(1) آل عمران آية 7(117/5)
وهذا الطريق من أعظم طرق الباطل وأخطرها ولذا نجد كثيراً من المستشرقين ومن أعداء الإسلام من الشرق والغرب يسعون في إدراج هذه الشبه وإظهارها للناس ، ويدلكم على خطر التعرض للمتشابه ما صنعه الإمام أحمد رحمه الله تعالى مع الحارث المحاسبي ـ والحارث المحاسبي عالم من علماء الأمة ـ لكن كانت طريقته أنه يأتي بتلك المتشابهات أو تلك الشبه التي يلقيها أهل الباطل فيعرضها في المجالس العامة بين الناس ويأخذ في الرد عليها ، ففعل هذا الرجل مع أنه طيب وخير وكان قصده حسناً في الدين إلا أن الإمام أحمد أنكر عليه فعله هذا، لماذا أنكر هذا الفعل عليه ؟ ، لأن حكاية الشبهات في المجتمعات العامة لها أضرار ، ومن أعظم أضرارها أن يكون عرض الشبهة قوياً حسناً جميلاً ويكون الجواب عليها ضعيفاً متهافتاً أو غير مفهوم ، وقد برد عليها برد قوي في بعض الأحيان لكن الموجودين بين يدي ذلك الرجل العالم ليسوا على المستوى الذي يستطيعون به أن يفهموا معنى تلك الردود ، والذي يحصل أن الشبهة تستقر في النفوس وهذه الردود لا تنفع وتذهب فيكون هذا الرجل قد ساعد أهل الباطل في نشر تلك الشبهات بين المسلمين ، ومعتمد الشبهات في الأصل هو على المتشابه نفسه ، ومن الأمثلة على هذا شبهة بعض الناس في قطع اليد عندما قال بعضهم لو أن إنسان قطع يد إنسان خطأً قلنا ادفع نصف الدية ، فإذا كانت الدية مائة ألف نقول ادفع خمسين ألف ، لكنها عندما تسرق نقطعها في ربع دينار ، فجاء بعض أهل الباطل فقال ما لليد التي قيمتها كذا وكذا تقطعونها في ربع دينار ، لماذا لا تقطعونها في خمسين ألف ، فهذه شبهة تورد من أجل إبطال حد السرقة . فرد عليهم بعض العلماء فقالوا إن هذه اليد لما كانت عزيزة كريمة كانت غالية لكن لما صارت دنيئة صارت لا قيمة لها فلذلك لو قطعت بسبب وقوع جرم عليها قلنا ادفع نصف دية ولو سرقت هانت فصارت لا تساوي أكثر من ربع دينار . فالحق في الأولى أعلاها والباطل(117/6)
في الثانية أدناها وأرخصها ، فتجد أهل الباطل يقبلون مثل هذه الشبهات قصداً لصرف المسلمين عن دينهم ولتشكيكهم فيما هم عليه من الحق المنزل من عند الله .
أيضاً من طرق أهل الباطل نشر الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس . والمقصود بالأحاديث الموضوعة هي الأحاديث المكذوبة على الرسول عليه الصلاة والسلام ، ينشرونها بين الناس لأنها تحمل معاني باطلة فاسدة . وهم يعرفون أن المسلمين يحبون سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويحبون التعرف عليها فيضعون بعض الأحاديث وينسبونها للرسول صلى الله عليه وسلم فإذا سمعها عوام المسلمين قالوا هذا قاله الرسول إذاً هذا حق وهو في الحقيقة والواقع أمر مكذوب على الرسول صلى الله عليه وسلم لا أصل له وهم لا يكذبون على الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، بل يوردون بعض الأكاذيب على علماء المسلمين الذين هم قدوة للأمة من أجل أن ينشروا ذلك الباطل فينسبون بعض الباطل إلى بعض علماء الأمة المقتدى بهم من أجل أن ينتشر الباطل ويظهر بين الناس .(117/7)
أيضاً من طرق أهل الباطل في نشر باطلهم الرؤى والأحلام يأتي الرجل ثم يقول أما رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم البارحة مثلاً وهو يقول لكم افعلوا كذا وكذا مما هو باطل ، فإن أراد أن يوقعك في الشرك قال : قال : الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نذبح لغير الله ، وقص له قصة من القصص . وأظن أنه لا يخفى عليكم شيء من هذا لأنه في هذه الأزمان خاصة وفي أيام الحج تقريباً يفاجئ المسلمون بأوراق كثيرة كلها رؤى مثل فلانة مريضة ورأت الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لها افعلي كذا وافعلي كذا واعملي كذا ويقول لي اكتبيها أربعين مرة والذي لا يكتبها يصيبه من الأذى كذا ويصيبه من المرض كذا أو يحصل له كذا وكذا ، هذه طريقة من طرق أهل الباطل (وأعظم فتنة قريبة صارت عندنا هنا في المملكة هي بسبب الرؤيا ) ففتنة الحرم المشهورة التي سمعتم عنها كانت بسبب رؤيا رأها خمسون رجل وشيطان جاءهم في النوم وقال يا فلان أنت المهدي ويا فلان ذاك المهدي وفلان هو المهدي ، فاقتنعوا بالفكرة بمجرد رؤيا من أن الرؤيا لو أن الرسول أمرنا حتى بفتوى في الرؤيا لما كان لها حكم شرعي عندنا فالحكم الشرعي في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والرؤيا لوحدها ليست تشريعاً فلم أن عالماً من العلماء سأله سائل وقال أراجع المسألة ونام ثم رأى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال يا فلان جواب المسألة الفلانية كذا حلال أو حرام ، فهل يفتي بها ؟ لا يجوز أن يفتي بها ولا عبرة للرؤيا في باب الحلال والحرام والرؤيا لا علاقة لها بما يتعلق بديانات الناس وعقائدهم لأن العبرة بما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم (1) . إذ الترويج للرؤى هو أيضاً طريق من طرق أهل الباطل لنشر الخرافة
__________
(1) وإن كانت الرؤيا الصالحة من المبشرات لكن لا يعتمد عليها في باب الحلال والحرام والاعتقادات قال تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) سورة الحشر آية 7 .(117/8)
بين الناس سواء كان في باب العلميات ـ العقائد ـ أو كان ذلك في باب العمليات ـ الحلال والحرام ـ ففي العمل يقول لك صل كذا ركعة أو اعمل كذا واكتب هذه أربعين مرة أو خمسين مرة يحصل لك من الأجر كذا ، افعل في الشهر الفلاني كذا ، وما زلنا كل سنة تقريباً تأتينا رؤى خاصة ومكتوبة في أوراق وتوزع بين الناس . مرة رجل رأى الرسول عليه الصلاة والسلام ، ومرة أخرى فلانة هي مريضة ورأت زينب زوج الرسول وقالت لها كذا وكذا وافعلي كذا وكذا ، ومرة رأيت الرسول وقال لي اقرأ هذه الأسماء واقرأ هذه الآية ألف مرة وهذه الآية عشرين مرة ، فالناس بحسن نية وبطيب طوية إذا جاءهم هذا الأمر يتلقونه بالقبول . ويقولون والله هذا قرآن أمرنا بكتابة القرآن أربعين مرة ما يضر . ولكنه لا يدري أن هذا هو بريد البدع ، هذا هو بريد الباطل ، هذا الطريق لتغيير الدين . تبدأ بأشياء وتتساهل فيها ثم وإذا بنا يأتي علينا يوم من الأيام فنجد وجه الدين قد تغير ما هو الإسلام الذي أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ، نجد مجموعة من الخرافات ومجموعة من الشعائر لا تمت لدين الله بشيء . إذاً الرؤيا هي أيضاً طريق من طرق أهل الباطل في نشر الخرافة بين الناس .(117/9)
أيضاً من طرق الباطل حب آل البيت ، لا يشك مسلم من المسلمين أن لآل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم مقاماً عظيماً في قلوب المسلمين . فنحن نحب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ومن عقيدة أهل السنة والجماعة حب آل البيت لا الغلو فيهم فنحن لا نحب آل البيت من أجل أنهم يعطوننا مال ، لا ، نحن نحبهم لقربهم من الرسول صلى الله عليه وسلم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بحبهم لكن مقامهم نابع من وصية الرسول صلى الله عليه وسلم ونابع من جهة أخرى من تمسكهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلو لم يتمسكوا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا قيمة لهم فهذا عم الرسول أبو لهب نزلت فيه سورة قال تعالى : (( تبت يدا أبي لهب وتب))(1) وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا أبو طالب نزلت في خاله قول الله سبحانه وتعالى : (( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين )) (2) نزلت في أبي طالب وهو عم الرسول صلى الله عليه وسلم إذ مقام بيت الرسول صلى الله عليه وسلم نابع من وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بهم متمسكين بما جاء به من الشرع فإن قيمتهم تنزل فلا تكون لهم قيمة في هذه الحالة بل القيمة بتمسكهم بالكتاب والسنة ، فيأت واحد من الناس فيستغل هذه العاطفة عند المسلمين وهي كونهم يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم وبالتالي يحبون أهل بيته ويدخل عليهم من هذا الباب ويهيج عواطفهم ويأتي بالقصص الكاذب ويهان آل البيت من أجل أن يسب الصحابة والعكس صحيح فيسب الصحابة من أجل إكرام آل البيت فيضربون المسألتين بحجر واحد ، وما هي النتيجة بعد ذلك؟ النتيجة تخرج عقائد الرافضة ، تخرج عقائد الإسماعيلية ، تخرج عقائد النصيرية . كل هذا مبني في الأساس على الدعوة إلى حب آل البيت والدعوة إلى تعظيم آل البيت ، ثم في الأخير نشأت عقائد مبنية على ذلك وعندئذ يستغل أهل الباطل هذه الناحية في
__________
(1) سورة المسد آية 1
(2) سورة التوبة 113(117/10)
نشر باطلهم .
هذا والناس دوماً من المسلمين وهم يرون الباطل ينتشر والمنكرات تنتشر يتطلعون إلى يوم الخلاص من المنكر ، يتطلعون إلى أن يكون الناس كأنهم في زمن الصحابة رضوان الله عليهم في نقائهم وفي صفائهم وفي استقامتهم فيأتي من يستغل هذا الجانب من العاطفة فيقول إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد جعل لنا منقذاً للبشرية في آخر الزمان وهو مجدد لهذه الأمة دينها وهو يحكم بما حكم الرسول صلى الله عليه وسلم ويقوم بما قام به ما هو اسمه؟ اسمه المهدي ، فيأتي إنسان ويتقمص هذه الشخصية ومن هنا وجد ما يسمى بالمهدوية من قديم الزمان وخرج في حياة المسلمين في أماكن متعددة من ادعى أنه المهدي المنتظر فارتبطت به قلوب بعض العامة رغبة منهم في تجديد أمر الدين والقيام به بلا بصيرة ولا برهان . وكان نتيجة هذا أنه ابتدع لهم بعض العقائد وبعض الأفكار وبعض الأعمال وخرجوا عن اجماع عموم المسلمين وعن عقائد عموم أهل السنة والجماعة . هذه أيضاً طريقة من طرق أهل الباطل تعتبر قديمة وحديثة ، ولم يزل في كثير من أصقاع العالم الإسلامي من يخرج بمثل هذه الشخصية من أجل أن يربط قلوب المسلمين به ويتوصل عن هذا الطريق الباطل ، ونحن هنا لسنا في معرض تقرير أن المهدي لابد أن يكون لكن المقصود أن هذه الفكرة أيضاً استغلها أهل الباطل في نشر الخرافة بين الناس .(117/11)
أيضاً من طرق نشر أهل الباطل لباطلهم الاستدلال بالكثرة الضالة على تبرير الباطل وإعطائه الأرضية الخصبة أو الأحقية في الوجود وهذا ما يسمى في هذا الزمن في الصحافة بتحصيل الرأي العام , يقوم إنسان على الدعوة إلى مبادئ يحصل فيها الرأي العام للناس بحيث إذا حصل الرأي العام للناس تكون له كلمة فيكون ما هو عليه من الباطل معترفا ً به في البلد الذي يكون فيه وله من خلاله حق الكلام وحق الدعوة وحق كذا وكذا ، هذا أيضاً جانب من الجوانب وربنا سبحانه وتعالى يقول : (( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين )) (1) ، (( وقليل من عبادي الشكور ))(2) فإن الكثير من الناس في الغالب يكونون وراء النواعق ، وراء هذه الأشياء ، وراء هذه الأفكار فتجد مثلاً من يهيء النفوس لما يسمى بالديموقراطية ويحاول أن يحصل لها رأياً عاماً عند الناس ، والناس وهو لا يفهمون معنى الديموقراطية يظنون أن معنى الديموقراطية العدالة لا أكثر ولا أقل ، هذا رأي يفهمونه لكنهم ما علموا أن معنى الديموقراطية أن حكم الله يزال من الأرض ويحكم الناس أنفسهم بأنفسهم هذا معنى الديموقراطية ، معنى الديموقراطية أن تحكم الشعب بالشعب لا بدين الله ولا بشرع الله بل أهواء الناس هي المحكمة . لكن الناس عندما يسمعون كلمة الديموقراطية يظنون أنها العدالة ، يظنون أنها المساواة وحرية في إبداء الرأي ، لا ليس هذا هو المقصود في كلمة يبهرجون بها على الناس ولكن حقيقتها الكفر والإلحاد ، يحاولون يهيئون لها رأياً عاماً ، أرضية عامة حتى تنتشر بين الناس أكثر ، يزينونها بينهم فعندئذ يقولون للناس أن هذا هو الحق ولولا أنه الحق لما كان أكثر الناس عليه فيحاولون أن يقنعوا الناس بأن الأكثرية هي دليل الحق. لكننا نقول أن الحق دليله كتاب اله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد أشار الرسول عليه الصلاة والسلام إلى هذا الجانب بقوله ( عليكم بسنتي وسنة
__________
(1) سورة يوسف آية 103
(2) سورة سبأ آية 13(117/12)
الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليه بالنواجذ )(1) فأمرنا أن نتمسك بها لأنه من المتصور أن يأتي رجل ما يدعو الناس لما عليه الناس ولو كان باطلاً ، يقول الباطل ما دام الناس عليه إذا هو أحق بالبقاء وهذه دعوة موجودة الآن يدعو إليها كثير من الناس يقولون مادام الشيء شائع بين الناس فهذا هو الحق ، ونتيجة لارتباط هذه الناحية في نفوس كثير من المسلمين تجدهم يحاربون أهل الخير والفضل إذ رأوهم على سنة من سنن الرسول عليه الصلاة والسلام استنكروا عليهم ، لماذا يستنكرونها ؟ لأن الناس لا يعلمون بها ، فإذا رأوا إنساناً شاباً وضع ثوبه إلى نصف الساق أو قصر ثوبه اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم أقاموا الدنيا وأقعدوها مع وجود من يترك الصلاة فيهم ويقول هذه ناحية شخصية ، سبحان الله ، ترك الصلاة ناحية شخصية وهذا يقصر ثوبه ما أضر بأحد تقولون هذا ليس ناحية شخصية ما لك حق تقصر ثوبك ، يا أخي هو ثوبه وليس ثوبك ، هل اشتراه من جيبك ؟ وهذه الناحية ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب (2) رحمه الله في خصال أهل الجاهلية أن حكمهم وأحكامهم دوماً تبعاً للأكثرية لا تبعاً لما يدل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وليس المقصود أن الأكثرية 100 % تكون على الباطل بل تكون الأكثرية في بعض الأحيان على الحق ، فزمن الرسول صلى الله عليه وسلم الأكثرية كانت على الحق وجماعة المسلمين في العموم هي على الحق من حيث الجملة ولذا أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة ( عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ) (3)
__________
(1) 1 رواه أبو داود وقال هذا حديث حسن صحيح وقد صححه الضياء المقدسي ، نقله الشيخ الألباني في تخريجه لمشكاة المصابيح 1/58 ، انظر تخريجه بتوسع الابانة عن شريعة الفرقة الناجية 1/1305 دار الراية للنشر .
(2) 2 انظر مجموعة التوحيد ص 45 المسألة الخامسة طبعة المكتب الإسلامي
(3) 3 رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنية حديث رقم 81 وهو صحيح بشواهده كما قال الشيخ الألباني .(117/13)
وجماعة المسلمين هذه أو أهل السنة والجماعة لها أصولها ومبررات وجودها ومن أعظم المبررات التمسك بالكتاب والسنة وللإنسان من النسبة إليهم بقدر تمسكه بكتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لكن يمكن أن ينتسب بعض الناس إلى أهل السنة والجماعة أو لجماعة المسلمين ولكن فيه شيء من الباطل وفيه شيء من البدع هذا متصور وموجود واقعياً أيضاً .
ومن طرق أهل الباطل في نشر الخرافة في باب العلم والعمل الاستدلال بالعادات والتقاليد وإعلاء شأن العادات والتقاليد أو ما يسمونه في زماننا بالتراث الشعبي وفي بعض الأحيان يسمونه التراث القومي ، والتراث الشعبي هو الأمر الموروث عن الآباء وعن الأجداد حق أو باطل ليس مهماً مع أن الأشياء في دين الله سبحانه وتعالى لا تعظم لأن أبوك فعلها أو لأن جدي فعلها أو لأن قبيلتي فعلتها ، الإسلام لا يعتبر تلك النعرات القبلية وتلك الأمور القومية ، هذه الأمور ليس لها اعتبار عندنا ، الاعتبار بموافقة الكتاب والسنة ، فيأتي أهل الباطل فينشرون هذا الجانب ، ويحيون في الناس عصبية لجانب من الجوانب القومية للعشيرة أو للقبيلة أو لبني القوم للجنسية لجنس من الأجناس ، الجنس الأبيض أو الجنس القوقازي وبشكل من أشكال القومية ويجعلون ذلك دليلاً على الحق يبرزون هذه الجوانب في الناس ، فالناس ينسون في هذه الحالة الحق ويبدؤون يربطون أنفسهم بدين جديد اسمه تراث ، اسمه قومية ، اسمه نعرة قبلية ، لكنهم لا يطلقون عليه نعرة قبلية لأن الناس يخافون إذا أطلقوا عليها النعرة القبلية ، هم يطلقون عليه تراث شعبي يعتبرونه من الأمور العزيزة على النفوس ، علقوا لكم سيوف تراث شعبي ثم يؤتى بالقرآن ويعتبر تراثاً شعبياً. لماذا القرآن تراث شعبي ؟ نعم تراث شعبي هذا مخطوط في زمن آبائنا وأجدادنا فهو تراث شعبي ثم بعد ذلك دينكم من التراث الشعبي، الناس تقدموا وأنتم قاعدين على الذي قعد عليه الأولين اتركوه . انظروا(117/14)
البداية ثم انظروا للنهاية ، الأولى تراث شعبي وشد للأصول الثابتة القديمة ثم يأتي إنسان يعيش في منطقة الآشوريين فيجعل له عصبية آشورية وآخر يعيش قريباَ من الأهرامات فيثير ما يسمى بالقومية الفرعونية وفي كل مكان يجعلون للناس قومية يشدونهم إليها به بهذا الطريق ينسون دين الله وترتبط قلوبهم بهذه الأماكن والأشياء ثم بعد ذلك يبدأ يتغير وجه الدين وتنتشر الخرافات حول هذه الأشياء حول هذه الأشياء وحول ما يسمى بتراث شعبي أو تراث قومي أو ما أشبه ذلك . هذا جانب من الجوانب التي يستعملها أهل الباطل في نشر الخرافة .(117/15)
ومن طرق أهل الباطل في نشر الخرافة الاستدلال بخارق العادة ، هناك أمور من خوارق العادات تخرج في بعض الأحيان فيبدأ أهل الباطل يستغلونها ، يستغلون كرامات الأولياء والأولياء لهم كرامات وأهل السنة يعترفون بكرامات الأولياء . فيأتي رجل من أهل الباطل ويظهر بعض الألعاب السحرية ويتخشع بين الناس ويجعل فناجين القهوة دجاج تمشي عند الناس فيقول الناس هذا الرجل صالح من كرامته أن فناجين القهوة صارت تمشي وصارت دجاجاً ، سبحان الله شيء عجيب ، هذا رجل صالح فيلفتون نظر الناس إلى الخارق للعادة ويبدؤون يدخلون من هذه الجهة وينشرون الخرافة و الإعتقادات الفاسدة بين عموم المسلمين في العلم والعمل. أيضاً يبدأ هذا الرجل يتجمع حوله الناس ثم بعد ذلك يبدأ يأمرهم وينهاهم ثم تنشأ ما يسمى بالطريقة ، تطلع طريقة تيجانية وتطلع طرقة دسوقية وتطلع شاذلية ، كل ذلك ارتباط بالخارق للعادة . يأتيك الواحد من هؤلاء أمام الناس فيأخذ التراب فيأكله ويدعي أنه تحول في فمه إلى سكر وهو في ذلك كاذب إذ هو خلاف سنة الله الكونية فيقولون هذا رجل صالح أين هم من قوله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم )) (1) الله أمر بأكل التراب حتى يصبح سكراً ، هذا أمر أخبرني به رجل قال : عندنا أوناس أولياء صالحين يهومون على وجوههم يأكلون الحنضل وهو في فمهم سكر قلت : أنت ذقت الحنضل في يوم من الأيام فصار سكراً قال : لا .. إذاً ما دراك أنه في فمه سكر . إذاً يستعملون جانب خوارق العادات وهو شكل من أشكال السحر ولذلك ففي زمن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان هذا من الأمور السائدة وما زال موجوداً في هذا القرن والناس يؤمنون بمثل هذه الخرافات أعظم مما يؤمنون بها في ذلك الوقت ، جاء رجل وقال : أنا أدخل في النار ولا أحترق ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : لا بأس تريد أن تدخل قال : نعم ، قال : هاتوا الماء ، وبعدها نغسله
__________
(1) 4 سورة البقرة آية 172(117/16)
ادخل ، قال : لا أدخل إلا وأنا على حالي . فانكشف الرجل وكان من شيوخ الطريقة الصوفية البطائحية ( الأحمدية ) . هذا الرجل ظاهرة الصلاح بين الناس وهو كذاب دجال يظهر بين الناس بعض خوارق العادات التي يفعلها من أجل أن يلفت نظر الناس فيقولون هذا الرجل صالح وتخرج عليه بعض علامات الصالحين وهو الخارق عن العادة ثم بعد ذلك يبدأ ينشأ له طريقة ويقول للناس افعلوا الذكر الفلاني صلوا الصلاة الفلانية فتنتشر الخرافة بين الناس عن طريق خروج الخارق . وبمناسبة هذا فإن الخارق للعادة ليس م خصائص الصالحين بل أن الدجال الأكبر الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المسيح الدجال تخرج على يديه أمور خارقة للعادة يأمر السماء فتمطر ويأمر الأرض فتنبت ويأمر الأرض فتتبعه خزائن الأرض كلها ومع ذلك اسمه المسيح الدجال والرسول عليه الصلاة والسلام كان يبن صفاته لأمته ويقول لهم إن خرج في عهدي فأنا أكفيكم إياه وإن خرج من بعدي فهذه صفاته ، وكان يحرص على تعليمهم . ومن الغريب أن ذكر صفات الدجال بدأ يغرب عن كثير من الناس وهذه ارهاصات بين يدي خروجه ، كثرة الخرافات بين الناس ، نسيان ذكر صفاته بين الناس ، هذه من الارهاصات الدالة على قرب خروجه ، وأولى الناس بإتباع مثل هذا الرجل هؤلاء الناس الذين تنطلي عليهم مثل هذه الأمور .
أيضاً من أسباب نشر الخرافة بين الناس تسميتها ببعض الأسماء التي تحببها بين الناس . كأن يسمى الطواف عند القبور حب الصالحين ، ويسمى دعاء غير الله سبحانه وتعالى معرفة بقدر أهل الفضل ، ويسمى ما يخالف الإسلام تقدما وما إلى ذلك , لأنهم إذا حسنوا الباطل للناس وذكروا له من الأسماء ما يجمله ويحسنه كان ذلك مما يجعل الناس يتبعون الباطل ويأخذونه عل علاته غير باحثين عن مفاسده وأضراره وغير عارفين ببطلانه .(117/17)
ومن أعظم الأمور وهو منتشر بين الناس السحر ، والسحر من أعظم الأمور التي تروج للخرافة وتظهرها ولا يلزم الساحر أن يقول أنا ساحر لأنه في مجتمع المسلمين لو قال أنا ساحر لقتلوه (حد الساحر ضربة بالسيف ) لكن هو لا يقول أنا ساحر بل يعمل السحر ويفعله بدافع الخدمة أنا أخدمكم لله وإذا ما وجد شيء من الأثر سيحل السحر قال : ائتوني بالذي فيه سحر اشفيه من السحر فنجد الناس طابر على باب الساحر وهو يزيل السحر بسحر مثله بالشرك بالله بالإتصال بشياطين الجن وما إلى ذلك وقد صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من أتى كاهناً أو ساحراً ( في رواية أو عرافاً ) فصدقه فيما يقول فقد برأت منه ذمة محمد صلى الله عليه وسلم وفي رواية : فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم )(1) .
__________
(1) 5 رواه أبو داود والحاكم وقال صحيح على شرطهما ، انظر كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد باب ما جاء في الكهان ونحوهم .(117/18)
الكهانة . وهي دعوى علم الغيب ، يأتي الإنسان عند هذا ما اسمك؟ ما اسم أمك ؟ اسمه فلان . ما اسم أبوك ؟ اسمه فلان ، أنت كذا ويصيبك كذا وكذا يهول الأمور عليه وهذه هي الكهانة بعينها ، والكهانة طريق من طرق أهل الباطل في نشر الخرافة بين الناس . فيقول لهم سيحصل كذا وكذا بطبيعتهم يكرهون المكروه ويحبون الاستعداد له فيستغلون هذه الطبيعة التي في الناس طبيعة توقع المكروه وحصوله وحب التخلص منه فينتشر أمره فيقصده الناس . ما الذي سيحصل غداً ؟ وفي بعض الأحيان ينشرونه في الجرائد وفي الكتاب أنت في أي برج ولدت ؟ في البرج الفلاني . أنت مزاجك يكون سوداوي والثاني مزاحه غضوب وذاك مولود في البرج الفلاني نكد على أهله وهكذا ... ويبدأ الناس يتشاءمون من أولادهم ومن أنفسهم ومن الملبس الأسود فينتشر بذلك نوع من الخرافة والاعتقادات في نفوس الناس. ويدخل في هذا المسمى أيضاً التنجيم وهو دعوى العلم بالنجوم وتأثيرها في كثير من الحوادث الأرضية وكون هناك علاقة بين الحوادث الأرضية وبين الحوادث الفلكية بين موت فلان وخروج المذنب الفلاني ، بين علو العرش الفلاني وبين كذا وكذا فيبدؤون عن طريق هذا التنجيم وعن طريق دعوى العلم بما تدل عليه حركات النجوم ويكذبون على الناس بلوح حسابات صورية ويقول أنا رجل أحسب أنا ما أدعي الغيب ولكن عندي حساب انظر انظر هذه الورقة هنا 5 وهنا 6 وهنا 20 مجرد حساب هذا العلم ، ويصدقه الناس ثم بعد ذلك عن هذا الطريق يبدأ ينشر في الناس أنواعاً من الخرافات وأشكالاً منها .(117/19)
ومنها الطيرة . يستعمل أهل الباطل الطيرة في ترويج الخرافة بين الناس ، والطيرة معناها التشاؤم بالأصوات التشاؤم بالألوان التشاؤم بالأشخاص والدواب ، كل هذا يقال له الطيرة فمن تشاءم بشيء من أصوات الناس أو من ألوانهم أو غير ذلك . فهذا طريق من طرق أهل الباطل في نشر باطلهم ، يقولون هناك شؤم في كذا وكذا حتى ينتشر بين الناس فيبدأ الناس يتشاءمون من رؤية الظلام ومن رؤية النور ومن رؤية الأعور ومن رؤية الأعمى ومن رؤية كذا وكذا وهكذا تنتشر أنواع من الخرافات بسبب الطيرة .
وطرق الباطل كثيرة ليست بمحصورة وما ذكر هنا هو بعض طرق الباطل ، وأرجو أن يكون ما ذكر فيه نفع وفائدة لنا ولكم ، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا وأن يرزقنا علماً نافعاً وأن يوفقنا وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
إعداد
دكتور / إبراهيم بن محمد بن عبد الله البريكان
الفهرس
الموضوع ... ... ... ... ... ... ... ... الصفحة
المقدمة ... ... ... ... ... ... ... ... 3
كيف يرد الباطل على النفوس ... ... ... ... ... 6
تعريف الخرافة ... ... ... ... ... ... ... 7
اتجاهات أهل الباطل ... ... ... ... ... ... 9
أهمية معرفة طرق أهل الباطل ... ... ... ... ... 9
طرق أهل الباطل في نشر الخرافة ... ... ... ... 11
الطريقة الأولى ... ... ... ... ... ... 11
الطريقة الثانية ... ... ... ... ... ... 16
الطريقة الثالثة ... ... ... ... ... ... 17
الطريقة الرابعة ... ... ... ... ... ... 22 ... ...
الطريقة الخامسة ... ... ... ... ... 24 ... ...
الطريقة السادسة ... ... ... ... ... 26
الطريقة السابعة ... ... ... ... ... 32
الطريقة الثامنة ... ... ... ... ... ... 35(117/20)
الطريقة التاسعة ... ... ... ... ... ... 39
الطريقة العاشرة ... ... ... ... ... 40
الطريقة الحادية عشر ... ... ... ... ... 41
الطريقة الثانية عشر ... ... ... ... ... 44
الفهرس ... ... ... ... ... ... ... ... 46
تم بحمد الله(117/21)
طريق الاتحاد
أو
تمحيص روايات النص على الأئمة
كتبه بالفارسية: الأستاذ
حيدر علي قلمداران (القُمِّي)
قدم له و علق عليه
آية الله العظمى العلامة السيد أبو الفضل البرقعي
ترجمه إلى العربية و هذَّبه و علَّق حواشيه
سعد رستم(118/1)
فهرست المحتويات
الملف الأول
العنوان
الملف الثاني
الاهداء
مقدمة المترجم
نبذة عن مؤلف الكتاب
ملاحظة
الملف الثالث
تقديم المرجع آية الله السيد أبو الفضل البرقعي
الملف الثالث
تمهيد
أسباب و بواعث تفرق الأمة الإسلامية
علة الاختلاف الأصلية
بحث عميق في قضية سقيفة بني ساعدة
قصة سقيفة بني ساعدة
موقف بقية أصحاب رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم)
الملف الرابع
كيفية مبايعة أمير المؤمنين علي لأبي بكر
بيعة أمير المؤمنين علي (ع) لأبي بكر كما يرويها ابن قتيبة
ما جاء في هذا الباب في كتب الشيعة
نظرة إلى روايات ارتداد جل أصحاب الرسول (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم)
الملف الخامس
الآيات التي نزلت في مدح أصحاب الرسول (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم)
أي القولين نختار ؟
سِِيَرُ الصحابة أيضا مصدِّقة للآيات و مكذِّبة للروايات
الملف السادس
العقل منكرٌ للنص
إذن ما حقيقة قصة الغدير ؟
هل أُريد بحديث الغدير النص على عليٍّ (ع) بالخلافة ؟
علي إمام المسلمين بحق
الملف السابع
شبهات المخالفين على الأدلة التي ذكرناها و الإجابة عليها:
شبهة آية يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك
شبهة الاستدلال بالآيات التي تتكلم عن المنافقين
الملف الثامن
عودة لكتاب الاحتجاج و نقد رواياته
قول محققي العلماء في سليم بن قيس الهلالي و كتابه
الملف التاسع
خلاصة ما سبق
تمحيص سند خطبة الغدير الطويلة
الملف العاشر
ادعاء النص لم يرد في كلمات أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ذريته
الملف الحادي عشر
دراسة و تمحيص أحاديث النص على اثني عشر إمام
الحديث الأول
الحديث الثاني
الحديث الثالث
الملف الثاني عشر
الحديث الرابع
الحديث الخامس
الحديث السادس
الحديث السابع
الملف الثالث عشر
الحديث الثامن
الحديث التاسع
الحديث العاشر
الملف الرابع عشر
سِيَرُ الأئمة بحد ذاتها تكذِّب وجود أحاديث النص(119/1)
ثورات السادة العلويين دليل آخر على عدم وجود النص
الملف الخامس عشر
عدم إعلان الأئمة الاثني عشر للنص يكذب وجود أحاديث النص
أصحاب الأئمة المقربين لم يكن لهم علم بمثل هذه النصوص!
الأئمة أنفسهم لم يكن لهم علم بأحاديث النص!
الملف السادس عشر
افتراق الشيعة إلى فرق مختلفة عقب وفاة كل إمام يبين كذب واختلاق أحاديث النص
فرق الشيعة بعد استشهاد الإمام علي عليه السلام
فرق الشيعة بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام
الملف السابع عشر
فرق الشيعة بعد وفاة الإمام السجاد عليه السلام
فرق الشيعة بعد وفاة الإمام محمد الباقر عليه السلام
فرق الشيعة بعد وفاة الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام
فرق الشيعة بعد وفاة الإمام موسى الكاظم عليه السلام
فرق الشيعة بعد وفاة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
فرق الشيعة بعد وفاة الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام
فرق الشيعة بعد وفاة الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
فرق الشيعة بعد وفاة الإمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام
تعقيب و تلخيص و حسن الختام
الملف الثامن عشر
قائمة المراجع(119/2)
( الاهداء
( مقدمة المترجم
( نبذة عن مؤلف الكتاب
( ملاحظة
الإهداء
إلى أرواح سادتي و موالي الأئمة الهداة من عترة المصطفى و آل خير الأنام أئمة الهدى ومصابيح الدجى و أعلام التقى و ورثة الأنبياء عليهم السلام.
إلى أرواح سادتي و قدوتي صحابة خاتم المرسلين المجاهدين الأبرار و المنتجبين الأخيار خير الخلائق بعد النبيين رضوان الله عليهم أجمعين.
إلى كل ساع و طامح للتقارب و التآلف و التوحيد بين المسلمين.
و أخيرا أهدي هذا الكتاب إلى زوجتي المحمدية النسب و العلوية الحسب معدن الطهر و النقاء و مثال الصبر و المحبة و الوفاء التي بنشاطها الدؤوب وفرت لي الوقت و الجو المناسبين لإنجاز هذا العمل.
المترجم
مقدمة المترجم
... بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله و كفى، و سلام على عباده الذين اصطفى، و بعد،(120/1)
... فمما لا شك فيه أن كل مؤمن مهتم بأمور المسلمين، يحزنه انقسام الأمة الإسلامية إلى فرق و مذاهب و طوائف مختلفة و أحيانا متنازعة قد يصل الأمر لحد أن يكفِّر بعضها البعض الآخر، و يتمنى أن يوجد سبيل لإنهاء هذه الخصومات المذهبية أو الحد منها، و ذلك عبر نشوء تفهُّم متبادل بين علماء طوائف المسلمين، يتعرف به كل منهم على حقيقة مذهب الآخر، و يتفقون من خلاله على الأصول الأساسية للإسلام، مستقاةً من كتاب الله و سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يعذر بعضهم البعض الآخر في الاجتهادات الفرعية، و في رؤاهم لحوادث التاريخ الإسلامي، و غير ذلك من الأمور التي لا تمت لجوهر الدين بصلة، و يكون نتيجة ذلك اعتراف كل فريق بإيمان و إسلام و نجاة الفريق الآخر و الكف نهائيا عن تلقين الأتباع بكفر المخالفين أو هلاكهم في النار، و بذلك تتوحد صفوف الأمة و تتآلف قلوب أبنائها تآلفا حقيقيا لا مصلحيا ظاهريا، و هو أمر يحتاجه المسلمون أكثر من أي وقت مضى في هذا الوقت الذي يواجه فيه المسلمون أعتى التحديات و أشرس العداوة و الحروب من أعداء الإسلام و خصومه المعروفين في الشرق والغرب.(120/2)
... و لقد شعر بهذه الحاجة للتقريب الصحيح بين مذاهب الأمة الإسلامية الكبرى ـ باعتبار أنها نابعة جميعا في الأصل من الإسلام الحنيف تتحرك فيه و تتمسك بأصوله و أن انقسامها لم يكن في الواقع إلا نتيجة لاختلافات أو صراعات سياسية قديمة أكل عليها الدهر و شرب ـ رجالٌ عقلاء من أهل العلم و الفضل و أهل الخير و الحرص على الإسلام و المسلمين، فأدركوا ضرورة بذل الجهود لرأب الصدع و إزالة سوء التفاهم الناجم عن جهل أبناء الطوائف الإسلامية ببعضهم البعض، فقاموا بجهود طيبة في هذا المجال، تجَلَّت بتأليف الرسائل و الكتب و نشر المقالات حول ضرورة الوحدة الإسلامية، كما تجلت في دار التقريب التي نشأت في القاهرة ـ و التي لم تستمر لأسباب سياسية محضة ـ و ما كان يصدر عنها من مجلات و مقالات ممتازة يكتبها علماء الفريقين و تلك الموسوعة الفقهية التي جمعت بين دفتيها آراء المذاهب الفقهية الإسلامية الثمانية، و لا زالت تصدر، ثم تجلت بمراسلات و لقاءات بين بعض علماء الفريقين السنة و الشيعة في العراق و سوريا و لبنان، و في تجمع علماء المسلمين في لبنان، و في دار التقريب التي أنشئت مؤخرا في إيران و في لبنان و في نداوت التقريب بين المذاهب الإسلامية التي تتم في بعض الدول العربية و الإسلامية سواء في آسيا أو شمال أفريقيا، و في غير ذلك من الجهود الطيبة المشكورة.(120/3)
... و هذا الكتاب، أخي المسلم، خطوة طيبة في هذا المجال، من أستاذ فاضل عصامي منصف، من إيران، رأى أن من الأسباب الرئيسية لتباعد و افتراق أبناء مذهبه عن سائر المسلمين، عقيدة الإمامة: التي ترى أن الأئمة الاثني عشر من آل البيت عليهم السلام، منصوبون و معينون من قِبَلِ الله تعالى لإمامة المسلمين، مفترضو الطاعة على العالمين بأمر الله و رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، و بالتالي فالإيمان بهم و معرفتهم أصل من أصول الدين يساوق أصل الإيمان بالله و باليوم الآخر و بنبوة خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، مما يعني بالنتيجة الضرورية، و بدون لف و دوران، أنه لن تكون هناك نجاة أخروية لأي مسلم أو لأي إنسان دون معرفة أولئك الأئمة و الإيمان بعصمتهم و إمامتهم!(1)
__________
(1) مع ذلك ينبغي أن يُذكَر أن عددا من العلماء بل المراجع ( الإمامية ) المعاصرين ، يتملصون من هذه النتيجة اللازمة ، بمخارج كمثل أن الإمامة من أصول المذهب لا من أصول الدين أو بأنه ليس كل حامل لعقيدة كفر بكافر ، أو بأن المخالفين معذورون بالجهل و الاستضعاف و لا يكفر إلا المعاند منهم ، و نحو ذلك من المخارج فيحكمون بإسلام وإمكان نجاة غير الإمامية من المسلمين ، و هذا جهد مشكور منهم لتقريب القلوب و رأب الصدع و إن كان الأولى حل المسألة من جذورها كما فعل المؤلف (رحمه الله) (مت)(120/4)
... فأراد أن يمحص صحة هذه العقيدة و يرى سندها، فتبين له أن مستندها مجموعة من الأحاديث الواهية الموضوعة من قبل الغلاة التي لا تقوم بها أي حجة رغم كثرتها، ثم تبين له أن القرائن الخارجية من آيات القرآن و وقائع التاريخ و سير الأئمة أنفسهم تؤكد عدم صحة تلك الأحاديث و الرويات و بالتالي عدم صحة العقيدة التي انبنت عليها، فضمَّن نتيجة بحثه هذا الكتاب، مبتغيا بذلك إزالة السبب الرئيسي لتباعد الشيعة الإمامية عن سائر المسلمين، و سماه: "شاهراهِ اتحاد": أي طريق الاتحاد الواسع، و لكنه لم يستطع طباعته بشكل رسمي و نشره لحساسية الموضوع البالغة بالنسبة للعلماء التقليديين، بل اكتفى بعض زملائه ومحبيه بأن يطبعوا الكتاب سنة 1978 م. على الآلة الكاتبة اليدوية ثم مرة ثانية على آلة كاتبة إلكترونية I.B.M. ـ (و كلا الطبعتين كانتا مليئتان بالأغلاط المطبعية بالإضافة لعدم التنسيق) ـ و يصوروا منه بضع مئات من النسخ سرعان ما نفدت.
... و قد تعرفت على مؤلف الكتاب (رحمة الله عليه) أثناء إقامتي في إيران، سنة 1980، و زرته عدة مرات في بيته و أهداني عدة من كتبه من جملتها هذا الكتاب، و لما قرأته عزمت على ترجمته لما رأيت فيه من تحقيق فريد و جريء و جديد من نوعه، و بدأت فعلا بترجمته منذ ذلك الزمن و أخبرت المؤلف، فسُرَّ لذلك و شكرني، لكن الظروف و المشاغل الكثيرة فيما بعد، حالت بيني و بين إكمال ترجمته، و استمر الأمر كذلك إلى حين أذن الله، بعد طول زمن، بتوفر فسحة كافية من الفراغ و الهدوء هذا العام، لإكمال ترجمته، و ها هو الكتاب بين يديك أيها القارئ الكريم.(120/5)
... و أداءً للأمانة ينبغي أن أذكِّر في هذه المقدمة بأن مؤلف هذا الكتاب ـ حسبما عرفته شخصيا ـ كان و لم يزل شيعي المذهب، متيَّماً بعشق الأئمة من آل الرسول رضوان الله و سلامه عليهم أجمعين، و له كتاب يحكي فيه خواطره و لواعجه لدى زيارته قبر سيد الشهداء الحسين بن علي - عليه السلام - و ما زرفه من دموع و ما ألقاه من خطبة مؤثرة في الصحن الحسيني، و هو يفتخر بأنه جعفري من مقلدي أئمة العترة و أتباع مذهبهم، و يرى أن مذهب العترة هو، بنص حديث الثقلين، أحق المذاهب و أولاها بالاتباع، فلم يكن هدفه من هذا الكتاب الحط من أصل التشيع أو ترجيح مذهب آخر عليه، و هو و إن لم يكن يرى أن الإمام علي - عليه السلام - منصوص على خلافته السياسية من قبل الله ورسوله، إلا أن الحقيقة أنه كان يعتقد ـ كما هو واضح في كتابه هذا الذي ترجمناه ـ بالنص على إمامته الروحية، و يرى بأنه أفضل الخلق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و أولاهم بخلافته و إمامة المسلمين من بعده، كل ما في الأمر أنه رأى أن القول بالنص عليه و على سائر الأئمة من أولاده، من قِبَل الله تعالى و رسوله - صلى الله عليه وسلم - فكرة غير حقيقية و لا سند علمي لها و لا فائدة من الإصرار عليها إلا إيجاد فجوة لا تُرْدَمُ بين الشيعة وبقية المسلمين، و يبدو أنه في هذه النقطة يلتقي مع قسم من الشيعة الزيدية.(120/6)
... و لذلك أهيب بكل من يطالع هذا الكتاب، سواء اتفق مع مؤلفه أو اختلف، أن يأخذ بعين الاعتبار قصد صاحبه، و أنه رجل مجتهد يحق له أن يبدي وجهة نظره التي انشرح صدره إليها مستندا إلى الأدلة و البراهين التي ساقها، و لمن أراد أن يردَّ عليه فله أيضا كل الحق بذلك، فلا كلام المؤلف و لا كلام غيره سيكون الكلمة النهائية في هذا الموضوع الشائك، و على أي حال فالكتاب بحث عقائدي روائي فقهي محض و ليس له أي غرض سياسي، و في رأيي أن مثل هذه الأبحاث العلمية، من أي طرف كانت، لا يصح اعتبارها مثيرة للفتنة، لأنها لا تتعارض أبدا مع الحفاظ على وحدة المسلمين و تماسكهم، ما دامت قد اعتمدت أسلوب البحث العلمي الرصين بعيدا عن الشتائم و التشنج و المهاترات، و كما يقال: الاختلاف لا يفسد للودِّ قضية.
عملي في الكتاب: ...(120/7)
... أما عملي في هذا الكتاب فلم يقتصر على مجرد الترجمة فحسب، بل قمت بتوثيق اقتباساته، و رجعت لمصادره العربية لأنقل الاقتباسات من أصولها بعين حروفها، و أحيانا لم يتوفر لدي نفس المصدر الذي رجع إليه فوثقت من مصدر مشابه فيه نفس الاقتباس و أحلت إليه، كما أعدت ترتيب بعض فقرات الكتاب التي رأيتها تحتاج لترتيب، و اختصرت قليلا في بعض المواضع القليلة التي رأيت فيها تكرارا أو خروجا عن الموضوع، و وضعت لفصل أو فصلين من الكتاب عناوين توضيحية من عندي أو غيرت عنوان أحد أو اثنين من فقراته لأن العنوان الذي ذكره المؤلف لم يكن واضح الدلالة على ما تحته، فاخترت له عنوانا أوضح، و أحيانا نادرة أضفت مثالا آخر أو وسَّعت الاقتباس حيث رأيت أن اقتباسه كان مختصرا و أن الأولى نقله بتمامه لأن ذلك يوضح أكثر فكرة المؤلف قيد العرض، و رغم أن مثل هذه التصرفات كانت قليلة و خفيفة جدا و في خدمة الكتاب و لم تكن هناك حاجة للإشارة إليها في كل موضع حتى لا تكثر حواشي الكتاب و يصبح مشوشا، إلا أنني مع ذلك حفاظا على أمانة الترجمة أشرت إليها في أغلب المواضع و ربما لم يفتني من ذلك إلا النذر اليسير الذي لا أهمية لذكره.
... كما ترجمت في الحاشية لأغلب الأعلام المذكورين في المتن، و علقت أحيانا تعليقات قليلة من عندي، و طورا أوردت تعليقات كانت مكتوبة بخط اليد في حاشية نسختي من الكتاب، من تدوين اثنين من زملاء المؤلف الذين يشاطرونه أفكاره و هما آية الله أبو الفضل البرقعي (رحمه الله) ـ الذي قدم للكتاب أيضا ـ، و الأستاذ العلامة المجتهد ... ... ... [و رجاني أن لا أذكر اسمه] (حفظه الله)، لذا يجدر بي هنا أن أبين الرموز التي وضعتها للحواشي و ما أعنيه بكل منها:
فالحواشي غير المذيَّلة بأي رمز هي لمؤلف الكتاب نفسه أعني المرحوم قلمداران.
و الحواشي المذيَّلة برمز (مت) هي للمترجم أي راقم هذه السطور.(120/8)
و الحواشي المذيَّلة برمز (برقعي) هي للمرجع المرحوم آية الله السيد أبو الفضل بن الرضا البرقعي، الذي قدم للكتاب .
و الحواشي المذيَّلة برمز (x) هي للأستاذ العلامة المجتهد (طلب عدم ذكر اسمه تفاديا من وقوع أضرار بالغة عليه كالتي وقعت على المؤلِّف و المقدِّم!).
نبذة عن مؤلف الكتاب:
... و قبل اختتام المقدمة لا بد من نبذة مختصرة عن مؤلف هذا الكتاب، فقد ولد المرحوم حيدر علي بن إسماعيل قلمداران في قرية " ديزيجان " من أعمال مدينة قم في إيران سنة 1913 م. من أبوين قرويين فقيرين، و بدأ دراسته بتعلم القرآن الكريم في كتَّاب القرية، و كان شغوفا جدا بتعلم و إتقان الكتابة و القراءة، حتى كان يصنع أقلام الكتابة بنفسه لعجزه عن شرائها لفقره، فسموه بـ " قلمداران "، التي ترجمتها: صاحب القلم! كما كان كثير الشغف بالقراءة و البحث و مطالعة الكتب الإسلامية منذ صغره، و ما لبث ـ و هو لا يزال في ريعان الشباب ـ أن قرض الشعر و أصبح كاتبا في عدد من المجلات التي كانت تصدر في عصره في قم و طهران، و عمل في سلك التدريس في مدارس مدينة قم، و كان يسخِّر قلمه لكتابة المقالات الإسلامية التي يدافع فيها عن تعاليم الدين الحنيف، و يرد على مخالفي الإسلام، و يدعو لإصلاح الأوضاع و إيقاظ همم المسلمين، و قد جمع هذا الاتجاه الديني الإصلاحي بينه و بين مفكري إيران الإسلاميين التجديديين المنوَّرين في عصره لا سيما المرحوم المهندس مهدي بازركان(1) و المرحوم المعلم الشهيد الدكتور علي شريعتي، و لكن الشخص الذي تأثر به المؤلف أكثر من أي شخصية أخرى كان المرجع العراقي المجاهد، و المصلح الكبير آية الله الشيخ محمد مهدي الخالصي (رحمه الله) الذي كان آنذاك منفيا إلى إيران من قبل
__________
(1) تولى لفترة وجيزة رئاسة أول حكومة إسلامية مؤقتة عقب انتصار الثورة الإسلامية و الإطاحة بنظام الشاه الملكي في إيران في شهر فبراير من عام 1979 .(120/9)
السلطات الإنجليزية في العراق، و كان بدءُ تعرُّفِ المرحوم قلمداران على الشيخ الخالصي ( رح ) عبر ترجمته لكتبه التي أعجب بها كثيرا مثل ترجمته لكتاب " الإسلام سبيل السعادة و السلام " و كتاب " إحياء الشريعة " و هو دورة فقهية عقائدية عصرية في المذهب الجعفري في ثلاثة مجلدات، ثم أعقب ذلك مراسلات بينه و بين الشيخ الخالصي، سعى بعدها الأستاذ قلمداران للقاء الشيخ الخالصي و حظي بذلك أكثر من مرة، و لكن المرحوم قلمداران قال لي، و هو يروي قصة تعرفه على الشيخ الخالصي و أفكاره الإصلاحية، أنه وجد الشيخ الخالصي رغم وافر علمه و جرأته في الحق و إصلاحاته العظيمة قد توقف عند حدود الأصول المسلمة لمذهب الإمامية، أما هو فلم يجد داعيا ـ على حد قوله ـ لهذا التهيُّب، بل تجاوز شيخه و مقتداه الخالصي بخطوات للأمام و وصل لنتائج كالقول بعدم وجوب أداء خمس المكاسب و الأرباح، و بأن الأئمة الاثني عشر ليسوا منصوبين أو منصوصا عليهم من قبل الله تعالى و رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بل هم علماء ربانيون و فقهاء مجتهدون، و أفضل أهل عصرهم و أولاهم بالاتباع و التقليد بنص حديث الثقلين و بالنظر لكفاءاتهم الذاتية و علو مقامهم و قربهم من جدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علما و نسبا فحسب، و كذلك قال بأنه لا وجود لإمام غائب مستتر، و لا لرجعة و لا لعصمة مطلقة لأحد إلا عصمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ رسالات ربه، و رأى كذلك، من خلال دراسته لتاريخ زيارة القبور في الإسلام، عدم صحة نصب القباب و إقامة المساجد على أضرحة الصالحين سواء من أئمة آل البيت أو أولادهم و أحفادهم، و خطأ زخرفتها و جعلها معابد لها سدنة و حجاج و طائفين يطوفون بها داعين مستغيثين بأصحابها، و كان يرى ذلك مظهرا من مظاهر الإشراك في العبادة، و أذكر أنه قال لي و هو يشير إلى الضريح الكبير للسيدة فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى الكاظم في قم،(120/10)
و الواقع أمام بيته تماما، أن هذا المزار على الصورة التي آل إليها و ما يفعله العوام عنده صار أشبه شيء بـ "بتخانه" أي معبد أصنام! و قد ألف في هذا المضمار كتاب " راه نجات از شر غلاة " أي: طريق النجاة من شر الغلاة، المؤلَّف من خمسة أجزاء: هي "علم غيب إمام"، "بحث در ولايت وحقيقت آن" (و لم تتيسر طباعتهما )، "بحث در شفاعت" أي بحث حول الشفاعة، "بحث در غلو و غاليان" أي بحث حول الغلو و الغلاة (و طُبِعا مع بعضهما بكتاب واحد)، و "بحث در حقيقت زيارت و تعمير مقابر" أي بحث حول حقيقة زيارة القبور وتشييد الأضرحة ( و لم يطبع أيضا ).
... و مما يجدر ذكره في هذا المقام أن هذا الكتاب الذي قمت بترجمته كان من أواخر ما ألفه الأستاذ المرحوم، و قد خرج في وسط السبعينات (حوالي سنة 1976 أو 1977 م.) و كاد أن يكلفه حياته، فقد حكى لي المؤلف أنه بعد انتشار الكتاب، استدعاه أحد علماء قم البارزين في عصره و يدعى آية الله مرتضى الحائري، فلامه على تأليف هذا الكتاب و نصحه بأن يجمعه من السوق و يحرقه أو يدفنه في التراب و إلا فسيلقى ما لا تحمد عقباه! فما كان من جواب المرحوم قلمداران إلا أن قال: لماذا أجمعه و أحرقه ؟! أثبت لي أين الخطأ فيما قلته و أنا مستعد للتراجع عنه، و لما لم يجد النقاش نافعا قال فاجمعوه أنتم و افعلوا به ما شئتم! و بعد مدة من الزمن، تعرض الأستاذ قلمداران فعلا لمحاولة اغتيال فاشلة، حيث داهم أحدهم، ليلا، بيته الصيفي في قرية ديزيجان، في صيف عام 1979 م. و أطلق عليه الرصاص عن قرب و هو نائم، لكن الرصاصة عبرت جلد رقبته فقط و استقرت في أرض الغرفة، و نجَّاه الله بإذنه رغم قرب المجرم من هدفه!
... هذا و علاوة على الكتب التي أشرنا إليها، أفاد المؤلف مسلمي عصره، الذين كانوا يتطلعون للفكر الإسلامي العصريّ الناهض و المتنوِّر، كتباً قيمةً إسلاميةً و إصلاحيةً أخرى نشير هنا لأهم ما طبع منها:(120/11)
1) " آيين دين يا احكام اسلام " و هو ترجمة للفارسية لكتاب " الإسلام سبيل السعادة و السلام " للعلامة الخالصي (رح) و هو رسالة فقهية عقائدية مختصرة.
2) " أرمغان آسمان " أي: هدية السماء، و هو مجموع مقالاته التي كانت تنتشر في جريدة "وظيفة " في طهران.
3) " أرمغان إلهي " أي: الهدية الإلهية، و هو ترجمة للفارسية لكتاب "الجمعة" للعلامة الخالصي (رح) الذي بين فيه الوجوب العيني لصلاة الجمعة في كل الأعصار خلافا لفتوى القائلين بوجوبها التخييري في عصر الغيبة.
4) " حج يا كنكره عظيم إسلام " أي: الحج أو مؤتمر الإسلام العظيم.
5) " حكومت إسلامي " أي: الحكومة الإسلامية، في مجلدين، و هو من أهم كتب المؤلف، و كان سبَّاقًا لهذا الموضوع في عصره، و قد ذَكَرَ لي أن الشيخ الفقيه المجاهد حسين علي المنتظري كان يقوم بتدريس هذا الكتاب سرا لتلامذته في نجف آباد، و قد أوقع الكتابُ المؤلفَ تحت ملاحقة مخابرات الشاه الإيراني المقبور.
6) " بحثي در باره مسائل واجب بعد از نماز " أي: بحث حول أهم واجب بعد الصلاة أي فريضة الزكاة، أثبت فيه وجوب الزكاة في كل أنواع الأموال و الزروع و الممتلكات و عدم انحصارها في الأجناس التسعة، خلافا للمشهور من مذهب الإمامية.
7) " الخمس " و هو بحث روائي رجالي فقهي ضخم أثبت فيه عدم وجوب أداء خمس أرباح المكاسب، خلافا للمشهور من مذهب الإمامية الأصوليين.
... و توفي الأستاذ قلمداران عام 1989 م. عن عمر ناهز السادسة و السبعين، أفاد فيه المسلمين بدراساته و تحقيقاته القيَّمة فرحمه الله و غفر له و جزاه عن الإسلام و المسلمين خير الجزاء.
... هذا ما أردنا ذكره في هذه المقدمة و الحمد لله أولا و آخرا، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب. ... ... ...
المترجم: سعد رستم ... ... ... ... ... ... ... ... عجمان: ذي الحجة الحرام: 1416 هـ.ق.(120/12)
ملاحظة : بعد أن ترجمت الكتاب من النسخة القديمة التي أشرت إليها، أي النسخة غير المرتبة و المليئة بالأخطاء المطبعية المطبوعة على الآلة الكاتبة اليدوية، و رتبتها و هذبتها و طبعتها على حاسوبي ثم صورت عنها عددا من النسخ وزعتُها على بعض الزملاء و الأصدقاء، تقدمةً لطبعها، و أرسلت من ضمن ذلك نسخة منها لأصدقاء المؤلف في طهران، الذين يشاطرونه أفكاره و ينشرون مؤلفاته، ليعطوني رأيهم فيها؛ أبدوا سُرورهم و اغتباطهم و لِلَّه الحمد من ترجمتي وخدمتي للكتاب توثيقا و تنسيقا و تحشية، إلا أنهم قاموا بإرسال نسخة (فارسية) جديدة لي من الكتاب كانوا قد أخرجوها مؤخرا مصححة و منقحة و محلاة بحواشي و إضافات قيمة جدا لأحد أصدقاء المؤلف من العلماء المجتهدين المحققين، (هو نفسه الذي رجا عدم ذكر اسمه)، و طلبوا مني أن أعدل ترجمتي الأولى على ضوء هذه النسخة الجديدة، فقمت بتعديل ترجمتي الأولى و إدراج أغلب الحواشي والإضافات و الترتيبات الجديدة في هذه الترجمة الجديدة التي هي الآن بين يديك، و إنما قلت أغلب الحواشي و لم أقل كلها لأني رأيت أن بعضها طويل جدا و فيه خروج عن أصل موضوع الكتاب أو فيه توضيح للواضحات أو تكرار لما هو مذكور في نفس متن الكتاب في موضع آخر منه، فتجاوزتها أو اقتصرت على المفيد منها.
... ... ... ... عجمان: 5 / شعبان / 1420 هـ. ق.(120/13)
تقديم سماحة المرجع آية الله العلامة الفقيه السيد أبو الفضل بن الرضا البرقعي القمي رحمه الله
... بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، و صلَّى الله على النبي المكرَّم و آله و أصحابه و أتباعه المؤمنين بكتابه المعظَّم، و بعد،
... لا يخفى أن الشيعة الإمامية درجت على اعتبار الإمامة من أصول الدين، و اعتقدت أن الأئمة الاثني عشر مفترضو الطاعة، منصوص عليهم و منصوبون من قبل الله تعالى و رسوله (صلىالله عليه وآله) للعالمين، واعتبرت منكر ذلك خارجا عن حقيقة الإيمان محروما من السعادة بل مخلدا في نار جهنم، مهما كان المنكر لذلك مسلما مؤمنا بالله تعالى و رسوله قائما بجميع فرائضه الدينية!
... و مستند الشيعة الإمامية في عقيدتهم هذه، ليس إلا الأحاديث و الأخبار التي جاءت في كتبهم و ادعوا تواتر مضمونها تواترا معنويا. و إلا فليس في كتاب الله تعالى ذكرٌ صريحٌ و لا خبر عن إمامة الأئمة الاثني عشر، اللهم إلا بالتأويل و التقدير بالقوة لبعض الآيات، لحملها على مفاد الأخبار الواردة، لكن مثل هذا التأويل، و طبقا لصريح آيات القرآن، لا يجوز أبدا، ذلك لأن الله سبحانه و تعالى جعل القرآن كتابا بيِّناً مفصلاً و نورا مُبِيْنَاً و هدىً للناس، و يسَّره للذكر و اعتبره قابلا للفهم و التدبر، و فرقانا يفرق بين الحق و الباطل، و معنى ذلك كله أن القرآن كتاب واضح بيِّن على المسلمين أن يرجعوا إلى بيانه و يتدبروا معانيه الظاهرة و يفهموه لكي يميزوا به بين الحق و الباطل، فما وافقه من حديث أو خبر قبلوه، و ما خالفه تركوه، فيجب فهم معاني الأخبار على ضوء ما يقوله القرآن، لا أن تحمل آيات القرآن و يلوى عنقها لتنطبق على مفاد الأخبار!(121/1)
... ولذلك، فيجب القيام بدراسة و تمحيص كاملين للأحاديث و الأخبار المتعلقة بالإمامة و النص على الأئمة، إذ كيف يسوغ لأحد أن يقلد في أمر هو من أصول الدين و عليه (كما يُقال) مدار السعادة أو الشقاء الأبديين ؟ و لكننا نتساءل ابتداء: إذا كان القرآن الكريم، رغم كونه تبيانا لكل شيء و رغم ذكره لعديد من فروع المسائل العقائدية و الفقهية، ليس فيه أي ذكر للأئمة و لنصبهم من قبل الله - عز وجل - حكاما على العالمين، فكيف يمكن أن يعذب سبحانه أو يثيب على شيء لم يبينه ؟ و هو القائل - جل جلاله -: { و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } الإسراء/15، و القائل أيضا: { و ما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } التوبة/115 ؟!.
... و لذلك منذ مدة مديدة و أنا أفكر بالقيام بدراسة و بحث شامل حول الأحاديث و الأخبار المتعلقة بموضوع الإمامة و النص على الأئمة، لأقدم نتيجة بحثي للأخوة و الأصدقاء من أهل التحقيق، الطالبين للحق و الباحثين عن الحقيقة، إلا أن صعوبة مثل هذا البحث من جهة، و المشاغل الكثيرة من جهة أخرى، والتعصبات التي ليست في محلها، علاوة على الخوف من هجمات المقلدين، كل ذلك حال بيني و بين ذلك العمل، إلى أن قيض الله تعالى لهذا الأمر الأستاذ الفاضل و المحقق المتتبع حيدر علي قلمداران دامت بركاته، الذي يتمتع حقا بهمة عالية، رغم كونه مجهولا بين كثير من معاصريه، فتجشم عناء هذا البحث، و استطاع، بحمد الله، أن يوفيه حقه، و وضع أمام أنظار القراء، في هذا الكتاب، النتائج القيمة لبحثه و تحقيقه.
... و نحن نهيب بكل من يطالع هذا الكتاب أن يتذكر دائما الهدف العظيم لمؤلفه، ألا و هو إزالة سبب أساسي من أسباب الاختلاف و الشقاق بين المسلمين و إيجاد الوحدة و التفاهم بينهم، لذا سمى كتابه " طريق الاتحاد ".(121/2)
... و ندعو القارئ لهذا الكتاب أن يطالعه بروح مشبعة بالتجرد و الإنصاف و الإخلاص في طلب الحقيقة، بعيدا عن التأثر بأفكار أو أحكام مسبقة، و عن التعصب و العناد، لأن التعصب و العناد يغشيان على البصيرة و يحولان دون رؤية الحقائق، و أحيانا يجر التعصبُ الإنسانَ إلى مواقف تخالف مبادئه دون أن يشعر، كما هو حاصل لكثير من عوام الشيعة الإمامية الذين جرهم تعصبهم لمخالفة حتى أئمتهم من عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عديد من أعمالهم و عقائدهم! ومن جملة ذلك تفرقهم و ابتعادهم عن سائر فرق المسلمين و إساءة القول في حقهم، وهو أمر مخالف لسلوك و كلام أمير المؤمنين علي - عليه السلام - ( الذي ورد في الخطبة 127 من نهج البلاغة ) حيث قال: [... و الزموا السواد الأعظم فإن يد الله مع الجماعة، و إياكم و الفرقة! فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب. ألا و من دعا إلى هذا الشعار ( أي شعار الخروج والتحزب والتفرقة في الدين ) فاقتلوه و لو كان تحت عمامتي هذه (أي و لو كنت أنا)].(121/3)
... و لقد كان - عليه السلام - في حياته تجسيدا حيا لهذا المبدأ، فلقد حافظ على علاقة طيبة مع الخلفاء الذين سبقوه و شارك في صلاة جمعتهم و جماعاتهم و قدم لهم معونته الفكرية في حل ما طرأ من المستجدات و الحوادث، و تعامل معهم التعامل الإسلامي الأخوي الذي تقتضيه الأخوَّة في الإيمان، وليس هذا فحسب، بل سمى ثلاثة من أولاده بأسمائهم، فأحد أولاده سماه عمر بن علي و الآخر عثمان بن علي و ثالث أبا بكر بن علي، كما هو مسطور في كتبنا ككتاب الإرشاد للشيخ المفيد (رح) و سائر كتب الحديث و التاريخ، و كذلك زوَّجَ ابنته أم كلثوم من الخليفة الثاني عمر (رض) (1) ، و كذلك أثناء محاصرة الثوار لعثمان، كان يحمل له الماء بيده و جعل ابنيه الحسن و الحسين يلزمان حراسته، كما أنه كان يذكر الخلفاء بكلماته بالخير و لم يكن أبدا فحاشا ولا سبابا، لا يمنع ذلك أنه كان يرى نفسه أولى وأعلم و أحق و أليق بخلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم، إلا أنه مع ذلك لم يعتبر خلافتهم غصبا أو كفرا أو باطلا!.
... و نذكر هنا بعض ما جاء في كتبنا من كلماته - عليه السلام - عن الشيخين (رضي الله عنهما)، ففي رسالته التي بعث بها إلى أهالي مصر مع قيس بن سعد بن عبادة واليه على مصر، كما أوردها إبراهيم بن هلال الثقفي في كتابه: " الغارات " (ج1/ص210) و السيد علي خان الشوشتري في كتابه " الدرجات الرفيعة " (ص 336) و الطبري في تاريخ الأمم و الملوك ( ج3/ص550 ) قال : [.. فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله عز و جل صلى الله عليه ورحمته و بركاته ثم إن المسلمين استخلفوا به أميرين صالحين عملا بالكتاب والسنة و أحسنا السيرة ولم يعدُوَا لِسُنَّتِهِ ثم توفّاهما الله عز و جل رضي الله عنهما ].
__________
(1) هذا التزويج منصوص عليه في الإرشاد للشيخ المفيد ، و وسائل الشيعة للحر العاملي ، و غيرهما . (مت)(121/4)
... و في الخطبة 228 من نهج البلاغة قال - عليه السلام - عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب: [.. فلقد قوَّم الأود و داوى العمد و أقام السنة و خلَّف الفتنة، ذهب نقيَّ الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها و سبق شرَّها، أدَّى إلى الله طاعته واتَّقاه بحقِّه.]. و جاء كذلك في الخطبة 164 من نهج البلاغة، أنه لما اجتمع الناس إليه و شكوا ما نقموه على عثمان و سألوه مخاطبته لهم و استعتابه لهم، فدخل عليه فقال: [ إن الناس ورائي و قد استسفروني بينك و بينهم، و والله ما أدري ما أقول لك! ما أعرف شيئا تجهله، و لا أدلك على أمر لا تعرفه. إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، و لا خلونا بشيء فنبلغكه و قد رأيت كما رأينا، و سمعت كما سمعنا، و صحبت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ كما صحبنا. و ما ابن أبي قحافة و لا ابن الخطاب بأولى بعمل الحق منك... ] فشهد لهما بأنهما عملا بالحق.
... بل أكثر من ذلك، فقد جاء في نهج البلاغة أيضا ( الخطبة 206) أنه لما سمع قوما له يسبون أهل الشام (من أتباع معاوية) أيام حربهم في صفين، نهاهم عن ذلك و قال: [ إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، و لكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، و أبلغ في العذر، و قلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا و دماءهم و أصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله و يرعوي عن الغي و العدوان من لهج به ].
... فما أبعد بعض مدعي التشيع، الذين لا يتحرجون في مجالسهم و منابرهم عن الطعن و إساءة القول بحق الخلفاء و أئمة سائر فرق المسلمين، و تكرار ما وضعته أيدي الغلاة المفرقين المثيرين للفتنة بين المسلمين من أحاديث و أخبار فيها إساءة القول و الطعن، عن سيرة و تعاليم الأئمة الهداة عليهم السلام!.(121/5)
... و من جملة ما خالف به مدعو محبة آلِ بيتِ النبي (صلىالله عليه وآله وسلم) أئمتَهم عليهم السلام، نسبة عشرات الأحكام الفقهية المخالفة لسائر المسلمين إلى الأئمة عليهم السلام و رفض ما نقل عنهم في ذلك مما وافق سائر مذاهب المسلمين بحجة أنهم إنما أفتوا به من باب التقية، فحيثما وجدوا نقلين عن أئمة الآل أحدهما يوافق مذاهب السنة و آخر يخالفها أخذوا بالثاني عملا برواية كاذبة وقاعدة خاطئة تقول "خذ ما خالف العامة!"، هذا مع أنهم هم أنفسهم يعترفون بأنه: (( ... إنما شرعت التقية لحفظ الدين و المذهب، حتى أن الإمام في حالة هتك الدين و نشر البدعة، يقوم بمحاربة ذلك مقدِّما روحه في هذا الطريق .. لأن الإمام إنما وجد أصلا لحفظ الدين، فأهمية بقاء الدين أهم من بقائه. فإذا جاز لعوام الناس ارتكاب بعض المعاصي أو ترك بعض الواجبات اضطرارا من باب التقية (أي تفاديا لأذى الأعداء الذي لا يحتمل)، لم يجز ذلك أبدا لمن هو في مقام الإفتاء و الإرشاد والمرجعية الدينية للناس لأن تقيته ستؤدي لضلال الناس و فساد عقيدتهم ... و قد جاءت روايات كثيرة في كتبنا تبين أن على العلماء و أئمة الدين أن يحاربوا البدع إذا ظهرت و يظهروا علمهم و إلا فعليهم لعنة الله... ))(1)، لكنهم عند الإفتاء ينسون هذه القاعدة الذهبية و يحملون كثيرا من أقوال أئمة الآل عليهم السلام التي لا تعجبهم على أنها إنما كانت منهم من باب التقية ! فلا يأخذون بها، و لا يفكرون بأن كل عاقل ـ فضلا عن أئمة آل البيت العظام ـ إنما يكفيه، في موضع الخطر والخوف، السكوت، و لا أحد يضطره للإفتاء بعشرات الفتاوى المخالفة لحكم الله تعالى ورسوله و إيقاع أتباعه بالحيرة والضلال!!
__________
(1) اقتباس من كتاب: آية الله الشيخ علي الطهراني، الصفحة 32 فما بعد، باختصار و تصرف يسير.(121/6)
... و من جملة ما خالف به كثير من المنتسبين للأئمةِ من آل الرسول (صلىالله عليه وآله وسلم) أئمتَهم عليهم السلام أيضا، ابتداع شعائر و أعمال لا أصل لها في تعاليم الشرع بحجة تعظيم أئمة أهل البيت، و اعتبارهم معرفة الأئمة ومحبتهم والاعتقاد بهم كافية للنجاة، في حين أن الأئمة من آل البيت عليهم السلام لم تكن دعوتهم لأنفسهم ولا لتمجيد أشخاصهم، بل كانت دعوتهم، إحياءً لدعوة نبي الإسلام عليه وآله الصلاة و السلام في الدعوة إلى الله تعالى وتعريف الناس بعقائد الإيمان وتشريعات الدين، و أن طريق النجاة منحصر بالإيمان و التقوى و العمل الصالح لا غير. ...
... و حاصل الكلام أننا نأمل أن يقوم طالبوا الهداية و الحق، بمطالعة هذا الكتاب القيم ليستيقظوا من غفلتهم، و لا ينخدعوا بتهويلات بعض المتاجرين بالدين الذين يسارعون إلى تكذيب و تكفير كل من يكتب أو يقول كلمة حق، ونهيب بكل من يملك القدرة، أن يساعد على طبع هذا الكتاب و نشره، لينصر بذلك دين الله، و يساهم في إصلاح ذات بين المسلمين، و إزالة أهم سبب من أسباب سوء الظن و العداوة و البغضاء فيما بينهم، تلك العداوة التي لا يعلم إلا الله كم جرت من الويلات على المسلمين و كم أشعلت بينهم من حروب و كم شغلتهم في صراعات و كتابات و تعصبات لا طائل تحتها عبر تاريخهم الطويل.(121/7)
... و في الختام نقول، بكلام موجز، إن كتاب الله المنزَّل المبارك، إنما نزل ليبين للإنسان طريق السعادة و الفلاح في الدنيا و الآخرة، و هو إن اكتفى في بعض فروع الدين بالإشارة، موكلا لسنة النبي العملية تفصيل ما أوجزه و بيانه، فإنه ـ و لا بد ـ بين و كرر بكل وضوح: أصول الدين و أركان الإيمان التي هي مناط الكفر أو الإيمان و عليها مدار النجاة أو الهلاك، فقال عز من قائل: { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون كل آمن بالله و ملائكته و كتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله..} البقرة / 285، و قال أيضا: {.. و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين..} البقرة / 177، و قال سبحانه: { و الذين آمنوا بالله و رسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم و نورهم } الحديد / 19 و قال جل شأنه: { يا أيها الذين آمنوا: آمنوا بالله و رسوله و الكتاب الذي نزَّل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل، و من يكفر بالله و ملائكته و كتبه و رسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا } النساء / 136. فهذه هي أركان الإيمان التي أمرنا الله عز و جل بالإيمان بها و جعل منكر أحدها كافرا من الضالين و هي أن نؤمن بالله تعالى الواحد الأحد و باليوم الآخر و بملائكته و كتبه و رسله لا نفرق بين أحد من رسله.(121/8)
... و لم يأت الله عز و جل، في كتابه، الذي وصفه بأنه تبيانٌ لكل شيء، على الإمامة و لا على الإيمان بأئمَّةٍ معينين مخصوصين بأي ذكر، فلا يحق لأي أحد بعد ذلك أن يأتي و يزيد هذه الأمور على ما ذكره الله من أصول الدين وأركان اليقين، إذ من البديهي أن لو كان الإيمان بخلفاء أو أئمة معينين (سواء كانوا منصوصا عليهم ومنصوبين من قبل الله أم غير منصوص عليهم) أمر أساسي من أمور الدين و معرفتهم شرط لازم للإسلام و الإيمان، لذكر الله - سبحانه وتعالى - ذلك بكل صراحة و وضوح في كتابه الحكيم ، فلما لم يفعل عُلِمَ أن معرفة ذلك والإيمان به ليس من أصول الدين اللازمة. و السلام على من اتبع الهدى.
... ... ... ...
... ... ... ... خادم الشريعة أبو الفضل بن الرضا البرقعي(121/9)
(تمهيد
(أسباب و بواعث تفرق الأمة الإسلامية
(علة الاختلاف الأصلية
(بحث عميق في قضية سقيفة بني ساعدة
(قصة سقيفة بني ساعدة
(موقف بقية أصحاب رسول لله (صلى الله عليه و آله و سلم)
تمهيد
... بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، و صلى الله على محمد و آله و أتباعه، و السلام علينا و على عباد الله الصالحين.
... عقل و تفكير جميع بني الإنسان و تجربة وخبرة البشر و ليس هذا فحسب بل كذلك وحي خالق العالم و تعاليم الأنبياء و المختارين تدل جميعها بأوضح بيان و أصرح لسان على وجوب الاتحاد و وحدة الكلمة و اتفاق الأمة و الجماعة واتفاق كل شعب و مجتمع يعيش أفراده بجوار بعضهم البعض، إذ أن بركات الاتحاد و محاسن الاتفاق أوضح من أن تحتاج لذكر أو بيان، فأدنى ذي شعور يحكم بعظيم فائدتها و حسن عاقبتها. و قد دعا خالق العالم، في آيات متعددة من كتابه المحكم، المسلمين، للوحدة و الاتحاد و الاجتماع و الاتفاق، فقال سبحانه في سورة الأنبياء / 92: { إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون } و في سورة المؤمنون/52: { و إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاتقون } فذكّرهم بكلمة التوحيد لتتوحد كلمتهم و تتحد جماعتهم قائلا: بما أنني أنا وحدي ربكم جميعا فكونوا أنتم أيضا أمة واحدة واعبدوني وحدي جميعا و لا تخافوا إلا إيّاي.(122/1)
... و برغم أن هيئة و نظام الخليقة بحد ذاته دليل واضح على أن خالقها واحد، و هذه حقيقة واضحة و برهان متقن، لكن إذا لم تكن ثمرة هذه الحقيقة ونتيجتها توحيد الكلمة و الاتفاق، فإن ذلك يعتبر فقدانا كبيرا و خسارة عظيمة، تماثل أن نكون عميانا و نحن بجوار بحر النور، أو عطاشى و نحن بجوار شريعة الكوثر الزلال. لقد حذرنا الحق تعالى من الاختلاف و التشتت و دعا الناس للاعتصام بحبل الله الذي هو القرآن المجيد و دين الإسلام المبين فقال: { واعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا } آل عمران /103، و قال كذلك: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا و اختلفوا من بعد ما جاءهم البيِّنات و أولئك لهم عذاب عظيم} آل عمران /105، و قال أيضا: { و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فَتَفَرَّقَ بكم عن سبيله ذلك وصَّاكم به لعلكم تتقون } الأنعام / 153. وقال - عز وجل - :{ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنّما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون } الأنعام/159،وقال كذلك: {شرع لكم من الدين ما وصَّى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصَّيْنا به إبراهيم و موسى وعيسى أن أقيموا الدِّين و لا تتفرقوا فيه كَبُرَ على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء و يهدي إليه من ينيب. و ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بَغْيَاً بينهم..} الشورى / الآيات 13ـ14. وعلينا أن ننتبه أنه لما أخبرنا الله تعالى عن الكفار أنهم: { تحسبهم جميعا و قلوبهم شتى} سورة الحشر /14، فمعناه أن المؤمنين عليهم أن يعتبروا من ذلك ويكونوا على خلاف تلك الحال بأن يكونوا متحدي القلوب في وحدة حقيقية صادقة، عاملين بحكم قرآن رب العالمين الذي نهاهم عن التفرق و أمرهم بالاجتماع ووحدة الكلمة، لا أن يتحدوا مجرد اتحاد صوري فاقد للحقيقة والأصالة، بل أن تكون وحدتهم متجذرة في قلوبهم.(122/2)
... إن التفرقة في الدين مذمومة لدرجة أن قوم موسى لما عبدوا العجل بتضليل السامري، و رجع سيدنا موسى - عليه السلام - غاضبا و أخذ بلحية أخيه ورأسه كان مما قاله سيدنا هارون - عليه السلام - معتذرا عن عدم تركهم: {...إني خَشِيْتُ أَنْ تقولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إسرائيل و لم تَرْقُبْ قَوْلِي...} طه / 94. وأخيرا فقد بين سبحانه وتعالى في كتابه أن التفرق و التنازع و الاختلاف في الآراء موجب لضعف شوكة المسلمين و ذهاب عزتهم و قوتهم فقال: { وأطيعوا الله و رسوله و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم و اصبروا إن الله مع الصابرين } الأنفال / 46.(122/3)
... و يوجد في السنة النبوية ما لا يكاد يحصى من الأحاديث الصحيحة في وجوب الالتزام بالجماعة، من جملة ذلك الحديث المشهور الذي قال فيه رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم>): ((..من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع)) (1) و الحديث الآخر الذي قال فيه (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم): (( من خرج من الطاعة و فارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية))(2). و مثل هذا ما جاء في الخطبة رقم 127 من نهج البلاغة عن سيدنا مولى الموحدين و أمير المؤمنين حيث قال: " و الزموا السواد الأعظم فإن يد الله مع الجماعة، و إياكم والفرقة فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب، ألا من دعا إلى هذا الشعار (أي شعار التفرقة و الانشقاق) فاقتلوه و لو كان تحت عمامتي هذه " أي أنني أنا نفسي أمير المؤمنين لو دعوتكم للفرقة و التحزُّب فاقتلوني! والحقيقة أن السيرة الشريفة لذلك الإمام، بنفسها، أوضح دليل على وجوب ملازمة الجماعة و اجتناب الفرقة، حيث أنه - عليه السلام - رغم كل الحوادث المؤلمة والآلام التي تحملها بقي دائما ملازما لجماعة المسلمين.
أسباب و بواعث تفرق الأمة الإسلامية
__________
(1) رواه بهذا اللفظ الترمذي في جامعه الصحيح: كتاب الأمثال / باب رقم 3 ضمن حديث طويل و رواه بألفاظ متقاربة البخاري و مسلم في صحيحهما و أبو داوود في سننه و أحمد في مسنده. (مت)
(2) رواه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه: كتاب الإمارة /حديث رقم 35 و النسائي في سننه كتاب تحريم الدم / باب38، و الدارمي و أحمد في مسندهما و غيرهم.(مت)(122/4)
... أهم و أعظم علة لتفرق و انشقاق المسلمين و سبب وقوع العداوة والخصومة فيما بينهم مسألة خلافة النبي (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم). لقد نشأت بذور هذا الاختلاف في صدر الإسلام في الأيام الأولى التي تلت رحلة رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم)، و نمى و قوي بواسطة جهل المسلمين و تعصبهم وتحريك أعداء الإسلام، إلى أن اشتدَّ في القرون التالية قرنا بعد قرن حتى جعل المسلمين أعداء ألداء في مقابل بعضهم البعض و أدى إلى مشاهد مشينة من الحرب و الجدال و الخصام و الاقتتال سودت صحائف التاريخ بالعار إلى الحد الذي أصبحت فيه فرق المسلمين أقدر على الاختلاط و العشرة مع اليهود و النصارى منها على التعايش مع بعضها البعض مع أنهم بنص كتابهم السماوي إخوة متساوون.(122/5)
... و رغم أن غبارا غليظا مغطيا للحقيقة أوجدته قرون من الجدال والاقتتال، أصبح مانعا كبيرا و صعبا يحول دون إظهار وجه الحقيقة كما ينبغي و تعرُّف كل فرقة على الأخرى و إعادة المياه إلى مجاريها فيما بينهم، لكننا بعون الله سنقوم بمحاولتنا و سعينا في هذا الطريق مستخدمين كل ما أتيح لنا من طاقة مادية ومعنوية، عسى أن ننير بفضل الله سراجا نيرا في هذا الطريق المظلم الضيق، ونطلع إخواننا المؤمنين، الذين يطلبون الحق ويبحثون عن الحقيقة إلى ما هدانا الله إليه بفضله و رحمته، عسى أن يعودوا لأنفسهم بعد هذا الزمن الطويل و بعد اطلاعهم على حيل و سياسة الأعداء وتذوقهم لمرارة كل تلك البلايا و المصائب التي حلت بهم نتيجة تلك الاختلافات، فيسيروا إلى الأمام نحو العزة و السعادة و الشوكة والسيادة ويستعيدوا وحدتهم فيكونوا مصداقا للآية الكريمة: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}. أما لو لم تؤثر فيهم ـ لا سمح الله ـ صخب السيول الجرارة لكل حوادث التاريخ هذه و لا الأمواج المهلكة لكل أعاصير القرون و الأعصار هذه، و ما تحويه من صفير الإنذار و التحذيرات الصريحة، بل استمرت التعصبات الجاهلية و التفرقة القومية و العنصرية التي تغذيها الأهواء ووساوس الشيطان ودسائس الأعداء الماكرين تعمل عملها في إضلالهم، فإننا سنكون معذورين لدى ربنا سبحانه و تعالى بكتابة هذا الكتاب ومأجورين إن شاء الله على سعينا لهذا الهدف و ما سنلقاه من آلام نتيجة الاتهامات والسب و البهتان و الافتراء بحقنا { و إذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا؟ قالوا: معذرة إلى ربكم و لعلهم يتقون} الأعراف / 164.
علة الاختلاف الأصلية(122/6)
... المادة الأصلية و الأساسية لاختلاف الأمة الإسلامية هو مسألة الخلافة والإمامة، و من هذه المسألة تشعَّبت سائر الاختلافات الأخرى، وقد أخذت مسألة الإمامة، بمعنى الحكومة و زمام الأمور، و التي محركها الأصلي لدى أغلب الأفراد ليس إلا حب المقام و حب الرئاسة، في هذه الأمة، شكلا وصورة قلما يوجد لها نظير في الشعوب و الأمم السابقة!
... كمقدمة ينبغي القول بأن حب العلو و الرئاسة أمر فطري في كل نفس، وكل إنسان يطلب بغريزته التفوق على أقرانه، و إذا تمت هداية هذه الغريزة بشكل صحيح، أمكن أن نستخرج منها أفضل النتائج، و ذلك أنه من لوازم وجود و حياة المجتمع البشري أنه لا يمكن لأي شعب أو أمة أن تستمر في حياتها المدنية دون امتلاك حكومة و نظام اجتماعي، و ليس هذا لدى الإنسان فقط، بل إن كثيرا من الحيوانات شعرت بهذا الأمر و أوجدت في حياتها نظاما و تشكيلات اجتماعية، كما نجد ذلك واضحا في عالم النمل والنحل والحشرات الآكلة للخشب ( النمل الأبيض) و عديد من الطيور والحيوانات الأخرى. و لا شك أن دين الإسلام الذي يحتوي على أفضل القوانين الاجتماعية التي تضمن السعادة الدينية و الدنيوية لأتباعه، لم يبق هذه المسألة مسكوتا عنها و لا مجهولة، بل بين الوظائف و الأحكام والأوامر والقواعد في هذا الشأن بشكل إجمالي. و قد أوضحنا ذلك في كتابنا " الحكومة في الإسلام" الذي طبع في مجلدين فيمكن للراغبين الرجوع إليه لمعرفة هذه الحقيقة.(122/7)
... أما الذي يمكن قوله هنا فهو أنه من المحتم و اليقيني أن سيدنا خاتم النبيين (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) أتى في شريعته الإسلامية المتقنة بمقررات و أحكام وإرشادات تتعلق بمسألة الحكومة وزمام الأمور، ذلك أن دين الإسلام الذي زيَّنَهُ الله سبحانه بوسام و وشاح قوله المقدس: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا } لا يمكن أن يكون خاليا من مسائل وأحكام تتعلق بالحكومة والقيادة التي هي من ألزم لوازم الحياة البشرية، بل إن هذا الأمر، كما سيأتي بيانه في محله، هو من أهم أهداف وأقدس أحكام الإسلام.
... أما الزوائد و الحواشي الناشئة، بلا شك، من أغراض و أمراض عدة من الأعداء المغرضين أو الأصدقاء الجاهلين فلا سبيل لها على الأحكام السماوية والقوانين الإلهية الواضحة البينة. و سنبين، بمشيئة الله تعالى، كيف أن هذه الزوائد و الأهواء المبتدعة قد بدَّلت الصورة الناصعة للأحكام الإلهية المتعلقة بالحكم و الحكومة و حوَّلتها لصورة بشعة مكروهة ينفر منها العقلاء و ينزجر منها الأحباء.
... إن الذي يعيننا على معرفة و درك حقيقة تعاليم الإسلام السامية حول هذه القضية هو دراسة قضية سقيفة بني ساعدة التي وقعت بعد ساعات من انتقال روح رسول الله المقدسة (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) إلى الملأ الأعلى، فإذا تتبعنا ودرسنا ملابسات هذه الواقعة، بدقة مشبعة بطلب الوصول للحقيقة، سندرك، لا محالة، كثيرا من القضايا المهمة، و ستظهر الحقيقة لطالبها المخلص رغم كل ما أحاط بها من أغشية.
... و لهذا فسننقل للقارئ الكريم في رسالتنا المختصرة هذه، باختصار، قصة سقيفة بني ساعدة التي حضرها و شارك فيها كبار صحابة الرسول المختار(صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) حتى تتضح حقيقة الأمر لطلاب الحق، إن شاء الله.
بحث عميق في قضية سقيفة بني ساعدة(122/8)
... كانت سقيفة بني ساعدة مكانا يجتمع فيه أهل المدينة ليتخذوا قراراتهم في شؤونهم المهمة من خلال الشورى بين رؤسائهم. و بعد وفاة رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) مباشرة اجتمع أهل المدينة، الذين كانوا قد أسلموا دون إكراه ولا إجبار و دعوا رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) قبل هجرته أن يأتي إليهم وكثيرون منهم أعانوه و نصروه و عرفوا بالأنصار، في هذه السقيفة، ورشَّحوا " سعد بن عبادة "(1) زعيم قبيلة الخزرج ( إحدى أهم قبيلتين في المدينة)، و الذي كان مريضا، لمنصب الإمامة و الخلافة، و لفوه في حصير أو بساط و أتوا به إلى السقيفة لكي يأخذوا له البيعة من المسلمين. وسننقل هنا باختصار أحداث هذا الاجتماع من كتب التاريخ الموثقة دون أن نحذف باختصارنا النقاط التاريخية لهذه القصة. و نلفت أنظار القرَّاء في البداية، إلى أن الكتب التاريخية التي ذكرت هذه القصة هي مؤلفات خلفها علماء المسلمين الكبار للأمة الإسلامية. و قد دُوِّنت هذه المؤلفات بشكل عام بعد القرن الثاني الهجري و غالبا في القرن الثالث و ما بعده، و نذكِّر أيضا أنه في ذلك الزمن لم تكن مسألة السنة و الشيعة أبدا بالصورة التي هي عليها اليوم، و لم يكن أحد يأخذ القلم ليكتب في تأييد عمر أو علي، و لا كان المؤلفون في مسألة الولاية و الإمامة قد تحولوا إلى صفين متقابلين تماما في مواجهة بعضهم البعض يقومون بالخصام و الجدال. و السبب في ذلك أن فرقة الشيعة، التي أصبحت اليوم تختص
__________
(1) سيد الخزرج و صاحب راية الأنصار في المشاهد كلها،كان سيدا جوادا يكتب العربية و يحسن العوم و الرمي و لأجل ذلك سمي الكامل و كان كثير الصدقات جدا، أسلم قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة و كان أحد نقباء العقبة، و شهد المشاهد كلها مع رسول الله عدا بدر. رفض بيعة أبي بكر و خرج عن المدينة، قتل بحوران من أعمال دمشق في خلافة عمر سنة 14، أو 15 ، أو 16 هـ. (مت)(122/9)
لنفسها عددا كبيرا من المسلمين وأصبح لها دولة ونظام و مؤلفات و تصانيف، إنما كانت في ذلك العهد فئة قليلة و طائفة ضئيلة تعيش في التكتُّم و السرِّيَّة، و بتعبير العصر بشكل غير قانوني، كحزب معارض للحكومة، فلم يكن لجماعتهم من الكثرة و الأهمية ما يثير اهتمام علماء ذلك الزمن و يدعوهم لتأليف كتب و مصنفات ضدها من باب العناد والخصومة و كتمان الحقيقة، و يختلقون مثل هذه القصة التي لم يوافَقُ فيها على حق لهم! و أيا كان الأمر فليس بين أيدينا اليوم لدرك الحقائق إلا الكتب و المؤلفات التي بقيت لنا منذ ذلك العهد، و لا يوجد لدينا أي شيء يجعلنا نتشكك أو نرتاب في صحة هذه الكتب و التواريخ، اللهم إلا الاكتفاء بالحدس و الظن و التخمين بالإضافة إلى أننا سنرجع إلى المؤلفات والآثار التي وثَّقها و صوَّبها علماء الشيعة الكبار، لننقل منها أحداث تلك الواقعة بأمانة تامة، واضعينها أمام طالبي الحقيقة.(122/10)
... و أقدم الكتب في هذا الباب [ سيرة ابن هشام ] المعتمدة من قبل عامة المسلمين و التي ليس لقضية الشيعة و السنة فيها دخل، و مؤلفها "عبد الملك بن هشام المعافري"، و قد استخرج سيرته و رواها عن "محمد ابن اسحق المطلبي" وهو من مؤرخي القرن الهجري الأول و الثاني حيث كانت وفاته في أوائل القرن الهجري الثاني، و ابن هشام نفسه كانت وفاته سنة 213 هـ. و رجعنا بعد ذلك لكتاب [تاريخ الإمامة و السياسة] لابن قُتَيْبة وهو "عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري" المتوفى سنة 270 هـ.، ثم [تاريخ اليعقوبي] و مؤلفه "أحمد ابن يعقوب بن جعفر بن وهب الكاتب"، مؤرخ شيعي المذهب توفي سنة 292 هـ.، ثم [مروج الذهب و معادن الجوهر] و[التنبيه و الإشراف ] و هما "لعلي بن الحسين المسعودي"، المعروف بالتشيُّع و المتوفى سنة345 هـ. و ليس لأي ممن ذكر مصلحة خاصة في روايته لحديث سقيفة بني ساعدة. و لن نتجاوز في عرضنا لهذه القصة، إن شاء الله، ما اتفقت عليه تلك الكتب الخمسة المذكورة، و التي عرفنا أن ثلاثة منها هي من تأليف مؤلِّفَيْن شيعيين.
قصة سقيفة بني ساعدة(122/11)
... جاء في سيرة ابن هشام: [ قال ابن اسحق: قال الزهري: و حدثني "عبد الله بن كعب بن مالك" عن "عبد الله بن عباس" قال: خرج يومئذ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على الناس من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له الناس: يا أبا حسن، كيف أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: أصبح بحمد الله بارئا، قال: فأخذ العباس بيده ثم قال: يا علي، أنت والله عبد العصا بعد ثلاث، أحلف بالله لقد عرفت الموت في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كنتُ أعرفه في وجوه بني عبد المطلب، فانطلق بنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن كان هذا الأمر فينا عرفناه، وإن كان في غيرنا، أمرناه فأوصى بنا الناس. قال: فقال له علي: إني والله لا أفعل، و الله لئن مُنِعْناه، لا يؤتيناه أحدٌ بعده ](1) هذه الرواية ذكرتها أيضا عدة مصادر تاريخية أخرى(2).
__________
(1) سيرة ابن هشام: ج 4 / ص 332 ( من طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد ) أو الصفحة 654 من الطبعة التي حققها مصطفى السقا و الأبياري و الشلبي، و هي التي سأوثق منها دائما فيما بعد. (مت)
(2) أنظر مثلا كتاب: الطبقات الكبير ( الكبرى) للمؤرخ الشهير ابن سعد ( توفي سنة 230 هـ.) حيث روى بسنده نفس هذه الرواية ثم روى عدة روايات تؤدي نفس معناها بألفاظ مختلفة و من وجوه أخرى عن الشعبي و عن زيد بن أسلم و عن فاطمة بنت الحسين: ج 2 / القسم الثاني، ص 38، من طبعة ليدن (هولاندا). وكذلك انظر تاريخ الأمم و الملوك للطبري:ج 2 / أحداث سنة إحدى عشرة.(مت)(122/12)
... ما اتفق عليه جميع المؤرخين و كتَّاب السيرة هو أنه لما ارتحل رسول الله صلىالله عليه وآله، شُغِل أهل بيته بأمر تجهيزه و تكفينه و كان في مقدمتهم حضرة علي بن أبي طالب و العباس عم الرسول صلىالله عليه وآله و أولاد العباس، كما كان حاضرا معهم في بيت رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) الزبير بن العوام و طلحة بن عبيد الله، و قد أغلق باب البيت أمام الآخرين. أما بقية المهاجرين و بعض الأنصار مثل أُسَيْد بن حُضَيْر فقد اجتمعوا حول أبي بكر في مسجد رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم)، إذ جاءهم رجل، على غير انتظار، يخبرهم أن طائفة من الأنصار على رأسهم "سعد بن عبادة" قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، و أنهم في صدد تعيين خليفة لإمامة و حكومة المسلمين فإن كان لكم بأمر الناس (أي بأمر الرئاسة و الحكم) حاجة فأدرِكوا الناس قبل أن يتفاقم أمر الأنصار(1) ، عند ذاك ترك عمر و أبو? بكر (رضي الله عنهما) حضور مراسم الدفن و أوكلوه لمن له الكفاية لذلك من أهل بيته صلىالله عليه وآله ـ إذ لم يكن بعد قد فُرِغَ من تجهيزه و دفنه صلىالله عليه وآله و كان أهل بيته قد أغلقوا باب بيته صلىالله عليه وآله دون الناس ـ و هرعا مسرعين إلى سقيفة بني ساعدة إثر وقوفهما على خبر اجتماع جماعة الأنصار فيها، و سرعان ما وصلا إلى السقيفة ليجدوا الأنصار قد عصَّبوا "سعد بن عبادة " - رضي الله عنه - بعصابة وأجلسوه في وسط السقيفة، و كان يخطب فيهم، إلا أن صوته كان ضعيفا لشدة مرضه، فكان ابنه قيس بن سعد، ينقل كلامه جملة جملة بصوت مرتفع للمجتمعين(2).
__________
(1) أنظر سيرة ابن هشام ج 4 / ص 656 ( القاهرة، بتحقيق السقا و الأبياري و الشلبي ) (مت).
(2) أنظر "الإمامة و السياسة " لابن قتيبة،ج 1 / الصفحة 12 ( القاهرة، بتحقيق الد.طه محمد الزيني) (مت)(122/13)
... و قبل أن ننقل خطبة سعد بن عبادة، لا بد أن نشير إلى أن بعض الروايات تذكر أن أبا بكر كان ـ غداة ارتحال رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) ـ في قرية من القرى المجاورة للمدينة تدعى "السنح" و لم يكن قد اطلع بعد على خبر وفاة النبي صلىالله عليه وآله، و أن عمر و أبوعبيدة (رضي الله عنهما) ذهبا أولا لوحدهما للسقيفة لإدراك ما يجري فيها و لكنهما لما وجدا نفسيهما وحيدين أمام جماعة الأنصار و احتجاجهم، و تحيرا ما يكون ردهما المناسب للحيلولة دون تمام البيعة بالخلافة لسعد بن عبادة - رضي الله عنه -، سأل عمر - رضي الله عنه -: ما الخطب ؟ و بمجرد أن أجابوه بأن رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) قد قُبِضَ و أن الأنصار في صدد تعيين خليفة له أمتشق سيفه وصاح: بل إن رسول الله لم يمت و كل من زعم ذلك أدبته بسيفي هذا بل قد ذهب إلى ربه كما ذهب موسى و ليرجعن ثانية ليكمل دينه!، ثم أرسل إلى أبي بكر - رضي الله عنه - من يطلعه على ما وقع فخرج أبو بكر - رضي الله عنه - فورا من "السنح" إلى المدينة قاصدا بيت رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) فلما رأى جسده و تأكد من وفاته، لحق بالسقيفة وسأل عمر - رضي الله عنه - لماذا هذا الاجتماع ؟ فما أن أجابه عمر - رضي الله عنه - بأن السبب إرادة الأنصار نصب خليفة لرسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) لشيوع نبأ وفاته و أنه أنكر ذلك النبأ الإنكار، إلا وصاح أبو بكر قائلا: [ أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، و من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ] ثم أخذ زمام الكلام في هذا الاجتماع و بدأ بكلمته. ولكن هذه الرواية لا تخلو من الإشكال(1)
__________
(1) علاوة على تعارض هذه الرواية مع أخبار أخرى عديدة، فإن الإشكال الرئيس في هذه الرواية هو أن تحققها العملي بعيد جدا، ذلك أن عمر لم يكن يمتلك لاسلكي حتى يخبر أبو بكر بهذه السرعة بالخبر، كما لم يكن لدى أبي بكر طائرة مروحية (هليكوبتر) و لا سيارة سريعة لينطلق بها بسرعة من السنح إلى بيت رسول الله ليتأكد من رحلته، ثم من بيت الرسول إلى السقيفة!! بل من الطبيعي أن الوقت الذي يأخذه إرسال عمر لرجل إلى السنح ثم ذهاب أبي بكر ـ الرجل المسن ـ بعد سماعه الخبر، من السنح إلى المدينة ثم من المدينة إلى السقيفة، وقت طويل يتجاوز عدد من الساعات، لا سيما أنه لم يكن هناك طريق أوتوستراد بين السنح و المدينة!! و لا شك أنه لا يمكن للأنصار أن يكونوا قد جلسوا منتظرين في السقيفة واضعين يدا على يد كل هذه المدة بل لا بد أن يكونوا قد أجابوا على إنكار عمر وفاة رسول الله و استمروا في كلامهم و لكانت حادثة السقيفة اتخذت مجرى آخر تماما. (x)(122/14)
و الرواية الأصح و التي نقلتها أكثر التواريخ هي ما ذكرناه أولا، من خروج أبي بكر و عمر مجتمعين من البداية من مسجد رسول الله إلى السقيفة، و يؤكد أرجحية هذه الرواية أن إمامة الصلاة في فترة مرضه (صلىالله عليه وآله وسلم) كانت موكولة لأبي بكر - رضي الله عنه -، وهذا ينفي كونه في "السنح".
... و الآن نعود إلى السقيفة لننقل نص خطبة سعد بن عبادة كما أوردها ابن قتيبة في كتابه "الإمامة و السياسة"، قال: (( فكان مما قاله - رضي الله عنه -، بعد أن حمد الله تعالى و أثنى عليه: يا معشر الأنصار إن لكم سابقة في الدين و فضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبث في قومه بضع عشرة سنة، يدعوهم إلى عبادة الرحمن، و خلع الأوثان، فما آمن به من قومه إلا قليل، والله ما كانوا يقدرون أن يمنعوا (1) رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم)، و لا يعرفوا دينه، و لا يدفعوا عن أنفسهم، حتى أراد الله تعالى لكم الفضيلة، و ساق إليكم الكرام، و خصَّكم بالنعمة، و رزقكم الإيمان به و برسوله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) و المنع له ولأصحابه و الإعزاز لدينه، و الجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على من تخلف عنه منكم، و أثقله على عدوكم من غيركم، حتى استقاموا لأمر الله تعالى طوعا و كرها، و أعطى البعيد المقادة (2) صاغرا داحرا، حتى أثخن الله تعالى لنبيه بكم الأرض، و دانت بأسيافكم له العرب، و توفَّاه الله تعالى و هو راض عنكم قرير العين، فشدوا أيديكم بهذا الأمر، فإنكم أحق الناس وأولاكم به. قال: فأجابوه جميعا: أن قد وُفِّقْتَ في الرأي، و أصبت في القول، ولن نعدو، ما رأيت، توليَتَكَ هذا الأمر، فأنت مَقْنَع و لِصَالِح المؤمنين رضا )) (3).
__________
(1) المنع هنا القصود به الدفاع عن رسول الله (ص) و كف أذى الأعداء عنه.(مت)
(2) أعطى المقادة: خضع لحكم المسلمين و قيادتهم له.(مت)
(3) المرجع السابق، صفحة 12 ـ 13. (مت)(122/15)
... و بعد أن أكمل سعد كلمته و سكت، أراد عمر - رضي الله عنه - أن يتكلم، كما يروى ذلك عنه ابن هشام في سيرته، فقال عمر - رضي الله عنه -: ((...فلما سكت ( أي سعد) أردتُ أن أتكلم و قد زَوَّرْتُ في نفسي مقالة قد أعجبتني، أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر - رضي الله عنه - و كنت أداري منه بعض الحد(1)، فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر، فكرهت أن أغضبه، فتكلَّمَ، وكان أعلم مني و أوقر، فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني من تزويري إلا قالها في بديهته، أو مثلها أو أفضل، حتى سكتَ. قال: أما ما ذكرتم فيكم من خير، فأنتم له أهل، و لن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحيّ من قريش، هو أوسط العرب نسبا (2) ودارا (3) قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، و أخذ بيدي و بيد أبي عبيدة الجراح، قال( عمر): و هو جالس بيننا، و لم أكره شيئا مما قاله ( أي أبو بكر ) غيرها، كان و الله أن أُقَدَّمَ فتُضْرَبَ عنقي، لا يُقَرِّبني ذلك إلى إثم، أحب إليَّ من أن أتأمَّرَ على قوم فيهم أبو بكر )) (4).
... و قد أورد اليعقوبي في تاريخه نص ما قاله أبو بكر في ثنائه وتزكيته لعمر ولأبي عبيدة - رضي الله عنهم - فقال: [... و هذا عمر بن الخطاب الذي قال رسول الله: اللهم أعز الدين به! و هذا أبو عبيدة الجراح الذي قال رسول الله: أمين هذه الأمة، فبايعوا أيهما شئتم. فأبيا ( أي عمر و أبو عبيدة ) عليه و قالا: والله ما كنا لنتقدمك، و أنت صاحب رسول الله و ثاني اثنين. فضرب أبو عبيدة على يدي أبي بكر، و ثنَّى عمر، ثم بايع من كان معهم من قريش ] (5).
__________
(1) الحد: أي كان في خلق عمر - رضي الله عنه - حدَّة ، كان يسترها عن أبي بكر - رضي الله عنه -. (مت)
(2) أوسط العرب نسبا: أشرفهم. (مت)
(3) و دارا: بلدا، و هي مكة لأنها أشرف البقاع. (مت)
(4) سيرة ابن هشام، ج 4 / ص 659.(مت)
(5) تاريخ اليعقوبي: ج 2/ ص 82 ( من طبعة عام 1375 هـ. )(122/16)
... أما ابن قتيبة فقد أورد ـ في الإمامة و السياسة" ـ خطبة أبي بكر - رضي الله عنه - بشكل أكثر تفصيلا على النحو التالي [... فتشهد أبو بكر - رضي الله عنه - و انتصب له الناس، فقال: إن الله جل ثناؤه بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى و دين الحق، فدعا إلى الإسلام، فأخذ الله تعالى بنواصينا و قلوبنا إلى ما دعا إليه، فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاما والناس لنا فيه تبع. و نحن عشيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، و نحن مع ذلك أوسط العرب أنسابا، ليست قبيلة من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولادة. وأنتم أيضا والله، الذين آوَوْا و نصروا. و أنتم وزراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنتم أيضا إخواننا في كتاب الله تعالى و شركاؤنا في دين الله - عز وجل - و فيما كنا فيه من سرّاء و ضرّاء، و الله ما كنا في خير قط إلا كنتم معنا فيه، فأنتم أحب الناس إلينا وأكرمهم علينا، و أحق الناس بالرِّضا بقضاء الله تعالى والتسليم لأمر الله - عز وجل - و لما ساق لكم و لإخوانكم المهاجرين رضي الله عنهم، و هم أحق الناس فلا تحسدوهم و أنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة، والله ما زلتم مؤثرين إخوانكم من المهاجرين و أنتم أحق الناس أن لا يكون هذا الأمر و اختلافه على أيديكم و أبعد ألا تحسدوا إخوانكم على خير ساقه الله تعالى إليهم و إنما أدعوكم إلى أبي عبيدة أو عمر و كلاهما قد رضيت لكم ولهذا الأمر وكلاهما له أهل. فقال عمر و أبو عبيدة رضي الله عنهما: ما ينبغي لأحد الناس أن يكون فوقك يا أبا بكر - رضي الله عنه -، أنت صاحب الغار و ثاني اثنين وأمَرَكَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة فأنت أحق الناس بهذا الأمر ](1).
__________
(1) الإمامة و السياسة: ج 1 / ص 13. (مت)(122/17)
... و الآن لنر ماذا كان موقف الأنصار تجاه أبي بكر - رضي الله عنه - ؟ ذكرت جميع كتب التواريخ و السير أن جواب الأنصار كان ـ كما يروي ابن قتيبة ـ: [ فقال الأنصار: والله ما نحسدكم على خير ساقه إليكم و إنا لكَمَا وصفتَ يا أبا بكر والحمد لله، و لا أحد من خلق الله تعالى أحبَّ إلينا منكم، و لا أرضى عندنا ولا أيمن ولكنا نشفق مما بعد اليوم، و نحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منا و لا منكم، فلو جعلتم اليوم رجلا منا و رجلا منكم بايعنا و رضينا على أنه إذا هلك اخترنا آخر من الأنصار فإذا هلك اخترنا آخر من المهاجرين أبدا ما بقيت هذه الأمة، كان ذلك أجدر أن يُعْدَل في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، و أن يكون بعضنا يتبع بعضا فيشفق القرشي أن يزيغ فيقبض عليه الأنصاري و يشفق الأنصاري أن يزيغ فيقبض عليه القرشي. عندئذ قام أبو بكر فحمد الله و أثنى عليه وقال: إن الله تعالى بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسولا إلى خلقه و شهيدا على أمته ليعبدوا الله و يوحدوه و هم إذ ذاك يعبدون آلهة شتى يزعمون أنها شافعة لهم وعليهم بالغة نافعة، و إنما كانت حجارة منحوتة، و خُشُبَاً منجورة، فاقرؤوا إن شئتم "إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون "، "ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم و لا ينفعهم و يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله "، وقالوا: " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى"، فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص الله تعالى المهاجرين الأولين - رضي الله عنهم - بتصديقه، و الإيمان به، والمواساة له، و الصبر معه على الشدة من قومهم، و إذلالهم و تكذيبهم إياهم، و كل الناس مخالف عليهم، زارٍ(1) عليهم، فهم أول من عبد الله في الأرض، وأول من آمن بالله تعالى و رسوله - صلى الله عليه وسلم -، و هم أولياؤه و عشيرته، وأحق الناس بالأمر من بعده، لا ينازعهم فيها إلا ظالم،
__________
(1) زارٍ لهم:أي عائب عليهم و محقر لهم.(مت)(122/18)
و أنتم يا معشر الأنصار، من لا ينكر فضلهم ولا النعمة العظيمة لهم في الإسلام، رضيكم الله تعالى أنصاراً لِدِينه ولرسوله وجعل إليكم مهاجرته، فليس بعد المهاجرين الأولين أحد عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء و أنتم الوزراء، لا نفتات(1) دونكم بمشورة و لا تنقضي دونكم الأمور.
... فقام الحباب بن المنذر بن زيد بن حرام - رضي الله عنه - فقال: يا معشر الأنصار املكوا عليكم أيديكم، فإنما الناس في فيئكم و ظلالكم، و لن يجترئ مجترئ على خلافكم، و لن يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز و الثروة، و أولو العدد والنجدة، و إنما ينظر الناس ما تصنعون، فلا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم، و تقطع أموركم، أنتم أهل الإيواء و النصرة و إليكم كانت الهجرة ولكم في السابقين الأولين مثل ما لهم، و أنتم أصحاب الدار و الإيمان من قبلهم، و اللهِ ما عبدوا الله علانيةَ إلا في بلادكم و لا جُمِعَت الصلاة إلا في مساجدكم و لا دانت العرب للإسلام إلا بأسيافكم، فأنتم أعظم الناس نصيبا في هذا الأمر، و إن أبى القوم فمنا أمير و منهم أمير.
... فقام عمر - رضي الله عنه - فقال: هيهات لا يجتمع سيفان في غمد واحد، إنه والله لا ترضى العرب أن تؤمركم و نبيها من غيركم، و لكن العرب لا ينبغي لها أن تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيهم و أولو الأمر منهم، لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة و السلطان المبين، من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن أولياؤه و عشيرته إلا مُدْلٍ بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة.
__________
(1) افتات عليه: طغى على حقه و استأثر به.(مت)(122/19)
... فقام الحباب بن المنذر - رضي الله عنه - فقال: يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا و أصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر فإن أبوا عليكم ما سألتم فأجْلوهم عن بلادكم و تولوا هذا الأمر عليهم فأنتم والله أولى بهذا الأمر منهم دان لهذا الأمر من لم يكن يدين له بأسيافنا أما والله إن شئتم لنعيدنها جزعة(1)، والله لا يرد علي أحد ما أقول إلا حطَّمتُ أنفه بالسيف. قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: فلما كان الحباب هو الذي يجيبني لم يكن لي معه كلام لأنه كان بيني و بينه منازعة في حياة رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) فنهاني عنه، فحلفت أن لا أكلمه كلمة تسوءه أبداً. ثم قام أبوعبيدة ( الجراح ) فقال: يا معشر الأنصار أنتم أول من نصر فلا تكونوا أول من يبدل و يغير. قال ( أي الراوي الذي يروي عنه ابن قتيبة هذا الحديث ): و إن بشيرا ( و هو بشير بن سعد من أقرباء سعد بن عبادة ) لما رأى ما اتفق عليه قومه من تأمير سعد بن عبادة قام حسدا لسعد، و كان بشير من سادات الخزرج، فقال: يا معشر الأنصار أما والله لئن كنا أولي الفضيلة في جهاد المشركين و السابقة في الدين، ما أردنا إن شاء الله غير رضا ربنا و طاعة نبينا و الكرم لأنفسنا، و ما ينبغي أن نستطيل بذلك على الناس، و لا نبتغي به عوضا من الدنيا، فإن الله تعالى ولي النعمة و المنة علينا بذلك، ثم إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رجل من قريش، وقومه أحق بميراثه و تولي سلطانه و أيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا فاتقوا الله و لا تنازعوهم و لا تخالفوهم.
__________
(1) لنعيدنها جزعة: أي نعيد الحرب بيننا و بينكم قوية.(مت)(122/20)
... قال ( الراوي ): ثم إن أبا بكر - رضي الله عنه - قام على الأنصار فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم دعاهم إلى الجماعة و نهاهم عن الفرقة و قال: إني ناصح لكم في أحد هذين الرجلين أبي عُبيدة الجرَّاح و عُمر فبايعوا من شئتم منهما. فقال عُمر: معاذ الله أن يكون ذلك و أنت بين أظهرنا، أنت أفضل المهاجرين و ثاني اثنين وخليفته على الصلاة، و الصلاة أفضل أركان دين الإسلام، فمن ذا ينبغي أن يتقدمك و يتولى هذا الأمر عليك ؟ أبسط يدك أبايعك، فلما ذهبا ( أي عُمر و أبو عُبيدة ) يبايعانه، سبقهما إليه بشير بن سعد الأنصاري فبايعه، فناداه الحباب بن المنذر: يا بشير بن سعد عقُّك عِقاقٌ (1) ما اضطرك إلى ما صنعت ؟ حسدت ابن عمك على الإمارة؟ قال : لا و الله، لكني كرهت أن أنازع قوما حقا لهم، فما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد، و هو من سادات الخزرج، و ما دعوا إليه المهاجرين من قريش، و ما تطلب الخزرجمن ـامير سعد بن عبادة، قال بعضهم لبعض و فيهم أسيد بن حضير - رضي الله عنه - :لئن وليتموها سعدا عليكم مرة واحدة لا زالت لهم بذلك عليكم الفضيلة و لا جعلوا لكم فيها نصيبا أبدا، فقوموا فبايعوا أبا بكر - رضي الله عنه -، فقاموا إليه فبايعوه! فقام الحباب بن المنذر إلى سيفه فأخذه، فبادروا إليه فأخذوا سيفه منه، فجعل يضرب بثوبه وجوههم، حتى فرغوا من البيعة، فقال: فعلتموها يا معشر الأنصار، أما والله لكأني بأبنائكم على أبواب أبنائهم قد وقفوا يسألونهم بأكفهم و لا يسقون الماء، قال أبو بكر: أمِنَّا تخاف يا حباب ؟ قال: ليس منك أخاف و لكن ممن يجيء بعدك، قال أبو بكر: فإذا كان ذلك كذلك فالأمر إليك و إلى أصحابك ليس لنا عليكم طاعة، قال الحباب: هيهات يا أبا بكر إذا ذهبت أنا و أنت جاءنا بعدك من يسومنا الضيم. فقال (عندئذ) سعد بن عبادة: أما والله لو أن لي ما أقدر به على النهوض
__________
(1) عقُّك: مخالفتك لنا، عِقاقٌ: مرٌّ لأن العقاق هو المر.(مت)(122/21)
لسمعتم مني في أقطارها زئيرا يخرجك أنت وأصحابك، و لألحقتك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع، خاملا غير عزيز، فبايعه الناس جميعا حتى كادوا يطؤن سعدا. فقال سعد (بن عبادة) قتلتموني، فقيل: اقتلوه قتله الله، فقال سعد: احملوني من هذا المكان، فحملوه و أدخلوه داره و تُرِكَ أياما، ثم بعث إليه أبو بكر - رضي الله عنه - أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك، فقال: أما والله حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل وأخضب(1) منكم سناني و رمحي وأضربكم بسيفي ما مَلَكَتْهُ يدي و أقاتلكم بمن معي من أهلي و عشيرتي، و لا والله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي وأعلم حسابي، فلما أتى بذلك أبو بكر من قوله، قال عمر: لا تدعه حتى يبايعك، فقال لهم بشير بن سعد: إنه قد أبى و لجَّ و ليس يبايعك حتى يُقتل، وليس بمقتول حتى يُقتل ولده معه و أهل بيته و عشيرته، ولن تقتلوهم حتى تُقْتَلَ الخزرج، ولن تُقْتَل الخزرج حتى تُقْتَلَ الأوس، فلا تفسدوا على أنفسكم أمرا قد استقام لكم، فاتركوه فليس تركه بضاركم و إنما هو رجل واحد. فتركوه و قبلوا مشورة بشير بن سعد و استنصحوه (2) لما بدا لهم منه، فكان سعد بن عبادة لا يصلي بصلاتهم و لا يجتمع بجماعتهم (3) ولا يفيض بإفاضتهم ولو يجد عليهم أعوانا لصال بهم، و لو يبايعه أحد على قتالهم لقاتلهم، فلم يزل كذلك حتى تُوُفِّيَ أبو بكر رحمه الله و وَلِيَ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فخرج (أي سعد) إلى الشام فمات بها و لم يبايع لأحد رحمه الله)) (4).
موقف بقية أصحاب رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم)
__________
(1) أخضب: الخضاب هو الحناء، و المراد حتى أسيل دمكم على سناني و رمحي.
(2) أي: وجدوه ناصحا لهم عاملا لخيرهم. (مت)
(3) أي: لا يصلي الجمعة معهم. (مت)
(4) الإمامة و السياسة: ج 1/ ص 14.(122/22)
... من المسلَّم به أن أمير المؤمنين علي - عليه السلام - كان في ذلك الحين مشغولا بتجهيز جثمان رسول الله صلىالله عليه وآله و قد أغلق أهل بيته باب البيت وجلسوا في عزائهم، قائمين بأمر غسله و كفنه و دفنه صلوات الله و سلامه عليه وآله، في الوقت الذي كانت تدور فيه حوادث السقيفة التي انتهت كما رأينا بمبايعة الأنصار لأبي بكر - رضي الله عنه - .
... و يواصل ابن قتيبة عرضه لما جرى فيقول: (( و إن بني هاشم اجتمعت عند بيعة الأنصار، إلى علي بن أبي طالب، و معهم الزبير بن العوام - رضي الله عنه - ـ وكانت أمه صفية بنت عبد المطلب فكان يعد نفسه من بني هاشم و كان علي كرم الله وجهه يقول: ما زال الزبير منا حتى نشأ بنوه فصرفوه عنا ـ و اجتمعت بنو أمية إلى عثمان، و اجتمعت بنو زهرة إلى سعد (بن أبي وقاص) و عبد الرحمن بن عوف، فكانوا في المسجد الشريف مجتمعين، فلما أقبل عليهم أبو بكر و أبو عبيدة و قد بايع الناس أبا بكر، قال لهم عمر: ما لي أراكم مجتمعين حلقا شتى(1)، قوموا فبايعوا أبابكر، فقد بايعتُهُ و بايعه الأنصار، فقام عثمان بن عفان و من معه من بني أمية فبايعوه، و قام سعد (بن أبي وقاص) وعبد الرحمن بن عوف ومن معهما من بني زهرة فبايعوا. و أما علي و العباس بن عبد المطلب و من معهما من بني هاشم فانصرفوا إلى رحالهم و معهم الزبير بن العوام، فذهب إليهم عمر في عصابة فيها أُسَيْد بن حُضَيْر، وسلمة بن أسلم، فقالوا: انطلقوا فبايعوا أبا بكر، فأبوا، فخرج الزبير بن العوام - رضي الله عنه - بالسيف فقال عمر: عليكم بالرجل فخذوه فوثب عليه سلمة بن أسلم فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار، وانطلقوا به فبايع، وذهب بنو هاشم أيضا فبايعوا ))(2).
__________
(1) حِلَق: جمع حلقة و تقال للقوم المجتمعين المستديرين في اجتماعهم كالحلقة، و شتى معناها متفرقين.(مت)
(2) الإمامة و السياسة: ج 1/ ص 17 و 18. (مت)(122/23)
(كيفية مبايعة أمير المؤمنين علي لأبي بكر
(بيعة أمير المؤمنين علي لأبي بكر
(ما جاء في هذا الباب في كتب الشيعة
(نظرة إلى روايات ارتداد جل أصحاب الرسول (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم)
كيفية مبايعة أمير المؤمنين علي - عليه السلام - لأبي بكر - رضي الله عنه -
... لقد اختلفت الروايات التاريخية في كيفية و زمن مبايعة علي - عليه السلام - لأبي بكر - رضي الله عنه -. فبعض الروايات تحكي أن عليا بايع أبا بكر فورا و دون توقف، كما أخرج ذلك الطبري في تاريخه حيث قال: ((حدثنا عبد الله بن سعيد قال أخبرني عمي قال أخبرني سيف عن عبد العزيز بن سياه عن حبيب بن أبي ثابت: قال: كان علي في بيته إذ أُتِيَ فقيل له قد جلس أبو بكر للبيعة، فخرج في قميص ما عليه إزار و لا رداء عجِلا كراهية أن يبطئ عنها حتى بايعه ثم جلس إليه، وبعث إلى ثوبه فأتاه، فتجلله و لزم مجلسه )) (1).
__________
(1) تاريخ الأمم و الملوك:ج 2/ ص 447،حوادث 11 هـ (القاهرة، مطبعة الاستقامة 1357 هـ /1939م).(مت)(123/1)
... و لكن هذه الرواية منفردة لا يوجد ما يؤيدها، بل المسَلَّم به الذي اتفقت عليه أكثر التواريخ أن عليا كره البيعة و توقف في مبايعة أبي بكر - رضي الله عنه - ردحا من الزمن إلى أن بايعه في النهاية، حسبما سيأتي شرحه، و ذلك ـ على ما يظهر ـ بعد وفاة فاطمة عليها السلام. روى ذلك الطبري نفسه في تاريخه المذكور حيث قال: (( و كان لعلي وجه من الناس حياة فاطمة، فلما توفيت فاطمة، انصرفت وجوه الناس. فمكثت فاطمة ستة أشهر بعد رسول الله (ص) ثم توفيت. قال معمَّر: فقال رجل للزُّهري: أفلم يبايعه علي ستة أشهر ؟ قال: لا، و لا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي، فلما رأى علي انصراف وجوه الناس عنه، ضرع إلى مصالحة أبي بكر - رضي الله عنه - فأرسل إلى أبي بكر - رضي الله عنه - أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد، وكره أن يأتيه عمر لما علم من شدة عمر، فقال عمر: لا تأتهم وحدك، قال أبو بكر: والله لآتينهم وحدي، و ما عسى أن يصنعوا بي ؟ قال: فانطلق أبو بكر فدخل على علي و قد جمع بني هاشم عنده، فقام علي فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإنه لم يمنعنا من أن نبايعك يا أبا بكر إنكار لفضيلتك ولا نفاسة عليك بخير ساقه الله إليك و لكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا، فاستبددتم به علينا، ثم ذكر قرابته من رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) وحقهم، فلم يزل علي يقول ذلك حتى بكى أبو بكر، فلما صمت عليٌّ، تشهد أبو بكر فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد فوالله لَقَرَابة رسول الله أحب إلي أن أصل من قرابتي، وإني والله ما آلوت في هذه الأموال التي كانت بيني و بينكم غير الخير، ولكني سمعت رسول الله يقول " لا نُورَثُ، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد في هذا المال " و إني أعوذ بالله، لا أذكر أمرا صنعه محمد رسول الله إلا صنعته فيه إن شاء الله، ثم قال (علي): موعدك العشيّ للبيعة. فلما صلى أبو بكر الظهر أقبل على(123/2)
الناس ثم عذر عليا ببعض ما اعتذر، ثم قام علي فعظَّم مِن حق أبي بكر - رضي الله عنه - و ذكر فضيلته وسابقته ثم مضى إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فبايعه. قالت ( أي عائشة، وهي التي أخرج الطبري عنها هذه الرواية ): فأقبل الناس إلى علي فقالوا: أصبت وأحسنت، قالت: فكان الناس قريبا إلى علي حين قارب الحق و المعروف ))(1). عند ذاك ذكر الطبري الرواية التي تبين مجيء أبي سفيان لحضرة علي - عليه السلام - يحرضه على أبي بكر - رضي الله عنه - و يقول له: [ ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ؟ و أيم الله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا و رجالا، قال: فقال عليٌّ: يا أبا سفيان طالما عاديت الإسلام و أهله فلم تضرّه بذاك شيئا، إنا وجدنا أبا بكر لها أهلاً ]. وجاء في كتاب "الأخبار الموفقيات" (ص 585) أن عليا - عليه السلام - قال في رفضه لعرض أبي سفيان هذا،"لي عهد مع رسول الله و نحن جميعا ملزمون به".
__________
(1) المصدر السابق: ج 2 / ص 447 (مت).(123/3)
... و روى المسعودي الشيعي في تاريخه "مروج الذهب" قصة سقيفة بني ساعدة ( في الجزء الأول، صفحة 412 من طبعة عام 1316 هـ)، كما أورد القصة مختصرا في تاريخه "التنبيه و الإشراف" في الصفحة 247 حيث قال: (( وبويع أبو بكر في اليوم الذي تُوُفِّيَ فيه رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) وهو يوم الإثنين لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة 11 من الهجرة وقد كانت الأنصار نصبت للبيعة سعد بن عبادة بن دُلَيْم الأنصاري ثم الخزرجي، فكانت بينه و بين من حضر من المهاجرين في السقيفة منازعة طويلة و خطوب عظيمة، و علي و العباس و غيرهم من المهاجرين مشتغلون بتجهيز النبي (ص) و دفنه، و كان ذلك أول خلاف حدث في الإسلام بعد مضي النبي (ص)، وارتدَّ أكثر العرب بعد وفاة النبي (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم)، فمن كافر، و مانع للزكاة و الصدقة، و كان أعظمهم شوكة و أخوفهم أمرا مسيلمة الكذَّاب الحنفي باليمامة و طليحة بن خويلد الأسدي في أسد بني خزيمة، و قد عاضده عُيَيْنة بن حصن الفزاري في غطفان فوجَّه أبو بكر إليهم و إلى جميع من ارتد من ضاحية مضر، خالدَ بن الوليد.....( إلى أن قال في آخر ذلك الفصل ) و لم يبايع علي - عليه السلام - أبا بكر - رضي الله عنه - إلى أن توفيت ( يعني فاطمة ) و تُنُوزِع في كيفية بيعته إيَّاه ](1).
__________
(1) التنبيه و الإشراف: الصفحات 247 إلى 250.(مت)(123/4)
... و بهذا النحو أورد "اليعقوبي"، المؤرخ الشيعي، في تاريخه، تفاصيل قصة سقيفة بني ساعدة، فقال تحت عنوان: خبر سقيفة بني ساعدة و بيعة أبي بكر: (( و اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة ، يوم توفي رسول الله........(1) يُغْسلُ، فأجلست سعد بن عبادة الخزرجي، و عصَّبَتْه بعصابة، و ثنت له وسادة. و بلغ أبا بكر و عمر بن الخطاب و أبا عبيدة الجراح فقالوا: يا معشر الأنصار! منا رسول الله، فنحن أحق بمقامه. وقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير! فقال أبو بكر : منا الأمراء و أنتم الوزراء. فقام ثابت بن قيس ابن شمَّاس، و هو خطيب الأنصار، فتكلم وذكر فضلهم. فقال أبو بكر : ما ندفعهم عن الفضل، و ما ذكرتم من الفضل فأنتم له أهل، و لكن قريشا أولى بمحمد منكم و هذا عمر بن الخطَّاب الذي قال رسول الله: اللهم أعز الدين به! و هذا أبو عبيدة الجراح الذي قال رسول الله: أمير هذه الأمة، فبايعوا أيهما شئتم! فأبيا عليه و قالا: والله ما كنا لنتقدمك، و أنت صاحب رسول الله و ثاني اثنين. فضرب أبو عبيدة على يدي أبي بكر، و ثنى عمر، ثم بايع من كان معه من قريش.
... ثم نادى أبو عبيدة: يا معشر الأنصار إنكم كنتم أول من نصر فلا تكونوا أول من غير و بدَّل. و قام عبد الرحمن بن عوف فتكلم فقال: يا معشر الأنصار، إنكم و إن كنتم على فضل، فليس فيكم مثل أبي بكر و عمر وعلي، و إن فيهم رجلا لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد، يعني، علي بن أبي طالب. فوثب بشير بن سعد من الخزرج، فكان أول من بايعه من الأنصار، وأُسَيْد بن حُضَيْر الخزرجي، و بايع الناس حتى جعل الرجل يطفر وسادة سعد بن عبادة ، و حتى وطئوا سعدا. و قال عمر: اقتلوا سعدا، قتل الله سعداً!
__________
(1) بياض في الأصل.(123/5)
... و جاء البراء بن عازب، فضرب الباب على بني هاشم و قال: يا معشر بني هاشم، بويع أبو بكر . فقال بعضهم: ما كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه، و نحن أولى بمحمد. فقال العباس: فعلوها و رب الكعبة.
... و كان المهاجرون و الأنصار لا يشُكُّون في عليٍّ، فلما خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس، و كان لسان قريش، فقال: يا معشر قريش، إنه ما حقت لكم الخلافة بالتمويه، و نحن أهلها دونكم، و صاحبنا أولى بها منكم.
... و قام عتبة بن أبي لهب فقال (1) :
ما كنت أحسب أن الأمر منصرفٌ عن هاشم ثم منها عن أبي الحسنِ
عن أوَّلِ الناس إيمانا و سابقةً(2) و أعلم الناس بالقرآن و السننِ
و آخر الناس عهدا بالنبي، و مَنْ جبريل عون له في الغَسْل و الكفنِ
مَنْ فيه ما فيهمُ لا يمترون به، و ليس في القوم ما فيه من الحَسَنِ
ما ذا الذي ردهم عنه فتعلمه ها إن ذا غبننا من أعظم الغبن(3)
__________
(1) البعض ينسب هذه الأشعار للفضل بن العباس و بعضهم ينسبها أيضا لعبد الله بن سفيان.
(2) هذا المصراع ذكر في كتاب الأخبار الموفقيات على النحو التالي: أليس أول من صلى لقبلتكم؟
(3) هذا البيت الأخير لم يُذكَر في كتاب الأخبار الموفقيات.(123/6)
... فبعث إليه علي فنهاه (1). و تخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار، و مالوا مع علي بن أبي طالب، منهم: العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، و الزبير بن العوام بن العاص، و خالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، و أبو ذر الغفاري، و عمار بن ياسر، و البراء بن عازب، و أبي بن كعب، فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطَّاب وأبي عبيدة الجراح و المغيرة بن شعبة، فقال: ما الرأي ؟ قالوا: الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب، فتجعل له في هذا الأمر نصيبا يكون له و لعقبه من بعده، فتقطعون به ناحية علي بن أبي طالب حجة لكم على علي، إذا مال معكم، فانطلق أبوبكر و عمر و أبوعبيدة بن الجراح و المغيرة حتى دخلوا على العباس ليلا، فحمد أبو بكر اللهَ و أثنى عليه، ثم قال: إن الله بعث محمداً نبياُ و للمؤمنين ولياً، فمنَّ عليهم بكونه بين أظهرهم، حتى اختار له ما عنده، فخلى على الناس أموراً ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم مشفقين، فاختاروني عليهم والياً ولأمورهم راعياً، فوليت ذلك و ما أخاف بعون الله وتشديده وهناً، و لا حيرة و لا جبنا، و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، و ما انفكَّ يبلغني عن طاعن يقول الخلاف على عامَّة المسلمين، يتخذكم لجأً فتكون حصنه المنيع وخطبه البديع. فإما دخلتم مع الناس فيما اجتمعوا عليه، وإما صرفتموهم عما مالوا إليه، و قد جئناك و نحن نريد أن لك في هذا الأمر نصيبا يكون لك، ويكون لمن بعدك من عقبك إذ كنت عم رسول الله، و إن كان الناس قد رأوا مكانك و مكان صاحبك - ........(2) عنكم و على رسلكم بني هاشم فإن رسول الله منا و منكم.
__________
(1) جاء في "الأخبار الموفقيات" (ص 583) عند روايته لهذه الحادثة : ((فبعث إليه علي فنهاه و أمره أن لا يعود و قال: سلامة الدين أحب إلينا من غيره)) .
(2) بياض في الأصل(123/7)
... فقال عمر بن الخطَّاب : إي والله و أخرى، إنا لم نأتكم لحاجة إليكم، ولكن كرها أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم، فيتفاقم الخطب بكم و بهم، فانظروا لأنفسكم.
... فحمد الله العباسُ و أثنى عليه و قال: إن الله بعث محمدا كما وصفت نبيا و للمؤمنين وليا، فمن على أمته به، حتى قبضه الله إليه و اختار له ما عنده، فخلَّى على المسلمين أمورهم ليختاروا لأنفسهم مضيبين الحق، لا مائلين بزيغ الهوى، فإن كنت برسول الله فحقا أخذت، و إن كنت بالمؤمنين فنحن منهم، فما تقدمنا في أمرك فرضا و لا حللنا وسطا و لا برحنا سخطا، و إن كان هذا الأمر أنما وجب لك بالمؤمنين، فما وجب إذ كنا كارهين. ما أبعد قولك من أنهم طعنوا عليك من قولك إنهم اختاروك و مالوا إليك، و ما أبعد تسميتك بخليفة رسول الله من قولك خلَّى على الناس أمورهم ليختاروا فاختاروك، فأما قلت إنك تجعله لي، فإن كان حقا للمؤمنين فليس لك أن تحكم فيه، و إن كان لنا فلم نرض ببعضه دون بعض، و على رِسْلِكَ، فإن رسول الله من شجرة نحن أغصانها و أنتم جيرانها. فخرجوا من عنده.
... و كان فيمن تخلَّف عن بيعة أبي بكر أبو سفيان بن حرب، و قال: أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي هذا الأمر عليكم غيركم ؟ و قال لعلي بن أبي طالب: امدد يدك أبايعك، و علي معه قَصيّ، و قال:
بني هاشم لا تُطْمِعوا الناس فيكُمُ ... و لا سيما تَيْمَ بن مرَّةَ أو عديّ
ما الأمر إلا فيكم و إليكُمُ ... و ليس لها إلا أبو حسنٍ عليّ
أبا حسن، فاشدد بها كف حازمٍ ... فإنك بالأمر الذي يُرْتَجى مَلِيّ
و إنَّ أمرأً يرمي قصيٌّ وراءه ... عزيز الحمى، و الناس من غالب قصي(123/8)
... و كان خالد بن سعيد غائبا، فقدم فأتى عليَّاً فقال: هلمَّ أبايعك، فوالله ما في الناس أحد أولى بمقام محمد منك. و اجتمع جماعة إلى علي بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة له، فقال لهم اغدوا على هذا مُحَلِّقين الرؤوس. فلم يغد عليه إلا ثلا ثة نفر.
... و بلغ أبا بكر و عمر أن جماعة من المهاجرين و الأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله، فأتوا في جماعة حتى هموا على الدار، و خرج علي و معه السيف، فلقيه عمر، فصارعه عمر فصرعه وكسر سيفه، و دخلوا الدار فخرجت فاطمة فقالت: والله لتخرجنَّ أو لأكشفنَّ شعري و لأعجنَّ إلى الله! فخرجوا و خرج من كان في الدار و أقام القوم أياما. ثم جعل الواحد بعد الواحد يبايع، ولم يبايع علي إلا بعد ستة أشهر و قيل أربعين يوماً))(1).
... ثم يذكر "اليعقوبي" بعد ذلك فصلا في خلافة أبي بكر يشير فيه إلى أن الأنصار اعتزلوه أول الأمر، فغضبت لذلك قريش فتكلم خطباؤها، و قدِم عمرو بن العاص فقالت له قريش: قم فتكلم بكلام تنال فيه من الأنصار! ففعل ذلك، فقام الفضل بن العباس فرد عليهم، ثم صار إلى علي، فأخبره وأنشده شعرا قاله، فخرج عليٌّ مغضبا حتى دخل المسجد، فذكر الأنصار بخير،و ردَّ على عمرو بن العاص قوله (2)، فلما علمت الأنصار ذلك سرها و قالت: ما نبالي بقول من قال مع حُسْنِ قول عليٍّ. ثم اجتمعت الأنصار إلى حسان بن ثابت فقالوا: أجب قريشا وسألوه أن يذكر و يمدح في شعره عليا ففعل (3).
__________
(1) تاريخ اليعقوبي: ج 2 / ص 82 ( من طبعة عام 1375 هـ.)
(2) كما نلاحظ، كان علي - عليه السلام - محبا للأنصار محاميا عنهم، و لهذا مغزاه الكبير الذي سنشير إليه فيما بعد.
(3) المرجع السابق، الجزء الثاني، فصل أيام أبي بكر.(مت)(123/9)
... أما الزبير بن بكار فيروي، في كتابه "الأخبار الموفقيات" (الصفحة 58)، ندَمَ كثيرٍ من الأنصار على بيعتهم لأبي بكر على النحو التالي: (( حدثنا محمد بن موسى الأنصاري المعروف بابن مخرمة قال: حدثني إبراهيم بن سعيد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري قال: لما بويع أبو بكر و استقر أمره ندم قوم كثيرٌ من الأنصار على بيعته و لامَ بعضهم بعضا و ذكروا علي بن أبي طالب و هتفوا باسمه و إنه في داره ، فلم يخرج إليهم. (أي لم يؤيدهم في ذلك واستمر على بيعته لأبي بكر))(1) .
بيعة أمير المؤمنين علي - عليه السلام - لأبي بكر - رضي الله عنه - كما يرويها ابن قتيبة
__________
(1) نلاحظ أن حتى هؤلاء الأنصار النادمين على بيعتهم لأبي بكر و الراغبين بخلافة علي لم يشيروا أي إشارة إلى واقعة غدير خم، و هو ما سنبين مغزاه الكبير عن قريب.(123/10)
... ينقل ابن قتيبة في " الإمامة و السياسة" مبايعة الإمام علي لأبي بكر - رضي الله عنه - على النحو التالي: يقول: ((... ثم إن عليا كرَّم الله وجهه أتي به إلى أبي بكر - رضي الله عنه - و هو يقول: أنا عبد الله و أخو رسوله، فقيل له: بايع أبا بكر، فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم و أنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و تأخذونه منا أهل البيت غصبا ؟ ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم فأعطوكم المقادة وسلموا إليكم الأمارة، و أنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى برسول الله حيا و ميتا، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون و إلا فبوءوا بالظلم و أنتم تعلمون. فقال له عمر: إنك لس متروكا حتى تبايع، فقال له علي: احلب حلبا لك شطره (1) و اشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا. ثم قال: و الله يا عمر لا أقبل قولك و لا أبايعه(2)
__________
(1) أي افعل فعلا يكون لك منه نصيب فأنت تبايعه اليوم ليبايعك غدا.(مت)
(2) أرى أن هذا القسم المنسوب لعلي ـ في هذه الرواية التي يرويها ابن قتيبة ـ لا يصح و لعله من سهو الرواة أو تخليطاتهم. أولا: لأنه لم يرو أحد أن عليا لما بايع أبا بكر في النهاية، كفر عن يمينه، و ثانيا و هو الأهم: أن هناك روايات موثوقة متعددة تؤكد أنه كان هناك عهد من علي )ع) للرسول (ص) على أنه في حال حصول نزاع حول إمارة المسلمين أن يرضى علي و يبايع من رضيه أكثرية المسلمين و بايعوه. من ذلك ما ورد عن علي (ع) أن قال متحدثا عن بيعته لأبي بكر: ((.. فنظرت في أمري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي و إذا الميثاق في عنقي لغيري)) الخطبة رقم 37 من نهج البلاغة. و في شرحه لكلام الإمام علي (ع) هذا ـ في كتابه "كشف المحجة" ، طبع النجف ـ يروي السيد ابن طاووس (من مشاهير علماء الإمامية) عن علي (ع) حديثا يقول فيه: ((لقد أتاني رهط منهم ابنا سعيد و المقداد بن الأسود و أبو ذر الغفاري و عمار بن ياسر و سلمان الفارسي و الزبير بن العوام و البراء بن الغازب (العازب) يعرضون النصر عليَّ، فقلت لهم إن عندي من نبي الله (ص) عهدا و له إليَّ وصيَّة و لست أخالف ما أمرني به.
... و في نفس هذا الكتاب و كذلك في مستدرك نهج البلاغة (الباب الثاني، ص 30) جاء عن علي (ع) أنه قال: (( و قد كان رسول الله (ص) عهد إلي عهدا فقال: يا ابن أبي طالب، لك ولاء أمتي، فإن ولوك في عافية و أجمعوا عليك بالرضا فقم في أمرهم و إن اختلفوا عليك فدعهم و ما هم فيه، فإن الله يجعل لك مخرجا)).
... و كذلك يروي ابن بكار في "الأخبار الموفقيات" إشارة الفضل بن العباس لهذا العهد، خلال حديث يعرب فيه عن استيائه و عدم رضائه عن إعراض الناس عن بيعة علي، فيقول: ((لكانت كراهة الناس لنا أعظم من كراهتهم لغيرنا، حسدا منهم لنا و حقدا علينا، و إنا لنعلم أن عند صاحبنا عهد هو ينتهي إليه)).
... و بناء عليه فلا يمكن أن يقسم الإمام على أمر يخالف عهده للنبي (ص) ! أما سبب تأخر الإمام عن البيعة لأبي بكر فسببه أن الصحابة استعجلوا في رأيه في هذا الأمر و لم يؤدوه على نحو المطلوب ـ و لعل الظروف العصيبة التي تلت انتقال النبي (ص) و خشية شر المرتدين كالأسود العنسي و مسيلمة و الدهشة لوفاته (ص) و خشية وقوع فرقة بين الأنصار و المهاجرين، هي التي أدت لهذا الاستعجال حتى كانت البيعة السريعة لأبي بكر "فلتة" كما وصفها عمر ـ إذ كان من الواجب أن يشارك في هذا الأمر الخطير جميع كبار الصحابة وأصحاب السابقة في الإسلام لا سيما آل النبي (ص) الذين في صدرهم الإمام علي (ع) نفسه ، و أن لا تتم البيعة إلا بمشورتهم و رأيهم حتى تكون مشروعيته كاملة و تمنع القيل و القال، و لهذا فإن امتناع الإمام عن البيعة في البداية كان اعتراضا على الطريقة التي تمت فيها و تنبيها على عيبها و توجيها لضرورة اتباع المشورة الكاملة و الإجماع للبيعة الصحيحة ، ثم إن الإمام بايع بعد ذلك فرأب الصدع و ببيعته أتم النقص الذي حصل و أكمل مشروعية خلافة أبي بكر على نحو تام.
... و الحقيقة أن أمير المؤمنين علي (ع) كان شديد الإصرار على رعاية مبدأ الرضا و الشورى الكاملة كمبدأ أساسي لمشروعية الحكم، لذلك لما قتل عثمان و انهال الناس عليه ليبايعوه، فإنه ـ عوضا عن أن يذكر لهم أي شيء عن كونه منصوص عليه من الله ـ قال لهم: ((.. فإن بيعتي لا تكون خفيا و لا تكون إلا عن رضا المسلمين..)) (انظر تاريخ الطبري، طبعة دار التراث، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ج4/ص 427، وتاريخ ابن أعثم الكوفي: ص 161) ، ثم قال لهم قبل أن يبايعوه: ((..فأمهلوا تجتمع الناس و يشاورون..)) (تاريخ الطبري: 4/433)، و عوضا عن أن يشير إلى أن الإمامة السياسية مقام إلهي غير مفوض لانتخاب العامة قال: (( إنما الخيار للناس قبل أن يبايعوا )) (انظر بحار الأنوار للمجلسي: ج8 / ص 272، طبع تبريز، والإرشاد للشيخ المفيد: ص 115، طبع 1320، و كتاب مستدرك نهج البلاغة ، ص 88) . و قال كذلك: (( أيها الناس عن ملأٍ و أُذُنٍ أمركم هذا، ليس لأحد حق إلا من أمَّرتم )) ( تاريخ الطبري: 4/435، الكامل لابن الأثير: 4/ 127، و بحار الأنوار للمجلسي: ج8/ص367) (x).(123/11)
. فقال له أبو بكر: فإن لم تبايع فلا أكرهك، فقال أبو عبيدة الجراح لعلي كرم الله وجهه: يابن عم إنك حديث السن و هؤلاء مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم و معرفتهم بالأمور و لا أرى أبا بكر إلا أقدر على هذا الأمر منك، وأشد احتمالا و اضطلاعا به، فسلِّم لأبي بكر - رضي الله عنه - هذا الأمر فإنك إن تعش ويطُلْ بك بقاء، فأنت لهذا الأمر خليق و به حقيق، في فضلك و دينك وعلمك و فهمك، و سابقتك و نسبك وصهرك. فقال علي كرم الله وجهه: الله الله يا معشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره، وقعر بيته، إلى دوركم و قعور بيوتكم، و لا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين، لنحن أحق الناس به، لأنا أهل البيت و نحن أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية، والله إنه لَفِينا فلا تتبعوا الهوى فيضلكم عن سبيل الله فتزدادوا من الحق بعدا. فقال بشير بن سعد الأنصاري: لو كان هذا الكلام سمعَتْهُ الأنصار منك قبل بيعتها لأبي بكر - رضي الله عنه -، ما اختلف عليك اثنان(1). وخرج علي كرم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على دابة ليلا في مجالس الأنصار، تسألهم النصرة،
__________
(1) علاوة على عدم احتجاج حضرة أمير المؤمنين (ع) بحديث غدير خم، فإن نفس كلام الأنصار هذا لدليل واضح أن لا أحد منهم كان يرى في خطبة غدير خم نصبا و نصَّا إلهيا على خلافة علي (ع)، و إلا فمن الواضح من كلامهم أنه لم تكن عنهم عداوة خاصة ضد علي يجعلهم يكتموا ذلك النص الإلهي المزعوم و يتعمدوا تجاهله ، بل من الواضح من كلامهم و موقفهم هذا أنهم مالوا بعد تمام البيعة لأن يكونوا قد بايعوا عليا عوضا عن أبي بكر، مما يوضح أنهم لم يكونوا يأبون إمارة علي و لا كان عندهم إصرار على عدم انتخابه.(123/12)
فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، و لو أن زوجكِ و ابن عمكِ سبق إلينا قبل أبي بكر - رضي الله عنه - ما عدلنا عنه، فيقول علي كرم الله وجهه: أفكنت أدع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته لم أدفنه، و أخرج أنازع الناس سلطانه؟ فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له، و لقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم))(1).
... هذه هي قصة سقيفة بني ساعدة كما روتها كتب السيرة و التواريخ الإسلامية القديمة المعتمدة، و لا خلاف لها فيما روته كتب الشيعة القديمة اللهم إلا النذر اليسير، و ليس في أي منها أي ذكر لغدير خم و لا لاحتجاج الإمام علي به!، إلى أن ظهر ذلك في كتاب شيعي ( متأخر) هو كتاب "الاحتجاج على أهل اللجاج" للطبرسي(2) ضمن رواية، خاطئة تاريخيا، حيث يقول: [... فقال بشير بن سعد الأنصاري الذي وطَّأ الأرض لأبي بكر - رضي الله عنه - و قالت جماعة الأنصار: يا أبا الحسن لو كان هذا الأمر سمِعَتْهُ منك الأنصار قبل بيعتها لأبي بكر - رضي الله عنه - ما اختلف فيك اثنان، فقال علي - عليه السلام -: يا هؤلاء! أكنت أدع رسول الله مسجى لا أواريه، و أخرج أنازع في سلطانه ؟ والله ما خفت أحدا يسمو له، و ينازعنا أهل البيت فيه، و يستحل ما استحللتموه، و لا علمتُ أن رسول الله (ص) ترك يوم غدير خُم لأحد حجة، و لا لقائل مقالا، فأُنشِدُ اللهَ رجلا سمع النبيَّ يوم غدير خم يقول " من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله " أن يشهد الآن بما سمع. قال زيد بن أرقم: فشهد اثنا عشر رجلا بدريا (3)
__________
(1) الإمامة و السياسة، ج 1/ ص 18.(مت)
(2) الطبرسي هذا هو: الشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي المتوفى سنة 620 هـ ( غير الطبرسي صاحب تفسير مجمع البيان الشهير ) (مت)
(3) سنرى عما قريب أن عددا من هؤلاء الشهود ، و من جملتهم خزيمة بن ثابت و أبو الهيثم بن التيهان و ... لم يكونوا يعتقدوت بالنص و التعيين الإلهي لعلي (ع) و لا كانوا يعتبرون هذا الحديث دالا على ذلك. أنظر الصفحة ... ... من هذا الكتاب.(123/13)
بذلك و كنت ممن سمع القول من رسول الله (ص) فكتمتُ الشهادة يومئذ فدعا علِيٌّ علَيَّ فذهب بصري ](1).
... قلتُ: نسبة احتجاج أمير المؤمنين (ع) بقضية غدير خم، الذي رواه زيد بن أرقم، إلى عهد أبي بكر، أمر يخالف التواريخ المسلمة التي يبدو أن واضع هذه الرواية كان عديم الاطلاع عليها، فقد ذكرت المصادر التاريخية الموثقة ـ (كما جاء ذلك مفصلا في بحار الأنوار: ج22/ص32 ، و الجزء الأول من كتاب الغدير) ـ أن استشهاد علي بواقعة الغدير وكتمان أو عدم كتمان زيد بن أرقم(2)، إنما حدث في رحبة الكوفة بعد ثلاثين عاما (من قصة السقيفة) في زمن خلافة أمير المؤمنين أثناء نزاعه مع معاوية، بهدف إثبات أن الحق معه و ليس مع معاوية (لا بهدف إثبات النص الإلهي على خلافته!) و بهدف تشجيع المؤمنين على النهوض في قتال ابن أبي سفيان الذي نصب الحرب لعلي بغير حق، فذكَّرهم بواقعة الغدير كدليل وشاهد نبوي قاطع على أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بنصرته و موالاته و معاداة من عاداه وحاربه: ((اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و... )). و ليس لهذا أي علاقة بموضوع النص على علي بالخلافة من قِبَلِ الله تعالى.
__________
(1) الاحتجاج على أهل اللجاج، ج 1 / ص 96 ( طبعة النجف، عام 1386هـ/ 1966م) (مت)
(2) جمع الأميني في الجزء الأول من كتابه الغدير، روايات استشهاد أمير المؤمنين بواقعة الغدير: و الرواية الثالثة و الحادية عشرة منها لا تتضمن كتمان زيد بن أرقم في حين تتضمن باقي الروايات ذلك. هذا و من الجدير بالذكر أن بعض رواة هذه الأخبار لم يكونوا من المعتقدين بالنص على علي، و ذلك مثل "ابن عقدة" الذي كان زيدي المذهب و لم يذكر هذه الرواية إلا كشاهد من الشواهد على أفضليته (ع) فقط.(123/14)
... هذا بالإضافة إلى أن كتاب الاحتجاج الذي ذكر في تلك الرواية الضعيفة(1) أن اثني عشر بدريا قاموا و شهدوا بما استشهدهم عليه أمير المؤمنين، ذكر رواية أخرى تخالفها حيث تبين احتجاج أولئك الاثني عشر (على أبي بكر) دون أن يأت في كلام أي واحد منهم أي ذكر أو احتجاج بغدير خم بل كل ما جاء في كلامهم أنهم بعد استئذانهم من أمير المؤمنين بالكلام قالو له: " يا أمير المؤمنين! تركت حقا أنت أحق به و أولى منه لأنا سمعنا رسول الله يقول: علي مع الحق و الحق مع علي" و هذه الجملة بحد ذاتها لا تؤدي الغرض و لا تثبت النص على علي بالإمامة، بل أكثر ما يفيده ظاهرها أنه (ع) أكثر استحقاقا و لياقة بذلك المنصب من أي أحد آخر.
ما جاء في هذا الباب في كتب الشيعة
... 1 ـ كما ذكرنا، يتفق ما رواه الطبرسي في كتابه الاحتجاج ـ و هو من كتب الشيعة ـ عن قصة السقيفة و بيعة المهاجرين و الأنصار لأبي بكر - رضي الله عنه -، مع ما جاء في كتاب الإمامة و السياسة لابن قتيبة المقبول عند أهل السنة أيضا.
__________
(1) أنظر صفحة ... ... من هذا الكتاب حيث بينا دلائل ضعف هذه الرواية.(123/15)
... 2 ـ كما رُوِيَت قصة السقيفة و البيعة لأبي بكر - رضي الله عنه - في كتاب " إثبات الوصية " المنسوب للمسعودي، و الذي يعتبرونه من كتب الشيعة المعتمدة، كما نقل عنه ذلك العلامة المجلسي (1) ( محمد باقر بن محمد تقي ) في "بحار الأنوار" (2) فقال: (( و اتصل الخبر بأمير المؤمنين بعد فراغه من غسل رسول الله و و تحنيطه وتكفينه و تجهيزه و دفنه بعد الصلوة عليه مع من حضر من بني هاشم و قوم من صحابته مثل سلمان و أبوذر و مقداد و عمار و حذيفة وأُبيّ بن كعب و جماعة نحو أربعين رجلا. فقام (أي علي) فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: إن كانت الإمامة في قريش فأنا أحق بها من قريش و إن لم تكن في قريش فالأنصار على دعويهم، ثم اعتزلهم و دخل بيته )) (3).
... و إذا لاحظنا بدقة ما جاء في هذا الكتاب الذي عنونه صاحبه بِ" إثبات الوصية " أي الوصية بالخلافة لعلي، لا نجد فيه أي ادعاء من علي بأنه قد نصب لمقام الخلافة من قبل الله و الرسول، بل كان الاستناد في الدعوى لموضوع قبلي فحسب حيث قال: إن كانت الخلافة في قريش فأنا أحق بها من أي أحد من قريش، في حين يجب القول أن عليا أولى بها من جميع الناس على الإطلاق لا لكونه منصوبا من جانب الله و الرسول بل لكونه أليق و أعلم و أتقى و أسخى و أشجع من سائر الصحابة، و هي الصفات المطلوبة في كل خلفاء المسلمين.
__________
(1) هو الشيخ محمد باقر المجلسي،. من مشاهير علماء و محدثي الشيعة الإمامية توفي سنة1111هـ (مت)
(2) أشهر كتب العلامة المجلسي سابق الذكر، يعد كتابه هذا دائرة معارف أحاديث الشيعة حيث جمع فيه مؤلفه كل الروايات و الكتب و المصنفات الحديثية التي خلفها من سبقه من علماء الشيعة في كتاب ضخم يقع في أكثر من خمسين مجلد من القطع الكبير، و أكثر من مائة و عشرة مجلدات في الطبعة الحديثة (مت)
(3) بحار الأنوار: ج 8 / ص 58 ( الطبعة الحجرية القديمة في تبريز )(123/16)
... 3 ـ و يروي الشيخ الطوسي(1) في الصفحة 394 من كتابه "تلخيص الشافي" (2) ـ كما نقل ذلك عنه المجلسي في الصفحة 63 من المجلد الثامن من "بحار الأنوار" (3)ـ قصة السقيفة و البيعة لأبي بكر - رضي الله عنه - فيقول: ((...عن أبي مخنف عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمر الأنصاري قال: أن النبي صلىالله عليه وآله لما قُبِضَ اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة فقالوا: نُوَلِّي هذا الأمر من بعد محمد - عليه السلام -: سعدَ بن عبادة، و أخرجوا سعدا إليهم وهو مريض فلما اجتمعوا قال لابنه أو لبعض بني عمه: إني لا أقدر لشكواي أن أسمع القوم كلامي و لكن تلقَّ مني قولي فأَسْمِعْهم، فكان يتكلم، و يحفظ الرجلُ قولَه فيرفع به صوته ويسمِع أصحابه، فقال بعد أن حمد الله و أثنى عليه، يا معشر الأنصار إن لكم سابقة في الدين و فضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب....(إلى آخر كلامه) ))، ثم لما شعر الأنصار باحتمال عدم قبول قريش لذلك قالوا: (( منا أمير ومنكم أمير و لن نرضى بدون هذا أبداً، فقال سعد بن عبادة لما سمعها: " هذا أول الوهن " و أتى عمرَ الخبرُ فأقبل إلى منزل النبي (ص) فأرسل إلى أبي بكر وأبو بكر في الدار و علي - عليه السلام - في جهاز النبي صلىالله عليه وآله... إلخ.))
__________
(1) هو أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي الملقَّب بشيخ الطائفة، يُعْتَبر من رؤوس علماء و محدثي الإمامية و أعظم فقهائهم المتقدمين، طرد من بغداد فهاجر للنجف و توفي فيها سنة 445 هـ.(مت)
(2) كتاب لخص فيه كتاب " الشافي في الإمامة و إبطال حجج العامة " للشريف المرتضى الملقَّب بعلم الهدى المتوفى سنة 436 هـ. (مت)
(3) من طبعة تبريز الحجرية القديمة و هي الطبعة التي كانت بحوزة المؤلف حيث لم تكن قد صدرت الطبعة الجديدة المحققة بعد. (مت)(123/17)
... و يروي نفس قصة السقيفة التي انتهت بالبيعة لأبي بكر - رضي الله عنه -، دون أن نجد في القصة أي كلام عن نصب الإمام علي خليفة من قبل الله و رسوله أو عن قصة الغدير.
... و لقد جاءت في بعض كتب الشيعة الأخرى قصص و روايات مختلفة أخرى أيضا عن قضية السقيفة و موضوع الخلافة و البيعة لأبي بكر - رضي الله عنه - ومعارضة حضرة علي - عليه السلام - و رد فعل مؤيدي أبي بكر - رضي الله عنه - تجاه معارضة علي و سنتعرض لهذه الروايات في حينها إن شاء الله. أما ما يلزم التذكير به هنا، أنه خلال حادثة السقيفة و المحاججات التي جرت فيها و بعدها (طبقا لما روته كتب الشيعة والسنة)، لم يأت أي ذكر لقضية غدير خم أو لكون علي منصوب من قبل الله ورسوله للإمامة و خلافة الرسول، لا من قِبَل أصحاب الرسول (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) و لا من قِبَل المتحزِّبين لعليٍّ، مع أن المدة بين حادثة غدير خم و وفاة رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) لم تزد عن 70 يومٍ فقط! حيث أن قضية الغدير ـ طبقا لكل التواريخ و لإجماع الشيعة ـ وقعت في 18 من ذي الحجة سنة 10 للهجرة أثناء عودة الرسول (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) من حجة الوداع، مع اتفاقهم على أن وفاة رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) وقعت في 28 من صفر سنة 11 للهجرة (1).
__________
(1) و لو اعتبرنا أن وفاة النبي (ص) وقعت في 12 ربيع الأول (كما يذكر ابن كثير في كتابه الفصول في سيرة الرسول ، طبع 1402هـ ، ص 220) فإنه يكون قد مضى على واقعة الغدير ثلاثة و ثمانون يوما فقط أيضا.(123/18)
... فلو أن حادثة الغدير كانت حقا على النحو الذي يدعيه المدعون من أن رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) قام خطيبا في غدير خم، فيما يزيد على مائة ألف من أصحابه الذي جاؤوا معه لحجة الوداع، فخطب بهم خطبة طويلة مفصلة نصب فيها عليا خليفة له و إماما للمسلمين و أخذ له البيعة من الحاضرين جميعا، بل حتى في بعض الروايات أنه توقف في ذلك المكان ثلاثة أيام، ليأخذ البيعة له من جميع أفراد الأمة حتى من النساء ، و أن حسان بن ثابت أنشد أبيات من الشعر في هذه المناسبة(1)
__________
(1) يذكر العلامة الأميني في الجزء الثاني من كتابه الغدير (الطبعة الثالثة، ص 34) القصيدة التي قيل أن حسان أنشدها ذلك اليوم أمام الرسول (ص) و قال فيها:
... يناديهم يوم الغدير نبيهم ... بخم و أسمِع بالرسول مناديا
... فقال: فمن مولاكم و نبيكم ... فقالوا، و لم يبدوا هناك التعاميا
... : إلهك مولانا و أنت نبينا ... و لم تلق منا في الولاية عاصيا
... فقال له : قم يا علي ، فإنني ... رضيتك من بعدي إماما وهاديا
... فمن كنت مولاه فهذا وليه ... فكونوا له أتباع صدق مواليا
... هناك دعا : اللهم وال وليه ... و كن للذي عادى عليا معاديا
فينبغي أن نعلم أن لا أثر لهذه القصيدة في الديوان المعروف و المطبوع لحسان بن ثابت، و أن هذه الأبيات وضعت و صيغت في القرن الهجري الرابع فما بعد، ذلك أن أول من روى هذه الأبيات ـ كما صرح بذلك العلامة الأميني ـ هو الحافظ: “أبو عبد الله المرزباني محمد بن عمران الخراساني" المتوفى سنة 378 هجرية، أي بعد حوالي ثلاثمائة عام من رحلة النبي (ص)!! و عليه فهناك ـ في اصطلاح علم الرواية ـ انقطاع واضح و كبير في سند هذا النقل، أي رغم توفر الدواعي لنقله و اشتهاره، مضت قرابة ثلاثة قرون دون أن يكون لأحد من المسلمين خبر عنه!، و من البديهي أنه لو قيلت مثل هذه الأبيات في يوم الغدير، لا سيما في ذلك العصر ، لتناقلتها الألسن بسرعة و لحفظت و انتشرت، في حين أنه حتى في آثار أهل البيت ـ عليهم السلام ـ و في أقدم كتب الشيعة الروائية و الكلامية، لا يوجد أدنى إشارة أو أثر لهذه الأبيات مع أنه من المفترض أن يستشهد بها نفس أمير المؤمنين و أولاده و شيعته و يحتجون بها مرارا و تكرارا على مخالفيهم و رقبائهم.
... هذا علاوة على أن سند هذا الخبر ، من ناحية رجاله، متهاو ساقط من الاعتبار لأن أحد رواته "يحيى بن عبد الحميد"، قال فيه أحمد بن حنبل: ((كان يكذب جهارا !)) (أنظر ميزان الاعتدال في نقد الرجال للحافظ الذهبي، دار المعرفة، بيروت ج 4، ص 392). و راو آخر من رواته: "قيس بن الربيع" قيل فيه: ((لا يكاد يعرف عداده في التابعين، له حديث أنكر عليه..)) (ميزان الاعتدال، 3/393). و الراوي الثالث من رواته: "أبو هارون العبدي" و اسمه الأصلي " عمارة بن جوين" قال عنه أحمد بن حنبل: ((ليس بشيء)) و قال ابن معين: (( ضعيف لا يصدق في حديثه!)) و كذلك وصفه النسائي بأنه :((متروك الحديث!)) و قال عنه الجوزجاني: (( أبو هارون كذاب مفتر)) و قال شعبة: ((لإن أُقَدَّم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أحدث عن أبي هارون)) (ميزان الاعتدال، ج3 / ص 173).
... أما بالنسبة لكتاب "سليم بن قيس الهلالي" فقد روى عن حسان بن ثابت أبياتا مختلفة مطلعها:
... ... ألم تعلموا أن النبي محمدا ... لدى دوح خمٍّ حين قام مناديا
... (كتاب سليم بن قيس، منشورات دار الفنون، مكتبة الإيمان، بيروت، ص 229)
و من العجيب أن العلامة الأميني لم يشر إلى أن الأبيات التي نسبها "سليم بن قيس" في كتابه لحسان بن ثابت غير الأبيات التي أوردها هو في الجزء الثاني من كتابه "الغدير"!
... و كتاب "سليم بن قيس" قال عنه العلامة الحلي: ((و الوجه عندي الحكم بتعديل المشار إليه و التوقف في الفاسد من كتابه)) و نقل عن ابن عقيل قوله: ((و الكتاب موضوع لا مرية فيه )) (انظر خلاصة الأقوال في معرفة الرجال للعلامة الحلي، منشورات رضي، قم، ص 83). و كذلك قال ابن داوو الحلي: ((سليم بن قيس الهلالي ينسب إليه الكتاب المشهور و هو موضوع بدليل أنه قال إن محمد بن أبي بكر وعط أباه عند موته و قال فيه إن الأئمة ثلاثة عشر مع زيد و أسانيده مختلفة. لم يرو عنه إلا أبان بن أبي عياش و في الكتاب مناكير مشهورة و ما أظنه إلا موضوعا.)) (الرجال ، لابن داوود الحلي، المطبعة الحيدرية، النجف، ص 249).
... و قال المرجع الكبير السيد أبو القاسم الخوئي زعيم الحوزة العلمية في النجف عن هذا الكتاب: (( و الكتاب موضوع لا مرية فيه، و على ذلك علامات فيه تدل على ما ذكرناه، منها ما ذكر أن محمد بن أبي بكر وعظ أباه عند الموت، و منها أن الأئمة ثلاثة عشر، و غير ذلك. قال المفيد: هذا الكتاب غير موثوق به، و قد حصل فيه تخليط و تدليس..)). (انظر معجم رجال الحديث، طبع قم، الجزء الثامن/ ص 219) (x).(123/19)
، بالإضافة لقولهم أن رسول الله ذكَّرَ أكثر من مرَّةٍ بنصبه للإمام علي ـ بأمر الله تعالى ـ أميرا و خليفة له عليهم، و أكد ذلك الأمر حين وفاته (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم)، ليزيده استحكاما، و رغم كل ذلك وبمجرد وفاته (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) لم يأْبَهْ أصحابه ـ باستثناء قلة نادرة لا يزيد تعدادها على أحسن الأقوال عن أربعين رجل ـ لكل هذه التأكيدات و الأوامر الإلهية و لم يُعِيْروها أي اهتمام و لا أشاروا إليها أدنى إشارة، بل سارعوا للعمل على اختيار خليفة من بينهم، ففي البداية رشّح الأنصار و أهل المدينة سعد بن عبادة - رضي الله عنه - لخلافة رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) و تحركوا لنصبه فتقدَّم المهاجرون بدورهم و قَلَبوا الأمر على الأنصار معتبرين أنفسهم أليق و أحق بمقام الخلافة منهم و حازوا فعلا منصب الخلافة بعد احتجاجاتهم التي تقدم ذكرها، و لم يأتوا في كل ذلك بأي ذكر على الإطلاق للإمام علي و خلافته المنصوص عليها ولا لقضية غدير خم و أخذ الرسول البيعة منهم لعليّ؟؟! إنها قصة عجيبة حقا تفوق السحر و المعجزة لأنها من عالم المستحيلات التي يستحيل حدوثها في عالم البشر، و لم يقع لها نظير في تاريخ الدنيا! و لا يمكن لأي مجنون فضلا عن ذي العقل السليم أن يصدق مثل هذا الأمر.
... كيف، و لو اجتمع مسافران في طريق سفرٍ، فتناولا مع بعض قدحا من الشاي و تبادلا شيئا من الحديث، لاستحال أن ينسيا تماما ما حصل بينهما بعد 70 يوم و لا يذكرا هذا الاجتماع في أي مناسبة طوال حياتهم!!
... فكيف أمكن لمائة ألف أو يزيدون جمعهم في مكان واحد أمر على هذه الدرجة من الأهمية كالبيعة التي لها عند المسلمين و العرب بشكل خاص أهمية لا يضاهيها في أهميتها شيء، أن يتناسوها تماما أو يجحدوها بعد سبعين يوم فقط لدرجة أن أحدا منهم لا يذكر شيئا منها طوال عمره ؟ إن مثل هذا الاتفاق لم يحدث في أي ملة من الملل.(123/20)
... و الأعجب من ذلك أنه حتى أولئك الأربعين شخصا مورد الادعاء الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر - رضي الله عنه -، لم يتكلموا أبدا عن شيء اسمه نص على علي - عليه السلام - أو تعيين له من قبل الله و رسوله و لا احتجوا أصلا بشيء من هذا القبيل، بل لم تكن حجتهم إلا أنهم اعتبروا عليا أحق و أولى بهذا المقام، و حتى أولئك البدريين الاثني عشر الذين احتجوا على أبي بكر - رضي الله عنه - ـ طبقا لما ذكره الطبرسي في كتابه الاحتجاج ـ و اعترضوا على خلافته، لم يحتجُّوا بغدير خم. و كذلك لم ينقل عن أحد من الذي انفصلوا عن القافلة المتجهة للمدينة ـ بعد سماعهم خطبة الغدير ـ و انطلق كل منهم في طريقه إلى موطنه، و لم يكن لهم دوافع المهاجرين المقيمين في المدينة، لم يسمع عن أحد منهم اعتراضا عندما وصل إليهم نبأ اختيار أبي بكر للخلافة أو تعجبا من أنه كيف صار خليفة مع أن علياً هو الذي نصبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - للخلافة؟ لماذا لا نرى في كتب التاريخ أي أثر لمثل هذا الاعتراض أو رد الفعل؟؟!
... مثل هذا الاتفاق على الكتمان و التوحد على النسيان الذي ادُّعي حصوله في أمة الإسلام بعد رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) ليس له حقا نظير في أي أمة في التاريخ!! و الأعجب من ذلك أن عليا - عليه السلام - نفسه أيضا لم يُشِر إلى شيء من هذا الباب و لا احتج به! إذن هذا يدل على أنه في الغدير لم يكن هناك نص على الخلافة. و للأسف لُفِّقَتْ في كتب الشيعة مطالب حول هذه القضية وخُلِطت أمور بعيدة عن العقل و المنطق ينكرها الوجدان ويأباها الإنصاف.
نظرة إلى روايات ارتداد جل أصحاب الرسول (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم)(123/21)
... أخرج الشيخ المفيد(1) في كتابه الاختصاص بسنده: (( عن محمد بن الحسن الصفَّار عن محمد بن الحسين عن موسى بن سعدان عن عبد الله بن القاسم الحضرمي عن عمرو بن ثابت: قال: سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول: إن النبي صلى الله عليه وآله لما قُبِضَ ارتد الناس على أعقابهم كفارا إلا ثلاثا: سلمان والمقداد و أبوذر الغفاري، إنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، جاء أربعون رجلا إلى علي بن أبي طالب - عليه السلام - فقالوا: لا والله لا نعطي أحدا بعدك طاعة أبدا، قال: و لم ؟ قالوا: إنا سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله فيك يوم غدير [خم]، قال: وتفعلون ؟ قالوا: نعم، قال: فأتوني غدا مُحَلِّقِين، فما أتاه إلا هؤلاء الثلاثة! قال: وجاءه عمار بن ياسر بعد الظهر، فضرب يده على صدره ثم قال له: ما لك أن تستيقظ من نوم الغفلة، ارجعوا فلا حاجة لي فيكم، أنتم لم تطيعوني في حلق الرأس فكيف تطيعوني في قتال جبال الحديد؟ )) (2).
__________
(1) هو محمد بن النعمان العكبري البغدادي، الملقب بالشيخ المفيد و يعرف بابن المعلِّم، شيخ متكلمي الشيعة الإمامية في عصره، و كان ذا نفوذ كبير على الشيعة في بغداد و توفي فيها سنة 400 و قيل 413 هـ..(مت)
(2) الاختصاص: صفحة 6 ( طبعة طهران لسنة 1379 هـ.) (مت)(123/22)
... قبل أن نتعرض لرواة هذا الحديث المفترى، من الضروري أن ننبه إلى أن متنه يتضمن إشكالا كبيرا جدا لا يتفق حتى مع الروايات التاريخية المسلمة عند الشيعة، ذلك أنه لم يذكر في عداد الذي استثناهم من الارتداد، العباس بن عبد المطلب عم علي - عليه السلام - و لا أبناء العباس عبد الله و الفضل وقُثَم، و لا خالد بن سعيد بن العاص و البراء بن العازب و حذيفة بن اليمان و أبو الهيثم التيهان و ... و الكثيرين الآخرين الذي تروي نفس كتب الشيعة أنهم كانوا ـ في موضوع الخلافة بعد رسول الله ـ من المؤيدين لخلافة علي و من المخالفين ـ في ابتداء الأمر ـ لخلافة أبي بكر، لدرجة أن بعضهم اعتصم في بيت فاطمة عليها السلام إظهارا لرفضه و عدم رضائه عما تم (1) ! فما ندري ما هو ملاك الارتداد و عدمه عند واضع هذا الحديث؟؟! فإن قيل أن هؤلاء إنما اعتبروا مرتدين لأنهم إنما أيدوا عليا لسبب آخر غير الاعتقاد بأنه منصوص عليه؛ لوجب إذن في هذه الصورة اعتبار سلمان والمقداد أيضا من المرتدين لأنهم ـ كما سنرى فيما بعد (2) ـ لم يكونوا يعتقدون بالنص على علي! أما لو كان ملاك الإيمان و عدمه (أي الاتدراد) هو مساندة وتأييد خلافة علي و عدمه ، فإن عدد غير المرتدين لا يتناسب مع عدد الثلاثة أو السبعة المذكور في الحديث!! حقا إن حبل الكذب لقصير كما يقولون. و الآن لنأت لفحص السند المتهاوي لهذا الحديث و أضرابه:
__________
(1) يضاف إليهم أيضا مالك بن نويرة و أسحابه الذين تعتبرهم كتب و أدبيات الجدل الشيعية من شيعة علي و مؤيدي خلافته و أنهم إنما منعوا زكاتهم عن أبي بكر لرفضهم إمامته.(مت)
(2) انظر الصفحة ... ... من هذا الكتاب.(123/23)
... إن راوي هذا الحديث الموضوع المشحون بالكذب الموجد للشحناء بين المسلمين و المجتث لجذور الوحدة بينهم هو "عبد الله بن القاسم الحضرمي" الموصوف عموماً في كتب رجال الشيعة بأنه: [ كذاب غال يروي عن الغلاة لا خير فيه و لا يُعْتَدُّ بروايته ].
... 1ـ أما رواة و رجال هذا الحديث من أوائل علماء الشيعة بعد الغيبة فلن نبحث فيهم الآن و سنبدأ من "موسى بن سعدان"، الذي عرَّفَتْه كتب الرجال الشيعية بما يلي:
أ ـ في كتاب الرجال للنجاشي(1)، في الصفحة 317: [ موسى بن سعدان الحناط، كوفي روى عن أبي الحسن في مذهبه غلوّ.]
ب ـ في كتاب "مجمع الرجال" للقهبائي(2) قال: [ (غض)(3) موسى بن سعدان الحناط: كوفي روى عن أبي الحسن، ضعيف في مذهبه غلوّ.]
ج ـ في كتاب "خلاصة الأقوال في معرفة الرجال" للعلامة الحلي(4): جاء ذكر موسى بن سعدان في الصفحة 375 من القسم الثاني من الكتاب المخصص للضعفاء و الغلاة و قال عنه الحلي: [ ضعيف في مذهبه غلو.]
د ـ في كتاب الرجال لابن داوود الحلي(5): ذكر المؤلف اسمه في الصفحة 545 في عِداد الضعفاء و المجروحين و المجهولين.
__________
(1) هو الشيخ أبو العباس أحمد بن علي النجاشي من رجاليي الشيعة الإمامية القدماء، توفي سنة 405هـ.(مت)
(2) هو زكي الدين المولى عناية الله علي القهبائي من رجاليي الشيعة الإمامية، توفي سنة 1016 هـ. و قد جمع في كتابه المذكور ما ذكرته الأصول الرجالية الشيعية القديمة الخمسة أي رجال النجاشي و رجال الكِشِّي و رجال الطوسي و فهرسته و رجال ابن الغضائري. (مت)
(3) رمز لابن الغضائري، من رجاليي الشيعة القدماء الذي ينقل عنه القهبائي (مت)
(4) هو جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهَّر الحلي، من أشهر متكلمي الإمامية و فقهائهم الكبار و مرجع الشيعة في عصره، توفي سنة 726 هـ. (مت)
(5) تقي الدين الحسن بن علي بن داوود الحلي من معاصري العلامة الحلي و رجاليي الإمامية المشهورين، توفي سنة 707 هـ. (مت)(123/24)
هـ ـ و أخيراً ذكره الشيخ محمد طه نجف(1) في الصفحة 376 من كتابه "إتقان المقال في أحوال الرجال" في القسم الثالث المخصص للضعفاء.
... 2 ـ أما عن الحال الوخيمة للمدعو "عبد الله بن القاسم الحضرمي" فجاء ما يلي:
1) قال النجاشي عنه في الصفحة 167 من كتابه الرجال: [ عبد الله بن القاسم الحضرمي المعروف بالبطل، كذاب غال يروي عن الغلاة، لا خير فيه و لا يُعتَدُّ بروايته ]
2) و قال القهبائي في الصفحة 34 من الجزء الرابع من كتابه " مجمع الرجال ": [ (غض) عبد الله بن القاسم البطل الحارثي، كذاب، غال، ضعيف، متروك الحديث، معدولٌ عن ذكره. و أيضا عن ( الغضائري ): عبد الله بن القاسم الحضرمي: كوفي ضعيف أيضا غال متهافت لا ارتفاع به. ]
3) و قال الشيخ الطوسي في الصفحة 357 من كتابه "الرجال": [ عبد الله بن القاسم الحضرمي، واقفي.]
و يقول العلامة الحلي في "الخلاصة": [ عبد الله بن القاسم الحضرمي من أصحاب الكاظم واقفي، و هو معروف بالبطل و كان كذابا، روى عن الغلاة، لا خير فيه و لا يُعتَدُّ بروايته و ليس بشيء و لا يُرْتَفَع به.]
4) و قال ابن داود في "الرجال": [ عبد الله بن القاسم الحضرمي المعروف بالبطل، واقفي كذاب غال يروي عن الغلاة و لا خير فيه و لا يعتد بروايته، ليس يشيء.]
__________
(1) من شيوخ و أقطاب الشيعة الإمامية المتأخرين ، جمع و نقح في كتابه كل ما ذكره من قبله، توفي سنة 1323 هـ. (مت)(123/25)
5) و قد وُصِفَ بعين هذه الأوصاف في "إتقان المقال" لطه نجف (صفحة 36) و "نقد الرجال" للتفرشي(1) (الصفحة 204) و "منهج المقال" للميرزا الإسترآبادي(2). ...
... 3ـ أما عمرو بن ثابت الذي روى عبد الله هذا، عنه، هذا الحديث:
1) فقال عنه القهبائي في مجمع الرجال (ص 257): [ (غض) عمرو بن ثابت بن هرمز أبو المقدام مولى بني عجل، كوفي ضعيف جدا.]
2) و ذكره العلامة الحلي في الصفحة 241 من "خلاصة الرجال" في القسم الثاني المخصص للضعفاء و قال: [عمرو بن ثابت ضعيف جدا، قاله الغضائري]، أما باقي كتب الرجال فقد توقفت في شأنه، و على أي حال يكفي للحكم بوضع و كذب ذلك الحديث وجود عبد الله بن القاسم الكذاب في سنده.
... و هناك رواية ثانية في هذا الباب أخرجها أيضا المفيد في نفس كتابه المذكور فقال:
[ عن الحرث بن المغيرة قال: سمعت عبد الملك بن أعين يسأل أبا عبد الله - عليه السلام - فلم يزل يسأله حتى قال: فهلك الناس إذا ؟ فقال: إي والله يا ابن أعين، هلك الناس أجمعون، قلت: أهل الشرق والغرب ؟ قال: إنها فُتحت على الضلال، إي والله هلكوا إلا ثلاثة نفر: سلمان الفارسي و أبو ذر و المقداد، و لحقهم عمَّار، و أبو ساسان الأنصاري، و حُذَيفة، وأبو عمرة فصاروا سبعة ] (3).
__________
(1) السيد مير مصطفى بن الحسين الحسيني التفرشي من علماء الإمامية في القرن الحادي عشر الهجري له كتاب قيم في علم الرجال اسمه: " نقد الرجال " توفي 1015 و قيل 1031 هـ. (مت)
(2) من كبار علماء الإمامية في القرن الثاني عشر الهجري و صاحب كتابٍ جامع في علم الرجال سماه " منهج المقال في تحقيق أحوال الرجال " توفي سنة 1201 هـ. (مت)
(3) الاختصاص: صفحة: 6 (قم، و كذلك طبع بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1402هـ / 1982) (مت)(123/26)
... قلتُ: أصل هذه الرواية عند الكِشِّي(1) في كتابه "الرجال" (2) (ص 13) بالسند التالي: (( محمد بن مسعود قال: حدثني علي بن الحسن بن فضال قال: حدثني العباس بن عامر و جعفر بن محمد بن حكيم عن أبان بن عثمان عن الحرث بن المغيرة البصري قال: سمعت عبد الملك بن أعين يسأل أبا عبد الله ..إلخ الحديث بعينه))(3) فلنر حال رجال سندها:
1) أما علي بن الحسن بن فضال، فقد بينا في كتابنا الزكاة (4) سوء حاله وطعن علماء الرجال فيه و تضعيف فقهاء الشيعة له، إلى درجة أن صاحب "السرائر"(5) قال عنه في باب تقسيم الخمس من كتابه ( الصفحة 115): [واقفي(6) و كافر و ملعون! هو و أبوه رأس كل ضلال].
__________
(1) الكشِّي: محمد بن عمر بن عبد العزيز، من رجاليي الإمامية القدماء، توفي ما بين 350 إلى 390 هـ. (مت)
(2) أحد الأصول الرجالية الأربعة عند الإمامية، واسم الكتاب الأصلي:معرفة الناقلين عن الأئمة المعصومين (مت)
(3) رجال الكشي، الصفحة 13 ( طبعة كربلاء ) (مت).
(4) في الصفحات 190 ـ 193 منه، و هو كتاب للمؤلف (رح)ـ باللغة الفارسية ـ أثبت فيه وجوب الزكاة في كل أنواع الزروع و الثمار و في الأموال الورقية المتداولة و عدم انحصارها في الأجناس التسعة خلافا للفتوى السائدة لدى فقهاء الإمامية. (مت)
(5) هو الفقيه محمد بن إدريس الحلي، من كبار فقهاء الإمامية في القرن السادس الهجري و صاحب كتاب السرائر الذي عرف فيه بآرائه الجديدة الجريئة في الفقه و شدة انتقاده لمن سبقه، توفي سنة 598 هـ. (مت)
(6) الواقفة فرقة من الغلاة اعتبرت الإمام موسى بن جعفر آخر الأئمة و اعتقدت أنه حي لم يمت بل غاب و استتر و هو القائم المهدي الذي سيظهر آخر الزمن، و زعموا أن علي بن موسى الرضا و كل من ادعى الإمامة من بعده مبطل كاذب غير طيب الولادة!!.(123/27)
2) أما جعفر بن محمد بن حكيم، فقد ذكر الشيخ الماماقاني (1) في الصفحة (223) من كتابه "تنقيح المقال" عن رجل من أهل الكوفة أنه قال: [ و أما جعفر بن محمد بن حكيم فليس بشيء ].
و أما أبَّان بن عثمان:
1) فقال عنه العلامة الحلي في الصفحة 21 من الخلاصة أنه [ فاسد المذهب لأنه من الناووسية (2) ].
2) و قال المحقق الحلي(3) في كتابه "المعتبر": [ في أبَّان بن عثمان ضعفا ].
3) كما اعتبره الكشي في كتابه "الرجال" (الصفحة 3) من الناووسية.
4) و نقل فخر المحققين(4) عن أبيه العلامة الحلي أنه كان يقول: [ الأقرب عدم قبول روايته لقوله: إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا، و لا فسق أعظم من عدم الإيمان ].
... بمثل هذه الروايات و مثل أولئك الرواة شوهوا و بدلوا دين الله حتى صارت مثل هذه الروايات المثيرة للفتنة الموجدة للعداوة، و يا للأسف الشديد، على لسان كل شيخ جاهل و كل خرافي متعصب خال من حقيقة الإيمان.
__________
(1) فقيه و مرجع كبير من مراجع الشيعة الإمامية في القرن الماضي، جمع في كتابه الرجالي هذا كل ما جاء في كتب الرجاليين من قبله، توفي سنة 1350 هـ. (مت)
(2) الناووسية أتباع: "عبد الله بن ناووس البصري" الذي قال أن الإمام جعفر بن محمد الصادق حي لم يمت و لا يموت حتى يظهر و يلي أمر الناس و هو القائم المهدي، و لم يعترفوا بإمامة بقية الأئمة بعد الصادق.
(3) أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن الحلي تلميذ ابن إدريس الحلي و ابن زهرة الحلبي و خال العلامة الحلي الذي سبقت ترجمته، فقيه الإمامية في عصره و صاحب كتابي شرائع الإسلام و المختصر النافع الشهيرين في الفقه الجعفري، توفي سنة 676 هـ (مت)
(4) ابن العلامة الحلي و تلميذه و صاحب كتاب إيضاح الفوائد في شرح مشكلات القواعد،في القواعد الفقهية، شرح فيه كتاب قواعد الأحكام لوالده، توفي سنة 771 هـ. (مت)(123/28)
... كذلك أورد المجلسي في المجلد الثامن من بحار الأنوار (ص 47) نقلا عن رجال الكشي: ((عن علي بن الحكم عن ابن عميرة عن أبي بكر الحضرمي قال: قال أبو جعفر - عليه السلام -: ارتد الناس إلا ثلاثة نفر: سلمان و أبو ذر والمقداد. قال: قلت: فعمار ؟ قال ( أي أبو جعفر الباقر ) قد كان حاص حيصة ثم رجع!...))(1).
... سند هذا الحديث أيضا ليس بأحسن حالا من سند الحديثين السابقين، ومن المسلم به أن مثل هذه الأحاديث، من وضع أعداء الإسلام، ليس لإثارة العداوة و بث الاختلاف و الفرقة بين المسلمين فحسب بل لاجتثاث جذور الإيمان بالله تعالى و برسوله (صلىالله عليه وآله وسلم) و بالقرآن الكريم، كما سيأتي توضيح هذا المدعى عن قريب إن شاء الله.
__________
(1) أنظر رجال الكشي: الصفحة 16 ( طبعة كربلاء ).(123/29)
... و أيا كان فمثل هذه الأحاديث لا تستحق السماع حتى لو كان راويها سلمان الفارسي بذاته و العياذ بالله، لأنها مخالفة لصريح آيات القرآن ولحكم الوجدان و لاتفاق أهل الإيمان، و لا يمكن لمن يؤمن بالله و رسوله و يعتقد أن القرآن منزَّل من عند الله أن يلتفت لمثل هذه الأحاديث حتى و لو كان راويها بصدق أبي ذر و سلمان، بل يجب عليه أن يكذِّب و يعارض و يعادي هذه الأحاديث بكل ما أوتي من قوة و استطاعة، و أن يعتبر واضعها والمعتقد بمضمونها كافرا و عدوا لله و رسوله؛ ذلك أن رب العالمين، مدح وأثنى على مسلمي الصدر الأول، أعني أصحاب النبي المختار الذين يشكل المهاجرون و الأنصار أعلامهم و زبدتهم، في أكثر من خمسين آية من آيات القرآن، كما أن سيرة و حياة أولئك الكرام تدل على أن عامتهم إنما دخلوا في الإسلام عن إيمان قلبي ورغبة صادقة، و قدموا في سبيل نصرته أكبر التضحيات إلى حد بذل الروح و ترك الديار و العشيرة و الأقرباء و الهجرة و البعد عن الوطن و اللجوء لبلدان مخالفة لدينهم كما لجأ المهاجرون إلى الحبشة التي كانت بلدا نصرانيا مخالفا للإسلام ظاهرا، و كم من المصاعب و المشقات تحملوا في سبيل إيمانهم و عقيدتهم وإسلامهم مما سيأتي شرحه، بعون الله، على صفحات هذا الكتاب إن شاء الله.(123/30)
... فأي مؤمن بالله و رسوله، بل أي عاقل وجداني منصف، حتى لو لم يكن مسلما، يمكنه أن يصدِّق أن مثل أولئك الرجال المؤمنين الأبطال، لا يهتمُّون بعد رسول الله بنصوص الله و لا بتعيينات رسول الله، بل يغصبون حق عليٍّ القطعي و المعين المنصوص عليه، و يعطونه لأبي بكر، لا لأجل شيء أبدا سوى لسواد عيني أبي بكر(!)، الذي لم يكن يملك آنذاك أي قوة مادية أو سلطان قبائلي أو قوة عشائرية أو ارتباط ( و دعم ) من دولة أجنبية! ذلك أنه لو فرضنا أنه كان لأبي بكر - رضي الله عنه - مصلحة في القضية، فلم يكن لصحابة رسول الله الكرام من الأنصار و المهاجرين أي فائدة أو مصلحة في الأمر.
... أما ما يدَّعيه بعض المغرضين و يصدِّقه بعض عديمي الاطلاع بأن عليا لما كان قد قتل عددا كبيرا من أعداء الإسلام حتى كانوا يسمُّونه ( قتَّال العرب ) ولم يكن بيت من بيوت العرب لم يصب بأحد أفراده على يد ذلك الجناب، لهذا السبب عملت الأحقاد التي كانت في الصدور عملها و جعلتهم يغمضون أعينهم عن كل نصوص الله و نصوص رسول الله تلك، مما أدى لغصب حق عليٍّ! فيجب القول بأن هذا الادعاء كاذب تماما و ينبئ عن إغراض صاحبه أو جهله، لأن عليا - عليه السلام - إذا كان قد قتل كثيرا من المشركين فإن أيا ممن قتلهم لم يكن من ذوي المهاجرين و الأنصار الذين كانوا هم المؤسسسون لبيعة أبي بكر - رضي الله عنه -، وحتى لو فرضنا أن بعض المهاجرين كان لهم أقرباء قَتَلَهم عليّ ـ مع أننا لا نعلم أحدا كذلك ـ فإنه من المحال أن يحقد المؤمنون المهاجرون ـ الذين كانوا هم أنفسهم يقتلون آباءهم و إخوانهم بأيديهم في سبيل رضى الله و لبقاء الإسلام ـ على عليٍّ لقتله بعض قرابتهم من المشركين!(123/31)
... نعم كان علي قد قتل من كفار قريش بعضا ممن التحق أقرباؤهم بالنهاية بالمسلمين، و مثل هؤلاء يحتمل أن يكون قد بقي في صدورهم حقد تجاه ذلك الجناب، و من أعلام هؤلاء أبو سفيان الذي قتل علي أبا زوجته وأخاها ؛ لكن مثل هؤلاء لم يكن لهم حق و لا دور في انتخاب الخليفة لأن ذلك الحق كان خاصا بالمهاجرين و الأنصار و مجاهدي بدر و أحد و ما كان لأولئك الطلقاء أن يدخلوا في صفوفهم، هذا بالإضافة إلى أن أبا سفيان كان على العكس، من الذين عارضوا بيعة أبي بكر و تحزبوا ـ حسب الظاهر ـ لعلي!
... إذن، الادعاء بأن المهاجرين و الأنصار، الذين كانوا المؤسسين للبيعة لأبي بكر، قد أنكروا نصا إلهيا على علي - عليه السلام -، و لم يذكروا اسمه في هذه القضية عمدا و ارتدوا بذلك بعد رسول الله إلا ثلاثة نفر ـ (مع أن اثنين من أولئك الثلاثة ليسا لا من المهاجرين و لا من الأنصار) ـ ادعاء مناقض لصريح آيات القرآن، ولا أعتقد أن أي مؤمن يسمح لنفسه بمعاندة القرآن و مخالفته.(123/32)
( الآيات التي نزلت في مدح أصحاب الرسول ( صلى الله عليه و آله و سلم)
( أي القولين نختار؟؟
( سير الصحابة أيضا مصدقة للآيات و مكذبة للروايات
الآيات التي نزلت في مدح أصحاب الرسول (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم)
... 1 ـ قال الله - سبحانه وتعالى -: { و مِنَ الأعراب من يؤمن بالله و اليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله و صلوات الرسول ألا إنها قربة لهم، سيدخلهم الله في رحمته، إن الله غفور رحيم - والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } التوبة / 99 ـ 100.
... يقول الشيخ الطوسي عند تفسيره لهذه الآية في تفسيره "التبيان": [ أخبر الله تعالى أن الذين سبقوا أولا إلى الإيمان بالله و رسوله و الإقرار بهما من الذين هاجروا من مكة إلى المدينة و إلى الحبشة و من الأنصار الذين سبقوا أولا غيرهم إلى الإسلام من نظرائهم من أهل المدينة و الذين تبعوا هؤلاء بأفعال الخير والدخول في الإسلام بعدهم و سلوكهم منهاجهم...](1). ... قلت: أيُّ مؤمنٍ بالقرآن يمكنه ـ بعد أن يرى هذه الآيات الطافحة بالبشارة بالرحمة والرضوان والوعد بالجنة و الفوز العظيم للمهاجرين و الأنصار، الذين هم أنفسهم المؤسسون الأصليون لبيعة أبي بكر - رضي الله عنه - في السقيفة ـ أن يصدق مثل ذلك الحديث الكفر المثير للفتنة القائل:[ارتد الناس على أعقابهم كفارا إلا ثلاثة!]؟
__________
(1) التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي: ج 1/ ص 854 (الطبعةالحجرية، طهران، 1365 هـ.)(124/1)
... الآن لنرَ بعض أولئك المهاجرين الذين كانوا في بيعة السقيفة وبايعوا أبا بكر - رضي الله عنه - و بقوا أوفياء لبيعتهم، ممن مدحهم الله تعالى في هذه الآيات: فأحدهم " عمرو بن عثمان بن عمرو بن كعب " - رضي الله عنه - من بني سعد، كان من المهاجرين الأوائل إلى الحبشة، و كانت هجرتهم أول هجرة في الإسلام، واستشهد في معركة القادسية في خلافة عمر - رضي الله عنه - مجتهدا في سبيل الله تحت إمرة سعد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه -(1)، و منهم "هبَّار بن أبي سفيان بن عبد الأسد بن مخزوم" - رضي الله عنه - و قد استشهد (على أصح الأقوال) في معركة أجنادين في الشام في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -(2)، و منهم أخو هبار الأخير "عبد الله بن سفيان"- رضي الله عنه - الذي استشهد في الشام في معركة اليرموك في خلافة عمر - رضي الله عنه -(3)، و غيرهم الكثير ممن لا يتسع المجال هنا لشرح حالهم.
... 2 ـ و يقول سبحانه: { الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم أعظم درجة عند الله و أولئك هم الفائزون. يبشرهم ربهم برحمة منهم و رضوان و جنات لهم فيها نعيم مقيم. خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم } التوبة /20 ـ 22. أهؤلاء ارتدوا بعد رسول الله ؟! ولكي نعرف من هؤلاء الموعودون بهذا الثواب العظيم نأتي بآيات أخرى تضمنت نفس العبارات و الألفاظ:
__________
(1) أنظر سيرة ابن هشام: ج 1/ ص 326 و الإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر العسقلاني: ج 3/ ص 7 (القاهرة 1328 هـ.) و الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر القرطبي: ج 2/ ص 498 (مت)
(2) أنظر سيرة ابن هشام: ج 1/ ص 327.،و الإصابة: ج 3 / ص 599 و الاستيعاب: ج 3 / 609(مت)
(3) الإصابة في تمييز الصحابة: ج 2/ ص 317.(124/2)
... 3 ـ يقول رب العالمين: { إن الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله و الذين آووا و نصروا أولئك بعضهم أولياء بعض } الأنفال / 72. فهؤلاء الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا، هل هم إلا المهاجرون إلى الحبشة ثم إلى المدينة ثم المجاهدون مع رسول الله ؟ و كذلك الذين آووا و نصروا، هل هم إلا أهل المدينة؟ أي أنهم نفس مؤسسي بيعة السقيفة. فهل هؤلاء ارتدوا على أعقابهم كفارا بعد رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) فعادوا للكفر و الشرك ؟! لنسمع إجابة سورة الأنفال هذه نفسها على افتراء أولئك المفترين و أعداء الإسلام و المسلمين، حيث يقول سبحانه: { و الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا في سبيل الله و الذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقَّاً لهم مغفرة و رزق كريم } الأنفال / 74. الله الخالق، الذي يعلم الظاهر و الباطن، يقول" أولئك هم المؤمنون حقاً " و لكن كاتبي "الاحتجاج" و "البرهان" (أي الطبرسي والبحراني(1) يملآن كتابيهما بروايات الغلاة عديمي الإيمان التي تقول: أولئك ارتدوا بعد رسول الله إلا ثلاثة! و من القدر أن اثنين من أولئك الثلاثة لا تشملهم الآية الكريمة من ناحية الهجرة و الجهاد بالمال و إيواء المهاجرين! لأن سلمان وأبا ذر لم يكونا لا من المهاجرين و لا من الأنصار، فلا هم من الذين أُخْرِجوا من ديارهم و أُجبِروا تحت ضغط العذاب و الفتنة في الدين على ترك أهلهم وديارهم و وطنهم، و لا هم من الذين أنفقوا أموالهم في سبيل الله، لأنهم كانوا فقراء، و لا هم من أهل المدينة الذين آووا و نصروا المهاجرين، و هذا أمر لا يخفى على من له معرفة بتاريخ الإسلام و سيرة أولئك الكرام، إذ لكل منهم تاريخ معروف و سيرة واضحة يُعْلَم منها أنهم
__________
(1) البحراني:هو السيد هاشم الحسيني البحراني، عالم إمامي أخباري النزعة له تفسير بالمأثور سماه: البرهان في تفسير القرآن، توفي سنة 1107 أو 1109 هـ. (مت)(124/3)
لم يكونوا من المهاجرين و لا من الأنصار(1)، و إليكم نبذة من سيرتهم:
... 1 ـ أما سلمان الفارسي - رضي الله عنه - فكان من أهل أصفهان و ترك وطنه وابتعد عن أهله بحثا عن الدين الحق، و لم يكن عند ذاك متنعِّما و لا متشرِّفا بنعمة الإسلام، لذلك لا يصح اعتباره مصداقا لقوله تعالى: "الذين آمنوا و هاجروا"، ثم سكن آخر الأمر في المدينة حيث صار عبدا لامرأة أو رجل يهودي، ثم اشتراه نبي الإسلام (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) في السنة الثالثة أو الرابعة للهجرة بعد غزوة أحد وأعتقه(2). لذا فإنه - رضي الله عنه - ليس فقط لم يكن مصداقا واضحا لـ " الذين آمنوا وهاجروا " بل كذلك لم يكن مصداقا لـ " و جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم " (3) و لما لم يكن من الأنصار أيضا، لم يكن مصداقا لبقية الآية أي لـ "الذين آووا و نصروا". و هذا لا يمنع أنه كان على أعلى درجات الإيمان بل كان في قمة الإيمان.
__________
(1) و لكن ينطبق عليهم قوله تعالى " و الذين اتبعوهم بإحسان " و بالتالي فهم مشمولون بقوله " رضي الله عنهم و رضوا عنه و أعد لهم جنات....الآية "
(2) أنظر تفصيل قصة إسلام سلمان رضي الله عنه في سيرة ابن هشام: ج1 / ص 214. (مت)
(3) بما أنه شهد مع رسول الله r الخندق ثم شهد عدة غزوات منها حنين و تبوك لذا يعتبرمن الذين قاتلوا وجاهدوا قبل الفتح (باعتبار أن غزوة الخندق كانت قبل فتح مكة) (x)(124/4)
... 2 ـ و أما أبو ذر - رضي الله عنه - فكان من قبيلة غفار، و بعد أن بُعِثَ النبي (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) و اشتهر نبؤه بين العرب و وصل خبره لأبي ذر، ذهب إلى مكة ليستطلع الأمر بنفسه، فلقي رسول الله(صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) فأسلم، و أمَرَه رسول الله بكتمان إيمانه و العودة إلى بلده إلى حين قوة الإسلام، فلما هاجر رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) إلى المدينة لحق به أبو ذر - رضي الله عنه - طائعا مختارا دون أن يضطره أحد إلى الهجرة من وطنه(1).
__________
(1) انظر الإصابة: ج 4 / ص 62، و الاستيعاب (المطبوع في حاشية الإصابة): ج4 / ص 61. (مت)(124/5)
... 3 ـ و أما المقداد - رضي الله عنه -، فمع أنه من السابقين الأولين الذين آمنوا برسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) في مكة، إلا أن هجرته تمَّت بطريقة خاصة و هي أنه لما خرج كفار مكة لقتال رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) و من معه من المسلمين في المدينة، خرج المقداد متنكرا مع عتبة بن غزوان ضمن صفوف كفار قريش، و اتجه للمدينة و لحق بالمسلمين فيها. نعم كان المقداد من المهاجرين الأوائل إلى الحبشة، لذلك تشمله الآية الكريمة، و لكن سيرة المقداد - رضي الله عنه - تدل على أنه لم يكن يعتقد بنص الله - عز وجل - على علي بالخلافة بعد رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم)، يدل على ذلك ما نقله الطبري في تاريخه حين قال: [ و قال (أي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما طُعِن) للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي فأجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلا منهم،و قال لصهيب: صَلِِّ بالناس ثلاثة أيام، و أدخِل عليا وعثمان و الزبير و سعدا و عبد الرحمن بن عوف، و طلحة إن قدم، و قم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة و رضوا رجلا و أبى واحد فاشدخ رأسه أو اضرب رأسه بالسيف، و إن اتفق أربعة فرضوا رجلا منهم و أبى اثنان فاضرب رؤوسهما...(إلى قوله): فلما دُفِنَ عمر جمع المقداد أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة و يُقال في بيت المال..إلخ ] (1). فقبول المقداد - رضي الله عنه - لهذه المهمة دليل على عدم اعتقاده بالنص على علي بالخلافة. طبعا هذا لا يمنع أن مقدادا كان من مؤيدي و أنصار علي - عليه السلام - و سعى لنقل الخلافة إليه بعد عمر - رضي الله عنه -.
__________
(1) تاريخ الأمم و الملوك: ج 3 / ص 294 ـ 295، حوادث سنة 23 و "الكامل في التاريخ" لابن الأثير، تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي: الجزء الثاني/ ص 461.(مت)(124/6)
... لا شك أن أولئك الكرام الثلاثة كانوا من كبار أصحاب الرسول المختار و أجلتهم، و من المشمولين بثناء الله و رحمته و رضوانه، لكن اثنين منهم على الأقل ليسا مصاديق واضحة لتلك الآية المذكورة، و إنما ذكرنا ذلك لكي نبين فضيحة ذلك الحديث المشحون بالكذب و الافتراء و المخالف للوجدان والمباين لآيات الله، فالقول بارتداد كل الصحابة على أعقابهم إلا ثلاثة ليس إلا هراء و هذيان محض بل قريب من الكفر (1).
__________
(1) ما يريد المصنف قوله أن الآيات التي أوردها تؤكد كمال إيمان المهاجرين و الأنصار و استحقاقهم الغفران والجنة و الرضوان، فإذا قيل بارتداد الناس إلا ثلاثة من الصحابة ثم ثبت أن هؤلاء الثلاثة غير داخلين تحتعنوان المهاجرين و الأنصار (لا سيما الأوَّلَيْن منهم) بقيت جميع تلك الآيات المادحة للأنصار و المهاجرين بغير مصداق خارجي أصلا! أو أن نفس أولئك المشهود لهم بصدق الإيمان و الموعودين بالجنات و الغفران كفرة مرتدين!! و كلا الأمرين واضح البطلان فما يؤدي إليهما باطل بلا ريب. (مت)(124/7)
... 4 ـ و قال - سبحانه وتعالى -: { لقد تاب الله على النبي و المهاجرين و الأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم } التوبة / 117. يقول الطوسي في تفسيره: [ أقسم الله تعالى في هذه الآية، لأن لام لقد لام القسم، بأنه تعالى تاب على النبي و المهاجرين و الأنصار بمعنى أنه رجع إليهم و قبل توبتهم، الذين اتبعوه في ساعة العسرة، يعني في الخروج معه إلى تبوك، و العسرة صعوبة الأمر و كان ذلك في غزاة تبوك لأنه لحقهم فيها مشقّة شديدة من قلة الماء حتى نحروا الإبل و عصروا كروشها و مصوا النوى و قل زادهم و ظهرهم،..(إلى قوله): و قيل من شدة ما لحقهم هَمَّ كثير منهم بالرجوع فتاب الله عليهم...أي رجع عليهم بقبول توبتهم إنه بهم رؤوف رحيم ](1) قلت: ففي هذه الآية يضع الله تعالى المهاجرين و الأنصار في صف واحد مع النبي (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) و يشملهم جميعا بالتوبة و الرأفة و الرحمة، إعلاما لنا أن مقام المهاجرين و الأنصار في توبة الله عليهم مثل مقام النبي المختار (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم). فهل مثل هؤلاء صاروا مرتدين؟؟
__________
(1) التبيان في تفسير القرآن: ج 1 / ص: 863 و 864 (من الطبعة الحجرية، طهران 1365 هـ.)(124/8)
... 5 ـ { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله } آل عمران / 110. قال الشيخ الطوسي عليه الرحمة في تفسير التبيان: [ و اختلف المفسرون في المعنِيِّ بقوله كنتم خير أمة، فقال قوم: هم الذين هاجروا مع النبي صلىالله عليه وآله، ذكره ابن عباس و عمر بن الخطاب و السُدِّي، و قال عكرمة نزلت في ابن مسعود و سالم مولى أبي حذيفة و أُبَيّ بن كعب و معاذ بن جبل، و قال الضحاك: هم من أصحاب رسول الله خاصة... ](1). و أيا كانوا فإنهم عند الله خير أمة، أما عند الغلاة المدعين لحب أهل البيت، كانوا أسوأ أمة! (2). فأيهما نقبل: قول الرب سبحانه أم قول الغلاة المخالفين للقرآن؟؟
__________
(1) المصدر السابق: ج 1 / ص 346.
(2) يقول القرآن عن المهاجرين: { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله... الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر و لله عاقبة الأمور} الحج/ 41 ـ 42، و لكن البعض يدعي أنهم عندما مكن الله تعالى للمهاجرين في الأرض غصبوا الخلافة الإلهية لعلي (ع)، و بدلوا دين الله و غصبوا إرث ابنة رسول الله (ص) و ضربوها!!
... و علي (ع) يقول عن الخليفتين اللذين سبقوه: ((أحسنا السيرة و عدلا في الأمة)) (كتاب وقعة صفين، صفحة 201) أما مدعو حب علي (ع) يقولون أنهما كانا ظالمين و غاصبين!! (x)(124/9)
... 6 ـ يقول تعالى بدأً من الآية الرابعة من سورة الفتح: { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم......... لِيُدْخِل المؤمنين و المؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و يكَفِّرَ عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما } إلى الآية 18 حيث يقول: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم و أثابهم فتحا قريبا } إلى الآية 26 حيث يقول: { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحميَّة حميَّة الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى و كانوا أحق بها و أهلها و كان الله بكل شيء عليما } ثم يختتم السورة بقوله: { محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل..إلخ} الفتح /29. من كان هؤلاء المشار إليهم في هذه الآيات ؟ هل كان لهذه الآيات مصاديق في الخارج أم لا؟ هل مات جميعهم قبل وفاة رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) أم بعد وفاته؟ هل تدخلوا في اختيار الخليفة بعده (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) أم لم يتدخلوا ؟ هل جميع هذه الآيات نزلت في أولئك الثلاثة أم أنها تشمل آخرين ؟..إنها أسئلة تطرحها هذه الآيات، و الذي يحق له الإجابة عنها هو المؤمن، لا الغالي عديم الدين مثل "عبد الله بن القاسم الحضرمي"! الذي يجب أن يجيب عن هذه الاسئلة هو المؤمن بالقرآن المعتقد أنه تنزيل رب العالمين العالم بالظواهر و البواطن، لا عبد الله بن القاسم الحضرمي (و أمثاله) الغالي الكذاب عدو الله و رسوله الذي يفتري على لسان إمام من الأئمة: ارتد الناس على أعقابهم كفارا إلا ثلاثة!.(124/10)
... 7 ـ و هناك آيات عديدة أخرى في مدح أصحاب رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) نشير لبعضها مثل قوله تعالى: { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلهم آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله..} البقرة / 285. هل ارتد أولئك المؤمنون بالله و ملائكته و كتبه و رسله ؟ هل كان لهذه الآية الكريمة عندما نزلت مصاديق أم لا ؟ إن كان لها مصاديق فمن كانوا ؟، أو قوله تعالى: { لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياته و يزكيهم و يعلِّمُهُمُ الكتاب و الحكمة و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } آل عمران / 164. هل كان هناك مؤمنون منَّ الله تعالى عليهم بما ذكر ؟ و في حال وجودهم فهل ماتوا جميعا قبل رحلة رسول الله(صلّىاللّه عليه وآله وسلّم)؟ هل يستطيع أحد أن يدعي مثل هذا الادعاء ؟
... 8 ـ و تلك الآية الكريمة التي نزلت بحق المؤمنين المجاهدين في واقعة حمراء الأسد التي يقول الله تعالى فيها: {.. و أن الله لا يضيع أجر المؤمنين. الذين استجابوا لله و الرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم و اتقوا أجر عظيم. الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل. فانقلبوا بنعمة من الله و فضل لم يمسسهم سوء و اتبعوا رضوان الله و الله ذو فضل عظيم } آل عمران /171 ـ 174.(124/11)
... هل مثل هؤلاء المؤمنين كان لهم وجود أم لا ؟ و إن كان لهم وجود فمن كانوا ؟ هل كانوا أولئك الثلاثة فقط الذين لم يرتدوا بعد رسول الله، أي سلمان و المقداد و أبو ذر ؟! هذا في حين أن سلمان لم يكن في ذلك الحين بين أولئك المؤمنين المشار إليهم في الآية أصلا لأنها نزلت في شأن مجاهدي غزوة أُحُد وسلمان لم يلتق برسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) و يُسْلِم على يديه إلا بعد أُحُد، كما أن وجود أبي ذر - رضي الله عنه - بينهم ليس مؤكداً، إذن من هم الذين يمدحهم الله في هذه الآيات كل هذا المديح؟ و هل ماتوا جميعا قبل وفاة النبي (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم)؟ الحقيقة أن اسم مجاهدي بدر و أحد مسجل في التاريخ وأكثرهم كانوا أحياء في زمن الخلفاء بعد رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) وسيرتهم المليئة بالفخار و العظمة مدونة معروفة.(124/12)
... 9 ـ أو الآيات الكريمة: { إن في خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياما و قعودا وعلى جنوبهم و يتفكرون في خلق السموات و الأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار......(إلى قوله تعالى): فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر و أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم و أوذوا في سبيلي و قاتلوا و قتلوا لأكفِّرَنَّ عنهم سيئاتهم و لأدخلنَّهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله و الله عنده حسن الثواب } آل عمران / 190 ـ 195. يقول الشيخ الطوسي في تفسيره الشريف "التبيان": [ و قال (الطبري): الآية مختصة بمن هاجر من أصحاب النبي (صلّىاللّه عليه وآله) من وطنه و أهله مفارقا لأهل الشرك بالله إلى رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله) و غيرهم من تُبَّاع رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله) من الذين رغبوا إليه تعالى في تعجيل نصرهم على أعدائهم و علموا أنه لا يخلف الميعاد بذلك، غير أنهم سألوا تعجيله و قالوا لا صبر لنا على أناتك و حلمك، وقوَّى (أي الطبري) ذلك بما بعد هذه الآية من قوله فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر و أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم و أوذوا في سبيلي و قاتلوا و قتلوا...الآيات بعدها،(يقول الطوسي) و ذلك لا يليق إلا بما ذكره و لا يليق بالأقاويل الباقية و إلى هذا أومى البلخي لأنه قال في الآية الأخرى و التي قبلها (نزلت) في الذين هاجروا إلى النبي (صلّىاللّه عليه وآله)، ثم (نزلت) في جميع من سلك سبيلهم و اتبع آثارهم من المسلمين...](1).
__________
(1) تفسير التبيان: ج 1 / ص 394 ـ 395. (مت)(124/13)
... نسأل ثانية: من هم هؤلاء الذين قال الله تعالى عنهم أنهم هاجروا وأُخْرِجوا من ديارهم و أموالهم و أوذوا في سبيله و قاتلوا و قتلوا و أنه سيدخلهم جناته ؟ إنهم نفس أولئك الذين يقول ذلك الحديث الكفر عنهم: ارتد الناس على أعقابهم كفارا إلا ثلاثة. أي قلب يؤمن بالله و رسوله و اليوم الآخر يمكنه أن يقبل بمثل هذا الكفر الصريح ؟
... 10 ـ و الآية الكريمة:{ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله و رضوانا و ينصرون الله و رسوله أولئك هم الصادقون. و الذين تبوؤ الدار و الإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } الحشر / 8 ـ 10. من كان هؤلاء الذين أُخْرِجوا من ديارهم و اضطروا لترك أموالهم طلبا لرضا الله تعالى و فضله، الذين نصروا الله و رسوله و سماهم الله بالصادقين ؟ ألم يكونوا هم أنفسهم الذين حضروا السقيفة ؟ و هل كان هؤلاء الذين تبوؤا الدار و الإيمان، والذين أحبوا المهاجرين إليهم و آووهم في بيوتهم و آثروهم على أنفسهم، إلا الأنصار الذين أتوا بسعد بن عبادة - رضي الله عنه - بعد وفاة رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) إلى السقيفة و أرادوا أن يجعلوه خليفة و يبايعوه ؟
أي القولين نختار ؟(124/14)
... هذه الآيات و عشرات من الآيات الأخرى(1) التي نزلت في كتاب المسلمين السماوي في مدح و تمجيد أصحاب رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم)، وأبرزهم المهاجرون و الأنصار، أمام عيني كل مسلم عالم بالقرآن و مؤمن بما فيه ؛ تعارض بشدة تلك الأحاديث التي تدعي ارتداد جميع المسلمين وعودتهم إلى الكفر، فور رحلة رسول الله و مفارقته للدنيا، إلا ثلاثة أفراد منهم فقط!! أي الثلاثة الذين بقوا على إيمانهم بالخلافة المنصوصة لعلي!
__________
(1) كقوله تعالى: { لكن الرسول و الذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم و أنفسهم و أولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون. أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم } التوبة / 88 ـ 89، و قوله تعالى: { و لا على الذين إذا أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولُّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون } التوبة / 92، و قوله سبحانه: { إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله...(إلى قوله) الذين إن مكنَّاهم في الأرض أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر و لله عاقبة الأمور } الحج / 38 ـ 41، و قوله سبحانه: {... لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد و قاتلوا و كلا وعد الله الحسنى و الله بما تعملون خبير } الحديد/10، و قوله تعالى:{ و رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } النصر/2، و غير ذلك كثير.(مت)(124/15)
... إن المؤمن بالله و الرسول و القرآن و القيامة لا يمكن أن يصدق تلك الأحاديث و لا ما قيل عن مخالفة المهاجرين و الأنصار للخلافة المنصوص عليها، لأنه إما أن تكون هذه الآيات من عند الله أو لا تكون، فإن لم تكن من عند الله فالقرآن ـ و العياذ بالله ـ من اختلاق و تلفيق غير الله، و إذا صار القرآن من اختلاق و تلفيق غير الله فمعنى هذا انهدام الإسلام، المبتني على القرآن، من أساسه، و إذا انهدم و انهار الإسلام، الذي هو الأصل، فما قيمة إثبات الخلافة المنصوص عليها أو غير المنصوص عليها و ما هي إلا فرع لذلك الأصل ؟ هل هذا إلا كما قال الشاعر:
خانه از باي بست ويران است ... خواجه در بند نقش ايوانست
أي: البيت خَرِبٌ من قواعده ... و الخواجه مشغول بزخرفة شرفته(124/16)
... و أما إن كان القرآن من عند الله، و هو قطعا كذلك، و إن كان الله سبحانه و تعالى عالم بالغيب و الشهادة عليم بذات الصدور، و هو قطعا كذلك، إذن فهو يعلم بحقيقة من يمدحه في كتابه و يبشره بالفوز و الفلاح، عندئذ يجب أن يكون موقفنا واضحا من الآيات الكثيرة مثل قوله تعالى: {و الذين آمنوا وهاجروا و جاهدوا في سبيل الله، و الذين آووا و نصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة و رزق كريم} الأنفال/74، {و أولئك هم الفائزون} {وأولئك هم الصادقون} {وأولئك لهم الخيرات و أولئك هم المفلحون} {كنتم خير أمة} { و ألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها و أهلها } الفتح/26 { و السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا..} التوبة/100، وعشرات الآيات الأخرى.. و نعود فنسأل هل كان لتلك الآيات مصاديق في عالم الخارج أم لا؟ فإن كان يوجد لها مصاديق فمن هم؟ ألم يكونوا نفس الذين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لنصب الخليفة؟ فهل كان الله تعالى، الذي امتدحهم و أثنى عليهم، عالما بسرائرهم وضمائرهم خبيرا بماضيهم ومستقبلهم أم لا ؟ بديهي أن الشق الثاني من السؤال لا يمكن لمؤمن بالله أن يلتزم به "تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا "! و أما إن كان عليما خبيرا، و هو قطعا كذلك، فمن يستطيع أن يدعي أن الله العليم الخبير مدحهم وأثنى عليهم (و شهد لهم بصدق الإيمان ووعدهم بالجنات و الرضوان) لكنهم ارتدوا، فور وفاة نبيهم، على أعقابهم كفارا (خونة) و جحدوا أمر الله تعالى بتأمير علي (ع) عليهم؟! (1)
__________
(1) هناك عدة نقاط ينبغي التنبه إليها في موضوع موقف الأنصار في قضية السقيفة و دلالاته:
أولا: لو كان هناك أمر صريح من الله تعالى و رسوله بخلافة علي (ع)، فلماذا قام الأنصار الذين قال الله تعالى عنهم: { الذين آووا و نصروا أولئك هم المؤمنون حقا} الأنفال/74، و الذن قال عنهم الرسول (ص): ((لو أن الأنصار سلكوا واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار، و لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار)) (المصنف، عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق الأعظمي، ج 11/ ص 62) و قال في شأنهم: ((اللهم ارحم الأنصار و أبناء الأنصار و أبناء أبناء الأنصار!)) (المصنف: ج11/ص 62)، لماذا رشحوا "سعد بن عبادة" زعيم الخزرج للخلافة؟ ألم يسمعوا أمر الله تعالى ورسوله حول نصب علي (ع) ؟!
ثانيا: و لماذا لم يقم الأنصار، بعد هزيمتهم السياسية أمام جناح المهاجرين و بعد انقطاع أملهم في إحراز منصب الخلافة، لماذا لم يقولوا: إذن على الأقل لنبايع من نصبه الله تعالى و رسوله إماما علينا، خاصة أن عليا كان كالرسول من حماة الأنصار و محبيهم، و أكثر المهاجرين قربا منهم؟! و لا ننسى أن انتخاب الخليفة إنما تم في المدينة، أي في المكان الذي كان فيه المهاجرون و أهل مكة أقلية تفتقر للشوكة السياسية، فإذا كان التنافس القبلي بين المهاجرين لا سيما بين الجناح الأموي... و بني هاشم ـ كما يقال ـ هو الباعث لسلب الحق الإلهي لعلي (ع) في الخلافة، فمن البديهي أن الأنصار لم يكن عندهم هذا الدافع و بالتالي كانوا يستطيعون بكل سهولة أن يوقفوا المهاجرين عند حدهم و يمنعوا حصول مثل تلك البدعة في الدين!؟
ثالثا: و لماذا اقتصر الكلام في النقاش و التفاوض، الذي تم في السقيفة، على بيان أفضلية الأنصار على المهاجرين بسبب خدماتهم للإسلام أو بيان أفضلية المهاجرين على الأنصار لكونهم عشيرة الرسول و من قريش و أول من آمن به، ولم يأت أحد على موضوع النص النبوي على الخلافة! وحتى قبيلة الأوس التي لم تكن قد رشحت أحدا للخلافة وكان لسانهم أطول في مجادلة المهاجرين و الانتصار للأنصار، لم يذكروا لدحض ما أراده المهاجرون أي إشارة للنص على علي (ع) ؟! ألا يؤكد كل ذلك بكل وضوح عدم هذا النص؟! (x)(124/17)
. ذلك لأن الله تعالى، الذي يعلم الغيب و يعلم فيما إذا كان عبدا من عباده سيرتكب من الأعمال في المستقبل ما يحبط أجره ويبطل سوابقه الصالحة، إذا قال عن فلان أنه مفلح و فائز و أعددت له الجنات، كان ذلك دليلا قاطعا على أن ذلك العبد لن يرتكب عملا يمنعه من الدخول في الجنة وأن عثراته ستكون مغفورة.
... لأنه من الواضح أن الإنسان العادي إذا عاشر عن قرب شخصا ما لصار على معرفة به و اطلع على خصاله و حقيقة أفكاره، فكيف يمكن لِلَّه الخالق العليم بذات الصدور أن لا يعرف حقيقة عبد من عباده فيمدحه و يثني عليه كل الثناء؟!
... ألم يكن الله تعالى الحكيم العليم الخبير يعلم أن أصحاب نبيه لم يكونوا مهتمين بصدق بحقائق الدين بل قبلوه قبولا ظاهريا سطحيا و متزلزلا ـ كما تدعيه الرويات التي وضعها الغلاة من الشيعة ـ بل طبقا لبعض رواياتهم كان أولئك الصحابة في نفس زمن حياة النبي (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) قد شكلوا زمرا ومجموعات سرية و عقدوا فيما بينهم عهودا و كتبوا صحيفة ملعونة أودعوها الكعبة!!، و أنه منذ أول يوم تظاهروا فيه بالدخول في الإسلام لم يكن لهم هدف سوى الوصول للإمارة والحكومة!! و أن قلبهم كان طافحا ببغض أهل البيت وبمجرد أن ارتحل النبي ارتدوا على أعقابهم و أنكروا أهم أصل من أصول الدين وهو الإمامة المنصوص عليها من الله ؟!! فكيف إذن أنزل تعالى في شأنهم كل آيات الثناء و المديح والشهادة بالإيمان و الفوز و الفلاح تلك؟!! آيات تبقى خالدة إلى يوم القيامة يتلوها المؤمنون آناء الليل و أطراف النهار يحبون بسببها المهاجرين الأنصار و يغبطونهم على إيمانهم و فلاحهم.(124/18)
... أجل إن تصديق رواية ((لما قبض النبي ارتد الناس إلا ثلاثة (أو سبعة)...)) و أمثالها يؤدي إلى تكذيب جميع الآيات القرآنية الكريمة السابقة، أو إلى اتباع البدعة التي وضعها بعض أعداء الإسلام لإسقاط الكتاب المجيد عن الحجية، بادعائهم أن كتاب الله غير قابل للفهم البشري و أننا لا نستطيع أن نفهم منه المراد الحقيقي!! و عندئذ يفتح الباب للباطنية الذين فسروا القرآن على أهوائهم فأتوا بأباطيل لم ينزل الله بها من سلطان!(124/19)
... أجل إن الإصرار على صحة أمثال تلك الروايات، يلزم منه اعتبار تلك الآيات القرآنية الكريمة إما خاطئة ـ و العياذ بالله ـ أو غير مفهومة، و بالتالي ففاعل ذلك يغفل ـ أو يتغافل ـ عن أنه بإصراره على إثبات الإمامة المنصوص عليها لعلي (ع) أثبت ـ و العياذ بالله ـ بطلان معجزة الرسالة الكبرى و بالتالي أثبت كذب الإسلامِ و نبوةِ خاتم الأنبياء (صلىالله عليه وآله وسلم)!! (و وقع في المثل القائل جاء ليكحلها فأعماها!). لأنه إذا كان رد خلافة علي ارتدادا كما تصرِّح به تلك الروايات التي تقول: لما قُبِضَ النبيّ ارتدّ الناس على أعقابهم كفَّارا إلا ثلاثة، ونعلم أن أكثر صحابة النبي بل كلهم بقوا علي بيعتهم لأبي بكر، أي بقوا على ذلك الكفر (!!) ـ و العياذ بالله ـ و ماتوا عليه، فطبقا لقوله تعالى: { و من يرتدد منكم عن دينه فيمت و هو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } (البقرة / 217) سيكونون جميعا قد حبطت أعمالهم و سيصيرون إلى نار جهنم خالدين فيها أبداً، إلا ثلاثة نفر!! أولئك الثلاثة الذين تدل سيرتهم، للأسف أو لحسن الحظ، على أن موقفهم ورأيهم في المسألة كان نفس رأي و موقف سائر أصحاب رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم)!! و ذلك أن المقداد- رضي الله عنه - الذي ذكر في بعض الروايات أنه كان أثبت قدما من سلمان و أبي ذر (رضي الله عنهما) في أمر خلافة علي بعد النبي (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم)، هو نفس الشخص الذي ـ طبقا لوصية عمر - رضي الله عنه - ـ كان عليه مهمة التعاون والإشراف على أبي طلحة (زيد بن سهل) الأنصاري في أمر تعيين الخليفة من بين الستة: علي و طلحة والزبير و سعد و عبد الرحمن و عثمان، حيث أمر عمر - رضي الله عنه - أبا طلحة أن ينظرهم ثلاثة أيام فإن اتفقوا على رجل منهم و أبى واحد أن يضرب عنقه وإن اتفق أربعة و أبى اثنان أن يضرب عنقهما و إن اختلفوا جميعا بعد(124/20)
المدة المحددة أن يضرب أعناقهم جميعا(1).
... كما أن سلمان - رضي الله عنه - كان واليا على المدائن من قِبَلِ عمر - رضي الله عنه - لعدة سنين و لم يُؤْثَر عنه من سيرته المعروفة الواضحة، أدنى اعتراض على خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - و عمر - رضي الله عنه -.
... فبعد كل ذلك هل يمكن لأي مسلمٍ مؤمنٍ بالقرآن أن يعير مفاد تلك الروايات أدنى التفات ؟ ألا ينبغي على كل مؤمن بالقرآن، بينه و بين الله وأمام حكم وجدانه و دينه، ـ و عملا بالأمر الصريح لأئمة آل البيت عليهم السلام الذين أكدوا مرارا أن ما خالف القرآن من الأخبار المنقولة فهو زخرف و ليس عنهم وينبغي أن يضرب به عرض الحائط (2) ـ أن يحارب و يكذِّب بشدة و بكل ما أوتي من طاقة و وسع أمثال تلك الأكاذيب و الكفريات، فما بالك لو آمن بها وصدقها ؟!
__________
(1) راجع ص 42 من هذا الكتاب،و انظر تاريخ الأمم و الملوك للطبري: ج 3 / ص 294 ـ 295 (مت)
(2) أخرج الكليني في الكافي روايات عدة عن الصادق و غيره من الأئمة عليهم السلام تفيد أن شرط قبول الحديث أن لا يخالف القرآن: انظر الحديث رقم 183 و الأحاديث من 198 إلى 203 (أصول الكافي: الجزء الأول / ص 60، الحديث الخامس، و ص 69 الأحاديث من الأول للسادس) (x)(124/21)
... لو ألقيت نظرة، أيها القارئ الكريم، على التاريخ الدموي المخزي المليء بالعداوة و الخصومة والفرقة، الذي أوجدته تلك الروايات و أمثالها بين المسلمين، لأدركت أن واضعي أمثال تلك الروايات، و مختلقي مثل تلك الأحاديث، هم بلا شك و لا ريب من أشد أعداء الإسلام، أو أنهم أشخاص جهلة كان يحركهم ويحرضهم أعداء الإسلام ليوقعوا الفرقة بين المسلمين، حتى يأتي مثل هذا اليوم الذي نرى فيه المسلمين، على كثرة عددهم و كون معظمهم يسكن في أفضل نقاط المعمورة، و مع وجود كل الوصايا والتأكيدات الإلهية الآمرة بالاتحاد والاتفاق الناهية عن الفرقة و الخلاف، على هذه الدرجة من الذلة و المهانة والضعف والتأخُّر، التي يندر أن يكون لها نظير لدى أي شعب من شعوب الدنيا تملك ما يملكه المسلمون، و أصغر نموذج على ذلك سيطرة حفنة من اليهود عليهم...
... أجل، إن كل هذا من بركات أو بالأحرى من الآثار المدمِّرة لأمثال تلك الروايات التي جذورها تنبع من تربة الكفر المبين، لكنها للأسف تُسقى بماء مذاهب إسلامية! أي مذاهب (المتطرفين الغلاة) البعيدة عن الإسلام الحقيقي و روح الدين! مذاهب أوجدتها وابتدعتها السياسات والأهواء المختلفة: أوجدها أعداء الإسلام أو غذّوها و روجوا لها.
سِِيَرُ الصحابة - رضي الله عنهم - أيضا مصدِّقة للآيات و مكذِّبة للروايات(124/22)
... نظرة إجمالية أو تفصيلية أيضا على سِيَر صحابة رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) تبين بوضوح أنهم كانوا أهلا حقا لمديح رب العالمين و ثنائه، فحياتهم المليئة بالفخار تدل على أنهم كانوا زبدة بني آدم. لقد كانوا رجالا دخلوا في الإسلام دون أي تطميع أو تهديد من قِبَلِ مبلغ الإسلام و الصادع به (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم)، ثم لم يؤثر فيهم و يصرفهم عن عقيدتهم أي ترغيب أو تهديد، بل كانوا ثابتي الأقدام على عقيدتهم كالجبال الشوامخ، و بالرغم من جميع أنواع التعذيب و الآلام والاضطهاد الذي كانوا يتعرضون له من قِبَلِ مخالفيهم الذين كانوا أصحاب قدرة وثروة و سلطة، حيث كان أكثر أصحاب النبي (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) من طبقة الفقراء و العبيد الذين يعيشون تحت وطأة وسلطان أسيادهم المخالفين لهم في الدين، فكانوا يُهَدَّدون من قِبَلِ أسيادهم ومالكي رقابهم بالتعذيب إلى درجة الموت، وطبقا لبعض الروايات كانوا يصبون الماء الحار على أجسامهم العارية، و يجلدونهم بأسواط الحديد حتى يتفتَّت جلدهم، أو كانوا يُدخِلون رؤوسهم في الماء حتى ينقطع نفسهم، أو كانوا يخرجونهم إلى الفلوات في حر الشمس و يضعون فوق صدورهم الصخر الثقيل و يتركونه فوقهم ثم يأمرونهم بالرجوع عن الدين الذي قبلوه أو على الأقل البراءة من محمد و دينه، و لو تقية، لينقذوا أنفسهم من العذاب (فيأبون)، و كان يوقَد لبعضهم النار ثم يُمَرُّون عليها فلا يطفئها إلا ودك (أي شحم) بدنهم.(124/23)
... خبَّاب بن الأرتّ - رضي الله عنه - من المسلمين الذين تحملوا أنواعا من العذاب في سبيل عقيدتهم و إيمانهم بدين الإسلام، فهو من المُعَذَّبين في الله، و لعله من أكثر من تحمل العذاب، يقول عنه ابن الأثير: [ خبَّاب بن الأرتّ...مولاته أم أنمار، وهو من السابقين الأولين إلى الإسلام و ممن كان يُعَذَّب في الله تعالى كان سادس ستة في الإسلام...قال مجاهد: أول من أظهر إسلامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و أبو بكر و خبَّاب و صهيب و عمار و سمية أم عمار، فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعه الله بعمه أبي طالب، و أما أبو بكر فمنعه قومه، و أما الآخرون فألبسوهم أدراع الحديد ثم صهروهم وهم في الشمس فبلغ منهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ من حر الحديد والشمس... و قال الشعبي: إن خبابا صبر و لم يعط الكفار ما سألوا فجعلوا يلصقون ظهره بالرَّضَف (أي الحجارة التي حميت بالشمس أو النار) حتى ذهب لحم متنه،.. و قال أبو صالح: كان خبَّاب قيِّنا (أي حدَّادا) يطبع السيوف، و كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يألفه و يأتيه فأُخْبِرَت مولاته بذلك فكانت تأخذ الحديدة المحمَّاة فتضعها على رأسه... توفي سنة 37، قال زيد بن وهب: سرنا مع علي حين رجع من صِفِّين حتى إذاكان عند باب الكوفة إذا نحن بقبور سبعة عن أيماننا فقال: ما هذه القبور ؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين إن خبَّاب بن الأرتّ توفي مخرجك إلى صفين...فقال علي - رضي الله عنه -: رحم الله خبِّابا، أسلم راغبا و هاجر طائعا و عاش مجاهدا و ابتُليَ في جسمه و لن يضيِّع الله أجر من أحسن عملا...] (1).
__________
(1) أسد الغابة في معرفة الصحابة: ج 2 / ص 98 ـ 100، هذا و قد اختصر المؤلف رحمه الله و تصرف في اقتباسه من هذا المصدر فقدم و أخر، أما أنا فارتأيت أن أنقل ما ذكره المصدر بنفس ترتيبه و تفصيله (مت)(124/24)
... صهيب بن سنان الرومي - رضي الله عنه - صحابي آخر من المعذبين في الله والمهاجرين المجاهدين في سبيل الله و قد عاش إلى ما بعد وفاة رسول الله وبايع وأيد الخلفاء قبل الإمام علي - عليه السلام -. يقول عنه ابن الأثير في كتابه " أسد الغابة في معرفة الصحابة ": [ و أسلم صهيب و رسول الله في دار الأرقم، بعد بضعة وثلاثين رجلا، و كان من المستضعفين بمكة المعذبين في الله - عز وجل -.... و لما هاجر صهيب إلى المدينة تبعه نفر من المشركين، فنثل كنانته و قال يا معشر قريش، تعلمون أني من أرماكم، و والله لا تصلون إليَّ حتى أرميكم بكل سهم معي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي بيدي منه شيء، فإن كنتم تريدون مالي دللتكم عليه، قالوا: فدلنا على مالك و نخلي عنك، فتعاهدوا على ذلك فدلهم عليه و لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ربح البيع أبا يحيى!" فأنزل الله تعالى { و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله و الله رؤوف بالعباد } و شهد صهيب بدرا و أحدا و الخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه و سلم.
... و عن مجاهد قال: أول من أظهر إسلامه سبعة: النبي - صلى الله عليه وسلم - و أبو بكر وبلال و صهيب و خباب و عمار بن ياسر و سمية أم عمار، ثم يقول فأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فمنعه الله و أما أبو بكر فمنعه قومه، و أما الآخرون (و منهم صهيب) فأُخِذُوا وأُلْبِسوا أدراع الحديد ثم أُصْهِروا في الشمس.... و كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - محبا لصهيب حسن الظن فيه حتى إنه لما ضُرِبَ أوصى أن يصلي عليه صهيبٌ بجماعة المسلمين ثلاثاً حتى يتفق أهل الشورى على من سيخلف و توفي صهيب بالمدينة سنة ثمان و ثلاثين و قيل سنة تسع و ثلاثين و هو ابن 73 سنة ] (1).
__________
(1) مختصرا من أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير الجزري: ج 3 / ص 30.(124/25)
... و جاء في سيرة ابن هشام أيضا: [ قال ابن اسحق: و حدَّثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير، قال قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العذاب ما يُعذَرون في ترك دينهم ؟ قال: نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم و يجيعونه و يعطِّشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: أللات و العزَّى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، حتى إن الجُعَل (صرصار الصحراء) ليمر بهم، فيقولون له: أهذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهده ](1).
... لكنهم كانوا بكل شجاعة و شهامة و رشد يرفضون الانصياع لما يريده منهم أرباب القدرة و السلطان عليهم و يصيحون تحت ضربات سياط الحديد الملهبة: أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا و رسول الله، مسجلين بذلك أسمى آيات الفخار. و بعضهم كان ذا مال و ثروة و نفوذ و اقتدار، لكن بسبب دخولهم في الإسلام اضطروا ليس للتخلي عن أموالهم ومكانتهم فحسب، بل لأن يغمضوا أعينهم عن الأهل و الديار و الوطن والأقرباء، و يهاجروا لبلاد غريبة، أيا كانت في هذه الأرض الواسعة حتى لو كانت بلادا لا تدين بدينهم كالحبشة، مسلمين أنفسهم لمصير مجهول، وذلك كجعفر بن أبي طالب و مصعب بن عمير وعبد الله بن مسعود و عتبة بن غزوان - رضي الله عنهم - و و و...، و مع ذلك كانوا يقبلون على الهجرة مسرورين راضين و يصرفون نظرهم عن الوطن و القرابة والأصحاب، و لا ينحرفون ذرة عن دينهم.
__________
(1) سيرة ابن هشام:ج 2 / ص 320.، هذا و قد أشار المؤلف، كمصدر لهذا الاقتباس، إلى أسد الغابة أيضا لكني لم أجده ثمة مع كثرة البحث و إنما وجدته عند ابن هشام في سيرته لذا أحلت إليها (مت)(124/26)
... أجل هؤلاء هم الذين يذكر القرآن الكريم لنا بأفضل صورة كيفية إيمانهم و تحملهم للعذاب و تعرضهم للاضطهاد و الإيذاء و يثني على تحملهم الأذى وهجرتهم م في سبيله فيقول: { و الذين هاجروا في الله من بعد ما ظُلِموا لنُبَوِّئنَّهم في الدنيا حسنة و لأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون. الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون } النحل / 41 ـ 42، و يقول: {.. فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم و أوذوا في سبيلي و قاتلوا و قُتِلوا لأكفرنَّ عنهم سيئاتهم و لأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار..} آل عمران / 195، ويقول كذلك: { للفقراء المهاجرين الذين أُخرِجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله و رضوانا و ينصرون الله و رسوله أولئك هم الصادقون } الحشر / 8 حيث يتفق جميع المفسرين بلا خلاف أن هذه الآيات نزلت في المهاجرين إلى الحبشة ثم إلى المدينة.(124/27)
... و لاننسى ذلك الدعاء الجميل من أدعية حضرة الإمام زين العابدين وسيد الساجدين علي بن الحسين - عليه السلام - المسطور في "الصحيفة السجادية" الذي ـ عوضا أن يعتبر الصحابة المهاجرين و الأنصار مرتدين! ـ يدعو فيه لأصحاب رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) من أنصار ومهاجرين فيقول: ((اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره، و كانفوه و أسرعوا إلى وفادته، و سابقوا إلى دعوته، واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته. و فارقوا الأزواج و الأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء و الأبناء في تثبيت نبوته وانتصروا به. و من كانوا منطوين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته. والذين هجرتهم العشائر أن تعلقوا بعروته، و انتفت منهم القرابات أن سكنوا في ظل قرابته. فلا تنس اللهم لهم ما تركوا لك و فيك...و اشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم، و خروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه...))، ثم الأهم من ذلك أنه - عليه السلام - يدعو عقب ذلك للتابعين الذين ساروا على هدي أولئك الصحابة فيقول: ((اللهم و أوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان خير جزائك. الذين تحروا سمتهم و تحروا وجهتهم و مضوا على شاكلتهم. لم يثنهم ريب في بصيرتهم، و لم يختلجهم شك في قفو آثارهم، و الائتمام بهداية منارهم. مكانفين مؤازرين لهم، يدينون بدينهم، ويهتدون بهديهم، و يتفقون عليهم، و لا يتهمونهم فيما أدوا إليهم..))(1).
... فأي إنسان، حتى ذلك الذي لا يؤمن و لا يعتقد بالإسلام، يمكنه أن يقول أن هؤلاء ارتدوا فور رحيل رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) ؟؟ إن لم يكن هناك دين و إيمان فعلى الأقل الحياء و الإنصاف يجب أن يمنعا من التفوُّه بمثل تلك الكفريَّات.
__________
(1) الدعاء الرابع من أدعية الصحيفة السجادية: في الصلاة على أتباع الرسل و مصدقيهم.(124/28)
... لقد عرضنا في كتابنا هذا بتوفيق الله، بعضا من سيرة الذين تحملوا أنواع المشقات و استقبلوا بصدر رحب، في سبيل المحافظة على دينهم، صنوف المصائب و البليَّات، و بقوا ثابتين مستقيمين على التضحية و الوفاء إلى آخر رمق، و مع ذلك ما كان موقفهم عقب وفاة نبيهم (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) في سقيفة بني ساعدة إلا اتباع سبيل سائر المؤمنين، و لم يتكلموا بكلمة اعتراض خلافا لما تم، و قد اكتفينا بما ذكرنا كأنموذج فقط، و إلا فإن كل أصحاب رسول الله (1) كانوا كذلك، وعانوا في صدر الإسلام المشقات وشهدوا الحروب و الغزوات. هذا كان من ناحية النقل الذي يبين كذب الروايات، فلنأت الآن إلى العقل لنرى حكمه في هذه القضية ؟
__________
(1) ينبغي التنبيه إلى أن مقصودنا من الأصحاب ليس "كل من رأى النبي و لو لحظة أو سمع منه" ـ كما هو اصطلاح المحدثين ـ بل المقصود خاصة النبي (ص) الذين لازموه و نصروه و قاموا معه في أمر الدين، كما نجد ذلك فيما يرويه ابن هشام في سيرته (ج 2/ ص 431) حيث يذكر أنه لما نشب نزاع بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف فشتمه خالد فقال له رسول الله (ص): ((مهلا يا خالد! دع عنك أصحابي! فو الله لو كان لك أحدٌ ذهبا ثم أنفقته في سبيل الله، ما أدركت غدوة رجل من أصحابي و لا روحته)) هذا مع أن خالدا كان مسلما و رأى الرسول (ص) و سمع منه و لكن الرسول (ص) ميزه عن أصحابه..(124/29)
( العقل منكر للنص
( إذن ما حقيقة قصة الغدير
( هل أريد بحديث الغدير النص على علي بالخلافة؟؟
( علي إمام المسلمين بحق
العقل منكرٌ للنص
1 ـ القول بأن الله تعالى هو الذي نصب و عين الأئمة وفرض طاعتهم على العالمين وحرم الجنة على من لم يعرفهم أو لم يتبعهم، مع نسبة صفات الأنبياء لهم مثل أن الوحي يأتيهم و أن عند كل منهم صحيفة خاصة من الله تعالى يؤمر بالعمل بها، و أنهم شجرة النبوة و موضع الرسالة و مختلف الملائكة، يأتيهم الملاك و يسمعون صوته وإن كانوا لا يرونه، و أن روح القدس الذي يكون للنبي ينتقل بعده للإمام .. الخ ـ كما نجد ذلك في عدد من الروايات في كتبنا الحديثية الأساسية خاصة أحاديث كتاب الحجة من كتاب أصول الكافي (1)
__________
(1) كحديث أن الأئمة عليهم السلام: (( ..شجرة النبوة وموضع الرسالة و مختلف الملائكة)) (أصول الكافي: كتاب الحجة: ج1 / ص 221 فما بعد)، و أنهم: ((مُحدَّثون يسمعون صوت الملاك ولكنهم لا يرون و لا يعاينون الملاك)) (المصدر السابق: ج1 / 176 ـ 177) ، و أنهم: ((خزان علم الله وتراجمة أمر الله ، نحن قوم معصومون أمر الله تبارك و تعالى بطاعتنا و نهى عن معصيتنا، نحن الحجة البالغة على من دون السماء وفوق الأرض..)) (المصدر السابق: ج1 / ص 269 ـ 270)، و أن: ((روح القدس به حمل النبوة فإذا قبض النبي (صلىالله عليه وآله) انتقل روح القدس فصار إلى الإمام..)) (المصدر السابق: ج1 / ص 270 فما بعد)، و ((أن في الأنبياء و الأوصياء خمسة أرواح: روح القدس وروح الإيمان و روح الحياة و روح القوة و روح الشهوة...فبروح القدس عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى...)) (المصدر السابق: ج1 / ص 271 فما بعد). وأن: ((الأئمة لم يفعلوا شيئا و لا يفعلوا إلا بعهد من الله عز وجل لا يتجاوزونه، و أن الله عز و جل أنزل على نبيه (صلىالله عليه وآله وسلم) كتابا قبل وفاته فقال: يا محمد هذه وصيتك إلى النخبة من أهلك... علي بن أبي طالب و ولده عليهم السلام، و كان على الكتاب خواتيم من ذهب كل إمام يفك خاتما و يعمل بما فيه ثم يدفعه لمن بعده فيفك خاتما ويعمل بما فيه ... الحديث)) (المصدر السابق: ج1 / ص 279 فما بعد، الحديث 1 و 4) . بل في حديث صريح منسوب للإمام الصادق عليه السلام: ((الأئمة بمنزلة رسول الله (صلى الله عليه و آله)، إلا أنهم ليسوا بأنبياء و لا يحل لهم من النساء ما يحل للنبي، فأما ما خلا ذلك فهم فيه بمنزلة رسول الله (صلى الله عليه و آله) .)) (المصدر السابق: ج1 / ص 270). (x)(125/1)
، حيث نسبت إليهم في بعض الروايات صفات تفوق حتى صفات الأنبياء ، أي لا يوجد في القرآن مثلها حتى للأنبياء أولي العزم، أي الرسل أصحاب التشريع، فضلا عن الأنبياء ذوي النبوة التبليغية فقط! (1)
__________
(1) كالأحاديث التي تصف علم الأئمة عليهم السلام بأنهم: ((يعلمون ما كان و ما يكون و أنهم لا يخفى عليهم شيء)) (أصول الكافي: كتاب الحجة: ج1 / ص 260)، وأنهم: ((يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة و الأنبياء و الرسل)) (المصدر السابق: ج1 / ص 255 فما بعد)، و أن: ((الإمام لا يخفى عليه كلام (لغة) أحد من الناس و لا طير و لا بهيمة و لا شيء فيه الروح..)) (المصدر السابق: ج1 / ص 285)، و أن: ((عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عز و جل و أنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها)) (المصدر السابق: ج1 / ص 227)، و أن: ((أعمال العباد تعرض عليهم في الصباح والمساء..)) المصدر السابق: ج1 / ص 219 فما بعد)، و أن: (( عندهم ألواح موسى و عصاه وقميص آدم (الذي ألقي على وجه يعقوب فارتد بصيرا) وخاتم سليمان (الذي كان يسخر به الجن والشياطين)..)) (المصدر السابق: ج1 / ص 231 ـ 232).
... أو الأحاديث التي تصف خلقتهم بأوصاف خارجة عن أوصاف سائر البشر مثل أن: ((للإمام عشر علامات: يولد مطهرا مختونا و إذا وقع على الأرض وقع على راحته رافعا صوته بالشهادتين، و لا يجنب، تنام عينيه و لا ينام قلبه ، و لا يتثاءب و لا يتمطى، ويرى من خلفه كما يرى من أمامه، و نجوه كرائحة المسك والأرض موكلة بستره و ابتلاعه ... الحديث)) (أصول الكافي:كتاب الحجة / باب مواليد الأئمة عليهم السلام، حديث رقم 8، ج1 / ص 385 فما بعد)، و رواية أخرى أن الإمام: ((إذا وقع من بطن أمه وقع واضعا يديه علىالأرض رافعا رأسه إلىالسماء، فأما وضعه يديه على الأرض فإنه يقبض كل علم لِلَّه أنزله من السماء إلى الأرض، وأما رفع رأسه إلى السماء فإن مناديا ينادي من بطنان العرش من قبل رب العزة من الأفق الأعلى باسمه و اسم أبيه يقول: يا فلان بن فلان، اثبت تثبت، فلعظيم ما خلقتك، أنت صفوتي من خلقي و موضع سري و عيبة علمي و أميني على وحيي و خليفتي في أرضي... فيجيبه (الإمام المولود) واضعا يديه رافعا رأسه إلى السماء: { شهد الله أن لا إله إلا هو و الملائكة و أولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} آل عمران/ 18)) (المصدر السابق نفس الكتاب و الباب : حديث رقم 1)، و أن الإمام يمكن أن يقوم بالحجة و هو ابن ثلاث سنين! (المصدر السابق : ج1 / ص 321، الأحاديث 10 و 13 )، و أن: ((الله خلقهم من نور عظمته وخلقت أبدانهم من طينة مخزونة لم يخلق منه أحد إلا الأنبياء .. الحديث)) (المصدر السابق: ج1 / ص 389). (x)(125/2)
ـ أقول أن مثل هذا القول لا يتناسب مع قاعدة ختم النبوة التي هي موضع اتفاق جميع فرق المسلمين و إجماع الأمة قاطبة.
... إذ أن نصبَ الله تعالى و تعيينه أئمةً بمثل تلك الخصائص التي هي من خصائص الأنبياء و فرضَ طاعتهم على كل بني الإنسان ـ، سيكون بمثابة بعث أنبياء جدد بعد نبينا محمد (صلىالله عليه وآله وسلم)، بل إن تلك الخصائص المذكورة للأئمة عليهم السلام أعلى و أهم من خصائص الأنبياء المبلغين الذين كانوا يبعثون لتأييد و تبليغ رسالة النبي الذي سبقهم (1) ، أو على الأقل ليست دونهم مرتبة، وهذا لا يتفق أبدا مع مبدأ ختم النبوة، فإذا كانت العهود التي سبقت نبينا الخاتم (صلىالله عليه وآله وسلم) احتاجت لمثل أولئك الأنبياء المبلغين بعد أنبيائهم، فإن عهد الرشد الذي وصلت إليه البشرية بعد خاتم النبيين و سد باب النبوة و الرسالة نهائيا، برسالة سيدنا محمد (صلىالله عليه وآله وسلم) لم يبقِ مجالا لبعث أنبياء بعده. فإن قيل: لا أحد يعتبر أو يسمي الأئمةَ أنبياءَ ، بل رواياتنا تمنع و تكره تسميتهم بذلك بشدة، قلنا إن ذلك لا يغير من حقيقة الأمر شيئاً، فالعبرة ليست بالاسم بل بالمعنى، فإذا نسبت لأولئك الأئمة كل أوصاف الأنبياء و خصائصهم الإلهية مثل التعيين من الله تعالى و فرض طاعتهم على العالمين ووحي الله تعالى إليهم بواسطة الملاك وروح القدس الخاص بالأنبياء و عصمتهم المطلقة و أن كل واحد منهم عنده كتاب خاص من الله تعالى يعمل به، و أن معرفتهم و الإيمان بهم شرط النجاة الأبدية يوم القيامة... الخ، فهم
__________
(1) أي مثل كثير من أنبياء بني إسرائيل الذين لم يبعثوا برسالة أو كتاب جديد، بل كانوا على شريعة التوراة و إنما بعثوا للهداية و إرشاد الخلق و إحياء التوراة و العمل بالدين و نصرته ، مثل يوشع بن نون وصموئيل و حزقيل ودانيال و... و زكريا و يحيى و مئات الأنبياء الذين كان يبعث العشرات منهم أحيانا في نفس الوقت. (مت)(125/3)
كالأنبياء بكل معنى الكلمة و إنكار ذلك مجرد تلاعب بالألفاظ.
... و أنا أعتقد أن الذين يصرون كل هذا الإصرار على الإمامة المنصوص عليها من الله ، لم يدركوا كما يجب معنى ختم النبوة.
... و قد ألف أحد الفضلاء المعاصرين و هو العلامة الشيخ الأستاذ "مرتضى مطهري" كتابا قيما باسم "ختم النبوة" شرح فيه بشكل ممتاز فلسفة ختم النبوة ـ هذا رغم أنه بقي على القول بالإمامة بالنص دون أن ينتبه إلى أنها تتناقض مع لوازم نظريته ـ ، و من المفيد هنا أن ننقل بعض العبارات من كتابه ذاك، قال: (( إن رسالة نبي الإسلام تختلف عن رسالات سائر الأنبياء الذين سبقوه بأنها من نوع القانون لا البرنامج المفصل، أي أنها دستور عام للبشرية (ص 26). (( وحي هذا النبي هو في مستوى دستور كلي أبدي )) (ص 30). (( النبي الخاتم هو الذي طوى جميع المراحل و لم يبقِ ـ من ناحية الوحي الإلهي ـ أي طريق لم يُطرَق أو نقطة لم تُكتَشف )) (ص34). (( الوحي الإلهي أعلى مظاهر الهداية و أرقى درجاتها. الوحي يتضمن إرشادات خارجة عن متناول الحس و الخيال و العقل و العلم، ولذلك لا يمكن لشيء من هذه الأمور أن يحل محل الوحي. و لكن الوحي الذي له تلك الخواص هو الوحي التشريعي لا التبليغي، أما الوحي التبليغي فعلى العكس. طالما لم تصل البشرية بعد إلى درجة النضوج الكامل في العقل و العلم و المدنية بحيث يمكنها أن تقوم بنفسها بحمل رسالة الله و القيام بمهمة الدعوة و التعليم والتبليغ و التفسير و الاجتهاد ، فإن الحاجة للوحي التبليغي تكون لا زالت باقية. ظهور العلم و العقل و بعبارة أخرى وصول الإنسانية لمرحلة الرشد و البلوغ، ينهي تلقائيا مرحلة الوحي التبليغي، حيث يصبح العلماء هم ورثة الأنبياء )) (ص 47). (( في الواقع ، أحد أركان الخاتمية هو البلوغ الاجتماعي للبشر إلى الحد الذي يصبحون معه قادرين على حفظ مواريثه العلمية و الدينية و القيام بنشرها وتعليمها و تفسيرها ))(125/4)
(ص 13).
... و إذا رأينا أن نبيا من أنبياء بني إسرائيل يقوم ـ بأمر الله تعالى ـ بتعيين "طالوت" ملكا عليهم (البقرة/ آية 246)، و هو ما يدعي مثله القائلون بالإمامة بالنص بالنسبة للأئمة عليهم السلام، فإن هذا إنما تم (بالنسبة لطالوت) لأنه كان من الأمور التي ـ على حد قول الأستاذ مطهري ـ: (( لا بد أن تتم بالوحي في مرحلة طفولة البشرية )) (ص 87) أي المرحلة التي تكون البشرية فيها لا تزال بحاجة لكلا نوعي النبوة: التشريعي و التبليغي. (( فقد كانت البشرية ، قبل عدة آلاف من السنين، غير متمكنة من الحفاظ على مواريثها الدينية و العلمية و لم يكن من الممكن توقع خلاف ذلك منها)) (ص 12) لأنها لم تبلغ في إمكانياتها ووسائلها و رشدها الاجتماعي و السياسي و الفكري إلى الحد الذي يمكنها من المحافظة على تراث الأنبياء نقيا بلا تغيير و لذا كانت (( التحريفات والتبديلات تظهر في تعاليم الأنبياء و كتبهم المقدسة ... و بالتالي كانت تلك الكتب والتعاليم تفقد صلاحيتها لهداية الناس )) (ص 11). و لكن بعد نزول قوله تعالى { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر/آية 9) (( انتفى الداعي الرئيس للرسالات الجديدة و لبعث أنبياء جدد )) (ص 12). و على حد قول المفكر الباكستاني محمد إقبال اللاهوري : (( لا يمكن للبشرية أن تبقى للأبد بمرحلة الطفولة و الحاجة للإرشاد من الخارج. إلغاء الكهانة و الملك الوراثي في الإسلام، و التأكيد الدائم في القرآن الكريم على العقل و التجربة، و الأهمية التي أولاها ذلك الكتاب المبين للطبيعة و التاريخ كمصادر للمعرفة البشرية، كل هذا مظاهر مختلفة لفكرة واحدة هي ختم الرسالة )) (1).
__________
(1) كل ما ذكر بين المعقوفتين في الصفحات الثلاث الأخيرة اقتباسات من كتاب "ختم النبوة" للأستاذ الشيخ مرتضى مطهري ، نشر دار صدرى، طهران.(125/5)
... لذلك نرى ـ في ضوء ما ذكر أعلاه ـ أن النص من جانب الله، على إمامة و حكم أفراد معينين، إن تم مثله قبل ختم النبوة، ـ مع أننا لم نجد مثل تلك الأوصاف الخارقة التي تنسَب للأئمة عليهم السلام حتى للأنبياء المبلغين السابقين! ـ فإنه ليس معقولا و لا يمكن أن يتم بعد ختم النبوة و الرسالة بنوعيها التشريعي والتبليغي.
... 2 ـ إن تعيين و نصب عدد معين من الأشخاص سواء اثنا عشر أو إحدى عشر أو سبع ..الخ لحكم البشرية و سياستها لمدة مئات آلاف السنين إلى يوم القيامة أمر مخالف للعقل و للمنطق و لواقع الحياة، لأن المدة التي يمكن لهؤلاء الاثني عشر شخصا أن يعيشوا فيها و يحكموا الناس فعلا، لن تتجاوز المائتين وسبعين إلى ثلاثمائة عام! في حين أن الإسلام دين أبدي خالد، والمسلمون يحتاجون لحاكم فعلي يسوسهم و ينفذ فيهم أحكام الله تعالى في جميع الأزمنة و الأعصار، حيث لا يجوز تعطيل أحكام الشرع و لا للحظة واحدة. فلا بد أن يكون الشارع المقدس قد بين الطريق و المنهج الكلي في قضية الحاكم واختياره عندئذ، لأنه لا يمكن أن يترك الشرع هذا الأمر الحياتي دون أن بيان إطاره أو خطوطه العريضة الكلية للناس و هو الدين الأبدي الكامل. فإذا أقر القائلون بالنص على وجود مثل هذا التعليم لكن قيدوه بما بعد انتهاء عهد ظهور الأئمة المنصوبين المنصوص عليهم، أرجعنا نحن نفس هذا التعليم إلى كل الفترة الزمنية التي تتلو رحلة النبي (صلىالله عليه وآله وسلم) إلى يوم القيامة بلا استثناء، لأنه لا يمكن أن يكون هناك تفاوت في تعاليم الشرع بين فترة زمنية و فترة أخرى أي لا يمكن أن يكون لجزء من زمان ما بعد النبي (صلىالله عليه وآله وسلم) تعليم ما و لبقية هذا الزمان إلى يوم القيامة تعليم آخر ، إلا بدليل، و لا دليل لدينا أصلا إلا مجرد الادعاء.(125/6)
... 3 ـ النص من جانب الله تعالى على أشخاص معينين بأسمائهم ليكونوا حكاما على الناس، في العصر الذي بلغت فيه البشرية سن الرشد و ختمت به النبوات و حُفِظ فيه الكتاب السماوي الخالد بلا تغيير أو تبديل أ زيادة أو نقصان، أمر لا ينسجم مع فلسفة التشريع و هدف الخلق الذي هو ابتلاء الناس وامتحانهم. فقد صار على المسلمين الآن أن يديروا مجتمعاتهم بأنفسهم و يُمْتَحنوا في مدى التزامهم بالعمل بمشيئة الله و تعاليم كتابه. عليهم ـ بالرجوع إلى أوامر الشرع المقدس و نواهيه ـ أن ينتخبوا رئيسهم و أن يميزوا بين الصالح و الطالح و بين المتقي و الفاجر، ثم يكونوا رقباء عليه يطيعوه و يعينوه إذا أصاب و يسددوه و يقوموه إذا انحرف، أما إذا عين الله تعالى فردا أو أفرادا مخصوصين لحكم و سياسة المسلمين على الدوام، فإن كل فلسفة ابتلاء الناس وامتحانهم وفتنتهم هذه تبطل، وتصبح كل أوامر و نواهي الشرع التي تبين من تجب طاعته ومن يتوجب عصيانه، بلا معنى، حيث يخرج الاختيار من يد الفرد والجماعة عندما يتوجب عليهم الطاعة العمياء للقائد الحاكم الذي له القدرة، بسلطته، على إجبار الناس على تنفيذ أقواله واتباع أوامره، خاصة أن القائلين بالنص يعتقدون أن المنصوص عليهم معصومون مطلقا فلا مجال للسؤال و النقاش عند إطاعة أوامرهم. هذا في حين أننا نرى أن القرآن الكريم آيات عديدة تحدد من تجب طاعته و من تجب معصيته:(125/7)
فأولا: ليس في القرآن الكريم أمر بالطاعة المطلقة إلا لِلَّه و رسوله فقط و ما، وذلك في قوله تعالى: { قل أطيعوا الله و الرسول...} آل عمران/32، { و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله...} النساء/64، { من يطع الرسول فقد أطاع الله...} النساء/80 . أما ما عدا الله تعالى و رسوله فطاعته مشروطة بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول، و أولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول، إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلا} النساء/ 59.
و ثانيا: حددت كثير من الآيات صفات من تجب طاعته كقوله تعالى: { والسابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه...} التوبة/ 100، { أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهِدِّي إلا أن يهدى ؟ فما لكم كيف تحكمون؟} يونس/35، { و اتبع سبيل من أناب إلي} لقمان/15، { و قال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد} غافر/38. و نحوها من الآيات الكريمة.
... في حين بينت آيات عديدة أخرى صفات من تجب معصيتهم و تحرم طاعتهم، مثل: { و لا تتبع سبيل المفسدين } الأعراف/142، { و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه و كان أمره فرطا} الكهف/28، { و لا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض و لا يصلحون} الشعراء/151 ـ 152، { و لا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} الجاثية/18، { فلا تطع المكذبين. ودوا لو تدهن فيدهنون. و لا تطع كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم. مناع للخير معتد أثيم. عتل بعد ذلك زنيم} القلم/ 8 ـ 13، { فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا } الإنسان/24، { و من …...... و يتبِّع غير سبيل المؤمنين نوَلِّه ما تولى و نصله جهنم... } النساء/ 115.(125/8)
... فلو كان ثمة أئمة منصوص عليهم و معصومون، و بالتالي الوحيدون الذين تجب طاعتهم المطلقة على المؤمنين، لقال الشارع عليكم طاعة فلان و فلان فقط، و لما كان هناك حاجة لمثل تلك الأوامر و النواهي الكلية! في حين أن هذه التعاليم تعتبر دستورا تسترشد بها الأمة في تعيينها لحاكمها، و تميز به بين اللائق لهذا المقام ومن لا يليق به. أي أن زمن المسؤولية حل ابتداء من عهد ختم النبوة. في الواقع إن الإسلام أكثر حسن ظن بالبشرية من القائلين بالإمامة المنصوصة. (1)
... 4 ـ لم يكن لأي نبي من الأنبياء السابقين و لا في أي شريعة من الشرائع الإلهية الماضية أئمة منصوص عليهم و حكام معصومون يجب على الأمة طاعتهم تعبدا و ديانة، و لا كان لأي من الأنبياء السابقين وصيا معينا للحكومة. و الادعاء بأن لكل نبيٍّ وصيٌّ نصَّ عليه ليخلفه في شأن الحكم واستلام زمام الأمور ادعاء عار من الحقيقة و لا أساس له، و لا غرو فمثل هذا لو حصل يكون، كما أوضحنا سالفا، نقضا للغرض المراد من وراء تشريع الشرائع، أعني امتحان الناس واختبارهم، إذ يسلب من الناس (المحكومين) مجال الاختيار و التمييز بين الصواب و الخطأ في كل فعل وأمر، و القرآن المجيد و العقل السليم لا يصدقان مثل هذا الادعاء، كما لا يوجد في التاريخ ما يؤيده.
__________
(1) أرجو أن ينتبه القراء جيدا لهذه النقطة. فكما يقول الأستاذ مرتضى مطهري: (( لقد كان وضع البشر في الأدوار السابقة يشبه تلميذ المدرسة الذي يعطى كتابا ليتعلم منه، فإذا به يحوله إلى مزق بعد عدد من الأيام، أما البشرية في الدور الإسلامي (دور ختم النبوة) فتشبه العالم كبير السن الذي يعتني بكتبه و يحفظها غاية الحفظ رغم رجوعه المتكرر إليها )) (كتاب ختم النبوة، ص 49) .(x)(125/9)
... نعم يمكن للنبي أن يعين وصيا أو أوصياء للقيام بأمور شخصية خاصة مثل غسله و كفنه و دفن جثمانه و أداء ديونه أو القيام بشأن عياله وأولاده الصغار ونحو ذلك، أما تعيين وصي ليكون إماما و حاكما و رئيس سلطة بأمر الله فهذا ما لا يفعله لأنه مخالف و مناقض لحقيقة الدين والغرض منه. فليس إذن في دين الإسلام، الذي هو في الحقيقة الدين الأساس و النبع الذي نبعت منه جميع الرسالات السماوية، مثل هذا الأمر.
... 5 ـ فور وفاة النبي (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) قام المهاجرون و الأنصار، دون إضاعة للوقت، بالاجتماع في سقيفة بني ساعدة لتعيين الرئيس الذي سيكون حاكما عليهم ، و أخذوا يتناقشون و يتشاورون لتحقيق هذا الغرض مما يفيد أن هذا الأمر سبيله، في نظرهم، هو البحث والتشاور، و أن إقامة الحاكم هو بلا شك واجب شرعي ضروري على المسلمين، و لم يأت خلال المناقشات، كما بينا، أي ذكر لكون الحاكم لا يُختار بل هو منصوص عليه من الله، و من البديهي أنه لو كان للحكومة أي ارتباط بالنص و التعيين الإلهي، لوقعت الإشارة لذلك و لذكَّر به البعض على الأقل، مع أن أحدا لم يتكلم بمثل هذا أبدا، و لا أحد طلب من الرسول (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) أن ينصب لهم الحاكم بنفسه لأنهم كانوا يدركون أن هذا مناف لأصل التكليف.(125/10)
... 6 ـ لم يُسْمَع في تاريخ جميع حكومات الدنيا منذ أن وُجدت الدولة والحكومة على وجه الأرض، بحكَّام منصوص عليهم من الله ومعينين من قِبَلِه إلا لدى القائلين بذلك من الشيعة! اللهم إلا لدى الملوك الجبابرة كفراعنة مصر وملوك فارس وأباطرة اليابان و الصين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أبناء الشمس و وارثي السلطان على الدنيا (و أن الملك حقهم الإلهي) تتوارثه ذريتهم جيلا بعد جيل. ومثل هذا الادعاء كان من الممكن أن يلقى قبولا في قرون الظلام وعصور الجهل القديمة، أما اليوم و بفضل نور الدين و العلم، لم يعد لمثل هذه الادعاءات رونق ولا قبول، سيما أن الناس رأت كيف أنه لما يصبح المُلْكُ وراثيا فسيأتي إليه لا محالة من لا يتصف بالصفات الضرورية للحاكم كالعلم و العدالة و السياسة والشجاعة.
... 7ـ في تاريخ الأديان الحقة، لم نجد إلا في بني أسرائيل، حادثة قيام أحد أنبيائهم بنصب ملك (طالوت) عليهم ـ بناء على طلب منهم ـ ليجاهدوا في سبيل الله تحت لوائه، كما أخبرنا الله تعالى في سورة البقرة. و لكن طالوت الملك على الرغم من أن الله تعالى اصطفاه لهم لما أوتي من بسطة في العلم و الجسم، إلا أنه لم يكن معصوما، بل عندما قَتلَ داودُ جالوتَ، و كان طالوتُ قد وعد من قَتل جالوت أن ينكحه ابنته، لكن بعد أن صارت لداود شعبية و غدى محبوبا في بني إسرائيل خشي طالوت منه على ملكه فسعى في قتله فعلم داود ذلك ففر منه... إلى آخر ما جاء في التواريخ التي ذكرت هذه القصة. فتبين أنه لم يكن هناك شيء اسمه إمامٌ أي حاكمٌ معصومٌ ، حتى بالنسبة لذلك الحاكم المنصوب و المعين قطعا من قبل نبي من أنبياء الله!
إذن ما حقيقة قصة الغدير ؟(125/11)
... أحد القضايا التي يغفلها الكثيرون و لا يميلون للبحث فيها في موضوع الإمامة بالنص هو دراسة خلفية حادثة الغدير أي الأمور التي حدثت في السنة العاشرة للهجرة و كانت الأرضية الأساسية التي أدت لواقعة الغدير، في حين أن الاطلاع على هذه الخلفية ضروري جداً للفهم الصحيح لخطبة غدير خم.
... خلاصة قصة الغدير، طبقا لما روته كتب التاريخ الإسلامي مثل سيرة ابن هشام (الجزء الرابع، الصفحة 274) التي هي أقدم كتب السيرة المتوفرة، و تواريخ و تفاسير الفريقين الشيعة و السنة، كتفسير جمال الدين أبي الفتوح الرازي(1) وتفسير ابن كثير و تاريخ البداية و النهاية لابن كثير أيضا و كتاب مجالس المؤمنين (الجزء الأول،صفحة 43) للقاضي نور الله الشوشتري(2) وغيرها، ما يلي:
__________
(1) تفسير رَوح الجَنان و رُوح الجِنان " تصحيح علي أكبر غفاري، جيد4 / ص 275 إلى 277.
(2) هو ا السيد نور الله بن شريف الدين الحسيني المرعشي التستري أو الشوشتري الهندي، يعرف بالشهيد الثالث، متكلم فقيه إمامي دافع عن المذهب و رد على مبطليه في عدة كتب شهيرة، توفي مقتولا سنة 1019 هـ. (مت)(125/12)
... في السنة العاشرة للهجرة توجه رسول الله صلّىالله عليه وآله إلى مكة المكرمة ليؤدي مناسك الحج الإسلامي و يعلّمها الناس و لتكون فرصة يعطي فيها المسلمين الذين انضووا تحت رسالته آخر وصاياه، وأرسل صلّىالله عليه وآله رسائل إلى رؤساء القبائل العربية و عماله في نواحي الجزيرة العربية يدعوهم فيها إلى المجيء لمكة في أيام الحج ليؤدوا المناسك معه، و كان من جملة الرسائل كتابٌ بعث به إلى علي بن أبي طالب - عليه السلام - الذي كان في ذلك الحين في اليمن، حيث كان صلّىالله عليه وآله وسلّم بعثه لجمع أموال الزكاة فيها، دعاه فيه كذلك إلى الحضور لمكة أيام الحج، فوصل الكتاب لعليٍّ و هو في اليمن أو في طريقه من اليمن إلى المدينة حاملا أموال الزكاة، فرأى - عليه السلام - أنه لو أراد أن يأتي مكة بما معه من أموال بيت المال ـ التي كان أغلبها في ذلك الوقت من المواشي كالإبل و البقر و الغنم ـ لما استطاع الوصول إلى الحج في الوقت المطلوب، لذا اضطر أن يوكل أمر حمل أموال الزكاة ‘إلى الذين كانوا برفقته، كأبي بريدة الأسلمي و خالد بن الوليد و غيرهما، و ينطلق بمفرده مسرعا إلى مكة، فوصل مكة و لقي رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) يوم السابع أو الثامن من ذي الحجة، و بعد أداء مناسك الحج، قفل راجعا إلى طريق اليمن ليكمل مهمته في حمل أموال بيت المال، فلقي القافلة وهي في طريقها إلى المدينة، و وجد بريدة الأسلمي وخالد بن الوليد تصرّفا في بعض أموالها، سيما بعض الحلل اليمنية، فغضب ـ كما هي عادته تجاه أي تصرف شخصي ليس في محله في بيت مال المسلمين ـ فنهر بريدة و خالدا و وبخهم على صنيعهم، وفي بعض التواريخ أنه - عليه السلام - سبهم و ضربهم، فكبر ذلك عليهم، لا سيما أنهما كانا من الوجهاء والأكابر في قومهما، فحملا في قلبهما الحقد على علي و استعدا للانتقام لأنفسهما فأرسلا شخصا إلى رسول الله(صلّىاللّه عليه وآله وسلّم)، الذي(125/13)
كان في طريق عودته من مكة إلى المدينة، و في بعض التواريخ أنهم ذهبوا إليه بأنفسهم، و اشتكوا إلى رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) عنف وتشدد علي معهم، لدرجة أن بعض التواريخ تذكر أنهم سبوا عليا في محضر رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم)، و لما رأوا علامات الغضب على وجهه و ظنوا أنه غضب لأجلهم من علي، واصلوا الشكوى بلهجة أكثر حدة، عند ذلك نهاهم رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) و منعهم من هذا الكلام و ذكر طرفا من فضائله، وكان مما قال: "ارفعوا ألسنتكم عن علي فإنه خشن في ذات الله غير مداهن في دينه" أو "ما لكم و لعلِيّ! علِيٌّ منّي و أنا منه و هو وليّ كلّ مؤمن بعدي " أو "من كنت مولاه فعلِيٌّ مولاه ".(125/14)
... لكن خالدا و بريدة و الآخرين كانوا قد أساؤا القول من قبل بحق عليٍّ أمام الصحابة الآخرين بما فيه الكفاية، و لعلهم استمروا في ذلك حتى بعد نهي رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) لهم، مما شوّه صورة علي في ذهن عديد من الصحابة، لا سيما أن عددا منهم لم يكن قد تعرّف على عليٍّ بعد، فلما رأى رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) ذلك، شعر أنه لا بد من الدفاع عن شخصية حضرة عليّ البارزة االمتميزة و يعرّف المسلمين بعلو مقامه و ذلك قبل أن يتفرق المسلمون هنا و هناك عائدين إلى بلدانهم (1)، ثم بالإضافة لكون الدفاع عن شخصية مؤمن مسلم ممتاز أمراً لازما و واجبا شرعا، فإنه مما لا شك فيه أيضا أن رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) كان يميل في قلبه إلى أن يرتضي المسلمون من بعده عليا لولاية أمرهم و إمامتهم و حكمهم ، لهذا كله قام (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) ـ أثناء توقفه لصلاة الظهر بجوار غديرٍ يُدْعى خُمَّا ـ بإلقاء كلمة عقب الصلاة أشار فيها لدنو رحيله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) و لمقام أهل بيته ثم عرَّف المسلمين بذلك الجناب (أي علي) وبيّن وجوبَ موالاته ومحبته على كل مسلم، لكن ما قاله و بينه لم يكن معناه أبدا النص عليه بالخلافة والإمارة بأمر الله تعالى و حكمه، و ذلك للدلائل العقلية والنقلية التي سبقت و التي ستأتي إن شاء الله.
هل أُريد بحديث الغدير النص على عليٍّ (ع‘) بالخلافة ؟
__________
(1) و إلا لو كان القصد من التوقف و خطبة الغدير هو إعلان إمارة علي (ع) فلماذا لم يفعل النبي (ص) ذلك في خطبة حجة الوداع أولا لأنه كان يحضرها آلاف المسلمين و ثانيا لأنه كان (ص) بذلك يطلع جميع أهل مكة على إمامة علي و يقيم عليهم الحجة بذلك؟! أو لماذا على الأقل لم يخطب هذه الخطبة في المدينة ليطلع عليها ويسمعها جميع أهل المدينة ـ الذين لعبوا الدور الأول و الأساسي في تولية أبي بكر ؟! (x)(125/15)
... للدلائل التالية نرى أن هذا الحديث ليس نصا على علي بالخلافة:
... 1 ـ أقوى دليل على ذلك أن أحدا من الذين شهدوا ذلك الاجتماع وسمعوا تلك الخطبة لم يفهم منها هذا المعنى، و لهذا لم يأت أحد على حديث الغدير بذكر في سقيفة بني ساعدة و لا حتى أُشير إليه مجرّد إشارة، و لا استند إليه أحد بعد ذلك في تمام عهد الخلفاء الراشدين، إلى أن جاء المفرِّقون بعد عهد طويل فاستندوا إليه وقالوا ما قالوا.
... 2 ـ لم يأت أمير المؤمنين عليٌّ - عليه السلام - نفسه و لا أنصاره من بني هاشم وغيرهم في السقيفة و بعد نصب أبي بكر - رضي الله عنه - للخلافة، على حديث الغدير بذكر ولا استندوا عليه لإثبات النص على علي، و حتى الاثني عشر نفراً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم ) الذين ـ طبقا لادعاء بعض الروايات ـ احتجوا على أبي بكر - رضي الله عنه - مؤيدين لحق علي في الخلافة، لم يستندوا إلى هذا الحديث لإثبات أولويته - عليه السلام - بأمر الخلافة ، وعندما جاء في كلمات بعضهم ذكر لهذا الحديث، كان على سبيل ذكر الفضائل و المناقب لا على أساس أنه نص إلهي قاطع من جانب الله، هذا بغض النظر عن أن حديث احتجاج النفر الاثني عشر يحتاج لتمحيص أكثر للتأكد من صحته أو سقمه لأن احتمال وضعه قوي جدا بل يقيني.
... 3 ـ قوة إيمان أصحاب رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) و مدح القرآن لهم يتناقض تماما مع ادعاء كتمانهم للإمامة و ردهم للخلافة المقررة من قبل الله - عز وجل -، خاصة أنه كما تبين معنا لم يكن لدى الكثير منهم أي مانع أو اعتراض على زعامته حيث صرحوا أنهم لو سمعوا كلام علي قبل تمام بيعتهم لأبي بكر لما تخلفوا عن بيعته، مما يؤكد عدم وجود أي دافع لهم لكتمان خطبة الغدير أو للإعراض عن العمل بها لو كانوا قد فهموا منها حقا النصب الإلهي لعلي خليفة و إماما.(125/16)
... 4 ـ كون قصة الغدير ـ كما تبين ـ أوجبتها قضية تصرف خالد وبريدة بأموال الزكاة بلا وجه حق و التي أدت لغضب علي - عليه السلام - و تعنيفه لهم مما أثار سخطهم عليه و شكايتهم إياه إلى رسول الله (1)، يبين أن مراده (صلىالله عليه وآله وسلم) من خطبته تلك أن يؤكد على المسلمين محبة و نصرة و تقدير علي - عليه السلام -.
... 5 ـ الجملة المهمة و الحاسمة في حديث غدير خم و التي يتفق جميع المسلمين على صحة صدورها عن رسول الله (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) هي قوله (صلى الله عليه و آله و سلم ) : [ من كنت مولاه فهذا علي مولاه ]. إن الانتباه الدقيق لمعنى هذه الجملة من شأنه أن يرفع كثير من المشكلات. فهذه الجملة لا تفيد أبدا معنى الخلافة والإمامة لعلي بعد الرسول (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) للدلائل التالية:
أ ـ ذكر العلامة عبد الحسن الأميني في كتابه "الغدير" ـ نقلا عن علماء اللغة ـ لكلمة "المولى" سبعة و عشرين معنى و هي:
1ـ الربّ 2ـ العمّ 3ـ ابن العمّ 4ـ الابن 5ـ ابن الأخت
6ـ المعتِق 7ـ المعتَق 8ـ العبد 9ـ المالك 10ـ التابع
11ـ المنعَم عليه ... 12ـ الشريك ... 13ـ الحليف ... 14ـ الصاحب ... 15ـ الجار
16ـ النزيل ... 17ـ الصهر ... 18ـ القريب ... 19ـ المنعِم 20ـ الفقيد
21ـ الولي 22ـ الأولى بالشيء 23ـ السيد غير المالك و المعتِق
24ـ المحب 25ـ الناصر 26ـ المتصرِّف في الأمر 27ـ المتولى في الأمر.
__________
(1) يروي العلامة الأميني في كتابه الغدير (ج1/ص 384، الطبعة الثالثة) : ((عن بريدة قال: غزوت مع علي اليمن، فرأيت منه جفوة فلما قدمت على رسول الله (ص) ذكرت عليا فتنقَّصته، فرأيت وجه رسول الله يتغير، فقال: يا بريدة! ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله ، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه)).(125/17)
... و رغم كل ما بذله العلامة الأميني من جهد، لم يوَفَّق في استخراج معنى: الخليفة أو الحاكم أو الأمير... لكلمة "المولى"، و اعترف أن لفظ "المولى" من الألفاظ المشتركة و أنه أكثر ما يقصد به هو "الأولى بالشيء" (أي المعنى الثاني والعشرين). و عليه فلا يمكن فهم المعنى المراد من "المولى" بدون قرينة. فإذا انتبهنا لقرينة السبب الذي أوجب إلقاء هذه الكلمة، و إلى القرينة اللفظية المتجلية في تتمة الحديث: (( اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره...)) لم يعد من الصعب أن نعرف أن المعنى المراد من "المولى" هنا هو شيء يجمعه المعاني: الصاحب (الصديق) المحب الناصر (المعاني: 14 و24 و25)، لأن معنى التتمة هو: اللهم صادق وأحب كل من يصادق ويحب عليا و عاد كل من يبغض ويعادي علياً (1) .
ب ـ كان الرسول يريد من الناس محبة علي، حيث أن الباعث لكلمته تلك كان موقف خالد و أبي بريدة و بعض الصحابة من علي كما بينّا.
ج ـ لا يُفْهَم أبدا من كلمة المولى معنى الخليفة والإمام و لم تأت هذه الكلمة في لغة العرب بهذا المعنى.
__________
(1) انظر لسان العرب لابن منظور:ج 15 / ص 409 حيث يقول: " والى فلان فلانا: إذا أحبَّه " و يقول قبل ذلك:" و قوله (صلى الله عليه و آله و سلم ) اللهم وال من والاه: أي أحب من أحبه "(125/18)
... 5 ـ في جملة "من كنت مولاه فعلي مولاه" نقطة ذات دلالة مهمة جدا، كثيرا ما حالت غوغاء الجدال و العصبية المذهبية من التنبه إليها رغم وضوحها الشديد، و هي أن كلمة "مولاه" أيا كان المعنى المراد منها، فإن معنى الجملة لن يكون إلا أنه: كل من أنا الآن مولاه فإن عليا الآن أيضا مولاه، و بعبارة أخرى أن النبي (صلىالله عليه وآله وسلم) بكلمة "فعلي مولاه" يريد تأكيد الثبوت المتزامن لعلي لنفس الأمر الذي هو ثابت للنبي (صلىالله عليه وآله وسلم) الآن. فلو فرضنا جدلا أن المقصود من كلمة "مولاه": حاكمه وإمامه (رغم عدم مساعدة اللغة على ذلك)، للزم أن يقيّدها الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم ) بقيد: [ بعدي ]، لأنَّ علياً لا يمكنه أبداً أن يكون إمام المسلمين و حاكمهم مع وجود الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم ) !، مع أن مثل هذا القيد لا يوجد في أيٍّ من روايات الحديث.(125/19)
... 6 ـ طبقا للروايات و الأحاديث الواهية الكثيرة للقائلين بالنص، فإن خلافة و ولاية علي - عليه السلام - أهم غرض و مراد لرب العالمين! إذ يدَّعون أن جميع رسل الله تعالى و أنبيائه الكرام من لدن آدم إلى النبي الخاتم (صلى الله عليه و آله وسلم ) ، بينوا لأقوامهم مسألة إمامة علي و ولايته، كما بين رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم ) ذلك الأمر أكثر من ألف مرة منذ بداية بعثته و إلى رحلته (صلى الله عليه و آله وسلم ) وذكّر به في كل مناسبة، في مجالس فردية أو جماعية، كما نزلت أكثر آيات القرآن في هذا الأمر، و رغم كل ذلك لم يول أحد هذا الأمر عناية بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم ) ، و كأن الله تعالى ـ و العياذ بالله ـ عجز عن تحقيق إرادته، مع أنه القائل: { كتب الله لأغلبن أنا و رسلي إن الله قوي عزيز } المجادلة / 21. فكيف تأتَّى أن يُهْجَرَ مثل ذلك الأمر و يُنْسَى نهائيا على ذلك النحو؟؟ ألا يدل ذلك على أنه لم يكن على الصورة التي ذكروها ؟.(125/20)
... 7 ـ تشير سنة الله تعالى إلى أنه عندما يريد أن يختار أحدا من عباده ويبعثه للدعوة و الإصلاح، فإنه يصطفيه من بين الضعفاء و الفقراء و يخلع عليه خلعة النبوة، ثم يؤيده و ينصره على جبابرة الدنيا و عتاتها، ليحقق بذلك إرادته. ومن هنا نرى أن الله سبحانه يجتبي إبراهيم - عليه السلام - من عائلة وثنية تنحت الأصنام، فيبعثه سبحانه ليشيد بنيان التوحيد على ذلك النحو، ورغم اضطهاده و إجباره على الهجرة و الخروج من بيته و موطنه، كانت إرادة الله تعالى هي الغالبة في نهاية المطاف، و وصل إبراهيم لذلك المقام العظيم الذي قال فيه سبحانه: { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب و الحكمة وآتيناهم ملكا عظيما } النساء / 54. و أرسل موسى - عليه السلام - بلباس الراعي ونعله و عصاه، إلى فرعون، مدّعي الألوهية و مالك ملك مصر، فنصره عليه و منحه قوة و قدرة جعلت فرعون و آله يصيرون إلى قاع البحر، وغدا موسى بعصاه و يده البيضاء مؤسسا لسلطان ملوك كبار من بعده (من بني اسرائيل)، و يأتي بدين و كتاب بعث الله تعالى بعده أكثر من سبعين ألف نبي لتجديده و إحيائه.
... و كذلك اصطفى محمدا (صلى الله عليه و آله و سلم ) و هو يتيم أمي من أم أرملة فقيرة توفي زوجها قبل أن يولد و ما ترك لها إلا وليدها الصغير و أربع عنزات وبغلة، فأضفى عليه سبحانه عظمة و قدرة و أصبح دينه أبديا خالدا، و أخضع له رقاب كبار الطغاة في عصره، فإذا به يكتب ـ خلال المدة القصيرة لبعثته ـ رسائل لستةٍ من كبار سلاطين الدنيا في عصره الذين كانوا ملوك العصر الذين لا يُنازَعون، يدعوهم فيها للدخول في دينه، ثم لا تمضي مدة قصيرة إلا و تنضوي جميع تلك البلدان، التي كتب لملوكها الرسائل، تحت سلطان الدولة الإسلامية التي أسسها، ويبقى دينه خالدا ما بقي الدهر.(125/21)
... فلو أن خلافة علي و ولايته كانت حقا غاية إلهية عظيمة و كان الله ورسوله يريدان ذلك عبر كل تلك الأحاديث و الروايات، فلماذا لم يستطع الله(!) ـ تعالى الله عن ذلك ـ حتى بيان ذلك المطلب بشكل قاطع و صريح في كتابه الكريم و بواسطة نبيه الكريم أو أي أحد آخر من عباده لتتحقق إرادته وينتصر هدفه و لا يضل الناس ذلك الضلال المبين؟، هذا إن كان عدم توليته ضلالا مبينا حقا، أوليس هو القائل: { و الله غالب على أمره } والقائل: { ألا إن حزب الله هم الغلبون } ؟ فكيف نفسر هذا الفشل في تحقيق ذلك المراد الخطير ؟ اللهم إلا أن نعترف بأنه لم يكن هناك مثل هذا الهدف والقصد و أن تلك الادعاءات العريضة ادعاءات باطلة لا أساس لها.
... 8 ـ و الأهم من ذلك هو تلك الطريقة العجيبة التي ليس لها سابقة والتي لا يمكن أبدا تبريرها التي يدعون أن الشارع تعالى بين بها أصل "الإمامة المنصوص عليها"، رغم أهميته العظيمة. و هذه قضية جديرة بأن تفتح الطريق أمام المنصفين وطلاب الحق لمعرفة حقيقة القضية.(125/22)
... فإن في القرآن الكريم مئات الآيات البينة المحكمة التي تقرر أصل "التوحيد" وكذلك عشرات بل مئات الآيات التي تتكلم عن "اليوم الآخر"، وكذلك ليست قليلة الآيات الواضحة التي تقرر أصل "النبوة العامة" و تبين وتستدل على أصل "نبوة النبي (صلىالله عليه وآله وسلم) الخاصة"، و هكذا حول بقية أصول الدين وأركان الإيمان، بل لقد بين القرآن أيضا كثيرا من الفروع (حتى الجزئية الصغيرة منها كلزوم رد التحية بأحسن منها و التوسع في المجالس .. إلخ)، وقد بين القرآن كل تلك الأصول بعبارات واضحة جلية محكمة لا مجال للبس أو الاحتمال أو الغموض فيها، يفهم منها المراد مباشرة ـ بنحو الإجمال على أقل تقدير ـ بدون الحاجة للاعتماد على الحديث. و لكن لماذا ترك القرآن هذه الطريقة في بيانه أصل "الإمامة" الخطير الذي هو مناط السعادة و حفظ الدين كما يقولون؟؟! و أما الآيات التي يذكرونها على أنها تنص على موضوع الإمامة فهي آيات يقتضي قبول ارتباطها بموضوع الإمامة أن نغمض النظر عما قبلها و ما بعدها من آيات أي عن سياقها، بل أحيانا يقتضي أن لا نكمل الآية إلى آخرها أي أن نقص العبارة من الآيات قصا!! علاوة على الإشكال الأكبر و هو أنها آيات لا تفيد المدعى إلا بمساعدة الحديث، و بدونه لا تدل على المطلوب أبدا؟!! حقا إنه لعجيب جدا هذا الاستثناء في طريقة الشارع المقدس في بيانه لأصول الدين ، حيث عوضا عن الصراحة و الوضوح المعهودين دائما منه، يختار هنا ـ في هدايته الأمة لهذا الأصل العظيم ـ الإبهام و الغموض. و حتى عندما نأتي للحديث الذي يدعون أنه نص على الإمامة نجده غير قاطع في المراد، و نجده يستخدم كلمة "مولى" التي يعترف المؤيدون للإمامة بالنص، أن لها على الأقل سبعة و عشرون معنى في اللغة العربية!!! و نجد سياق الحديث و ملابساته و قرائنه تدل على أن المراد بالمولى أمر غير الإمامة و الإمارة. هذا في حين أن النبي الأكرم (صلىالله عليه وآله(125/23)
وسلم) كان شديد الحرص على هداية قومه(1) و كان "أفصح من نطق بالضاد"، فلا شك أنه لو أراد هداية أمته و إتمام الحجة عليها ببيان أصل أساسي وخطير من أصول الدين لبينه بعبارات واضحة جلية لا لبس فيها، لا بعبارات مشتبهة مشتركة يعسر فهم المراد منها!!(2).
__________
(1) إشارة إلى ما جاء في سورة الكهف/ آية 6: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} و نحوها في سورة الشعراء/ آية 3. و كذلك قوله تعالى: { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل} النحل/37، و قوله عز من قائل: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} التوبة/ 128. (x)
(2) هذا الغموض كان لدرجة أنه انعكس حتى في روايات المعتقدين بالإمامة المنصوصة من الله لعلي(ع) وكأنهم يعترفون بهذا المغموض!! فمن جملة ذلك ما رواه الطبرسي في "الاحتجاج" أن الأنصار لم يفهموا مراد الرسول من خطبة الغدير !!! و اضطروا لأجل ذلك أن يرسلوا شخصا إلى النبي (ص) ليسأله عن مقصوده من ذلك الحديث، و النبي (ص) ـ طبق هذه الرواية ـ حتى في توضيحه لحديثه لم يستخدم أيضا لفظة: "ولي الأمر"؟!! و سنتعرض لهذه الرواية بالتفصيل في الصفحات القادمة إن شاء الله. (x)(125/24)
... هل أهمية أصل "الإمامة" أقل من قصة "زيد" الذي ذُكِر اسمه صريحا في القرآن؟! هل يمكن قبول هذا التفاوت لهذا الحد في طريقة بيان أصول الدين؟! ليت شعري هل فكر القائلون بالإمامة المنصوصة من الله تعالى بهذه القضية أنه لماذا لا يوجد في القرآن الكريم أي أثر لأصل هذه الإمامة رغم أنها عندهم أعلى من "النبوة و الرسالة" ؟!!(1) هل يمكن أن نتصور أن قائل: { ما فرطنا في الكتاب من شيء } (الأنعام/38) و { نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء و هدى و رحمة وبشرى للمسلمين} النحل/89 يغفل ذكر موضوع على ذلك الجانب من الخطورة و الأهمية؟؟! هل أهمية قصة أصحاب الكهف الذي لم يغفل الله تعالى حتى ذكر كلبهم أكثر من أهمية موضوع الإمامة؟؟ هل يترك القرآن الكريم ـ الذي أنزله الله تعالى لهداية الناس إلى يوم القيامة ـ البيان القاطع الشافي لموضوع وقع فيه الاختلاف بين الأمة لقرون بل أدى أحيانا لحروب و منازعات بينها في حين يذكر بالتفصيل قصص السابقين مثل ذي القرنين و لقمان و هارون و ...؟ هل يمتنع الله تعالى الذي لم يمتنع عن ذكر البعوضة في القرآن أن يذكر موضوع الإمامة ؟؟ هل هكذا كانت تكون طريقة هداية الناس؟
... في رأينا إن كل من له معرفة و أنس بالقرآن الكريم، لن يرتاب أبدا في أن هذا النحو المدعى من موقف القرآن و بيانه عن الإمامة لا يتناسب مع طريقة القرآن الكريم من قريب و لا بعيد.
علي إمام المسلمين بحق
__________
(1) يعتقد الإمامية أن مقام " الإمامة" فوق مقام "النبوة و الرسالة" أما أنهم كيف إذن لم يعتبروا عليا (ع) أفضل من رسول الله (ص) بل يجمعون على علو و أفضلية النبي (ص) ؟ فسببه أنهم يقولون أن الرسول (صلىالله عليه وآله وسلم) كان حائزا أيضا على مقام الإمامة علاوة على مقام النبوة و الرسالة. (x)(125/25)
... مما لا نحتاج لتنبيه القارئ إليه أن ما ذكرناه و دللنا عليه من عدم النص والفرض الإلهي المباشر لعليٍّ حاكما و خليفةً، ليس معناه أبدا إنكار إمامة علي للمسلمين، بل هو أحق من استحق في كل التاريخ لقب خليفة رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) لا من جهة كونه خليفة للنبي (صلى الله عليه و آله و سلم ) بنص خاص من جانب الله - عز وجل -، بل من جهة حقيقة و واقع الأمر أي من جهة ملكات علي - عليه السلام - الذاتية و مناقبه الشخصية و كونه خير من تجسَّدت به شخصية الرسول (صلىالله عليه وآله وسلم) و تعاليم الإسلام، فهو إمام المسلمين و أولاهم بخلافة النبي انطلاقا من مقامه الروحي و العلمي و أفضليته الدينية التي لا يرقى إليها أحد من صحابة رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم)، فعلي - عليه السلام - كان بلا شك أليق و أحق من جميع المسلمين بإمامة الأمة بمعنييها الروحي والسياسي، فهو الخليفة بحق، لأن الإمام في أمة الإسلام يجب أن يكون أعلم وأشجع و أتقى و أليق الأمة و هذه الصفات كانت متوفرة في حضرته بشكلها الأتم والأكمل و لم يكن من بين الصحابة من يصل إلى درجته، حتى أنه يمكن القول بأنه لم يكن يوجد في الصحابة من ينكر ذلك الأمر، بقي أن نفسر إذا لماذا سبقه غيره من الصحابة إلى منصب الخلافة و تقدم عليه؟؟ بتأمل ملابسات الخلافة بعد رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) يتبين أن علل ذلك يمكن تلخيصها بالأسباب التالية:
... 1ـ تمت بيعة السقيفة بشكل مفاجئ و سريع حتى أن عمر - رضي الله عنه - أقر منصفا أكثر من مرة أن: "بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرَّها!" و أن: "من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له و لا الذي بايعه" (1)، و علة ذلك عدة أمور:
__________
(1) انظر سيرة ابن هشام : ج4 / ص 307.(125/26)
كانت مدة مرض رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم ) قصيرة لم تتجاوز الأسبوع، وقد وجدت آثار التحسن في حاله الشريفة أكثر من مرة خلال هذه المدة بحيث أنه ما كان يُظّنُّ أن الرسول سيفارق الدنيا على أثر هذا المرض، لذا لم يكن لدى الصحابة المجال الكافي للتفكير و التدبر في الأمر برويّة.
وقعت وفاة رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم ) في وقت كان فيه أربعة من الدجَّالين قد ادعوا النبوَّة في أطراف المدينة المنوَّرة و هم مسيلمة و سجاح والأسود وأبو طليحة، فلو حصل أي تردد أو تأخير في تعيين الحاكم ورئيس الجماعة المسلمة لكان من الممكن أن يجد مدّعوا النبوَّة ـ الذين كانوا أعداء متربصين بالإسلام ـ الفرصة سانحة لمحاصرة المدينة والاستيلاء عليها و قد ينجر ذلك لوقوع مذبحة للمسلمين.
كان رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم ) قد كتب في أواخر حياته الشريفة رسائل إلى ملوك و رؤساء الدنيا حوله يدعوهم فيها إلى الإسلام، كرسائله التي كتبها لهرقل عظيم الروم في سوريا و المقوقس ملك الأقباط في مصر وخسرو برويز (كسرى) شاهنشاه إيران، و لذلك كان هؤلاء يتحسَّبون لخطر المسلمين، فإذا عرفوا أن نبي المسلمين قد فارق الدنيا و أن أصحابه انقسموا في شأن خلافته ولا زالوا بلا قائد يوحدهم، لربما سارعوا إلى الانقضاض علىالمدينة و إخضاع المسلمين، لذا كان (الصحابة يشعرون أنه) لا بد من الإسراع في نصب الخليفة دفعا لهذه الأخطار المحتملة.
كان رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم ) في حال احتضاره قد جهز جيشا بقيادة أسامة بن زيد و أمره بالتحرُّك نحو اليرموك، و لكن طروء وفاته (صلى الله عليه و آله وسلم ) أوقع الجيش في ارتباك و حيرة و ما عاد يعرف ماذا يتوجب عليه فعله في هذا الظرف الجديد، لذا كان لا بد من تعيين سريع لإمام و حاكم على المسلمين ليعين تكليف هذا الجيش.(125/27)
كان المسلمون يدركون أن تعيين الرئيس الحاكم عليهم، و صاحب السلطة التنفيذية لتنفيذ أحكام الإسلام، من أهم الواجبات، خاصة في تلك الظروف الحرجة و الأوضاع المضطربة المذكورة(1). و هذا ما أشار إليه علي - عليه السلام - في رسالة جوابية كتبها لمعاوية حيث قال: [ و الواجب في حكم الله و حكم الإسلام على المسلمين، بعدما يموت إمامهم أو يُقتَل، ضالا كان أو مهتديا، مظلوما كان أو ظالما، أن لا يعملوا عملا و لا يُحْدِثوا حدثا ولا يقدِّموا يدا أو رجلا و لا يبدؤا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماما ].
__________
(1) تذكر كتب التاريخ مثل السيرة النبوية لابن هشام (ج 4/ ص 316) و الكامل في التاريخ لابن الأثير أنه: "لما توفي رسول الله (ص) ارتدت العرب و اشرأبت اليهودية و النصرانية و نجم النفاق و صار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم " و تذكر أيضا: "أن أكثر أهل مكة لما توفي رسول الله (ص) هموا بالرجوع عن الإسلام و أرادوا ذلك، حتى خافهم عتاب بن أسيد (رض) فتوارى، فقام سهيل بن عمرو فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر وفاة رسول الله (ص) و قال إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة".(x)(125/28)
وقوع اختلاف بين المهاجرين و الأنصار في إحدى الغزوات، و كذلك بين الأوس و الخزرج، كان دالا على أن العصبية القبائلية لم تجف جذورها بل لا زالت ذات أثر فيهم، و هي عصبية قد تؤدي لمصائب إذا لم يتم كبحها بسرعة، لذا كان لا بد من عدم التواني لحظة في نصب الإمام و الحاكم لضبط الأمور ومنع حدوث أي صراع أو نزاع قد يفلت معه الأمر من أيديهم، و لمواصلة تطبيق أحكام وأوامر الشريعة الإلهية الخالدة التي لا يجوز تعطيلها حتى و لا دقيقة واحدة، من هذا المنطلق كان الصحابة في غاية العجلة لتحقيق هذا الأمر، يضاف إلى ذلك أن جماعة المهاجرين الذين كانوا قد سمعوه (صلىالله عليه وآله وسلم) يقول: ((الأئمة من قريش)) و سمعوه يوصي بالأنصار قائلا: ((اللهم اغفر للأنصار و لأبناء الأنصار و أبناء أبناء الأنصار))(1)، و ((إن الأنصار كَرِشي وعيبتي.. فاقبلوا من محسنهم و تجاوزوا عن مسيئهم..))(2)، فهموا من ذلك ـ كما فهم علي - عليه السلام - ذلك أيضا (3)
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: 44ـ كتاب فضائل الصحابة/ حديث 172 عن زيد بن أرقم ، و الترمذي في جامعه: ج 5/ 3902) عن قتادة. (مت)
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (63 ـ كتاب فضائل الأنصار/ 11 ـ باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - اقبلوا من محسنهم..) و مسلم في صحيحه (44 ـ كتاب فضائل الصحابة / ح 176). (مت)
(3) جاء في الخطبة رقم 67 من نهج البلاغة أنه: ((لما انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنباء السقيفة بعد وفاة رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) قال عليه السلام: ما قالت الأنصار ؟ قالوا: قالت: منا أمير ومنكم أمير، قال عليه السلام: فهلا احتججتم عليهم بأن رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) وصى بأن يُحسَن إلى محسنهم و يُتَجاوز عن مسيئهم؟ قالوا: و ما في هذا من الحجة عليهم ؟ فقال عليه السلام: لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصية بهم. ثم قال عليه السلام: فماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجت بأنها شجرة الرسول (صلىالله عليه وآله وسلم)، فقال عليه السلام: احتجوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة !)).
... و نلاحظ هنا أيضا أن عليا لم يشر في هذا المقام إلى موضوع النص عليه في غدير خم ، رغم أن المقام كان يوجب الإشارة لذلك و الاحتجاج به، بل كل ما قاله أنه أولى بالرسول (صلىالله عليه وآله وسلم) لأنه إذا كانت قريش و المهاجرون شجرة الرسول فهو لب هذه الشجرة و ثمرتها. و لا شك أنه لو كان عليه السلام يعتقد بأن الله تعالى نص عليه فعلا في الغدير، لقال للناس عوضا عن ذلك ـ من باب الأمر بالمعروف وإرشاد خلق الله وتذكير الناس بالحق و إتمام الحجة عليهم ـ : لماذا لم يذكروا أو لم يحتجوا بخطبة غدير خم؟ ولماذا تخلفوا عن أمر الله تعالى ؟ حقا إنه غير قابل للتصديق أن يكتفي علي عليه السلام ببيان أولويته وأصلحيته، و يسكت عن بيان أمر الله تعالى و نصه! (برقعي)(125/29)
ـ موافقته (صلىالله عليه وآله وسلم) على أن ولاية الأمر ليست فيهم بل في قريش والمهاجرين شجرة الرسول (صلىالله عليه وآله وسلم)، لذلك اضطرهم ما رأوه من استعجال الأنصار في سعيهم لتنصيب خليفة من بينهم أن يتداركوا الأمر بسرعة و يمنعوهم من ذلك قبل أن يخرج الأمر عن أيديهم و ينقسم المسلمون على بعضهم، فجزاهم الله تعالى عن الإسلام و أهله كل خير.
... 2 ـ كان علي - عليه السلام - مشغولا بتجهيز رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم ) فلم يشارك في المشورة في السقيفة و لم يطرح نفسه لانتخاب الناس، و لعله لم يسرع في هذا الأمر لأنه ما كان يتوقع أن يعدل عنه الناس، و لربما فهم بعض الناس من عدم حضوره السقيفة أو إرساله من ينوب عنه فيها، عدم رغبته في الأمر، و لذلك لم يتعرضوا لانتخابه، و من دون شك أنه لو كان قد طرح نفسه للخلافة من البداية و استدل على أولويته بما هو معهود من فصاحته و بلاغته المحيرة و قدرته على الإقناع لما عدل الصحابة عنه إلى غيره ولما وُجِدَ له معارض، كما مر معنا أن عددا من الأنصار لما سمعوا كلامه بعد حادثة السقيفة اعترفوا قائلين: لوسمعنا كلامك هذا من قبل لبايعناك.
... 3 ـ لم يكن يوجد في ذلك الحين كل هذا الكم الهائل من أحاديث فضائل و مناقب ذلك الجناب - عليه السلام - التي يرفعه بعضها إلى مقامات أسطورية فوق بشرية والتي نراها في كتبنا اليوم، و لا كل تلك التأويلات للآيات القرآنية في حقه، و لا كان أحد يعتبر عليا "عين الله الناظرة و يد الله الباسطة"! و لا كان أحد قد وقع بعد في تلك الحيرة (!) التي واجهت أحد شعراء العصور التالية فقال مخاطبا عليا - عليه السلام -:من اكر خداي ندانمت ... متحيرم كه جه خوانمت؟؟ ...
أي : ... إن لم أعتبرك الله ... فأنا محتار ماذا أعتبرك؟؟(125/30)
... بل كانوا يعتبرونه صحابيا من السابقين المهاجرين المجاهدين العالمين الفقهاء بالقرآن و أحكام الإسلام، و رغم أن تميزه و أفضليته لم تكن مجهولة لدى الصحابة إلا أنهم لم يكونوا متقيدين بأن يكون هو الإمام حتما، و لا كان هذا التميز لدرجة تمنع بالضرورة الآخرين من ذوي الفضل و السابقة في الإسلام أن يتقدموا لهذا المنصب، و لعلهم كانوا يرجحون الشيوخ ذوي التجربة على الشباب من أصحاب الفضل و الجهاد، ولذا انتخبوا غيره، و مع ذلك كان في صحابة رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم ) من يرى عليا أحق الناس بها لا من جهة أنه منصوص عليه من قِبَل الله تعالى و رسوله، بل من جهة أعلميته بأحكام شرع الله في كل موضوع، ونفس أمير المؤمنين كان يعتبر نفسه أحق و أولى بمقام الإمامة من الآخرين، كما يظهر ذلك في جميع احتجاجاته أو اعتراضاته (التي لا نجد فيها إشارة لموضوع نص إلهي عليه)، كما نجد ذلك واضحا في:(125/31)
1 ) خطبته الشقشقية المشهورة التي لا تفيد أكثر من كونه كان يرى نفسه أحق من غيره، من حيث الفضل و العلم، بإمامة المسلمين بعد رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) حيث يقول: [ لقد تقمَّصها فلان و إنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل و لا يرقى إلى الطير.. ] (1) فالكلام فيها عن مقامه المعنوي وعلو كعبه، الذي لا يُرقى إليه، في الفقه و العلم، لا عن نصب إلهي.
__________
(1) من الجدير بالذكر أن راوي هذه الخطبة عن علي عليه السلام هو "عكرمة مولى ابن عباس" و قد قال عنه الممقاني في رجاله: (( قال عن العلامة الحلي في خلاصة الرجال في القسم الثاني من كتابه المخصص للضعفاء: [إنه ليس على طريقتنا و لا من أصحابنا و لم يرد فيه توثيق.] و أورد الشيخ الكليني في الكافي ضمن حديثٍ: [هذا عكرمة في الموت! (أي حاله الروائي ميت) و كان يرى رأي الخوارج.] (ثم استنتج الممقاني قائلا:) [على كل حال فكون عكرمة مولى ابن عباس منحرفا لا يحتاج إلى برهان كما نبه على ذلك السيد ابن طاووس])) انظر تنقيح المقال في أحوال الرجال للممقاني: ج2 / ص 256.
... و هذا ما يحعلنا نتحفظ كثيرا في صحة نسبة هذه الخطبة لعلي عليه السلام إذ من المحتمل جدا أن يكون عكرمة الخارجي ـ و الخوارج كانوا ألد أعداء علي ـ نسبها لعلي ليُعرِّفه للناس على أنه كان عدوا للشيخين إذ يقول أنه لولا ضعف اليد و قلة الناصر لحاربهم على الخلافة!! فيصوره عليه السلام على أنه ذو وجهين و أنه رغم أنه بايع الخلفاء و صلى خلفهم و صاهرهم إلا أنه كان باغضا لخلافتهم يتمنى لو يقدر ان يحاربهم!! (x)(125/32)
2 ) ما جاء في كلام آخر له في نهج البلاغة ( قسم رسائله - عليه السلام - / الرسالة رقم 62) حين قال: [ فلما مضى تنازع المسلمون الأمر من بعده فوالله ما كان يُلقى في روعي و لا خطر على بالي أن العرب تزعج هذا الأمر مِن بعدِهِ مِن أهل بيته ] فهو يتعجب كيف أزيحت الخلافة عن أهل بيت النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) دون أن يحتج في ذلك باختصاصه بنص خاص من الله و الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم) على الخلافة.
3 ) ما رواه ابن طاوس(1)، في كتابه "الطرائف"، و العلامة المجلسي في "البحار" (ج6/ ص 310) عن أبي الطفيل، قال: [ فسمعت عليا يقول: بايع الناس أبا بكر وأنَا والله أولى بالأمر منه..].
4 ) في رسالته التي كتبها - عليه السلام - إلى شيعته بعد مقتل محمد بن أبي بكر و أمر بقراءتها على الناس بعد كل صلاة جمعة، كما رواها ابن طاوس في كتابه "كشف المحجَّة" و الثقفي(2) في كتابه "الغارات"، قال: [ فلما رأيت الناس قد انثالوا على بيعة أبي بكر أمسكت يدي و ظننت أني أولى و أحق بمقام رسول الله منه و من غيره..](3).
5 ) في خطبة له - عليه السلام - رواها الثقفي في "الغارات" (ج1/ص 202) و السيد ابن طاوس في "كشف المحجة" و المجلسي في البحار (ج 8/ ص 175 من طبعة تبريز) جاء: ((... أجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به منهم)).
__________
(1) السيد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن طاوس الحلي، متكلم إما مي مشارك توفي 664هـ (مت)
(2) أبو اسحق ابراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال المعروف بابن هلال الثقفي الكوفي من علماء القرن الهجري الثالث، كان في أول أمره زيديا ثم انتقل إلى القول بالإمامة، نشأ بالكوفة ثم انتقل إلى أصفهان و توفي فيها سنة 283هـ (مت)
(3) الغارات، أو الاستنفار و الغارات: ص 202 ( بيروت، دار الأضواء، 1407هـ/ 1987 ) (مت)(125/33)
6 ) في نهج البلاغة أيضا (الخطبة 74) لما بايع الناس عثمان قال: (( لقد علمتم أني أحق بها من غيري والله لأسلمن ماسلمت أمور المسلمين)).
7 ) ما رواه سليم بن قيس الهلالي(1) في كتابه، ضمن حديثٍ طويلٍ،عن الإمام علي - عليه السلام - من قوله: [.. فوَلَّوْا أمرهم قبلي ثلاثة رهط ما بينهم رجل جمع القرآن ولا يدعي أن له علما بكتاب الله و سنة نبيه و قدعلموا أني أعلمهم بكتاب الله و سنة نبيه و أفقههم و أقرؤهم لكتاب الله و أقضاهم بحكم الله...]. ومثل هذا جاء أيضا في كثير في كلماته الأخرى - عليه السلام -.
... و لقد ذكرنا في كتابنا "حكومت در اسلام " ( أي الحكومة في الإسلام) من الصفحة 141 إلى 149 ما جاء من كلمات الإمام علي - عليه السلام - حول هذا الموضوع منقولة من كتب الشيعة (الإمامية) المعتمدة، حيث تبين فيها جميعا أن الإمام - عليه السلام - كان يعتبر نفسه الأولى و الأحق بهذا الأمر من الآخرين، فقط لا غير، و لم يحتجّ أبداً بنص من جانب الله أو الرسول، فلم يقل أبدا أن الخلافة حقي الإلهي الذي أمر الله تعالى به نبيه (صلىالله عليه وآله وسلم) أن ينصِّبني فيه في غدير خم!! مما يؤكد أنه لم يكن ثمة نص على الخلافة لا في الغدير و لا في غير الغدير.
... و لكن صانعي الفرق و مفرقي أمة الإسلام لفَّقوا أدلة باطلة في مواجهة هذه الحقائق الناصعة، فيما يلي بيانها ثم الرد عليها:
__________
(1) انظر الكلام عليه وعلىكتابه المسوم بِ "أسرار آل محمد"في الصفحات:148-151 من هذا الكتاب (مت)(125/34)
( شبهات المخالفين على الأدلة التي ذكرناها و الإجابة عليها
( شبهة آية يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك
( شبهة الاستدلال بالآيات التي تتكلم عن المنافقين
شبهات المخالفين على الأدلة التي ذكرناها و الإجابة عليها (1):
... (قال بعضهم):السبب في عدم وجود آيات قرآنية صريحة في القرآن الكريم في النص على إمامة علي و خلافته بعد رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم )، أن مخالفي إمامة الإمام حذفوا تلك الآيات لمَّا دونوا القرآن أو حرَّفوها!
... الجواب: و هل كان القرآن الكريم و آياته ملكا خاصا و منحصرا بيد رقباء الإمام علي حتى يتمكنوا من التصرف به كما يشاؤن فيَحْذِفون أو يحرِّفون على هواهم ؟؟ ألم يكن نبي الإسلام صلىالله عليه وآله يتلو كل ما يتنَزَّل عليه من آيات على مسامع المسلمين الحاضرين، سواء في مكة أو المدينة، ثم يبلِّغها لمن كان غائبا، تنفيذا لأمر الله تعالى له بإبلاغ ما أنزله إليه، ليس للعرب فقط بل للعالمين، كما قال سبحانه في سورة الأنعام /91: { و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ..} أو قال في سورة المائدة / 67: { يا أيها الرسول بلِّغ ما أُنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلَّغت رسالته } ؟؟
__________
(1) قمت بترتيب هذا الباب و اختيار عناوين مناسبة له حيث كان بالأصل غير مرتب و بدون عناوين. (مت)(126/1)
... و هكذا فإن آيات القرآن الكريم كانت تُتْلى على مسامع عشرات الآلاف من المسلمين، و ليس هذا فحسب، بل كان المسلمون أيضا مأمورين بأن يتلوا القرآن بأنفسهم في الليل و النهار، و في صلواتهم الخمس، كما قال سبحانه: { فاقرؤا ما تيسر من القرآن } و قال: { إن الذين يتلون كتاب الله و أقاموا الصلاة و أنفقوا مما رزقناهم سراً و علانية يرجون تجارة لن تبور..}، هذا و قد استجاب المؤمنون لهذا النداء الإلهي فكانوا كما وصفهم الله: { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به }، فهل من عاقل يمكنه أن يصدق أن آياتٍ من القرآن كانت تُسمَع و تُتْلَى من قبل الآلاف وعلى مدار 23 عاما، تتعرض للنسيان بحيث أن لا أحد يذكرها و بحيث يتمكن عدد من الأشخاص من إسقاطها و حذفها دون أن يلتفت إلى ذلك أحد ؟! إن الذي يدَّعي ذلك الادِّعاء إما جاهل أو كافر، أما المؤمن العارف بسيرة نبي الإسلام صلىالله عليه وآله و تاريخ صدر الإسلام فلا يمكنه أن يتفوَّه بمثل ذلك على الإطلاق .
... و علاوة على ما سبق، ألم يضمن اللهُ تعالى ربُّ العالمين و مُنْزِلُ القرآن المبين حفظَ كتابه و صيانَتَه من الضياع أو التغيير و التبديل حين قال: { إنا نحن نزَّلنا الذكر و إنَّا له لحافظون } (الحجر/9) ؟؟ فهل نصدق قول الله تعالى الذي أنزل القرآن و أكَّد أنه سيحفظه أم قول ذلك الأحمق الجاهل الذي يدعي أن آيات من القرآن حُذِفَت أو حُرِّفَت ؟؟
... و أقر بعضهم بأنه لم تنزل في القرآن أية آية تتعلق بِـ "الإمامة المنصوص عليها" و أن الأئمة الاثني عشر ليس لهم ذكر في القرآن، و أن القرآن مصون من أي زيادة أو نقصان، و لكنه قال إن علة عدم وجود أي إشارة لهم في القرآن هي أنهم لو ذكروا في كتاب الله لقام أعداء الأئمة بحذف تلك الآيات من القرآن ولوقع التحريف في القرآن الكريم، و لذا لم تذكر أسماء الأئمة حفاظا على القرآن من أن تمسه يد التحريف!!؟(126/2)
... و هذا لعمري قول عجيب و حجة باطلة من أساسها، فكيف نقرأ قوله تعالى {ما فرطنا في الكتاب من شيء} الأنعام/ 38، ثم نقبل أن القرآن ترك ذكر أصل من أصول الدين و بيان أئمة المسلمين الذين معرفتهم شرط للنجاة يوم الدين، مهما كانت أسباب ذلك؟! ثم هل ينطبق ذلك الادعاء، مع الإيمان بالله تعالى القادر على كل شيء؟! أليس في قدرة الله تعالى أن يذكر الإمامة و الأئمة في كتابه و بنفس الوقت يصون كتابه من تدخل الأعداء و يحفظه. هل يعقل أن الله تعالى القادر المتعال الفعال لما يشاء يضطر لترك أمر يريده ويغير مشيئته خوفا من العمل المحتمل لحفنة من عباده الضعفاء؟!! لعمري إنه قول لا ينبغي لمسلم و محبِّ لعلي أن يتفوه به.
شبهة آية يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك
... يستند القائلون بالنص إلى قوله تعالى: { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته و الله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين } المائدة / 67 كدليل على مدعاهم قائلين أن الذي أُمِرَ الرسول بتبليغه في هذه الآية هو النص الإلهي على خلافة علي و ولاية أمره.(126/3)
... و الجواب: أنه ليس في مضمون الآية و لا في سياقها أي شيء يفيد ما يقولونه أبداً، فآيات سورة المائدة بدأً من الآية 13: { فبما نقضهم ميثاقهم لعنَّاهم و جعلنا قلوبهم قاسية...} ثم الآيات 41 إلى 45: يبين الله تعالى فيها عصيان اليهود و طغيانهم و تعدِّيهم حدود الله، و عدم حكمهم بما أنزل الله إليهم في التوراة، ثم من الآية 46 فما بعد يتوجه الله تعالى إلى النصارى و يدعوهم للعمل بالإنجيل، و يأمر رسوله (صلى الله عليه و آله و ;سلم ) بالحكم بما أنزله إليه و عدم اتباع أهواء أهل الكتاب و الحذر من فتنتهم، و خلال ذلك ينهى المسلمين عن اتخاذ اليهود و النصارى أولياء، و يأمرهم بموالاة الله و رسوله و المؤمنين، ليعود ثانية (في الآية 58 فما بعد ) لمذمة أعمال أهل الكتاب و موقفهم في مواجهة دعوة الإسلام، و تقريع اليهود على أفعالهم السيئة من قول الإثم و أكل السحت و إيقاد نيران الحروب و السعي في الأرض بالفساد إلى أن يصل إلى الآية موضع الاستشهاد فيقول: { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته و الله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين } أي بلغ ما أنزلناه إليك بشأن أهل الكتاب و لا تخف فالله سيحميك من شر اليهود والنصارى ويظهر أمرك و دينك لأن الله لا يهدي المعرضين عن الحق الكافرين به من أهل الكتاب، و يعقبها مباشرة بقوله: { قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة و الإنجيل و ما أنزل إليكم من ربكم...} فيأمر الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم ) أن يقول لأهل الكتاب أنهم ليسوا على شيءٍ من الدين و لا حتى الإنسانية إلا إذا أقاموا التوراة و الإنجيل و ما أُنزل إليهم من ربهم، ثم يذكِّر اليهود كيف نقضوا ميثاقهم و قتلوا أنبياءهم و عَمُوا و صَمُّوا، ثم يعلن بكل صراحة ـ و هذا أخطر ما في القضية ـ كفر النصارى الذين قالوا أن الله هو المسيح بن مريم أو الذين قالوا أن الله(126/4)
ثالث ثلاثة، ثم يقول للرسول (صلى الله عليه وآله و سلم ): { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم نفعا و لا ضرا... قل يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق و لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل و أضلوا كثيرا....لُعِنَ الذين كفروا من بني اسرائيل... } فهذه هي الأمور الحاسمة الخطيرة التي أُمِر صلوات الله و سلامه عليه وآله بالصدع بها دون خوف و لا وجل و لو لم يفعل فما بلغ رسالة الله - عز وجل -.
... هذا ما يقتضيه سياق الآيات، فهل يمكن لعاقل ذي وجدان أن يجعل قوله تعالى { و الله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين } موجها لأصحاب رسول الله أولئك المسلمين المؤمنين الذين فرغوا لتوهم من أداء فريضة الحج مع رسول الله ؟؟ هل كان هذا هو الثواب و الجزاء الذي أثاب الله تعالى به الذين أتموا فريضة الحج اتباعا لأمر الله و رسوله صلّىاللّه عليه وآله، فاعتبرهم كافرين غير مستحقين للهداية ؟؟ هذا مع أنه تعالى هو نفسه كان قد مدح أولئك الأصحاب في عشرات الآيات قبل هذه الآية و بعدها ؟ ألا يوقع تفسير القائلين بالنص لهذه الآية، ألا يوقعهم في نسبة التناقض لكلام الله ـ و العياذ بالله تعالى ـ ؟؟
... ثم إن الآية تأمر بإبلاغ " ما أُنْزِلَ إليك " و هو تعبير يراد به الوحي القرآني بالذات، فأين الآيات التي ذُكِر فيها النص على علي بالخلافة والإمامة ؟ وكيف سيتم إبلاغ إمامة و خلافة علي ببلاغ ما أنزله الله تعالى إلى الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم ) من القرآن، مع أنه لا توجد فيه آية واحدة صريحة أو حتى غير صريحة حول هذا الموضوع ؟
شبهة الاستدلال بالآيات التي تتكلم عن المنافقين ...(126/5)
... ( قال بعضهم ): صحيح أن في القرآن آيات في مدح الصحابة، لكن فيه، في مقابل ذلك، آيات عديدة أيضا تدل على أنه كان من بينهم كثير من المنافقين و ذلك كالآيات التالية: في سورة النساء/61: {... رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } و في سورة المنافقون: { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله و الله يعلم إنك لرسوله و الله يشهد إن المنافقين لكاذبون } إلى آخر السورة، و في سورة الحشر/11 و ما بعدها: { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب..}، و في سورة الأحزاب /12: { وإذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله و رسوله إلا غرورا } ثم الآية 60: { لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض..} . و أوضح ذلك ما جاء في سورة التوبة التي من أسمائها الفاضحة لأنها فضحت المنافقين، ففي الآية 64 منها يقول الحق: { يحذر المنافقون أن تُنَزَّلَ عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم..} و في الآية 101: { و ممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم..} و نحوها كثير في السورة.
... الجواب: هذا الاعتراض منشؤه إما الجهل أو الغرض. نعم كان يوجد بين أصحاب رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم ) منافقون، لكنهم كانوا متميِّزين بصفات خاصة يبرأ منها بقية أصحاب رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم )، و يمكن من تتبع آيات القرآن الكريم أن نميِّز المنافقين عن غيرهم من عدّة وجوه:(126/6)
قسم كبير من المنافقين الذين جاء ذمهم في القرآن الكريم، هم المنافقون الذين امتنعوا عن السفر و الخروج مع رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم ) إلى غزوة تبوك، وقد نزل قسم كبير من آيات سورة التوبة (من الآية 38 إلى آخر السورة) في ذمهم و كشف أحوالهم و أقوالهم وأعمالهم، و لكن جاء خلال ذلك أيضا، في نفس السورة، مدح صادقي الصحابة و ذكر أوصافهم العالية التي تميزهم عن المنافقين.
... مثلا في قوله تعالى: { إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما و يستبدل قوما غيركم...... ( إلى قوله ): إلا تنصروه فقد نصره الله.... ( إلى قوله ): عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا و تعلم الكاذبين } يذم تعالى المنافقين بعدم نصرتهم للرسول (صلى الله عليه و آله و سلم ) و عدم نفرهم معه للجهاد و اعتذارهم الكاذب بأنهم لو استطاعوا لخرجوا معه، و يعاتب الله تعالى ويعفو عن رسوله (صلى الله عليه و آله و سلم ) لإذنه للمنافقين بعدم الخروج معه. لكنه تعالى يقول بعد ذلك: { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله و اليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم و أنفسهم و الله عليم بالمتقين } التوبة/44، مما يبين أن الذين جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في تلك الغزوة هم غير أولئك المنافقين القاعدين ولا تنطبق عليهم آيات الذم تلك.
... و الآن للنظر من هم أولئك الذين اعتذروا عن الخروج للجهاد واستأذنوا للقعود؟ هل كانوا هم أصحاب القرار في بيعة السقيفة ؟ أبداً، إن أدنى من له معرفة بالسيرة و تاريخ صدر الإسلام و أسباب النزول، يعلم أن هؤلاء المنافقين و المتخلفين و القاعدين و كذلك الذين ذمهم الله تعالى على لمزهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشأن الصدقات، كما قال عز شأنه: { و منهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا و إن لم يُعطَوْا منها إذا هم يسخطون } التوبة / 58، لم يكونوا أبدا في سقيفة بني ساعدة و لا كان لهم حلٌّ و لا عقدٌ فيها أصلاً.(126/7)
... و أما الآية الكريمة التي تذكر وجود منافقين في أهل المدينة و فيمن حولها: { و ممن حولكم من الأعراب منافقون و من أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم...} التوبة /101 فقد جاء قبلها تماما قوله تعالى: { والسابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } و جاء بعدها بعدة آيات أيضا: { لقد تاب الله على النبي و المهاجرين و الأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة....} التوبة /107، و عليه فلا يمكن لأحد مهما كان مغرضا أو جاهلا أن يجعل المهاجرين و الأنصار في عداد المنافقين، لأن القرآن فرق بين الفريقين و قابل بينهما مقابلة النور والظلام و الإيمان و الكفر، فكيف يسوي بينهما إلا مجنون أو رجل أعمى التعصب بصيرته ؟! إن الذين مدحهم القرآن لم يُبْتَلَوْا أبدا بالنفاق أو الردة و هذا أمر في غاية الوضوح و الظهور، علاوة على أن آيات القرآن لا يناقض بعضها بعضا، وأن العقل و الوجدان لا يمكنهما أن يصدِّقا أبدا اجتماع حالة (الإيمان الكامل ومدح القرآن مع الردة و النفاق) بحق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله(1).
__________
(1) لقد شهد الله تعالى بالإيمان القلبي الصادق لأهل بيعة الرضوان الذين يشكلون عمدة أهل الحل والعقد في بيعة السقيفة، و ذلك في قوله سبحانه: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم و أثابهم فتحا قريبا } (x)(126/8)
الطائفة الثانية من المنافقين المذمومين في القرآن: هم الذين آمنوا أو بالأحرى تظاهروا بالإسلام مكرهين مجبرين لما رأوا راية الإسلام ارتفعت فوق رؤوسهم، و هؤلاء عدة معروفة من أمثال عبد الله بن أُبَيِّ بن سَلُول و أبي سفيان صخر بن حرب و الحكم بن أبي العاص ونظائرهم. و قد وصف القرآن الكريم أفعالهم و أقوالهم كقوله عنهم: { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت و قد أُمِروا أن يكفروا به...} النساء/60، و قوله: { و إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لَوَّوْا رؤوسهم و رأيتهم يصدُّون و هم مستكبرون...( ثم يقول ): هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا... } أي كانوا يحرضون الأنصار على عدم إيواء و مساعدة من هاجر إليهم من المهاجرين و فقراء الصحابة، ثم يقول عنهم: { يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعز منها الأذل...} المنافقون / 5-7. و من الواضح أن أحدا من هؤلاء المنافقين لم يكن له حضور في سقيفة بني ساعدة و لا طلب أحد رأيه في مسألة تعيين الخليفة و الإمام، حيث أن بعضهم كان قد مات قبل ذلك و البعض الآخر كان خارج المدينة أو كان على درجة من افتضاح نفاقه لا يتمكن معها من حضور مثل تلك الاجتماعات.(126/9)
و الطائفة الثالثة من المنافقين الذين ذمهم القرآن هم الذين كانوا يوالون أعداء الإسلام من اليهود و النصارى و يتحالفون معهم خفية أو يعدونهم بالنصرة والعون ضد المسلمين، و صفتهم هذه كانت تظهر للعيان كلما واجه المسلمون عداوة أهل الكتاب أو وقعوا في حرب معهم، و كان من الطائفتين السابقتين من يشارك هؤلاء في هذه الصفة الخبيثة، و قد جاء ذكر أمر هؤلاء النمط في عدة سور كقوله تعالى في سورة المائدة: { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة..} الآية 52، و في سورة النساء: { بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما . الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا } الآيتان 138-139، و في سورة الحشر: { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لنخرجنَّ معكم و لا نطيع فيكم أحدا أبدا ولئن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون } الآية 11، فإذا دققنا النظر في هذه الآيات (و أسباب نزولها) اتضح لنا مراد الله تعالى من المنافقين وتبين أنه لا يمكن أن نجد أحداً من الأنصار و المهاجرين و سائر الصحابة الكرام الممدوحين في القرآن كان مبتلى بتلك الصفات المذكورة، أو حضر، متلبسا بالنفاق، في السقيفة ليعارض خلافة علي على الرغم من نص الله و وصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم!(126/10)
... و علاوة على كل ما سبق، فإن المنافقين كانوا أشخاصا قد أمر الله نبيه (صلى الله عليه و آله و سلم ) بمجاهدتهم و الغلظة عليهم، فأي واحد من الذين حضروا السقيفة كان ممن كان الرسول (صلى الله عليه و آله و سلم ) يجاهده و يغلظ عليه ؟ هل عمل رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم ) بأمر الله تعالى: { يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين و اغلظ عليهم و مأواهم جهنم و بئس المصير} أم لا ؟ فإن عمل فأي واحد من المهاجرين أو الأنصار الحاضرين في السقيفة و الذين ساعدوا في البيعة لأبي بكر - رضي الله عنه - كان من الذين جاهدهم رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم ) و غلظ عليهم ؟؟!
... 4 ـ ( استدل بعضهم ) بأن هناك آيات قرآنية تدل على إمكان ارتداد أولئك الأصحاب حتى في زمن حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) و ذلك كقوله تعالى: { و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟!..} آل عمران / 144، و قوله سبحانه: { و ما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.. } البقرة / 143، و قوله عز من قائل: { يا أيها الذين آمنوا مَنْ يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين.. } المائدة / 54.(126/11)
... و علاوة على ذلك، فقد حذَّرَ اللهُ تعالى رسولَه الكريم (صلى الله عليه وآله) من الوقوع في المعصية أو الجنوح لأهواء المضلين، و مثل هذه التحذيرات تدل على أن وقوع الرسول (صلى الله عليه وآله) في تلك الأمور أمر ممكن و محتمل (إن لم يعصمه الله)، فإن كان هذا في حق الرسول (صلى الله عليه وآله) ممكنا، أفلا يكون في حق غيره محتملا بنسبة أكثر بكثير؟ و ذلك مثل قوله تعالى: { و إن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك و إذا لاتخذوك خليلا . و لولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا . إذا لأذقناك ضعف الحياة و ضعف المماة ثم لا تجد لك علينا نصيرا} الإسراء/73 ـ 75 أو قوله تعالى: {.. و لئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين} البقرة /145، أو قوله سبحانه: {.. و لا تكوننَّ من المشركين . ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك و لا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين} يونس/105 ـ 106، أو قوله: {يا أيها النبي اتق الله و لا تطع الكافرين و المنافقين..} الأحزاب/1 و نحوها.(126/12)
... قالوا: ففي هذه الآيات حذَّر الله الرسولَ (صلى الله عليه وآله) من الوقوع في الشرك أو الخطأ أو العصيان أو اتباع أهواء الكفار، فلولا أن هذا الأمر ممكن الوقوع عقلا لما كان هناك معنى للتحذير منه، هذا مع أن العقل و النقل يشهدان أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) استحق مدح الله و الثناء عليه أكثر من أي أحد، وعليه فكما أنه لم يمنع كل المديح و الثناء الذي شرف الله تعالى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) من بقاء إمكان الانحراف و الوقوع بالعصيان منه، فمن باب أولى أن يبقى هذا الاحتمال ممكنا في حق أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) رغم كل ما جاء في حقهم من مدائح لا سيما أن الله لم يأخذ على نفسه عصمتهم و حفظهم. و هذا ما وقع فعلا منهم حسبما ندعيه من ردة أكثرهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) طبقا لحديث: ارتد الناس بعد رسول الله إلا ثلاثة!(126/13)
... الجواب: هذا الاستنتاج من الآيات بأنه حتى الأنبياء ممكن (عقلا) أن يقعوا في الشرك و العصيان، لا يصح أبدا على مذهب القائلين بالنص لأنهم يقولون بعصمة أئمتهم المطلقة من الولادة و حتى الوفاة، فضلا عن عصمة الأنبياء المطلقة بل عن إيمان و توحيد جميع آباء الأنبياء حتى آدم عليه السلام، رغم أن العقل و النقل يدلان على أن آباء بعضهم كانوا كافرين وثنيين(1). و لنفرض أنهم تنازلوا عن عقيدتهم و جعلوا إمكان وقوعهم في المعصية بل الكفر غير محال و قالوا من باب أولى أن يكون هذا الاحتمال واردا بحق الصحابة، سيما أنه تعالى حذرهم بأن من يرتد منهم عن دينه فسوف يحبط الله عمله و يستبدلهم بمؤمنين آخرين، فنقول: أجل إن احتمال الوقوع في المعصية و الشرك وارد في حق كل ابن آدم أيا كان و لكن هذا مجرد احتمال و إمكان، و الإمكان لِوَحْدِهِ لا يدل على الوقوع، بل لا بد من الإتيان بدليل على الوقوع الفعلي لتلك الردَّة المدَّعاة بحق الصحابة من المهاجرين و الأنصار، و دون ذلك خرط القتاد، لأن الردة إنما تحصل إما بإنكار وحدانية الله تعالى أو إنكار رسالة الرسول (صلى الله عليه وآله) أو إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة مما يكون من أحكام القرآن المسلمة القطعية، فمن الذي أنكر شيئا من هذا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) سيما المهاجرين و الأنصار منهم ؟؟ في أي سورة أو آية من آيات القرآن ورد موضوع الإمامة على النحو الذي يدعونه أو النص على علي فأنكروه ؟؟ و أصلا لو كان لمسألة الإمامة على النحو الذي تدعيه الإمامية أصل في القرآن لكان المقصر الأول في هذا الأمر علي بن أبي طالب نفسه الذي لم يأت على هذا النص أو الآيات بذكر و لم يدع النص على جنابه من قبل الله تعالى و رسوله في أي مقام و تخاذل في هذا الأمر إلى هذا
__________
(1) لعل المؤلف يقصد أبا سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي ذكر القرآن صراحة شركه و نحته للأصنام و عدم توبته. (مت)(126/14)
الحد!! لو كان حضرة علي قد عُيِّنَ من قِبَل الله تعالى و رسوله للخلافة لوجب عليه أن يخالف و ينازع أبا بكر حتى الموت و لا يسمح له بحال أن يرقى منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما قال هو نفسه - عليه السلام - ذلك حسبما رواه عنه قيس بن عباد: [ والذي فلق الحبة و برأ النسمة لو عهد إليَّ رسول الله عهدا لجالدت عليه و لم أترك ابن أبي قحافة يرقى في درجة واحدة من منبره ]، و كما قال ذلك أيضا حفيده الحسن المثنى بن الحسن المجتبى - عليه السلام - فيما أخرجه عنه ابن عساكر في تاريخه قال: (( حدثنا الفضيل بن مرزوق قال : سمعت الحسن بن السحن أخا عبد الله بن الحسن و هو يقول لرجل ممن يغلو فيهم: ويحكم أحبونا لِلَّه فإن أطعنا الله فأحبونا، و إن عصينا الله فأبغضونا، قال: فقال له الرجل: إنكم ذوو قرابة رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) و أهل بيته، فقال: ويحكم لو كان الله نافعا بقرابة من رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) بغير عملٍ بطاعته لنفع بذلك من هو أقرب إليه منا أباه و أمه، و الله إني لأخاف أن يضاعف الله للعاصي منا العذاب ضعفين، و الله إني لأرجو أن يؤتى المحسن منا أجره مرتين. ثم قال: لقد أساء آباؤنا و أمهاتنا إن كان ما تقولون من دين الله حقا ثم لم يخبرونا به و لم يطلعونا عليه و لم يرغبونا فيه، فنحن والله كنا أقرب منهم قرابة منكم و أوجب عليهم حقا و أحق بأن يرغبوا فيه منكم، ولو كان الأمر كما تقولون: إن الله ورسوله اختارا عليا لهذا الأمر و للقيام على الناس بعده، كان علي لأعظم الناس في ذلك خطيئة و جرما إذ ترك أمر رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) أن يقوم فيه كما أمره و يعذر فيه إلى الناس. فقال له الرافضي: ألم يقل رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) لعلي : "من كنت مولاه فعلي مولاه؟؟". قال: أم و الله، أن لو يعني رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) بذلك الإمرة و السلطان و القيام على الناس، لأفصح(126/15)
لهم بذلك كما أفصح بالصلاة و الزكاة وصيام رمضان وحج البيت و لقال لهم: أيها الناس إن هذا ولي أمركم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا، فما كان من وراء هذا، فإن أفصح الناس كان للمسلمين رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) ))، ثم قال الحسن: ((أقسم بالله سبحانه أن الله تعالى لو آثر عليا لأجل هذا الأمر و لم يُقْدِم عليٌّ كرم الله وجهه لكان أعظم الناس خطأً))(1)، أجل إن سكوت ذلك الجناب و تسليمه لمن سبقه أفضل دليل على عدم النص عند أولي الألباب، و كما يقال: السكوت في موضع البيان، بيان.
__________
(1) انظر تهذيب تاريخ دمشق الكبير، للشيخ عبد القاردر بدران: ج 4 / ص 169 ط 2 ( بيروت، دار المسيرة 1399 هـ / 1979 ) أو تاريخ مدينة دمشق : لابن عساكر، طبع دار الفكر، ج13 / ص 70 ـ 71.(126/16)
( عودة لكتاب الاحتجاج و نقد رواياته
( قول محققي العلماء في سليم بن قيس الهلالي و كتابه
عودة لكتاب الاحتجاج و نقد رواياته
... قلنا أن مشعلي نار الاختلاف و مهدمي بنيان الاتحاد و الوفاق ضخموا مسألة الإمامة كثيرا موقدين بذلك نار العداوة و الفرقة بين المسلمين مِمَّا أوقع المسلمين في بلاو لا يعلم عاقبتها إلا الله.
... من جملة ذلك الأحاديث و الأخبار التي أوردها الطبرسي في كتابه "الاحتجاج على أهل اللجاج"، فبعد أن أورد قصة السقيفة على نحو ما ذكره ابن قتيبة في كتابه " الإمامة و السياسة " مما تقدم ذكره، أضاف في آخر الرواية: [.. فقال بشير بن سعد الأنصاري، الذي وطَّأ الأمر لأبي بكر، و قالت جماعة من الأنصار: يا أبا الحسن لو كان هذا الأمر سمعته منك الأنصار قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف فيك اثنان ](1).
... قلتُ: هذا الاعتذار من بشير بن سعد و جماعة من الأنصار عذر صادق و صحيح، و هو أكبر شاهد على أنه لم يكن عند الأنصار نية مبيتة و سيئة ضد علي و إصرار من البداية على ألا يتولى منصب الخلافة!، و لا غرو فلم يكن أحد من المهاجرين أو الأنصار بمنكر لفضائله و مناقبه و علمه و شجاعته و لياقته لذلك المنصب، فكيف يكون حالهم لو سمعوا النص على عليٍّ من رسول الله ؟ فبطريق أولى لن يختلف من الأصل على بيعته اثنان.
__________
(1) الاحتجاج: ج 1 / ص 96 ( طبع قم )، أو ج1/ ص 184 من الطبعة التي حققها الشيخان ابراهيم البهادري و محمد هادي به، باشراف الشيخ جعفر السبحاني (طبع قم، انتشارات أسوة، 1413 هـ ) و هي الطبعة التي سأوثق منها من الآن فصاعدا نظرا لأنها المتوفرة لدي حاليا. (مت)(127/1)
... و من ذلك نعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يكن قد نصب عليا أبدا بصراحة حاكما و خليفة له على المسلمين بأمر من الله تعالى في يوم الغدير، إذ لو حصل ذلك كما ادعوا و زعموا أنه أخذ البيعة له من جميع الصحابة، لاستحال أن يتكلم بعد ذلك أحد من الأنصار المحبين لعلي في موضوع نصب الخليفة أو يسعى لنيل هذا المقام! و لاستحال أن يرشح سعد بن عبادة - رضي الله عنه - ـ الذي كان من الأوفياء المخلصين و المجاهدين بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله ـ نفسه لهذا الأمر، ثم يأتي أبو بكر و عمر و أبو عبيدة (رضي الله عنهم) و يَجُرُّوا البساط من تحت الأنصار وينتزعوا الخلافة من غاصبيها الأولين ليصيروا غاصبيها الثانين!! ثم لا ينبري أحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذين حضروا بيعة غدير خم و كان عددهم (كما يقولون) يزيد على المائة ألف، ليصيح بأهل السقيفة: ويحكم! أيها الناس الذين لا دين لهم و لا حياء !! يا أراذل البشر و أجبنهم و أخونهم و ... و ...!! ألم تبايعوا عليا بالخلافة منذ سبعين يوم فقط و جعلتموه إماما عليكم وخاطبتموه بأمير المؤمنين؟؟ و أنشد شاعركم حسان بن ثابت في ذلك قصيدته ؟! فما هذه المهزلة و السخرية التي قمتم بها ؟؟!!(127/2)
... إن مثل هذا لم يحصل في تاريخ البشر و لا يمكن أن يحصل أبدا، أي أن يبايع جمٌّ غفير يربو على المائة ألف، رجلا بالإمامة، و يعطوه على ذلك العهد والميثاق، سواء طائعين مختارين أم مكرهين مجبرين، ثم في خلال سبعين أو ثمانين يوما فقط ينسون جميعا تلك البيعة التي في أعناقهم أو يجتمعون بأجمعهم على كتمانها وكأنها شيئا لم يكن؟!! هذا مع كونهم يظهرون عبارات الغدير في سائر مواقفهم الأخرى بكل احترام و يلتزمون بها!!! (1)
__________
(1) من ذلك ما ينقله العلامة عبد الحسن الأميني في كتابه "الغدير" فيقول: ((أخرج احافظ ابن السمان كما في الرياض النضرة ج2/ص170، و ذخائر العقبى للمحب الطبري ص 68، و وسيلة المآل للشيخ أحمد بن باكثير المكي، ومناقب الخوارزمي ص 97، و الصواعق ص 107 عن الحافظ الدارقطني عن عُمَرَ و قد جاءه أعرابيان يختصمان فقال لعلي: إقض بينهما، فقال أحدهما: هذا يقضي بيننا؟ فوثب إليه عمر و أخذ بتلبيبه و قال: ويحك ما تدري من هذا؟ هذا مولاي و مولى كل مؤمن، و من لم يكن مولاه فليس بمؤمن.
... و عنه نازعه رجل في مسألة فقال: بيني و بينك هذا الجالس، و أشار إلى علي بن أبي طالب، فقال الرجل: هذا الأبطن؟ فنهض عمر عن مجلسه و أخذ بتلبيبه حتى شاله من الأرض ثم قال: أتدري من صغَّرت؟ هذا مولاي و مولى كل مسلم.
... و في الفتوحات الإسلامية ج2 / ص 307: حكم علي مرة على أعرابي بحكم فلم يرض بحكمه فتلبَّبه عمر بن الخطاب و قال له: ويلك إنه مولاك ومولى كل مؤمن و مؤمنة. و أخرج الطبراني أنه قيل لعمر: إنك تصنع بعليٍّ ـ أي من التعظيم ـ شيئا لا تصنع مع أحد من أصحاب النبي (ص) فقال: إنه مولاي. وذكره الزرقاني في شرح المواهب ص 13 عن الدارقطني.)) انتهى من "الغدير" ج1 / ص 382 ـ 383. (x)(127/3)
إن مثل هذا الأمر يستحيل وقوعه ليس في عالم الدنيا فحسب بل حتى في عالم الرؤيا و الخيال، فضلا عن أن يقوم به أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين مدحهم القرآن و شهد لهم تاريخ الإسلام بالإخلاص و التضحية بالنفس و المال في سبيل إعلاء كلمة هذا الدين و نشره.
... و يتابع الطبرسي روايته فيقول: [ قال علي ( مجيبا الأنصار ): يا هؤلاء أكنت أدع رسول الله مسجى لا أواريه و أخرج أنازع في سلطانه ؟ والله ما خفت أحدا يسمو له و ينازعنا أهل البيت و يستحل ما استحللتموه، و لا علمت أن رسول الله ترك يوم غدير خم لأحد حجة و لا لقائل مقالا، فأنشد الله رجلا سمع النبي (صلى الله عليه و آله و سلم ) يوم غدير خم يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره واخذل من خذله، أن يشهد بما سمع ](1).
__________
(1) المصدر السابق ج 1 / ص 184 (مت)(127/4)
... قلت: في مثل هذا المقام، لو كانت قصة الغدير نصا حقا على خلافة وإمامة علي، لكان كلام علي هنا ( وهو أمير الفصاحة و البيان ) ناقصا وغير مبين للمراد! لأن كل ما ذكره أنه أراد أن يقوم رجل واحد فقط ـ من بين جماعة كان يربو عددهم على المائة ألف سمعوا و فهموا و سلَّموا وبايعوا ـ ليشهد بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قال من كان يحبني و يتولاني فليحب عليا و ليتولاه، اللهم أحب وكنْ نصير من أحبه و نصره و عاد و اخذل من عاداه و خذله! حيث ذكرنا سابقا أن لكلمة " مولى " 27 معنى و أنه لا بد من قرينة لفهم المعنى المراد و أن قوله (صلى الله عليه وآله) اللهم وال من والاه وعادِ من عاداه، قرينة على أن المراد من المولى معنى النصير المحب، و أيا كان فليس في معاني المولى معنى الخليفة و الإمام! فإذا لم يفهم الناس من تلك الخطبة معنى الخلافة و الإمامة فعندهم كل الحق في ذلك! خصوصا مع وجود القرينة المذكورة. و علاوة على ذلك فإن نسق الحديث يدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله) يريد من كلمة المولى معنى هو حائز عليه الآن ويريد أن يجعل عليا حائزا عليه الآن أيضا ( لأنه قال من كنت مولاه فعلي مولاه)، و الأمر الذي كان الرسول (صلى الله عليه وآله) متصفا به هو النبوة و الرسالة وبديهي أنه لا يريد أن يكون علي أيضا حائزا على هذه المرتبة لا ذلك الوقت و لا بعد وفاته، و إذا قصد بالمولى الخلافة فالرسول (صلى الله عليه وآله) لم يكن خليفة لأحد حتى يريد جعل الخلافة لعلي أيضا، و لو سلمنا جدلا أن المقصود من المولى الإمامة والرئاسة لوجب أن يقول النبي من كنت مولاه فإن عليا مولاه بعدي، لأنه لا يمكن أن يكون علي رئيسا حاكما على المسلمين في حال رئاسة النبي (صلى الله عليه وآله) وحكومته، لكن مثل هذه الإضافة لم يدع أحد صدورها عن النبي (صلى الله عليه وآله) في هذا الحديث. لذلك قلنا أن مطالبة علي بمثل هذه الشهادة في ذلك المقام ـ إن(127/5)
صحت ـ ليست في محلها و لا تؤدي المراد. و نحن نقطع في الواقع أن هذه المطالبة ليست إلا من اختلاق و وضع الرواة الكذبة و لا ربط لعلي بها أصلا.
... و يتابع صاحب كتاب الاحتجاج روايته فيقول: [ قال زيد بن أرقم: فشهد اثنا عشر بدريا بذلك. و كنت ممن سمع القول من رسول الله صلىالله عليه وآله وسلم فكتمت الشهادة يومئذ، فدعا عَلَيَّ فذهب بصري ](1).
... قلتُ: هذا الحديث كله رواه الطبرسي عن "أبي المفضل محمد بن عبد الله الشيباني" عن رجال ثقة! و لا يعلم أحد من هؤلاء الرجال الثقة ؟! أما محمد بن عبد الله الشيباني فقد ذكره النجاشي في رجاله ( ص 309 ) وقال: [ أصله كوفي ورأيت جلّ أصحابنا يضعِّفونه ] و قال القهبائي في "مجمع الرجال "( ج 5 / ص 241): [ محمد بن عبد الله الشيباني أبو الفضل: وضاع كثير المناكير ] وقال عنه الشيخ الطوسي في كتابه " الفهرست ": [ ضعَّفه جماعة من أصحابنا ]، و في كتاب الأخبار الدخيلة (ص 48) عن الغضائري: [ إنه كذاب وضاع للحديث ]، هذا من ناحية السند.
... ثم إن زيد بن أرقم لم يكن ممن تسمع شهادتهم في ذلك الوقت، و لا طلب أمير المؤمنين منه هذه الشهادة في ذلك الوقت بل طلبها في رحبة الكوفة زمن خلافته - عليه السلام - كما جاء ذكر ذلك في بحار الأنوار ( ج 22 / ص 23 ).
__________
(1) المصدر السابق ج 1 / ص 185 ، هذا و يجدر أن نذكر أننا سبق و أشرنا إلى أن الروايات متضاربة بشأن شهادة أو عدم شهادة زيد بن أرقم فهناك عدة روايات لا تذكر عنه أنه لم يشهد.(127/6)
... اما الاثنا عشر بدريا الذين تقول رواية الطبرسي هذه أنهم شهدوا بما قاله النبي (صلى الله عليه وآله) في غدير خم، فيبدو أنهم نفس الاثني عشرالذين ذكرهم الطبرسي في روايته، التالية مباشرة لهذه الرواية، و التي يرويها الطبرسي من غير سند (!) بل مرسلة عن أبان بن تغلب أنه سأل حضرة الإمام جعفر الصادق - عليه السلام - فقال: [ قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق - عليه السلام -: جعلت فداك هل كان أحد في أصحاب رسول الله صلىالله عليه وآله أنكر على أبي بكر فعله وجلوسه مجلس رسول الله صلىالله عليه وآله ؟ قال: نعم كان الذي أنكر على أبي بكر اثني عشر رجلا، من المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص، و كان من بني أمية، و سلمان الفارسي و أبوذر الغفاري و المقداد بن الأسود وعمار بن ياسر و بريدة الأسلمي، و من الأنصار: أبو الهيثم بن التيهان و سهل و عثمان ابنا حنيف وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وأبي بن كعب و أبو أيوب الأنصاري. قال (أي الإمام جعفر الصادق): فلما صعد أبو بكر المنبر تشاوروا بينهم، فقال بعضهم لبعض والله لنأتينَّه و لننزلنَّه عن منبر رسول الله صلىالله عليه وآله (1) ، و قال آخرون منهم: والله لئن فعلتم ذلك إذن أعنتم على أنفسكم و قد قال الله عز وجل: " و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " فانطلِقوا بنا إلى أمير المؤمنين (أي علي) لنستشيره و نستطلع رأيه ].
__________
(1) من المفروض ـ حسب حديث ارتد الناس إلا ثلاثة أن يكون سائر هؤلاء الاثني عشر ـ ما عدا سلمان و أبو ذر و المقداد ثم عمار ـ في عداد المرتدين!! و لكنهم هنا في هذه الرواية يقسمون بالله على أنهم سينزلون أبا بكر عن منبر الرسول أي أنهم غير قابلين ببيعته بل يعتقدون بخلافة علي و أدوا الشهادة بذلك، فأي الروايات نقبل : رواية أنهم مرتدون أم رواية أنهم ثابتون مؤمنون ؟؟! أم أنها أكاذيب و حبل الكذب قصير!! (x)(127/7)
... ثم يذكر الراوي أن عليا لم يوافقهم على ما أرادوا فعله لما فيه من تهديد حياته بالقتل و قال لهم في آخر كلامه: [ فانطلِقوا بأجمعكم إلى الرجل (أي أبو بكر) فعرِّفوه ما سمعتم من قول نبيكم ليكون ذلك أوكد للحجة و أبلغ للعذر وأبعد لهم من رسول الله (صلىالله عليه وآله) إذا وردوا عليه! قال: فسار القوم حتى أحدقوا بمنبر رسول الله (صلىالله عليه وآله) و كان يوم الجمعة، فلما صعد أبو بكر المنبر قال المهاجرون للأنصار تقدموا و تكلموا، فقال الأنصار بل تكلموا أنتم ] (1)
__________
(1) الاحتجاج: ج1 / ص 186 ـ 187 (مت)(127/8)
... و يستقر الاختيار على خالد بن سعيد بن العاص ( و الحال أن خالد بن سعيد هذا إنما كان قد أسلم بفضل دعوة و إرشاد أبي بكر - رضي الله عنه - فكانت هدايته للإسلام على يده، اشترك في زمان خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - و بأمرٍ منه في معركة "أجنادين" و استشهد فيها و كان ذلك قبل 24 يوما من وفاة أبي بكر) فيقوم خالد فيعظ أبا بكر - رضي الله عنه - و يذكّره، لكنه لا يذكر في كلامه شيئا عن غدير خم، بل يذكر حادثة و كلاما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله) لعلي يوم بني قريظة ليس له ذكر في أي من التواريخ المتقدمة! و الأغرب من ذلك ما ذكره الراوي من أن عمر - رضي الله عنه - قام فقال: [ اسكت يا خالد! فلست من أهل المشورة و لا ممَّن يُقْتَدى برأيه! ]، هذا مع أن خالد بن سعيد لا ينقصه شيء عن عمر - رضي الله عنه - حتى يخاطبه عمر - رضي الله عنه - بهذه الصورة و يقول له لست من أهل المشورة، دون أن يعترض خالد و لا غيره على ذلك!! إذ لو كانت الأفضلية بالسبق إلى الإسلام فخالد بن سعيد خامس رجل أسلم فكان إسلامه قبل عمر - رضي الله عنه - بعدة سنوات، و كان من أصحاب الهجرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة، و شهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) جميع الغزوات، و أرسله رسول الله(صلى الله عليه وآله) قُبيل وفاته إلى اليمن و عيَّنه حاكما على قبيلة مذحج في قسمٍ من اليمن، و لا ندري كيف أتى به الراوي الكذّاب من اليمن إلى المدينة و جعله أول من تكلم معترضا على أبي بكر!!.. و على أي حال فلم يأت في كلام خالد أي ذكر لحديث الغدير مع كونه أهم مستند للخلافة المنصوص عليها، بل كل ما كان في احتجاجه هو سباب و شتائم لعمر - رضي الله عنه - حتى أنه قال له: [ و إنك في هذا الأمر بمنزلة الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها و ذلك جزاء الظالمين! ](1)
__________
(1) المصدر السابق: ج1 / ص 191 ـ 192 (مت)(127/9)
.
... و كل مطلع على تاريخ صدر الإسلام يعلم يقينا كذب مثل هذه الأقاويل. ثم كان سلمان الفارسي ثاني من تكلم من المهاجرين و لم يشر في كلامه أيضا لمسألة النص على عليٍّ يوم الغدير بل اقتصر كلامه على ذكر بعض فضائل علي و تذكير أبي بكر بأنه كان عليه النفوذ في جيش أسامة بن زيد (1) ... أما المحتج الثالث فكان أبا ذر الذي لم يشر كذلك لا من قريب و لا بعيد للغدير، وكذلك فعل الذي بعده أي المقداد بن الأسود (2) ثم بريدة الأسلمي و كان عمار بن ياسر آخر من تكلم من المهاجرين و اقتصر كلامه على تخويف أبي بكر عاقبة فعله وتذكيره بفضائل أهل البيت حيث قال: [ و إن أهل بيت نبيكم أولى و أحق بإرثه و... (إلى قوله ) فقد علمتم أن بني هاشم أولى بهذا الأمر منكم..] ثم ذكر عددا من فضائل علي.
__________
(1) في الواقع إن أبا بكر ـ مثله مثل علي (ع) ـ لم يكن مأمورا من قبل النبي (ص) بالانضمام لجيش إسامة. يقول ابن كثير في السيرة النبوية (ج4 / ص 441): (( و من قال إن أبا بكر كان فيهم فقد غلط! فإن رسول الله (ص) اشتد به المرض و جيش اسامة مخيم بالجرف و قد أمر النبي (ص) أبا بكر أن يصلي بالناس، كما سيأتي، فكيف يكون في الجيش؟!)). ثم ذكر في الصفحات 459 فما بعد الروايات العديدة التي تدل على أمر النبي (ص) أبا بكر أن يؤم الناس في الصلاة. (x)
(2) عرفنا مما سبق أن المقداد لم يكن يعتقد بالنص الإلهي على علي (ع). و لكن الراوي الساذج اختاره ليجعله من ضمن المعترضين على أبي بكر. (x)(127/10)
... ثم جاء دور الأنصار فكان أول من تكلم منهم أبي بن كعب الذي أنَّب أبا بكر دون أن يأتي في كلامه بأي إشارة لغدير خم، و تكلم بعده خزيمة بن ثابت فاقتصر كلامه على ذكر فضائل أهل البيت، و كان المتكلم الثالث أبو الهيثم بن التيهان و كان أول من أشار لمسألة الغدير، لكن الذي يُفهم من كلامه أن خطبة الغدير كانت غامضة فحصل خلاف بين الصحابة في فهم معناها، حيث يقول الراوي: [ فقالت الأنصار: ما أقامه للخلافة، و قال بعضهم: ما أقامه إلا ليعلم الناس أنه مولى من كان رسول الله صلىالله عليه وآله مولاه، و كثر الخوض في ذلك فبعثنا رجالا منا إلى رسول الله فسألوه عن ذلك فقال: قولوا لهم عليٌّ ولي المؤمنين بعدي و أنصح الناس لأمتي..] . وهنا أيضا لا نرى كلاما صريحا في الخلافة و النص على علي بالحكومة والإمارة بأمر من الله عز وجل، بل إن دل كلام الراوي على شيء فإنه يدل على إثباته النقص و القصور في بيان رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم ) (حاشاه من ذلك) (1) .
__________
(1) هل يعقل أن نبي الله (ص) ـ الذي أوتي فصاحة البيان و جوامع الكلم ـ يوقف الناس في الصحراء الحارة ليلقي كلمة هامة و لكنه يعجز عن أن يبين مقصوده منها و يتم حجته على المستمعين حتى يضطروا أن يرسلوا شخصا ليسأله عن مقصوده من كلمته ؟!! (x)(127/11)
... أما الإشكال الأكبر من هذا، في هذه الرواية، فهو أن التواريخ تؤكد أن "أبا عمارة خزيمة بن ثابت الأوسي، ذي الشهادتين" و " أبا الهيثم مالك بن التيهان الأوسي" رغم كونهما من أنصار و مؤيدي علي - عليه السلام - ، لم يكونا قطعا من المعتقدين بالنص النبوي الإلهي على إمارته. ينقل "أحمد بن يحيى البلاذري" في كتابه "أنساب الأشراف" الذي يعد من أقدم التواريخ الإسلامية، أن هذان الشخصان كانا مترددين حتى في القتال إلى جانب علي في حربه مع معاوية، مع وضوح عدم حقانية معاوية و بغيه فيها!، و بقوا مترددين في المشاركة مع علي في القتال إلى أن استشهد ـ في صف علي ـ عمار بن ياسر - رضي الله عنه - عند ذلك وضح الحق لهما، فخاضا الحرب بكل إخلاص إلى جانب علي - عليه السلام - و استشهدا في نصرته! قال البلاذري: ((عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، قال: شهد خزيمة الجمل فلم يسل سيفا و شهد صفين فقال لا أقاتل أبدا حتى يقتل عمار فأنظر من يقتله فإني سمعت رسول الله r يقول: تقتله الفئة الباغية، قال: فلما قتل عمار، قال خزيمة: قد بانت الضلالة فقاتل حتى قتل))(1) . و يروي الكشي في كتابه الرجال (ص 51) نقلا عن محمد بن عمار بن خزيمة أيضا: (( ما زال جدي بسلاحه يوم الجمل و صفين، حتى قتل عمار، (فعند ذلك) سلَّ سيفه حتى قُتِل)). وكذلك ذكر "البلاذري" في "أنساب الأشراف" عن أبي الهيثم : (( حضر أبو الهيثم بن التيهان الصفين، لما رأى عمارا قد قتل، قاتل حتى قُتِل، فصلى عليه علي و دفنه)) (2).
... و لذلك فقد كان اختيار واضع رواية الاحتجاج لهاتين الشخصيتين لأداء ذلك الدور الذي نسبه لهما اختيارا غير موفق و غير خبير!!
__________
(1) أنساب الأشراف ، البلاذري، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات: تصحيح محمد باقر المحمودي، ج2 / ص 313.
(2) المرجع السابق: ج2 / ص 319.(127/12)
... ثم تذكر رواية الاحتجاج أن المعترض الرابع كان سهل بن حنيف الذي قام و شهد أنه رأى رسول الله صلىالله عليه وآله في هذا المكان ( يعني روضة المسجد النبوي) و قد أخذ بيد علي و قال:[ أيها الناس هذا علي إمامكم من بعدي و وصيي في حياتي وبعد وفاتي..] و لكنه لم يشر لموضوع الغدير، و قام بعده أخوه عثمان بن حنيف فقال: [ سمعنا رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم ) يقول: أهل بيتي نجوم الأرض فلا تتقدموهم و قدموهم فهم الولاة من بعدي]، و كان آخر المتكلمين أبو أيوب الأنصاري الذي بدأ كلامه قائلا: [ اتقوا الله عباد الله في أهل بيت نبيكم ارددوا إليهم حقهم...] ثم ذكر فضيلة لأهل البيت و لعلي دون أن يأت بأي ذكر لقضية غدير خم.(1)
__________
(1) المصدر السابق: ج 1 / ص 199 (مت)(127/13)
... رغم أن متن هذا الحديث يكفي للحكم بوضعه، لكننا سنفرض جدلا أنه صحيح و أن هذا الاعتراض من أولئك الاثني عشر قد تم فعلا بالصورة المذكورة، فلنا أن نسأل: لو كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد نص صراحة على خلافة و إمارة علي في غدير خم و أخذ له البيعة من الناس، ألم يكن من المنطقي أن يذكر أولئك المعترضون هذا الأمر قبل أي شيء آخر باعتباره أوضح دليل و أقطع حجة على أن الخليفة الحق هو علي و لا يمكن أن يكون غيره ؟؟ أليس عدم ذكرهم لذلك يؤكد ما قلناه من أن قضية غدير خم لم تكن أبدا نصا على علي بالخلافة بل كل ما في الأمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خشي من عداوة بعض المسلمين لعلي، فأراد أن يبين للمسلمين وجوب محبته؟ بل يمكن القول أن هذا الحديث من معجزات النبي (صلى الله عليه وآله) إذ يشير إلى أن النبي نُبِّئ بما سيلقاه عليٌّ في عهد خلافته من عداء ومحاربة، لذا أوصى بمحبته و موالاته مرات عديدة، تلك المحبة و الموالاة الصادقة التي تنفع عليا و تعينه على نصرة الحق و لا تتركه لوحده، لا المحبة والولاء الادعائي الذي يكون وسيلة للتجرُّؤ على المعاصي و تعدي حدود الله تعالى، كما يفعل اليوم عديد من الأراذل قائلين (حبُّ عليٍّ حسنةٌ لا تضرُّ معها سيئة!) فيغرّهم الشيطان بارتكاب المعاصي و الآثام، لا والله.(127/14)
... و يتابع الطبرسي روايته الواضحة الاختلاق و المنسوبة زورا و بهتانا للإمام الصادق فيقول: [ قال الصادق - عليه السلام -: فأُفْحِم أبو بكر على المنبر حتى لم يَحِرْ جوابا، ثم قال: وُليتكم و لست بخيركم أقيلوني أقيلوني! فقال له عمر بن الخطاب: انزل عنها يا لُكَع (1)، إذا كنت لا تقوم بحجج قريش، إذاً لم أقمت نفسك هذا المقام ؟ و الله لقد هممت أن أخلعك و أجعلها في سالم مولى أبي حذيفة! (2) قال: فنزل (ابو بكر) ثم أخذ ( عمر) بيده و انطلق إلى منزله و بقوا ثلاثة أيام لا يدخلون مسجد رسول الله صلىالله عليه وآله، فلما كان في اليوم الرابع جاءهم خالد بن الوليد و معه ألف رجل فقال لهم: ما جلوسكم فقد طمع فيها و الله بنو هاشم ؟ و جاءهم سالم مولى أبي حذيفة ومعه ألف رجل، وجاءهم معاذ بن جبل و معه ألف رجل، فما زال يجتمع إليهم رجل رجل حتى اجتمع أربعة آلاف رجل، فخرجوا شاهرين بأسيافهم يقدمهم عمر بن الخطَّاب حتى وقفوا بمسجد رسول الله صلىالله عليه وآله، فقال عمر: والله يا أصحاب علي لئن ذهب منكم رجل يتكلم بالذي تكلم بالأمس لنأخذن الذي فيه عيناه.
... فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص و قال: يا بن صهاك الحبشية أبأسيافكم تهددوننا أم بجمعكم تفزعوننا، و الله إن أسيافنا أحد من أسيافكم وإنا لأكثر منكم و إن كنا قليلين لأن حجة الله فينا، و الله لولا أني أعلم أن طاعة الله و رسوله و طاعة إمامي أولى بي لشهرت سيفي و جاهدتكم في الله إلى أن أبلي عذري.
__________
(1) اللكع: اللئيم و العبد الأحمق. (مت)
(2) الكاذب الذي وضع هذه الرواية يتصور أن عمر كان صاحب سلطة مطلقة في الأمر و النهي بين العرب، وأنه كانت له من القدرة ما يمكنه من أن يأتي بسالم و يخلع أبا بكر متى أراد! لا شك أن هذا الراوي الأحمق من أجهل الناس بتاريخ صدر الإسلام و من الذين نشأوا في عهد السلاطين المتجبرين و الملوك ذوي السلطة الفردية المطلقة!! ( برقعي )(127/15)
... فقال أمير المؤمنين: اجلس يا خالد فقد عرف الله لك مقامك و شكر لك سعيك، فجلس و قام إليه سلمان الفارسي فقال: الله أكبر الله أكبر سمعت رسول الله صلىالله عليه وآله بهاتين الأذنين و إلا صمتا يقول: " بينا أخي وابن عمي جالس في مسجدي مع نفر من أصحابه إذ تكبسه جماعة من كلاب أصحاب النار يريدون قتله و قتل من معه، فلست أشك إلا و أنكم هم"، فَهَمَّ به عمر بن الخطَّاب فوثب إليه أمير المؤمنين - عليه السلام - و أخذ بمجامع ثوبه ثم جلد به الأرض ثم قال: يابن صهاك الحبشية لولا كتابٌ من الله سبق و عهد من رسول الله تقدم لأريتك أيُّنا أضعف ناصرا و أقل عددا. ثم التفت إلى أصحابه فقال: انصرفوا رحمكم الله، فوالله لا دخلت المسجد إلا كما دخل أخواي موسى وهارون، إذ قال له أصحابه: " فاذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هيهنا قاعدون " والله لا دخلته إلا لزيارة رسول الله صلىالله عليه وآله أو لقضية أقضيها فإنه لا يجوز بحجة أقامها رسول الله صلىالله عليه وآله أن يترك الناس في حيرة ](1)
__________
(1) المصدر السابق: ج 1 / ص 200 ـ 201 (مت)(127/16)
... قلت: إن هذه القصة المختلقة أشبه ما تكون بحكايات القصاصين الخرافية في القهاوي الشعبية التي يثيرون بها السذَّج الرعاع تلقاء أجر من المال. و للأسف فإن كتاب الاحتجاج مليء بأمثال هذه القصص الخرافية، من جملتها تلك الرواية التي ذكرها عقب روايته السابقة، عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: [ ثم إن عمر احتزم بإزاره و جعل يطوف بالمدينة و ينادي: ألا إن أبا بكر قد بويع له فهلموا إلى البيعة، فينثال الناس يبايعون، فعرف أن جماعة في بيوتٍ مستترون (1)، فكان يقصدهم في جمع كثير و يكبسهم ويحضرهم المسجد فيبايعون حتى إذا مضت أيام أقبل في جمع كثير إلى منزل علي - عليه السلام - فطالبه بالخروج فأبى، فدعا عمر بحطب و نار و قال: و الذي نفس عمر بيده ليخرجن أو لأحرقنه على ما فيه. فقيل له: إن فاطمة بنت رسول الله و ولد رسول الله و آثار رسول الله صلىالله عليه وآله فيه، و أنكر الناس ذلك من قوله، فلما عرف إنكارهم قال: ما بالكم أتروني فعلت ذلك إنما أردت التهويل، فراسلهم علي أن ليس إلى خروجي حيلة لأني في جمع كتاب الله الذي قد نبذتموه و ألهتكم الدنيا عنه، وقد حلفت أن لا أخرج من بيتي و لا أدع ردائي على عاتقي حتى أجمع القرآن.
__________
(1) إذا كان هذا صحيحا فلماذا قال الغلاة ارتد الناس إلا ثلاثة أو سبعة! و الحال أن كل هؤلاء رفضوا البيعة واستتروا في بيوتهم و ما أتوها إلا مكرهين، كما تدعي هذه الرواية ؟؟!! حقا إن حبل الكذب قصير! (مت)(127/17)
... قال: و خرجت فاطمة بنت رسول الله صلىالله عليه وآله إليهم فوقفت خلف الباب ثم قالت: لا عهد لي بقوم أسوء محضرا منكم، تركتم رسول الله صلىالله عليه وآله جنازة بين أيدينا و قطعتم أمركم فيما بينكم و لم تؤمرونا ولم تروا لنا حقا، كأنكم لم تعلموا ما قال يوم غدير خم، والله لقد عقد له يومئذ الولاء ليقطع منكم بذلك الرجاء، و لكنكم قطعتم الأسباب بينكم وبين نبيكم، و الله حسيب بيننا و بينكم في الدنيا و الآخرة ] (1).
... قلت: إن الراوي عبد الله بن عبد الرحمن هذا، لا يُعْرَفُ من هو، و يظهر أنه نفس " عبد الله بن عبد الرحمن الأصم المسمعي البصري " الذي اعتبرته كتب الرجال ضعيفا و ليس بشيء، و ذكر عنه الغضائري " أنه وضع زيارات تدل على خبث عظيم و مذهب متهافت و كان من كذَّابة أهل البصرة " (2).
... أجل لا يروي مثل تلك الأكاذيب و ينسبها للآخرين إلا أمثال هؤلاء الغلاة الدواب الذين لا يعقلون!
__________
(1) المصدر السابق: ج 1 / ص 201 ـ 203 ، أو : صفحة 105 من الطبعة القديمة. (مت)
(2) انظر جامع الرواة، للفاضل الأردبيلي:ج 1/ص494.(بيروت: دار الأضواء، 1403 هـ / 1983) (مت)(127/18)
... ثم يذكر صاحب الاحتجاج رواية يرويها عن "سليم بن قيس الهلالي" عن سلمان الفارسي أنه قال: [ أتيت عليا - عليه السلام - و هو يغسّل رسول الله صلىالله عليه وآله، و قد كان أوصى أن لا يغسّله غير علي - عليه السلام -، و أُخْبِرَ أنه لا يريد أن يقلب منه عضوا إلا قُلِبَ له، و قد قال أمير المؤمنين - عليه السلام - لرسول الله صلىالله عليه وآله: من يعينني على غسلك يا رسول الله؟ قال جبرئيل. فلما غسّله و كفّنه أدخلني و أدخل أبا ذر و المقداد و فاطمة و حسنا و حسينا عليهم السلام فتقدم و صففنا خلفه فصلى عليه و عائشةُ في الحجرة لا تعلم قد أخذ جبرئيل ببصرها، ثم أدخل عشرة من المهاجرين و عشرة من الأنصار فيصلون و يخرجون، حتى لم يبق من المهاجرين و الأنصار إلا صلى عليه، و قلت لعلي - عليه السلام - حين غسّل رسول الله صلىالله عليه وآله: إن القوم فعلوا كذا وكذا و إن أبا بكر الساعة لعلَى منبر رسول الله صلىالله عليه وآله و ما يرضى الناس أن يبايعوا له بيد واحدة إنهم ليبايعون بيديه جميعا يمينا وشمالا. فقال علي - عليه السلام -: يا سلمان فهل تدري من أول من يبايعه على منبر رسول الله صلىالله عليه وآله ؟ فقلت: لا إلا أني قد رأيته في ظلة بني ساعدة حين خُصِمَتِ الأنصار، و كان أول من بايعه بشير بن سعد ثم أبو عبيدة بن الجراح ثم عمر بن الخطَّاب ثم سالم مولى أبي حذيفة و [ معاذ بن جبل ]. قال: لست أسألك عن هذا، و لكن تدري من أول من بايعه حين صعد منبر رسول الله صلىالله عليه وآله ؟ قلت: لا و لكني رأيت شيخا كبيرا متوكئا على عصاه بين عينيه سجادة، شديد التشمير و هو يبكي و يقول: الحمد لله الذي لم يمتني و لم يخرجني من الدنيا حتى رأيتك في هذا المكان ابسط يدك أبايعك، فبسط يده فبايعه ثم نزل فخرج من المسجد. فقال لي علي - عليه السلام -: يا سلمان و هل تدري من هو ؟ قلت: لا و لكني ساءتني مقالته كأنه شامت بموت رسول الله صلىالله(127/19)
عليه وآله. قال عليٌّ: إن ذلك إبليس لعنه الله! ] (1).
... و يتابع "سليم بن قيس" هذا الهراء و السخافات المضحكة، فيذكر كيف حمل عليٌّ فاطمة على حمار و أخذ ابنيه الحسن و الحسين يستنصر الناس على أبي بكر، فلم يستجب له في النهاية إلا أربعة هم سلمان و أبو ذر والمقداد و الزبير! ثم يحكي كيفية مطالبة أبي بكر و عمر علياً بالبيعة وإجباره بالعنف على ذلك، و تآمر مؤيدي أبي بكر على قتل عليٍّ و سبّ الزبير لعمر و قصة الستة أهل تابوت جهنم و أصحاب الصحيفة الملعونة!...إلخ.
... و إذا وصل الأمر لسليم بن قيس فلا بد من كلمة عنه، فقد أكثر صاحب " الاحتجاج " من نقل أمثال هذه الروايات ـ التي لا ريب أنها من وضع أعداء الإسلام ـ عنه، و لا نستغرب من سليم بن قيس أمثال هذه الأكاذيب، فعدد من العلماء يتفقون معنا في تكذيبه و الحكم بالوضع و الكذب على كتابه الذي يروج له الوعاظ الجهلة عندنا و يسمونه بـ " أبجد الشيعة " أو " أسرار آل محمد "! و يجعلون قراءته فرضا على كل شيعي! ـ فلنر موقف المحققين من رجاليينا منه و من كتابه:
قول محققي العلماء في سليم بن قيس الهلالي و كتابه
__________
(1) الاحتجاج: ج 1 / ص 205 من الطبعة المحققة، أو ج 1 / ص 105 من الطبعة القديمة (مت)(127/20)
... زبدة القول بشأن سليم بن قيس و كتابه ما قاله ابن الغضائري: [.. وكان أصحابنا يقولون أن سليما لا يُعْرَف و لا ذُكِرَ في حديثٍ، و قد وجدتُ ذكره في مواضع من غير جهة كتابه و لا من رواية أبان بن عياش عنه، و قد ذَكَرَ ابن عقدة في رجال أمير المؤمنين أحاديث عنه، و الكتاب موضوع لا مرية فيه، و على ذلك علامات منها ما ذكر أن محمد بن أبي بكر وعظ أباه عند الموت و منها أن الأئمة ثلاثة عشر و غير ذلك ](1)، وذلك لأن سن محمد بن أبي بكر عند وفاة أبيه، لم تكن تتجاوز السنتين و عدة أشهر، فكيف وعظ أباه وهو بهذه السن؟! (2) و أمثال تلك الأخطاء الفاضحة في هذا الكتاب كثيرة، منها أنه أورد في أحد أحاديثه التي رواها ـ بغرض إثبات إمامة الأئمة الاثني عشر ـ حديثا مطولا يروي فيه عن علي - عليه السلام - أن رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) قال له: ((لست أتخوف عليك النسيان و الجهل و لكن اكتُبُ لشركائك الذين من بعدك...)) فيسأله عليٌّ - عليه السلام - : و من شركائي يا رسول الله؟ فيعرِّفه الرسول على الأئمة من ولده.
__________
(1) انظر كتاب "جامع الرواة " للفاضل الأردبيلي:ج 1/ ص74 (بيروت:دار الأضواء، 1403هـ). (مت)
(2) محمد بن أبي بكر، هو ابن "أسماء بنت عميس" التي كانت من قبل تحت جعفر بن أبي طالب، و لما استشهد جعفر في غزوة مؤتة سنة ثماني للهجرة، تزوج أبو بكر من أسماء فولدت له محمد بن أبي بكر هذا، و توفي عنها أبو بكر في السنة الثالثة عشرة للهجرة ، أي كان عمر ابنه محمد سنتين و عدة أشهر فقط، من هنا استحالة أن يعظ أباه و هو في هذه السن!!! (x)(127/21)
... هذا الحديث، ـ حسبما جاء في كتاب "إثبات الهداة" للحر العاملي (ج2/ص 455) ـ رواه "الفضل بن شاذان" في كتابه "إثبات الرجعة" و نقله عنه الشيخ الصدوق فقال: ((عن سليم بن قيس أنه حدث الحسن و الحسين بهذا الحديث بعد موت معاوية، فقالا: صدقت يا سليم! حدثك أمير المؤمنين و نحن جلوس... )). هذا في حين أن الإمام الحسن المجتبى - عليه السلام - كان قد توفي قبل وفاة معاوية بعشر سنوات، إذ توفي الحسن سنة خمسين للهجرة و توفي معاوية سنة ستين باتفاق المؤرخين، فكيف تأتَّى لسليم أن يعرض هذا الحديث على الحسن وأخيه بعد وفاة معاوية؟!! فهذا كاف لبيان مدى الجهل الفاضح، لواضع هذا الحديث، بالتاريخ.
... من هنا فقد أورد العلامة الشوشتري في كتابه "قاموس الرجال" (ج4/ص44) نقولا عن عدد من العلماء في ذم هذا الكتاب و اعتباره موضوعا (مختلقا) من أساسه.
... و قال الشيخ المفيد في شرحه لعقائد الصدوق (الصفحة 72): [ إن هذا الكتاب غير موثوق به و قد حصل فيه تخليط و تدليس و لا يجوز العمل على أكثره فينبغي للمتديِّن أن يجتنب العمل بكل ما فيه ].
... و قال ابن أبي داود الحلي في رجاله: [ سليم بن قيس الهلالي ينسب إليه الكتاب المشهور و هو موضوع بدليل أنه قال إن محمد بن أبي بكر وعظ أباه عند موته و قال فيه إن الأئمة ثلاثة عشر مع زيد و أسانيده مختلفة. لم يرو عنه إلا ابن أبي عياش، و في الكتاب مناكير مشتهرة و ما أظنه إلا موضوعا] (1)
__________
(1) الرجال ، ابن أبي داود الحلي، المطبعة الحيدرية ، النجف، ص 249.
... هذا و قد قال زعيم الحوزة العلمية في النجف آية الله السيد أبو القاسم الخوئي عن الكتاب: [ والكتاب موضوع لا مرية فيه و على ذلك علامات فيه تدل على ما ذكرناه، منها أن محمد بن أبي بكر وعظ أباه عند الموت و منها أن الأئمة ثلاثة عشر و غير ذلك، قال المفيد: هذا الكتاب غير موثوق به و قد حصل فيه تخليط و تدليس] (معجم رجال الحديث ، السيد أبو القاسم الخوئي: قم، ج8/ ص 219) (x)(127/22)
.
... أما العلامة الحلي فقد حاول في كتابه " خلاصة الأقوال في معرفة الرجال" تعديل سليم بن قيس حيث قال: [ و الوجه عندي الحكم بتعديل المشار إليه والتوقف في المفاسد من كتابه ]، لكن "الشهيد الثاني" انتقد ذلك قائلا فيما علقه بخطه على الخلاصة: [ و أما حكمه بتعديله فلا يظهر له وجه أصلا، و لا وافقه عليه غيره ] كما قال بشأن كتابه: [ في الطريق ابراهيم بن عمر الصنعاني و أبان بن أبي عياش طعن فيهما ابن الغضائري و ضعَّفهما، و لا وجه للتوقُّف في الفاسد (من كتابه) بل في الكتاب (كله) لضعف سنده على ما رأيت، و على التنزّل كان ينبغي أن يُقال: و رد الفاسد منه و التوقف في غيره ] (1).
... و النتيجة أن الكتاب ساقط و موضوع من أصله، و علاوة على ذلك فقد صرح علماء الرجال بأن كتاب "سليم بن قيس" لم يُرْو إلا من طريق رجل واحد هو " أبان بن أبي عياش "، و هو مجروح مضعَّف في كتب الرجال:
ففي كتاب "مجمع الرجال" للقهبائي (ص 16) قال: [ غض: أبان بن أبي عياش ضعيف لا يُلْتَفَتُ إليه و ينسِب أصحابنا وضع كتاب سليم بن قيس إليه ].
و ضعَّفه ابن داود في كتابه "الرجال" (ص 414) بنفس تلك العبارات.
و أورده الشيخ طه نجف أيضا في (ص 254) من كتابه " إتقان الرجال " في عداد الضعفاء.
و قال التفرشي في "نقد الرجال" (ص 4) [ أبان بن عياش تابعي ضعيف لا يُلتفت إليه و نُسِبَ وضع كتاب سليم بن قيس إليه ].
__________
(1) أعيان الشيعة للعلامة السيد محسن الأمين العاملي: ج 7/ص 293 (بيروت:دار التعارف، 1403) (مت)(127/23)
... فإن قيل: إذا كان الكتاب ضعيفاَّ ومتهافتاً لهذه الدرجة (1) فما السر في توقف بعض أكابر العلماء فيه، كما فعل العلامة الحلي و غيره، فلم يردوه مطلقا ؟ فالجواب واضح: لو تخلوا عن كتاب سليم بن قيس و كتاب "الاحتجاج" للطبرسي و أمثالهما من الكتب ككتاب " إرشاد القلوب " للديلمي، و كتاب "غاية المرام" للبحراني، و المئات من أمثال هذه الكتب المليئة بالأكاذيب بحكم العقل و الوجدان و التي علامات الوضع فيها ظاهرة، لما بقي في أيديهم شيء يثبتون به النص الصريح أو بقية الأمور التي يدعونها. أجل هذه الكتب هي الحجج القاطعة (!) لهؤلاء المفرِّقين لأمة الإسلام.
__________
(1) لمزيد من الاطلاع على فساد هذا الكتاب انظر الطبعة الأولى من كتاب"معرفة الحديث" للشيخ "محمد باقر البهبودي"، طبع "مركز انتشارات علمي و فرهنكي" ( الصفحات: 256 إلى 260) (برقعي)(127/24)
... و ما دمنا قد ذكرنا كتاب "إرشاد القلوب" للديلمي، فلا بأس أن نشير إلى طرف مما رواه حول موضوع السقيفة و بيعة أبي بكر - رضي الله عنه -، لنرى إلى أي حد حُشِيَتْ به هذه القصة بالأكاذيب و الخرافات، في أمثال هذه الكتب، فقد روى الديلمي احتجاجا طويلا لعليٍّ على أبي بكر لتوليه الخلافة وصل لغاية أن قال علي لأبي بكر: [ الله و رسوله عليك من الشاهدين يا أبا بكر إن رأيت رسول الله صلى ا لله عليه وآله حيا يقول لك إنك ظالم في أخذ حقي الذي جعله الله ورسوله لي دونك و دون المسلمين أن تسلم هذا الأمر إلي وتخلع نفسك ؟ فقال أبو بكر: يا أبا الحسن! و هذا يكون أن أرى رسول الله حيا بعد موته فيقول لي ذلك ؟ فقال له أمير المؤمنين نعم يا أبا بكر، قال: فأرني إن كان ذلك حقا...قال: تسعى إلى مسجد قبا، فلما ورداه... فإذا هما برسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم ) جالس في قبلة المسجد، فلما رآه أبو بكر سقط لوجهه كالمغشي عليه فناداه رسول الله: ارفع رأسك أيها الضليل المفتون..... ويلك يا أبا بكر أنسيت ما عاهدت الله و رسوله عليه في المواطن الأربعة لعلي - عليه السلام -...قال: هل من توبة يا رسول الله ؟...إلخ ] (1). ثم يروي أن أبا بكر - رضي الله عنه - ندم على تولِّيه الخلافة و قرَّر أن يذهب لمسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) ليعلن انسحابه منها وتسليمها لعلي فلما علم عمر بذلك أخذ يثنيه عن ذلك فقال له أبو بكر: إنك شيطاني يا عمر.... ثم أقنعه عمر أن يذهب إلى بيته بحجة الوضوء فيشرب خمرا ـ و هم في شهر رمضان! ـ و يقول شعراً ينضح بالكفر(2)
__________
(1) إرشاد القلوب: ج 2 / ص 58 إلى 63.
(2) بالإضافة لمتن الرواية الذي يشهد لوحده بوضعها، فإن التاريخ أيضا يؤكد كذبها، لأن أقصى مدة امتناع علي عن بيعة أبي بكر ستةُ أشهر على قول من يقول أن فاطمة لحقت بأبيها (صلى الله عليه و آله و سلم ) بعد ستة أشهر من وفاته، أو خمسةٌ و سبعون يوما على قول أكثر روايات الشيعة التي ترى أنها لحقت به بعد 75 يوما من وفاته فقط، حيث أن الجميع متفق على أن عليا بايع أبا بكر عقب وفاة فاطمة عليها السلام فإذا كانت وفاته (صلى الله عليه و آله و سلم ) ـ حسب رواية الشيعة ـ في شهر صفر ـ فمعنى هذا أن عليا بايع أبا بكر قبل رمضان فكيف أمكن أن تقع هذه الحادثة في رمضان ؟ ألا لعنة الله على الكاذبين! (برقعي)(127/25)
.... بعدها يروي قصة محاربة أشجع بن مزاحم الثقفي ـ الذي كان من مؤيدي أبي بكر ـ لعلي بصورة لا يمكن حتى لمجنون أن يصدقها، إذ يروي أن أمير المؤمنين خرج من المدينة لحيازة ضيعة له فوقعت مواجهة بينه و بين أشجع تحولت لمعركة، و لما ظهرت علائم الهزيمة على أشجع، سارع أبو بكر بإمداد أشجع في حربه لعلي بفريق من المقاتلين، لكن هذا لم يحل دون انتصار علي على أشجع و أسره له ثم فعل علي كذا وكذا... وحقا إن الإنسان ليستحي من قراءة مثل هذه الأباطيل و الخزعبلات. أجل بمثل هذه الأساطير و الأوهام أرادوا أن يثبتوا النص على علي، فأوهنوا بالأحرى أسس دين الإسلام، و هم لا يشعرون!(127/26)
(خلاصة ما سبق
(تمحيص سند خطبة الغدير الطويلة
خلاصة ما سبق
1 ـ لو كانت مسألة الإمامة ـ التي اختلفت الأمة حولها كل هذا الاختلاف وألفت فيها مئات بل آلاف الكتب ـ هامة فعلا إلى هذا الحد في نظر الشارع، أعني لو كان الشارع تبارك و تعالى قد اختار لها أشخاصا معينين فرض طاعتهم المطلقة على العالمين، تماما كطاعة الأنبياء و المرسلين؛ لحكم العقل و الوجدان أن يبين الله عز وجلّ ذلك في تنزيله العزيز و ذكره الحميد بأوضح بيان و أن يحفظ هذه الآيات، بقدرته، من عبث العابثين، حتى لا تختلف الأمة و لا تضل.
2 ـ يحكم العقل أيضا أن تعيين أئمة و حكام معينين لأجل شريعة أبدية ستبقى حتى يرث الله الأرض و من عليها، أمر غير مناسب و لا معقول، بل يعد نقضا لأبدية هذا الدين؛ إذ كيف يعيَّن له عدد محدود من الأئمة هم اثنا عشر فقط، مع أنه دين خاتم باقٍ ما دامت السموات و الأرض؟
3 ـ تعيين أشخاص معينين لحكم المسلمين بأمر الله تعالى إلى يوم الدين يضيق دائرة تكليف المؤمنين و ميدان عملهم و تكاملهم، و يضعف حريتهم و اختيارهم ويذهب بالتالي بهدف النبوة الخاتمة كما سبق توضيحه، كما أنه يناقض أساس الشرائع الإلهية، و الهدف الذي لأجله خلق الله البرية و الذي يستلزم وجود الاختيار و الافتتان ليمتحن الله تعالى الناس و يرى أيهم أحسن عملا؟!
4 ـ تؤكد التواريخ المعتمدة أنه كان أحيانا لبعض الأئمة ـ من الأئمة الاثني عشر الذين ترى الإمامية عصمتهم المطلقة ـ وجهات نظر و مواقف و أعمال متخالفة، مثل مصالحة الإمام الحسن - عليه السلام - لمعاوية ومحاربة الإمام الحسين - عليه السلام - ليزيد، مما أوقع العلماء في تخبطات حين حاولوا التوفيق بين هذه المواقف المختلفة (1)
__________
(1) أشار المؤلف إلى اختلاف وجهات نظر الأئمة مع بعضهم فنذكر تأييدا لقوله بعضا من هذه الاختلافات:
1 ـ فمن ذلك ما رواه العلامة المجلسي في البحار فقال: (( عن حبيب بن أبي ثابت قال: كان بين علي و فاطمة كلام فدخل رسول الله (ص) ....... فأخذ رسول الله (ص) يد علي فوضعها على سرته و أخذ يد فاطمة فوضعها على سرته فلم يزل حتى أصلح بينهما، ثم خرج فقيل له يا رسول الله ! دخلت و أنت على حال وخرجت و نحن نرى البشرى في وجهك! قال: و ما يمنعني و قد أصلحت بين اثنين أحب من على وجه الأرض إلي)). [ بحار الأنوار، الطبعة الجديدة، تحقيق و تعليق محمد باقر البهبودي، ج3 / ص 146].
2 ـ و من ذلك ما ذكره العلماء المؤرخون من اختلاف في الرأي بين الإمام الحسن و أبيه الإمام علي عليهما السلام، من ذلك ما نقله الدينوري في الأخبار الطوال فقال: ((... فدنا منه الحسن فقال: يا أبتِ أشرت عليك حين قتل عثمان و راح الناس إليك و غدوا و سألوك أن تقوم بهذا الأمر ألا تقبله حتى تأتيك طاعة جميع الناس في الآفاق، و أشرت عليك حين بلغك خروج الزبير و طلحة بعائشة إلى البصرة أن ترجع إلى المدينة فتقيم في بيتك و أشرت عليك حين حوصر عثمان أن تخرج من المدينة، فإن قتل، قتل وأنت غائب، فلم تقبل رأيي في شيء من ذلك. فقال له علي: أما انتظاري طاعة جميع الناس من جميع الآفاق، فإن البيعة لا تكون إلا لمن حضر الحرمين من المهاجرين و الأنصار فإذا رضوا و سلموا وجب على جميع الناس الرضا و التسليم و أما رجوعي إلى بيتي و الجلوس فيه، فإن رجوعي لو رجعت كان غدرا بالأمة، و أما خروجي حين حوصر عثمان فكيف أمكنني ذلك؟ و قد كان الناس أحاطوا بي كما أحاطوا بعثمان، فاكفف يا بني عما أنا أعلم به منك)) [الأخبار الطوال، أبو حنيفة الدينوري، تحقيق عبد المنعم عامر و جمال الدين الشيال، ص 145 ] هذا و قد نقل العلامة المجلسي في بحار الأنوار عن الشيخ المفيد نظير هذا الاعتراض من الإمام الحسن على أبيه فقال فيه: ((فلما فرغ (أمير المؤمنين) من صلاته قام إليه ابنه الحسن بن علي ـ عليهما السلام ـ و جلس بين يديه ثم بكى و قال: يا أمير المؤمنين إني لا أستطيع أن أكلمك و بكى، فقال له أمير المؤمنين : لا تبك يا بني و تكلم و لا تحنَّ حنين الجارية، فقال: يا أمير المؤمنين: إن القوم حصروا عثمان يطلبونه بما يطلبونه إما ظالمون أو مظلومون، فسألتك أن تعتزل الناس و تلحق بمكة حتى تؤوب العرب و تعود إليها أحلامها و تأتيك وفودها ... ثم خالفك طلحة و الزبير فسألتك أن لا تتبعها و تدعها فإن اجتمعت الأمة فذاك و إن اختلفت رضيتَ بما قسم الله و أنا اليوم أسألك ألا تقدم العراق و أذكرك بالله أن لا تُقتَل بمضيعة، فقال أمير المؤمنين: أما قولك إن عثمان حصر فما ذاك و ما عليَّ منه فقد كنت بمعزل عن حصره، و أما قولك ايت مكة فوالله ما كنت لأكون رجل الذي يستحل بمكة، و أما قولك اعتزل العراق و دع طلحة و الزبير فو الله ما كنت لأكون كالضبع تنتظر حتى يدخل عليها طالبها فيضع الحبل في رجلها...)) [ بحار الأنوار: الطبعة الجديدة ، ج 32 / ص 103 ـ 104 وذكر محقق البحار في نفس حاشية الصفحة أن الحديث ورد في أمالي الشيخ الطوسي الطبعة الأولى ، الجزء الثاني/ ص 32، و في كتاب نهج السعادة كذلك].
3 ـ ذكر عدد من المؤرخين اختلاف الإمام الحسين عليه السلام مع أخيه الإمام الحسن عليه السلام بشأن صلحه مع معاوية و فيه يقسم الحسين عليه بالله ألا يقبل بهذا الصلح، و لكن، كما نعلم، لم يصغ الحسن لالتماس أخيه و أمضى الصلح مع معاوية. [ انظر تاريخ الأمم و الملوك للطبري، و تاريخ دمشق لابن عساكر، تحقيق علي شيري، دار الفكر، ج 13/ ص 267، و تاريخ ابن خلدون، طبع مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ج 2 / ص 186 . هذا و من الجدير بالذكر أن تضعيف بعض المحدثين لسند هذا الحديث ليس في موضعه، فصحيح أن "عثمان بن عبد الرحمن" لم يكن شيعيا إلا أنه ـ كما يقرر الشهيد الثاني في " دراية الحديث" ـ المهم هو صدق الراوي و لو كان مخالفا في المذهب، فيؤخذ برواية الصدوق و لو لم يكن شيعيا و تسمى روايته بالموثقة. و قد ذكر الرجالي "ابن معين" في ترجمة "عثمان بن عبد الرحمن" هذا أنه ((صدوق))، و إذا كان البخاري قد قال عنه في رجاله أنه ((يروي عن أقوام ضعاف)) فإن ابن أبي حاتم نقل عن أبيه قوله ((أنكر أبي على البخاري إدخال عثمان في كتاب الضعفاء و قال هو صدوق)). طبعا البخاري لم يجرح عثمان نفسه بل بين أنه يروي عن أقوام ضعاف، فإذا ثبت أن روايته هنا لم تكن عن ضعيف فليس للبخاري إذا من اعتراض عليها. ].
4 ـ و من الاختلافات الأخرى ما نجده في الكتب الفقهية من روايات و نقول مختلفة و متعارضة عن الأئمة عليهم السلام مع عدم إمكان حمل أحد الخبرين على التقية لعدم وجود مورد للخوف و التقية من المخالفين في أي من الروايتين، من ذلك مثلا هذان الخبران المتناقضان عن الإمام الصادق و الإمام الكاظم عليهما السلام، الأول: ((محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حفص بن البختري عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام في زيارة القبور، قال: إنهم يأنسون بكم فإذا غبتم عنهم استوحشوا))، أما الخبر الثاني: ((محمد بن علي بن الحسين (ابن بابويه) بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر بلغني أن المؤمن إذا أتاه الزائر أنس به فإذا انصرف عنه استوحش، فقال: لا يستوحش)) [ وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج2 / ص 878 ]. و يوجد أمثل أخرى لذلك الاختلاف و طبعا لا يمكن أن يكون كلا القولين المتخالفين صحيح. (x)(128/1)
و تمسك بعضهم بروايات واهية تقول بأنه كان لكل إمام صحيفة خاصة من الله تعالى يعمل بها!! و معنى ذلك أنه كانت لكل منهم واجبات وكتاب و سنة خاصة بهم غير القرآن الكريم والسنة النبوية التي يعرفها سائر المسلمون!! و هذا ، لعمري، أصل خطير جدا يؤدي القول به إلى لزوم قبول كل ما ينسب لإمام من الأئمة من أعمال و أقوال و لو كانت مخالفة لظواهر القرآن الكريم، و الأمر بطاعته، و هذا بمثابة منشار يجتث تعاليم القرآن من أساسها!! هذا في حين أن الأئمة "عليهم السلام" أنفسهم جعلوا القرآن الكريم المعيار و المرجع الذي يوزن به كل ما ينسب إليهم و ينقل عنهم من أخبار فما وافق القرآن الكريم كان عنهم وما خالفه فليس عنهم بل مردود و زخرف من القول و يضرب به عرض الحائط.
5 ـ لو كانت مسألة النص على الإمام على ذلك المقدار من الخطورة و الأهمية لبلغها الرسول صلى الله عليه وآله بشكل واضح وصريح و لنادى بها في الملأ العام ولأعلن بها كل صباح و مساء، و لما اقتصر على حديث الغدير الذي لم يستطع حتى أقرباء و أنصار علي - عليه السلام - أن يدركوا منه معنى التعيين لمنصب الخلافة والإمامة، كما مر معنا من مقالة أبي الهيثم بن التيهان لدى ذكر احتجاج الاثني عشر شخصا على أبي بكر، على الرغم من أن الحديث،في الغالب، موضوع من أساسه، لكنه على أي حال إقرار من واضعه بغموض دلالة الحديث على النصب للإمامة.(128/2)
... و كذلك لا يمكن اعتبار أحاديث مثل حديث "الطير المشوي" و حديث "المؤاخاة" و حديث "إعطاء الراية" و أمثالها من الأحاديث الواردة في كتب الفريقين في مناقب و فضائل علي - عليه السلام - دليلا على النص عليه و تعيينه إماما مفترض الطاعة من قِبَلِ الله تعالى على المؤمنين طاعة مطلقة كطاعة الرسول صلى الله عليه وآله ؛ نعم هي أحاديث صحيحة في فضل علي - عليه السلام - و عظيم مقامه، لكنها ليست مستندا للقول بإمامته المنصوص عليها من الله بل أكثر ما تفيده أولويته وأفضليته لمنصب الإمامة فحسب.(128/3)
6 ـ كان حديث الغدير ـ الذي هو أهم ما يستند إليه القوم في إثبات النص على علي بالإمامة ـ بعيدا جدا في نظر الصحابة عن إفادة هذا المعنى لدرجة أن أحدا منهم لم يستند إليه للاستدلال على النص على الإمام و لم يستفد منه موضوع الإمارة والخلافة! هذا في حين أن الأنصار لما ذُكِّروا بحديث "الأئمة من قريش"، الذي ربما لم يسمعه من النبي (صلىالله عليه وآله وسلم) إلا القليل، تقاعدوا عن الإصرار على تولي منصب الإمامة و اقتنعوا بحجة المهاجرين عملا بقول نبيهم الكريم ، فكيف كان من الممكن أن يعرضوا عن نص صريح دال على إمامة علي - عليه السلام - ؟؟! هذا مع التذكير بما قلناه مرارا أن عليا - عليه السلام - كان دائما محبا و حاميا للأنصار (أي لم يكن عندهم أي داع لرفض إمامته عليهم). أجل لم يكن لحديث الغدير من الأهمية، حتى في أنظار شيعة علي و أنصاره، ما كان لحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمّار بن ياسر - رضي الله عنه -: [ تقتلك الفئة الباغية ](1) والذي ربما لم يقله أكثر من مرة واحدة، لكنه كان في نظر الصحابة على درجة من الأهمية بحيث أنه لما قتل عمّار في وقعة صفين على أيدي جيش معاوية، وقعت ضجة و اضطراب وصخب في صفوف الطرفين، حتى كاد جيش معاوية ينقلب ضده أو على الأقل يتخلى عنه وعن القتال معه، هذا من جهة جيش معاوية، و من الجهة الأخرى أقدم عدد من المتردِّدين من أصحاب علي ـ بعد استشهاد عمار ـ على الحرب معه ضد معاوية و جنده بكل ميل و رغبة، حتى أن خزيمة بن ثابت - رضي الله عنه -، الذي جعله صاحب كتاب الاحتجاج أحد المحتجين الاثني عشر على أبي بكر، لم يكن مستعدا في البداية أن يشهر سيفه و يقاتل إلى جانب علي في صفين بيقين
__________
(1) حديث متواتر روي عن نيف و عشرين صحابيا،رواه البخاري في صحيحه و غيره و قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي: [ قال ابن عبد البر: تواترت بذلك الأخبار و هو من أصح الحديث ] (مت).(128/4)
و اطمئنان! ـ كما يروي ذلك البلاذري صاحب أحد أقدم الكتب التاريخية أي كتاب "أنساب الأشراف" ـ لكنه لما علم باستشهاد عمار و قتله على يد فئة معاوية أيقن أن معاوية و جماعته هم البغاة بنص الحديث فأقدم بكل حماس وإيمان على القتال إلى جانب علي حتى نال شربة الشهادة رضي الله عنه (1) . إذاً في نظر خزيمة كان حديث " عمار مع الحق، تقتله الفئة الباغية " أهم من حديث: "عليّ مع الحق" فضلا عن حديث: "من كنت مولاه فعليٌّ مولاه..الخ"، و كذلك أبو الهيثم بن التيهان - رضي الله عنه -، الذي يذكر صاحب كتاب الاحتجاج عنه أيضا أنه كان من المحتجين الاثني عشر على أبي بكر - رضي الله عنه -، لم يكن مستعدا للقتال في صف علي - عليه السلام - في بداية صفين إلى أن استشهد عمار، عندها أقدم على القتال إلى جانب علي حتى نال الشهادة ، كما نقل عنه هذا الأمر "البلاذري" أيضا في كتابه المذكور (ج2/ص 319).
... إذاً لو كان حديث الغدير "من كنت مولاه فهذا علي مولاه.." يدل على الإمارة و الخلافة المنصوص عليها من الله تعالى لعليّ لما أعرض عنها أولئك الأصحاب أبدا، و لذكرها و استند إليها الأنصار على الأقل.
... أما خطبة الغدير الطويلة جدا التي يُذكَر فيها النص على علي بكل صراحة و وضوح و التي توردها كتب الشيعة منسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، كتلك التي يرويها الطبرسي في كتابه " الاحتجاج "، فهي خطبة موضوعة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وآله و فيما يلي بيان ذلك:
تمحيص سند خطبة الغدير الطويلة
__________
(1) هل يمكن للعقل و الوجدان السليمين أن يقبلا بأن يكون مثل هؤلاء الصحابة الذين كانوا مؤمنين مطيعين لتعاليم نبيهم (ص) و مستسلمين لأوامره إلى هذه الدرجة، أن يكونوا قد سمعوا نصا منه (صلىالله عليه وآله وسلم) في تنصيب علي عليهم إماما و خليفة و مع ذلك يكتموا هذا النص و لا يولوه أي عناية؟؟!! (x)(128/5)
... يروي الطبرسي في كتابه "الاحتجاج" بقوله: حدثني.. و يذكر سلسلة مشايخ إجازته إلى قوله:[ قال: حدثنا محمد بن موسى الهمداني قال حدثنا محمد بن خالد الطيالسي قال حدثني سيف بن عميره و صالح بن عقبة جميعا عن قيس بن سمعان عن علقمة بن محمد الحضرمي عن أبي جعفر محمد بن علي - عليه السلام - ...... و يسوق الحديث الطويل (الذي يقع في 29 صفحة مع الحواشي!) عن جابر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ] (1).
... فلنبدأ ببيان الحال التعيسة لمحمد بن موسى الهمداني:
قال التفرشي في "نقد الرجال" (ص336) : [ محمد بن موسى الهمداني ضعَّفه القميُّون بالغلو و كان ابن الوليد يقول إنه كان يضع الحديث. (غض) ضعيف يروي عن الضعفاء].
في "تنقيح المقال" للممقاني (ج3/ ص 194) ، ضمن بيانه لحال الرجل قال عنه أنه وضع كتابا باسم زيد النرسي وضع فيه أحاديث كثيرة!.
في قاموس الرجال للعلامة التستري (ج 8/ ص 409)، بعد أن بين حاله خلص إلى القول: [ فضعفه اتفاقي، قال به ابن الوليد و ابن بابويه و ابن نوح و فهرست الطوسي و النجاشي و ابن الغضائري ] .
و أورده ابن داود الحلي في (ص 512 من) "رجاله" في القسم الثاني المخصص للمجروحين و المجهولين و ذمه بوضع الحديث و الغلو.
و قال النجاشي في (ص 60 من كتابه) "الرجال": [ محمد بن موسى الهمداني ضعَّفه القميُّون بالغلو و كان ابن الوليد يقول إنه كان يضع الحديث.].
أورده الشيخ طه نجف أيضا في "إتقان المقال" (ص 260) ضمن قسم الضعفاء و الغلاة، و اعتبره الميرزا الاسترآبادي في "منهج المقال" (ص 327) غاليا وضاعا للحديث، و قال أن الشيخ الصدوق ضعفه. كما اعتبره الأردبيلي في "جامع الرواة" (ج2/ ص 205) من الضعفاء.
... أما عن سيف بن عميره:
__________
(1) الاحتجاج: ج 1 / ص 133 - 162.(128/6)
فقد نقل الممقاني في تنقيح المقال (ج 2 / ص 79) عن الشهيد الثاني تضعيفه. وقال عنه أيضا: [ و من موضع من كشف الرموز أنه مظنون وعن موضع آخر أنه مطعون فيه و ملعون ]
و أورده الشيخ طه نجف في "اتقان المقال" (ص 299) مع الضعفاء.
... و أما صالح بن عقبة:
فأورده العلامة الحلي في خلاصته (ص 230) في القسم الثاني الخاص بالضعفاء و قال: [ صالح بن عقبة بن قيس بن سمعان، روى عن أبي عبد الله كذَّاب غال لا يُلْتَفَتُ إليه ].
و أورده ابن داود في الرجال (ص 462) في قسم المجروحين والمجهولين و قال عنه: [ ليس حديثه بشيء، كذاب غال كثير المناكير ]. و هكذا وصفوه في سائر كتب الرجال بأنه [ غال كذاب لا يُلتَفَت إليه..].
... إذن لا ريب في أن خطبة الغدير الطويلة المفصلة هذه كذب على الله ورسوله، و من اختلاق أمثال أولئك الكذبة الغلاة الوضَّاعين. هذا من ناحية السند أما من ناحية المتن فهناك قرائن قاطعة أخرى على وضعها نوجزها فيما يلي:(128/7)
كما قلنا إذا كان حديث [ عمار تقتله الفئة الباغية ] قد هز بشدة حتى أصحاب معاوية حتى كاد جيشه يتصدع، و حتى خشي معاوية أن ينقض عليه بعض جنده، فاستطاع بمكره و حيلته أن يقلب الحقائق و يزعم لهم أن عليا هو الذي قتل عمارا لأنه أخرجه معه إلى المعركة رغم كبر سنه الذي كان يتجاوز التسعين!! و استطاع بهذه الحيلة أن يخمد الشغب، فإنه من المحال أن يكون هناك نص صريح و واضح ـ مثل هذه الخطبة ـ على علي بالإمامة و ولاية الأمر ثم يهمله مثل أولئك الصحابة و لا يعتنوا به أدنى اعتناء لا لشيء إلا لأجل أبي بكر الذي لم يكن يملك عدة و لا عددا لتحقيق مقصده بالقوة، بل كان عليٌّ أكثر منه عشيرة و لم يكن أدنى منه مالا و قوة، فيعدلوا عنادا عمن نصبه لهم ربهم تبارك و تعالى و يعهدوا بمنصبه لآخر، قسما بالله إنها لتهمة كبيرة وجناية عظيمة و إثم لا يغتفر أن يُنسَب مثل هذا الأمر لأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله).(128/8)
لم يحصل أن استنبط و استنتج أي شخص من حديث الغدير و سائر الأحاديث ـ التي تستدل بها الإمامية ـ خلال كل النصف الأول من القرن الهجري الأول على الأقل، النصَّ النبويَّ على علي إماما و حاكما بأمر الله، و لا يمكنك أن تجد أي حديث صحيح يبين استناد نفس أمير المؤمنين - عليه السلام - إلى قضية النص ولا استناد أي من أولاده خلال النصف الأول من القرن الأول، بل كان علي يرى، استنادا إلى مناقبه و علمه وعظيم بلائه في الإسلام وشدة قربه و التصاقه بالرسول (صلى الله عليه وآله) الذي لا يدانيه فيه أحد،و هذه أهم نقطة في الأمر،أنه أولى و أحق الناس بمقام خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإمامة المسلمين، و تلك بالضبط كانت عقيدة أنصاره و محبيه الميَّالين إليه من الصحابة، وعليه، فلو كان هناك نص صريح في نصب الله تعالى لعلي إماما لاستند إليه قطعا أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و شيعة علي ومحبيه، و على الأقل لاستند إليه علي نفسه، في حين أن شيئا من هذا لم يحصل، و لا يوجد مثل هذا الادعاء أو المطالبة في تمام ما نقل إلينا من احتجاجات لعلي و أنصاره بعد بيعة أبي بكر. نعم، لما أدت الصراعات السياسية فيما بعد إلى نشوء فرق عديدة كالكيسانية و المرجئة و الخطابية والراوندية ...إلخ بدأنا نجد أمثال هذه الروايات الصريحة ـ التي أكثرها مكذوب و موضوع ـ في النص على عليّ و الاستناد إليها لإثبات إمامته المنصوص عليها من قبل الله عز وجل.(128/9)
إن المطالعة الدقيقة و الخالية من التعصب للتواريخ الإسلامية تبين أنه في ذلك الزمن، كان أهم ما يستند إليه الذين يرون أنفسهم أحق و أليق وأولى بالخلافة، موضوع النسب و القبيلة أو مقدار الصلة و القرب العائلي أو القبلي من شخص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لذا نجد أبا بكر - رضي الله عنه - يستند، للرد على منافسه سعد بن عبادة، إلى الحديث المعروف "الأئمة من قريش"، و هو غير صحيح بنظري لأن فيه تأييدا للعصبية القبلية و القومية، و لذا فإن عمر - رضي الله عنه - و هو الصديق الوفي لأبي بكر، كذب صحة هذا الحديث (أو دلالته على أحقية قريش بالإمامة) عندما قال عند وفاته أنه لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لما عدل عنه، مع أن سالما هذا ليس بقرشي. و نفس الأمر سار عليه الخلفاء الأمويون والعباسيون الذين حكموا المسلمين سنوات طويلة في ادعائهم أحقيتهم بالخلافة. و الأعجب من ذلك أن الأحاديث الشيعية أيضا كانت تنظر للخلافة و من أحق بها، من زاوية القرابة أو الانتماء العائلي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله! فمن ذلك ما ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين - عليه السلام - أنه لما سمع احتجاج أبي بكر - رضي الله عنه - على الأنصار بحديث " الأئمة من قريش " قال: [ احتجوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة!] ، و كذلك ما ورد في النهج أيضا و غيره من كتب السيرة و التاريخ أن عليا قال معلقا على احتجاج أبي بكر - رضي الله عنه - على الأنصار:
... فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم
... ... ... ... فكيف بهذا و المُشيرون غُيَّبُ؟
... وإن كنت بالقربى حججت خصمهم
... ... ... ... فغيرك بالنبي أولى و أقربُ(128/10)
... و ورد في كتاب إثبات الوصية للمؤرخ المسعودي، كما ذكره المجلسي في بحار الأنوار ( ج 8 / ص 58 )، ما يلي: [ و اتصل الخبر بأمير المؤمنين بعد فراغه من غسل رسول الله و تحنيطه و تكفينه و تجهيزه ودفنه بعد الصلوة عليه مع من حضر من بني هاشم و قوم من صحابته مثل سلمان وأبي ذر و المقداد وعمار و حذيفة و أبي بن كعب و جماعة نحو أربعين رجلا، فقام خطيبا: فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: إن كانت الإمامة في قريش فأنا أحق قريش بها و إن لا تكن في قريش فالأنصار على دعواهم! ثم اعتزل الناس و دخل بيته.] و بناء عليه فإما أن تكون القرابة هي المعيار فعليٌّ أقرب القوم إلى النبي. و إما ألا تكون، فإذن ادعاء الأنصار، في منطق أمير المؤمنين - عليه السلام -، ادعاء في محله لأن الوطن وطنهم و دين الإسلام إنما قوي و ارتفعت رايته بدارهم و بفضل إيوائهم و نصرتهم له بالأنفس و الأموال.
... و هذه الحجة أيضا نشاهدها في منطق شيعة أمير المؤمنين - عليه السلام - ـ حسبما تنقله كتب الشيعة ـ كما مر معنا في احتجاج عمار على أبي بكر حيث قال: [ إن أهل بيت نبيكم أولى به و أحق بإرثه... و قد علمتم أن بني هاشم أحق بهذا الأمر فيكم! ].(128/11)
... هذا و لكن لما كانت مسألة التعصب العشائري و القبائلي و القومية والعرقية من آثار الجاهلية التي أبطلها الإسلام كما سيأتي شرحه إن شاء الله، لذا لا مجال في الإسلام للحكم الوراثي و العائلي، فكل ادعاء من هذا النوع ادعاء في غير محله ولا يؤيده العقل و لا النقل بل هو مخالف بكل صراحة لتعاليم الإسلام. (1)
__________
(1) لو تأملنا كلام هذا الإمام الهمام بعمق ـ بعيدا عن أي تعصب طائفي ـ لأدركنا أنه عليه السلام لم يرد من كلامه تقرير مبدأ كون القرابة و الوراثة هي الأصل في موضوع تعيين الحاكم و الخليفة، بقدر ما أراد ـ كما سبق و أوضحناه ـ أن يرد على حجة المهاجرين و يبين أن طريقتهم العجولة في نصب الإمام ـ قبل اكتمال مجلس أهل الحل و العقد ـ لم تكن بالطريقة الصحيحة و السليمة، فكأنه أراد أن يقول إذا كانت مجرد القرشية والقرابة من الرسول هي المعيار في تعيين الإمام فلقد كنت أولى الناس بذلك لأنني علاوة على كوني من قريش و من بني هاشم: أسرة النبي وأشرف بطون قريش و أكرم من بني تيم بن مرة، فإن لي إلى رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) قرابة نسبية و سببية و كنت أقرب الناس إليه: ربيت في حجره منذ نعومة أظفاري و تعلمت و تربيت على يديه منذ صغري، فإذا كان الهدف من الشجرة هو ثمرتها فكيف احتج المهاجرون بأنهم شجرة النبي و اضاعوا ثمرة هذه الشجرة ؟! و أما حديث "الأئمة من قريش" فمعناه أن الإمام سيكون من قريش و ليس معناه أن القرشيين فقط لهم الحق في تعيين الخليفة دون سائر أهل الحل و العقد من المسلمين لا سيما الأنصار ، كما أنني أنا من قريش أيضا فلماذا لم أُستَشَر في الأمر و تم دوني ؟!
... فهدف الإمام من اعتراضه ذاك هو ـ في الحقيقة ـ بيان أن تعيين الخليفة ينبغي ألا يتم إلا بتشاور ورضا جميع أهل الحل و العقد من كبار و وجهاء المسلمين لا أن يفتأت البعض بالأمر بسرعة دون مشورة وحضور البقية. (x)(128/12)
ادعاء النص لم يرد في كلمات أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ذريته
... لم يأت أبدا في أقوال أولئك الذين عرفوا بالتقوى و العلم و الفضل من بين أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبناء أعمامه و أحفاده وذريته، مثل هذا الادعاء بأن عليا - عليه السلام - قد نُصِبَ إماما على الأمة من قِبَلِ الله تعالى ورسوله، فقد مر معنا قول الحسن المثنى بن الحسن المجتبى - عليه السلام -: [ لو كان النبي أراد خلافته لقال: أيها الناس هذا ولي أمري والقائم عليكم بعدي فاسمعوا له وأطيعوا، ( ثم أضاف): أقسم بالله سبحانه أن الله تعالى لو آثر عليا لأجل هذا الأمر و لم يُقْدِم عليٌّ كرَّم الله وجهه لكان أعظم الناس خطأ ].
... و مر أيضا قول أمير المؤمنين نفسه، حسبما أورده المسعودي في كتابه "إثبات الوصية"، أنه - عليه السلام -، لما سمع أن الناس بايعوا أبا بكر - رضي الله عنه - قال: [ إن تكن الإمامة في قريش فأنا أحق قريش و إن لم تكن في قريش فالأنصار على دعواهم]، و اعتزل الناس دون أن يذكر أي بيان أو احتجاج آخر! فهل وظيفة المنصوص عليه من قبل الله تعالى و رسوله هي أن يذهب و يعتزل في بيته دون أن يقوم بأي دعوة أو مطالبة؟! و كما ذكرنا في رواية قيس بن عباد أن حضرة علي قال: [ والذي فلق الحبة و برأ النسمة لو عهد إلي رسول الله عهدا لجاهدت عليه و لم أترك ابن أبي قحافة يرقى رجة واحدة من منبره! ].(129/1)
... و أورد الكشي في رجاله ( ص 164 من طبعة النجف) قصة نقاشٍ وقع بين مؤمن الطاق و زيد بن علي يدل على أنه لم يكن في أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علم بشيء اسمه الإمامة المنصوص عليها من الله، قال: [ إن مؤمن الطاق قيل له: ما جرى بينك و بين زيد بن علي في محضر أبي عبد الله ؟ قال: قال زيد بن علي: يا محمد بن علي! بلغني أنك تزعم أن في آل محمد إماما مفترض الطاعة! قال: قلت نعم، و كان أبوك علي بن الحسين أحدهم. قال (أي زيد): و كيف و قد كان يؤتى بلقمة و هي حارة فيبرِّدها بيده ثم يلقمنيها، أفترى يشفق علي من حر اللقمة و لا يشفق علي من حر النار ؟؟ ](1) ، أي أن زيدا - رضي الله عنه - يؤكد أن والده لم يخبره بموضوع وجود إمام مفترض الطاعة من الله! مما يفيد أن زيدا كان يرى في علي إماما في الحلال و الحرام فحسب، أي أنه إذا قضى بشيء من أحكام الشرع كان ذلك حجة يجب على المؤمنين العمل بها باعتباره كان أعلم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأحكام الحلال و الحرام.
__________
(1) رجال الكشي، ص 164 (طبعة النجف). أو اختيار معرفة الرجال ، طبعة مشهد: ص 187 ، الحديث 329 .(129/2)
... و هذا المعنى جاء أيضا في رواية طويلة أوردها فرات بن ابراهيم الكوفي في تفسيره (ص 181 طبع النجف) فيما يلي نصها: [ قال: حدثنا أحمد بن القاسم معنعنا: عن أبي خالد الواسطي قال: قال أبو هاشم الرماني ـ و هو قاسم بن كثير! (1) ـ لزيد بن علي: يا أبا الحسين بأبي أنت و أمي هل كان علي صلوات الله عليه مفترض الطاعة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: فضرب رأسه ورقَّ لذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ثم رفع رأسه فقال: يا أبا هاشم كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نبيا مرسلا فلم يكن أحد من الخلائق بمنزلته في شيء من الأشياء إلا أنه كان من الله للنبي قال: { ما أتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا } و قال: { من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء / 80)، وكان في علي أشياء من رسول الله صلى الله عليه وآله و p;سلم كان علي صلوات الله عليه من بعده إمام المسلمين في حلالهم وحرامهم و في السنة عن نبي الله و في كتاب الله، فما جاء به عليٌّ من الحلال والحرام أو من سنة أو من كتاب فرد الراد على علي و زعم أنه ليس من الله ولا رسوله كان الراد على عليٍّ كافرا، فلم يزل كذلك حتى قبضه الله على ذلك شهيدا، ثم كان الحسن و الحسين فوالله ما ادعيا منزلة رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و لا كان القول من رسول الله فيهما ما قال في علي غير أنه قال: " سيدي شباب أهل الجنة " فهما كما سمى رسول الله كانا إمامي المسلمين أيهما أخذت منه حلالك و حرامك و بيعتك فلم يزالا كذلك حتى قُبِضا شهيدين، ثم كنا ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم من بعدهما ولدهما ولد الحسن والحسين، فوالله ما ادعى أحد منا
__________
(1) أبو هاشم الرماني الواسطي اسمه يحيى توفي سنة 122 و قيل 145، و أما قاسم بن كثير فكنيته أبو هاشم ونسبته الخارفي الهمداني بياع السابري روى عنه سفيان الثوري، لهما ترجمة في التهذيب و هما ثقتان (مت )(129/3)
منزلتهما من رسول الله و لا كان القول من رسول الله فينا ما قال في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن و الحسين عليهم السلام، غير أنا ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يحق مودتنا وموالاتنا و نصرتنا على كل مسلم، غير أنا أئمتكم في حلالكم و حرامكم يحق علينا أن نجتهد لكم و يحق عليكم أن لا تدعوا أمرنا من دوننا، فوالله ما ادعاها أحد منا لا من ولد الحسن و لا من ولد الحسين أن فينا إمام مفترض الطاعة علينا و على جميع المسلمين. فوالله ما ادعاها أبي علي بن الحسين في طول ما صحبته حتى قبضه الله إليه و ما ادعاها محمد بن علي فيما صحبته من الدنيا حتى قبضه الله إليه فما ادعاها ابن أخي من بعده لا والله ولكنكم قوم تكذبون.
... فالإمام يا أبا هاشم منا المفترض الطاعة علينا و على جميع المسلمين: الخارج بسيفه، الداعي إلى كتاب الله و سنة نبيه، الظاهر على ذلك، الجارية أحكامه، فأما أن يكون إمام مفترض الطاعة علينا و على جميع المسلمين متكئ فراشه مرجئ على حجته مغلق عنه أبوابه يجري عليه أحكام الظلمة فإنا لا نعرف هذا يا أبا هاشم.] (1) .
__________
(1) تفسير فرات بن ابراهيم الكوفي ( و هو من أعلام الغيبة الصغرى و معاصر للمحدث الكليني و الحافظ ابن عقدة، قيل أنه كان زيديا ) ص 474 ـ 475 (من الطبعة التي حققها محمد كاظم، طبع طهران،1410 هـ / 1990 ). (مت)(129/4)
... هذا هو الكلام المتين و البرهان المبين الذي تفضل به جناب زيد بن علي بن الحسين - عليه السلام - الذي يرى أن عليا إنما هو إمام المسلمين في بيان أحكام الإسلام من الحلال و الحرام، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علمه ذلك كله (بالإضافة لما اختصه الله تعالى به من فهم متميز خاص للقرآن و فقهه) فما بينه من أحكام الشريعة وجب على المسلمين الأخذ به، و نجد هذا واضحا في تاريخ الخلفاء الراشدين سيما أبي بكر - رضي الله عنه - و عمر - رضي الله عنه - اللذان كانا يرجعان إليه ويستفسران رأيه في كل مسألة عويصة تعرض عليهما فلا يعدلان عن رأيه أبدا فكانا يعتبرانه إماما لهما في العلم و الدين إلى الحد الذي اشتهر عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال في أكثر من سبعين موردا: [ لولا علي لهلك عمر ] و كان كثيرا ما يقول: [ لا أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن!] (1) ، و في نظر جناب زيد أن الحسن والحسين أيضا كانا إمامين طوال مدة حياتهما بمعنى كون كل منهما قدوة ومرجع للناس في بيان الحلال و الحرام، و كذلك كان كل واحد من علماء أهل البيت: سواء علي بن الحسين (زين
__________
(1) كان علي من الناصحين للخليفتين ابي بكر و عمر و كانا يعملان بمشورته ، فمن ذلك أخذ أبي بكر برأي علي في موضوع مبدأ التأريخ الإسلامي بهجرة النبي (ص)، كماأن عمر عمل بنصح و مشورة علي له في موضوع شخوصه لحرب الفرس و حرب الروم (انظر نهج البلاغة، الخطبتين: 134 ، و 146). و لو رجعنا إلى كتاب مسند زيد بن علي عليهما السلام لوجدنا عددا من الروايات يقر فيها الخليفة الثاني بأن عليا أعلم منه و يرجع إليه في حل كثير من الأمور ، بل يحتاط في الإجابة على سؤال رغم أنه سمع جواب مثله من النبي (ص) بنفسه و لكنه مع ذلك يعهد بالإجابة عن السؤال إلى علي (ع). (انظر مثلا الحديث السادس في باب الحيض و الاستحاضة، من كتاب الطهارة، و الحديث الثالث في باب جزاء الصيد من كتاب الحج) (برقعي)(129/5)
العابدين) أم الحسن بن الحسن أم محمد بن علي (الباقر) أم عبد الله بن الحسن بن الحسن (الكامل) أم زيد بن علي أم محمد بن عبد الله (النفس الزكية)، إماما و مرجعا للناس في عصره في الإرشاد و بيان الأحكام، وهذا هو المعنى الصحيح لحديث الثقلين: [ إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي ]، و بهذا المنطق فقط يمكن حل جميع الاختلافات الدينية بين المسلمين وإعادة المياه إلى مجاريها و تحويل العداوة و البغضاء إلى الأخوَّة و الاتفاق، لا بسبِّ أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) و&nbssp;الخلفاء أو سب و اتهام سائر الفرق الإسلامية! لأنني لا أتصور أنه يوجد بين المسلمين أحد ممن يرجو النجاة لنفسه من عقبات يوم القيامة مّنْ يرفض هذا المنطق ـ إلا من كان في قلبه مرض أو غرض ـ، فمَن مِن المسلمين يمكنه أن ينكر فضائل علي - عليه السلام - مع كل تلك الأحاديث النبوية التي صدرت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) طوال مدة حياته في حقه ؟ من الذي يمكنه أن ينكر جهاد ذلك الإمام الهمام و سيرته التي كلها تضحيات في سبيل نصرة الإسلام و اعلاء كلمته ؟ في حين أنه لا توجد مرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية إلا و كان لعلي دور مؤثر في تقدمها و علو شأنها، و إن سيرته العطرة مليئة بالمواقف البطولية الخالدة و الأعمال العظيمة المحيرة، والقطرات التي بقيت من بحر علمه في عرضه لحقائق تعاليم الإسلام للناس، تعتبر لوحدها محيطات لا حد لها يمكن ليس لأمة الإسلام فحسب بل للمجتمع البشري أن يفخر بها و يتخذها نبراسا لحياته يسير على ضوئها لأجل تحقيق سعادة الدنيا و الآخرة، فإذا رأينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يثني عليه و يبين رفيع مقامه في كل مناسبة ومقام و يعرِّفه للمسلمين كرمز للعلم و التقوى والصلاح و الفلاح و الأخلاق الإسلامية، و يعتبره أهلا للإمامة و قيادة المسلمين، فإن هذا لا يعني أنه (صلى الله عليه وآله) نصبه بنص تعييني و أمر إلهي(129/6)
للخلافة و حكم المسلمين بعد رسول الله أو نَصَبَ أولاده حكاما على المسلمين إلى يوم القيامة، بحيث لو رجع المسلمون إلى غيره في أمر الحكومة و السياسة و اعتبروه أهلا لقيادتهم السياسية و أطاعوه مادام ملتزما بتطبيق أحكام القرآن و السنة كانوا من أهل النار أجمعين، إماما ومأمومين!!
... نعم لو وجد من أهل بيت النبي و عترته من كان أفضل أهل زمانه في العلم و الفضل و التقوى و الشجاعة و الدراية فمن البديهي أنه يكون أولى و أحق من أي أحد سواه بإمامة المسلمين و سياستهم، و على الناس أن ينتخبوه، طواعية من أنفسهم، لهذا المقام، و في الغالب ما يحصل هذا فعلا لأن طبيعة و نفس و روح الناس تتجه لاحترام رسول دينها و نبي شريعتها وأهل بيته و ذريته، و إذا شاهدنا عدول الناس لحد ما عن عترة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في صدر الإسلام فلهذا علل سبقت الإشارة لبعضها يضاف إليها جهل كثير من الناس بحقائق تعاليم الدين و عداء مخالفي الإسلام الذين رأوا في هذا الدين الجديد تهديدا يزلزل أركان أديانهم و شرائعهم الموروثة كاليهودية و النصرانية و المجوسية فسعوا في إضعاف الإسلام وتخريبه بأنواع المكائد و الحيل التي منها الاندساس في هذا الدين و تخريبه من داخله بإحياء سنن الجاهلية و آداب و رسوم المجوسية أو اليهودية أو المسيحية تحت غطاء إسلامي، يريدون بهذا أن يجتثوا حقائق الإسلام من جذورها، لكن مع ذلك نجد في تاريخ الإسلام أنه كلما قام رجل من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و عترته يدعو لإقامة الحق و العدل والقضاء على الجور الظلم والحكم بالكتاب و السنة، التف معه المسلمون من كل حدب و صوب و جاهدوا معه حكام الوقت، كقيام العشرات من آل علي و آل جعفر ضد خلفاء بني أمية وبني العباس مما تكفل كتاب "مقاتل الطالبيين" ببيان قصة جهادهم و إمامتهم، وحتى هذا اليوم عندما يقوم رجل من المنتسبين للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)(129/7)
من أحفاد علي و فاطمة عليهم السلام لعزل الظلمة و إقامة حكم القرآن و يكون أهلا للإمامة و الحكم والقيادة، فإن أكثر المسلمين يؤيدونه و يقومون معه وينصرونه رغم أن أكثرهم يجهل كثيرا من تعاليم الإسلام، حيث أصبح القليل من المسلمين في يومنا هذا مَنْ له معرفة صحيحة بأحكام الدين، حيث دخلت في هذا الدين ـ خلال السنين الطويلة التي مرَّت على الإسلام منذ ظهوره و حتى اليوم ـ أغراض و أمراض من الصديق و العدو و تراكمت طبقات كثيفة من غبار الأوهام و الخرافات و البدع على الوجه النوراني للإسلام فغطته، فلم يعد يدرك حقائقه النقية الناصعة إلا القليل ممن هداهم الله: " ذلك هدى الله يهدي به من يشاء " "ومن يهدي الله فهو المهتدي".
... فإمامة علي بمعنى كونه خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بعد رحلته، في بيان أحكام الحلال و الحرام و في كونه مرجع الخاص و العام في الإرشاد و الهداية و معرفة أحكام الشرع، لا يمكن أن ينكرها أي مسلم منصف ومؤمن بالله و رسوله و مطلع على تاريخ الإسلام و سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و مثل هذا المقام و المنصب لا يمكن الاستيلاء عليه واغتصابه من صاحبه الأصلي بالقوة! لأن العلم و المعرفة و الفضل والتقوى أمور لا يمكن غصبها والاستيلاء عليها، فهذه الإمامة لم يغصبها أحد من علي و آله، و هكذا كان الذين فاقوا أقرانهم في العلم و الفضل و التقوى من أولاد و أحفاد علي، أئمةَ الناس في عصرهم و مرجع الخاص و العام في بيان أحكام الدين و معرفة حلال شرع الله وحرامه.(129/8)
... و إذا رأينا رجالا من أمثال فقهاء المدينة السبعة في عهد حضرة الإمام السجاد - عليه السلام -، أو أمثال مالك بن أنس و أبي حنيفة النعمان بن ثابت و محمد ابن إدريس الشافعي و ابن أبي ليلى (رحمهم الله تعالى جميعا)، في زمن حضرات الباقر والصادق و الكاظم عليهم السلام، قد اشتهروا بالعلم و الفقه و صاروا مراجع جمهور المسلمين في أحكام الشرع و الدين، فإن علة ذلك أولاً: فضلهم و علمهم و تقواهم بلا شك، فكل واحد منهم كان حقيقة ذا علم و فضل و تقوى، و كل من كان كذلك لا بد أن يحوز توجه الناس و اقبالهم و محبتهم، فيشتهر و يُقَلَّد.(129/9)
... و علة ذلك ثانيا: سياسة خلفاء بني العباس الذين كانوا يشعرون بالخطر من شخصيات أولاد علي التي تشكل، في الواقع و في أنظار المسلمين، خير منافس لهم، أكثر من أي شخصية إسلامية أخرى، مثل حضرات الباقر و الصادق و عبد الله بن الحسن و محمد بن عبد الله بن الحسن (النفس الزكية) و الحسين بن علي شهيد الفخ و محمد بن جعفر، حيث كان كل واحد من أولئك الأعلام من أفضل أهل عصره في العلم و الفقه و التقوى مع الشجاعة و القوة في الحق واللياقة بمنصب إمامة المسلمين أكثر من أي أحد، مما كان يجعل قلوب الكثيرين تميل لإمارتهم و خلافتهم، بل بعضهم بويع فعلا بالإمامة من الخاص و العام، و قام ونهض (لإحياء حكم القرآن و إقامة عدل الإسلام)، لذا كان الخلفاء العباسيون يضيقون عليهم و يضطهدونهم و لا يسمحون لهم بالحرية التي تجعل الناس يلتفون حولهم، و يسعون بشتى الوسائل في إخمال ذكرهم و التعتيم عليهم، في حين أعطوا الآخرين الحرية و مجال الشهرة بل روجوا لهم و عهدوا لهم أو لتلاميذهم بالمناصب، لأمنهم من عدم طمعهم في الحكم و الزعامة، و حتى لو طمح منهم طامح فإنه لن يجد من يلتف حوله وينصره في طلبه الإمامة، لأن شهرة حديث [الأئمة من قريش] لم تترك مجالا لأبي حنيفة و مالك و أحمد بن حنبل و غيرهم من الأئمة الفقهاء ممن لم يكن بقرشي (1)
__________
(1) لم يكن الأئمة الأربعة أيضا راضون عن خلفاء عصرهم من بني العباس ، فأحمد بن حنبل أمضى سنوات طويلة في سجونهم مع ضربه بالسياط لحد فقدان الوعي بسبب رأي كلامي اختلف فيه مع المأمون. و مالك اعتقل بسبب تأييده لثورة العلويين بقيادة النفس الزكية و إفتائه بجواز نقض البيعة التي تؤخذ بالإكراه، و قد ضرب يالسياط حتى خلعت كتفه!!، كما روى عن الإمام الصادق (ع) في كتابه الموطأ. و كذلك "الشافعي" رغم أنه كان قرشيا، إلاأنه كان محبا و مؤيدا لآل علي (ع) حتى اتهم بالتعاون معهم في اليمن و اعتقل لأجل ذلك. و أشعاره في حب علي و آل النبي مشهورة يعرفها العام و الخاص. أما تأييد الإمام أبي حنيفة لثورات العلويين في عصره ، و الذي يدل على أنه كان يراهم أولى الأمة بالخلافة ولم يكن يرى مشروعية خلافة الخلفاء في عصره، فأشهر من أن يذكر ، مما حدى ببعض المؤرخين أن يعتبره شيعيا في ولائه السياسي، و قد سجن أبو حنيفة ، بسبب أرائه تلك، عدة مرات ، في زمن المنصور الدوانيقي و رفض أن يستلم أي منصب من المناصب التي عرضت عليه في عهده حتى توفي آخر الأمر و هو في سجن المنصور. (برقعي)(129/10)
.
... و من هذا المنطلق أيضا قرر الخلفاء العباسيون ( أو أيدوا ) مبدأ العول والتعصيب في فقه المواريث(1) ليثبتوا أن العباس كان وارث النبي فيثبتوا بهذا أنهم الخلفاء الشرعيون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!
... و لهذا نال فقه الآخرين و آراؤهم من الشهرة و الرواج بين المسلمين ما لم ينله فقه أئمة العترة عليهم السلام، و مع ذلك قيض الله تعالى لهم في كل عصر أتباعا محبين و تلاميذ أذكياء من الباحثين عن الحقيقة غير الآبهين في سبيلها بالأخطار، ممن كان يرجع في فهم دينه و أخذ أحكام شرعه إلى أولاد علي لا يعدل عنهم إلى غيرهم، فحفظوا من فقههم و بياناتهم آلاف الأحاديث و ملؤوا آلاف الدفاتر، التي لا تزال توجد إلى اليوم في متناول المسلمين و تحوز انتباه العام والخاص، مما جعل الغلاة و أعداء الإسلام يستغلون شهرة و مرجعية أولئك الأئمة و يروون عنهم كذبا آلاف الروايات مما شوه صورتهم في أنظار الناس، الأمر الذي حان الوقت للبدء بسرعة في إصلاحه.
__________
(1) تعتمد المذاهب السنية الأربعة قاعدتي التعصيب و العول في الإرث، أما التعصيب فهو أن يُعْطَى ما يتبقى من التركة، بعد أن يأخذ كل ذي فرض فرضه، لأّوْلى عصبة ذكر، و هم الأبناء ثم الآباء ثم الإخوة ثم أبناءهم ثم الأعمام ثم أولاد العم، و العباسيون وافقهم هذا الرأي حيث أنه لما لم يكن لرسول الله (ص) أبناء ( ذكور ) و لا آباء أو إخوة، كان ورثته و عصبته هم أعمامه ( العباس ) و أبناء عمه ( العباسيون )! أما في الفقه الجعفري فلا تعصيب أصلا بل يأخذ أصحاب الفروض من الطبقة الواحدة فقط كل التركة و لو كانت بنتا واحدة فقط، فرضاً ثم ردَّاً. (مت)(129/11)
... و الحاصل أن أئمة العترة كانوا أئمة الناس في الفقه و الدين و في بيان الحلال و الحرام (و في قيادة الأرواح إلى الله عز وجل)، و الرد عليهم، من هذه الزاوية، رد على الله و رسوله، و حتى الفقهاء الأربعة وغيرهم رجعوا إليهم وأخذوا عنهم العلم.(129/12)
(دراسة و تمحيص أحادث النص على اثني عشر إمام
(الحديث الأول
(الحديث الثاني
(الحديث الثالث
دراسة و تمحيص أحاديث النص على اثني عشر إمام
... توجد في كتب الشيعة، علاوة على الأحاديث التي تبين نص رسول الله (صلى الله عليه وآله) على إمامة و خلافة عليِّ - عليه السلام - بشكل خاص، أحاديث فيها نصه (صلى الله عليه وآله)، بأمر ربه تعالى، على اثني عشر إماما واحدا واحدا ببيان أسمائهم و علاماتهم، بحيث لا يبقى عذر لأحد! و سنقوم فيما يلي بتمحيص هذه الأحاديث من حيث السند و المتن، إن شاء الله، لنرى ما هي الحقيقة في هذا الأمر؟
... الحديث الأول: أهم حديث جاء في كتب الشيعة في التعريف بالأئمة الاثني عشر الحديث المشهور بحديث لوح جابر، و قد ورد هذا الحديث بعدة طرق مختلفة سنعرضها جميعا على أنظار القراء:
... أخرج الصدوق الحديث في كتابه " إكمال الدين و إتمام النعمة " وكتابه " عيون أخبار الرضا " بالسند التالي: قال:(130/1)
... [ حدثنا محمد بن ابراهيم بن اسحق الطالقاني قال: حدثنا الحسن بن اسماعيل قال حدثنا أبو عمرو سعيد بن محمد بن نصر القطان قال حدثنا عبيد الله بن محمد السلمي قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن قال حدثنا محمد بن سعيد قال حدثنا العباس أبي عمرو عن صدقة بن أبي موسى عن أبي نصرة قال: لما احتضر أبو جعفر محمد بن علي الباقر - عليه السلام - عند الوفاة، دعا بابنه الصادق فعهد إليه عهدا، فقال له أخوه زيد بن علي: لو امتثلت فيَ بمثال الحسن والحسين عليهما السلام لرجوت أن لا تكون أتيت منكرا، فقال: يا أبا الحسين إن الأمانات ليست بالمثال و لا العهود بالرسوم، و إنما هي أمور سابقة عن حجج الله تبارك و تعالى، ثم دعا بجابر بن عبد الله فقال له: يا جابر حدثنا بما عاينت في الصحيفة، فقال له جابر: نعم يا أبا جعفر، دخلت على مولاتي فاطمة عليها السلام لأهنئها بمولود الحسن - عليه السلام - فإذا هي بصحيفة بيدها من درة بيضاء فقلت يا سيدة النسوان ما هذه الصحيفة التي أراها معك ؟ قالت: فيها أسماء الأئمة من ولدي. فقلت لها: ناوليني لأنظر فيها، قالت: يا جابر لولا النهي لكنت أفعل، لكنه نهى أن يمسها إلا نبي أو وصي أو أهل بيت نبي و لكنه مأذون لك أن تنظر إلى باطنها من ظاهرها! (1) قال جابر: فقرأت فإذا فيها: أبو القاسم محمد بن عبد الله المصطفى أمه آمنة بنت وهب، أبو الحسن علي بن أبي طالب المرتضى أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم من عبد مناف، أبو محمد الحسن بن علي البر، أبو عبد الله الحسين بن علي التقي أمهما فاطمة بنت محمد، أبو محمدعلي بن الحسين العدل، أمه شهربانويه بنت يزدجرد بن شاهنشاه، أبو جعفر بن محمد
__________
(1) هذا أيضا من علامات الكذب في هذا الحديث إذ أن معرفة أسماء الأئمة الذين اختارهم الله وفرض طاعتهم على العالمين والتي لا نجاة لمسلم إلا بها ـ حسب قول الإمامية ـ أمرٌ ينبغي أن يُعلن و يُنشر لا أن يُخفى و يُستتر عند فرد! (مت)(130/2)
بن علي الباقر أمه عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب، أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، أبو إبراهيم موسى بن جعفر الثقة أمه جارية اسمها حميدة، أبو الحسن علي بن موسى الرضا أمه جارية اسمها نجمة، أبو جعفر محمد بن على الزكي أمه جارية اسمها خيزران، أبو الحسن علي بن محمد الأمين أمه جارية اسمها سوسن، أبو محمد الحسن بن علي الرفيق أمه جارية اسمها سمانة وتكنى بأم الحسن، أبو القاسم محمد بن الحسن هو حجة الله تعالى على خلقه القائم أمه جارية اسمها نرجس صلوات الله عليهم أجمعين ] (1)
__________
(1) أول ما يتوجه من إشكال على صحة الحديث و أمثاله أنه من المتواتر أن عددا من الأئمة عليهم السلام لم يكونوا عالمين في بداية الأمر إلى من ستؤول الإمامة من بعدهم ، فالصادق (ع) أعلن في البداية أن ابنه الأكبر "إسماعيل " هو الإمام من بعده، لكن إسماعيل توفي في حياة أبيه!!، عندئذ قال الصادق أن الإمام هو "موسى"، وكذلك عين الإمام الهادي ابنه "محمدا" إماما بعده لكن محمدا أيضا توفي في حياة والده!! فنقل الهادي الإمامة من بعده لابنه الآخر" الحسن"، و هذا كله يناقض علمه السابق بأسماء الأئمة واحدا واحدا. و كذلك يتناقض مع حديث لوح جابر و أضرابه، ما رواه الكليني نفسه في أصول الكافي: باب "الإشارة و النص على أبي الحسن الرضا" أن الإمام موسى بن جعفر (ع) لم يكن يعلم إلى من من إولاده ستصير الإمامة من بعده و كان يمل إى إمامة ابنه "القاسم" إلى أن رأي في منامه النبي (ص) و عليا (ع) فسألهما: "أرنيه أيهما هو؟" و مع أن الإمام علي أشار إلى الرضا إلا أن الإمام الكاظم لم يطمئن حتى سأل النبي (ص) فقال: "قد جمَعْتَهم لي ـ بأبي و أمي ـ فأيهم هو ؟ ". فلو كان حديث اللوح صادقا لكان حضرة الكاظم (ع) قد رآه و عرف منه أسماء الأئمة ، فما مورد هذا التساؤل منه إذن ؟؟!!
... و لقد أحصى كاتب هذه السطور ـ أثناء مطالعة أصول الكافي ـ عدد أصحاب الأئمة بدءا من الإمام الحسين (ع) و حتى الإمام الرضا (ع) ، الذين ذكرت روايات الكافي ما يدل على عدم معرفتهم من سيكون الإمام بعد إمام عصرهم، فوجدت أن عددهم بلغ مائة و أربعة!!! فلو صح حديث لوح جابر و نظائره لكان الأئمة أطلعوا على الأقل أصحابهم المقربين على أسماء الأئمة أجمعين حتى لا يتيهوا و لا يضطروا للحيرة والبحث عن كل إمام؟؟!! أي لو كان قول الذين ادعوا ان النبي (ص) عين اثنا عشر إماما من بعده، بأسمائهم، صحيحا، لعرف ذلك الأئمة أنفسهم و لعرف ذلك خلص أصحابهم المقربين، في أن الواقع خلاف ذلك!! (برقعي)(130/3)
.
... أقول: لا يوجد لرجال سند هذا الحديث بدءاً من "سعيد بن محمد بن نصر القطان" إلى "أبي نصرة"، ذكر في كتب الرجال! و لا ندري من أين جاء المرحوم الصدوق بهؤلاء الرواة و عمن أخذ و من أين روى هذه الرواية ؟! و لكن محقق كتاب إكمال النعمة للصدوق ذكر في الحاشية أن أبا بصرة: إذا كان نفس أبا بصرة محمد بن قيس الأسدي فقد ضعَّفه الشهيد الثاني في كتابه الدراية و قال عنه: [ كلما كان فيه محمد بن قيس عن أبي جعفر فهو مردود ]، لكنه قطعا ليس محمد بن قيس هذا و لو كان هو فهذا الحديث منسوب إليه كذبا. و في حاشية الكتاب نفسه قال إذا كان هو أبا بصرة فاسمه حُميل بضم الحاء، و أيا كان فهو مجهول.
... لكنني أقول أن متن الحديث مفتضح الكذب إلى درجة لا نحتاج معها للبحث في صحة أو سقم سنده، فالراوي المجهول الهوية أبو بصرة يبتأ حديثه بقوله: [ لما احتضر أبو جعفر محمد بن علي الباقر عند الوفاة ]، هذا في حين أن وفاة الإمام محمد الباقر - عليه السلام - وقعت، طبقا لكل التواريخ، فيما بين السنة 114 إلى 118هـ. (1)
... أما وفاة "جابر بن عبد الله الأنصاري" فذكرتها التواريخ بين 73 إلى 77 هـ. (2)
__________
(1) يُراجَع للتأكد من ذلك الكتب التالية: 1ـ المقالات و الفرق لسعد بن عبد الله الأشعري: ص 72. 2ـ فرق الشيعة للحسن بن موسى النوبختي: ص 82، حيث يذكر الكتابان أن سنة وفاته هي 117 هـ. 3ـ وفيات الأعيان لابن خلِّكان: ج4/ص170. 4ـ بحار الأنوار للمجلسي: ج 14/ ص 44 (من طبعة تبريز القديمة). 5ـ تاريخ اليعقوبي: ص 52 (طبعة بيروت لعام 1375هـ). 6ـ منتهى الآمال (في مصائب النبي و الآل) لعباس القمي، (بالفارسية): ص 122 (طبع العلمي) 7ـ الإصابة في تمييز الصحابة: ج1/ص215.
(2) انظر: 1ـ الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر: ج1/ص213. 2ـ أسد الغابة لابن الأثير: ج1/ص258. 3ـ التهذيب ج9/ص 77 (طبع النجف). 4ـ تتمة المنتهى: ص 69. 5ـ الإصابة: ج1/ص215.(130/4)
... فهذا يعني أن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - توفي قبل أربعين سنة من وفاة الإمام الباقر - عليه السلام - . أفلم يوجد من يقول لهذا الكذاب الوضاع: كيف أحييت جابرا وجئت به ـ بعد أن مات في قبره منذ أربعين سنة ـ لمحضر الإمام الباقر، حين أدركته الوفاة، لتنسب إليه إقناعه زيدَ بن علي أن لا يطلب من أخيه الباقر الإمامة، بشهادته برؤية اللوح الذي ذكرت فيه أسماء الأئمة الاثني عشر و أسماء أمهاتهم كذلك ؟!!
... لننظر الآن في تاريخ وفاة زيد أيضا: 1ـ يقول الشيخ الطوسي في رجاله (ص 195): [ قُتِلَ سنة إحدى و عشرين و مائة و له اثنتان و أربعون سنة ] مما يعني أن جناب زيد ولد سنة 79 أو80 هـ. 2ـ بل في تهذيب تاريخ دمشق الكبير لابن عساكر: (ج6/ص18) ذكرت ولادة زيد بن علي بن الحسين سنة 78 هـ. فهذا يعني أن زيدا ولد بعد أربع سنوات أو على أقل تقدير بعد سنة من وفاة جابر بن عبد الله!! فكيف تسنَّى لجابر أن يأتي ويقنعه بالأئمة المنصوص عليهم ؟! والعجيب المحير أن هذا الحديث رغم افتضاح كذبه إلى هذه الدرجة ـ و كما قال الشهيد الثاني: أكذب الحديث ما كذبه التاريخ ـ أورده أكثر علماء الشيعة الإمامية في إثبات إمامة الأئمة الاثني عشر و النص عليهم دون أن يتعرض أحدهم أو ينتبه لهذا العيب الكبير في متنه، أو انتبه لذلك و لكن التعصب الأعمى و تقليد الآباء حمله على السكوت.
... و الأعجب من ذلك أن العيب الوحيد الذي أخذه المرحوم الصدوق على هذا الحديث هو قوله بعد روايته: [ قال مصنف هذا الكتاب: جاء هذا الحديث هكذا بتسمية القائم و الذي اذهب إليه ما روي في النهي عن تسمية القائم!!]، حقا ينطبق عليه المثل بأنه يرى القذة في العين و لا يرى الخشبة فيها!(130/5)
... هذا و لما كان كذب الحديث واضحا جدا بشهادة التاريخ لم نتعرض لنقد متنه المليء بالعيوب الأخرى: أ ـ كقوله أن جابر دخل على فاطمة ليهنئها بولادة الحسن مع أنه لم يكن من عادة المسلمين في ذلك العهد الدخول على أم الوليد لتهنئتها بالولادة، بالإضافة إلى أن جابرا لم يكن عمره، عند ولادة الحسن، يتجاوز ال 16 أو 17 سنة، و لما كانت ولادة الحسن في السنة الثالثة للهجرة فإن جابرا لم يكن قد تزوج بعد، لأنه إنما تزوج من أرملة ثيب بعد شهادة أبيه في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة، فكيف يمكن لشاب في ريعان الشباب أن يدخل على فاطمة الشابة مثله، لا سيما أن متن الحديث لا يشير إلى أنه كان هناك أحد معها في البيت، خاصة أن قراءة اللوح، و هو بيد الزهراء، يحتاج لاقتراب شديد منها، وهذا أمر بعيد جدا أن تسمح به الزهراء عليها السلام التي أُثِرَ عنها قولها: خير للرجال أن لا يروا النساء و خير للنساء أن لا يرين الرجال!
ب ـ عدد من أسماء أمهات الأئمة خطأ، مثلا في كتاب إثبات الوصية، عن جابر نفسه، أن أم حضرة علي بن الحسين زين العابدين جهان شاه، أما هنا فذكر أنها شهربانو، و هناك قال أن اسم أم حضرة الإمام الرضا تكتُّم، و هنا نجمة! هذا بالإضافة إلى عيب آخر و هو أن فاطمة قالت أن في هذا اللوح أسماء الأئمة من ولدي، في حين أن في اللوح اسم النبي و اسم علي و هما ليسا من أولادها! والحاصل أن هذا الحديث من أكذب الأكاذيب و لا يسعنا إلا أن نقول فيه: " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " ألا لعنة الله على الكذَّابين الوضَّاعين الذين فرقوا أمة الإسلام و بلبلوها بهذه الأحاديث الكاذبة.
... الحديث الثاني: حديث اللوح هذا أخرجه الصدوق من طريق آخر وبلفظ مختلف، في كتابيه: " إكمال الدين " و " عيون أخبار الرضا " أيضا، كما أخرجه المحدث الكليني في كتابه " الكافي "، و فيما يلي نصه و سنده كما جاء في كتاب إكمال الدين:(130/6)
... [ حدثنا أبي و محمد بن الحسن قالا حدثنا سعد بن عبد الله و عبد الله بن جعفر الحميري جميعا عن أبي الخير صالح بن أبي حماد و الحسن بن ظريف جميعا عن بكر بن صالح عن عبد الرحمن بن سالم عن أبي بصير عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: قال أبي - عليه السلام - لجابر بن عبد الله الأنصاري إن لي إليك حاجة فمتى يخف عليك أن أخلو بك و أسألك عنها ؟ قال جابر: في أي الأوقات شئت جئني، فخلى به أبو جعفر - عليه السلام - فقال له: يا جابر! أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أمي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و آله و ما أخبرتك به أن في ذلك اللوح مكتوبا، قال جابر: أشهد بالله أني لما دخلت على أمك فاطمة في حيوة رسول الله صلى الله عليه و آله أهنيها بولادة الحسن فرأيت في يدها لوحا أخضر ظننت أنه من الزمرد و رأيت فيه كتابا أبيضا شبيها بنور الشمس فقلت لها: بأبي أنتِ و أمي يا ابنة رسول الله ما هذا اللوح ؟ فقالت: هذا والله لوح أهداه الله جل جلاله إلى رسوله صلى الله عليه و آله فيه اسم أبي وبَعْلي و اسم ابنيَّ و اسم الأوصياء من ولدي فأعطانيه أبي ليسرني بذلك، قال جابر: فأعطَتْنيه أمكَ فاطمةُ عليها السلام فقرأتُهُ و انتسختُهُ (1)، فقال أبي: يا جابر هل لك أن تعرضه علي ؟ قال: نعم، فمشى معه أبي - عليه السلام - حتى انتهى إلى منزل جابر، فأخرج إلى أبي صحيفة من رق فقال يا جابر: انظر في كتابك لأقرأه أنا عليك فنظر جابر في نسخته فقرأه عليه أبي - عليه السلام - فوالله ما خالف حرف حرفا، قال جابر: أشهد بالله إني هكذا رأيته في اللوح مكتوبا:
__________
(1) هذا يناقض ما جاء في الرواية السابقة من أن فاطمة رفضت إعطاء جابر اللوح قائلة أن الله نهى أن يمسه إلا نبي أو وصي أو أهل بيت نبي! ( x )(130/7)
... بسم الله الرحمن الرحيم، هذا الكتاب من الله العزيز الحكيم لمحمد نوره و سفيره و حجابه و دليله، نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين، عظِّم يا محمد أسمائي و اشكر نعمائي و لا تجحد آلائي، إني أنا الله لا إله إلا أنا قاصم الجبارين و مذل الظالمين و مبير المستكبرين و ديَّان يوم الدين، إني أنا الله لا إله إلا أنا فمن رجا غير فضلي أو خاف غير عدلي عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فإياي فاعبد و عليَّ فتوكل، إني لم أبعث نبيا و أكملت أيامه وانقضت مدته إلا جعلت له وصيا و إني فضلتك على العالمين و فضلت وصيك على الأوصياء و أكرمتك بشبليك الحسن و الحسين و جعلت حسنا معدن علمي بعد انقضاء مدة أبيه و جعلت حسينا خازن وحيي و أكرمته بالشهادة وختمت له بالسعادة فهو أفضل من استشهد و أرفع الشهداء درجة، جعلت كلمتي التامة معه و الحجة البالغة عنده بعترته أثيب و أعاقب أولهم سيد العابدين و زين الأولياء الماضين و ابنه سمِيُّ جده المحمود محمد الباقر لعلمي والمعدن لحكمتي سيهلك المرتابون في جعفر الراد عليه كالراد عليَّ حقَّ القول مني لأكرمنَّ مثوى جعفر و لأسرنَّه في أوليائه و أشياعه و أنصاره، و انتخبتُ بعده موسى وانتخبتُ بعده فتاه لأن حفظه فرض لا ينقطع و حجتي لا تخفى و إن أوليائي لا ينقطعوا أبدا ألا فمن جحد واحدا منهم فقد جحد نعمتي و من غيَّر آية من الكتابي (هكذا!) فقد افترى عليَّ و ويل للمفترين الجاحدين عند انقضاء مدة عبدي موسى و حبيبي و خيرتي إن المكذب بالثامن مكذب بكل أوليائي و عليٌّ وليي وناصري و من أضع عليه أعباء النبوَّة و أمنحه بالاضطلاع يقتله عفريت مستكبر يدفن بالمدينة التي بناها العبد الصالح ذو القرنين إلى جنب شر خلقي حقَّ القول مني لأقرنَّ عينه بمحمد ابنه و خليفته من بعده فهو وارث علمي ومعدن حكمتي و موضع سري و حجتي على خلقي وجعلت الجنة مثواه وشفَّعته في سبعين من أهل بيته كلهم قد استحقوا(130/8)
النار وأختم بالسعادة لابنه علي وليي و ناصري و الشاهد في خلقي و أميني على وحيي أخرج منه الداعي إلى سبيلي و الخازن لعلمي الحسن ثم أكمل ذلك بابنه رحمة للعالمين عليه كمال موسى و بهاء عيسى و صبر أيوب سيُذَلُّ أوليائي في زمانه و يتهادون رؤسهم كما تهادي رؤس الترك و الديلم فيُقتلون و يُحرقون و يكونون خائفين مرعوبين وجلين تُصبغ الأرض من دمائهم و ينشأ الويل والرنين في نسائهم أولئك حقا بهم أدفع كل فتنة عمياء حندس و بهم أكشف الزلازل و أرفع القيود و الأغلال أولئك عليهم صلوات من ربهم و رحمة وأولئك هم المهتدون، قال عبد الرحمن بن سالم قال أبو بصير لو لم تسمع في دهرك إلا هذا الحديث لكفاك فصُنْه إلا عن أهله ! ](1).
... قلت: هذا الحديث الطويل لا يقل بطلانا و تهافتا عن سابقه سواء من ناحية السند أو المتن. أما من ناحية السند: فلن نبحث برجاله المعاصرين أو القريبين من المعصوم رغم أن أغلبهم ضعاف: فبكر بن صالح، قد ضعفه النجاشي في رجاله (ص 84) و ذكره ابن داود في القسم الثاني من كتابه المخصص للضعفاء (ص 432) و قال: [ بكر بن صالح ضعيف جدا ] وكذلك أورده العلامة الحلي في القسم الثاني من خلاصته المخصص للضعفاء ( ص207) و وافق قول ابن الغضائري فيه: [ بكر بن صالح ضعيف و كثير التفرد بغرائب!]. وكذلك قال عنه الممقامني في تنقيح المقال ( ج1/ص178): [ ضعفه جماعة و قال عنه ابن الغضائري ضعيف و كثير التفرد بغرائب ].
__________
(1) عيون أخبار الرضا: ج1/ص48-50 ( بيروت: مؤسسة الأعلمي، 1404هـ/1984) (مت) و يجدر بالذكر أن المحقق و المحدث المعاصر "محمد باقر البهبودي" صاحب كتاب "صحيح الكافي" (طبع الدار الإسلامية، بيروت: 1401هـ) الذي نقح فيه كتاب الكافي للكليني فحذف منه ما رآه غير صحيح و أبقى الصحيح فقط، حذف هذا الحديث معتبرا إياه غير صحيح. (برقعي)(130/9)
... و كذلك عبد الرحمن بن سالم قال عنه العلامة الحلي في خلاصته (ص 229): [ عبد الرحمن بن سالم بن عبد الرحمن الأشل كوفي مولى روى عن أبي بصير ضعيف]، و اعتبره التفرشي في نقد الرجال (ص 185) ضعيفا واعتبر أباه ثقة، و خلص الممقاني في تنقيح المقال ( ج2/ص143) إلى القول عنه [ على كلٍّ ضعيف أو مجهول ].
... و لكن رغم ضعف هذين الرجلين إلا أنهما لو كانا حقيقة راويا الحديث لقبلناه و اعتبرناه صحيحا بل من المعجزات و الخوارق لأنهما، مع كونهما معاصرين للإمام الصادق أو الإمام الكاظم، إذا رويا حديثا تُنُبِّئَ فيه بأن الإمام بعد حضرة الكاظم سيكون حضرة الرضا و بعده حضرة الجواد وهكذا حتى آخر إمام، فإن هذا الإخبار يكون إخبارا بأمر مغيب بالنسبة لهما و لما وقع بالضبط كما أخبرا فالحديث معجزة لا بد أن يكون صادرا حقا عن المعصوم!
... لذلك نحن نقطع أن الحديث ليس من وضعهما بل من وضع من بعدهما، و وجود أشخاص مثل صالح بن أبي حماد الذي كان يعيش في القرن الهجري الثالث، يكفي للقول بأنه إما هو الذي وضعه بتمامه أو أنه أخذ جزءا منه و أكمله من عنده على هذا النحو! فلنر ما قاله علماء الرجال بشأن صالح هذا:
1ـ نقل الممقاني في تنقيح المقال (ج 2/ ص 91) عن النجاشي أن:[ أمره كان ملتبسا يُعْرَف و يُنكَر و ضعَّفه ابن الغضائري و قال العلامة ( الحلي ) في الخلاصة: المعتمد عندي التوقف فيه لتردد النجاشي و تضعيف الغضائري ] وقوله يُعرَف ويُنْكَر أي أحيانا يروي روايات معروفة وأحيانا يتفرد برواية مناكير لا تُعْرَف.
2ـ و نقل التفرشي في نقد الرجال (ص 296) نفس الكلام عنه.
3ـ و اعتبره الأسترآبادي في منهج المقال (ص 180) أحمقاً!
... فمثل هذا الراوي الأحمق الذي ضعفه كبار علماء الرجال و اعتبروه مشكوكا به ملتبس الحال، لا يتورع عن وضع هكذا حديث يشهد متنه بكل وضوح بأنه موضوع مختلق.
... و فيما يلي بيان دلائل الوضع في متنه:(130/10)
1) بتأمل ألفاظ الحديث و نسقه نلاحظ أنه يجعل الإمام الصادق - عليه السلام - يرويه رواية من حضر الواقعة بنفسه، حيث يقول: قال أبي لجابر و لا يقول سمعت أبي أو عن فلان..و في كل الحديث يتحدث الصادق حديث من هو حاضر في الواقعة كقوله في آخر الحديث: [ فمشى معه أبي - عليه السلام - حتى انتهى إلى منزل جابر فأخرج إلى أبي صحيفة ]’.... إلى قوله: [ فو الله ما خالف حرف حرفا ] فلهجة القسم تقتضي أن المقسِم كان حاضرا بنفسه و مشاهدا لما حدث. لكن حضور الصادق - عليه السلام - في مثل هذه الواقعة أمر مستحيل تاريخيا إذ أن ولادته - عليه السلام - حدثت، حسب التواريخ المعتبرة، سنة 83 هـ، و تقدم أن وفاة جابر كانت، طبقا لكل التواريخ، تتراوح بين 73 و 77 هـ، مما يعني أن الصادق - عليه السلام - لم يدرك جابرا أبدا فالحديث كاذب قطعا.
2) جاء في آخر الحديث أن الإمام الباقر - عليه السلام - قال لجابر: [ انظر في كتابك لأقرأه قال: فنظر جابر في نسخته.. ]، هذا مع أنه بشهادة جميع المؤرخين وكتب تراجم الصحابة أن جابرا كف بصره في أواخر عمره و بالتحديد في السنة 60 أو 61 هـ(1) فكيف استطاع أن ينظر في الصحيفة و يقرأ منها ؟!
3) في بداية المكتوب في اللوح جاء [ كتابٌ من الله لمحمدٍ نوره و سفيره وحجابه و دليله، نزل به الروح الأمين..] و الواقع أنه لا يوجد في أي آية أو حديث صحيح وصف للنبي بمثل هذه الأوصاف خاصة بأنه سفير الله أو حجاب الله بل هذه من الألفاظ المستحدثة التي أطلقت فيما بعد على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا سيما في أوساط الصوفية و أهل العرفان.
__________
(1) من المعروف أنه كان ضريرا لما ذهب لزيارة قبر الإمام الحسين سنة 61 هـ لذلك طلب من عطية العوفي أن يأخذ بيده و يوصله للقبر. (برقعي)(130/11)
4) عبارة [ فمن رجا غير فضلي و خاف غير عدلي عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين! ] عبارة من البعيد جدا أن تكون من كلام الله عزَّ و جلَّ العدل الرحيم و الخبير بعباده المحيط بأحوالهم، فمثل الوعيد بالتعذيب بعذاب لا يعذبه أحدا من العالمين إنما يكون لمرتكب كفر مبين و إثم فاحش فظيع فيه تحد لآيات الله الواضحة ( كالوعيد الذي هدد اللهُ تعالى به الذين طلبوا المائدة من أصحاب عيسى إذا كفروا بعد إنزالها)، و لا يكون على أمر هو من الضعف البشري الذي يعتري كل إنسان، فكم من راج غير فضل الله و كم من خائف غير عدله بل يجب القول أن العدل يجب ألا يُخاف منه سواء عدل العباد أم عدل رب العباد، بل الخوف من عدل الله كفر، فجملة: أو خاف غير عدلي، جملة لا معنى لها و يبدو أن الذي لفق الحديث لم يكن ينتبه لما يقوله، ثم أي مؤمن أو حتى نبي لم يخف من غير عدل الله ؟! ألم يقل الله تعالى عن موسى - عليه السلام -:{ قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون } القصص /33، و في الآية 18 من نفس السورة قال عنه:{ فأصبح في المدينة خائفا يترقب! } و قال عن زكريا - عليه السلام -: { و إني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا } مريم /5 ، و قال عن إبراهيم - عليه السلام - لما جاءه الضيوف الملائكة: { فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة } هود/70، و قال عن سيد الرسل و أكرم الخلق معاتبا: {و تخشى الناس و الله أحق أن تخشاه} الأحزاب / 37...إلخ فما تلك العبارات الجوفاء إذن التي لفقها واضع الحديث على لسان الله عز وجل ؟؟
5) جملة [و مّنْ غيَّر آية من الكتابي] بالإضافة لخطئها النحوي إذ المضاف لا يُعَرَّف، فإنها جملة في غير محلها و لا معنى لها، ذلك أنه ما دام الكتاب أمرا سريا خاصا بين الله و الرسول و أهل بيته فعلام التحذير و التهديد حول تغيير آية منه وهل من الممكن أو المتوقع أن يغيره الرسول أو أهل بيته ؟؟؟(130/12)
6) و العجيب أنه يقول عن الإمام التقي [و يشفِّعه في سبعين من أهل بيته] فقط! و هذا خلاف لعقائد الإمامية الذين يرون أن الأئمة يشفعون لشيعتهم، ولذلك يعتبر قلة لطف في حق الإمام لا امتنانا عليه!
7) أشار في آخر الحديث إلى شيء مما سيحصل من العلامات لدى عهد الإمام الثاني عشر فقال: [ ستذل أوليائي في زمانه و يتهادون كما تهادى رؤوس الترك و الديلم فيقتلون و يحرقون و يكونون خائفين مرعوبين وجلين تصبغ الأرض من دمائهم..]. فنقول: أولا: ما معنى هذا الكلام في زمن الذي من المفترض أنه سيملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا ؟ و ثانيا: أين و متى حدث هذا و متى أهديت رؤوس أولياء الأئمة و لمن أهديت؟ وأين قتلوا و أحرقوا..؟ و ثالثا: من الطريف أن فاطمة الزهراء عليها السلام تقول عن اللوح: [ أعطانيه أبي ليسرني بذلك! ] فكيف تسر فاطمة بمثل هذه الأخبار السوداء ؟؟
8) و في آخر الحديث أن أبا بصير قال لعبد الرحمن بن سالم: [ لو لم تسمع في دهرك إلا هذا الحديث لكفاك فصنه إلا عن أهله!! ] فكيف يكون مثل هذاالحديث الذي ليس فيه إلا ذكر أسماء فقط مغنيا عن سماع أي حديث آخر؟ هذا من جهة و من جهة أخرى لماذا يأمر بإخفاء هذا الحديث و عدم البوح به إلا لأمثال عبد الرحمن بن سالم الضعيف المجروح لدى علماء الرجال و بكر بن صالح الذي قيل عنه ضعيف جدا و صالح بن حماد المتهم بالحمق!!(130/13)
... الحديث الثالث: و أخرج الشيخ الصدوق هذا الحديث أيضا بألفاظ أخرى في " عيون أخبار الرضا " و " إكمال الدين " فقال: [ حدثنا أبو محمد الحسن بن حمزة العلوي قال حدثنا أبو جعفر محمد بن الحسين بن درست السروي عن جعفر بن محمد بن مالك قال حدثنامحمد بن عمران الكوفي عن عبد الرحمن بن نجران عن صفوان بن يحيى عن اسحق بن عمار عن أبي عبد الله الصادق - عليه السلام - أنه قال: يا اسحق! ألا أبشرك ؟ قلت: بلى جعلت فداك، فقال: وجدنا صحيفة بإملاء رسول الله و بخط أمير المؤمنين فيها بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله العزيز الحكيم، و ذكر الحديث مثله سواء إلا أنه قال في آخره: ثم قال الصادق - عليه السلام -: يا اسحق! هذا دين الملائكة والرسل فصنه عن غير أهله يصنك الله و يصلح بالك! ](1)
... قلت: في سند الحديث يواجهنا اسم "جعفر بن محمد بن مالك" وهو رجل كذاب فاسد المذهب متروك الرواية عند علماء الرجال، و إليك أقوالهم فيه:
1) قال النجاشي في رجاله (ص225) (2) :[ جعفر بن محمد بن مالك بن عيسى.. كوفي..كان ضعيفا في الحديث.(قال) أحمد بن الحسين(3): كان يضع الحديث وضعا ويروي عن المجاهيل و سمعت من قال: كان أيضا فاسد المذهب و الرواية، و لا أدري كيف روى عنه شيخنا النبيل الثقة أبو على بن همام و شيخنا الجليل الثقة أبو غالب الزَّراري ].
2) و أورده ابن داود في رجاله (ص 434) في عداد المجهولين والمجروحين و كرر عبارة ابن الغضائري و النجاشي بحقه.
__________
(1) عيون أخبار الرضا: ج1/ ص50-51.(مت)
(2) أو ج 1/ص302-303 من الطبعة التي حققها محمدجواد النائيني، (بيروت:دار الأضواء، 1408). (مت)
(3) هو ابن شيخ النجاشي: الحسين بن عبد الله الغضائري. (مت)(130/14)
3) و قال عنه الأردبيلي في جامع الرواة (ج1/ص160) نقلا عن الخلاصة للعلامة الحلي:[ قال ابن الغضائري:إنه كان كذابا متروك الحديث جملة و كان في مذهبه ارتفاع و روى عن الضعفاء و المجاهيل و كل عيوب الضعفاء مجتمعة فيه]
4) و يوافق العلامة الحلي في الخلاصة (ص120) على ما قيل في الرجل ويعقب على أقوالهم بقوله: [ فعندي في حديثه توقف و لا أعمل بروايته! ]
... فهذا الحديث من تحف هذا الكذاب الوضاع التي قدمها للإمامية الاثني عشرية! ثم إن هذا الرجل المفتضح الكذب ينطبق عليه المثل القائل أن حبل الكذب قصير، فعلى الرغم من أنه ذكر في سنده إلى المعصوم أسماء رواة جيدين مثل عبد الرحمن أبي نجران و صفوان بن يحيى إلا أنه أوصل السند بعدهما إلى اسحق بن عمار، و هو، كما نص عليه الشيخ الطوسي في الفهرست و ابن شهرآشوب في معالم العلماء و العلامة الحلي في الخلاصة، رجل فطحي المذهب، ناسيا أنه سيكون من الغريب جدا أن يكون اسحق بن عمار قد سمع فعلا هذا الحديث الطويل من الإمام الصادق - عليه السلام - الذي أكرمه به و أخبره فيه ليس فقط عن إمامة الإمام موسى الكاظم بل عرفه بكل الأئمة بعده، و مع ذلك بقي فطحي المذهب أي غير عارف لإمامة الإمام الكاظم بل معتقدا بإمامة عبد الله الأفطح (1)!! كيف يمكن لرجل سمع مثل هذا الحديث الطويل المليء بالوعيد و التهديد و كأنه صادر عن جبار متغطرس لا عن الله الرحمن الرحيم حيث وصل في تهديده إلى القول بأن من أنكر إمامة واحد من الأئمة فكأنه أنكر جميع نعم الله، سمعه و رواه للآخرين و مع كل ذلك يبقى فطحي المذهب ؟؟!! أجل إن الله تعالى يريد أن يفضح كذب الكاذبين الذين يريدون إضلال الناس فيضلهم الله و صدق سبحانه: { انظر كيف كذبوا
__________
(1) هو عبد الله بن الإمام جعفر الصادق لقب بالأفطح لأنه كان أفطح الرأس أو أفطح الرجلين، و قد صار جمع من شيعة جعفر الصادق إلى القول بإمامته بعد وفاة أبيه و عرفوا لهذا بالفطحية (مت)(130/15)
على أنفسهم و ضل عنهم ما كانوا يفترون } الأنعام /29. و العجيب أيضا أن دعاء الإمام الصادق له فيآخر الحديث "يصنك الله ويصلح بالك" لم يستجب ، و مات الرجل فطحيا!! كيف يمكن تصديق أن يروي أحد أصحاب الإمام الصادق - عليه السلام - المقربين عنه مثل هذا الحديث ثم مع ذلك لا يعرف من هو الإمام بعد الإمام الصادق ؟؟!!
...(130/16)
( الحديث الرابع
( الحديث الخامس
( الحديث السادس
( الحديث السابع
الحديث الرابع: أخرج الصدوق أيضا حديثا آخر عن جابر و رؤيته للوح بسند فيه نفس جعفر بن محمد بن مالك سيء الذكر الذي عرفت هويته آنفا فقال: [ حدثنا علي بن الحسين بن شاذويه المؤدب و أحمد بن هرون القاضي رضي الله عنه قالا حدثنا محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري عن أبيه جعفر بن محمد بن مالك الفزاري الكوفي عن مالك السلولي عن عبد الحمي دعن عبد الله بن القاسم بن عبد الله بن جبله عن أبي السفايح عن جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد الباقر - عليه السلام -: عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: دخلت على مولاتي فاطمة عليها السلام و قدامها لوح يكاد ضوؤه يغشى الأبصار فيه اثني عشر اسما ثلاثة في ظاهره و ثلاثة في باطنه و ثلاثة أسماء في آخره و ثلاثة أسماء في طرفه فعددتها فإذا هي اثني عشر فقلت من أسماء هؤلاء ؟ قالت: هذه أسماء الأوصياء... ](1).
__________
(1) عيون أخبار الرضا: ج1 / ص 51.(131/1)
... قلت: وجود جعفر بن محمد بن مالك: الكذاب الوضاع المتروك الحديث الفاسد المذهب.. (كما مر) يغنينا عن البحث الزائد في الحديث، يضاف إليه وجود عبد الله بن القاسم، و هو اسم لعدة رواة، فإذا كان الحضرمي منهم فقد تقدم أنه كذاب غال يروي عن الغلاة (1)، و أما الراويان قبلهما أي "مالك السلولي" و "عبد الحميد" فمجهولان لا ذكر لهما في كتب الرجال. و مع ذلك نقول أن متن الحديث يفيد أن أسماء الأئمة في اللوح ليست مرتبة، و هذا مخالف للروايات السابقة التي تذكرهم مرتبين مع شيء من صفاتهم، فأين الصواب؟! ألا يدل هذا الاضطراب الفاضح في القصة على أنها مختلقة من أساسها ؟ والحقيقة أن كل ما ورد في كتب الحديث من روايات حول موضوع اللوح ورؤية جابر بن عبد الله له، وضعها من حيث رجال السند و من حيث المتن كوضع هذه الرويات الأربعة التي ناقشناها إلى الآن.
__________
(1) انظر قاموس الرجال ج6 / ص 103،و تنقيح المقال: ج 2/ ص 203، و نقد الرجال: ص 204.(131/2)
... الحديث الخامس: من الأحاديث الأخرى التي أخرجها الشيخ الصدوق في كتابيه إكمال الدين و عيون أخبار الرضا و التي ذُكرت فيها أسماء الأئمة الاثني عشر بصراحة، الحديث التالي: [ حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحق قال حدثنا محمد بن همام قال حدثنا أحمد بن مابندار قال حدثنا أحمد بن هلال عن محمد بن أبي عمير عن المفضل بن عمر عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين - عليه السلام - قال: قال رسول الله: لما أسري بي إلى السماء أوحَى إليَّ ربِّي جلَّ جلاله فقال: يا محمد! إني اطلعت إلى الأرض اطلاعةً فاخترتك منها فجعلتك نبيا و شققت لك من اسمي اسما فأنا المحمود و أنت محمد، ثم اطلعت الثانية فاخترت منها عليا و جعلته وصيك وخليفتك و زوج ابنتك و أبا ذريتك شققت له اسما من أسمائي فأنا العلي الأعلى و هو علي، و خلقت فاطمة والحسن و الحسين من نوركما، ثم عرضت ولايتهم على الملائكة فمن قبلها كان عندي من المقربين. يا محمد لو أن عبدا عبدني حتى ينقطع و يصير كالشن البالي ثم أتاني جاحدا لولايتهم فما أسكنه جنتي و لا أظله تحت عرشي، يا محمد تحب أن تراهم ؟ قلت: بلى، فقال عز و جل: ارفع رأسك. فرفعت رأسي و إذا أنا بأنوار علي و فاطمة والحسن و الحسين و علي بن الحسين و محمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر و علي بن موسى و محمد بن علي و علي بن محمد و الحسن بن علي ومحمد بن الحسن القائم في وسطهم كأنه كوكب دري. قلت: يا رب! و من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الأئمة و هذا القائم الذي يحلِّل حلالي و يحرِّم حرامي و به أنتقم من أعدائي و هو راحة أوليائي و هو الذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين و الجاحدين و الكافرين فيخرج اللات و العُزَّى طريين فيحرقهما ولفتنة الناس يومئذ بهما أشد من فتنة العجل و السامري ] (1)
__________
(1) عيون أخبار الرضا: الباب السادس، ج1 / ص 60 ـ 61. (مت).(131/3)
... قلت: هذا الحديث الواضح الاختلاق روي عن رجل مطعون به وملعون من قبل كبار علماء الشيعة و هو أحمد بن هلال المولود سنة 180 هـ و المتوفى سنة 267 هـ و فيما يلي قول علماء الرجال فيه:
1) قال الشيخ الطوسي في الفهرست: [ أحمد بن هلال مات سنة 276هـ كان غاليا متهما ]
2) و قال عنه في كتابه التهذيب أيضا: [ أحمد بن هلال مشهور باللعنة و الغلوّ]
3) و قال عنه أيضا في رجاله: [ أحمد بن هلال بغدادي غال ]. و أحمد بن هلال هذا الذي روى الحديث لُعِنَ من قِبَل الإمام الثاني عشر، كما رجع عن قوله بالإمامة، و هذا من العجيب الذي لا يعقل أن يروي شخص حديثا مثل هذا فيه النص على الأئمة الاثني عشر بأمر الله ثم هو نفسه لا يعتقد بإمامتهم ألا يدل هذا بحد ذاته على أنه كان يعرف نفسه أنه يكذب ؟؟
... قال الشيخ الطوسي - رضي الله عنه - في كتابه "الغيبة" أنه لما ادعى "محمد بن عثمان" (أحد الوكلاء الأربعة) النيابة لإمام الزمان (في غيبته الصغرى) بعد وفاة أبيه عثمان بن سعيد، أنكر أحمد بن هلال ذلك و قال: [لم أسمعه ينص عليه بالوكالة] فقيل له إذا لم تسمع أنت فقد سمع غيرك، فقال: فأنتم و ما سمعتم! و توقف على الإمام محمد التقي و لم يقل بإمامة من بعده لذا لعنوه وتبرؤوا منه، ثم خرج توقيع من الناحية المقدسة بواسطة الحسين بن روح بأن الإمام لعنه!. يقول الشيخ الطوسي أن هذا دليل على أنه رجع عن القول بالأئمة الاثني عشر و وقف على حضرة الإمام التقي، و ليس هذا فقط، بل يدل ما أورده الصدوق في نفس كتابه إكمال الدين على نصبه حيث روى فقال: [ سمعت سعد بن عبد الله يقول: ما سمعنا و لا رأينا متشيعا يرجع من الشيعة إلى النصب إلا أحمد بن هلال! ].
... و الآن لنلق نظرة على متن الحديث:(131/4)
... يذكر الحديث أنه لما أسري به (صلى الله عليه وآله) إلى السماء كان أول ما أوحى إليه ربه أن قال: إني اطلعت إلى الأرض اطلاعة! هذا مع أن الله تعالى بكل شيء محيط و مثل هذا التعبير لا يمكن صدوره عنه تعالى، ثم يقول و شققت لك من اسمي اسما فأنا المحمود و أنت محمد، هذا مع أنه لا يوجد في القرآن و لا في أي حديث نبوي أن من أسماء الله تعالى: "محمود"! هذا ثم لا مجال للامتنان على الرسول بتسميته محمدا و أنه اشتق اسمه من اسمه، فتواريخ العرب قبل الإسلام تذكر العشرات ممن كان اسمهم محمدا قبل الرسول (صلى الله عليه وآله) و نفس الشيء بالنسبة لاسم علي - عليه السلام -.
... و أظهر علامات الوضع في الحديث ما جاء في آخره من أن من علامات القائم أنه سيخرج اللات و العزَّى طريين فيحرقهما! و هو إشارة لما ورد في حديث مكذوب موضوع آخر الذي يقول أن حضرة القائم سيخرج أبا بكر وعمر (رضي الله عنهما) من قبريهما و يحرقهما (1) !! و يبدو أن الله عمل بالتقية هنا و استعار تعبير اللات و العزَّى ليوري بهما عن ذينك الخليفتين!! أجل بأحاديث فيها مثل هذه التُرَّهات و الهذيان يستمسك القائلون بالنص بالاسم على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)!
__________
(1) لأنه لن يكون في ذلك اليوم أي أثر للات و العزى الصنمين الجاهليين و لا لعبادتهما، فلا معنى لاخراجهما و حرقهما إلا أن يكون المقصود بالكلام شيء آخر كما ذكر (طبا) أي وحاشا أئمة العترة أن يقولوا بمثله(مت)(131/5)
... الحديث السادس: من الأحاديث الأخرى التي تذكر نص الرسول (صلى الله عليه وآله) الصريح على أسماء الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) ما أخرجه الصدوق أيضا في إكمال النعمة و نقله المجلسي كذلك في بحار الأنوار (ج2/ص158من طبعة تبريز) و الحر العاملي في كتابه إثبات الهداة (ج2/ص372) فقال: [ حدثنا غير واحد من أصحابنا قالوا حدثنا محمد بن همام عن جعفر بن محمد بن مالك الفزاري قال حدثنا الحسن بن محمد بن سماعة عن أحمد بن الحرث قال حدثني الفضل بن عمر عن يونس بن ظبيان عن جابر بن يزيد الجعفي قال سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: لما أنزل الله عز و جل على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله): يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم، قلت يا رسول الله! عرفنا الله و رسوله فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك ؟ فقال - عليه السلام -: خلفائي يا جابر و أئمة المسلمين بعدي أولهم علي بن أبي طالب ثم الحسن و الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر و ستدركه يا جابر فإذا لقيته فأقرئه مني السلام ثم الصادق جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر ثم علي بن موسى ثم محمد بن علي ثم علي بن محمد ثم الحسن بن علي ثم سميي و كنيي حجة الله في أرضه و بقيته في عباده ابن الحسن بن علي ذلك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض و مغاربها ذلك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه له غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه للإيمان، قال جابر: فقلت يا رسول الله! فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته ؟ فقال (صلى الله عليه وآله): أي و الذي بعثني بالنبوة إنهم ليستضيئون بنوره و ينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس و إن تجللها سحاب، يا جابر هذا من مكنون سر الله و مخزون علم الله فاكتمه إلا عن أهله.](131/6)
... ثم يذكر عقب هذاالحديث قصة ملاقاة حضرة الباقر لجابر. و فيما يلي دراسة لسند الحديث و بعدها دراسة لمتنه:
1) أول راو في سلسلة السند: "محمد بن همام"، جاء ذمه في قاموس الرجال (ج8/ص428) بأنه ((كان أحمد بن الحسين يضع الحديث، و محمد بن همام يروي عنه!)) أي أنه كان مروجا للموضوعات!
2) الراوي الثاني في سلسلة السند: جعفر بن محمد بن مالك الذي مر معنا شدة طعن الرجاليين فيه حتى قالوا عنه أنه كان كذابا وضاعا متروك الحديث غاليا فاسد المذهب في مذهبه ارتفاع و كل عيوب الضعفاء فيه، و على قول الشاعر: ما تفرق من المحاسن في غيرك اجتمع فيك!! (راجع ترجمته ذيل الحديث رقم 3).(131/7)
3) و الراوي الثالث: الحسن بن محمد بن سماعة: ذكره الشيخ الطوسي في الرجال و قال أنه كان واقفيا(1) و أنه توفي سنة 263 هـ أي بعد ثلاث سنوات من وفاة حضرة الحسن العسكري، كذلك نص في الفهرست على أنه كان واقفي المذهب، بل إن النجاشي قال عنه في رجاله أنه: [ من شيوخ الواقفة... و كان يعاند في الوقف و يتعصب! ]، ثم يذكر النجاشي رواية تؤكد واقفية الحسن بن سماعة فيروي بسنده عن: [ أحمد بن يحيى الأودي قال: دخلت مسجد الجامع لأصلي الظهر فلما صليت رأيت حرب بن الحسن الطحان و جماعة من أصحابنا جلوسا فملت إليهم و سلمت عليهم و جلست و كان فيهم الحسن بن سماعة فذكروا أمر الحسن بن علي - عليه السلام - و ما جرى عليه ثم من بعد زيد بن علي و ما جرى عليه، و مضى رجل غريب لا نعرفه فقال يا قوم: عندنا رجل علوي بسر من رأى من أهل المدينة ما هو إلا ساحر أو كاهن!، فقال له ابن سماعة: بمن يُعرَف ؟ قال: علي بن محمد بن الرضا.]، ثم يذكر الرجل الغريب كرامة باهرة صدرت عن الإمام المشار إليه ـ أي علي النقي ـ بسر من رأى ( أي سامراء الحالية ) فينكرها الحسن بن محمد بن سماعة لعناده ـ على حدقول الراوي ـ لإمامة علي النقي! (2) فهل من الممكن لمثل هذا أن ينقل عن جابر مثل هذا الحديث ( الذي فيه النص على الأئمة الاثني عشر بأسمائهم و أنهم أولو الأمر الذين فرض الله طاعتهم )، مع أنه كان و بقي من المتعصبين في عقيدته بتوقف الإمامة عند موسى الكاظم - عليه السلام - ؟!
__________
(1) الواقفة هم الذين وقفوا على إمامة موسى (الكاظم)(ع) و أنكروا إمامة بقية الأئمة الاثني عشر بعده.(مت)
(2) الرجال للنجاشي: ص 32 ( طهران: مركز نشر كتاب ) (مت)(131/8)
... و قد جاء سند الحديث مختلفا في نسخة إكمال الدين للصدوق حيث ذكر: الحسن بن محمد بن الحرث عن سماعة ؛ و على فرض أن هذا السند هو الأصح، فإن نفس الإشكال باق لأن سماعة هذا، الذي هو سماعة بن مهران، كان واقفيا أيضا! و يستحيل أن يكون الشخص، الذي عنده مثل هذه الرواية عن الصادقين، واقفيا! و عليه فمن اليقيني أن جعفر بن محمد بن مالك الذي وضع الحديث ينطبق عليه المثل القائل: حبل الكذب قصير، حيث نسي فذكر في سند حديثه مثل هؤلاء الرواة.
... أما متن الحديث: فأولا: من المستبعد أن يكون جابر بن يزيد الجعفي قد أدرك جابر بن عبد الله الأنصاري في سن التمييز، حيث، كما قلنا، كانت وفاة جابر بن عبد الله سنة 74 هـ، أي قبل ستين عاما من وفاة جابر بن يزيد.
... و ثانيا: في آخر الحديث نلاحظ أنه تم تحاشي ذكر الإمام القائم باسمه، لا ندري لعل ذكره باسمه كان حراما أيضا على رسول الله (صلى الله عليه وآله)!! ثم ذكر أن الله تعالى يفتح على يدي القائم مشارق الأرض و مغاربها وأنه يغيب غيبة..إلخ، و إذا لم يكن القارئ للحديث مطلعا على عقيدة الشيعة الإمامية، فإنه يتبادر لذهنه من ظاهر هذا الحديث أن الفتح يكون أولا ثم الغيبة بعده! و لا ندري أنقول أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) الذي هو أفصح من نطق بالضاد، لم يحسن بيان القضية!! (حاشاه من ذلك)، أو أن جعفر بن محمد بن مالك واضع الحديث لم ينتبه جيدا أثناء تلفيقه ألفاظ الحديث!؟.(131/9)
... وثالثا: جاء في آخر الحديث قول الرسول (صلى الله عليه وآله) لجابر: [ يا جابر! هذا من مكنون سر الله و مخزون علمه فاكتمه إلا عن أهله!! ]، والظاهر من هذا أن الحديث تم في خلوة خاصة بين الرسول(صلى الله عليه وآله) و&nbssp;جابر! ونسأل: مثل هذا الحديث الذي هو بيان لآية كريمة هي خطاب إلهي لجميع المسلمين على وجه الأرض بأن: { أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم } فيعرفنا الرسول(صلى الله عليه وآله) بأولي الأمر حتى نطيعهم و لا نعصهم فنعص الله تعالى و نستحق عذاب النار خالدين فيها طبقا لقوله سبحانه: { ومن يعص الله و رسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا } الجن/ 23، وحتى لا نضل بطاعة غيرهم ممن قد يكونوا ممن نهانا الله عن طاعتهم، كما قال سبحانه: { و إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله..} الأنعام /116 ؛ هل يصح أن يكون سرا و يُبَلَّغَ في خلوة لفرد أو أفراد ؟؟ أهكذا يكون إبلاغ رسالات الله و دينه ؟ أم هكذا تقوم حجة الله تعالى على عباده ؟؟ أجل لا يمكن لكذبة مخرفين من أمثال جعفر بن محمد بن مالك أو أحمد بن الحسين إلا أن يلفقوا مثل هذا النوع من الأكاذيب و يخترعوا للناس حججا إلهية سرية مخفية!! (1)
__________
(1) امتدح الله تعالى نبيه الكريم (ص) بأنه ليس بخيلا في نشر كل ما أعلن إليه بالوحي من الغيب فقال عز من قائل: { و ما هو على الغيب بضنين} التكوير/24، بل حرم الله تعالى في كتابه كتمان أي أمر من حقائق الدين أشد التحريم و لعن فاعل ذلك فقال: { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات و الهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاعنون} البقرة / 159 ، و نحو ذلك في البقرة/ 174، و آل عمران/ 187. كما أمر الله تعالى رسوله أن ينذر جميع الناس على سواء دون تمييز في الإبلاغ فقال: {فقل آذنتكم على سواء..} الأنبياء/109. و كل هذا ينفي بشدة أن يكتم النبي بيان أصول الدين و حقائق الشريعة التي فيها هداية الناس أو يختص بها بعض الناس دون الآخرين أو أن يأمر بكتمانها؟؟!! (برقعي)(131/10)
... و رابعا: من جملة ما جاء في هذا الحديث الموضوع، و في أحاديث أخرى أيضا تخبر عن غيبة القائم، عبارة: [ أي و الذي بعثني بالنبوة إنهم ليستضيئون بنوره و ينتفعون في غيبته كانتفاع الناس بالشمس و إن جللها السحاب! ] والواقع أن هذا كلام لا يثبت إلا بتلفيقات فلسفية عرفانية و هو تشبيه غير صحيح من عدة وجوه:
1) الشمس رغم كونها خلف السحاب إلا أن وجودها محسوس لكل إنسان وأثرها ظاهر ملموس بعكس الإمام القائم.
2) الشمس لا تختفي وراء السحب إلا مدة ضئيلة ثم تظهر، لذلك يؤمن بوجودها الناس، أما لو غابت و استمر غيابها مئات السنين فلكثيرين أن يتصوروا فناءها، ومثل هذا لا يقول به المعتقدون بإمامة الإمام القائم، بشأنه.
3) الشمس إذا استترت وراء الحجب في بعض نقاط الأرض فإنها تكون ظاهرة للملايين في نقاط أخرى من المعمورة و هذا لا ينطبق على الإمام القائم.
4) كل شيء على الأرض ينتفع من حرارة الشمس و نورها، لا فرق بين أن تكون ظاهرة للعيان أم مستترة أحيانا وراء السحب، فالنباتات و الحيوانات و البشر و البحار و التربة كلها تنتفع من الشمس، على الدوام، بمنافع لا تحصى، و ليس هكذا أبدا بالنسبة للإمام القائم، فلا ينتفع الناس أثناء غيبته بأي من المنافع التي ترتجى من وجود الإمام كإحياء معالم الدين و إماتة البدع و إبطال الخرافات والشبهات و هداية الناس و بيان أحكام الشرع و تشكيل الحكومة الإسلامية وترويج الإسلام و إقامة الجهاد و تطبيق الحدود و إقامة الجمعة و الجماعات و دفع شر الأشرار و النهي عن المنكرات... فليست القضية أن الناس محرومون من رؤيته فقط أما منافعه فموجودة ( كالشمس أحيانا ) بل إنهم محرومون من رؤيته و من منافعه أيضا، و لا فائدة منه في حال غيبته إطلاقا! هذا ما يشهد به العقل والوجدان و يدل عليه المنطق والبرهان عند ذوي التجرد و الإنصاف.(131/11)
... الحديث السابع: حديث آخر أخرجه الشيخ الصدوق أيضا في كتابيه إكمال الدين و عيون أخبار الرضا و ننقله فيما يلي مختصرا من كتاب " إثبات الهداة " للشيخ الحر العاملي: (ج2/ص328):
... [ حدثنا أبو الحسن علي بن ثابت الدواليبي بمدينة السلام سنة 325 قال: حدثنا محمد بن الفضل النحوي قال حدثنا محمد بن علي بن عبد الصمد الكوفي قال حدثنا علي بن عاصم عن محمد بن علي بن موسى - عليه السلام - عن أبيه علي بن موسى عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام قال: دخلت على رسول الله و عنده أُبَيُّ بن كعب فقال رسول الله: مرحبا بك يا أبا عبد الله يا زين السموات و الأرض، فقال أُبَيٌّ: و كيف يكون يا رسول الله زين السموات و الأرض أحد غيرك ؟ فقال: يا أُبَيّ والذي بعثني بالحق نبيا إن الحسين بن علي في السماء أكبر منه في الأرض فإنه مكتوب عن يمين العرش: مصباح هدى و سفينة نجاة و إمام خير ويمن و عز و فخر وعلم وذخر، و إن الله ركب في صلبه نطفة طيبة مباركة زكية خلقت من قبل أن يكون مخلوق في الأرحام و يجري ماء في الأصلاب و يكون ليل و نهار....و قد لُقِّنَ دعوات ما يدعو بهن مخلوق إلا حشره الله عز وجل معه، وكان شفيعه في آخرته، و فرج الله عنه كربه و قضى بها دينه و يسر أمره وأوضح سبيله وقواه على عدوه و لم يهتك ستره، فقال أبي بن كعب: و ما هذه الدعوات يا رسول الله ؟ قال: تدعو إذا فرغت من صلاتك و أنت قاعد:" اللهم إني أسألك بكلماتك و معاقد عرشك و سكان سمواتك و أنبيائك و رسلك أن تستجيب لي، فقد رهقني من أمري عسرا فأسألك أن تصلي على محمد و آل محمد و أن تجعل لي من أمري يسرا " فإن الله عز و جل يسهل أمرك و يشرح صدرك ويلقنك شهادة أن لا إله إلا الله عند خروج نفسك...، فقال له أُبَيّ: يا رسول الله ما هذه النطفة التي في صلب حبيبي الحسين ؟ قال:(131/12)
مثل هذه النطفة كمثل القمر و هي نطفة تبيين و بيان يكون من اتبعه رشيدا و من ضل عنه هويا، قال: وما اسمه ؟ قال: اسمه علي و دعاؤه: يا دائم يا ديموم....، فقال له يا رسول الله فهل له من ذرية و من خلف أو وصيٍّ؟ قال: نعم، له مواريث السموات والأرض قال: و ما معنى مواريث السموات و الأرض؟ قال: القضاء بالحق والحكم بالديانة و تأويل الأحلام وبيان ما يكون، قال: فما اسمه ؟ قال: اسمه محمد....، ركب الله في صلبه نطفة مباركة زكية و أخبرني جبرئيل إن الله طيبَ هذه النطفة و سماه جعفرا وجعله هاديا مهديا و راضيا مرضيا يدعو ربه فيقول في دعائه:....، يا أُبَيّ إن الله ركب في هذه النطفة نطفة زكية مباركة طيبة أنزل عليها الرحمة سماها عنده موسى و إن الله ركب في صلبه نطفة مباركة طيبة زكية مرضية سماها عنده عليا يكون لله في خلقه رضيا في علمه و حكمه ويجعله حجة لشيعته يحتجون به يوم القيامة و له دعاء يدعو به....، و إن الله عز و جل ركب في صلبه نطفة طيبة مباركة زكية راضية مرضية و سماها محمد بن علي فهو شفيع لشيعته و وارث علم جده....و إن الله تبارك و تعالى ركب في صلبه نطفة مباركة طيبة زكية راضية مرضية لا باغية و لا طاغية بارة مباركة طيبة طاهرة سماها عنده علي بن محمد فألبسها السكينة و الوقار و أودعها العلوم و كل سر مكتوم....، و إن الله تبارك و تعالى ركب في صلبه نطفة طيبة وسماها عنده الحسن بن علي فجعله نورا في بلاده و خليفته في عباده و عزَّاً لأمة جده هاديا لشيعته و شفيعا لهم عند ربهم و نقمة على من خالفه و حجة لمن والاه وبرهانا لمن اتخذه إماما....، و إن الله ركب في صلب الحسن نطفة مباركة طيبة طاهرة مطهرة يرضى بها كل مؤمن قد أخذ الله ميثاقه في الولاية و يكفر بها كل جاحد، و هو إمام تقي نقي مرضي هاد و مهدي يحكم بالعدل و يأمر به يصدق الله عز و جل ويصدقه الله في قوله يخرج من تهامة حتى تظهر الدلائل والعلامات و له بالطالقان(131/13)
كنوز لا ذهب إلا خيول مطهمة و رجال مسوَّمة يجمع الله عز و جل له من أقاصي البلاد على عدد أهل بدر ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، معه صحيفة مختومة فيها عدد أصحابه بأسمائهم و أنسابهم وبلدانهم و طبائعهم وحلاهم و كناهم كدَّادون مجدون في طاعته. فقال له أُبَيّ: و ما دلائله وعلاماته يا رسول الله ؟ قال: له علم إذا حان وقت خروجه انتشر ذلك العلم من نفسه..... ] و في آخر الحديث: [ قال أُبَيّ: يا رسول الله كيف بيان حال هذه الأئمة عن الله عز و جل ؟ قال: إن الله عز و جل أنزل عليَّ اثنا عشر صحيفة اسم كل إمام في خاتمه و صفته في صحيفته ].
... و قد تضمن الحديث ذكر دعاء خاص يدعو به كل إمام من الأئمة ويبين رسول الله ثوابه العظيم (!) لأُبَيّ، و لما كان الحديث طويلا جدا أعرضنا عن ذكر كل الأدعية طلبا للاختصار و اكتفينا بما ذكرناه منه ومن رغب بالوقوف عليه بتمامه فيمكنه الرجوع لعيون أخبار الرضا: ج 1/ ص62ـ 65، أو إكمال الدين: ص 266 أو الجزء التاسع من بحار الأنوار ( طبعة تبريز القديمة).
... و الآن لنبدأ بدراسة سند الحديث:
1) الراويان الثاني و الثالث في سلسلة السند و هما: محمد بن الفضل النحوي ومحمد بن علي بن عبد الصمد الكوفي، ليس لهما ذكر في كتب رجال الشيعة ولا ندري من كانا و ما حالهما؟(131/14)
2) أما علي بن عاصم فله ذكر في كتب رجال الشيعة و كتب رجال العامة (أي السنة) و كلاهما نسبه للتشيع، فذكر الممقاني في تنقيح المقال ( ج2/ ص294) أنه كان من شيوخ الشيعة المتقدمين و أنه أُخِذَ في زمن المعتضد العباسي مع جماعة من أصحابه مغلولا إلى بغداد بتهمة التشيع و سجن ومات في السجن. و قال عنه الفاضل محمد الأردبيلي في جامع الرواة (ج1/ص588): [ علي بن عاصم بن صهيب الواسطي التميمي مولاهم صدوق يخطئ و يصر، و رمي بالتشيع من التاسعة، مات سنة إحدى و مائتين و قد جاوز التسعين. قاله ( ابن حجر ) في التقريب. و قال الذهبي... ضعَّفوه و مات سنة 201هـ ] اهـ. مختصرا. ولكن هذا التعريف له لا ينطبق على علي بن عاصم الذي نحن في صدده و الذي قال الممقاني أنه أخذ في زمن المعتضد، ذلك أن المعتضد إنما ولي الخلافة سنة 279هـ(1) أي بعد 78 سنة من موته! بالإضافة إلى أن الإمام محمد بن علي التقي ـ الذي يروي عنه محمد بن عاصم مباشرة هذا الحديث ـ ولد سنة 195هـ، و بالتالي فعند وفاة علي بن عاصم هذا كان عمر الإمام ست سنوات فقط! فعلي بن عاصم المتوفى سنة 201هـ كان معاصرا للإمام الرضا لا لابنه محمد، فمن غير المعقول أن يرجع في الرواية إلى ابنه الصغير الذي كان عمره، على أكثر تقدير، ست سنوات! عوضا عن الرجوع للرضا الذي كان مرجع الشيعة في ذلك العصر! فمن المقطوع به أن الذي قبض عليه زمن المعتضد غير علي بن عاصم المترجم له في كتب رجال العامَّة، و بالتالي لا ندري من هو و ما حاله بالضبط ؟
__________
(1) انظر المنتظم في تاريخ الأمم لابن الجوزي:ج12/ص305 (بيروت، 1412هـ/1992) (مت)(131/15)
3) و أخيرا فالسند ينتهي إلى حضرة الإمام الحسين - عليه السلام - الذي سمعه من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) مباشرة، عندما كان عنده أبي بن كعب فقط! و هذا الأمر فيه إشكال من عدة وجوه: 1ـ لماذا لم يُسمَع هذا الحديث من أحد من الأئمة قبل الإمام محمد التقي حتى أباح به لشخص واحد فقط هو علي بن عاصم المجهول الهوية بل ربما معدوم الوجود ؟!
... 2ـ لماذا لم يرو أبي بن كعب هذا الحديث و لم يسمعه أحد منه مع أنه الوحيد الذي حظي بسماعه، خاصة أن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يأمره بكتمانه و صيانته عن غير أهله! كما أمر جابرا في حديث تفسير أولي الأمر ؟! إن هذا كتمان لما أنزل الله من البينات و هذا لا يمكن أن يفعله أُبيّ الذي كان من خيار الصحابة و محبي أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله)!
... 3ـ الحديث يتضمن أدعية اختص بها كل إمام، فلو فرضنا أن ذكر أسماء الأئمة كان ممنوعا لما فيه من خطر على حياتهم فهلا علم الرسول (صلى الله عليه وآله) و الأئمة من بعده الناس هذه الأدعية التي لها كل هذا الثواب العظيم، ليستفيدوا منها و ينالوا ثوابها العميم؟ مع أنها لم تسمع منهم في غير هذا الحديث، و مثل هذا البخل في إفادة الناس بعيد جدا عن ساحة الهداة إلى الله، أفليست هذه الاشكالات كلها دليل على أن الحديث موضوع من أساسه ؟.
... أما من ناحية متن الحديث فقرائن الوضع فيه كثيرة نذكر منها ما يلي:(131/16)
1) يروي عن حضرة الحسين قوله: دخلت على رسول الله و عنده أُبَيّ بن كعب فقال (صلى الله عليه وآله): مرحبا بك يا أبا عبد الله! في حين أن الحسين بن علي عليهماالسلام كانت سنه حين وفاته صلى الله عليه وآله وسلم ست سنوات، ومن غير المعلوم في أي سنة دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، و أيا كان فلا يمكن أن يخاطب الرسول طفلا صغيرا لم يتزوج بعد ولا و لد له: بأبي عبد الله! لأن الكنية إنما تطلق على الشخص بعد أن يصبح ذا ولد. و قطعا لم يكن للحسين هذه الكنية في ذلك السن. لكن واضع الحديث غفل عن هذه النقطة!
2) في الحديث يقول الرسول ((صلى الله عليه وآله) للحسين: يا زين السموات والأرض.. و يستشكل أُبَيّ هذا الوصف قائلا و هل أحد غيرك يا رسول الله زين السموات و الأرض ؟ هذا مع أنه لم يُسْمَع في أي حديث عن أي صحابي تلقيب الرسول أو وصفه بزين السموات و الأرض فضلا عن أن يُختَصّ الحسين بمثل هذا اللقب، بل الذي ورد في القرآن أن زينة السموات هي النجوم: {و لقد زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب}! و على فرض أن لها زينة غير ذلك فإذا كانت النبوة فهي غير منحصرة بسيدنا رسول الله(صلى الله عليه وآله) إذ هناك الكثيرون غيره من الأنبياء و إذا كانت الصلاح و الولاية فغير منحصرة بالحسين فقط. ثم إن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يجب على استشكال أُبَيّ إلا بقوله أن الحسين في السماء أكبر منه في الأرض، مع أن كثيرين هم في السموات أكبر منهم في الأرض و مع ذلك ليسوا زين السموات و الأرض! فالجواب لم يكن محكما في محله، (و حاشا رسول الله هذا الضعف في البيان ).(131/17)
3) اهتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذذا الحديث بتمجيد نطفة الحسين وبيان صفاتها و مقامها و كذلك نطفة من بعده حتى وصفت نطفة الإمام العاشر بإحدى عشر صفة! مما ينبغي لأجله أن يسمى هذا الحديث حقا بحديث النطفة!! و قد جعل نطفة الحسين مخلوقة قبل أن يجري ماء في الأصلاب أو يكون ليل و نهار!! فلا ندري أين كانت النطفة مستقرة إن لم تكن في الأصلاب ؟؟
4) في الحديث يذكر الرسول (صلى الله عليه وآله) لأُبَيٍّ دعاءً لُقِّنه الحسين و يبين له أن من دعا به حشره الله مع الحسين و كان الحسين شفيعه في آخرته وفرج الله كربه و قضى دينه و يسر أمره و أوضح سبيله و قواه على عدوه و.. و..إلخ! ثم يذكر دعاءً من عدة كلمات لا تزيد على السطرين و لا تخلو من ركاكة! فأي عقل و دين يقبل أن يكون لقراءة مثل هذين السطرين كل ذلك الأجر الكبير و الثواب العظيم!! و لماذا لم ينتفع الحسين نفسه بهذا الدعاء في تيسر أمره و فرج كربه و قوته على عدوه؟! هذا لوحده يكفي في الدلالة على وضع هذا الحديث و أن ما فيه من أدعية و ثواب عظيم على كل واحد منها ليس إلا من اختلاق أولئك الكذبة المخرفين الذين يريدون أن يغروا السذج بهذه الخرافات و يشجعوهم على ترك السعي و العمل و يفتحوا لهم باب الفسق و الفجور ثم الاعتماد على كلمتي دعاء للنجاة و نيل شفاعة الحسين!(131/18)
... و الأعجب من ذلك دعاء نطفة حضرة الباقر أي أن حضرة الصادق اختص بدعاء هو: يا ديَّان غير متوان... اجعل لشيعتي من النار وقاء ولهم عندك رضاء... و هب لهم الكبائر التي بينك و بينهم!! ثم قال: من دعا بهذا الدعاء حشره الله تعالى أبيض الوجه مع جعفر بن محمد إلى الجنة! حسنا علمنا أن لجعفر بن محمد شيعة و هو يدعو ربه لأجل شيعته، لكن سائر الناس ليس لهم شيعة، فما معنى أن يدعو كل مسلم فيقول: اللهم اجعل لشيعتي من النار وقاء.. و هب لهم الكبائر ؟!?ثم هل يغفر الله تعالى الكبائر بمجرد دعاء نطفة من سطرين ؟ و هل هذا إلا تجريء للناس على الخوض في الكبائر؟ انظر كيف سخر هذا الكذاب الوضاع للأحاديث من دين الله و من الناس و وضع على لسان الرسول (صلى ا لله عليه وآله و سلم) كل ما أوحاه له شيطانه.(131/19)
... و من اللازم أن نذكر هنا بأن كثيرا من أعداء الإسلام الألداء من اليهود والنصارى و الإيرانيين الذين بقوا علىمجوسيتهم أو أديانهم الأخرى الموروثة، والذين رأوا في هذا الدين و استقراره الخطر الأكبر المزلزل لبنيان أديانهم، وأدركوا أنه لا يمكنهم القضاء عليه بالعداوة الظاهرية المباشرة، لجأوا إلى التنكر بلباس الصديق و التظاهر بالإسلام ليتمكنوا عبر رواياتهم و أحاديثهم الموضوعة أن يدسوا في الإسلام سننهم و عاداتهم المجوسية أو اليهودية أو النصرانية... مغلفة بلباس إسلامي، و من هنا فإن كثيرا من الخرافات الرائجة اليوم بين المسلمين مصدرها أمثال هؤلاء المندسين الذين لم يكن كثير منهم عربا. وهذا ما يظهر بشأن واضع هذه الرواية التي يكشف التأمل في ألفاظها أن واضعها كان فارسيا و ذلك لأنه عوضا عن استخدام عبارة : "اغفر لهم الكبائر.." قال : "و هَبْ لهم الكبائر ..." في حين أنه لا يعبر أبدا ـ في العربية ـ عن طلب غفران الذنوب بتعبير: هب لهم! بل اغفر لهم، لأن الهبة عطاء لما هو خير و رحمة كقوله تعالى: {و هب لنا من لدنك رحمة } آل عمران/8، أو { هب لي من لدنك ذرية طيبة} آل عمران/38، أو {رب اغفر لي و هب لي ملكا} ص/35، و لكن لا يأتي في العربية أبدا تعبير "رب هب لي الفواحش و كبائر الذنوب!!" . ذلك أنه لا يوجد في اللغة العربية تجانس بين الألفاظ الدالة على معنى "العطاء و الهبة و الإهداء... " و بين الألفاظ الدالة على معنى "الغفران و الصفح و التجاوز" ، بعكس اللغة الفارسية التي يوجد فيها تجانس و تقارب بين ألفاظ المعنيين، ففي الفارسية يعبر عن كلا معنى العطاء و معنى الغفران بنفس الفعل و هو "بخشيدن" و " بخشودن" فنقول في الفارسية: "كناه او را ببخش": أي: اغفر له ذنبه، و نقول: "اين لباس به او ببخش" أي: أعطه هذا اللباس.(131/20)
... هذا التجانس في اللغة الفارسية هو الذي أوقع واضع الحديث ـ لعدم تمكنه من العربية ـ بهذا الخطأ الكبير في تعبيره "و هب لي الكبائر!!"، فالحديث من وضع رجل فارسي غير عربي أصلا فضلا عن أن يكون كلام إمام من الأئمة أو كلام نبي الإسلام (صلىالله عليه وآله وسلم) . (1)
__________
(1) واصل المؤلف ذكر انتقادات أخرى طويلة نسبيا لمتن الحديث، رأيت الاكتفاء بما ذكرته، طلبا للاختصار و ابتعادا عن التطويل الممل.(مت)(131/21)
( الحديث الثامن
( الحديث التاسع
( الحديث العاشر
الحديث الثامن: حديث آخر فيه التصريح بأسماء الأئمة الاثني عشر، أخرجه الشيخ الصدوق في كتابه إكمال الدين و نقله المجلسي في المجلد التاسع من البحار (ص158 من طبعة تبريز) و أورده الشيخ الحر العاملي أيضا في كتابه إثبات الهداة:
... [ حدثنا محمد بن موسى المتوكل قال حدثني محمد بن أبي عبد الله الكوفي الأسدي قال حدثنا موسى بن عمران النخعي عن عمه الحسين بن يزيد عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن الصادق جعفر بن محمد عن آبائهم عليهم السلام قال: قال رسول الله: حدثني جبرئيل عن رب العالمين جل جلاله أنه قال: من علم أنه لا إله إلا أنا وحدي و أن محمدا عبدي و رسولي وأن علي بن أبي طالب خليفتي و أن الأئمة من ولده حججي أدخلته الجنة برحمتي ونجيته من النار بعفوي و أبحت له جواريي و أوجبت له كرامتي و أتممت عليه نعمتي و جعلته من خاصتي و خالصتي إن ناداني لبيته و إن دعاني أجبته و إن سألني أعطيته و إن سكتَ ابتدأته و إن أساء رحمته و إن فرَّ منِّي دعوته و إن رجع إليَّ قبلته و إن قرع بابي فتحته، و من لم يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي أو شهد و لم يشهد أن محمدا عبدي و رسولي أو شهد و لم يشهد أن علي بن أبي طالب خليفتي أو شهد بذلك و لم يشهد أن الأئمة من ولده حججي فقد جحد نعمتي و صغَّر عظمتي و كفر بآياتي و كتبي، إن قصدني حجبته و إن سألني حرمته وإن ناداني لم أسمع نداه و إن دعاني لم أسمع دعاه و إن رجاني خيبته وذلك جزاؤه مني و ما أنا بظلام للعبيد، فقام جابر بن عبد الله الأنصاري فقال: يا رسول الله ومَنِ الأئمة مِنْ ولد علي بن أبي طالب؟ قال: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ثم سيد العابدين في زمانه علي بن الحسين، ثم الباقر محمد بن علي و ستدركه يا جابر و إذا أدركته فأقرئه مني السلام ثم الصادق جعفر بن محمد ثم الكاظم موسى بن جعفر ثم الرضا علي بن موسى ثم التقي محمد بن(132/1)
علي ثم الهادي علي بن محمد ثم الزكي الحسن بن علي ثم ابنه القائم بالحق مهدي أمتي يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا. هؤلاء يا جابر خلفائي و أوصيائي و أولادي و عترتي من أطاعهم فقد أطاعني ومن عصاهم فقد عصاني و من أنكر واحدا منهم فقد أنكرني بهم يمسك السموات أن تقع على الأرض إلا بإذنه و بهم يحفظ الأرض أن تميد بأهلها.]
... أما سند هذا الحديث:
1) ثاني راوي في سلسلة السند محمد بن أبي عبد الله الكوفي الأسدي هو محمد بن جعفر بن محمد بن عون الأسدي الذي يطلقون عليه محمد بن أبي عبد الله، نقل الممقاني في تنقيح الرجال (ج2/ص95) و التفرشي في نقد الرجال (ص 298) قول النجاشي عنه: [ كان ثقة صحيح الحديث إلا أنه روى عن الضعفاء و كان يقول بالجبر و التشبيه ]، ثم قال العلامة الحلي في الخلاصة: [ أنا في حديثه من المتوقفين ]، و كذلك ابن داود الحلي قال عنه في رجاله: [ فيه طعن أوجب ذكره في الضعفاء] ثم يبدي الممقاني رأيه فيعترف أولا قائلا: [ قوله بالجبر و التشبيه لو كان على حقيقته لأوجب فسقه بل كفره! ] لكنه يحاول عقب ذلك نفي هذه التهمة أو التخفيف منها ـ كما هو منهجه في التساهل بشأن الرواة ـ و توثيق الرجل بحجة أن الأصحاب القدماء رووا عنه إلخ...(132/2)
2 ) و هذا الأحمق المشبِّه المُفسَّق في اعتقاده المُتوقَّف ـ عند المحققين ـ في روايته روى عن شيخه موسى بن عمران النخعي الذي يبدو أنه نفس موسى النخعي الذي تعاون مع ذلك الكوفي الأسدي في صياغة الزيارة الجامعة الكبيرة المشحونة بالغلو و الجبر و التشبيه، ليهديانها للشيعة، هذا على الرغم من أن اسم موسى النخعي لم يذكر صريحا في كتب الرجال بل ذكر في سند الزيارة الجامعة باسم موسى بن عبد الله، لكن في عيون أخبار الرضا ذكره في سند الزيارة بعين هذا الاسم فقال: حدثنا موسى بن عمران النخعي قال: قلت لعلي بن موسى بن جعفر: علمني يا ابن رسول الله قولا أقوله بليغا إذا زرت واحدا منكم...، و من مشرب محمد بن جعفر يظهر أن موسى النخعي الذي أتى بالزيارة الجامعة هو نفس موسى النخعي الذي في سند هذا الحديث(1). و لعله وقع خطأ للنساخ في سند الزيارة الجامعة فصحفوا موسى بن عمران إلى موسى بن عبد الله نظرا لشدة التشابه بينهما ( خاصة في الخط الكوفي ) و على أي حال فقد روى موسى بن عمران أو موسى بن عبد الله حديث الباب عن عمه:
3 ) الحسين بن يزيد: و هو شخص متهم بالغلو، و معلوم أن الغلاة، طبقا للأحاديث الصحيحة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، أشد ضررا على الإسلام من اليهود و النصارى و المشركين، قال الممقاني في تنقيح المقال (ج1/ص349): [ قال النجاشي: حسين بن يزيد بن محمد بن عبدالملك النوفلي،.. و قال قوم من القميين أنه غلا في آخر عمره و الله أعلم. و قد روى عن الحسن بن علي بن أبي حمزة ]
__________
(1) انظر عيون أخبار الرضا: ج 2/ ص 305 (مت)(132/3)
4 ) أما الحسن بن علي بن أبي حمزة: فيجب الانتباه أولا إلى أن جده ليس أبا حمزة الثمالي، كما اشتبهت به بعض النسخ، بل هو أبو حمزة البطائني لأن أبا حمزة الثمالي ليس له ولد باسم علي و لا له حفيد باسم الحسن، كما صرح بذلك النجاشي في ترجمته في رجاله ( ص89) فقال: [ و أولاده ( أي أبو حمزة الثمالي ) نوح و منصور و حمزة قتلوا مع زيد ] (1). أما صاحبنا الحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني فقال عنه المرحوم الكشي في رجاله ـ كما ينقل ذلك الأردبيلي في جامع الرواة (ج1/ص208) و التفرشي في نقد الرجال (ص92): [ قال محمد بن مسعود: سألت علي بن الحسن بن فضال عن الحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني فقال: كذاب ملعون!... و إني لا أستحل أن أروي عنه حديثا واحدا، حكى لي أبو الحسن محمدويه بن نصير عن بعض أشياخه أنه قال الحسن بن علي بن أبي حمزة رجل سوء! ] ثم يذكرانِ قول ابن الغضائري عنه: [ أبو محمد واقف بن واقفي ضعيف في نفسه و أبوه أوثق منه و قال الحسن بن علي بن فضال: إني لأستحي من الله أن أروي عن الحسن بن علي ]. وقد روى المترجم له حديث الباب عن أبيه:
__________
(1) أو ج1/ص289 من الطبعة الجديدة المحققة، ترجمة ثابت بن أبي صفية الذي هو اسم أبي حمزة الثمالي (مت)(132/4)
5 ) علي بن أبي حمزة البطائني الذي تقدم أنه واقفي، بل نقل النجاشي في رجاله و العلامة الحلي في خلاصته قول ابن الغضائري فيه: [ علي بن أبي حمزة لعنه الله أصل الوقف وأشد الخلق عداوة للولي من بعد أبي ابراهيم ] أي بعد الإمام موسى الكاظم. هذا و قد أورد الكشي في ذمه روايات كثيرة فمن شاء فليرجع إليه، منها ما روى الكشي في رجاله (ص393) من قصة حضور علي بن حمزة هذا إلى محضر الإمام الرضا - عليه السلام - الذي رغم أنه أثبت له بالدلائل الواضحة أنه الإمام بعد أبيه الكاظم و أن أباه قد توفي حقا، لم يقبل منه و لم يعترف بإمامته! فأي أحمق يمكنه أن يصدق أن مثل هذا الشخص الذي عاش و مات واقفيا بل كان من شيوخ الواقفة، كان يعرف و يروي هذا الحديث الذي يذكر فيه النبي (صلى ا لله عليه وآله و سلم) صراحة اسم الإمام الرضا واسم من بعده من الأئمة حتى القائم و يؤكد أن [ من أنكر واحدا من حججي فقد جحد نعمتي و صغَّر عظمتي وكفر بآياتي و كتبي، و من أنكر واحدا منهم فقد أنكرني!..] و هو باق رغم ذلك على وقفه؟! حقا إننا لنتعجب ممن يصدق مثل هذا الحديث بهذا السند ويستدل به على عقيدته و مذهبه!
... أما من ناحية متن الحديث:
1) فأول قرينة على وضعه أنه يجعل معرفة الأئمة فقط شرط النجاة و نيل رحمة الله و نعمه و رضوانه، في حين أن النجاة ـ كما أكد القرآن الكريم مرارا وكما ورد في السنة و أحاديث الأئمة كثيرا ـ لا يكفي لأجلها مجرد الاعتقاد بل لا بد من أن يُشْفَعَ ذلك بالتقوى و العمل الصالح.(132/5)
2) واضح من الجملة الأخيرة للحديث: "من أنكر واحدا منهم فقد أنكرني، بهم يمسك السموات أن تقع على الأرض إلا بإذنه، و بهم يحفظ الأرض أن تميد بأهلها!!" أن "الحسين بن يزيد" المتهم بالغلو، يقوم بدس و تزريق عقيدته الغالية، فيجعل وجود الأئمة هو الحافظ للسموات من أن تسقط على الأرض، و لسائل أن يسأله: و لماذا لم تسقط السموات على الأرض قبل خلق الأئمة عليه السلام!! أما القرآن الكريم فيقول فيه - عز وجل -: { إن الله يمسك السماء أن تقع علىالأرض إلا بإذنه. إن الله بالناس لرؤوف رحيم} الحج/65، أي الرأفة و الرحمة الإلهية هي التي تحفظ الأجرام السماوية من السقوط على الأرض قبل أن يخلق أحد من الأئمة و بعد خلقهم...
3) و ثالثا: قوله فقام جابر بن عبد الله فسأله (صلى ا لله عليه وآله):...إلخ، و لرجل أن يتساءل: ما القصة في أن المهتم بهذا الأمر دائما هو جابر فقط؟! إن سياق الحديث يظهر منه أن الرسول(صلى ا لله عليه وآله) ألقى الحديث في مجلس، أفلم يكن في المجلس غير جابر حتى يقوم و يسأل ؟! هذا مع أن جابرا ينبغي أن يكون في غنى عن مثل هذا السؤال لأنه ـ حسب رواية هؤلاء الوضاعين ـ قد شاهد اللوح الذي فيه أسماء جميع الأئمة عند فاطمة ؟! ثم لماذا لم يُرْو لنا هذا الحديث من قبل أي صحابي آخر غير جابر ممن كان حاضرا في ذلك المجلس ؟ و من هنا قال سفيان الثوري أنهم وضعوا على لسان جابر بن عبد الله ثلاثين ألف حديثٍ لا يستحلُّ جابر أن يروي منها حديثا واحدا!! هذا مع أننا نوقن أن وضع هذا الحديث تم بعد عهد جابر، لكن يبدو أن الوضاع الملعون لم يكن يعرف صحابيا أشهر وأفضل من جابر فكان يذكره في آخر سلسلة سنده ليلقى حديثه القبول!
... الحديث التاسع: حديث آخر ذكرت فيه أسماء الأئمة الاثني عشر بصراحة، أخرجه الشيخ الطوسي في كتابه "الغيبة" فقال:(132/6)
... [ أخبرنا جماعة عن أبي عبد الله الحسين بن علي بن سفيان البزوفري عن علي بن سنان الموصلي العدل عن علي بن الحسين عن أحمد بن محمد بن الخليل عن جعفر بن أحمد المصري عن عمه الحسن بن علي عن أبيه عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عن أبيه الباقر عن أبيه ذي الثفنات عن أبيه الحسين الزكي الشهيد عن أبيه أمير المؤمنين قال: قال رسول الله في الليلة التي كانت فيها وفاته، لعلي: يا أبا الحسن أحضر صحيفة و دواة فأملى رسول الله و صيته حتى انتهى إلى هذا الموضع فقال يا علي: إنه سيكون بعدي اثنا عشر إماما و من بعدهم اثنا عشر مهديا (!) فأنت يا علي أول الاثني عشر إمام، سماك الله في سمائه عليا و المرتضى و أمير المؤمنين و الصديق الأكبر و الفاروق الأعظم والمأمون و المهدي فلا تصلح هذه الأسماء لأحد غيرك، يا علي أنت وصيي على أهل بيتي حيهم و ميتهم و على نسائي فمن ثبتَّها لقتني غدا و من طلقتها فأنا بريء منها لم ترني و لم أرها في عرصة القيامة و أنت خليفتي على أمتي من بعدي فإذا حضرتك الوفاة فسلمها إلى ابني الحسن البر الوصل فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابني الحسين الزكي الشهيد المقتول، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه زين العابدين ذي الثفنات علي، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد الباقر العلم، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه جعفر الصادق فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه علي الرضا فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد الثقة التقي و إذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه حسن الفاضل فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد المستحفظ من آل محمد فذلك اثنا عشر إماما، ثم يكون من بعده اثني عشر مهديا، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى أول المقربين، له ثلاثة أسامي: اسمه كاسمي و اسم أبيه اسم أبي و هو عبد الله و أحمد و الاسم الثاني المهدي هو أول المؤمنين ] (1)
__________
(1) الغيبة للشيخ الطوسي: ص 150، (قم: مؤسسة المعارف الإسلامية، 1411هـ)(132/7)
.
... و فيما يلي دراسة سند الحديث:
1) علي بن سنان الموصلي، قال عنه الممقاني في تنقيح المقال (ج2/ص291): [ليس له ذكر في كتب الرجال]، و قال عنه التستري في قاموس الرجال: [يستشم من وصفه بالعدل عاميته] يعني أنه يستشم من ذكر الطوسي له بعبارة: عن علي بن سنان الموصلي العدل، أنه من أهل السنة و ليس من الإمامية، و هذا أيضا من المستغرب و غير المعقول أن يروي عامي مخالف لعقيدة الإمامية مثل هذا الحديث و مع ذلك لا يقبله هو نفسه و لا يصير إلى القول بمفاده!!
2) علي بن الحسين الذي يروي عن أحمد بن محمد بن الخليل، أيضا لا ذكر له في كتب الرجال و بالتالي فهو مجهول.
3) أحمد بن محمد بن الخليل، قال عنه النجاشي: [ أبو عبد الله الآملي الطبري ضعيف جدا لا يُلتَفَت إليه ](1)، و قال عنه الغضائري: [ أحمد بن محمد الطبري أبو عبد الله الخليلي كذاب وضاع للحديث فاسد لا يُلتَفَت إليه ](2)، و روى حديثه عن جعفر بن محمد البصري و جعفر رواه عن عمه الحسن بن علي بن أبي حمزة (البطائني) الذي تقدم بيان حاله في الحديث السابق وأنه كذاب ملعون و أنه و أباه واقفياَّن متعصبان في الوقف، فدرجة هذا الحديث و قيمته تظهر من رواته! فلاحظ عزيزي القارئ أي نوع من الأحاديث تلك التي يسوقونها لإثبات النص على الأئمة، أحاديث يرويها عدة مجاهيل عن كذبة وضاعين عن واقفة!
... أما متن الحديث: فأغرب و أعجب ما فيه أنه أهدى للشيعة اثني عشر مهديا بعد الإمام الثاني عشر الذي يفترض أنه هو المهدي!!، بل قال عن الإمام الثاني عشر: [فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى أول المقربين..] فأثبت الوفاة للإمام الثاني عشر الذي ألف الطوسي كل كتابه هذا لإثبات حياته و غيبته!!
__________
(1) رجال النجاشي: ج1 / ص 243. (مت)
(2) انظر ذلك مثلا في جامع الرواة: ج1/ص 58. (مت)(132/8)
... أجل بمثل هذه الأحاديث المتهافتة المنقولة عن عدة من المجاهيل والوضاعين الكذبة و التي تُنسَب زورا و بهتانا للإمام الصادق - عليه السلام - ، بتصور كل وضاع كذاب أن بإمكانه أن يروِّج أكاذيبه باسم الصادق - عليه السلام -، أوجدوا مثل هذه العقيدة و فرقوا الأمة و أوقعوها في الفتن و النزاعات!
... الحديث العاشر: أورده العلامة المجلسي في بحار الأنوار (ج4/ص54 من طبعة تبريز الحجرية) والسيد هاشم بن سليمان البحراني في غاية المرام (الباب 62: ص 60) فقال:
... [ قال ابن بابويه: حدثنا الحسن بن علي قال حدثنا هرون بن موسى قال أخبرنا محمد بن الحسن الصفار عن يعقوب بن يزيد عن محمد بن أبي عمير عن هشام قال: كنت عند الصادق إذ دخل عليه معاوية بن وهب و عبد الملك بن أعين فقال معاوية بن وهب: يا ابن رسول الله! ما تقول في الخبر الذي روي أن رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) رأى ربه، على أي صورة رآه ؟ و عن الحديث الذي رووه أن المؤمنين يرون ربهم في الجنة، على أي صورة يرونه؟ فتبسم ثم قال: يا معاوية! ما أقبح الرجل الذي يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون.... (إلى أن قال) إن أفضل الفرائض و أوجبها على الإنسان معرفة الرب و الإقرار له بالعبودية... (إلى أن قال) وأدنى معرفة الرسول الإقرار بنبوته... وبعده، معرفة الإمام بعد رسول الله علي بن أبي طالب و بعده الحسن و الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي ثم أنا ثم بعدي موسى ابني ثم بعده علي وبعد علي محمد ابنه و بعد محمد علي ابنه و بعده الحسن ابنه و الحجة من وُلْدِ الحسن. ثم قال: يا معاوية! جَعَلْتُ لك في هذا أصلا فاعمل عليه....](132/9)
... قلت: في سند هذا الحديث إشكال كبير، فمحمد بن الحسن الصفار الذي يرويه بسنده عن ابن عمير عن هشام الذي هو حتما هشام بن سالم وليس هشام بن الحكم، لأن ابن عمير، كما يقول علماء الرجال، كان على خلاف شديد مع هشام بن الحكم و كان معرضا عنه، فمثلا يقول الممقاني في تنقيح المقال (ج2/ص93): [و من المعلوم رواية ابن عمير عن هشام بن سالم] و مثله في (ج3/ص302)، محمد بن الحسن الصفار هذا يروي في كتابه بصائر الدرجات (ص 250) فيقول: [ الهيثم بن النهدي عن اسماعيل بن سهيل ابن أبي عمير عن هشام بن سالم قال دخلت على عبد الله بن جعفر و أبي الحسن (أي الإمام الكاظم - عليه السلام -) في المجلس قدامه أمراء متردين برداء موزر فأقبلت على عبد الله ( أي ابن جعفر الصادق و أخو الإمام الكاظم) أسأله حتى جرى ذكر الزكاة...]. وخلاصة الحديث أن هشام بن سالم مثله مثل الآلاف الذين كانوا يحتارون لمن صارت الإمامة بعد وفاة كل إمام ( حيث لم يكن عندهم خبر أصلا عن شيء اسمه أحاديث النص على الأئمة الاثني عشر بأسمائهم ) لم يدر إلى من صارت الإمامة بعد وفاة حضرة الصادق - عليه السلام -، و لذلك ورد على عبد الله بن جعفر الصادق ( الذي عرف بالأفطح ) و الذي تربع على مقام الإمامة بعد وفاة أبيه، في مجلس كان يضم أيضا أخاه: موسى الكاظم، و دار الحديث إلى أن وصل إلى مسألة تتعلق بالزكاة فلم يستطع عبد الله أن يجيب على تلك المسألة، عند ذاك خرج الناس من عنده، و من جملتهم هشام بن سالم، متحيرين، ثم يقول هشام: [ فأتيت القبر فقلت يا رسول الله! إلى القدرية ؟ إلى الحرورية ؟ إلى المرجئة ؟ إلى الزيدية؟، قال فإني كذلك إذ أتاني غلام صغير دون الخمس فجذب ثوبي فقال أجب! قلت: من؟ قال: سيدي موسى بن جعفر، ودخلت إلى صحن الدار فإذا هو في بيت و عليه حلة، فقال: يا هشام! قلت: لبيك! فقال: لا إلى المرجئة و لا إلى القدرية و لكن إلينا، ثم دخلت عليه..] (1)
__________
(1) و انظرها في أصول الكافي:كتاب الحجة: باب مايفصل به بين دعوى المحق والمبطل:ج1/ص351ـ352(مت)(132/10)
... و هنا الإشكال: فلو أن هشام بن سالم كان قد سمع حقا من الصادق - عليه السلام - ذلك الحديث و الذي قال له الصادق فيه [ إن الإمام بعد رسول الله علي....ثم أنا ثم من بعدي موسى...إلخ ] فما الذي دعاه إذن إلى تجشم عناء السفر إلى المدينة بحثا عن الإمام الحق بعد الصادق و أن يعتقد في البداية بإمامة عبد الله ثم لما يراه قد عجز عن معرفة مسألة الزكاة يذهب لقبر النبي (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) و يسأله: إلى المرجئة ؟ إلى الزيدية ؟ إلخ.. ؟؟!! إن محمد بن عمير نفسه الذي يروي عن هشام بن سالم حديث الباب الذي فيه ذكر أسماء الأئمة الاثني عشر كلهم، هو نفسه الذي ـ حسب رواية بصائر الدرجات ـ يروي عن هشام بن سالم هذا، حديث حيرته في معرفة الإمام بعد الصادق!! فأي الروايتين نصدق؟ أم أن كليهما كذب!
... و في آخر الحديث قال: [ و الحجة من وُلْدِ الحسن ] و الولد بضم الواو: جمع الوَلَدِ، مما يعني أن أحد أولاد الحسن سيكون صاحب الزمان، هذا مع أن أكثر فرق الشيعة، و التي وصل عددها لخمس عشرة فرقة بعد وفاة الإمام الحسن العسكري، كانت تقول بأن العسكري لم يخلف ولدا أصلا، فضلا عن أن يكون له عدة أولاد ؟؟ ...
...
... كانت تلك عمدة أحاديث النص الصريح من قبل الرسول (صلّىاللّه عليه وآله وسلّم) على الأئمة الاثني عشر، التي هي أهم و أشهر ما جاء في هذا الباب في كتب الشيعة، عرفنا حالها سندا و متنا، و لم أقف على أحاديث مهمة أخرى في كتبنا فيها النص الصريح على الأئمة الاثني عشر بأسمائهم، و لو وُجِدَت فعلى اليقين حالها لن يكون أفضل من حال الأحاديث التي أوردناها (و إلا لاشتهرت).(132/11)
... و هناك أحاديث أخرى ذكر فيها النص على عليٍّ و على الاثني عشر إمام بأسمائهم، وردت في كتاب سليم بن قيس الهلالي العامري، و قد سبق الكلام منا على الكتاب و مؤلفه و بينا آراء محققي الأصوليين من علماء الشيعة في الكتاب كقول ابن الغضائري أن الكتاب موضوع لا مرية فيه، وقول الشيخ المفيد أنه لا يجوز العمل بأكثر ما فيه و ينبغي للمتدين أن يجتنب العمل بكل ما فيه... فليراجع ثمة (ص 134 ـ 137 من كتابنا هذا)، و نضيف هنا قول ابن داود الحلي في رجاله: [ سليم بن قيس الهلالي، ينسب إليه الكتاب المشهور و في الكتاب مناكير مشتهرة و ما أظنه إلا موضوعا ]، و قد ذكرنا ثمة طرفا من الأخطاء التاريخية الفاضحة في كتاب سليم بن قيس التي تؤكد كون الكتاب ملفقا مكذوبا. لذا لما كان الكتاب باتفاق كبار علماء الشيعة مكذوبا موضوعا فلا حاجة بنا للتعرض لبعض ما جاء فيه من روايات النص على الأئمة الاثني عشر.(132/12)
... كذلك جاءت في كتب الشيعة أحاديث أخرى فيها نص الرسول (صلى الله عليه وآله) على الأئمة الاثني عشر بأسمائهم لكن ليس من طرق الشيعة بل من طرق العامَّة، و على لسان رواة من العامة ( أي من أهل السنة )، مثل هذه الروايات أوردها السيد هاشم البحراني في كتابه " غاية المرام " و علي بن محمد القمي في كتابه " كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر " و سند تلك الروايات يتصل بالمعصوم بواسطة صحابة مثل أبي هريرة أو أنس بن مالك أو ابن عباس... و لكننا لما كنا نعلم أن مثل أولئك الصحابة لم يكونوا قطعا من القائلين بالإمامة بالنص على علي و أبنائه بل بعضهم كان من المنحرفين عن علي، فإنه من غير الممكن أبدا أن يرووا مثل هذه الأحاديث، و من الواضح جدا أنه قد تم نسبة مثل هذه الأحاديث إليهم حتى يُقال: الفضل ما شهدت به الأعداء! و ثانيا: مما يؤكد ما نقوله، سند مثل هذه الأحاديث الذي لا يخلو من وضاع أو غال أو ضعيف أو مجهول، و كمثال على ذلك نذكر الحديث التالي الذي رواه السيد هاشم البحراني في " غاية المرام " (ص57) فقال: [..ابن بابويه في كتاب النصوص، قالوا: حدثنا محمد بن عبد الله الشيباني و.. و.. و.. قالوا حدثنا أبو علي محمد بن همام بن سهل الكاتب قال حدثنا الحسن بن محمد بن جمهور العَمِيّ ( و في نسخةٍ:القُمِّيّ ) عن أبيه محمد بن جمهور قال حدثني عثمان بن عمرة قال حدثنا شعبة...عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة قال كنت عند النبي و أبو بكر و عمر و الفضل بن عباس و زيد بن حارثة و عبد الله بن مسعود إذ دخل الحسين بن علي فأخذه النبي و قبَّله...].(132/13)
... ثم يذكر النبي حديثا يبين فيه أسماء الأئمة من ولد الحسين واحدا واحدا حتى يصل إلى جعفر الصادق فيقول: [ الطاعن عليه و الراد عليه كالراد علَيَّ، قال: ثم دخل حسان بن ثابت فأنشد شعرا في رسول الله وانقطع الحديث..] ثم يقول أبو هريرة أنه في اليوم التالي بعد أن صلى رسول الله (صلى ا لله عليه وآله) الفجر و دخل بيت عائشة دخلنا نحن كذلك أنا و علي بن أبي طالب و ابن عباس [ فقلت: يا رسول الله! ألا تخبرني بباقي الخلفاء من صلب الحسين ؟ قال: نعم يا أبا هريرة! (1) و يخرج من صلب جعفر مولود تقي طاهر... سَمِيُّ موسى بن عمران...(و كأن رسول الله يسكت بعد ذكره اسم موسى بن جعفر فيسأله ابن عباس): ثم من يا رسول الله ؟ فيقول الرسول (صلى ا لله عليه وآله) من صُلْبِ موسى: علي.....إلخ الحديث]. و العجيب أن أبا علي محمد بن همام راوي الحديث يقول بعد روايته للحديث: [ العجب كل العجب من أبي هريرة يروي هذه الأخبار ثم ينكر فضائل أهل البيت عليهم السلام!]. ... أجل إنه لأمر لعجيب حقا أن يروي أبو هريرة و زيد بن حارثة و ... و خاصة عبد الله بن عباس الذي كان يختلف مع علي في الرأي أحيانا، مثل هذه الأحاديث المثبتة للنص الإلهي و العصمة لأئمة أهل البيت، و لكن ليس الذنب ذنبهم بل ذنب من وضع هذه الروايات الموضوعة على ألسنتهم.
__________
(1) لو كان هذا الحديث من كلام رسول الله (ص) حقا لقال هنا عوضا عن "نعم" "بلى يا أبا هريرة" (برقعي)(132/14)
... و الأعجب منه أيضا هو حال "محمد بن همام" هذا الذي كان يروي الحديث عن "أحمد بن الحسين" الذي كان يضع الحديث!?(1) و لا شك أن هذا الأمر يعد طعنا كبيرا بنزاهته أعني"محمد بن همام" لأن الرواية عن الكذابين والوضاعين تعد ـ كما يؤكد العلامة الرجالي "التستري" (2) ـ مطعنا بالراوي يوجب ضعفه، و يفقد الثقة بمنقولاته.
__________
(1) لم أقف على المصدر الذي استقى منه المؤلف هذا الأمر عن محمد بن الهمام. و ما بين يدي من المصادر الرجالية يمدح محمد بن الهمام. و الله أعلم. (مت)
(2) انظر "قاموس الرجال" للعلامة التستري: ج 8 / ص 428.(132/15)
... ثم إن "أحمد بن الحسين" روى حديثنا هذا عن " الحسن بن محمد بن جمهور العَمِيّ " (أو القُمِّيّ كما في بعض النسخ) الذي قال عنه الممقاني في تنقيح المقال (ج1/ص306):[ يروي عن الضعفاء و يعتمد على المراسيل ] و هو عن أبيه محمد بن الحسن بن جمهور المجروح جدا في كتب الرجال، فالشيخ النجاشي قال عنه: [ محمد بن جمهور أبو عبد الله العَمِيّ ضعيف في الحديث فاسد المذهب، و قيل فيه أشياء الله أعلم بها من عظمها ](1) و نقل الأردبيلي في جامع الرواة (ج2/ص 87) أقوال الرجاليين فيه كما يلي: [ محمد بن جمهور العمي عربي بصري غال [ضا]... أبو عبد الله العمي ضعيف في الحديث غال في المذهب فاسد في الرواية لا يلتفت إلى حديثه و لا يعتمد على ما يرويه [صه] ..] و قال ابن الغضائري عنه: [ محمد بن الحسن بن جمهور أبو عبد الله القمي غال فاسد المذهب لا يكتب حديثه رأيت له شعرا يحلل فيه المحرمات ]، وذكره ابن داود في رجاله (ص442) في القسم الثاني المخصص للمجروحين و المجهولين و قال عنه: [ يروي عن الضعفاء و يعتمد على المراسيل ]، و هكذا في سائر كتب الرجال. هذا و لما كان الرجل قد عمَّر كثيرا فبلغ عمره مائة و عشرة سنوات، وكان غاليا، فلا يستبعد أن يكون قد وضع هذا الحديث في أواخر القرن الهجري الثالث (أي بعد أن اتضح ما استقرت عليه الإمامية الاثني عشرية من أسماء و عدد للأئمة) و علمه لابنه الحسن!. ثم جاء مثل "محمد بن همام" ليروي هذا الحديث و يتخذه حجة ويتعجب كيف رواه أبو هريرة و لم يعمل به!!.
__________
(1) رجال النجاشي:ج2/ ص225. (مت)(132/16)
... علاوة على الأحاديث التي ذكرت فيها أسماء الأئمة صراحة، توجد في كتب الشيعة أحاديث أخرى فيها النص على الأئمة بنحو الكناية والإشارة، و أهم هذا النوع من الأحاديث ما أورده المحدث الكليني في كتابه أصول الكافي: كتاب: الحجة، باب: ما جاء في الاثني عشر و النص عليهم عليهم السلام، حيث أورد الكليني في هذا الباب عشرين حديثا، اعتبر "العلامة المجلسي" (رحمة الله عليه) ـ في شرحه للكافي الذي سماه " مرآة العقول " ـ (ج1/ص433ـ439) تسعة منها ضعيفة، و ستة مجهولة، و حديثا واحدا مختلفا فيه، و حديثا مرفوعا و حديثا حسنا و حديثين منها فقط صحيحين، وأحد هذين الحديثين الصحيحين، بنظره، هو الحديث الذي رواه "أبو هشام الجعفري" عن حضرة الإمام محمد التقي - عليه السلام -، وهو حديث سيأتي عن قريب بيان ضعفه و بطلانه (1) . و الثاني هو هذا الحديث نفسه لكن بسند آخر من رواته "أحمد بن محمد بن خالد البرقي" و هو راو ضعيف، لا ندري كيف اعتبره العلامة المجلسي صحيحا! (2) .
... لكن العجيب أنه علاوة على ضعف سند هذه الأحاديث ، فإن متنها واضح البطلان، لأن سبعة منها و هي الأحاديث: 6 و 7 و 8 و 9 و 14 و 17 و 18، يجعل عدد الأئمة ثلاثة عشر!، فالحديث السادس الذي يرويه أبو حمزة الثمالي عن الإمام زين العابدين يقول:[ إن الله خلق محمدا و عليا وأحد عشر من ولده من نور عظمته، فأقامهم أشباحا في ضياء نوره يعبدونه قبل خلق الخلق، يسبحون الله و يقدسونه و هم الأئمة من وُلْدِ رسول الله (صلى ا لله عليه وآله)]. فكيف يكون الأئمة من وُلْدِ رسول الله، و عليٌّ ليس من وُلْدِه ؟
__________
(1) انظر الصحفة ... من هذا الكتاب.
(2) من الجدير بالذكر أن المحدث المحقق محمد باقر البهبودي صاحب كتاب "صحيح الكافي" لم يعتبر أيا من العشرين حديثا في هذا الباب صحيحا. (برقعي)(132/17)
... و كذلك في الحديث السابع يقول الإمام الباقر - عليه السلام -: [.. الاثني عشر إمام من آل محمد كلهم مُحَدَّث من وُلْدِ رسول الله... ]. و في الحديث الثامن يقول حضرة أمير المؤمنين - عليه السلام -: [ إن لهذه الأمة اثني عشر إمام هدى من ذرية نبيها...]، و في الحديث التاسع يقول حضرة الإمام محمد الباقر - عليه السلام -، ناقلا عن جابر بن عبد الله الأنصاري قوله: [ دخلت على فاطمة و بين يديها لوح لها فيه أسماء الأوصياء من ولدها فعددت اثنا عشر آخرهم القائم ثلاثة منهم محمد وثلاثة منهم علي (1) ]، و في الحديث السابع عشر يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين: [ إني و اثني عشر من ولدي و أنت يا علي زرُّ الأرض يعني أوتادها و جبالها... ]، و في الحديث الثامن عشر يقول الإمام الباقر: [ قال رسول الله: من ولدي اثني عشر نقيبا نجباء محدثون...].
... فهذه الأحاديث تثبت أن من ذرية الرسول (صلى ا لله عليه وآله) سيكون اثنا عشر إماما، وبالتالي فمع الإمام علي ـ الذي هو أول الأئمة و ليس من ذريته (صلى ا لله عليه وآله) ـ سيكون مجموع عدد الأئمة ثلاثة عشر إماما!! و يبدو أن الراوي الوضاع الكاذب نسي أن عليا - عليه السلام - ليس من ذرية الرسول (صلى ا لله عليه وآله) ولم يتوقع أن يقع حديثه، فيما بعد، بيد من يفرق بين عدد الاثني عشر و الثلاثة عشر!!
__________
(1) نقل هذه الرواية نفسها كل من الشيخ الصدوق في كتبه و من جملتها "إكمال الدين" و الشيخ الطوسي في كتابه "الغيبة"، و لكنهما جعلا عدد الذين اسمهم علي "أربعة " خلافا لما ذكره الكليني هنا من أنهم "ثلاثة "!(132/18)
... و هكذا رأينا من خلال تمحيص أسانيد جميع أحاديث النص على الأئمة هذه و تحليل متونها، أنها جميعا أحاديث موضوعة مكذوبة لم تصدر قطعا عن النبي (صلىالله عليه وآله وسلم) أو آله الكرام. و نتجه الآن نحو تاريخ الأئمة أنفسهم لنر هل تتطابق سيرهم و أقوالهم مع وجود مثل أحاديث النص هذه أم لا ؟(132/19)
( سير الأئمة بحد ذاتها تكذب وجود أحاديث النص
( ثورات السادة العلويين دليل آخر على عدم وجود النص
سِيَرُ الأئمة بحد ذاتها تكذِّب وجود أحاديث النص
1 ـ تبين من الفصول الماضية و ثبت أن حضرة أمير المؤمنين - عليه السلام - لم يدع في أي مقام أو في أي ملأ من الناس، أن الله تعالى نصبه و عينه إماما مفترض الطاعة على المسلمين، و أن الأمر لم يكن يعدو اعتباره نفسه أولى الأمة و أليقها و أحقها بمنصب خلافة رسول الله، كما أن اعتراضه على بيعة سقيفة بني ساعدة كان مستنده أن هذه البيعة لم تتم بمشورة جميع الأنصار و المهاجرين أو على الأقل لم تتم بمشورته هو نفسه و لا مشورة عديد من فضلاء و أجلة المهاجرين والأنصار، ومن المسلم أنه لو حصل ذلك لما عُدِلَ عنه إلى غيره أبدا. (1)
__________
(1) أكد أمير المؤمنين علي عليه السلام نفسه، أكثر من مرة، أن الشورى حق المهاجرين و الأنصار، من ذلك ما جاء في أحد رسائله لمعاوية (كما أوردها عنه الشريف الرضي في نهج البلاغة، الرسالة رقم 6 ، و رواها أيضا نصر بن مزاحم المنقري في كتابه "صفين" ص 29) أنه عليه السلام قال: (( إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان على ما بايعوهم عليه. فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يرد، و إنما الشورى للمهاجرين الأنصار فإن اجتمعوا على رجل و سموه إماما كان ذلك لِلَّهِ رضىً )). قلت : و كلام أمير المؤمنين هذا تؤيده الآية القرآنية الكريمة: { و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و أعد لهم جنات تجري تحنها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} التوبة / 101، و قد وصف الله تعالى أولئك السابقين من المهاجرين و الأنصار بأنهم: { و أمرهم شورى بينهم} الشورى/38، فإذا جلس مجموعة من الجنتيين ليتشاوروا في أمر الإمارة واختاروا أميرا عليهم أفلن يكون ذلك حتما رضىً لِلَّه ؟؟
... و علاوة على ذلك فإن عليا عليه السلام كان يقول: (( و الله ما كانت لي في الخلافة رغبة و لا في الولاية إربة، و لكنكم دعوتموني إليها و حملتموني عليها )) (نهج البلاغة / الخطبة رقم 196). فهل يعقل أن يكون عليا قد أمر من قبل الله تعالى بتولي منصب الخلافة، ثم يقول مقسما بالله أنه ليس له رغبة بالخلافة و لا إربة بها ؟! أليس لعليٍّ رغبة بتنفيذ أمر الله ؟! هل يصح القول مثلا أن رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) لم يكن له رغبة و لا إربة بالنبوة بعد أن حمله الله تعالى أمانتها ؟؟ و العياذ بالله.
... لو كان علي منصوبا حقا من قبل الله تعالى لمنصب الخلافة والإمارة فلماذا قال ـ عندما هجم الناس على بيته ليبايعوه : (( فأقبلتم إلي إقبال العوذ المطافيل على أولادها، تقولون: البيعة البيعة! قبضت كفي فبسطتموها، و نازعتكم يدي فجاذبتموها )) ( نهج البلاغة / الخطبة 137 و 229)، في حين أنه لو كانت خلافته عليه السلام أمرا إلهيا، لوجب عندما وجد المقتضي لاستلامها و انتفى المانع و عاد الحق لصاحبه، لوجب على الأقل ألا يمتنع عنها و يظهر عدم ميله لها، هذا إن لم يجب عليه الإسراع لأخذها و القيام بأعبائها. لا أن يقول ـ كما روي عنه في النهج ـ (( دعوني و التمسوا غيري! أنا لكم وزيرا خيرا لكم مني أميرا، و إن تركتموني فأنا كأحدكم و أسمعكم و أطوعكم )) (نهج البلاغة/ الخطبة 91).
... و لو أن عليا عليه السلام نُصِّب فعلا من قبل الله عز و جل لأمر الخلافة ، فلماذا عوضا عن تحذيره الناس صبحا و مساء من مغبة مخالفتهم لأمر الله تعالى وتذكيرهم صبحا و مساء بخلافته الإلهية، و سعيه بكل جهده لإحراز الخلافة التي أمره الله بالقيام بأعبائها ، و زجره الخلفاء الذين سبقوه عن غصبهم خلافته، وإعلانه للجميع بأن خلافتهم غير مشروعة و محرمة، أو على أقل تقدير يمتنع عن تأييدها و يسكت عن مدحها، لماذا نجده عليه السلام ـ بشهادة آثار قدماء الإمامية ـ يثني على الخلفاء الذين سبقوه و يمتدح خلافتهم فيقول عن أبي بكر مثلا: (( فتولى أبو بكر فقارب و اقتصد)) [كشف المحجة لثمرة المهجة، سيد ابن طاووس، طبع النجف، 1370هـ، ص 177]، و يقول عن عمر مثلا: ((تولى عمر الأمر فكان مرضي السيرة ميمون النقيبة)) [الغارات، أبو اسحق الثقفي، ج1/ص307] و يقول عنهما كليهما في مقام آخر: ((أحسنا السيرة و عدلا في الأمة)) [كتاب وقعة صفين، ص 201] ، و لماذا رضي أن يصاهره عمر في ابنته أم كلثوم [ انظر منتهى الآمال، للشيخ عباس القمي، ص 186، و وسائل الشيعة: كتاب الميراث، ج17/ ص 594]، و كان يقتدي بالشيخين في الصلاة [وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، ج 5/ ص 383] و سمى ثلاثة من أولاده بأسماء الخلفاء أبي بكر وعمر و عثمان [الإرشاد للشيخ المفيد، دار المفيد للطباعة ، ج1/ ص 354و منتهى الآمال، ص 188و 382] .
... أفتراه فعل ذلك ـ و هو عليه السلام إمام المتقين و أسوة المؤمنين ـ لكي يفضح الغاصبين و يعرف الأمة أكثر بأصول و أحكام الشريعة خاصة أصل الإمامة المنصوص عليها ، و يتم الحجة عليهم في ذلك ؟! نترك الإجابة على ذلك لكل ذي إنصاف. (x)(133/1)
... 2 ـ كذلك خلافة الحسن بن علي المجتبى - عليه السلام - لم تتم بالاستناد إلى نص، سواء كان من الرسول (صلى الله عليه وآله) أو من علي - عليه السلام -، بل كما جاء في مروج الذهب للمسعودي و تاريخ الطبري والبداية و النهاية لابن كثير أن عليا لما ضربه ابن ملجم دخل عليه الناس يسألونه فقالوا: [ يا أمير المؤمنين، أرأيت إن فقدناك، و لا نفقدك، أنبايع الحسن ؟ فأجاب: لا آمركم و لا أنهاكم، أنتم أبصر ] (1)، و أنه لما أخبر أهل الكوفة ـ قبل أن يضربه ابن ملجم ـ بشهادته كانوا يقولون له: [ ألا تستخلف ؟ فيقول: لا و لكن أترككم كما ترككم رسول الله] (2)، و أنه لما أخبر الحسنُ الناسَ بوفاة أبيه الجليل قام ابن عباس و قال: [ إن أمير المؤمنين توفي و قد ترك لكم خلفا فإن أحببتم خرج إليكم و إن كرهتم فلا أحد على أحد، فبكى الناس و قالوا: بل يخرج إلينا ]. هذا في حين أنه لو كان لمسألة الإمامة المنصوص عليها، على النحو الذي يدعونه، حقيقة، للزم و وجب أن يقوم علي - عليه السلام - أثناء فترة حكمه التي دامت خمس سنوات، ببيان هذا الأصل الأصيل و التأكيد عليه قبل أي شيء آخر، و ذلك في كل مناسبة و خطبة من خطبه البليغة، و أن يقوم ابنه الحسن المجتبى بذلك أيضا ليعلم الناس أمر دينهم و تتم الحجة عليهم و يعرفوا أنه : أولا: الإمامة و حكومة المسلمين منحصرة باثني عشر إمام بنص من الله تعالى عليهم لا أكثر و لا أقل (حتى لا تضل عشرات الفرق التي قالت بإمامة أكثر أو أقل منهم كالاسماعيلية و الكيسانية و الزيدية و .. و ..) و ثانيا: أنه ـ باستثناء إمامة الحسين بعد أخيه الحسن ـ لا تنتقل الإمامة إلا من بنحو عامودي من الأب لابنه، و أنها ـ
__________
(1) مروج الذهب: للمسعودي: ج2 / ص 425، و تاريخ الأمم و الملوك: للطبري: ج5 / ص 146ـ 147، و البداية و النهاية: لابن كثير: ج7 / ص 327 .
(2) مروج الذهب: ج2/ص425، و البداية و النهاية: ج7/ص323 إلى 324 من عدة طرق. (مت)(133/2)
باستثناء موردين هما اسمعيل بن جعفر و محمد بن علي الهادي ـ تكون للابن الأرشد بعد أبيه. و ثالثا: أن الأئمة من ولده معصومون مفترضوا الطاعة ... و أن ... و أن ...الخ.
... و لكن كما نعلم جميعا ليس هناك أي أثر لمثل هذه الأمور سواء في كلام علي أو كلام ابنه الحسن حتى الذي قيل في الاجتماعات الخاصة و مع المقربين، بل سنرى عن قريب أن الأئمة أنفسهم كانوا آخر من يعلم بمثل هذه الأمور!! .
... 3 ـ أما حضرة الحسين - عليه السلام - فمشهور و معروف لكل أحد أنه قبل أن يدعوه أهل الكوفة للإمامة و يبايعوا ممثله جناب مسلم بن عقيل، لم يدع لنفسه الإمامة المفترضة بنص من الله و نص من رسوله (صلى الله عليه وآله)، و لم يأت في جميع احتجاجاته و خطبه التي ألقاها بين الناس قبل و أثناء خروجه، بأي كلام عن نص على إمامته أو إمامة والده أو أخيه.(133/3)
... 4 ـ بعد شهادة الحسين - عليه السلام -، طبقا لاتفاق جميع التواريخ المعتبرة، قام أخوه من أبيه محمد بن علي المعروف بمحمد بن الحنفية بتولي منصب الإمامة وعرف أتباعه الذين قالوا بإمامته بالكيسانية، و كتب الملل و النحل و أحاديث الشيعة مليئة بالحديث عن هذا الأمر، كما روى "الطبرسي" في كتابه "أعلام الورى" (ص152) و "الكليني" في "الكافي" و "الطبرسي أحمد بن علي" في "الاحتجاج" كلهم عن أبي عبيدة و زرارة كلاهما عن حضرة الباقر - عليه السلام - قال: [ لما قتل الحسين أرسل محمد بن الحنفية إلى علي بن الحسين فخلا به و قال يا ابن أخي قد علمت أن رسول الله دفع الوصية و الإمامة من بعده إلى علي ثم إلى الحسن ثم إلى الحسين و قد قتل أبوك و لم يوص و أنا عمك و صنو أبيك وولادتي من علي وأنا في سني وقدمي أحق بها منك في حداثتك...](1)، و مهما كان هذا الحديث مخدوش سندا و متنا و عقلا سيما ما ذكر فيه من تحاكم علي بن الحسين إلى الحجر الأسود ليحكم بينه و بين محمد بن الحنفية! و الذي من الواضح أنه من اختلاق الوضاعين الذين لا يتورعون عن الكذب في سبيل تأييد مذهبهم، أو من وضع أشخاص أرادوا إيجاد الفرقة بين المسلمين، لكن أيا كان الأمر فإنه من مسلمات التاريخ أنه بعد شهادة الحسين وجدت الفرقة الكيسانية القائلة بإمامة محمد بن الحنفية ثم تفرعت عنها بعده عدة فرق أخرى أيضا، و وجود هذه الفرقة و غيرها و إن كان بلا شك وليدا للصراعات السياسية و النزاعات على السلطة، لكنه بحد ذاته يتناقض مع مسألة النص أي مع وجود نص معروف على أسماء الأئمة بأعينهم، إذ لو كان ذلك معروفا فعلا، لما صار أحد للإيمان بإمامة محمد بن الحنفية، و من العجيب أن نفس أولئك الذين رووا مثل الحديث السابق الذي يقول فيه "ابن
__________
(1) و انظره أيضا في الأصول من الكافي للكليني: كتاب الحجة: باب ما يفصل به بين دعوى المحق و المبطل في أمر الإمامة، حديث 5، ج1/ ص 348. (مت)(133/4)
الحنفية" لابن أخيه من أبيه "علي بن الحسين": [ أنا عمك و صنو أبيك وولادتي من علي و أنا في سني و قدمي أحق بها منك ]، و يذكرون أن المختار بن عبيدة الثقفي ( قائد ثورة التوابين) وغيره، بقوا، لسنوات مديدة، يدعون لإمامة ابن الحنفية، هم أنفسهم يروون عن نفس محمد بن الحنفية ما يؤيد النص على الأئمة!، كما روى الكشي في رجاله عن أبي خالد الكابلي الذي كان يقوم بخدمة محمد بن الحنفية، أنه قال له يوما: [ جعلت فداك إن لي خدمة و مودة وانقطاعا، أسألك بحرمة رسول الله و أمير المؤمنين إلا ما أخبرتني: أنت الذي فرض الله طاعته على خلقه ؟ قال: لا، الإمام علي بن الحسين، عليَّ و على كل مسلمٍ ]!
... و أيا كان فمن الواضح تماما أنه لم يكن عند أهل بيت النبوة نص معروف صريح على الإمامة و الخلافة و إلا لما ادعى الإمامة أبدا رجل عرف بالعلم و الزهد و الشجاعة و التقوى كمحمد ابن الحنفية، و لتبرأ من الذين قالوا بإمامته، مع أنه لم يُسمَع منه أبدا أنه رد على القائلين بإمامته أو أنكرها، إذن فلم يكن هناك نص نبوي معين يحدد من هم الأئمة.
ثورات السادة العلويين دليل آخر على عدم وجود النص(133/5)
... 1 ـ بيعة أهل الكوفة لجناب زيد بن علي بن الحسين من القضايا الواضحة في تاريخ الإسلام و خروج ذلك الجناب باسم الإمامة من مسلمات التاريخ، ذلك أن عقيدته كانت أن الإمام هو من قام بالسيف، من أولاد علي و فاطمة، لأجل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و الدفاع عن الدين و ردّ الظالمين و إقامة حكم الكتاب و السنة. و هذا من أوضح عقائد وحجج حضرته و دليل على أن ذلك الجناب كان منكرا تماما لوجود نص يعين أشخاصا محددين للإمامة في أهل بيت النبوة، كما سبق و أشرنا إلى بعض ما روي عن حضرته في هذا المجال مما رواه فرات ابن إبراهيم الكوفي في تفسيره المعروف بتفسير فرات ابن إبراهيم والذي يعد من كتب الشيعة الموثقة المعتبرة (1). و روى الكليني في أصول الكافي (كتاب الحجة: ج1 / ص348) عن علي بن الحكم عن أبَّان و كذلك الكشي في رجاله (ص164) عن أبي خالد الكابلي: حوارا بين زيد بن علي بن الحسين و أبي جعفر الأحول المعروف بمؤمن الطاق، حول موضوع الإمامة بالنص و النص على الأئمة، يؤكد رأي الإمام زيد المذكور فيما رواه فرات ابن إبراهيم في تفسيره، خلاصته أن زيد بن علي يقول لمؤمن الطاق: [ بلغني أنك تزعم أن في آل محمد إماما مفترض الطاعة ؟ قال: نعم و كان أبوك علي بن الحسين أحدهم. قال: وكيف و قد كان يؤتى بلقمة و هي حارة فيبردها بيده ثم يلقمنيها، أفترى يشفق علي من حر اللقمة و لا يشفق علي من حر النار ؟! (أي لا يخبرني عن الإمام المفترض الطاعة ؟!) ]. و هذا الحديث رواه الكشي من طريق آخر أيضا عن أبي مالك الأحمسي عن مؤمن الطاق. و عليه فإن جناب زيد بن علي بن الحسين الذي نبأ رسول الله عنه و عن شهادته ومدحه و أثنى عليه حسبما أورده القاضي الحسين بن أحمد السياغي الصنعاني في كتابه: " الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير " (ج1/ص58) و ما ورد في كتاب "المنهاج"
__________
(1) سبق و أوردنا روايته مفصلة في كتابنا هذا فراجعها في ص 126 ـ 128.(مت)(133/6)
و "هداية الراغبين "، كما أثنى عليه حضرة أمير المؤمنين و حضرة الإمام الحسين حسبما رواه ابن طاووس في كتابه الملاحم (ص74 و96 من طبعة النجف) و ما رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا (ج1/ ص225ـ 229) و الكشي في رجاله، و الذي أثنى عليه أخوه الإمام الباقر وابن أخيه الإمام الصادق و سائر الأئمة عليهم السلام أيضا، زيد هذا لم يكن يعتقد أبدا بإمام منصوص عليه سلفا من أهل بيت النبوة، بل كان يعتبر الإمام من يخرج بسيفه فعلا للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر وإحياء الدين وكان يقول: [ ليس الإمام منا من جلس في بيته و أرخى عليه ستره و ثبط عن الجهاد و لكن الإمام منا من منع حوزته و جاهد في سبيل الله حق جهاده و دفع عن رعيته و ذب عن حريمه ](1)، و نفس خروجه و بيعة الناس له بالإمامة أوضح دليل على عدم وجود النص، مهما حاول القائلون بالنص أن يؤولوا خروج زيد هذا ويفسروه بتفسيرات من قبيل تفسير القول بما لا يرضى به صاحبه!
__________
(1) الأصول من الكافي: كتاب الحجة: باب ما يفصل به بين دعوى.. حديث 16 في:ج1 / ص 357 (مت)(133/7)
... و العجيب أن مختلقي النص و واضعي الأحاديث فيه، لم يكفوا بلاءهم عن زيد أيضا، رغم أن عقيدته في عدم النص على الأئمة في غاية الوضوح، بل وضعوا الأحاديث التي تثبت معرفته بالنص!، كما روى ذلك علي بن محمد القمي في كتابه " كفاية الأثر في النصوص على الأئمة الاثني عشر " فقال: [ و يحدث عمر بن موسىالرجهي عن زيد قال: كنت عند أبي علي بن الحسين إذ دخل عليه جابر بن عبد الله الأنصاري فبينا هو يحدثه إذ خرج أخي ( أي محمد الباقر) من بعض الحجر فأشخص جابر ببصره نحوه (!!) فقام إليه و قال: أقبل! فأقبل، أدبر! فأدبر، فقال: شمائل كشمائل رسول الله، ما اسمك يا غلام ؟ قال: محمد..إلى آخر الحديث ]، و قد بينا في نقدنا للحديث الأول من أحاديث النص أن جابرا توفي فيما بين 74 و 78 هـ في حين كانت ولادة زيد سنة 80 هـ!! ويكفي هذا لمعرفة مقدار ما يتمتع به الحديث من الصدق والصحة! بالإضافة لما تقدم من أن جابرا كف بصره في آخر عمره فكيف استطاع أن يدقق النظر إلى حضرة الباقر ؟! إن واضعي هذه الأحاديث كانوا مغرمين ومتعلقين بإثبات موضوع النص من الله تعالى على إمامة الأئمة لدرجة أنهم كانوا يختلقون دون تفكير أي حديث كان، لإثبات مدعاهم، مهما كان مفضوح الكذب!.(133/8)
... 2ـ من القضايا المسلمة في التاريخ قيام و إمامة محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن المجتبى المعروف بـ " النفس الزكية " الذي كان من أكابر أهل بيت النبوة و أجلتهم فضلا و علما و تقوى، و بيعة الناس ـ و لا سيما عترة الرسول و بنو هاشم ـ له بالإمامة، إلى حد أن حضرة جعفر الصادق نفسه ـ الذي تنسب إليه أكثر أحاديث النص هذه ـ دُعي إلى بيعته، و حسب بعض الأحاديث أنه أعانه في قيامه، كما جاء في كتاب "مقاتل الطالبيين" لأبي الفرج الأصفهاني (ص 252) عن سليمان بن نهيك أنه قال: [ كان موسى و عبد الله ابنا جعفر، عند محمد بن عبد الله (أي النفس الزكية) فأتاه جعفر (أي الصادق) فسلم ثم قال: تحب أن يصطلم أهل بيتك ؟ قال: ما أحب ذلك. قال: فإن رأيت أن تأذن لي فقد عرفت علتي. قال: قد أذنت لك، ثم التفت محمد بعد ما مضى جعفر، إلى موسى و عبد الله ابني جعفر فقال: الحقا بأبيكما فقد أذنت لكما، فانصرفا. فالتفت جعفر فقال: ما لكما ؟ قالا: قد أذن لنا. فقال جعفر: ارجعا فما كنت بالذي أبخل بنفسي و بكما عنه. فَرَجَعا فشهدا محمدا.]. و في (ص 389) من الكتاب روى: [ حدثنا الحسن بن الحسين عن الحسين بن زيد قال: شهد مع محمد بن عبد الله ابن الحسن (أي النفس الزكية) من وُلْدِ الحسين أربعة: أنا و أخي وموسى وعبد الله ابنا جعفر ابن محمد عليهم السلام]. وكذلك روى في ( ص 407 ):[ خرج عيسى بن زيد مع محمد بن عبد الله (أي النفس الزكية ) فكان يقول له: من خالفك أو تخلف عن بيعتك من آل أبي طالب فأمكني منه أضرب عنقه ].(133/9)
... و يروي الكليني في أصول الكافي ( كتاب الحجة: باب ما يفصل به بين دعوى المحق و المبطل في أمر الإمامة ) عدة أحاديث تبين أن محمد بن عبد الله (النفس الزكية) طلب من الصادق أن يبايعه بالإمامة، منها حديث طويل يبين إصرار محمد بن عبد الله على بيعة الصادق له أكثر من مرة، حتى وصل الأمر إلى قوله له: [ و الله لتبايعني طائعا أو مكرها و لمَّا تُحمَد في بيعتك! فأبى (أي الصادق) عليه إباء شديدا، و أُمِرَ به إلى الحبس، فقال له عيسى بن زيد: أما إن طرحناه في السجن و قد خرب السجن و ليس عليه اليوم غلق خفنا أن يهرب منه، فضحك أبو عبد الله - عليه السلام - و قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أوتراك تسجنني ؟ قال: نعم و الذي أكرم محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة لأسجننك و لأشددن عليك! فقال عيسى بن زيد: احبسوه في المخبأ....الحديث ] (1).
... فلو كان هناك نص نبوي في تعيين ونصب أئمة معينين ؛ لعلمه قبل أي أحد آخر هذا السيد الجليل القدر الزاهد المجاهد من أهل بيت النبوة هو وسائر أكابر العترة من آل علي و بالتالي لم يدع لا هو و لا زيد بن علي ولا غيره من سادات الآل، الإمامة، هذا من جهة، و من جهة أخرى لقام حضرة الصادق، أو غيره ممن يعرف النص النبوي على الأئمة، بإطلاع زيد و محمد النفس الزكية وغيرهما من سادات العلويين عليه!.
__________
(1) الأصول من الكافي: كتاب الحجة: باب ما يفصل به بين دعوى..حديث 17 في:ج1/ص 363. (مت)(133/10)
... و من العجب العجاب أن وضاعي الحديث وضعوا على لسان والد محمد النفس الزكية هذا الذي كان ابنه يصر كل ذلك الإصرار على مبايعة الصادق له، حديثا في النص على إمامة الأئمة الاثني عشر!! و يرويه عنه الحسين بن زيد بن علي، الذي كان هو و أخوه عيسى بن زيد بن علي أيضا من أنصار النفس الزكية و ممن بايعه بالإمامة و جاهد بتفان تحت رايته!! و الحديث أورده الحر العاملي في " إثبات الهداة " (ج2/ص540) نقلا عن كتاب كفاية الأثر قال:
... [ عن الحسين بن زيد بن علي عن عبد الله بن جعفر بن إبراهيم الجعفري قال حدثنا عبد الله المفضل مولى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: لما خرج الحسين بن علي المقتول بفخ (1) و احتوى على المدينة دعا موسى بن جعفر ( أي الكاظم ) إلى البيعة فأتاه فقال له: يا ابن عم لا تكلفني ما كلف ابنُ عمك (يقصد النفس الزكية) عمَّك أبا عبد الله - عليه السلام - ( أي الصادق) فيخرج مني ما لا أريد كما خرج من أبي عبد الله ما لم يكن يريد... الحديث ] (2). والحقيقة أن مطالبة الحسين بن علي شهيد الفخ من موسى بن جعفر أن يبايعه، بحد ذاتها دليل واضح على عدم وجود كل تلك النصوص الكثيرة في النص على أسماء الأئمة و التي سبقت دراسة بعضها.
__________
(1) فخ: بئر بين التنعيم و مكة، والحسين هذا هو الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي عليهما السلام و أمه زينب بنت عبد الله بن الحسن، خرج في المدينة سنة 199هـ في أيام الخليفة العباسي موسى الهادي بن المهدي بن أبي جعفر المنصور، و خرج معه جماعة كثيرة من العلويين و بايعوه بإمارة المؤمنين ثم استشهد بفخ. (مت)
(2) و هو أيضا في أصول الكافي:كتاب الحجة: باب ما يفصل به بين دعوى المحق و المبطل: ج1/ص366 (مت)(133/11)
... كما أن هناك في أصول الكافي حديث آخر عن نفس عبد الله بن جعفر بن إبراهيم الجعفري هذا، يذكر فيه أن يحيى بن عبد الله بن الحسن، الذي قام بأمر الإمامة بعد شهادة أخيه محمد بن عبد الله بن الحسن (النفس الزكية)، كتب رسالة إلى موسى بن جعفر - عليه السلام - قال فيها: [ أما بعد فإني أوصي نفسي بتقوى الله وبها أوصيك، فإنها وصية الله في الأولين و وصيته في الآخرين، خَبَّرَني من ورد عليَّ من أعوان الله على دينه و نشر طاعته بما كان من تحنُّنِك مع خذلانك، و قد شاورتُك في الدعوة للرضا من آل محمد و قد احتَجَبْتَها واحتَجَبَهَا أبوك من قبلك، و قديما ادعيتم ما ليس لكم و بسطتم آمالكم إلى ما لم يعطكم الله فاستهويتم و أضللتم وأنا محذِّرك، حذرك الله من نفسه الحديث..](1). فنلاحظ في هذا الحديث أن يحيى بن عبد الله ينكر أي نص على الأئمة، و ليس هذا فحسب بل يقول للكاظم أنه ادعى هو و أبوه من قبل (أي الصادق) الإمامة مع عدم استحقاقهم لها و أنهما طمحا إلى ما لم يعطهما الله!
__________
(1) المصدر السابق: نفس الكتاب و الباب: الحديث 19 في: ج1 / ص 366 ـ 367. (مت)(133/12)
... هذا و يدعي القائلون بالنص أن قيام هؤلاء السادة العلويين الأجلاء لم يكن للدعوة لإمامة أنفسهم بل للدعوة للرضا من آل محمد و هو إمام الوقت من الأئمة الاثني عشر، وهذا الادعاء لا صحة، نعم هم دعوا لإمامة الرضا من آل محمد أي لمن يرتضيه الناس للإمامة من آل محمد، و هو ليس شخصا مجهولا بل هو نفس القائم لا غيره، كما يظهر جليا في نفس تلك الرسالة المشار إليها، حيث يقول يحيى بن عبد الله للكاظم: [ و قد شاورتك في الدعوة لرضا من آل محمد و قد احتَجَبْتَها و احتَجَبَهَا أبوك من قبلك ] أي رفضتها كما رفضها أبوك من قبلك، فيا ترى لو كانت الدعوة لإمامة الكاظم أو الصادق نفسهما فكيف يرفضونها و هل كانا يرفضان إمامة أنفسهما ؟ ثم كيف يجتمع الادعاء بأن القائمين من العترة كانوا يدعون لإمام الوقت من الأئمة الاثني عشر مع قول يحيى بن عبدالله للكاظم في رسالته: [ و قديما ادعيتم ما ليس لكم و بسطتم آمالكم إلى ما لم يعطكم الله..! ]، بل لننظر بما أجاب الكاظم على رسالة يحي، قال له: [.. أتاني كتابك تذكر فيه أني مدع و أبي من قبل و ما سمعتَ ذلك مني وستكتب شهادتهم و يُسألون! ] (1).
__________
(1) تتمة نفس الحديث السابق. (مت)(133/13)
... و أيا كان الأمر فالذي نستنتجه من هذه الروايات و أمثالها أنه لم يكن في وسط أهل بيت الرسول و آل علي شيء اسمه أحاديث النص على أئمة بأعيانهم، و إلا لما ادعى أمثال زيد بن علي بن الحسين و محمد بن عبد الله و يحيى بن عبد الله و الحسين بن علي بن الحسن و عشرات من أئمة العترة الأجلاء الآخرين الإمامة، إلى حد أن يُبَايَع محمد بن جعفر الصادق، في وقت من الأوقات في مكة المكرمة، بالخلافة و إمارة المؤمنين حتى يقول الأصفهاني في مقاتل الطالبيين: [ ظهر محمد بن جعفر بن محمد بالمدينة و دعا إلى نفسه و بايع له أهل المدينة بإمرة المؤمنين و ما بايعوا عليها بعد الحسين بن علي (شهيد فخ) أحدا سوى محمد بن جعفر بن محمد! ] (1) و وقعت بينه وبين هارون الرشيد معارك ثم أرسل له حضرة "علي بن موسى الرضا" ليقنعه بالعدول عن إمارته و إطفاء نار الحرب، لكن "محمد بن جعفر" رفض وساطة الرضا و ثبت بكل بسالة على موقفه حتى وافته الشهادة.
... و كذلك مشاركة حضرة موسى بن جعفر ـ أي أحد الأئمة المدعى أنه منصوص عليه من الله تعالى ورسوله ـ مع أخيه "محمد بن جعفر" بأمر من أبيهما "جعفر الصادق"، في جهاد وثورة الإمام محمد بن عبد الله النفس الزكية (رحمه الله) الذي قام لنيل منصب الخلافة، و الذي سبقت الإشارة إليه (2). فهل يجوز لإمام منصوص عليه من الله، أن يقوم بنصرة و تأييد شخص آخر يدعي الإمامة والخلافة بلا حق و بنحو غير مشروع ؟!
... أفلا تدل كل هذه الحوادث و ادعاءات الإمامة من أبناء علي وتأييد بعض الأئمة الاثني عشر لهم في ثوراتهم أو علىالأقل سكوتهم عن إعلان أحاديث النص، على أن أحاديث النص تلك مكذوبة موضوعة لا أساس لها ؟ هذا عدا عن الحال المتهافت لأسانيدها ومتنها مما سبق بيانه.
__________
(1) مقاتل الطالبيين: ص 537. (مت)
(2) ارجع إلى صفحة 220 ـ 221 من هذا الكتاب.(133/14)
( عدم إعلان الأئمة الاثني عشر للنص يكذب وجود أحاديث النص
( أصحاب الأئمة المقربين لم يكن لهم علم بمثل هذه النصوص!
( الأئمة أنفسهم لم يكن لهم علم بأحاديث النص!
عدم إعلان الأئمة الاثني عشر للنص يكذب وجود أحاديث النص
... سبق و بينا أنه في كل تاريخ الإسلام بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يدع أي أحد من الأئمة الاثني عشر، أمام الناس و على رؤوس الأشهاد، أنه إمام حاكم منصوص عليه من جانب الله تعالى بنص من الرسول (صلوات الله عليه وآله). و قلنا أنهم لو كانوا حقا أئمة منصوصا عليهم، نصبهم الله تعالى لهذا المقام، لوجب على كل منهم أن يصرح بذلك في كل مناسبة إن لم يكن أمام جميع الناس فعلى الأقل أمام و لو عشرة أفراد من شيعتهم و أحبابهم الأوفياء الموثوقين، ليؤدوا رسالة الله و يبلغوا حكمه من جهة، و من الجهة الأخرى لأن مثل هذا التصريح أمام المحبين المخلصين لن يشكل أي خطر على الأئمة من قبل حكام العصر، لا سيما في الفترة التي ضعف فيها نفوذ الأمويين و بدأ سلطانهم يتجه نحو الزوال. خاصة و أنه حسب ادعاء القائلين بالنص، الذين جعلوا مسألة الإمامة أصلا من أصول الدين و أسسه و أولوها كل ذلك المقدار من الأهمية في العقيدة والإسلام بحيث من جهل و لو واحدا من الأئمة لم ينفعه شيء من العمل بل كان في الضلال البعيد و الهلاك الأبدي و استحق الخلود في النار، لا بد من إقامة الحجة و بيان الأمر على أتم وجه مهما تعرض الإمام لاحتمال الضرر و الخطر. و عليه فأول من يقع عليهم الإثم في القصور و التقصير في بيان هذا الأمر هو الأئمة أنفسهم ـ لو كان هناك نص حقا ينبغي بيانه! ـ الذين امتنعوا عن بيان الحقيقة بالشكل السافر الذي تقوم به الحجة القاطعة و ينقطع العذر. لهذا نجد أن الإمام الهمام الحسن المثنى بن الحسن السبط (1)
__________
(1) من الجدير بالذكر أن هذا الإمام الهمام ان من المجاهدين في وافعة كربلاء تحت راية عمه سيد الشهداء الإمام أبي عبد الله عليه السلام ، و قد سق طجريحا في تلك المعركة ، و لما هجم أوباش يزيد ـ في آخر المعركة ـ ليقطعوا رؤوس الشهداء من أنصار الحسين(ع) البواسل، تشفَّع للحسن المثنى خاله الذي كان في جيش عمر بن سعد، و أخذه لمنزله و داوى جراحه. هذا و قد كان الحسن المثنى ختنا للإمام الحسين إذ كان زوجا لابنته "فاطمة حور العين". (x)(134/1)
، الذي شهد مع عمه الحسين سيد الشهداء معركة كربلاء وجاهد تحت لوائه إلى أن أثخنته الجراح ثم لما جاء السفلة ليقطعوا رؤوس الشهداء و كان لا يزال فيه رمق و شاهده خاله الذي كان في جيش عمر بن سعد تشفَّع له و أخذه لمنزله و قام بمداواته حتى برئ، و كان الحسن المثنى هذا صهرا لحضرة سيد الشهداء لأنه كان زوج فاطمة حور العين، يقول: [ أقسم بالله سبحانه، أن الله تعالى و رسوله لو آثر عليا لأجل هذا الأمر و لم يقدم علي لكان أعظم الناس خطأً ] ، و نحن لو طالعنا كل تاريخ الإسلام فلن نجد أبدا أي واحد من الأئمة الذين ادعي أنهم منصوص عليهم من قبل الله تعالى ورسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) قام و بين هذا الادعاء بكل صراحة و وضوح أمام و لو عشرة أفراد من أتباعه و أوليائه.
أصحاب الأئمة المقربين لم يكن لهم علم بمثل هذه النصوص!
... لو كانت هذه الأحاديث التي فيها النص من الرسول (صلى ا لله عليه وآله) على أسماء الأئمة و أسماء آبائهم، صحيحة فعلا و موجودة عند الأئمة، بكثير من رواة تلك الأحاديث، أي خبر عن هذه الأحاديث و لا أي علم بهذا الموضوع ؟! فلم يكن لهم علم بالأئمة الاثني عشر، بل لم يكن لهم علم بالإمام الذي سيعقب إمامهم الحالي! إن مطالعة مختصرة لأحوال و أخبار بعض خواص أصحاب الأئمة تبين بوضوح هذه الحقيقة و فيما يلي ننقل أحوال بعضهم من كتب الحديث الشيعية الموثقة المعتبرة:(134/2)
فمن جملتهم جناب "أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار" (أو ثابت بن أبي صفية) الممدوح من الخاص و العام في كتب رجال الخاصة و العامة والذي قال عنه حضرة الصادق: [أبو حمزة في زمانه مثل سلمان في زمانه و كلقمان في زمانه]، و قد أدرك أربعة من الأئمة هم حضرات السجاد و الباقر و الصادق والكاظم، و مع ذلك لم يكن يعرف من هو الإمام بعد حضرة الصادق و عندما سمع بوفاة حضرة الصادق من رجل أعرابي صاح صيحة و ضرب الأرض بيده و سأل الأعرابي فقال: هل سمعته أوصى وصية ؟ فقال الأعرابي: أوصى لابنه عبد الله و لابنه الأخر موسى و لأبي جعفر المنصور الدوانيقي، عندئذ قال أبو حمزة: الحمد لله الذي لم يضلنا! (1)
... لكن واضعي أحاديث النص أبوا إلا أن يضعوا حديثا، فيه النص على الأئمة الاثني عشر واحدا واحدا، على لسان أبي حمزة و ابنه و هو الحديث الثامن من الأحاديث التي ناقشناها و المروي في الأصل عن أبي حمزة البطائني الملعون ولكن نسبه بعضهم زورا إلى أبي حمزة الثمالي، مما سبق و بينا خطأه.
__________
(1) انظر: الخرائج للراوندي: ص 202، و بحار الأنوار للمجلسي: ج12/ ص13.(134/3)
و منهم أيضا "أبو جعفر محمد بن علي الأحول" المعروف بمؤمن الطاق، أما مخالفوه فيسمونه: شيطان الطاق! و الذي نقلت عنه مباحثات ومناظرات مع الإمام أبي حنيفة، و الذي كان من الأصحاب الخاصين المقربين لحضرة زين العابدين و للإمام الباقر و الإمام الصادق و الإمام الكاظم، و جميع الرجاليين يذكرونه بالخير و الثناء، و هو الذي نقلنا فيما سبق مباحثته مع الإمام زيد بن علي بن الحسين حول الإمامة بالنص و أنه كان يعتقد، خلافا لزيد، بأن الإمام هو الذي ينص الله تعالى عليه و أن هناك أئمة منصوص عليهم من قبل الله تعالى، هذا الشخص مع كل فضيلته و محبته لأهل بيت النبوة، لم يكن يعلم من هو الإمام بعد الإمام الصادق! كما في رجال الكشي (ص239) و خرائج الراوندي (ص 203) و إثبات الوصية للمسعودي (ص191) و بصائر الدرجات للحسن بن صفار و الكافي للكليني: [ عن هشام بن سالم قال: كنا بالمدينة بعد وفاة أبي عبد الله - عليه السلام - أنا و صاحب الطاق و الناس مجتمعون على عبد الله بن جعفر أنه صاحب الأمر بعد أبيه، فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق والناس عنده و ذلك أنهم رووا عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه قال: إن الأمر في الكبير ما لم تكن به عاهة، فدخلنا عليه نسأله عما كنا نسأل عنه أباه، فسألناه عن الزكاة في كم تجب ؟ فقال: في مائتين خمسة، فقلنا: ففي مائة ؟ فقال: درهمان و نصف! فقلنا: و الله ما تقول المرجئة هذا (1). قال: فرفع يديه إلى السماء و قال: و الله ما أدري ما تقول المرجئة! قال: فخرجنا من عنده ضلالا لا ندري أين نتوجه أنا و أبو جعفر الأحول. فقعدنا في بعض أزقة المدينة باكين حيارى لا ندري إلى أين نتوجه و لا من نقصد ؟ و نقول: إلى المرجئة ؟ إلى القدرية ؟ إلى الزيدية ؟ إلى المعتزلة ؟ إلى الخوارج... الحديث ] (2)
__________
(1) كان عبد الله بن جعفر متهما أنه من المرجئة. (برقعي)
(2) أصول الكافي: كتاب الحجة: باب ما يفصل به بين دعوى المحق و المبطل:حديث 17:ج1/ص351.(مت)(134/4)
.
... فإذا كان أمثال مؤمن الطاق و هشام بن سالم، لا يعلمان مَن هو الإمام بعد الإمام الموجود ؟ فمِنَ اليقين به أنه لم تكن هناك أحاديث النص، إذ لو وجدت لكانا أول من يعلم بها و لما بكيا و تحيرا بعد وفاة إمامهما!
... و من العجيب أيضا أن حضرة "هشام بن سالم" هذا الذي وضعوا على لسانه أحد أحاديث النص الهامة (و هو الحديث العاشر من الأحاديث التي ناقشناها) كان أيضا من المتحيرين، كما أشرنا لذلك في نقدنا لمتن الحديث، والأعجب أن نفس الرواة بعينهم، سواء المتصل بالمعصوم منهم أو المنفصلين، رووا كل الحديثين!! ( أي حديث النص و حديث الحيرة )، حيث روى الحسن بن الصفار حديث النص عن ابن أبي عمير عن "هشام بن سالم"، و حديث الحيرة بواسطتين عن ابن أبي عمير عن "هشام بن سالم"، فما أعجب هذا التناقض!، وينبغي أن يقال أن حديث الحيرة أقوى و أرجح لأنه جاء في كل كتب الشيعة المعتمدة، في حين أن حديث النص لم يأت إلا في كتاب واحد، بالإضافة لظهور علامات الكذب عليه من عدة جهات.
أحد المتحيرين العجيبين هو جناب زرارة بن أعين الذي كان من خواص وخُلَّص أصحاب الأئمة عليهم السلام، كما جاء في رجال الكشي (ص207) و سائر كتب الرجال من رواية جميل بن دراج قال: [سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول: أوتاد الأرض و أعلام الدين أربعة محمد بن مسلم و يزيد بن معاوية و ليث البختري و زرارة بن أعين] و في ص 208 من رجال الكشي أيضا: [ عن أبي عبد الله أنه قال: أربعة أحب الناس إلي أحياء و أمواتا، بريد العجلي و زرارة و محمد بن مسلم و الأحول] و فيه أيضا: [بشر المخبتين بالجنة يزيد بن معاوية و أبو بصير ليث البختري ومحمد بن مسلم و زرارة، أربعة نجباء أمناء الله على حلاله و حرامه، لولا هؤلاء لانقطعت آثار النبوة].(134/5)
... زرارة بن أعين هذا روى عنه الكشي حيرته بعد وفاة الإمام الصادق - عليه السلام -، كما يلي: [.. عن علي بن يقطين قال: لما كانت وفاة أبي عبد الله - عليه السلام - قال الناس بعبد الله بن جعفر و اختلفوا، فقائل به و قائل بأبي الحسن - عليه السلام - (أي موسى الكاظم). فدعا زرارة ابنه عبيدا فقال: يا بني! الناس مختلفون في هذا الأمر فمن قال بعبد الله فإنما ذهب إلى الخبر الذي جاء أن الإمامة في الكبير من ولد الإمام فشد راحلتك و امض إلى المدينة حتى تأتيني بصحة الخبر، فشدَّ راحلته و مضى إلى المدينة. و اعتلَّ زرارة فلما حضرته الوفاة سأل عن عبيد فقيل له إنه لم يقدم، فدعا بالمصحف فقال: اللهم إني مصدق بما جاء به نبيك محمد فيما أنزلته عليه و بينته لنا على لسانه و إني مصدق بما أنزلته عليه في هذا الجامع و إن عقيدتي و ديني الذي يأتيني به عبيد ابني، و ما بينته في كتابك فإن أمتني قبل هذا فهذه شهادتي على نفسي و إقراري بما يأتي به عبيد ابني و أنت الشهيد عليَّ بذلك، فمات زرارة... الحديث ].
... و روى الكشي ( في ص 139) حيرة زرارة بعبارة أخرى من طريق آخر [عن نصر بن شعيب عن عمَّة زرارة قالت: لما وقع زرارة و اشتد به، قال: ناوليني المصحف فناولتُهُ و فتحتُهُ فوضعتُهُ على صدره و أخذه مني ثم قال: يا عمَّة! اشهدي أن ليس لي إمام غير هذا الكتاب ].
... فنقول: لو كانت أحاديث النص على تلك الكثرة لدرجة أن يرويها حتى أبو هريرة و معاوية و اسحق بن عمار و جابر و عشرات آخرون، فكيف لم تصل لمسامع زرارة الذي كان أقرب من كل المذكورين إلى الأئمة عليهم السلام ؟!(134/6)
كذلك ضمن الحديث الذي رواه الكشي في رجاله (ص241) عن حيرة هشام بن سالم، ذكرت أيضا حيرة المفضل بن عمرو و أبي بصير، مع أنهما كانا من خواص أصحاب حضرة الصادق - عليه السلام -، لكنهما لم يعرفا من الإمام بعد وفاة الصادق، ثم عرفا إمامة موسى الكاظم بفضل هداية هشام بن سالم لهما، هذا مع أن الكليني روى حديثين من أصل ستة عشر حديثا، في النص على إمامة موسى بن جعفر بعد حضرة الصادق، عن نفس المفضل بن عمرو هذا!.
محمد (بن عبد الله) الطيار شخص آخر من المتحيرين من خواص أصحاب الإمام الباقر - عليه السلام -، الذي كان الإمام الباقر يفاخر بفقهه و علمه، و مع ذلك لم يكن يعرف الإمام بعد حضرة الصادق، و كذلك مر بفترة حيرة و تردد في معرفة الإمام و اتباعه، حيث يروي الكشي قصته فيقول: [ عن حمزة بن طيار عن أبيه محمد قال: جئت إلى أبي جعفر - عليه السلام - أستأذن عليه فلم يأذن لي وأذن لغيري! فرجعت إلى منزلي و أنا مغموم فطرحت نفسي على سرير في الدار و ذهب عني النوم فجعلت أفكر و أقول أليس المرجئة تقول كذا ؟ والقدرية تقول كذا ؟ و الحرورية تقول كذا ؟ والزيدية تقول كذا ؟ فيفسد عليهم قولهم (يعني يرى أنه لا يستطيع اتباعهم)، فأنا أفكر في هذا حتى نادى المنادي فإذا بالباب يدق فقلت: من هذا ؟ فقال رسولٌ لأبي جعفر - عليه السلام - يقول لك أبو جعفر أجب، فأخذت ثيابي ومضيت معه فدخلت عليه فلما رآني قال يا محمد لا إلى المرجئة و لا إلى القدرية و لا إلى الحرورية و لا إلى الزيدية و لكن إلينا، إنما حجبتك لكذا و كذا، فقبلت و قلت به ].
أحمد بن محمد بن خالد البرقي شخص آخر من المتحيرين من خواص أصحاب الأئمة عليهم السلام و سيأتي شرح حاله قريبا عند الكلام على الحديث الطويل المروي عنه (1) .
__________
(1) انظر الصفحة 241 من هذا الكتاب. (مت)(134/7)
... ولو أردنا استقصاء جميع المتحيرين ممن كانوا من أصحاب الأئمة المقربين لطال بنا الكلام كثيرا لذا نكتفي بما ذكرناه و نعتقد أنه كاف لإقناع ذوي الألباب بأن أحاديث النص على ذلك النحو من التفصيل و التوضيح المسطور في كتبنا، لا أصل لها، بل من وضع الكذابين الوضاعين الغلاة، و من أظلم ممن افترى على الله كذبا.
الأئمة أنفسهم لم يكن لهم علم بأحاديث النص!
... 1 ـ من القضايا التاريخية المسلمة قصة تعيين الإمام الصادق - عليه السلام - لابنه "اسماعيل"، على أنه الإمام من بعده، و قد سمع كثير من الشيعة نص الصادق الصريح عليه و آمنوا أن اسماعيل هو خليفة والده في الإمامة. لكن الذي حدث هو أن اسماعيل توفي قبل وفاة أبيه الصادق، و بالتالي لم تتحقق نبوءة و تكهن والده الصادق، و لما سأل الناس الصادقَ عن ذلك أجاب: [ إن الله بدا له في إمامة اسماعيل ] أو [ بدا لِلَّهِ في اسماعيل ]. و طبقا لما ذكره أرباب الملل و النحل ـ مثل سعد بن عبد الله الأشعري، الذي يعد من كبار علماء و محدثي الشيعة، في كتابه المقالات و الفرق (ص78) ـ أدت هذه الإجابة إلى رجوع كثيرين ممن كانوا يعتقدون بإمامة حضرة الصادق عن القول بإمامة الصادق بحجة [ أن الإمام لا يكذب و لا يقول ما لا يكون! ].
... و أيا كان، فالمهم أن هذا الأمر بحد ذاته يدل دلالة واضحة على أن نفس حضرة الصادق لم يكن يعلم من هو الإمام الذي سيكون من بعده فعلا ؟ و بالتالي لم يكن لديه أي خبر عن أحاديث النص على الأئمة الاثني عشر واحدا واحدا بأسمائهم، كحديث اللوح لجابر و غيره!.(134/8)
... 2 ـ أيضا من مسلمات التاريخ قصة وفاة محمد بن علي بن محمد الجواد المعروف بـ " السيد محمد "، و المدفون في قرية يقال لها " بلد " (على تسعة فراسخ من سامراء) في العراق، في حياة والده حضرة الإمام علي بن محمد النقي - عليه السلام -، بعد أن كان والده قد عينه للإمامة من بعده، فلما توفي قبل وفاة والده اعتذر الإمام النقي عن ذلك بنفس اعتذار الصادق حيث قال: [ بدا لِلَّهِ في محمد ].
... و كُتُبُ الشيعة مملوءة بذكر هذه القصة من جملة ذلك ما جاء في كتاب الحجة من أصول الكافي للكليني: [ عن موسى بن جعفر بن وهب عن علي بن جعفر قال: كنت حاضرا عند أبي الحسن - عليه السلام - (أي الإمام علي الهادي) لما توفي ابنه محمد، فقال للحسن: يا بني! أحدِثْ لِلَّهِ شكرا فقد أحدث فيك أمرا] (1). أي أن الإمام الهادي قال لابنه الحسن العسكري اشكر الله لأنه أحدث فيك رأيا جديدا فأعطى الإمامة لك بعد أن كانت ستعطى لأخيك. قال المرحوم الفيض الكاشاني في كتابه الوافي (ص93) معلقا على هذا الحديث: [ بيان: يعني جعلك الله إماما للناس بموت أخيك قبلك، بدا لله فيك بعده ].
... و في الكافي أيضا: [ عن أحمد بن محمد بن عبد الله بن مروان الأنباري قال: كنت حاضرا عند مُضيِّ (أي وفاة) أبي جعفر محمد بن علي، فجاء أبو الحسن - عليه السلام - فوُضِعَ له كرسي فجلس عليه و حوله أهل بيته، و أبو محمد قائم في ناحية، فلما فُرِغَ من أمر أبي جعفر، التفت إلى أبي محمد فقال: يا بُنَيّ! أحدِثْ لِلَّهِ شكرا فقد أحدثَ فيك أمرا.. ] (2).
__________
(1) الأصول من الكافي: كتاب الحجة: باب الإشارة و النص على أبي محمد عليه السلام، الحديث الرابع.
(2) الأصول من الكافي: كتاب الحجة: باب الإشارة و النص على أبي محمد عليه السلام، الحديث الخامس.(134/9)
... و في الكافي أيضا: [ عن جماعة من بني هاشم منهم حسن بن حسن الأفطس، أنهم حضروا يوم توفي محمد بن علي بن محمد باب أبي الحسن يعزونه وقد بسط له في صحن داره و الناس جلوس حوله فقالوا: قدرنا أن يكون حوله من آل أبي طالب و بني هاشم و قريش مائة و خمسون رجلا سوى مواليه وسائر الناس، إذ نظر إلى الحسن بن علي قد جاء مشقوق الجيب حتى قام عن يمينه ونحن لا نعرفه فنظر إليه أبو الحسن بعد ساعة فقال: يا بني! أحدِثْ لله عز و جل شكرا فقد أحدَثَ فيك أمراُ، فبكى الفتى و حَمِدَ الله تعالى واسترجع وقال: الحمد لله رب العالمين، و أنا أسأل الله عز و جل بمنه تمام نعمه لنا فيك، و إنا لله و إنا إليه راجعون. فسألنا فقيل هذا الحسن ابنه، و قدَّرْنا له في ذلك الوقت عشرين سنة أو أرجح، فيومئذ عرفناه و علمنا أنه قد أشار إليه بالإمامة و أقامه مقامه ] (1).
__________
(1) الأصول من الكافي: كتاب الحجة: باب الإشارة و النص على أبي محمد عليه السلام، الحديث الثامن(مت)(134/10)
... و أخرج الكليني حديثا آخر أيضا في هذا الأمر، و هو حديث أخرجه كذلك "الشيخ الطوسي" في كتابه " الغيبة " (ص130، طبع تبريز) بسند آخر و لفظ مختلف قليلا عما في الكافي فقال (و اللفظ للطوسي): [ روى سعد بن عبد الله الأشعري قال: حدثنا أبو هاشم داود بن قاسم الجعفري قال: كنت عند أبي الحسن (أي الإمام علي النقي) وقت وفاة ابنه أبي جعفر (أي السيد محمد) و قد كان أشار إليه و دل عليه، فإني لأفكر في نفسي و أقول هذا قضية أبي إبراهيم (أي الإمام موسى الكاظم) و اسماعيل، فأقبل عليَّ أبو الحسن فقال: نعم يا أبا هاشم! بدا لِلَّه تعالى في أبي جعفر و صيَّر مكانه أبا محمد كما بدا لِلَّه في اسماعيل بعد ما دل عليه أبو عبد الله و نصبه، و هو كما حدَّثتَ به نفسك و إن كره المبطلون، أبو محمد ابني الخلف من بعدي عنده علم ما يحتاج إليه و معه آلة الإمامة ] (1).
... و هناك عدة أحاديث أخرى في أصول الكافي في نفس الباب بنفس هذا المضمون و كذلك في كتاب الغيبة للطوسي. و هذه الأحاديث تدل على أنه لدى وفاة السيد محمد بن الإمام علي بن محمد النقي، لم يكن أحد ـ حتى من خواص أصحاب الأئمة ـ يعرف حضرة الإمام الحسن العسكري ـ حتى مجرد المعرفة ـ فضلا عن أن يكون له علم بإمامته، و منهم أبو هاشم الجعفري راوي الحديث الذي فكر في نفسه كيف توفي محمد بن الإمام علي النقي، في حياة والده، مع كونه عُيِّنَ للإمامة بعد والده ؟! ثم قاس ذلك في ذهنه على ما حدث لاسماعيل الذي توفي في حياة والده جعفر الصادق.
__________
(1) أصول الكافي: كتاب الحجة: باب الإشارة و النص على أبي محمد عليه السلام، الحديث العاشر.(مت)(134/11)
... لكن الوضَّاعين الكذبة وضعوا على لسان أبي هاشم الجعفري هذا نفسه حديثا طويلا فيه نص الرسول (صلىالله عليه وآله) على الأئمة الاثني عشر واحدا واحدا بأسمائهم!! و الحديث أخرجه الكليني في الأصول من الكافي (1) و الصدوق في كتابه إكمال الدين ( باب 29 ما أخبر به الحسن بن علي بن أبي طالب من وقوع الغيبة: ص181) و نقله عنهما الشيخ "الحر العاملي" في كتابه: "إثبات الهداة" (ج2/ص283) كما يلي ( و اللفظ كما في إكمال الدين ):
__________
(1) أصول الكافي: كتاب الحجة: باب ما جاء في الاثني عشر و النص عليهم عليهم السلام، الحديث الأول.(مت)(134/12)
... [ و عن عدة من أصحابنا عن "أحمد بن عبد الله محمد البرقي" عن "أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري" عن أبي جعفر الثاني قال: أقبل أمير المؤمنين و معه ابنه الحسن و هو متكئ على يد سلمان فدخل المسجد الحرام فجلس، إذ أقبل رجل حسن الهيئة و اللباس فسلم على أمير المؤمنين فرد عليه السلام فجلس ثم قال: يا أمير المؤمنين! أسألك من ثلاث مسائل إن أخبرتني بها علمت أن القوم ركبوا من أمرك ما أقضي عليهم أنهم ليسوا بمأمونين في دنياهم و لا في آخرتهم. فقال أمير المؤمنين: سل عما بدا لك. فقال: أخبِرني عن الرجل إذا نام أين يذهب روحه ؟ و عن الرجل كيف يذكر و ينسى ؟ و عن الرجل كيف يشبه الأعمام و الأخوال. فالتفت أمير المؤمنين إلى أبي محمد الحسن بن علي فقال: يا أبا محمد أجبه. فقال: أما ما سألت عنه من أمر الإنسان أين يذهب روحه ؟ فروحه معلقة بالريح و الريح معلقة بالهوى إلى وقت ما يتحرك صاحبها ليقظة فإن الله عزوجل يرد تلك الروح على صاحبها جذبت تلك الروح الريح و جذبت تلك الريح الهوى فرجعت الروح فأسكنت في بدن صاحبها، وإن لم يأذن الله عزوجل برد تلك الروح على صاحبها جذب الهوى الريح و جذب الريح الروح فم ترد إلى صاحبها إلا إلى وقت ما يبعث، و أما ما ذكرت من أمر الذكر و النسيان فإن قلب الرجل في حق و على الحق طبق فإن صلى الرجل عند ذلك على محمد و آل محمد انكشف ذلك الطبق عن ذلك الحق مما يلي القلب و ذكر الرجل ما نسي، و إن هو لم يصل على محمد و آل محمد أو نقص عليهم من الصلوة انطبق ذلك الطبق على ذلك الحق و أظلم القلب و نسي الرجل ما كان ذكر، و أما ما ذكرت من أمر المولود الذي يشبه أعمامه و أخواله فإن الرجل إذا أتى أهله فجامعها بقلب ساكن و عروق هادئة و بدن غير مضطرب فأسكنت تلك النطفة في جوف الرحم خرج الولد يشبه أباه و أمه و إن هو أتاها بقلب غير ساكن و عروق غير هادئة و بدن مضطرب اضطربت تلك النطفة فوقعت في حال اضطرابها على(134/13)
بعض العروق فإن وقعت على عرق من عروق الأعمام أشبه الولد أعمامه و إن وقعت على عرق من عروق الأخوال أشبه الرجل أخواله. فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله و لم أزل أشهد بها و أشهد أن محمدا رسول الله و لم أزل أشهد بها و أشهد أنك وصيه و القائم بحجته بعده و أشار بيده إلى أمير المؤمنين، و لم أزل أشهد بها و أشهد أنك وصيه و القائم بحجته بعده و أشار إلى الحسن، و أشهد أن الحسين بن علي وصي أبيك و القائم بحجته بعدك و أشهد على علي بن الحسين أنه القائم بأمر الحسين بعده و أشهد على محمد بن علي أنه القائم بأمر علي بن الحسين و أشهد على جعفر بن محمد أنه القائم بأمر محمد بن علي بن الحسين و أشهد على موسى بن جعفر أنه القائم بأمر جعفر بن محمد و أشهد على علي بن موسى أنه القائم بأمر موسى بن جعفر و أشهد على محمد بن علي أنه القائم بأمر علي بن موسى و أشهد على علي بن محمد أنه القائم بأمر محمد بن علي و أشهد على الحسن بن علي أنه القائم بأمر علي بن محمد و أشهد على رجل من ولد الحسن بن علي لا يكنى و لا يسمى حتى يظهر أمره فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا و السلام عليك يا أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته ثم قام و مضى، فقال أمير المؤمنين: يا أبا محمد اتبعه فانظر أين يقصد؟ فخرج الحسن في أثره فقال: ما كان إلا أن وضع رجله خارج المسجد فما دريت أين أخذ من أرض الله فرجعت إلى أمير المؤمنين فأعلمته فقال: هو الخضر! ](134/14)
... هذا الحديث أخرجه "الكليني" في أصول الكافي من طريقين و أخرجه "الشيخ الصدوق" في كتابيه "عيون أخبار الرضا" و "إكمال الدين"، و "النعماني" في كتابه "الغيبة" و "الشيخ الطوسي" في كتابه "الغيبة" أيضا، و "الطبرسي (احمد بن علي)" في "الاحتجاج"، بطرق مختلفة لكنها تجتمع كلها على "أحمد بن عبد الله البرقي" عن "أبي هاشم"، و يكفي هذا لمعرفة كذب و اختلاق الحديث، حيث عرفنا أن "أبا هشام الجعفري" هذا كان من الذين تصوروا أن الإمام بعد حضرة الإمام علي النقي هو ابنه السيد محمد، و بقي على ذلك إلى أن جاء يوم وفاة السيد محمد في حياة والده و رأى أن حضرة علي النقي بشر ابنه حضرة العسكري بالإمامة ففكر في نفسه أن قصة العسكري مع السيد محمد مثل قصة موسى الكاظم مع اسماعيل. فمثل هذا لا يمكن أن يكون هو نفسه راو لحديث ينص على أسماء الأئمة حتى العسكري و ابنه!
... و نحن لا نتعجب من الوضاعين الكذبة الذين اختلقوا مثل هذه الأحاديث لأجل تأييد فكرة مذهبية أو سياسية معينة، أو لأجل كونهم أداة لبعض أعداء الإسلام العاملين على نشر الخرافات فيه و التفرقة بين أبنائه. إن تعجُّبَنَا هو من الشيخ الصدوق و الشيخ الطوسي و الشيخ الكليني و أمثالهم الذين، من جهة، يروون حديث أبي هاشم في بداء الله في السيد محمد ونص حضرة الهادي على إمامة حضرة العسكري بعد وفاة أخيه السيد محمد ليثبتوا بذلك إمامة حضرة العسكري، و من الجهة الأخرى، يروون عدة أحاديث عن نفس أبي هاشم الجعفري هذا في أن الأئمة الاثني عشر منصوص عليهم بأسمائهم!! و لا ندري إن لم يكن هذا هو التناقض بعينه فماذا يكون التناقض إذن ؟!(134/15)
... و أما أحمد بن أبي عبد الله البرقي الذي روى الحديث عن أبي هاشم، فقال عنه النجاشي في رجاله (ص59): [ كان ثقة في نفسه، يروي عن الضعفاء و اعتمد المراسيل ] و بمثل ذلك وصفه الطوسي في الفهرست فقال: [ كان ثقة في نفسه إلا أنه أكثر الرواية عن الضعفاء و اعتمد المراسيل ] و قال عنه ابن الغضائري و العلامة الحلي: [.. طعن عليه القميون و ليس الطعن فيه إنما الطعن فيمن يروي عنه فإنه كان لا يبالي عمن أخذ على طريقة أهل الأخبار و كان أحمد بن محمد بن عيسى أبعده من قم ].
... و لعلنا عرفنا الآن لماذا روى مثل هذا الحديث الغريب عن أبي هاشم!! و الأعجب من ذلك أن "أحمد البرقي" هذا كان ـ طبقا لما أورده الكافي في أصوله ـ من المتحيرين في المذهب أيضا، أي لم يكن يعلم من هو الإمام بعد حضرة الحسن العسكري أو أنه كان متحيرا في أصل مذهب التشيع، كما قال الفيض الكاشاني في كتابه الوافي (ج2/ص72): [ و يستفاد من آخر هذا الخبر أن البرقي قد تحير في أمر دينه طائفة من من عمره! ]. و إنه لأمر عجيب حقا أن يكون البرقي هذا، الذي كان معاصرا لأربعة من الأئمة، حيث كان من أصحاب حضرة الجواد و مات سنة 280هـ أي بعد عشرين سنة من وفاة الإمام الحسن العسكري، و الذي روى لنا عديدا من أحاديث النص على إمامة الأئمة الاثني عشر (راجع أصول الكافي: كتاب الحجة: باب ما جاء في الاثني عشر و النص عليهم عليهم السلام) جعلناها نحن من أصول عقائدنا، و يكون هو بنفسه متيحرا في أمر دينه، و هل هذا إلا كمن قال: أعمى يقود عميان!!(134/16)
... أما متن الحديث فغني عن التعليق! و نقترح أن يقدم لأساتذة الطب و الوراثة ليفصلوا فيه! فقط نتساءل: ما فائدة شهادة الخضر في هذا المقام ؟ و لو كان قصد الخضر إثبات حقانية إمامة الأئمة و لزومهما على الأمة فلماذا لم يلق حديثه في جمع من الناس، بعد أن يعرفهم بنفسه، ثم يشهد بشهاداته تلك لتقوم الحجة على الناس؟ فلحن الرواية يفيد أنه لم يكن في مجلس الحديث سوى السائل والمسؤول، خاصة أنه لم يرو أحد آخر هذا الحديث! (1)
__________
(1) ذكر المصنف نقودا لمتن الحديث بين قوسين أثناء ترجمته للفارسية و قد أطال في النقود مما لا طائل كثير تحته لأنه واضح فاختصرته نقد المتن بألفاظ من عندي في هذه الفقرة القصية طلبا للاختصار.(مت)(134/17)
... على كل حال كان غرضنا من ذكر هذا الحديث و الذي قبله أن يعلم طلاب الحق أن هذا الحديث روي على لسان شخص لم يكن هو نفسه يعرف من هو الإمام بعد حضرة الهادي، و أنه لم يكن أحد من أصحاب الأئمة حتى أقرب الناس إليهم يعرفون ابتداءً لمن ستكون الإمامة بعد رحيل إمام الوقت، بل حتى الأئمة أنفسهم لم يكونوا يعرفون من الإمام بعدهم، حيث كانوا يرون في شخص ما من أبنائهم أهلية الإمامة فيعهدون له بالإمامة من بعدهم ويخبرون بذلك شيعتهم، و إذا بقدر الله و قضائه يخلف ظنهم و يموت المعهود إليه بالإمامة، في حال حياتهم، فيقولون بدا لِلَّه في اسماعيل و جعل موسى مكانه، و بدا لِلَّه في محمد بن علي و جعل الحسن بن علي العسكري مكانه، و هذا بحد ذاته حجة قاطعة على كذب و بطلان كل أحاديث النص النبوي السابق على الأئمة الاثني عشر. (1)
__________
(1) فإن قال قائل كيف لم ينتبه علماء الشيعة الكبار كالشيخ الصدوق و الشيخ الطوسي و العلامة المجلسي وأمثالهم لعيوب و علل و كذب مثل أحاديث النص هذه، بل رووها في كتبهم و أوقعوا ببركتها النزاع والشحناء و سوء الظن بين ملايين المسلمين إلى يوم القيامة حيث صارت الإمامة من أصول الدين و إنكار أحد الأئمة كفر مبين ؟ فالجواب: هو أن حب الشيء يعمي و يصم، فلما كان آل محمد صلوات الله تعالى عليهم ممن ظُلِم و اضطُهِد و قُتِل و استشهد و وقع عليه من المظالم ما يفتت الأكباد، مما جعل قلوب الناس تحبهم وتهفو إليهم و تتعلق بهم، و خاصة مثل أولئك العلماء الذي كانوا، لفرط تعلقهم و محبتهم لآل محمد صلوات الله عليهم، يحرصون على إثبات مقاماتهم و إثبات مناصب إلهية لهم، و كانوا لشدة محبتهم لأئمة الآل وبغضهم لظالميهم من خلفاء بني أمية و بني العباس يتساهلون في رواية كل مايثبت لهم فضلا أو نصا من الرسول (ص) ولا يجدون في أنفسهم المجال لتمحيص و نقد مثل هذه الروايات بل يذكرون كل ما وصل إليهم، ثم جاء من بعدهم من العلماء فأخذوا عنهم رواياتهم اعتمادا على حسن ظنهم بأمثال أولئك الأعلام و لم يتصوروا أن تكون كثير من الأحايث التي رووها على هذا القدر من التناقض و التهافت و الضعف و السقوط و لا كانوا قادرين أن يصدقوا أنها من وضع عدة من الغلاة الكذبة، بل لبساطتهم و نقاوة صدورهم من الغل و الغش والخداع، صدقوا هذه الأحاديث الموضوعة و أدرجوها في كتبهم. و أكثر هذه الأحاديث وضع في القرن الهجري الثالث، عندما تحددت فرق المسلمين و أخذت شكلها المتميز و اشتد الصراع فيما بينها، و اندفع الكثيرون، من باب التعصب لمذهبهم، ( كما هو الحال في عصرنا و في كل عصر ) للدفاع عن عقائدهم وإثباتها بكل ما يتيسر لهم من الوسائل و الحجج سواء كانت ضعيفة أو قوية! لذا كثرت الأحاديث الموضوعة و الخرافات و المعجزات العجيبة المنسوبة للأئمة، للدفاع عن المذهب و تأييده، خاصة لما صارت المشيخة والمذهب لدى الكثيرين حانوتا للتكسب و العيش، و صار لزاما على دعاة المذهب الدفاع عن دكانهم بشتى الوسائل و لو بأشد الأحاديث وضعا، و اختراع عشرات الحجج لله بعد رسول الله (ص) مع أن الله تعالىيقول{ رسلا مبشرين و منذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل }!. ( برقعي)(134/18)
( افتراق الشيعة إلى فرق مختلفة عقب وفاة كل إمام يبين كذب واختلاق أحاديث النص
( فرق الشيعة بعد استشهاد الإمام علي عليه السلام
( فرق الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام
افتراق الشيعة إلى فرق مختلفة عقب وفاة كل إمام يبين كذب واختلاق أحاديث النص
... ألف علماء المسلمين كثيرا من الكتب عن الفرق الإسلامية و الملل والنحل، و لا شك أن بعضها لم يخل من التحيز و التعصب لمذهب المؤلف والتحامل على مذاهب الخصوم كإلزامهم بما لا يقولون به أو نسبة أباطيل إليهم. لذا فنحن في هذا المقام لن نرجع إلا إلى كتابين من كتب الفرق ألفهما عالمان من علماء الشيعة الإمامية الكبار الموثقين، لننقل عنهم حرفيا ما ذكروه من انشعابات و حدوث فرق متعددة في أوساط الشيعة، ليتضح أنه لو كان ثمة نص مشهور من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تعيين الأئمة لما وجدت كل هذه الفرق المختلفة في الشيعة.
... لا نعرف، من بين علماء الشيعة القدماء، من ألف كتبا، بقيت إلى يومنا هذا، في فرق المسلمين و مللهم ونحلهم، سوى اثنين من العلماء المبرزين الكبار هما: 1 ـ سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمي المتوفى سنة 301 هـ و الذي يعد من أكابر محدثي الشيعة و من مشايخ محمد بن جعفر بن قولويه في الرواية و من أصحاب حضرة الإمام الحسن العسكري، حتى أن بعض الروايات تذكر لقاءه للإمام الحسن العسكري ولابنه حضرة القائم، و إن كان هذا اللقاء يعتبر بنظر عدة من علماء الشيعة الكبار، مكذوبا و موضوعا، لكن على أي حال لا يوجد أحد يشكك في نزاهة و شخصية سعد بن عبد الله و أنه من أكابر محدثي الشيعة الإمامية وفقهائهم الموثوقين، و قد ألف لنا كتابا هاما في الفرق و النحل سماه: " المقالات و الفرق ".(135/1)
... 2 ـ و الثاني هو أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي المتوفى فيما بين سنة 300 و 310 هـ و الذي كان من أفاضل الشيعة و كبار علمائهم أيضا و من عائلة عرفت كلها بالعلم و الفضل في أوساط الشيعة، و قد ترك لنا كتابا هاما أيضا في الفرق خصصه لذكر فرق الشيعة فقط و سماه: " فرق الشيعة ". ...
... و نحن سنذكر فيما يلي خلاصة ما ذكره المؤلفان في كتابيهما المذكورين في بيان الفرق التي وجدت في الشيعة ليكون ذلك دليلا آخر على أنه لو كان هناك نص أو نصوص نبوية سابقة على ذلك النحو و الصورة التي يدعونها لما أمكن أن تنشأ كل هذه الفرق المتعددة و المختلفة بين الشيعة أنفسهم . قالا:
... [ افترقت الأمة عقب وفاة رسول الله(صلّىاللّه عليه وآله) إلى ثلاث فرق: 1ـ فرقة منها سميت الشيعة و هم شيعة علي بن أبي طالب - عليه السلام - و اتبعوه و لم يرجعوا إلى غيره. و منهم افترقت صنوف الشيعة كلها. 2ـ و فرقة منهم ادعت الإمرة و السلطان، و هم الأنصار و دعوا إلى عقد الأمر لسعد بن عبادة الخزرجي، 3ـ و فرقة مالت إلى بيعة أبي بكر بن أبي قحافة.. و تنازعت الفرقتان الأخيرتان ثم رجع أغلب الأنصار و من تابعهم إلى أمر أبي بكر.
... و عقب مقتل عثمان بايع الناس عليا فسموا الجماعة، ثم افترقوا بعد ذلك فصاروا ثلاث فرق: 1ـ فرقة أقامت على ولاية علي بن أبي طالب - عليه السلام -. 2ـ و فرقة اعتزلته مع سعد بن أبي وقاص و عبد الله بن عمر و محمد بن مسلمة الأنصاري و أسامة بن زيد فامتنعوا عن محاربته و المحاربة معه. 3ـ و فرقة خالفته و قامت عليه و هم طلحة و الزبير و عائشة و أنصارهم، فقاتلهم علي - عليه السلام - و هزمهم، و هم أهل الجمل. و هرب منهم قوم إلى معاوية و صاروا معه في المطالبة بدم عثمان، و حاربوا عليا - عليه السلام - و هم أهل صفين.(135/2)
... ثم خرجت فرقة ممن كان مع علي - عليه السلام -، و خالفته بعد تحكيم الحكمين بينه و بين معاوية و أهل الشام و كفَّروا عليا و تبرؤا منه وسموا الخوارج و منهم افترقت فرق الخوارج كلها.
... فلما قُتِلَ علي التقت الفرقة التي كانت معه و الفرقة التي كانت مع طلحة و الزبير و عائشة فصاروا فرقة واحدة مع معاوية بن أبي سفيان إلا القليل منهم من شيعته و من قال بإمامته بعد النبي صلى الله عليه وآله و هم السواد الأعظم و أهل الحشو و أتباع الملوك و أعوان كل من غلب، أعني الذين التقوا مع معاوية فسموا جميعا " المرجئة " لأنهم تولوا المختلفين جميعا و زعموا أن أهل القبلة كلهم مؤمنون بإقرارهم الظاهر بالإيمان و رجوا لهم جميعا المغفرة. و افترقت ( المرجئة ) بعد ذلك فصارت إلى أربع فرق: الجهمية و هم مرجئة أهل خراسان، و الغيلانية و هم مرجئة أهل الشام، و الماصرية و هم مرجئة أهل العراق منهم " أبو حنيفة " و نظراؤه، و "الشكاك" أو " البترية " أصحاب الحديث منهم " سفيان بن سعيد الثوري " و "شريك بن عبد الله" و " ابن أبي ليلى " و " محمد بن إدريس الشافعي" و "مالك بن أنس" و نظراؤهم من أهل الحشو و الجمهور العظيم و قد سموا (الحشوية).
... فقالت أوائلهم في الإمامة: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله من الدنيا ولم يستخلف على دينه من يقوم مقامه في لم الشعث، و جمع الكلمة، و السعي في أمور الملك و الرعية، و إقامة الهدنة و تأمير الأمراء و تجييش الجيوش، و الدفع عن بيضة الإسلام، و تعليم الجاهل و إنصاف المظلوم، و جوَّزوا فعل هذا الفعل لكل إمام أقيم بعد الرسول صلى الله عليه وآله.
... ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم: على الناس أن يجتهدوا آراءهم في نصب الإمام و جميع حوادث الدين و الدنيا إلى اجتهاد الرأي، و قال بعضهم: الرأي باطل و لكن الله عز و جل أمر الخلق أن يختاروا الإمام بعقولهم.(135/3)
... و شذت طائفة من المعتزلة عن قول أسلافها فزعمت أن النبي صلى الله عليه وآله نص علىى صفة الإمام و نعته و لم ينص على اسمه و نسبه، و هذا قول أحدثوه قريبا.
... و كذلك قالت جماعة من أهل الحديث هربت حين عضَّها حِجَاج الإمامية و لجأت إلى أن النبي صلى الله عليه وآله نص على أبي بكر بأمره إياه بالصلوة، و تركت مذهب أسلافها في أن المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله قالوا: رضينا لدنيانا بإمام رضيه رسول الله صلى الله عليه وآله لديننا.
... و اختلف أهل الإهمال ( أي القائلون أن الرسول لم يستخلف أحدا ) في إمامة الفاضل و المفضول، إذا كانت في الفاضل علة تمنع إمامته، و وافق سائرهم أصحاب النص على أن الإمامة لا تكون إلا للفاضل المتقدم.
... ثم اختلفوا جميعا في القول بالإمامة و أهلها فقالت ( البترية ) و هم أصحاب ( الحسن بن صالح بن حي ) و من قال بقوله أن عليا - عليه السلام - هو أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله و أولاهم بالإمامة، و أن بيعة أبي بكر ليست بخطأ، و وقفوا في عثمان و ثبتوا حزب علي - عليه السلام -، و شهدو اعلى مخالفيه بالنار، و اعتلُّوا بأن عليا - عليه السلام - سلم لهما ذلك فهو بمنزلة رجل كان له على رجل حق فتركه له.
... و قال " سليمان بن جرير الرقي " و من قال بقوله أن عليا - عليه السلام - كان الإمام و أن بيعة أبي بكر و عمر كانت خطأً و لا يستحقان اسم الفسق عليها من قبل التأويل لأنهما تأولا فأخطآ، و تبرؤا من عثمان فشهدوا عليه بالكفر ومحارب علي - عليه السلام - عندهم كافر.
... و قال " ابن التمار " و من قال بقوله: إن عليا - عليه السلام - كان مستحقا للإمامة و إنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، و إن الأمة ليست بمخطئة خطأ إثم في توليتها أبا بكر و عمر و لكنها مخطئة بتركة الأفضل، و تبرؤا من عثمان و من محارب علي - عليه السلام - و شهدوا عليه بالكفر.(135/4)
... و قال ( الفضل الرقاشي ) و ( أبو شمر ) و ( غيلان بن مروان ) و (جهم بن صفوان) و من قال بقولهم من المرجئة: إن الإمامة يستحقها كل من قام بها إذا كان عالما بالكتاب و السنة و أنه لا تثبت الإمامة إلا بإجماع الأمة كلها.
... و قال أبو حنيفة و سائر المرجئة: لا تصلح الإمامة إلا في قريش، كل من دعا منها إلى الكتاب و السنة و العمل بالعدل وجبت إمامته و وجب الخروج معه و ذلك للخبر الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: الأئمة من قريش.
... و قالت الخوارج كلها إلا النجدية منهم: الإمامة تصلح في أفناء الناس، كل من كان منهم قائما بالكتاب و السنة عالما بهما، و إن الإمامة تثبت بعقد رجلين.
... و قالت النجدية من الخوارج: الأمة غير محتاجة إلى إمام و لا غيره، وإنما علينا و على الناس أن نقيم كتاب الله عزوجل فيما بيننا.
... و قالت المعتزلة: إن الإمامة يستحقها كل من كان قائما بالكتاب والسنة، فإذا اجتمع قرشي و نبطي و هما قائمان بالكتاب و السنة، و لينا القرشي، والإمامة لا تكون إلا بإجماع الأمة و اختيار و نظر.
... و قال " ضرار بن عمرو ": إذا اجتمع قرشي و نبطي ولينا النبطي وتركنا القرشي، لأنه أقل عشيرة و أقل عددا، فإذا عصى الله و أردنا خلعه كانت شوكته أهون، و إنما قلت ذلك نظرا للإسلام.
... و قال إبراهيم النظَّام و من قال بقوله: الإمامة تصلح لكل من كان قائمابالكتاب و السنة لقول الله عزوجل: إن أكرمكم عند الله أتقاكم. (الحجرات: 13 ). و زعم أن الناس لا يجب عليهم فرض الإمامة إذا هم أطاعوا الله و أصلحوا سرائرهم و علانيتهم فإنهم لن يكونوا كذا إلا و عَلَمُ الإمام قائم باضطرار يعرفون عينه، فعليهم اتباعه و لن يجوز أن يكلفهم الله عزوجل معرفته ولم يضع عندهم علمه فيكلفهم المحال.(135/5)
... و قالوا في عقد المسلمين الإمامة لأبي بكر: إنهم قد أصابوا ذلك و إنه كان أصلحهم في ذلك الوقت، و اعتلوا في ذلك بالقياس و بخبر تأوَّلوه... ](1) .
...
... ثم ذكرا سائر أقوال الفرق في الإمامة مما لا نحتاج لذكره هنا لأن قصدنا هو ذكر انقسامات الشيعة و فرقهم و شرح اختلافاتهم في الإمامة لذا نتجه لذكر ما قالاه في هذا المجال مع رعاية الاختصار، قالا:
... [ فجميع أصول الفرق كلها الجامعة لها أربعة فرق: الشيعة و المرجئة والمعتزلة و الخوارج.
... فأول الفرق الشيعة، و هي فرقة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه المُسمَّوْن بشيعة علي في زمان النبي صلى الله عليه وآله و بعده معروفون بانقطاعهم إليه و القول بإمامته، منهم المقداد بن الأسود الكندي، و سلمان الفارسي، وأبو ذر جندب بن جنادة الغفاري و عمار بن ياسر، المؤثرون طاعته، المؤتمون به وغيرهم ممن وافق مودته مودة علي بن أبي طالب. فلما قَبَضَ الله نبيه صلى الله عليه وآله افترقت فرقة الشيعة فصاروا في الإمامة ثلاث فرق:
... 1ـ فرقة منهم قالت أن علي بن أبي طالب إمام و مفروض الطاعة من الله و رسوله بعد رسوله صلى الله عليه وآله واجب على الناس القبول منه و الأخذ منه لا يجوز لهم غيره و أن النبي صلى الله عليه وآله نص عليه باسمه و نسبه و قلد الأمة إمامته و عقد له عليهم إمرة المؤمنين... و قالوا لا بد مع ذلك أن تكون تلك الإمامة دائمة جارية في عقبه إلى يوم القيامة، تكون في ولده من ولد فاطمة بنت رسول الله يقوم مقامه أبدا رجل منهم معصوم من الذنوب طاهر من العيوب...
__________
(1) المقالات و الفرق لسعد بن عبد الله الأشعري: ص 2 إلى 9، و فرق الشيعة للنوبختي: ص 1 إلى 11. (مت)(135/6)
... 2ـ و فرقة قالت أن عليا رحمة الله عليه كان أولى الناس بعد رسول الله بالناس، لفضله و سابقته و قرابته و علمه، و هو أفضل الناس كلهم بعده وأشجعهم و أسخاهم.. و أجازوا مع ذلك خلافة أبي بكر و عمر، رأوهما أهلا لذلك المكان و المقام. احتجوا في ذلك بأن زعموا أن عليا سلم لهما الأمر و رضي بذلك و بايعهما طائعا غير مكره و ترك حقه لهما، فنحن راضون كما رضي المسلمون له و لمن تابع لا يحل لنا غير ذلك و لا يسع أحد إلا ذلك، و أن ولاية أبي بكر صارت رشدا و هدى لتسليم علي صلى الله عليه له ذلك و رضاه و لولا رضاه و تسليمه لكان أبو بكر مخطئا ضالا هالكا و هم أوائل البترية.
... و خرجت من هذه الفرقة فرقة و قالوا: علي بن أبي طالب أفضل الناس بعد رسول الله لقرابته و سابقته و علمه، و لكن كان جائزا للناس أن يولوا عليهم غيره إذا كان الوالي الذي يولونه مجزئا ( أي منفذا لأحكام شرع الله ) أحب ذلك عليٌّ أم كرهه، فولاية الوالي الذي ولوه على أنفسهم برضا منهم رشد و هدى و طاعة لله، فإذا اجتمعت الأمة على ذلك و توالت و رضيت به فقد ثبتت إمامته و استوجب الخلافة، فمن خالفه من قريش و بني هاشم عليٌّ كان أو غيره من الناس، فهو كافر ضال هالك.
... 3ـ و فرقة منهم يسمون الجارودية أصحاب الجارود زياد بن المنذر بن زياد الأعجمي، فقالوا بتفضيل علي، و لم يروا مقامه لأحد سواه، و زعموا أن من دفع عليا من هذا المقام فهو كافر، و أن الأمة كفرت و ضلت بتركها بيعته، ثم جعلوا الإمامة بعده في الحسن بن علي ثم في الحسين بن علي ثم هي شورى بين أولادهما، فمن خرج منهم و شهر سيفه و دعا إلى نفسه فهو مستحق للإمامة، وهاتان الفرقتان هما المنتحلتان أمر زيد بن علي بن الحسين و أمر زيد بن الحسن بن الحسن بن علي و منهما تشعبت فرق الزيدية.(135/7)
... و زعمت هذه الفرق أن الأمر كان بعد رسول الله لعلي صلى الله عليه ثم للحسن ثم للحسين نص من رسول الله و صية منه إليهم واحدا بعد واحد، فلما مضى الحسين بن علي صارت في واحد من أولادهما إلى علي بن الحسين والحسن بن الحسن لا يخلو من أحدهما إلا أنهم لا يعلمون أيا من أي، و أن الإمامة بعدهما في أولادهما، فمن ادعاها من ولد الحسين بن علي و من ولد علي بن الحسين و زعم أنها لولد الحسين بن علي دون ولد الحسن بن الحسن، فإن إمامته باطلة و أنه ضال مضل هالك، و أن من أقر من ولد الحسين و الحسن أن الإمامة تصلح في ولد الحسن و الحسين و من رضوا به و اتفقوا عليه و بايعوه جاز أن يكون إماما، و من أنكر ذلك منهم و جعلها في ولد أحد منهما لا يصلح للإمامة، و هو عندهم خارج من الدين. و بعد مضي الحسين بن علي لا تثبت (الإمامة لمن ادعاها من ولد الحسن أو الحسين) إلا باختيار ولد الحسن و الحسين وإجماعهم على رجل منهم و رضاهم به و خروجه بالسيف، و يجوز أن يكون منهم أئمة عداد في وقت واحد لكنهم أئمة دعاة إلى الإمام الرضا منهم، و أن الإمام الذي إليه الأحكام و العلوم يقوم مقام رسول الله و هو صاحب الحكم في الدار كلها و هو الذي يختاره جميعهم و يرضون به و يجمعون على ولايته، وجميع فرق الزيدية مذاهبهم في الأحكام و الفرائض و المواريث مذاهب العامة.
(فرق الشيعة بعد استشهاد الإمام علي عليه السلام) (1)
... فلما قتل عليٌّ صلوات الله عليه افترقت (الفرقة الأولى منها) التي أثبتت له الإمامة له من الله و رسوله فرضا واجبا فصاروا فرقا ثلاثة:
__________
(1) هذه العناوين بين القوسين ليس لمؤلفي كتب الفرق بل من عندنا لغرض التوضيح.(135/8)
... 1ـ فرقة منها قالت أن عليا لم يقتل و لم يمت و لا يموت حتى يملك الأرض و يسوق العرب بعصاه و يملأ الأرض قسطا و عدلا، كما ملئت ظلما وجورا، و هي أول فرقة قالت في الإسلام بالوقف بعد النبي من هذه الأمة، وأول من قال منها بالغلو و هذه الفرقة تسمى السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ، وهو عبد الله بن وهب الراسبي الهمداني و ساعده على ذلك عبد الله بن حرس وابن أسود، و هما من أجلة أصحابه، و كان أول من أظهر الطعن على أبي بكر وعمر و عثمان من الصحابة و تبرأ منهم، و ادعى أن عليا - عليه السلام - أمره بذلك، وأن التقية لا تجوز و لا تحل، فأخذه علي فسأله عن ذلك ؟ فأقر به، و أمر بقتله، فصاح إليه الناس من كل ناحية يا أمير المؤمنين أتقتل رجلا يدعو إلى حبكم أهل البيت و إلى ولايتك و البراءة من أعدائك ؟ فسيره عليٌّ إلى المدائن، و حكى جماعة من أهل العالم: أن عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأسلم و والى عليا، وكان يقول و هو على يهوديته في يوشع بن نون وصي موسى بهذه المقالة، فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله في عليٍّ بمثل ذلك، و هو أول من شهد بالقول بفرض إمامة علي بن أبي طالب، و أظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه و أكفرهم، فمن ها هنا قال من خالف الشيعة أن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية، و لما بلغ ابن سبأ و أصحابه نعيَ عليٍّ و هو بالمدائن و قدم عليهم راكب فسأله الناس، فقال ما خبر أمير المؤمنين ؟ قال: ضربه أشقاها ضربة قد يعيش الرجل من أعظم منها ويموت من وقتها، ثم اتصل خبر موته فقالوا للذي نعاه: كذبت يا عدو الله! لو جئتنا و الله بدماغه ضربة، فأقمت على قتله سبعين عدلا ما صدقناك، و لعلمنا أنه لم يمت و لم يقتل، و أنه لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه، و يملك الأرض، ثم مضوا من يومهم حتى أناخوا بباب علي فاستأذنوا عليه استئذان الواثق بحياته الطامع في الوصول إليه، فقال لهم من حضره من أهله و أصحابه و ولده،(135/9)
سبحان الله أما علمتم أن أمير المؤمنين قد استشهد ؟ قالوا: إنا لنعلم أنه لم يقتل و لا يموت حتى يسوق العرب بسيفه وسوطه كما قادهم بحجته و برهانه، و أنه ليسمع النجوى و يعرف تحت الديار المقفل و يلمع في الظلام كما يلمع السيف الصقيل الحسام، فهذا مذهب السبئية و مذهب الحربية و هم أصحاب عبد الله بن عمر بن الحرب الكندي في علي - عليه السلام -، و قالوا بعد ذلك في علي أنه إله العالمين و أنه توارى عن خلقه سخطا منه عليهم و سيظهر.
... 2ـ و فرقة قالت بإمامة محمد بن عليّ بن أبي طالب ابن الحنفية بعد علي لأنه كان صاحب راية أبيه يوم البصرة دون أخويه الحسن و الحسين عليهما السلام، فسموا الكيسانية و هم المختارية، و إنما سُمُّوا بذلك لأن رئيسهم الذي دعاهم إلى ذلك المختار بن أبي عبيدة الثقفي، و كان لقبه كيسان، و هو الذي طلب بدم الحسين بن علي و ثأره حتى قَتَلَ قَتَلَتَهُ و من قدر عليه ممن حاربه، وقتل عبيد الله بن زياد و عمر بن سعد و ادعى أن محمد بن الحنفية أمره بذلك، و أنه الإمام بعد أبيه... و هؤلاء ساقوا الإمامة بعده إلى ابنه عبد الله أبي هاشم و بعده إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.(135/10)
... 3ـ و فرقة لزمت القول بإمامة الحسن بن علي بعد أبيه إلا شرذمة قليلة منهم فإنه لما وادع الحسن بن علي معاوية و أخذ منه المال الذي بعث له إليه على الصلح أزروا على الحسن و طعنوا فيه و خالفوه و رجعوا عن إمامته و شكوا فيها و دخلوا في مقالة جمهور الناس، و بقي سائرهم على القول بإمامته إلى أن قتل صلوات الله عليه. فقالوا بإمامة أخيه الحسين بن علي فلم يزالوا على ذلك حتى قتل الحسين، فلما قتل الحسين حارت فرقة من أصحابه و قالوا: قد اختلف علينا فعل الحسن و فعل الحسين، لأنه إن كان الذي فعله الحسن حقا واجبا صوابا من موادعته معاوية و تسليمه الخلافة له عند عجزه عن القيام بمحاربته مع كثرة أنصار الحسن و قوته فما فعله الحسين من محاربته يزيد بن معاوية مع قلة أنصار الحسين وضعفهم و كثرة أصحاب يزيد حتى قتل و قتل أصحابه جميعا، خطأ باطل غير واجب، فشكوا لذلك في إمامتهما فدخلوا في مقالة العوام و مذاهبهم و بقي سائر الناس أصحاب الحسين على القول بإمامته حتى مضى. فلما مضى افترقوا بعده ثلاث فرق:(135/11)
... فرقة قالت بإمامة محمد بن عليّ بن أبي طالب بن الحنفية و زعمت أنه لم يبق بعد الحسن و الحسين أحد أقرب إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب من محمد ابن الحنفية فهو أولى الناس بالإمامة كما كان الحسين أولى بعد الحسن من ولد الحسن، فمحمد هو الإمام بعد الحسين. و(منهم) فرقة قالت أن محمد بن الحنفية هو الإمام المهدي و هو وصيُّ عليّ، ليس لأحد من أهل بيته أن يخالفه و لا يخرج عن إمامته و لا يشهر سيفه إلا بإذنه، و إنما خرج الحسن إلى معاوية محاربا له بإذنه، و وادعه و صالحه بإذنه، و خرج الحسين إلى قتال يزيد بن معاوية بإذنه، ولو خرجا بغير إذنه هلكا و ضلا، وهم المختارية الخلص و يدعون الكيسانية وهم يقولون بالتناسخ و يزعمون أن الإمامة جرت في علي ثم في الحسن ثم في الحسين ثم في ابن الحنفية و معنى ذلك أن روح الله صارت في النبي و روح النبي صارت في علي و روح علي صارت في الحسن (و هكذا روح كل إمام تحل في الذي بعده)... و يزعمون أن الصلاة في اليوم و الليلة خمس عشرة صلوة كل صلوة سيع عشرة ركعة و كلهم لا يصلون!
... و زعم صنف منهم أنهم ( أي الأئمة ) أربعة أسباط بهم يسقى الخلق الغيث و يقاتل العدو و تظهر الحجة و تموت الضلالة، من تبعهم لحق و من تأخر عنهم محق، و إليهم المرجع و هم كسفينة نوح من دخلها صدق و نجا و من تأخر عنها غرق.. ](1)
...
... و الفرق القائلة بإمامة محمد بن الحنفية كثيرة و صارت طوائف عديدة لكل طائفة مقالة، فصل الأشعري في ذكرها نختصر منها ما يلي:
__________
(1) المقالات و الفرق: ص 15 إلى 27. و فرق الشيعة: ص 17 إلى 27.(مت)(135/12)
... [ منها طائفة قالت بإمامة عبد الله بن عمرو بن حرب الكندي الشامي بعد أبي هاشم بن محمد بن الحنفية و قالت بالغلو والتناسخ، و فرقة قالت أن محمد بن الحنفية حي لم يمت بل غاب عن الأنظار و هو مقيم في جبال رضوى بين مكة و المدينة.. و أنه سيرجع و يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما و جورا، وجماعة منهم قالوا بالرجعة إلخ..
... و جماعة صاروا من أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأجدع الأسدي و زعموا أنه لا بد من رسولين في كل عصر و لا تخلو الأرض منهما: واحد ناطق و آخر صامت، فكان محمد صلى الله عليه وآله ناطقا و علي صامتا، وتأولوا في ذلك قول الله: ثم أرسلنا رسلنا تترى، ثم ارتفعوا عن هذه المقالة إلى أن قال بعضهم هما آلهة، ثم إنهم افترقوا لما بلغهم أن جعفر بن محمد - عليه السلام - لعنهم ولعن أبا الخطاب و برئ منه و منهم، فصاروا أربع فرق، فرقة منهم قالت أن جعفر بن محمد هو الله و أن أبا الخطاب نبي مرسل أرسله جعفر و أمر بطاعته! وأباحوا المحارم كلها من الزنا و اللواط والسرقة و شرب الخمور... و من أتباع أبي الخطاب سموا المخمسة لأنهم زعموا أن الله عز و جل هو محمد و أنه ظهر في خمسة أشباح و خمس صور مختلفة أي ظهر في صورة محمد و علي و فاطمة والحسن و الحسين، و زعموا أن أربعة من هذه الخمسة تلتبس لا حقيقة لها والمعنى شخص محمد و صورته لأنه أول شخص ظهر و أول ناطق نطق، لم يزل بين خلقه موجودا بذاته يتكوَّن في أي صورة شاء، يظهر لخلقه في صور شتى من صورة الذكران و الإناث و الشيوخ و الشباب إلخ... و زعموا أن محمدا ( أي تلك الحقيقة المحمدية الإلهية التي كانت أول شخص ظهر و أول ناطق نطق!) كان آدم و نوح و إبراهيم و موسى و عيسى، لم يزل ظاهرا في العرب و العجم، وكما أنه في العرب ظهر كذلك هو في العجم ظاهر في صورة غير صورته في العرب، في صورة الأكاسرة و الملوك الذين ملكوا الدنيا و إنما معناهم محمد لا غيره تعالى الله عن(135/13)
ذلك علوا كبيرا. و أنه كان يظهر نفسه لخلقه في كل الأدوار والدهور، و أنه تراءى لهم بالنورانية فدعاهم إلى الإقرار بوحدانيته، فأنكروه، فتراءى لهم من باب النبوة و الرسالة فأنكروه، فتراءى لهم من باب الإمامة فقبلوه، فظاهر الله عزوجل عندهم الإمامة و باطنه الله الذي معناه محمد... و له باب هو سلمان...(1) ( إلى آخر خرافاتهم ) ]. ثم قالا:
(فرق الشيعة بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام) ...
... [ و أما الشيعة العلوية الذين قالوا بفرض الإمامة لعلي بن أبي طالب من الله و رسوله، فإنهم ثبتوا على إمامته ثم إمامة الحسن ابنه من بعده، ثم إمامة الحسين من بعد الحسن، ثم افترقوا بعد قتل الحسين رحمة الله عليه فرقا:
... فنزلت فرقة منهم إلى القول بإمامة ابنه علي بن الحسين يسمَّى بسيد العابدين، و كان يكنَّى بأبي محمد و يكنَّى بأبي بكر و هي كنيته الغالبة عليه، فلم تزل مقيمة على إمامته حتى توفي رحمة الله عليه.
... و فرقة قالت: انقطعت الإمامة بعد الحسين، إنما كانوا ثلاثة أئمة (أي علي و الحسن و الحسين) مسمين بأسمائهم استخلفهم رسول الله صلى الله عليه وآله و أوصى إليهم و جعلهم حججا على الناس و قواما بعده واحدا بعد واحد، فقاموا بواجب الدين و بينوه للناس حتى استغنوا عن الإمام بما أوصلوا إليهم من علوم رسول الله، فلا يثبتون إمامة لأحد بعدهم و ثبتوا رجعتهم لا لتعليم الناس أمور دينهم و لكن لطلب الثأر و قتل أعدائهم و المتوثبين عليهم الآخذين حقوقهم وهذا معنى خروج المهدي عندهم و قيام القائم.
__________
(1) المقالات و الفرق: ص 27 إلى 57. (مت)(135/14)
... و فرقة قالت: إن الإمامة صارت بعد مضي الحسين في ولد الحسن والحسين في جميعهم، فهي فيهم خاصة دون سائرهم من ولد علي، و هم كلهم فيها شرع سواء لا يعلمون أيا من أي، فمن قام منهم و دعا إلى نفسه و جرد سيفه فهو الإمام المفروض الطاعة بمنزلة عليّ بن أبي طالب موجوبة إمامته من الله على أهل بيته و سائر الناس كلهم، و إن كانت دعوته و خطبه للرضا من آل محمد - عليه السلام - فهو الإمام، فمن تخلف عنه عند قيامه و دعائه إلى نفسه من جميع أهل بيته و جميع الخلق فهو كافر، و من ادعى منهم الإمامة و هو قاعد في بيته مرخى عليه ستره فهو كافر مشرك ضال هو و كل من اتبعه على ذلك و كل من قال بإمامته و دان بها، و هؤلاء فرقة من فرق الزيدية يسمون السرحوبية ويسمون الجارودية، و هم أصحاب أبي الجارود زياد بن المنذر و إليه نسبت الجارودية، وأصحاب أبي خالد يزيد بن أبي خالد الواسطي...] .
... و ذكرا من الزيدية فرقا مختلفة في أقوالها: كالصباحية و اليعقوبية و العجلية و البترية و المغيرية.. إلخ. ثم قالا:(135/15)
( فرق الشيعة بعد وفاة الإمام السجاد عليه السلام
( فرق الشيعة بعد وفاة الإمام محمد الباقر عليه السلام
( فرق الشيعة بعد وفاة الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام
( فرق الشيعة بعد وفاة الإمام موسى الكاظم عليه السلام
( فرق الشيعة بعد وفاة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
( فرق الشيعة بعد وفاة الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام
( فرق الشيعة بعد وفاة الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
( فرق الشيعة بعد وفاة الإمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام
( تعقيب و تلخيص و حسن الختام
(فرق الشيعة بعد وفاة الإمام السجاد عليه السلام)
... [ و أما الذين أثبتوا الإمامة لعلي بن أبي طالب ثم للحسن ابنه ثم للحسين ثم لعلي بن الحسين، فإنهم نزلوا بعد وفاة علي بن الحسين إلى القول بإمامة أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين باقر العلم و أقاموا على إمامته إلى أن توفي رضوان الله عليه إلا نفرا يسيرا، فإنهم سمعوا رجلا منهم يُقَال له عمر بن الرياح زعم أنه سأل أبا جعفر عن مسألة فأجابه عليها بجواب ثم عاد إليه في عام آخر فزعم أنه سأله تلك المسألة بعينها فأجابه فيها بخلاف الجواب الأول، فقال لأبي جعفر: هذا خلاف ما أجبتني فيه في هذه المسألة عامك الماضي!، فذكر أنه قال له: إن جوابنا ربما خرج على وجه التقية، فشك في أمره و رجع عن إمامته و قال لا يكون إماما من يفتي بالباطل على شيء من الوجوه و لا في حال من الأحوال.. فمال بسببه إلى قول البترية و مال معه نفر يسير (1) .
__________
(1) علاوة على "عمر بن رياح" فإن سائر أصحاب الأشمة مثل : محمد بن سالم و منصور بن حازم، و زياد بن أبي عبيدة، و زرارة بن أعين، و نصر الخثعمي و ... واجه مثل هذه المشكلة و سألوا عنها الإمام الباقر و الإمام الصادق عليهما السلام فسمعوا منهما أجوبة مختلفة !. (انظر "أصول الكافي" ج 1: باب "اختلاف الحديث" الأحاديث من 1 إلى 9). (برقعي).(136/1)
(فرق الشيعة بعد وفاة الإمام محمد الباقر عليه السلام)
... و بقي سائر أصحاب أبي جعفر محمد بن علي الباقر على القول بإمامته حتى توفي سنة 114 هـ، فلما توفي افترقت فرقته فرقتين: 1ـ فرقة منها قالت بإمامة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب الخارج بالمدينة المقتول بها، و زعموا أنه القائم المهدي و أنه الإمام، و أنكروا قتله وموته، و قالوا هو حي لم يمت مقيم في جبل يقال له العلمية، و هو الجبل الذي في طريق مكة نجد الحائر على يسار الطريق، فهو عندهم مقيم فيه حتى يخرج.
... 2ـ و الفرقة الأخرى نزلت إلى القول بإمامة أبي عبد الله جعفر بن محمد فلم يزل يأتيه على إمامته أيام حياته، غير نفر منهم يسير، فإنهم لما أشار جعفر بن محمد إلى إمامة ابنه اسماعيل ثم مات اسماعيل في حياة أبيه رجع بعضهم عن إمامته و قالوا: كذبنا جعفر و لم يكن إماما، لأن الإمام لا يكذب و لا يقول ما لا يكون، و حكوا عن جعفر أنه قال: إن الله بدا له في إمامة اسماعيل فأنكروا البداء و المشية من الله، و قالوا هذا باطل لا يجوز و مالوا إلى مقالة البترية و مقالة سليمان بن جرير.(136/2)
... و سليمان بن جرير هو الذي قال لأصحابه لهذا السبب: إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين لا يظهرون معهما على كذب من أئمتهم أبدا وهما القول: بالبداء و إجازة التقية، فأما البداء فإن أئمتهم لما أحلوا أنفسهم من شيعتهم محل الأنبياء من رعيتها في العلم فيما كان ويكون و الإخبار بما يكون في غد، فإن جاء ذلك الشيء على ما قالوه، قالوا لهم: ألم نعلمكم أن هذا يكون ؟ فنحن نعلَّم من قِبَلِ الله ما عُلِّمَتْه الأنبياء، و إن لم يكن ذلك الشيء قالوا: بدا لله في ذلك فلم يُكَوِّنه! و أما التقيّة فلما كثرت على أئمتهم مسائل شيعتهم في الحلال و الحرام وغير ذلك من صنوف أبواب الدين، فأجابوهم فيها و حفظ عنهم شيعتهم جواب ما سألوه و كتبوه و دونوه، و لم يحفظ أئمتهم تلك الأجوبة لتقادم العهد وتفاوت الأوقات، لأن مسائلهم لم ترد في يوم واحد و لا في شهر واحد بل في سنين متباعدة و شهور متباينة.. فوقع في أيديهم في المسألة الواحدة عدة أجوبة مختلفة متضادة، فلما وقفوا على ذلك منهم ردوا إليهم هذا الاختلاف و التخليط في جواباتهم، و سألوهم عنه و أنكروه عليهم، فقالت أئمتهم: إنما أجبنا بهذا للتقية ولنا أن نجيب بما أجبنا و كيف شئنا لأن ذلك إلينا و نحن أعلم بما يصلحنا و ما فيه بقاؤنا و بقاؤكم و كف عدونا و عدوكم عنا و عنكم (1) ، فمتى يظهر من هؤلاء على كذب ؟ و متى يعرف حق من باطل ؟ فمال إلى سليمان بن جرير لهذا القول جماعة من
__________
(1) يجدر الانتباه إلى أن الأئمة عليهم السلام نهوا ، بالاتفاق ، المسلمين عن قبول الأخبار التي لا تتفق مع القرآن. كما أنه من المعلوم أن كثيرا من الأخبار و الروايات المنقولة عن أئمة آل النبي (ص) مكذوبة عليهم و لم يقولوها أصلا، بل كان الغلاة يضعون على ألسنتهم ما يهوونه من آراء ، كما أنه في الطرف المقابل كثيرا ما كان أولئك الغلاة ينسبون كلام الإمام للتقية إذا قال ما لا يعجبهم و لا يتفق مع أهوائهم !! (x)(136/3)
أصحاب جعفر و تركوا القول بإمامة جعفر.
(فرق الشيعة بعد وفاة الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام)
... فلما توفي أبو عبد الله جعفر بن محمد افترقت بعده شيعته ست فرق:
... 1ـ ففرقة منها قالت إن جعفر بن محمد حي لم يمت و لا يموت حتى يظهر و يلي أمر الناس، و هو القائم المهدي، و زعموا أنهم رووا عنه أنه قال: إن رأيتم رأسي قد أهوى عليكم من جبل فلا تصدقوه فإني أنا صاحبكم! و هذه الفرقة تسمى الناووسية لرئيس كان لهم من أهل البصرة يقال له فلان بن الناووس.
... 2ـ و فرقة زعمت أن الإمام بعد جعفر ابنه اسماعيل بن جعفر، و أنكرت موت اسماعيل في حياة أبيه، و قالوا كان ذلك على جهة التلبيس على الناس لأنه خاف فغيَّبَه عنهم، و زعموا أن اسماعيل لا يموت حتى يملك الأرض و يقوم بأمر الناس، و أنه هو القائم لأن أباه أشار إليه بالإمامة بعده و قلدهم ذلك له، وأخبرهم أنه صاحبهم، و الإمام لا يقول إلا الحق، فلما أظهر موته علمنا أنه قد صدق و أنه القائم لم يمت، و هذه الفرقة هم الاسماعيلية الخالصة، و أم اسماعيل و عبد الله ابني جعفر فاطمة بنت الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب.
... 3ـ و فرقة ثالثة زعمت أن الإمام بعد جعفر، محمد بن اسماعيل بن جعفر، و أمه أم ولد و قالوا أن الأمر كان لاسماعيل في حياة أبيه فلما توفي قبل أبيه جعل جعفر بن محمد الأمر لمحمد بن اسماعيل و كان الحق له، و لا يجوز غير ذلك لأنها لا تنتقل من أخ إلى أخ بعد حسن و حسين، و لا تكون إلا في الأعقاب.(136/4)
... أما الاسماعيلية الخالصة فهم الخطابية أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع لعنه الله، و قد دخلت منهم فرقة في فرقة محمد بن اسماعيل و أقروا بموت اسماعيل في حياة أبيه و كانت الخطابية الرؤساء منهم قتلوا مع أبي الخطاب، و كانوا قد لزموا المسجد بالكوفة و أظهروا التعبد و كانوا يدعون إلى أمرهم سرا فبلغ خبرهم عيسى بن موسى عامل أبي جعفر المنصور على الكوفة و أنهم قد أظهروا الإباحات و دعوا الناس إلى نبوّة أبي الخطاب، فبعث إليهم رجلا من أصحابه في خيل و رجالة ليأخذهم و يأتيه بهم فامتنعوا عليه وحاربوه فقتلهم جميعا و كانوا سبعين رجلا و لم يفلت منهم إلا رجل واحد هو أبو خديجة سالم بن مكرم... و من القائلين بإمامة محمد بن اسماعيل فرقة عرفت بالقرامطة يقولون بسبعة من الأئمة: علي و الحسن و الحسين و علي بن الحسين ومحمد بن علي و جعفر بن محمد و محمد بن اسماعيل الذي هو الإمام القائم...
... 4ـ و قالت الفرقة الرابعة من أصحاب جعفر بن محمد أن الإمام بعد جعفر بن محمد ابنه محمد، و أمه أم ولد يقال لها حميدة، كان هو و موسى واسحق بنو جعفر لأم واحدة، فجعل هؤلاء الإمامة في محمد بن جعفر و في ولده من بعده و هذه الفرقة تسمى السميطية نسبة لرئيس لهم كان يقال له يحيى بن أبي السميط.(136/5)
... 5ـ و الفرقة الخامسة منهم قالت الإمامة بعد جعفر في ابنه عبد الله بن جعفر، و ذلك أنه كان عند مضي جعفر أكبر أولاده سنا و جلس مجلس أبيه بعده، و ادعى الإمامة و وصية أبيه و اعتلوا في ذلك بأخبار رويت عن جعفر وعن أبيه أنهما قالا: الإمامة في الأكبر من ولد الإمام إذا نصب، فمال إلى عبد الله وإمامته جل من قال بإمامة أبيه و أكابر أصحابه،إلا نفر يسير عرفوا الحق، وامتحنوا عبد الله بالمسائل في الحلال و الحرام و الصلاة و الزكاة و الحج فلم يجدوا عنده علما، وهذه الفرقة القائلة بإمامة عبد الله بن جعفر هم المسمون بالفطحية، سموا بذلك لأن عبد الله كان أفطح الرأس و قال بعضهم كان أفطح الرجلين.. و مال عند موت جعفر و القول بإمامة عبد الله عامة مشايخ الشيعة و فقهاؤها ولم يشكوا إلا أن الإمامة في عبد الله و في ولده من بعده.
... فلما مات عبد الله و لم يخلف ذكرا ارتاب القوم و اضطربوا و أنكروا ذلك فرجع عامة الفطحية، إلا القليل منهم، عن القول بإمامة عبد الله إلى القول بإمامة أخيه موسى بن جعفر. و شذت منهم فرقة بعد وفاة موسى بن جعفر فادعت أن لعبد الله ( الأفطح ) ابنا ولد له من جارية يقال له محمد، و أنه تحول بعد موت أبيه إلى خراسان فهو مقيم بها و أنه حي إلى اليوم و أنه الإمام بعد أبيه و هو القائم المنتظر.(136/6)
... 6ـ و قالت الفرقة السادسة أن الإمام موسى بن جعفر بعد أبيه و أنكروا إمامة عبد الله و خطَّؤوه في جلوسه مجلس أبيه و ادعائه الإمامة، و كان فيهم من وجوه أصحاب جعفر بن محمد مثل: هشام بن سالم الجواليقي، و عبد الله بن أبي يعفور، و عمر بن يزيد بياع السابري، و محمد بن النعمان أبي جعفر الأحول مؤمن الطاق، و عبيد بن زرارة بن أعين، و جميل بن دراج، و أبان بن تغلب، وهشام بن الحكم، و غيرهم من وجوه شيعته و أهل العلم منهم و الفقه و النظر، و هم الذين قالوا بإمامة موسى بن جعفر عند وفاة أبيه، إلى أن رجع إليهم عامة أصحاب جعفر عند وفاة عبد الله، فاجتمعوا جميعا على إمامة موسى، إلا نفرا منهم فإنهم ثبتوا على إمامة عبد الله، ثم إمامة موسى بعده و أجازوها في أخوين بعد أن لم يجز ذلك عندهم إلى أن مضى جعفر فيهم، مثل عبد الله بن بكير بن أعين، و عمار بن موسى الساباطي، و جماعة معهم، ثم إن جماعة من المؤتمّين بموسى بن جعفر اختلفوا في أمره و شكوا في إمامته عند حبسه في المرة الثانية التي مات فيها في حبس هارون الرشيد، فصاروا خمس فرق:
(فرق الشيعة بعد وفاة الإمام موسى الكاظم عليه السلام)
... 1ـ فرقة منها زعمت أنه مات في حبس هارون، و كان محبوسا عند السندي بن شاهك، و إن يحيى بن خالد البرمكي سمه في رطب و عنب بعثه إليه فقتله، و أن الإمام بعد أبيه علي بن موسى الرضا، فسميت هذه الفرقة القطعية لأنها قطعت على وفاة موسى و إمامة علي بن موسى و لم تشك في أمرها و لا ارتابت، و أقرت بموت موسى و أنه أوصى إلى ابنه علي أشار إلى إمامته قبل حبسه و مرت على المنهاج الأول.(136/7)
... 2ـ و قالت الفرقة الثانية أن موسى بن جعفر لم يمت، و أنه حي لا يموت حتى يملك شرق الأرض و غربها و يملأها كلها عدلا كما ملئت جورا و أنه القائم المهدي، و زعموا أنه لما خاف على نفسه القتل خرج من الحبس نهارا و لم يره أحد و لم يعلم به، و أن السلطان و أصحابه ادعوا موته و موّهوا على الناس ولبّسوا عليهم برجل مات في الحبس فأخرجوه و دفنوه في مقابر قريش، في القبر الذي يدعى أنه قبر موسى بن جعفر، و كذبوا في ذلك، إنما غاب عن الناس واختفى. و رووا في ذلك روايات عن أبيه جعفر: أنه قال: " هو القائم المهدي فإن يدَهدَه رأسه من جبل فلا تصدقوا فإنه صاحبكم القائم ".
... 3ـ و قالت فرقة أنه القائم و قد مات فلا تكون الإمامة لأحد من ولده ولا لغيرهم حتى يرجع فيقوم و يظهر، و زعموا أنه قد رجع بعد موته إلا إنه مختف في موضع من المواضع يعرفونه يأمر و ينهى و أن من يوثَّق من أصحابه يَلقونَه و يَرونه.
... 4ـ و قالت فرقة منهم لا يُدْرَى أحي هو أم ميت ؟ لأنا قد روينا فيه أخبارا كثيرة تدل على أنه القائم المهدي فلا يجوز تكذيبها، و قد ورد علينا من خبر وفاته مثل الذي ورد علينا من خبر وفاة أبيه و جده و الماضين من آبائه في معنى صحة الخبر، فهو أيضا مما لا يجوز رده و إنكاره.. فوقفنا عند ذلك على إطلاق موته و عن الإقرار بحياته، و نحن مقيمون على إمامته لا نتجاوزها إلى غيره حتى يصح لنا أمره..(136/8)
... 5ـ و فرقة منهم يقال لها الهسموية أصحاب محمد بن بشير مولى بني أسد من أهل الكوفة، قالت إن موسى بن جعفر لم يمت و لم يحبس، و أنه غاب واستتر، و هو القائم المهدي، و أنه في وقت غيبته استخلف على الأمة محمد بن بشير و جعله وصيه و أعطاه خاتمه و علمه جميع ما يحتاج إليه رعيته... فهو الإمام، و زعموا أن علي بن موسى و كل من ادعى الإمامة من ولده و ولد موسى بن جعفر فمبطلين كاذبين، غير طيبي الولادة و نفوهم عن أنسابهم، وكفروهم لدعواهم الإمامة و كفروا القائلين بإمامتهم... و قالوا بإباحة المحارم وبالتناسخ و مذاهبهم في التفويض مذاهب الغلاة المفرطة.... و عرفوا أيضا بالواقفة.
(فرق الشيعة بعد وفاة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام)
... ثم إن أصحاب علي بن موسى الرضا اختلفوا بعد وفاته فصاروا خمس فرق:
... 1ـ فرقة قالت الإمام بعد علي بن موسى ابنه محمد بن علي و لم يكن له غيره، و كان متزوجا من ابنة المأمون، و اتبعوا الوصية و المنهاج الأول من لدن النبي صلى الله عليه وآله.
... 2ـ و فرقة قالت بإمامة أحمد بن موسى بن جعفر، قطعوا عليه و ادعوا أن الرضا أوصى إليه و إلى الرضا، و أجازوها في أخوين و مالوا في مذاهبهم إلى شبيه بمذاهب الفطحية أصحاب عبد الله بن جعفر.
... 3ـ و فرقة تسمى المؤلفة من الشيعة قد كانوا نصروا الحق و قطعوا على إمامة علي بن موسى بعد وقوفهم على موسى و إنكار موته فصدقوا بموته و قالوا بإمامة الرضا. فلما توفي رجعوا إلى القول بالوقف على موسى بن جعفر.
... 4ـ و فرقة تسمى المحدثة كانوا من أهل الإرجاء و أصحاب الحديث من العامة، فدخلوا في القول بإمامة موسى بن جعفر، و بعده لعلي بن موسى وصاروا شيعة رغبة في الدنيا و تصنعا، فلما توفي علي بن موسى رجعوا إلى ما كانوا عليه من الإرجاء.(136/9)
... 5ـ و فرقة كانت من الزيدية الأقوياء منهم و البصراء لزيد فرجعوا عن مقالتهم و دخلوا في القول بإمامة علي بن موسى عندما أظهر المأمون فضله و عقد على الناس بيعته، تصنعا للدنيا، و استكالوا الناس بذلك عصرا، فلما مضى علي بن موسى رجعوا إلى قومهم من الزيدية.
... و كان سبب الفرقتين اللتين ائتمَّت إحداهما بأحمد بن موسى و رجعت الأخرى إلى القول بالوقف، أن أبا الحسن الرضا توفي و ابنه محمد ابن سبع سنين، فاستصبوه و استصغروه و قالوا: لا يجوز أن يكون الإمام إلا بالغا...
... أما الذين قالوا بإمامة أبي جعفر محمد بن علي بن موسى فاختلفوا في كيفية علمه و كيف وَجْهُ ذلك لحداثة سنِّهِ ضروبا من الاختلاف، فقال بعضهم لبعض الإمام لا يكون إلا عالما و أبو جعفر غير بالغ و أبوه قد توفي فكيف علم ومن أين علم ؟ ( و ذكر المصنفان آراءهم المتعددة في هذا الأمر). ...
(فرق الشيعة بعد وفاة الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام) ...
... ثم نزل أصحاب محمد بن علي الذين ثبتوا على إمامته إلى القول بإمامة ابنه و وصيه علي بن محمد فلم يزالوا على ذلك إلا نفر منهم يسير عدلوا عنه إلى القول بإمامة أخيه موسى بن محمد ( المبرقع ) ثم لم يثبتوا على ذلك قليلا حتى رجعوا إلى إمامة علي بن محمد و رفضوا إمامة موسى، لأن موسى كذبهم و تبرأ منهم.. فلم يزالوا كذلك حتى توفي علي بن محمد بسُرَّ مَن رأى...
... و قد شذت فرقة من القائلين بإمامة علي بن محمد في حياته فقالت بنبوة رجل يقال له محمد بن نصير النميري كان يدعي أنه نبي رسول، و أن علي بن محمد العسكري أرسله و كان يقول بالتناسخ، و يغلو في أبي الحسن ( أي الإمام علي بن محمد الهادي ) ويقول فيه بالربوبية و يقول بالإباحة للمحارم و يحلل نكاح الرجال بعضهم بعضا في أدبارهم، و يزعم أن ذلك من التواضع و الإخبات و التذلل في المفعول به! (و غير ذلك من أقوالهم القبيحة)...فسميت هذه الفرقة النميرية.(136/10)
(فرق الشيعة بعد وفاة الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام) ...
... فلما توفي علي بن محمد بن علي بن موسى قالت فرقة من أصحابه بإمامة ابنه محمد، و كان قد توفي في حياة أبيه بسر من رأى، زعموا أنه حي لم يمت، واعتلوا في ذلك بأن أباه أشار إليه و أعلمهم أنه الإمام بعده، و الإمام لا يجوز عليه الكذب و لا يجوز البداء فيه، و إن ظهرت وفاته في حياة أبيه فإنه لم يمت في الحقيقة و لكن أباه خاف عليه فغيبه، و هو المهدي القائم، و قالوا فيه بمثل مقالة أصحاب إسماعيل بن جعفر.
... و قال سائر أصحاب علي بن محمد بإمامة ابنه الحسن بن علي ( أي العسكري )، و ثبَّتوا له الإمامة بوصية أبيه إليه، إلا نفرا قليلا فإنهم مالوا إلى أخيه جعفر بن علي...
(فرق الشيعة بعد وفاة الإمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام) ...
... فلما توفي الحسن بن علي اختلف أصحابه من بعده و افترقوا إلى خمس عشرة فرقة:
... 1ـ ففرقة منها و هي المعروفة بالإمامية قالت لله في أرضه بعد مضي الحسن بن علي حجة على عباده و خليفة في بلاده قائم بأمره، من ولد الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا...
... 2ـ و قالت الفرقة الثانية أن الحسن بن علي حي لم يمت و إنما غاب و هو القائم و لا يجوز أن يموت الإمام و لا ولد له و لا خلف معروف ظاهر...
... 3ـ و قالت الفرقة الثالثة أن الحسن بن علي مات و عاش بعد موته و هو القائم، و احتجوا برواية رووها عن جعفر بن محمد أنه قال: إنما سمي القائم قائما لأنه يقوم بعد أن يموت! و لأن الأرض لا تخلو من حجة ظاهرة.(136/11)
... 4ـ و قالت الفرقة الرابعة أن الحسن بن علي قد صحَّت وفاته كما صحت وفاة آبائه بتواطئ الأخبار التي لا يجوز تكذيب مثلها، و صح بمثل هذه الأسباب أنه لا خلف له، فلما صح عندنا الوجهان ثبت أن لا إمام بعد الحسن بن علي و أن الإمامة انقطعت، و ذلك جائز في المعقول و القياس، فكما جاز أن تنقطع النبوة بعد محمد فلا يكون بعده شيء، كذلك جاز أن تنقطع الإمامة.
... 5ـ و قالت الفرقة الخامسة أن الحسن بن علي قد مات. و صح موته ولا خلف له و انقطعت الإمامة إلى وقت يبعث الله فيه قائما من آل محمد ممن قد مضى، إن شاء بعث الحسن بن علي و إن شاء بعث غيره من آبائه.
... 6ـ و قالت الفرقة السادسة أن الحسن و جعفر ( الكذاب ) لم يكونا إمامين، فإن الإمام كان محمد الميت في حياة أبيه، إذ قد ثبتت إشارة أبيه إليه بالإمامة، و أن أباهما لم يوص لواحد منهما و لا أشار له بإمامة، و ادعى بعضهم أنه (أي محمد بن علي) حي لم يمت و أن أباه غيبه و ستره خوفا عليه، (و قالوا :) و إن بطلت إمامة محمد كما بطلت إمامة الحسن و جعفر، بطلت إمامة أبيهم أبي الحسن و إمامة الأئمة الماضين من آبائه ؛ و هذا لا يجوز فذلك لا يكون.
... 7ـ و قالت الفرقة السابعة أن الحسن بن علي توفي و لا عقب له و الإمام بعده جعفر بن علي أخوه، و ذهبوا في ذلك إلى بعض مذاهب الفطحية في عبد الله و موسى ابني جعفر.
... 8 ـ و قالت الفرقة الثامنة أن الإمام جعفر بن علي و أن إمامته أفضت إليه من قبل أبيه علي بن محمد و أن القول بإمامة الحسن كان غلطاً و خطأً وجب الرجوع عنه إلى إمامة جعفر.(136/12)
... 9ـ و قالت الفرقة التاسعة بمثل مقالة الفطحية الفقهاء منهم و أهل النظر أن الحسن بن علي توفي و هو إمام بوصية أبيه إليه، و أن الإمامة لا تكون إلا في الأكبر من ولد الإمام، ممن بقي منهم بعد أبيه فالإمام بعد الحسن بن علي: جعفر أخوه، لا يجوز غيره إذ لا ولد للحسن معروف و لا أخ إلا جعفر في وصية أبيه، كما أوصى جعفر بن محمد ( أي الصادق ) إلى عبد الله لمكان الأكبر ثم جعلها من بعد عبد الله لموسى أخيه.
... 10ـ و قالت الفرقة العاشرة أن الإمام كان محمد بن علي بإشارة أبيه إليه و نصبه له إماما، ثم بدا لله في قبضه إليه في حياة أبيه و أوصى محمد إلى جعفر أخيه بأمر أبيه و وصاه و دفع الوصية و العلوم و السلاح إلى غلام له يقال له نفيس لما كان في خدمة أبي الحسن، و هذه الفرقة تسمى نفيسية.
... 11ـ و قالت الفرقة الحادية عشرة أن الحسن بن علي قد توفي و هو إمام و خلف ابنا بالغا يقال له محمد، و هو الإمام من بعده و أن الحسن بن علي أشار إليه و دل عليه و أمره بالاستتار في حياته مخافة عليه، فهو مستتر خائف في تقيَّةٍ من عمه جعفر، و أنه قد عرف في حياة أبيه ولا ولد للحسن بن علي غيره، فهو الإمام و هو القائم لا محالة.
... 12ـ و قالت الفرقة الثانية عشرة بمثل هذه المقالة في إمامة الحسن بن علي و أن له خلفا ذكرا يقال له علي، و كذّبوا القائلين بمحمد، و زعموا أنه لا ولد للحسن غير علي.
... 13ـ و قالت الفرقة الثالثة عشرة أن للحسن بن علي ولدا ولد بعده بثمانية أشهر و أنه مستتر لا يعرف اسمه و لا مكانه، و اعتلوا في تجويز ذلك بحديث يروى عن أبي الحسن الرضا أنه قال: ستبتلون بالجنين في بطن أمه والرضيع!(136/13)
... 14ـ و قالت الفرقة الرابعة عشرة لا ولد للحسن بن علي أصلا لأنا تبحرنا ذلك بكل وجه و فتشنا عنه سرا و علانية، و بحثنا عن خبره في حياة الحسن بكل سبب فلم نجده، و لو جاز أن يقال في مثل الحسن بن علي و قد توفي و لا ولد له ظاهر معروف، أن له ولدا مستورا، لجاز مثل هذه الدعوى في كل ميت من غير خلف و لجاز مثل ذلك في النبي صلوات الله عليه أن يقال خلف ابنا رسولا نبيا، و لجاز أن تدعي الفطحية أن لعبد الله بن جعفر ولدا ذكرا إماما!
... 15ـ و قالت الفرقة الخامسة عشرة نحن لا ندري ما نقول في ذلك و قد اشتبه علينا الأمر فلسنا نعلم أن للحسن بن علي ولدا أم لا ؟ أم الإمامة صحت لجعفر أم لمحمد ؟ و قد كثر الاختلاف. إلا أننا نقول أن الحسن بن علي كان إماما مفترض الطاعة ثابت الإمامة، و قد توفي - عليه السلام - و صحت وفاته، و الأرض لا تخلو من حجة، فنحن نتوقف و لا نقدم على القول بإمامة أحد بعده، و لا ننكر إمامة أبي محمد و لا موته، ولا نقول أنه رجع بعد موته و لا نقطع على إمامة أحد من ولد غيره، و لا ننتميه حتى يظهر الله الأمر إذا شاء و يكشف و يبينه لنا.]
... تلك كانت أهم فرق الشيعة نقلناها حرفيا مما أروده اثنان من كبار محدثي و علماء الإمامية الموثوقين القدماء الذين عاصرا عديدا من هذه الفرق أو كانا قريبي العهد بها، فالأشعري القمي توفي سنة 301 هـ وأدرك اثنين أو ثلاث من الأئمة الاثني عشر، و كذلك النوبختي المتوفى فيما بين 300 و310 هـ..(136/14)
... فلو كان لتلك الأحاديث النبوية المدعاة، التي فيها النص، بتلك الصراحة والوضوح، على أسماء الأئمة الاثني عشر، حقيقةٌ و واقعٌ ؛ فهل كان من الممكن أن تنشأ كل تلك الفرق المتعددة و النحل المختلفة في أوساط الشيعة أنفسهم و بين محبي أهل البيت بل فيما بين أتباع الأئمة المخلصين وتلاميذهم الأوفياء أنفسهم ؟! و لوكان هناك حقا نص من الرسول (صلىالله عليه وآله) على أئمة معينين بأشخاصهم أفلم يكن من الواجب عليه (صلىالله عليه وآله) أن يبلغ ذلك الأمر لجميع الأمة بحيث يرفع العذر و ينتشر الخبر ولا تبقى أي شبهة في الأمر، حتى لا تنشأ كل هذه الفرق المختلفة حول قضية الإمامة ؟ إن وجود كل هذه الفرق والاختلافات حول من هو الإمام لأكبر دليل على أنه لم يكن هناك شيء اسمه أئمة منصوص عليهم و معينين من قبل الله تعالى ورسوله (صلىالله عليه وآله) و أن الفكرة مختلقة من أساسها، إذا لو صح صدور مثل تلك النصوص لعلم بذلك سائر أهل البيت و خاصّةُ شيعتِهِمْ، و لما حصلت كل تلك الانشقاقات و الاختلافات وتبدل الرأي في كل آن حول تعيين الإمام.
تعقيب و تلخيص و حسن الختام
... 1 ـ نأمل أن يكون قد صار مسلما و واضحا للباحثين عن الحقيقة وطلاب الحق المتجردين، أن قضية "الإمامة" على النحو الذي تبلور وشاع عندنا، ليس له سند صحيح و لم يفد أمة الإسلام إلا الاختلاف و النزاع و العداوة والتفرق والحروب، في حين أننا لو رجعنا إلى العقل والشرع و استرشدناهما بتجرد في هذا الموضوع، لوجدناه على غير تلك الصورة التي راجت و شاعت فيما بيننا، و أن لو طبقت كما شرعه الشارع المقدس و وضع أسسه، لكان موجبا للفوز والنجاح و الفلاح للمسلمين.(136/15)
... 2 ـ لا أساس و لا صحة لقضية نص الله تعالى و رسوله (صلىالله عليه وآله) على أحد معين لأمر الخلافة و الحكم سواء كان أبا بكر أو علي، لأن العقل و الشرع يتنافيان مع النص، و لأن الوجدان و التاريخ لا يشهدان بوجوده كما مر مفصلا.
... 3 ـ أفضلية الإمام علي - عليه السلام - و أحقيته و أولويته بالخلافة بعد رسول الله r أمر لا يخفى على أي مطلع منصف، و لحسن الحظ أن كثيرا من غير الشيعة أيضا يقرون بذلك، و نحن نعتقد أنه لو كان لعلي نفسه إربة شديدة فيها و إصرار على توليها بنفسه و حضر في سقيفة بني ساعدة و طالب بها لما خالفه أحد من أصحاب رسول الله بل لوافقوه عليها من كل قلبهم، و لكنه - عليه السلام - لم يكن مصرا عليها و كان يقول، كما أثر عنه في مناجاته: [ اللهم إنك لتعلم أنه لم يكن الذي كان منَّا منافسة في سلطان و لا التماس شيء من فضول الحطام و لكن لنردَّ المعالم من دينك و نظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك و تُقَام المعطلة من حدودك..]، لذا لما رأى و شاهد أن هذا الهدف يتحقق بواسطة الخليفتين أبي بكر و عمر (رضي الله عنهما) بايعهما بكل رغبة و صدق و دون أي إجبار أو إكراه و أعانهما في تنفيذ أحكام شرع الله، و إن كان هو أولى بمقامهما منهما.
... 4 ـ الأحاديث الكثيرة الصحيحة الواردة عن رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) في فضائل و مناقب علي - عليه السلام - إنما تدل على إمامته الروحية و العلمية للمسلمين و أنه أفضل من يبين حقائق الدين و أحكام الإسلام و هذا أمر تتفق عليه و لله الحمد جميع فرق المسلمين و لا ينازع أو يجادل فيه أحد، فعليٌّ عند الجميع إمام المسلمين و نبراس المتقين بحق.(136/16)
... 5 ـ لا يجوز الطعن في أصحاب رسول الله ـ الذين مدحهم الله تعالى في أكثر من مائة آية من آيات ذكره الحكيم ـ أو الحط عليهم لانتخابهم أبي بكر وعدم توليتهم علي مباشرة بعد النبي (صلىالله عليه وآله وسلم)، و الاعتقاد بأحاديث مثل ارتد الناس بعد النبي إلا ثلاثة يعتبر تكذيباً للقرآن و رداً لآياته يجعل صاحبه على حافة الكفر و العياذ بالله.
... 6 ـ الأحاديث التي جاءت في كتب الشيعة أو كتب السنة حول نص النبي الصريح على أئمة معينين لولاية أمر المسلمين، كلها أحاديث موضوعة من وضع الغلاة و أصحاب الأهواء، و نابعة من التعصب المذهبي، و بالتالي فلا ينبغي الاعتناء بها و لا التعويل عليها، كما بينا ذلك بقدر المستطاع في هذا الكتاب، و لا شك في إمامة الأئمة من آل الرسول (صلىالله عليه وآله وسلم) للمسلمين، بمعنى مرجعيتهم الفقهية و الإرشادية و ينبغي على كل المسلمين أن يرجعوا إليهم وينهلوا من ذخائر علمهم و فقههم، قبل أي أحد آخر إذا أرادوا فهم معالم دينهم وأحكام شرعهم، فأهل البيت أدرى بما فيه. و لا شك أن سائر أئمة المسلمين كمالك والشافعي و أبي حنيفة و غيرهم .. لم يأبوا أن ينهلوا من علوم الأئمة من آل الرسول و يتتلمذوا عليهم قليلا أو كثيرا و يستفيدوا من جواهر حديثهم.(136/17)
... 7 ـ المغالاة و الإغراق في تقديس و تعظيم الأئمة من آل الرسول أو أي أشخاص آخرين في أي مذهب، يتنافى مع حقيقة الدين القائمة على التوحيد الخالص، و كثير من الأعمال التي يقوم بها الناس باسم احترام وتعظيم أولئك الأشخاص، أعمالٌ تتنافى مع أحكام الشرع، و ذلك كالمبالغة في تعظيم قبورهم والطواف حولها و دعاء أصحابها و التوسل و الاستغاثة والاستنجاد بهم و نذر النذورات و الموقوفات لهم، و هذا كله مما يؤدي لشغل الناس عن كثير من الفرائض، كما قال أمير المؤمنين: [ ما أُحْدِثَت بدعة إلا تُرِكَت بها سنة! فاتقوا البدع و الزموا المهيع!] (1)، كما يشهد لذلك واقعنا الحالي.
... 8 ـ صارت كثير من أحكام الإسلام و تعاليمه المقدسة مثل التوحيد الخالص و وحدة كلمة المسلمين و اجتماعهم و إقامة الجمعة و الجهاد والسعي لرفع راية الإسلام و إقامة حكمه و تطبيق حدود و أحكام الله - عز وجل -، متروكة منسية لدى الكثير من عوام المسلمين بل من بعض خواصهم، وأحد أسباب ذلك، الانشغال بالخرافات والعداوات المذهبية، التي حان وقت أن يقوم جماعة مخلصون مضحُّون بالقضاء عليها و العمل على نشر الأحكام الإلهية الحقة مما قمنا ببيان بعضه بفضل معونة الله تعالى في هذه الأوراق و في غيرها من كتبنا.
... 9 ـ يجب تطهير و تنقية الكثير من كتب فرق المسلمين التي ملئت بالخرافات و الغلو المذهبي و الأمور التي تثير العداوة و البغضاء و تولد الحقد والشحناء في صدور المسلمين على بعضهم البعض، كما يجب نبذ علماء السوء الذين يروجون تلك الأقاويل و يلقنونها للناس.
__________
(1) نهج البلاغة، الخطبة رقم 145.(136/18)
... 10 ـ و أخيرا فينبغي لطلاب الحقيقة و محبي الحق أن يقوموا بنشر و تكثير مثل هذه المؤلفات و الآثار التي وفقنا الله تعالى و وفق أمثالنا من إخواننا العلماء المحققين لكتابتها و طرحها، و أن يقوم آخرون كذلك من العلماء ذوي النظر البعيد و الهمة العالية بالتحقيق و نشر الحقائق كما فعلنا، لعل الله تعالى يعيد للإسلام مجده و للمسلمين عظمتهم و عزتهم و يعيد المياه بينهم إلى مجاريها و لا حول و لا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
... بزودي نه دير آرد اين نخل بار ... اكر يار باشد جهان كردكار
أي:
... عن قريب سيثمر هذا النخل لا بعيد ... إذا أعان الله رب العالمين
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حيدر علي قلمداران ( هيربد)
و كان الفراغ من ترجمته و تهذيبه، للمرة الثانية، في الثامن و العشرين من شهر رجب الحرام سنة 1421 هـ. و الحمد لله رب العالمين. كتبه الفقير إلى رحمة الله و عفوه: سعد رستم .(136/19)
المراجع
كتب التفسير
التبيان في تفسير القرآن: الطوسي (شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن): طهران (طبعة حجرية)، 1365هـ.
تفسير فرات بن إبراهيم: فرات بن إبراهيم الكوفي: النجف. أو طبعة طهران (بتحقيق محمد الكاظم )، 1410 هـ.
كتب الحديث و الأخبار
إثبات الهداة بالنصوص و المعجزات: الحر العاملي (محمد بن الحسن): طهران.
الأخبار الموفقيات: أبو عبد الله الزبير بن عبد الله بن مصعببن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، تحقيق الدكتور سامي العاني، بغداد، مطبعة العاني، 1972 م.
الاختصاص: الشيخ محمد النعمان المفيد:طهران، 1379 هـ.
الإرشاد: الشيخ محمد النعمان المفيد: بيروت: دار المفيد للطباعة و النشر و التوزيع.
إرشاد القلوب: الديلمي (الشيخ أبو محمد الحسن بن أبي الحسن)
الأصول من الكافي: الكليني (ثقة الإسلام أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحق ):طهران، 1388 هـ.
إكمال الدين و إتمام النعمة: الشيخ الصدوق (محمد بن علي بن بابويه القمي): طهران.
بحار الأنوار: العلامة المجلسي: تبريز (طبعة حجرية).
بصائر الدرجات: أبو جعفر محمد بن الحسن الصفار القمي. إيران.
الخرائج: الراوندي.(؟)
الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير: القاضي الحسين بن أحمد الصياغي الصنعاني، بيروت.
صحيح الكافي: الشيخ محمد باقر البهبودي، الدار الإسلامية، بيروت، 1401هـ.
الصحيفة السجادية: تنسب للإمام زين العابدين علي بن الحسين - عليه السلام -.
الطرائف (في معرفة مذاهب الطوائف): ابن طاوس (السيد رضي الدين بن أبو القاسم علي بن موسى لحلي).
عيون أخبار الرضا: الشيخ الصدوق (محمد بن علي بن بابويه القمي): طهران أو بيروت، 1404هـ.
غاية المرام ( وحجة الخصام في تعيين الإمام ): السيد هاشم بن سليمان البحراني: طهران، 1272 هـ.
الغيبة: الشيخ الطوسي (أبو جعفر محمد بن الحسن): تبريز، 1323 هـ. أو قم، 1411 هـ.
كشف المحجة ( لثمرة المهجة ): ابن طاوس.(137/1)
كفاية الأثر (في النص على الأئمة الاثني عشر): علي بن محمد الخزاز القمي.
مرآة العقول (في شرح أخبار آل الرسول): العلامة المجلسي (شيخ الإسلام المولى محمد باقر ).طهران 1407 هـ.
مسند الإمام زيد بن علي: بيروت: دار الحياة.
نهج البلاغة: جمع الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
الوافي: الملا محسن الفيض الكاشاني.
وسائل الشيعة في تحصيل مسائل الشريعة: الشيخ الحر العاملي. بيروت.
كتب الرجال (الجرح و التعديل) و أصول الحديث
إتقان المقال في أحوال الرجال: آية الله الشيخ محمد طه نجف.
تنقيح المقال في أحوال الرجال: آية الله الشيخ عبد الله الممقاني.
جامع الرواة: الأردبيلي (الفاضل محمد بن علي الغروي الحائري): بيروت، 1403هـ.
خلاصة الأقوال في معرفة الرجال: العلامة الحلي (الحسن بن يوسف بن المطهر).
الرجال: ابن داود ( الحسن الحلي ).
الرجال: النجاشي ( الشيخ أحمد بن علي ) طهران. أو بيروت، 1408 هـ. بتحقيق محمد جواد النائيني.
الرجال: الشيخ الطوسي (أبو جعفر محمد بن الحسن).
رجال الكشي: الكشي (محمد بن عمر بن عبد العزيز): كربلاء.
الفهرست: الشيخ الطوسي (أبو جعفر محمد بن الحسن).
قاموس الرجال: العلامة الشيخ محمد تقي التستري. طهران.
مجمع الرجال: الشيخ العلامة الملا عناية الله القهبائي.
معرفة الحديث: الشيخ محمد باقر البهبودي، مركز انتشارات علمي و فرهنكي، طهران.
منهج المقال في تحقيق أحوال الرجال: الميرزا محمد الاسترآبادي.
نقد الرجال: التفرشي (السيد مير مصطفىبن الحسين الحسيني).
كتب التاريخ و السير و الطبقات
الأخبار الطوال: أبو حنيفة الدينوري، تحقيق عبد المنعم عامر، و جمال الدين الشيال، بغداد.
الاستيعاب في معرفة الأصحاب: ابن عبد البر القرطبي.
أسد الغابة في معرفة الصحابة: ابن الأثير الجزري.
الإصابة في تمييز الصحابة: ابن حجر العسقلاني: القاهرة، 1328 هـ.(137/2)
إعلام الورى بأعلام الهدى: الطبرسي (أمين الإسلام الشيخ أبو علي الحسن بن علي) طهران.
الإمامة و السياسة: ابن قتيبة الدينوري: القاهرة، بتحقيق طه محمد الزيني.
أنساب الأشراف: البلاذري (أحمد بن يحيى).
البداية و النهاية: ابن كثير (أبو الفداء اسماعيل): القاهرة، 1351 هـ.
تاريخ ابن خلدون: مؤسسة الأعلمي للمطلوعات، بيروت، 1971 م.
تاريخ الأمم و الملوك: الطبري (أبو جعفر محمد بن جرير): القاهرة، 1357هـ.
تاريخ اليعقوبي: اليعقوبي ( أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب): طهران 1375 هـ.
التنبيه و الإشراف: المسعودي (علي بن الحسين بن علي المسعودي الهزلي).
تهذيب تاريخ دمشق الكبير: الشيخ عبد القادر بدران: بيروت، 1399 هـ.
السيرة النبوية: ابن كثير الدمشقي.
السيرة النبوية: ابن هشام: القاهرة، بتحقيق السقا و الأبياري و الشلبي.
الطبقات الكبرى: ابن سعد (محمد بن سعد كاتب الواقدي): ليدن، هولاندا.
الغارات (أو الاستنفار و الغارات): الثقفي (أبو اسحق إبراهيم بن هلال الثقفي الكوفي): بيروت، 1407 هـ.حققه السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب.
كتاب سليم بن قيس الكوفي: سليم بن قيس الهلالي العامري.
مروج الذهب و معادن الجوهر: المسعودي (علي بن الحسين بن علي الهذلي): 1316 هـ.
مقاتل الطالبيين: أبو الفرج الأصفهاني.
منتهى الآمال: الشيخ عباس القمي، طهران.
وفيات الأعيان: ابن خلكان: بيروت، بتحقيق د. إحسان عباس.
وقعة صفين: أبو الفضل نصر بن مزاحم المنقري، تحقيق عبد السلام محمد هارون.
كتب الكلام و الجدل المذهبي و الملل و النحل:
إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب: المسعودي (علي بن الحسين بن علي المسعودي الهذلي).
الاحتجاج على أهل اللجاج: الطبرسي (أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب): طبعة النجف، 1386هـ. أو طبعة قم، 1413هـ. بتحقيق الشيخ ابراهيم البهادري و الشيخ محمد هادي به، بإشراف الشيخ جعفر السبحاني.(137/3)
تلخيص الشافي: الطوسي ( الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن )
ختم نبوت (بالفارسية): الشيخ الشهيد مرتضى المطهري.
الغدير في الكتاب و السنة و الأدب: عبد الحسين الأميني، دار الكتاب العربي، بيروت.
فرق الشيعة: النوبختي (أبو محمد الحسن بن موسى)، صححه و علق عليه: السيد محمد صادق آل بحر العلوم: النجف 1355هـ.
مجالس المؤمنين: الشوشتري (القاضي نور الله المرعشي التستري الهندي)
المقالات و الفرق: سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمي. صححه و علق عليه د. محمد جواد مشكور:طهران، 1963 م.
نقض مثالب النواصب في نقض بعض فضائح الروافض: الشيخ عبد الجليل القزويني الرازي، انتشارات أنجمن آثار ملي.
كتب اللغة
التحقيق في كلمات القرآن الكريم: حسن المصطفوي، بنكاه ترجمة و نشر كتاب، طهران (الطبعة الأولى).
لسان العرب: العلامة ابن منظور الأفريقي.
- ? - ? -(137/4)
روابط الكتاب
http://www.geocities.com/saadrustom/my_books/unity/unity_main.htm
مع تحيات أخوكم النظير ( أبو بدر) منسق العمل في هذا الكتاب إلى ملف مضغوط(138/1)
من عقائد الشيعة تأليف عبدالله بن محمد السلفي
المقدمة :
الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد :
فإن الباعث على كتابة هذه الرسالة هو ما لوحظ من زيادة نشاط الرافضة للدعوة إلى مذهبهم في الآونة الأخيرة على مستوى العالم الإسلامي، وما لهذه الفرقة من خطر على الدين الإسلامي وما حصل من غفلة كثير من عوام المسلمين عن خطر هذه الفرقة، وما في عقيدتها من شرك وطعن في القرآن الكريم و في الصحابة - رضوان الله عليهم- وغلو في الأئمة، فقد عزمت على كتابة هذه الرسالة والإجابة على ما يشكل من أمرها بطريقة مختصرة اقتداءً بشيخنا العلامة عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين- حفظه الله -في كتابه (( التعليقات على لمعة الاعتقاد)) ونقلاً من كتب الرافضة المعروفة والمشهورة عندهم، ومن كتب أهل السنة من أئمة السلف و الخلف الذين قاموا بالرد عليهم وبيان فساد عقائدهم المنحرفة القائمة على الشرك والغلو والكذب والسب والشتم والطعن والتجريح.
ولقد حاولت في هذه الرسالة القصيرة و المتواضعة إدانتهم من خلال كتبهم ومؤلفاتهم المعتمدة عندهم كما قال الشيخ إبراهيم بن سليمان الجبهان - حفظه الله - :
(( من فمك أدينك أيها الشيعي))
وفي الختام أسأل المولى جل وعلا أن ينفع بها أولي الأبصار كما قال تعالى: ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)سورة ق الآية27
---------------- وكتبه عبدالله بن محمد السلفي ------------------
متى ظهرت فرقة الرافضة؟
نشأت فرقة الرافضة عندما ظهر رجل يهودي اسمه (عبدالله بن سبأ) ادّعى الإسلام، وزعم محبة آل البيت، وغالى في علي - رضي الله عنه - وادعى له الوصية بالخلافة ثم رفعه إلى مرتبة الألوهية، وهذا ما تعترف به الكتب الشيعية نفسها.(139/1)
قال القمي في كتابه (المقالات والفرق) (1) : يقر بوجوده و يعتبره أول من قال بفرض إمامة علي و رجعته وأظهر الطعن على أبي بكر و عمر و عثمان و سائر الصحابة، كما قال به النوبختي في كتابه (فرق الشيعة) (2). وكما قال به الكشي في كتابه المعروف (رجال الكشي) (3) . والاعتراف سيد الأدله، وهؤلاء جميعهم من كبار شيوخ الرافضة.
قال البغدادي : (( السبئية أتباع عبدالله بن سبأ الذي غلا في علي - رضي الله عنه - وزعم أنه كان نبياً ثم غلا فيه حتى زعم أنه الله )).
وقال البغدادي كذلك : ((وكان ابن السوداء - أي ابن سبأ - في الأصل يهودياً من أهل الحيرة، فأظهر الإسلام وأراد أن يكون له عند اهل الكوفة سوق ورياسة، فذكر لهم أنه وجد في التوراة أن لكل نبي وصياً وأن علياً - رضي الله عنه - وصي محمد صلى الله عليه وسلم)).
وذكر الشهرستاني عن أبن سبأ أنه أول من ظهر القول بالنص بإمامة علي - رضي الله عنه - وذكر عن السبئية أنها أول فرقة قالت بالتوقف بالغيبة والرجعة ، ثم ورثت الشيعة فيما بعد، رغم اختلافها وتعدد فرقها، القول بإمامة علي وخلافته نصاً و وصية، وهي من مخلفات ابن سبأ وقد تعددت فيما بعد فرق الشيع وأقوالها إلى عشرات الفرق والأقوال.
وهكذا ابتدعت الشيعة القول بالوصية والرجعة والغيبة بل والقول بتأليه الأئمة (4) اتباعاً لابن سبأ اليهودي.
لماذا سمي الشيعة بالرافضة؟
هذه التسمية ذكرها شيخهم المجلسي في كتابه (البحار) وذكر أربعة أحاديث من أحاديثهم(1).
وقيل سموا رافضة، لأنهم جاءوا إلى زيد بن علي بن الحسين، فقالوا : تبرأ من أبي بكر وعمر حتى نكون معك، فقال : هما صاحبا جدي بل اتولاهما، قالوا : إذا نرفضك، فسموا رافضة، وسمي من بايعه ووافقه زيدية(2).
وقيل سموا رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر(3) .
وقيل سموا بذلك لرفضهم الدين(4).
إلى كم تنقسم فرقة الرافضة؟(139/2)
جاء في كتاب دائرة المعارف أنه (( ظهر من فروع الفرق الشيعية ما يزيد كثيراً عن الفرق الثلاث والسبعين المشهورة)) (1).
بل جاء عن الرافضي مير باقر الداماد (2) أن جميع الفرق المذكورة في الحديث، حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، هي فرق الشيعة وان الناجية منهم فرقة الإمامية.
وذكر المقريزي ان فبرقهم بلغت (300) فرقة (3).
وقال الشهرستاني : (( إن الرافضة ينقسمون إلى خمسة أقسام : الكيسانية والزيدية والإمامية والغالية والإسماعيلية)) (4).
وقال البغدادي: (( إن الرافضة بعد زمان علي - رضي الله عنه - أربعة أصناف زيدية وإمامية وكيسانية وغلاة )) (5). مع ملاحظة ان الزيدية ليست من فرق الروافض باستثناء طائفة الجارودية.
ما عقيدة البداء التي يؤمن بها الرافضة؟
البداء هو بمعنى الظهور بعد الخفاء، أو بمعنى نشأة رأي جديد. والبداء بمعنييه يستلزم سبق الجهل وحدوث العلم، وكلاهما محال على الله، لكن الرافضة تنسب البداء إلى الله.
جاء عن الريان بن الصلت قال: (( سمعت الرضا يقول : ما بعث الله نبيا إلا بتحريم الخمر وأن يقر لله البداء)) (1). وعن أبي عبدالله أنه قال : (( ما عُبد الله بشيء مثل الباء )) (2). تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً.
انظر أخي المسلم كيف ينسبون الجهل إلى المولى سبحانه و تعالى وهو القائل جل وعلا عن نفسه : ( قل لا يعلم من في السموات و الارض الغيب إلا الله ) (3). وفي المقابل يعتقد الرافضة ان الأئمة يعلمون كل العلوم و لاتخفى عليهم خافية.
هل هذه عقيدة الاسلام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم.
ما عقيدة الرافضة في الصفات؟
وكان الرافضة أول من قال بالتجسيم. وقد حدد شيخ الاسلام ابن تيمية من تولى كبر هذه الفرية من هؤلاء الروافض هو هشام بن الحكم(1). وهشام بن سالم الجواليقي، ويونس بن عبدالرحمن القمي، وأبو جعفر الأحول(2).(139/3)
وكل هؤلاء المذكورين من كبار شيوخ الاثنا عشرية، ثم صاروا جهمية معطلة كما وصفت مجموعة من رواياتهم رب العالمين بالصفات السلبية التي ضمنوها الصفات الثابتة له سبحانه، فقد روى ابن بابويه أكثر من سبعين رواية تقول أنه تعالى (( لا يوصف بزمان، ولا مكان ولا كيفية، و لاحركة ولا انتقال، و لاشيء من صفات الأجسام وليس حساً وة جسمانيا ولا صورة)) (3). فسار شيوخهم على هذا النهج الضال مع تعطيل الصفات الواردة في الكتاب والسنة.
كما أنهم ينكرون نزول الله جل شأنه، ويقولون بخلق القرآن، وينكرون الرؤية في الآخرة، جاء في كتاب (بحار الأنوار) أن أبا عبدالله جعفر الصادق سئل عن الله تبارك و تعالى : هل يرى يوم المعاد؟ فقال سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، إن الأبصار لا تدرك إلا ما له لون وكيفية والله خالق الألوان والكيفية.
بل قالوا : لو نسب إلى الله بعض الصفات كالرؤية حكم بارتداده، كما جاء عن شيخهم جعفر النجفي في كتاب ( كشف الغطاء ) (ص 417) علماً أن الرؤية حق ثابت في الكتاب و السنة بغير إحاطة ولا كيفية كما قال تعالى :( وجوه يومئِذٍ ناضرة ، إلى ربها ناظرة ) (4).
ومن السنة ما جاء في صحيح البخلري ومسلم من حديث جرير بن عبدالله البجلي قال : كنا جلوسا مع النبي صلى الله عليه و سلم فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال : (( إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته ))(5).
والآيات و الأحاديث في ذلك كثيرة لا يسعنا ذكرها(6).
ما اعتقاد الرافضة في القرآن الكريم الموجود بين أيدينا الذي تعهد الله بحفظه؟
إن الرافضة التي تسمى في عصرنا بالشيع يقولون إن القرآن الذي عندنا ليس هم الذي أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، بل غير وبدل وزيد فيه ونقص منه. وجمهور المحدثين من الشيعة يعتقدون التحريف في القرآن كما ذكر ذلك النوري الطبرسي في كتابه ( فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب)(1).(139/4)
وقال محمد بن يعقوب الكليني في (أصول الكافي) تحت باب ( أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة) : (( عن جابر قال : سمعت أبا جعفر يقول ما أدعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل الله إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما أنزل إلا علي بن أبي طالب و الأئمة من بعده)).
وذكر أحمد الطبرسي في ( الاحتجاج ) و الملا حسن في تفسيره (الصافي) (( أن عمر قال لزيد بن ثابت : إن علياً جاءنا بالقرآن وفيه فضائح المهاجرين والأنصار، وقد رأينا أن نؤلف القرآن ونسقط منه ما كان فيه من فضائح وهتك المهاجرين و الأنصار. وقد أجابه زيد إلى ذلك، ثم قال : فإن أنا فرغت من القرآن على ما سألتم وأظهر علي القرآن الذي ألفه أليس قد أبطل كل ما عملتم؟ فقال عمر : ما الحيلة؟ قال زيد : أنتم أعلم بالحيلة، فقال عمر : ما حيلته دون أن نقتله ونستريح منه. فدبر في قتله على يد خالد بن الوليد فلم يقدر ذلك.
فلم استخلف عمر سألوا علياً - رصي الله عنه - أن يدفع إليهم القرآن قيحرفوه فيما بينهم فقال عمر : يا أبا الحسن إن جئت بالقرآن الذي كنت جئت به إلى أبي بكر حتى نجتمع عليه؟ فقال هيهات، ليس إلى ذلك سبيل، إنما جئت به إلى أبي بكر لتقوم الحجة عليه و لا تقولوا يوم القيامة (إنا كنا عن هذا غافلين)(2). أو تقولوا : (ما جئتنا)(3). إن هذا القرآن لا يمسه إلا المطهرون والأوصياء من ولدي، فقال عمر : فهل وقت لإظهار معلوم؟ فقال علي : نعم إذا قام القائم من ولدي يظهره ويحمل الناس عليه ))(4).
ومهما تظاهر الشيعة بالبراءة من كتاب النوري الطبرسي عملا بعقيدة التقية، فإن الكتاب ينطوي على مئات النصوص عن علمائهم في كتبهم المعتبرة، يثبت أنهم جازمون بالتحريف ومؤمنون به ولكن لا يحبون أن تثرو الضجة حول عقيدتهم هذه في القرآن.(139/5)
ويبقى بعد ذلك أن هناك قرآنين أحدهما معلوم و الآخر خاص مكتوم ومنه سورة الولاية، ومما تزعم الشيعة الرافضة أنه أسقط من القرآن آية وهي : (( وجعلنا عليا صهرك )) زعموا أنها أسقطت من سورة ( ألم نشرح ) وهم لا يخجلون من هذا الزعم مع علمهم بأن السورة مكية ولم يكن علي - رضي الله عنه - صهرا للنبي صلى الله عليه وسلم بمكة.
ما عقيدة الرافضة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
تقوم عقيدة الرافضة على سب وشتم وتكفير الصحاببة - رضوان الله عليهم - ذكر الكليني في (فروع الكافي) عن جعفر عليه السلام : (( كان الناس أهل ردة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة، فقلت: من الثلاثة؟فقال: المقداد بن الأسود،وأبو ذر الغفاري،وسلمان الفارسي))(1).
وذكر المجلسي في (حق اليقين) أنه قال لعلي بن الحسين مولى له : (( عليك حق الخدمة فأخبرني عن أبي بكر وعمر؟ فقال : إنهما كافرين، الذي يحبهما فهو كافر أيضاً))(2).
وفي تفسير القمي عند قوله تعالى : (وينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي)(3) قالوا : الفحشاء ابو بكر، والمنكر عمر، و البغي عثمان(4).
ويقولون في كتابهم (مفتاح الجنان) : (( اللهم صل على محمد و على آل محمد و العن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما وابنتيهما ... إلخ(5). ويعنون بذلك أبا بكر و عمر وعائشة وحفصة.
وفي يوم عاشوراء يأتون بكلب ويسمونه عمر، ثم ينهالون عليه ضرباً بالعصي ورجماً بالحجارة حتى يموت، ثم يأتون بسخلة و يسمونها عائشة، ثم يبدؤون بنتف شعرها وينهالون عليها ضرباً بالأحذية حتى تموت(6). كما أنهم يحتفلون باليوم الذي قتل فيه الفاروق عمر بن الحطاب ويسمون قاتله أبا لؤلؤة المجوسي شجاع الدين (7). رضي الله عن الصحابة أجمعين وعن أمهات المؤمنين.(139/6)
انظر خي المسلم ما أحقد وما أخبث هذه الفرقة المارقة من الدين وما يقولونه في خيار البشر بعد الأنبياء - عليهم السلام - والذين أثنى الله عليهم ورسوله، وأجمعت الأمة على عدالتهم وفضلهم، وشهد التاريخ والواقع و الأمور المعلومة الضرورية بخيرهم وسابقتهم وجهادهم في الاسلام.
ما أوجه التشابه بين اليهود والرافضة؟
قال شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله - : (( وأية ذلك أن محنة الرافضة محنة اليهود، وذلك أن اليهود قالوا لا يصلح الملك إلا في آل داود، وقالت الرافضة : لا تصلح الامامة إلا في ولد علي.
وقالت اليهود : لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح الدجال و ينزل السيف، وقالت الرافضة : لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي وينادي مناد من السماء,
واليهود يؤخرون الصلاة إلى اشتباك النجوم، وكذلك الرافضة يؤخرون المغرب إلى اشتباك النجوم، والحديث : (( لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم))(1).
واليهود حرفوا التوارة وكذلك الرافضة حرفوا القرآن.
واليهود لا يرون المسح على الخفين وكذلك الرافضة.
واليهود تبغض جبريل يقولون هو عدونا من الملائكة، وكذلك الرافضة يقولون غلط جبريل بالوحي على محمد(2).
وكذلك الرافضة وافقوا النصارى في خصلة النصارى، ليس لنسائهم صداق إنما يتمتعون بهن تمتعاً، وكذا الرافضة يتزوجون بالمتعة ويستحلونها.
وفُضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين : سئلت اليهود : من خير أهل ملتكم؟ قالوا : أصحاب موسى، وسئلت النصارى : من خير أهل ملتكم؟ قالوا : حواري عيسى، وسئلت الرافضة : من شر أهل ملتكم؟ قالوا : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم(3).
ما عقيدة الرافضة في الأئمة؟(139/7)
الرافضة يدعون العصمة للأئمة وأنهم يعلمون الغيب ، نقل الكليني في ( أصول الكافي ) : ((قال الامام جعفر الصادق : نحن خزان علم الله، نحن تراجمة أمر الله، نحن قوم معصومون أمر بطاعتنا و نهي عن معصيتنا ، نحن حجة الله البالغة على من دون السماء و فوق الأرض)) (1).
ويرى الكليني في (الكافي) باب (أن الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا) . عن جعفر أنه قال : ((إن الامام إذا شاء أن يعلم علم، وأن الأئمة يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم)) (2).
وذكر الخميني الهالك - في إحدى رسائله أن الأئمة أفضل من الأنبياء و الرسل وقال - أخزاه الله - : (( إن لأئمتنا مقاماً لا يصله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل)).
قال شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله - : ((والرافضة تزعم أن الدين مسلم للأحبار والرهبان، فالحلال ما حللوه والحرام ما حرموه، والدين ما شرعوه))(3).
وإذا أردت أخي القارىء أن ترى الكفر والشرك والغلو - والعياذ بالله - فاقرأ هذه الأبيات التي قالها شيخهم المعاصر ابراهيم العاملي في علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- :
أبا حسن أنت عين الإله ---- وعنوان قدرته السامية
وانت المحيط بعلم الغيوب ---- فهل تعزب عنك من خافية
وأنت مدير رحى الكائنات ---- ولك أبحارها السامية
لك الأمر إن شئت تحيي غدا ---- وإن شئت تشفع بالناصية
وقال آخر يسمى علي بن سليمان المزيدي في مدح علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - :
أبا حسن أنت زوج البتول ---- وجنبب الإله ونفس الرسول
وبدر الكمال و شمس العقول ---- ومملوك رب وأنت الملك
دعاك النبي بيوم الكدير ---- ونص عليك بأمر الغدير
لأنك للمؤمنين الأمير ---- وعقد ولايته قلدك
إليك تصير جميع الأمور ---- وأنت العليم بذات الصدور
وأنت المبعثر ما في القبور ---- وحكم القيامة بالنص لك
وأنت السميع وأنت البصير ---- وأنت على كل شيء قدير
ولولاك ما كان نجم يسير ---- و لا دار لولاك الفلك(139/8)
وأنت بكل البرايا عليم ---- وأنت المكلم أهل الرقيم
ولولاك ما كان موسى الكليم ---- كليماً فسبحان من كونك
سترى سر أسمك في العالمين ---- فحبك كالشمس فوق الجبين
وبغضك في أوجه المبغضين ---- كقير فلا فاز من أبغضك
فمن ذاك كان ومن ذا يكون ---- وما الأنبياء وما المرسلون
وما القلم اللوح ما العالمون ---- وكل عبيد مماليك لك
أبا حسن يا مدير الوجود ---- وكهف الطريد ومأوى الوفود
ومسقي محبيك يوم الورود ---- ومنكر في البعث من أنكرك
أبا حسن يا علي الفخار ---- ولاءك لي في ضريحي منار
واسمك لي في المضيق الشعار ---- وحبك مدخلي جنتك
بك المزيدي علي دخيل ---- إذا جاء أمر الإله الجليل
ونادى المنادي الرحيل الرحيل ---- وحاشاك تترك من لاذ بك
فهل هذه القصيدة يقولها مسلم يدين بالإسلام، والله إن أهل الجاهلية لم يقعوا بهذا الشرك والكفر والغلو الذي وقع به هذا الرافضي الهالك.
ما عقيدة الرجعة التي يؤمن بها الرافضة؟
ابتدع الرافضة بدعة الرجعة، يقول المفيد : (( واتفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات)) (1). وهي أن يقوم آخر أئمتهم ويسمى (القائم) في آخر الزمان، ويخرج من السرداب يذبح جميع خصومه من السياسيين ويعيد إلى الشيعة حقوقهم التي اغتصبتها الفرق الأخرى عبر القرون(2).
قال السيد المرتضى في كتابه (المسائل الناصرية) إن أبا بكر وعمر يصلبان يومئذ على شجرة من زمن المهدي - أي إمامهم الثاني عشر - الذ يسمونه قائم آل محمد، وتكون الشجرة رطبة قبل الصلب فتصير يابسة بعده(3).
وقال المجلسي في كتاب (حق اليقيين) عن محمد الباقر : (( إذا ظهر المهدي فإنه سيحيي عائشة أم المؤمنين ويقيم عليها الحد)) (4).
ثم تطور مفهموم الرجعة عندهم فقالوا برجعة جميع الشيعة وأئمتهم وجميع خصومهم مع أئمتهم. وهذه العقيدة الخرافية تكشف الحقد الكامن في نفوسهم والذي يعبرون عنه بمثل هذه الأساطير، وكان هذا المعتقد وسيلة اتخذها السبئية لإنكار اليوم الأخر.(139/9)
ما عقيدة التقية عند الرافضة؟
التقية عرفها أحد علمائهم المعاصرين بقوله : (( التقية أن تقول أو تفعل غير ما تعتقد، لتدفع الضرر عن نفسك أو مالك او لتحفظ بكرامتك))(1). بل زعموا ان الرسول صلى الله عليه وسلم قد فعلها عندما مات عبدالله بن أبي سلول رأس المنافقين، حيث جاء للصلاة عليه فقال عمر : ألم ينهك الله عن ذلك؟ - أي أن تقوم على قبر هذا المنافق - فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويلك ما يدريك ما قلت؟ (( إتي قلت اللهم أحش جوفه ناراً واملأ قبره ناراً واصله ناراً )) (2).
وانظر أخي المسلم كيف ينسبون الكذب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهل يعقل أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يترحمون عليه ونبي الرجمة يلعنه؟!.
ونقل الكليني في (أصول الكافي) : قال أبو عبدالله : يا أبا عمر إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شيء إلا النبيذ والمسح على الخفين)). ونقل الكليني أيضاً عن أبي عبدالله قال : (( أتقو على دينكم وأحجبوه بالتقية، فإنه لا إيمان لمن لا تقية له))(3).
فالرافضة يرون التقية فريضة لا يقوم المذهب إلا بها، و يتلقون أصولها سراً وجهراً، ويتعاملون بها خصوصاً إذا أحاطت بهم ظروف قاسية، فالحذر الحذر من الرافضة أيها المسلمون.
ما عقيدة الطينة التي يؤمن بها الرافضة؟
المقصود بالطينة عند الرافضة هي طينة قبر الحسين - رضي الله عنه - نقل أحد ضُلالهم ويدعى محمد النعمان الحارثي الملقب بالشيخ المفيد في كتابه (المزار) عن أبي عبدالله أنه قال: ( في طين قبر الحسين الشفاء من كل داء، وهو الدواء الأكبر)).(139/10)
وقال : بُعث إلى أبي الحسن الرضا من خرسان رزم ثياب وكان بين ذلك طين، فقيل للرسول: ماهذا؟ قال: طين من قبر الحسين، ما كان يوجه شيئاً من الثياب ولا غيره إلا ويجعل فيه الطين، ويقول هو أمان بإذن الله الله تعالى. وقيل إن الرجل سأل الصادق عن تناوله تربة الحسين، فقال له الصادق : فإذا تناولت فقل : اللهم إني أسألك بحق الملك الذي قبضها، وأسألك بحق النبي الذي خزنها، وبحق الوصي الذي حل فيها أن تصلي على محمد، و عل آل محمد وأن تجعله شفاء من كل داء، وأماناً نم كل خوف، وحفظاً من كل سوء.
وسئل أبو عبدالله عن استعمال التربتين من طين قبر حمزة وقبر الحسين والتفاضل بينهما فقال : (( المسبحة التي من طين قبر الحسين تسبح بيد من غير أن يسبح))(1).
كما أن الرافضة تزعم أن الشيعي خلق من طينة خاصة و السني خلق من طينة أخرى، وجرى المزج بين الطينتين بوجه معين، فما في الشيعي من معاص و جرائم هو من تأثره بطينة السني وما في السني من صلاح وأمانة هو بسبب تأثره بطينة الشيعي، فإذا كان يوم القيامة فإن سيئات وموبقات الشيعة توضع على اهل السنة وحسنات اهل السنة تعطى للشيعة(2).
ما عقيدة الرافضة في أهل السنة؟
تقوم عقيدة الرافضة في استباحة أموال ودماء أهل السنة. روى الصدوق في (العلل) مسنداً إلى داود بن فرقد قال : (( قلت لأبي عبدالله : ما تقول في الناصب؟ قال حلال الدم لكن أتقي عليك، فإن قدرت ان تقلب عليه حائطاً أو تغرقه في بحر لكي لا يشهد به عليك فافعل. قلت : فما ترى في ماله؟ قال : خذه ما قدرت))(1).
بل ترى الشيعة الرافضة ان كفر أهل السنة أغلظ من كفر اليهود والنصارى، لأن أولئك عندهم كفار أصليون وهؤلاء كفار مرتدون وكفر الردة أغلظ بالإجماع ولهذا يعاونون الكفار على المسلمين كما يشهد التاريخ بذلك(2).(139/11)
جاء في كتاب (وسائل الشيعة) عن الفضيل بن يسار قال : (( سألت أبا جعفر عن المرأة العارفة (أي الرافضية) : هل أزوجها الناصب؟ قال لا، لأن الناصب كافر)) (3).
والنواصب عند أهل السنة هم الذين يكرهون علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ولكن الرافضة تسمي أهل السنة نواصب، لأنهم يقدمون إمامة أبي بكر وعمر وعثمان على علي، مع أن تفضيل أبي بكر وعمر وعثمان على علي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل عليه قول ابن عمر : (( كنا نخير بين الناس في زمن الرسول الله صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان )). روته البخاري، وزاد الطبراني في الكبير : ((فيعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم و لاينكره)). ولابن عساكر : (( كنا نفضل أبا بكر وعمر وعثمان وعلي )).
وروى أحمد وغيره عن علي بن أبي طالب أنه قال : ((خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ولو شئت لسميت الثالث)) قال الذهبي : هذا متواتر(4).
ما عقيدة الرافضة في المتعة؟ وما فضلها عندهم؟
المتعة لها فضل عظيم عند الرافضة - والعياذ بالله - جاء في كتاب ( منهج الصادقين ) لفتح الله الكاشاني عن الصادق بأن المتعة من ديني ودين آبائي، فالذي يعمل بها يعمل بديننا والذي ينكرها ينكر ديننا، بل إنه يدين بغير ديننا، وولد المتعة أفضل من ولد الزوجة الدائمة، ومنكر المتعة كافر مرتد.(1).
ونقل القمي في كتاب (من لايحضره الفقيه) عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله قال : (( إن الله تبارك وتعالى حرم على شيعتنا المسكر من كل شراب وعوضهم من ذلك بالمتعة))(2).
والرافضة لم تشترط عدداً معيناً في المتعة، جاء في (فروع الكافي) و (التهذيب) و(الاستبصار) عن زرارة عن أبي عبدالله قال : ((ذكرت له المتعة أهي من الأربع فقال : تزوج منهن ألفاً فإنهن مستأجرات، وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر أنه قال في المتعة : ليست من الأربع، لأنها لا تطلق ولا نرث وإنما مستأجرة))(3).(139/12)
كيف هذا وقد قال تعالى : ( والذين هم لفروجهم حافظون ، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ، فمن ابتغى ورآء ذلك فأولئك هم العادون)(4). فتبين من الآية الكريمة أن ما أبيح من النكاح الزوجة وملك اليمين وحرم ما زاد على ذلك، والمتمتعة مستأجرة، فهي ليست زوجة ولا تورث ولا تطلق، إذا هي زانية والعياذ بالله. يقول فضيلة الشيخ عبدالله بن جبرين (ويستدل الروافض في إباحة المتعة بآية سورة النساء وهي قوله تعالى : (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة)(5).
والجواب : إن الآيات كلهن في النكاح من قوله تعالى ( لا يحل لكم أن ترثوا النسآء ) إلى قوله تعالى : ( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ) إلى قوله تعالى : ( ولا تنكحوا ما نكح ءابآؤكم ) إلى قوله تعالى : (حرمت عليكم أمهاتكم ) وبعد أن عد المحرمات بالنسب والسبب قال : (وأحل لكم ما ورآء ذلكم ) أي : أبيح لكم نكاح بقية النساء فإذا نكحتموهن للاستمتاع الذي هو الوطء الحلال فآتوهن مهورهن التي فرضتموهن لهن فإن أسقطن شيئاً منها عن طيب نفس فلا جناح عليكم في ذلك هكذا فسر الآية جمهور الصحابة ومن بعدهم)(6).
بل وصل الحال عند الرفضة في جواز إتيان المرأة في دبرها، جاء في كتاب (الاستبصار) عن علي بن الحكم قال : (( سمعت صفوان يقول : قلت للرضا : إن رجلاً من مواليك أمرني أن أسألك عن مسألة فهابك واستحيى منك أن يسألك، قال : ماهي؟ قال : للرجل أن يأتي المرأة في دبرها، قال : نعم، ذلك له ))(7).
ما عقيدة الرافضة في المتعة؟ وما فضلها عندهم؟(139/13)
المتعة لها فضل عظيم عند الرافضة - والعياذ بالله - جاء في كتاب ( منهج الصادقين ) لفتح الله الكاشاني عن الصادق بأن المتعة من ديني ودين آبائي، فالذي يعمل بها يعمل بديننا والذي ينكرها ينكر ديننا، بل إنه يدين بغير ديننا، وولد المتعة أفضل من ولد الزوجة الدائمة، ومنكر المتعة كافر مرتد.(1).
ونقل القمي في كتاب (من لايحضره الفقيه) عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله قال : (( إن الله تبارك وتعالى حرم على شيعتنا المسكر من كل شراب وعوضهم من ذلك بالمتعة))(2).
والرافضة لم تشترط عدداً معيناً في المتعة، جاء في (فروع الكافي) و (التهذيب) و(الاستبصار) عن زرارة عن أبي عبدالله قال : ((ذكرت له المتعة أهي من الأربع فقال : تزوج منهن ألفاً فإنهن مستأجرات، وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر أنه قال في المتعة : ليست من الأربع، لأنها لا تطلق ولا نرث وإنما مستأجرة))(3).
كيف هذا وقد قال تعالى : ( والذين هم لفروجهم حافظون ، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ، فمن ابتغى ورآء ذلك فأولئك هم العادون)(4). فتبين من الآية الكريمة أن ما أبيح من النكاح الزوجة وملك اليمين وحرم ما زاد على ذلك، والمتمتعة مستأجرة، فهي ليست زوجة ولا تورث ولا تطلق، إذا هي زانية والعياذ بالله. يقول فضيلة الشيخ عبدالله بن جبرين (ويستدل الروافض في إباحة المتعة بآية سورة النساء وهي قوله تعالى : (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة)(5).(139/14)
والجواب : إن الآيات كلهن في النكاح من قوله تعالى ( لا يحل لكم أن ترثوا النسآء ) إلى قوله تعالى : ( وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ) إلى قوله تعالى : ( ولا تنكحوا ما نكح ءابآؤكم ) إلى قوله تعالى : (حرمت عليكم أمهاتكم ) وبعد أن عد المحرمات بالنسب والسبب قال : (وأحل لكم ما ورآء ذلكم ) أي : أبيح لكم نكاح بقية النساء فإذا نكحتموهن للاستمتاع الذي هو الوطء الحلال فآتوهن مهورهن التي فرضتموهن لهن فإن أسقطن شيئاً منها عن طيب نفس فلا جناح عليكم في ذلك هكذا فسر الآية جمهور الصحابة ومن بعدهم)(6).
بل وصل الحال عند الرفضة في جواز إتيان المرأة في دبرها، جاء في كتاب (الاستبصار) عن علي بن الحكم قال : (( سمعت صفوان يقول : قلت للرضا : إن رجلاً من مواليك أمرني أن أسألك عن مسألة فهابك واستحيى منك أن يسألك، قال : ماهي؟ قال : للرجل أن يأتي المرأة في دبرها، قال : نعم، ذلك له ))(7).
ما عقيدة الرافضة في النجف وكربلاء؟ وما فضل زيارتها عندهم؟
لقد اعتبر الشيعة أماكن قبور أئمتهم المزعومة أو الحقيقة حرماً مقدساً : فالكوفة حرم، وكربلاء حرم، وقم حرم. ويروون عن الصادق أن لله حرماً وهو مكة ولرسوله حرماً وهو المدينة، ولأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، ولنا حرماً وهو قم.
وكربلاء عندهم أفضل من الكعبة جاء في كتاب البحار عن أبي عبدالله أنه قال : (( إن الله أوحى إلى الكعبة، لولا تربة كربلاء ما فضلتك، ولولا من تضمه أرض كربلاء ما خلقتك ولا خلقت البيت الذي به افتخرت، فقري واستقري، وكوني ذنباً متواضعاً ذليلاً مهيناً غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء وإلا سخت بك وهويت بك في نار جهنم )) (1).(139/15)
وجاء في كتاب (المزار) لمحمد النعمان الملقب بالشيخ المفيد، في باب ( القول عند الوقوف على الحدث ) وذلك أن يشير زائر الحسين بيده اليمنى ويقول في دعاء طويل منه : (( وآتيك زائراً ألتمس ثبات القدم في الهجرة إليك، وقد تيقنت أن الله جل ثناؤه بكم ينفس الهم، وبكم يُنزل الرحمة، وبكم يمسك الأرض أن تسيخ بآلها، وبكم يثبت الله جبالها على مراسيها، قد توجهت إلى ربي بك ياسيدي في قضاء حوائجي ومغفرة ذنوبي )).
وجاء في فضل الكوفة في كتاب المزار عن جعفر الصادق أنه قال : (( أفضل البقاع بعد حرم الله وحرم رسوله الكوفة، لأنها الزكية الطاهرة، فيها قبور النبيين والمرسلين والأوصياء الصادقين، وفيها يظهر عدل الله، وفيها يكون قائمة والقوّام من بعده، وهي تكون منازل النبيين والأوصياء والصالحين )) (2).
انظر أخي القارىء كيف يقع هؤلاء في الشرك من سؤالهم لغير الله في قضاء الحوائج وطلب مغفرة الذنوب من البشر، كيف يكون هذا وقد قال تعالى : ( ومن يغفر الذنوب إلا الله ) (3) نعوذ بالله من الشرك.
ما أوجه الخلاف بين الشيعة الرافضة وبين أهل السنة؟
قال نظام الدين محمد الأعظمي في مقدمة كتاب ( الشيعة والمتعة ) : (( إن الخلاف بيننا وبينهم لا يتركز في خلاف فقهي فرعي كمسألة المتعة فحسب كلا، إن الخلاف في الأصل خلاف الأصول، نعم خلاف في العقيدة يتركز في النقاط التالية :
1- الرافضة يقولون إن القرآن محرف وناقص. ونحن نقول إن القرآن كلام الله تام غير ناقص، لم ولن يعتريه التبديل والنقص والتغيير إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. كما قال تعالى:( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (1).
2-الرافضة يقولون إن صحابة رسول الله باستثناء البعض ارتدوا بعد وفاة رسول الله، ونكصوا على اعقابهم، وخاونا الأمانة والديانة، لاسيما الخلفاء الثلاثة: الصديق والفاروق وذوالنورين. ولذا فهم عندهم من أشد الناس كفراً وضلالاً وغواية,(139/16)
ونحن نقول إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم خير البشر بعد الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - وأنهم عدول جميعاً لا يتعمدون الكذب على نبيهم، ثقات في نقلهم.
3- الرافضة يقولون إن الأئمة - أئمة الرافضة - الأثني عشر معصومون، يعلمون الغيب ويعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل، وأنهم يعلمون علم ما كان وما يكون لا يخفى عليهم شيء، وأنهم يعرفون جميع لغات العالم وأن الأرض كلها لهم.
ونحن نقول أنهم بشر كسائر البشر لا فرق بينهم ومنهم فقهاء وعلماء وخلفاء ولا ننسب إليهم ما لم يدعوه لأنفسهم، بل نهوا عنه وتبرؤوا منع )) (2).
ما عقيدة الرافضة في يوم عاشوراء ؟ وما فضله عندهم؟
إن الرافضة يقيمون المحافل والمآتم والنياحة ويعملون المظاهرات في الشوارع والميادين العامة ويقومون بلبس الملابس السوداء حزناً في ذكرى شهادة الحسين - رضي الله عنه - باهتمام في العشر الأوائل من محرم من كل عام، معتقدين أنها من أجلّ القربات، فيضربون خدودهم بأيديهم، ويضربون صدورهم وظهورهم، ويشقون الجيوب يبكون ويصيحون بهتافات : ياحسين، ياحسين، وخاصة في اليوم العاشر من كل محرم، بل أنهم يقومون بضرب أنفسهم بالسلاسل والسيوف كما هو الحاصل في البلاد التي يقطنها الرافضة كإيران مثلاً.
وشيوخهم يحرضونهم على هذه المهازل التي صاروا بها أضحوكة الأمم، فقد سئل أحد مراجعهم وهو محمد حسن آل كاشف الغطا عما يفعله أبناء طائفته من ضرب ولطم ... إلخ. قال إن هذا من تعظيم شعائر الله ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) (1) (*).
ماعقيدة الرافضة في البيعة؟
يعتبر الرافضة كل حكومة غير حكومة الاثنى عشر باطلة، جاء في ( الكافي بشرح المازندراني ) و(الغيبة) للنعماني عن أبي جعفر قال : (( كل راية ترفع قبل راية القائم - مهدي الرافضة - صاحبها طاغوت )) (1).(139/17)
ولا تجوز الطاعة لحاكم ليس من عند الله إلا على سبيل التقية، والإمام الجائر والظالم والذي ليس أهلاً للإمامة وما شابه ذلك من أوصاف، كل ذلك يطلقونه على حكام المسلمين من غير أئمتهم، وعلى رأس هؤلاء الحكام الخلفاء الراشدون - رضوان الله عليهم - أبو بكر وعمر وعثمان.
وقال الرافضي المجلسي وهو أحد ضُلاَّلهم صاحب ( بحار الأنوار ) عن الخلفاء الثلاثة الراشدين : (( إنهم لم يكونوا إلا غاصبين جائرين مرتدين عن الدين لعنة الله عليهم وعلى من اتبعهم في ظلم أهل البيت من الأولين والآخرين )) (2).
هذا ما يقوله إمامهم المجلسي الذي يُعد كتابه من أهم مصادرهم الأساسية في الحديث في أفضل الأمة بعد رسل الله وأنبيائه.
وبناءً على مبدئهم في خلفاء المسلمين اعتبروا كل من يتعاون معهم طاغوتاً وجائراً، روى الكليني بسنده عن عمر بن حنظلة قال : (( سألت أبا عبدالله عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث تحاكما إلى السلطان وإلى القضاء : أيحل ذلك؟ قال : من تحاكم إليهم بحق أو باطل فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت )) (3).
قال الخميني - الهالك، عليه من الله ما يستحق - معقباً على حديثهم هذا : (( الإمام نفسه ينهى الرجوع ‘لى السلاطين وقضاتهم، ويعتبر الرجوع إليهم رجوعاً إلى الطاغوت )) (4).
ما حكم التقريب بين أهل السنة الموحدين والرافضة المشركين؟
أكتفي أخي القارىء بذكر مقالة من مقالات الدكتور ناصر القفاري في كتابه (مسألة التقريب) وهي المقالة السابعة، حيث قال - حفظه الله تعالى - في ذلك :(139/18)
(( كيف يمكن التقريب مع من يطعن في كتاب الله ويفسره على غير تأويله ويزعم بتنزل كتب إلهيه على أئمته بعد القرآن الكريم (1)، ويرى الإمامة نبوة، والأئمة عنده كالأنبياء أو أفضل، ويفسره عبادة الله وحده التي هي رسالة الرسل كلهم بغير معناها الحقيقي، ويزعم أنها طاعة الأئمة وأن الشرك بالله طاعة غيرهم معهم، ويكفر خيار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحكم بردة جميع الصحابة إلا ثلاثة أو أربعة أو سبعة على اختلاف رواياتهم، ويشذ عن جماعة المسلمين بعقائد في الأمامة والعصمة والتقية ويقول بالرجعة والغيبة والبداء )) (2).
ما أقوال أئمة السلف والخلف في الرافضة؟
قال شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله رحمة واسعة - : (( وقد اتفق أهل العلم بالنقل والرواية والاسناد على أن الرافضة أكذب الطوائف، والكذب فيهم قديم، ولهذا كان أئمة الاسلام يعلمون امتيازهم بكثرة الكذب )).
قال أشهب بن عبدالعزيز : (( سئل مالك - رحمه الله - عن الرافضة فقال : لاتكلمهم ولا تروي عنهم فإنهم يكذبون. وفال مالك : الذي يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لهم أسم، أو قال: نصيب في الاسلام )).
وقال أبن كثير عند قوله سبحانه : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوارة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فئازره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ) (1). وقال : (( ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك - رحمة الله عليه - في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة - رضوان الله عليهم - قال : لأنهم يغيظونهم ومن غاظ الصحابة - رضي الله عنهم - فهو كافر لهذه الآية )).(139/19)
قال القرطبي : (( لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله، فمن نقص واحدا منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين ))(2).
وقال أبو حاتم : (( حدثنا حرملة قال : سمعت الشافعي - رحمه الله - يقول لم أرَ أحداً أشهد بالزور من الرافضة )).
وقال مؤمل بن أهاب : (( سمعت يزيد بن هارون يقول : (يكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية إلا الرافضة فإنهم يكذبون )).
وقال محمد بن سعيد الأصبهاني : (سمعت شريكاً يقول : احمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة، فإنهم يضعون الحديث ويتخذونه ديناً )). وشريك هو شريك بن عبدالله، قاضي الكوفة.
وقال معاوية : (( سمعت الأعمش يقول : أدركت الناس وما يسمونهم إلا الكذابين )). يعني أصحاب المغيرة بن سعيد الرافضي الكذاب كما وصفه الذهبي (3).
قال شيخ الإسلام - رحمه الله - معلقاً على ما قاله أئمة السلف : (( وأما الرافضة فأصل بدعتهم زندقة وإلحاد وتعمُّد، الكذب كثير فيهم، وهم يقرون بذلك حيث يقولون : ديننا التقية، وهو أن يقول أحدهم بلسانه خلاف ما في قلبه وهذا هو الكذب والنفاق فهم في ذلك كما قيل : رمتني بدائها وانسلت ))(4).
قال عبدالله أحمد بن حنبل : (( سألت أبي عن الرافضة، فقال : الذي يشتمون أو يسبون أبا بكر وعمر )). وسئل الامام أحمد عن أبي بكر وعمر فقال : (( ترحم عليهما وتبرأ ممن يبغضهما ))(5).
روى الخلال عن أبي بكر المروزي قال : ((سألت ابا عبدالله عمن يشتم أبابكر وعمر وعائشة، قال ما أره في الاسلام )) (6).
وروى الخلال قال : (( أخبرني حرب بن إسماعيل الكرماني قال : ثنا موسى بن هارون بن زياد قال : سمعت الفريابي ورجل يسأله عمن شتم أبابكر قال:كافر، قال: فيلصى عليه؟ قال:لا ))(7).(139/20)
قال ابن حزم - رحمه الله - عن الرافضة عندما ناظر النصارى وأحضروا له كتب الرافضة للرد عليه : (( إن الرافضة ليسوا مسلمين، وليس قولهم حجة على الدين، وإنما هي فرقة حدث أولها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة وكأن مبدئها إجابة ممن خذله الله لدعوة من كاد الاسلامن وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في التكذيب والكفر ))(8).
وقال أبو زرعة الرازي : (( إذا رأيت الرجل ينقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق )).
وسئلت اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية سؤالاً جاء فيه أن السائل وجماعة معه في الحدود الشمالية مجاورون للمركز العراقي، وهناك جماعة على مذهب الجعفربة ومنهم من امتنع عن أكل ذبائحهم ومنهم من أكل، ونقول : هل يحل لنا أن نأكل منها علماً بأنهم يدعون عليا والحسن والحسين وسائر سادتهم في الشدة والرخاء؟ فأجابت اللجنة برئاسة سماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ عبدالرزاق عفيفي، والشيخ عبدالله بن غديان، والشيخ عبدالله بن قعود - أثابهم الله جميعاً - :
الجواب : الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد :
إذا كان الأمر كما ذكر السائل من أن الجماعة الذين لديه من الجعفرية يدعون علياً والحسن والحسين وسادتهم فهم مشركون مرتدون عن الاسلام والعياذ بالله، لايحل الأكل من ذبائحهم لأنها ميتة ولو ذكروا عليها أسم الله (9).
وسئل العلامة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين - حفظه الله ورعاه من كل سؤ - سؤالا جاء فيه فضيلة الشيخ يوجد في بلدتنا شخص رافضي يعمل قصابا ويحضره أهل السنة كي يذبح ذبائحهم، وكذلك هناك بعض المطاعم تتعامل مع هذا الشخص الرافضي وغيره من الرافضة الذي يعملون في نفس المهنة. فما حكم التعامل مع هذا الرافضي وأمثاله؟ وما حكم ذبحه : هل ذبيحته حلال أم حرام؟ أفتونا مأجورين والله ولي التوفيق.(139/21)
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد : فلا يحل ذبح الرافضي ولا أكل ذبيحته، فإن الرافضة غالباً مشركون حيث يدعون علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - دائماً في الشدة والرخاء حتى في عرفات والطواف والسعي، ويدعون أبناءه وأئمتهم كما سمعناهم مرارا، وذا شرك أكبر وردة عن الإسلام يستحقون القتل عليها.
كما هم يغلون في وصف علي - رضي الله عنه - ويصفونه بأوصاف لاتصلح إلا لله، كما سمعناهم في عرفات، وهم بذلك مرتدون حيث جعلوه رباً وخالقاً، ومتصرفاً في الكون، ويعلم الغيب، ويملك الضر والنفع، ونحو ذلك.
كما أنهم يطعنون في القرآن الكريم، ويزعمون أن الصحابة حرفوه وحذفوا منه أشياء كثيرة تتعلق بأهل البيت وأعدائهم، فلا يقتدون به ولا يرونه دليلاً.
كما أنهم يطعنون في أكابر الصحابة كالخلفاء الثلاثة وبقية العشرة، وأمهات المؤمنين، ومشاهير الصحابة كأنس وجابر وأبي هريرة ونحوهم، فلا يقبلون أحاديثهم، لأنهم كفار في زعمهم! ولا يعملون بأحاديث الصحيحين إلا ما كان عن أهل البيت، ويتعلقون بأحاديث مكذوبة أو لا دليل فيها على ما يقولون، ولكنهم مع ذلك ينافقون فيقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، ويخفون في أنفسهم ما لايبدون لك، ويقولون : من لا تقية له فلا دين له. فلا تقبل دعواهم في الأخوة ومحبة الشرع..إلخ، فالنفاق عقيدة عندهم، كفى الله شرهم، وصلى الله محمد وآله وصحبه وسلم(10).
سورة الولاية المزعومة :
من كتاب ( فصل الخطاب ) :(139/22)
يأيها الذين آمنوا آمنوا بالنورين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي ويحذرانكم عذاب يوم عظيم. نوران بعضهما من بعض وأنا السميع العليم. إن الذبن يوفون ورسوله في آيات لهم جنات النعيم (كذا) والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم ميثاقهم وما عاهدهم الرسول عليه يقذفون في الجحيم. ظلموا أنفسهم وعصوا الوصي الرسول أولئك يسقون من حميم. إن الله الذي نور السموات الأرض بما شاء واصطفى من الملائكة وجعل من المؤمنين أولئك في خلقه يفعل الله ما يشاء لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. قد مكر الذين من قبلهم برسلهم فأخذهم بمكرهم إن أخذي شديد أليم. إن الله قد أهلك عاداً وثموداً بما كسبوا وجعلهم لكم تذكرة فلا تتقون. وفرعون بما طغى على موسى وأخيه هارون أغرقته ومن تبعه أجمعين. ليكون لكم آية وإن أكثركم فاسقون. إن الله يجمعهم في يوم الحشر فلا يستطيعون الجواب حين يسألون. إن الجحيم مأواهم وأن الله عليم حكيم. يأيها الذين كانوا عن آياتي وحكمي معرضون. مثل الذين يوفون بعهدك أني جزيتهم جنات النعيم. إن الله لذو مغفرة وأجر عظيم. وإن علياً من المتقين. وإنا لنوفينه حقه يوم الدين. ما نحن عن ظلمه بغافلين. وكرمناه على أهلك أجمعين. فإنه وذريته لصابرون. وإن عدوهم إمام المجرمين قل للذين كفروا بعدما آمنوا طلبتم زينة الحياة الدنيا واستعجلتم بها ونسيتم ما وعدكم الله ورسوله ونقضتم العهود من بعد توكيدها وقد ضربنا لكم الأمثال لعلكم تهتدون. يأيها الرسول قد أنزلنا إليك آيات بينات فيها من يتوفاه مؤمناً ومن يتوليه من بعد يظهرون. فأعرض عنهم إنهم معرضون. إنا لهم محضرون. في يوم لا يغني عنهم شيء ولا هم يرحمون. إن لهم جهنم مقاماً عنه لا يعدلون. فسبح باسم ربك وكن من الساجدين. ولقد أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا هارون. فصبر جميل فجعلنا منهم القردة والخنازير ولعناهم إلى يوم يبعثون. فاصبر فسوف يبصرون. ولقد آتيناك بك الحكم كالذين من قبلك من(139/23)
المرسلين. وجعلنا لك منهم وصياً لعلهم يرجعون. ومن يتولى عن أمري فإني مرجعه فليتمتعوا بكفرهم قليلاً فلا تسأل عن الناكثين. يأيها الرسول قد جعلنا لك في أعناق الذين آمنوا عهدا فخذه وكن من الشاكرين. إن علياً قانتاً بالليل ساجداً يحذر الآخرة ويرجوا ثواب ربه قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون. سنجعل الأغلال في أعناقهم وهم على أعمالهم يندمون. إنا بشرناك بذريته الصالحين. وإنهم لأمرنا لا يخلفون. فعليهم مني صلوات ورحمة أحياء وأمواتا يوم يبعثون على الذين يبغون عليهم من بعدك غضبي إنهم قوم سوء خاسرين. وعلى الذين سلكوا مسلكهم مني رحمة وهم في الغرفات آمنون. والحمد لله رب العالمين (1).
لوح فاطمة المزعوم :(139/24)
هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لمحمد نبيه ونوره وسفيره وحجابه ودليله نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين، عظم يا محمد أسمائي واشكر نعمائي ولا تجحد آلائي، إني أنا الله لا إله الا أنا قاصم الجبارين ومديل المظلومين، وديان الدين، إني أنا الله لا إله إلا أنا، فمن رجا غير فضلي أو خاف غير عدلي عذبته عذاباً لا أعذبه أحد من العالمين، فإياي فاعبد وعلي فتوكل، إني لم ابعث نبياً فأكملت أيامه وانقضت مدته إلا جعلت له وصيا، وأني فضلتك على الانبياء وفضلت وصيك على الاوصياء، واكرمت بشبليك وسبطيك حسن وحسين، فجعلت حسنا معدن علمي بعد انقضاء مدة ابيه، وجعلت حسينا خازن وحي واكرمته بالشهادة وختمت له بالسعادة، فهو أفضل من استشهد وأرفع الشهداء درجة، جعلت كلمتي التامة معه وحجتي البالغة عنده، بعترته اثيب واعاقب، اولهم علي سيد العابدين وزين اوليائي الماضيين وابنه شب جده المحمود محمد الباقر علمي والمعدن لحكمتي، سيهلك المرتابون في جعفر، الراد عليه كالراد علي، حق القول مني لأكرمن مثوى جعفر ولأسرنه في أشياعه وأنصاره وأوليائه، اتيحت بعده موسىفتنة عمياء حندس لأن خيط فرضي لاينقطع وحجتي لا تخفى وأن أوليائي يسقون بالكأس الأوفى، من جحد واحدا منهم فقد جحد نعمتي ومن غير آية من كتابي فقد افترى علي، ويل للمفترين الجاحدين عند انقضاء مدة موسى عبدي وحبيبي وخيرتي في علي ولي وناصري ومن (...)(1) النبوة وامتحنه بالاضطلاع بها يقتله عفريت مستكبر يدفن بالمدينة التي بناها العبد الصالح إلىجنب شر خلقي، حق القول مني لآمرنه بمحمد ابنه وخليفته من بعده ووارث علمه، فهو معدن علمي وموضع سري وحجتي على خلقي لا يؤمن عبد به إلا جعلت الجنة مثواه وشفعته في سبعين من أهل بيته كلهم قد استوجبوا النار واختم بالسعادة لابنه علي وليي وناصري، والشاهد في خلقي وأميني على وحيي، أخرج منه الداعي إلى سبيلي والخازن لعلمي الحسن وأكلم ذلك بأبنه (...)(2)(139/25)
رحمة للعالمين عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيوب، فيذل أوليائي في زمانه وتتهادى رؤوسهم كما تتهادى رؤوس الترك والديلم فيقتلون ويحرقون ويكونون خائفين مرعوبين، وجلين تصبغ الأرض بدمائهم ويفشوا الويل والرنة في نسائهم أولئك أوليائي حقاً، بهم أدفع فتنة عمياء حندس وبهم أكشف الزلازل وأدفع الآصار والأغلال أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون. قال عبدالرحمن بن سالم : قال أبو بصير : لو لم تسمع في دهرك إلا هذا الحديث لكفاك، فصنه إلا عن أهله (3) (*).
دعاء صنمي قريش (1)
ويريدون به الدعاء على أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، اللهم العن صنمي قريش وجبتيها وطاغوتيها وإفكيها وابنتيها اللذين خالفا أمرك، وأنكرا وحيك، وجحدا نعامك وعصيا رسولك، وقلبا دينك، وحرفا كتابك وأحبا أعدائك وجحدا آلاءك وعطلا أحكامك، وأبطلا فرائضك وألحدا في آياتك، وعاديا أوليائك وواليا أعدائك وحربا بلادك، وأفسد عبادك.
اللهم العنهما وأتباعهما وأولياءهم وأشياعهم وحمبيها فقد أخربا بيت النبوة، وردما بابه ونقضا سقفه، وألحقا سماءه بأرضه وعاليه بسافله، وظاهره بباطنه، واستأصلا أهله، وأباد أنصاره، وقتلا أطفاله، وأخليا منبره من وصيته ووارث علمه وجحدا إمامته، وأشركا بربهما، فعظم ذنبهما وخلدهما في سقر، وما أدراك ما سقر، لا تبقي ولا تذر.(139/26)
اللهم العنهم بعدد كل منكر أتوه، وحق أخفوه، ومنبر علوه، ومؤمن أرجوه، ومنافق ولوه، وولي آذوه، وطريد أووه، وصادق طرده، وكافر نصوه، وإمام قهروه، وفرض غيروه، وكفر نصبوه، وكذب دلسوه، وإرث نصبوه، وفيء اقتطعوه، وسحت أكلوه، وخمس استحلوه، وباطل أسسوه، وجور بسطوه، ونفاق أسروه، وغدر أضمروه، وظلم نشروه، ووعد أخلفوه، وأمانة خانوه، وعهد نقضوه، وحلال حرموه، وحرام أحلوه، وبطن فتقوه، وجنين أسقطوه، وضلع دقوه، وصك مزقوه، وشمل بددوه، وعزيز أذلوه، وذليل أعزوه، وحق منعوه، وكذب دلسوه، وحكم قسبوه، وأمام خالفوه.
اللهم العنهم بعدد كل آية حرفوها، وفريضة تركوها، وسنة غيروهان وأحكام عطلوها، ورسوم قطعوها، ووصية بدلوها، وأمور ضيعوها، وبيعة نكثوها، وشهادات كتموها، ودعواء أبطلوها، وبينة أنكروها، وحيلة أحدثوها، وخيانة أوردوها، وعقبة أرتقوها، ودباب دحرجوها، وأزيان لزموها.
اللهم العنهم في مكنون السر، وظاهر العلانية لعناً كثيراً أبدا دائما سرمدا لا انقطاع لعدده، ولا نفاذ لأمده لعناً قيود أوله ولا ينقطع آخره، لهم ولأعوانهم وأنصارهم، ومحبيهم ومواليهم، والمسلمين لهم والسائلين إليهم، والناهقين باحتجاجهم والناهضين بأجنحتهم والمقتدين بكلامهم والمصدقين بأحكامهم.
( قل أربع مرات ) : اللهم عذبهم عذابا يستغيث منه أهل النار، آمين رب العالمين.
(ثم تقول أربع مرات ) : اللهم العنهم جميعاً، اللهم صل على محمد وآل محمد فأغنني بحلالك عن حرامك وأعذني من الفقر، رب أني أسأت وظلمت نفسي واعترفت بذنوبي وها أنا بين يديك فخذ لنفسك رضاها، لك العتبى لا أعود فإن عدت فعد علي بالمغفرة والعفو لك بفضلك وجودك ومغفرتك وكرمك يأ ارحم الراحمين. وصلى الله على سيد المرسلين وخاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين برحمتك يا أرحم الراحمين(2).
الخاتمة(139/27)
وبعد أخي المسلم، لعلك الآن اتفقت معي في أن من يدين بهذه النحلة الفاسدة ليس من المسلمين وإن تسمى بالإسلام، إذن فما الواجب عليك أيها المسلم الموحد تجاه الرافضة، خاصة أنهم يعيشون بين المسلمين وينتسبون إليهم؟.
إن الواجب عليك الحذر منهم وعدم التعامل معهم، والتحذير من معتقدهم الخبيث المبني على العداء لكل موحد آمن بالله وبالاسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله - : (( وأما الرافضي فلا يعاشر أحدا إلا استعمل معه النفاق، فإن دينه الذي في قلبه دين فاسد يحمله على الكذب والخيانة وغش الناس وإرادة السوء بهم، فهو لا يألوهم خبالاً ولا يترك شراً يقدر عليه إلا فعله بهم، وهو ممقوت عند من لا يعرفه، وإن لم يعرف أنه رافضي تظهر على وجهه سيما النفاق وفي لحن القول )) (1).
إنهم يكنون لنا العداء والبغضاء، قاتلهم الله أنىّ يؤفكون، ومع نجد المخدوعين بهم من عامة أهل السنة يخالطونهم في أمور حياتهم، ويثقون بهم، وهذا كله بسبب الإعراض عن دين الله ومعرفة أحكامه التي تأمر المسلم بالعمل بعقيدة الولاء لكل مسلم موحد، والبراء من كل كافر أو مشرك.
وبذا نكون قد علمنا الواجب علينا كمسلمين فهل من مجيب؟.
نسأل الله أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يخذل الرافضة ومن شايعهم، وأن يجعلهم غنيمة للمسلمين، وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جمع وترتيب الفقير إلى عفو ربه
عبدالله بن محمد السلفي
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين(139/28)
عَقيدةُ الدّرُوز
عَرضٌ وَنقض
تأليف
الدكتور محّمد أحمد الخطيب
ملف رقم (1)
شبكة الدفاع عن السنة
d-sunnah.net
تنبيه : الكتاب في ثلاث ملفات ومكتوب ببنط اللوتس
ملف (1) من ص ( 1-132)
ملف (2) من ص ( 133- 228 )
ملف (3) من ص ( 229 - )
هذا الكتاب في الأصل رسالة أعدت من المؤلف لنيل درجة الماجستير في العقيدة والمذاهب المعاصرة من كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض
وكانت بإشراف فضيلة الأستاذ زيد بن عبد العزيز الفياض
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثالثة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد بن عبد الله ، وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين ، وبعد .
فهذه الطبعة الثالثة من كتاب (عقيدة الدروز ) أقدمها إلى القارئ الكريم ، راجيًا أن تلقى منه القبول والرضى كما في الطبعتين الماضيتين .
وقد عملت على تنقيح بعض ما جاء في الطبعة الماضية ، وزيادة بعض المواضيع والنقاط ، التي وجدت فيها أمورًا هامة يجب أن يتضمنها الكتاب .
ويهمني في هذه المقدمة أن أوضح بأن هذا الكتاب ليس موجهًا إلى طائفة أو أشخاص بعينهم ، وإنما هو توضيح وبيان يظهر الحقائق التي يجب على المسلم أن يعرفها عن عقائد الطوائف التي تعيش معه ؛ لأن المسلم وإن كان مطلوبًا منه أن يحسن معاملة من يعيشون معه – من غير دينه - ، إلا أنه – وفي الوقت نفسه – محرم عليه أن يجامل على حساب دينه وعقيدته .
لذا فإني وإن كنت لا أطعن في وطنية كل مَنْ ينتسب إلى الطائفة الدرزية ، إلا أني – وفي الوقت نفسه – لا يمكن أن أنسب هذه الطائفة إلى الإسلام ، رغم أن هذا لا يعجب بعضًا من الدروز ، لكن الموضوعية والوصول إلى حقائق الأمور ، هي التي يجب أن تضيء لنا الطريق في هذه القضية .(140/1)
وكم وددت أن يصلني – عند صدور الطبعة الأولى – بدل التهديدات والشتائم ، رسالة موضوعية من الدروز توضح فيه الحق من الباطل ، والصواب من الخطأ ، ولكن مع الأسف لم تكن الموضوعية طريق هؤلاء ، فأمطروني بدل منها برسائل السب والشتم والتهديد .
ورغم ذلك ، فإني أكرر وأقول لست من الدين يُؤَلِّبُون صدر الدروز ، وإنما أريد أن أصل إلى حقائق الأمور في موضوع عقائدهم ، وأملي من الدروز أن يظهروا عقلية حكيمة ، وأن لا يبخلوا عليَّ ببعض التوضيحات والأمور التي يجدون فيها الصواب ، فلعل في هذه الطريقة ما يوصلنا إلى طريق الحق الذي نبتغيه .
وفي الختام ، أرجو الله العلي القدير أن يهدينا سواء السبيل ، سبيل الذين أنعم عليهم ، وأن ينفع بهذا الكتاب ، وبالله التوفيق .
الدكتور محمد أحمد الخطيب
4 جمادى الأولى 1408 هـ
25 كانون أول 1987 م
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله . فلا مضل له ، ومَنْ يضلّ ، فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسائر من اهتدى بهديهم إلى يوم الدين ، وبعد .
فمنذ أن بزغ فجر الإسلام على هذه الأرض ، وأعداؤه من اليهود والصليبيين والمجوس وغيرهم يحيكون الفتن والمؤامرات ضد هذا الدين الحنيف ، محاولين أن يزعزعوا أركانه ، ويشككوا بفرائضه ، وينتقصوا من رسوله صلوات الله عليه ، ليطفئوا نوره .(140/2)
ولهذا توالت الخناجر المسمومة من هؤلاء الأعداء ، يحاولون أن يغرزوها في جسم المجتمع الإسلامي ، وكان أول هذه الخناجر حركة الارتداد عن الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي وقف في وجهها بكل قوة وحسم الخليفة الصديق أبو بكر رضي الله عنه والتي دبرها المجوس واليهود .
ولما وجد هؤلاء الأعداء أن هذه الطريقة لم تجد في تفتيت هذا المجتمع اتخذوا وسيلة أخرى ليزرعوا خنجرهم المسموم ، وكان أن قام بهذا عبد الله بن سبأ اليهودي الحاقد ، والذي حاول من خلال تشيعه لعلي وآل البيت أن ينفث سمومه وأفكاره الهدامة ، بادعاء ألوهية علي بن أبي طالب ، والتحريض على قتل عثمان بن عفان رضي الله عنهما . وبالفعل فقد أصبح ابن سبأ أستاذًا لكل الفرق الأخرى التي ظهرت فيما بعد ، من خلال الأفكار الملحدة التي طرحها ، فظهرت فرق هدامة كثيرة ، كالفرقة الخطابية التي ادعت ألوهية جعفر الصادق ، ودعت أيضًا إلى الإباحية والتحلل من كل شيء .
وكان من تلامذة هذه الفرقة " ميمون القداح " ، ذلك المجوسي الحاقد على الإسلام والمسلمين ، والذي ادعى حب جعفر الصادق وتشيعه له ، فاستطاع بهذا وبمساعدة ابنه عبد الله أن يبثوا أفكارهم الإلحادية في نفس محمد بن إسماعيل حفيد جعفر الصادق ، فكانت أن ظهرت الباطنية الإِسماعيلية على يد القداح وابنه ، حيث قسمت إلى تسعة مراتب يترقى بها الداخل في هذه الفرقة ، فيتحلل أثناء ذلك من كل ارتباط له بالإسلام .(140/3)
وادعى عبد الله بن ميمون بعد ذلك أنه من نسل آل البيت ، وبهذا الادعاء استطاع أن يؤسس أحفاده الدولة العبيدية في المغرب ، والتي كانت عونًا لكل مَنْ يكيد للإسلام والمسلمين متسترة بالإِمامة لآل البيت ، ولهذا فقد تَقَوَّى بها القرامطة ، فكانوا يتلقون أوامرهم منها ومن ملوكها ، ومع مرور الزمن زادت هذه الدولة قوة بفتحها لمصر سنة 385 هـ على يد جوهر الصقلي في ملك المعز العبيدي ، فأصبحت منذ ذلك الحين مركزًا لهذه الدولة .
وفي سنة 386 هـ تولى الحكم ملك جديد في هذه الدولة هو الحاكم بأمر الله ، والذي كان عنوانًا للغموض والأفعال الغريبة المنافية للعقل الصحيح ، سفاكًا للدماء ، يقتل بلا حساب ولا روية .
وما كانت هذه الأفعال إلا مقدمة لما كان يعتلج في نفسه بادعائه للألوهية ، فالتف حوله أشخاص حاقدون على الإسلام والمسلمين زينوا له هذه الفكرة الخبيثة ، فكان أن ظهر محمد بن إسماعيل الدرزي أولاً بهذا الادعاء ، وتبعه حمزة بن علي سنة 408 هـ ، الذي يعتبر مؤسس مذهب الدروز – الذي نحن بصدد بحثه - ، ذلك المذهب الذي لا يزال أتباعه للآن موجودين في سوريا ولبنان وفلسطين .
ونظرا لكثرة الفرق الضالة والموجودة بين ظهراني المسلمين ، والمزروعة في جسم المجتمع الإِسلامي ، أمثال هذه الفرقة ، وفرق النصيريين ، والإِسماعيليين ، والبهائيين وغيرهم ، وبسبب جهل أكثر المسلمين بهذه الفرق ، حتى أن بعضهم يعتبرها مذاهب إسلامية ، لذلك رأيت أن يكون عنوان رسالة الماجستير المقدمة مني هو عن ( عقيدة الدروز ) محاولاً فيها أن أبين لعامة المسلمين حقيقة مذهب هؤلاء ليتبين لهم الحق من الباطل .(140/4)
وعلى هذا لست بالذي يزعم ، أني أسير في طريق لم يسلك من قبل ، فقد كتب في هذا الموضوع الوعر الشاق كثيرون(1)، ولم يخل الأمر من كتابات رائدة أدت دورًا مشكورًا ، ولكن مازال هنالك مجال واسع لمزيد من الدراسات لتتضح جنبات هذا الموضوع الشائك ، وتبرز كل خفاياه .
ومع الأسف الشديد ، فإن كل الدراسات الجيدة التي ظهرت عن الدروز ، كانت تختفي بعد طبعها من الأسواق بسرعة نادرة ، وما هذا إلا طريقًا من طرق الدروز في التعمية والتستر على ما يعتقدون ، فهم يسارعون إلى شراء الكمية من الأسواق ليبقى الناس على جهل بهم .
وكلي تَوَجُّه إلى الله سبحانه وتعالى ، أن يجعل دراستي هذه ، ذات أثر فعال في إعطاء المزيد من الضوء على هذه الطائفة ، بحيث أكون قد قدمت خدمة جليلة إلى المجتمع الإِسلامي ، بعونه تعالى وتوفيقه ، في سبيل أن يظهر الحق من الباطل .
وسيقوم بحثي هذا على دراسة العقيدة الدرزية من كل جوانبها ، متعرضًا لبعض الجوانب الرئيسية فيها بالبحث والنقض ، وخاصة القضيتين الرئيسيتين في هذه العقيدة ، وهما ألوهية الحاكم ، وتناسخ الأرواح .
وقد فرضت عليَّ طبيعة البحث ، أن أقوم بدراسة تاريخية لبعض الجوانب ، وخاصة حياة الحاكم ؛ لأنها الجانب الرئيسي التي استقى الدروز عقائدهم منها ، لذا كان لابد من استعراض جوانب كثيرة من حياة الحاكم لتكتمل الصورة في ذهن القاريء . وكذلك لحياة دعاة الدروز الأوائل ، والذين قام على أيديهم هذا المذهب .
__________
(1) من أمثلة ذلك : الدراسة الجيدة عن الدروز التي كتبها الدكتور محمد كامل حسين بعنوان ( طائفة الدروز ) سنة 1962 م وما كتبه من قبل الشيخ زيد بن عبد العزيز الفياض بحلقات في مجلتي المنهل وراية الإسلام الصادرتين بجدة والرياض في 1379 ، 1380 ، 1381 هـ(140/5)
وقد قمت بتقسيم هذا البحث إلى ثلاثة أبواب ، يسبقها تمهيد عن الطائفة الإِسماعيلية الباطنية ، والتي انبثق عنها الدروز وأخذوا منها الكثير من عقائدهم ، وفي نهاية الأبواب الثلاثة خاتمة أتحدث فيها عن نتيجة هذا البحث ، وحكم الإِسلام فيهم وفي معاملتهم ، فيكون الهيكل العام للرسالة على الشكل التالي :
التمهيد : نشأة الدروز وصلتهم بالإِسماعيلية الباطنية :
وهو بحث لابد منه بين يدي دراستنا ، وفيه أتحدث عن نشأة الإِسماعيلية الباطنية ، والظروف التي نشأت فيها ، والعقائد التي تأثرت بها ، وكذلك عن كيفية قيام الدولة العبيدية ، والتي اتخذت عقائد الإِسماعيلية عقائد لها ، وأخيرًا عن كيفية قيام المذهب الدرزي في عهد الحاكم بأمر الله ، على يد الدرزي وحمزة بن علي ، متعرضًا خلال ذلك لكثير من العقائد التي أخذها الدروز عن الإِسماعيلية .
وبهذا تتضح كل الأمور الرئيسية التي لابد من بيانها ، قبل الدخول في هذا البحث .
الباب الأول – شخصية الحاكم بأمر الله ، وأثرها في عقيدة الدروز ، وأشهر دعاة الدروز وآراؤهم :
ويحوي هذا الباب ثلاثة فصول هي :
الفصل الأول : الحاكم بأمر الله : حياته وآراؤه وأثرها في عقيدة الدروز .
أعرض في هذا الفصل ، لتفاصيل كثيرة من حياة الحاكم بأمر الله ، وجوانب هامة من آرائه عند الدروز على أنها أفعال تصدر من إله ، معتمدًا في كل هذا على نصوص كثيرة من رسائلهم وكتبهم المقدسة .
الفصل الثاني – تطور المذهب الدرزي بعد الحاكم :
وأعرض فيه ، عن التطورات التي جدت على عقائد الدروز بعد مقتل الحاكم ، وكذلك عن تطورها في الوقت الحاضر بظهور ما يسمى بـ ( مصحف الدروز ) .
الفصل الثالث – أشهر دعاة الدروز وآراؤهم : أتحدث فيه عن أشهر دعاة الدروز الذين قام المذهب على أيديهم ، وخاصة الدرزي ، وحمزة بن علي ، والفرغاني ، والظروف التي قاموا بها ، والخلافات التي قامت بينهم ، وأشهر العقائد التي نادوا بها .(140/6)
الباب الثاني – عقيدة الدروز والرد عليها :
ويتضمن فصلين اثنين :
الفصل الأول – عقيدة الدروز :
ويحوي المباحث التالية عن عقائدهم ، والتي أدرسها بتفصيل ، معتمدًا في ذلك على نصوص رسائلهم وكتبهم :
1 – ألوهية الحاكم عندهم .
2 – التناسح والتقمص والحلول .
3 – الحدود الخمسة .
4 – عقيدتهم في اليوم الآخر والثواب والعقاب .
5 – عقيدتهم في الأنبياء .
6 – عقيدتهم في التستر والكتمان .
7 – رسائلهم وكتبهم المقدسة .
الفصل الثاني – الرد على عقيدتهم .
ويتضمن مبحثين اثنين :
أرد فيهما على عقيدتين مهمتين من عقائدهم ، وهما مفهومهم في الألوهية ، وحلول اللاهوت في الناسوت ، والثاني إبطال قولهم بالتناسخ والرجعة ، معتمدًا في ذلك على كثير من الآيات القرآنية الكريمة التي نقضت هذه المفاهيم من أساسها :
1 – إبطال مفهوم للألوهية ، وحلول اللاهوت في الناسوت .
2 – إبطال قولهم بالتناسخ والرجعة .
وقد اخترت هاتين العقيدتين للرد عليهما ، لأنهما اللبنة الرئيسية في العقيدة الدرزية ، وبإبطالهما يتبين بطلان هذا المذهب .
الباب الثالث – شريعة الدروز وتقسيم المجتمع عندهم وموقفهم من الأديان والفرق الأخرى .
ويحوي فصلين اثنين :
الفصل الأول – شريعة الدروز وتقسيم المجتمع عندهم .
ويتضمن المباحث التالية :
1 – نقضهم أركان الإسلام ، وفرضهم بدلها سبع دعائم تكليفية : وأتحدث فيه عن موقفهم من أركان الإِسلام ، في رسالة حمزة الخاصة بنقض هذه الأركان ، وعن فرضه بدلها ما سماه بسبع دعائم تكليفية ، وفي هذا يتبين موقفهم العام من الإِسلام .
2 – الزواج والطلاق والوصية عندهم : وأتحدث فيه عن أهم الأحكام والشرائع الخاصة بهم ، وخاصة في الزواج والطلاق والوصية وغير ذلك .
3 – تقسيم المجتمع الدرزي : أتحدث في هذا المبحث عن تقسيم المجتمع الدرزي ، إلى عقال ، وجهال ، وطبقاتهم ، وكيفية دخول الجاهل في سلك العقال .(140/7)
الفصل الثاني – موقف الدروز من الأديان والفرق الأخرى .
وأتحدث فيه عن موقفهم من اليهودية والمسيحية والطائفة النصيرية ، وذلك من خلال رسائلهم التي تتحدث عن ذلك .
وبعد هذه الأبواب الثلاثة ، يصل البحث إلى خاتمته ، وأهم النتائج التي خرجت بها من هذا البحث . وحكم الإِسلام في هذه الطائفة ، وحكم معاملتهم .
وأما بالنسبة للمراجع والمصادر ، فقد اهتممت بكل ما كتب عن هذه الطائفة ما لهم وما عليهم قديمًا وحديثًا ، أما القديم فمن رسائلهم المخطوطة والموجودة في كثير من مكتبات الجامعات الأجنبية ، ومن الكتب التاريخية التي تحدثت عنهم وعن عقائدهم مطبوعها ومخطوطها ، وأما الحديث منها ، فمن كتب عنهم مادحًا أو ذامًا لهم ، وقد يكون فيه فائدة ونفع .
وهذا لا يعني أني أخذت كل ما فيها دون روية وتمحيص ، بل عمدت جاهدًا إلى البحث المستقصى ، ولذلك لم أعتمد على نسخة واحدة من مخطوطات رسائلهم ، بل قارنت بين نسخ كثيرة من رسائلهم الموجودة في أماكن متفاوتة ، لأصل بعد ذلك إلى النتائج السليمة ، بعون الله .
وأخيرًا ... فهذا الجهد هو جهد مُعَرَّضٌ للخطأ والصواب ، فلابد من هفوة أو هفوات ، وإلا لكان الكمال لمن خُلِقَ ضعيفًا وهذا لا يكون .
ولا يفوتني ، في ختام هذه المقدمة ، أن أتقدم بالشكر الجزيل وعظيم الامتنان والتقدير لفضيلة الأستاذ زيد بن عبد العزيز الفياض الذي منحني من وقته وعلمه ما لا أقدر على شكره ، وإلى كل مَنْ مَدَّ إليَّ يد العون والمساعدة وخاصة الأستاذ زهير الشاويش ، راجيًا الله العلي العظيم أن يُوَفِّقَ الجميع لما يحبه ويرضاه .
وختامًا أدعو الله سبحانه وتعالى ، أن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه تعالى ، وأن ينفع به ، وأن يُوَفِّقَ الجميع لما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ...
* * * * *
التمهيد
نشأة الدروز وصلتهم بالإِسماعيلية الباطنية
-1-
الدروز لغة :(140/8)
جاء في القاموس ما يلي :
(( الدَّرْزُ : واحد دُرُوز الثوب ونحوه ، وهو فارسي معرَّب ، ويقال للقمل والصِّئْبَان : بنات الدُّرُوز )) . وبنو دَرْزٍ : الخياطون والحاكة ، وأولاد دَرْزَةَ : الغوغاء . والعرب تقول للدَّعِيِّ : هو ابن دَرْزَةَ ، وذلك إذا كان ابن أَمَةٍ تُساعي فجاءت به من المُسَاعاة ولا يعرف له أب )) (1).
أما طائفة الدروز فهم فرقة باطنية يعتبرون أنفسهم منذ ما يقرب من ألف سنة في دور الستر ، فلا يكشفون أمر عقائدهم بما يلقي الضوء على مذهبهم .
( والباطنية بعامة مذهب خفي اتخذه أصحابه وقاء من نقمة مخالفيهم في الاعتقاد ، شرعة اليونان القدماء ، فهو منسوب إلى أرسطو وأفلاطون وأتباع فيثاغورس . ومن هذه المصادر الثلاثة انحدر المذهب إلى الدروز ، الذين يعتبرون هؤلاء الفلاسفة أسيادهم الروحيين ، ثم طبقوا هذا المذهب على التعاليم الإِسلامية ، ثم أحاطوه بالحذر والكتمان حتى اليوم ) (2) .
( واسم الدروز كان – ولا يزال – مثار مناقشات عديدة بين الكُتَّاب والمؤرِّخين ، فالمعروف أن هؤلاء الأقوام لا يحبون أن يلقبوا بهذا اللقب ، ويستنكرون أن ينسبهم أحد إلى الداعي نوشتكين الدرزي ، الذي رأينا أنهم يرمونه بالإِلحاد .
والخروج عن دعوتهم وعقيدتهم ، ويطلقون على أنفسهم اسم ( الموحِّدين ) وهو الاسم الذي عرفوا به في كتبهم المقدسة ) (3).
وهذا يوضح أن لقب الدروز ، كان نسبة إلى نشتكين الدرزي ، ولكن الأستاذ سليم أبو إسماعيل يقول : ( إن الدرزية نسبة عسكرية لا مذهبية ، وأنهم ينتسبون إلى القائد الفاطمي أبي منصور أنوشتكين الدرزي ) (4) .
__________
(1) ابن منظور / لسان العرب ج 5 ص 348 .
(2) عبد الله النجار / مذهب الدروز والتوحيد ص 28 .
(3) محمد كامل حسين / طائفة الدروز ص 8 .
(4) سليم أبو إسماعيل / الدروز ـ وجودهم مذهبهم وتوطنهم – ص 64 , 65 .(140/9)
ولا شك أن هذا الكلام لا يستند إلى أي واقع تاريخي ، ذلك لأن هذا القائد قد ظهر بعد عصر الحاكم ، ولا يوجد أية علاقة بينه وبين هذه الطائفة .
وهناك مَنْ يقول أن نسبهم يعود إلى ( الكونت دي دروكس ) الفرنسي أحد قادة الصليبيين الذين هربوا إلى جوار الدروز بعد هزيمتهم في عكا ، بينما تقول كاتبة أخرى أن اسم الدروز جاء من حمزة نفسه : ( إذ ثبت تلامذته قائلاً : اذهبوا الآن ، فأنتم لستم بعد الآن ( متدارسَين ) بل ( متدارسِين ) ، لأنكم قد التزمتم علومًا وغرز الإِيهام فيكم كما يغرز الخيط البزوز ) (1).
وهذه المزاعم أيضًا لا تؤيدها أية أخبار تاريخية ، وإنما هي تخيلات لا أساس لها من الصحة .
ولا ريب أن المكان الذي انتشرت به العقيدة الدرزية ، هو وادي تيم الذي كانت تقيم فيه قبائل عربية هاجرت من الجزيرة العربية في الجاهلية ، حيث قطنت هذا المكان ، واعتنقوا الإِسلام ، ولكن المذهب الإِسماعيلي انتشر بينهم في أيام الدولة العبيدية ، وكان لاعتناقهم المذهب الإِسماعيلي أثر كبير في سرعة استجابتهم للدرزي ، حينما هربه الحاكم إلى هناك ، والتفافهم حوله وتأليههم للحاكم .
وهذا كله يؤكد لنا أن الدروز من القبائل العربية ، مع أن كمال جنبلاط يرجع أصل طائفته إلى هرمس المثلث الحكمة ، ويعترف أن ذلك يعود إلى خمسة آلاف سنة من التاريخ(2).
ولكي نتابع تاريخ وعقائد طائفة الدروز ، يجب أن نلم بتاريخ وعقائد الطائفة الإِسماعيلية الباطنية ، والتي استمد الدروز منها الكثير من عقائدهم .
فالمتبع لتاريخ الطائفة الإسماعيلية يجد أن الكثير من الطوائف التي خرجت عن الإسلام وكادت له ، انبثقت وأخذت من هذه الطائفة .
__________
(1) بول هنري بوردو / أمير بابلية لدى الدروز ص 29 .
(2) كمال جنبلاط / هذه وصيتي ص 46 .(140/10)
فالقرامطة جزء من الطائفة الإِسماعيلية ، حاربوا الدولة الإِسلامية عشرات السنين ، وكانت الدولة العبيدية في المغرب ومصر تمدها بالعون المادي والمعنوي .
وكذلك نجد أن أخوان الصفاء كانوا إسماعيليين اعتقادًا وسلوكًا ، ورسائلهم كانت تدوينًا لهذا المذهب ودعوة له في وعاء فلسفي .
وطائفة الدروز التي نحن بصدد دراستها ، سنجد أن الكثير من عقائدها أخذته من عقائد الإٍسماعيليين .
أما الحشَّاشُون الذين ظهروا في زمن صلاح الدين الأيوبي بعد انهيار الدولة العبيدية ، فقد عانى المجتمع الإِسلامي الكثير منهم ومن كيدهم حيث كانوا عونًا للتتار والصليبيين على المسلمين ، والذي أود قوله أن الحشاشين فرقة من فرق الإِسماعيليين .
هذا قليل من كثير لتاريخ هذه الطائفة ، إذن علينا أن نبدأ مع بداية ظهورها . فالطائفة الإِسماعيلية الباطنية ، فرقة من فرق الشيعة ، أخذت أصولها المذهبية عن الأصول الشيعية التي وجدت قبل ظهور الإِسماعيلية . ( وكان الخلاف في أول الأمر بسيطًا لا يعدو أن يكون حول الإِمامة ، ولكنه استفحل بعد ذلك ، وبمضي الزمن أدخلت آراء جديدة وأصول للعقيدة تبعد عما كانت عليه الطائفة قبل خروجها عن حلبة التشيع العامة ) (1).
وقد انقسمت الشيعة بعد وفاة جعفر الصادق(2) لى فرقتين ، فرقة نادت بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصادق . وسلسلوا الإِمامة في الأكبر سنًا من عقبه ، ولذلك لقبوا بالإِمامية الأثني عشرية . أما الفرقة الثانية التي تفرعت عن الشيعة فهي فرقة الإسماعيلية ، الذين قالوا بإمامة إسماعيل بن جعفر ، والذي تنسب إليه هذه الفرقة .
__________
(1) محمد كامل حسين / طائفة الإِسماعيلية ص 3
(2) و جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، سادس الأئمة الأثني عشر عند الامامية . كان من أجلاء التابعين ، ولقب بالصادق لأنه لم يعرف عنه الكذب . ولد بالمدينة المنورة سنة 80 هـ وتوفي فيها سنة 148 هـ(140/11)
(( ومُؤَرِّخو الإِسماعيلية يقولون : إن سبب انشقاق أتباع جعفر إلى هاتين الفرقتين ، أن جعفر نص على أن يتولى إسماعيل الإِمامة من بعده ، ولكن إسماعيل توفي في حياة أبيه ، وبذلك انتقلت الإمامة إلى ابنه محمد بن إسماعيل بن جعفر ، لأن الإِمامة لا تكون إلا في الأعقاب ، ولا تنتقل من أخ إلى أخيه إلا في حالة الحسن والحسين ابني علي بن أبي طالب فقط . أما الأئمة بعد الحسن والحسين فلابد أن تنتقل من أب إلى ابن ، وأَوَّلوا الآية الكريمة { وجعلها كلمة باقية في عقبه } (1). بأن معنى الكلمة هي الإِمامة ، وأنها لابد أن تكون في الأعقاب دون غيرهم . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فقد كان محمد بن إسماعيل أكبر سنًا من عمه موسى الكاظم ، فبناء على التقليد الشيعي الذي يوجب تسلسل الإِمامة في أكبر أهل البيت سنًا ، كان محمد بن إسماعيل إذن أحق من عمه موسى الكاظم بالإِمامة )) (2).
على أن هناك روايات كثيرة تفيد أن جعفر لم يكن راضيًا عن تصرفات ابنه إسماعيل ، (( وأنه قد تَبَرَّأَ من أعمال إسماعيل ، وعزله عن الإمامة ، قبل موت إسماعيل ، لأنه كان مدمنًا على شرب الخمر ولوعًا بالنساء )) (3) .
(( غير أن أنصار إسماعيل أنكروا على جعفر هذا التصرف ، وقالوا أن إسماعيل معصوم ، وأنه إن كان قد شرب الخمر فإن هذا لا يفسد عصمته )) (4).
__________
(1) 10) سورة الزخرف : آية 28
(2) 11) محمد كامل حسين / طائفة الإِسماعيلية ص 12 .
(3) 12) محمد كامل حسين / طائفة الإِسماعيلية ص 13 .
(4) 13) د . مصطفى الشكعة / إسلام بلا مذاهب ص 217 .(140/12)
وهناك من المؤرخين المعاصرين من يجعل لهذا التبدل من جعفر نحو ابنه عللاً وأسبابًا أخرى أهم من شرب الخمر والولوع بالنساء . (( ذلك أن إسماعيل كان من أصدقاء الأسدي الفاسق الملحد(1)الذي ادَّعَى ألوهية جعفر – وتنسب إليه الحركة الخطابية – مما جعل جعفر يتبرأ منه وتلعنه ولا يرضى عن الصلة التي كانت بينه وبين إسماعيل )) (2)
وهذا يؤيده ما نقله برنارد لويس أن كنية أبي الخطاب كانت ( أبو إسماعيل ) . وذلك يشير إلى أن أبا الخطاب كان المتبني لإِسماعيل والأب الروحاني له (3).
ومن ادعاءات ومزاعم أبي الخطاب هذا : (( أن الأئمة أنبياء ، ثم آلهة ، وقال بإلهية جعفر ، وإلهية آبائه وهم أبناء الله وأحباؤه ، والإلهية نور في النبوة ، والنبوة نور في الإِمامة ، ولا يخلو العالم من هذه الآثار . وأن الجنة هي التي تصيب الناس من خير ونعمة وعافية ، وأن النار هي التي تصيب الناس من شر وبلية ومشقة ، واستحل الخمر والزنا وسائر المحرمات ، وأباح ترك الصلاة وجميع الفرائض )) (4).
(( وادّعى أيضًا التناسخ , وأن الإيمان سبع درجات )) (5)
__________
(1) 14) هو محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع ، مؤسس الحركة الخطابية .
(2) 15) الشهر ستاني / الملل والنحل ح ص 15 – ومحمد كامل حسين / طائفة الإِسماعيلية ص .
(3) 16) برنارد لويس / أصول الإِسماعيلية ص 110.
(4) 17) الشهر ستاني / والملل والنحل ج 2 ص 16.
(5) 18) د . محمد السعيد جمال الدين / دولة الإسماعيلية في إيران ص 20.(140/13)
ونستطيع أن نستنتج من كل هذا ، أن إسماعيل كان ذا صلة وثيقة بالملاحدة والفساق ( أمثال أبي الخطاب ) ، والذين أوجدوا الفرقة المسماة باسمه ، وبأن عزل جعفر له كان لهذه الصلة الغريبة . ( ويعزز هذا الرأي العلاقة القوية التي كانت تربط بين محمد بن إسماعيل وميمون القداح (1)وريث أبي الخطاب ) (2)في الدعوة الباطنية .
ويؤكد المستشرق برنارد لويس على خطورة حركة ( أبي الخطاب ) ودوره الذي اضطلع به ، فيورد مجموعتين من التصانيف .
أولاهما : ( أم الكتاب ) وهو كتاب سري مقدس عند الإِسماعيليين في آسيا الوسطى (3)، وهذا الكتاب يجعل لأبي الخطاب مقامًا خطيرًا في هذه الحركة فيعتبره مؤسس المذهب إذ يقول : ( إن المذهب الإسماعيلي هو ما أوجدته ذرية أبي الخطاب الذين شروا أنفسهم بحب أحفاد جعفر الصادق وإسماعيل ) .
__________
(1) 19) هو المؤسس الحقيقي للدعوة الباطنية الإسماعيلية ، مجوسي العقيدة والأصل ، تبنى محمد بن إسماعيل وعلى يديه قامت أسس الإسماعيلية ، والواقع أنه كان ذا دهاء وذكاء استغله بالكيد للإسلام وتحطيم عقيدته.
(2) 20) برنادر لويس / أصول الإسماعيلية ص 111 .
(3) 21) ) والمقصود في شبة القارة الهندية ، حيث ينقسم الإسماعيليون إلى قسمين ، قسم يسمى الإسماعيلية ، والقسم الآخر هم البهرة .(140/14)
وثانيهما : كتابات النصيرية (1) وفيها فقرات وعقائد شبيهة بتلك ، وهي أيضًا تعتبر أبا الخطاب مؤسس الفرقة وميمونًا القداح تابعًا له ، وتعزو إليه أغلب العقائد التي يختص بها المذهب الإسماعيلي (2) .
أما بالنسبة لارتباط الإِسماعيلية بالنصيرية ، فإن عارف تامر ( الإِسماعيلي ) ينفي هذا الارتباط أو أي علاقة أخرى ويقول : ( ونحن إذ ننفي هذا القول نفيًا قاطعًا نقول : إن النصيرية فرقة من الشيعة الأثني عشرية ، افترقت عن الإِسماعيلية بعد وفاة الإِمام جعفرالصادق ، فالإِسماعيليون تبعوا إسماعيل ، بينما سارت النصيرية وراء موسى الكاظم ، وبعد هذا لم يحدثنا التاريخ عن أي التقاء ) (3).
وبعد موت أبي الخطاب تحولت فرقة من الخطابية إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ، وجعلوه الإِمام وأعلنوا ولاءهم له ، فكانت فرقة الإِسماعيلية هي الخطابية نفسها ، أو بمعنى أصح نشأت الإِسماعيلية من الخطابية ) (4).
وهكذا نجد أن أصول الإِسماعيلية ترجع إلى الغلاة الملاحدة ، وأن الحركة الإِسماعيلية استمرار للحركة الباطنية الإِلحادية التي خلعت ربقة الإِسلام من عنقها .
__________
(1) 22) النصيرية : فرقة باطنية ، تعتقد بألوهية علي بن أبي طالب ، وبتناسخ الأرواح حتى إلى الحيوانات ، ويطلق عليهم الآن ( العلويين ) ويقطن أكثرهم في شمال سوريا في جبل العلويين قرب اللاذقية ، وفي الفترة الأخيرة أخذوا ينزحون إلى أكثر المدن السورية ، وهم أيضا يتسترون على مذهبهم ، ويزعمون أنهم مسلمون .
(2) 23) برنارد لويس / أصول الإسماعيلية ص 104 .
(3) 24) ) عارف تامر / القرامطة .
(4) 25) ) د . محمد السعيد جمال الدين / دولة الإسماعيلية في إيران ص 21 .(140/15)
ولقد كان لتزعم الإِسماعيلية لحركة الباطنية هذه ، أثر كبير في معتقداتها . حيث تشكلت هذه العقائد وتأصلت في وعاء فلسفي ، والذي يتابع العقيدة الإِسماعيلية يمكنه أن يربط بينها وبين الأفلاطونية (1)في أكثر أفاقها .
(( فنظرية أفلاطون تقول بأن ما في العالم الحسي أشباح لمثل ما في العالم العلوي ، و الإِسماعيلية تقول أن ما في عالم الدين مثل لممثولات في العالم الروحاني )) .
وأيضًا أخذ الإِسماعيلية عن الأفلاطونية الحديثة رأيهم في الإِبداع ، وظهور النفس الكلية عن العقل الكلي ، وأن العالم خلق بواسطة اللوجوس ( الكلمة ) (2). فقال الإِسماعيلية : إن الكلمة التي خلق عنها العالم هي كلمة ( كن ) التي وردت في الآية الكريمة { إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون }(3) [ يس : 82 ] . وأن كلمة ( كن ) مكونة من الكاف والنون ، فالكاف رمز على القلم أو العقل الكلي ، والنون رمز على اللوح أي النفس الكلية ، ولذلك فسَّر الإِسماعيلية قوله تعالى { ن والقلم }(4) [ القلم : 1 ] ، أن الله يقسم بأعز مخلوقين عنده وهما اللوح والقلم )) (5).
ولذلك فإن الدكتور محمد البهي يقول عن أفلاطون : ( أنه قد وضع بدل الحلول اتصال النفس الكلية بالعالم ، وبدل الاتحاد العودة والرجوع ) (6).
__________
(1) 26) نسبة إلى أفلاطون ، أحد فلاسفة اليونان المشهورين ، والذي قال أن للعالم محدثا مبدعا أزليا واجبا بذاته ، فأبدع العقل الكلي ، وبتوسط العقل انبعثت النفس الكلية انبعاث الصورة في المرأة .. وبعده بقرون جاء أفلاطون وأخذ مبادئه ودونها وتنسب إليه الأفلاطونية الحديثة .
(2) 27) وكذلك أخذ النصارى مفهوم ( الكلمة ) التي جاءت في الانجيل وحوروها إلى هذا المفهوم.
(3) 28) يس : 82 .
(4) 29) القلم : 1 .
(5) 30) د . مصطفى الشكعة / إسلام بلا مذاهب ص 247 .
(6) 31) د . محمد البهي / الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي ص 326 .(140/16)
والكثير من المؤرخين عندما يذكرون اسم ( الباطنية ) يقرنونه ( بالإِسماعيلية ) . ( وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنًا ، ولكل تنزيل تأويلاً ) (1).
والتأويل حسب المفهوم الإِسماعيلي – وكما يوضحه مصطفى غالب الإِسماعيلي – يختلف تمام الاختلاف عن التفسير ، فالتأويل يقصد به باطن المعنى أو رموزه وإشاراته . وهو من اختصاصات الإِمام عليّ والأئمة من بعده إلى يوم الدين ) (2).
و الإِسماعيلية تنكر صفات الله جميعها الواردة في القرآن الكريم ويقولون : ( بأنه لا يصح أن نصف الله بصفات مما نصف بها البشر ، فلا يقال أنه عالم ، وجاهل ، أو أنه موجود ، أو لا موجود ، فإن ذلك يجعلنا نقع في خطأ تشبهه بالمخلوقات ) (3) .
وأيضًا فإن الإِثبات الحقيقي للصفات يقتضي شركة بينه وبين سائر الموجودات ، وذلك تشبيه ، فلم يمكن الحكم بالإِثبات المطلق ، والنفي المطلق ، بل هو إله المتقابلين ، وخالق الخصمين ، والحاكم بين المتضادين ) (4).
وهم في سبيل برهان هذه الأقوال يزعمون : ( أن النصوص الدينية والآيات القرآنية ، رموز وإشارات إلى حقائق خفية وأسرار مكتوبة ، وأن الطقوس والشعائر ، بل والأحكام العملية هي رموز وإشارات وأسرار ، وأن عامة الناس هم الذين يقنعون بالظواهر والقشور ، ولا ينفذون إلى المعاني الخفية المستورة ) (5) .
__________
(1) 32) الشهرستاني / الملل والنحل ج 2 ص 29 – ومحمد فريد وجدي / دائرة معارف القرن العشرين ج 2 .
(2) 33) مصطفى غالب / الحركات الباطنية في الإسلام ص 93 .
(3) 34) دائرة المعارف الإسلامية ج 3 ص 290.
(4) 35) الشهرستاني / الملل والنحل ج 2 ص 29.
(5) 36) د . عبد الرحمن بدوي / مذاهب الإسلاميين ج 2 ص 7 .(140/17)
ونعود إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر ( الذي اضطر إلى ترك مسقط رأسه المدينة المنورة ، وهاجر إلى خوزستان ( جنوب غرب إيران ) ، ثم تركها إلى بلاد الديلم ( جنوب بحر قزوين ) ، ولم يسمع عنه شيء بعد ذلك ) (1) .
وبعد اختفاء محمد بن إسماعيل ، تولى أمور الدعوة ميمون القداح ، وميمون هذا مولى جعفر الصادق ، وهو من المتسترين بالتشيع والدعوة لآل البيت ، وقد قبض عليه مع جماعة من أصحابه وسجنوا بالكوفة ، وفي السجن وضع ميمون وأصحابه دعوتهم ، وأسسوا مذهبهم الشهير بمذهب الباطنية ، ولما خرج من السجن ادَّعى أنه من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق (2).
وحمل الدعوة بعد ميمون ، ولده عبد الله ، وكان مثله في الذكاء ، والبراعة ، والتبحر في المباحث الفقهية والكلامية . والنظريات الفلسفية ، فنظم الدعوة الباطنية الإِسماعيلية ، وصاغها في تسع مراتب ، ودعا لإِمامة آل البيت الذين يزعم الانتساب إليهم . وكان يدَّعي علم الغيب والأسرار الروحية ، والعلوم الخفية ، ويزعم أنها انتهت إليه من جده محمد بن إسماعيل بن جعفر ) (3).
وهكذا حمل عبد الله بن ميمون دعوة أبيه ونظمها ، واتخذ بلدة ( ساباط ) (4)مركزًا لدعوته حينًا من الدهر مستترًا بثوب عميق من التشيع والورع والدعاء لآل البيت . وكان عبد الله بارعًا في طب العيون وعلاجها ، وفي أعمال التنجيم والكيمياء ، وكانت براعته في هذه الشؤون وسيلة للتأثير في العامة .
__________
(1) 37) محمد كامل حسين / طائفة الإِسماعيلية ص 14 .
(2) 38) عبد القادر البغدادي / الفرق بين الفرق ص 266.
(3) 39) عمر الدسوقي / أخوان الصفا ص 20 .
(4) 40) بلدة معروفة بما وراء النهر ، على بعد عشرين فرسخا من سمرقند – انظر ياقوت الحموي / معجم البلدان ج 3 ص 166 وهناك موضع آخر قرب المدائن بالعراق ، ويعرف بساباط كسرى .(140/18)
ولما شعر أولو الأمر بخطورته ، هموا بمطاردته ففرَّ إلى البصرة ، ومعه حسين الأهوازي من أقطاب شيعته ، فلما طورد فرَّ مع الحسين إلى الشام ونزل ببلدة ( سلمية ) (1)، واتخذها مركزًا لدعوته ، وحمل الدعوة بعده ولده أحمد ، وسير الحسين إلى العراق . وكان مجيئه البصرة سببًا في ثورة القرامطة (2)، وخلف أحمد في حمل الدعوة ابنه الحسين ، ثم أخوه محمد بن أحمد – المعروف بأبي الشلعلع - ، وبعث محمد بدعاته إلى المغرب وعلى رأسهم أبو عبد الله الحسين (3)– المعروف بالشيعي – فنشر الدعوة هناك ، وأخذ يبشر بالإِمام المنتظر (4) ثم قام بالدعوة سعيد بن الحسين .
__________
(1) 41) بفتح أوله وثانية ، وأصلها تسلم مائة ، ثم حرف الناس اسمها فقالوا : سلمية ، وهي بلدة من أعمال حمص – في سورية – انظر : ياقوت الحموي / معجم البلدان ج 3 ص 240 .
(2) 42) نسبة إلى حمدان القرمطي ، وقد عرف في الكوفة عام 258 هـ ، وأظهر دعوته عام 265 هـ ، ودعوتهم تعد خطوات الإسماعيلية ، ولهم غاية أساسية هي القضاء على الإسلام . ولذلك عملوا على إشعال الفتنة في الدولة الإسلامية بمقاتلتها ، وأسسوا دولة لهم بعد مدة من ظهورهم وبقيت فترة طويلة مصدر فتنة حتى قضى عليهم سنة 476 هـ ، انظر : ابن الجوزي / القرامطة ص 13 ومحمود شاكر القرامطة ص 8 .
(3) 43) ويلقب بالمعلم ، وهو الذي مهد الطريق لقيام دولة العبيديين – الفاطميين – بنشر الدعوة الإسماعيلية هناك ، حتى جاء عبيد الله المهدي وأقام الدولة عام 296 هـ ، وقد قتله المهدي نفسه عام 298 هـ .
(4) 44) ) عقيدة رئيسية وهامة عند كل فرق الشيعة ، والإمام في نظرهم معصوم عن الأخطاء ، ولا شك في كون هذا المعتقد سببا رئيسيا في بقاء الشيعة إلى الآن ، وكذلك كان سببا لظهور الفتن بادعاء كثيرين أنهم الإمام.(140/19)
ويقول بعض المنكرين لنسبهم إلى السيدة فاطمة الزهراء ، ( إن سعيدًا هذا ليس ولد الحسين ، وإنما هو ولد زوجته اليهودية ، رباه ولقنه أسرار الدعوة واختاره للزعامة والإِمامة من بعده ) (1).
وسعيد هذا هو الذي فرَّ إلى المغرب وتسمى بعبيد الله المهدي ، وأسس دولة العبيدين أو الدولة الفاطمية ، ومن هناك استطاع أحد ملوكهم وهو المعز أن يفتح مصر سنة 359 هـ ، ويتخذها مركزًا للدولة .
ولكن فخر الدين الرازي يأتي برواية أخرى عن نسب هؤلاء ويقول : ( إنه لما هرب محمد بن إسماعيل إلى مصر مع عبد الله بن ميمون القداح ، كانت لكل منهما جارية ، قد حملتا منهما ، فلما مات محمد بن إسماعيل قتل ابن القداح جارية محمد بن إسماعيل أيضًا . فلما ولدت جاريته قال للناس : إنه قد ولد لمحمد بن إسماعيل ابن ، ولما كبر ، علمه الزندقة ، وقال للناس إن الإِمامة صارت من محمد إلى ابنه هذا ) (2).
والمهم هنا أن كثيرًا من المؤرخين يشك في نسب هؤلاء ، وذلك ما تؤكده دعاويهم ومزاعمهم بالعصمة ومعرفة الغيب والتأويل وغير ذلك .
وينقل الدكتور عبد العزيز الدوري عن المستشرق دوزي في مقدمته لكتاب ( أصول الإٍسماعيلية ) ، ( أن عبد الله بن ميمون كان فارسيًا في الصميم ، ينظر إلى آل علي كنظرته إلى سائر العرب ، وإنما استخدمهم وسيلة لتحقيق غاياته ) .
__________
(1) 45) ابن تغري بردى / النجوم الزاهرة ج 4 ص 75 ومحمد عبد الله عنان / الحاكم بأمر الله ص 32 .
(2) 46) فخر الدين الرازي / اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 77 .(140/20)
وكان يعتقد أن إنشاء دولة علوية لن يحقق للفرس شيئًا ، ولذا فإنه لم يبحث عن أنصاره الحقيقيين بين الشيعة ، بل بين المانوية (1)، والكفار ، ووثني حران (2)، وأهل الفلسفة اليونانية (3).
ولهؤلاء وحدهم يمكن الإفضاء تدريجيًا بالسر ، وهو أن الأئمة والأديان والأخلاق ليست إلا ضلالاً وسخرية . أما بقية الناس – أو الحمير – كما يسميهم عبد الله ، فليسوا بقادرين على فهم هذه المبادئ .
ولكنه في سبيل التوصل إلى غايته لم يستهن بمساعدتهم ، بل كان يلتمسها ، ولاحظ أن يحشد المؤمنين في المراحل الأولى للدعوة ، وكان دعاته – الذين أفهمهم بأن أول واجباتهم إخفاء حقيقة ميولهم ومجاراة عقائد من يدَّعون – يظهرون في أثواب مختلفة ، ويكلمون كل شخص بلغة خاصة ، فيجذبون العامة الجاهلين البسط لشعوذات يجعلونها تظهر كمعجزات ، أو بأحاديث مبهمة خفية تثير حب استطلاعهم ، ويتظاهرون أمام المؤمنين بمظهر الفضيلة والتعبد ، ويتظاهرون بالتصوف أمام الصوفية ويشرحون المعاني الخفية للأمور الظاهرة ) (4) .
__________
(1) 47) أصحاب ماني بن فاتك ، وهي من ديانات فارس ، وأخذت أصولها عن المجوسية والنصرانية وتؤمن بأن العالم مصنوع من مركب من أصلين قديمين ، أحدهما نور ، والآخر ظلمة ، وأنهما أزليان . انظر الشهرستاني / الملل والنحل ص 81 ج 2 .
(2) 48) بتشديد الراء ، وهي على طريق الموصل والشام ، وتطلق أيضًا على قريتين بالبحرين ، وعلى قرية بغوطة دمشق ، انظر ياقوت الحموي : معجم البلدان ج ص 235 ، 236 . وتعتبر مجمع بقايا الديانات من الصابئة والنصارى وغيرهم . وهي في شمال شرق تركيا الآن .
(3) 49) والمقصود أتباع فلاسفة اليونان مثل أرسطو وأفلاطون وغيرهم .
(4) 50) ) برنادر لويس / أصول الإسماعيلية ص 12 ، 13 – وانظر ما قاله ابن الجوزي في القرامطة ص 51 ، 52 ، 53.(140/21)
ولذلك فإن الدعوة الإِسماعيلية صادفت هوى في نفوس – بعض أفراد من جماعات مختلفة في العنصر والدين ، ليكيدوا من خلالها للإِسلام .
ومن ثم وجد الزرادشتية (1)، والمانوية ، والمزدكية (2)، والصابئة (3)، واليهود ، والنصاري ، - وغيرهم في المذهب الإِسماعيلي كل ما يهدفون إليه من هدم لأركان الإِسلام - ، وقد قلد الإِسماعيلية في ذلك جماعة العيسوية الأصفهانية اليهودية (4)، التي كانت تنادي بصحة نبوة موسى ومحمد عليهما السلام ) (5).
__________
(1) 51) أصحاب زرادشت بن بورشب ، وزعموا أن الله عز وجل خلق من وقت ما في الصحف الأولى ، وأنه جعل روح زرادشت في شجرة أنشأها في أعلى عليين ، وأن النور والظلمة متضادان ، وقد أتبعه الملك بشتاسب ، وقهر الناس على اتباعه ، وبنى في عهده بيوت النيران . انظر الشهرستاني / الملل والنحل ج 2 ص 77.
(2) 52) أصحاب مزدك ، وقولهم كقول المانوية في الكونين والأصلين ، إلا أن مزدك يقول أن النور يفعل بالقصد والاختيار ، والظلمة تفعل على الخبط والاتفاق . ويدعون أيضًا إلى شيوعية المال والنساء لأنهما سبب الشرور . انظر الشهرستاني / الملل والنحل ج 2 ص 86 .
(3) 53) قوم يقولون أن مدير العالم وخالقه هذه الكواكب السبعة والنجوم ، فهم عبدة الكواكب . انظر كتاب فخر الدين الرازي في اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 90 .
(4) 54) أتباع أبي عيسى بن يعقوب الأصفهاني ، وهم فرقة يهودية يثبتون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن إلى العرب فقط ، وكانوا أيضا يوجبون تصديق المسيح ، وقد حرموا الذبائح كلها ، وخالفوا اليهود في أكثر أحكامهم . انظر الشهرستاني في الملل والنحل ج 2 ص 55 / والفخر الرازي في اعتقادات فرق فرق المسلمين والمشركين ص 83 .
(5) 55) ) د . حسين إبراهيم / طه أحمد شرف – عبيد الله المهدي إمام الشيعة الإسماعيلية ص 292 – بتصرف - .(140/22)
وخير تعبير عن هذا نجده في رسائل أخوان الصفاء (1)، ومنها نقتبس الفقرة التالية ، التي تمثل التعمة العامة للحرية الدينية : ( وينبغي لإِخواننا – أيدهم الله – أن لا يعادوا علماً من العلوم ، أو يهجروا كتابًا من الكتب ، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب ، لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها ، ويجمع العلوم جميعها ) (2).
هذه هي وسيلتهم في نشر مذهبهم الباطني ، أما عن عقائدهم ، فإنها تقوم كما ذكرت على : ( تنزيه الله سبحانه وتعالى عن الصفات ، والأسماء ، فهو ليس أيسًا (3)، ولاليسًا (4)، لأنه ليس من جنس العقول ، وليس بجسم حتى يراه البصر .
__________
(1) 56) جماعة ظهرت في منتصف القرن الرابع الهجري ، باطنية إسماعيلية تأثرت بالشيعة والفلسفة والوثنية ، كتبوا هذه الرسائل . ولكن الإسماعيليين في الوقت الحاضر يزعمون أن مؤلفها إمام مستور من أئمتهم هو أحمد بن عبد الله بن محمد ، وينسبونها إليهم.
(2) 57) رسائل أخوان الصفاء / الرسالة رقم 45 / ج 4 ص 105.
(3) 58) والمقصود أنه ليس موجودا مثل سائر الموجودات المخلوقة ، متعلق بغيره مستند في وجوده إلى آخر .
(4) 59) والمقصود أنه لا معلوم بدون علة ، والموجودات يستند وجودها إلى موجود آخر وهكذا تستند هذه الموجودات إلى ( الله ) ، إذ لو كان ليسا ، لكانت الموجودات أيضا ليسا ، فلما كانت الموجودات موجودة كان ليسيته باطلة . انظر الكرماني / راحة العقل .(140/23)
وأنه سبحانه أبدع العقل الكلي الذي أطلق عليه الفاطميون اسم السابق واسم المبدع الأول ، واسم القلم - ، ثم بواسطة المبدع الأول وجدت النفس الكلية التي أطلقوا عليها اسم التالي ، واسم المبدع الثاني ، واسم اللوح المحفوظ . وبواسطة السابق الثاني وجدت المخلوقات كلها العلوية والجسمانية ، وتمسكوا بالحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم : ( أول ما خلق الله العقل ، فقال له : أقبل فأقبل ، وقال له : أدبر فأدبر ، فقال : بعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا هو أعز منك ، بك أثيب ، وبك أعاقب ) (1) .
وذهبوا إلى أن العقل هو أرفع مبدعات الله وأقربهم إليه ، وهو عندهم الخالق الحقيقي ، وأولوا أسماء الله الحسنى وصفاته الواردة في القرآن الكريم إلى أنها أسماء وصفات العقل الكلي هذا ) (2).
فلذلك فإن معبود الإِسماعيلية الحقيقي هو العقل ويعتبرونه الصورة الخارجية لله ولهذا يقولون :
( إذا كان لا يصلي لكائن لا يدرك ، فإن الصلاة تتجه نحو صورتها الخارجية وهي العقل ) (3).
و الإِسماعيلية يسمون العقل ( الحجاب ) أو ( المحل ) أو ( الصلة ) ، ولبلوغ السعادة عندهم ينبغي على الإِنسان تحصيل العلم ، ولا يمكن تحصيل السعادة التي هي العلم إلا بحلول العقل الكلي في إنسان هو النبي ، وفي الأئمة الذين يخلفونه .
__________
(1) 60) ) حديث موضوع ، والصحيح ما رواه أحمد والترمذي ( أول ما خلق الله القلم ) . انظر العجلوني في (( كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث )) ج 1 ص 263 .
(2) 61) محمد كامل حسين / طائفة الدروز ص 87 .
(3) 62) محمد كرد علي / خطط الشام ج 6 ص 257 .(140/24)
والعقل الحال يسمى ( ناطقًا ) ، والنفس الحالة تسمى ( أساسًا ) ، والناطق هو النبي الذي يبلغ الكلام المنزل ، و ( الأساس ) هو الإِمام الذي يفسره ( أي الكلام المنزل ) معتمدًا على التأويل ، ولذلك يقولون : إن محمدًا هو الناطق ، وعليًا هو الأساس ) (1).
ويقول الدكتور محمد كامل حسين : ( وبتطبيق نظرية ( المثل والممثول ) نستطيع أن نعرف ، أن الإِمام الفاطمي هو ممثل للعقل الكلي ، وأن جميع مناقب وصفات العقل الكلي تطلق على الإِمام ، فهو الواحد الأحد ، والفرد الصمد ، المحيي والمميت ) (2).
وأن الإِمام هو ( وجه الله ) و ( يد الله ) و ( جنب الله ) ، وأنه هو الذي يحاسب الناس يوم القيامة فيقسمهم بين الجنة والنار .
وأنه هو ( الصراط المستقيم ) و ( الذكر الحكيم ) و ( القرآن الكريم ) إلى غير ذلك من الصفات .
ولهم في ذلك كله أدلة – كما يزعمون – يسوقونها لكل صفة من الصفات ، فمثلاً يقولون : إن الإِنسان لا يعرف إلا بوجهه ، ولماكان الإِمام هو الذي يدل العالم على معرفة الله ، فبه إذن يعرف الله ، فهو وجه الله ، أي الذي به يعرف الله .
وأن اليد هي التي يبطش بها الإِنسان ويدافع بها عن نفسه ، والإِمام هو الذي يدافع عن دين الله ويبطش بأعدائه ، فهو على هذه المثابة يد الله .
وهكذا يقولون عن بقية الصفات التي خلعوها على الإِمام (3) .
__________
(1) 63) د . مصطفى الشكعة / إسلام بلا مذاهب ص 236 .
(2) 64) محمد كامل حسين / طائفة الدروز ص 87 .
(3) 65) محمد كامل حسين / طائفة الإسماعيلية ص 157 .(140/25)
وتتفرع من هذه العقيدة آراء أخرى ، نذكر منها : ( انبعاث العقول الروحانية من العقل الكلي والنفس الكلية ، وأهم هذه العقول هي تلك التي أطلقوا عليها : الجد ، والفت : والخيال . وهؤلاء عندهم الملائكة الروحانية الذين يعرفهم العالم الإِسلامي باسم إسرافيل ، وميكائيل ، وجبرائيل ، وهؤلاء مع العقل الكلي والنفس الكلية يكونون الأشباح الخمسة العلوية أو الحدودية العلوية ، وجعلوهم ممثولات للقائمين على الدعوة الإِسماعيلية . فالعقل الكلى ( السابق ) ممثولاً للناطق في عصره ، والوصي والإِمام والنفس الكلية ( التالي ) ممثولاً للوصي في حياة الناطق أو باب الأبواب .
والجد : ممثول للحجة .
والفتح : ممثول للداعي المأذون .
والخيال : ممثول للداعي المكالب ( المكاسر ) .
ومن ثم جعل الفاطميون مراتب الدعاة من المراتب الروحية التي تقام عليها دعوتهم ، وعلى كل من يعتنق مذهبهم أن يعترف بهؤلاء الدعاة ، على أن يكون هذا الاعتراف من صميم العقيدة . وتجب طاعتهم طاعة عمياء وتصديق كل ما يقولون ، والاقتداء بما يفعلون ، وأطلقوا على هؤلاء الدعاة اسم الحدود الجسمانية ، إمعانًا في تقديسهم ورفع شأنهم ) (1).
وينقل مصطفى غالب ( الإِسماعيلي ) عن الداعي حميد الدين الكرماني (2) مراتب الدعوة كما يلي :
1 – الناطق : وله رتبة التنزيل .
2 – الأساس : وله رتبة التأويل .
3 – الإِمام : وله رتبة التأويل .
4 – الباب : وله رتبة فصل الخطاب .
__________
(1) 66) محمد كامل حسين / طائفة الدروز ص 88 .
(2) 67) ) أحمد بن عبد الله الكرماني حميد الدين ، ويلقب بحجة العرافين ، من دعاة الإسماعيلية وكتابهم . كان داعي الدعاة للحاكم بأمر الله الفاطمي ، له رسالة ( مباسم البشارات بالإمام الحاكم ) يرد بها على الذين ألهوا الحاكم من الدروز ، وله أيضا مجموعة رسائل أخرى ، توفي بعد سنة 412 هـ . انظر الأعلام للزركلي ج 1 ص 149 وديوان المؤيد في الدين داعي الدعاة ص 9 .(140/26)
5 – الحجة : وله رتبة الحكم فيما كان حقًا أو باطلاً .
6 – داعي البلاغ : وله رتبة الاحتجاج وتعريف المعاد .
7 – الداعي المطلق : وله رتبة تعريف الحدود العلوية ، والعبادة الباطنية .
8 – الداعي المحدود : وله رتبة تعريف الحدود السفلية ، والعبادة الظاهرة .
9 – المأذون المطلق : وله رتبة أخذ العهد والميثاق .
10 – المأذون المحدود : وله رتبة جذب الأنفس المستجيبة ، ويعرف بالمكاسر .
11 – لاحق . 12- جناح ، ولهما رتبة مؤازرة المأذون المحدد والقبام بمهمته أثناء غيابه (1).
والإِسماعيلية يعظمون هؤلاء الدعاة ويجلونهم ويزعمون : ( أن هؤلاء الدعاة كانوا مع النطقاء والأئمة في كل دور من الأدوار الكبرى والصغرى ، وذلك أنهم يعتقدون بظهور الأنبياء والأئمة في صور متعددة ، ولكن أصلهم واحد ، فآدم ، ونوح ، وإبراهيم ، وعيسى ، ومحمد ، وهم الأنبياء عند الفاطميين ظهروا في هذه الصور الآدمية المختلفة وفي عصور متفاوته ، ولكنهم جميعًا شخص واحد في الحقيقة .
ولما كان أوصياؤهم وأئمتهم في كل دور ورثة الأنبياء ، ولهم كل خصائص الأنبياء ، فهم والأنبياء شخص واحد ، فالجميع مثل للعقل الكلي ، ففكرة التناسخ ظهرت في العقيدة الفاطمية في صورة جديدة هي ( نظرية الدور ) ، وكان لهذه الفكرة أثر كبير عند الدروز . والدور الكبير – في نظرهم – هو الدور الذي من ظهور بآدم ( النبي ) الناطق ، وظهور قائم القيامة ( المهدي المنتظر ) ، لأن آدم عندهم ليس أول الخلق بل هو أول ناطق في دوره ) (2).
__________
(1) 68) مصطفى غالب / الحركات الباطنية في الإسلام ص 121 ، 122 وانظر دولة الإسماعيلية في إيران ص 35 .
(2) 69) محمد كامل حسين / طائفة الدروز ص 89 – وسنجد ذلك فيما بعد عند التحدث عن عقائد الدروز أثر هذه النظرية في عقائدهم وكيف استمدوها من الفاطميين ؟ .(140/27)
( وإنما كان قوم عاش آدم بينهم ، وآدم هذا كان له حجة ، رمز القرآن إليه ( بحواء ) ، فحواء هذه لم تك أنثى ولم تتزوج بآدم ، وإنما كانت أقرب دعاته إليه ، وكان كلاهما ينعم في دعوة الإِمام الذي كان سابقًا لآدم ، وكانت دعوته إسماعيلية ، وهي التي عبر عنها القرآن ( بالجنة ) ، ثم تطلع آدم إلى مرتبة أعلى فأخرجه الإِمام من الجنة أي ( الدعوة ) (1) .
أما الأدوار الصغرى في نظرهم ( فهي التي بين ظهور ناطق وناطق ، فالدور الذي بين ظهور آدم ، وظهور نوح هو الدور الصغير لآدم ، ونحن الآن في دور محمد وسينتهي دوره بظهور قائم القيامة ، وكذلك ينتهى دور آدم الكبير ، ويأتي بعده دور آدم آخر .
ولأثبات أن ما حدث في دور كل نبي ، حدث مثله في جميع الأدوار الأخرى : فمثلاً قصة الطوفان في التأويل الباطن عند الفاطميين تدل على كثرة الأضداد المخالفين لمن أقامه الله وصيًا لنوح وتغلبهم عليه ، وأن المؤمنين هم الذين اتبعوا الوصي الذي رمز إليه ( بسفينة نوح ) ، وفي كل دور من أدوار النطقاء ، ظهر هذا الطوفان وجرت السفينة .
وبهذا يؤولون الحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم : ( مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق في الطوفان ) (2).
وللأعداد والحروف وحساب الجمل في عقيدة الإِسماعيلية أصول دينية واسعة ولهذا فقد :
__________
(1) 70) د . مصطفى الشكعة / إسلام بلا مذاهب ص 246 .
(2) 71) محمد كامل حسين / طائفة الدروز ص 89 ، 90 .(140/28)
اتخذ الإسماعيلية الأعداد أصولاً دينية يثبتون بها عقيدتهم في الإِمامة ، وجعلوا محور المذهب يقوم على العدد سبعة (1)، أما ما دون ذلك فيقوم على العدد ( اثني عشر ) ، وهم يستدلون على ذلك بأمور منها : أن الله تعالى خلق النجوم التي بها قوام العالم سبعة ، وجعل أيضًا السموات سبعا ، والأرض سبعًا ، والبروج اثنى عشر ، والشهور اثنى عشر ، ونقباء بني إسرائيل اثنى عشر ) (2).
وكذلك أول الإِسماعيلية الفرائض والأركان تأويلاً خاصًا (3)، ( فالنية للصلاة هي ولاية الأئمة ، والطهارة هي أخذ علم الباطن لتطهير النفوس ، والصلاة هي الدعوة الفاطمية ، والكعبة هي الإِمام الذي يتوجه إليه المستجيبون ) (4).
وهكذا جعل الإِسماعيليون لكل فريضة وركن تأويلاً باطنًا لا يعلمه إلا الأئمة وكبار الدعاة .
ومن هذا التعريف السريع بعقائد الإِسماعيليين ، نستطيع بعدها أن نصل إلى طائفة الدروز ، لنعرف كيفية قيامها ، ومن أين استقت عقائدها ؟ .
3 –
__________
(1) 72) وهذا الاعتقاد سنجد أثره أيضا في عقائد الدروز ، عند تحدثهم عن الأدوار السبعة .
(2) 73) د . محمد السعيد جمال الدين / دولة الإسماعيلية في إيران ص 27.
(3) 74) وأيضا أول الدروز كل هذه الأركان ، بل نقضوها ، في إحدى رسائل حمزة واسمها ( النقض الخفي ) ، والتي أوردتها فيما بعد .
(4) 75) محمد كامل حسين / طائفة الدروز ص 91 .(140/29)
ذكرنا فيما سبق ، كيف استطاع عبيد الله المهدي أن يؤسس الدولة العبيدية في المغرب (1)، بدعوى أنه من نسل آل البيت ، حيث استطاعت هذه الدولة أن توطد أركانها هناك ، وتتطلع إلى فتح مصر ، وتم لها ذلك على يد القائد الفاطمي جوهر الصقلي عام 358 هـ في عهد المعز لدين الله الفاطمي ، وبقي المعز على سدة الملك حتى توفى سنة 365 هـ . وخلفه ولد العزيز بالله الذي بقي في الملك إحدى وعشرين سنة حتى توفي عام 386 هـ ، وهو في طريقه لمحاربة الخارجين على الدولة بالشام . فخلفه ولده وولي عهده أبو علي منصور ، ولقب بالحاكم بأمر الله ، وكان عمره آنذاك أحد عشر سنة ، حيث عهد والده إلى ثلاثة من كبار رجال الدولة برعايته وتولى شؤون الدولة ، وبقي الأمر كذلك حتى سنة 390 هـ حينما استطاع الحاكم قتل أحد الأوصياء عليه ، وتولى منذ ذلك الحين زمام الأمور هناك (2).
وقد بدأ الحاكم حكمه بقتل عدد من كبار رجال الدولة ، وإصدار سجلات غريبة شاذة يحرم فيها أشياء كثيرة ، ثم يعود بعد ذلك إلى إباحتها بشكل متناقض . واتبع ذلك بقتل الكثير من خدم قصره والكتبة ومن عامة الناس . وكان كل هذا تمهيدًا لإِعلان ما يعتلج في نفسه من ادعاء بالربوبية (3).
__________
(1) 76) تأسست هذه الدولة – كما ذكرنا سابقا – سنة 296 هـ على يد عبيد الله المهدي في المغرب ، وسقطت سنة 567 بعد موت العاضد الفاطمي على يد صلاح الدين الأيوبي – انظر الروضتين في أخبار الدولتين ج / ص 193 .
(2) 77) انظر القرماني في أخبار الدول وآثار الأول ص 189 – 191 ، وكذلك العصامي المكي في سمط النجوم العوالي ج 3 ص 414، 415 ، 424 .
(3) 78) انظر المصدرين السابقين ، الأول ص 191 ، والثاني ص 424 – 429.(140/30)
والحاكم بأمر الله ، هو محور عقيدة الدروز ، وقد أنشأ سنة 395 هـ معهدًا رسميًا خاصًا لبث الدعوة الفاطمية السرية ، ويكون مركز الإِعداد والتوجيه ، وسماه : ( دار الحكمة ) ، ولهذه التسمية مغزى يدل على الاتجاه الفلسفي الذي أُريد أن يتخذه هذا المعهد ، وقد استقطبت هذه الدار الدعاة الفاطميين من كل مكان ) (1).
فاحتشد في ذلك الوقت طائفة من الدعاة الملاحدة ، فالتفوا حول الحاكم بأمر الله ، وزينوا له فكرة ( ألوهيته ) ، مما جعله وراء هذه الدعوة يرعاها ، ويرقب تطوراتها ، ويتصرف على ضوئها .
ومع أن بداية الدعوة إلى ألوهية الحاكم ظهرت بشكل جلي سنة 408 هـ ، إلا أن الدكتور محمد كامل حسين يذكر : ( أن هناك نصوصًا من رسائلهم تفيد أن الحاكم أظهر ألوهيته أول مرة سنة 400 هـ ) (2).
__________
(1) 79) محمد عبد الله عنان / الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية ص 164 .
(2) 80) محمد كامل حسين / طائفة الدروز ص 75 .(140/31)
ويقول مصطفى غالب ( الكاتب الإِسماعيلي المعاصر ) : ( بأن حمزة بن علي بن أحمد الزوزني (1)، وفد على مصرسنة 405 هـ ، وانتظم في سلك دعاة الفرس الذين كانوا يختلفون إلى دار الحكمة لحضور مجالس الحكمة التأويلية . وما عتم أن أصبح ممثلاً لدعاة الفرس ، وهمزة وصل بينهم وبين الحاكم بأمر الله ، الذي ضمه إلى حاشيته ، وأسكنه في قصره . ويضيف قائلاً : وفي بعض الوثائق الإِسماعيلية السرية ما يشير إلى أنه أصبح من الدعاة الذين يكونون دائمًا في معية الإِمام ، ولا يفارقون مقر قيادته أبدًا . وسرعان ما أصبحت له حظوة عند الحاكم ، بعدما أظهره من إخلاص ، وما بذله من جهد في تقوية أواصر الدعوة وتركيز دعائمها في فارس كما أنه ساهم مساهمة فعالة في خوض غمار الجدل الديني ، وفلسفة المذهب الذي يبشر به ، واستطاع أن يجمع حوله بعض الدعاة ، ويتفقوا سرًا للدعوة إلى تأليه الحاكم بأمر الله ، معتمدًا في دعوته هذه على أصول وأحكام جديدة استنطبها من صميم الأصول والأحكام الإِسماعيلية ) (2).
__________
(1) 81) المؤسس الرئيسي لمذهب الدروز ، من كبار الدعاة الباطنيين ، ومن أكثرهم التصاقا بالحاكم بأمر الله ، توفي على الأرجح سنة 433 هـ ، وسيفصل الكلام عنه عند الكلام عن دعاة الدروز / انظر الأعلام للزركلي ج 2 ص 310 .
(2) 82) مصطفى غالب / الحركات الباطنية في الإسلام ص 241.(140/32)
وكان على رأس هؤلاء الدعاة الذين التفوا حول حمزة : محمد بن إسماعيل الدرزي (1)، والحسن بن حبيدرة الفرغاني (2)، والظاهر من رسائل الدروز ، أن حمزة ابن علي – وكما يتضح من رسائله – قد اتفق مع دعاته ألا يجهرُ أحد أو يكشف عن مضمون المذهب ، إلا بعد تلقى الأوامر من حمزة نفسه ، ولكن الداعي الدرزي المعروف ( بنشتكين ) تسرع في الكشف عن أسرار الدعوة ، مما أثار حفيظة حمزة وغضبه ، ومما دفع عامة الناس لمحاربة الدعوة الجديدة ، ومحاولة الأتراك أنفسهم – الذي ينتسب إليهم الدرزي – قتله ، لولا حماية الحاكم له ، حيث فر إلى قصر الحاكم ، وهربه من هناك إلى بلاد الشام ، فدعا إلى المذهب الجديد ، واستمال الكثير من سكان وادي تيم (3)الذي نزل فيه ولكنه انحرف بعد ذلك عن مبادئ حمزة ، مما دفع – حمزة – إلى الأمر بقتله . ورغم قتله إلا أن تعاليم الدرزي كانت على درجة من الإِغراء في إتباعها ، وهكذا فالإنقسام لم يستأصل بتاتًا ولم يزل الدروز حتى اليوم قسمين ، ومع أنهم جميعهم متفقون في الاعتقاد بالحاكم وحمزة فمنهم من هم عاملون بموجب تعاليم حمزة ، ومن هم عاملون بموجب تعاليم الدرزي المتساهلة (4).
__________
(1) 83) أحد أصحاب الدعوة لتأليه الحاكم ، وإليه نسبة الطائفة الدرزية ، مع أن الدروز يتبرأون منه بسبب انشقاقه عن حمزة ، تركي الأصل على الأرجح ويقال فارسي ، هرب إلى الشام بعد مهاجمته من قبل الناس ، ومات هناك سنة 411 هـ . انظر الأعلام للزركلي ج 6 ص 259
(2) 84) ) أحد الذين جاهروا بتأليه الحاكم بأمر الله ، وهو الذي سلم القاضي ابن العوام رفعة تطلب منه الاعتراف بألوهية الحاكم ، وقد قتل على يد أهل السنة عام 409 هـ . انظر النجوم الزاهرة ج 4 ص 183 .
(3) 85) هو ما يعرف الآن بالشوف وكذلك المناطق المجاورة لها في لبنان .
(4) 86) تشارلز تشرشل / بين الدروز والموارنة ترجمة فندي الشعار ص 15 .(140/33)
( وأما حمزة ، فقد هاجمه الناس أيضًا في مقر إقامته في مسجد ريدان ، وكان معه اثنا عشر رجلاً فقط ، وكادوا يقتلونه لو لم يصدر أمر الحاكم بوقف القتال ) .
ويبدو أن الخلافات ما بين حمزة والدرزي إنما كانت بسبب زعامة المذهب وقيادته (1).
أما الداعي الآخر الحسن بن حيدرة الفرغاني ، المعروف بالأخرم أو الأجدع ، ( فقد كان يبعث بالرقاع إلى الناس يدعوهم فيها إلى العقيدة الجديدة ، وكان يطلب من العلماء وكبار الدعوة أجوبة على رقاعه ، مما جعل الحاكم أن يخلع عليه ويركبه فرسًا مطهمًا ، ويسيره في موكبه ، ويوليه عطفه ورعايته . غير أنه لم تمض على ذلك عدة أيام حتى وثب على الفرغاني رجل من السنة وقتله وقتل معه ثلاثة رجال من أتباعه ، بينما كان يسير معهم بالقاهرة ، فغضب الحاكم بأمر الله ، وأمر بإعدام قاتله ، ودفن الأخرم على نفقة القصر ) (2).
وممن كتب إليهم الأخرم : ( الداعي الإِسماعيلي أحمد حميد الدين الكرماني ، يعرض عليه نظريته الجديدة ، فرد عليه الكرماني في رسالة عنوانها ( الرسالة الواعظة ) ، ومما طرحه – الأخرم – من ألقاب وصفات على الحاكم قوله : ( من عرف منكم إمام زمانه حيًا فهو أفضل ممن مضى من الأمم من نبي أو وصي أو إمام ...وأن من عبد الله من جميع المخلوقين ، فعبادته لشخص لا روح فيه ... وقد قامت قيامتكم ، وانقضى دور ستركم ... ) (3).
وبعد اختفاء الدرزي ، والأخرم ، صار أمر الدعوة كله إلى حمزة بن علي ، ولقب نفسه بعدة ألقاب مثل ( هادي المستجيبين ) و ( قائم الزمان ) إلى غير ذلك من ألقاب يجدها الباحث في رسائله ، التي تتضمن أصول وعقائد دعوته .
__________
(1) 87) مصطفى غالب / الحركات الباطنية في الإسلام ص 244 .
(2) 88) المصدر السابق ص 245 .
(3) 89) المصدر السابق ص 246 .(140/34)
هذا وصف موجز لبداية نشأة الدروز ، وفي ظل هذه الأجواء والمعتقدات الإِلحادية انبثقت عقيدتهم ، فكانت – عقيدتهم – تعطي بالفعل انطباعًا تامًا عما يحاك لعقيدة الإِسلام من فتن ومؤامرات .
ويمكننا أن نقدم ملخصًا للأصول والقواعد التي يقوم عليها مذهبهم – حتى اليوم – لنستطيع من خلاله أن نتعرف على عقيدتهم :
فهم على ما دعا إليه حمزة منذ أكثر من تسعة قرون ينكرون الألوهية في ذاتها ، ويعتقدون بألوهية الحاكم بأمر الله ، وفي رجعته آخر الزمان ، وينكرون الأنبياء والرسل جميعًا .
بيد أنهم ينتسبون ظاهرًا إلى الإِسلام ، ويتظاهرون أمام المسلمين بأنهم مسلمون (1)، وذلك لأنهم عاشوا في وسط إسلامي ، ودول مسلمة ، غير أنهم يتظاهرون أمام النصارى أيضًا بأنهم قريبون منهم ، لأن المسيح في نظرهم هو حمزة بن علي .
وهم الآن في الأرض المحتلة ( إسرائيل ) يتظاهرون بالتقرب إلى اليهود ، وقد رأينا أيضًا كبار مفكريهم المعاصرين يحجون إلى الهند متظاهرين بأن عقيدتهم نابعة من حكمة الهند .
والحقيقة أنهم يبغضون في الباطن جميع أبناء الأديان الأخرى ، ولاسيما المسلمين ، ويعتقدون أن الشياطين هم باقي الملل ، وأن العقال (2)هم الملائكة ولا يأخذون بشيء من أحكام وعبادات الإِسلام ، كالصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والحج ، بل ينكرون أصول الإِسلام جميعها ، والشريعة الإِسلامية كلها .
__________
(1) 90) ولكنهم في الوقت الحاضر ، وبسبب تغيير الظروف . يحاولون جهدهم في الابتعاد عن لفظ ( الإسلام ) ويبرزون تسمية أنسفهم بـ ( الموحدين ) .
(2) 91) لفظ يطلقه الدروز على مشايخهم ودعاتهم . وهم الذين يعرفون أسرار العقيدة الدرزية ، ولا يسمحون لغيرهم بالاطلاع عليها ، والمجتمع الدرزي ينقسم إلى قسمين عقال ، وجهال ، فالجهال لا يعرفون شيئا من مذهبهم إلا الأمور الرئيسية فيه ، ولا يدخل أحدا منهم في العقال إلا بعد امتحان طويل .(140/35)
وقد جعل الدروز بدل أركان الإِسلام ، سبع خصال توحيدية ، وهم يعتقدون بتناسخ الأرواح ، وانتقالها إلى الأجساد الإِنسانية ، ويقولون في القرآن الكريم ، أنه من صنع سلمان الفارسي ، وكذلك فإنهم لا يعتقدون بالجنة والنار ، والثواب والعقاب . وإنما يكون الثواب بانتقال النفس إلى منزلة أرفع حينما تنتقل من جسد إلى جسد ، ويكون العقاب بتدني منزلتها .
بل أنهم يرجعون أصول مذهبهم إلى مسالك الحكمة والعرفان المتقدمة في أدوار التاريخ حيث يقول كمال جنبلاط (1)في مقدمته لكتاب ( أضواء على مسلك التوحيد – الدرزية ) : ( وفي رأينا أنه لا يمكن النظر إلى مسلك التوحيد منفصلاً ومستقلاً عن مسالك الحكمة والعرفان المتقدمة في أدوار التاريخ المعروف والمجهول ، والتي عمرت بها حياة المؤمنين الأولين الموحدين في مصر الفرعونية القديمة وفي الهند ، وإيران ، وبلاد التبت ، وما وراء الواحات ، وفي بابل وأشور وفي اليونان وجزر البحر الأبيض المتوسط وعلى انفراج شواطئه ، ثم بعد ذلك في الإِسلام مرورًا بالنصرانية الأولى ، وما قبلها (2)، فيما تكشف عنه مغاور البحر الميت في فلسطين (3)، وبالمذاهب العرفانية التي انتشرت في كل صقع من صقاع العالم القديمة ، فالحكمة لا تنفصل ، في أي زمان أو مكان ) (4).
__________
(1) 92) زعيم درزي معاصر ، وهو من السياسيين اللبنانيين ، معروف بثقافته واطلاعه على ديانات الهند القديمة ، ويحاول كثيرا أن يقارب بينهما وبين عقيدة الدروز ، وقد قتل في لبنان عام 1397 هـ 1977 م .
(2) 93) يعني اليهودية ، غير أنه تجنب ذكر اسمها لأسباب سياسية محلية .
(3) 94) مع أن ما نشر عن أوراق البحر الميت لا يدل على شيء من ذلك.
(4) 95) د . سامي مكارم / أضواء على سلك التوحيد ( الدرزية ) ص 26 .(140/36)
ولم يقف جنبلاط ، وهو الدرزي المثقف عند هذا الحد ، بل أرجع أصول هذا المذهب إلى حكماء الهند حيث يقول : ( ومن أغرب ما عثرنا عليه في هذه المخطوطات ، صلة هذا المسلك التوحيدي بحكماء الهند والسند ، وكنا نعتقد ولا نزال أن الحكمة واحدة في كل مثوى وزمان ، لا تتجزأ ولا تختلف في الجوهر ، لوحدة الحقيقة ، ووحدة الكشف عنها ، ووحدة الروح والعقل البشري .
وكنا نعلم ارتباط الموحدين بحكماء الهند ، وتقديرهم إياهم وتنويههم ببعض هذه الوجوه المباركة ، وكنا خاصة تتبعنا قصة كتاب ( بلوهر الحكيم ) ، المنتشر بين الموحدين وهو من كتب وعظهم ، وإذا بالموحدين ، على حق فيما يعتقدون بأنهم في هذه الديار ، هذا الوجه الباطن الظاهر للحكمة الإِنسانية الشاملة ) (1).
هذا ملخص لمذهب الدروز ، وإنها لصفحة من أغرب صفحات الثورة على الإِسلام ، بل وعلى العقل والمنطق ، وأشدها غلوًا وإغراقًا .
وفي بداية حديثنا عن هذا المذهب ، لابد لنا أن نستجلي غوامض شخصية الحاكم بأمر الله ، تلك الشخصية التي كانت وراء دعاة هذا المذهب ، يرعاهم بالمال والرجال ، فدعونا نتعرف على هذه الشخصية وآرائها ، وآراء دعاته ، وهو عنوان الباب الأول .
*******
الباب الأول
شخصية الحاكم بأمر الله
وأثرها في عقيدة الدروز وأشهر دعاة الدروز وآراؤهم
ويتضمن ثلاثة فصول :
الفصل الأول : الحاكم بأمر الله : حياته وآراؤه وأثرها في عقيدة الدروز .
الفصل الثاني : تطور المذهب الدرزي بعد الحاكم .
الفصل الثالث : أشهر دعاة الدروز وآراؤهم .
الفصل الأول
الحاكم بأمر الله – حياته وآراؤه ، وأثرها في عقيدة الدروز
لابد لمن يتصدى للتعريف بالمذهب الدروزي ، من أن يلقى الضوء على شخصية ذلك الرجل الذي يدعي أتباعه الدروز ، أن اللاهوت ظهر في صورته الناسوتية .
__________
(1) 96) د . سامي مكارم / أضواء على مسلك التوحيد ( الدرزية ) ص 51.(140/37)
هذا الرجل هو أبو علي المنصور بن العزيز بالله بن المعز لدين الله الفاطمي ، والذي لقب بـ ( الحاكم بأمر الله ) .
ولد الحاكم بأمر الله سنة 375 هـ الموافق لعام 985 م ، وقد تولى الملك بعد موت أبيه مباشرة في رمضان سنة 386 هـ ، وكان سادس الملوك العبيديين .
ولكي تتمكن من أخذ فكرة واضحة قدر الإِمكان عن حياة هذا الحاكم الغامض ، قسمنا حياته إلى ثلاثة أقسام أو أدوار (1)، متمايزة عن بعضها تمام التمايز .
فالدور الأول : وهو دور حداثته ، يبدأ من توليه الملك في الحادية عشرة من عمره ، وينتهي بمقتل ( برجوان ) (2)في سنة 390 هـ الموافق لعام ( 1000 م ) .
ويبدأ الدر الثاني : من تاريخ هذا الحادث حتى سنة 408 هـ الموافق لعام ( 1017 م ) ، وهي السنة التي ادعى فيها الألوهية على يد حمزة بن علي .
أما الدور الثالث : فيبدأ من سنة 408 هـ ، حتى اختفائه ومقتله سنة 411 هـ الموافق لعام ( 1021 ) .
الدور الأول من سنة 386 – 390 هـ ( 996 – 1000 م ) :
__________
(1) 97) انظر دائرة المعارف الإسلامية ج 7 ص 266 – 270 ، التي قسمت حياة الحاكم إلى ثلاثة أدوار . وكذلك انظر ما قسمه الدكتور حسن إبراهيم حسن – في تاريخ الإسلام السياسي والديني ج 3 ص 153 – لحياة الحاكم إلى أربعة أقسام ، الأول من 386 هـ - 390 ، الثاني من 390 – 395 هـ ، والثالث من 396 – 401 هـ ، والرابع من 401 – 411 هـ .
(2) 98) أحد الأوصياء الثلاثة ، الذين عهد إليهم العزيز برعاية الحاكم حتى بلوغه ، وكان خصيا .(140/38)
( ولي الحاكم بأمر الله الخلافة حدثا دون الثانية عشرة ، في نفس اليوم الذي مات فيه والده ( العزيز ) ، وكانت أمه أم ولد (1)، وقد كانت حسبما تقول الرواية النصرانية المعاصرة ، جارية رومية نصرانية من طائفة الملكية (2)، وكان لها أيام العزيز نفوذ عظيم في الدولة ، وكان لهذا النفوذ أثره بلا ريب في سياسة التسامح (3)الواضح التي اتبعها العزيز نحو النصاري ، وفي تقوية جانبهم ونفوذهم ، وتمكنهم من مناصب النفوذ والثقة ) (4)
وأوصى العزيز قبل موته بولده ثلاثة من أكابر رجال الدولة وهم : ( برجوان الصقلبي خادمه وكبير خزائنه ، والحسن بن عمار زعيم كتامة ، أقوىالقبائل المغربية ، وعماد الدولة الفاطمية منذ نشأتها ، ومحمد بن النعمان قاضى القضاة ، وكانت الوصاية الفعلية إلى الأول والثاني ، ولم يلبث أن نشب الخلاف بين الرجلين واشتدت المنافسة بينهما .
وقام ابن عمار بتدبير الشؤون باديء ذي بدء ، ولقب في سجل تعيينه بأمين الدولة ، وظهر ابن عمار بمظهر الطاغية المطلق ، فكان يدخل القصر ويغادره راكبًا ، وألزم جميع الناس بالترجل له ، وأغلق بابه إلا على الخاصة والأكابر من شيعته .
__________
(1) 99) وهي المملوكة التي تبقى في الرق ، ويكون لها أولاد من مالكها ، وبعد موته تعتق لوجود ولد لها .
(2) 100) حدث في سنة 451 م انشقاق في الكنيسة القبطية ، على أثر ما وقع في مجمع خلقيدونة الكنسي من الجدل اللاهوتي ، ورفض الأقباط الخضوع لقرارات هذا المؤتمر ، فاعتبرهم الإمبراطور الرومي كفرة ، واختار للأسكندرية بطريقا من قبله عرف أتباعه بالملكية ، وهم الكاثوليك ، وعرف الباقون باليعاقبة .
(3) 101) أو قل التخاذل لأن من سبقه في الدولة العبيدية كانوا متخاذلين حقا ؟! .
(4) 102) محمد عبد الله عنان / الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية ص 41 ، 42 .(140/39)
وأخيرًا وقع الانفجار ، ووثبت جماعة كبيرة من الزعماء والجند بتحريض برجوان وتدبيره ، وهاجمت الكتاميين في ظاهر القاهرة وأثخنت فيهم ، فتوارى ابن عمار حينًا ، واضطر أن يترك الميدان حرًا لمنافسه ، عندئذ قبض برجوان على زمام الأمور ) (1) .
( وأوصبح برجوان مطلق السلطان ، وركبه الزهو والغرور ، وانغمس في الملذات ينعم بثروته الطائلة ) (2).
فماذا كان موقف الحاكم خلال هذه الفترة الأولى من ملكه ؟
( ولقد كان برجوان بلا ريب يحجبه ما استطاع عن الاتصال برجال الدولة وشؤونها ، ويدفعه ما استطاع إلى اللهو واللعب ، ولم يلبث أن فطن الحاكم إلى موقف برجوان واستئثاره بالسلطة ، واستبداده بالشؤون ، وكان الحاكم قد أشرف – في ذلك الوقت – على الخامسة عشر من عمره ، وأصبح الطفل فتى يافعًا شديد اليقظة والطموح ، وبدأ يثور لسلطته المسلوبة ، ولذلك فقد حكم على برجوان بالموت ، فاستدعى الحاكم الحسين بن جوهر ، وعهد إليه بتلك المهمة . ومنذ ذلك الحين تناول الحاكم إدارة الدولة بيديه ، ونظم له مجلسًا ليليًا يحضره أكابر رجال الدولة ، وتبحث فيه الشؤون العامة ) (3).
الدور الثاني من سنة 390 – 408 هـ ( 1000 – 1017 م ) :
__________
(1) 103) محمد عبد الله عنان / الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية ص 45 – 47 .
(2) 104) دائرة المعارف الإسلامية / مجلد 7 ص 267 .
(3) 105) محمد عبد الله عنان / الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية ص 48 – 50 .(140/40)
افتتح الحاكم عهده الجديد كما ذكرنا بقتل برجوان وصيه ومدبر دولته ، ( غير أن الحاكم ما لبث أن اتبع ضربته بضربة دموية أخرى هي مقتل الحسن بن عار زعيم كتامة – وأحد الأوصياء عليه – وفي سنة 393 هـ قتل الحاكم وزيره فهد بن إبراهيم النصراني ، بعد أن قضى في منصبه زهاء ستة أعوام ، وأقام الحاكم مكانه على بن عمر العداس (1)، ولكن لم تمض أشهر قلائل حتى سخط عليه وقتله ، وقتل معه الخادم ريدان الصقلي حامل المظلة .
ثم قتل عددًا كبيرًا من الغلمان والخاصة سنة 394 هـ ، ثم تبع بذلك بمقتلة أخرى كان من ضحاياها الحسين بن النعمان الذي شغل منصب القضاء منذ سنة 389 هـ ، فقتل وأحرقت جثته ، وزهق فيها عدد كبير من الخاصة والعامة ، فقتلوا أو أحرقوا ) (2).
ولكي نعطي صورة واضحة عن هذه الشخصية الغامضة ، نستعرض فيما يلي أقوال بعض المؤرخين ممن كانوا معاصرين لعهد الحاكم ، أو كانوا قريبين من عهده :
ونبدأ بابن تغري بردي في ( النجوم الزاهرة ) الذي ينقل عن أبي المظفر بن قزأ وغلي في تاريخه ( مرآة الزمان ) ما يلي عن الحاكم :
( وقد كانت خلافته متضادة بين شجاعة وإقدام ، وجبن وإحجام ، ومحبة للعلم وانتقام من العلماء ، وميل إلى الصلاح وقتل الصلحاء .
__________
(1) 106) أحد وزراء الدولة الفاطمية ، تولى الوزارة لأول مرة بعد وفاة يعقوب بن كلس اليهودي أيام العزيز .
(2) 107) محمد عبد الله عنان / الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية ص 54 .(140/41)
وكان الغالب عليه السخاء ، وربما بخل بما لم يبخل به أحد قط ، وأقام يلبس الصوف سبع سنين ، وامتنع عن دخول الحمام ، وأقام سنين يجلس في الشمع ليلاً ونهارًا ، ثم عنَّ له أن يجلس في الظلمة فجلس فيها مدة ، وقتل من العلماء والكتاب والأماثل ما لا يحصى ، وكتب على المساجد والجوامع سبب أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم في سنة خمس وتسعين وثلثمائة ، ثم محاه في سنة سبع وتسعين .
وأمر بقتل الكلاب ، وبيع الفقاع (1)ثم نهى عنه ، ورفع المكوس (2)عن البلاد وعما يباع فيها ، ونهى عن النجوم وكان ينظر فيها . ونفى المنجمين ، وكان يرصدها ويخدم زحل وطالعه المريخ ، ولهذا كان يسفك الدماء (3).
وبنى جامع القاهرة ، وجامع راشدة على النيل بمصر ، ومساجد كثيرة ، ونقل إليها المصاحف المفضضة ، والستور الحرير ، وقناديل الذهب والفضة ، ومنع من صلاة التراويح عشر سنين ، ثم أباحها . وقطع الكروم ومنع من بيع العنب ، ولم يبق في ولايته كرمًا ، وأراق خمسة آلاف جرة عسل في البحر ، خوفًا من أن تعمل نبيذًا ، ومنع النساء من الخروج من بيوتهن ليلاً ونهارًا ) (4).
__________
(1) 108) شراب يتخذ من الشعير ، يعلوه الزبد والفقاعات ، ويشبه ( البيرة ) الوقت الحاضر .
(2) 109) الجمارك .
(3) 110) كذا في مرأة الزمان ، ولا يخفى ما في ذلك من مخالفة للشرع ، فإن النجوم والمطالع لا ينسب إليها فعل أحد ، فقد كان سفاكا للدماء بفعله القبيح ، ونفسه المجرمة . ومن اعتقد في النجوم خلاف ذلك من تأثير على الناس في الحظوظ والسعادة والشقاء فقد كفر بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم .
(4) 111) ابن تعرى بردى / النجوز الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج . ص 176 ، 177.(140/42)
ويروي ابن خلطان عن الحافظ أبي الطاهر السِلَفي (1):
( أن الحاكم كان جالسًا في مجلسه العام وهو حفل بأعيان دولته ، فقرأ بعض الحاضرين قوله تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسلميا } (2) [ النساء : 65 ] ، والقارئ في أثناء ذلك يشير إلى الحاكم ، فلما فرغ من القراءة ، قرأ شخص آخر يعرف بابن المشجر ، وكان رجلاً صالحًا { يا أيها الناس ضرب مثلٌ فاستمعوا له ، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له ، وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنفذوه منه ، ضعف الطالب والمطلوب . ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزير } (3) [ الحج : 73 ] .
فلما أنهى قراءته تغير وجه الحاكم ، ثم أمر لابن المشجر المذكور بمائة دينار ، ولم يطلق للآخر شيئاً ، ثم إن بعض أصحاب ابن المشجر قال له : أنت تعرف الحاكم وكثرة استحالاته ، وما نأمن أن يحقد عليك ، وأنه لا يؤاخذك في هذا الوقت ثم يؤاخذك بعد هذا فتتأذى معه ، ومن المصلحة عندي أن تغيب عنه . فتجهز ابن المشجر للحج ، وركب في البحر فغرق ، فرآه صاحبه في النوم ، فسأله عن حاله ، فقال : ما أقصر الربان معنا ، أرسى بنا على باب الجنة ، رحمه الله تعالى ، وذلك ببركة جميل نيته وحسن قصده ) (4).
__________
(1) 112) هو الحافظ أبو الطاهر أحمد بن محمد السلفي ، بكسر السين وفتح اللام ، ولد في أصبهان سنة 475 على الأرجح وطلب الرحلة للحديث حتى استقر في الأسكندرية . توفي سنة 576 / انظر أبو الطاهر السلفي / د . حسن عبد الحميد صالح .
(2) 113) النساء : 65 .
(3) 114) الحج : 73 .
(4) 115) ابن خلكان / وفيات الأعيان / مجلد ( 5 ) ص 295 .(140/43)
ويقول السيوطي : ( إنا الحاكم أمر الرعية إذا ذكره الخطيب على المنبر أن يقوموا على أقدامهم صفوفًا إعظامًا لذكر ، واحترامًا لاسمه ، فكان يفعل ذلك في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين . وكان أهل مصر على الخصوص إذا قاموا خروا سجدًا ، حتى أنه يسجد بسجودهم في الأسواق وغيرهم ، وكان جبارًا عنيدًا ، وشيطانًا مريدًا ، كثير التلون في أقواله وأفعاله ) (1) .
ومن أفعاله ( أنه كان يعمل الحسبة بنفسه ، فكان يدور بنفسه في الأسواق على حمار له – وكان لا يركب إلا حمارًا - ، فمن وجده قد غش في معيشة ، أمر عبدًا أسود معه يقال له مسعود ، أن يفعل به الفاحشة العظمى ) (2).
وقد بنى بين الفسطاط والقاهرة مسجدًا عظيمًا على ثلاثة مشاهد (3)كانت هناك ، وجعل فيه سدنة وخدمًا يوقدون فيه السرج الليل كله ، وكان يريد أن ينقل إليه جسد النبي صلى الله عليه وسلم ، غير أن الله سبحانه دفع ، وأظهر الله عز وجل أهل المدينة على ذلك ) (4).
وكان يحتال بكل حيلة لإِقناع الناس بقدرته وعلمه ، ( ومن ذلك أنه أرسل مرة وراء بعض الأشقياء ، وعلمهم أن يسرقوا من مخازن مصر في أحد الليالي أشياء معلومة فأطاعوا أمره ، وكان قبل ذلك قد أمر الناس بترك بيوتهم ودكاكينهم مفتوحة طوال الليل بدعوى أن السرقة لا تجوز في أيامه ، وتعهد لكل من يسرق له شيء برده ومعرفة السارق .
__________
(1) 116) السيوطي / حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة ج 1 . ص 601 ، 601.
(2) 117) ابن كثير / البداية والنهاية ج 12 ، ص 9 .
(3) 118) المشاهد : هي القبور التي يبنى عليها ، وتقصد للتبرك ، بل إن كثيرا منها ليس فيه أحد مقبور ، وإنما جعل من قبل أهل الضلال ، ولا يكاد يخلو بلد من مشهد للحسين عند الشيعة ، وللخضر وغيره عند جهال أهل السنة ، طهر الله أرض المسلمين من هذه الأوثان ، ومن جميع مظاهر الشرك .
(4) 119) الحميري / الروض المطار في خبر الأقطار ص 450 .(140/44)
فلما دار الذين استأجرهم للسرقة ، وأخذوا ما أخذوه ، تقدم إليه أصحاب الحاجيات يشكون إليه الأمر فقال : اذهبوا إلى أبى الهول الذي صنعته يخبركم بما تريدون ، وكان صد صنع تمثالاً من النحاس على صورة أبي الهول ، ووضع من داخله رجلاً يعرف أسماء السارقين ، والذين سرقت الأشياء من دكاكينهم ، فإذا جاء الرجل منهم وقص حكايته ، أجابه الرجل من داخل الصنم أن اذهب إلى بيت فلان تجد حاجتك ، وصحت أقاويله ، فهال الناس الأمر واعتقدوا في الخليفة أشكالاً وألوانًا ) (1).
وينقل الأستاذ محمد عبد الله عنان عن كتاب ( أخبار الدول المنقطعة ) عن الحاكم وعن خطته الدموية ما يأتي : ( وكان مؤاخذًا بيسير الذنب ، حادًا لا يملك نفسه عند الغضب ، فأفنى أمما وأباد أجيالاً ، وأقام هيبة عظيمة وناموسًا ، وكان يفعل عند قتله الشخص أفعالاً متناقضة وأعمالاً متباينة . وكان يقتل خاصته وأقرب الناس إليه ، فربما أمر بإحراق بعضهم ، وربما أمر بحمل بعضهم وتكفينه ودفنه وبنى تربة عليه ، وألزم كافة الخواص ملازمة قبره والمبيت عنده ، وأشياء من هذا الجنس يموه بها على عقول أصحابه السخيفة ، فيعتقدون أن له في ذلك أغراضًا صحيحة استأثر بعلمها وتفرد عنهم بمعرفتها ) (2).
__________
(1) 120) كريم ثابت / الدروز والثورة السورية ص 17.
(2) 121) محمد عبد الله عنان / الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية ص 59 .(140/45)
ومن حوادث القتل والسفك التي اقترفها الحاكم : ( أنه في سنة 399 هـ قبض على جماعة كبيرة من الغلمان ، والكتاب ، والخدم الصقالبة بالقصر ، وقطعت أيديهم من وسط الذراع ثم قتلوا . وقتل الفضل بن صالح (1)من أعظم قواد الجيش ، وفي العام التالي وقعت مقتلة أخرى بين الغلمان والخدم ، وقتل جماعة من العلماء السنية . وقبض على صالح بن علي الروذباري لأسابيع قليلة من عزله وقتل ، وعين مكانه ابن عبدون النصراني ، ثم صرف وقتل لأشهر قلائل ، وخلفه أحمد بن محمد القشوري في الوساطة والسفارة ، ثم صرف لأيام قلائل من تعيينه وضربت عنقه لأنه كان يميل إلى الحسين بن جوهر (2)ويعظمه .
__________
(1) 122) هو الفضل بن جعفر بن الفضل بن الفرات ، كان في أيام الحاكم بأمر الله ، وأمره بالجلوس للوساطة ، فجلس خمسة أيام وقتله سنة 405 هـ .
(2) 123) قائد القواد في أيام الحاكم ولاه القيادة سنة 390 هـ ، فأقام نحو ثلاث سنوات ، ثم هرب خوفا من بطش الحاكم ، حتى استطاع أن يظفر به وقتله سنة 401 هـ .(140/46)
وللحاكم قصة دموية مروعة مع خادمه ( غين ) وكاتبه ( أبي القاسم الجرجرائي ) (1)، وكان غين من الخدم الصقالبة الذين يؤثرهم الحاكم بعطفه وثقته ، فعينه في سنة 402 هـ للشرطة والحسبة ولقبه بقائد القواد ، وعهد إليه بتنفيذ المراسيم الدينية والاجتماعية ، وعهد بالكتابة إلى أبي القاسم الجرجرائي ، وكان الحاكم قد سخط على غين قبل ذلك ببضعة أعوام وأمر بقطع يده ، فصار أقطع اليد ، ثم سخط عليه كرة أخرى وأمر بقطع يده الثانية ، فقطعت وحملت إلى الحاكم في طبق ، فبعث إليه الأطباء للعناية به ووصله بمال وتحف كثيرة ، ولكن لم تمض أيام قلائل على ذلك حتى أمر بقطع لسانه ، فقطع وحمل إلى الحاكم أيضًا ، ومات غين من جراحه .
وأما أبو القاسم الجرجرائي فقد أمر الحاكم بقطع يديه لوشاية صدرت في حقه ، ولكنه أبقى على حياته ، وعاش أقطع اليدين ، وفي سنة 405 قتل الحاكم قاضى القضاة مالك بن سعيد الفارقي (2)، وقتل الوزير الحسين بن طاهر الوزان (3)، وعبد الرحيم بن أبي السيد الكاتب ، وأخاه الحسين متولي الوساطة والسفارة ، وقلد الوساطة فضل بن جعفر بن الفرات ، ثم قتله لأيام قلائل من تعيينه .
__________
(1) 124) علي بن أحمد الجرجرائي ، وزير ، وتنقل في الأعمال أيام الحاكم ، حتى قطع يديه سنة 404 هـ ، ثم ولي بعد ذلك ديوان النفقات سنة 406 هـ ولقب سنة 407 هـ نجيب الدولة ، توفي سنة 436 هـ .
(2) 125) من قضاة الديار المصرية ، ولاه الحاكم القضاء سنة 398 هـ ، ثم أضيف إليه النظر في المظالم سنة 401 هـ ، وعلت منزلته عند الحاكم ، واستمر في القضاء حتى 405 هـ حين ضرب الحاكم عنقه .
(3) 126) كان يتولى بيت المال في أوائل ملك الحاكم ، ثم ولاه الوزارة سنة 403 هـ ، وبينما كان مع الحاكم خارج القاهرة ضرب عنقه ودفنه في مكانه ، وكان ذلك سنة 405 هـ .(140/47)
وهكذا استمر الحاكم في الفتك بالزعماء ورجال الدولة والكتاب والعلماء حتى أباد معظمهم ، هذا عدا من قتل من الكافة خلال هذه الأعوام الرهيبة ، وهم ألوف عديدة . وتقدر الرواية المعاصرة ضحايا الحاكم بثمانية عشر ألف شخص من مختلف الطبقات ) (1).
وكان أشد الناس تعرضًا لهذه النزعات الدموية ، أقرب الناس إلى الحاكم من الوزراء والكتاب والغلمان والخاصة ، ولم يكن عامة الناس أيضًا بمنجاة منها ، فكثيرًا ما عرضوا للقتل الذريع لأقل الريب والذنوب أو لاتهامهم بمخالفة المراسيم والأحكام الشاذة التي توالي صدورها طوال حكمه ، وكان رجال الدولة ورجال القصر وسائر العمال والمتصرفين يرتجفون رعبًا وروعًا أمام هذه المذابح الدموية ، وكان التجار وذوو المصالح والمعاملات يشاطرونهم ذلك الروع .
__________
(1) 127) محمد عبد الله عنان / الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية ص 57 ، 58 .(140/48)
ويروي لنا المُسبِّحي (1)صديق الحاكم ومؤرخه فيما بعد ، أن الحاكم أمر سنة 395 هـ بعمل شونة كبيرة مما يلي الجبل ملئت بالسنط والبوص والحلفا (2)، فارتاع الناس وظنه كل من له صلة بخدمة الحاكم من رجال القصر أو الدواوين أنها أعدت لإعدامهم ، وسرت في ذلك إشاعات مخيفة . فاجتمع سائر الكتاب وأصحاب الدواوين والمتصرفون من المسلمين والنصاري في أحد ميادين القاهرة ، ولم يزالوا يقبلون الأرض حتى وصلوا القصر ، فوقفوا على بابه يضجون ويتضرعون ويسألون العفو عنهم ، ثم دخلوا القصر ورفعوا إلى أمير المؤمنين عن يد قائد القواد الحسين بن جوهر رقعة يلتمسون فيها العفو ، فأجابهم الحاكم على لسان الحسين إلى ما طلبوا ، وأمروا بالانصراف والبكور لتلقي سجل العفو .
واشتد الذعر بالغلمان والخاصة على اختلاف طوائفهم ، وتوالى صدور الأمانات لمختلف الطبقات ) (3).
هذه السجلات وأمثالها التي أصدرها الحاكم تدل على مدى خوف الناس من بطشه ، حتى التمسوا منه إصدار سجلات الأمان .
__________
(1) 128) هو محمد بن عبيد الله المسبحي ، مؤرخ وعالم بالأدب ، ولد بمصر سنة 366 هـ ، اتصل بخدمة الحكم ، وحظي عنده وولاه ديوان الترتيب ، له كتاب كبير في ( تاريخ المغاربة ومصر ) ويعرف بـ ( مختار المسبحي ) وكتب كثيرة أخرى ، توفي سنة 420 هـ .
(2) 129) الشونة : المخزن الكبير ، والسنط : نوع من الخشب يستعمل في البناء ، والحلفا : نبات طويل الورق تصنع منه القفف وينبت بالمستنقعات .
(3) 130) محمد عبد الله عنان / الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية ص 55 .(140/49)
ولا يوجد ثمة ريب في أن القتل كان في نظر الحاكم خطة مقررة ، ولم تكن فورة أهواء فقط ، وقد لزم الحاكم هذه الخطة طوال حياته ، وفي هذا المعنى يقول الكوثري : ( من علم أن مدة الحاكم هذا من سنة 386 هـ إلى سنة 411 هـ ، يرى الاعتذار عنه بأنه كان مجنونًا كلاما لا يلتفت إليه ، لأن من المحال في جاري العادة أن يستبقي حاكم وهو مجنون مدة خمس وعشرين سنة ) (1) .
وينقل الأستاذ محمد عبد الله عنان عن المستشرق ميللر في الحاكم ما يلي :
( وليس لدينا إلا أن نعتقد أنه إما باطني متعصب ، توهم في نفسه الإِغراق والألوهية ، وإما أمير ذكي بارع في تاريخ أسرته ومذهبها . اعتقد أنه يستطيع أن يسمو فوق البشر وأن يحتقرهم ويصنفهم كالشمع طوع إرادته ، وربما كان يجمع في طبيعته المتناقضة بين شيء من هذا وشيء من ذاك ) (2).
ولقد كانت معاملة الذميين من أهم ظواهر عصر الحاكم بأمر الله ، وكانت بلا ريب سياسة مقررة ، ولم تحمل في مجموعها طابع التناقض .
ففي سنة 395 هـ أصدر الحاكم أمره للنصارى واليهود بلبس الغيار ، وشد الزنار ، ولبس العمائم السود . وفي سنة 399 هـ أمر بهدم كنائس القاهرة ونهب ما فيها ، وصدر مرسوم خاص بهدم كنيسة القيامة في بيت المقدس . وفي العام التالي صدر مرسوم جديد بالتشديد على اليهود والنصارى في لبس الغيار وتقليد الزنار ، وألغيت الأعياد النصرانية كعيد الصليب والغطاس ، وعيد الشهيد (3).
__________
(1) 131) محمد زاهد الكوثري / من عبر التاريخ ص 9 .
(2) 132) محمد عبد الله عنان / الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية ص 96 .
(3) 133) الذي ألغاه الحاكم هو السماح لهم بجعل هذه الأعياد الخاصة بهم ، أعيادا شعبية يظهرون فيها التحدي للشعور الإسلامي العام من إظهار وشرب للخمر ورفع للصلبان ... إلخ ، والتي كان يسمح بها الحاكم ومن سبقه في الدولة العبيدية.(140/50)
وقد خفت هذه المعاملة للذميين تباعًا ، وخاصة قبل مقتل الحاكم سنة 411 هـ ، إذ أصدر عدة سجلات بإلغاء ما أصدره من قبل في حقهم . ومما يلحظ في هذا الصدد ، أن موقف الحاكم إزاء النصارى واليهود هو من المواقف القليلة التي ثبت فيها الحاكم على سياسة واحدة ، وأنه لم يجنح فيه من الشدة إلى اللين إلا في أواخر عصره ، حينما ظهر دعاة تأليهه ، يدعون إلى دين جديد وعقائد جديدة ) (1). فكان لابد من تغيير هذه المعاملة ، محاولة منه لاستمالتهم إلى ما تصبو إليه نفسه ؟ .
أما موقف الحاكم من أحكام وأركان الإسلام ، ( فقد أصدر سنة 400 هـ سجل بإلغاء الزكاة والنجوي ( أو رسوم الدعوة ) (2)، وأعيدت صلاة الضحى والتراويح ( بعد أن منعها ) . وفي بعض الروايات أنه حاول أن يعدل بعض الأحكام الجوهرية كالصلاة والصوم والحج ، وقيل إنه شرع في إلغائها ، أو أنه ألغاها بالفعل .
__________
(1) 134) محمد عبد الله عنان / الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية ص 78 – 71 و ص 92 .
(2) 135) يؤيد هذا ما ذكره الدكتور محمد كامل حسين معتمدا على رسائل الدروز أن بداية ادعاء الحاكم الألوهية كانت سنة 400 هـ.(140/51)
ومن ذلك أنه ألغى الزكاة كما رأينا ، وألغى صلاة الجمعة ( التي يصليها ) في رمضان ، وكذلك ألغى صلاته في العيدين ، وألغى الحج ، وأبطل الكسوة النبوية (1)، وفي سنة 395 هـ أمر بسب السلف ( أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة ومعاوية وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ) ، وكتب ذلك على أبواب المساجد ، ولاسيما جامع عمرو في ظاهره وباطنه ، وعلى أبواب الحوانيت والمقابر ، ولون بالأصباغ والذهب ، وأرغم الناس على المجاهرة به ونقشه في سائر الأماكن ) (2).
وقد أمر نائبه على دمشق أن يضرب رجلاً مغربيًا ، ويطاف به على حمار ، ونودي عليه : هذا جزاء من أحب أبا بكر وعمر ، ثم أمر به فضربت عنقه ) (3).
__________
(1) 136) إننا ونحن ننقل هذه الأشياء التي استنكرت من الحاكم ، لأنها كانت متبعة من قبله وألفها الناس ، من غير نظر لما فيها من مخالفات شرعية أو بدع ما أنزل الله بها من سلطان ، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى كساء يطرح على قبره الشريف . بل نهى صلى الله عليه وسلم عن كل ذلك ، ولو أن الحاكم امتنع عن هذه الأشياء اتباعا للدين وأوامره لمدحت منه ، غير أنه كان يفعلها ليخالف المألوف وينقض المعروف ، بناء على تصورين الأول ما ذكرته من أن هذا ليس اضطرابا بل خطه مقررة والثاني أن هذا اضطراب في عقله وتصرفاته لا يستغرب عنه .
(2) 137) محمد عبد الله عنان / الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية ص 76 ، 78 .
(3) 138) آدم متز / الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ج 1 ص 132.(140/52)
ولكنه في سنة 397 هـ أمر بمحو كل ما كتب على المساجد والدور وغيرها ، وفي سنة 401 هـ قرئ بجامع عمرو سجل بالنهي عن معارضة أمير المؤمنين ( الحاكم ) فيما يفعل أو يصدر فيه من الأمور والأحكام ، وترك الخوض فيما لا يعني . وكانت النفوس قد اضطربت من جراء هذه الأوامر والقيود المضنية ، وأمر في نفس السجل بإعادة ( حي على خير العمل ) في الأذان ، وإسقاط ( الصلاة خير من النوم ) (1)، والنهي عن صلاة التراويح والضحى ) (2).
وأما عن شغفه بالليل ، فقد كان من أظهر خواص هذا الدور من حكمه ، (( فقد كان يعقد مجالسه ليلاً ، ويواصل الركوب كل ليلة ، وينفق شطرًا كبيرًا من الليل في جوب الشوارع والأزقة .
وجنح الحاكم في تلك الفترة إلى نوع من التصوف المدهش (3)، فأطلق شعره حتى تدلى على أكتافه ، وأطلق أظافره ، واستعاض عن الثياب البيضاء بثياب سود ، فكان يرتدي جبة من الصوف الأسود العادي (4)، وقد لا يغيرها مدة طويلة حتى يعلوها العرق والرثاثة ، وقد يرتدي أحيانًا جبة مرقعة من سائر الألوان .
__________
(1) 139) الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعلها في الأذان الأول في الفجر ، ولم تستعمل في الأذان الثاني أو في الإقامة إلا بعد زمن طويل من وفاته صلى الله عليه وسلم.
(2) 140) محمد عبد الله عنان / الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية ص 66.
(3) 141) إن التصوف لم يكن في يوم من الأيام من شعائر الشيعة ، بل لا يكاد يوجد بينهم متوصف واحد ، ولعل ما يقصده الأستاذ محمد عبد الله عنان ، ما ظهر به الحاكم من لباس مخالف للمألوف وشكل غريب ، وهذا ما يظهر به المتصوفه في مصر وغيرها بثياب مخالفة للمألوف .
(4) 142) وهذا يدلنا على ما يتمسك به ( أجاويد ) طائفة الدروز حتى اليوم ، من لبس الثياب السوداء من القماش المعروف بـ ( كلمنظا ) وهو قماش قطني رخيص متين .(140/53)
وأضرب عن جميع الملاذ الحسية والنفسية ، واقتصر في طعامه على أبسط ما تقتضيه الحياة من القوت المتواضع . وفي سنة 405 هـ ازداد الحاكم شغفًا بالطواف في الليل ، فكان يركب مرارًا في اليوم ، بالنهار والليل ، وكان يقصد غالبًا إلى المقطم (1)حيث أنشأ له منزلاً منفردًا يخلو فيه إلى نفسه ويهيم في عوالمه وتصوراته ، ومرصدًا خاصًا يرصد منه النجوم ويستطلعها .
وكان يؤثر ركوب الحمير ، ولاسيما الشهباء منها ، ويخرج دون موكب ولا زينة ومعه نفر قليل من الركابية ، وكان يبدأ كعادته بالتجوال في شوارع القاهرة ، ويحادث الكافة ، ويستمع إلى ظلامات المتظلمين .
وقد انتهت إلينا أحاديث ونوادر كثيرة عن المناظر التي كانت تقترن بهذا الطواف ، وعما كان ينزع إليه الحاكم أحيانًا من الأهواء العنيفة خلال طوافه ، ومن ذلك أنه كان يأمر بإحراق الشونة ليتمتع بمرأى النيران ، وأنه لقى ذات مساء عشرة من الناس سألوه الإِحسان فأمر أن ينقسموا إلى فريقين يتقاتلان ، حتى يغلب أحدهما فينعم عليه ، فتقاتلا حتى فنى منهم تسعة وبقي واحد ، فألقى عليه الدنانير ، فلما انحنى ليأخذها عاجله الركابية بقتله .
وأنه مر ذات ليلة على دكان شواء ، فانتزع منه سكينًا وقتله بها أحد الركابية المقربين لديه بغير ما سبب معروف ، وقد تركت الجثة في موضعها ، وفي اليوم التالي أنفذ الحاكم إليه كفنًا جليلاً ، ودفن مع التكريم ) (2).
__________
(1) 143) بضم أوله ، وفتح ثانية ، وهو الجبل المشرف على القرافة ( مقبرة الفسطاط والقاهرة ) وهو جبل يمتد من أسوان وبلاد الحبشة على شاطيء النيل الشرقي ، حتى يكون منقطعه طرف القاهرة ، ويسمى في كل موضع باسم وعليه مساجد وصوامع للنصارى ، لكنه لا نبت فيه ولا ماء . انظر ياقوت الحموي في معجم البلدان ج 5 ص 176 .
(2) 144) محمد عبدالله عنان / الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية 62 ، 63 ، 87 ، 111 .(140/54)
(( ويحكى أنه عَنَّ له في أثناء ركوبه بالليل رأي سخيف ، فكان يأمر أحد رجاله بأن يأتي شيخًا خليعًا بمشهد منه ومن الجمع الحاضر ، ويضحك من هذا المنظر القبيح ويطرب له ) (1).
هذا بعض ما أورده المؤرخون عن الحاكم ، وما أوردناه لم يكن مجرد سرد تاريخي لحياة الحاكم ، ولكنه من صلب العقيدة التي نتحدث عنها وهي عقيدة الدروز ، حيث سترى بعد قليل أن هذه الوقائع التاريخية لحياة الحاكم كان لها أكبر الأثر في عقيدة هذه الطائفة ، لأنهم أولوا جميع هذه الأعمال الشاذة على أنها دليل على ألوهيته وربوبيته ، وليست كما يظهر لنا في الظاهر .
الدور الثالث : من سنة 408 – 411 هـ ( 1017 – 1021 م ) :
في رسالة ( مباسم البشارات ) التي كتبها الكرماني ، أحد أكابر الدعاة الإِسماعيليين في ذلك الوقت ، والتي جاءت بعد اضطراب الأحوال في مصر حينما وفد إليها – الكرماني – سنة 408 هـ ، إشارة واضحة إلى حالة الدعوة الإِسماعيلية ، فقد جاء فيها : ( بأن عهود الدعوة التي كانت قبل ذلك قد درست ، وأن مجالس الحكمة التأويلية أبطلت ، وتقلبت الأحوال بالناس ، فالعالي قد اتضع ، والسافل قد ارتفع ، والذين آمنوا بالدعوة الفاطمية اضطربت أحوالهم ، وكل واحد يرمي صاحبه بالإِلحاد ، وبعضهم غالى في رأيه ، والبعض الآخر خرج عن عقيدته .. إلى غير ذلك ) (2) .
__________
(1) 145) آدم متز / الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ج 2 ص 168 .
(2) 146) أورد الأستاذ مصطفى غالب الرسالة بأكملها في كتابه الحركات الباطنية في الإسلام من ص 205 : 233.(140/55)
فالصورة التي صورها الكرماني لهذا الاضطراب الذي ظهر في المجتمع كان بسبب ظهور دعوة جديدة تقول : بأن الحاكم بأمر الله ما هو إلا ناسوت للإِله ، ولاشك أن الدعاة الذين نادوا بهذه الدعوة الذين نادوا بهذه الدعوة الجديدة ، ظلوا يعملون لها مدة طويلة في الخفاء ، ويعدون عدتهم للظهور بها في الوقت الملائم ) (1).
لذلك نستطيع أن نقول : إن سلوك الحاكم ، إنما كان بتأثير فكرة الألوهية ، وأن كل ما صدر عن الحاكم بأمر الله من أعمال وأقوال ، إنما كان بدافع واحد هو تأليهه .
(( فالحاكم تولى مقاليد الحكم وهو صغير السن ، وقد أحيط بهالة خاصة مما أسبغته العقيدة الإِسماعيلية عن أئمتها ، فتأثر بهذه العقائد ، إلى جانب أنه رأى حاشيته ورعيته يسجدون له كلما مر بهم ، فشاع طموحه – وهو في مثل هذا السن الصغير – أن يكون إلهًا مثل الملوك الأقدمين – من الفراعنه - ، واختمرت هذه الفكرة في نفسه ، ولكنه لم يعلنها للناس ، ولعله أسر بها إلى بعض الدعاة حوله ، فتسابقوا إلى إشباع نزوته وتنميتها مع مرور الزمن )) (2).
(( وربما أوحى بعض الدعاة إليه بكل ما قام به من أعمال ، ولكن ليس لدينا من كتب التاريخ ما يؤيد أي افتراض ، والشيء المؤكد أن هذه السياسة التي اتبعها الحاكم كانت مقررة ، ليفهم من أفعاله أنه هو الخالق ، وأنه هو المحيي والمميت ، والرازق والوهاب ، إلى غير ذلك من أسماء الله الحسنى ، وصفاته العلى . فها هو الحاكم بأمر الله يسرف في القتل ليقال : إنه مميت ، ويرزق الناس ويهبهم ليقال : إنه رزاق وهاب ، ويعفو عمن يستحق القتل ليقال : إنه محيي )) (3).
__________
(1) 147) محمد كامل حسين / طائفة الدروز ص 75 .
(2) 148) أحمد الفوزان / أضواء على العقيدة الدرزية ص 23 .
(3) 149) محمد كامل حسين / طائفة الدروز ص 44 .(140/56)
ويؤيد هذا ما ورد في رسالة ( السيرة المستقيمة ) التي ألفها حمزة بن علي ، وجاء فيها : (( ولكني أذكر لكم في هذه السيرة وجوها قليلة العدد ، كثيرة المنفعة ، لمن تفكر فيها ، فأول ما أختصر في القول ما فعله المولى سبحانه مع برجوان وابن عمار ، وهو يومئذ ظاهر لا يراه العامة إلا على قدر عقولهم ، ويقولون صبي السن ، وملك المشارقة كافة مع برجوان ، ولابن عمار ملك المغاربة . فأمر مولانا بقتلهم فقتلوا قتل الكلاب ، ولم يخش من تشويش العساكر والاضطراب ، وأما أمر ملوك الأرض فما يستجري أحد منهم على مثل ذلك ، ثم أمر بقتل ملوك كتامة وجبابرتها بلا خوف من نسلهم وأصابهم ، ويمشي أنصاف الليالي في أوساط ذراريهم وأولادهم بلا سيف ولا سكين .
شاهدتموه في وقت أبي ركوة الوليد بن هشام الملعون ، وقد أضرم ناره ، وكانت قلوب العساكر تجزع في مضاجعهم مما رأوه من كسر الجيوش ، وقتل الرجال ، وكان المولي جلت قدرته يخرج أنصاف الليالي إلى صحراء الجب ، ويلتقي به حسان بن عليان الكلبي في خمسمائة فارس ، ويقف معهم بلا سلاح ولا عدة ، حتى يسأل كل واحد منهم عن صاحبه ، ثم إنه يدخل في ظاهر الأمر إلى صحراء الجب ، وليس معه غير الركابية والمؤذنين ... إلى أن يقول : ( إنكم ترون من أمور تحدث بما شاهدتموه من المولى ما لا يجوز أن تكون أفعال أحد من البشر ، لا ناطق ، ولا أساس ، ولا إمام ، ولا حجة ، فلم تزدادوا بذلك إلا عمي وقلة بصيرة ) (1) .
(( وقد بدأ ظهور المذهب الجديد ، حينما قام الدرَزي ( وهو أحد دعاة المذهب في أول ظهوره ) ، وأعلن الدعوة سنة 407 هـ ، ثم قام سنة 408 هـ ومعه خمسمائة من أصحابه وأتباعه بالحج إلى قصر الحاكم فهاجمهم الناس والجند ) (2).
__________
(1) 150) رسالة السيرة المستقيمة .
(2) 151) أحمد الفوزان / أضواء على العقيدة الدرزية ص 16 .(140/57)
والمؤرخون يذكرون ثلاثة من الدعاة الكبار الذين أسسوا هذا المذهب ، وهم : حمزة بن علي بن أحمد الزوزني ( الذي أصبح إمام المذهب فيما بعد ) ، ومحمد ابن إسماعيل الدرزي المعروف بـ ( نشتكين ) ، والحسن بن حيدرة الفرغاني المعروف بـ ( الأخرم أو الأجدع ) .
(( ويرجح الدكتور محمد كامل حسين أنهم كانوا جميعًا من حاشية الحاكم الذين لم يفارقوه مدة الوصاية عليه ، وخاصة حمزة بن علي ، الذي استأثر بكل شيء وبالتمجيد كله )) (1).
وقد وقع الخلاف بين حمزة ، والدرزي منذ ذلك الحين ، لتسرع الدرزي في الكشف عن المذهب الجديد ، ولذلك نجد أن حمزة عمد إلى إظهار دعوى ألوهية الحاكم سنة 408 هـ ، والتي يعتبرها الدروز أولى سني تقويمهم ، وبعد هذه الدعوى اضطربت الأحوال في مصر ، وهاجمت الناس هؤلاء الدعاة في كل مكان ، مما دفع الدرزي إلى الاحتماء في قصر الحاكم ، والهرب فيما بعد إلى الشام . واضطر حمزة بعد الذي حدث ، أن يغيب عن الأنظار في سنة 409 هـ ، والتي يعتبرها سنة غيبة .
__________
(1) 152) محمد كامل حسين / طائفة الدروز ص 75 .(140/58)
من كل هذا نرى أن الحاكم كان يقف من هذه الدعوة موقف التأييد والرعاية ، ويشد أزرهم ويمدهم بالمال والنصح ، ويسهر على حمايتهم من الناس ، ويقول حمزة في رسالة ( الغاية والنصحية ) مؤكدًا على حماية الحاكم له ولأتباعه ، عندما هاجمهم الناس والجند في المسجد الذي كان يحتمي فيه : ( وقد اجتمعت عند المسجد سائر الأتراك بالجيوش ، والزرد ، والخوذ ، والتحافيف ، ومن جميع العساكر والرعية زائدًا عن عشرين ألف رجل ، فقد نصبوا على القتال بالنفط ، والنار ، ورماة النشاب ، والحجار ، ونقب الجدار والتسلق إلى الحيطان بالسلالم يومًا كاملاً ، وجميع من كان معي في ذلك اليوم اثنتعشر (1)نفسًا ، منهم خمسة شيوخ كبار ، وصبيان صغار لم يقاتلوا ، فقتلنا من المشركين (2)ثلاث أنفس ، وجرحنا منهم خلقًا عظيمًا لا يحصى ، حتى طال على الفئة القليلة الموحدة القتال ، وكادت الأرواح تتلاشى وتبلغ التراق ، وخافوا كثرة الأضداد والمراق ، وغلبة المنافقين والفساق ، فناديتهم : معاشر الموحدين : اليوم أكملت لكم دينكم بالجهاد ، وأتممت عليكم نعمته والسداد ، وأرضى لكم التسليم لأمره بالجهاد ، وما يصيبنا إلا ما كتب الله علينا هو مولانا وعليه فليتوكل المؤمنون .
__________
(1) 153) هكذا وردت ، والصحيح ( اثنا عشر ) .
(2) 154) يقصد المسلمين .(140/59)
معاشر الموحدين قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون (1)، قاتلوا أقوامًا نكثوا أيمانهم يعني عهدهم وهموا بإخراج الرسول ، وهو قائم الزمان ، وهم بدؤوكم أول مرة ، يعني دفعة الجامع ، فلا تخشوهم فمولانا جل ذكره أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ، قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم وينصركم عليهم ويشفي صدور قوم مؤمنين .
فما استتميت (2)كلامي لهم ، حتى صار مولانا جل ذكره وتجلى للعالمين بقدرته سبحانه ، فصعقت من في السموات والأرض ، فانقلبوا المنافقين على أعقابهم خائبين ، فلمولانا الحمد والشكر أبد الآبدين ) (3).
ونستطيع أن نذهب إلى أبعد من ذلك ، فنقول : أن الحاكم كان يشرف على توجيه الدعوة ، ويشترك في تنظيمها وتغذيتها بطريقة فعلية ، وهذا ما يذكره لنا حمزة في رسائله ، فمثلاً في رسالة ( البلاغ والنهاية ) يقول ما يلي : ( تأليف عبد مولا جل ذكره ، هادي المستجيبين ، المنتقم من المشركين بسيف مولانا جل ذكره ، رفع نسختها إلى الحضرة اللاهوتية بيده في شهر المحرم الثاني من سنينه المباركة ) (4).
__________
(1) 155) يبدأ حمزة بإيراد هذه الآيات من سورة التوبة بشكل محرف وحسب ما يريد ويبغي والآيات الصحيحة هي كما يلي : ( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر أنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ، ألا تقاتلون قومًا نكثوا أيمانهم بعد عهدهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تحشوه أن كنتم مؤمنين . قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قومٍ مؤمنين ) . [ التوبة : 112 – 114 ] .
(2) 156) هكذا وردت والصحيح ( استتمت ) .
(3) 157) رسالة الغاية والنصحية .
(4) 158) رسالة البلاغ والنهاية .(140/60)
ويقول في رسالة ( الصبحة الكائنة ) ما يلي : ( فتأييد مولانا سبحانه واصل إلي ، ورحمته وأفضاله ظاهرة وباطنة علي ، وجميع أصحابي المستجيبين عزيزين مكرمين في الشرطة ، والولاية ، وأصحاب السيارات ، مقضون الحوائج دون سائر العالمين ، ورسلي واصلة بالرسائل والوثائق إلى الحضرة اللاهوتية التي لا تخفى عنها خافية ، لا في السر ، ولا في العلانية ، وقد أوعدني مولانا جلت قدرته في ظاهر الأمر مضافًا إلى مواعيده الحقيقة التأييدية ، وهو منجز مواعيده وقت يشاء كيف يشاء بلا تقدير عليه ) (1).
غير أن مطاردة دعاة الحاكم وتمزيقهم بهذه القسوة من الناس ، دون إكتراث لما أولاهم به من رعاية ظاهرة ، قد أثار في نفسه غضبًا على الجند والناس ، لأنهم تجارأوا على ذلك ، وعول على الانتقام لنفسه وللدعاة .
وينقل الأستاذ محمد عبد الله عنان عن الوزير جمال الدين في ( أخبار الدول المنقطعة ) تفصيلاً دقيقًا لما حدث فيقول : ( اعتزم الحاكم أن ينكل بمصر وأهلها ، فاستدعى العرفاء والقادة ونظم معهم خطة العمل ، وعهد إلى مقدمي العبيد وغيرهم من الطوائف بافتتاح الهجوم ، فأخذوا يغيرون على أحياء مصر في هيئة عصابات ، وينهبون الحوانيت والسابلة ، ويخطفون النساء من الدور ، والشرطة تغضي عن جرائمهم ، والحاكم معرض عن كل شكاية وتضرع ، وكان ذلك في جمادي الآخرة سنة 411 هـ .
ثم اتسع نطاق الاعتداء ، فهاجمت قوى العبيد والترك والمغاربة مصر من كل صوب ، وأضرموا النار في أطرافها ، وهب أهل مصر للدفاع عن أنفسهم ، واستمرت المعارك بين الفريقين ثلاثة أيام ، وألسنة اللهب تنطلق من المدينة القديمة إلى عنان السماء ، والحاكم يركب كل يوم إلى الجبل ، ويشاهد النار ، ويسمع الصياح ، ويسأل عن حقيقة الأمر ، فيقال له : إن العبيد يحرقون مصر وينهبونها ، فيظهر الأسف والتوجع ، ويقول : ومن أمرهم بهذا لعنهم الله ؟ ! .
__________
(1) 159) رسالة الصبحة الكائنة .(140/61)
وفي اليوم الرابع اجتمع الأشراف والكبراء في المساجد ورفعوا المصاحف وضجوا بالبكاء والدعاء ، فكف الأتراك والمغاربة عن متابعة الاعتداء ، واستمر العبيد في عدوانهم ، وأهل مصر يدفعونهم بكل ما استطاعوا . وطلب الأتراك والمغاربة إلى الحاكم أن يأمر بوقف هذا الاعتداء على أهل مصر ، وعلى أموالهم ، خصوصًا وأن لهم بين المصريين كثيرًا من الأصهار والأقارب ، ولهم في مصر كثير من الأملاك ، فتظاهر بإجابة مطلبهم ، ولكنه أوعز إلى العبيد أن يستمروا في القتال ، وأن يتأهبوا لمدافعة الترك والمغاربة، فاشتدت المعارك بين الفريقين ، ودافع الترك والمغاربة عن أهل مصر ، ومزقوا جموع العبيد ونكلوا بهم ، ثم هددوا الحاكم باقتحام القاهرة وحرقها ، إذا لم يوضع حد لتلك الجرائم ، فخشى الحاكم العاقبة ، وأمر العبيد بالتفرق ولزوم السكينة ، واعتذر لأشراف مصر وزعماء الترك والمغاربة عما وقع ، وتنصل من كل تبعة فيه ، وأصدر أمانًا لأهل مصر قريء على المنابر .
وسكنت تلكك الفتنة الشنعاء بعد أن لبثت الفسطاط بضعة أسابيع مسرحا لمناظر مروعة من السفك والعبث والنهب ، وأحرقت معظم شوارعها ومبانيها ، وخربت معظم أسواقها ، ونهبت ، وسبي كثير من نسائها ، واعتدى عليهن ، وانتحر كثير منهن خشية العار ، وتتبع المصريون أزواجهم وبناتهم وأمهاتهم وافتدوهن من الخاطفين ) (1).
__________
(1) 160) محمد عبد الله عنان - الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية ص 119 – 120 .(140/62)
وبأسلوب آخر ، يؤكد حمزة هذه الحوادث ، وأنها كانت انتقامًا لما حصل للدعاة من تنكيل وتمزيق ، فيقول في رسالة ( الرضى والتسليم ) : ( لأنه سبحانه أنعم عليكم ما لم ينعم على في الأدوار ، وأظهر لكم من توحيده وعبادته ، ما لم يظهره في عصر من الأعصار ، وأعزكم في وقت عبده الهادي ما لم يعز أحدًا في الأقطار ، ولم يكن لصاحب الشرطة والولاية والسيارات عليكم سبيل إلا بطريق الخير ، ثم إن المنافقين قتلوا من إخوانكم ثلاثة أنفر ، فأمر مولانا جل ذكره بقتل مائة رجل منهم ، والذي قال في القرآن النفس بالنفس لا غير فلم تشكروه على ذلك ، ولم تعبدوه حق ما يجب عليكم من عبادته ، ولم تكن نياتكم خالصة لوحدانيته ) (1).
ويحاول عدد من الكتاب المعاصرين ، الذين كتبوا عن الحاكم وعن الدروز ، أن ينفوا عن الحاكم كل هذه الأمور ، ويصوروها كأنها افتراءات من المؤرخين ، أو يجعلوا لها تبريرًا لا يستسيغه عقل ولا منطق .
من هؤلاء الكتاب الدكتور أحمد شلبي ، الذي حاول أن يصور أخبار شذوذ الحاكم واضطرابه ، على أنه اتفاق بين المؤرخين ، يأخذ الواحد قضية ، فيسلم بها الآخر ، وأن تاريخ الحاكم قد كتب أثر وفاته ، وقد عادت السلطة إلى من اضطهدهم ، الذين كان يهمهم أن يبرزوه معتوهًا أو مجنونًا أو مدعيًا للألوهية ، ليصرفوا الناس عن البحث عن القتلة الذين قتلوا الحاكم ؟! .
بل يحاول الدكتور شلبي أن يبرر كل تصرفاته ، حتى إنه يجعله مخلصًا لدولته كفؤا لحمل أعبائها ، وهو في القمة من المفكرين في إنشائه دار الحكمة (2).
ولا أدري على ماذا اعتمد الدكتور شلبي ، في دفاعه القوي عن الحاكم ، ولكن يبدو أن معلومات الدكتور فيليب حتي ، أقوى عنده من كل ما كتبه المؤرخون ؟!
__________
(1) 161) الرسالة الموسومة بالرضا والتسليم .
(2) 162) د. أحمد شلبي – التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ص 116 – 122 .(140/63)
وهناك قضية أخرى يحاول بعض الكتاب إيرادها ، وهي صلة الحاكم بحمزة بن علي وغيره من الدعاة ، وهذا ما يحاول الأستاذ عبد الله النجار (1)أن ينفيه في كتابه ( مذهب الدروز والتوحيد ) ، مع أن الدروز حتى الوقت الحاضر ينفون مثل هذه الأقوال ، ويعتبرونها تقويضًا للمذهب التوحيدي ، ففي كتاب ( أضواء على مسالك التوحيد ) يورد بايزيد في توطئته للكتاب ، وفي معرض رده على ما كتبه الأستاذ عبد الله النجار في كتابه يقول :
( ونرى المؤلف الكريم يسعى إلى التفرقة والفصل بين حمزة بن علي والحاكم بأمر الله ، وإنكار صلة الحاكم بالمذهب وانتسابه إليه . وفي ذلك ما فيه ، علاوة على نية تقويض أساس المعتقد العرفاني ، والمذهب التوحيدي ( أي الدرزية ) ، كما هو مشهور ومعلوم ، قد أخذ وغرف المحتوى الأخير لمنهجه ولعقيدته ودعوته من مجالس الحكمة ، التي كانت تعقد في حضرة مولانا الحاكم وتوجيهه ، وفي دار الحكمة التي أسسها على غرار أكاديمية أفلاطون عليه السلام ؟! ) (2).
__________
(1) 163) سياسي لبناني ، من طائفة الدروز ، تقلد عدة مناصب رفيعة في الدولة اللبنانية ، وألف كتابا عن الدروز أسماه ( مذهب الدروز والتوحيد ) ، حاول فيه أن يبين ويظهر عقيدة طائفته للناس والجهال طائفته ، ولكن الدروز ، وخاصة مشيخة العقل ، هاجموه بشدة ، وأتلفوا كتابه ، حتى طبع مرة ثانية في مصر ، ولكنهم عادوا وحاولوا جمع ما يستطيعون منه وإتلافه ، وأصدروا كتابا للرد عليه اسمه ( أضواء على سلك التوحيد ) للدكتور سامي مكارم ، ولم يكتفوا بذلك ، فاستغلوا أحداث لبنان الأخيرة وقتلوه غيلة عام 1978 م .
(2) 164) د . سامي مكارم / أضواء على مسلك التوحيد ( الدرزية ) ص 72 ، 73 .(140/64)
وهناك رسالة من رسائل حمزة ، عنوانها ( الرسالة المنفذة إلى القاضي أحمد بن العوام ) (1)، ( تثبت أن حمزة أصبح في مكانة استطاع منها أن يخاطب قاضي القضاة بمثل هذا الخطاب ) (2) ، ( وتدل على مدى المكانة التي بلغها حمزة في ذلك التاريخ ) (3)، ولو لم يكن وراء حمزة من يحميه ويدفع عنه الأذى ما كان يجرؤ على كتابة مثل هذا الخطاب ، يقول حمزة في هذه الرسالة : ( توكلت على أمير المؤمنين جل ذكره ، وبه أستعين في جميع الأمور ، معل علة العلل ، صفات العلة بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد أمير المؤمنين ومملوكه حمزة بن علي بن أحمد هادي المستجيبين ، المنتقم من المشركين بسيف أمير المؤمنين وشدة سلطانه ، ولا معبود سواه ، إلى أحمد بن محمد بن العوام ، الملقب بقاضى القضاة ، أما بعد :
__________
(1) 165) أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي العوام السعدي . قاضي مصر وبرقة وصقلية والشام والحرمين ، من فقهاء الحنابلة ، مصري ، ولي القضاء في أيام الحاكم بمصر سنة 405 هـ ، وفي أيامه غاب الحاكم ( أو قتل ) ، توفي سنة 418 هـ ، انظر الأعلام للزركلي ج 1 ص 104 .
(2) 166) د . محمد كامل حسين / طائفة الدروز ص 81 .
(3) 167) د . عبد الرحمن بدوي / مذاهب الإسلاميين ج 2 ص600 .(140/65)
فقد تقدمت لنا إليك رسالة نسألك عن معرفتك بنفسك ، فقصرت عن الإِجابة ، قلة علم منك بالحق وإهجانًا به ، وكيف يجوز لك أن تدعي هذا الاسم الجليل وهو قاضي القضاة ، وليس لك علم بحقائق القضايا والأحكام ، فقد صح بأنك مدع لما أنت فيه ، فيجب عليك أن تعلم نفسك وتدربها ، فإن كنت قد جهلتها فأنت فرعون الزمان ، وفعلك لاحق بعثمان بن عفان ، فيجب عليك أن تقلع عما أنت فيه ، وتتبع سير أصحابك المتقدمين أبي بكر وعمر (1) ، وتزيل تلثيمة البياض عن رأسك والعمامة والطيلسان ، وتلبس دنية سوداء بشقائق صفر طوال مدلاة على صدرك ، وتلبس درَّاعة بلا جيب ، بل تكون مشقوقة الصدر ، وتكون مرقعة بالأحمر ، والأصفر ، والأديم الأسود الطائفي ، وتكون قصيرة عليك لتلحق في الشكل بعمر بن الخطاب ، ويكون لك درة على فخذك لتقيم بها الحدود على من تجب عليه وأنت جالس في الجامع ، ويكون لك في كل سوق صاحب يتزيي بزيك وبيده درة يقيم بها في سوقه الحدود على من وجبت عليه مثل الزاني والسارق والقاذف وشارب الخمر ، ممن هو من أهل ملتك ، وتكون تتولى الخطبة بنفسك ، وتطلع على المنبر بلا سيف تتقلد به ، ويكون ممرك ومجيئك من دارك إلى الجامع ، وأنت ماش حافيًا لتكون في ذلك لاحقًا بأصحابك المتقدمين أبي بكر وعمر .
__________
(1) 168) والملاحظ هنا ، أن حمزة بن علي ، مع طعنه بعثمان بن عفان رضي الله عنه ، فقد طلب من هذا القاضي أن يتشبه في زيه وعلمه بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، ولا يخلو نصحه هذا من تبكيت وغمز بعمر وأبي بكر .(140/66)
وإياك ثم إياك أن تنظر لموحد في حكم لاأنت ولا عادلتك ، في شهادة نكاح ولا طلاق ، ولا وثيقة ، ولا عتق ، ولا وصية ، ومن جلس بين يديك على حكم فتسأل عنه أن يكون موحدًا فترسله إليّ مع رجالتك لأحكم أنا عليه بحكم الشريعة الروحانية (1)، التي أطلقها أمير المؤمنين سلامة علينا ، فانظر لنفسك فقد أعذرتك مرة بعد أخرى وأنذرتك ) (2).
وإلى هذه الرسالة يشير حمزة في رسالة ( البلاغ والنهاية ) فيقول : ( وقد أرسلت إلى القاضي عشرين رجلاً إلى الحضرة (3)اللاهوتية ، فأبى القاضي واستكبر ، وكان من الكافرين ، واجتمعت على غلماني ورسلي الموحدين لمولانا جل ذكره ، زهاء مائتين من العسكرية والرعية ، وما منهم رجل إلا ومعه شيء من السلاح فلم يقتل من أصحابي إلا ثلاثة نفر وسبعة عشر رجلاً من الموحدين ، في وسط مائتين من الكافرين (4)، فلم يكن لهم إليهم سبيل حتى رجعوا إلى عندي سالمين ) (5).
__________
(1) 169) ومن هنا يظهر أن حمزة بن علي فرق بين ( جماعته ) من جهة ، وبين السنة والشيعة من جهة أخرى ، وذلك من منعه للقاضي أن يقضي بين الموحدين .
(2) 170) الرسالة المنفذة إلى القاضي أحمد بن العوام .
(3) 171) هكذا وردت في المخطوط ، ولعله يقصد ( من ) .
(4) 172) ويبدو أنه يشير إلى ثورة الناس على أتباعه ، وقتلهم لهم ، والنجاء الباقي إلى الحاكم .
(5) 173) رسالة البلاغ والنهاية في التوحيد.(140/67)
وفي ختام هذا الفصل نقف وقفة طويلة مع رسالة حمزة بن علي بن أحمد الموسومة ( بكتاب فيه حقائق ما يظهر قدام مولانا جل ذكره من الهزل ) ، وقد رأيت أن أنقل هنا نص هذه الرسالة ، ليتبين لنا مدى تأثر العقيدة الدرزية بأفعال وأقوال الحاكم ، والتي يعتبرونها دليلاً على ألوهيته ، حيث تلمس لها حمزة تأويلات باطنية ، ( واتخذ منها دلالات على صدق ألوهية الحاكم ، وأن كل ما أتى به الحاكم هو رمز وإشارة وله تأويل باطني لا يفقهه الناس ) (1)، ولهذه الرسالة أهمية خاصة فيما يتعلق بتأييد الأخبار المروية في كتب المؤرخين عن أفعال الحاكم الغريبة ، إذ فيها تأييد لها وتوكيد ، ودليل قاطع على أن هؤلاء المؤرخين لم يفتروا شيئًا ولم ينقلوا إشاعات كاذبة ) (2).
وفيما يلي نص هذه الرسالة : ( الحمد لمولانا وحده ، وشدة سلطانه ، توكلت على مولانا الباري العلام العلي الأعلى ، حاكم الحكام ، من لا يدخل في الخواطر والأوهام ، جل ذكره عن وصف الواصفين وإدراك الأنام . بسم الله الرحمن الرحيم ، صفات عبده الإِمام ، الحمد والشكر لمولانا – جل ذكره – وبه أستعين في الدين والدنيا وإليه المعاد ، الذي يحي ويميت ، وهو الحي الذي لا يموت ، الذي هو في السماء عال ، وفي الأرض متعال ، حاكمًا ، عليه توكلت ، وبه أستعين ، وإليه المصير ، وهو المعين ، وصلوات مولانا جل ذكره وسلامه على الذي اصطفاه من خلقه واختاره من عبيده ، وجعلهم الوارثين لديار أعدائهم بقوته وسلطانه ، الحاكم ، القادر ، العزيز القاهر ، وهو على كل شيء قدير .
__________
(1) 174) د . محمد كامل حسين / طائفة الدروز ص 44 .
(2) 175) د . عبد الرحمن بدوي / مذاهب الإسلاميين ج 2 ص 757.(140/68)
أما بعد ، معاشر الإخوان الموحدين ، أعانكم المولى على طاعته ، إنه وصل إليّ من بعض الإِخوان الموحدين – كثر المولى عددهم وزكى أعمالهم ، وحسن نياتهم – رقعة يذكرون فيها ما يتكلم به المارقون من الدين ، الجاحدون لحقائق التنزيه ، ويطلقون ألسنتهم بما يشاكل أفعاله الردية ، وما تميل إليه أديانهم الدنية – فيما يظهر لهم من أفعال مولانا – جل ذكره – ونطقه ، وما ييجري قدامه من الأفعال التي فيها حكمة بالغة شتى فيما تغني النذر (1)، وتمييز العالم الغبي الذين من أعمالهم الهزل ، وأقوال فيها صعوبة وعدل ، ولم يعرفوا بأن أفعال مولانا – جل ذكره – كلها حكمة بالغة ، جدًا كانت أم هزلاً ، يخرج حكمة ويظهرها بعد حين ، ولو تدبروا ما سمعوه من الأخبار المأثورة عن جعفر بن محمد بن علي بن عبد مناف بن عبد المطلب (2): ( إياكم الشرك بالله والجحود له ، بما يختلج في قلوبكم من الشك في أفعاله كيفما كانت ، ولا تنكروا على الإِمام فعله ، ولو رأيتموه راكبًا قصبة ، وقد عقد ذيله خلف ثوبه ، وهو يلعب مع الصبيان بالكعاب ، فإن تحت ذلك حكمة بالغة للعالم وتمييزًا للمظلوم من الظالم ) .
__________
(1) 176) يشير إلى الآية الكريمة ( حكمة بالغة فما تغن النذر ) سورة القمر آية 5 .
(2) 177) والملاحظ هنا كيفية إيراده لنسب جعفر ، ونسبة على إلى جده عبد مناف ، وسنلاحظ أن جميع رسائله يذكر نسب على رضي الله عنه بهذا الشكل ؟! .(140/69)
فإذا كان هذا القول في جعفر بن محمد ، وجعفر وآباؤه وأجداده كلهم عبيد لمولانا جل ذكره ، فكيف أفعال من لا تدركه الأوهام والخواطر بالكلية ، وحكمته اللاهوتية التي هي من رموزات وإشارات لبطلان النواميس ، وهلاك الجواميش ، وتمييز الطواويس ، فلمولانا الحمد على ما أنعم به علينا بعد استحقاق نستحقه عنده ، وله الشكر على ما أظهر لنا من قدرته خصوصًا دون سائر العالمين إنعامًا وتفضلاً ، ونسأله العفو والمغفرة بما يجري منا من قبائح الأعمال وسوء المقال ، ونعوذ به من الشرك والضلال ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وهو العلي المتعال ، ولو نظروا إلى أفعال مولانا جلت قدرته بالعين الحقيقية ، وتدبروا إشاراته بالنور الشعشعاني ، لبانت لهم الألوهية والقدرة الأزلية ، والسلطان الأبدية ، وتخلصوا من شبكة إبليس وجنوده الغوية ، ولتصور لهم ركوب مولانا – جل ذكره – وأفعاله ، وعلموا حقيقة المحض في جده وهزله ، ووقفوا على مراتب حدوده ، وما تدل عليه ظواهر أموره ، جل ذكره وعز اسمه ولا معبود سواه .
فأول ما أظهر من حكمة ما لم يعرف له في كل عصر وزمان ، ودهر وأوان ، وهو ما ينكره العامة من أفعال الملوك : من تربية الشعر ، ولباس الصوف ، وركوب الحمار بسروج غير محلاة لا ذهب ولا فضة .
والثلاث خصال معنى واحد في الحقيقة ، لأن الشعر دليل على ظواهر التنزيل ، والصوف دليل على ظواهر التأويل ، والحمير دليل على النطقاء ( الأنبياء ) (1)، بقوله لمحمد : ( يا بني أقم الصلاة وآت الزكاة ، وأمر بالمعروف ، وانه عن المنكر ... ، إن ذلك من عزم الأمور . ولا تصعر خدك للناس ) (2)، ( ولا تمش في الأرض مرحًا ، إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ) (3).
__________
(1) 178) يطلق حمزة غالب على الأنبياء هذا الاسم ؟! .
(2) 179) سورة لقمان آية 17 ، 18 ، وقد أنقص من الآية الأولى بعد ( انه عن المنكر ) ( واصبر على ما أصابك ) وزاد ( وآت الزكاة ).
(3) 180) الإسراء : 37 .(140/70)
كل ذلك كان عند ربك محذورا ، وانقص من مشيك ، ( واغضض من صوتك ، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) (1).
والعامة (2)يرون أن هذه الآية حكاية عن لقمان الحكيم لولده ، فكذبوا وحرفوا القول ، إنما هو قول السابق ، وهو سلمان ، وإنما سمي الناطق ولده لحد التعليم والمادة ، إذ كان سائر النطقاء والأوصياء أولاد السابق المبدع الأول ، وهو سلمان ، فقال لمحمد :
( أقم الصلاة ) إشارة إلى توحيد مولانا جل ذكره ، ( وآت الزكاة ) يعني طهرقلبك لمولانا جل ذكره ولحدوده ودعاته . ( وأمر بالمعروف ) وهو توحيد مولانا جل ذكره ، ( وانه عن المنكر ) يعني شريعته وما جاء به من الناموس والتكليف ، ( إن ذلك من عزم الأمور ) يعني الحقائق وما فيها من نجاة الأرواح من نطق الناطق ، ( ولا تصعر خدك للناس ) وخده وجه السابق ، وتصغيره ستره فضيلته ، ( ولا تمش في الأرض مرحًا ) والمرح هو التقصير واللعب في الدين ، والأرض هاهنا هو الجناح الأيمن ، والأيمن هو الداعي إلى التوحيد المحض ، ( إنك لن تخرق الأرض ) يعني بذلك ، لن تقدر عليك تبطيل دعوة التوحيد ، ( ولن تبلغ الجبال طولا ) والجبال هم الحجج الثلاثة الحرم ، ورابعهم : السابق الذي يعبده العالم دون الثلاثة .
__________
(1) 181) سورة لقمان آية 19 ، غير أن كلامه هنا يخالف نص القرآن الكريم في سورة لقمان بقوله تعالى : { يا بني أقم الصلاة ، وأمر بالمعروف ، وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك أن ذلك من عزم الأمور ، ولا تصعر خدك للناس ، ولا تمش في الأرض مرحا ، إن الله لا يحب كل مختال فخور ، واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } . سورة لقمان ، آيات 17 ، 18 ، 19 .
(2) 182) إن لفظ العامة عند إطلاقه عند عموم الشيعة يقصد به أهل السنة ، ويقابله عندهم عن أنفسهم لفظ الخاصة .(140/71)
وأجلهم الحجة العظمي ، واسمه في الحقيقة : ذومعة ، لأن قلبه وعى التوحيد والقدرة من مولانا جل ذكره بلا واسطة بشرية ، ( وانقص من مشيك ) (1)يعني اخفض من دعوتك في الظاهر ، الذي يمشي في العالم مثل دبيب النملة السوداء على المسح الأسود في الليلة الظلماء ، وهو الشرك بذاته .
مثل النار إذا وقعت في التبن لا يشعر بضوئها إلا بعد هلاكه ، كذلك محبة الشريعة والإِصغاء إلى زخرفه ، والتعلق بناموسه ، يعمل في الأعضاء ويجري في العروق ، كما قال بلسانه وقوة بأسه وسلطانه ، ولطافه تجري في العروق مجاري الدم حتى يتمكن في القلب ويغري سائر العالمين .
وقال الناطق : (2) ( ما زج حبي دماء أمتي ولحومهم ، فهم يؤثرونني على الآباء والأمهات ) ، فرأينا الخبرين واحدا معناهما . وقد قال القرآن : ( قل أعوذ برب الناس ) (3) ورب الناس هاهنا هو التالي ، وهو في عصر محمد : المقداد (4)، ( ملك الناس إله الناس ، من شر الوسواس الخناس ) (5)يعني زخرف الناطق ، ( الذي يوسوس في صدور الناس ) (6)، يعني الدعاة والمأذونين والمكاسرين ، حتى يردهم عن توحيد مولانا الحاكم بذاته ، المنفرد عن مبدعاته ، جل ذكره .
__________
(1) 183) حرفت الآية الكريمة والأصل ( واقصد في مشيك ) .
(2) 184) يعني محمد صلى الله عليه وسلم .
(3) 185) الناس : 1 .
(4) 186) هو المقداد بن عمرو ، ويعرف بابن الأسود ، صحابي ، من الأبطال ، وهو أحد السبعة الذين كانوا أول من أظهر الإسلام وهو أول من قاتل على فرس في سبيل الله ، شهد بدرا وغيرها ، وسكن المدينة وتوفي فيها سنة 33 هـ .
(5) 187) الناس آيات 2 – 4 .
(6) 188) الناس آية 5.(140/72)
والذات هو لاهوته الحقيي ، الذي لا يدرك ولا يحس ، سبحانه وتعالى . ( واغضض من صوتك ) يعني بذلك اخفض وانقص واستر نطقك بالشريعة ( إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) يعني الدعوة الظاهرة ، ( لصوت الحمير ) : يعنى بذلك أشر كلام وأفحشه نطق الشرائع المذمومة في كل عصر وزمان ، فمنهم تظهر الشكلية والضدية والجنسية .
فأظهر مولانا جل ذكره لبس الصوف ، وتربية الشعر وهو دليل على ما ظهر من استعمال الناموس الظاهر ، وتعلق أهل التأويل بعلي بن أبي طالب وعبادته .
وركوب الحمير دليل على إظهار الحقيقة على شرائع النطقاء ، وأما السروج بلا ذهب ولا فضة فدليل على بطلان الشريعتين : الناطق والأساس (1).
واستعمال حلي الحديد على السروج دليل على إظهار السيف على سائر أصحاب الشرائع وبطلانهم . واستعمال الصحراء في ظاهر الأمر ، وخروج مولانا جل ذكره في ذلك اليوم من السرداب إلى البستان ، إلى العالم دون سائر الأبواب .
والسرداب والبستان الذي يخرج مولانا جل ذكره منهما ليس لأحد إليهما وصول ، ولا له بهما معرفة ، إلا أن يكون كمن يخدمهما أو خواصهما . وهو دليل على ابتداء ظهور مولانا سبحانه بالوحدانية ومباشرته بالصمدانية بالحدين اللذين كانا خفيين عن سائر العالمين ، إلا لمن يعرفهما بالرموز والإِشارات ، وهما الإِرادة والمشيئة ، كما قال : ( إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون ، فسبحان الذي بيده ... كل شيء وإليه ترجعون ) (2)، والإرادة هي ذومعة ، والمشيئة تالية ، كما قال : ( وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ) (3)، فليس يعرفهما إلا الموحدون لمولانا جل ذكره .
__________
(1) 189) يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
(2) 190) يس آية 82 ، وقد أسقطت من الآية كلمة ( ملكوت ) قبل ( كل شيء ) .
(3) 191) ... الإنسان 30 ، سورة التكوير آية 29 .(140/73)
ومن السرداب يخرج إلى البستان ، كذلك العلم يخرج من ذي معة إلى ذي مصة ، الذي هو بمنزلة الجنة صاحب الأشجار والأنهار ، ثم يخرج منها إلى المقس (1)، فأول ما يلقى بستان برجوان (2)، وهو المعروف بالحجازي ، فلا يدخله ، ولا يدور حوله في مضيه ، وهو دليل على الكلمة الأزلية .
ثم يمضي إلى البستان المعروف ( بالدكة ) وهي دليل على السابق ، وهو دكة العالم ، وعلومهم منهم ، وهذا البستان المعروف بالدكة ، على شاطيء البحر ، وكذلك علم التأويل ممثوله البحر ، والمستجيب للعهد إذا بلغ علم السابق ومعرفته ، حسب أنه قد بلغ الغاية والنهاية في العبادة .
وبستان الدكة ، مع جلالته ، ملاصق لموضع الفحشاء والمنكر ، دون سائر البساتين ، دليل على أن علم السابق واصل بالنطقاء ، الذين هم معادن النواميس الفانية الحشوية ، والأعمال الفاحشة الدنية .
والمقس دليل على الناطق ، وما في المقس من الفحشاء والمنكر دليل على شريعته ، والنساء الفاسدات اللواتي فيه ، دليل على دعاة ظواهر شريعته ، وارتكابهم الشهوات البهيمية في طاعته .
ثم إنه علينا سلامه ورحمته ، يخرج إلى الصناعة (3)ويدخل من بابها ، ويخرج من الآخر . والصناعة دليل على صاحب الشريعة ، والصناعة ممنوعة من دخول العالم فيها والخروج لإضافة الشريعة ، فدخول مولانا جل ذكره فيها من باب وخروجه من باب ، دليل على تحريم الشريعة وتعطيلها .
__________
(1) 192) مكان في الجهة الغربيه للقاهرة ، وكانت بساتين يحدها من الغرب النيل ، وفيه جامع المقس ، واسم المقس يطلق على المكس ، والمقسم ، وأم دنين أيضا ، وهي واقعة على شاطيء النيل .
(2) 193) بستان برجوان ، ويقصد برجوان الصقلبي الخادم ، وحامل المظلة للحاكم ، وقد قتله الحاكم وكان له بستان يعرف ببستان برجوان .
(3) 194) يقصد دار الصناعة .(140/74)
ثم إنه – علينا سلامه ورحمته – يدور حول البستان المعروف بالحجازي ، وهو دليل على الكلمة الأزلية ، والدوار حوله بلوغ إلى الكشف بلا سترة تحوط بالدين ، ثم إنه – جل وعز سلطانه – يبلغ إلى القصور ، وهما قصران عظيمان خرابان دليل على بطلان الشريعة وخرابها .
ثم إنه – علينا سلامه ورحمته – يدخل من باب البستان المعروف بالمختص ، وهو دليل على التالي ، إذ كان التالي مختصًا بعلمه الأساسي والتأويل . وأكثر العالم يميلون إليه ، وهو هيولي العالم الجرماني .
ومن الشيعة من يعتقد ويعبد التالي ، ومن الشيعة من يقول بأن التالي مولانا ، وهذا هو الكفر والشرك . وإنما هو التالي الذي عجز الناس عن معرفته ، وهو الجنة المعروفة بالمختص ، متصلة بالجنة المعروفة بالعصار . والعصار دليل على الناطق ، لأنه يعصر علم التالي فيخرج منه الحقيقة والتوحيد ، فيكتمه عن العالم الغبي ويظهر لهم الثفل ، وهو الكسب (1)الذي لا ينتفع به غير البهائم .
كذلك البستان المعروف بالعصار ، وهو خراب من الفواكه والأشجار والرياحين والأثمار ، وبستان المختص عامر بالفاكهة والأزهار ، والرياحين والأشجار ، ومنه يخرج الماء إلى الحوض الذي تشرب منه البهائم . والماء هو العلم ، والحوض هو المادة الجارية من التالي ، والدواب هم النطقاء والأسس . كذلك العلم يخرج من التالي إلى الأساس في كل عصر وزمان ، والسابق ممد الناطق ، ومن الفاتق إلى الراتق ، ومن السابق إلى الطالب الطارق .
__________
(1) 195) وهي التفل الذي يتخلف عن المواد التي تعصر مثل السمسم والقمح وبذر القطن ، وما شابه ذلك ، وتقدم علفا للبهائم ، وقد جرى الآن تجفيفها بطرق صناعية ، وأصلها فارسية ( كشب ) ، قال في لسان العرب هي عصارة الدهن ، غير أن المعروف الآن ما ذكر أولاً .(140/75)
وهذان البستانان بين المسجدين المعروفين بمسجد تبر (1)، ومسجد ريدان (2)، فمسجد ريدان محاذي بستان العصار ، ومسجد تبر محاذي بستان المختص .
ومسجد تبر دليل على الناطق ، والتبر دليل على الذهب ، والذهب دليل على إذهاب شريعته ، وهذا المسجد لم تصل فيه صلاة جماعة قط ، دليل على أن ليس للناطق ولا لمن تبعه اتصال بالتوحيد .
ومسجد ريدان ، دليل على حجة الكشف القائم بالسيف والعنف ، الداعي إلى التوحيد المنكر عند سائر العالمين ، كما نطق عبد مولانا جل ذكره في القرآن على لسان الناطق السادس ( يوم يدع الداع إلى شيء نكر ) (3)، وهو عبادة مولانا جل ذكره وتوحيده ، الذي أنكره سائر النطقاء والأسس أئمة الكفر ، كما قال عبد مولانا – جل ذكره – في كتابه ( قاتلوا أئمة الكفر ، إنهم لا أيمان لهم ، لعلهم ينتهون ) (4).
أراد لا أيمان لهم بمعرفة مولانا – جل ذكره – والإِيمان هو التسديق ( التصديق ) (5).
وتوحيد مولانا – جل ذكره – صعب مستصعب ، لا يحمله نبي مرسل ، ولا وصي مكمل ، ولا إمام معدل ، ولا ملك مفضل . بل يحمله قلب صاف لبيب ، أو موحد راغب من الأديان والطرائق ، وعبد مولى الأساس والناطق ، ومبدع التالي والسابق الحاكم على جميع النطقاء والشرائع ، المنفرد عن جميع المخلوقات والبدائع .
__________
(1) 196) مسجد قرب القاهرة بجانب منطقة ( المطرية ) ، وينسب إلى تبر الأخشيدي ، الذي ثار على كافور الأخشيدي ، ودفن في هذا المسجد .
(2) 197) الراجح أن نسبة هذا المسجد إلى ريدان ، الوزير الذي ولاه الحاكم الوزارة .
(3) 198) ... القمر : 6.
(4) 199) التوبة : 12.
(5) 200) وجدت على هامش إحدى المخطوطات بخط الأستاذ زهير الشاويش – في مكتبته الخاصة – ( أن كتابة الدروز الكلمة التصديق بالسين بدلا من الصاد في كل كتبهم مرتبط عندهم بحساب ( الجمل ) المستعمل عندهم وعند بعض المتصوفة لأغراض لا مجال لذكرها .(140/76)
ولكل شيء ضد بين يديه ، فبإزاء الباطل ، الذي هو جنة العصار ، وهو دليل على الناطق حتى يرفع وهو مسجد ريدان ، وهو ذومعة ، وبإزاء الحق الذي هو جنة المختص وهو التالي باطل يطلب فساده ، وهو مسجد تبر ، وهو الناطق ، والمولى جل ذكره ينصر أولياءه ، ويهلك أعداءه ، ويتم نوره ولو كره المشركون المتعلقون بعلي بن عبد مناف (1)، والكافرون المتعلقون بالناطق وعدمه .
وريدان خمسة أحرف ، دليل على خمسة حدود ، النفسانيين ، والنورانيين ، والروحانيين ، والجرمانيين ، والجسمانيين . وهو ذومعة العقل الكلي النفساني ، وذومصة ، النفس الروحاني والجناح الرباني ، والأيمن الباب الأعظم ، وهو السابق والتالي ، معدن العلوم ومنه ابتناؤها .
وريدان كلمتان ، ( ري ) و ( دان ) ، و ( ري ) الأشياء وهم الحجج والدعاة والمأذونين والمكاسرين ، كما قال عبد مولانا جل ذكره ( وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) (2)، الأشياء الحقيقية ، والذي الأزلي ، والتوحيد الأبدي على يد ريدان ، يوم الدين ، وهو عبد مولانا ومولى الخلق أجمعين ، جل ذكره ، وعز اسمه ، ولا معبود سواه ، سبحانه جل وعلا أن يكون ديان أو سلطان أو برهان أو الله أو الرحمن ، إذ كان الكل عبيده في سائر الأدوار ، المستغفرين له في الليالي والأسحار ، العابدين له طوعًا وكرهًا في العيان ، سبحانه عن إدراك الأوهام والخواطر ، أو يعرف الإِعلان والسرائر ، أو بباطن أو بظاهر ، إذ كان لا يدرك بعض ناسوته ، وقدرة مقام جبروته ، وعظم جلال لاهوته .
__________
(1) 201) يلاحظ هنا أنه نسب عليا إلى جده .
(2) 202) يس : 12 .(140/77)
وما من المساجد مسجد سقطت قبته ، وهو المسجد بكماله غير مسجد ريدان ، فأمر مولانا سبحانه وتعالى بإنشاء قبته ، وزاد في طوله وعرضه وسموه دليل على هدم الشريعة الظاهر على يد عبده الساكن فيه (1). وإنشاء توحيد مولانا جل ذكره فيه بالحقيقة ظاهرًا مكشوفًا ، وابتداء الشريعة الروحانية في بسيط روحاني توحيدي لاهوتي حاكمي لا يعبدون غيره وحده ، ولا يشركون به أحدًا في السر والإِعلانية ، سبحانه وتعالى عما يقول المشركون علوًا كبيرًا (2) .
ثم إن مولانا علينا سلامه ورحمته ، ظهر لنا في الناسوت البشرية ، ونزوله عن الحمار إلى الأرض ، وركوبه محاذي باب المسجد ، دليل على تغيير الشريعة ، وإثبات التوحيد ، وإظهار الشريعة الروحانية على يد عبده حمزة بن علي بن أحمد ، ومملوكه وهادي المستجيبين المنتقم من المشركين ، بسيف مولانا وشدة سلطانه ، وحده لا شريك له .
ووقوفه في ظاهر الأمر ، وحاشاه من الوقوف والسير والجلوس والنوم واليقظة ، ( لا تأخذه سنة ولا نوم ، له ما في السموات وما في الأرض ) يعني النطقاء والأسس ، ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) يعني من ذا الذي يقدر على إطلاق داع أو مأذون إلا بمشيئته ، ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) يعني من آدم إلى محمد بن إسماعيل ، ( ولا يحيطون بشيء من علمه ) يعني حجته ، ( إلا بما شاء ) وهو المشيئة أعظم الدرجات ، ( وسع كرسيه السموات والأرض ) والكرسي هو التأييد الذي يصل إلى الحدود العالية ، ( ولا يؤوده حفظهما ) وهما الجناح الأيمن والجناح الأيسر ، ( وهو العلي العظيم ) (3)العالي على كل من تقدم ذكره ومن تأخر ممن ينتظرهم الشيعة المشركون .
__________
(1) 203) كان حمزة يسكن في هذا المسجد .
(2) 204) يقصد الآية الكريمة ( سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ) سورة الأسراء آية 17 .
(3) 205) سورة البقرة آية 255 ( وهي آية الكرسي ) ، وقد أسقطت كلمة ( عنده ) في قوله تعالى ( من ذا الذي يشفع عنده ).(140/78)
وكان وقوفه عند الميل (1)، والميل دليل على التأييد ، إذ كانت الأميال يستدلون بها على الطريق ، كذلك التأييد بطرق العبد من المعبود ، ويعود إلى الوجود ، ونزوله إلى الأرض محاذي باب المسجد إشارة منه إلى عبد باب حجابه على خلقه ، والداعي إليه بتأييده وأمره ، إذ كان التأييد هو الأمر العالي الذي يكون بلا واسطة بشريه ، والباب دليل على الحجة .
ونزوله عن الحمار إلى الأرض وركوبه آخر كان في نفس آذان الزوال ، وصلاة الزوال دليل على الناطق ، وتغيير مولانا جل ذكره الحمار في نفس وقت الأذان ، دليل على إزالة الظاهر .
ويكون اعتمادهم من موضع تغييره ، وهو يسمى المقام المحمود ، والمشهد الموجود ، والمنهل العذب المورود إلى قصر مولانا الحاكم بذاته ، وهو المقام المحمود ، محاذي باب شريعة روحانية وعلوم حاكمية ، وأنا أذكرها لكم في غير هذا الكتاب إن شاء مولانا ، وبه التوفيق في جميع الأمور ، ولا حول ولا قوة إلا به ، وهو حسبي ونعم النصير المعين .
ثم إن مولانا علينا سلامه ورحمته ، لابد له في كل ركبة من الإِعادة إلى البساتين المعروفين بالمقس ، دليل على إظهار النشوء الثالث الخارج من الكفر والشرك ، وهما الظاهر والباطن ، وهو توحيد مولانا جل ذكره .
ودخوله إلى القصر من الباب الذي يخرج منه ، والسرداب بعينه دليل على إثبات الأمر ، وكشف الطرائق بكتب الوثائق ، ورجوع الأمر إلى ما منه بدأ روحانية غير تكليفية ، ولا ناموسية شيطانية ، ولا زخرف هامانية ، أعاذنا المولى وإياكم من الشك فيه ، والشرك به بمننه وفضله ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
__________
(1) 206) منار يبنى للمسافر في أنشاز الأرض وأشراقها ، وقيل للأعلام المبنية في طريق مكة أميال لأنها بنيت على مقادير مدى البصر من الميل إلى الميل ، وكل ثلاثة أميال منها فرسخ . انظر لسان العرب ج 11 ص 639 .(140/79)
وأما نزوله في ظاهر الأمر إلى مصر ، وما شاهدناه ، ففيها تمكن الشيطان الغوي لعنه الله من قلوب العامة الحشوية (1)، والعقول السخيفة الشرعية مما يسمعون من ألسن الركابية قدام مولانا جل ذكره بما يستقر في عقولهم السخيفة من كلام الهزل والمزاح ، ولم يعرفوا أن فيه ( حكمة بالغة فما تغني النذر ) (2) .
فأول مسيره إلى المشاهد الثلاثة ، وليس فيها آذان ولا إقامة ولا صلاة جماعية ، إلا في الأوسط الذي هو المنهج الأقوم ، والطريق الأسلم التي من سلكها نجا ، ومن تخلف عنها هلك وغوي .
ثم إنه علينا سلامه ورحمته ، يسير إلى راشده (3)، أيضًا ثلاثة مساجد متفاوتات في بنيانها ، وأحسن ما فيهم وأعلاهم وأفضلهم ، الذي يصلي الخطيب فيه يوم الجمة ، وتصلي فيه خمس صلوات على دائم الأيام ، وهو الوسطاني ، وهو دليل على توحيد مولانا جل ذكره ، وإثبات خمسة حدود علوية فيه ، وهو دليل على حجة الكشف .
والمسجدان اللذان معه متفاوتان في البناء ، دليل على الناطق والأساس ، وكذلك الناطق في ترتيب حدوده ، أفضل من الأساس ، والأساس أعظم شأنًا في ترتيب الباطن ورموزه من الناطق في المعقولات والبيان ، فلما ظهر التوحيد زالت قدرتها جميعا ، وسميت ( راشدة ) لأن بمعرفة الحجة وهدايته ، والأخذ منه يرشد المستجيبون ويبلغون نهاية توحيد مولانا جل ذكره .
__________
(1) 207) هذا التعبير يستعمله الشيعة ، ويقصدون به ذكر أهل السنة ، وقد تبعهم على ذلك من غير وعي بعض الكتاب في القديم والحديث .
(2) 208) سورة القمر آية 5 .
(3) 209) يقصد جامع راشدة ، وهو الذي بناه الحاكم ، على القرب من ( الرصد ) ، وكان قبل ذلك جانب المكان الذي بني عليه جامع راشدة ، جامع بهذا الاسم ، ولما بني هذا الجامع سمي بهذا الاسم ، وهو نسبة إلى قبيلة عربية اسمها ( راشدة ).(140/80)
ثم إن علينا سلامه ورحمته ، يدور حول هذا المسجد الوسطاني في ظاهر الأمر دليل على التأييد لعبده ، وقدام المسجد عقبة صعبة الصعود لمن يسلكها ، وليس إلى القرافة (1)محجة إلا على هذه العقبة دليل على البراء من الأبالسة ، أصحاب الزخرف والناموس وليس للعالم نجاة إلا بالبراءة منهم ، كما أن المحجة على هذه العقبة ، وهي صعبة مستصعبة لكن فيها افتكاك الرقبة ، وهو التخلص من الشريعتين الظاهر والباطن .
أما ما يرونه من وقوفه في الصوفية ، واستماعه لأغانيهم ، والنظر إلى رقصهم ، فهو دليل على ما استعمل من الشريعة التي هي الزخرف واللهو واللعب ، وقدرنا هلاكهم .
وأما بئر الزئبق ، فهو دليل على الناطق ، من فوقه واسع ، ومن أسفله ضيق ، كذلك الشريعة دخولها سهل واسع ، والخروج منها صعب ضيق ، لكن من يقفز في هذا البئر ويعرف سره ويقف على معناه ، ويريد المولى نجاحه خرج من بابه ، وهو دليل على أساسه ، والوقوع في الشريعة لابد منه حتما لزما لكل أحد ، ويخلص المولى من يشاء برحمته منها ، كما قال الناطق في القرآن ( وإن منكم إلا واردها ) (2)يعني السابق ، ( حتمًا مقضيا ) ، ( ثم ينجي الذين اتقوا ) من الناطق ( ويذر الظالمين ) يعني أهل الظاهر ، ( فيها جثيا ) (3)يعني حيران حزينًا دائمًا .
__________
(1) 210) وهي مقبرة القاهرة ، وتسمى بهذا الاسم .
(2) 211) مريم : 71 .
(3) 212) يشير إلى الآية الكريمة ( ثم ننجي الذين اتقوا ، ونذر الظالمين فيها جثيا ) ، سورة مريم 72 .(140/81)
ومن خرج من هذا البئر سالمًا أخذ من الحكام ما يستنفع به ، كذلك من كان تحت الشريعة وعلم التأويل ورموزه وتخلص من شبكتيهما جميعًا وعلم ما يراد منه ، وصل إلى التوحيد ، واستنفع بدينه ودنياه ، ومن قفز فيهما : ... لا قوة ، وهما السابق والتالي انكسرت رجلاه واندق عنقه ، دليل على أن من انقطع من السابق والتالي الذين هما الأصلان المحمودان وخالفهما ( خسر الدنيا والآخرة ، ذلك الخسران المبين ) (1).
وأما بئر الحفرة ، فهو دليل على الأساس ، وهو أشد عذابًا من بئر الزئبق ، وأتعب خرجا ، لأن من اعتقد الظاهر ، وهي الشريعة ، إذ بلغ الباطن اعتقد أنه ليس فوق الأساس شيء ، وأنه الغاية والمعبود ، فيبقى في العذاب الأبدي ، إلى أن يريد المولى منجاته ، فيحتاج الداعي أن يتعب معه من قبل أن يكسره ويجبره ويخرجه مما هو عليه من الكفر والشرك .
وأما لعب الركابية بالعصي والمقارع (2)، قدام مولانا جل ذكره فهو دليل على مكاسرة أهل الشرك والعامة وتشويههم بين العالم ، وإظهار أديانهم المغاشم ويكشف زيفهم باستجرائهم على المخاطبة بحضرته .
أما الصراع ، فهو دليل على مفاتحة الدعاة بعضهم لبعض ، وقد كان للعالم في قتل سويد والحمام عبرة لمن اعتبر ، ونجاة من الشرك لمن تدبر ، لأنهما كانا رئيسين في الصراع ، ولكل واحد منهما عشيرة وأتباع وهما دليلان على الناطق والأساس ، وقتلهما دليل على تعطيل الشريعتين التنزيل والتأويل ، والهوان بالطائفتين أهل الكفر والتلحيد .
__________
(1) 213) سورة الحج آية 11 ، وقد أسقط كلمة ( هو ) بعد كلمة ( ذلك ) .
(2) 214) يقول الأستاذ زهير الشاويش عن هذا : ( أنه من الأعمال التي مازالت حتى اليوم في مصر ويسمى ( الضرب بالشوم ) ويشبه إلى حد ما ، ما يسمى في الشام بلعب ( الحكم ) .(140/82)
وأما ما ذكره الركابية من ذكر الفروج والأحاليل ، فهما دليلان على الناطق والأساس ، وقوله : ( أرني قمرك ) يعني اكشف عن أساسك وهو موضع يخرج منه القذر ، دليل على الشرك فإذا كشف عن أساسه وأخرج قبله ، أي عبادة أساسه ، نجا من العذاب والزيغ في اعتقاده ، ومن شك هلك . كما أن الإِنسان إذا لم يبل ولا يتغوط أخذه القولنج فيهلك .
والنار ها هنا علم الحقيقة وتأييده جل ذكره فيحرق ما أتت به الشريعتان ، كما أنهم يحرقون فروج بعضهم بعضًا في النار ، دليل على احتراق دولتهما وانقضاء مدتهما ، وإظهار توحيد مولانا جل ذكره بغير شاك فيه ، لا يشرك به لا ناطق جسماني ، ولا أساس جرماني ، ولا سابق روحاني ، ولا تال نفساني ، ولا يبقى لمنافق جولة ، ولا لمشرك دولة ، ويكون أولو الأمر منكم وأهل الحساب منكم والمتصوفون في جميع الدواوين منكم ، والعمال منكم ، ويكون الموحدون لمولانا جل ذكره في نعيم دائم وإحسان غانم ، وملك قائم ... فعليكم معاشر الإخوان الموحدين لمولانا جل ذكره ، العابدين له وحده دون غيره بالحفظ لإِخوانكم ، والتسليم لمولانا جل ذكره ، والرضا بقضائه في السراء والضراء ، تنجوا من عذاب الدين وشقوة الدنيا ، بمنة مولانا وقوته ) (1).
وهكذا نرى أن حمزة لم يأت بجديد في موضوع ألوهية الحاكم ، وإن فاق الكثير دهاء ومكرا وعداوة للإِسلام ، وتلاعبًا بالألفاظ وتآويل حلزونية .
وحمزة بعد هذا كله لم يأت بدليل على ألوهية الحاكم ، إذ لينه وتواضعه وكرمه دليل على اللاهوت ، وشجاعته وشدته دليل أيضًا ، بل سدل شعره وارتداؤه الصوف واللعب بالاحليل والفرج دليل كذلك .
__________
(1) 215) كتاب فيه حقائق ما يظهر قدام مولانا جل ذكره من الهزل .(140/83)
وهكذا فإن الإِنسان العاقل وهو يقرأ هذه السخافات لا يستطيع إلا أن يرثي لحال هؤلاء الذين – لا يزال حمزة – يلعب بعقولهم فيؤمنون بأقواله وسخافاته ... ويقف حائرًا أو حزينًا أمام هذه الأقوال ( المقدسة عندهم ) وإلى تبتر الخيط الرفيع بين الدرزي والإِسلام ؟ ! .
*****
الفصل الثاني
تطوير المذهب الدرزي بعد الحكم
أشرنا فيما تقدم إلى شغف الحاكم بالطواف بالليل ، ولاسيما في جنبات جبل المقطم ، وكان يتوغل في الجبل ، ( وفي ليلة الاثنين 27 شوال سنة 411 هـ ( 1021 م ) خرج الحاكم كعادته للطواف – في الجبل ، وليس معه أحد إلا ركابي وصبي ) (1).
ولكن الحاكم لم يعد ، وأرجح الروايات أن أخته ست الملك قد دبرت اغتياله ، وكما يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي ( فقد دفعها إلى تدبير اغتياله أمران :
1 – أنها لما رأت أعمال الحاكم الشنيعة ، خافت أن يخرب بيت الخلافة الفاطمية على يديه ، فقد كرهته قبيلة كتامة صاحبة الفضل الأكبر في قيام الدولة الفاطمية في المغرب ، والتي كانت لها مكانة عالية في مصر بعد فتحها ، بسبب إعدامه لكثير من وجهائها ، وحده من نفوذها ، كما كرهه أهل مصر لتصرفاته الشاذة ، وكرهه الجند أيضًا بسبب تصرفاته مع قوادهم ، ومعهم أنفسهم .
2 – أنها خافت على نفسها من بطشه ، إذ اتهمها بسوء سلوكها مع الرجال ، وما أيسر أن ينفذ وعيده لها ، لهذا آثرت أن تقضي عليه قبل أن يقضي عليها ) (2) .
__________
(1) 216) ابن كثير : البداية والنهاية مجلد 6 ، ج 12 ، ص 10 .
(2) 217) د . عبد الرحمن بدوي : مذاهب الاسلاميين مجلد 2 . ص 609.(140/84)
وتؤكد الروايات التاريخية هذين الأمرين ، ومما أورده المؤرخون ما نقله ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة عن ابن الصابيء : ( أن الحاكم لما بدت عنه هذه الأمور الشنيعة استوحش الناس منه ، وكان له أخت يقال لها ست الملك ، من أعقل النساء وأحزمهن ، فكانت تنهاه وتقول : يا أخي ، احذر أن يكون خراب هذا البيت على يديك . فكان يسمعها غليظ الكلام ويتهددها بالقتل ، وبعث إليها يقول : رفع إلي أصحاب الأخبار أنك تدخلين الرجال إليك وتمكنينهم من نفسك ، وعمل على إنفاذ القوابل لاستبرائها ، فعلمت أنها هالكة ) (1).
ويضيف ابن الجوزي في المنتظم : ( وراسلت ست الملك قائدًا يقال له : ابن دواس ( من شيوخ كتامة ) ، كان شديد الخوف من الحاكم أن يقتله ، فقالت : إني أريد أن ألقاك ، إما أن تتنكر وتأتيني ، وإما أن أجيء أنا إليك فجاءت إليه ، فقبل الأرض بين يديها وخلوا ، فقالت له : لقد جئتك في أمر أحرس نفس ونفسك ، فقال : أنا خادمك ، فقالت : أنت تعلم ما يعتقده أخي فيك ، وأنه متى تمكن منك لم يبق عليك ، وأنا كذلك ، ونحن معه على خطر عظيم ، وقد انضاف إلى ذلك ما قد تظاهر به ، وهتكه الناموس الذي قد أقامه آباؤنا ، وزيادة جنونه ، وحمله نفسه على ما لا يصبر المسلمون على مثله ، فأنا خائفة أن يثور الناس علينا فيقتلوه ويقتلونا وتنقضي هذه الدولة أقبح القضاء . قال : صدقت فما الرأي ؟ قالت : تحلف لي وأحلف لك على كتمان ما جرى بيننا من السر وتعاضدني على ما فيه الراحة من هذا الرجل ، فقال لها : السمع والطاعة ، فتحالفا على قتله وأنهما يقيمان ولده مقامه ، وتكون أنت صاحب جيشه ومديره ، وقالت : اختر لي عبدين من عبيدك تثق بهما على سرك وتعتمد عليهما في مهمك ) (2).
__________
(1) 218) ابن تغرى بردي : النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة . ج 4 . ص 186 .
(2) 219) ابن الجوزي : المنتظم في تاريخ الملوك والأمم . ج 7 . ص 298 ، 299 .(140/85)
ويقول ابن كثير : ( فجهز من عنده عبدين أسودين شهمين ، وقال لهما : إذا كانت الليلة الفلانية فكونا في جبل المقطم ، ففي تلك الليلة يكون الحاكم هناك في الليل لينظر في النجوم ، وليس معه أحد إلا ركابي وصبي ، فاقتلاه واقتلاهما معه ، واتفق الحال على ذلك ... وفي تلك الليلة ركب وصحبه صبي وركابي ، وصعد الجبل المقطم فاستقبله ذانك العبدان فأنزلاه عن مركوبه وقطعا يديه ورجليه ، وبقرا بطنه ، فأتيا به مولاهما ابن دواس ، فحمله إلى أخته فدفنته في مجلس دارها ، واستدعت الأمراء والأكابر والوزير وقد أطلعته على الجلية ، فبايعوا لولد الحاكم أبي الحسن علي ، ولقب بالظاهر لإعزاز دين الله ) (1).
__________
(1) 220) ... ابن كثير : البداية والنهاية مجلد 6 ، ج 22 ، ص 10 .(140/86)
ولكن ابن الأثير يقول : ( أنه توجه إلى شرقي حلوان (1)ومعه ركابيان فأعادت أحدهما مع جماعة من العرب إلى بيت المال ، وأمر لهم بجائزة ، ثم عاد الركابي الآخر ، وذكر أنه خلفه عند العين والمقصبة . وبقي الناس على رسمهم يخرجون كل يوم يلتمسون رجوعه إلى سلخ شوال ، فلما كان ثالث ذي القعدة خرج مظفر الصقلبي ، صاحب المظلة وغيره من خواص الحاكم ، ومعهم القاضي ، فبلغوا عفان (2)، ودخلوا إلى الجبل ، فبصروا بالحمار الذي كان عليه راكبًا ، وقد ضربت يداه بسيف وعليه سرجه ولجامه ، فاتبعوا الأثر ، فانتهوا به إلى البركة التي شرقي حلوان ، فرأوا ثيابه ، وهي سبع قطع صوف وهي مزررة بحالها لم تحل ، وفيها أثر السكاكين فعادوا ولم يشكوا في قتله ) (3).
وينفي المقريزي هذه الروايات ويقول : ( وقيل أن أخته قتلته ، وليس بصحيح ) (4).
ويروي أيضًا عن المسبحي : ( وفي محرم سنة خمس عشرة وأربعمائة قبض على رجل من بني حسين ثار بالصعيد الأعلى فأقر بأنه قتل الحاكم بأمر الله في جملة أربعة أنفس تفرقوا في البلاد وأظهر قطعة من جلدة رأس الحاكم ، وقطعة من الفوطة التي كانت عليه ، فقيل له : لم قتلته ؟ فقال : غيرة لله وللإِسلام ، فقيل له : كيف قتلته ؟ فأخرج سكينًا ضرب بها فؤاده فقتل نفسه ) (5).
__________
(1) 221) قرية من أعمال مصر ، بينها وبين الفسطاط نحو فرسخين ، مشرفة على النيل ، وكان أول من اختطها عبد العزيز بن مروان لما ولي مصر . انظر معجم البلدان ، ج 2 ، ص 293 .
(2) 222) الظاهر أن المقصود هو الدير الذي في أعلى الجبل ، وهو مطل على الصحراء والنيل واسمه دير القصير ( المكان المعروف قرب حلوان ) .
(3) 223) ابن الأثير / الكامل في التاريخ مجلد 9 ص 314 .
(4) 224) المقريزي : الخطط المقريزية ، ج 3 ص 253 .
(5) 225) المقريزي : الخطط المقريزية . ج 3 ، ص 253.(140/87)
ولما طويت صفحة الحاكم ، واستقر في الأذهان مصرعه ، وصفا جو الريبة التي ثارت حول اختفائه ، أخذ الظاهر بوحي عمته ست الملك ، في نقض سياسة أبيه تباعا ، فألغى أحكام التحريم التي أصدرها الحاكم ، وطورد الملاحدة أصحاب حمزة والمنادون بألوهية الحاكم في عهده بمنتهى الشدة ، وقبض على زعمائهم وشيعتهم ، وقتل كثيرون منهم ، وصدرت الأوامر بتتبعهم في سائر الأنحاء وهرب زعيمهم حمزة بن علي .
أما الدروز فيقولون بغيبة الحاكم ، وهذا يتمشى مع اعتقادهم أن الألوهية قد حلت في ناسوته : وكان لاختفاء الحاكم على هذا النحو فرصة لإِذكاء دعوتهم وتغذيتها ، واتخذوا من هذا الاختفاء وظروفه الغامضة مستقى جديدا لدعوتهم . فزعموا أن الحاكم لم يقتل ولم يمت ، ولكنه اختفى أو ارتفع إلى السماء ، وسيعود عندما تحل الساعة فيملأ الأرض عدلاً ، وأصبح هذا الادعاء أصلاً مقررًا من أصول عقيدتهم .
ويوجد بين رسائل الدروز رسالة عنوانها ( السجل الذي وجد معلقًا على المشاهد في غيبة مولانا الإِمام الحاكم ) ، وتاريخها في شهر ذي القعدة سنة 411 هـ ، أي بعد اختفاء الحاكم بأيام قلائل .
( وتبدأ الرسالة بـ ( التوبة ) إلى الله تعالى ، وإلى وليه وحجته على العالمين ، وخليفته في أرضه ، وأمينه على خلقه أمير المؤمنين ) ... إلى أن تقول : وأنه قد سبق إليكم ، أعني إلى الناس من الوعد والوعظ والوعيد من ولي أمركم ، وإمام عصركم ، وخلف أنبيائكم ، وحجة باريكم ... إلخ ) (1).
ويقول الدكتور عبد الرحمن بدوي عن هذا السجل : ( ونحن نعتقد أن هذا السجل ليس من وضع حمزة بن علي ، لأنه يخالف كل العقائد التي دعا إليها حمزة ، - وذلك لأمرين - :
__________
(1) 226) نسخة السجل الذي وجد معلقا على المشاهد في غيبة مولانا الإمام الحاكم .(140/88)
1 – فهو ينعت الحاكم بأنه ( ولي أمركم ، وإمام عصركم ، وخلف أنبيائكم ) ، وأنه ولي الله و ( خليفته في أرضه ) و ( أمير المؤمنين ) ، وهذه الصفات تتنافي مع ما ذهب إليه حمزة في رسائله ، وخصوصًا في ( ميثاق ولي الزمان ) حيث نعت الحاكم بأنه ( مولانا الأحد ، الفرد الصمد ) .
2 – إن هذا السجل يمجد في الحاكم بأمر الله أنه أحيا ( سنة الإِسلام والإِيمان ) التي هي الدين عند الله ، وبه شرفتم وظهرتم في عصره على جميع المذاهب والأديان ... فدخلوا في دين الله أفواجًا ، وبنى الجوامع وشيدها ، وعمر المساجد وزخرفها ، وأقام الصلاة في أوقاتها ، والزكاة في حقها وواجباتها ، وأقام الحج والجهاد ، وعمر بيت الله الحرام ، وأقام دعائم الإِسلام ) :
فكيف يتفق تمجيد الحاكم بسبب أحيائه سنن الإِسلام ، والسهر على أركانه ، مع ما يذهب إليه حمزة بن علي في ( ميثاق ولي الزمان ) من أن يدخل في ديانة التوحيد التي دعا إليها ، فعليه أن يتبرأ من جميع المذاهب والمقالات والأديان والاعتقادات كلها ) (1).
وأرى أن هذا السجل ، لا يمكن أن يكون من وضع حمزة أو أحد دعاته ، لأنه في الواقع ينفي كل ما ذهب إليه الدروز في اعتقاداتهم بأن الحاكم هو الإِله ، وليس الإِمام أو الخليفة ، وكما سنرى في الفصول القادمة ، فإن هذه الألقاب لا يجوز أن يوصف بها الحاكم .
ويرى الدكتور عبد الرحمن بدوي أيضًا : ( أن صاحب المصلحة في ذلك ، كان أصحاب السلطة والوزراء ، أو من شابههم ، وذلك حتى يكون إعلانًا عامًا للناس ، وطمأنة لهم ، وتخويفًا في نفس الوقت ، خصوصًا وأن الناس يكرهون الحاكم ، وأنه قد يحدث بعد وفاته اضطراباً في الأمن واختلالاً في أحوال الدولة ) (2).
__________
(1) 227) د . عبد الرحمن بدوي : الإسلاميين ، ج 2 ، ص 620 ، 621 .
(2) 228) د . عبد الرحمن بدوي : مذاهب الإِسلاميين مجلد 2 ، ص 623 .(140/89)
وإلى جانب هذا السجل ، هناك رسالة أخرى كتبها أحد أكابر الدعاة وأحد الحدود الخمسة عند الدرز ، وهو المقتني بهاء الدين (1)وعنوانها ( رسالة الغيبة ) .
يقول فيها : (( معشر الموحدين ، إذا كنتم تتحققون أن مولاكم لا تخلو الدار منه ، وقد عدمته أبصاركم ... وإذا فسدت المعدة ضرت البصر ، فهكذا إذا كانت المادة واصلة إلى النفوس الصحيحة ، فينظروا صورة الناسوت نظرًا صحيحًا ، وإذا كانت المادة من فعل الأبالسة ومادة النطقاء والأسس وشرائعهم ، فيفسد النظر ، وما ينظر إلا بشر ... ثم يقول : ألم تعلموا أن مولاكم يراكم من حيث لا ترونه .
معشر الإخوان ، أحسنوا ظنكم بمولاكم يكشف لكم عن أبصاركم ما قد غطاها من سوء ظنكم ) (2).
( وهذا وقد مضى إلى اليوم عشرة قرون ، ولا يزال الدروز يؤمنون برجعته ويرقبونها ، ولم يحدد لنا الدعاة متى تكون هذه الرجعة ؟ ولكن يقولون :
إنه متى حلت الساعة ، يقوم جند الموحدين من ناحية الصين ، ويقصدون إلى مكة في كتائب جرارة ، وفي غداة وصولهم يبدو لهم الحاكم على الركن اليماني من الكعبة ، وهو يشهر بيده سيفا مذهبا ، ثم يدفعه إلى حمزة بن علي فيقتل به الكلب والخنزير وهما عندهم رمز الناطق والأساس .
__________
(1) 229) ستأتي ترجمته عند حديثنا عن أشهر دعاة الدروز في الفصل القادم.
(2) 230) ... رسالة الغيبة .(140/90)
ثم يدفع حمزة السيف إلى محمد ( الكلمة ) وهو أحد الحدود الخمسة عندهم ، وعندئذ يهدم الموحدون الكعبة ، ويسحقون المسلمين والنصارى في جميع أنحاء الأرض ، ويملكون العالم إلى الأبد ، ويبسطون سلطانهم على سائرالأمم ، ويفترق الناس عندئذ إلى أربع فرق ، الأولى : الموحدون ، والثانية : أهل الظاهر وهم المسلمون واليهود ، والثالثة : أهل الباطن وهم النصارى والشيعة ، والرابعة : المرتدون وهم الجهال (1)، ويعمد حمزة إلى أتباع كل طائفة غير الموحدين ، فيدمغهم في الجبين أو اليد ، بما يميزهم من غيرهم ، ويفرض عليهم الجزية وغيرها من فروض الذلة والطاعة ) (2) . وكما يزعم جنبلاط فإن هذا الدور سيكون في حدود سنة ( 2000 م ) ، حيث سيكون بتحلٍ إلهي حر بفتح الطريق للناس من جديد للإِيمان بالحاكم (3).
وفي رسالة ( الإعذار والإِنذار ) يصرح حمزة فيها بأنه الإِمام وأنه سيغيب أيضا ، على أن يرجع مرة أخرى بعد قليل ، ويصرح بهاء الدين المقتني أنه عندما غاب المعبود ( أي الحاكم ) ، امتنع قائم الزمان ( أي حمزة ) عن الوجود ، فمن ذلك كله نقول : إن حمزة خاف على نفسه بعد اختفاء الحاكم ، واختفى هو الآخر .
__________
(1) 231) وهو القسم الثاني من الدروز ، حيث ينقسمون إلى عقال وجهال ، والعقال بيدهم كل أسرار المذهب الدرزي ، والجهال لا يعرفون شيئا من هذا .
(2) 232) محمد عبد الله عنان : الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية ، نقلا عن مخطوط بدار الكتب المصرية عن طوائف لبنان تحت رقم 16 ( ص 147 ، 148 ) .
(3) 233) كمال جنبلاط / هذه وصيتي ص 50 .(140/91)
وقد قام بأمر الدعوة في غيبة حمزة ، الداعي بهاء الدين أبو الحسن على بن أحمد السموفي ، المعروف بالضيف ، لأن مرتبته في الدعوة هي مرتبة الجناح الأيسر أو التالي ، وهذه المرتبة يكون صاحبها لسان الدعوة ، واستمر بهاء الدين الضيف يحمل عبء هذه الدعوة ، ويكتب رسائله إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الدخول في مذهبه ، كما كتب إلى الذين خرجوا عن المذهب بعد أن كانوا من دعاته أمثال سكين (1).
وقد كثرت الآراء الجديدة من معتنقي المذهب الجديد ، مما جعل بهاء الدين يهدد أتباعه باعتزال الدعوة ، وبالفعل اعتزلها سنة 434 هـ ، بعد أن أقفل باب الاجتهاد ، حرصًا على المباديء التي وضعها حمزة والتميمي وبهاء الدين نفسه ، ولذلك لم يظهر مشرعون بعد بهاء الدين ، بل أصبح شيوخ الدروز يشرحون رسائل حمزة والتميمي وبهاء الدين ) (2).
__________
(1) 234) أحد دعاة الدروز ، والذي أصدر بهاء الدين كتابا بتقليده ، ثم انقلب بعد ذلك عليه ، حيث ادعى أنه الحاكم بأمر الله وذلك بعد مقتل الحاكم بمدة طويلة ، وهذا بسبب الشبه الظاهري بينهما ، مما جعل بهاء الدين يتبرأ منه ويذمه .
(2) 235) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 83 ، 84 .(140/92)
تلك هي نظرية دعاة الدروز ومزاعمهم في غيبة الحاكم وفي رجعته ، ولم يجد أصحاب هذه الدعوة ملجأ لها ، إلا وادي التيم في الشام بعد انهيار دعوتهم في مصر ، وحاولوا بشروحهم ومزاعمهم الجديدة أن يستبقوا ولاء شيعتهم وأنصارهم هنالك ، من قبيلة تنوخ وغيرهم الذين استمالهم الدرزي عندما هرب من بطش الجند والناس في مصر ، ومازالت بقيتهم إلى يومنا هذا ، ( وهم طائفة الدروز حيث يعيشون الآن لبنان وسوريا وفلسطين ) (1)، في مجتمع مغلق على نفسه بسرية تامة ، فلا يسمحون لأي إنسان أن يعتنق مذهبهم أو أن يتعرف أحد على مبادئه ، فلا جدوى عندهم أن تعرض على أي كادر أن يصبح درزيًا ، فكل إنسان يظل على ما هو عليه ، لأن الروح الدرزية تنتقل بعد الموت وتتقمص في جسد درزي آخر (2).
هذا وقد ظهر بين الدروز في القرن التاسع الهجري ( الخامس عشر الميلادي ) ، أي بعد قيام الدعوة الدرزية بأكثر من أربعة قرون ونصف ، عالم درزي اسمه الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي (3)، والذي تذكر عنه الروايات أنه كان صالحًا فقيهًا حاول أن يعيد الدروز إلى الإسلام من جديد ، وذلك بدعوتهم لقراءة القرآن وبناء المسجد والقيام بأركان الإسلام ، ولكن يبدو أن ثمرة جهوده قد اندثرت بعد وفاته وعاد الدروز إلى ما كانوا عليه .
__________
(1) 236) سليم أبو إسماعيل : الدروز – وجودهم ومذهبهم وتوطنهم ، ص 41 – 45 .
(2) 237) كمال جنبلاط / هذه وصيتي ص 54 .
(3) 238) يقول الأستاذ زهير الشاويش عن التنوخي : ( هو المعروف عندهم بالسيد ، وقبره ظاهر في بلدة ( عبية ) ، في جنوب عالية وسوق الغرب في جبل لبنان ) .(140/93)
وقد عثرت على مخطوط عنوانها ( رسالة في معرفة سر ديانة الدروز ) ومؤلفها مجهول ، ويبدو أنها كتبت قبل فترة ليست بالطويلة ، وذلك من خلال أسلوبها ولهجتها اللبنانية ، وسنورد بعض المقتطفات فيها هنا ، وهي تبين لنا بشكل واضح أهم معتقدات الدروز وتطورها بعد مقتل الحاكم ، والرسالة كتبت على طريقة السؤال والجواب كما يلي :
س : أدرزي أنت ؟
ج : نعم بنعمة مولانا الحاكم سبحانه .
س : ما هو الدرزي ؟
ج : هو الذي كتب الميثاق بعد مولانا الخالق .
س : ماذا فرض عليكم ؟
ج : صدق اللسان ، وعبادة الحاكم ، وباقي الشروط السبعة .
س : بماذ تعرف أنك درزي موحد ؟
ج : بأكل الحلال ، وترك الحرام .
س : ما هو الحلال والحرام ؟
ج : الحلال هو مال العقال ، والفلاحين ، وأما الحرام فمال الحكام والمرتدين .
س : كيف ومتى كان ظهور مولانا الحاكم ؟
ج : كان في السنة الأربعمائة من الهجرة الإسلامية (1).
س : وكيف ظهر وقال . أنه من نسل محمد حتى أنه أخفى لاهوته ولِمَ أخفاه ؟
ج : لأن عبادته كانت قليلة والذين يحبونه ليسوا كثيرين .
س : ومتى ظهروأشهر لاهوته ؟
ج : بعد ثماني سنين بعد الأربعماية .
س : وكم سنة أقام لاهوته بالأشهاد ؟
ج : السنة الثامنة بكمالها ، وغاب التاسعة لأنها سنة استتار وظهر أول العاشرة والحادية عشرة ، ثم اختفى في الثانية عشرة ولم يظهر بعدها حتى يوم الدين .
س : وما هو هذا يوم الدين ؟
ج : هو اليوم الذي يظهر فيه الناسوت ، ويحكم فيه العالم بالسيف والعنف ..
س : ومتى يكون ذلك ؟
ج : إن ذلك أمر غير معلوم ، ولكن العلائم تظهر .
س : وما هي هذه العلائم ؟
ج : إذا رأيت الملوك انقلبت ، والنصارى قويت على المسلمين .
س : وفي أي شهر يكون هذا ؟
ج : هذا يكون في جمادى أو رجب على حساب المعاجزين .
__________
(1) 239) يلاحظ هنا أنه ترك ما قبلها من مولد الحاكم سنة 375 هـ إلى سنة 400 هـ ، فلم يعتبر إلا وقت ظهور ألوهيته ؟! .(140/94)
س : وكيف يكون حكمه على الطوائف والملل ؟
ج : يظهر عليهم بالسيف والعنف ويهلك الجميع .
س : وبعد هلاكهم ماذا يكون ؟
ج : يرجعون بالولادة ثانية على حكم التناسخ ثم يحكم بينهم كما يريد .
س : كيف يكونون وهو يحكم بينهم ؟
ج : يكونون أربع فرق : نصارى ، ويهود ، ومرتدين ، وموحدين .
س : لماذ إنكار كتب سوى القرآن ؟
ج : اعلم أنه من حيث لزمنا الاستتار بدين الإسلام (1)، وجب علينا الإقرار بكتاب محمد ، ولا خلل علينا بذلك ، وصلاة الجنازة على الموتى بموجب الاستتار لا غير ، لأن المذهب الطاهر اقتضى ذلك (2)
__________
(1) 240) وهذا يوضح أن الاسلام قناع يتخذونه للتستر عما يعتقدون ، وصلاة الجنازة بموجب ذلك .
(2) 241) علق الأستاذ زهير الشاويش على صلاة الجنازة عند الدروز بما يلي : ( ومن المشاهد حتى اليوم ، أنهم يقرأون الفاتحة في صلاة الجنازة ، وتكون هذه القراءة من مجموعة من مشايخهم ، ويقفون حول الصندوق الذي فيه الميت ، أما في ( الخلوة ) أو في ( الساحة ) قبل المقبرة . وينقسمون إلى أربع مجموعات يحيطون بالميت ، ويتولى أكبر الموجودين رتبة الإشارة إلى إحدى المجموعات ، فيقرأون فاتحة الكتاب بصوت مرتفع ونغمة تختلف عن المعروف من تجويد القرآن ، فإذا انتهت هذه المجموعة أشار إلى مجموعة أخرى وهكذا دواليك . ويلاحظ أن هذه المجموعات يرأسها شخص يلبس عباءة ذات خطوات ملونة ، وأما رأس الجميع فتخالف ألوان عباءته عباءة الآخرين ، وأما من كان في رتبة ( جويد ) فيقتصر على الثياب السوداء العادية ، وهي قميص قصير وسروال يرتفع عن الكعبين ، ونعل يكون غالبا من الأنواع المتينة الرخيصة فضفاض ، وأما العباءة التي يلبسها الأجاويد والمتقدمون فهي بلا أكمام ، وقد يربطها بحزام ولا تصل إلى ركبته ، وهي ما يسمونها ( البشت ) . كما يلاحظ الناظر إلى إلزامهم جميع الأطفال والمراهقين بغطاء الرأس – ولو بالطواقي – وأما الكبار فيلبسون العمائم البيضاء على الطرابيش الحمراء .(140/95)
.
س : من أين عرفنا شرف قيام الحق من حمزة بن علي سلامه علينا ؟
ج : من شهادته لنفسه حيث قال في رسالة ( التحذير والتنبيه ) : ( أنا أصل مبدعات المولى ، وأنا سراطه والعارف بأمره ، وأنا الطور والكتاب المسطور والبيت المعمور ، أنا صاحب البعث والنشور ، أنا النافخ في الصدور ، وأنا الإِمام المتين ، وأنا صاحب النعم ، وأنا ناسخ الشرائع ومبطلها ، وأنا مهلك العالمين ، وأنا مبطل الشهادتين ، وأنا النار الموقدة التي تطلع على الأفئدة ) .
س : وما هو دين التوحيد الذي عليه الدروز ، والعقال مستدلون ؟
ج : هو الكفر بكل الملل والطوائف ، لأن بالذي كفروا نؤمن نحن ، كما قيل في رسالة ( الإعذار والإِنذار ) .
س : فإذا عرف أحد دين مولانا ، وصدق به (1)، وانقاد إلى دين التوحيد وعمل بحسبه ، فهل له خلاص ؟
ج : كلا ، لأنه غلق الباب ، وتم الكلام ، وإذا مات يرجع إلى ملته ودينه القديم .
س : متى خلقت نفوس العالم كلها ؟
ج : بعدما خلق العقل ، الذي هو حمزة بن علي ، ثم خلقت الأرواح ، كلها من نوره ، وهي معدودة لا تزيد ولا تنقص مدى الزمان .
س : أيليق أن يسلم التوحيد للنساء ؟
ج : نعم لأن مولانا كتب عليهن العهد ، وأطعن إلى دعوة الحاكم كما هو مذكور في رسالة ( ميثاق النساء ) ، وكذلك في رسالة ( البنات ) .
س : وكيف تقول في بقية الملل الذين يقولون أننا نعبد الرب الذي خلق السماء والأرض ؟
ج : إنهم ، وإن قالوا كذا فلا يصح ، لأن العبادة لا تصح بلا معرفة فإن قالوا عبدنا ولم يعرفوا أن الرب هو الحاكم بذاته فتكون عبادتهم باطلة .
س : مَنْ مِنَ الحدود يصف حكمة المولى سبحانه الذي عليه مبنى ديننا ؟
ج : إن وصف ذلك ، ثلاثة من الحدود ، وهم حمزة وإسماعيل وبهاء الدين .
__________
(1) 242) وهذا الكلام مبني على أن هذا ( الأحد ) ، لم يكن من أهل الدعوة في السابق ، أو من أهلها في التناسخ ؟ .(140/96)
س : كيف نعرف أخانا الموحد إذا رأيناه في الطريق ومر بنا يقول إنه فينا ؟
ج : بعد اجتماعنا فيه والسلام ، تقول له في بلدكم فلاحون يزرعون الأهليلج ، فإن قال : نعم مزروع في قلوب المؤمنين ، فنسأله عن معرفة الحدود ، فإن أجاب ، وإلا فهو الغريب .
س : ما هي الحدود ؟
ج : هم أنبياء الحاكم الخمسة ، حمزة وإسماعيل ومحمد الكلمة وأبو الخير وبهاء الدين .
س : هل للجهال من الدروز خلاص أو مرتبة عند الحاكم إذا ماتوا على ما هم عليه من غير عقل ؟
ج : لا خلاص لهم بل يكونون عند مولانا الحاكم في اللباس والمعيار أبدًا .
س : ما هي نقطة البيكار ؟
ج : هو حمزة بن علي .
س : ما هو القديم والأزل ؟
ج : إن القديم هو حمزة ، والأزل أخوه إسماعيل .
س : ما هي حروف الصدق وكم عددها ؟
ج : مائة وأربعة وستون حرفا ، وهي الدعوة والتقي والمكاسرون وهم الأنبياء التي كانت لمولانا الحاكم .
س : ما هي حروف الكذب ؟
ج : ستة وعشرون ، وهي دليل إبليس وأولاده ورفاقه ، وهم محمد وعلي وأولاده الاثنا عشر ، وهذا على إمام المتاولة (1).
س : ما هو معنى ركوب مولانا الحمير بلا سروج ؟
ج : الحمار مقال الناطق ، وركوبه دليل على هدم شريعته وإبطالها ، وقد قال القرآن تصديقًا لهذا ( إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) يعني الأنبياء الذين جاؤوا بالشريعة الظاهرة .
س : ما معنى لبس مولانا الصوف الأسود ؟
ج : إن ذلك ليس بدليل على الحزن ، إنما علي المحبة التي صارت على عبادة الموحدين بعده (2) .
س : وما هو سبب ظهوره في كل شريعة ؟
ج : أن يؤيد الموحدين ويثبتوا في عبادة الحاكم ولا يصدقوا إلا منه .
__________
(1) 243) تكن واضحة في الأصل ، فقد تقرأ ( المتأولة ) بهمزة على الألف ، وهذا ينطبق على الإسماعيلية . وقد تقرأ (التأولة ) بلا همزة على الألف ، وهذا تعبير مستعمل ويقصد به الشيعة الإثنى عشرية .
(2) 244) كما أسلفنا . فإن عقال الدروز للآن يلبسون هذا اللباس الأسود.(140/97)
س : وكيف ترجع النفوس إلى أجسادها ؟
ج : كلما مات إنسان ولد آخر والدنيا هكذا .
س : كيف يستدل على أن دين الحاكم حق وغيره باطل ؟
ج : إن هذا كلام كفر وعدم تصديق بالحاكم ، لأن الموحدين قد أشرطوا على أنفسهم في كتب الميثاق أنهم سلموا كل أرواحهم وأجسادهم وشعرهم ، وسرهم وصهرهم بيد الحاكم من غير محض ولا جدال ، فإذا هم في طاعته ، وإن قالوا : غير هذا فقولهم كفر ، كما قال في رسالة ( الرضى والتسليم ) ولحمزة عبد مولانا الحاكم وملاكه ، وهذا الأمر ثابت .
س : ما المراد بالجن والملائكة والأبالسة في كتاب حمزة ؟
ج : إن المراد بالجن والأبالسة الناس الذين لم يطيعوا دعوة مولانا الحاكم ، وأما الشياطين فأرواح خبيثة لا أجسام . أما المراد بالملائكة المقربين والمستجيبين لدعوة الحاكم بأمره ، فهو الرب المعبود في كل الأدوار .
س : ومن هم الحرم الأربعة ؟
ج : هم إسماعيل ومحمد وسلامة وعلي ، وهم الحكمة ، النفس ، بهاء الدين ، ابن أبي الخير .
س : ولماذا تسموا حرما ؟
ج : لأن حمزة هو بمقام الرجال ، وهم نسوان ، لأنهم عنده بمنزلة النساء في طاعتهم له .
س : وما ذكر الأحاليل والفرج ؟
ج : أشار إلى حالة ولا محلة ، لأن الأحليل يقوي ويعمل الحركة ، على فرج المرأة ، وكذلك مولانا جعل سلطان لاهوته يغلب المشركة كما رأينا في رسالة يقال لها ( حقائق الهزل ) .
س : ولماذا أوصانا حمزة بن علي بأن نخفي الحكمة ولا نكشفها ؟
ج : لأن فيها أسرار مولانا وعهوده ، فلا يجب أن نكشفها إلى أحد لأنها خلاص النفوس وهي حياة الأرواح .
س : ألعلنا نحن نخلص ، ولا نريد كل الناس أن تخلص ؟
ج : هذا ليس من طريقته ، لأن الدعوة ارتفعت وغلق الباب وكفى من آمن ، وكفر من كفر .
س : وما معنى إبطال الصدقة على بعض الناس ؟(140/98)
ج : إن الصدقة لا تجوز عندنا ، إلا على أخينا الموحد العاقل ، وأما على غيره فهي حرام أبدا (1) .
والدروز في الوقت الحاضر ، يحاولون أن يطوروا دينهم ، بما يتناسب وروح العصر ، وذلك بطباعة ما يسمى بـ ( مصحف الدروز ) (2)أو المنفرد بذاته ، والذي ينسب تأليفه إلى كمال جنبلاط أحد زعمائهم (3)بالتعاون مع عاطف العجمي .
ويحاول كاتب هذا المصحف أن ينسبه إلى حمزة بن علي ولكن من المؤكد أن هذا المصحف قد كتب حديثًا ، والدليل على ذلك ألفاظه وأسلوبه العصري ، والتي تدل على أنه كتب في العصر الحاضر ، لذلك لا نستبعد أن يكون كاتبه كمال جنبلاط .
وكاتب هذا المصحف ، يحاول فيه أن يحاكي القرآن الكريم ، بل يحاول أن يقتبس الكثير من الآيات القرآنية ، والتي توافق هواه ، فيبدل ويحور فيها ، ويضيف ما يشاء من عنده ، ليبرهن إلى ما يرمي إليه .
وقد حاولت أن أجمع الآيات ، التي حورها وبدلها ، فتبين لي أن الآيات كانت فقط آيات مشاهد القيامة ، والجنة والنار ، وكذلك آيات الوعيد للكافرين بالعذاب والجحيم ، وآيات الجنة والنعيم للمؤمنين .
وكل هذه الآيات يحورها إلى ما يرمي إليه ، وهو أن العذاب سيكون لكل من يكفر بألوهية الحاكم ، والنعيم سيكون للموحدين الذين يعبدون الحاكم .
ومن أمثلة ذلك ما جاء في عرف الأمر والتقديم إذ يقول :
__________
(1) 245) رسالة ( في معرفة سر ديانة الدروز ) مخطوط في جامعة ييل .
(2) 246) اطلعت على هذا المصحف في المكتبة الخاصة لأحد الأشخاص ، وقد طبع منه عدد قليل جدا ، وبشكل سري قبل بضع سنوات ، وهو مكتوب بخط جميل .
(3) 247) أحد زعماء الدروز المرموقين ، وهو من السياسيين اللبنانيين المخضرمين ، وكان كثير التعمق في الديانات الهندية القديمة ، لذلك كثرت سفراته إلى هناك . وقد قتل بعد أحداث لبنان الأخيرة في سنة 1397 هـ الموافق 1977 م . .(140/99)
( أنتم وما تعبدون مكبكبون على وجوهكم ، يوم ينادي منادى مولاكم الحاكم من مكان بعيد : هذا يومكم الذي فيه توعدون ، تتلوها أيام العذاب إنكم لخالدون ولات محيص ... إلى أن يقول : وإلا فقولوا لي أيها الضالون المعاندون ، فهل جاء لكم رب غيره مع جنوده ، أروني إن كنتم صادقين ) (1).
ويقسم هذا المصحف إلى أربع وأربعين عرفا ، ويقع في مائتين وتسع وستين صفحة ، ويقول كاتبه في مقدمته : ( جرى تقسيم هذا المصحف المكرم وفق المواضيع لتسهيل الاطلاع عليه . ووضع لكل فصل تسمية تنطبق مع ما ورد فيه من معان ، ولقد اخترنا اسم العرف تناسبا مع ما يطلق على أبناء التوحيد : كنيتم بالأعراف ووصفتم بالأشراف ) (2).
وفي أوائل صفحات هذا المصحف ، يعرف كاتبه بالأسماء والعبارات والإشارات التي وردت في ثناياه ، ومما يذكر أن في بعض أعراف هذا المصحف عبارات غريبة ، كتبت بأحرف عربية ، ولكنها لغة غير معروفة ، لا يعرف معناها ، والظاهر أنها ألغاز ، ولذلك يقول كاتبه : أنه لا يريد أن يظهر معناها ، لأن لها معان سرية لا يجوز لكل واحد الاطلاع عليها .
ومن أمثلة ذلك ما ورد في عرف ( شمس المغيب ) : ( يوديلووهكا طران كنان وهقويكان سهى وهطمكل واطغظلوا أو هكهز كان بطكة وعد ودلولذوسلر ) (3).
وقد بدأ هذا المصحف بـ ( عرف الفتح ) نورده هنا ، لنعرف بعض ما يرمون إليه من هذا المصحف :
( به ، والحمد له على هذا النور ، والشكر والفضل لذوي الصلات موالينا الحدود (4) صلى الله عليهم ومن قبل ومن بعد ، والموحدون في صياصيهم (5)يرجعون ما أمر المولى به أن يوصل .
__________
(1) 248) مصحف الدروز – عرف الأمر والتقديم – ص 10 ، 11.
(2) 249) مصحف الدروز – ص 1 .
(3) 250) مصحف الدروز : عرف شمس المغيب – ص 230 .
(4) 251) يقصد الحدود الخمسة ، والذي سيأتي ذكرهم بالتفصيل في فصل أشهر الدعاة الدروز .
(5) 252) الظاهر أن المقصود بهؤلاء هم العقال الذين يسكنون الخلوات .(140/100)
الحمد أبدأ للذي وفقنا لحفظ الحكمة في صدورنا من مصحفه المنفرد بذاته ، نرتله مستضيئين ، وهو الذي انشقت عنه سماء القدرة بمنة آلاء التجليات ، فانفجرت منه اثنا عشرة عينا قد علم الموحدون مشربهم (1).
الحمد لك مولانا (2)، أنت الذي فتحت أبواب قلوبنا على حكمه وأحكامه ، وآدابه وتأويله وإعرابه ، وأنت الذي ألهمتنا تدبر معانيه في حقيقته ومجازه ، وإيجازه وإسهابه ، ودعوتنا إلى الاعتصام بأمتن أسبابه .
ونشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، شهادة مشاهد موحد عارف موقن ، مؤمن بأيام حسابه ، ونشهد أن موالينا وساداتنا الحدود الخالقين ، صليت عليهم ، هم فصل خطابك وألسنة ذاتك ، وهم موصلو حبال الحق ، وجامعو الموحدين على مائدة المعبود ، فعليهم منك صلات الصلاة مادامت عين اليقين .
مولانا بك آمنا ، ولك أقررنا أن مصحفك هذا ، نور الصراط المستقيم هو مسوق إلينا ، معروض علينا ، دان إلى أفهام قلوب ألبابنا ، عال بأسراره وأبنائه ، لا يمل من تلاوته ، ولا ينزف من حلاوته ، ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، قريبه حكمه ، وبعيده علمه ، وهو المجيز عند الخصام ، والأسوة سببها لجميع الموحدين ما بين العالمين مدى حيوات الأنام ، أسهمه لا تنبو ، وعادياته لا تكبو ، هو الكل والبعض والجمع والفرق ، به تبدل الأعيان ، ولا عدة إلا به ، والجميع إليه .
__________
(1) 253) يلاحظ هنا كيفية تحور الآية إلى ما يرمون إليه ، والآية الكريمة المشار إليها هي : ( وإذا استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر . فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم . كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) سورة البقرة : آية 60 .
(2) 254) المقصود بمولانا هنا هو ( الحاكم بأمر الله ).(140/101)
مولانا ، نستفتح به مصلين حامدين شاكرين ، وقد طوينا البيد مؤمنين ، وسرنا في رياض جنة المنتهى غير محجوبين عن عيونك ، وهذه آيات حكمة مصحفك ترتلها أفئدتنا كرما منك ، لتصون بها وجوه كوننا من إحراق العدم .
ففي تلاوتها يا مولانا ، نرى كشف النور والظلم ، وفي نومنا قرارنا ، وظعننا وأسفارنا ، وسلمنا وحربنا ، وصحتنا ومرضنا ، وفي مهودنا صابين ، وفي شيخوختنا عاجزين ، وفي حيواتنا وموتنا ، وفي الدنا وفوق أشياخ النجوم .
إنك مولانا ، نعم المولى ونعم النصير ) (1).
ويبدو أن جنبلاط كان له الأثر العميق في الدرزية فقد اعترف بذلك في كتابه ( هذه وصيتي ) فدراسته للمذهب الدرزي أتاحت له الشروع في عمل تحليلي ، حيث قارن مذهبه على هدى تعاليم الفيدا الهندوكية والفلسفة اليونانية اللتين أتاحتا له اكتشاف مفاتيح الأسرار الدرزية – كما يزعم – وأعطاه خربًا من السلطة الروحية مما جعل مشايخ الدروز يطلبون رضاه (2).
وهذا يوضح لنا قدرة جنبلاط وإحاطته بالدين الدرزي ، ويؤكد القول بأن المصحف المنفرد بذاته من تأليفه .
ولإِعطاء صورة أوضح عن حقيقة العقيدة الدرزية في الوقت الحاضر ، نورد حديثًا شخصيًا مع الأستاذ كمال جنبلاط ، الرجل الذي ينسب إليه مصحف الدروز ، وقد أجراه معه الدكتور مصطفى الشكعة ، في كتابه إسلام بلا مذاهب حيث يقول فيه جنبلاط :
__________
(1) 255) مصحف الدروز : عرف الفتح – ص 1 – 5 .
(2) 256) كمال جنبلاط / هذه وصيتي ص 50 .(140/102)
يرجع تاريخ الدروز إلى ثلاثمائة وثلاث وأربعين مليونا من السنين حين كانت الأرواح بلا أجساد (1).
الدروز يؤمنون بالتقمص ، أي تقمص الأرواح ، بمعنى أن الذي يموت لا تصعد روحه إلى السماء بل تتقمص جسد مولود جديد ولذلك فهم لا يزيدون عددا ولا ينقصون لأن النقص عملية دائمة متواصلة بين أرواحهم ، وهم لذلك يقولون إن الحياة البرزخية غير موجودة .
الدروز موجودون منذ الأزل ، واعتنقوا كثيرا من الديانات على مر الدهور ، واعتنقوا الإِسلام في مرحلة من مراحل عقيدتهم ، ولما كانت العقيدة عندهم متطورة فقد تحولوا عن الإِسلام إلى دين آخر مستقل هو الدين الدرزي ، أي أن الدرزية كانت مذهبًا إسلاميًا ثم تطورت وأصبحت دينًا مستقلاً ، والأقطاب هم الذين يجددون الدين من زمن إلى زمن ، وهم يجيئون بأسماء مختلفة بين الفينة والفينة بدافع نظرية التقمص التي يؤمن بها الدروز ولذلك فالدرزية دين متطور يتطور من زمن إلى آخر .
__________
(1) 257) لقد كنا أوردنا تعليقات حول بعض السخافات التي قالها الأقدمون من هذه النحلة ، وقد يكون قولهم مبنيا بقصد التعمية والتشويش أو الاعتقاد . ولكن مثل هذا القول من رجل مشهود له بالثقافة والاطلاع ، وفي هذا العصر ، أفلا يعتبر ضحكا على الناس واستهزاء بعقولهم وبالتاريخ ؟ وإلا فمن أين علم بوجودهم بهذا التاريخ وهو من الأمور التي يأت بها وحي منزل ، ولم يسندها تارخ مكتشف . وكم كان يسرنا لو ذكر عدد الشهور والأيام والساعات ، ولو تفضل أيضا بذكر الدقائق والثواني لتحقق الموضوع تحقيقا كاملا ؟! والظاهر أن الأستاذ جنبلاط قد اعتمد في تقديره هذا على ما جاء في رسالة ( الأسرار ومجالس الرحمة والأولياء ) أن ( الأدوار السابقة سبعون دورا وبين كل دور وآخر سبعون أسبوعا ، وكل أسبوع سبعون سنة ، وكل سنة ألف سنة ، وهذا الاعتماد لا تقوم به حجة ، بل هو مضحك للغاية ؟ انظر ص 140 .(140/103)
الشريعة الدرزية مأخوذة من القرآن ، ومن ستة عشر كتابًا خطيًا لا يسمح لأحد بالاطلاع عليها ، كما أنها تأخذ تعاليمها من الفلسفة اليونانية وبخاصة الأفلاطونية القديمة ، والمسيحية والإِسلام والبوذية والفرعونية القديمة ، ويعتبرون إخوان الصفا من الدروز لتشابه الأفكار بينهما ، فقد كان إخوان الصفا يطالبون بمزج الشريعة الإِسلامية بالفلسفة اليونانية ، وبهذه المناسبة يخلط البعض خطأ بين الدرزية والإِسماعيلية ، والواقع أن الفرق بينهما شاسع كبير .(140/104)
محمد ( صلى الله عليه وسلم ) له مكانة محدودة عندهم ، وهو ليس إلا واسطة الرسالة وحسب (1)، وللدروز خمسة أقطاب منذ القدم ، خامسهم وآخرهم الحاكم بأمر الله الفاطمي (2)، ولأبي يزيد البسطامي مكانة عالية سامية (3)، وأما الصحابة فمنهم أربعة لهم مكانة عليا عندهم وهم : سلمان الفارسي ، والمقداد بن الأسود ، وعمار بن ياسر (4)، وأبو ذر الغفاري (5).
__________
(1) 258) في هذا الأمر يغالط كمال جنبلاط ، ويموه في الجواب ، لأنه في الحقيقة – وكما سيرد في الفصول القادمة – فإنهم لا يحترمون الرسول صلى الله عليه وسلم بل يسمونه إبليس اللعين . وأن الذي كان يمده بالقرآن هو سلمان الفارسي .
(2) 259) يقصد الظهورات التي ظهر فيها المعبود بالصورة الناسوتية .
(3) 260) هو طيفور بن عيسى البسطامي ، أبو يزيد ، ويقال بايزيد ، ونسبته إلى بسطام ( بلدة بين خراسان والعراق ) ، وكان ابن عربي يسميه أبا يزيد الأكبر ، وكان يقول بوحدة الوجود ، وأول من قال بمذهب الفناء ، ولد سنة 188هـ وتوفي سنة 261 هـ . انظر الأعلام للزركلي . ج 3 ، ص 339 .
(4) 261) هو عمار بن ياسر بن عامر الكناني المذحجي العنسي القحطاني ، صحابي ، وهو أحد السابقين إلى الإسلام والجهر به ، هاجر إلى المدينة ، وشهد بدرا وأحدا والخندق وبيعة الرضوان ، وهو ممن بنوا مسجد قباء ، وولاه عمر الكوفة ، وشهد وقعة الجمل ووقعة صفين مع علي ، وقد قتل في صفين سنة 37 هـ وعمره ثلاث وتسعون سنة . انظر الأعلام للزركلي ج 5 ، ص 192 .
(5) 262) جندب بن جنادة من بني غفار ، من كنانة بن خزيمة ، صحابي وهو خامس من أسلم ، هاجر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بادية الشام . انظر الأعلام للزركلي . ج 2 ، ص 137 .(140/105)
لا يقبل الدروز أحد في دينهم ولا يسمحون لأحد بالخروج منه ، وحتى هؤلاء الذين يخرجون لا يعترف الدروز بأنهم قد خرجوا ، ولذلك فإن عدد الدروز في ظل هذه النظرية ونظرية التقمص لا يزيد ولا ينقص ، وقد أغلقت أبواب القبول في الدين الدرزي بعد قبول الأمير بنشير الشهابي الذي يعتبره الدروز درزيًا (1).
الدين الدرزي دين صوفي يعتمد على الداخليات والجواهر ، ولا يهتم بالشكليات ، والطهارة الداخلية أي النفسية الروحية هي الأساس ، وأما الطهارة الخارجية فلا قيمة لها .
وقد كان الشيوخ يصلون في المساجد إلى عهد قريب ، ويصومون رمضان ، ويحجون البيت ، ولكن هذه الفرائض جميعًا قد رفعت عنهم واستبدلت بتكاليف أخرى ) (2).
وفي حديث شخصي آخر أجراه الدكتور الشكعة مع شيخ عقل الدروز الشيخ محمد أبي شقرا ، والذي كان أكثر سرية ومورابة في أجوبته ، وأقل صراحة من كمال جنبلاط ، ومما قاله شيخ العقل :
الصلاة تختلف عن صلاة جمهور المسلمين ، فالفروض وإن كانت خمسة إلا أن عدد الركعات في كل صلاة تختلف عن عدد الركعات المعروفة ، وربما طريقة الصلاة نفسها ، هذا والوضوء ليس ضروريًا مادام المصلي نظيفًا .
__________
(1) 263) بشير بن قاسم بن عمر الشهابي ، ولد في قرية غزير سنة 1173 هـ ، وقد ولاه أحمد باشا الجزار والي عكا إمارة لبنان سنة 1203 هـ فكانت له حوادث كثيرة وعزل مرات وأعيد ، حتى نفي إلى مالطا ، ثم إلى الأستانة حتى مات سنة 1266 هـ . ومن المعلوم أن الأمير بشير انحدر من أصلاب مسلمة ، ثم قيل إنه قد تنصر ، والآن يأتي جنبلاط ويقول أنه دخل في الدرزية ، وهذا الكلام الأخير محل شك أن لم تؤيده البراهين ، لأننا نعلم يقينا أن هذا الباب ( الدخول ) قد أغلق منذ زمن بعيد .
(2) 264) د . مصطفى الشكعة : إسلام بلا مذاهب . ص 288 – 291 .(140/106)
الصوم معناه الامتناع عن الرفث ، ومعنى ذلك أنه لا يجوز الأكل والشرب مع الصوم ، وهو عشرة أيام في ذي الحجة تنتهي بالعيد ، كما أن صوم رمضان مستحسن عن غيره لأن الصوم فيه مضاعف الثواب .
الزكاة معطلة ولا حدود لها ، ويمكن أن تكون في شكل صدقات ، وهي اختيارية ، وهي بالتالي ليست فريضة ) (1).
ولعل من المفيد ونحن نتحدث عن تطور المذهب الدرزي بعد الحاكم ، أن نعطي بعض الملامح لتاريخ الدروز منذ موت الحاكم وحتى القرن الحالي .
فعندما جاء الزحف المغولي إلى بلاد الشام سنة 657 هـ بزعامة هولاكو ، كانت السيطرة على لبنان بيد أمراء الدروز التنوخيين ، ولما دخل ( كتبغا ) ابن هولاكو دمشق جاءه الأمير التنوخي جمال الدين حجي الثاني معلنًا خضوعه له ، مما جعل ( كتبغا ) يقر الأمير الدرزي على مقاطعة الغرب ، ولكن مجيء بيبرس من مصر على رأس جيش المماليك لمقاتلة المغول ، قلب موازين القوى – في ذلك الوقت - ، وهنا ارتأى الدروز أن ( يلعبوا على الحبلين ) ، وذلك أن يبقى أحدهم وهو الأمير جمال الدين بجانب كتبغا ، فيما ينضم الأخر أي الأمير زين الدين إلى جانب المماليك ، بحيث يكون على قول صالح بن يحيى : ( أي من انتصر من الفريقين كان أحدهما معه فسيدخله رفيقه وخلة البلاد ) ، لأن الانحياز إلى أحد القوتين كان يعني المجازفة بمصيرهم فيما لو خسر الجانب الذي قد ينضمون إليه (2)؟ ! .
__________
(1) 265) د . مصطفى الشكعة : إسلام بلا مذاهب . ص 292 – 293 .
(2) 266) انظر تفصيل ذلك في كتاب تاريخ الموحدين الدروز / د . عباس أبو صالح و د . سليمان مكارم ص 112 .(140/107)
وبعد انتصار المماليك على المغول ، استولوا على بلاد الشام دون أن يتعرضوا لمناطق الدروز بسوء ، ولذلك وجهوا اهتمامهم لاحتلال المناطق الساحلية التي كانت لا تزال بيد الصليبيين ، ولكن بيبرس كانت تساوره الشكوك في حقيقة موقف الدروز ، وغدا مليئًا بالشك والحذر منهم ، وذلك بعدما نما إلى علمه أن أمراء الدروز على اتصال بوالي طرابلس الصليبي ، فأمر بسجنهم ليتسني له أن يلتفت لغدر الصليبين (1).
وكل هذا كان قبل قيام الدولة العثمانية ، أما بعد قيامها ، فقد راودتهم الأحلام القديمة بقيام دولة مستقلة لهم ، وخاصة أنهم رأوا الفرصة سانحة لهم لإِنشغال العثمانيين بقتال الدول الأوربية المجاورة ، فكان أن عملوا على تحقيق هذه الأحلام في عهد الأمير فخر الدين الثاني المنحدر من المعنيين ، الذي اتخذ في سبيل ذلك أسلوب المداورة عن طريق حروبه المحلية لبسطة نفوذه على سائر بلاد الشام ، ولكن سياسته هذه جعلت العثمانيين يوجسون منه خوفًا ، بيد أن تحركه على الصعيد الخارجي عززت تلك المخاوف وأثارت شكوك الباب العالي في ولائه للعثمانيين ، وخاصة أن أهدافه الحقيقية بدأت بالوضوح عندما عقد مع دوق توسكانا معاهدة تجارية تضمنت بنودًا عسكرية ضد الدولة العثمانية ؟ ! فقرر السلطان العثماني التلخص من فخر الدين ، فجرد عليه حملة قوية برًا وبحرًا سنة 1022 هـ / 1613 م ، فهرب إلى أوربا عن طريق ميناء صيدا بمساعدة سفينتين إحداهما فرنسية وأخرى هولندية ، وهناك أراد أن يؤلب الدول الأوربية ضد الدولة العثمانية ، فسعى جاهدًا للحصول على مساعدات عسكرية من أسبانيا وفرنسا والفاتيكان ضد العثمانيين ، ولكن مسعاه فشل لأن الظروف الدولية في ذلك الوقت كانت غير صالحة (2).
__________
(1) 267) انظر تفصيل ذلك أيضا في المصدر السابق ص 113 ، 114 .
(2) 268) المصدر السابق ص 133 – 136 .(140/108)
وبحكم علاقة فخر الدين أمير الدروز الوطيدة بدول أوربا فقد كان يعطف على الإِرساليات الأوربية ويسمح بإنشاء مراكز لها في لبنان وفلسطين ، وفضلاً عن ذلك فقد بسط يد الحماية لجميع النصارى في بلاد الشام ، حتى صار الأوربيون يدعونه ( حامي النصارى في الشرق ) ، وكان عطف الأمير على الموازنة وتحالفه معهم من أبزر مميزات سياسته الداخلية ، وكان أيضًا عاملاً في هجرة الموارنة من مناطقهم إلى مناطق المسلمين ، وانتشارهم في أكثر من ثلثي لبنان الحالي ، مما قوى مركزهم السياسي في لبنان بعد ذلك (1)؟! .
وكما يذكر كمال جنبلاط فإن إمارة درزية أخرى كانت قائمة في الدولة العثمانية خاضعة لحكم أحد أجداده ، ووجدت في شمال سوريا وكانت تشمل حمص وحماة وحلب ودمشق وجزءًا من تركيا الأنضولية ، وشأن الدولة المعينية ، فقد عقدت هذه الإِمارة أيضًا معاهدات عسكرية مع الفاتيكان ودوقية توسكانا وأسبانيا ، وتلقى جده مقابل ذلك دعمًا سياسيًا وعسكريًا (2).
وفي سنة 1253 هـ / 1837 م ، قام الدروز بتمرد على محمد علي باشا والي مصر ، وكان ذلك في جبل الدروز بحوران بسبب تجريدهم من السلاح وتجنيدهم في الجيش ، وبقي هذا التمرد مشتعلاً بعد أن انضم إليه دروز وادي التيم ، رغم محاولات محمد علي القضاء عليه ، إلى أن جرد عليه حملة قوية سنة 1256 هـ / 1840 م .
__________
(1) 269) المصدر السابق ص 142 – 143 .
(2) 270) كمال جنلاط / هذه وصيتي ص 40 .(140/109)
وبعد أن وجدت الدول الأوربية الضعف في الدولة العثمانية ، عملت على استمالة الأقليات الموجودة داخله ، وخاصة في لبنان ، الذي كانوا يرون فيه مدخلاً مهمًا لكل مؤامراتهم على الدولة العثمانية ، وكانت فرنسا ترى في نفسها مدافعًا شرعيًا عن موارنة لبنان ، وقد اتخذت هذه الحجة الواهية ذريعة في سبيل تدخلها في شؤون الدولة العثمانية ، وهذه السياسة الفرنسية خوفت بريطانيا مما جعلها سنة 1841 م تعمل على استمالة الدروز إلى جانبها وتقيم علاقات رسمية وودية معهم ومع زعمائهم ، ويظهر أن الإِنجليز قد فهموا أحلام الدروز بإقامة دولة لهم ، فاستغلوها لاستمالتهم وإقامة العلاقات الوطيدة معهم (1).
وقد بات هذا واضحًا عندما ثار الدروز في جبلهم على الدولة العثمانية سنة 1851 م إذ امتنعوا عن دفع الضرائب ، فجردت الدولة العثمانية حملة لتأديبهم ، فتدخلت بريطانيا لدى الباب العالي ، وصدرت الأوامر من الأستانة بحل المشكلة الدرزية سلمًا ، وجاء في برقية الصدر الأعظم الموجهة إلى مدحت باشا ( والي الشام ) بهذا الصدد : ( أن الأنجليز لا يسرون بما تتخذه من التدابير لتأديبهم ) ، وهذا التدخل شجع الدروز ، إذ ما لبثوا أن اعتدوا على المكرك وأم الولد وحرقوا زرعهما في سنة 1296 هـ / 1880 م ، وعلى قرية ( المسمية ) في حوران سنة 1308 هـ / 1890 م .
__________
(1) 271) عباس أبو صالح وسامي مكارم / تاريخ الموحدين الدروز ص 245 ، 246.(140/110)
ثم ثاروا في سنة 1311 هـ / 1893 م و 1313 هـ / 1985 م وكذلك في سنة 1328 هـ / 1910 م . وكانت اعتداءات الدروز على أهالي حوران قد أثيرت في مجلس المبعوثان العثماني ، حيث ندد مبعوث حوران باعتداءات الدروز ، مطالبًا الدولة باتخاذ الإِجراءات العسكرية الرادعة ضدهم بعد اعتدائهم على الجيش والأهالي ، وأنهى خطابه بمطالبة الحكومة بسوق قوة عسكرية على حوران ( لصيانة العرض والدين والمال وتأمين الرعية من الخوف ) (1).
مما تقدم يتضح لنا بأن دروز حوران كانوا في شبه ثورة دائمة ضد الدولة العثمانية ، وعندما كانت الولاية تعرض عليهم برامج الإِصلاح وتطلب من زعمائهم مساعدتها في تطبيقها ، كان الزعماء يقبلون ذلك ثم يرفضونه وهكذا ، وبالرغم من ذلك فقد حاولت ولاية سوريا إصلاح الأوضاع الإِدارية والاجتماعية في منطقة جبل الدروز عن طريق نشر التعليم بين الدروز بإنشاء المدارس وتعليمهم مباديء الدين الإِسلامي ، واتبعت سياسة اللين والرفق مع رؤسائهم الروحانيين ، وذلك باستدعائهم إلى دمشق وبذل المساعي لإِقناعهم بقبول الإِصلاحات ، فيبدي الزعماء رضاهم التام لدرجة المطاوعة الانقياد ، ولكنهم لم يثبتوا على ذلك طويلاً (2).
وهكذا يبدو أن ثورات الدروز المستمرة ضد الدولة العثمانية وخاصة بعد سنة 1841 م ، كانت تهدف بالدرجة الأولى الاستقلال عن الدولة وبسط السيطرة الدرزية على لواء حوران بمساعدة وتأييد بريطانيا .
__________
(1) 272) محمد عبد العزيز عوض / الإدارة العثمانية في ولاية سورية ص 193 ، 291 ، 292 .
(2) 273) المصدر السابق ص 293 .(140/111)
وبعد استعمار فرنسا لسوريا ، عملت عن طريق عملائها وبكل ما نستطيع من إمكانيات وإغراءات أن تستميل الدروز إلى جانبها ويتركوا الإِنجليز ، ومن أجل ذلك تابعت فرنسا استمالة زعماء الدروز ، فاستطاعت في 20 نيسان 1921 عن طريق الجنرال ( غورو ) أن تقنع الأمير سليم الأطرش بإعلان دولة درزية في جبل الدروز وتشكيل حكومة درزية وانتخاب مجلس نيابي مكون من ( 40 ) عضوًا ، ورفرف لأول مرة في تاريخ الدروز علمهم المكون من خمسة ألوان (1).
وعندما رأت بريطانيا أن نفوذها سيزول عند الدروز بسبب هذه الدولة استمالت أحد أمراء الجبل ، والذي كان من أهم العوامل التي أثرت على عدم بقاء هذه الدولة وسقوطها .
والحديث عن تاريخ الدروز في القرن الحالي يدفعنا لإِعطاء صورة موجزة عن موقف الدروز من دولة إسرائيل ، حيث كانوا بعد قيام هذه الدولة على أرض فلسطين من أهم المدافعين عن وجودها ، بل إن إسرائيل استطاعت أن تكون كتيبة منهم فيما يسمى بـ ( حرس الحدود ) كان له دور خطير ومهم في حروب إسرائيل مع الدولة العربية .
لذا فإن كمال جنبلاط في كتابه ( هذه وصيتي ) يعتبر وجود الدروز في إسرائيل مشكلة ، ولكن في الوقت نفسه يدافع عن تعاملهم مع دولة العدو وينتقد الفلسطينيين الذين هربوا وتركوا أرضهم وبلادهم ولم يقلدوا الدروز في بقائهم في فلسطين ، ولو أنهم بقوا لشاركوا بسهولة في اقتصاد إسرائيل وبالتالي في السلطة السياسية ويكونون أقلية قوية وفعالة في البرلمان ، وبالتالي فإن الدروز فيما فعلوه مع إسرائيل قاموا بواجبهم بتعقل ، فهم يعلمون أنه لا جدوى في الهجوم على طواحين الهواء – كما يزعم جنبلاط – (2).
__________
(1) 274) د . وجيه كوثراني / بلاد الشام – السكان والاقتصاد والسياسة الفرنسية ص 93 .
(2) 275) كمال جنبلاط / هذه وصيتي ص 56 ، 57.(140/112)
وفي سنة 1982 عندما احتلت إسرائيل لبنان ، رفضت مليشيات الدروز ( الحزب التقدمي الاشتراكي ) قتال الجيش الإِسرائيلي ورفضت مدفعيته الموجودة في الجبل مساعدة الفلسطينيين ، ولذلك استطاع الجيش الإِسرائيلي دخول مناطق الدروز دون أن تطلق رصاصة واحدة ، وبقيت الأسلحة في يد الدروز رغم وجود الجيش الإِسرائيلي في مناطقهم .
******
الفصل الثالث
أشهر دعاة الدروز وآراؤهم
ترتبط بداية المذهب الدرزي بثلاثة من الدعاة هم : حمزة بن علي بن أحمد الزوزني ويعرف باللباد ، والحسن بن حيدرة الفرغاني المعروف بالأخرم ، ومحمد بن إسماعيل الدرزي المعروف بـ ( أنوشتكين أو نشتكين ) .
والمؤرخون مختلفون في ترتيب أسبقيتهم في الدعوة الجديدة ، ومع أن اسم الدروز مرتبط باسم ( الدرزي ) ، إلا أن بعضهم يجعل البداية لحمزة – وهو الأرجح كما سنرى – والبعض الآخر يجعلها لمحمد الدرزي .
أما الدروز فيعتبرون حمزة هو مؤسس المذهب وهو الإمام ، وأن الدرزي قد حاد عن تعاليم حمزة ، وأنه كان أحد أتباعه ، مما جعل حمزة يهاجمه في كثير من رسائله ، لذلك فإن الدروز يكرهون الدرزي هذا ويلعنونه .
أما الأخرم فالأرجح أنه كان داعيًا من دعاة حمزة في أول ظهوره . ولكي نعطي لمحة وافية عن هؤلاء الدعاة ، نتحدث عن كل واحد منهم ، ونبدأ بحمزة بن علي :
حمزة بن علي بن أحمد الزوزني : ( ولد حمزة في مدينة ( زوزن ) في خراسان مساء الخميس في الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة 375 هـ ، وهو اليوم الذي ولد فيه الحاكم بمصر ، ولعل ذلك هو السبب في أن الدروز يقيمون الصلاة الأسبوعية مساء كل خميس ) (1).
واختلف المؤرخون في زمن وفوده إلى مصر ، فالبعض منهم يجعلها متقدم كثيرًا في سنة 395 هـ ، حيث كان عمره عشرين عامًا ) (2).
__________
(1) 276) عبد الله النجار : مذهب الدروز والتوحيد . ص 123 .
(2) 277) أحمد الفوزان : أضواء على العقيدة الدرزية . ص 28 .(140/113)
وغالبية المؤرخين تجعل موعد قدومه حوالي سنة 405 هـ أو قبلها بقليل ) (1).
وانتظم حمزة بين الدعاة الإِسماعيليين الذين كانت تغص بهم القاهرة يومئذ ، ويرجح الدكتور محمد كامل حسين أنه لم يكن من الدعاة ، بل كان يؤدي عملاً في القصر ، وكان على اتصال دائم بالحاكم ، ويضيف قائلاً : ( ويغلب على ظني أن حمزة كان أحد الخدم الخصوصيين للحاكم ، وكان خادمًا ذكيًا لبقًا ذا حيلة ودهاء وخيال خصب ، وكان بحكم عمله في القصر يستمع إلى مجالس الحكمة التأويلية فوعاها وحفظ منها كثيرًا ، وربما قرأ كتب الدعوة التي كانت بالقصر فأفادته في تلوين عقليته وتوجيه أفكاره إلى ما يرضي طموحه ويحقق آماله ، وظل هذه السنوات يهيء نفسه لذلك ) (2).
ومما يؤكد هذا الرأي ركاكة ألفاظه في رسائله – إذ كما يقول الدكتور محمد كامل حسين : - ( لم يكن من الكتاب لأن أسلوبه في رسائله وكتبه ليس به هذا الإشراق ، وتلك الديباجة ، وهذه الرصانة ، التي عرفت عن كتاب الفاطميين ودعاتهم ) (3).
لذلك – وكما يقول الأستاذ عبد الله النجار - : ( تنم من تعابيره كلمات فارسية دخيلة على أسلوب الإنشاء العربي ) (4).
__________
(1) 278) خير الدين الزركلي : الأعلام . ج . ص 310 – ومحمد عبد الله عنان : الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية ، ص 113 – وأحمد عطية : القاموس الإسلامي ، ج 2 ، ص 156 .
(2) 279) محمد كامل حسين : طائفة الدروز . ص 76.
(3) 280) المصدر السابق ، ص 76 .
(4) 281) عبد الله النجار : مذهب الدروز والتوحيد ، ص 123 – 124 .(140/114)
وتقول بول هنري بوردو عن حمزة وأهدافه البعيدة : ( وكان حمزة في الحقيقة داهية دهياء متعمقًا في المباحث الدينية القديمة ، وأن العقائد التي نادى بها تدل تمامًا على أنها ذات العقائد التي كان ينادي بها المقنع الخراساني (1)، هذا اليهودي الذي هاج في خراسان سنة 160 هـ) (2).
وسرعان ما أصبحت لحمزة حظوة عند الحاكم ، بعدما أظهره من إخلاص ، واستطاع بحنكته ودهائه أن يجمع حوله بعض الدعاة ويتفقوا سرا للدعوة إلى تأليه الحاكم بأمر الله ، ومن هؤلاء كان محمد بن إسماعيل الدرزي .
ويظهر أن حمزة بن علي ، وكما يتضح في رسائله ، قد اتفق مع دعاته ألا يجهر أحدهم أو يكشف عن مضمون المذهب الجديد ، إلا بعد تلقي الأوامر منه نفسه ، ولكن الدرزي تسرع في الكشف عن أسرار الدعوة الجديدة سنة 407 هـ ، مما أثار الناس ، وحمل حمزة على الكشف عن دعوته سنة 408 هـ .
يقول حمزة في ( رسالة الغاية والنصحية ) موضحًا هذه النقطة :
(( وغطريس هو نشتكين الدرزي الذي تغطرس على الكشف بلا علم ولا يقين ، وهو الضد الذي سمعتم بأنه يظهر من تحت ثوب الإِمام ، ويدعى منزلته ... إلى أن يقول : وكذلك الدرزي كان من جملة المستجيبين حتى تغطرس وتجبر وخرج من تحت الثوب ، والثوب هو الداعي ، والسترة التي أمره بها إمامه حمزة بن علي بن أحمد الهادي إلى توحيد مولانا جل ذكره )) (3).
__________
(1) 282) هو المقنع الخراساني الحاولي ، الذي اتخذ لنفسه وجها من الذهب ، فلم ينزعه قط ، لئلا يطلع الناس على وجهه المشوه ، وكان يدعي أن الله تعالى قد حل في نفسه بالانتقال والمناسخة .
(2) 283) بول هنري بوردو : أميرة بابلية لدى الدروز : ص 26 – 28 .
(3) 284) رسالة الغاية والنصحية : حمزة بن علي .(140/115)
ومهما يكن من شيء فإن الدعاة إلى المذهب الجديد ظلوا في سترهم مدة طويلة يعملون في الخفاء ، ويدعون الناس سرًا لمبادئهم وتعاليمهم ، حتى قام الدرزي وأعلن الدعوة سنة 407 هـ ، والذي كما يقال : ( قد فتح سجلاً في مساجد القاهرة تكتب فيه أسماء المؤمنين بألوهية الحاكم ، فاكتتب من أهل القاهرة سبعة عشر ألفا كلهم يخشون بطش الحاكم ) (1).
ويبدو أن هذا الأمر قد أحرج حمزة ، مما حمله على الجهر بدعوته الجديدة – كما سبق ذكره – سنة 408 هـ ، فثار الناس على هؤلاء الدعاة ثورة شديدة ساعدهم فيها الجند الأتراك ، مما جعل الدرزي – على أرجح الروايات – يختفي في قصر الحاكم ، حيث عمل على تهريبه بعد ذلك إلى وادي التيم في بلاد الشام ، والذي كان يقطن به التنوخيون ، والذين كانوا يدينون بالولاء للعبيديين ، حيث عمل هناك على بث آرائه ومعتقداته بينهم ، فانضموا إليه وآمنوا بدعوته .
وبسبب شدة الثورة التي قام بها أهل مصر ، على دعاة حمزة وأتباعه ، اختفى حمزة أيضًا سنة 409 هـ ، واعتبرها سنة اختفاء وغيبة .
ويصف حمزة سنة 409 هـ : ( بأنها سنة المحنة والامتحان والعذاب ، وأن القصد من الغيبة أن يمتحن الخلق بغيبته ، والمحنة هي غيابه الذي عاقبهم فيه ) (2).
(( ويبدو أن غيبته في هذه السنة ، كانت استعدادًا للظهور بقوة جديدة للتنظيم بعد ثورة الناس عليه في العام الفائت )) (3).
ويتبين من رسائل حمزة ، أنه في خلال هذه الفترة جعل مقره السري خارج القاهرة في مسجد ( تبر ) ، ولكن خصومه هاجموا مقره وأحرقوا باب المسجد ، ثم وجدوا داخل المسجد بابا من الحجر لا تعمل فيه النار ويصعب نقب جداره ) (4).
__________
(1) 285) ... خير الدين الزركلي : ج 8 . ص 2464 .
(2) 286) عبد الله النجار : مذهب الدروز والتوحيد . ص 115.
(3) 287) المصدر السابق : ص 124 .
(4) 288) مصطفى غالب : الحركات الباطنية في الإسلام ، ص 249 .(140/116)
مما تقدم يتضح بداية الخلاف بين حمزة والدرزي ، والظاهر أن هذا الخلاف قد تفاقم بعد هروب الدرزي إلى الشام ، حيث دعا هناك إلى أراء جديدة خالف بها آراء حمزة ، من ذلك تسمية نفسه بـ ( سيف الإِيمان ) و ( سيد الهادين ) ، وكان أيضًا يلعن مخالفي المذهب ، بينما يقول حمزة : ( اللعنة لا تزيد في الدين ولا تنقص منه ) (1)، وكذلك ( دعوته للحرية الجنسية ) (2).
وأرى أن هذا الاختلافات ، لم تكن بتلك الأهمية لتأجج الخلاف بين الرجلين ، وأن جوهر الخلاف – كما يفهم من كتابات حمزة – إنما كان ( بسبب رئاسة الدعوة الجديدة ، وهذا الأمر أغضب حمزة ، وجعله يعزل الدرزي من مصبه في الشام ، ويؤلب عليه أتباعه في الشام فقتلوه سنة 411 هـ ) (3).
وهذا الخلاف يؤكده حمزة في ( رسالة الغاية والنصحية ) إذ يقول : ( وكذلك الدرزي سمى نفسه في الأول بسيف الإِيمان ، فلما أنكرت عليه ذلك وبينت له أن هذا الاسم محال وكذب ، لأن الإِيمان لا يحتاج إلى سيف يعينه ، بل المؤمنون محتاجون إلى قوة السيف وإعزازه ، فلم يرجع عن ذلك الاسم وزاد عصيانه ، وأظهر فعل الضدية في شأنه ، وتسمى باسم الشرك وقال : أنا سيد الهادين ، يعني أنا خير من أمامي الهادي ) (4).
هذا وكانت مدة ظهور حمزة ثلاث سنوات هي : 408 ، 410 ، 411 ، وأما سنة 409 هـ فإنها – كانت سنة غيبة له . كذلك فقد اختفى بعد سنة 411 هـ ، - وهي السنة التي قتل فيها الحاكم - ، حيث مرت سنوات من الكتمان ، أيضًا لم يظهر فيها ، فقد طورد من قبل الظاهر ابن الحاكم والملك الجديد ، ( مما اضطره إلى الرحيل إلى بلاد الشام ) (5).
__________
(1) 289) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 77 .
(2) 290) سعيد الصغير : بنو معروف ( الدروز ) ، ص 236 .
(3) 291) المصدر السابق ، ص 236 ( بتصرف ) .
(4) 292) رسالة الغاية والنصحية .
(5) 293) خير الدين الزركلي : الأعلام . ج 2 ، ص 310 .(140/117)
وبقي حمزة مختفيًا حتى أزيح الستار قليلاً عن نشاطه ، برسائل أرسلت إلى سواه وذُكر فيها ، أو وجهت إليه ، بعد قرابة عشرين سنة من غيابه ، منها رسالة المواجهة ، التي يتبين منها ، أن حمزة كان لا يزال على اتصال سري بدعاته ، وعلى الخصوص بـ ( المقتني ) بهاء الدين كاتب الرسالة ، والذي يبدأها بـ ( السلام على الإِمام ) موجهًا إليه ( عبيده الزائرين ... رسل العبد الذليل ) (1) .
أما غيبة حمزة الثانية والأخيرة ، ( فإن رسالة بهاء الدين في ( رسالة السفر ) والتي يطلب فيها من المؤمنين ، الإِيمان برجوع حمزة ، وإلى طاعة ولي الحق الإِمام المنتظر ، توضح هذه الرسالة – والتي كتبت في السنة الثانية والعشرين من سني حمزة أي سنة 430 هـ - أن حمزة قد اختفى أو مات سنة 430 هـ ) (2).
مع أن هناك من يقول : ( أنه مات سنة 422 هـ ( 1030 م ) ) (3).
وأما مكانة حمزة عند الدروز ، فهو الإِعظام والإِجلال ، ( فالحديث عنه مقرون دائمًا عندهم بالإِجلال والإِعظام سواء أكان ذلك في مجرى حديث لسان أو على مسرى صفحة من كتاب مطبوع ، أو ورقة من سفر مخطوط ) (4).
وهو عندهم – وكما سمى نفسه في رسائله - ، الإِمام ، وقائم الزمان ، وهادي المستجيبين المنتقم من المشركين ، وعلة العلل ، والعقل الكلي ، والإِرادة ، والقلم ، والطور ، والكتاب المسطور وهو أيضًا المسيح الحق ... إلى غير ذلك من الأسماء والألقاب التي أطلقها على نفسه .
__________
(1) 294) عبد الله النجار : مذهب الدروز والتوحيد ، ص 125 .
(2) 295) المصدر السابق : ص 120 – 126 .
(3) 296) أحمد عطية : القاموس الإسلامي ، ج 2 ، ص 156 .
(4) 297) د . مصطفى الشكعة : إسلام بلا مذاهب ، ص 273 .(140/118)
وحمزة يفتتح رسائله غالبًا بهذه الديباجة ، وكما وردت في ( رسالة البلاغ والنهاية ) : ( تأليف عبد مولانا جل ذكره ، هادي المستجيبين ، المنتقم من المشركين سيف مولانا جل ذكره ) (1) .
وكذلك نجده في ( الرسالة الموسومة بسبب الأسباب ) يصف نفسه بهذه الألقاب أيضًا بأنه : ( الإِرادة فهو علة العلل ، وهو العقل الكلي ، وهو القلم ، وهو القاف ، وهوا القضاء ، وهو الألف بالابتداء ، هو الألف بالانتهاء ... إلى أن يقول : وهو سبحانه منزه عن الكل (2)، وجميع ما في القرآن والصحف ، وما تركه على قلبي من البيان والأسماء الرفيعة فهو يقع على عبده الإِمام ) (3).
وفي هذه الرسالة ينفي حمزة عن نفسه بأنه اخترع هذا الأمر من عند نفسه فيقول : ( وها هنا باب ثان مذموم ، أعاذك المولى سبحانه منه ، وذلك قول من يقول من كافة الناس بأني اخترعت هذا الأمر من روحي ، ووضعت العلم من ذاتي ، وقوتي ، ومولانا جلت قدرته لا يعلم بذلك ولا يرضاه ... وأنا أعيذك من ذلك وجميع الموحدين المخلصين ) (4).
__________
(1) 298) رسالة البلاغ والنهاية في التوحيد .
(2) 299) يقصد الإله المعبود ( الحاكم ) ، فالإله في نظره منزه عن كل الصفات المذكورة في القرآن الكريم – لأنها جميعها تقع على العقل وهو ( حمزة ).
(3) 300) الرسالة الموسومة بسبب الأسباب .
(4) 301) الرسالة الموسومة بسبب الأسباب .(140/119)
وكما أشرت سابقًا ، فإن الدروز يجلون ويعظمون حمزة ، فنجد المقتني بهاء الدين يخاطب حمزة في ( رسالة المواجهة ) بقوله : ( وتطول عليهم بالمسامحة من الغلط والسهو في صحائف التوحيد ، نظمها العبد بتأييد مولاه ، وألفها ، ورسائل إلى دعاة الحق ثناها على التنزيه وعظمها . فما كان يا مولاي في هذه الصحائف والمراسلات والكتب والملطفات التي سيرها العبد من خطاب جزل ، ومنطق صائب ، وقول فصل ، فهو من منه إمام العصر ، ومؤاد (1)قائم الزمان ، وما كان فيها من خطأ وخطل فهو منسوب إلى العبد الأصغر ، الملهوف الظمآن ، يتوسل في تقصيره إلى لطف مولاه ) (2).
وفي كتاب النقط والدوائر – وهو من كتب الدروز الدينية ولا يعرف مؤلفه – يصف كاتبه حمزة بهذه الأوصاف : ( فهو صلوات الله عليه النور الكلي ، والجوهر الأزلي ، والعنصر الأولي ، والأصل الجلي ، والجنس العلي ، فيه بدأت الأنوار ، ومنه برزت الجواهر ، وعنه ظهرت العناصر ، ومنه تفرعت الأصول ، وبه تنوعت الأجناس ... إلى أن يقول : فهو الإِمام ، والدليل على عبادة الله ، والداعي إلى توحيد الله ، والناطق بحق الله ، والبرهان على الله ، والرسول الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) (3).
ولا يزال الدروز إلى الآن على هذا التعظيم لحمزة - ، يقول كمال جنبلاط في مقدمته لكتاب ( أضواء على مسلك التوحيد ) : ( ويجب أن يبقى أبناء التوحيد محافظين على هذا التكريس والتهيؤ التقليدي والاجتباء الإِنساني لفكرة الولاية ، لأنه في النهاية وفي الحقيقة ، لا ولاية على الموحدين ، ولا على الأنام كافة ، إلا للعقل الأرفع ، صلوات المهيمن عليه (4).
__________
(1) 302) هكذا وردت في المخطوط ولعل الصحيح ( ومراد ) .
(2) 303) رسالة المواجهة .
(3) 304) كتاب النقط والدوائر ، 9 – 12 .
(4) 305) د . سامي مكارم : أضواء على مسلك التوحيد ، ص 20 .(140/120)
ويضيف الدكتور سامي مكارم : ( وهذا المعتقد التوحيدي يعتمد العقل في استكشافاته ، ولا يراد بالعقل الأدنى ، أي البشري أو الدنيوي إن صح التعبير ، بل العقل الأرفع أو الكلي الذي هو المبدع الأول ، أبدع من النور الشعشعاني المحض صورة صافية كاملة فتضمن في سره معنى ما كان وما يكون دفعة واحدة بدون زمان ، فكان قوة كاملة وفعلاً تامًا ، وكان علة العلل وأصل الوجود وغايته معًا ) (1).
مما سبق يتبين أن الإِيمان بإمامة حمزة – وأنه المبدع الأول وغير ذلك – هي من أهم معتقدات الدروز ، وأصل عظيم من أصولهم ، لأنه أول الحدود الخمسة الذين يعتقدون بهم ، وهو أيضًا في نظرهم نبي الحاكم .
وقد جاء في مخطوط ( شرح ميثاق ولي الزمان ) (2)ما يلي ثم من تسليم الروح ومعرفة العقل صفي الرب صلى الله عليه ، وتمييزه عن أخوته الأربعة ، وهم : النفس ، والكلمة ، والسابق ، والتالي ، وتمييزه عنهم بأحوال كثيرة 235 .
وفي شعر – مخطوط – لدرزي يسمى بـ ( الشيخ أبي عبيد ) يقول فيه :
ألا صلوا على قلم القضايا ... رسول الله أفضل من أجابا
رسول الله حمزة يا خليلي ... فأولى من أتانا بالكتابا (3)
وحسب عقيدة التناسخ والأدوار عند الدروز ، فقد ظهر حمزة في الأدوار الكبرى ، والأدوار الصغرى بأسماء مختلفة : فهو شطنيل في دور آدم ، وفيثاغورس في دور نوح ، وداود في دور إبراهيم ، وشعيب في دور موسى ، واليسوع في دور عيسى ، وأنه – أي حمزة – هو المسيح الحقيقي الأبدي ، وسلمان الفارسي في دور محمد ( صلى الله عليه وسلم ) (4)، وهو الذي أمل القرآن على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهكذا ...
__________
(1) 306) المصدر السابق ، ص 81 .
(2) 307) مخطوط في جامعة شيكاغو رقم 3737 : أخذت عن نسخة الجامعة الأردنية شريط رقم 29 .
(3) 308) مخطوط في جامعة شيكاغو رقم 3737 : أخذت عن نسخة الجامعة الأردنية شريط رقم 29 .
(4) 309) عبد الله النجار : مذهب الدروز والتوحيد . ص 123 .(140/121)
هذه لمحة سريعة عن حمزة ، إمام الدروز ، وقائم زمانهم ، تبين بوضوح ذكاء ودهاء هذا الرجل ، فقد استطاع أن يكون نموذجًا للدعاة الملاحدة ، الذين ظنوا أنهم يستطيعون أن يقوضوا أركان الإِسلام ودعائمه ، فلم ينفع ذكاؤهم ولا مهارتهم في هذا الدين شيء ، بل حفظ الله هذا الدين . وخابت كل مساعيهم .
ونأتي بعد ذلك إلى الداعي الآخر وهو : الحسن بن حيدة الفرغاني (1) ( الأخرم ) : هذا الداعي لا نعرف عنه إلا الشيء القليل ، ذلك أنه ظهر بمدينة القاهرة عقب ظهور حمزة بقليل ، وكما يقول ابن العماد في شذرات الذهب أنه ظهر ( في الثاني من رمضان سنة 409 هـ ) (2).
وقد دعا إلى مثل ما دعا إليه حمزة من التناسخ والحلول ، وألوهية الحاكم ، وذاعت دعوته بسرعة في جماعة من المغامرين والمرتزقة ، فاستدعاه الحاكم وخلع عليه وأركبه فرسا مطهما ، وسيره في موكبه ) (3).
غير أنه لم تمض على ذلك أيام قلائل ، حتى وثب عليه رجل من أهل السنة وقتله وقتل معه ثلاثة رجال من أتباعه ، فغضب الحاكم وأمر بإعدام قاتله ودفن الأخرم على نفقة القصر في حفل رسمي ، كما أن جمهور أهل السنة احتفلوا بمأتم القاتل ودفنوه مكرمًا ) (4). ( ولكن القبر نبش بعد أيام واختفت جثته ، وكان ذلك على ما يظهر بوحي الحاكم ورغبته ) (5).
__________
(1) 310) نسبة إلى فراغان ، بالفتح . مدينة واسعة بما وراء النهر متاخمة لبلاد التركستان . بينها وبين سمرقند خمسون فرسخا . انظر ياقوت الحموي في معجم البلدان ، ج 4 ، ص 253 .
(2) 311) ابن العماد : شذرات الذهب ، ج 3 ، ص 194 .
(3) 312) محمد عبد الله عنان : الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية ، ص 115 .
(4) 313) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 78 .
(5) 314) محمد عبد الله عنان : الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية ، ص 115 .(140/122)
هذا تلخيص لكل ما ذكره المؤرخون عن هذا الداعية ، والظاهر من رسائل حمزة أنه لم يكن ضد الأخرم ، كما كان ضد الدرزي ، على أن ( الرسالة الواعظة ) لأحمد حميد الدين الكرماني ، تفيدنا بعض الشيء عن مهمة الأخرم وهي رسالة موجهة إلى الأخرم ردًا على رقعة بعث بها الأخرم إليه ، حيث يتضح من هذه الرسالة أن الأخرم هو الذي كان يقود حركة الدعاية للمذهب الجديد وأنه هو الذي كان يبعث بالرقاع إلى الناس يدعوهم فيها إلى عقيدته الجديدة وكان يطلب من العلماء وكبار الدعاة أجوبة فكتب إليه الكرماني ( الرسالة الواعظة ) .
وأول ما يراه الكرماني في رقعة الأخرم أنها خالية من البسملة ومن الصلاة على النبي ، وعلى الأئمة من ذريته ، ويضيف الكرماني قائلاً : ولا تخلو أن تكون في تظاهرك بولاء أمير المؤمنين عليه السلام ، إما متبعًا له ، أو غير متبع ، فإن كنت متبعًا فبمخالفتك إياه فيما أمرك به من السجلات المكرمة من السلام عليه في جميع المكاتبات وقعودك عن الاقتداء فيما يفعله من تصدير سجلاته وجميع مكاتباته وخطبه بسم الله الرحمن الرحيم ، والاستفتاح به ، والصلاة على سيد المرسلين وخاتم النبيين والتبرك بها قد كفرت .(140/123)
ومن الأفكار التي قالها الأخرم في رقعته للكرماني : من عرف منكم إمام زمانه حيًا ، فهو أفضل ممن مضى من الأمم من نبي أو وصي أو إمام ... وأن من عبد الله من جميع المخلوقين ، فعبادته لشخص واحد لا روح فيه ، ويتساءل عن معنى الآية الكريمة ( عينًا تسمى سلسبيلاً ) (1) [ الدهر : 18 ] ، وعن : الإسلام وشرائطه ؟ وعن : الذي يتقرب به إلى المعبود ؟ وهل الشريعة محدثة أم قديمة مع الدهر ؟ وما النفس ؟ وما العقل ؟ ثم ينتهي به القول إلى أن الشريعة والتنزيل والتأويل خرافات وقشور وحشو ولا تتعلق بها نجاة ، وأن الناس لا يوجهون وجوههم إلى القبلة لأنها حائط ، وأن المعبود هو الحاكم ) (2).
وهذا يدل على أن الأخرم كان من مؤسسي هذه الدعوة ، وكان لسان دعايتها ، ولا ندري تمامًا مرتبته بين الحدود ، لأنه قتل قبل أن يتبلور مركز الحدود ومراتبهم ، ولا ندري ماذا يكون مصيره مع حمزة لو قدر له أن يعيش .
أما الداعية الآخر ، والذي ينسب إليه الدروز فهو : محمد بن إسماعيل الدرزي ( نشتكين ) : في حديثنا فيما سبق عن حمزة بن علي ، ذكرنا أن أول من كشف عن عقائد المذهب الدرزي ، كان محمد بن إسماعيل الدرزي سنة 407 هـ ، مما اضطر حمزة إلى الإِعلان والكشف عن دعوته لتأليه الحاكم سنة 408 هـ .
والدرزي على الأرجح من أصل تركي ، ويذكر المؤرخون أنه وفد على مصر سنة 407 هـ ، فخدم الحاكم وتقرب إليه ، ولكن الذي يرجحه الدكتور محمد كامل حسين : أن الدرزي كان قبل هذا التاريخ في مصر واتصل بحمزة بن علي مدة طويلة قبل إظهار الدعوة ، وعملاً معًا في رسم خططها ) (3).
ويصرح حمزة في ( رسالة الغاية والنصيحة ) : بأن الدرزي كان يضرب الدنانير والدراهم ، وهذا مما يؤكد أن الدرزي كان قريبًا من حمزة والحاكم .
__________
(1) 315) سورة الدهر : آية 18 .
(2) 316) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 79.
(3) 317) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 79.(140/124)
ولاشك أن الدرزي كان من أقوى رسل حمزة وأشدهم عزمًا وجرأة ، وكان يسير على طريقة حمزة في الدعوة ، ( ومن الغريب أن حمزة في إحدى رسائله يتهم الدرزي بأنه لا يقر إلا بإنسانية الحاكم بأمر الله ، دون ألوهيته ، مستندًا في هذا إلى أن الدرزي يقول : أن روح آدم انتقلت إلى علي بن أبي طالب ، ثم انتقلت روح علي إلى الحاكم ، وعلي هو الأساس ، والأساس هو مجرد إمام ، وليس إلهًا ) (1).
أما عن مصير الدرزي بعد أن كشف عن هذا المذهب ، فيختلف المؤرخون في ذلك ، فمنهم من يقول بقتله في ذلك الوقت على يد الأتراك .
ومنهم من يرجح أنه لم يقتل في هذا الظرف ، ولكنه اختفى في القصر أيامًا بحماية الحاكم حتى هدأت العاصفة وسكن الجند ، ثم دبر الحاكم له سبيل الفرار ، وعانه بالمال ، فسار إلى الشام ونزل ببعض قرى بانياس (2)وأذاع في الناس دعوته ، فكانت أصل مذهب الدروز الذي سمى باسمه ، وحاول هناك أن ينقلب على حمزة ويدعي الإِمامة والرئاسة له ، فقتل بتحريض من حمزة سنة 411 هـ ، والأرجح أن هذا هو السبب الوحيد والجوهري لغضب حمزة عليه .
ويفهم من رسائل حمزة بأن الدرزي لم يكن وحيدًا ، بل كان معه دعاة آخرون أمثال البرذعي ، وعلي بن أحمد الحبال ، ويذكر ذلك في ( رسالة الغاية والنصيحة ) فيقول : ( وفرعون البرذعي ، وهامان علي بن الحبال ، لأن فرعون كان داعي وقته ، فلما أبطأ الناطق قال : ( أنا ربكم الأعلى ) (3)يعني إمامكم الأعظم ، وهامان الذي فتح له باب المعصية ) (4).
__________
(1) 318) د. عبد الرحمن بدوي : مذاهب الإسلاميين ،ج ، ص 595.
(2) 319) هما بلدان على الساحل السوري ، وعند القنيطرة .
(3) 320) يشير إلى الآية الكريمة ( فحشر فنادى ، فقال أنا ربكم الأعلى ) سورة النازعات : آية 24 .
(4) 321) رسالة الغاية والنصيحة .(140/125)
ويقول أيضًا في رسالة ( الصبحة الكائنة ) : ( وما منكم أحد إلا وقد نصحته بحسب الهداية إلى دعوته ، فمنكم من استجاب ، ونكث مثل علي بن أحمد الحبال الذي كان مأذونًا لي ، وعلى يده استجاب نشتكين الدرزي ) (1).
ويذكر كذلك في ( رسالة الرضا والتسليم ) : ( وأما البرذعي فأنا أرسلت إليه ودعوته إلى توحيد مولانا جل ذكره ، فلما أرسل إليه الدرزي رسوله ومعه ثلاثة دنانير وأوعده بالمركوب والخلع فمضى إلى عنده وفتح له أبواب البلايا والكفر ، أما أصحابه كلهم فمكتوبة عندي عليهم وثائق بالشهود العادلة لأن لا يراجعوا عما سمعوه مني أبدًا ).
ومن خلال هذه الرسالة يتبين لنا أن حمزة عندما عرض على البرذعي أمر الاستجابة إلى دعوته ، شرط عليه أن يأتيه بتوقيع الحاكم ، ( وهذا يعني أن الحاكم كان يعلم بدعوة حمزة ، وكان على اتصال وثيق به ) (2).
وفي ختام حديثنا عن دعاة الدروز ، لابد أن نلم قليلاً باثنين من حدودهم الخمسة وأكابر دعاتهم وهما :
أبو إبراهيم إسماعيل بن حامد التميمي ، صهر حمزة ويليه في مرتبة الحدود ، والذي يلقب بالنفس ، وذومصة ، والمشيئة ، وإدريس زمانه ، وأخنوخ أوانه .
والداعية الثاني هو : بهاء الدين أبو الحسن علي بن أحمد السموقي ، المعروف بالضيف ، وهو الحد الخامس من الحدود ، ومرتبته الجناح الأيسر ، أو التالي .
أما التميمي ، فلاشك أنه من الحدود الكبار – عند الدروز – الذين قام المذهب على أكتافهم ، ( وتؤكد النصوص التاريخية أن حمزة كان يعتمد على صهره وساعده الأيمن الذي ينفذ بدقة ونشاط أصعب المهمات وأشدها خطرًا ) (3).
__________
(1) 322) رسالة الصبحة الكائنة.
(2) 323) مصطفى غالب : الحركات الباطنية في الإسلام ، ص 243 .
(3) 324) مصطفى غالب : الحركات الباطنية في الإسلام ، ص251.(140/126)
وقد كتب التميمي عدة رسائل من مجموع رسائل الدروز منها : رسالة في تقسيم العلوم ، والزناد ، والشمعة ، والرشد والهداية ، وله أيضًا شعر يمجد فيه الحاكم اسمه ( شعر النفس ) .
ومع ذلك فنحن نعجب لسكوت كتب التاريخ ، ورسائل الدروز عن هذا الداعية بعد غياب حمزة سنة 411 هـ ، إذ لا يوجد لدينا أي شيء عن هذا الداعية بعد هذا التاريخ .
ونأتي بعد ذلك إلى الداعية الآخر بهاء الدين ، والذي كان له أكبر الأثر في انتشار مذهب الدروز وقيامه بعد غياب حمزة سنة 411 هـ ، وذلك لأن مرتبته في الدعوة هي مرتبة الجناح الأيسر أو التالي ، وسنرى في حديثنا عن الحدود في العقيدة الدرزية ، أن من يشغل هذه المرتبة يكون لسان الدعوة ، وله من الحدود : الجد ، والفتح ، والخيال .
وقد استمر بهاء الدين يحمل أعباء الدعوة إلى مذهبه ، فكتب الرسائل إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الدخول في مذهبه ، كما كتب إلى الذين خرجوا عن المذهب بعد أن كانوا من دعاته أمثال الداعي ( سكين ) (1)الذي ادعى أنه الإِله المعبود ، وأنه الحاكم بأمر الله .
ومما يذكر أن الكثير من رسائل الدروز ، قد كتبها بهاء الدين ، ومن هذه الرسائل : ( رسالة التنبيه والتأنيب والتوبيخ ) ، ( رسالة التعنيف والتهجين ) ، ( ورسالة القسطنطينية ) ، وغير ذلك من رسائل كثيرة كتبها ، وأغلبها في الرد على الآراء الجديدة التي حاول الخارجون عليه أن يبثوها ، لذلك تحمل أكثر العناوين من رسائله التأنيب والتوبيخ والتعنيف .
__________
(1) 325) أحد دعاة الدروز الأوائل ، وكان يشبه الحاكم في بعض ملامحه ، فلما قتل الحاكم ادعى أنه الحاكم ، فاجتمع حوله بعض المفتونين ، واستطاع أن يدخل القصر على أنه الحاكم ، ولكن لم يلبث أن عرف الحراس حقيقته فقتل ، ويعتبره الدروز مارقا وخارجا عن مذهبهم.(140/127)
ولما شعر بهاء الدين باضطراب الأحوال ، بعد أن كثرت الآراء الدخيلة في المذهب ، أخذ يهدد أتباعه باعتزال الدعوة ، وبالفعل اعتزلها سنة 434 هـ ، بعد أن أقفل باب الاجتهاد حرصا على الأصول والأحكام التي وضعها حمزة ، والتميمي ، وما وضعه هو نفسه ) (1).
هؤلاء هم دعاة الدروز ، وعلى أيديهم قام المذهب الجديد ، وسنعرض عند الحديث عن حدود الدروز باقي هؤلاء الدعاة .
ولاشك أن حمزة كان إمامهم وداعيتهم الأكبر ، وكان طموحه كبيرًا وكان بهاء الدين بالفعل متممًا حقيقيًا لما بدأه حمزة ، ولولا بهاء هذا لانقرض هذا المذهب بعد غياب حمزة .
******
__________
(1) 326) مصطفى غالب : الحركات الباطنية في الإسلام ، ص 252.(140/128)
ملف رقم (2)
الباب الثاني
عقيدة الدروز والرد عليها
الفصل الأول : عقيدة الدروز ...
ويتضمن ما يلي :
ألوهية الحاكم عند الدروز .
التناسخ والتقمص والحلول .
الحدود الخمسة .
عقيدتهم في اليوم الآخر والثواب والعقاب .
عقيدتهم في الأنبياء .
عقيدتهم في التستر والكتمان .
رسائلهم وكتبهم المقدسة .
الفصل الثاني : الرد على عقيدتهم ...
ويتضمن ما يلي :
إبطال مفهومهم للألوهية ، وحلول اللاهوت في الناسوت .
إبطال قولهم بالتناسخ والرجعية .
الفصل الأول
عقيدة الدروز
1 – ألوهية الحاكم عند الدروز :
لعل أهم عقيدة نراها في كتب ورسائل حمزة بن علي وغيره من الدعاة ، أن للحاكم بأمر الله حقيقة لاهوتية لا تدرك بالحواس ولا بالأوهام ، ولا تعرف بالرأي ولا بالقياس ، ومهما حاول الإنسان أن يفكر فيه لمعرفة كنهه فيه فهو محاولة فاشلة لأن لاهوته ليس له مكان ، ولكن لا يخلو منه مكان ، وليس بظاهر كما أنه ليس بباطن .
ولا يوجد اسم من الأسماء يمكن أن يطلق عليه ، لأنه لا يدخل تحت الأسماء ، إذ لا يتصف بصفات ، ولا يمكن التعبير عنه بلغة من اللغات .
وهكذا يتفق ذكر التوحيد في رسائل الدروز ، وحديثهم عن لاهوتية المعبود ، يتفق تمام الاتفاق مع ما ورد في كتب الدعوة الإِسماعيلية عن الله سبحانه وتعالى ، ففي كتاب ( راحة العقل ) لأحمد حميد الدين الكرماني ، الذي كان معاصرًا لحمزة بن علي ، نجد سورًا كاملاً ذا سبعة مشارع في التوحيد والتقديس ، وحديثه في ذلك كله هو حديث رسائل الدروز .(141/1)
فقد جعل الكرماني المشرع الأول : في بطلان كونه تعالى ليسًا (1)، والمشرع الثاني : في بطلان كونه تعالى أيسًا (2)والمشرع الثالث : في أنه تعالى لا ينال بصفة من الصفات وأنه لا بجسم ولا في جسم ولا يعقل ذاته عاقل ... ثم ختم السور بالمشرع السابع : الذي جعله من قبيل نفي الصفات الموجودة في الموجودات وسلبها عنه تعالى ) (3).
وكنت قد أوردت في فصل سابق رسالة مهمة تتحدث عن هذا المعتقد هي ( كتاب فيه حقائق ما يظهر قدام مولانا جل ذكره من الهزل ) حيث اتضح لنا من خلافات كيف ينظر حمزة وأتباعه إلى أفعال الحاكم ويظهرونها أفعالاً تدل على الألوهية .
وبما أن عقيدة ألوهية الحاكم ، هي المرتكز الرئيسي لعقيدة الدروز فلابد لنا من استعراض بعض ما كتبوه في رسائلهم حول هذا الأمر .
ومع أن الدروز يحاولون – تسترًا وكتمانًا – أن ينفوا هذا المعتقد أمام الأخرين ، وذلك تجنبًا لثورة الناس عليهم ، وهو ما أمرت به رسائلهم ، والذي يفهم منها أنه يجوز للموحد أن ينفي عبادته للحاكم أمام الضد .
وأبدأ أولاً بـ ( ميثاق ولي الزمان ) ، وهو نص العهد الذي وضعه حمزة بن علي ليؤخذ على الداخلين في دعوته :
(( توكلت على مولانا الحاكم الأحد ، الفرد الصمد ، المنزه عن الأزواج والعدد . أقر فلان بن فلان ، إقرارًا أوجبه على نفسه ، وأشهد به على روحه ، في صحة من عقله وبدنه ، وجواز أمره ، طائعًا غير مكره ولا مجبر .
__________
(1) أي محال ليسيته ، إذ لو كان ليسا لكانت الموجودات أيضا ليسا ، فلما كانت الموجودات موجودة ،كانت ليسيته باطلة.
(2) أي موجود مثل سائر الموجودات المخلوقة.
(3) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ص 104 ، 105.(141/2)
أنه قد تبرأ من جميع المذاهب والمقالات والأديان والاعتقادات ، كلها على أصناف اختلافاتها ، وأنه لا يعرف شيئًا غير طاعة مولانا الحاكم جل ذكره ، والطاعة هي العبادة ، وأنه لا يشرك في عبادته أحدًا مضى أو حضر أو ينتظر ، وأنه قد سلم روحه وجسمه وماله وولده وجميع ما يملكه لمولانا الحاكم جل ذكره ، ورضي بجميع أحكامه له وعليه ، غير معترض ولا منكر لشيء من أفعاله ساءه ذلك أم سره .
ومتى رجع عن دين مولانا الحاكم جل ذكره الذي كتبه على نفسه وأشهد به على روحه ، أو أشار به إلى غيره ، أو خالف شيئًا من أوامره . كان بريئا من الباري المعبود ، واحترم الإِفادة من جميع الحدود ، واستحق العقوبة من البار العلي جل ذكره .
ومن أقر أن ليس في السماء إله معبود ، ولا في الأرض أمام موجود إلا مولانا الحاكم جل ذكره كان من الموحدين الفائزين .
كتب في شهر كذ وكذا من سنة كذا وكذا من سنين عبد مولانا جل ذكره ومملوكه حمزة بن علي بن أحمد ، هادي المستجيبين ، المنتقم من المشركين والمرتدين بسيف مولانا جل ذكره وشدة سلطانه وحده ) (1).
وقد ورد هذا الميثاق أيضًا في مصحف الدروز في ( عرف العهد والميثاق ) بوصفه : ( العهد الذي أمر مولانا الحاكم جل ذكره ، بكتابته على جميع الموحدين الذين آمنوا به ، جل ذكره ) (2) .
__________
(1) ميثاق ولي الزمان.
(2) مصحف الدروز : عرف العهد والميثاق ، ص 111.(141/3)
ولكن ورد في هذا المصحف ، وقبل الميثاق ، عهد جديد ، لا نعرفه إلا من هذا المصحف سمي بـ ( العهد ) ، وهذا يعطي انطباعًا لقاريء مصحفهم أن العهد والميثاق متلازمان في العقيدة الدرزية ، ولذلك نورد فيما يلي نص هذا العهد ، لأهمية ذلك في إيضاح نظرة الدروز وعقيدتهم والباقية للآن في ألوهيتهم للحاكم : ( آمنت بالله ، ربي الحاكم ، العلي الأعلى ، رب المشرقين ، ورب المغربين وإله الأصلين والفرعين ، منشيء الناطق والأساس ، مظهر الصورة الكاملة بنوره ، الذي على العرش استوى ، وهو بالأفق الأعلى ، ثم دنا فتدلى ، وآمنت به ، وهو رب الرجعى وله الأولى والآخرة ، وهو الظاهر والباطن .
وآمنت بأولي العزم من الرسل ، ذوي مشارق التجلي المبارك حولها وبحاملي العرش الثمانية ، وبجميع الحدود ، وأومن عاملاً قائمًا بكل أمر ومنع ينزل من لدن مولانا الحاكم ، وقد سلمت نفسي وذاتي وذواتي ، ظاهرًا وباطنًا ، علمًا وعملاً ، وأن أجاهد في سبيل مولانا ، سرًا وجهرًا بنفسي ومالي وولدي وما ملكت يداي ، قولاً وعملاً ، وأشهدت على هذا الإِقرار جميع ما خلق بمشارقي ومات بمغاربي .
وقد التزمت وأوجبت على هذا نفسي وروحي بصحة من عقلي وعقيدتي ، وإني أقر بهذا ، غير مكره أو منافق ، وإنني أشهد مولاي الحق الحاكم ، من هو في السماء إله وفي الأرض إله ، وأشهد مولاي هادي المستجيبين ، المنتقم من المشركين المرتدين ، حمزة بن علي بن أحمد ، من به أشرقت الشمس الأزلية ، ونطقت فيه وله سحب الفضل : إنني قد برأت وخرجت من جميع الأديان والمذاهب والمقالات والاعتقادات قديمها وحديثها ، وآمنت بما أمر به مولانا الحاكم الذي لا أشرك في عبادته أحدًا في جميع أدواري .(141/4)
وأعيد فأقول : إنني قد سلمت روحي وجسمي وما ملكت يداي وولدي لمولانا الحاكم جل ذكره ، ورضيت بجميع أحكامه لي أو علي ، غير معترض ولا منكر منها شيئا ، سرني ذلك أم ساءني ، وإذا رجعت أو حاولت الرجوع عن دين مولانا الحاكم جل ذكره ، والذي كتبته الآن وأشهدت به على روحي ونفسي ، أو أشرت بالرجوع إلى غيري ، أو جحدت أو خالفت أمرًا أو نهيًا من أوامر مولاي الحاكم جل ذكره ونواهيه .
كان مولاي الحاكم جل ذكره ، بريئًا مني واحترمت الحياة من جميع الحدود ، واستحقت على العقوبة في جميع أدواري من باريء الأنام جل ذكره ، وعلى هذا أشهدك ربي ومولاي ، من بيدك الميثاق ، وأقر بأنك أنت الحاكم الإِله الحقيقي المعبود ، والإِمام الموجود جل ذكره ، فاجعلني من الموحدين الفائزين الذي جعلتهم في أعلى عليين ، ثلة من الأولين ، وقليل من الآخرين ، مولاي إن تشاء آمين ) (1).
وقد أورد القلقشندي نصا غريبا ليمينهم هذا ، لا يتوافق مع معتقداتهم ، وخاصة بالنسبة للدرزي ، الذي يصفه هذا القسم بأنه : الحجة الرضية ، وهذا ما لا يقبله الدروز ويرفضونه (2) ، وهكذا فإن هذا الميثاق وغيره يبتر حبل الصلة بين المستجيب وكل ما يؤمن به سواه ، ويدفعه لتلقي كل ما يرويه حمزة وتلاميذه – مرورًا ببهاء الدين وانتهاء بجنبلاط – عن الحاكم بالرضى والتسليم .
ويوضح حمزة في ( الرسالة الموسومة بكشف الحقائق ) لماذا أظهر اللاهوت ناسوته ؟ فيقول :
(( لكنه سبحانه أظهر لنا حجابه الذي هو محتجب فيه ، ومقامه الذي ينطق منه ليعبد موجودًا ظاهرًا ، رحمة منه لهم ورأفة عليهم ، والعبادة في كل عصر وزمان لذلك المقام الذي نراه ونشاهده ونسمع كلامه ونخاطبه ، فإن قال قائل : كيف يجوز أن نسمع كلام الباري سبحانه من بشر ، أو نرى حقيقته في الصور ؟
__________
(1) مصحف الدروز : عرف العهد والميثاق ، ص 107 – 110.
(2) انظر القلقشندي : صبح الأعشى ، ج 13 ، ص 294.(141/5)
قلنا له : بتوفيق مولانا جل ذكره وتأييده ، أنتم جميع المسلمين واليهود والنصارى ، تعتقدون بأن الله عز وجل خاطب موسى بن عمران من شجرة يابسة ، وخاطبه من جبل جامد أصم ، وسميتموه كليم الله لما كان يسمع من الشجرة والجبل ، ولم ينكر بعضكم على بعض ، وأنتم تقولون بأن مولانا جل ذكره ملك من ملوك الأرض ، ومن وُلي على عدد من الرجال ، كان له عقل الكل ، ومولانا جل ذكره يملك أرباب ألوف كثيرة ما لا يحصى ولا يقاس فضيلته بفضيله ، شجرة أو حجر ، وهو أحق بأن ينطق الباري سبحانه على لسانه ، ويظهر للعالمين قدرته منه ، ويحتجب عنهم منه . فإذا سمعنا كلام مولانا جل ذكره قلنا : قال الباري سبحانه : كذا وكذا ، لا كما كان موسى يسمع من الشجرة هفيفًا فيقول : سمعت من الله كذا وكذا ، وهذه حجة عقلية لا يقدر أحدكم ينكرها .
وقد اجتمع في القول بأن لمولانا جل ذكره عقول الأمة ، وأن الشجرة والحجر لا تفهم وتعقل عن الله (1)، ومن يفهم ويعقل عن الله أحق بكلام الله وفعله ممن لا يعقل عنه ، وإن كانت الشجرة حجابه ، فالذي يعقل ويفهم أحق أن يكون حجاب الله ممن لا يعقل ولا يفهم ، وكيف يجوز الباري سبحانه أن يحتجب في شجرة ويخاطب كليمه منها ثم تحرق الشجرة ويتلاشى حجابه ، سبحان الإِله المعبود عما يصفون ، لا يدرك ولا يوصف مولانا الحاكم جل ذكره وحجابه في كل عصر وزمان باختلاف الصور والأسماء ، كما نطق القرآن : ( كل يوم هو في شأن لا يشغله شأن عن شأن ) (2).
__________
(1) وقد تعامي عن أن الله قادر على إنطاق الحجر والشجر.
(2) الرسالة الموسومة بكشف الحقائق : وهنا يشير إلى الآية الكريمة ( يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن ) سورة الرحمن : 29.(141/6)
وفي مصحف الدروز يدعي أن العباد كانوا يتوسلون ظهور الواحد الأحد ، فيقول : ( انظروا ثم انظروا ، واسترجعوا الأيام السالفة ، فكم من العباد كانوا يتوسلون منتظرين ظهور الواحد الأحد ، والحاكم الصمد ، والفرد بلا عدد ، في الهياكل القدسية ، على شأن وصفة يعلمها كل من ألقى السمع وهو شهيد .
ها قد تفتحت أبواب العناية ، وارتفعت غمة المكرمة ، وظهرت شمس الغيب في أفق القدرة .
والآن وبعد الآيات البينات ، قمتم على تكذيب ما تنتظرون ورفض أحكم الحاكمين ، وفوق كل ذلك ، أنكم تبتعدون عن لقائه الذي هو عين لقاء الله ، كما صرح به الكتاب : ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) (1).
وإلا فقولوا لي أيها الضالون المعاندون : فهل جاء لكم رب غيره مع جنوده ، أروني إن كنتم صادقين ، أو لم تعاهدوه ، وتضعوا أيديكم في يده ، أو لم ينادكم ، وأخذه عليكم ميثاقًا ، وقال : { يد الله فوق أيديهم }(2) [ الفتح : 10 ] ( وبذلك شهد الكتاب ) (3).
لذلك فإنه يعيب على الذين كفروا بالحاكم ، ذلك لأن في قلوبهم مرض ويقول : ( لقد كبر على الذين كفروا ، أن يروا الله جهرة كأمثالهم ، وضلت ألبابهم وظنوه كأجسامهم وهياكلهم .
__________
(1) 10) سورة الفجر : آية 22.
(2) 11) سورة الفتح : آية 10 ، وهل يعني بهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة الرضوان ؟!.
(3) 12) مصحف الدروز : عرف الأمر والتقديم ، ص 10 – 11.(141/7)
إن الذين في قلوبهم مرض ، فزادهم الله مرضا ، وأمدهم في طغيانهم يعمهون (1)، وأما الذين آمنوا ، وسبقت ، منه لهم ، كلمة الحسنى ، فإنه ظهر لهم ليمنحهم نعم الإِيمان ، المكنونة في سدرة المعرفة المخزونة التي استظل بها أولو العزم من الرسل ، حتى لا تحرم الهياكل الفانية من أثمار المشاهدة الباقية عساهم يفوزون ويؤتون الحكمة بتجلي ذي الجلال الحاكم ) (2) .
ولهذا فإن لهم عذابًا شديدًا لكفرهم بدعوة الحاكم ، ويقول مصحفهم :( لئن ينتعل أحدكم بنعلين من نار ، يغلي بهما دماغه من حرارة نعليه ، إنه لأهون ، وأدنى عذابًا ، من رافض دعوة مولاه الحاكم ، بعد إذ تبين الرشد من الغي ... إلى أن يقول : ولو أن من في الأرض استغفر لهم لن يغفر الله مولاهم الحاكم الصمد ، والفرد بلا عدد ، والواحد الأحد ، خطيئاتهم ، ولو افتدى أحدهم بما في الأرض جميعًا فلا ينجيه ) (3).
والدروز ينفون عن الحاكم أنه ابن العزيز ، أو أبو علي ، أو له أب أو ولد ، وهذا ما ينفيه حمزة في ( رسالة البلاغ والنهاية في التوحيد ) ويقول :
__________
(1) 13) يلاحظ هنا كيفية اقتباسه الآيتين الكريمتين في سورة البقرة : ( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ) آية 10 ، وقوله تعالى ( الله يستهزيء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ) آية 15.
(2) 14) مصحف الدروز : عرف التنبيه والهداية ، ص 18.
(3) 15) المصدر السابق : عرف الإنذار والحساب ، ص 19 – 25.(141/8)
لأن مولانا سبحانه ( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) (1) [ غافر : 16 ] ( وما من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ، ولا أدنى من ذلك إلا هو معهم ) (2) [ المجادلة : 7 ] سبحانه وتعالى عن إدراك العالمين والعاليين والملائكة المقربين والناس أجمعين علوا كبيرا .
فالحذر الحذر ، أن يقول واحد منهم بأن مولانا جل ذكره : ابن العزيز ، أو أبو علي ، لأن مولانا سبحانه هو في كل عصر وزمان يظهر في صورة بشرية وصفة مرئية كيف يشاء حيث يشاء ... إلى أن يقول : وهو سبحانه لا تغيره الدهور ولا الأعوام ولا الشهور ، وإنما يتغير عليكم بما فيه صلاح شأنكم ، وهو تغيير الاسم والصفة لا غير ، وأفعاله جل ذكره تظهر من القوة إلى الفعل كما يشاء ( كل يوم هو في شأن ) (3) [ الرحمن : 29 ] ، أي كل عصر في صورة لا يشغله شأن عن شأن .
وأما من قال واعتقد بأن مولانا جل ذكره ، سلم قدرته ونقل عظمته إلى الأمير علي ، أو أشار إليه بالمعنوية فقد أشرك بمولانا سبحانه ، غيره وسبقه بالقول ... فمن منكم يعتقد هذا القول فليرجع عنه ويستقيل منه ويستغفر المولى جل ذكره ويقدس اسمه من ذلك ... ولا يجوز لأحد يشرك في عبادته ابنًا ولا أبًا ، ولا يشير إلى حجاب يحتجب مولانا جل ذكره فيه إلا بعد أن يظهر مولانا جل ذكره أمره ، ويجعل فيمن يشاء حكمته ، فحينئذ لا مرد لقضائه ولا عاصيًا لحكمه في أرضه .
__________
(1) 16) سورة غافر : آية 19.
(2) 17) يشير إلى الآية الكريمية ( ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم ) سورة المجادلة : آية 7.
(3) 18) سورة الرحمن : آية 29.(141/9)
ويضيف قائلاً : والنور الشعشعاني التمام ، ومعبود جميع الأنام ، الصورة المرئية الظاهر لخلقه بالبشرية المعروف عند العالم بالحاكم .
وما أدراك ما حقيقة الحاكم ؟ ولم تسمى بالحاكم في هذه الصورة ؟ دون سائر الصور ؟ ومولانا جل ذكره غير غائب عن ناسوته ، فعله فعل ذلك المحجوب عنا في نطقه ذلك النطق ، لا يغيب اللاهوت عن الناسوت إلا أنكم لا تستطيعون النظر إليه ، ولا لكم قدرة بإحاطة حقيقته .
وأراد بالحاكم ، أي يحكم على جميع النطقاء والأسس والأئمة والحجج ويستعبدهم تحت حكمه وسلطانه ، وهي عبيد دولته ومماليك دعوته الحاكم بذاته ... وترك الاعتراض فيما يفعله مولانا جل ذكره ، ولو طلب من أحدكم أن يقتل ولده لوجب عليه ذلك بلا إكراه قلب ، لأن من فعل شيئًا وهو غير راض به لم يثب عليه ، ومن رضي بأفعاله وسلم الأمر إليه ، ولم يراء إمام زمانه ، كان من الموحدين الذين لا خوف عليهم .
واعلموا أن الشرك خفي المدخل ، دقيق الستر والمسبل ، وليس منكم أحد إلا وهو يشرك ولا يدري ، ويكفر وهو يسري ويجحد وهو يزدري ، وذلك قول القائل منكم : بأن مولانا سبحانه صاحب الزمان ، أو إمام الزمان ، أو ولي الله أو خليفته ، أو ما شاكل ذلك من قولكم : الحاكم بأمر الله ، أو سلام الله عليه ، أو صلوات الله عليه ) (1).
وبالإِضافة إلى الرسالة – السابق ذكرها – (2) ( كتاب ما يظهر قدام مولانا من الهزل ) هناك رسالة أخرى لحمزة هي ( رسالة السيرة المستقيمة ) يعطينا فيها حمزة المزيد من تأويلاته لأفعال الحاكم الغريبة ، ومما يقوله :
ومن رسوم مولانا جل ذكره الركوب في الهاجرة ، والمسير في الرمضاء وفي الشتاء ، إذا كان يوم جنوب صعب وغبار عظيم يتأذون الناس في بيوتهم من ذلك الريح والغبار .
__________
(1) 19) رسالة البلاغ والنهاية في التوحيد.
(2) 20) وردت في فصل ( الحاكم بأمر الله حياتة وآراؤه ).(141/10)
ثم يركب المولى سبحانه في ظاهر الأمر إلى حجر الجب ، ويرجع وما في الموكب أحد إلا وقد دمعت عيناه من الغبار والريح ، وكلت ألسنتهم عن النطق الفصيح ، ونالهم من المشقة والتعب ما لم يقدر عليه أحد ، ومولانا سبحانه على حالته التي خرج بها من الحرم المقدس ، ولم يراه (1)أحد قط في وقت الهاجرة الهائلة والسموم القاتلة قد اسود له وجه في ظاهر الأمر ، ولا لحقه شيء من تعب ، ولا يقدر أحد منهم يقول بأنه لحقه شيء من ذلك .
ومع هذا فقد ترك خلق كثير ممن هو معه في المواكب وكدهم بالنظر إليه لمثل هذه الأمور ، فلم يروا منها شيئا ، ولا يقدر أحد يقول من حضر مع مولانا سبحانه في ظاهر الأمر في مواضع لا يحصرها كل الناس ، أنه شاهد (2)يفعل شيئًا مما ذكرناه من تعب أو أكل أو شرب حاشاه سبحانه من ذلك .
وأيضًا ما يزعم المشركون به مما أوراهم (3)من علة جسم من حيث أعلال قلوبهم ، وهو في ظاهر الأمر يركب في محفة يحملها أربعة من الأضداد المشركين وتشق به أوساط المارقين الناكثين والمنافقين ، وما من العساكر إلا وقد قتل ساداتهم ، والرعية كلهم أعداؤه في الدين ، إلا شرذمة يسيرة موحدين له مؤمنين به راضين بقضائه ، ومن رسوم الملوك أنهم لا يثقوا بأحد من عساكرهم ، ولا من أولادهم خوفًا من غدرهم .
فكيف يزعمون أنه مريض ، وليس يقدر يمشي ، وقد قتل جبابرة الأرض وملوكهم ، ويمشي بينهم في محفة ، وهو الذي ذكرته لكم في هذه السيرة وأصناف هذه الأفعال ليس هي فعل أحد من البشر ، وما هو شيء يستعظم للمولى سبحانه ) (4).
إذن فكل هذا القتل ، والسفك ، وغير ذلك من أفعاله ، لم تكن طبيعية ، بل هي مقررة ، تمت بخطة يستوعبها الناس على أن هذا ليس من فعل بشر ، وإنما هو فعل إله : يقتل ، ويحيي ، ويرزق ، ويمنع .
__________
(1) 21) كذا في الأصل.
(2) 22) كذا في الأصل.
(3) 23) كذا في الأصل.
(4) 24) رسالة السيرة المستقيمة.(141/11)
أما لماذا تسمى الإِله المعبود بأسماء العباد ؟ فهذا أيضا ما يوضحه حمزة في ( رسالة السيرة المستقيمة ) بقوله : ( فإن قال قائل : فلم تسمى المولى سبحانه باسم العبد ، وما الحكمة فيه ؟
قلنا له بتوفيق مولانا جل ذكره وتأييده : أن جميع ما يسمون الباري جل ذكره في القرآن وغيره فهو لعبيده وحدوده ، وأجل اسم عندهم في القرآن ( الله ) ، وظاهره خطوط مخلوقة ، وباطنه حدود مرئية مرزوقة وظاهره اسم وباطنه مسمى ، والمعبود غيرهما وهو الاسم الحقيقي ، وهو لاهوت مولانا سبحانه وتعالى عما يصفون .
فلما كانت العبيد عاجزين عن النظر إلى توحيد باريهم إلا من حيث هم وفي صورهم البشرية ، أوجبت الحكمة والعدل أن يتسمى بأسمائهم حتى يدركون بعض حقائقه ) (1).
ولكي يبرهن دعاة الدروز على أن عبادتهم وتأليههم للحاكم هي العبادة الصحيحة ، يحاولون أن يثبتوا أن عبادة جميع أهل النحل والأديان الأخرى ، هي عبادة عدم ، لأنها بلا معرفة ولا مشاهدة . يقول المقتني بهاء الدين في ( الرسالة الموسومة بالشافية لنفوس الموحدين ) ما يلي :
وذلك أن جميع أهل النحل والأديان يعترفون بالمعبود وينكرون إذا دعيوا إلى حقيقته – الوجود – كما قال : ( يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ) (2)، أي يقرون أن لهم باريا ، فإذا دعيوا إلى معرفة توحيده أنكروا وجوده ، وكلهم أعني من قدمت ذكره من جميع أهل النحل والأديان يوجبون على أنفسهم عبادة يرجون بها ثوابه ويفرون بها من عقابه ، والعقل يقطع ويشهد ويوجب أن الثواب لا يصح ولا يثبت إلا من بعد معرفة المثيب إذ كان الخلق إلى معرفة المثيب هم أحوج منه إلى معرفة ثوابه ، وأيضًا جميع أهل الشرع والمذاهب المتقدمة .
__________
(1) 25) رسالة السيرة المستقيمة.
(2) 26) يشير إلى الآية الكريمة ( يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون ) سورة النحل : آية 81.(141/12)
وأيضًا فإن كان معدومًا فقد سقطت الحجة عن جميع الخلق وكانت الكل معذورين في توقفهم عن طلب الحق ، ويؤيد ما ذكرته ما تقدم به الخلق من أقوالهم ، أن الله لا يحتجب عن خلقه لكن حجبته عنهم أعمالهم ) (1).
وفي هذا المعنى أيضًا يقول في ( رسالة من دون قائم الزمان والهادي إلى طاعة الرحمن ) ما يلي : ( وجميع العالم على شك ، والشك هو الكفر لأنهم يعبدون من لا يسمع ولا يُسمع ، ولا يضر ولا ينفع ، ولا يدرون هل عبادتهم مراده ، أو أراد منهم شيئًا مما أجازته عقولهم .
وأيضًا فقد تقدم القول بأن المولى جل ذكره عادل غير جائر ، تعالى وجل عما يقوله الملحدون علوا كبيرا ، فأي عدل يقتضي أن يكون فوق سبع سموات على كرسي فوق السماء السابعة كما يزعم المشركون (2)، وقد كلفنا مع هذا عبادته ومعرفته ، فهل في وسع أحد أن يعرف ما خلف الجدار الذي هو أقرب إليه من كل قريب إن لم يكشف عنه وينظره بعينه ، فنعوذ بالمولى أن ننسبه أنه احتجب بهذه الحجبة ، ثم كلفنا مع ذلك عبادته ومعرفته ، بل ظهر تعالى بهذه الصورة الناسوتية التي تشاكلنا من حيث المجانسة والمقابلة ، فهذا نفس العدل .
__________
(1) 27) الرسالة الموسومة بالشافية لنفوس الموحدين.
(2) 28) لقد حرصت منذ بداية البحث حتى الآن على ضبط النفس . والمناقشة الهادئة ، على كثرة ما مر بي من مخالفة للعقل أو النقل . وأما هاهنا ، فإن هذا الكلام لا أجد مجالا للسكوت عنه ، وإلا فكيف يعتبر شركا من أثبت لله جل وتعالى ما أثبت هو لنفسه من العلو المطلق فوق سبع سماوات ، والأيات في كتاب الله صريحة الدلالة ، كما أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تثبت هذا في المواضع الكثيرة . وأي مخالفة للعقل في قول ذلك ؟ إذا قلنا أن الله سبحانه وتعالى منزه عما نسبتم إلى عبد من مخلوقاته الحاكم أو غيره ؟ وجعلتم ذلك شركا ، فيا سبحان الله ( إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) المؤلف .(141/13)
ووجه آخر أن ابن آدم غرض الباري من جميع المخلوقات ، فلما صح عند ذوي العلم والمعرفة والفهم ، أن ابن آدم أفضل الأشياء كلها وجب أن يحتجب الباري جلت قدرته في أجل الأشياء ، واحتجب بأشرف المخلوقات ، واحتجب بأعلم الأشياء ، فنعوذ بالمولى من سوء اعتقاد من يعتقد أنه في الأموات ، وأيضًا فإن العالم كله ما اخلتفوا في أن الباري قادر فأين قدرته لو غاب الدهر كله لا يظهر ، أليس يكون عجز عن الظهور ؟
وأيضًا فلو ظهر الدهر كله ، ثم لم يغب لعجز عن الغيبة ، ولو ظهر في كل الظهورات بصورة واحدة وعلى حالة واحدة لكان ذلك عجزًا ) (1).
بهذه الطريقة يحاول حمزة ودعاته أن يثبتوا أن ظهور الاهوت بصورته الناسوتية ( الحاكم ) ، كان رحمة للناس وعدلاً لهم منه ، وفي زعمهم أن أهل الأديان الأخرى لا يعبدون إلا العدم الذي لا يسمع ولا ينفع ولا يضر ، فكان ظهوره هذا رحمة للموحدين .
أما لماذا تسمى الحاكم – ( الإمام ) ؟ فيجيبنا حمزة على ذلك بقوله : ( ولو كان في العالمين شيء أفضل من الإِمامة ، لكان المولى جل ذكره في ظاهر الأمر تسمى به ، فلما لم يظهر في الناسوت إلا باسم الإِمامة علمنا أنه أجل أسماء المولى جلت قدرته ) (2).
وعن نهي الحاكم تقبيل الأرض بين يديه ، وتأويل ذلك ، تجيب عنه ( الموسومة برسالة النساء الكبيرة ) إذ تقول : ( ألم تسمعن ما تلي عليكم في السجل المكرم أيضا ، بالنهي عن تقبيل الأرض بين يدي مولانا جل ذكره ، ألم تعلمن أن الأرض هي الأساس ، وأن التقبيل أخذ علمه ، وقد نهاكن عن ذلك ) (3).
وفي شرح ( ميثاق ولي الزمان ) يشرح قول حمزة في الميثاق : ( وأنه لا يعرف شيئًا غير طاعة مولانا جل ذكره ) بقوله :
__________
(1) 29) رسالة من دون قائم الزمان والهادي إلى طاعة الرحمن .
(2) 30) رسالة الصيحة الكائنة .
(3) 31) الموسومة برسالة النساء الكبيرة .(141/14)
المعرفة ها هنا بالفعل لا بالعلم ، يعني أنه لا يدخل في عبادة الحاكم سبحانه ولا يعتقد سواه ، كقوله : لم أعرف غيره ولم أتوجه إلا إليه ، وكقوله : لم ينطلق في الدعوة الشركية ولا يعرف غير الدعوة اللاهوتية .
والطاعة هي العبادة ، لأن العبادة في هذا الموضع تأليه وتقديس ، وفي غير هذا الموضع العبادة هي الاتباع والطاعة مطلقًا ، ويجوز للعبد أن يقول عن نفسه : أنه يعبد الإِمام أي يتبعه ويطيعه ، كقوله : ( إن كنتم إياه تعبدونه ) (1)أي تطيعون وتتبعون .
وإنما أظهر لنا الناسوت رفقًا بنا وطمأنينية لقلوبنا ، لأن ليس في طاقتنا مقابلة الأهوة . وقال : ولو انكشف لها معرفة مبدعها من غير تأنيس ولا تدريج لصعقت لقدرته وخرت ، فلو تجلي جل جلاله للخلق من حيث هو لتلاشي كل شيء لعظم إشراق ضوء شعاع نور الأهوة .
ويجب على من أقر بصورة الناسوت أنه يعلم علما يقينا أن اللاهوت فيها غير منفصل عنها كقوله : إن الحجاب هو المحجوب ، والمحجوب هو الحجاب ذلك هو ، وهو ذلك لا فرق بينهما ، وكقوله لا يغيب اللاهوت عن الناسوت ، ومثل الناسوت في اللاهوت مثل الخط من المعنى ، فالخط مثل الناسوت ) (2).
ولا يزال الدروز حتى الآن يؤمنون ويقولون بهذه الأقوال ، من هؤلاء الدكتور سامي مكارم الذي يقول :
__________
(1) 32) يشير إلى الآية الكريمة ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ، واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون ) سورة فصلت : آية 37.
(2) 33) شرح الميثاق : كاتبه محمد حسين . مخطوط في جامعة شيكاغو رقم 3737 : ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 29.(141/15)
(( ويمكننا أن نقول : إن الناسوت من اللاهوت كالخط من المعنى ، وكما أن فكر الإِنسان المحدود بالكيفية والإِضافة والزمان وما شابه ذلك لا يستطيع أن يدرك المعاني مجردة من الخط أو الصورة أو الصوت ، كذلك لا يمكن أن يدرك اللاهوت بوجه من الوجوه ، وإنما يتجلي الله في الناسوت ، ويكون هذا الناسوت قد تنزه عن كل ما ليس هو في حقيقته وشموله ، فأضحى تشخيصًا للإِنسان الكامل ، أي ناسوتًا مجردًا متطهرًا مثاليًا متنزلاً بتجرد الباقي السرمدي فيه عن التوهم والفناء .
وهذا هو التأنيس بالنسبة للآخرين بغية التعرف من خلاله إلى حقيقة الموجود في سعي بعضهم ، وتقربهم ، وطلبتهم للمشاهدة والتوحيد الآخر ) (1).
والدروز يعتقدون أن الإِله المعبود اتخذ له في الأدوار الماضية صورًا ناسوتية أخرى ، ويعتقدون أيضًا أن هذه الأدوار كانت سبعة أدوار وأن الإِله المعبود قد أظهر ناسوته في هذه الأدوار عشر مرات أو ( مقامات ) ، وفي ( رسالة السيرة المستقيمة ) حديث طويل عن هذه الأدوار ، يقول حمزة في هذه الرسالة :
وهو القسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ، هو الحاكم جل ذكره نطق بأن مولانا جل ذكره هو القائم على كل نفس بما كسب ، وهو المعز ، وهو العزيز ، وهو الحاكم جل ذكره ، يظهر لنا في أي صورة شاء كيف يشاء ( إن الدين عند الله الإِسلام ) (2)، أي سلموا أمورهم إلى المولى سبحانه ورضوا بقضائه ، فهم المسلمون له حقا ، والمؤمنون به ، والموحدون له تأليهًا وسدقًا .
وتسمى مولانا جل ذكره بالقائم لأن أول ما ظهر للعالم بالملك والبشرية في أيام النطقاء الناموسية والشركية ، فقام على العالمين بالقوة والقدرة ) (3).
__________
(1) 34) د . سامي مكارم أضواء على مسلك التوحيد ، ص 128.
(2) 35) سورة آل عمران :آية 19.
(3) 36) رسالة السيرة المستقمية.(141/16)
فتغيير صور ناسوته إنما كان لصلاح شأن الناس ، لأن ناسوته لا يفارق لاهوته طرفة عين ، لذلك ظهر في مقام القائم باسمه ووصفه ، وظهر في مقام المنصور جلت قدرته ، وهو في مقام المعز جلت عظمته ، وفي مقام العزيز أيضًا جل جلاله ( العزيز والمعز هما أب وجد الحاكم بأمر الله ) ، وكل هؤلاء واحد لا يشغله شأن عن شأن ، يعني لا يشغله ظهوره في صورة عن ظهوره في صورة أخرى ) (1).
والمقامات الناسوتية التي ظهر فيها المعبود هي كما يعتقد بها الدروز :
العلي .
البار .
أبو زكريا : ظهر في وقت السماء الثالثة سنة 220 هـ .
عليا : ظهر في وقت السماء الرابعة .
المُعل : ظهر في وقت السماء الخامسة .
القائم : كان طفلاً استودعه مع سر إمامته أبوه المعل برعاية سعيد المهدي الملقب بـ ( عبيد الله ) سنة 280 هـ ، وكان سعيد في العشرين من عمره ، هرب بالقائم من وجه العباسيين إلى مصر سنة 289 هـ ، ثم إلى شمال أفريقية سنة 308 هـ ، وهو مؤسس الدولة الفاطمية .
تلاه المنصور الذي حكم من سنة 334 إلى سنة 341 هـ ، ثم المعز من سنة 341 إلى سنة 365 هـ ، وهما مع القائم يعتبرون في المذهب الدرزي ذاتًا واحدة .
العزيز : من سنة 365 إلى سنة 386 هـ ، وأخيرًا الحاكم بأمر الله ) (2).
والاعتقاد بهذه المقامات العشرة ، واجب مؤكد على الدرزي ، ففي رسالة درزية مخطوطة ، مجهولة المؤلف وعنوانها ( ذكر ما يجب أن يعرفه الموحد ويعتقد به ويحفظه ويسلك بموجبه ، وهو قول موجز عن كتاب الفرائض ) يقول فيها مؤلفها :
__________
(1) 37) مخطوط في تقسم جبل لبنان . مؤلف مجهول ، مخطوط في الجامعة الأمريكية رقم 31 ، ويوجد عنه شريط في الجامعة الأردنية رقم 699.
(2) 38) عبد الله النجار : مذهب الدروز والتوحيد ، ص 95 – 96.(141/17)
ويجب معرفته تعالى في المقامات العشرة الربانية وهم : العلي ، والبار ، وأبو زكريا ، وعليا ، والمعل ، والقائم ، والمنصور ، والمعز ، والعزيز ، والحاكم ، وكلهم إله واحد لا إله إلا هو .
فالعلي الأعلى كل زمان تجريد ولا إمامة فيه ، ولم يكن قبله شيء وظهر في أول الدنيا ، ثم البار تجريد عن الإِمامة وظهوره في أواخر أدوار الدنيا ، وبين العلي والبار تسع وستون كشفة ، وبين كل كشف وكشف سبع شرائع ، وبين كل شريعة وشريعة سبعة أئمة ، ومدة كل إمام مائة ألف سنة ، فتكون الأدوار والشرائع من العلي إلى البار ثلثمائة ألف سنة .
ثم بعد غيبة مقام البار سبحانه وتعالى ، ظهر آدم الجزي الذي هو أحنوخ بشريعة توحيدية يدعو إلى توحيد البار سبحانه ، وظهر بعده سبعة أئمة من حروف الصدق وحدوا حدوده ، ثم ظهرت بعدهم الشرائع الناموسية بالنطقاء التكليفية الذين هم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، ومحمد ، وسعيد المهدي ، وكلهم نفس واحدة ، وبين كل ناطق وناطق سبعة أئمة ، ودخل أهل الحق في هذه الشرائع المذكورة (1).
وأما ظهور أبي زكريا وعليا (2)والمعل ، كان بإمامة مستورة في دور محمد بن إسماعيل ، ثم بعد سعيد المهدي ظهر البار سبحانه في مقام القائم والمنصور والمعز والعزيز ، وذلك في الخلافة الظاهرة والإِمامة الباطنة .
وأما مقام الحاكم فظهر بالثلاث منازل المذكورة ، ثم تجرد بالوحدانية وكشف توحيده مدة من السنين ، ثم أعطى الخلافة والإِمامة لعلي الظاهر (3)، الذي هو الدجال ، وأعطى الإِمامة الحقيقية إلى صاحبها الذي هو القائم المنتظر حمزة بن علي صلى الله عليه ) (4).
__________
(1) 39) يقصد بأهل الحق . الدروز.
(2) 40) كذا بالأصل.
(3) 41) يقصد خليفة الحاكم وابنه علي.
(4) 42) مخطوط ذكر ما يجب أن يعرفه الموحد ، مخطوط في مكتبة القديس بولس في الجامعة الأمريكية ببيروت رقم 206 ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 715.(141/18)
ومما يذكر أن حمزة أيضًا أيضًا وجميع الحدود الآخرين كانوا يظهرون في هذه الأدوار بأسماء وصور مختلفة .
وفي ( رسالة السؤال والجواب ) هذا الحوار أيضًا عن المقامات الناسوتية التي ظهر بها اللاهوت :
س : وكم مرة ظهر مولانا الحاكم بالصورة الجسمانية ؟
ج : ظهر عشر مرار ، وتسمى بالمقامات وهم : العلي ، البار ، عليا ، المعل ، القائم ، المعز ، العزيز ، أبو زكريا ، المنصور الحاكم .
س : فأول المقامات الذي هو العلي ، أين ظهر ؟
ج : ظهر في الهند في مدينة يقال لها حين ما حين .
س : والبار أين ظهر ؟
ج : بالعجم في مدينة يقال لها أصبهان (1)ولأجل هذا تقول الفرس بارخدا ، وعليا ظهر في اليمن ، والمعل ظهر بالمغرب ، في صورة رجل مكاري على ألف جمل ، والقائم ظهر بالمغرب في مدينة يقال لها المهدية (2)، ومنها جاء إلى مصر ، وأبو زكريا والمنصور ظهرا في المنصورة (3)، والمنصور كان اسمه إسماعيل .
س : وكيف نقول في باقي الملل ، الذين يقولون أننا نعبد الرب الذي خلق السماء والأرض ؟
ج : ولو قالوا ذلك لا يصح معهم ، لأن العبادة لا تصح بلا معرفة ، ولو قالوا عبدنا ولم يعرفوا أن الرب هو الحاكم بذاته فتكون عبادتهم كاذبة ) (4).
ويقول الدكتور محمد كامل حسين : ( وليس لنا أن نناقش هذه العقيدة ، إلا أننا نحب أن نسجل أن ظهور أبي زكريا القرمطي كان أسبق من ظهور القائم بأمر الله .
__________
(1) 43) مدينة عظيمة مشهورة في بلاد فارس .
(2) 44) مدينة اختطها المهدي عبد الله ، وهي في أفريقية قرب القيروان.
(3) 45) وهي في موضعين ، الأول في أرض السند ، والثانية أيضا قرب القيروان في أفريقية استحدثها المنصور بن القائم بن المهدي بالمغرب سنة 337 هـ.
(4) 46) رسالة السؤال والجواب : مخطوط في مكتبة القديس بولس في الجامعة الأمريكية ببيروت رقم 206 ، وعنه شريط في الجامعة الأردنية رقم 715.(141/19)
ثم قولهم في ( رسالة السيرة المستقيمة ) : أن القائم كان بمصر وبنى بها بابا يسمى الرشيدية ، كل ذلك بعيد عن الحقيقة التاريخية ، حقيقة حاول القائم بأمر الله فتح مصر أكثر من مرة ولكن لم يوفق ، فكيف أقام بها وشيد بها بابًا ؟ ) (1).
والحقيقة أن الدارس لرسائل الدروز وخاصة رسائل حمزة يجد المغالطات التاريخية التي لا تخفي على أحد ، وخصوصًا عندما يتحدث حمزة عن ظهوراته أيضًا في المقامات المختلفة من زمن آدم عليه السلام إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم .
وكل هذا يدل دلالة واضحة على الشعوذات والمغالطات التاريخية التي أتبعها حمزة في إثبات معتقداته .
غير أن هناك نقطة مهمة في هذا الموضوع أحب أن أوضحها ، وهي أن المقام الأخير من ظهور اللاهوت بالناسوت – أعني ظهور الحاكم – كان الظهور الأخير من ظهور المعبود .
لأن المعبود غضب – بعد ذلك – على كل خلقه ماعدا الموحدين ؟! ولذلك أغلق باب دعوته فغاب إلى داخل السور المسمى ( سد الصين ) ليبقى إلى أن يشاء ثم يظهر يوم الدين .
__________
(1) 47) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 107.(141/20)
وهذا ما يقوله حمزة في ( رسالة الأسرار ومجالس الرحمة والأولياء ) ، أما متى سيكون يوم الدين فهذا ما تحدث عنه حمزة مرارا بأنه سيكون قريبًا ، وبذلك يكون انتهاء هذا الدور ، كما صرح حمزة : أن الأدوار السابقة سبعون دورًا ومن كل دور واحد سبعون أسبوعًا وكل أسبوع سبعون سنة ، وكل سنة ألف سنة من السنين التي يعدها البشر (1)، وفي كل هذه الأدوار ظهر المعبود في نفس الصور التي ظهر في هذا الدور الذي نعيش فيه ، وبذلك يكون عدد ظهور المعبود في كل الأدوار حوالي سبعمائة مرة ) (2). والغريب أن كمال جنبلاط يحدد ظهور التجلي الإِلهي الجديد في حدود سنة ( 2000 م ) ، حيث يتنبأ بظهور التجلي الإِلهي والحكيم من جديد ، وعندها يفتح الطريق من جديد ويصير بإمكان جميع الناس في كافة أصقاع العالم سلوكها (3).
ويقول المقتني بهاء الدين عن يوم الدين حسب وجهة نظره :
وأنتم تعلمون معاشر الإِخوان ، وفقكم المولى لطاعته وسددكم عرضاته ، أن قد صح عندكم أن الدنيا قد أفناها مولانا الحاكم سبحانه ، وأنكم في أوائل الآخرة ودليلكم على ذلك واضح ، وذلك أن مولانا سبحانه أظهر لكم إمام توحيده فنادى بكم وأرشدكم ... واعلموا معاشر الإِخوان ، أن لو كان المعبود سبحانه ينتقل بعد هذا الظهور في الأقمصة المختلفة لكان هذا أمر لا نفاذ له ، وأمد لا آخر له ، وكانت تنفذ الديانة الآن ، ويكون هذا يدل على أن من عمل عملاً لم يجازي عليه من ضد وولي ) (4) .
__________
(1) 48) بعملية حسابية بسيطة تكون عدد السنين هذه ( 343 ) مليونا ، وهذا ما يرجعنا إلى ما قاله كمال جنبلاط أن الموحدين ظهوروا منذ ( 343 ) مليونا من السنين ، ويبدو أنه اعتمد على ما قالته هذه الرسالة وجعلها حجة ؟! انظر ص 99.
(2) 49) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 109.
(3) 50) كمال جنبلاط / هذه وصيتي ص 50.
(4) 51) رسالة بني أبي حمار.(141/21)
ونختتم هذا المبحث عن ألوهية الحاكم ، بـ ( شعر النفس ) الذي نظمه أحد حدودهم : إسماعيل بن محمد التميمي صهر حمزة ، وهو موجود بين رسائلهم ، يمجد فيه الحاكم الإله المعبود ، يقول التميمي في هذا الشعر :
إلى غاية الغايات قصدي وبغيتي ... ... إلى الحاكم العالي على كل حاكم
إلى الحاكم المنصور عوجوا وأتمموا ... فليس فتى التوحيد فيه ينادم
هو الحاكم الفرد الذي جل اسمه ... ... وليس له شبه يقاس بحاكم
حكيم عليم قادر مالك الورى ... ... يؤانس بالاسم المشاع بحاكم
هو الحاكم المولى بناسوته يُرى ... ... ولاهوته يأتي بكل العظائم
تسمى إمامًا والإِمام عبده ... ... يتقظى ولا يصغى إلى كل نائم
وقد ظهر المولى فآنس عبيده ... ... بأفعالهم أنسا بحكم حاكم
ظهورا بأفعال العبيد وشكلهم ... ... ويؤنسهم والخلق شبه بهائم (1).
إن النصوص السابقة وأخرى كثيرة مثلها ، تدل صراحة على تأليه الحاكم من قبل الدروز :
وأمام هذه النصوص الواضحة والجلية ، أتساءل : لماذا يحاول الدروز للآن أن ينفوا ظاهرًا هذا عن معتقدهم ؟ مع أنهم يؤكدونها في مجالسهم الخاصة . يقول الأستاذ عبد الله النجار ( وهو درزي ) : ( وإني لأذكر عتاب كبير الأشياخ الثقات ، لأني ذكرت في أحد الكتب المطبوعة : أن أم الحاكم كانت صقلبية ، إذ قال لي : أن الحاكم لا أم له مرددا ما جاء في الرسالة 26 : حاشا مولانا جل ذكره من الابن والعم والخال ، ( لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) (2) .
ولقد حاولت جهدي أن لا أعلق كثيرًا على ما تضمنته هذه الرسائل ، لأن ما تحويه لا تجعل مجالاً لأي تعليق ؟ وما تضمنته يغني عن أية زيادة ؟!
2 – التناسخ والتقمص والحلول .
__________
(1) 52) شعر النفس : إسماعيل التميمي.
(2) 53) عبد الله النجار : مذهب الدروز : والتوحيد : 105 ، 106 ، وهنا يشير إلى الآيتين الكريمتين في سورة الإخلاص : آية 3 – 4.(141/22)
يستدل من النصوص الواردة في رسائل الدروز ، بأن الدروز يعتقدون بالتناسخ والتقمص ، أي بانتقال النفس من جسم بشري إلى جسم بشري آخر ، باعتبار أن النفس لديهم لا تموت ، بل يموت قميصها ( الجسم ) ، ويصيبه البلي ، فتنتقل النفس إلى قميص آخر .
وهذا خلاف التناسخ الذي تعتقده فرق أخرى – كالنصيرية - ، والذين لا ينحصر عندهم التناسخ بين الناس ، بل يكون أحيانًا بينهم وبين البهائم – أي بمعنى المسخ - ) (1).
وعقيدة الدروز تنكر المسخ في التناسخ إنكارًا صريحًا ، وتنفيه نفيًا قاطعًا ، حتى إنها استبدلت لفظة التناسخ بـ ( التقمص ) ، لأن في انتقال النفس إلى جسم حيوان ظلم له ، ولأن العقاب والثواب بني – حسب ما يزعمون – على قاعدة العدل الإِلهي في محاسبة الأرواح بعد مرورها في الدهر الطويل ، لا في مدى حياة واحدة ، بخيرها وشرها ، وقصرها أو طولها ، بحيث يمنحها الدهر الطويل فرص الاكتساب والتطور ، والامتحان والتبدل ، لكي تحاسب حسابًا عادلاً على مجموع ما كتب ، فلا تكون الأرواح كيانات مبهمة غير واعية ) (2).
ولكن الدروز يعتقدون بالمسخ المعنوي أو المجازي ، يقول الأستاذ عبد الله النجار : ( المسخ في اللغة تحويل الصورة إلى أقبح منها ، فيقال مسخه الله قردًا ، وهذا دينيا ، ورد ذكره ، مجازي معنوي ، المقصود منه التحقير ، والذم ، والتوبيخ ، وهو تعبير مجازي وليس حسيا على الإِطلاق .
وإنما تكون الحكمة في عذاب رجل يفهم ويعرف العذاب ، ليكون مأدبة له وسببا لتوبته ... وإنما يكون العذاب الواقع في الإِنسان ، نقلته من درجة عالية إلى درجة دونها في الدين ، وفي قلة معيشته وعمى قلبه في دينه ودنياه ) (3).
__________
(1) 54) مخطوط في تقسم جبل لبنان : مخطوط في الجامعة الأمريكية ببيروت رقم 31 ، ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 699.
(2) 55) عبد الله النجار : مذهب الدروز والتوحيد ص 62.
(3) 56) الله النجار : مذهب الدروز والتوحيد ص 61 - 62.(141/23)
ومن اعتقادهم في هذا الموضوع : ( أن العالم قد خلق دفعة واحدة ، وأن البشر خلقوا سوية وليسوا بمتناسلين من أب واحد ، بل من حين الخليقة وجد الحايك في نوله ، والبناء على الحائط ، وأن عدد أنفس البشر لا يزيد ولا ينقص ) (1).
وفي هذا المعنى جاء في رسالة ( من دون قائم الزمان ) ما يلي :
( أليس قد صح عند كل ذي عقل ومعرفة بالحقيقة والفضل ، أن هذه الأشخاص أعني عالم السواد الأعظم لم يتناقصوا ولم يتزايدوا ، بل هي أشخاص معدودة من أول الأدوار إلى انقضاء العالم والرجوع إلى دار القرار .
والدليل على ذلك أن هذه الخلقة أعني العالم العلوي والسفلي ليس لها وقت محدد ، ولا أمد عند العالم معدود ، أليس لو زاد العالم في كل ألف سنة شخصًا واحدًا لضاقت بهم الأرض .
ثم إنه لو نقص في كل ألف سنة شخص واحد لم يبق منهم أحد ، فصح عند كل ذي عقل راجح ، ومن هو بالحقيقة لنفسه ناصح ، أن الأشخاص لم تتناقص ولم تتزايد ، بل تظهر بظهورات مختلفات الصور على مقدار اكتسابها من خير وشر ) (2).
وكذلك نجد في ( رسالة ذكر الرد على أهل التأويل الذين يوجبون تكرار الإِله في الأقمصة المختلفة ) ما يلي :
عرفوني يا شيوخ التجريد هذه القوى التي تفارق الأجسام أين مستقرها ؟ وأين يكون ثباتها ؟ فإن قلتم : فيما بين الأرض والسماء ، فهي لكثرة النشوء تسد ما بين العالمين ، وتخالط الهوى وتأتي عليها الطبائع ويدخل عليها من التضاد والفساد ما يدخل على غيرها ، وإن أوجبتم أن ثباتها فوق السماء فهي تملأ الأفق ) (3).
__________
(1) 57) كريم ثابت : الدروز والثورة السورية ، ص 34.
(2) 58) رسالة من دون قائم الزمان والهادي إلى طاعة الرحمن.
(3) 59) رسالة ذكر الرد على أهل التأويل الذين يوجبون تكرار الإله في الأقمصة المختلفة.(141/24)
والملاحظ في رسائل حمزة أن العذاب الواقع بالإِنسان يكون بنقلته من درجة عالية إلى درجة دونها من درجات الدين ، ويستمر تنقله من جسد إلى جسد بتناسخ روحه وتقمصها في الأجساد ، وهو كلما تنتقل روحه من جسد إلى جسد تقل منزلته الدينية .
أما الجزاء في الثواب مادام يتكرر في الأجساد فهو زيادة درجته في العلوم الدينية وارتفاعه من درجة إلى درجة ) (1).
وهكذا تمر النفس في دورانها بحالات مختلفة وتظل كذلك حتى تتطهر – إن كانت صالحة - ، وبعد هذا التطهير يكون الزمن الذي يعقب قيام القيامة التي يترقبها الدروز ، أما النفس الشريرة فتظل معذبة بجميع أنواع العذابات المعروفة .
والعذاب الأكبر هو عذاب الضمير ، وعذاب الندم على ما فات ، لأنها لم تنتفع من أدوارها الماضية ) (2).
وهم يعتقدون أنه : ( كلما مات إنسان انتقلت روحه لمولود جديد ، ويسمى ذلك عندهم الفرقة والخلقة ، ويشبهون النفس بالسائلات التي تحتاج إلى إناء يضبطها فإذا كسر فلابد من تلقي السائل في إناء غيره لئلا يهرف ويضيع ) (3).
وبناء على ذلك فإذا مات أحد من مذهبهم فإنه يولد ثانية على نفس هذا المذهب ، ولهذا فلا يقبلون أحدا في مذهبهم حتى ولو اطلع الإِنسان على كتبهم وعرف ديانتهم واعتقد صحتها وسلك بموجبها فلا فائدة من ذلك ، بل حين موته ترجع روحه إلى مذهبه القديم .
وكذلك إذا انتقل أحد من مذهبهم إلى غيره ، فإنهم لا يعترفون بذلك ، لأن روحه في النقلة الأخرى ستعود إلى مذهبه القديم (4).
يقول الدكتور سامي مكارم عن هذه النقطة : ( ففي عقيدتهم أن الذين نقلوا الدعوة وتعرضوا إلى الحقيقة في الماضي لا يزالون يولدون من تقبل الدعوة .
__________
(1) 60) مصطفى غالب . الحركات الباطنية في الإسلام ، ص 263.
(2) 61) سعيد الصغير : بنو معروف ( الدروز ) ، ص 239.
(3) 62) كريم ثابت : الدروز والثورة السورية ، ص 34.
(4) 63) المصدر السابق ، ص 47.(141/25)
كذلك فإن التقمص في معتقد التوحيد ليس تطورًا للروح في هذا الدور ، بل هو تقلب الروح في شتى الأحوال ، لكي يتسني لها أن تختبر هذه الأحوال .
فمن لم يتقبل نداء الحق ، حسب معتقد التوحيد ، لا يمكنه إلا أن يحصد نتيجة أعماله في حيواته التالية ، وكذلك هي الحال بالنسبة لمن تقبل هذا النداء وتعرف إلى الحقيقة .
والتقمص يتضمن – عند الدروز أيضًا – تمييزًا جنسيًا ، فالذكر يولد ذكرًا ، والأنثى أنثى ) (1).
ونتيجة لهذه النظرية عندهم ؛ فإنهم يقولون : ( عن ذوي العاهات والمصابين كالأعمى والأعرج والفقير والجاهل ، أن مصابهم هو قصاص عن ذنوبهم في مدة حياتهم السابقة ، ويحتجون بذلك على النصارى فيما ورد بالإِنجيل حينما سأل الرسل السيد المسيح : عن ذلك الأعمى هل هو أخطأ أم أبواه ؟ حتى ولد أعمى ، ويقولون : إنه إذا كان قد أصيب بالعمى وقت ميلاده لخطيئته ظهرت منه .
ويعتقدون أيضًا : أن إيليا النبي هو يوحنا المعمدان ، وأن المسيح أي حمزة أخبر عنه في إنجيل متى : بأن يوحنا هو إيليا ، ويجعلون هذا برهانا على التقمص ، وهكذا يجعلون الغني والعالم والجاهل ، إنما استحقوا ذلك مكافأة لهم ) (2).
ويتسدل الدروز بآيات من القرآن الكريم ليثبتوا فيها اعتقادهم بالتناسخ ، مؤولين معناها ليتفق مع ما يزعمون ، ومن ذلك ما استدل به الأستاذ فؤاد الأطرش من آيات القرآن الكريم ، زاعمًا أنها تدل على التناسخ :
{ كلما نضجت جلودهم ، بدلناهم جلودًا غيرها }(3) [ النساء : 56 ] .
{ كيف تكفرون ( بنعمة ) الله ، وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون } (4).
__________
(1) 64) د . سامي مكارم : أضواء على مسلك التوحيد ، 121 – 122.
(2) 65) كريم ثابت : الدروز والثورة السورية ، ص 48.
(3) 66) سورة النساء : آية 56.
(4) 67) سورة البقرة : آية 28 ، وقد وردت الآية هكذا ، ويلاحظ أن ( كلمة نعمة ) غير موجودة في الآية ، والصحيح ( كيف تكفرون بالله ).(141/26)
لا ينفع نفسًا إيمانها ( إن ) لم تكن آمنت من قبل وكسبت في إيمانها خيرًا ) (1).
{ منها خلقناكم ، وفيها نعيدكم ، ومنها نخرجكم تارة أخرى }(2) [ طه : 55 ] .
{ يخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، ويحي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون } (3) [ الروم : 19 ] .
ويزعم الأستاذ الأطرش أيضًا : ( أن تشبيه النفس بالأرض إثبات مادي على التقمص لا يقبل الجدل ، فلنتأمل في أدوار الأرض ومواسمها وموتها ثم حياتها .
والإِنسان يرفض هذه الفكرة لأنها تناقض مبدأ الذاتية وتحطم أحلامه ، ويضع الإِنسان أمام الواقع الروحي موضع المنافح في سبيل خلاصه من أسر مادية التفكير والحياة ) (4).
وبسبب اعتقادهم بالتقمص ، يعتقدون أيضًا بالنطق ، ( والنطق هو : أن الروح حين تنتقل من جسد إلى جسد تحمل معلومات عن دورها في الجيل السابق – يعني في الجسم الذي كانت تتقمصه قبل قميصها الحالي ، وفي هذه الحالة تتحدث أو تنطق بما تذكره من وقائع عن حياتها السابقة ) (5).
ولكن هناك من الدروز مثل الأستاذ عبد الله النجار ، من ينفي نظرية ( النطق ) هذه من أساسها ، ويعتبرها خرافات ومن سذج العامة ويستشهد على ذلك بنصوص من رسائلهم ، ومما ذكره نقلاً عن الرسالة 67 : ( فإن قال قائل : ما لنا لا نعرف ما مضى من الأدوار ؟ قال له المحتج بالحقيقة : إنك لو ذكرت ، وعرفت ، لشاركت المبدع في غيب حكمته ، ولكان ذلك عجزًا من الباري ، ولكان يفسد النظام ) (6).
__________
(1) 68) سورة الأنعام : أية 158 ، وقد زاد في الآية أيضا كلمة ( إن ) والصحيح ( لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن ... ).
(2) 69) سورة طه : آية 55.
(3) 70) سورة الروم : آية 19.
(4) 71) فؤاد الأطرش : الدروز – مؤامرات وتاريخ وحقائق ، ص 187 – 188.
(5) 72) د . مصطفى الشكعة : إسلام بلا مذاهب ، ص 280.
(6) 73) عبد الله النجار : مذهب الدروز والتوحيد ، ص 69 – 71 .(141/27)
غير أن الدكتور سامي مكارم يقول في معرض ردِّه على الأستاذ النجار : ( ويمكننا القول أن منطق عملية التقمص لا يتعارض مع تذكر الماضي ، خاصة عندما ندرك أن نزعات الفكر اللطيفة ، حسب عقيدة التوحيد ، تنطوي عند الموت ، في أعماق النفس المتنقلة من جسد إلى جسد .
وهذه النزعات والأفكار اللطيفة ، كبذور انطلاقة الحياة التالية ، هي التي تحدد وضع التقمص المقبل ، فلابد لبعض الأذهان إذا صادفت بعض الحالات المناسبة ، أن تتذكر الماضي المباشر الذي كانت تعيش فيه ) (1).
ولابد لنا – بعد ذلك – إلا أن نرجح الرأي الذي يقول باعتقاد الدروز بـ ( النطق ) ، ذلك لأن كتاب أضواء على مسلك التوحيد ، كان في الحقيقة ردًا من مشيخة العقل عندهم على الأستاذ عبد الله النجار .
أما الحلول : فهو نوع من التقمص ، لكنه يختلف عنه في أن النفس المنتقلة من جسم إلى آخر ، تنتقل معها أحيانًا جميع صفاتها ، أو بعض صفاتها البارزة .
ومن ذلك نشأ الاعتقاد أن نفوس الأنبياء والمرسلين تنتقل من دور إلى دور ، مستكملة أروع صفاتها ، فحمزة بن علي في دور الحاكم هو نفس سلمان الفارسي في دور النبي صلى الله عليه وسلم ) (2).
وقد استنتج الدكتور محمد كامل حسين من نظرية التناسخ هذه : ( أن لهذه العقيدة علاقة بمذهب التناسخ في الديانة البوذية ، والديانة الهندوكية ، ففي الديانة البوذية ظهر بوذا على هيئة حيوانات وطيور وشجر وصور أنسية حوالي ألف مرة (3) .
__________
(1) 74) د . سامي مكارم : أضواء على مسلك التوحيد ، ص 127.
(2) 75) ... أمين طايع : أصل الموحدين الدروز : ص 100 – 101 .
(3) 76) راجع كتاب البوذية وتأثيرها في الفكر والفرق الإسلامية المتطرفة – محمد على الزغبي – وعلى زيعور ، ص 147 – 149.(141/28)
وفي الديانة الهندوكية ظهر شيفا على صور أنسية عديدة ، كذلك ظهر مذهب التناسخ عند فلاسفة اليونان وقدمائهم ، ففي ديانة قدماء اليونان تظهر آلهتهم في صور مختلفة ، وعند فلاسفة اليونان التناسخ عندهم عدة أقسام : نسخ ومسخ وفسخ ورسخ ) (1).
وهكذا نستطيع أن نربط هذا الاعتقاد ، بهذه الاعتقادات التي كانت سائدة في فارس والهند واليونان .
3 – الحدود الخمسة :
في العقيدة الإِسماعيلية مبدأ أساسي في التوحيد والإِيمان ، (( هو أن توحيد الله لا يكمل إلا بمعرفة مراتب الحدود الروحانية ، والحدود الجسمانية ، والإِيمان بهم وطاعتهم طاعة تامة ، وهذه الحدود هي : ( العقل ، والنفس ، والجد ، والفتح ، والخيال ) . وهذه الحدود العلوية ممثولات لحدود الدين الجسمانية الذين هم النطقاء ، والأوصياء والأئمة والحجج والدعاة ) (2) .
وذهب الفاطميون كذلك إلى أن الله تعالى أبدع العقل الكلي وبوساطته وجدت النفس الكلية ، وبوساطتها وجدت المخلوقات كلها .
فالعقل الكلي عند الإِسماعيلية هو الخالق الحقيقي ، ومن هنا قالوا أن أسماء الله الحسنى الواردة في القرآن الكريم هي أسماء للعقل الكلي ، واعتبروا أن الإِمام الفاطمي ممثل للعقل الكلي ، وأن جميع مناقب العقل الكلي وصفاته تطلق أيضًا على الإِمام ) (3).
وجاء دعاة الدروز وأخذوا آراء الفاطميين في الحدود ، وحوروها حتى تتفق مع مبادئهم وآرائهم ، فخالفوا بذلك آراء الفاطميين مخالفة جوهرية .
__________
(1) 77) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 109.
(2) 78) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 110.
(3) 79) أحمد الفوزان : أضواء على العقيدة الدرزية ، ص 35.(141/29)
من ذلك : (( أن الحدود الروحانية هم نفسهم الحدود الجسمانية ، فلا يوجد عندهم مثل وممثول ، أي أن الحدود الجسمانية هم أنفسهم الحدود العلوية ، فذهبوا إلى أن المعبود أبدع من نوره العقل الكلي ، وهو الإِرادة ، وهو علة العلل ، وهو القلم ، هو القضاء ، وهو ألف الابتداء وألف الانتهاء ، وهو قائم الزمان حمزة بن علي ) (1).
ويناقش حمزة رأي الفاطميين في حدود الدين في ( رسالة كشف الحقائق ) فيقول :
(( اعلموا معاشر الموحدين رحمكم البار العزيز الجبار ، بأن جميع المؤمنين والشيوخ المتقدمين تحيروا في أمر السابق وضده التالي ونده ، فبعضهم قالوا : بأن السابق هو الغاية والنهاية ، والعبادة له وحده دون غيره في كل عصر وزمان ، وهذا نفس الكفر .
وقالت طائفة منهم : إن السابق نور الباري ، لكنه نور لا تدركه الأوهام والخواطر ، وهذا نفس الشرك بأن يكون الباري سبحانه لا يدرك ، وعبده لا يدرك ، فأين الفرق بين العبد والمعبود ، وهذا محال ونفس الشرك والضلال ) (2).
وهكذا أظهر حمزة الحدود في صور تختلف عما عهده أصحاب العقيدة الفاطمية ، فحمزة بن علي هو نفسه العقل الكلي ، وهو الإِرادة ، وهو علة العلل ، وهو القلم ، وهو القضاء إلى غير ذلك من الألقاب التي منحها لنفسه ، وهذا العقل الكلي ليس هو السابق ، إنما السابق مرتبته أقل بكثير من مرتبة العقل الكلي ، فإنه في المرتبة الرابعة من مراتب الحدود عند حمزة .
كذلك عن التالي ، وهو النفس الكلية عند الفاطميين ، فقد جعل حمزة مرتبة التالي في المرتبة الخامسة ، وجعل الفاطميون – الكلمة – مكونة من السابق والتالي ، بينما جعل حمزة – الكلمة – هي المرتبة الثالثة من مراتب الحدود ) (3).
__________
(1) 80) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 110.
(2) 81) رسالة كشف الحقائق.
(3) 82) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 112.(141/30)
(( وجميع هؤلاء الحدود مشخصون ليس في زمن الحاكم وحسب ، بل في جميع العصور ) (1). فقد زاروا العالم بظروف وأدوار مختلفة . إذ هم ليسوا مولودين بل موجودين ، لا يمسهم الموت ، إذ هم الروح الحقيقي الذي لا يخلوا منه عصر ، وهم رسل الحاكم في كل دور وإن أخذوا أسماء مختلفة وأقمصة متعددة .
ويوضح إسماعيل التميمي في ( الرسالة الموسومة بالشمعة ) مراتب الحدود وأسمائهم فيقول :
الحمد لمن أبان توحيده بإقامة حدوده ، وكشف عن مجيده بمراتب آياته ، وضرب بذلك الأمثال ليعبدوه ذوي الألباب (2)، فقال : ( وما يتذكر أولو الألباب ) (3).
والشمعة أقيمت كاملة بجميع آلاتها على التوحيد المحض ، فشمعة : خمسة أحرف دليل على الخمس جواهر المكنونة وهم : الإِرادة ، والمشيئة ، والكلمة ، والسابق ، والتالي ، فهؤلاء شمعة التوحيد .
وعلى بعض الوجوه ، إن الشمع لا يقد إلا بالقطن ، والقطن لا تقد إلا بالشمع ، ولم يقع عليها اسم شمعة كاملة يستضاء بنورها إلا بتعلق النار فيها ، والنار الذي يتعلق فيها فهو لطيف وكثيف ، فاللطيف فيه لسان العالي الأحمر الذي تعتريه زرقة يختفي مرة ويظهر مرة ، فذلك دليل على قائم الزمان حمزة بن علي بن أحمد ، والنار الذي يوقد الشمع دليل لعلى حجته : إسماعيل بن محمد بن حامد ، والشمع دليل على الكلمة محمد بن وهب ، والقطن دليل على السابق سلامة بن عبد الوهاب ، والطست الذي هو الحسكة دليل على التالي على بن أحمد السموقي فهذه الخمسة حدود .
__________
(1) 83) عبد الله النجار : مذاهب الدروز والتوحيد ، ص 138.
(2) 84) كذا في الأصل.
(3) 85) سورة الزمر : آية 9 ، ولكن الصحيح ( إنما يتذكر ... ).(141/31)
كذلك من عدم معرفة هذه الخمسة حدود لم يعرف التوحيد في وقتنا هذا ، وكان توحيده دعوى ، فليعلموا الموحدون ذلك ويعتقدون ولا يعبدون المولى بلا معرفة ، فقد قال : { وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه }(1) [ الطلاق : 1 ] .
ويصف ( كتاب النقط والدوائر ) الحدود بما يلي :
فالأصلان القديمان : هما العقل الكلي والنفس الكلية ، والكلمة البسيطة هو مولاي الكلمة سلام الله عليه ، والنور البسيط هو مولاي أبو الخير ، والحكمة اللطيفة هو مولاي بهاء الدين سلام الله عليهما . فصارت أربعة جوانب ، أي الحدود الأربعة جوانب حول العقل الكلي ، لأنهم له بمحل الأجنحة ، كما قال : ( أولي الأجنحة مثني وثلاث ورباع ) (2).
وعلى ضوء ما ورد في رسالة ( ذكر معرفة الإِمام وأسماء الحدود العلوية روحانية وجسمانية ) نستطيع أن نرتب حدود الدروز الخمسة على الشكل التالي :
أولا : النفس ، وهو ذو معة ، علة العلل ، والآمر قائم الزمان ، وهو الإِرادة ، وهو الإِمام الأعظم حمزة بن علي بن أحمد هادي المستجيبين .
ثانيا : النفس ، وهو ذو مصة ، وهو المشيئة ، إدريس زمانه ، وأحنوخ أوانه ، هرمس الهرامسة ، الحجة الصفية الرضية ، الشيخ المجتبى ، أبو إبراهيم إسماعيل بن محمد بن حامد التميمي ، صهر حمزة بن علي .
ثالثًا : الكلمة ، وهو سفير القدرة ، ذو مصة فخر الموحدين ، وبشير المؤمنين ، وعماد المستجيبين ، الشيخ الرضى ، أبو عبد الله محمد بن وهب القرشي .
رابعا : السابق ، وهو الجناح الأيمن ، نظام المستجيبين وعز الموحدين ، أبو الخير سلامة بن عبد الوهاب السامري .
__________
(1) 86) الرسالة الموسومة بالشمعة ، وهنا يشير إلى الآية الكريمة في سورة الطلاق : آية.
(2) 87) كتاب النقط والدوائر . وهنا يشير إلى الآية الكريمة ( الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ... ) سورة فاطر : آية 1.(141/32)
خامسًا : التالي ، وهو الجناح الأيسر ، لسان المؤمنين وسند الموحدين ، ومعدن العلوم ، الذي يقوم بالأفعال الصحيحة المعلومة ، والناصح لكافة الخلق أجمعين ، الشيخ المقتني بهاء الدين أبو الحسن علي بن أحمد السموقي المعروف بـ ( الضيف ) (1).
والحدود الأربعة الذين يلون العقل الكلي ، هم الأربعة الحرم ، وهؤلاء الحدود يظهرون في كل عصر في صور مختلفة وأسماء متباينة ، فمثلاً عندما ظهر المعبود في صورة أبي زكريا ، ظهر حمزة في صورة قارون ، وظهر إسماعيل التميمي النفس الكلية في صورة أبي سعيد الملطي ) (2).
وعندما ظهر حمزة في صورة سلمان الفارسي في زمن محمد صلى الله عليه وسلم ، ظهرت الحدود الأربعة الأخرى بصورة أربعة من الصحابة وهم : المقداد ، وأبو ذر ، وعمار بن ياسر ، والنجاشي ) (3).
ومما يذكر أن التالي – أي بهاء الدين – له ثلاثة حدود هم :
الجد : وهو أيوب بن علي .
الفتح : وهو رفاعة بن عبد الوارث .
الخيال : وهو محسن بن علي .
وهؤلاء الثلاثة يتلقون أوامرهم من بهاء الدين ، وليس لهم المكانة التي للحدود الحرم ) (4) .
وسمي الحدود الأربعة حرما ، لأن حمزة مقامه منهم مقام الرجال ، وهم نساؤه ، ولأنهم عنده بمنزلة النساء في طاعتهم له ) (5).
__________
(1) 88) رسالة ذكر معرفة الإمام وأسماء الحدود العلوية روحانية وجسمانية.
(2) 89) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 114.
(3) 90) كريم ثابت : الدروز والثورة السورية ، ص 36 ، واعتبار النجاشي صحابيًا لا يصلح بالتعريف المعتمد لأنه لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) 91) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 114.
(5) 92) مخطوط ، ذكر ما يجب أن يعرفه الموحد ويعتقد به : مكتبة القديس بولس في الجامعة الأمريكية ببيروت رقم 206 ، ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 715.(141/33)
وحتى يكون التوحيد شاملاً ، جعلوا لمرتبة العقل سبعين حجة ، وعن هؤلاء الحجج السبعين تفرعت الحدود جميعا بين دعاة ومأذونين ومكاسرين .
وجميع الحدود الحرم وغير الحرم كلهم من قبل العقل ، يسقط من يريد ويرفع درجة من يشاء ، والحدود السبعون هم الذين أتى على ذكرهم القرآن الكريم بقوله تعالى : { ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا فاسلكوه }(1) [ الحاقة : 32 ] ، يعني حدود دعوة التوحيد سلسلة بعضها في بعض وهم سبعون رجلاً موزعين ومنظمين حسب الشكل التالي :
أولاً : النفس الكلية ، ولها اثنا عشر حجة في الجزائر ، وسبعة دعاة للأقاليم .
ثانيا : الكلمة ، ولها اثنا عشر حجة وسبعة دعاة .
ثالثًا : السابق ، وله اثنا عشر حجة فقط .
رابعًا : التالي ، وله اثنا عشر حجة فقط .
خامسًا : الداعي المطلق ، وله مأذون واحد ومكالبان – أو مكاسران - ) (2).
وقد أوضحت ( الرسالة الموسومة بكشف الحقائق ) هذه الحدود بقولها : ( فهؤلاء الحدود السبعون التي ذكرناهم ، هم أذرع السلسلة الذي قال في القرآن : { خذوه فغلوه }(3) [ الحاقة : 30 ] ، أي ضد الإِمام إذا بلغ غايته وتمت نظرته ، خذوه بالحجج العقلية وغلوه بالعهد وهو الذبح الذي قالوا بأن القائم يذبح إِبليس الأبالسة ، {ثم الجحيم صلوه }(4) [ الحاقة : 31 ] ، أي غوامض علوم قائم الزمان الذي يتحتم العلماء والفهماء عند علمه ، أي يصمتوا ويتخيروا ، { ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا فاسلكوه } أي ميثاق قائم الزمان الذي هو سلسلة بعضها في بعض ، وهم سبعون رجلاً في دعوة التوحيد .
__________
(1) 93) ... سورة الحاقة : آية 32 .
(2) 94) مصطفى غالب : الحركات الباطنية في الإسلام ، ص 262 – 263.
(3) 95) سورة الحاقة : آية 30.
(4) 96) سورة الحاقة آية 31.(141/34)
فهذه السلسلة الحقيقية ، ومعانيها كما ذكره الجهال الحشوية(1)، ولو كان كما قالوا الظاهر لم يكن قولهم حكمة لأن من كان في غل جهنم وعليه متوكلون الزبانية لا يحتاج إلى سلسلة ، لأنه لا يستطيع الخروج من النار ، ولو كان نسيا ، فكيف وقد غلوه ؟ فإن قالوا : بأن الله أراد بالسلسلة تهديد أهل النار والتعظيم عليهم ، فقد بطلت حجتهم هاهنا لأنه قال سبعون ذراعًا ، ولو كان بسبب التعظيم لكان يجب أن يكون ألف ذراع ، فلما لم يذكر غير سبعين ذراعًا ، أعلمنا أنه أراد بذلك أشخاصًا معروفة دينية توحيدية لا يجوز لأحد أن يتجاوز حدهم ولا يزيد ولا ينقص ) (2).
وقالوا في تأويل ( بسم الله الرحمن الرحيم ) أنها : ( تسعة عشر حرف إشارة إلى حدود حمزة تسعة عشر رجلاً ، فلذلك عندما يكتبون ( بسم الله الرحمن الرحيم ) يلحقونها بقولهم : حدود عبده الإِمام ) (3).
فعندهم ( بسم الله ) سبعة أحرف دليل على سبعة دعاة أصحاب الأقاليم السبعة ، و ( الرحمن الرحيم ) اثنا عشر حرفا دليل على اثني عشر دعاة الجزائر ) (4).
__________
(1) 97) يقصد المسلمين.
(2) 98) الرسالة الموسومة بكشف الحقائق.
(3) 99) مخطوط في تقسم جبل لبنان : الجامعة الأمريكية في بيروت رقم 31 ، ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 699.
(4) 100) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 115.(141/35)
وقد ورد هذا التأويل في ( الرسالة الموسومة بسبب الأسباب ) التي كتبها حمزة حيث يقول : ( وفي السطر الرابع صفات العلة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وهم صفات هذه العلة المذكورة الذي هو الإِمام ، لأن ( بسم الله ) سبعة أحرف دليل على سبعة دعاة أصحاب الأقاليم السبعة ، و ( الرحمن الرحيم ) اثنا عشر حرفا دليل على اثنا عشر داعيًا ، أصحاب الاثنا عشر (1) جزيرة ، وأيضًا دليل على سبعة أفلاك ، واثنا عشر برجًا ، وهم كلهم موجودون في عصر مولانا جل ذكره مستخدمون تحت أمر هذا الإِمام ) (2).
ولهذا نجد في مقدمة كثير من رسائل الدروز ذكر ( بسم الله الرحمن الرحيم ) على أنها حدود عبده الإِمام ، من ذلك ( الموسومة برسالة النساء الكبيرة ) حيث يقول : ( توكلت على مولانا البار العلام العلي الأعلى على جميع الأنام ، جل ذكره عن وصف الواصفين وإدراك الأنام حروف ( بسم الله الرحمن الرحيم ) عبده الإِمام ) (3).
(( واحترام الحدود عندهم ، معتقد أكيد ، لأنهم وسائط الله تعالى وأبوابه وسفراؤه ، ومنهم الوصول إليه ، ولا مطمع لأحد من الخلق في الوصول إلى الخالق أبدا إلا بهم ومنهم وعلى يدهم وبتعليمهم وإرشادهم )) (4).
فهم أشرف خلق الله تعالى بعد سيدهم الإمام الأعظم ، وهم معصومون عن الزواج والخطايا ) (5)
والحدود الخمسة – عندهم – بالإضافة إلى الجد والفتح والخيال ، هم الثمانية الذين يحملون العرش ) (6).
__________
(1) 101) كذا في الأصل.
(2) 102) الرسالة الموسومة بسبب الأسباب.
(3) 103) الموسومة برسالة النساء الكبيرة.
(4) 104) شرح الميثاق : محمد حسين ، مخطوط في جامعة شيكاغو رقم 3737 ، ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 29.
(5) 105) ... ذكر ما يجب أن يعرفه الموحد ويعتقد به : مخطوط في الجامعة الأمريكية ، مكتبة القديس بولس رقم 206 ، ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 715 .
(6) 106) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 115.(141/36)
ولذلك يقول حمزة في ( رسالة التحذير والتنبيه ) : ( واعرفوا الحدود بأسمائهم وصفاتهم ، ونزَّلوهم في رتبهم ، ومنازلهم ، فإنه أبواب الحكمة ، ومفاتيح الرحمة ) (1).
وبعد هذا التعريف العام عن الحدود ومكانتهم عند الدروز ، نتحدث عن كل واحد منهم على انفراد :
العقل : هو أول الحدود ، وإمامهم ، ظهر في جميع الأدوار بأسماء مختلفة :
في دور آدم كان اسمه شطنيل .
في دور نوح كان اسمه فيثاغورس .
في دور إبراهيم كان اسمه داود .
في دور موسى كان اسمه شعيب .
في دور عيسى كان اسمه المسيح يسوع ، وهو المسيح الحقيقي صاحب الإنجيل .
في دور محمد - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه سلمان الفارسي .
في دور الحاكم ، كان اسمه حمزة (2).
وقد خص حمزة نفسه بعدة ألقاب وصفات ، لم يسبغها نبي من الأنبياء على نفسه ، فهو الآية الكبرى ، والعقل الكلي ، والإِرادة ، وعلة العلل ، وذومعة . ووصف نفسه في ( رسالة التحذير والتنبيه ) : بأنه أصل المبدعات ، وأنه سراط المولى المعبود ، والعارف بأمره ، وأنه الطور والكتاب المسطور والبيت المعمور ، وأنه صاحب البعث والنشور والنافخ في الصور ، وأنه ناسخ الشرائع ومهلك العالمين ، والنار الموقدة التي تطلع على الأفئدة ، وأنه هو الذي أملى القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من النعوت التي أسبغها على نفسه وزخرت رسائله بها ) (3).
__________
(1) 107) رسالة التحذير والتنبيه.
(2) 108) عبد الله النجار : مذهب الدروز والتوحيد ، ص 123 – وذكر ما يجب أن يعرفه الموحد ويعتقد به مخطوط في الجامعة الأمريكية ببيروت – مكتبة القديس بولس رقم 206 ، ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 715.
(3) 109) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 115.(141/37)
وفي رسالة ( السيرة المستقيمة ) حديث عن النطقاء والأسس ، وعن تأويل قصص الأنبياء ، ويتساءل الدكتور محمد كامل حسين عن مصدر ما أتى به حمزة في هذه القصص ويقول : ( هل هناك علاقة بين اسم شطنيل – الذي يأتي به حمزة – واسم شانطي الذي يطلقه الصينيون على القديسين المسيحين ؟
ويقول : ربما سمع حمزة بهذه الكلمة من أحد الصين ، أو أحد الذين سافروا ، فاستغلها بعد أن حرفها إلى شطنيل ... وبعد أن يذكر – الدكتور محمود كامل حسين – بعض الأمثلة للأكاذيب التاريخية التي يطلقها حمزة ، يضيف قائلاً : كل هذه مسائل كان حمزة هو الوحيد بين الكتاب في ذكرها على هذا النحو ، ولاشك أنه أدرى بكل شيء لأنه علة العلل ؟! ) (1).
وعن شنطيل هذا يقول حمزة في ( رسالة السيرة المستقيمة ) أنه ( وجد في ابتداء دورنا الحالي ثلاثة رجال ، كل واحد منهم اسمه آدم ، كانوا يعيشون في وقت واحد في بلد واحد ، وهم آدم الصفا ، وآدم العاصي ، وآدم الناسي ، وجميعهم ولدوا من ذكر وأنثي ، أما آدم الصفا ، فهو آدم الصفا الكلي ذومعة – أي حمزة بن علي – وكان أحد حدود دعوة التوحيد في الدور الذي كان قبل دورنا هذا ، وقد ولد آدم الصفا الكلي في بلدة آرمينية ببلاد الهند ، وكان اسم شطنيل واسم أبيه دانيل ) (2).
__________
(1) 110) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 116 – 117.
(2) 111) المصدر السابق ، ص 116.(141/38)
ولحمزة – كما سبق ذكره – أعظم ذكر وأجله بعد الحاكم حتى اليوم عند الدروز ، باعتباره العقل الكلي والإِمام وقائم الزمان ، يقول الدكتور سامي مكارم عن هذا الإِجلال ما يلي : ( إن العقل الأرفع أو الكلي ، حسب عقيدة التوحيد ، هو مصدر انبثاق جميع الكائنات ، وهو عين بقائها في هذا الوجود الظاهر ، ومنه ابتدعت ، فهي لا تنفصل عنه ولا ينفصل عنها من حيث العلة والمعلول ، فالعقل الأرفع هو واسطة الكشف والمعرفة ، أداة المشاهدة في كل نفس مؤمنة ) (1).
وفي رسالة ( من دون قائم الزمان ) يستدل على إمامة قائم الزمان بأنه : دعا إلى عبادة موجود ظاهر وإله في جميع الأمور قادر ويقول :
(( وأول دليل على إمامة القائم أنه أتى بضد العالم ، لأن جميع النطقاء والأسس وأصحاب الأدوار والأكوار أشاروا إلى عدم موهوم ، وأبعدوه عن حواس العالم ، وأن قائم الزمان والهادي إلى طاعة الرحمن عليه من المولى السلام دعا إلى موجود ظاهر وإله في جميع الأمور قادر ، وكل من دعا إلى الحاكم المعبود الإِله الموجود فقد أنصف من نفسه .
ووجه آخر أنه أظهر أغراضه في دفعة واحدة ، وقد علم أهل الشرق والغرب أنه دعا إلى توحيد مولانا جل ذكره ، ثم بعد ذلك خيروا العالم ومكنوا من أديانهم وإظهارها فصح أن ذلك لأهل التوحيد ... وأيضًا فإن عمارة الكنائس ، وإزالة حمل الصلبان ، وعزهم على المسلمين في كل مكان أدل دلالة على أن الإِسلام قد اضمحل وبطل وأنه الحق قد أنار واشتعل ، والحق هو توحيد مولانا جل ذكره الحاكم بذاته المنفرد عن مبدعاته )) (2).
__________
(1) 112) د . سامي مكارم : أضواء على مسلك التوحيد ، ص 123 – 124.
(2) 113) رسالة من دون قائم الزمان والهادي إلى طاعة الرحمن.(141/39)
(( ومن أدلة إمامته – أيضًا - : أنه صاحب القيامة والجزاء ، لأنه الملك المظفر المسعود ، ديان القيامة أي القهار والقاضي والحاكم والسايس والمحاسب والمجازي )) (1).
أما الحد الثاني من الحدود الخمسة فهو :
النفس : وهو أبو إبراهيم ، إسماعيل بن محمد التميمي ، ثاني الحدود ، (( باعتبار أن النفس فيض من العقل ، وجزء متمم له انبثقت عنه ، فنسبت إلى العقل كنسبة العقل إلى الخالق )) (2).
وقد وجه إليه حمزة مرسوم تقليد أسماه ( سجل المجتبى ) جاء فيه : (( إلى أخيه وتاليه ، وذي مصة علمه ، وثانيه آدم الجزوي ، الذي اجتباه بعلمه وهداه بحلمه ، وغداه بسلمه أحنوخ الأوان ، وإدريس الزمان هرمس الهرامسة أخي وصهري أبو إبراهيم إسماعيل بن محمد التميمي ... إلى أن يقول : إني نظرت إليك بنور مولانا جل ذكره ، وبما أيدني به مولانا علينا سلامه ورحمته ... فجعلتك خليفتي على سائر الدعاة والمأذونين والنقباء والمكاسرين ... وأسميتك بصفوة المستجيبين وكهف الموحدين وذي مصة علم الأولين والآخرين ، وجعلت لك الأمر والنهي على سائر الحدود ، فتولى من شئت وتعزل من شئت )) (3).
وللتميمي – كما ذكرت سابقًا – عدة رسائل من رسائل الدروز ، منها : ( رسالة في تقسيم العلوم ) ، و ( رسالة الزناد ) و ( رسالة الشمعة ) ، و ( رسالة الرشد والهداية ) .
__________
(1) 114) شرح الميثاق : محمد حسين ، مخطوط في جامعة شيكاغو رقم 3737 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 29.
(2) 115) أمين طليع : أصل الموحدين الدروز ، ص 94.
(3) 116) سجل المجتبى.(141/40)
ومع أن – للتميمي – هذه القيمة عند الدروز ، إلا أنه بعد اختفاء حمزة ، إثر مقتل الحاكم سنة 411 هـ ، لم تذكره لنا رسائل الدروز مطلقًا ، ولم يقم بأي نشاط ، غير أن الأستاذ عبد الله النجار يفترض أنه بقى حيًا حتى سنة 427 هـ (1)، وهذا يعنى أنه اختفى مع حمزة وباقي الدعاة حتى مات في هذه السنة .
أما الحد الثالث فهو :
الكلمة : وهو أبو عبد الله محمد بن وهب القرشي ، ثالث الحدود ، وأول الثلاثة الذين أضيفوا إلى العقل والنفس .
(( ومعلوماتنا عنه نجدها في تقليده الذي قلده إياه حمزة واسمه : ( تقليد الرضى سفير القدرة ) ، وذلك حين رفعت درجته ، وعين خلفا لسلفه ( المرتضى ) المتوفي )) (2).
إذ أن التقليد يقول : (( هي المنزلة التي كانت للشيخ المرتضى قدس الله سره ، وأنت تسلمت علومه وحده ، وقد سلمت إليك جميع كتبه التوحيدية ، وجعلتك مقدمًا على جميع الدعاة والمأذونين والنقباء والمكاسرين والمستجيبين الموحدين ، لا فوقك أحد أعلى منك غير صفوة المستجيبين وكهف الموحدين ، (3).
وكما أن التميمي ليس له ذكر بعد الحاكم ، كذلك ابن وهب لم يصلنا عنه أي خبر بعد هذا التقليد .
والحد الرابع هو :
السابق : وهو أبو الخير سلامة بن عبد الوهاب السامري ، رابع الحدود ، ولم نجد في رسائل الدروز الموجودة الآن ، تقليد خاص للسابق أسوة بسواه ممن قُلِّدوا مِن قِبَلِ حمزة .
ويقول الأستاذ عبد الله النجار : ( ولكن لا شك أن السابق قلد السلطة بمرسوم لم ينقل إلينا ، دليلنا في ( تقليد المقتني ) عبارة : تالي السابق بن عبد الوهاب السامري ، وقوله : إذ كان الأيمن قد تقدمك ، وهو سلامة بن عبد الوهاب المصطفى ) (4).
__________
(1) 117) عبد الله النجار : مذهب الدروز والتوحيد ، ص 140.
(2) 118) عبد الله النجار : مذهب الدروز والتوحيد ، ص 140.
(3) 119) تقليد الرضى سفير القدرة.
(4) 120) عبد الله النجار : مذهب الدروز والتوحيد ، ص 141.(141/41)
والسابق هو الجناح الأيمن في الحدود ، وهو والتالي يعتبران الينبوع الذي يجري بالمعرفة الإِنسانية .
أما الحد الأخير والخامس فهو :
التالي : هو أبو الحسن علي بن أحمد السموقي ، خامس الحدود ، اشتهر باسم بهاء الدين ، بالإِضافة إلى الأسماء والنعوت التي أطلقت عليه مثل : ( لسان المؤمنين ) ، ( وسند الموحدين ) ، ( والعبد المقتنى ) ، وغير ذلك من الألقاب التي أطلقها عليه حمزة .
ويعتبر بهاء الدين ، من أخطر دعاة الدروز بعد حمزة ، إذ قام بأعظم قسط في نشر المذهب الدرزي بعد اختفاء حمزة ، فلولا جهوده لما بقي لهذا المذهب أثر يذكر .
ومما يذكر أن الكثير من رسائل الدروز هي من تأليف بهاء الدين هذا ، ومن هذه الرسائل : ( التنبيه والتأنيب ) ، ( ومثل ضربه بعض حكماء الديانة ) ، ( والإِيقاظ والبشارة ) ، ( ورسالة اليمن ) . ( ورسالة الهند ) وغير ذلك من الرسائل .
وقد جاء في نسخة تقليده ما يلي : ( فاخدم ببركة المولى في الحد الجليل الذي أهلت له ، واستعد لك كأخيك الجناح الأيمن ثلاثين حدا دعاة مأذونين ونقباء ومكاسرين ، واعلم أن أول السبعة المفترضات : سدق اللسان ، والسدق هو المولى وضده الكذب ، والسدق والكذب يتشابهان في التخطيط ، كذلك الصدق يتشبه بالمولى ، لأن المولى جل اسمه لا ضد له .
وكذب ثلاثة أحرف ، وسدق ثلاثة أحرف ، فإذا أحسبناها في حساب الجمل افترقا ، لأنك تقول : ( ك ) عشرون ، ( ذ ) أربعة ، ( ب ) اثنتان ، الجميع ستة وعشرون حرفًا ...
والسدق : ( س ) ستون ، ( د ) أربعة ، ( ق ) مائة ، فذلك مائة وأربعة وستون حرفا دليل على مائة وأربعة وستين حدًا ، يكون للإِمام منها تسعة وتسعون حدًا ، كما قال (1) : ( إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة ) ، أي لإِمام التوحيد تسعة وتسعين داعيًا من عرفهم دخل حقيقة دعوته ) (2).
__________
(1) 121) يقصد النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) 122) تقليد المقتنى.(141/42)
ويبدو أن بهاء الدين ، كان على اتصال مع حمزة ، أثناء غيابه بعد مقتل الحاكم ، وكان أيضًا على معرفة بمقره السري الذي يختبئ به ، وكان يتلقى منه الأوامر والتوجيهات ، وقد قام بهاء الدين بجهود كبيرة لإِبعاد من حاولوا أن يغيروا شيئًا من المذهب من أمثال سكين وغيره ، من الذين انقلبوا على أراء حمزة ، لذلك نجد بهاء الدين يبعث إليهم برسائل التأنييه والتأنيب والتوبيخ ، على ما حاولوا تغييره في المذهب .
وهو لهذا أعلن غيبته سنة 434 هـ في منشور الغيبة ، والذي أعلن فيه إقفال باب الاجتهاد في المذهب ، وذلك ليحافظ على آراء حمزة ، وآراء الحدود والدعاة الآخرين مثل حمزة والتميمي .
ومما يذكر في هذا المقام أن لكل حد من الحدود الخمسة لون مخصص له ، فاللون الأخضر مخصص لحمزة ، والأحمر مخصص للتميمي ، والأصفر مخصص للقرشي ، والأزرق لسلامة بن عبد الوهاب السامري ، أما الأبيض فهو لبهاء الدين ، ولهذا عندما أعلن الاستعمار الفرنسي قيام ( إمارة جبل الدروز المستقلة ) ارتفع علم ذو ألوان خمسة مكون من الأخضر والأحمر والأصفر والأزرق والأبيض على المراكز الرسمية في الجبل ، ولايزال هذا العلم يرتفع على بيت الطائفة الدرزية في بيروت (1).
4 – عقيدتهم في اليوم الآخر والثواب والعقاب :
اليوم الآخر في المذهب الدرزي ليس يوم القيامة ، إذ ليس فيه موت للأرواح ، ولا قيامة لها ، ولا بعث .
(( فالأرواح لا تموت لتبعث ، ولا تنام لتوقظ بل إن يوم الحساب نهاية مراحل الأرواح وتطويرها ، إذ يبلغ التوحيد غايته من الانتصار من العقائد الشركية ، وينتهي الانتقال والمرور في الأقمصة المختلفة )) (2).
__________
(1) 123) انظر بتفصيل مذكرة ( أيها الدرزي عودة إلى عرينك ) ، ص 112.
(2) 124) عبد الله النجار : مذهب الدروز والتوحيد ، ص 81.(141/43)
(( وفي هذا اليوم – كما يزعمون – يظهر المعبود ( الحاكم بأمر الله ) في الصورة الناسوتية ، ولم تحدد رسائل الدروز تاريخ هذا اليوم ، ولكنها تقول أنه سيكون في شهر جمادى أو رجب ، وعلامة قرب هذا اليوم : هو عندما يتسلط المسيحيون واليهود على البلاد ، ويستسلم الناس إلى الآثام والفساد والآراء الفاسدة ، ويتملك شخص من ذرية الإِمامة يعمل ضد شعبه وأمته ، ويضع نفسه تحت سلطان المخادعين ، ويتملك اليهود بيت المقدس ، إلى غير ذلك من علامات الساعة التي يذكرونها )) (1).
أما مكان ظهوره ، ( فكما تقول رسالة الأسرار سيكون في بلاد الصين يخرج وحوله قوم يأجوج ومأجوج – ويسمونهم القوم الكرام – ويكونون مليونين ونصف من العساكر مقسومة إلى خمسة أقسام ، كل قسم منها يترأس عليها أحد الحدود ، فيدخلون مكة المكرمة .
وفي صباح ثاني يوم وصولهم ، يتجلى لهم الحاكم بأمر الله على الركن اليماني من الكعبة ، ويتهدد الناس في سيف مذهب ، يسده ويدفعه إلى حمزة فيقتل فيه الكلب والخنزير – يريدون فيهما الناطق والأساس .
ثم يدفع حمزة السيف إلى محمد ( الكلمة ) ، الذي هو أحد الحدود الخمسة ، وحينئذ يهدمون الكعبة ويفتكون بالمسلمين والنصارى في جميع جهات الأرض ويستولون عليها إلى الأبد ، ومن بقي يكون عندهم في الذل والهوان .
وتصير الناس إلى أربعة فرق :
أولا : الموحدون ، وهم عقال الدروز ، وهم الوزراء والحكام والسلاطين .
ثانيا : أهل الظاهر ، وهم المسلمون واليهود .
ثالثا : أهل الباطن ، وهم النصارى والشيعة .
رابعا : المرتدون ، وهم جهال الدروز .
ويجعل حمزة لكل طائفة غير أصحابه سيمة في جبينه أو يده ، وعذابا يتأذى به ، وجزية يؤديها كل عام ، ونحو ذلك من الهوان )) (2).
__________
(1) 125) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 124.
(2) 126) مخطوط في تقسيم جبل لبنان : مكتبة الجامعة الأمريكية في بيروت – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 699.(141/44)
وعن قوم يأجوج ومأجوج يقول ( مصحف الدروز ) .
(( حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حدب ينسلون ، واقترب الوعد الحق ، فإذا هي شاخصة أبصارهم ، أبصار الذين كفروا ، ياويلنا قد كنا في غفلة من هذا ، بل كنا ظالمين ، لقد نسي هؤلاء هذا اليوم ، وقد وقع لهم ، ووقعوا فيه ، وهم لا يشعرون وكبكبوا على وجوه قبلتهم ، حتى غشيتهم الغاشية .
أولم ير هؤلاء كيف مد لهم مولانا الحاكم الحياة أمدا ، الآن حصحص الحق )) (1).
وفي ذلك اليوم ، كما ورد في ( رسالة الزناد ) الذي ألفها التميمي ينادي حمزة : (( أين شركائي الذين زعمتم أنهم فيكم شفعاء ، لقد انقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون (2)، يعني يوم قيامة القائم صاحب القيامة بالسيف ، فيناديهم : أين شركائي ، يعني رؤساء أهل الظاهر وشياطيهم ، الذين أضلوهم بغير علم ، وأحلوهم دار البوار التي هي الشريعة ، وما ألقوه من التكاليف الشرعية ، التي هي من حيث العقل والنار بالفعل ، وما تمسكوا به من زخارف أهل الجهل وأباطيلهم ، فلم يستطيعوا جوابًا ، إلا أن يقولوا : ربنا غلبت علينا شقوتنا ، وكنا قوما طاغين ) (3).
وحمزة في هذا اليوم ، هو صاحب الجزاء والقصاص ، ولذلك يخاطب في ( الرسالة الموسومة بالأعذار والإِنذار ) أتباعه بقوله :
__________
(1) 127) مصحف الدروز : عرف كتاب أبي اسحق أو مراتب العباد ، ص 85.
(2) 128) يشير إلى الآية الكريمة ( أين شركائي الذين كنتم تزعمون ) سورة القصص : آية 62 ، والآية الكريمة ( لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) سورة الأنعام : آية 94.
(3) 129) مخطوط في تقسيم جبل لبنان : مكتبة الجامعة الأمريكية في بيروت رقم 31 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية 699 ، ويشير هنا إلى الآية الكريمة ( قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ) سورة المؤمنون : آية 106.(141/45)
(( يوم قيامي بسيف مولانا الحاكم سبحانه ومجازاتي للخلائق أجمعين ، وأخذي لكم الحق والقصاص ، وإنالة إحساني لأهل الوفاء منكم والإِخلاص ، وانتزاعي النفوس من الأجساد ، من أهل الفسوق والعنادة وقتلى الوالدين والأولاد وأنيلكم أموالكم )) (1).
(( أما الثواب والعقاب ، فيفهم من كتابات حمزة أن العذاب الواقع بالإِنسان نقلته من درجة عالية إلى درجة دونها من درجات الدين ، وقلة معيشته وعمى قلبه في دينه ودنياه ، ويستمر تنقله من جسد إلى جسد بتناسخ روحه في الأجساد ، وهو كلما تنتقل روحه من جسد إلى جسد ، تقل منزلته الدينية .
أما الثواب فهو زيادة درجته في العلوم الدينية وارتفاعه من درجة إلى درجة إلى أن يبلغ إلى درجة حد – المكاسر - )) (2).
وهم ينكرون وجود الجنة والنار ، ويسخرون من القائلين بهما ، يقول التميمي في ( رسالة الزناد ) :
(( وأما زعمهم بأن الجنة عرضها السموات والأرض (3)، فقد جهلوا معنى هذا القول ، فإذا كان عرضها السموات والأرض ، فكيف يكون طولها ؟ وأين تكون النار فيها ؟ ولو عرفوا الطول عرفوا العرض ، وكل شيء طوله أكثر من عرضه ، وإذا رجعنا إلى المعاني الحقيقية ، التي بها يتخلصون الموحدون من جهلهم من داء الشرك .
وأما معنى الطول والعرض ، فإن طولها هو العقل الكلي ، الذي هو قائم الزمان إمام المتقين بالحق ، ومجرد سيف التوحيد ، ومفني كل جبار عنيد ، وكان عرضها مثل النفس القابل لبركات العقل والتأييد .
__________
(1) 130) الرسالة الموسومة بالإعذار والإنذار.
(2) 131) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 125.
(3) 132) يشير إلى الآية الكريمة ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ) سورة آل عمران : آية 133 ، والآية الكريمة ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتية من يشاء ... ) سورة الحديد : آية 21.(141/46)
وأما النار فهي من حيث المحسوس المحرقة للأجسام ، ومن أسمائها ما يحمد ومنها ما يذم ، وأما النار الكبرى والنار الموقدة التي تطلع على الأفئدة ، فإنها مثل العقل لأنه مطلع على سرائر العالم ، وأما المذموم منها نار العذاب وهي الهاوية ، والجحيم ، وهذه الأسماء معنى الشريعة التي هو وأهلها غووا ولقحوا فيها العذاب )) (1).
إلى هذا الحد ، تذهب العقيدة الدرزية في اليوم الآخر ، وفي الثواب والعقاب ، وهي كما نرى لا تؤمن بالغيبيات وترفضها جميعها ، ولهذا فهم ينكرون وجود الملائكة والجن ، فالملائكة في نظرهم هم أتباع المذهب الدرزي ، والشياطين هم مخالفي هذه العقيدة .
ومن المفارقات العجيبة والمضحكة ما رواه مؤلف ( أيها الدرزي عودة إلى عرينك ) عن أحد مشايخ الدروز ويدعى الشيخ داود أبو شقرا والذي أعلن أن يوم القيامة سيكون في 6 آب 1952 وهو يوم القيامة التي وعدت به الرسائل المخطوطة معتمدًا في ذلك على مستند الحروف والجمل ، وبالفعل فقد اقتنع بذلك بعض شيوخ لبنان وحوران وذاع الخبر ، ولكن مع الأسف فإن هذه القيامة لم تقم كما توقعوا ؟! (2).
5 – عقيدتهم في الأنبياء :
(( الدروز ينكرون جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وينسبونهم إلى الجهل ، ذلك أنهم كانوا يشيرون إلى توحيد العدم ، وما عرفوا المولى – أي الحاكم - )) (3).
ويرون أن المعجزة يمكن أن يصل إليها كل إنسان ذي نزاهة إزاء نفسه (4) .
وحمزة يرى وجوب محاربة جميع الأنبياء ، أصحاب الشرائع الظاهرة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ، ووجوب البراءة من شرائعهم وعقائدهم الفاسدة وأديانهم المضللة ، إذ هي النار والهاوية .
__________
(1) 133) رسالة الزناد.
(2) 134) أيها الدرزي عودة إلى عرينك ، ص 90.
(3) 135) ... محمد كرد على : خطط الشام ، ج 6 ، ص 264 .
(4) 136) ... كمال جنبلاط / هذه وصيتي ص 41 .(141/47)
فالناطق والأساس عندهم هما إبليس والشيطان ، فالأول – أي إبليس – ظهر في جسم آدم ثم انتقل إلى نوح ، ثم إلى إبراهيم ، ثم إلى موسى ، ثم إلى عيسى ، ثم إلى محمد ، ثم إلى سعيد .
وأما الثاني – أي الشيطان – فظهر أولاً في جسم شيت بن آدم ، ثم في سام ، ثم في إسماعيل ، ثم في يشوع بن نون بعدها رون ، ثم شمعون الصفا ، ثم في علي بن أبي طالب ، ثم في قداح ) (1) .
ولذلك فهم يقذفون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسماء وألفاظ فاحشة ، كالقبل والدبر والغائط والبول ، ولا يتركون مجلسًا من التشنيع عليهم ، وأكثر كراهيتهم متجه نحو المسلمين ) (2) .
فيقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم وآله : ( بأنهم حروف الكذب ، هي ستة وعشرون وهم : دليل إبليس وأولاده وزوجاته وهم : محمد وعلي وأولاده الإثنى عشر إمامًا ) (3).
وكما سبق – ذكره فإنهم يعتقدون أن حمزة ظهر بصور مختلفة في جميع الأدوار ، وكان في زمن محمد صلى الله عليه وسلم بصورة سلمان الفارسي ، ( ولهذا فإنهم يزعمون أن القرآن قد أوحي حقيقة إلى سلمان الفارسي ، وأنه كلامه ، وأن محمدًا أخذه وتلقاه عنه ، حتى زعموا بأن خطاب لقمان الذي خاطب به ولده :
يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر (4) هو خطاب سلمان لمحمد (5) .
__________
(1) 137) مخطوط في تقسيم جبل لبنان : الجامعة الأمريكية ببيروت رقم 31 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 31 – ومخطوط بعنوان ( لبعضهم قول وجيز ) مؤلف مجهول – الجامعة الأمريكية – مكتبة القديس بولس رقم 206 – ويجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 715.
(2) 138) ... مخطوط في تقسيم جبل لبنان السابق ذكره .
(3) 139) مخطوط ذكر ما يجب أن يعرفه الموحد : الجامعة الأمريكية ببيروت رقم 206 ، ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 715.
(4) 140) سورة لقمان : آية 17.
(5) 141) محمد كرد على : خطط الشام ، ج 6 ، ص 265 – 266.(141/48)
وهم لهذا يحاولون أن يؤولوا من آيات القرآن ما يمكنهم تأويله حسب معتقدهم وينكرون ما عداه .
وبسبب كراهيتهم للرسول صلى الله عليه وسلم يقولون عنه :
(( فهذه الدعامة – يقصدون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله – المقدم ذكرها هي تكليفية ناموسية ، لأن العبادة للمعدوم تكليف ، وما أحد قط نصح له عبادة معدوم ، ولا تصح رسولية لكافر مشرك منافق ابن مشرك – يقصدون محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ثم أقام دعامة الجهاد ، به قام إبليس لعنه الله وجعله فرضًا على المسلمين ، فالحاكم جل ذكره أبطله وحرمه ... ثم أقام دعامة الولاية لقوله ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) (1) على زعمهم أن الله فوق السماء ، ومحمدًا رسول الله ، كذبوا لعنهم الله فما في السماء ولا في الأرض إله إلا الحاكم جل ذكره (2).
ويزعمون أيضًا أنه : ( عندما يتجلى الحاكم في الركن اليماني – من الكعبة – وفي يده السيف ، ينادي على المشركين بالغضب والزجر ، ويعطي السيف حمزة فيقتل شخصين لا غير أحدهما متقمص فيه محمد بن عبد الله صاحب دين الإِسلام ، والثاني علي بن أبي طالب ، ثم يرسل الصواعق على الكعبة فتدك دكا ) (3).
ويقولون كذلك : ( إن الفحشاء والمنكر هما أبي بكر وعمر ، وأن الآية الكريمة التي تقول : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ) (4).
يراد بذلك الخفاء الراشدين الأربعة ، وأنهم من عمل محمد بن عبد الله ) (5).
__________
(1) 142) سورة التغابن : آية 12.
(2) 143) مخطوط في تقسيم جبل لبنان السابق ذكره.
(3) 144) مخطوط ( حصر اللثام عن الإسلام ) رزق حسونة الحلبي : الجامعة اليسوعية في بيروت رقم 967 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 749.
(4) 145) سورة المائدة : آية 90.
(5) 146) مخطوط ( في تقسيم جبل لبنان ) السابق ذكره.(141/49)
وأما موقفهم من آدم عليه الصلاة والسلام ، فإنهم لا يعتبرونه أول الخلق وأبو البشر ، بل كان أكثر من آدم في ذلك الدور ، ولهذا فهم ينكرون أن آدم بلا أب وأم وأن آدم وباقي البشر قد خلقوا من تراب ، وعن هذا يقول حمزة في ( رسالة السيرة المستقيمة ) : ( وأما قولهم أنه بلا أب ولا أم ، فهو من المحال أن يكون جسمًا ناطقًا إلا من جسم مثله ذكر وأنثى . وأما التراب الطبيعي فما يظهر منه خلق غير الحيات والعقاب والخنافس وما شاكل ذلك ، وأما بشر فلا يجوز أن يكون من التراب ولو كان كما قالوا بأنها فضيلة لآدم حيث لا يخرج من ظهر ولا يدخل في رحم ، ولا يتدنس بدم ، فقد كان يجب بأن يخلق محمدًا من التراب ، ولم يخرجه من ظهر كافر ، ولم يدنسه بدم جاهلة كافرة .
والمسلمون كلهم يعتقدون بأن والدي محمد كانا وماتا كافرين ، وأن محمدًا لا يقدر يشفع في أمته إلا بعد أن يترك أمه وأباه ويتبرأ منهما ، ويختار أمته على والديه ويتركهما في جهنم ، وهذا كلام قبيح ظاهر وضيع باطنه ، ولا يليق بالعقل ولا يقبله عاقل .
وآدم هم ثلاثة : آدم الصفا الكلي ، ومن قبله آدم العاصي الجزوي ومن دونه آدم الناسي الجرماني ، وجميعهم من ذكر وأنثى لا كما قالوا أهل الزخاريف الحشوية بأنهم من التراب ، حاشا الباري سبحانه وعز سلطانه أن يخلق صفيه وخليفته من التراب وهو من أهون الأشياء ) (1) .
وأما عن حواء ، فهي ليست زوجته ، وإنما هي حجته وأحد دعاته ولقبت بحواء لأنها احتوت على جميع المؤمنين .
وقد سبق أن ذكرنا أيضًا موقفهم من موسى عليه السلام ، فهم ينكرون عليه أنه ( كليم الله ) لأنه كلم الشجر والجبل ، وهذا ما لا يليق بالله في نظرهم ) (2).
__________
(1) 147) رسالة السيرة المستقيمة.
(2) 148) راجع مبحث ألوهية الحاكم في هذا الفصل.(141/50)
أما عن كلمة ( الضد ) ومفهومها عند الدروز فقد كثرت في رسائل حمزة هذه الكلمة وقصد بذلك الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وقد يطلقها بصورة صريحة على رسول الله محمد صلى صلى الله عليه وسلم .
أما كلمة ( عجل ) فيقول صاحب مذكرة ( أيها الدرزي عودة إلى عرينك ) عن مدلولها عند الدروز وما ترمي إليه بقوله : ( إن هذه الكلمة تحمل معنى لا يدركه إلا الراسخون في الحمزوية ، إذ هي مشتقة من الاستعجال ، ولذا حاول ( العجل ) أن يشبه نفسه بحمزة ، أي حاول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أن يأتي بشريعة كشريعة حمزة .
ويضيف قائلاً : ولا ريب أن الحمزوي العميق يدرك المقصود من هذه الكنايات ، إذ لا يخفى أن حمزة سار بالنظر لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وسيدنا علي رضي الله عنه تدريجيًا ، إذ رآهما أولاً مستخدمين عند الحاكم دالين على مدلول هذا المقصود ، ثم حرمهما من هذه المنزلة ( منزلة العبودية للحاكم ) ...فدعا محمدًا ( ضدا وعجلا ) ، وسلب من علي درجة الأساس ودعاه اللعين ... بل كثيرًا ما أردف تلاميذه هاتين الكلمتين أو ( لعنة الله ) أو ( أبعده الله من الرحمة ) كما نرى هذا في النقط والدوائر ص 12 ) (1).
ويبدو أن حقيقة هذه الكلمة وما ترمز إليه قد جعل بعض الناس يضعون إشارات استفهام على مدلولها ، ولهذا يقول صاحب مذكرة ( أيها الدرزي عودة إلى عرينك ) : ( هذه حقيقة العجل التي كاد ذوو الأنوف السليمة يستنشقونها فاندفعت مجلة الضحى عدد كانون الثاني 1966 تضاعف حولها الغبار وتكثف الغيوم وتحدثنا عن العجل بالعهد القديم والقرآن الكريم وتفيض بأمجاد قبيلة بني عجل الذين اشتركوا بموقعة ذي قار ) (2).
6 – عقيدتهم في التستر والكتمان :
__________
(1) 149) ... أيها الدرزي عودة إلى عرينك ، ص 77 – 78 .
(2) 150) أيها الدرزي عودة إلى عرينك ، ص 78.(141/51)
(( السرية والكتمان عند الدروز ليستا من باب التقية ، وإنما هي سرية مشروعة في أصول عقيدتهم ، وأصول عقيدتهم – كما هو معروف – خليط من نظريات وأفكار الفلاسفة القدامى من يونان وفرس وهنود وفراعنة ، ولعل الدروز قد عمدوا إلى السرية التي ضربوها على مذهبهم تمشيًا مع بعض آراء الفلاسفة القدامى الذين كانوا يوصون بحجب آرائهم وسترها عن جمهور الناس )) (1) .
ويقول الدكتور سامي مكارم في معرض رده على الأستاذ عبد الله النجار : (( لقد أصاب باعتبار أفلاطون ، وأتباع فيثاغورس من مصادر السرية في مسلك التوحيد ، ولكن لم يصب في تجاهله مصادر أخرى لهذه السرية كان لها من الأهمية ما لأفلاطون وفيثاغورس وأتباعه ، فهناك هرمس ، وهو معروف بصيانته الشديدة للأسرار ، وهو مكرم عند الدروز ، ينظرون إليه بعين التقديس ويجعلونه في مصاف الأنبياء ) (2).
(( ولذلك فالدروز يحرصون أشد الحرص على كتمان عقائدهم السرية ، وينكرون ما يؤخذ منها ، بل قد يذمونها أمام المعترضين رياء واستتارا ، وقد حرص الدروز على هذا الكتمان المطبق لأصول مذهبهم وعقائدهم طيلة القرون ، ولم تعرف خفايا مذهبهم إلا منذ قرن حينما غزا إبراهيم باشا مناطقهم الجبلية ) (3)، ووقع الغزاة على بعض كتبهم المقدسة ، وعرفت محتوياتها )) (4)، وهكذا نرى أن الكتمان لا يعني إلا التظاهر بشيء أو تفسير الرموز بشيء والاحتفاظ بشيء آخر ، فأصبح عادة مستحكمة تحمل على النفاق ، وتفرض على الشخص أن يغاير ما بنفسه ، ويتظاهر بما لا يؤمن فهو درس في وجوب الكذب الصريح .
__________
(1) 151) د . مصطفى الشكعة : إسلام بلا مذاهب ، ص 276.
(2) 152) د . سامي مكارم : أضواء على مسلك التوحيد ، ص 145.
(3) 153) مع أن الكتب التي كتبت عنهم ، قبل حملة إبراهيم باشا ، ذكرت شيئا من عقائدهم.
(4) 154) محمد عبد الله عنان : الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية ، ص 203.(141/52)
يقول حمزة في ( رسالة الموسومة بحفظ الأسرار ) : (( أن أكثر الآثام وأعظمها إظهار سر الديانة وإظهار كتب الحكمة ، والذي يظهر شيئًا من ذلك يقتل حالاً اتجاه الموحدين ولا أحد يرحمه ... ويقول : عليكم أيها الإِخوان الموحدون في دفن هذه الأسرار ولا يقرأها إلا الإِمام على الموحدين في مكان خفي ، ولا يجوز أن تظهر كتب الحكمة الذي كلها رسم ناسوت مولانا سبحانه ، وإن وجد شيء من هذه الأسرار في يد كافر فيقطع إربًا إربا ، فأوصيكم أيها الموحدون بكنة الأسرار )) (1).
ويقول أيضًا في ( رسالة التحذير والتنبيه ) : (( وصونوا الحكمة عن غير أهلها ، ولا تمنعوها لمستحقها ، فإن من منع الحكمة عن أهلها فقد دنس أمانته ودينه ، ومن سلمها إلى غير أهلها فقد تغير في اتباع الحق بيقينه ، فعليكم بحفظها وصيانتها عن غير أهلها والاستتار بالمألوف عند أهله ، ولا تنكشفوا عند من غلبت عليه شقوته وجهله ، فأنتم ترونهم من حيث لا يرونكم ، وأنتم بما في أيديهم عارفون ، وعلى ما ألقوه من زخرف قولهم مطلعون ، وهم عما في أيديكم غافلون ، وعما اقتبستموه من نور الحكمة محجوبون ، ولقد أخرسوا ونطقتم ، وأبكموا وسمعتم ، وعموا وأبصرتم ، وجهلوا وعرفتم )) (2).
وفي شرح الميثاق ، يعتبر – كاتبه – التستر والكتمان من صحة العقيدة ، ويقول : (( حتى ولو أخر الإِنسان بعض رسائل الحكمة بلا حفظ ، ويحفظ عوض ما يقيم المساترة ، كان ذلك واجب ، لأن الإِنسان إذا غرس بستان ولم يصنه بشيء لم يسلم أبدًا ، وإذا غرسه ونقص بعض غراسه ، وجعل عوض ذلك النقص حاجزًا يصونه كان ذلك أرب لسلامته وأنتج فيه .
__________
(1) 156) مخطوط ( لبعضهم قول وجيز ) مكتبة القديس بولس في الجامعة الأمريكية ببيروت رقم 206 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 715 .
(2) 156) رسالة التحذير والتنبيه.(141/53)
وكذلك مذهب التوحيد ما يصح لأحد كاملة إلا بالاستتار ، والاستتار بالمألوف هو : إن كان المحق ساكنًا بين أهل الظاهر التنزيلية (1)فليتساتر بمذهبهم من صلاة وصيام وحجج وتقديم أبي بكر وعمر وعثمان على علي بن أبي طالب وغيره .
وإن كان ساكنًا بين التأويلية في بلاد غالب عليه الشيعة ، فليتساتر في مذهب التأويل ، ويتزايا بزيهم ويقدم علي بن أبي طالب على الصحابة كلهم ، ويسب أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة ، ويكون موافقهم في دينهم في ظاهر الأمر .
وإن كان بين النصارى فيتزايا بزيهم وهذا الحال رحمة من الله على أهل التوحيد ، أن يكون توحيده في قلوبهم ، ويتزايوا بزي كل طائفة (2) في ظاهرهم (3) .
ويورد الدكتور عبد الرحمن بدوي شرحا آخر للميثاق (4) ، ومما جاء فيه عن هذا الموضوع ما يلي :
لا يحل لأحد يتمسك بدين التوحيد أن يهمل المساترة ، بل يجب عليه أن يعرف موجبات الصلاة والوضوء ونواقضه ، ويقرأ ما تيسر من القرآن قراءة صحيحة على شيخ ، وإن كان ذا يسر فيزكي من ماله ، ويعرف أمر الصيام ومفطراته ، بحيث لا ينكشف عند الشرائع أمر دين التوحيد ) (5) .
__________
(1) 157) يقصد المسلمين.
(2) 158) يلاحظ هنا مطاطية هذا التعبير ، والذي يمكن أن يؤخذ على تأويلات كثيرة.
(3) 159) شرح الميثاق : محمد حسين ، مخطوط في جامعة شيكاغو رقم 3737 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 29.
(4) 160) نقلا عن مخطوط في المكتبة الأهلية بباريس رقم 1436 عربي.
(5) 161) ... د . عبد الرحمن بدوي : مذاهب الإسلاميين ، ص 688 ، ج 2 .(141/54)
وإنكار ألوهية الحاكم – في ظاهر الأمر – يعتبر أيضًا من المساترة ، وهذا ما تضمنه شرح الميثاق كذلك حيث يقول : ( إن أنكر ألوهية الحاكم سبحانه بحضرة الضد فيجوز له ذلك ، وليس يقع في ذلك ارتداد في الحقيقة ، لأن المقر بألوهية الحاكم تعالى ، الكاتب على نفسه الميثاق أمر بالمساترة عند الشرائع ، وإنكار ألوهية الحاكم سبحانه باللسان ، وهذا مشروع في الدين من غيبة الحاكم سبحانه إلى يوم القيامة .
ولا جناح على الموحدين في إنكار الحاكم بحضرة الشرائع ، إذ سئل وطلب منه مثل ذلك ، وأما من تلقاء نفسه ، أعني نفوس الموحدين بلا طلب ولا سبب فلا يجوز اللفظ بالإنكار ألبتة ، كما لا يجوز اعتقاد بشريته ) (1) .
وكذلك سب ولعن ( حمزة ) ظاهرًا لا بأس به ، يقول بهاء الدين في منشور الغيبة : (( فمن وقعت به منكم محنة ، وطلب منكم سب هذا العبد ( حمزة ) فتبرءوا منه وسبوه ، وإن طلب منكم لعنه فالعنوه ، هذا عند الاضرار ، والله يعلم بما تظهرون وتكتموه ) (2).
ويتحدث تقرير قدمته الاستخبارات الفرنسية أثناء الاستعمار الفرنسي على سوريا ولبنان عن طبيعة الدروز فيقول : ( إن الدروز مرنون بحق ، فهم يتبعون حرفيًا نصيحة مؤسس دينهم : اتبعوا كل أمة أقوى من أمتكم ، وحافظوا علي داخل قلوبكم . لذلك فعندما يحتكون بطوائف أقوى من طائفتهم كالمسلمين أو المسيحيين فإنهم يتظاهرون بالتسليم ببعض معتقداتهم وهكذا ، فمثلاً يرددون بكل طيبة خاطر الشهادتين ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) .
مما تقدم يتضح أن التستر والكتمان نهج أساسي من أصول عقيدتهم ، فهم دوما مع القوي والمتمكن ، يتظاهرون بالدين الغالب في أي قطر ، ومصداق ذلك ما نراه منهم في فلسطين المحتلة بإخلاصهم التام لليهود هناك .
__________
(1) 162) شرح الميثاق : محمد حسين – الذي ورد ذكره سابقا.
(2) 163) منشور الغيبة.(141/55)
كذلك فهم في كثير من الأحيان لا يناقشون من يكتب عن ديانتهم مناقشة موضوعية بل يحاولون أن يلصقوا به الصفات القبيحة ويشتمونه بأقدح الشتائم متسترين بهذه الألفاظ على حقيقة دينهم وما يحويه من كفر ، وهذا ما حدث مع الشيخ زيد بن عبد العزيز الفياض عندما بدأ بكتابة حلقات عن حقيقة مذهبهم في مجلتي المنهل وراية الإِسلام (1) اللتين كانتا تصدران في جدة والرياض ردًا على فتوى شيخ الأزهر باعتبارهم مسلمين (2).
__________
(1) 164) انظر المنهل جزء 3 مجلد 20 شهر ربيع ثاني 1379 هـ ، وراية الإسلام ، الأعداد الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر من السنة الأولى عام 1380 هـ ، والعددان الأول والثاني من السنة الثانية عام 1381 هـ.
(2) 165) كان شيخ الأزهر قد أعلن عام 1379 هـ الموافق 1959 م أن الدروز موحدون مسلمون مؤمنون ؟! فقد نقلت جريدة السياسة اللبنانية بلسان صاحبها أسعد المقدم في العدد 810 تاريخ 26 محرم 1379 هـ ، آب 1959 م ما يلي : بعد أن تحدث فضيلة شيخ الأزهر عن اقتراح تقدم به لسيادة الرئيس جمال عبد الناصر بإنشاء مجمع علمي أكاديمي يضم علماء الشيعة والسنة يلتقون فيه لتحقيق الوحدة المنشودة . سأله أسعد المقدم : هل ستدعون علماء الدروز إلى المجمع الذي ذكرتموه ، وهل تشمل دعوتكم إلى الوحدة إخواننا أبناء الطائفة الدرزية ؟ .أجاب : لقد أرسلنا من الأزهر بعض العلماء كي يتعرفوا أكثر على المذهب الدرزي وجاءت التقارير الأولى : تبشر بالخير فالدروز موحدون مسلمون ؟! نقلا عن مجلة المنهل الصادرة في جدة ، ج 3 مجلد 20 ربيع ثاني 1379 هـ.(141/56)
فقامت حينئذ ضجة شديدة بين الدروز وقدم كبارهم الاحتجاج ، وأصدر شيخ العقل في لبنان فتوى ضده ، وردوا على الشيخ الفياض بأقذع الألفاظ والشتائم في عدة صحف ومنها صحيفة الصفاء التي كانت تصدر في بيروت سنة 1961 م والتي كان مدير تحريرها شخص اسمه محمد آل ناصر الدين ، حيث لم يستطيعوا أن ينفوا هذه الحقائق عن دينهم ، فما كان منهم إلا أن يناقشوه بالسب والشتم ليتستروا بذلك على الحقيقة المرة فاتهموه بالإِلحاد والزندقة والصهينة وغير ذلك من الاتهامات التي لا يجوز ذكرها (1).
وكان أن قام الأستاذ عبد الله النجار وهو من طائفة الدروز بعد هذه الحادثة بسنوات قليلة بإصدار كتابه ( مذهب الدروز والتوحيد ) والذي يبين بقلم درزي حقيقة هذا المذهب ، وقامت ضجة أشد من الأولى على هذا الكتاب وصاحبه ، وحاكمه مشايخ الدروز لفضحه أسرار المذهب وجمعوا نسخ الكتاب من الأسواق وأحرقوها ، وصدر بأمر من مشيخة العقل كتاب ألفه الدكتور سامي مكارم وقدم له الأستاذ كمال جنبلاط يرد فيه على كتاب الأستاذ النجار (2).
ويظهر أن الدروز قد غيروا هذه المرة من استراتيجيتهم فعملوا بشيء من الموضوعية ، ولكن للأسف كانت هذه الموضوعية ستارًا يتسترون به على ما يريدون القيام به ، حيث يقال أنهم استغلوا أحداث لبنان الأخيرة وقاموا باغتيال الأستاذ النجار .
وهذه الأمثلة تدل دلالة ساطعة على خطورة موضوع التستر في عقيدتهم ، وعن كيفية تعاملهم مع من يكشف عن حقيقة دينهم .
__________
(1) 166) انظر صحيفة الصفاء البيروتية العدد رقم 3185 وتاريخها 31 كانون الثاني 1961 م.
(2) 167) انظر كتاب ( أضواء على مسلك التوحيد (( الدرزية )).(141/57)
ومما يذكر في هذا المجال أن أقلامًا عديدة من الدروز طالبوا بشدة مشيخة عقل الدروز بالإِفراج والإِعلان عن حقيقة العقيدة الدرزية ، ولكن مشيخة العقل أصمت أذنيها عن كل هذه الأصوات وخاصة أصوات الدروز في المهجر وفي مقدمتهم الدكتور نجيب العسراوي الذي ما فتأ يطالب بذلك ، وعندما يئس من ذلك أصدر كتابًا عن هذه العقائد باللغة البرتغالية حتى لا يقرأه كل إنسان .
وقد ذكر هذا الموضوع بتفصيل صاحب مذكرة ( أيها الدريّ عودة إلى عرينك ) ومما قاله : ( الدكتور نجيب العسراوي رئيس الرابطة الدرزية بالبرازيل استشار الأمير شكيب أرسلان عام 1927 بشأن الإِفراج عن العقائد الدرزية المدفوعة بالرسائل فأجابه : بعدها عجرا ؟
وكأن العسراوي وأمثاله كعدنان بشير رشيد رئيس الرابطة الدرزية في استراليا وجدوا تلك العجرا أصبحت سائرة في طريق النضوج ، فأخذوا يكاتبون مشيخة العقل طالبين شيئًا يعرضونه على أطفالهم الذين يعرفون الدرزية بـ ( ليست إسلامية ولا مسيحية ولا يهودية ) ، كتبوا هذا وطالبوا وأصروا بل وتذمروا ... إلى أن يقول : خشى نجيب العسراوي – أحد لامعي المهاجرين في البرازيل وعدنان بشير رشيد رئيس الرابطة الدرزية في أستراليا عاقبة هذا البعد وألحا عن مشيخة العقل طالبين تأليف ما يستطيع منه الدروز فهم دينهم ، ولكن هذه اعتصمت بالمواعيد ، فاضطر العسراوي أن يصدر كتابه ( الدرزية ) باللغة البرتغالية ، ومنه عرف الناس شيئًا .
جعلت مشيخة العقل أصابعها في آذانها واستهانت بأصوات المنادين بوجوب التأليف حول الدرزية ، ولم تعترف بجهود العسراوي رغم أنه سد ثغرة كانت هي الأجدر بسدادها ، وبعد أن صدر عبد الله النجار كتابه تزحزحت وكلفت سامي مكارم بتأليف كتاب ( أضواء على مسلك التوحيد ) بعد اعتذار عجاج نويهض .(141/58)
ألف مكارم وجنبلاط ولكن لا ليسدا فراغا بل ليردوا على عبد الله النجار في كتابه المحجوز الذي سد فراغا أو بعض الفراغ ، وباركا الكتمان والتمسا عذرا للدرزية ، ورأياها نابعة عن العقل الأرفع الذي لا يحتمل الخطأ ... أما سواها من أهل المذاهب والأديان فمن العقل الطبيعي المعرض للخطأ ) (1).
7 – رسائل الدروز وكتبهم المقدسة :
للدروز مجموعة من الرسائل المقدسة عندهم ، إذ منها يستمد عقالهم مباديء مذهبهم ، وتسمى أحيانًا باسم ( رسائل الحكمة ) وعدد هذه الرسائل 111 رسالة ، مقسمة إلى أربعة مجلدات ، ( تتوالى فيها الرسائل بصورة مطردة في جميع المخطوطات قديمها وحديثها ، ومثل هذا الاطراد لا يمكن أن يكون قد تم عرضا ، إذ الرسائل منسوبة إلى أكابر أصحاب المذهب القدماء ، وهذا يدل على أن تقتنيها في هذه الصورة المنتظمة الموحدة قد تم في وقت لاحق ) (2) .
والملاحظ في هذه الرسائل ، أن بعضها يحتوي على سجلات صدرت في عصر الحاكم ، وبعضها يحتوي على رسائل بعث بها حمزة بن علي إلى أشخاص كانوا يحتلون مكانه في الدولة مثل ولي العهد عبد الرحيم بن إلياس ، والقاضي أحمد بن العوام ، أو رسائل بعث بها لدعاة الدعوة ، ومنها ما كتبه حمزة عن العقيدة نفسها ، ثم نجد بعد ذلك رسائل للداعي محمد بن إسماعيل التميمي ، ورسائل لبهاء الدين المعروف بالمقتني ) (3).
وللدروز أيضًا مصحفا يسمونه ( المنفرد بذاته ) ، كتب حديثا ، ويعتقد أن كاتبه هو الأستاذ كمال جنبلاط الزعيم اللبناني المعروف والذي اغتيل قبل سنوات . ويقال أنه تعاون في وضعه ووضع رسائل أخرى مع عاطف العجمي وبخط الشيخ عبد الخالق أبو صالح (4).
__________
(1) 168) أيها الدرزي عودة إلى عرينك ، ص 123.
(2) 169) د . عبد الرحمن بدوي : مذاهب الإسلاميين ، ج 2 ، ص 514.
(3) 170) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 92.
(4) 171) انظر ( أيها الدرزي عودة إلى عرينك ) ص 49 .(141/59)
ويتألف هذا المصحف – كما ذكرت سابقًا – (1) من أربع وأربعين عرفا ، يحاكي فيه كاتبه القرآن الكريم بترديد ما في رسائل الدروز ، ولذلك فقد حاول أن يقلد أسلوب القرآن الكريم في أكثر أعرافه ، وكذلك فإنه أخذ من آيات القرآن الكريم ما يناسب بغيته ومرماه ، وخاصة آيات النعيم والعذاب ، حيث جعلها خاصة بمن يعبد الإِله المعبود عندهم – الحاكم بأمر الله – فمن عبده فله النعيم ، ومن كفر به فقد حق عليه العذاب . ( ويعلق عاطف العجمي على هذا المصحف وغيره من الرسائل التي وضعوها بقوله : تكاد تفوق القرآن بلاغة ) (2).
ولا يزال هذا المصحف يتداول بين الدروز بشكل سري ، لذلك لا يعرف بينهم إلا بشكل محدد جدًا (3)، ولا يستغرب أن ينكروا وجوده (4).
ومن كتب الدروز الدينية أيضًا : ( كتاب النقط والدوائر ) ، والذي يتحدث عن الكثير من العقائد الدرزية ، وقد طبع هذا الكتاب في البرازيل سنة 1920 م بإشراف الأستاذ منير اللبابيدي ، ويقول مؤلف ( أيها الدرزي عودة إلى عرينك ) أنه من تأليف الشيخ عبد الغفار تقي الدين البعقليني المقتول سنة 900 هـ (5).
ومنها كذلك ( شرح ميثاق ولي الزمان ) ، ويصف كاتبه نفسه بـ ( الحقير محمد حسين ) ، وهذا الشرح – كما يستدلون من أسلوبه – كتب قبل فترة ليست بالطويلة ، ويدل على حقيقة اعتقادات الدروز التامة وبشكل أوضح من الرسائل أحيانًا .
ومن الكتب الدرزية التي لم أستطع العثور عليها وذكرها مؤلف ( أيها الدرزي عودة إلى عرينك ) ، على أنها من وضع كمال جنبلاط بالتعاون مع عاطف العجمي ما يلي :
__________
(1) 172) راجع فصل تطور المذهب الدرزي بعد الحاكم.
(2) 173) أيها الدرزي عودة إلى عرينك ، ص 52.
(3) 174) هناك نسخة من هذا المصحف في المكتبة الخاصة لأحد الأشخاص ببيروت.
(4) 175) سنذكر بعد سردنا لأسماء رسائلهم . أسماء الأعراف التي يتضمنها هذا المصحف ، وما يتضمنه بعضها.
(5) 176) أيها الدرزي عودة إلى عرينك ، ص 54.(141/60)
أ – الصحف الموسومة بالشريعة الروحانية في علوم البسيط والكثيف ، وهو كتاب آخر كالمنفرد بذاته مؤلف من نحو 360 صفحة وهو مؤلف من عدة رسائل منها :
رسالة ركز العاجلة .
رسالة شرعة الإِبداع .
رسالة شرعة المثالات .
رسالة شرعية استبانة الشريعة .
شرعة الأمة الواحدة .
وملخص في هذه الرسائل :
إثبات كل ما جاء عن حمزة .
حض قوي جدا على الكتمان ، ورؤية منكري الحكمة معرضين لتقمصات مختلفة .
إثبات قصة الدينونة .
فرض العبادة ليلة الاثنين مع المحافظة على فرضها ليلة الجمعة .
إدخال الفكر البوذي ونظام البوكا والاعتماد على التعاويذ لشفاء الأمراض .
ب – رسائل الجام الجاحدين وما بعدها ، وهو كتاب كالمنفرد بذاته والبسيط والكثيف وضعا وخطا واقتباسا من القرآن ) (1).
ويعلق مؤلف هذه المذكرة بقوله : ( وكأن جنبلاط الذي لا أكاد أرتاب بأنه مؤلف هذه الرسائل ، كأنه أحس أن كل شيء لدى الدروز أصبح كاملاً ولم يعد ينقصهم إلا النصائح الطبية والاعتماد على معرفة أنباء المستقبل من الكواكب والأفلاك ومعرفة ما يضمر الناس بواسطة سحن وجوههم ولذا كتب نحو مئة صفحة حول الطب والفراسة وأسند آراءه كعادته إلى حمزة ... ويضيف قائلاً في صفحة أخرى : ( وهكذا نرى حمزة كبهاء الدين قديما وكمال جنبلاط حديثًا يسيرون في طريق يفضي للإِجهاز على الأديان ، لاسيما الإِسلام ، تنفيذًا لتصاميم يهودية مجوسية ) (2).
وفيما يلي سرد لأسماء رسائل الدروز ، والتي تتكون من أربعة مجلدات :
المجلد الأول من رسائل الدروز :
__________
(1) 177) أيها الدرزي عودة إلى عرينك ، ص 49 – 50.
(2) 178) أيها الدرزي عودة إلى عرينك ، ص 50 – 53.(141/61)
نسخة السجل الذي وجد معلقًا على المشاهد في غيبة الحاكم وتاريخه سنة 411 هـ (1) .
السجل المنهي فيه عن الخمر (2).
خبر اليهود والنصارى : وهو بدون تاريخ ، ومروي عن الذين كانوا مع الحاكم بأمر الله ، حينما جاءه وفد من اليهود والنصارى يطلبون منه الأمان (3).
نسخة ما كتبه القرمطي إلى الحاكم بأمر الله ، وجواب الحاكم عليه .
ميثاق ولي الزمان : وهو الذي يؤخذ على كل مستجيب للمذهب الدرزي .
الكتاب المعروف بالنقض الخفي ، وتاريخ شهر صفر سنة 408 هـ السنة الأولى من سنوات حمزة ، وهو الكتاب الذي نقض به حمزة الشرائع جميعًا ، وخاصة أركان الإِسلام الخمسة .
الرسالة الموسومة ببدء التوحيد لدعوة الحق : من كتابات حمزة ، وتاريخها شهر رمضان سنة 408 هـ ، السنة الأولى من سنوات حمزة ، وتتضمن الخصال السبعة التي فرضها على أتباعها ، وإسقاط الفرائض الأخرى عنهم .
ميثاق النساء : وهي من كتابات حمزة أيضًا ، وليس لها تاريخ ، وفيها تقرير قواعد الأداب التي ينبغي على الدعاة أن يتبعوها في تعليم النساء ، وكذلك العهود التي تؤخذ عليهن حتى يحتفظن بعفافهن ومكارم أخلاقهن .
رسالة البلاغ والنهاية في التوحيد إلى كافة المتبرئين من التلحيد ، من تأليف حمزة ، وتاريخها شهر المحرم سنة 409 هـ ، وفيها عن مآل الكافرين ومصير الموحدين ، ويوم القيامة .
__________
(1) 179) يقول الدكتور محمد كامل حسين : أن هذا السجل لا يمت لعقيدة الدروز بشيء ، لأنه يظهر من السجل أنه فاطمي العقيدة ، فالحاكم ليس بمعبود في هذا السجل ، إنما هو ولي الله وخليفته ، وهذا ما رفض حمزة أن يعترف به . راجع طائفة الدروز ، ص 93.
(2) 180) وهو أيضا من سجلات الدولة الفاطمية التي أصدرها الحاكم بأمر.
(3) 181) هذا اللقاء المزعوم لم يثبت تاريخيا ، ولم يروه مؤرخ من قبل.(141/62)
رسالة الغاية والنصيحة ، من تأليف حمزة ، وتاريخها شهر ربيع الآخر سنة 409 هـ ، وفيها يتحدث عن الخلاف بينه وبين الدرزي (1).
كتاب فيه حقائق ما يظهر قدام مولانا الحاكم جل ذكره من الهزل ، من كتابات حمزة ، وبدون تاريخ ، ويرجح أنه كتبها في سنة 409 هـ أثناء اختفائه ، وفي هذا الكتاب تأويل لجميع أفعال الحاكم اليومية (2).
السيرة المستقيمة ، من كتابات حمزة ، كتبها في جمادي الأولى سنة 409 هـ ، وهي سيرة الحاكم وحياته ، ويراد من إيرادها البرهنة على ألوهيته .
كشف الحقائق ، من كتابات حمزة ، وتاريخها شهر رمضان سنة 409 هـ ، وهي من حدود الدين عندهم ومراتبهم .
الرسالة الموسومة بسبب الأسباب وكنز لمن أيقن واستجاب ، من كتابات حمزة وبدون تاريخ ، ويتحدث فيها عن سبب تسميته علة العلل ، ويتحدث فيها عن سبب تسميته علة العلل ، وتأويل ( بسم الله الرحمن الرحيم ) .
المجلد الثاني من رسائل الدروز :
الرسالة الدامغة في الرد على الفاسق النصيري ، لعنه المولى في كل كور ودور : من كتابات حمزة ، ومن أهم الرسائل في هذا المجلد ، وهي تعطي فكرة عن آراء بعض الفرق التي طرحت الأديان كلها ، واتجهت إلى الإِباحية الجنسية ، وأيضًا عن الثواب والعقاب عند النصيرية والدروز .
الرسالة الموسومة بالرضى والتسليم ، من كتابات حمزة ، وتاريخها سنة 409 هـ ، ويتحدث فيها عن خلافه مع الدروز .
رسالة التنزيه : كتبها حمزة ، وتاريخها جمادى الآخرة سنة 409 هـ ، وفيها يتحدث عن الحدود الخمسة ومراتبهم وأضدادهم .
__________
(1) 182) كذلك يتحدث عن هذا الخلاف في رسالة الرضى والتسليم.
(2) 183) ذكرت كاملة في الفصل الأول من الباب الأول ( حياة الحاكم بأمر الله وآراؤه ).(141/63)
رسالة النساء الكبيرة : لم يذكر فيها الكاتب ولا التاريخ (1)، وتتضمن تأويلاً للسجلات التي أصدرها الحاكم ، وكذلك تأويل لأركان الإِسلام .
رسالة الصبحة الكائنة ، من كتابات حمزة ، وتاريخها شعبان سنة 409 هـ ، بعثها إلى أصحاب الدرزي الذين قبض عليهم الحاكم ، وفيها عتاب لهم وكيف حذرهم ليلة ثورة المصريين ضد دعوة تأليه الحاكم ، وكيف هرب هو والتجأ إلى مخبأ .
نسخة سجل المجتبى : من رسائل حمزة ، وهي تقليد وتعيين إسماعيل التميمي في حده ومرتبته الدينية .
تقليد الرضى سفير القدرة ، من رسائل حمزة ، وتاريخها شوال سنة 409 هـ ، وفيها تعيين محمد بن وهب في مرتبته .
تقليد المقتني ، من رسائل حمزة ، وتاريخها شعبان سنة 410 هـ ، وهي خاصة بتعيين علي بن أحمد السموقي ( بهاء الدين ) في مرتبته .
مكاتبة إلى أهل الكدية البيضاء ( حسن بن هبة ) عما يعن لهم من أمور دينهم .
رسالة حمزة إلى الموحدين من أهل أنصنا (2)، وتاريخها جمادى الآخرة سنة 410 هـ ، ويدعوهم فيها إلى الصبر .
شرط الإِمام صاحب الكشف : لم يذكر كاتبها ولا تاريخها .
الرسالة التي أرسلت إلى ولي العهد ، عهد المسلمين ، عبد الرحيم بن إلياس : وهي من رسائل حمزة بعثها إلى ولي عهد الحاكم ويدعوه فيها إلى الاعتراف بألوهية الحاكم .
رسالة إلى خمار بن جيش السليماني العكاوي ، وهي من رسائل حمزة ، يحذر فيها خمار من القول بأنه شقيق الحاكم .
الرسالة المنفذة إلى القاضي : وقد بعث بها حمزة إلى قاضى القضاة أحمد بن العوام ، وتاريخها ربيع الأول سنة 409 هـ ، ويدعوه فيها إلى خلع نفسه من ولاية القضاء على الموحدين ، لأنه لا يؤمن بألوهية الحاكم .
__________
(1) 184) ولكن الدكتور محمد كامل حسين يقول أنها من أسلوب التميمي : طائفة الدروز ، ص 95.
(2) 185) يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي أنها ( أسنا ) في صعيد مصر : مذهب الإسلاميين ، ج 2 ، ص 525.(141/64)
المناجاة ، مناجاة ولي الحق : الموجهة من ولي الحق ( حمزة ) إلى الحاكم .
الدعاء المستجاب ، وهي مناجاة أخرى .
التقديس ، دعاء السادقين : دعاء لنجاة الموحدين العارفين .
ذكر معرفة الإِمام ، وأسماء الحدود العلوية روحانيًا وجسمانيًا ، لم يذكركاتبها ، وهي عن أسماء وألقاب الحدود .
رسالة التحذير والتنبيه ، من رسائل حمزة ويتحدث فيها عن عظيم المهمة الموكولة إليه ، ويبشر الموحدين بما ينتظرهم من جزاء ، وما ينتظر العصاة من عقاب .
الرسالة الموسومة بالإعذار والإِنذار ، الشافية لقلوب أهل الحق من المرض والاختيار : من رسائل حمزة ، ويتحدث فيها عن ضرورة التمسك بعقيدة التوحيد ، ويحاول فيها اجتذاب أتباع خصومه وهو ابن البربرية .
رسالة الغيبة ، التي وردت على يد أبي يعلى ، وهي التي بعث بها حمزة إلى الدعاة في الشام بعد غيبة الحاكم ، يحضهم فيها على التمسك بالعقيدة وعدم التخاذل ، فيكون تاريخها على هذا سنة 411 هـ .
كتاب فيه تقسيم العلوم ، من تأليف إسماعيل التميمي ، وتاريخه شهر المحرم سنة 410 هـ ، وفيه تقسيم العلوم إلى خمسة أقسام والتفريق بين اللاهوت والناسوت ، والحدود في كل دور .
رسالة الزناد : من تأليف التميمي أيضًا ، ولا تاريخ لها ، وفيها تأويل لكثير من آيات القرآن الكريم .
رسالة الشمعة ، كذلك من تأليف التميمي ، وكتبت في عهد الحاكم لأنه يذكر فيها أنها ( رفعت إلى الحضرة اللاهوتيه ) ، وعنونت بالشمعة ، لأن حدود الدعوة خمسة ، ويشبهون في هذا أجزاء الشمعة المضيئة .
رسالة الرشد والهداية ، من كتابات التميمي ، وفيها تمجيد لمرتبته ودعوة الموحدين إلى المثابرة وعدم الاستسلام .
شعر النفس : قصيدة نظمها التميمي ، يمجد بها الحاكم ( الإِله ) . المجلد الثالث من رسائل الدروز :
الجزء الأول من السبعة الأجزاء : وفيه عرض للفرض الأول من فرائض ديانة التوحيد .(141/65)
الرسالة الموسومة بالتنبيه والتأنيب والتوبيخ والتوفيق ، كتبها بهاء الدين سنة 422 هـ ، إلى معد بن محمد ، وطاهر بن تميم الداعيين لتثبيت إيمانهما .
مثل ضربه بعض حكماء الديانة توبيخًا لمن قصر عن حفظ الأمانة .
رسالة إلى بني أبي حمار ، من كتابات بهاء ، ويتحدث فيها عن أن الألوهية لم تنتقل من الحاكم إلى ابنه علي .
تقليد لاحق ، من كتابات بهاء ، وفيه يقلد الشيخ المختار ، سنة 408 هـ .
تقليد سكين : من كتابات بهاء ، وتاريخه سنة 418 هـ ، وفيه يقلد سكين رئيسًا للمذهب في ( سورية ) ، ومما يذكر أن سكين هذا ادعى فيما بعد أنه الحاكم .
تقليد الشيخ أبي الكتائب : مرسوم تعيين أبي الكتائب داعيًا في البيضاء .
تقليد الأمير ذي المحامد ، كفيل الموحدين أبي الفوارس ، معضاد بن يوسف ، الساكن بفلجين ، وكان هذا داعيًا تحت إمرة سكين .
تقليد بني جراح : وهم الذين ثاروا على الحاكم في حياته ، ثم استمالهم بالأموال حتى عادوا إلى طاعته ، ثم آمنوا بألوهيته بعد ذلك ، ويصدر لهم بهاء الدين تقليدًا بذلك .
الرسالة الموسومة بالجميهرية : كتبها بهاء الدين ، وتاريخها سنة 418 هـ ، وموجهة إلى الدعاة والشيوخ في قبيلة تنوخ بوادي تيم .
الرسالة الموسومة بالتعنيف والتهجين لجماعة من سنهور من كتامة الكاتمين العجيسيين ، من كتابات بهاء الدين سنة 418 هـ ، وبعث بها إلى قوم من كتامة يدعوهم فيها إلى الحذر .
رسالة الوادي : من رسائل بهاء الدين .
الرسالة الموسومة بالقسطنطينية ، المنفذة إلى قسطنطين متملك النصرانية : من رسائل بهاء الدين ، بعث بها إلى امراطور الروم سنة 419 هـ ، يدعوه فيها وشعبه إلى الدخول في مذهب التوحيد .
الرسالة الموسومة بالمسيحية وأم القلائد النسكية ، وقامعة العقائد الشركية : بعث بها بهاء الدين إلى المسيحيين جميعًا ، وفيها يثبت أن حمزة هو المسيح حقًا .(141/66)
الرسالة الموسومة بالتعقب والافتقاد لآراء ما بقي علينا من هدم شريعة النصارى الفسقة الأضداد ، بعث بها بهاء الدين إلى الأمير ميخائيل صهر إمبراطور الروم ، وفيها تأويل لآيات الإِنجيل يتفق مع عقيدة تأليه الحاكم .
الرسالة الموسومة بالإِيقاظ والبشارة لأهل الغفلة وأهل الحق والطهارة : من رسائل بهاء الدين وتاريخها سنة 423 هـ ، بعث بها إلى أهل العراقين وفارس ، يبشرهم بقرب ظهور حمزة (1) .
الرسالة الموسومة بالحقائق والإِنذار والتأديب لجميع الخلائق : من رسائل بهاء الدين ، وتاريخها سنة 425 هـ ، أرسلت للذين اعتنقوا الدعوة في وادي التيم .
الرسالة الموسومة بالشافية لنفوس الموحدين ، الممرضة لقلوب المقصرين الجاحدين : وهي في وعظ أتباع المذهب .
رسالة العرب ، من رسائل بهاء الدين ، بعث بها إلى أهل سورية والحجاز واليمن والعراقين ، يدعوهم فيها إلى مذهبه ، وتاريخها سنة 422 هـ .
رسالة اليمن وهداية النفوس الطاهرات ، ولم الشمل وجميع الشتات : رسالة بهاء الدين إلى أهل اليمن المعتنقين لمذهبه .
رسالة الهند الموسومة بالتذكار والكمال إلى الشيخ الرشيد المسدد المفضال : رسالة بهاء الدين إلى أتباعه في الهند ، وتاريخها سنة 425 هـ .
الرسالة الموسومة بالتقريع والبيان وإقامة الحجة لولي الزمان : أرسلها بهاء الدين إلى أهل القاهرة والفسطاط لعدم تصديقهم ألوهية الحاكم .
الرسالة الموسومة بتأديب الولد العاق من الأولاد ، الغافل عن تغيير السور ( الصور ) العاصية عند الانتقال في دار المعاد ، ورجوع أنفسها إلى الانسفال بعد العلو بمصاحبة الأضداد : وهي عن تناسخ الأرواح .
__________
(1) 186) وهذا يعني أن بهاء الدين حتى هذا الوقت ، كان على اتصال بحمزة ، وأن حمزة كان مختفيا ويهيء نفسه للظهور.(141/67)
الرسالة الموسومة بالقاصعة للفرعون الدعي ، الفاضحة لعقيدة الكذاب المعتوه الشقي ، وتاريخها سنة 426 هـ ، وهي رد على من يدعى بـ ( ابن الكردي ) ، الذي ادعى أنه روح الحاكم .
كتاب أبي اليقظان ، وما توفيقي إلا بطاعة حدود ولي الزمان : من رسائل بهاء الدين بعث به إلى أبي اليقظان .
الرسالة الموسومة بتمييز الموحدين الطائعين من حزب العصاة الفسقة الناكثين .
رسالة من دون قائم الزمان والهادي إلى طاعة الرحمن : يعتقد أنها من كتابات بهاء الدين .
رسالة السِفر إلى السادة في الدعوة لطاعة ولي الحق الإِمام القائم المنتظر ، من كتابات بهاء الدين سنة 430 هـ ، وأرسلت إلى شيوخ العرب في الإِحساء . المجلد الرابع من رسائل الدروز :
الرسالة الموسومة بمعراج نجاة الموحدين ، وسلم حياة المعرفين .
رسالة في ذكر المعاد ، والرد على من عبر بالغلط والإِلحاد .
الرسالة الموسومة بالتبيين والاستدراك ، لبعض ما لم تدركه العقول في كشف الكفر المحجوب من الإِلحاد والإِشراك : وهي في شرح عقائد بعض الفرق .
الرسالة الإِسرائيلية الدامغة لأهل اللدد والمجون ، أعني الكفرة من أهل شريعة اليهود : وهي في الرد على عقائد اليهود .
الرسالة الموسومة بأحد وسبعين سؤالا ، سأل بها بعض المدعين الفسقة الجهال وأئمة الجور والضلال : وهي أسئلة من مخالفي العقيدة والرد عليها .
الرسالة الموسومة بإيضاح التوحيد لمن تنبه من سنة الغفلة وعرف الحق وانتصر ، وإثبات الحجة ببرهان الدين ، والرد على من أشرك بالباري وشك فيه وجحد الحد والحق وأنكره : من كتابات بهاء الدين سنة 430 هـ ، وهي في الرد على من أنكر ألوهية الحاكم .
ذكر الرد على أهل التأويل الذين يوجبون تكرار الإِله في الأقمصة المختلفة .
توبيخ ابن البربرية ، الرسالة الموسومة بالدامغة للفاسق النجس ، الفاضحة لأتباعه أهل الردة والبلس .(141/68)
توبيخ لاحق : لما نسب إليه من تصرفات مخالفة لقواعد ديانة التوحيد .
توبيخ ابن أبي حصية : من كتابات بهاء الدين ، ويحذر فيها أتباعه من آراء هذا الشخص الذي أباح كثيرًا مما حرمه حمزة .
توبيخ سهل .
توبيخ حسن بن معلا .
توبيخ الخائب محلى : الذي كان يدعو إلى الإِباحة ، ويبيح لغيره الاتصال بزوجته .
رسالة البنات الكبيرة .
رسالة البنات الصغرى .
المقالة في الرد على المنجمين .
الرسالة الموسومة ببدء الخلق ، ومؤلفها بهاء الدين .
الرسالة الموسومة بالموعظة ، ومؤلفها ، بهاء الدين ، وتاريخها سنة 428 هـ .
المواجهة : بعث بها بهاء الدين إلى حمزة يوصي فيها ببعض الأشخاص الذين أرسل معهم نسخًا من كتب مختلفة ألفها بهاء الدين عن ديانة التوحيد (1) .
مكاتبة الشيخ أبي الكتائب .
منشور إلى آل عبد الله .
جواب كتاب السادة : وفيه يبشر بقرب ظهور حمزة ( قائم الزمان ) .
الكتاب المنفذ على يد سرايا : ويتحدث فيه عن أمور تجارية ، أظن أنها ألغاز .
مكاتبة تذكرة .
مكاتبة نصر بن فتوح .
السجل الوارد إلى النصر .
منشور الشيخ أبو المعالي طاهر .
منشور إلى جماعة أبي تراب .
رسالة جبل السماق : مؤلفها بهاء الدين سنة 429 هـ ، بعث بها إلى الموحدين في جبل السماق ، يبشرهم بقرب ظهور حمزة (2) .
منشور إلى آل عبد الله ، وآل سليمان .
منشور أبا علي التنوخي .
منشور رمز لأبي الخير سلامة .
منشور الشرط والبط : ويعني الحجامة .
__________
(1) 187) ينقل الدكتور عبد الرحمن بدوي عن المستشرق دي ساسي أنه : يستدل من هذه الرسالة أن حمزة حتى تاريخ هذه الرسالة كان يوجه الطائفة من مخبأه . مذاهب الإسلاميين ، ج 2 ، ص 543.
(2) 188) وينقل الدكتور عبد الرحمن بدوي أيضا عن المستشرق دي ساسي : أنه يستدل من هذه الرسالة ومن رسائل سابقة أنه حتى هذا التاريخ كان بهاء الدين لا يزال يأمل في خروج حمزة من مخبأه وقيادة الموحدين – مذاهب الإسلاميين ، ج 2 ، ص 545.(141/69)
مكاتبة إلى الشيوخ الأوابين .
منشور في ذكر إقالة سعد : من تأليف بهاء الدين .
مكاتبة رمز إلى الشيخ أبو المعالي : تتكلم هذه الرسالة عن الحراثين والبذور والأوقاف ، وهذه الألفاظ رموز وإشارات تؤول على أساس الدعوة .
منشور إلى المحل الأزهر الشريف : في تبرئة بعض الموحدين ، مما شاركوا به في وضع الضلالات في ديانة التوحيد .
منشور نصر بن فتوح : وينصحه بهاء الدين بالسرية التامة .
مكاتبة رمز إلى آل أبي تراب : يحذر فيها بهاء الدين من ابن الكردي .
الرسالة الواصلة إلى الجبل الأنور ، من كتابات بهاء الدين سنة 433 هـ ، ويوضح فيها الذين أفسدوا ديانته .
مكاتبة الشيخ أبي المعالي ، من كتابات بهاء الدين سنة 433 هـ .
رسالة منسوبة بالغيبة : مؤلفها بهاء الدين ، ويودع فيها أتباعه ، ويعلن عزمه على الغيبة ، ويوصيهم التمسك بالآراء التي علمهم إياها . ... ... ... ... ... ويلاحظ في هذه الرسائل ، أن أكثر رسائل حمزة كتبت في سنة غيابه عام 409 هـ ، وهي السنة التي أراد بها أن يقوي مذهبه ، ويلاحظ أيضًا أن غالبية الرسائل كتبت من قبل بهاء الدين ، الذي قاد المذهب بعد اختفاء حمزة سنة 411 هـ .
أما عناوين الأعراف التي يتألف منها مصحف الدروز فهي كما يلي :
عَرفُ الفتح : فيه حديث عن هذا المصحف ، وتمجيد بما يحويه .
عَرفُ الأمر والتقديم : فيه دعوة إلى الإِيمان ، بألوهية الحاكم ، والتهديد لمن لا يؤمن به بالعذاب والويل ، وفيه آيات من القرآن الكريم حُرفت بشكل واضح .
عَرفُ نداء الحضرة : فيه حديث عن نداء الإِله في أدواره وظهوراته المختلفة للأيمان به ومشاهدته .
عَرفُ النزلة والتجلي .
عَرفُ التنبيه والهداية : وفيه توبيخ لمن أنكروا أن يروا الله جهرة كأمثالهم ( أي أن يروا الحاكم ) . وفيه أيضًا تحريف لآيات من القرآن الكريم .
عَرفُ الإِنذار والحساب : وفيه تهديد بالعذاب لمن رفض دعوة الحاكم .
عَرفُ الجحود والتوبة .(141/70)
عَرفُ المظاهر القدسية .
عَرفُ الإِيمان والردة : وفيه تهديد للذين يرتدون عن هذا الدين .
عَرفُ النيزين .
عَرفُ الجيش العجيب المجر : وفيه عن مهاجمة جموع الناس لمقر حمزة أثناء اختفائه بعد ثورتهم ، وعن نصر الحاكم ( الإِله ) له بعد ذلك وحمايته .
عَرفُ الزلزلة .
عَرفُ الأمثال : وفيه وصف لعذاب الذين كفروا بالحكم .
عَرفُ صلاة اللقاء : فيه دعاء موجه إلى الحاكم ، على أنه صلاة .
عَرفُ صلاة الرواح : فيه كذلك حدث عن العذاب الذي سَيحل بمن كفروا بالحاكم بعد أن رأوه جهرة .
عَرفُ كتاب أبي إسحق أو مراتب العباد : موجه إلى شخص اسمه : أبي إسحق محمد اللُّدي ، وفيه حديث عن ظهور المعبود ، وعن يوم القيامة وقوم يأجوج ومأجوج .
عَرفُ صلاة الفجر : وفيه دعاء ومناجاة للحاكم .
عَرفُ تجلي شمس الحقيقة وتغريد الحمامة الأزلية .
عَرفُ العهد والميثاق : وفيه نص العهد والميثاق .
عَرفُ صلاة الشكر والحمد على الإيمان .
عَرفُ الرحمة .
عَرفُ الوصية : وفيه عن أحكام الوصية في مذهبهم .
عَرفُ صلوات الشرائع : وفيه تحذير لأتباع المذهب من الاستماع إلى المسلمين ، ويتحدث فيه أيضًا عن فرائض الإِسلام بشكل استهزائي ؟
عَرفُ أنباء الأولين والتجلي في بلاد السند والهند .
عَرفُ طلائع الموحدين .
عَرفُ مشارق التوحيد .
عَرفُ المحرمات : وفيه حديث عن المحرمات التي حرمها مولاهم الحاكم عليهم .
عَرفُ صلاة التسبيح .
عَرفُ فرائض الأحكام : وفيه عن تحريم الزنا على أتباع المذهب .
عَرفُ المشاهدة وكوثر التجليات .
عَرفُ خلائف العدل : وفيه عن تحريم الرشوة بينهم .
عَرفُ برازخ الكاف والنون أو الشفع والوتر : وفيه عن شكر مولاهم لأنه أخرجهم من عبادة العدم إلى أنوار المشاهدة .
عَرفُ حقيقة الصلاة والايمان .
عَرفُ الثِقلين .
عَرفُ الدعوة والعدل والتوكل والرحمة والفيض .
عَرفُ كتاب البيان إلى دولة الموحدين .
عَرفُ صلاة التجلي .(141/71)
عَرفُ شمس المغيب
عَرفُ الأكسير .
عَرفُ الأمم في السموات والأرضين .
عَرفُ مائدة الكمال أو ألواح المقادير والإِثبات والمحو والتنزيل .
عَرفُ عاقبة المكذبين : ويعتبر فيه القرآن صحف كتبت من قِبل آباء الجاحدين لحكمة التوحيد ، فهم لذلك في ضلال مبين .
عَرفُ الأعراف أو تسبيح مؤذني نواقيس الأختام .
بلاغ المحرمات وعَرفُ مسك الختام .
هذا وهناك أيضًا رسالة صغيرة مخطوطة بعنوان ( دعاء سيدنا الشيخ الصالح ) ويبدو أنها لأحد مشايخهم المتأخرين ، على شكل دعاء يناجي به الحاكم ، وقد بدأ بما يلي :
( اللهم لك الحمد على نعمة وجودك ، ولك الحمد على معرفة وليك وحدودك ، ولك الحمد على معرفة ظهوراتك ) (1).
وهناك كذلك رسالة أخرى بعنوان ( ذكر ما يجب أن يعرفه الموحد ويعتقد به ويسلك بموجبه ) ، وهو موجز عن كتاب الفرائض ، وهو عبارة عن تفصيل لكثير من عقائد الدروز .
ويؤكد كمال جنبلاط أن الدروز ورثوا في كتبهم المقدسة المستورة فلسفة فيثاغورس وسقراط وأفلاطون ، وكذلك الأفلاطونية الحديثة ، وهذه الفلسفات والأفكار هي التي يجب أن يعتد بها ، لأن أساس عقيدتهم قائم على طلب الحكمة لذا لا يستيطع أي كان أن يقرأ كتب الدروز المقدسة سوى الحكماء (2) .
*******
الفصل الثاني
الرد على عقيدتهم
ويتضمن ما يلي :
1 – إبطال مفهومهم للألوهية ، وحلول اللاهوت في الناسوت .
2- إبطال قولهم بالتناسخ والرجعة .
1 – إبطال مفهومهم للألوهية ، وحلول اللاهوت في الناسوت :
عقائد الدروز – كما بينت سابقًا – تقوم أساسًا على الاعتقاد بتجسد الإِله في صورة الحاكم بأمر الله ، وأن اللاهوت حل في الناسوت على هذه الصورة .
__________
(1) 189) دعاء سيدنا الشيخ الفاضل.
(2) 190) كمال جنبلاط / هذه وصيتي ص 46 ، 49.(141/72)
وهذا الاعتقاد هو اللبنة الرئيسية التي تقوم عليها أركان العقيدة الدرزية ، وفكرة الحلول أصلاً مستقاة من الفلسفة اليونانية ، وتكاد تكون عنصرًا رئيسيًا في الفلسفة الهندية ، ( والمسيحية استمدت هذه الفكرة من الهندوكية ) (1).
يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية عن هذه الفكرة ما يلي :
ولا ريب أن هذا القول – الحلول والتجسيد – كفر صريح باتفاق المسلمين ، فقد ثبت في صحيح مسلم ، أن النبي ^ قال : ( واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت ) (2)، فإذا قيل : ظهر في صورة إنسان وتجلى فيه ، فإن اللفظ يصير مشتركًا بين أن تكون ذاته فيها ، وأن تكون قد صارت بمنزلة المرآة التي يظهر فيها ، وكلاهما باطل ، فإن ذات الله ليست في المخلوقات ، ولا في نفس ذاته ترى المخلوقات كما يرى المرئي في المرآة ) (3).
وينقل الأستاذ أنور الجندي أيضًا عن شيخ الإسلام ابن تيمية ما يلي :
إن الاتحاد بين الخالق والمخلوق ممتنع ، لأن الخالق والمخلوق إذا اتحدا ، فإما أن يكونا بعد الاتحاد اثنين كما كانا قبله ، وهذا تعدد وليس باتحاد ، وإما أن يستحيلا إلى شيء ثالث كما يتحد الماء واللبن والنار والحديد فيلزم أن يكون الخالق قد استحال وتبدلت حقيقته كسائر ما يتحد مع غيره ، وهذا ممتنع على الله ، إذ الاستحالة تقتضي عدم ما كان موجودًا والله تعالى واجب الوجود بذاته وصفاته الملازمة له والتي هي كمال ، والتي إذا عدمت كان ذلك نقصًا يتنزه الله تعالى عنه ) (4).
__________
(1) 191) أنور الجندي : المؤامرة على الإسلام ، ص 53.
(2) 192) رواه مسلم في كتاب الفتن ورواه الترمذي في كتاب الفتن.
(3) 193) ابن تيمية : مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ، مجلد 2 ، ص 179 – 180.
(4) 194) أنور الجندي : المؤامرة على الإسلام ، ص 54.(141/73)
ولاشك أن الإِله الخالق من فوق هذا الكون ، وليس هو أي جزء فيه ، ( ولو كان جزءًا من الكون لكان من الممكن أن يكافئه جزء آخر منه ، وقد يكون ذلك المكافيء – ولو من جهة من الجهات – أصغر منه وأضعف بوجه عام . ومتى وجد المكافيء أمكن أن يحتال عليه ويغلبه ، أو أن تتعارض قواهما تعارضًا يعطل كل طرف منها الآخر وبذلك يتعرض الكون للفساد والدمار ) (1).
ولهذا فوجود الله كامل ذاتي ( بمعنى أنه موجود لذاته لا لعلة مؤثرة فيه ، ومن خصائص الوجود الذاتي أنه لا يقبل العدم ، وأما وجود ما عداه فوجود ناقص وتبعي ، يمعنى أنه مستمد من غيره ، وأنه متوقف على القوة الموجدة له ) (2).
(( وعقيدة ( الألوهية ) ، عقيدة وظيفتها خلق الإِيمان ، وإشعال وقده الشوق والحب لذات الله ، وإثارة عواطف الإِجلال والإِكبار له ، وعقيدة هذا شأنها وخطرها ، وتلك وظيفتها وعملها ، يجب أن تبقى بحيث تكون قادرة على أن تمد الإِنسان بهذه المعطيات التي تجعل لله ما يجب أن يكون له ، من تقديس وإجلال ، ولن تحقق هذا المعنى إلا إذا ظلت متأبية عن أن تنزل إلى عالم الحس )) (3).
وبسبب ذلك فإن الذي يرجح الإيمان في القلوب ، ويحتفظ به حيا في النفوس ، هو هذا الحاجز الذي يحجز الناس من مشاهدة الله .
ذلك أن الإنسان يهدف بتقديسه لله إلى حقيقة خارجة عن نطاق الأذهان ، وإن كانت تعبر عنها الأذهان ، فإنها في هذا التعبير تشير إلى ذات مستقلة قائمة بنفسها ، ليست مجرد عوض من الأعراض أو لقب من الألقاب .
__________
(1) 195) عبد الرحمن حبنكة : العقيدة الإِسلامية وأسسها ، ص 194.
(2) 196) د . محمد سعيد رمضان البوطي : كبرى اليقينيات الكونية ، ص 93.
(3) 197) عبد الكريم الخطيب : الله ذاتًا وموضوعا ، ص 315.(141/74)
ثم إن هذا التقديس ليس تقديسًا لذات أيا كانت ، وإنما هو تقديس لذات لها صفات خاصة ، وأهم مميزاتها أنها ليست مما يقع عليه حس الإنسان ، ولا مما يدخل في دائرة مشاهداته الدنيوية ، وإنما هي شيء غيبي لا يدركه إلا بعقله ووجدانه )) (1).
وكيف تستطيع حواس الإِنسان المحدودة التي تدور في مجال محدود من مجالات الوجود المحسوس ، أن تحيط بذات الله لو تجلي لها ؟
وكيف تستقيم حياة الإِنسان ، وهو يرى الله – عيانا – وهو قائم عليه ؟
وكيف يكون سلوك الناس وهم يشهدون الله شهودًا صريحًا محسوسًا في كل زمان ومكان ؟
إنها أسئلة كثيرة تقف فورًا عند طرح هذه الفكرة ، التي لا يستسيغها عقل ولا يقبلها منطق ، يقول أبو حامد الغزالي :
(( إن الحلول لا يمكن تصوره بين عبدين ، فكيف يكون تصوره بين العبد وربه ؟ )) (2).
والحلول محال على الله لأسباب كثيرة ، ذلك لأن القديم يختلف عن الحادث لاختلاف الماهية في كل منهما ، وهذا الاختلاف يوجب استحالة حلول القديم في الحادث .
ثم إن الله واجب الوجود ، وهذا الوصف ينفي الحلول لأنه في حالة حدوثه يصبح الحال تابعًا لما حل فيه ، كما يصبح معلولاً لهذا المحل ومتأثرًا به ، بل إنه ليصبح في غير الإِمكان تصور الحال إلا بتصور المحل ، إذن ينتفي الحلول في هذه المرة كما استحال في الأولى .
وينقل الأستاذ أنور الجندي عن أبي حامد الغزالي قوله عن فكرة الاتحاد بين الله والإِنسان : (( إن قول القائل : إن العبد صار هو الرب كلام يتناقض مع نفسه ، بل ينبغي أن ينزه الرب سبحانه عن أن يجري اللسان في حقه بأمثال هذه المحاولات .
وطريقة البرهنة على فساد ذلك عند الغزالي ، هي أن يورد ثلاثة احتمالات لمثل هذا الاتحاد المزعوم :
1 – إما أن تظل كل ذات من الذاتين موجودة .
2 – وإما أن تفنى إحداهما وتبقى الأخرى .
__________
(1) 198) محمد عبد الله دراز : الدين ، ص 41.
(2) 199) أنور الجندي : الإِسلام والفلسفات القديمة ، ص 138.(141/75)
3 – وإما أن تفنيا معا .
وفي الحالة الأولى لا يكون هناك اتحاد ، وفي الثانية كيف يمكن الزعم بأن هناك اتحادًا بين موجود ومعدوم ؟ وفي الثالثة : لا يكون هناك محل للحديث عن الاتحاد ، بل الأولى أن نتكلم عن الانعدام ، والتناقض واضح في جميع هذه الاحتمالات .
والعقل هو الذي يقرر وجود هذا التناقض ، بعد أن جاء الشرع يبين فساد فكرة الاتحاد عند النصارى )) (1).
وفي القرآن الكريم مواقف كثيرة تكشف عظم هذا القول ، واجتراءه على الله ، يقول تعالى عن اليهود : (( وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون )) (2).
ولهذا جاءت الآية الكريمة التالية كاشفة كفر اليهود والنصارى بما قالوا واعتقدوا في هذا الموضوع : (( وقالت اليهود عُزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله ، ذلك قولهم بأفواههم يُضاهئون قول الذين كفروا من قبل ، قاتلهم الله أنى يؤفكون . اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم ، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون )) (3).
وتكذيبًا لما قالوا وزعموا بين تعالى حقيقة ذاته : (( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير )) (4).
(( وذات الله – مع أنها فوق أن تُدرك وأن تُحد – قد وصفت في القرآن بصفات كثيرة كالإِرادة والعلم والقدرة وغيرها ، وهي صفات كاملة الكمال المطلق )) (5). وبهذه الطريقة تقبل السلف الصالح موضوع الذت الإلهية .
وإرسال الرسل والأنبياء من قبل الله تعالى ، يدحض كل مزاعمهم بالحلول والاتحاد ، إذ بظهوره أو اتحاده في الإنسان ، ما كانت هناك حاجة للرسل والأنبياء .
__________
(1) 200) أنور الجندي : المؤامرة على الإسلام ، ص 55.
(2) 201) سورة البقرة : آية 55.
(3) 202) ... سورة التوبة : آية 31 ، 32 .
(4) 203) سورة الشورى : آية 11.
(5) 204) عبد الكريم الخطيب : الله ذاتا وموضوعا ، ص 405.(141/76)
ونستنتج مما تقدم أن فكرة تجسد الإِله في صورة إنسانية ، هي اجتراء على الله الذي ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ، وضرب من المستحيلات لاختلاف ماهية كل منهما ، وكذلك فهي زعزعة ليقظة الإِيمان في النفوس .
لهذا أستطيع أن أقول : أن ادعاء الحاكم الألوهية بالإِضافة إلى مظهر الكفر والإِلحاد فيه وفي مباديء مذهبه التي روجت فيما بعد كان كذلك ما يسمى بـ ( جنون العظمة ) والرغبة بالحكم والسلطان ، وشهوة الظلم والقتل والاعتداء على الآخرين ، حتى تخيل أنه الإِله ، وزين له ذلك الأذناب الذين كانوا حوله من أمثال حمزة بن علي والدرزي والفرغاني وغيرهم ، فازداد قتله وبطشه بالناس ، وأخذه أموال الناس بغير حق ، وإعطاؤها بغير حق أيضًا ، ليقال عنه : المميت والمحيي ، والرزاق والمانع .
ولو أن هؤلاء الذين لازالوا يعتقدون بألوهية الحاكم ، ومازالوا في الضلالات والمتاهات التي وضعها حمزة بن علي ، أصغوا إلى نداء عقولهم ما بقى واحد منهم على هذا الاعتقاد الواهي ، الذي لا يصدقه عقل ، ولا تستسيغه نفس .
2 – إبطال قولهم بالتناسخ والرجعة :
وهو قولهم : بأن الجسد قميص للروح ، فعندما يموت الجسم ، تنتقل إلى جسم آخر ، باعتبار أن الروح لديهم لا تموت ، بل يموت قميصها الجسم ويصيبه البلى .
وتصور التناسخ بهذا الشكل ، من الأوهام التي جاءت من قدماء اليونانيين ، ( والتي كان يعتقد بها الفراعنة ، وظهرت في زمن فرعون الذي كان فيه موسى عليه الصلاة والسلام ) (1)، ( وهي العقيدة التي نجدها أيضًا في إنجيل بوذا ) (2).
ودليل بطلان هذا الاعتقاد يثبت بالشرع والعقل والحس المشاهد :
__________
(1) 205) ابن الجوزي : تلبيس ابليس ، ص 80.
(2) 206) محمد على الزعبي وعلى زيعور : البوذية وتأثيرها في الفكر والفرق الإِسلامية المتطرفة ، ص 148.(141/77)
وأما ما ثبت بالشرع فقد ورد به القرآن الكريم ، والسنة النبوية الشريفة ، فما جاء عن سؤال الملكين ، وعذاب القبر ، يدل بوضوح على بطلان ما يتوهم به البعض من أن الأرواح تظل متنقلة بين الأجساد ، كلما انتسخ وجود واحدة منها في جسدها التي هي فيه ، انتقلت منه إلى جسد آخر ، وهكذا دواليك .
(( فالله سبحانه وتعالى يرسل ملكين إلى الإِنسان عقب وفاته ، يسألانه عن دينه الذي عاش عليه ، وعما علمه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، فأما أن يتعرض إلى لون العذاب ، أو لون النعيم ، ولقد ثبت الخبر المتواتر من الكتاب والسنة عن سؤال القبر وعذابه ، وأنهما واردان على روح الميت بيقين ، إذ لا يتصور بدون ذلك خطاب ولا نعيم أو عذاب ، إذا فالروح مشغولة بصاحبها محبوسة له أو عليه .
كما قال الله عز وجل : ( كل نفس بما كسبت رهينة ) (1)، ولا يمكن أن تتصرف مولية عنه لتسكن جسدًا آخر تستقبل فيه سلوكًا جديدًا ووجودًا آخر )) (2).
قال تعالى مخبرا عن حياة البرزخ – هذه – (( فلولا إذا بلغت الحلقوم ، وأنتم حينئذ تنظرون ، ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ، فلولا إن كنتم غيرَ مدينين ، ترجعونها إن كنتم صادقين ، فأما إن كان من المقربين ، فروح وريحان وجنة نعيم ، وأما إن كان من أصحاب اليمين ، فسلام لك من أصحاب اليمين ، وأما إن كان من المكذبين الضالين ، فنُزلٌ من حميم ، وتصلية جحيم ) (3).
وقوله ( وجاءت سكرة الموت بالحق ) (4)أي جاءت بما بعد الموت من ثواب وعقاب ، وهو الحق الذي أخبرت به الرسل . وقوله : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) (5)، واليقين ما بعد الموت ، كما قال ^ : ( أما عثمان بن مظعون فقد جاءه اليقين من ربه ) .
__________
(1) 207) سورة المدثر : آية 38.
(2) 208) د . محمد سعيد رمضان البوطي : كبرى اليقينيات الكونية ، ص 296.
(3) 209) سورة الواقعة : آيات : 83 – 94.
(4) 210) سورة ق : آية 19 .
(5) 211) سورة الحجر : آية 99.(141/78)
وذكر تعالى عذاب القيامة والبرزخ معا في ذكره قصة آل فرعون فقال : ( وحاق بآل فرعون سوء العذاب ، النار يعرضون عليها غدوا وعَشيا ، ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) (1). وقد ثبت في الصحيحين أن النبي^لما أتى المشركين يوم بدر في القليب ناداهم : ( يا فلان ، يا فلان ، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ، فقد وجدت ما وعدني ربي حقًا ) (2).
وهذا دليل على وجودهم وسماعهم ، وأنهم وجدوا ما وعدوه بعد الموت من العذاب . وقال تعالى : ( ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون ) (3) [ آل عمران : 169 ] ، وأيضًا قال تعالى : ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ، فيُمسك التي قضى عليها الموت ، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى ) (4) [ الزمر : 42 ] ، وهذا بيان لكون النفس تُقبض وقت الموت ، ثم منها ما يمسك فلا يرسل إلى بدنه وهو الذي قُضي عليه بالموت ، ومنها ما يرسل إلى أجل مسمى .
وقال تعالى : { حتى إذا جاء أحدَهم الموت قال : رب ارجعون ، لعلي أعمل صالحًا فيما تركت ، كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون }(5) [ المؤمنون : 99 – 100 ] .
وقد أخبرنا تعالى أيضًا بأن هذه الأبدان التي فيها أرواحنا ستشهد علينا يوم القيامة بما عملت ، قال تعالى : { ويوم يُحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون ، حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم .. مما تعملون }(6) [ فصلت : 19 – 22 ] .
__________
(1) 212) سورة غافر : آية 45 ، 46.
(2) 213) رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد.
(3) 214) سورة آل عمران : آية 169.
(4) 215) سورة الزمر : آية 42.
(5) 216) سورة المؤمنون : آية 99 ، 100.
(6) 217) سورة فصلت : آيات 19 – 22.(141/79)
مما تقدم من الآيات والأحاديث ، دليل خبري حاسم على بطلان التناسخ ، إذ بذلك ينتفي العدل الإلهي عن بني الإِنسان (1).
يقول ابن حزم الظاهري : ( ويكفي من الرد عليهم ، إجماع جميع أهل الإِسلام على تكفيرهم ، وعلى أن من قال بقولهم فإنه على غير الإسلام ، وأن النبي ^ أتى بغير هذا ، وبما المسلمون مجمعون عليه من أن الجزاء لا يقع إلا بعد فراق الأجساد للأرواح بالنكر أو التنعيم قبل يوم القيامة ، ثم بالجنة أو النار في موقف الحشر فقط إذا جمعت أجسادها مع أرواحها التي كانت فيها ) (2).
وهذه الدعوى لا تعتمد على برهان حسي أو عقلي ، وقد قامت الأدلة على حدوث العالم ، وما كان حادثًا فلابد له من نهاية ) (3).
وانتفاء تساوي نفسين في جميع الخصائص أمر حقيقي يقول ابن حزم :
( إن تساوي نفسين في جميع الخصائص أمر غير ممكن ، فليس في العالم كله شيئان متشابهان بجميع أعراضهما اشتباها تامًا من كل وجه ، يعلم هذا من تدبير اختلاف الصور واختلاف الهيئات وتباين الأخلاق ، وإنما يقال هذا الشيء يشبه هذا على معنى أن ذلك في أكثر أحوالهما لا في كلها ، ولو لم يكن ما قلنا ما فرَّق أحد بينهما ألبتة ) (4).
__________
(1) 218) ابن تيمية : فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية مجلد 4 ص 363 – 270.
(2) 219) ابن حزم الظاهري : الفصل في الملل والأهواء والنحل ، ج 1 ، ص 91.
(3) 220) محمد البشبيشي : الفرق الإِسلامية ، ص 88.
(4) 222) ابن حزم الظاهري : الفصل في الملل والأهواء والنحل ، ج 1 ص 93.(141/80)
هذا من ناحية النفس الإِنسانية أما من ناحية الأخلاق ( فإن الأخلاق تتباين ، والأخلاق محمولة على النفس التي هي محل لها . ومتى تباينت الأخلاق تباينت النفوس من ناحيتها ، وإذا تباينت النفوس كانت نفس كل بدن من الأبدان من أي نوع كان خلاف التي في غيره من أبدان ذلك النوع بالضرورة ، وإذا يبطل القول بانتقال نفس من بدن هي مستعدة له إلى آخر من نوع ذلك البدن تصلح له نفس أخرى له خصائصها وأخلاقها ) (1).
وينقل ابن حزم عن القائلين بالتناسخ قولهم : ( إلى أن التناسخ هو على سبيل الجزاء ، ذلك أن الله تعالى عدل حكيم رحيم كريم ، فإذا هو كذلك فمحال أن يعذب من لا ذنب لهم بالجدري والقروح ، فعلمنا أنه تعالى لم يفعل ذلك إلا وقد كانت الأرواح عصاة مستحقة للعقاب بكسب هذه الأجساد لتعذب فيها ) (2).
وهذا مشابه لاعتقاد الدروز أن من يولد أعمى وبه عاهة ، إنما كان ذلك لعصيان هذه الأرواح في حيواتها السابقة .
ويرد ابن حزم على ذلك بقوله : ( ويكفي بطلان هذا الأصل الفاسد أن يقال لهم أن الحكيم العدل الرحيم على أصلكم لا يخلق من يعرضه للمعصية حتى يحتاج إلى إفساده بالعذاب بعد إصلاحه ، وقد كان قادرًا على أن يظهر كل نفس خلقها ولا يعرضها للفتن ويلطف بها ألطافًا فيصلحها بها حتى تستحق كلها إحسانه والخلود في النعيم ، وما كان ذلك ينقص شيئًا من ملكه . وحكم الشريعة أن كل قول لم يأت عن نبي تلك الشريعة فهو كذب وفرية ، فإذا لم يأت عن أحد من الأنبياء عليهم السلام القول بالتناسخ فقد صار قولهم به خرافة وكذبًا وباطلاً ) (3).
__________
(1) 223) محمود البشبيشي : الفرق الإِسلامية ، ص 88.
(2) 224) ابن حزم الظاهري : الفصل في الملل والأهواء والنحل ، ج 1 ، ص 93.
(3) 224) ابن حزم الظاهري : الفصل في الملل والأهواء والنحل ، ج1 ، ص 93 – 94.(141/81)
ويقول الأستاذ سعيد حوى عن هذه العقيدة أنه لا يقبلها عقل سليم ، ويضيف قائلاً : ( لأجل هذا فإن الإنسان على قدر ما نال من التقدم والرقي في ميدان العقل والعلم صارت تبطل في نظره عقيدة تناسخ الأرواح ، إلا أنها ما بقيت الآن إلا في أمم همجية أو متخلفة جدًا في ميدان الرقي العلمي والعقلي ، ومن الحقيقة – مع هذا – أن هذه العقيدة مثبطة للهمم ، ومميتة لروح التقدم ، بحيث أن أمة إذا أصبحت قائلة بها انعدمت فيها روح الإِقدام والجرأة والشجاعة والجندية ، ويكون نتيجة هذا الضعف المضاعف أن تضرب عليها الذلة والمسكنة ولا تحيا في الدنيا إلا مغلوبة على أمرها ، أو تنضم إلى أمم غالبة قوية أخرى .
والمضرة الأخرى لعقيدة تناسخ الأرواح ، أنها تعادي المدينة والحضارة ، وتجر الإِنسان جرا إلى الرهبانية وترك الدنيا . أنه لمما يعتقده القائلون بهذه العقيدة أن الشهوة هي أصل كل فساد في الأرض ، وهي التي تلوث الروح بالذنوب والآثام ، ولأجلها تنتقل الروح من قالب إلى قالب ، وتذوق وبال أعمالها مرة بعد مرة ، فالإِنسان أذا أودي بها وقضى عليها ولم يشغل نفسه بمشاغل الدنيا وشواغبها فلروحه أن تنال الخلاص من دورة التناسخ ) (1).
ومن مزاعم واعتقادات الدروز أيضًا ، أن أنفس العالم لا تزيد ولا تنقص ، ولا أجد ردًا على هذا الزعم ، إلا الإحصاءات السكانية التي تتوالي من جميع بلاد العالم عن الانفجار السكاني ، وتزايد أعداد السكان في العالم يوما بعد يوم .
وهو ما تحذر منه الأمم المتحدة ، لقلة الغذاء في العالم ، وموت الكثير من الناس جوعًا ، وأتساءل لماذا لايزال الدروز إلى الآن يؤمنون بهذا الاعتقاد والذي يدحضه العقل والمنطق السليم ؟ .
__________
(1) 225) ... سعيد حوى : الإسلام ، ج 4 ، ص 130 .(141/82)
وبعد هذا نقول : ( إن تصور التناسخ إنما هو شيء يتعلق بالمغيبات ، والأمور الغيبية لا سلطان للعقل عليها طالما أن بينه وبينها حجابًا ، فالخيال قد يذهب في تصور هذه المغيبات كل مذهب ، ولكن العقل لا يصدق أي مذهب منها ما لم يقم عليه البرهان السليم ، ولولا أن أخبارًا يقينية متواترة قد وردت عن الله عز وجل أو عن رسوله صلوات الله عليه بشأن بعض المغيبات لكان موقف العقل منها نفس الموقف ، أي الإِنكار والجحود طالما أنه لا برهان عليها ، ولكن لما ورد الخبر اليقيني على وجوده وصدقه ، كان ذلك موجبًا للتصديق والإِذعان ) (1).
* * * * *
__________
(1) 226) د . محمد سعيد رمضان البوطي : كبرى اليقينيات الكونية ، ص 296.(141/83)
ملف رقم (3) والأخير
الباب الثالث
شريعة الدروز وتقسيم المجتمع عندهم
وموقفهم من الأديان والفرق الأخرى
يتضمن فصلين اثنين :
الفصل الأول : شريعة الدروز وتقسيم المجتمع عندهم ... ويتضمن ما يلي :
1 – نقضهم أركان الإِسلام ، وفرضهم بدلها سبع دعائم تكليفية .
2 – الزواج والطلاق والوصية عندهم .
3 – تقسيم المجتمع الدرزي .
الفصل الثاني : موقف الدروز من الأديان والفرق الأخرى ... ويتضمن ما يلي :
1 – موققهم من اليهود .
2 – موقفهم من النصارى .
3 – موقفهم من طائفة النصيرية .
الفصل الأول
شريعة الدروز وتقسيم المجتمع عندهم
1 – نقضهم أركان الإِسلام ، وفرضهم بدلها سبع دعائم تكليفية .
إن أول ما بدأه دعاة الدروز بعد إعلان ألوهية الحاكم ، هو نقض الشريعة الإِسلامية وأركانها حتى يتسنى لهم أن يأتوا بشريعة تخالف وتنسخ شريعة الإِسلام ، ففي رسالة ( الجزء الأول من السبعة أجزاء ) توضيح لذلك إذ تقول :
اعلموا معاشر الموحدين لمولانا الحاكم ، المقرين بإمامة عبده القائم ، أن لما غابت صورة المعبود وامتنع قائم الزمان عن الوجود ، أيست كثير من النفوس عند غياب العيان المحسوس وتشاجروا في الحلال والحرام ، وقالوا : هل فرض الباري سبحانه على لسان الإِمام فرائض يتمسك بها الأنام ، وقال بعضهم : لابد للأمة من فرائض تضبطها عن الأهواء المحلومة من خوف أن تربطها ، ولو لم يكن ذلك لزال الحفاظ .(142/1)
فلما رأيت ذلك وما قد وقع في نفوسهم من الأياس ... فتأملت كتابا وصلني من حضرة مولاي قائم الزمان عليه من معبوده أفضل التحية والسلام ، يرسم لي فيه وضع الكتب وقراءتها على أهل البصائر ... ويأمرني بإيضاح ما اشتكل على الطائفة من العلوم ، واشتهار ما علمته من الفرائض والرسوم ، فوضعت هذا الكتاب وهو الجزء الأول من السبعة أجزاء تشتمل على فرائض فرضها مولانا سبحانه ذو المنة والإِحسان ، ونطق بها عبده قائم الزمان ، تتلوا بعضها بعضا ) (1).
(( فمسلك التوحيد في اعتقادهم تجاوز الدعائم الإِسلامية من حيث معناها المادي الظاهر ، ليسموا بها إلى معانيها ومقاصدها الحقيقية )) (2).
ولهذا فقد اتخذ له فرائض توحيدية وردت في ( رسالة ميثاق النساء ) حيث تقول : ( ويجب على سائر الموحدات أن يعلمن أن أول المفترضات عليهن معرفة مولانا جل ذكره وتنزيهه عن جميع المخلوقات ثم معرفة قائم الزمان وتمييزه عن سائر الحدود الروحانيين ، ثم معرفة الحدود الروحانيين بأسمائهم ومراتبهم وألقابهم ...
فإذا علمن ذلك وجب أن يعلمن أن مولانا جل ذكره قد أسقط عنهن السبع دعائم التكليفية الناموسية ، وفرض عليهن سبع خصال توحيدية دينية ، أولها وأعظمها : سدق اللسان ، وثانيها : حفظ الإِخوان ، وترك ما كنتم عليه وتعتقدوه من عبادة العدم والبهتان ، ثم البراءة من الأبالسة والطغيان ، ثم التوحيد لمولانا جل ذكره في كل عصر وزمان ودهر وأوان ، ثم الرضى بفعله كيف ما كان ، ثم التسليم لأمره في السر والحدثان . فيجب على سائر الموحدين والموحدات حفظ هذه السبع خصال والعمل بها وسترها عمن لم يكن من أهلها ) (3).
ونفهم من هذه الرسالة أن المولى قد أسقط عنهم سبع دعائم تكليفية ناموسية ، وفرض عليهم سبع خصال توحيدية هي :
__________
(1) الجزء الأول من السبعة أجزاء.
(2) د . سامي مكارم : أضواء على مسلك التوحيد ، ص 112.
(3) رسالة ميثاق النساء.(142/2)
1 – أولها وأعظمها : سدق اللسان – ونلاحظ دائمًا أن الدروز لا ينطقون كلمة الصدق بالصاد ، إنما ينطقونها ويكتبونها بالسين ، وسبب ذلك هو حساب الجمل ، فالسين تساوي ستين ، والدال تساوي أربعة ، والقاف مائة ، فيكون المجموع مائة وأربعة وستين هم عدد حدود الدروز ، ذلك أن حد الإِمامة تسعة وتسعون ( أي أسماء الله الحسنى ) ، أي أن للإِمام تسعة وتسعين داعيًا ، ولكل من الجناح الأيمن والجناح الأيسر ثلاثون داعيًا مجموعهم ستون داعيًا . يضاف إلى ذلك أربعة حدود علوية ، فالمجموع الكلي مائة وثلاثة وستون حدا ، يبقى بعد ذلك حد ، وهو قائم الزمان حمزة بن علي ، ومن هنا نطقوا كلمة صدق ومشتقاتها وكتبوها بالسين حتى تتفق مع حروف الجمل على هذا النحو .
2 – حفظ الأخوان : هذا لا يعني الأخوة الإِنسانية بل تعني بالأخ من شاطرها هذه الخصال .
3 – ترك ما كان عليه الموحدون وما اعتقدوه من عبادة العدم والبهتان : أي أن كل عبادة تقدم لسوى الحاكم لا تصادف إلا عدما .
4 – البراءة من الأبالسة والطغيان – والمقصود الأنبياء - .
5 – التوحيد للمولى في كل عصر وزمان .
6 – الرضا بفعله كيفما كان .
7 – التسليم لأمره في السر والحدثان .
ولا عجب في تفاني حمزة بالحث على الرضا والتسليم إذ يعلم أن القوم سوف يقرأون ما كتبه عن أفعال الحاكم مما يثير الاعتراض وسوء الظن ولذا شدد على ذلك وقال في رسالة الرضا والتسليم : ( إياكم أن تكرهوا شيئا من أفعال مولانا فيكم ، أو تظنوا به ظن السوء ) .
وهذه السبع فرائض التوحيدية هي عوض السبع دعائم التكليفية :
فصدق اللسان عوض الصلاة .
وحفظ الإخوان عوض الزكاة .
وترك عبادة العدم والبهتان عوض الصوم .
والبراءة من الأبالسة والطغيان عوض الحج .
والتوحيد لمولانا عوض الشهادتين .
والرضا بفعله كيفما كان عوض الجهاد .(142/3)
والتسليم لأمره في السر والحدثان عوض الولاية ) (1).
وفي كتاب النقط والدوائر حديث عن هذه الفرائض ، ومركز كل منها في معتقد الدروز ، حيث يقول كاتب هذا الكتاب :
والتوحيد هو المركز الأوسط ، لأنه بمحل الهيولي الساري في الطبائع ، فهكذا التوحيد ساري في الفرائض الأربعة المذكورة فما تقوى إلا به ، وكذلك التوحيد لا يقوى ولا يكمل في نفس الموحد إلا بعلمه بهذه الفرائض ، كما قال : إن سدق اللسان هو الإِيمان والتوحيد بكماله .
وقال عن حفظ الإِخوان : وأن بحفظهم يكمل إيمانكم أي توحيدكم . وقال عن ترك العدم : إن العدم مضاد للوجود وسبيل يستدرج إلى الإِنكار والتعطيل والجحود . وقال عن البراءة : فمن اعترف منكم منهم بولد أو والد أو أخ أو ذكر أو أنثى ، فهو ناكث للدين بريء من عظام الحجج والآيات .
ثم إنك إذا نظرت إلى دائرة هذه الفرائض ، فترى كل فريضة مقابلة ضدها وهي في ذاتها دائرة ، فترى سدق اللسان مقابلة ترك العدم ، وترى حفظ الإخوان قبالة البراءة من الأبالسة ، وفي ذلك أيضا فائدة ، وهي لما كانت هذه الفرائض قسمان : أمر ونهي ، فكان في هذه الدائرة اثنتان أمر وهما : سدق اللسان وحفظ الإخوان واثنتان نهي وهما : ترك العدم والبراءة من الأبالسة .
وأما المركز الذي هو التوحيد ، فهو الوجود والتنزيه الذي هو قاعدة العبادات والفرائض كلها لكونه في عدد الفرائض خامسًا ، لأنه غاية ونهاية ، وكذلك لكون مجتمع القوة في الخامس من كل شيء ، والحجج أربعة والإِمام خامسهم وهو أفضلهم ، وكذلك اجتمعت القوة في الناطق الخامس والأساس اخامس والإِمام الخامس ، وكذلك المقامات الخمسة التي ظهرت بالمُلك خامسهم الحاكم وهو الذي كشف التوحيد .
__________
(1) ... مخطوط ( ذكر ما يجب أن يعرفه الموحد ) : مكتبة القديس بولس ، الجامعة الأمريكية في بيروت رقم 206 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 715 .(142/4)
وأما الرضى والتسليم فهما فروع ، كما أن أصول الدعائم خمسة ، والجهاد والولاية فروع أيضًا .
ولما كان لا وصول إلى توحيد الباري سبحانه إلا بعد معرفته ، فلذلك جعلت المعرفة أول الفرائض كما قال : ويجب على سائر الموحدين أن يعلموا أن أول المفترضات عليهم معرفة مولانا جل ذكره عن جميع المخلوقات .
وهذه الفريضة التي هي المعرفة تفرعت عن الفريضة الخامسة التي هي التوحيد .
وأما السدق فيلزم العبد في عشرة أحوال ، وهي أصول لفروع كثيرة :
التسديق بألوهية الباري سبحانه ووجوده في الصورة الناسوتية ، وتنزيهه عن الصفات البشرية .
ثم التسديق بإمامة قائم الزمان صلوات الله عليه ، وأنه الإِمام السادق فيما بينه وشرعه وحلله وحرمه وأمره ونهاه .
ثم التسديق بفضيلة الحدود صلوات الله عليهم أعني الأربعة وشرفهم وكمالهم .
ثم التسديق ببقية حروف السدق سلام الله عليهم .
والتسديق بفريق الهدى أنهم الأمة الناجية من جميع الأمم .
ثم التسديق بالحكمة الشريفة أنها الدين الناجي .
ثم التسديق بانتقال النفوس الناطقة في الأجسام البشرية .
ثم التسديق بالقضاء والقدر وأنه عدل جاري من الله .
ثم التسديق بالقيامة أنها آتية بغتة لا ريب فيها ولابد منها .
ثم التسديق للإخوان الثقات فيما يقولوه .
أما البراءة من الأبالسة والطغيان ، فالأبالسة والطغيان مجتمع كل فريق الضلال أولهم إبليس اللعين ، فكلهم أبالسة وكلهم طغيان والأبلاس هو الإياس من الرحمة والبعد عن الغير (1).
__________
(1) كتاب النقط والدوائر ، ص 65 ، 66 ، 67 ، 68 ، 69 ، 71 ، 77.(142/5)
وقد خصصت إحدى رسائل الدروز الكبرى ، والتي ألفها حمزة لنقض وإسقاط فرائض الإِسلام وعنوانها ( الكتاب المعروف بالنقض الخفي ) نورد هنا مقتطفات منها لأهميتها البالغة في معرفة نظرة الدروز إلى فرائض الإِسلام ، يقول حمزة في هذه الرسالة : ( أما بعد ، فقد سمعتم قبل هذه الرسالة نسخ الشريعة بإسقاط الزكاة عنكم ، وأن الزكاة هي الشريعة بكاملها . وقد بينت لكم في هذه الرسالة نقضها دعامة دعامة ، ظاهرها وباطنها ، وأن المراد في النجاة من غير هذين جميعًا ، وقد سمعتم بأن يصير هذا الباطن المكنون الذي في أيديكم ظاهرًا والظاهر يتلاشى ويظهر معنى حقيقة الباطن المحض ، وهذا وقته وأوانه وتصريح بيانه للموحدين ، لا للمشركين ، إلى أن يظهر السيف فيكون ظاهرًا مكشوفًا ، طوعًا وكرها ، وتؤخذ الجزية من المسلمين والمشركين كما تؤخذ من الذمة ، وقد قرب إن شاء مولانا وبه التوفيق .
فأول البناء وقبة النهاء شهادة ( لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ) ، التي حقن بها الدماء ، وصين بها الفروج والأموال ، وهي كلمتان : دليل على السابق والتالي ، وهي أربعة فصول : دليل على الأصلين والأساسين ، وهي سبع قطع : دليل على النطقاء السبعة ، وعلى الأوصياء السبعة ، وسبعة أيام ، وسبع ليالي ، وسبع أرضين ، وسبعة جبال ، وسبعة أفلاك ، وأمثال هذا أسابيع كثيرة ، وهي اثنا عشر حرفا ، دليل على اثني عشر حجة الأساسية ، وثانية بالمعرفة محمد رسول الله ، ثلاث كلمات دليل على ثلاثة حدود : الناطق والثاني فوقه ، والسابق فوق الكل .
وهي ست قطع دليل على ستة نطقاء ، وهي اثنا عشر حرفا دليل على اثنتي عشرة حجة له بإزاء الأساسية .(142/6)
إلى أن يقول ... : وكذلك اللام راجع إلى الألف ، والألف الذي في ( اللام ) دليل على الإِمام ، والألف الثاني دليل على التالي ، واللام دليل على الناطق ، إذ كان الناطق من التالي انبعث ، ومنه كانت مادته ، فالألف الثالث من ( إلا ) بمنزلة السابق ، إذ هو بمنزلة رابع الحدود ، دليل على الحجة والداعي والمأذن ، والألف الذي في اللام ليس له حد واحد تاليه ، وكذلك الداعي يرجع إلى الإِمام لا غير ، والناطق إلى التالي ، والسابق بالحدود كلها . كذلك الألف الذي في ( الله ) واللامان المتصلان به بحد الناطق والتالي ، والهاء التي هي ختامهم رتبت بمنزلة أسامة ، فقال : ( لا إله إلا الله ) ألفا عن الكل المعنوية ، وأشار إلى أسامة وألزمهم بأن يقولوا ( محمد رسول الله ) وهي ثلاث كلمات لأنه ثالث السابق ، وهي ست قطع دليل على أنه سادس النطقاء .
ثم أقام بعد الشهادتين ، وبأساسه الصلاة في خمسة أوقات ، وقد روى كثير من المسلمين عن الناطق (1) بأنه قال : ( من ترك صلاته ثلاثًا متعمدًا فقد كفر ) وقال : ( من ترك الصلاة ثلاثًا متعمدًا ، فليمت على أي دين يشاء ) .
وقد رأينا كثيرًا من المسلمين يتركون الصلاة ، ومنهم من لم يصل قط ، ولم يقع عليه اسم الكفر ، فعلمنا أنه بخلاف ما جاء في الخبر ، وقد اجتمع كافة المسلمين بأن المصلي بالناس صلاته صلاة الجماعة فعله فعلهم وقراءته قراءتهم (2)، حتى أنه لو سها في الفرض الذي لا تجوز الصلاة إلا به ، كان عليه الإِعادة مثل ما عليهم .
__________
(1) المقصود النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) هذا تحريف وخلط ، بل تكون قراءة الإِمام للقرآن بدلا منهم.(142/7)
فإذا كان رجل مصل بالناس يقوم مقام أمته ، وتكون صلاته مقام صلواتهم ، فكيف مولانا سبحانه الذي لا يدخل في عدد التشبيه ؟ وله سنين بكثرة ما صلى بناس ولا صلى على جنازة ، ولا نحر في العيد الذي هو مقرون بالصلاة بقوله : ( فصل لربك وانحر ، إن شانئك هو الأبتر ) (1) فصار فرضًا لازمًا ، فلما تركه مولانا جل ذكره ، علمنا بأنه قد نقض الحالتين جميعًا الصلاة والنحر ، وأنه يهلك عدوه بغير هاتين الخصلتين ، وأن لعبيده رخصة في تركهما ، إذ كان إليه المنتهى ومنه الابتداء في جميع الأمور ، فبان له نقضه ، وقد بطل صلاة العيد وصلاة يوم الجمعة بالجامع الأزهر ، وهو أول جامع بني في القاهرة (2)، وكذلك أول ما بطل هو ، فهذا ظاهر الصلاة ونقضها .
وأما الباطن فقد سمعتم في المجالس بأن الصلاة هي العهد المألوف ، وسمي ( صلاة ) لأنه صلة بين المستجيبين وبين الإِمام ، يعني علي بن أبي طالب ، واستدلوا بقوله : ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) (3) ، فمن اتصل بعهد علي بن أبي طالب انتهى من محبة أبي بكر وعمر ، وقد رأينا كثيرًا من الناس اتصلوا بعهد علي بن أبي طالب وكانوا محبين لأبي بكر وعمر ، وكانوا يمضون إلى معاوية ويتركون علي بن أبي طالب ، وقالوا : إن العهد في وقتنا هذا هو الصلاة ، لأنه صلة بينهم وبين مولانا جل ذكره ، والفحشاء والمنكر : أبو بكر وعمر ، وقد اتصل بعهد مولانا جل ذكره في عصرنا هذا خلق كثير لا يحصيهم غير الذي أخذ عليهم ، ولم يرجعوا عن محبة أبي بكر وعمر ، ولا عن خلاف مولانا جل ذكره وعصيان أوامره .
__________
(1) سورة الكوثر : آية 2 ، 3.
(2) يقصد بالقاهرة القطعة التي بناها جوهر الصقلي عند فتحه لمصر ، وأما أول جامع فهو مسجد عمرو بن العاص رضي الله عنه في الفسطاط.
(3) 10) ... سورة العنكبوت : آية 45 .(142/8)
فقد صح عندنا أنه بخلاف ما سمعنا في المجالس ، ورأينا مولانا جل ذكره قد نقض الباطن الذي سمعناه ، لأنه أباح لسائر النواصب إظهار محبة أبي بكر وعمر ، وقريء بذلك سجل على رؤوس الأشهاد ... فعلمنا بأنه علينا سلامه ورحمته قد أسقط الباطن مثلما أسقط الظاهر ، فنظرنا إلى ما ينجينا من العذابين جميعًا ، ويخلصنا من الشريعتين سريعًا ، ويدخلنا جنة النعيم التي وعدنا بها ، فعلمنا بأن الصلاة هي لازمة في خمسة أوقات فإن تركها أحد من سائر الناس كافة ثلاثًا فقد كفر ، هي صلة قلوبكم بتوحيد مولانا جل ذكره لا شريك له على يد خمسة حدود : السابق ، والتالي ، والجد ، والفتح ، والخيال ، وهم موجودون في وقتنا هذا ، وهذه هي الصلاة الحقيقية ، لأن الصلاتين : الظاهر والباطن ، ومن مات ولم يعرف إمام زمانه وهو حي ، مات موتة جاهلية ، وهو معرفة توحيد مولانا جل ذكره ، وقوله : ( حي ) يعني دائمًا أبدًا في كل عصر وزمان ، والفحشاء والمنكر هما الشريعتان الظاهر والباطن .
فمن وحد مولانا جل ذكره ، ينهاه توحيد مولانا جل ذكره عن التفاته إلى ورائه وانتظاره العدم المفقود ، وقال : ( من ترك الصلاة ثلاثًا متعمدًا فقد كفر ) يعني توحيد مولانا جل ذكره على يد ثلاثة حدود وهم : ذومعة ، وذومصة ، والجناح ، الحاضرون في وقتنا هذا ، وهم موجودون ظاهرون للموحدين ، لا للمشركين ، وأنا أبين لكم أشخاصهم مع أشخاص حدودهم ، وأشخاص ( لا إله إلا الله ) وأشخاص ( الحمد لله رب العالمين ) في غير هذا الكتاب بتوفيق مولانا جل ذكره .(142/9)
تتلوه الزكاة ، وقد أسقطها مولانا جل ذكره عنكم بالكلية ، وقد سمعتم في مجالس الحكمة الباطنية بأن الزكاة ولاية علي بن أبي طالب والأئمة من ذريته ، والتبري من أعوانه أبي بكر وعمر وعثمان ، وقد منع مولانا جل ذكره عن أذية أحد من النواصب ... فبان لنا بأن مولانا جل ذكره بطل باطن الزكاة الذي في علي بن أبي طالب ، كما بطل ظاهرها ، وأن الزكاة غير ما أشاروا إليه في المجلس جميعا ، وأنه في الحقيقة توحيد مولانا جل ذكره ، وتزكية قلوبكم وتطهيرها من الحالتين جميعًا ، وترك ما كنتم عليه قديمًا ، وذلك قوله ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) (1) ، والبر هو توحيد مولانا جل ذكره ونفقة ما تحبون ، الظاهر والباطن ، ومعنى نفقة الشيء تركه ، لأن النفقة لا ترجع إلى صاحبها أبدًا .
الصوم عند أهل الظاهر وكافة المسلمين يعتقدون بأن الناطق قال لهم : ( صوموا لرؤيته ) ويرون في اعتقاداتهم أن من أفطر يومًا واحدًا من شهر رمضان ، وهو يعتقد أنه قد أخطأ ، وجب عليه صوم شهرين وعشرة أيام كفارة ذلك اليوم ، وإن اعتقد أن إفطاره ذلك اليوم حلال له ، فقد هدم الصوم كله ، ومولانا جل ذكره هدم الصوم بكامله مدة سنين كثيرة بتكذيب هذا الخبر ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ) وأمرنا بالإِفطار في ذلك اليوم الذي يعتقد المسلمون كلهم بأنه خاتم الصوم ، ولا يكون في نقض الصوم أعظم من هذا ولا أبين منه لمن نظر وتفكر وتدبر .
__________
(1) 11) ... سورة آل عمران : آية 92 .(142/10)
وباطن الصوم فقد قال فيه الشيوخ : بأن الصوم هو الصمت بقوله لمريم . وهي حجة صاحب زمانه ( كلي واشربي وقري عينا ) (1) يعني بالأكل علم الظاهر ، وبالشرب علم الباطن ، ( وقرى عينا ) لمزيده ، ( فإما ترين من البشر أحدا ) يعني أهل الظاهر ( فقولي إني نذرت للرحمن ) بالأكل على الظاهر ، وبالشرب على الباطن ، ( وقرى عينا ) لمزيده ، ( فأما ) يعني الإِمام ( صوما ) أي السكوت ... فبان لنا نقض ما كان في المجلس ، وما وصفه الشيوخ من باطن الصوم وسكوته ، وأن مولانا جل ذكره فطر الناس في ظاهر الصوم ، وفطرهم في باطنه ، وهو بالحقيقة غير الصومين المعروفين من الشريعتين ، وهو صيانة قلوبكم بتوحيد مولانا جل ذكره ، ولا يصل أحد إلى توحيده إلا بتمييز ثلاثين حدا ومعرفتهم روحاني وجسماني وهي : الكلمة ، والسابق ، والتالي ، والجد ، والفتح ، والخيال ، والناطق والأساس ، والمتم ، والحجة ، والداعي ، والأئمة السبعة ، والحجج الاثنا عشرية ، فصار الجميع ثلاثين حدًا .
قال (2) : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) (3)، قال أهل الظاهر عن الناطق : إن الحج هو المجيء إلى مكة والوقوف بعرفات وإقامة شروطه ، ورأيت بخلاف قوله : ( من دخله كان آمنا ) ، قالوا : الحرم بمكة ، والحرم اثنا عشر مهلا من كل جانب ، وقد شاهدنا في هذا الحرم قتل الأنفس ، ونهب الأموال ، وداخل الكعبة أيضًا السرقة ، وهذا من الخلاف والمحال ، وجميع ما يعملون به من شروط الحج فهو ضرب من ضروب الجنون ، من كشف الرؤوس وتعرية الأبدان ، ورمي الجمار ، والتلبية من غير أن يدعوهم أحد ، وهذا من الجنون .
__________
(1) 12) سورة مريم : آية 26 ، والصحيح ( فكلى واشربي وقرى علينا ).
(2) 13) يلاحظ دائما في رسائل الدروز حينما ترد آية قرآنية ، يكتفي بأن يقال ( وقوله وقال ) ولا يقال : قال تعالى أو قوله تعالى.
(3) 14) سورة آل عمران : آية 97.(142/11)
ومولانا جل ذكره قد قطع الحج سنين كثيرة ، وقطع عن الكعبة كسوتها ، وقطع كسوة الشيء كشفه وهتكه ، ليبين للعالم بأن المراد في غيرها ، وليس فيها منفعة .
وقال الشيوخ في الباطن : بأن الحرم هي الدعوة ، وهو اثنا عشر ميلاً من كل جانب ، وكذلك للدعوة اثنا عشر حجة ، والبيت دليل على الناطق ، والحجر دليل على الأساس ، والطواف به سبعة هو الإِقرار به في سبعة أدوار ، والوقوف بعرفات معرفتهم بعلم الناطق ، ومنى ما كان يتمنى الراغب من الوصول إلى الناطق والأساس وحدودهما : وقد رأينا مولانا جل ذكره بطل الحج بإظهار محبة أبي بكر وعمر ، وخمود ذكر علي بن أبي طالب ، فعلمنا بأن الحج غير هذا الذي كانوا يعتقدون ظاهرًا وباطنًا ، كما قال مولانا المنصور :
هلم أريك توقن أنه ... ... هو البيت بيت الله لا ما توهمت
أبيت من الأحجار أعظم حرمة ... أم المصطفى الهادي الذي نصب البيت
والبيت هو توحيد مولانا جل ذكره ، موضع السكن والمأوى الذي يطلب المعبود فيه ، كذلك الموحدون أولياء مولانا جل سكنت أرواحهم فيه ، ورب البيت هو مولانا جل ذكره في كل عصر وزمان كما قال : ( فليعبدوا رب هذا البيت ) (1) يعني مولانا جل ذكره .
__________
(1) 15) سورة قريش : آية 3.(142/12)
أما الجهاد وبه قام محمد وأظهر الإسلام ، وجعله فرضًا على سائر المسلمين كافة ، وقد رفعه مولانا جل ذكره عن سائر الذمة ، إذ كانت الذمة لا تطلب إلا جبرًا ، والمسلمون الجاحدون ، والمؤمنون المشركون يقاتلونك في بيتك ، وهم أذية لأهل التوحيد ، وكل جهاد لا يجاهد فيه إمام الزمان فهو مسقوط عن الناس ، وما قريء في المجلس وألفه الشيوخ في كتبهم بأن الجهاد الباطن هو الجهاد للنواصب الحشوية الغاوية لهم ، وقد منع مولانا جل ذكره عداوتهم والكلام معهم ، فعلمنا بأنه قد نقض باطن الجهاد وظاهره ، وأن الجهاد الحقيقي هو الطلبة والجهد في توحيد مولانا جل ذكره ومعرفته ، ولا يشرك به أحد من سائر الحدود ، والتبري من العدم المفقود .
قال : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) (1) ، قال أهل الظاهر وسائر المسلمين كافة بأن الولاية لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وكانت في بني أمية ، ثم إنها رجعت إلى بني العباس ، وكل واحد منهم إذا جلس في الخلافة كانت ولايته واجبة على المسلمين كافة ، وقد نقضها مولانا جل ذكره ، وكتب لعنة الأولين والآخرين على كل باب ، ونبشهم من قبورهم .
وأما باطن الولاية ومعرفة حقيقتها بإظهار محبة علي بن أبي طالب والبراءة من أعدائه ، واستدلوا بقوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) (2) .
يعني علم الباطن ( ورضيت لكم الإِسلام دينا ) (3) يعني تسليم الأمر إلى علي بن أبي طالب وقد نقضها مولانا جل ذكره بقراءة سجل على رؤوس الأشهاد ، فبان لنا بأن جل ذكره نقض باطن الولاية الذي في علي بن أبي طالب وظاهرها .
__________
(1) 16) ... سورة النساء : آية 59 .
(2) 17) سورة المائدة : آية 3.
(3) 18) سورة المائدة : آية 3.(142/13)
وأما الرتب الظاهرة والباطنة التي كانت للناطق والأساس ، فقد جعلها مولانا جل ذكره لعبيده ومماليكه ... وكل ما يقال فيه من الأسماء مثل الإِمام وصاحب الزمان وأمير المؤمنين ، ومولانا ، كلها لعبيده وهو أعلي وأجل مما يقاس ويحد أو يوصف لكن بالمجاز لا بالحقيقة ضرورة لا إثباتًا ، نقول : أمير المؤمنين جل ذكره من حيث جرت الرسوم والتراتيب على ألسنة الخاص والعام ، ولو قلنا غير هذا لم يعرفوا لمن المعنى المراد ، وتعمى قلوبهم عنه ، وهو سبحانه ( ليس كمثله شيء وهو العلي (1) العظيم (2).
وفي هذه الرسالة نجد ما يلي :
أن الشهادتين في نظر الدروز تدلان على عبادة الحاكم وعلى أئمة دعوة الدروز ، ولا يقصد بهما ما يقصده أهل السنة ، ولا الإِسماعيلية .
وأن الصلاة هي صلة قلوب الدروز بعبادة الحاكم على يد خمسة حدود ، وهذه هي الصلاة الحقيقية في نظرهم .
وأما الزكاة فهو عبادة الحاكم ، وتزكية قلوبهم وتطهيرها وترك ما كانوا عليه .
وفيما يتعلق بالصوم ، فهو صيانة قلوبهم .
وكذلك الحج صار له معنى مختلف ، هو توحيد الحاكم .
أما الجهاد فقد أسقطوه عن الناس ، لأن الجهاد الحقيقي – كما يزعمون – هو السعي والاجتهاد في توحيد الحاكم ومعرفته وعدم الإِشراك به . وهكذا فإن هدم الشريعة الإِسلامية هو الهدف الأول والأخير من جميع الحركات الباطنية وفي مقدمتهم الدروز وإذا صنفنا الهدامين جاء حمزة في طليعتهم ، ولذا لا نعجب إذا مهد لهذا بهذه الرسالة .
__________
(1) 19) ... هنا خلط بين آيتين كريمتين الأولى ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) سورة الشورى آية 11 ، والثانية قوله تعالى ( له ما في السموات وما في الأرض وهو العلي العظيم ) سورة الشورى آية 4 .
(2) 20) رسالة ( الكتاب المعروف بالنقض الخفي ).(142/14)
ولهذا فإنه يعتبر نفسه مبيد الشريعة وناسخها ، يقول في رسالة ( التحذير والتنبيه ) : ( أنا ناسخ الشرائع ومهلك أهل الشرك والبدائع ، أنا مهدم القبلتين ، ومبيد الشريعتين ومدحض الشهادتين ) (1).
وفي مصحف الدروز حديث استهزائي عن فرائض الإِسلام إذ يقول : ( يا أيها الموحدون ، خذوا حذركم ، ود الذين ظلوا على أصنامهم عاكفين لو يرجعونكم إلى دينهم وعقائدهم الباطلة ، فتستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير وحق . إن صلواتهم ذات الركوع الجسدي والسجود الظاهري ، واتخاذهم كلام الكتاب رثاء ووسيلة ، يخادعون بها الله الحاكم البر والموحدين ، وما يخدعون إلا أنفسهم وهم يعملون .
لقد ضل قوم اتجهوا بأجسادهم إلى بيت حجارة قلوبهم ، وغلوا في كفرهم ، فألبس عليهم كل يوم خمس صلوات في نهج صاحب البيت ، جل ذكره ، وهو معهم ، وتجلى لهم في مشرق شمس الناسوتية ، ذات المشرقين والمغربين ، تعالى الله مولى الموالي عن نقص المنقصين ، وبهتان المتكبرين ، وفي أنفسهم وما يبصرون ، وغرتهم الأماني أصنام كعبتهم وأربابها ) (2).
ويضيف في مكان آخر من هذا المصحف استهزاء بالمسجد الحرام فيقول : ( قل ، ليس الإِيمان أن تولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام ، مثل بيت الأوثان ، أو شطر المشرق والمغرب ، أو التصعيد في جبل الذنوب والأصنام ، أو اتباع سنة الجاهلية الأولى ، ولكن الإِيمان والتوحيد هو فيمن آمن بمولانا الحاكم ربًا إلهًا لا معبود سواه ) (3).
__________
(1) 21) رسالة التحذير والتنبيه.
(2) 22) مصحف الدروز : عرف صلوات الشرائع ، ص 128 – 129.
(3) 23) مصحف الدروز : عرف حقيقة الصلاة والإيمان ، ص 182 – 183.(142/15)
ويعتبر بهاء الدين في ( الرسالة الموسومة برسالة السفر إلى السادة ) أن جميع اعتقادات الأمم الأخرى تمويهات ويقول : ( وهذه الفرق من الأمم فهم النصرانية والمسلمين واليهودية والمجوسية أعني الإِبراهيمية الحشوية ، ومن المذاهب كالنصيرية والقطيعة وأصحاب إسحق الأحمر وهم الحمرواية ، وجميع من لم نسميه فقد بطلت دعاويهم لأنها تمويهات على الأمم وغير جائزة إلا على أشباه البقر والغنم ، والعقل يقطع ، والحق يدفع ويمنع صحة قول كل أحد من جميع من ادعته هذه الفرق ) (1).
ويحذر التميمي في رسالة ( الشمعة ) الموحدين من التمسك بشيء من الشرع فيقول : ( وكل من ذكر عن نفسه أنه موحد وهو متمسك بشيء من الشرع فقد أبطل وكذب في قوله ، بل هو ملحد كافر ) (2).
ولهذا نجد في مصحف الدروز أيضًا ، إنكارًا للقرآن الكريم ، بل يعتبرونه فرية ، ويقول : ( لقد ضل الذين جحدوا الحكمة واتبعوا فرية صحف اكتتبوها ، فهي قبلة آبائهم ، يتلونها بكرة وعشيا ، وقالوا هذا من عند الله المعبود ، ونسعوا ما يتلون ) (3).
بل وينكر هذا المصحف التقرب إلى الله بالعبادة ويقول : ( مولانا نستعيذ بك من أن نكون من الذين يتقربون إليك بالعبادة ، أو الذين يعملون للصالحات لتقربهم إليك زلفى ، أف لتلك الأنفس وويل لها ، لقد منيت بهوى شديد أضلها عن السبيل ) (4).
ويظهر لي من خلال رسائل الدروز ومصحفهم هذا ، أن نقض الشريعة الإِسلامية والاستهزاء بأركانها ورسولها صلوات الله عليه ، هما الشغل الشاغل لدعاة الدروز ، باعتبار أن الإِسلام هو عدوهم الأول ، وتقويض أركانه يمهد لهم الطريق لما يريدون وما يبتغون .
__________
(1) 24) الرسالة الموسومة برسالة السفر إلى السادة.
(2) 25) رسالة الشمعة.
(3) 26) ... مصحف الدروز : عرف عاقبة المكذبين ، ص 241 – 242 .
(4) 27) المصدر السابق : عرف الأعراف أو تسبيح مؤذني نواقيس الأختام ، ص 257.(142/16)
ويؤكد هذا القول ما جاء في رسالة ( الغاية والنصحية ) التي كتبها حمزة ، والتي ينفي فيها نبوة محمد ^ . ويثبتها لنفسه فيقول : ( وأنتم تعلمون أن لمحمد أربعمائة سنة وعشر سنين لم يظهر دينه على الأديان كلها ، واليهود والنصارى أكثر من المسلمين ، والهند والسند والزنج والحبشة أكثر منهم ، والنوبة والزغاوة وأشكالهم من السودان أكثر من المسلمين ، والأتراك والسقالبة (1) أكثر منهم ، فلو كان الرسول محمد له أديان هؤلاء النطقاء لكان يجب أن يكون المسلمين أكثر العالمين أغلبهم في الأولين والآخرين ، فلما لم يصح للمسلمين ذلك علمنا بأن الرسول الحقيقي هو عبد مولانا جل ذكره وهاديًا إليه وإمامًا على أمره لعبيده ) (2).
حتى أنهم يزعمون : أن الرسول عليه الصلاة والسلام طمس الرسالة ولم يبلغها وهذا ما ورد في ( الرسالة الموسوم بالإِسرائيلية ) إذ تقول : ( كقول من نصب أحداهم (3) ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) (4)فما بلغها كما أمر الله تعالى ، بل طمس معالمها بالظلم والإِبلاس ، وجميع أصحاب الشرع فعلى هذا السنن يجرون ) (5).
ويصف كتاب النقط والدوائر الرسول ^ بقول : ( وكان محمد كثير العتو والظلم والفساد )(6).
__________
(1) 28) نسبة إلى جزيرة صقلية ، والأصل الصقالية.
(2) 29) رسالة الغاية والنصيحة.
(3) 30) كذا في الأصل.
(4) 31) سورة المائدة : آية67.
(5) 32) الرسالة الموسومة بالإسرائيلية .
(6) 33) كتاب النقط والدوائر ص 95.(142/17)
وهم أيضًا يعتبرون النبي^ إبليس اللعين ، يقول شارح الميثاق : ( ويعرف تكملة حروف الكذب الستة وعشرين معرفة عددا ، لا معرفة فلان ابن فلان ، بل يعرف أن محمد بن عبد الله هو إبليس اللعين ، وأن علي بن أبي طالب هو زوجته ، اثنا عشر حجة ظاهرة ، ولعلي بن أبي طالب اثنا عشرة حجة باطنة كملت السنة وعشرين حروف الكذب ... ويعلم أن كل ما في الخلق من المعاصي والعقائد الفاسدة والفواحش الظاهرة والباطنة هي منهم وهم ينابيعها وأصلها ومركزها ) (1).
__________
(1) 34) شرح الميثاق : محمد حسين : مخطوط في جامعة شيكاغو رقم 3737 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 29.(142/18)
وفي ( رسالة من دون قائم الزمان ) كذلك حديث استهزائي عن فريضة الحج إذ تقول : ( ولعمري إنه ما تعجب إلا من قوم قطعوا المفاوز ولقوا في سفرهم الهزاهز إلى بلد لم يكونوا بالغية إلا بشق الأنفس (1)، قصدًا إلى حجر أسود وبيت جلمد ليس فيه حياة ولا نطق ، فأي عجب أعجب من قوم هذا فعلهم ثم إنهم أنكروا على هذه الطائفة النورانية المضيئة ، أعني أهل التوحيد عبادة الواحد المجيد الحاكم على كل الأشياء شهيد ، فياليت شعري ما نفعهم من تقبيل الحجر الأسود وما اكتسابهم من الفوائد العقلية والعلوم الحقيقية الإِلهية ، هل فعلهم إلا كفعل النصارى في الصليب ، بل هم أشد عتوا ، لأن الصليب موجود في كل البلاد ، والحجر الأسود يسافروا إليه أهل الضلالة من جميع العباد ، وقبل وبعد ، فإنما عظموا إكرامًا بزعمهم لنبيهم ، أليس من قام مقام نبيهم في كل عصر وزمان أحق بالتفضيل والإِكرام والتبجيل ؟ أليس هذا في العقول مستحيل ؟ بأن قوما طلبوا إلههم طول أعمارهم لم يصح لهم منهم إلا اسما إذا كشف عنهاا لم يجد لها حقائق إلا بوجودة صورة حية ناطقة مميزة ، فلما ظهر المعبود وصح ما أشارت إليه الحدود أبوا واستكبروا وقالوا : إن هذا إلا بشر مثلنا وغرهم المولى جل ذكره الغرور ) (2).
__________
(1) 35) يقصد الآية الكريمة ( وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ) سورة النحل آية 7.
(2) 36) رسالة من دون قائم الزمان.(142/19)
وتعظيمهم للصدق ، لا يعني ذلك على غير الموحدين ، فالصدق لا يكون من الموحد إلا لأخيه الموحد ، ولا يجوز أن يصدق أهل الطوائف والأديان الأخرى حتى ولو كان ذلك في جريمة قتل ، بل يجب عليه الكذب ، تقول رسالة ( الجزء الأول من السبعة أجزاء ) : ( وليس يلزمكم أيها الأخوان أن تسدقوا لسائر الأمة أهل الجهل والغمة والعمى والظلمة ، وأن لا يلزمكم فيه شيئًا لهم . وليس لأحد من الموحدين فسحة من الكذب لإِخوانه إلا أن يكون هناك ضد حاضر لا يمكن كشف الأمور إليه ، ولا شرحها بين يديه ، وإن أمكن الصمت فهو أحسن ، وإن لم يكن فلا بأس أن يحرف القول بحضرته أعني الضد ، ويجب عليه أن يرجع بسدق الحديث لإِخوانه بعد خلوهم من الشيطان .
ولا بأس بالسدق فيما لا يضر عند الأضداد لأنه يرفع ، وهو ضرب من ضروب الجمال ، ومثل أن يكون أحدكم قد قتل رجلاً من عالم السواد ، فإذا سألوه عن ذلك جاز أن لا يسدقهم وألا يحققوا عليه القتل بإقراره ، وأقاموا عليه الشهادة بقلة إنكاره ، وما أشبه ذلك مثل أن يكون قد أخذ لأحدهم شيئًا أو غصبه على ريع أو مال ، أو كان للضد عنده دين بغير وثيقة أو وديعة بغير بينة ، وكان معسرًا عن وفائه غير واصل إلى رضائه ، يجوز له الإِنكار وقلة السدق عند الإِعسار ، وخيفة من ثبوت البينة عليه ) (1).
وجاء في مصحفهم حديث عن المحرمات المحرمة عليهم فيقول : ( ولقد حرم مولاكم عليكم الخمرة ، ومن يتخذها سكرا ، فقد خلف خلفا أضاعوا الرشد واتبعوا الشهوات ) (2)، فاذكروا يا أولي الألباب .
ولا تقرضوا أموالكم لتأخذوا الربا أضعافًا مضاعفة ، إن ذلك كان على الموحدين محذورا ، ولقد عفا مولاكم عن الذين يأخذونه من غير الموحدين ، مضطرين غير عادين .
__________
(1) 37) رسالة الجزء الأول من السبعة أجزاء.
(2) 38) يلاحظ هنا كيفية تحريف الآية الكريمة ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ) سورة مريم : آية 59.(142/20)
وإن أحد من الموحدين استجاركم ، فأجروه ، ثم أبلغوه مأمنه ، أو أصابته مصيبة ، فكلكم يكفله ، إنما الموحدون تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على من سواهم ، وكان مولاكم بما تعملون خبيرا .
ولا تركنوا للذين رفضوا الدعوة واستكبروا إنهم إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاَّ ولا ذمة ، يقولون بأفواههم الحق وتأبى قلوبهم (1)، وأكثرهم فاسقون ، فاعتبروا يا أولي الألباب .
والذي أكره منكم على الكفر أو الفحشاء ، وهو مؤمن موحد ، أو عمل سوءا لجهالة ، أو غم عليه فنسى ، فلا يؤاخذ مولانا إلا الذين اقترفوا الإِثم وهم يعلمون ، فأولئك لهم عذاب موقوت .
وقال الذين كفروا منكم ، إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وعليه وجدنا آبائنا ، قل لو كنتم على الهدى لآمنتم به ، ولكنكم لا تعلمون غير ما تهواه أنفسكم ، وأنتم تجهلون ، نحن أعلم بما في أيديكم ونحن المنزلون .
لقد ضل هؤلاء الذين يريدون أن يحكموا بالقرآن ، ويتخذوه سبيلا ، ثم به يكفرون بعد أن تبين لهم الحق ، قل أليس الحق أحق أن يتبع ) (2).
ومع أن الدروز لا يجيزون صوم شهر رمضان ، لكونه من فرائض الإسلام ، إلا أنهم يصومون في أيام خاصة ، وهي التسعة أيام الأولى من شهر ذي الحجة ، وصيامهم هو نفس الصيام الإسلامي من امتناع عن الأكل والشرب ، ( ويبيحون أيضًا الصوم في أي شهر غير شهر رمضان ) (3). ( وعيدهم الأكبر والوحيد هو عيد الأضحى ) (4).
__________
(1) 39) كذلك يلاحظ كيفية تحريم هذه الآية ( كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون ) سورة . آية 8.
(2) 40) مصحف الدروز : عرف الحرمات ، ص 150 – 155.
(3) 41) كريم ثابت : الدروز والثورة السورية ، ص 46 – ومحمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 123.
(4) 42) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 123.(142/21)
وفد بنى الدروز المساجد في قراهم ومدنهم تسترا من المسلمين الذين كانوا يعيشون بين ظهرانيهم وتقربا منهم وتمويها عليهم ، وذلك حتى يأمنوا منهم على أنفسهم وينفوا عنهم تهمة الردة وحدها ، ولكنهم بدأوا يبتعدون عن هذه السرية ، ويعلنون حقيقة أمرهم . ( ولما قامت فتنة سنة 1860 م في لبنان ، بدأت آخر دلالة شعائرية بالانقراض ، ونعني بها شعائر الصلاة في المساجد الكثيرة التي كانت منتشرة في القرى الدرزية ، ولجأ الدروز إلى الخلوات وتركوا المساجد نهائيًا ) (1).
حتى وصل بهم الأمر في الوقت الحاضر أن يمنعوا قيام المساجد للمسلمين الموجودين في قراهم ، وقد حدثني أحدهم ممن كان يقيم في جبل الدروز بسورية ، أن المسلمين المقيمين هناك حاولوا بناء مسجد في مدينة السويداء عاصمة جبل الدروز ، وعندما حضروا في اليوم التالي وجدوا ما بنوه مهدومًا ، ولم يقم هذا المسجد إلا بعد الاستعانة بقوة عسكرية لحمايته (2).
ونظرة الدروز إلى العبادات تتوافق مع عقليتهم التي ترى في هذه الطقوس والشعائر أمرًا لا فائدة منه بل يعتبر عملاً مهجورًا كما صرح بذلك جنبلاط (3).
فالدروز يعتبرون أنفسهم ملة الوحدة الإساسية بين الأشياء والكائنات والله (4)، ولذلك فقد سقطت عنهم العبادات بكل مظاهرها وشعائرها لأن الدرزي اتحد مع الوجود ومع الله – جلا وعلا - .
__________
(1) 43) د . مصطفى الشكعة : إسلام بلا مذاهب ، ص 308.
(2) 44) وقد حدثني الأستاذ زهير الشاويش : بأن هذا الجبل كان عامرا بالمساجد منذ دخل الإسلام حتى ما قبل مئة سنة.
(3) 45) كمال جنبلاط / هذه وصيتي ص 53.
(4) 46) المصدران السابق ص 51.(142/22)
لهذا فالشخصية الدرزية لا تبالي بالحياة الخارجية تحفل بها ، فالمظاهر هي المظاهر ، والحقيقة يمكن أن يجدها أينما كانت وفي كل الديانات ، حتى أن جنبلاط يرى أن الدرزي هو كل توحيدي ، أي كل من يعتقد بوحدة أديان العالم كافة ، وكائنًا ما كان طقوسها وشعائرها ، فهم اسم ينصرف إلى مسيحيين وبوذيين ومسلمين وهندوكيين ، أي كما يشبهه جنبلاط جماعة ( وردة الصليب ) (1).
ويورد جنبلاط مثالاً حيًا على عقلية الدروز هذه فيقول : أن الأميرين فخر الدين الأول والثاني وُلدا درزيين وعاشا مسيحيين وماتا مسلمين .
2 – الزواج والطلاق والوصية عندهم :
توصى رسالة ( شرط الإِمام صاحب الكشف ) بالنساء ، وتوجب على الدرزي أمورًا أخرى خاصة بهن حيث يقول : ( والذي توجبه شروط الديانة أنه إذا تسلم أحد الموحدين بعض أخواته الموحدات فيساويها بنفسه وينصفها من جميع ما في يده ، فإن أوجب الحال فرقة بينهم فأيهم كان المعتدي على الآخر .
فإن كانت الامرأة خارجة عن طاعة زوجها وعلم أن فيه القوة والإِنصاف لها ، وكان لابد للامرأة من فرقة الرجل ، فله من جميع ما تملكه النصف إذا عرفوا الثقات بعديها عليه وإنصافه لها . وإن عرفوا الثقات أنه محيف عليها وخرجت من تحت ضرورة ، خرجت بجميع ما تملكه ، وليس له معها شيء في مالها .
وإن كانت هي المخالفة له ، وليست تدخل من تحت طريقته فلها النصف من جميع ما تملكه ، ولو أن ثوبها الذي في عنقها ، وإن اختار الرجل فرقتها باختياره بلا ذنب لها إليه فلها النصف من كل ما يملكه من ثوب ورحل وفضة وذهب ودواب ، وما حاطته يده لموضع الإِنصاف والعدل ) (2).
__________
(1) 47) المصدر السابق ص 54 ومما يذكر أن هذه الجماعة هي التي انبثقت عنها الماسونية في بريطانيا.
(2) 48) رسالة شرط الإمام صاحب الكشف.(142/23)
وهكذا نجد أن الدرزي إذا اضطر إلى الطلاق ، ( فينبغي أن يعرف من منهما المقصر في معاملته الآخر ، فإذا كانت الزوجة هي التي ترغب في الطلاق فيكون لزوجها نصف ما تملكه ، بعد أن يشهد عدول أنها هي المقصرة في حق زوجها ، وأنه كان يعاملها معاملة حسنة ، وإذا شهد بأنه كان يهينها ولا يعاملها بالمساواة فلها أن تأخذ معها كل ما هو لها دون أن يسمح له بأن يأخذ منها شيئا ، وإذا شاء الرجل أن يطلق زوجته من تلقاء نفسه دون أن تكون قد أذنبت ، يكون لها نصف ما يملكه من بيته وأثاثه وأمواله ودوابه ) (1).
(( وإذا طلق الدرزي زوجته فلا يجوز له أن يتزوجها مرة أخرى ، سواء بمحلل أو غير محلل ، فهم لا يميزون بين الطلاق الرجعي ، والطلاق البائن بنوعيه بينونة صغرى ، وبينونة كبرى ، بل الطلاق عندهم طلاق واحد ، ولا يجوز بعده أن يرجع الرجل إلى مطلقته )) (2).
ويقول صاحب كتاب ( الدروز والثورة السورية ) : ( أن المقصود من الزواج عندهم إيلاد البنين فقط ، لا اقتضاء الشهوة ، ومتى صار للرجل من زوجته أربعة أولاد إذا كان غنيا ، وإذا كان فقيرا حتى لا يكون ضيق عليه في تقديم لوازم المعيشة ، فيجب عليه حينئذ أن يبتعد عن زوجته بقية العمر ) (3).
ولكن صاحب كتاب ( بنو معروف – الدروز - ) يقول : ( وهذه القاعدة لا يحافظ عليها إلا أفرادا قلائل من عقالهم الذين يعتبرون أن الزواج لحفظ النسل فقط ) (4).
__________
(1) 49) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 123 – 124.
(2) 50) د . عبد الرحمن بدوي : مذاهب الاسلاميين ، ج ، ص 661.
(3) 51) كريم ثابت : الدروز والثورة السورية ، ص 49.
(4) 52) سعيد الصغير : بنو معروف ( الدروز ) ص 241.(142/24)
يقول شارح الميثاق : ( فإذا قصد جماع الزوجة فيكون مقصوده ونيته في ذلك الولدية لا غير ، فأول مرتبته وجود الولد ، فلا يجوز للرجل جماع زوجته مع حملها أبدًا للخوف من إفساده ) (1).
ولا يجوز عندهم زواج الدرزية من غير الدرزي ، ولا زواج الدرزي من غير الدرزية ، فإذا حدث زواج من هذا القبيل فإنه يكون باطلاً ولا يجوز أيضًا تعدد الزوجات ، والتزوج بأكثر من واحدة ، بل يجب الاقتصار على زوجة واحدة ) (2).
يقول الأستاد أمين طليع في كتابه الذي قدمه الشيخ محمد أبو شقرا شيخ عقل الدروز عن تعدد الزوجات ما يلي : ( إن تعدد الزوجات ممنوع قطعًا ، فإذا جمع الرجل بين زوجتين ، كان زواجة من الثانية باطلاً حكمًا ) (3).
والوصية عندهم تجوز بجميع المال لوارث ولغير وارث ، فللدرزي أن يوصي قبل موته بأملاكه لمن يشاء ، ولكن بشرط أن تكون الوصية بالمال الذي اكتسبه بسعيه هو نفسه ، أما إذا كان قد ورثه فلأولاد الموصي أن يطلبوا القسمة إن كان قد ورث ما في يده عن آبائه ، لأن ذلك – ما للبيت – تستوي فيه الأصول والفروع ، فإن كان قد اكتسبه بسعيه لم يكن لهم ذلك ، لأن مال الشخص ينفرد فيه بنفسه ) (4).
__________
(1) 53) شرح الميثاق : محمد حسين : مخطوط في جامعة شيكاغو رقم 3737 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 29.
(2) 54) د . مصطفى الشكعة : إسلام بلا مذاهب ، ص 293.
(3) 55) أمين طليع : أصل الموحدين الدروز وأصولهم ، ص 130.
(4) 56) مخطوط ( في تقسيم جبل لبنان ) : الجامعة الأردنية في بيروت رقم 31 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 699 ، وأمين طليع : أصل الموحدين الدروز ، ص 148.(142/25)
ويطلب مصحف الدروز منهم أن يوصوا بجزء من أموالهم ، وخاصة الموسرين منهم ، لعقالهم ومساكينهم ، ويقول : ( يا أيها الموحدون ، كتب عليكم ، إذا حضر أحدكم الموت وكان ذا ميسرة ، فليوص لذوي العسرة والمساكين منكم ، الذي لا يسألون الناس إلحافا ، والقائمين على شؤون دينكم في الحكمة والموعظة الحسنة ، بجزء من اثني عشر جزءا مما ترك ، وليكفل القسمة أولئك القائمون منكم على شؤون دينكم ، الذين يتلون حكمة وصلوات هذا المصحف المنفرد بذاته ، العاملون عليه ، الحاكمون به الموحدين بالعدل ، الذين جعلوا خلائف الحدود ) (1).
3 – تقسيم المجتمع الدرزي إلى عقال وجهال نظام الخلوات عندهم :
يعيش الدرزي الآن في ( لبنان ، وسورية ، وفلسطين ) .
وينقسم المجتمع الدرزي من الناحية الدينية إلى قسمين :
( روحاني ، وجثماني ، فأما الروحاني فهو الذي بيده أسرار الطائفة ويقسم إلى ثلاثة أقسام : رؤساء ، وعقلاء ، وأجاويد .
والجثماني : وهو الذي لا يبحث في الروحيات بل يبحث في الدنيويات ويقسم إلى قسمين : أمراء وجهال .
فالرؤساء بيدهم مفاتيح الأسرار العامة ، والعقال بيدهم مفاتيح الأسرار الداخلية والأجاويد بيدهم مفاتيح الأسرار الخارجية ، والأمراء الجثمانيون بيدهم مفاتيح الأسرار الخاصة ، وزعماء الجهال بيدهم قبضة السيف والزعامة ) (2).
والعقال ينقسمون بدورهم إلى درجات ثلاثة : ( منهم الطبقة التي تعرف بالمنزهين ، وأصحاب هذه الطبقة في أشد العبادة والورع ، فمنهم من لا يتزوج حتى يموت ، ومنهم من يصوم كل يوم إلى المساء ، ومنهم من لا يأكل اللحم في جميع حياته .
__________
(1) 57) مصحف الدروز : عرف الوصية ، ص 126.
(2) 58) كريم ثابت : الدروز والثورة السورية ، ص 32 – 33.(142/26)
والطبقة الأخرى : هي الشراح ، ويرخص لهؤلاء بالاطلاع على ما كتبه الأمير عبد الله التنوخي أحد مشايخهم ، وهو الذي بنى المساجد وجدد الجوامع وكان على ما قيل يريد أن يرجع بالدروز إلى مذهب أهل السنة والجماعة ) (1).
ويبدو لي أن الأجاويد من طبقات الثلاث للعقال .
(( ويجتمع العقال في أماكن العبادة التي تعرف بالخلوات ( جمع خلوة ) لسماع ما يتلى عليهم ، وبعد تلاوة المقدمات ، يخرج من الخلوة الطبقة الدنيا من العقال ، ثم بعد تلاوة بعض الرسائل البسيطة التي ليس بها تأويلات تخرج الطبقة الثانية بحيث لا يبقى إلا رجال الدرجة الأولى الذي لهم وحدهم الحق في سماع الأسرار العليا للعقيدة ، أما الجهال فلا يسمح لهم بحضور هذه الخلوات ، أو لسماع شيء من الكتب المقدسة إلا في يوم عيدهم الوحيد ، وهو يوافق عيد الأضحى عند المسلمين )) (2).
(( والعقال يعملون لهم مناسك يبنونها بعيدًا عن البلدان التي هم بها نحو مسافة نصف ساعة وغالبًا يكون بناؤها على مرتفع ويتفردون فيها أكثر الأيام ليلاً ونهارًا ويسمون هذه المناسك خلوات البياضة ، هي على سطح جبل فوق قرية حاصبيا – في لبنان - ، تزيد على ستين خلوة )) (3).
__________
(1) 59) محمد كرد علي : خطط الشام ، ج 6 ، ص 266 – 267.
(2) 60) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 31.
(3) 61) كريم ثابت : الدروز والثورة السورية ، ص 51.(142/27)
( والعقال يستحرمون (1)أيضًا مال أولياء الأمور من أي جهة كان ، وجميعهم يستحلون أموال التجار من أي جهة كانت ، فإذا قبضوا دراهم محرمة أتوا بها إلى التاجر ليبدلونها منه . وكل عاقل لا يتناول شيئًا من المسكرات ونحوها على الإِطلاق ولو كان مدمنًا عليها في أيام الجهل ، وهذا التحريم قد تظاهروا به منذ مائتي سنة فقط بإرشاد الأمير التنوخي ، وأما قبل زمن فلم يكونوا يتحاشوه ، ولا يفحش العاقل في كلامه على كل حال ولو كان قبل ذلك من السفهاء ، ولا يسرف في طعامه وشرابه ولو دعت الحاجة إلى ذلك الإِسراف ) (2).
(( وأما الجاهل في نظرهم كالحارس الذي يحرس بيتًا في الخارج ويجهل معرفة أسراره الداخلية ، وهكذا يعيش الجاهل منهم درزيًا ولا يعلم من الدرزية سوى شيء يسير جدًا ، كالأعتقاد بألوهية الحاكم ، وإمامة حمزة والأربعة حدود ، والتقمص ، والعلامة السرية التي يجعلونها لمعرفة بعضهم البعض )) (3).
(( ولا يسمح لطبقة الجهال بالانتقال إلى طبقة العقال إلا بعد امتحان عسير شاق يقوم على ترويض النفس وإخضاع شهواتها مدة طويلة ، وقد يستمر الامتحان أكثر من سنة حتى يثق الشيوخ بأحقية الطالب أن ينتقل من طبقة الجهال إلى طبقة العقال .
والعقال في المجتمع الدرزي يعرفون بعمائهم ولبس القباء الأزرق الغامق ، ويطلقون لحاهم (4) على أن الذين يسند إليهم وظائف حكومية يباح لهم ترك هذه الملابس وارتداء الزي الذي يطلبه منصبه الرسمي .
__________
(1) 62) كذا في الأصل.
(2) 63) مخطوط ( في تقسيم جبل لبنان ) : الجامعة الأمريكية في بيروت رقم 31 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 699.
(3) 64) كريم ثابت : الدروز والثورة السورية ، ص 33 – 55.
(4) 65) هذا على الغالب ، وأما ترك الشارب فهو عند الجميع.(142/28)
والنساء في المجتمع الدرزي ، ينقسمن أيضًا إلى عاقلات وجاهلات مثل الرجال تمامًا ، والنساء العاقلات يلبس النقاب وثوبا اسمه ( صاية ) )) (1).
(( وإذا وجدت هناك عاقلة زوجة لأحد الجهال ، فلا يجوز لها أن تخاطبه بشيء من أمور الديانة ، ولا تطلعه على شيء منها ، وتخفي كتبها عنه ضمن صندوق مقفول )) (2).
وفي رسالة صغيرة عنوانها ( من تعليم دين التوحيد ) ملحق على طريقة السؤال والجواب حول كيفية دخول الرجل في سلك العقال ، والعهد الذي يؤخذ عليه ، وفيما يلي نصه :
س : بأي وجه يكون دخول الإِنسان في دين مولانا ، ومن يدخله ؟
ج : يُدخله الإِمام ، وذلك باتحاده مع الموحدين مدة عامين لكي يتقبلوه بينهم ، وأن يكون واحدًا منهم ، ومتى قبلوه يدخله الإِمام بينهم يسلك مسلكهم .
س : كيف يكون تقدمه ؟
يقدمه جماعة الموحدين أمام الإِمام ويحرضه على حفظ السر ويعلن له الحقائق والطرائق ، ويطعمه تينا ، ويقول له : يا رجل أتؤمن بدين النبي ؟ وتريد أن تأخذ هذا الدين وتصير من جملة المتوحدين ، فيجيب : نعم أؤمن ، فيسلم الحجاب ويصير واحدًا منهم صحيحًا تمامًا .
س : كيف يجب أن يكون سلوكه بعد دخوله ؟
ج : يجب أن يتظاهر بالحشمة والأداب ، وطول للروح ، والكلام اللائق والهدوء ، والسلام والكلام اللين ، وبما يضاهي به أخوانه الموحدين .
س : ما هو العهد الواجب عليه وما هي صورته ؟
__________
(1) 66) محمد كامل حسين : طائفة الدروز ، ص 32.
(2) 67) كريم ثابت : الدروز والثورة السورية ، ص 55.(142/29)
ج : هذه صورته : باسم الإِمام مولانا الأعظم المنزه عن العاهات والوالد القادر ، الذي لم يخلق ولم يولد ، ولم يكن له كفوءا أحد ، أنا فلان ابن فلان قد نويت وعزمت أن أضع نفسي وجسدي ومالي وحريمي وأولادي وأرزاقي وأعلامي ، وكلما تملك يدي تحت يد الطاعة ، لسيدي ومولاي الحاكم بأمره العلي العلامة أمير الحكام صاحب الجبروت القادر على جميع الكائنات قد سلمت حالي إليه ، ووعدته باتكالي عليه ، وأقر الإِقرار التام ، وأشهد أمام إخواني الموحدين وسيدي الإِمام ، أني قد تبريت من الأديان ، ولا أريد شيئًا يخالف أو يناقض الوحدانية ، ولا أقر أن في السماء إلهًا معبودًا ، ولا في الأرض إمامًا موجودًا سوى سيدي ومولاي الحاكم بأمره العالي المقتدر الحكيم بتدبيره ، وهو نصيري ومجيري وإليه فوضت كل أمري وتدبيري ، وكرهت ورذلت كلما يبعدني عن عبادته وطاعته وصدقه .
وقد كتبت هذه الوثيقة على نفسي وأنا بصحة العقل والجسم ومن كل إراداتي وخاطري من دون اغتصاب ، وقد قريت بالدعوات والحدود الباقية المقرين بمولانا الحاكم بأمره الأمين ، وأذنت بالشهود علي ، وأقر أمام الشهود بكذا وكذا من سنة مولانا ومملوكه حمزة بن الهادي عدو المشركين والمنتقم منهم بسيف مولانا وسلطانه وحده لا معبود سواه ) (1).
__________
(1) 68) رسالة ( من تعليم دين التوحيد ) المعروف بدين الدروز ، ص 30 – 32.(142/30)
وللدروز رئيس ديني يلقب بـ ( شيخ العقل ) (1)ويتولى منصبه بالانتخاب أو الاتفاق بين الزعماء وكبار رجال الطائفة ، ولشيخ العقل أعوان في كل قرية أو بلد (2).
هذا بالنسبة إلى التقسيم الديني ، أما من الناحية الاجتماعية ، فالنظام السائد في المجتمع الدرزي هو النظام الإقطاعي الديني الذي كانوا عليه منذ عدة قرون ، فالقرى خاضعة لشيخ القرية الذي يختاره الأمير ، وشيوخ القرى خاضعون للأمراء الذين يتوارثون الإِمارة ولذلك يأبى الدروز منذ عصورهم الأولى أن يخضعوا إلا لمشايخهم فقط ، ولا يعترفون بسلطة أحد سوى أمرائهم (3).
ويقيم عقال الدروز عادة في مناطق نائية تسمى ( الخلوات ) ، وعن هذه الخلوات يحدثنا صاحب مذكرة (( أيها الدرزي عودة إلى عرينك )) ، عن كيفية قيامها وطريقة الوعظ فيها فيقول :
(( قبل عام 1762 م لم يكن للدروز خلوات ، أو كانت ولكن ليست ظاهرة ، ولا شيوخ عقل بل كانوا تحت جناح الإِسلام مباشرة وبقى شيوخ العقل يتخبطون في خلواتهم بين الرسائل والشروح ، إلى أن تسلم الرياسة الروحية في جبل حوران الشيخ إبراهيم البجري ، فقرر قراءة الكتابين الأولين ( أي ميثاق ولي الزمان وكشف الحقائق ) مع شيء من الكتاب الثالث ( أي مناجاة ولي الحق ) على كل درزي تتوفر فيه الشروط الدينية .
__________
(1) 69) يقول الأستاذ زهير الشاويش : أن هذا المركز يتعدد في لبنان ، فهناك رئيس متقدم باسم شيخ العقل هو الشيخ محمد أبو شقرا ، وهناك شيخ آخر ، ومنذ سنوات توفي شيخ عقل ثالث ، ويظن أن هناك اتفاق على عدم تعيين بدلا عمن يتوفى ، وفي جبل الدروز بسورية شيخان للعقل ، وفي فلسطين شيخ عقل هو أمين طريف.
(2) 70) محمد كامل حسين ، طائفة الدروز ص 32.
(3) 71) أحمد الفوزان : أضواء على العقيدة الدرزية ، ص 75.(142/31)
ثم قسم الشيخ إبراهيم الكتاب الثاني والثالث إلى ثمانية أقسام ، وعين لكل ليلة من ليالي الأسبوع قسما منها ، وضم لها أقسامًا معلومة من رسائل أخرى ، ودعى هذا كله دورا .
فدور مساء الخميس مثلاً ، الميثاق والكشف والتنزيه وشعر النفس ، ودور مساء الجمعة الميثاق والدامغة والرضا وشعر النفس ... وهكذا لكل ليلة دورها الخاص ، مع الملاحظة أن الاجتماع الرسمي هو مساء الخميس ، والقراءة في الجمعة وسواها جماعية .
وهناك بعض فصول من الرسائل ، رأى الشيخ إبراهيم وجوب قراءتها كل صباح ، وقد دعا هذا الترتيب فرضا ، ومازل عليه الناس في جبل حوران وسواه حتى يومنا هذا ، وإن رأينا تعديلا في بعض المناطق ، فهو لا يعدو إبدال فصل بفصل من رسالة واحدة أو رسالتين متغايرتين )) .
وقد ثابر القوم على هذا المنهاج واعتبروه واجبا على كل درزي تتوفر فيه الشروط الدينية :
وعن هندسة هذه الخلوات يقول :
إن الشيخ إبراهيم أمر أن يقام في كل قرية درزية خلوة كبيرة تتسع لأكبر عدد من سكان القرية ، وأطلق على هذا البناء اسم ( مجلس حمزة ) وهو يتألف من غرفة كبيرة تتوسطها مصطبة – طاولة ثابتة – بارتفاع سبعين سنتم تقريبًا ، يعلوها ستار من القماش السميك بارتفاع متر ونصف تقريبًا ، كأنها تقسم الغرفة قسمين وتحجب بينهما .
يجلس الرجال في قسم والنساء في القسم الآخر ، ولكل قسم باب ونافذة في مكان واحد . أما السبب في إقامة هذا الحاجز فهو :
1 – فصل النساء عن الرجال والحيلولة دون رؤية بعضهما .
2 – إيصال صوت الرجال إلى النساء اللواتي جئن لاستماع الحكمة .
أما ترتيب الشيوخ في المجلس فهو على النحو التالي :
يجلس الإمام – شيخ عقل القرية – في صدر المجلس قريبا من الزاوية ، ويولي ظهره للقاطع – المصطبة ثم يجلس الشيوخ عن يمينه وشماله بصفوف غير منتظمة ، تاركين أمامه فسحة صغيرة مستعدين لأداء الطقوس .
أما كيفية ترتيب الطقوس فهو كما يلي :(142/32)
1 – الوعظ : وهو قصص وحكايات صوفية ، كقصص مالك بن دينار وذي النون المصري وإبراهيم بن أدهم وسواها من القصص الخفيفة التي نراها في كتاب ( روض الرياضين ) . أما إذا كانت هذه الليلة ليلة العيد الكبير ، ضموا للوعظ قصة ( الثواب والعقاب ) وهما تصوران ما يلاقيه الكافر والمرتد من أهوال مجروية القيامة . وهذه الجلسة متاحة للجميع ، يحضرها المدخن والسكير حتى ولو كان ليس درزيًا .
2 – الشرح : المرحلة الأولى : ويجوز حضوره لكل درزي ونرى الحاضرين فيه كثيرين في ليالي الجمعة وليالي العشر من ذي الحجة ، يفتتحه الإِمام قائلاً : علينا أن نمسي الحدود ( أي نقول لهم : مساكم الله بالخير ) ، وقد يقول هذه الكلمة شخص آخر إذ هي لكل شخص من الحاضرين .
وتمسية الحدود هي تحية وسلام وتسبيح على كل حد من الحدود الثمانية :
( العقل ، النفس ، الكلمة ، السابق ، التالي ، الجد ، الفتح ، الخيال ) . وهذه صيغة التمسية ، يقدمونها أولا للعقل قائلين :
ألف المسا مساك ... يا عقل من مولاك
يا نور صاق محض ... سبحان من صفاك
يا لابس الأخضر ... يا زينة المحضر
قلبي يميل إليك ... عيني تريد رؤياك
قلبي يميل إليك ... صلى الإِله عليك
صلى عليك الله ... يا نور عرش الله
صلى عليك ربي نحن دخيل حماك
ثم يتجهون للنفس فيمسونه بنفس هذه الأبيات مع إبدال كلمة الأخضر الموجودة في صدر البيت الثالث بالأحمر ، ثم يتجهون للكلمة بنفس الأبيات ويضعون بدل الأخضر كلمة أصفر ، ثم يخصون السابق باللون الأبيض والتالي باللون الأسود بنفس الأبيات والتريب . أما الحد والفتح والخيال فتقدم لهم التسمية دون ذكر البيت الثالث ، إذ الثلاثة الباقون ليس لهم كسوة خاصة .
وقد ترنم بعض الخلوات بهذه الترنيمة أيضًا :
صلوا على القائل ... صاحب الجود والفضائل(142/33)
صلوا على ولي الهدايا ... صاحب النعم والكفايا
صل وسلم يارب عليه ... وأسعدنا برضاه
صلوا على السيد الهادي الإِمام الأعلى ، نور القيام ، المنتظر لنجاة الأنام ، الهادي إلى طاعة المولى العلي حاكم الحكام ، إمام الرضاة المظفر المصطفى ، صلى يارب وسلم على سيدنا وحبيب قلوبنا ورجانا ( حمزة بن علي ) .
وبعد الانتهاء من هذه التحية الأدبية ، يطلب الإِمام من أحد الشيوخ أن يعظ الناس ، وهذا يتلو بعض أخبار الصالحين من الصوفيين ويطلب من آخر أن ينشد بعض الأناشيد الدينية ، ويختم المجلس بنشيدة جماعية .
المرحلة الثانية : يقف الشيخ – الإِمام – فيقفون جميعًا رجالاً ونساء – قائلين بصوات واحد : يا سميع ، احترامًا للأمير السيد عبد الله التنوخي ثم يجلسون ، وفي هذه اللحظة ينصرف الجهال ، كالقاتل والزاني والسكير وشارب التبغ ... وسواهم من المحرومين الذين لا يستحقون سماع الشرح .
على أن بعض هؤلاء الجهال يقف متأدبًا واضعًا كفيه تحت إبطيه ويكلم المشايخ بأدب وتواضع قائلاً : الله يمسيكم بالخير حضرات المشايخ ، فيجيبون : الله يمسيك بألف خير ، ثم يقول بذل وانكسار : نطلب الحلم وصفاء الخاطر من الله ومنكم ، العبد يخطيء والسيد يعفو .
وهنا يتجه المشايخ إلى بعضهم قائلين . احلموا علينا وعليه يا مشايخ وفي هذه اللحظة يأتي دور الإِمام وله أن يفوه بإحدى كلمتين : إما أن يسمح عن ذاك المستشفع قائلاً : تفضل أقعد ، وهذه معناها : السماح بحضور المرحلة الثانية فقط . وأما أن يقول : ما قدامنا وقدامكم إلا الخير ، وهذه معناها الإِصرار على إبعاده وعدم السماح له بالجلوس وهنا يخرج المستشفع خجلاً كسير النفس .(142/34)
وبعد خروجه تبدأ المرحلة الثانية فيقرأ الإِمام أو يكلف أحد الشيوخ بتلاوة شرح إحدى الرسائل المقررة ، وبعد الانتهاء من القراءة يقفون جميعا قائلين : يا سميع .
وفي هذه الفترة يخرج الذين لا يجوز لهم حضور المرحلة الثالثة . وإذا طلب أحد هؤلاء السماح يبقى واقفًا متأدبًا مكررًا الكلمات السابقة ، وليس له إلا أحد الجوابين السابقين ، وقد يوكل أحد الشيوخ فيقف هذا موقف المذنب التائب ، ويتكلم بالنيابة عن المستشفع وبنفس الجمل ، وهنا إما أن يجاب أو يرفض .
المرحلة الثالثة : ثم يتوجه الإِمام للمشايخ قائلاً : تفضلوا احلموا ، وهنا تبدأ قراءة الدور قراءة جماعية ، وكلهم يحفظ الدور الواجب تلاوته ، فيبدأون بالميثاق ، ثم بالرسائل المقررة لتلك الليلة ، ويجعلون شعر النفس ختامًا ، ويسجدون عند كلمة ( هو الحاكم المولى بناسوته يرى .. ) ويرفعون أيديهم مبتهلين ، ثم ينصرفون مرددين بعض الأدعية .
هذه الخلوات ، تشبه بعضها بعضا ، وإن اختلف بناؤها باختلاف القرى أو تخلفها ، وفي مقدمتها من حيث التاريخ خلوات الزنبقية ، قرب كفر نبرخ بلبنان ، وإن فاقتها الآن خلوات البياضة ( حاصبيا لبنان ) وحلت محل الصدارة .
أما الشيوخ الذين يقومون بإدارة تلك الخلوات ، فيتفاوتون ليس بالعلم أو الخدمة العامة ، بل بشهادات السلوك والمثابرة على الخلوات والزهد الذي قد يصل لدرجة رهبان البراهمة ؛ ذلك لأنهم يخالون العكوف على دراسة الرسائل كل شيء في العالم ، ولذا ضاق أفقهم ، وأصبحوا يستشهدون بما يتلهى به الأطفال كملحمة حسان التبعي .
أولئك الشيوخ طبقات :
1 – طالبو الدخول بالمشيخة ( البراني ) أي الذين يعدون أنفسهم ليصبحوا شيوخا .
2 – شيوخ المجالس السرية ( الجواني ) .
3 – شيوخ العقل .
أما الأزارقة – لابسوا الأزرق – فهم أضيق أفقا من سواهم ) (1).
*******
الفصل الثاني
__________
(1) 72) أيها الدرزي عودة إلى عرينك ، ص 97 – 100.(142/35)
موقف الدروز من الأديان والفرق الأخرى
ويتضمن ما يلي :
1 – موقفهم من اليهود .
2 – موقفهم من النصارى .
3 – موقفهم من طائفة النصيرية .
1 – موقفهم من اليهود :
ذكرنا فيما مضى موقف الحاكم بأمر الله من اليهود والنصارى ، واضطهادهم وهدم كنائسهم وبيعهم ، وكيف تحول في آخر عمره عن هذا الاضطهاد المنظم ، وذلك بعد أن ظهرت الدعوة الجديدة لتأليهه على يد حمزة .
أما موقف الدروز من اليهود ، فهو دعوتهم للدخول في ديانة الدروز ، وإثبات أن المسيح الذي بشر به موسى هو حمزة بن علي ، وقد ورد موقفهم هذا في ( الرسالة الموسومة بالإِسرائيليات الدامغة لأهل اللدود والجحود أعني الكفرة من أهل شريعة اليهود ) وهي من تأليف بهاء الدين .
وقد بدأ بهاء الدين هذه الرسالة بالرد على اليهود في عدم جواز نسخ الشرائع حيث يقول : ( العلة التي أوجب بها اليهود إرسال موسى لا تزال باقية ، وإلا لم تقم حجة موسى على أصحابه ولا على من أقر بإبراهيم ) (1).
وحجة أخرى : ( هي أن من شرع شريعة هو محدث ، فموسى محدث مخلوق ، ولاشك أن الشارع للشريعة أفضل من الشريعة التي شرعها ، إذ أن الشريعة لا تقوم بنفسها ، بل هي محتاجة إلى القائم بها العالم الفاضل ، وإذا كان واجبًا رفع القائم بالشريعة وفناؤه وزواله فممكن إبطال الشريعة ورفعها ) .
ولذلك يقرر بهاء الدين : أن اليهود يترقبون من سيكون الفرج على يديه ، وهو أفضل من موسى ومن إبراهيم ، وأنه يأتي بالآيات والبراهين ، ويدعو الخلق إلى توحيد رب العالمين ، ويستدل على ذلك من التوراة ، إذ بشرهم بها موسى بمجيء المسيح ، فجحدوا ذلك وعموا عنه وأنكروه وتبرأوا منه .
__________
(1) 73) الرسالة الموسومة بالإسرائيلية الدامغة لأهل اللدود والجحود أعني الكفرة من أهل شريعة اليهود.(142/36)
ودليل بهاء الدين من التوراة على ظهور المسيح ودعوته اليهود والنصارى إلى التوحيد والدين الصحيح قول التوراة : ( أنه سيجيء من ساعير نور ، من اتبعه نجا ، ومن تخلف عنه هلك وغوى ، وساعير بشراة وبها قرية تدعى ناصرة ، ولذلك قيل لأمته النصارى ) .
ويأتي ذلك بدليل آخر هو قول شعيا عن الله : ( هأنذا أخلق سماء جديدة ، وأرضًا جديدة ، وليس يُذكر الأول ولا يقع بقلب أحد ..
أنا الله ، وهذا اسمي ، ولا أعطي جلالي ومجدي لغيري ، ما كان في القديم قد أدبر ، وأنا مبشر بالجديد قبل أن يظهر ، فعرفهم بظهور المسيح الذي هو حمزة بن علي .
ومما استدل به أيضا على ظهور قائم الزمان حمزة بن علي قول التوراة : ( صوت مناد في القفار ، انصبوا لله طرقا ، وأقيموا في الفيافي طرقكم ، سترتفع الوطأة ، وتنخفض الجبال والكداة ، وتكون المعوجة مستقيمة ، والوعرة تكون طريقها سهلة ، ويظهر جلال الله ) .
وأيضًا قول داود في الزبور بذكر قائم الحق وهو : قال السيد لسيدي اجلس عن يميني حتى أجعل عدد أعدائك كرسي رجليك ، فعظم داوود وسوره وأقر له بالخنوع والخضوع ، لأنه يملك جميع الدنيا ويحوز من البحر إلى لدن الأنهار إلى منقطع الأرض ، والذي تنحر الجبابرة له بين يديه على ركبهم ، ويجلس أعداؤه على التراب ، وتأتيه الملوك بالقرابين ويسجد له وتدين الأمم كلها بطاعته ، والانقياد لأنه يخلص المضطهد البائس ممن هو أقوى منه مالك الجميع صلى الله عليه .(142/37)
ويضيف بهاء الدين مخاطبًا اليهود : ( فهذه صفات لا يدعيها أحد من الأنبياء ، ومناقب ليست تكون إلا لقائم الحق ، قائم القيامة .. وأنتم أيها اليهود وجميع أهل الشرع في سكرتكم تعمهون ، وقد ضللتم عما كان عليه الأسلاف المحقون له ينتظرون ، فلو كنتم يا جماعة اليهود رجعتم إلى الباري واتبعتم هاديه ودليله وقبلتم أمره ، وسلكتم طريق الحق وسبيله ، وحفظتم ميثاق الذي واثقكم عليه ، وسلمتم عن أمر تم بالتسليم إليه ، لرجع إليكم بالمغفرة وتلقاكم بالتوبة وأنقذكم من أيدي أعدائكم ) .
هذا هو موقف الدروز من اليهود ، ولكن يبدو أن هذا الموقف قد تبدل في الوقت الحاضر من العداء إلى الود والتأييد ، وهو ما نراه في فلسطين المحتلة ، فإن الكثير من جنود جيش الدفاع الإسرائيلي هو من الدروز ؟! .
2 – موقفهم من النصارى :
موقف الدروز من النصارى تحدده أربع رسائل هي :
1 – رسالة خبر اليهود والنصارى .
2 – الرسالة الموسومة بالمسيحية ، وأم القلائد النسكية ، وقامعة العقائد الشركية .
3 – الرسالة الموسومة بالقسطنطينية ، المنفذة إلى قسطنطين متملك النصرانية .
4 – الرسالة الموسومة بالتعقب والاقتفاء لآداء ما بقى علينا من هدم شريعة النصارى الفسقة الأضداد .
الرسالة الأولى تذكر أن بعض أهل الذمة ، وقفوا بين يدي الحاكم وهو بالقرافة ( مقبرة القاهرة ) ، وقالوا أنهم يهود ونصارى ويريدون أن يسألوه عن مسائل في الدين ، ولكنهم خائفون منه ، فأمنهم .
ويبدو أن هذه المقابلة لم تحدث مطلقًا ، وإنما هي تلفيق ، وكتبت حتى تثبت أن ظهور الحاكم وحمزة كان ينتظره اليهود والنصارى .(142/38)
ويضيف مؤلف هذه الرسالة قوله : ( أن الرسول ^ قد أتاه رؤساء شريعة اليهود والنصارى ، فطلب منهم أن يؤمنوا بشريعته ، فقالوا له : ما أنت الذي كنا منتظرين لزمانه متوقعين شخصه ، ولا الذي نرجو الفرج مع ظهوره . والدليل على ذلك ثلاث خصال : إحداها : ليس اسمه كاسمك ، إذ اسمك محمد ، والذي بشرنا به اسمه أحمد .
والثانية : مدته ، قد بقى لها أربعمائة سنة من يوم مبعثك إلى حين ظهور هذا المنظر ، وقد خالفته في الاسم والمدة .
والثالثة : المنتظر إنما يدعو إلى توحيد ربه ، بلا تعطيل ولا تشبيه ولا كلفة تلحق نفوسنا ، وصفة المنتظر عندنا رفع التكليفيات ، وانقضاء الشرور ، ورفع المصائب والشكوك ، وأن لا يتجاوزه في عصره كافر ولا منافق ، وأنت أكثر أصحابك يظهرون النفاق عليك ، وإنما بغلبة سيفك عليهم سلموا لأمرك .
وتنتهي الرسالة إلى ما كانت تبغيه إذ تقول على لسان الحاكم : ( فأي حجة بقيت لكم عليه وعلى بعدما أوضحناه ، وأي أمر تعديت فيه ، بزعمكم عليكم إذا كنت بشرطكم أخذتكم ، وما كنتم تنتظرونه أقمته عليكم ، وقد أسعتكم حلما وعدلا ؟ ) .
إذن ها هي المدة قد انقضت ( أي الأربعمائة سنة ) ، وظهر الإِله المعبود ، قائم الزمان الذي يدعي إليه ، فعليكم الإِيمان به وتصديقه ؟
وقد كذب الدكتور عبد الرحمن بدوي هذه الرواية التاريخية ، إذ لم يثبت في أي من كتب التاريخ والسيرة أن قامت مناقشات بين النبي ^ ، وبين اليهود والنصارى ، إلا ما جرى مع وفد نجران سنة 10 هـ ويؤكد ذلك كما قال الدكتور بدوي ثلاث حجج :
1 – فالحجة الأولى ، وهي الخاصة باسم – أحمد – ساذجة لا يعتقد صدورها عن النصارى في عهد النبي ^ إذ أحمد ومحمد واحد .
2 – والثانية غير معقولة أصلا ، بسبب ما فيها من تحديد سنوات لا ينطبق إلا على الحاكم بأمر الله .(142/39)
3 – والثالثة باطلة ، لأن أفعال النبي ^ تؤكد أنه أحل الطيبات وحرم الخبائث ، ووضع الإصر والأغلال عن اتباعه (1).
أما الرسالة الثانية : ( الموسومة بالمسيحية ) فهي تقريع بأقسى الألفاظ وأفحشها بالمسيحيين ؛ لأنهم لا يعملون بوصية المسيح ، ولا يحذرون من المسيح الضال الكذوب ، ولا يقرون بالمسيح الحق الذي ظهرت علاماته في جميع أنحاء العالم .
ومؤلف الرسالة هو ( بهاء الدين ) الذي يتحدث عن حمزة بن علي ، على أنه المسيح وهو السيد ، ويأخذ بها الدين – في هذه الرسالة – على النصارى : ( أن عقولهم تصور لهم أن السيد المسيح لا يظهر إلا عندهم ، ولا ينتظر مجيئه سواهم ، مع أن المسيح سيظهر للعالم كله والسيد – أي حمزة – قد عرف أن ظهوره لخلاص الأمم من الخطيئة ... ولهذا يقرع النصارى فيقول : فتنبهوا أيها الجهلة من مراقد الغفلة ، وارجعوا إلى الحق مع أولياء السيد قبل انقضاء المهلة ، فقد دارت الأدوار وظهر توحيد الأب من حيث العالم ) .
__________
(1) 74) د . عبد الرحمن بدوي : مذاهب الإسلاميين ، ج 2 ص 772 – 773.(142/40)
والرسالة الثالثة هي الرسالة ( القسطنطينية ) والتي أرسلت إلى قسطنطين الثامن إمبراطور الروم ، الذي تولى الحكم وعمره سنتان عام 963 م ، وتوفي في عام 1028 ، وكاتبها هو بهاء الدين ، ( الذي يتودد فيها للإمبراطور وكبار رجال الدين المسيحي في بيزنطة ، وينعتهم بالقديسين ، ويقرب ما بين دعوة الدروز وبين العقائد النصرانية ، هادفا من وراء ذلك إلى بيان أن : الفار قليط الذي أعلن عن قدومه المسيح عيسى بن مريم هو نفسه حمزة بن علي ، وأن على المسيحيين أن يؤمنوا بأن حمزة وديانة التوحية التي دعا إليها هو الفار قليط ، الذي أعلن عن مجيئه المسيح ، وبهاء الدين يلجأ في سبيل ذلك إلى تأويل أحداث حياة السيد المسيح تأويلاً يؤدي إلى ما يهدف إليه ، وكذلك إلى تأويل آيات الإِنجيل تأويلاً يتفق مع مآربه (1).
أما الرسالة الرابعة والأخيرة من الرسائل الأربعة الموجهة ضد النصاري ، فهي ( الموسومة بالتعقب والاقتفاء لأداء ما بقى علينا من هدم شريعة النصاري الفسقة الأضداد ) وكاتبها هو بهاء الدين ، ويصف نفسه بأنه : ( محلل معاقد الملل وناسخ الأديان ) وقد وجهها إلى ميخائيل إمبراطور الروم عام 1034 م ، وواضح من لهجة الرسالة أنها بالغة في العنف والإِقذاع بعكس الرسالة السابقة المتوددة ، حيث لم تأتِ بنتيجة . وأن العلاقات ازدادت سوءً إلى أبعد حد بين الدروز ونصارى القسطنطينية ، لأن بهاء في الرسالة يحمل بشدة عليهم لاضطهادهم أتباع ديانة التوحيد ، ومساعدتهم دجالا أبرص أعور كان عدوا لديانة التوحيد .
والدروز يعتقدون أن المسيح الذي صلب ، هو ( المسيح الكذب ) ابن يوسف النجار ، وهذا ما ورد في ( رسالة السؤال والجواب ) .
س : وكيف الإِنجيل الذي عند النصارى ، وماذا تقول عنه ؟
__________
(1) 75) د . عبد الرحمن بدوي : مذاهب الاسلاميين ، ج 2 ، ص 796.(142/41)
ج : الإِنجيل حق ، من قول السيد المسيح الذي هو سلمان الفارسي في دور محمد ، وهو حمزة بن علي ، والمسيح الكذب هو الذي ولد من مريم لأنه ابن يوسف النجار .
س : وأين كان المسيح الحق لما كان المسيح الكذاب مع التلاميذ ؟
ج : كان معه من جملة تلاميذه ، وكان ينطق بالإِنجيل (1)، وكان يعلم المسيح ابن يوسف ويقول له : اعمل ما هو كذا أو كذا ، حسب مرسوم دين النصرانية ، وكان يسمع منه كل قوله ، ولما خالف قول السيد المسيح الحق ألقي في قلب اليهود بغضه فصلبوه .
س : وكيف صار بعد الصلب ؟
ج : وضعوه في قبر وجاء المسيح الحق وسرقه من القبر ، وطمره في البستان ، وقال للناس : إن المسيح قام من الموتى .
س : ومن الذي قام من القبر ، ودخل للتلاميذ والأبواب مغلقة ؟
ج : المسيح الحي الذي لا يموت ، وهو حمزة ، عبد مولانا ومملوكه (2).
والخلاصة أن ما يرمي إليه الدروز – في ذلك الوقت – هو إثبات أن المسيح الحق هو حمزة بن علي عبد مولاهم الحاكم بأمر الله .
__________
(1) 76) إن مثل هذا الكلام لا يدل إلا على التزلف المقصود من واضع هذه الرسالة من المسيحيين ، وهو لا شك غير مقبول عند المسيحيين ، فليس كل ما في الإنجيل من كلام السيد المسيح عليه السلام ، بل هو قصة تسرد حياة المسيح بأقلام مختلفة ومشاهدون تعددت جوانب الرؤية عندهم ، بل وباعد بينهم وبين وقوع تلك الحوادث الزمن الطويل . وهو كذلك لا يتفق مع النظره الإسلامية للأناجيل الموجودة بين أيدينا الآن ، فإنها قد حرفت بحيث لا يستطيع أحد أن يحدد فيها ما هو من السيد المسيح ، وما هو من الإضافات والتحريفات ليكون الحق.
(2) 77) مخطوط ( رسالة في معرفة سر ديانة الدروز ) : في جامعة ييل ، مجموعة سالزبوري رقم 91 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 2.(142/42)
ولكن يظهر أنهم غيروا أيضًا من طريقتهم هذه ، وصاروا يحسنون معاملة النصارى ، وخاصة في لبنان ، حيث يسيطر النصارى على الموقف ، يقول يوسف خطار أبو شقرا مؤلف كتاب ( الحركات في لبنان ) وهو درزي ما يلي :
(( لم يكن فيما مضى ما بين الدروز والنصارى في لبنان ، ما كان بينهم منذ سنة 1800 م من الشقاق والنفور ، بل كانت الطائفتان محبة أحداهما بالأخرى ، آنسة إليها ، وبعبارة أخرى كانت الجماعتان كجماعة واحدة تعملان على وتيرة واحدة )) (1).
وتقول المستشرقة ( بول هنري بوردو ) : ( وأعجبت بتساهل هذا الشعب ( الدرزي ) وإرساله صغاره إلى المدارس المارونية ، وصلاته في الكنائس والجوامع على السواء ، حتى يلتبس على فلاحي لبنان الإِجابة لو سئلوا : هل الدروز نصارى أم مسلمون ؟ ! ) (2).
وجاء في كتاب ( لبنان في التاريخ ) للمؤرخ اللبناني فيليب حتى ما يلي عن علاقة الدروز بنصارى لبنان :
(( وقد دهش فولتي كونت وهو عالم فرنسي من شدة الشبه بين الدروز والموارنة من ( المسيحيين ) في أساليب العيش ، وفي نظام الحكم .. وفي اللهجة وفي العادات وفي الآداب العامة فإن عائلات درزية ومارونية تعيش جنبا إلى جنب متصافية متوادة ، وأحيانا يصطحب الموارنة جيرانهم الدروز إلى الكنائس .
ويؤمن الدروز بفعل الماء المقدس الذي يصلي عليه الكاهن وأحيانا إذا ألح المبشر في تبشير الدرزي فقد يقبل الدرزي سر المعمودية . وقد لاحظ ماريتي الراهب الإيطالي الذي زار البلاد سنة 1760 م قبل مجيء فولتي بقليل : أن الدروز يظهرون خالص الود والاحترام للنصارى ويحترمون دينهم ، والدرزي يصلي في كنيسة للروم الأرثوذكس كما يصلي في مسجد تركي .
__________
(1) 78) يوسف خطار أبو شقرا : الحركات في لبنان أى عهد المتصرفية ، ص 25.
(2) 79) بول هنري بورد : أميرة بابلية لدى الدروز ، ص 74.(142/43)
ويقول فريدرك بلس : أن الدروز لكي يتخلصوا من الخدمة العسكرية التركية كانوا يعلنون أنهم بروتستانت . ويؤكد ضابط فرنسي كان مقر خدمته حوران : أن العائلات الدرزية الأرستقراطية إذا فقدت طفلا أو أكثر يعمدون الطفل الذي يولد بعده ، وقد عمد الابن الثاني لسلطان الأطرش سنة 1924 م ، وقد تكون ممارسة هذا التقاليد نوعا من التقية ، وليس بمستغرب أن يتبرع درزي يقطن قرية أكثر سكانها من النصارى بالمال لكنيسة القرية ) (1).
3 – موقفهم من طائفة النصيرية :
طائفة الدروز تعيش في مناطق قريبة لمناطق تواجد طائفته النصيرية ، ومن الطبيعي أن يقوم النزاع بينهما ، وخاصة بسبب الاختلاف الرئيسي في العقيدة ، فالدروز يؤلهون الحاكم بأمر الله ، بينما النصيرية يؤلهون علي بن أبي طالب .
ومع أن الخلاف قد اشتد بين الطائفتين في بعض الأحيان ، فإنه لم يصل إلى أيدينا شيء عن هذا ، غير رسالة ألفها حمزة بن علي يرد فيها على عقائد النصيري لعنه المولى في كل كور ودور ) .
وواضح مما ورد في هذه الرسالة أن حمزة كان يردّ على كتاب أَلَّفَه النصيري اسمه ( كتاب الحقائق وكشف المحجوب ) والموجه ضد ديانة الدروز ، والذي يحاول فيه النصيري أن يقرب بين الدروز والنصيرية ، مستعينا بما كتبه حمزة لإثبات أن مذهب الدروز هو بعينه مذهب النصيرية ، مما أغضب حمزة وجعله يقول في الرسالة :
__________
(1) 80) د . فليب حتى : لبنان في التاريخ ، ص 495 – 496.(142/44)
(( إن من قبل كتابه عبد ابليس ، واعتقد التناسخ (1)، وحلل الفروج ، واستحل الكذب والبهتان ... وحاشا دين مولانا جل وعز من المنكرات ، وحاشا الموحدين من الفاحشات )) .
ويأتي حمزة بعد ذلك على الأقوال والعقائد التي يقول بها النصيري ويرد عليها ، وأول العقائد التي يرد بها حمزة على النصيري : ( أن جميع ما حرموه من القتل والسرقة والكذب والبهتان والزنا واللياطة فهو مطلق للعارف والعارفة بمولانا جل ذكره ) ويرد حمزة على هذا فيقول أنه ( كذب بالتنزيل والتأويل ) .
وأما قوله – أي النصيري - : أنه يجب على المؤمن ألا يمانع أخاه من ماله ولا جاهه ، وأن يظهر لأخيه المؤمن عياله ولا يعترض عليهم فيما يتجري بينهم ، وإلا فما يتم إيمانه ) . فيرد عليه حمزة بقوله :
(( فقد كذب لعنه الله وسرق الأول من مجالس الحكمة (2)بقوله : لا يمنع أخاه من ماله ولا من جاهه ... وإلا فمن لا يغار على عياله فليس بمؤمن ، بل هو خرمي طالب الراحة والإباحة ... إذ كان الجماع ليس هو من الدين ولا ينتسب إلى التوحيد ، إلا أن يكون جماع الحقيقة ، وهو المفاتحة بالحكمة بعد أن يكون مطلقا للكلام )) .
__________
(1) 81) وهذا خلاف في اللفظ ، فالدروز يؤمنون – كما سبق ذكره – بالتناسخ ولكن على طريقة التقمص ، أي بانتقال النفس إلى جسد آدمي مثله تتقمصه ، ولذلك هم ينكرون التناسخ التي تعتقد به النصيرية ، وهو بإمكانية انتقال روح الآدمي إلى حيوان أو نبات ، ولهذا يسمى التناسخ عندهم التقمص.
(2) 82) يقصد مجالس الحكمة التي كان يعقدها الخلفاء الفاطميون ، والتي قيل فيها هذا القول.(142/45)
وأما قوله – أي النصيري - : بأنه يجب على المؤمنة ألا تمنع أخاها فرجها ، وأن تبذل فرجها له مباحا حيث شاء ، وأن لا يتم نكاح الباطن إلا بنكاح الظاهر ، ونسبه إلى توحيد مولانا جل ذكره ، فقد كذب على مولانا عز اسمه ، وأشرك به ، وألحد فيه ... وأما وسائط مولانا جل ذكره ، فما منهم أحد طلب من النساء مناكحة الظاهر ، ولا ذكر بأنه لا يتم لكن ما تسمعنه إلا بملامسة الظاهر ، فعلمنا بأنه لم يكن لهذا الفاسق النصيري لا ينفسد أبدا ، لكنه طلب الشهوة البهيمية التي لا ينتفع بها في الدين ولا الدنيا ) .
وأما قوله : الويل كل الويل على مؤمنة تمنع أخاها فرجها ، لأن الفرج مثل أئمة الكفر ، والإ حليل إذا دخل فرج الامرأة دليل على الباطن ، وممثوله على مكاسرة أهل الظاهر وأئمة الكفر ... ومن عرف الباطن فقد رفع عنه الظاهر ، فقد كذب على دين مولانا وحرف وأغوى المؤمنين وأفسد المؤمنات الصالحات ، وليس كل من عرف باطن الشيء وجب عليه ترك ظاهره ، وكل رجل ينكح امرأة مؤمنة بغير الشروط التي تجب عليه في الحقيقة والشريعة الروحانية كان منافقا على مولانا جل ذكره ، إذ كان فيه هتك الدين وهدم التوحيد ، ومن كانت لها بعل فلا شروط لها إلا لبعلها )) .
ويرد حمزة أيضا على النصيري في قضية التناسخ التي يختلفون بها ويقول : ( وأما قوله بأن أرواح النواصب والأضداد ترجع في الكلاب والقردة والخنازير إلى أن ترجع في الحديد ، وتحمى وتضرب بالمطرقة ، وبعضهم في الطير والبوم ، وبعضهم ترجع إلى الامرأة التي تثكل ولدها ، فقد كذب على مولانا سبحانه بأن يعصيه رجل عاقل لبيب فيعاقبه في صورة كلب أو خنزير ، وهم لا يعقلون ما كانوا عليه في الصورة البشرية ، ولا يعرفون ما جنوه ، ويصير حديدا ويحمى ويضرب بالمطرقة ، فأين تكون الحكمة في ذلك والعدل فيهم ؟!(142/46)
وإنما تكون الحكمة في عذاب رجل يفهم ويعرف العذاب ليكون مأدبة لها وسببا لتوبته . وأما العذاب الواقع بالإنسان فهو نقلته من درجة عالية إلى درجة دونها في الدين وقلة معيشته وعمى قلبه في دينه ودنياه ، وكذلك نقلته من قميص إلى قميص على هذا الترتيب ، وكذلك الجزاء في الثواب مادام في قميصه فهو زيادة درجته في العلوم ، وارتقائه من درجة إلى درجة في اللهوات إلى أن يبلغ إلى حد المكاسرة ، ويزيد في ماله وينبسط في الدين من درجة إلى درجة إلى أن يبلغ إلى حد الإمامة ، فهذه أرواح الباطنية وثوابها ، وما تقدم أرواح الأضداد وعقابها ، فمن اعتقد هذا كان عالما بتوحيد مولانا جل ذكره ... ومن اعتقد التناسخ مثل النصيرية المعنوية ، في علي بن أبي طالب وعبده فقد خسر الدنيا والآخرة , ذلك هو الخسران المبين .
وهنا يأتي حمزة إلى النقطة الحاسمة في الخلاف ، وهو اختلافهم في ألوهية الحاكم – كما يقول الدروز - ، وألوهية علي بن أبي طالب كما يقول النصيرية ، فيقول حمزة : ( ثم إنه إذا ذكر عليا – أي النصيري – يقول : علينا سلامه ورحمته ، وإذا ذكر مولانا جل ذكره يقول : علينا سلامه ، فيطلب الرحمة من المفقود المعدوم ، ويجحد الموجود الحاكم بذاته المنفرد عن مبدعاته ، ولا يكون في الكفر أعظم من هذا ، فصح عند العارف بأن الشرك الذي لا يغفر أبدا هو بأن يشرك بين علي بن أبي طالب وبين مولانا جل ذكره ، ويقول علي مولانا الموجود ، ومولانا هو علي لا فرق بينهما ، والكفر ما اعتقده هذا الفاسق من العبادة في علي بن أبي طالب والجحود لمولانا جل ذكره ) .(142/47)
وأما قوله بأن محمد بن عبد الله هو الحجاب الأعظم الذي ظهر لمولانا الحاكم منه ، ومن لم يسدق بهذا الكتاب فهو من أصحاب هامان والشيطان وإبليس ... فقد كذب في جميع ما قاله المنجوس النصيري ، فما عرف الدين ولا الحجاب ، ومحمد كان حجاب علي بن أبي طالب ، وأما حجاب مولانا جل ذكره فلا ، وهذا قول من عقله سخيف ، ودينه ضعيف ، والحجاب هو سترة الشيء ليس إظهاره ، والذي أظهر المولى جل اسمه نفسه منه كيف يشاء بلا اعتراض عليه يقال له حجة القائم ، وهو المهدي ، وبه دعا الخلق بنفسه إلى نفسه ، وباشر العبيد بالصورة المرئية ومخاطبة البشرية ، وكنه مولانا لا تدركه الأوهام والخواطر ) .
بعد هذا الرد من حمزة على النصيري ، نورد نصا غريبا على طريقة السؤال والجواب ، يفيد أن النصيرية فرقة من فرق الدروز ، وانفصلت عنها ، مع أن هذا لم يؤيده أي مصدر تاريخي أو أي مصدر من مصادر الدروز والنصيرية ، والنص كان كما يلي :
س : وكيف انفصلت النصيرية عن الموحدين ، وخرجوا عن دين التوحيد ؟(142/48)
ج : انفصلوا بدعوة النصيري لهم حيث زعموا أنه عبد مولانا أمير المؤمنين ، وأنكر لاهوت مولانا الحاكم ، واعترف بلاهوت علي بن أبي طالب الأساس ، وقال إن اللاهوت ظهر في الأئمة الإثني عشر آل البيت . وغاب بعد أن ظهر في محمد المهدي القائم ، واختفى في السماء ولبس الحلة الزرقاء وسكن الشمس ، وأن النصيرية كلما صفى منهم واحد بطريق الانتقال في الأدوار رجعت العالم ولبس ثوب البشرية بعد الصفا يرجع يصير نجما في السماء وهو مركزه الأول . وإن عمل معصية تخالف الوصية علي أمير المؤمنين الرب الأعلى يعد يهوديا أو مسلما سنيا أو نصرانيا ، ثم يتكرر إلى أن يصير مثل الفضة في الروباص ، ويرجع يصير نجما في السماء ، وإن الكفرة الذين ما عبدوا عليا بن أبي طالبا كلهم يصيرون جمالا وبغالا وحميرا وكلابا وخرفانا للذبح وأمثال ذلك لكن الوقت إلى شرحها ضيق ، وخاصة انتقال نفوس البشر إلى البهائم والحيوانات ، ولهم مناقب وكتب كفرية مثل ذلك ) (1).
ولأهمية علاقة الدروز بالنصيرية والتقائهما في كثير من العقائد ، نورد نص ما جاء في مخطوطة ( في تقسيم جبل لبنان ) عن العقائد المتشابهة بين النصيرية والدروز :
1 – قضية التناسخ : بانتقال أرواح من مات منهم إلى جسم آخر ، ولكن الدروز يقتصرون على انتقال الأرواح من الإنسان إلى الإنسان فقط ، حتى أنهم يزعمون أن روح الدرزي لا تنتقل لجسد غير درزي ، وهكذا المسلم ينتقل إلى مسلم ، والنصراني إلى نصراني وهلم جرّا .
__________
(1) 83) مخطوط ( ذكر ما يجب أن يعرفه الموحد ) : مكتبة القديس بولس ، الجامعة الأمريكية في بيروت رقم 206.(142/49)
وإذا تنصر واحد منهم مثلا ومات نصرانيا ، وأسلم ومات مسلما ، فلابد أن تكون والدته قد جاءت به من الزنا مع رجل مسلم أو نصراني أو يهودي ، بحسب الملة التي انتقل إليها ذلك الرجل أنه لابد من بقاء أنفس كل ملة على مقدار ما هي عليه ، وهكذا لو أن نصرانيًا مثلا اطلع على دين الدروز واعتقده وعمل بموجبه ومات على ذلك فترجع روحه إلى ملته القديمة لأن الباب قد قفل بعد ظهور الحاكم بأمره وآمن من آمن ، وكفر من كفر وانقطع الأمل ولم يبق وجه لدخول أحد في دينهم .
وأما النصيرية فيعتقدون بانتقال الأرواح من البشر إلى البهائم والحشرات حتى من الممكن انتقال روح أحدهم إلى المعادن كالحديد مثلا لكي تحمى بالنار ويتطرق بالمراذب على السدان ، وذلك لأجل القصاص ، ثم ترجع تلك الروح ثانية إلى البشر ولا تزال تتكرر حتى تتطهر وحينئذ تصير تلك الروح نجمة تلمع في السماء ، وأن الكواكب هي أرواح الصلحاء الذين ماتوا منهم .
2 – قضية العاقل والجاهل : فالعقال يسترون دينهم عن الجهال منهم وإذا أراد أحد الجهال أن يدخل في أمور الديانة ، فلا يسلمون الديانة إلا بالتدريج بعد أن يتتلمذ إلى أحد مشايخ دينهم ويتخذه والدا دينيا له .
3 – يتفقون معهم باستباحة وقتل وسلب من يخالف معتقدهم .
4 – يتفقون معهم بقدمية زمان إيجاد العالم ، وأن العالم قد خلق على ما هو عليه الآن لا يزيد ولا ينقص .
5 – يتفقون معهم بقضية الأدوار والأئمة والناطق والأساس والسابق والتالي ، ولكن يختلفون في صفات أصحاب الأدوار ، فالبعض من هؤلاء الأشخاص يكرمونهم بأكثر مما يكرمهم الدروز ، ويكرمون بعض الأشخاص الممقوتين من الدروز كمحمد وعلي وعيسى وبطرس وموسى ويوشع وإبراهيم وإسماعيل ونوح وسام وآدم وهابيل ثم شيت .(142/50)
6 – وهم يعتقدون بالقرآن ويفسرونه على ما يطابق معتقداتهم التي هي مؤلَّفة من جملة معتقدات مختلفة ) (1).
ونستنتج من هذا أن نقطة الخلاف الرئيسية بين الدروز والنصيرية هي ألوهية الحاكم عند الدروز ، وألوهية علي عند النصرانية ، أما بقية العقائد فقد يلتقون في شيء منها ، ويختلفون في شيء آخر منها ، كما هو في عقيدة التناسخ ، فالدروز يصورونها على أنها تقمص من جسد انسان إلى جسد إنسان آخر ، بينما النصيرية يجيزون أن تتحول النفس الإنسانية إلى حيوان أو نبات أو جماد .
الخاتمة
وأخيرا ، وبعد أن أجملنا في هذه الرسالة معظم عقائد الدروز ، وما تقوم عليه ديانتهم ، مستندين في ذلك إلى مراجع متعددة كتبت بأقلام كتاب مختلفين من الدروز وغيرهم ، وأيضًا إلى مخطوطات دعاتهم ، والتي أوضحت بشكل جلي حقيقة عقيدتهم .
أقول بعد هذا : فإنه لا يزال بين من كتبوا عن الدروز إلى الآن – وبعد كل هذا الوضوح – من يعتبرهم مسلمين مرتبطين بالإسلام والمسلمين ، مثل الشيخ محمد علي الزعبي صاحب كتاب ( الدروز ظاهرهم وباطنهم ) الذي انطلق في كتابته عن نية طيبة في عودة الدروز إلى الأصل الذي انفصلوا عنه وهو الإِسلام ، ولكن أما كان يغنيه أن يكتب هذا الكلام عن الدروز في فلسطين حيث يقول :
__________
(1) 84) مخطوطة ( في تقسيم جبل لبنان ) : الجامعة الأمريكية في بيروت رقم 31.(142/51)
(( لم يتعاون ولن يتعاون ، هؤلاء العرب المغاوير ، مع تلك العصابة ، إذ بروز نيوب الأسد ، لا يعني تبسمه ورضاه ، بل تحضره لافتراس من حاول ايقاع الأذى ... إن موحدي فلسطين ، يراقبون ساعة الزمن ، التي تسجل على صهيون ، نكثه وغدره ... ان ابن عمنا ، النائب في مجلس اسرائيل ، سيف الدين الزعبي ، هو هدم الآن ، من كيان إسرائيل كذا وكذا ، لكن بيد ناعمة ، وليهد من إذا واتاه الرياح ، من هذا الكيان أكثر مما هدم البطل المجاهد الشيخ نايف الزعبي ... إنهم لا شغل لهم إلا أن ينتظروا أن تدور الدوائر على اليهود ، حتى ينتفضوا عليهم ، ويقضوا مضاجعهم ، ويكونوا للعرب وللمسلمين معينا وسندا متينا ) (1).
وسامح الله الشيخ الزعبي ، فكأني به لم يسمع أبدا عن الدروز العاملين في جيش الدفاع الإسرائيلي ، وعن بلائهم معه في حروبه ضد المسلمين وعن معاملتهم للمسلمين من سكان فلسطين ؟!
وكذلك نجد من المؤلفين من يقف موقف الحيران أمام هذه الحقائق ، كالدكتور مصطفى الشكعة ، والذي لم يستطع أن يحدد موقفا من الدروز فيقول : ( لقد لاحظت أن كل طفل درزي إذا سئل عن دينه قال : أنه درزي ؟ فإذا قيل له : يعني مسلم ، أبدى استغرابا شديدا ، وكأنه ليس ثمة علاقات تربط بينه وبين الإِسلام ؟ ) (2).
وكأني بالدكتور الشكعة لا يزال يربط بين الدرزية والإِسلام ؟
__________
(1) 85) محمد على الزعبي : الدروز ظاهرهم وباطنهم ، ص 134 – 137.
(2) 86) د . مصطفى الشكعة : إسلام بلا مذاهب ، ص 284.(142/52)
لهذا أقول : إن النتيجة التي يخرج بها الباحث في المذهب الدرزي ، أن هذا المذهب لا صلة له بالإِسلام والمسلمين مطلقا ، وأن كل مزاعم أتباع هذا المذهب عن إسلاميتهم لم يكن إلا تسترا ونفاقا أمام المسلمين ، فالسرية والكتمان عقيدة واجبة عندهم ، فهؤلاء – كما يقول الشيخ محمد أبو زهرة : ( قد خلعوا ربقة الإِسلام ، وأطرحوا معانيه ، ولم يبقوا لأنفسهم إلا الاسم يتسترون به عن حقيقتهم ) (1).
وهذا الشيء قد عرفه علماء الإٍسلام عن الدروز منذ زمن ظهورهم ، ولم يعاملهم أهل الإِسلام إلا على هذا الأساس ، قال ابن عابدين في حاشيته عن حكم القاضى الدرزي : ( ظهر من كلامهم حكم القاضي المنصوب في بلاد الدروز في القطر الشامي ويكون درزيا ويكون نصرانيا ، فكل منهما لا يصح حكمه على المسلمين ، فإن الدرزي لا ملة له كالمنافق والزنديق وإن سمى نفسه مسلمًا ، وقد أفتى في ( الخيرية ) بأنه لا تقبل شهادته على المسلم ) (2).
وعن شهادة الدرزي يقول أيضا في تكملة حاشية ابن عابدين : ( واختلفوا في شهادة مرتد على مثله ، والأصح عدم قبولها بحال ... ويلحق به الدرزي كما أفتى به الخير الرملي ، والعلامة علي أفندي المراددي في رسالة ( أقوال الأئمة العالنة في أحكام الدروز والتيامنة ) قال العلامة السيد محمود أفندي حمزة مفتي دمشق في فتواه في جواب سؤال رفع إليه في شهادة أهل الأهواء المكفرة هل تقبل على بعضهم سواء كانوا متفقين في الاعتقاد أم مختلفين ، وسواء كانوا أهل كتاب أم لا ؟
__________
(1) 87) محمد أبو زهرة : المذاهب الإسلامية ، ص 95.
(2) 88) ابن عابدين : حاشية ابن عابدين ، ج 4 ، ص 299.(142/53)
فكتب حفظه الله تعالى جوابا حاصله ، بعد ذكر النقول والتفصيل : وأما شهادة الكفار الذين لا يقرون ما هم عليه من العقيدة كأهل الأهواء المكفرة والمنافقين والباطنية والزنادقة والمجوس والدروز والتيامنة والنصيرية والمرتدين فلا تقبل شهادتهم على أحد سواء كان مثلهم في الاعتقاد أو مخالفا لهم لعدم ولايتهم ) (1).
وفي النصف الأول من شهر آب عام 1973 ، وقع في جبل الدروز في سوريا طلاق ما بين سني وسنية من سكانه ، وطلب محامي الزوج شهودا من الدروز ، فرفض قاضي الشرع وعلل الرفض بقوله : لا يحق لدرزي أن يشهد في قضية سني على اعتبار أن الدروز ليسوا إسلاما ) (2) .
وكذلك وجه السؤال التالي إلى رئيس المحكمة الشرعية العليا – في سورية الشيخ محمد علي الأنيس : ما قول السادة الفقهاء في رجل مسلم وتوفي وترك أخا درزيا وابن أخ مسلما ( سنيا ) ، فهل يمنع الأخ الدرزي من إرث أخيه المسلم ، أو يعود إرث هذا المتوفي لابن أخيه المسلم لتباين العقائد بين الدروز والمسلمين في أساس الإرث ؟
وكان جوابه : نعم إن الوارث شرعا لهذا المتوفي والحال ما ذكر هو ابن أخيه المسلم ، أما أخوه الدرزي فهو ممنوع من الإرث ، لأن الدرزي بالنظر لعقائدهم الدينية المخالفة للعقائد الإسلامية لا توارث بينهم وبين المسلمين ) (3).
__________
(1) 89) تكملة حاشية ابن عابدين ، ج 1 ، ص 73.
(2) 90) فؤاد الأطرش : الدروز مؤامرات وتاريخ وحقائق ، ص 360.
(3) 91) المصدر السابق ، ص 362.(142/54)
وكان شيخ الإِسلام ابن تيمية أكثر وضوحا وبيانا عندما سئل رحمه الله عن الدروز والنصيرية حيث أجاب : ( هؤلاء الدرزية والنصيرية كفار باتفاق المسلمين لا يحل أكل ذبائحهم ، ولا نكاح نسائهم ، بل ولا يقرون بالجزية فإنهم مرتدون عن دين الإِسلام ، ليسوا مسلمين ، ولا يهود ، ولا نصارى ولا يقرون بوجوب الصلوات الخمس ، ولا يوجب صوم رمضان ، ولا وجوب الحج ، ولا تحريم ما حرم الله ورسوله من الميتة والخمر وغيرهما وإن اظهروا الشهادتين مع هذه العقائد فهم كفار باتفاق المسلمين ... والدرزية هم أتباع هشتكين الدرزي ، وكان من موالي الحاكم أرسله إلى أهل وادي تيم الله بن ثعلبة ، فدعاهم إلى إلاهية الحاكم ويسمونه الباري العلام ، ويحلفون به ، وهم من الإسماعيلية القائلين بأن محمد بن إسماعيل نسخ شريعة محمد بن عبد الله ، وهم أعظم كفرا من الغالية ، يقولون بقدم العالم ، وإنكار المعاد ، وإنكار واجباب الإِسلام ومحرماته ، وهم من القرامطة الباطنية ، الذين هم أكفر من اليهود والنصارى ومشركي العرب ، وغايتهم أن يكونوا فلاسفة على مذهب أرسطو وأمثاله ، أو مجوسا ، وقولهم مركب من قول الفلاسفة والمجوس ويظهرون التشيع نفاقا ... وكفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون ، بل من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم ، لا هم بمنزلة أهل الكتاب ولا المشركين ، بل هم الكفرة الضالون فلا يباح أكل طعامهم ، وتسبى نساؤهم ، وتؤخذ أموالهم ، فإنهم زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم ، بل يقتلون أينما ثقفوا ، ويلعنون كما وصفوا ، ولا يجوز استخدامهم للحراسة والبوابة والحفاظ ، ويجب قتل علمائهم وصلحائهم لئلا يضلوا غيرهم ، ويحرم النوم معهم في بيوتهم ، ورفقتهم ، والمشي معهم ، وتشييع جنائزهم إذا علموا موتها ، ويحرم على ولاة أمور المسلمين إضاعة أمر الله من إقامة الحدود عليهم بأي شيء يراه المقيم ولا المقام عليه ) (1)
__________
(1) 92) ابن تيمية : فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ، ج 35 ، ص 161 – 162.(142/55)
.
ويتحدث بتفصيل أكثر عن حكم معاملتهم فيقول : ( ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين ، ولا يصلي على من مات منهم ، فإن الله سبحانه وتعالى نهى نبيه ^ عن الصلاة على المنافقين كعبد الله بن أبي ونحوه ، وكانوا يتظاهرون بالصلاة والزكاة والصيام والجهاد مع المسلمين ولا يظهرون مقالة تخالف دين الإِسلام ، لكن يسرون ذلك ... فكيف بهؤلاء الذين هم مع الزندقة والنفاق يظهرون الكفر والإِلحاد .
وأما استخدام مثل هؤلاء في ثغور المسلمين أو حصونهم أو جندهم فإنه من الكبائر ، وهو بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعي الغنم ، فإنهم أغش الناس للمسلمين ولولاة أمورهم ، وهم أحرص الناس على فساد المملكة والدولة ... وعلى تسليم الحصون إلى عدو المسلمين ، وعلى إفساد الجند على ولي الأمر وإخراجهم عن طاعته ، والواجب على ولاة الأمور قطعهم من دواوين المقاتلة فلا يتركون في ثغر ، ولا في غير ثغر ، فإن ضررهم في الثغر أشد .
وإذا أظهروا التوبة ففي قبولها منهم نزاع بين العلماء ، فمن قبل توبتهم إذا التزموا شريعة الإِسلام أقر أموالهم عليهم ، ومن لم يقبلها لم تنقل إلى ورثتهم من جنسهم ، فإن مالهم يكون فيئا لبيت المال ، لكن هؤلاء إذا أخذوا فإنهم يظهرون التوبة ، لأن أصل مذهبهم التقية وكتمان أمرهم ، وفيهم من يعرف ، وفيهم من قد لا يعرف ، فالطريق في ذلك أن يحتاط في أمرهم ، فلا يتركون مجتمعين ، ولا يمكنون من حمل السلاح ، ولا أن يكونوا من المقاتلة ، ويلزمون في شرائع الإِسلام ، من الصلوات الخمس ، وقراءة القرآن ، ويترك بينهم من يعلمهم دين الإِسلام ...(142/56)
ولا ريب أن جهاد هؤلاء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكثر الواجبات ، وهو أفضل من جهاد من لا يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب ، فإن جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين ، والصديق وسائر الصحابة بدأوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب ، فإن جهاد هؤلاء حفظ لما فتح من بلاد المسلمين .
ويجب على كل مسلم أن يقوم في ذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب . فلا يحل لأحد أن يكتم ما يعرفه من أخبارهم ، بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم ... والمعاون في كف شرهم وهدايتهم بحسب الإمكان له من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، فإن المقصود بالقصد الأول هو هدايتهم ) (1).
__________
(1) 93) ابن تيمية : فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ، ج 35 ، ص 155 – 160.(142/57)
وقد طبق ابن تيمية ذلك عمليا ، وكان من السباقين لمقاتلة هؤلاء ، يروي ابن كثير في تاريخه عن حوادث سنة 699 هـ ما يلي : ( وفي يوم الجمعة العشرين من شوال ركب نائب السلطنة جمال الدين آقوش الأفرم في جيش دمشق إلى جبال الجرد وكسروان ، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة والحوارنة لقتال أهل تلك الناحية ، بسبب فساد نيتهم وعقائدهم وكفرهم وضلالهم ، وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتر وهربوا حين اجتازوا ببلاد لهم ، وثبوا عليها ونهبوهم وأخذوا أسلحتهم وخيولهم ، وقتلوا كثيرا منهم ، فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية فاستتابهم وبين للكثير منهم الصواب وحصل بذلك خير كثير ، وانتصار كبير على أولئك المفسدين ، والتزموا برد ما كانوا أخذوه من أموال الجيش ، وقرر عليهم أموالا كثيرة يحملونها إلى بيت المال ، وأقطعت أراضيهم وضياعهم ، ولم يكونوا قبل ذلك يدخلون في طاعة الجند ولا يلتزمون أحكام الملة ، ولا يدينون دين الحق ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ... وفي سنة 704 هـ عاد ابن تيمية رحمه الله إلى مقاتلة هؤلاء ومعه جماعة من أصحابه إلى جبل الجرد والكسروانيين ومعه نقيب الأشراف ورجع مؤيدا ناصرا ) (1).
وفي فضائح الباطنية يتحدث أبو حامد الغزالي عن ارتداد الباطنية جميعا ، وعن حكمهم ، وحكم توبتهم ، فيقول :
__________
(1) 94) ابن كثير : البداية والنهاية ج 14 ص 12 ، 35.(142/58)
(( والقول الوجيز فيه أنه يسلك بهم مسلك المرتدين ، في النظر إلى الدم والمال والنكاح والذبيحة ونفوذ الأقضية وقضاء العبادات ... فإن قيل : ولماذا حكمتم بإلحاقهم بالمرتدين ، والمرتد من التزم بالدين الحق وتطوقه ثم نزع عنه مرتدا ومنكرا له ، وهؤلاء لم يلزموا الحق قط ، بل وقع نشوؤهم على هذا المعتقد – فهلا ألحقتموهم بالكافر الأصلي - ؟ قلنا : ما ذكرناه واضح في الذين انتحلوا أديانهم وتحولوا إليها معتقدين لها بعد اعتقاد نقيضها أو بعد الانفكاك عنها . وأما الذين نشأوا على هذا المعتقد سماعا من آبائهم فهم أولاد المرتدين ، لأن آبائهم وآباء آبائهم لابد أن يفرض في حقهم تنحل هذا الدين بعد الانفكاك عنه ، فإنه ليس معتقدا يستند إلى نبي وكتاب منزل كاعتقاد اليهود والنصارى ، بل هي البدع المحدثة من جهة طوائف من الملحدة والزنادقة في هذه الأعصار القريبة المتراخية ، وحكم الزنديق أيضا حكم المرتد لا يفارقه في شيء أصلا ... وقد ألحقنا هؤلاء بالمرتدين في سائر الأحكام ، وقبول التوبة من المرتد لابد منه ، بل الأولى ألا يبادر إلى قتله إلا بعد استتابته وعرض الإِسلام عليه وترغيبه فيه . وأما توبة الباطنية وكل زنديق مستتر بالكفر يرى التقية دينا ، ويعتقد النفاق واطهار خلاف المعتقد عند استشعار الخوف حقا ، ففي هذا خلاف بين العلماء . ذهب ذاهبون إلى قبولها ، لقوله ^ ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ) (1)، ولأن الشرع إنما بني الدين على الظاهر فنحن لا نحكم إلا بالظاهر والله يتولى السرائر ...
__________
(1) 95) رواه البخاري ومسلم في الصحيحين وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في السنن انظر فضائح الباطنية ، ص 160.(142/59)
وذهب ذاهبون إلى أنه لا تقبل توبته ، وزعموا أن هذا الباب لو فتح لم يكن حسم مادتهم وقمع غائلتهم ، فإن من سر عقيدتهم التدين بالتقية والاستسرار بالكفر عند استشعار الخوف . فلو سلكنا هذا المسلك لم يعجزوا عن النطق بكلمة الحق وإظهار التوبة عند الظفر بهم ، فيلهجون بذلك مظهرين ويستهزئون بأهل الحق مضمرين ... ولكن أبو حامد الغزالي يقسم هؤلاء إلى ثلاثة أقسام :
الحالة الأولى : أن يتسارع إلى إظهار التوبة واحد منهم من غير قتال ولا إرهاق واضطرار ، ولكن على سبيل الإيثار والاختيار متبرعا به ابتداء من غير خوف ، واستشعار هذا ينبغي أن يقطع بقبول توبته ...
الحالة الثانية : الذي يسلم تحت ظلال السيوف ، ولكنه من جملة عوامهم وجهالهم ، لا من جملة دعاتهم وضلالهم ، فهذا أيضا تقبل توبته ، فمن لم يكن مترشحا للدعوة فضرر كفره مقصور عليه في نفسه ...
الحالة الثالثة : أن نظفر بواحد من دعاتهم ممن يعرف منه أنه يعتقد بطلان مذهبه ، ولكنه ينتحله غير معتقد له ليتوصل إلى استمالة الخلق وصرف وجوههم إلى نفسه ، طلبا للرياسة وطمعا في حطام الدنيا – هذا هو الذي يتقى شره . والأمر فيه منوط برأي الإِمام ليلاحظ قرائن أحواله ويتفرس من ظاهره في باطنه ، ويستبين أن ما ذكره يكون إذعانا للحق واعترافا به بعد التحقق والكشف ، أو هو نفاق وتقية ، وفي قرائن الأحوال ما يدل عليه . والأولى ألا يوجب على الإِمام قتله لا محالة ولا أن يحرم قتله ، بل يفوض إلى اجتهاده ) (1).
__________
(1) 96) محمد رشيد رضا : فتاوي الإمام محمد رشيد رضا ، ج 1 ، ص.(142/60)
وواضح بعد هذا أن هؤلاء القوم مرتدون عن الإِسلام ، لتركهم عبادة الله تعالى ، وإنكارهم فرائض الإِسلام ، ولكن لابد لنا بعد هذا من أن نطالب بأن يعمل على نشر الإِسلام بين صفوف الدروز ، وأن يحال بينهم وبين مشايخهم أو عقالهم ، الذين لا يزالون يصرون على هذه الضلالات السخيفة المهينة للعقل الإِنساني ، فتزول بذلك الغشاوة عن الأعين ، وفي ذلك يقول الشيخ محمد رشيد رضا .
(( والجدل معهم عبث ، فإنه لا قانون في دينهم للاستدلال ... على أن العارفين بالدين منهم قليلون وهم الذين يدعونهم العقال ، وقد رأينا من المتعلمين على الطريقة العصرية ، ومن أهل البصيرة النباهة من يتمنون نشر التعاليم الإِسلامية في قومهم ، ولو وجد للمسلمين نهضة للتعليم ورقي في العلم والاجتماع لسهل عليهم جذب معظم هذه الطائفة في زمن يسير ) (1).
وفي نهاية هذا البحث ، أرجو الله أن أكون قد وفقت في عرضي لعقيدة الدروز ، والتي لم يكن قصدي منها إلا بيان الحقيقة ، عن قوم لا يزالون للآن يعيشون بين ظهراني المسلمين ، ويعتبرهم الكثير من أهل الإِسلام ، مسلمين بسبب الجهل في حقيقتهم ، وأيضا بسبب كتمانهم وتسترهم على عقيدتهم ، وإظهار أنفسهم كأنهم مذهب من مذاهب الإِسلام ، لذا رأيت من واجبي أن أظهر حقيقة هؤلاء أمام المسلمين ليتبين لنا الحق من الباطل .
راجيا الله أن يوفقنا جميعا إلى رؤية الحق حقا ، ويرزقنا اتباعه ، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
*****
المراجع والمصادر
ابن الأثير – علي ... ... ... ... ... ... ... ... الكامل في التاريخ / دار صادر – بيروت 1966 م .
ابن تيمية – أحمد ... ... ... ... ... ... ... ... ... فتاوي شيخ الإِسلام ابن تيمية – الرياض سنة 1381 هـ .
__________
(1) 97) محمد رشيد رضا : فتاوي الإمام محمد رشيد رضا ، ج1 ، ص 276.(142/61)
ابن الجوزي – عبد الرحمن ... ... ... ... ... ... ... ... المنتظم في تاريخ الملوك والأمم / بيروت .
ابن الجوزي – عبد الرحمن ... ... ... ... ... ... ... ... القرامطة / تحقيق محمد الصباغ – المكتب الإِسلامي – بيروت 1968 م
ابن الجوزي – عبد الرحمن ... ... ... ... ... ... ... ... تلبيس إبليس / دار الكتب العلمية – بيروت .
ابن تغرى بردى – يوسف ... ... ... ... ... ... ... ... النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة / وزارة الثقافة المصرية
ابن حزم – علي بن أحمد ... ... ... ... ... ... ... ... الفصل في الملل والأهواء والنحل / دار المعرفة – بيروت .
ابن عابدين ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حاشية ابن عابدين – دار إحياء التراث – بيروت .
ابن خلكان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وفيات الأعيان وأنباء أبناء زمان / دار صادر – بيروت 1968 م .
ابن كثير – أبو الفداء ... ... ... ... ... ... ... ... البداية والنهاية – مكتبة المعارف – بيروت 1977 م .
ابن منظور – أبو الفضل ... ... ... ... ... ... ... ... لسان العرب – دار صادر ودار بيروت – بيروت1956 م .
أبو إسماعيل – سليم ... ... ... ... ... ... ... ... ... الدروز – وجودهم ومذهبهم وتوطنهم .
أبو زهرة – محمد ... ... ... ... ... ... ... ... المذاهب الإسلامية / مكتبة الآداب – القاهرة .
أبو شقرا – يوسف : ... ... ... ... ... ... ... ... الحركات في لبنان إلى عهد المتصرفية / مطبعة الاتحاد – بيروت .
أبو صالح – د . عباس أبو صالح ود . سامي مكارم ... ... ... ... تاريخ الموحدين الدروز السياسي في المشرق العربي – منشورات المجلس الدرزي للبحوث والإِنماء .(142/62)
أبو مصلح – حافظ ... ... ... ... ... ... ... ... واقع الدروز – معتقداتهم ، خلواتهم ، أدباؤهم – المكتبة الحديثة / بيروت .
أخوان الصفا ... ... ... ... ... ... ... ... ... رسائل أخوان الصفا وخلان الوفاء / تحقيق خير الدين الزركلي / المكتبة التجارية بمصر 1928 م .
الأطرش – فؤاد ... ... ... ... ... ... ... ... الدروز – مؤامرات وتاريخ وحقائق
ابن العماد الحنبلي ... ... ... ... ... ... ... ... شذرات الذهب في أخبار من ذهب / المكتب التجاري – بيروت .
بدوي – عبد الرحمن ... ... ... ... ... ... ... ... مذاهب الإِسلاميين / دار العلم للملايين – بيروت 1973 م .
البغدادي – عبد القاهر ... ... ... ... ... ... ... ... الفرق بين الفرق / دار الآفاق الجديدة – بيروت 1978 م .
البهي – محمد ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجانب الألهي في التفكير الإِسلامي / دار الكاتب العربي بالقاهرة 1967 م .
بوردو – بول هنري ... ... ... ... ... ... ... ... أميرة بابلية لدى الدروز – تعريب ميشيل سليم كميدر – المطبعة العصرية بالفجالة بمصر 1931 م .
البوطي – محمد سعيد رمضان ... ... ... ... ... ... ... كبرى اليقينات الكونية / دار الفكر – بيروت 1388 هـ .
البشبيشي – محمود ... ... ... ... ... ... ... ... الفرق الإسلامية / المكتبة التجارية بمصر 1932 م .
تامر – عارف ... ... ... ... ... ... ... ... ... القرامطة – دار مكتبة الحياة / بيروت .
ثابت – كريم خليل ... ... ... ... ... ... ... ... الدروز والثورة السورية وسيرة سلطان باشا الأطرش .
جمال الدين – محمد السعيد ... ... ... ... ... ... ... دولة الإسماعيلية في إيران / مؤسسة سجل العرب بالقاهرة 1975 م .(142/63)
جنبلاط – كمال ... ... ... ... ... ... ... ... المصحف المنفرد بذاته – طبعة بيروت .
جنبلاط – كمال ... ... ... ... ... ... ... ... هذه وصيتي – مؤسسة الوطن العربي / باريس 1978 م .
جلي – د . أحمد محمد أحمد ... ... ... ... ... ... ... دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين ( الخوارج والشعية ) مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإِسلامية / الرياض 1986 م / 1406 هـ .
الجندي – أنور ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإسلام والفلسفيات القديمة / دار الاعتصام بالقاهرة .
الجندي – أنور ... ... ... ... ... ... ... ... المؤامرة على الإِسلام / دار الاعتصام بالقاهرة .
حبنكة – عبد الرحمن حسن ... ... ... ... ... ... ... العقيدة الإسلامية وأسسها / دار القلم – دمشق 1979 م .
حتي – فيليب ... ... ... ... ... ... ... ... ... لبنان في التاريخ – ترجمة الدكتور أنيس فريحة دار الثقافة – بيروت 1959 م .
حسن – حسن إبراهيم وطه أحمد شرف ... ... ... ... ... ... عبيد الله المهدي إمام الشيعة الإسماعيلية / مكتبة النضهة المصرية بالقاهرة 1947 م .
حسن – حسن إبراهيم ... ... ... ... ... ... ... ... تاريخ الإسلام السياسي والديني والاجتماعي / مكتبة النهضة المصرية .
حسين – محمد كامل ... ... ... ... ... ... ... ... طائفة الإسماعيلية / مكتبة النهضة المصرية – القاهرة 1959 م .
حسين – محمد كامل ... ... ... ... ... ... ... ... طائفة الدروز – تاريخها وعقائدها / دار المعارف بمصر 1962 م .
الحلبي – رزق حسونة ... ... ... ... ... ... ... ... حسر اللثام عن الإسلام / مخطوط في الجامعة اليسوعية في بيروت رقم 697 / ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية / مركز الوثائق والمخطوطات رقم 749 .(142/64)
الحموي – ياقوت ... ... ... ... ... ... ... ... معجم البلدان / دار صادر 1968 م بيروت .
الحميري – محمد بن عبد المنعم ... ... ... ... ... ... ... الروض المعطار في خبر الأقطار – تحقيق د . إحسان عباس / مكتبة لبنان 1975 م .
حوى – سعيد ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإسلام – بيروت .
الخطيب – عبد الكريم ... ... ... ... ... ... ... ... الله – ذاتا وموضوعا / دار المعرفة – بيروت 1975 م .
الخطيب – د . محمد أحمد ... ... ... ... ... ... ... الحركات الباطنية في العالم الإسلامي – عقائدها وحكم الإسلام فيها مكتبة الأقصى / عمان وعالم الكتب / الرياض 1404 هـ / 1984 م .
دروز – رسائل ... ... ... ... ... ... ... ... ... بعض رسائل الدروز / المطبوعة على استانسل ، وموجودة في مكتبة الشيخ علي آل ثاني في الدوحة بقطر رقم 758 .
دروز – رسائل ... ... ... ... ... ... ... ... ... بعض رسائل الدروز / المطبوعة على استانسل ، وموجودة في مكتبة الشيخ علي آل ثاني في الدوحة بقطر رقم 758 .
دروز – رسائل ... ... ... ... ... ... ... ... ... بعض رسائل الدروز ورد شيخ الإسلام وغيره عليهم / مخطوط في المكتبة السعودية بالرياض – مكتبة دار الإِفتاء – تحت رقم 252 / 86 . ...
دروز – رسائل ... ... ... ... ... ... ... ... ... رسائل الدروز / مخطوطات في جامعة شيكاغو تحت الأرقام التالية 3736 ، 3740 ، 3741 ، 3744 ، 3745 – ويوجد أشرطة أفلام عنها في الجامعة الأردنية / مركز الوثائق والمخطوطات وأرقامها فيه على التوالي : 27 ، 29 .(142/65)
دروز – رسائل ... ... ... ... ... ... ... ... ... رسائل الدروز / مخطوطات في جامعة برنستون – مجموعة جاريت ، تحت الأرقام التالية : 1618 ، 1614 ، ب 395 ، 1612 ، ويوجد أشرطة أفلام عنها في الجامعة الأردنية / مركز الوثائق والمخطوطات وأرقامها فيه على التوالي : 133 ، 132 ، 135 .
دروز – رسائل ... ... ... ... ... ... ... ... ... رسائل الدروز / مخطوطات في جامعة ييل – مجموعة سالزبوري ، تحت الأرقام التالية : 45 ، 14 ، 47 ، 46 – ومجموعة العربي تحت رقم : 64 ومجموعة لاندبيرخ تحت رقم 733 – ويوجد أشرطة أفلام عنها ف الجامعة الأردنية / مركز الوثائق والمخطوطات وأرقامها على التوالي : 1 ، 2 ، 19 .
دروز – رسائل ... ... ... ... ... ... ... ... ... رسائل الدروز / مخطوطات في جامعة أكسفورد – مجموعة بودلي – مكتبة بودليان ، تحت الأرقام التالية : 454 ، 398 ، ومجموعة مارتس تحت رقم : 221 ، ويوجد أشرطة أفلام عنها في الجامعة الأردنية / مركز الوثائق والمخطوطات وأرقامها على التوالي : 530 ، 562 ، 563 .
دروز – رسائل ... ... ... ... ... ... ... ... ... رسائل الدروز / مخطوط في جامعة كولومبيا – مجموعة سميث – تحت رقم 20 ، ويوجد شريط فيلم عنه في الجامعة الأردنية / مركز الوثائق والمخطوطات تحت رقم 411 .
دروز – رسائل ... ... ... ... ... ... ... ... ... رسائل الدروز / مخطوطتان في الجامعة الأمريكية ببيروت – مكتبة القديس بولس ، تحت الأرقام التالية : 205 ، 1 ، ويوجد شريطي فيلم عنهما في الجامعة الأردنية / مركز الوثائق والمخطوطات تحت الرقمين التاليين . ... ... ... ... ... ... 715 ، 718 .
دروز – مصحف الدروز : ... ... ... ... ... ... ... مخطوط في مكتبة أحد الأشخاص ببيروت .(142/66)
الدسوقي – عمر ... ... ... ... ... ... ... ... أخوان الصفاء / دار إحياء الكتب العربية / القاهرة 1947 م .
دعاء – سيدنا الشيخ الفاضل ... ... ... ... ... ... ... دعاء سيدنا الشيخ الفاضل ، من أدعية الدروز ، ويوجد مخطوط يد عنه في مكتبة أحد الأشخاص ببيروت مع مجموعة رسائل للدروز .
الرازي – فخر الدين ... ... ... ... ... ... ... ... اعتقادات فرق المسلمين والمشركين / مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة 1938 م .
رضا – محمد رشيد ... ... ... ... ... ... ... ... فتاوي الإمام محمد رشيد رضا – تحقيق د . صلاح الدين المنجد دار الكتاب الجديد – بيروت 1970 م .
الزركلي – خير الدين ... ... ... ... ... ... ... ... الأعلام – قاموس وتراجم / الطبعة الثالثة .
الزعبي – محمد علي الزعبي ... ... ... ... ... ... ... الدروز – ظاهرهم وباطنهم .
الزعبي – محمد علي الزعبي وعلي ريعور ... ... ... ... ... ... البوذية وتأثيرها في الفكر والفرق الإسلامية المتطرفة قدم له كمال جنبلاط مطبعة الإنصاف – بيروت 1964 م .
السيوطي – جلال الدين ... ... ... ... ... ... ... ... حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة – دار إحياء الكتب العربي القاهرة 1967 م .
شاكر – محمود ... ... ... ... ... ... ... ... ... القرامطة – المكتب الإسلامي – بيروت 1979 م .
الشكعة – مصطفى ... ... ... ... ... ... ... ... إسلام بلا مذاهب / الدار المصرية للطباعة – بيروت .
شلبي – أحمد ... ... ... ... ... ... ... ... ... التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية / مكتبة النهضة المصرية – القاهرة
الشنتاوي – أحمد ورفاقه ( ترجمة ) ... ... ... ... ... ... دائرة المعارف الإسلامية / وزارة المعارف العمومية – القاهرة .(142/67)
الشهرستاني – محمد ... ... ... ... ... ... ... ... الملل والنحل – دار المعرفة – بيروت .
صالح – حسن عبد الحميد ... ... ... ... ... ... ... أبو الطاهر السلفي / المكتب الإسلامي – بيروت .
الصغير – سعيد ... ... ... ... ... ... ... ... ... بنو معروف ( الدروز ) في التاريخ / مطبعة الاتقان – بيروت 1374 هـ
طليع – أمين ... ... ... ... ... ... ... ... ... أصل الموحدين الدروز وأصولهم قدم له الشيخ محمد أبو شقرا ، شيخ عقل الدروز – دار الأندلس – بيروت 1961 م .
العجلوني – إسماعيل ... ... ... ... ... ... ... ... كشف الخفاء ومزيل الألباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس دار إحيار التراث العربي – بيروت .
عطية – أحمد ... ... ... ... ... ... ... ... ... القاموس الإسلامي / مكتبة النهضة المصرية / القاهرة 1966 م .
العصامي المكي – عبد الملك ... ... ... ... ... ... ... سمط النجوم العوالي في أبناء الأوائل والتوالي / المطبعة السلفية – القاهرة 1379 هـ .
عنان – محمد عبد الله ... ... ... ... ... ... ... ... الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية / دار النشر الحديث – القاهرة 1937 م
غالب – مصطفى ... ... ... ... ... ... ... ... الحركات الباطنية في الإسلام / دار الكاتب العربي – بيروت .
الغزالي – أبو حامد ... ... ... ... ... ... ... ... فضائح الباطنية – تحقيق د . عبد الرحمن بدوي / مؤسسة دار الكتب الثقافية – الكويت .
الفوزان – أحمد ... ... ... ... ... ... ... ... ... أضواء على العقيدة الدرزية – 1979 م .(142/68)
فياض – زيد بن عبد العزيز ... ... ... ... ... ... ... حلقات حقيقة الدروز بمجلتي . ... ... ... ... ... ... ... أ – المنهل جزء 3 مجلد 20 شهر ربيع ثاني 1379 هـ . ... ... ... ... ب – راية الإسلام 8 ، 9 ، 10 ، 11 سنة أولى 1380 هـ و 1 ، 2 سنة ثانية 1381 هـ .
القرماني – أحمد ... ... ... ... ... ... ... ... ... أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ / عالم الكتب – بيروت .
القلقشندي – أحمد ... ... ... ... ... ... ... ... صبح الأعشى في صناعة الإنشا / المؤسسة المصرية العامة – القاهرة .
كرد علي – محمد ... ... ... ... ... ... ... ... خطط الشام / دار العلم للملايين – بيروت 1969 م .
كوثراني – د . وجيه ... ... ... ... ... ... ... ... ... بلاد الشام / السكان ، الإقتصاد والسياسة الفرنسية في مطلع القرن العشرين . ... معهد الإنماء العربي / الطبعة الثانية 1984 م .
الكوثري – محمد زاهد ... ... ... ... ... ... ... ... ... من عبر التاريخ / مكتب نشر الثقافة الإسلامية .
لويس – برنارد ... ... ... ... ... ... ... ... ... أصول الإسماعيلية – ترجمة خليل جلود ورفيقه / مكتبة المثنى / بغداد
متز – آدم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري – ترجمة محمد أبو ريدة / مكتبة الخانجي – القاهرة 1967 م .
المقدسي – عبد الرحمن ... ... ... ... ... ... ... ... الروضتين في أخبار الدولتين / دار الجيل – بيروت .
المقريزي – أحمد ... ... ... ... ... ... ... ... الخطط المقريزية / دار إحياء العلوم – بيروت .
مكارم – سامي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أضواء على مسلك التوحيد ( الدرزية ) / دار صادر – بيروت 1966 م(142/69)
مؤلف مجهول ... ... ... ... ... ... ... ... ... في تقسم جبل لبنان / مخطوط في الجامعة الأمريكية ببيروت تحت رقم 31 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية / مركز الوثائق والمخطوطات رقم 699 .
مؤلف مجهول ... ... ... ... ... ... ... ... ... تعليم دين التوحيد ( المعروف بدين الدرزية ) .
مؤلف مجهول ... ... ... ... ... ... ... ... ... رسالة السؤال والجواب / مخطوط في الجامعة الأمريكية ببيروت تحت رقم 206 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية / مركز الوثائق والمخطوطات رقم 715 .
مؤلف مجهول ... ... ... ... ... ... ... ... ... ذكر ما يجب أن يعرفه الموحد ويعتقد به ويسلك بموجبه ، وهو موجز عن كتاب الفرايض / مخطوط في الجامعة الأمريكية ببيروت – مكتبة القديس بولس تحت رقم 206 ، ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية / مركز الوثائق والمخطوطات رقم 715 .
مؤلف مجهول ... ... ... ... ... ... ... ... ... مذكرة مطبوعة على الآلة الكاتبة بعنوان ( أيها الدرزي عودة إلى عرينك ) .
مؤلف مجهول ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... لبعضهم قول وجيز / مخطوط في الجامعة الأمريكية ببيروت / مكتبة القديس بولس رقم 206 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية / مركز الوثائق والمخطوطات رقم 715 .
مؤلف مجهول ... ... ... ... ... ... ... ... ... كتاب النقط والدوائر – من كتب الدروز الدينية – طبع ديودي جانيرو البرازيل سنة 1920 م طبعة منير اللبابيدي .
محمد حسين ... ... ... ... ... ... ... ... ... شرح الميثاق / مخطوط في جامعة شيكاغو رقم 3737 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية / مركز الوثائق والمخطوطات رقم 29 .(142/70)
مؤلف مجهول ... ... ... ... ... ... ... ... ... رسالة في معرفة سر ديانة الدروز / مخطوط في جامعة ييل – مجموعة سالزبوري – رقم 91 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية / مركز الوثائق والمخطوطات رقم 2 .
المؤيد في الدين ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ديوان المؤيد في الدين داعي الدعاة – تحقيق محمد كامل حسين / دار الكاتب المصري – 1949 م .
النجار – عبد الله ... ... ... ... ... ... ... ... مذهب الدروز والتوحيد / دار المعارف بمصر 1965 .
وجدي – محمد فريد ... ... ... ... ... ... ... ... دائرة معارف القرن العشرين / دار المعرفة – بيروت 1971 م .
========
فهرس الموضوعات
مقدمة الطبعة الأولى .............................................................................................. 5
التمهيد : نشأة الدروز وصلتهم بالإِسماعيلية الباطنية ................................... 13
الباب الأول : شخصية الحاكم بأمر الله وأثرها في عقيدة الدروز وأشهر دعاة الدروز وآراؤهم ......................................................................................................... 42
الفصل الأول : الحاكم بأمر الله : حياته وآراؤه وأثرها في عقيدة الدروز 43
الفصل الثاني : تطور المذهب الدرزي بعد الحاكم .................................. 87
الفصل الثالث : أشهر دعاة الدروز وآراؤهم ................................................ 117
الباب الثاني : عقيدة الدروز والرد عليها ........................................... 133
الفصل الأول : عقيدة الدروز ... .................................................................. 134
الفصل الثاني : الرد على عقيدتهم ......................................................... 216(142/71)
الباب الثالث : شريعة الدروز وتقسيم المجتمع عندهم وموقفهم من الأديان والفرق الأخرى .................................................................................. 229
الفصل الأول : شريعة الدروز وتقسيم المجتمع عندهم .................... 230
الفصل الثاني : موقف الدروز من الأديان والفرق الأخرى ...................... 266
الخاتمة ......................................................................................................... 281
المصادر والمراجع ....................................................................................... 291
فهرس الموضوعات ............................................................................. 305
تم بحمد الله
ونسألكم الدعاء بظهر الغيب(142/72)
عقيدة الشيعة
و
تاريخهم الأسود
جمع وإعداد
وليد كمال شكر
بسم الله الرحمن الرحيم
مما لا يخفى أن هذا العصر شاع فيه الإلحاد والزيغ والفسوق والبدع والطعن في الإسلام وشعائره وفي سلف الأمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم وانتشرت الفتن وقام أهل الباطل يضلون العباد بآرائهم الفاسدة ويغيرون دين الله ويحرفون كتاب الله باسم الإسلام بدون حياء أو مروءة وينشرون الإلحاد والزندقة والفسق والفجور باسم الدين الإسلامي الحنيف. ...
وأخطر هذه الفتن وأخبثها فتنة الرفض والتشيع يفتن بها الجهال وسفهاء الناس بشعار حب أهل البيت والأئمة. وقد قام أهلها لترويجها ونشرها بصورة خطيرة وبدءوا يستخدمون لغرضهم هذا كل الوسائل الحديثة. ويبذلون لباطلهم الغالي والنفيس ويستعلمون له جميع المكايد والحيل. اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
والواجب على دعاة المسلمين ووعاظهم ومصلحيهم وعامة علمائهم أن يكشفوا حقيقة هذه الفتنة الخبيثة ويبينوا زيغها وبطلانها للناس ليحفظوا إيمانهم ويصونوا عقائدهم.
ومما لا يخفى أنه قد بدأت فتنة الشيعة بجهود عبدالله بن سبأ اليهودي عدو الإسلام والمسلمين وأتباعه: زرارة وأبي بصير وعبدالله بن يعفور وغيرهم من الكذابين المارقين ليطمسوا بها حقائق الإسلام ويمزقوا بين صفوف المسلمين.
ونسبوا هذه العقائد الشيعية إلى سيدنا علي رضي الله عنه وآله الطيبين افتراء منهم مع أنهم رضي الله عنهم براء منها، فإن عليا وآله كانوا من أعلام أهل السنة والجماعة.
وقد عاش علي وآله إلى جعفر الصادق رضي الله عنهم في بيئة المدينة المنورة وبيئة الإيمان والإسلام والكتاب والسنة وكانت عباداتهم وسائر أعمالهم وفق أعمال عامة أهل السنة والجماعة
عقائدهم الفاسدة
الأمر الأول :عقيدة الشرك بالله
يذكر محمد بن يعقوب الكليني في أصول الكافي وهو من أشهر كتبهم (باب أن الأرض كلها للإمام)(143/1)
عن أبي عبدالله عليه السلام( يعنى سيدنا عليا ) قال إن الدنيا والآخرة للإمام- يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء-جائز له من الله ) فماذا يستنبط المسلم المنصف من هذه العبارة، مع أن الله تعالى يقول في محكم آياته ((إن الأرض لله يورثها من يشاء )) أصول الكافي ص259-طبعة الهند.
والشيعة يكتبون (قال علي:.....أنا الأول وأنا الآخر وأنا الظاهر وأنا الباطن وأنا وارث الأرض) رجال الكشي ص 138-طبعة الهند. وهذه العقيدة أيضا باطلة مثل الأولى. وعلي رضي الله عنه بريء منها وما هذا إلا افتراء عظيم عليه وحاشاه أن يقول ذلك. والله يقول جل جلاله ((هو الأول والآخر والظاهر والباطن.((
الأمر الثاني: عقيدة البداء :
وهو بمعنى الظهور بعد الخفاء، كما في قوله تعالى: ((وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون)) سورة الزمر. أو بمعنى: نشأة رأي جديد لم يكن من قبل كما في قوله تعالى ((ثم بدا لهم بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين)) سورة يوسف .
والبداء بمعنييه يستلزم سبق الجهل وحدوث العلم وكلاهما محال على الله عز وجل فإن علمه تعالى أزلي وأبدي لقوله تعالى: ((وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين((.
والشيعة ذهبوا إلى أن البداء متحقق في الله عز وجل كما تدل عليه العبارات الآتية من مراجعهم
ذكر محمد بن يعقوب الكليني في كتابه "أصول الكافي" بابا كاملا في البداء وسماه (باب البداء) وأتى فيه بروايات منها ( بدا لله في أبي محمد بعد أبي جعفر ما لم يعرف له، كما بدا له في موسى بعد مضي إسماعيل ما كشف به عن حاله وهو كما حدثتك نفسك وإن كره المبطلون. وأبو محمد ابني الخلف من بعدي وعنده علم ما يحتاج إليه ومعه آلة الإمامة) أصول الكافي ص40.(143/2)
وقد كذبوا على الله في ذلك وعلى أئمتهم-يظنون في الله غير الحق ظن الجاهلية- يدعون أن الله كان يريد الإمامة لأبي جعفر ثم لما مات قبل أن يصبح إماما حينئذ بدا لله العلي القدير أن يكون الإمام أبومحمد ففعل، وذلك كما أنه قد كان يريد الله أن يجعل إسماعيل إماما ثم (والعياذ بالله) بدا لله الرأي الجديد فغير رأيه السابق فجعل موسى الكاظم إماما للناس- وهكذا يفترون على الله الكذب سبحانه اتباعا لأهوائهم فلهم الويل لما يصفون.
ونسوا قاتلهم الله أنه ينتج من أكاذيبهم هذه نسبة الجهل إلى الله العليم الخبير الحكيم الجليل، وهو كفر بواح. ...
ثم إن أقوالهم وادعاءاتهم هذه كلها ظاهرة البطلان فإنه يلزم من عقيدة البداء (نعوذ بالله) أن الله تعالى شأنه كان يجهل هذه الأشياء التي جاءت مؤخرا ثم لما حدثت وعلم بها الله غير سبحانه رأيه القديم وأنشأ رأيا جديدا حسب الظروف والأحوال الجديدة ونسبة الجهل إلى الله تعالى كفر صحيح كما مقرر في محله
الأمر الثالث :عقيدة عصمة الأئمة الاثنى عشر:
ذكر محمد بن يعقوب الكليني في "أصول الكافي" عن أبي عبدالله عليه السلام قال (( ما جاء به علي عليه السلام أخذ به وما نهى عنه انتهي عنه جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمد صلى الله عليه وسلم ولمحمد الفضل على جميع من خلق الله المتعقب عليه في شيء من أحكامه كالمتعقب على الله وعلى رسوله والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله.....وكذلك يجري لأئمة الهدى واحدا بعد واحد جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بأهلها-حجته البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى وكان أمير المؤمنين صلوات الله عليه كثيرا ما يقول أنا قسيم الله بين الجنة والنار أنا الفاروق الأكبر أنا صاحب العصا والميسم ولقد أقرت لي جميع الملائكة والروح والرسل بمثل ما أقروا به لمحمد ولقد حملت على مثل حمولته وهي حمولة الرب )) أصول الكافي كتاب الحجة ص117 .(143/3)
ونقل الكليني أيضا (قال الإمام جعفر الصادق: نحن خزان علم الله نحن تراجمة أمر الله نحن قوم معصومون-أمر الله تعالى بطاعتنا ونهى عن معصيتنا ونحن حجة الله البالغة على من دون السماء وفوق الأرض)) المرجع السابق ص165.
الأمر الرابع : عقيدة أن القرآن الموجود محرف ومبدل فيه :
- إن الشيعة لا يؤمنون بالقرآن الموجود بين أيدي المسلمين لأنه حسب عقيدة الشيعة الصحابة كلهم كذابون وكذا أئمة أهل البيت كاذبون وأصحاب تقيةوكانوا يعتقدون أن الكذب عبادة".
فإذا صار سائر الصحابة وأئمة أهل البيت كاذبين فمن الذي يبلغهم هذا القرآن المجيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقيقته.(143/4)
- كما أن روايات الشيعة الصحيحة عندهم المروية في كتبهم المعتمدة التي تتجاوز عن ألفي رواية (والتي تعتبر عندهم متواترة) وكلها تصرح بأن القرآن الموجود بين أيدينا محرف ومبدل نقص منه وزيد فيه ولا نجد رواية واحدة صحيحة في سائر كتب الشيعة والتي تدل على أن القرآن (الموجود بين أيدينا) غبر محرف وأما ما يحتج بعض الشيعة بأقوال العلماء الأربعة منهم فقط وهم الشريف المرتضى وأبوجعفر الطوسي وأبوعلي الطبرسي والشيخ الصدوق.بأنهم جحدوا ثبوت التحريف في القرآن الكريم فاحتجاجهم بهؤلاء الأربعة احتجاج باطل فإن مدار مذهب الشيعة على مذهب الأئمة المعصومين وجمهور المحدثين منهم ورواياتهم التي تتجاوز عن ألفين ذهبت كلها إلى التحريف فما وزن أقوال هؤلاء المساكين الأربعة أمام أقوال الأئمة المعصومين وجمهور المحدثين منهم وأعلام الشيعة الكبار القدماء. ثم أيضا فإن هؤلاء الأربعة ما قالوا بعدم التحريف إلا تقية لأجل الظروف التي كانت لا تسمح لهم فيها بالقول بالتحريف-وخاصة إذا علم فضيلة التقية وعظم مرتبتها عندهم وسنذكر شيئا منه في هذا الكتاب في محله إن شاء الله. وحتى أن محققي الشيعة نقدوا أقوال هؤلاء الأربعة كما قال الحسين بن محمد تقي النوري الطبرسي في كتابه ( فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) ص33 ما نصه: (لم يعرف من القدماء موافق لهم) ونود أن نقدم نبذة يسيرة من الروايات الدالة على تحريف القرآن مع توثيقها وتصحيحها من كتب الشيعة المعتمدة.
أخرج الكليني في أصول الكافي تحت (باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة وأنهم يعلمون علمه كله): (عن جابر قال: سمعت أباجعفر عليه السلام يقول ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزله الله إلا كذاب وما جمعه وحفظه كما أنزله الله إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده).(143/5)
وذكر الكليني أيضا في أصول الكافي ص670 طبعة الهند: (عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: دفع إلي أبوالحسن عليه السلام مصحفا وقال لا تنظر فيه ففتحته وقرأت فيه "لم يكن الذين كفروا" فوجدت فيه سبعين رجلا من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم.
وذكر الكليني في أصول الكافي ص 263: (باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية): عن أبي عبدالله عليه السلام "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل كلمات في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذريتهم فنسي" هكذا والله أنزلت على محمد صلى الله عليه وآله.
ونقل الكليني أيضا في أصول الكافي ص264: (عن أبي عبدالله عليه السلام قال: نزل جبريل على محمد بهذه الآية هكذا "يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا في علي نورا مبينا(.
وبعضهم يقولون أن عثمان أحرق المصاحف وأتلف السور التي كانت في فضل علي وأهل بيته عليهم السلام منها هذه السورة: (("بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنورين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي ويحذرانكم عذاب يوم عظيم نوران بعضهما من بعض وأنا السميع العليم" ((
الأمر الخامس : عقيدة إهانة الرسول صلى الله عليه وسلم وإهانة الحسن والحسين رضي الله عنهما:
نسبت الشيعة كذبا وزورا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تمتع مرة كانت درجته كدرجة الحسين، ومن تمتع مرتين فدرجته كدرجة الحسن، ومن تمتع ثلاث مرات كانت درجته كدرجة علي بن أبي طالب، ومن تمتع أربع مرات فدرجته كدرجتي) تفسير منهج الصادقين،ص 356، لمصنفه محمد الملا الكاشاني.
انظروا إلى هؤلاء الحمقى أفدرجة الحسين رضي الله عنه هينة إلى هذا الحد- إننا أهل السنة والجماعة(143/6)
نعتقد أن الرجل مهما عبد الله بشتى أنواع العبادات العظيمة فإنه لا يستطيع بحال أن يبلغ درجة أدنى فرد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بسيد شباب أهل الجنة وسبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كيف بدرجة أخيه الأكبر الحسن ودرجة والده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنه. وأما عن بهتانهم ووقاحتهم في شأن سيد الأولين والآخرين وأفضل الرسل أجمعين أن من تمتع أربع مرات تصبح درجته كدرجته صلى الله عليه وسلم . فاللهم إنا نبرأ إليك مما يدعي هؤلاء الخبثاء ونكل أمرهم إلى الله الجبار القهار-ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الأمر السادس :عقيدة إهانة أمهات المؤمنين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم :
يقول محمد الباقر المجلسي في حق اليقين ما ترجمته بالعربية)):وعقيدتنا الشيعة في التبرؤ: أننا نتبرأ من الأصنام الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية، والنساء الأربع: عائشة وحفصة وهند وأم الحكم، ومن جميع أتباعهم وأشياعهم، وأنهم شر خلق الله على وجه الأرض، وأنه لا يتم الإيمان بالله ورسوله والأئمة إلا بعد التبرؤ من أعدائهم)) وهذا واضح في إهانة عائشة وحفصة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم مع غيرهن، والله سبحانه وتعالى يقول عنهن "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم" الآية..
الأمر السابع :إهانتهم لأصحاب النبى صلى الله عليه وسلم :
ذكر المجلسي بالفارسية مامعناه بالعربية: (قال سلمان: ارتد الناس جميعا بعد رسول الله إلا الأربعة، وصار الناس بعد رسول الله بمنزلة هارون وأتباعه وبمنزلة العجل وعباده، فكان علي بمنزلة هارون، وأبوبكر بمنزلة العجل وعمر بمنزلة السامري) .(143/7)
وذكر الكشي صاحب معرفة أخبار الرجال (رجال كشي) قال: (قال أبوجعفر عليه السلام: ارتد الناس إلا ثلاثة نفر، سلمان وأبوذر والمقداد، قال: قلت: فعمار؟ قال: قد كان حاص حيصة ثم رجع، ثم قال: إن أردت الذي لم يشك ولم يدخله شيء فالمقداد، وأما سلمان فإنه عرض في قلبه عارض.. وأما أبوذر فأمره أمير المؤمنين بالسكوت ولم يكن تأخذه في الله لومة لائم فأبى أن يتكلم )).
الأمر الثامن :عقيدة التقية وفضائلها عندهم :
ومعنى التقية عند الشيعة: الكذب المحض أو النفاق البين كما هو ظاهر من رواياتهم.وإليك بعض هذه الروايات عن عقيدة الشيعة في التقية وفضائلها من كتبهم المعتبرة:
ونقل الكليني أيضا : (قال أبو جعفر عليه السلام: التقية من ديني ودين آبائي ولا إيمان لمن لا تقية له(
ونقل الكليني أيضا: (عن أبي عبدالله عليه السلام قال: اتقوا على دينكم واحجبوه بالتقية فإنه لا إيمان لمن لا تقية له) .
وينقل الكليني أيضا: (عن أبي عبدالله عليه السلام في قول الله عز وجل (لا تستوي الحسنة ولا السيئة) قال: الحسنة: التقية، والسيئة: الإذاعة، وقوله عز وجل: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) قال: التي هي أحسن: التقية) .
ونقل الكليني: (عن درست الواسطي قال: قال أبو عبدالله عليه السلام: ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف، أن كانوا يشهدون الأعياد ويشهدون الزنانير فأعطاهم الله أجرهم مرتين) كذا في أصول الكافي في باب التقية.
ونقل الكليني (عن سليمان خالد قال: قال أبوعبدالله عليه السلام: إنكم على دين من كتمه أعزه الله ومن أذاعه أذله الله).
اعلم أن ما تقدم من عقيدة الشيعة ورواياتهم فإنها تخالف نصوص القرآن:
قال تعالى: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته".
وقال تعالى: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله".
وقال تعالى: "اتل ما أوحي إليك من كتاب ربك".
وقال تعالى: "فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين".(143/8)
وقال تعالى: "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون".
وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين".
وقال تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون".
حكم التقية في الإسلام :
إن التقية في الإسلام أشد حرمة من أكل لحم الخنزير، إذ يجوز للمضطر أكل لحم الخنزير عند الشدة،
وكذلك التقية تجوز في مثل تلك الحالة فقط فلو أن إنسانا تنزه عن أكل لحم الخنزير في حالة الاضطرار أيضا ومات فإنه آثم عند الله، وهذا بخلاف التقية فإنه إذا لم يلجأ إليها عند في حالة الاضطرار ومات فإن له درجة وثوابا عند الله، فكأن رخصة أكل لحم الخنزير تنتقل إلى العزيمة لكن لا تنتقل رخصة التقية إلى العزيمة. بل إنه إن مات لدين الله ولم يحتم بالتقية فإنه سيؤجر على موته هذا أجرا عظيما والعزيمة فيها على كل حال أفضل من التقية، والتاريخ الإسلامي من تحمل الرسول صلى الله عليه وسلم إيذاء المشركين وكذا الصديق وبلال وغيرهما رضي الله عنهما وشهادة سمية أم عمار وشهادة خبيب وغيرهم رضي الله عنهم كلها وإلى غير ذلك من وقائع وقصص نادرة في البطولة والعزيمة في مسيرة هذه الأمة الطويلة لخير دليل على أن العزيمة هي الأصل والأفضل والأحسن.
الأمرالتاسع :عقيدة المتعة وفضائلها عنده(143/9)
وذكر فتح الله الكاشاني في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تمتع مرة كان درجته كدرجة الحسين عليه السلام، ومن تمتع مرتين فدرجته كدرجة الحسن عليه السلام، ومن تمتع ثلاث مرات كان درجته كدرجة علي ابن أبي طالب عليه السلام، ومن تمتع أربع مرات فدرجته كدرجتي" ) ...
وذكر الكاشاني أيضا: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ومن خرج من الدنيا ولم يتمتع جاء يوم القيامة وهو أجدع" (2)، ونقل الكاشاني في تفسيره أيضا بالفارسية وترجمته بالعربية: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال جاءنى جبريل فقال يا محمد إذا عقد المؤمن من المؤمنة عقد المتعة فلا يقوم من مكانه إلا وقد غفر الله له ويغفر للمؤمنة أيضا....".
روى عن الصادق عليه السلام بأن المتعة من ديني ودين آبائي فالذي يعمل بها يعمل بديننا والذي ينكرها ينكر ديننا بل إنه يدين بغير ديننا. وولد المتعة أفضل من ولد الزوجة الدائمة ومنكر المتعة كافر مرتد ) تفسير منهج الصادقين، ص 356، مصنفه ملا فتح الله كاشاني.
الأمر العاشر : عقيدة جواز استعارة الفرج :
نقل أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في الاستبصار (عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: الرجل يحل لأخيه فرج جاريته؟ قال:نعم لا بأس به له ما أحل له منها))
ونقل الطوسي في الاستبصار أيضا (عن محمد بن مضارب قال: قال لي أبو عبدالله عليه السلام: يا محمد خذ هذه الجارية تخدمك وتصيب منها فإذا خرجت فارددها إلينا) الاستبصار،ج3،ص136،أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي.
الأمرالحادى عشر: عقيدة جواز اللواطة بالنساء :
وفي الاستبصار أيضا (عن علي بن الحكم قال: سمعت صفوان يقول: قلت للرضا عليه السلام: أن رجلا من مواليك أمرني أن أسألك عن مسألة فهابك واستحيا منك أن يسألك، قال: ما هي؟ قال: للرجل أن يأتي امرأته في دبرها؟ قال: نعم ذلك له)(143/10)
وفي الاستبصار أيضا (عن يونس بن عمار قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام أو لأبي الحسن عليه السلام أني ربما أتيت الجارية من خلفها يعني دبرها وهي تفزرت فجعلت على نفسي إن عدت إلى امرأة هكذا فعلي صدقة درهم وقد ثقل ذلك علي، قال: ليس عليك شيء وذلك لك) الاستبصار،ج3،ص243. اللهم جنبنا الفواحش والمعاصي والفتن ما ظهر منها وما بطن...آمين....
الأمر الثانى عشر :عقيدة الرجعة
أى رجعة الإمام الغائب الذى دخل السرداب وسوف يخرج منه وهو المهدى المنتظرعندهم لذلك كلمة المنتظر خاصة بالشيعة لأن أهل السنة لا ينتظرون المهدى بخلاف الشيعة فإنهم يعطلون كثيرا من الفرائض انتظارا للإمام الغائب
وذكر الملا محمد الباقر المجلسي في حق اليقين كلاما طويلا بالفارسية حاصله أنه إذا ظهر المهدي عليه السلام (قبيل القيامة) فإنه سينشق جدار قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ويخرج أبا بكر وعمر من قبريهما فيحييهما ثم يصلبهما (والعياذ بالله) فإنه لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور".
تاريخ الشيعة(143/11)
يقول البعض إن التشيع قد ارتبط ـ تاريخيا ـ بالثورة والمقاومة لحكام الجور ... وأن أهل السنة قد كانوا مستسلمين، أو أقل مقاومة من الشيعة عبر تاريخ الإسلام !..وهذه المقولة ..التي يروج لها الخبثاء في صفوف الجهلاء ـ هي واحدة من الأوهام، المضادة للحقائق الصلبة التي امتلأت بها صفحات التاريخ ... ...
لقد فتح المسلمون الأوائل في ثمانين عام أوسع مما فتح الرومان في ثمانية قرون ... وأزالوا القوى العظمى التي استعمرت الشرق وقهرته ...دينيا ... وثقافيا ... ولغويا ... وحضاريا ... لأكثر من عشرة قرون، من الإسكندرالأكبر {356-324 ق م} إلى "هرقل" {610-641م} في القرن السابع للميلاد ... ...
وبهذا الفتح الإسلامي المبين، فتح هؤلاء الفاتحون الطريق أمام انتشار الإسلام من المغرب ـ غرباـ إلى الصين ـ شرقا .ومن حوض نهر الفولجا ـ شمالا ـ إلى جنوبي خط الاستواء ...وجميع هؤلاء الفاتحين ـ من الخلفاء والصحابة والمجاهدين ـ يتولاهم أهل السنة ، ويصلون ويسلمون عليهم ، ويعتبرونهم الأئمة والقادة الذين أقاموا الدين ونشروه ، وأسسوا الدولة ومدوا لها الحدود ...وأتم الله على أيديهم هذه النعمة التي نعيش فيها وعليها حتى يومنا هذا ...كما كانوا هم المؤسسين لقواعد الحضارة الإسلامية التي أنارت العالمين ...
بينما الشيعة ـ باستثناء الزيدية ـ قد حرموا أنفسهم ـ مع شديد الأسف ـ من هذا الرصيد التاريخي المجيد، وذلك عندما حكموا على جمهور هذا الجيل الفريد ـ من الصحابة ـ بالكفر والردة .. بل وأوجبوا لعنهم والبراءة منهم ـ والعياذ بالله ...
إن عمر بن الخطاب الذي رفع أسس الدولة الإسلامية، وقاد الفتوحات العظمى التي أزالت طاغوت الفرس والروم ...والذي لولاه ـ بتوفيق من الله ـ لكان الشيعة يعبدون حتى الآن النار التي كان يعبدها أجدادهم المجوس ..(143/12)
إن عمر بن الخطاب هذا هو ـ في الفكر السني ـ الفاروق ...والملهم ... وأحد أعظم عظماء الإسلام .. بينما هو في رأي الشيعة :الكافر ..المرتد ..وابن الزنى .. وابن الشيطان ..حتى لقد أقاموا ـ في إيران ـ مزار لقاتله "أبو لؤلؤة المجوسي" يزورونه ويحجون إليه فأين المجد التاريخي ؟..وأين الفقر والبؤس والخواء ؟..أهو في تاريخ السنة ؟..أم في تاريخ هذا القطاع من الشيعة الذين حرموا أنفسهم من أمجد أمجاد تاريخ الإسلام ؟!..
تلك واحدة ـ مجرد واحدة ..من الحقائق التي يجب أن يعيها الشباب الذين يجري التغرير بهم والذين يجب أن يعرفوا الرصيد التاريخي لمذهب أهل السنة والجماعة ، الذي هو رصيد الإسلام والفتوحات الإسلامية والحضارة الإسلامية ..أما الذين يكفرون بجمهور الصحابة ويلعنونهم ، فإنهم الفقراء في التاريخ ..والفقراء في الأمجاد ..والفقراء في كل ما يعتز به الإسلام والمسلمون ...اللهم إلا إذا أعادوا النظر في هذا التراث البائس المعادي لأعظم وأجمل ما في تاريخ الإسلام والمسلمين .
أما تاريخ الشيعة فهو التاريخ الأسود امتلأ بدماء أهل السنة وخيانة الأمة والوقوف إلى جانب الأعداء ومن شك فى ذلك فليسأل التاريخ
- من الذي تآمر مع التتار ؟ حتى استولوا على بغداد وقتلوا الخليفة المستعصم، وقتلوا معه- غدرا وفي ساعة واحدة- مائتي وألف شخصية من العلماء والوجهاء والقضاة، واستمرت المذابح فيها بضعا وثلاثين يوما، قتل فيها ثمانمائة ألف مسلم ومسلمة؟.
- من الذي تسبب في انحسار المد الإسلامي العثماني ؟ في أرجاء أوروبا، وطعن الخليفة العثماني في ظهره بزحفه على عاصمة الخلافة بينما كان يتغلغل بجيوشه في أحشاء النمسا إلى أن دخل قلب "فيينا"، وكادت أوربا تدخل في حظيرة الإسلام لولا اضطرار الجيش العثماني إلى الانسحاب والرجوع إلى الرافضة لدحرهم ودفعهم؟ "
- من الذي تحالف مع ملك المجر ضد الدولة العثمانية.(143/13)
- من الذي سلم أرض المسلمين في باكستان الشرقية لقمة سائغة للهندوس ؟ حتى يقيموا عليها الدولة المسخ "بنجلاديش "؟(4). يقول الشيخ إحسان إلهي ظهير: "وهاهي باكستان الشرقية ذهبت ضحية بخيانة أحد أبناء"قزلباش " الشيعة يحيى خان في أيدي الهندوس (5) وقد عارض شيوخ الشيعة في باكستان تطبيق الشريعة الإسلامية ، وقال زعيم مفتي جعفر حسين في مؤتمر صحفي بأن الشيعة يرفضون تطبيق الحدود الإسلامية ، لأنها ستكون على مذهب أهل السنة . ( الأنباء الكويتية في 1/5/1979م().
- ماذا فعلت الدولة الصفوية التي أسسها الشاه إسماعيل الصفوي فُرِض التشيع الاثنى عشري على الإيرانيين قسرا وجُعل المذهب الرسمي لإيران.ولقد أعمل سيفه في أهل السنة، وكان يتخذ سب الخلفاء الثلاثة وسيلة لامتحان الإيرانيين، فمن يسمع السب منهم يجب عليه أن يهتف قائلا: "بيش باد كم باد"، هذه العبارة تعني في اللغةالأذربيجانية أن السامع يوافق على السب ويطلب المزيد منه، أما إذا امتنع السامع عن النطق بهذه العبارة قطعت رقبته حالا، وقد أمر الشاه أن يعلن السب في الشوارع والأسواق وعلى المنابر منذرا المعاندين بقطع رقابهم .
- أما حسن نصر الله فإنه يهنأ بشيوخه من الرافضة الذين أقاموا الدولة الصفوية.. التي تعاونت مع الأعداء من البرتغال ثم الإنجليز ضد المسلمين وتشجيعها لبناء الكنائس ودخول المبشرين والقسس مع محاربتهم للسنة وأهلها .وما يقول حسن نصر الله في أسياده بطهران الذين لم يسمحوا ببناء مسجد واحد لأهل السنة حتى اليوم على الرغم من أنها تضم على مرأى ومسمع من الحكومة الإيرانية اثني عشر كنيسة ، وأربع معابد يهودية وعددا من معابد المجوس عبدة النار ؟
أمام الحقائق ينهار هذا المديح الفارغ،لنعد إلى الوراء قبل أن نتكلم عن حلم حزب الله بتكوين دولة تقوم على تبني المذهب الجعفري الاثنى عشري منهجا ونظاما .(143/14)
- من الذى قتل قادة المجاهدين ضد الصليبيين قتلوا الأمير مودود صاحب الموصل ، قتلوه بعد فراغه من صلاة الجمعة في مسجد دمشق وهو صائم، وجاء كتاب من الفرنج إلى المسلمين فيه: "إن أمة قتلت عميدها في يوم عيدها في بيت معبوده لحقيق على الله أن يبيدها".
وقتلوا قائدا آخر من قادة الجهاد ضد الصليبيين وهو الأمير قسيم الدولة آقسنقر البرسقي سنة 520 هـ قتلوه في المسجد الجامع بعد صلاة الجمعة .
وحاولوا قتل صلاح الدين الأيوبي سنة 570 هـ داخل معسكر جيشه، ومرة أخرى سنة 571 هـ وهو محاصر لحلب ... وحاربوا صلاح الدين ونور الدين محمود زنكي .
وتحالفوا مع الفرنجة أيام أن كانت لهم دولة في مصر وهي الدولة الفاطمية .
- ماضي منظمة أمل الشيعية التي خرج منها "حزب الله " أسود فلقد: قتلوا المئات من الفلسطينيين وأهل السنة في المخيمات الفلسطينيةعندما فتحوا الطريق أما الجيش الإسرائيلى لينفذ أشهر مذبحة فى تاريخ فلسطين وهى صابرا وشاتيلا ودفعوا أهل السنة من الفلسطينيين لأكل القطط والكلاب
وفعلوا ما لم تفعله إسرائيل وسقط من الفلسطينيين 3100 بين قتيل وجريح وذبحوهم من الأعناق
المصادر
1- بطلان عقائد الشيعة وبيان زيغ معتنقيها ومفترياتهم على الإسلام من مراجعهم الأساسية /للعلامة: محمد عبدالستار التونسوي .
2- جرائم وغدر الشيعة الإثني عشرية بالمسلمين عبر التاريخ ( نقلا من شبكة أنصار الحسين )
3- مقال الدكتور محمد عمارة حول الشيعة ( صحيفة المصريين ) .(143/15)
عقيدة أهل البيت
عليهم السلام
بقلم
عبد الله بن جوران الخضير
* حقوق الطبع محفوظة *
* الطبعة الرابعة *
(1425هـ - 2005م)
* طبعة منقحة ومزيدة *
* ومرتبة ترتيباً جديداً *
المقدمة
الحمد لله العزيز الغفار القائل: ((وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) [العصر:3].
والصلاة والسلام على سيدي ومولاي سيد الأنام وغرة الزمان محمد بن عبد الله القائل: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك), وأكرر السلام على الآل الأطهار، السادة الأخيار، وعلى الصحب الكرام البررة الأعلام.
أما بعد...
فإن الله تبارك وتعالى قد بعث حبيبه وخليله وصفوة خلقه محمداً صلى الله عليه وسلم بالتوحيد الصافي النقي؛ لينشره بين الناس ويبثه فيهم، وقد قام بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه بهذا الأمر خير قيام، فنشر التوحيد، وحارب الشرك بكل صوره وأشكاله، وما توفاه الله جل وعلا إلا بعد أن بلغ رسالة ربه كاملة، وحتى أنزل الله جل وعلا عليه قوله: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً)) [المائدة:3].
وقام أصحابه رضي الله عنهم بعده بهذه المهمة خير قيام، ومن هؤلاء الصحابة الكرام أهل بيته الأطهار، السادة الأخيار، وعلى رأسهم الحبر البحر التقي النقي ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم وزوج البتول سيدة نساء العالمين علي بن أبي طالب عليه السلام، وكذا قام بهذه الدعوة المباركة سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانتاه من الدنيا وحبيباه السيدان الجليلان: الحسن والحسين عليهما السلام، وكذا البحر الزخار ترجمان القرآن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما.(144/1)
وجاء بعدهم خير خلف لخير سلف من أئمة أهل البيت، كالإمام السجاد علي بن الحسين عليه السلام، وولده الذي بقر العلوم وحصَّل الفهوم محمد بن علي عليه السلام، وأخيه زيد عليه السلام الذي كان قوي الفهم صافي الذهن، والإمام المقدم الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب، والإمام الصادق أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام الذي سارت الركبان بذكر محاسنه، وغيرهم كثير ممن جاء بعدهم، حيث كانوا على خطا جدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرين، ولسنته متبعين.
ولكن كما قيل: لا يخلو بحر من كدر، ولا ماء من عكر؛ فإن بعض الناس لما رأوا سيرة هؤلاء الأمجاد منتشرة بين الناس كانتشار النور عند الإصباح، صاروا يكذبون عليهم وينسبون إليهم من الباطل المحال ما تقشعر منه الأبدان، وتصطك الآذان، خاصة في أعظم أركان الدين وما يتعلق بذات الله جل جلاله.
فرأيت أن من الواجب عليَّ تجاه هؤلاء الصفوة الإبدال أن أذكر محاسن كلامهم في توحيد ربهم، وأبين بعدهم عن كل عيب ونقيصة مما نسبه إليهم أهل البهتان، ولقد مضيت في هذه الرسالة من بعد المقدمة، على النحو الآتي:
الفصل الأول: أهمية التوحيد وأقسامه:
المبحث الأول: الغاية من بعثة الأنبياء.
المبحث الثاني: فضل التوحيد وأقسامه.
الفصل الثاني: توحيد الربوبية:
المبحث الأول: التعريف بتوحيد الربوبية.
المبحث الثاني: أهمية الإيمان بالقضاء والقدر.
المطلب الأول: ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر.
المطلب الثاني: المنحرفون في القدر. ...
المطلب الثالث: الصبر على قضاء الله وقدره.
الفصل الثالث: توحيد الألوهية:
المبحث الأول: التعريف بتوحيد الألوهية.
المبحث الثاني: التحذير من خطر الشرك بالله.
المبحث الثالث: سؤال وجواب في توحيد الألوهية.
المبحث الرابع: أمثلة دالة على وقوع الشرك في الناس.
الفصل الرابع: توحيد الأسماء والصفات:
المبحث الأول: قواعد في فهم الأسماء الحسنى وإثباتها.(144/2)
المبحث الثاني: قواعد في فهم الصفات العلى ومعرفتها.
المبحث الثالث: قواعد مشتركة في أدلة أسماء الله وصفاته.
المبحث الرابع: أمثلة لبعض صفات الله سبحانه وتعالى.
ثم قائمة المراجع التي نهلت منها في سبيل إيجاد هذه المعلومات.
وأسأل الله جل في علاه أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وسبباً موصلاً إلى محبة النبي صلى الله عليه وسلم وآله الطيبين المباركين، وأن يجعلهم ذخراً لي يوم المعاد، وأن يشفعهم فيَّ كما دافعت عنهم في هذا الكتاب، وذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الفصل الأول
أهمية التوحيد وأقسامه
ويتضمن المباحث الآتية:
المبحث الأول: الغاية من بعثة الأنبياء والرسل.
المبحث الثاني: أهمية التوحيد وأقسامه.
المبحث الأول:
الغاية من بعثة الأنبياء عليهم السلام
خلق الله الثقلين (الإنس والجن) لعبادته وأوجبها عليهم، وهذه الغاية بينها الله سبحانه في كتابه حيث قال: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56]، وقال تعالى: ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ)) [الإسراء:23].
وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه؛ ليرشدوا العباد إلى توحيده تبارك وتعالى، كما قال تعالى: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)) [النحل:36].
فكل الرسل بدءوا دعوتهم بتوحيد الله تبارك وتعالى، ابتداءً من نوح عليه السلام وانتهاء بمحمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)) [الأعراف:59].(144/3)
وقال تعالى: ((وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ)) [الأعراف:65].
وقال تعالى: ((وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) [الأعراف:73].
وقال تعالى: ((وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) [الأعراف:85].
وهذا خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم ظل في مكة ثلاثة عشر عاماً وهو يدعو قومه إلى توحيد الله تبارك وتعالى وينهاهم عن الشرك، كما قال تعالى: ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)) [الأنعام:151].
قال الحاج مير سيد علي الحائري:
بدأ سبحانه بالتوحيد ونهى عن الشرك، وقدم الشرك؛ لأنه رأس المحرمات، ولا يقبل الله معه شيئاً من الطاعات(1).
وقد كان الأنبياء عليهم السلام عابدين لله حق العبادة غير مشركين به شيئاً، وعلى هذا سار أئمة آل البيت عليهم السلام منقادين، وامتثله الصحابة الكرام رضي الله عنهم باختيارهم منحازين، فقد استجاب الصحابة رضي الله عنهم صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً، عبيداً وأحراراً، لهذه العقيدة الداعية إلى توحيد الله، المعظمة له تبارك وتعالى حق تعظيمه، وهذا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي عليه أصحابه في كل مكان وفي كل زمان، ويجعل محبة الله تبارك وتعالى والخوف منه تملأ قلوبهم.
__________
(1) تفسير مقتنيات الدرر: (4/284).(144/4)
فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا معاذ! هل تدري ما حق الله على العباد؟) -يقول ثلاثاً- قال: الله ورسوله أعلم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حق الله عز وجل على العباد أن لا يشركوا به شيئاً)، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (هل تدري ما حق العباد على الله عز وجل إذا فعلوا ذلك؟) قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وسلم: (أن لا يعذبهم). أو قال: (أن لا يدخلهم النار)(1).
فأنت ترى أن الله عز وجل ما خلق الخلق إلا ليعبدوه وحده لا شريك له، وبذلك أمرهم سبحانه وتعالى، وقد بعث الله الرسل عليهم السلام من أولهم إلى خاتمهم -وهو المصطفى صلى الله عليه وسلم - ليدعوا الناس إلى عبادة الله وحده، فمن أطاع فله الجنة، ومن عصى فله النار، والعياذ بالله.
المبحث الثاني:
فضل التوحيد وأقسامه
سبق أن بينّا أن الله خلق الإنس والجن من أجل تحقيق العبادة الخالصة له، وما ذلك إلا لعظمها وفضلها، ولذلك أثنى الله سبحانه على إبراهيم عليه السلام وشهد له أنه على الدين الحنيف ولم يكن من المشركين، كما قال سبحانه: ((إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) [النحل:120].
قال أمين الدين الطبرسي: ((كَانَ أُمَّةً)) كان وحده أمة من الأمم؛ لكماله في صفات الخير، وقال مجاهد: كان مؤمناً وحده منفرداً دهره بالتوحيد والناس كفار.
قال قتادة: كان إماماً، هدى... قدوة يؤتم به ((قَانِتاً)) مطيعاً ((لِلَّهِ)) دائماً على عبادته، ((حَنِيفاً)) مستقيماً في الطاعة، مائلاً إلى الإسلام غير زائل عنه، ((وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) تكذيب لكفار قريش في زعمهم أنهم على ملّة إبراهيم(2).
__________
(1) التوحيد: (28)، بحار الأنوار: (3/10).
(2) تفسير جامع الجوامع: (2/312).(144/5)
وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أهل الجنة، وكان من أول أسباب دخولها أنهم لم يشركوا بربهم شيئاً، فقال: ((وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ)) [المؤمنون:59].
قال الفيض الكاشاني: الذين هم بربهم لا يشركون شركاً جلياً ولا خفياً(1).
فلاحظ أنهم لم يشركوا بالله شركاً جلياً واضحاً كعبادة الأصنام، ولا شركاً خفياً كالرياء وإرادة الإنسان بعمله الدنيا، ونحو ذلك، وهذا يدل دلالة واضحة على ضرورة العبادة التامة لله سبحانه، وعدم الالتفات للناس.
وقد وردت عن أئمة آل البيت عليهم السلام نصوص كثيرة في هذا المعنى، منها:
- عن أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول: ما من شيء أعظم ثواباً من شهادة أن لا إله إلا الله؛ لأن الله عز وجل لا يعدله شيء، ولا يشركه في الأمر أحد(2).
- وعن الرضا عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التوحيد ثمن الجنة)(3).
- وعن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما جزاء من أنعم الله عليه بالتوحيد إلا الجنة)(4).
- وعن الرضا، عن آبائه عليهم السلام قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني، ومن جاء منكم بشهادة أن لا إله إلا الله بإخلاص دخل في حصني، ومن دخل في حصني أمِن من عذابي)(5).
__________
(1) تفسير الصافي: (3/402)، تفسير معين: (2/908)، تفسير كنز الدقائق: (9/195).
(2) بحار الأنوار: (3/3)، التوحيد: (19)، ثواب الأعمال: (3).
(3) بحار الأنوار: (3/3). وانظر: الأمالي للطوسي: (569)، مجموعة ورام: (2/70).
(4) بحار الأنوار: (3/5). وانظر: الاختصاص: (225)، الأمالي للصدوق: (386)، الأمالي للطوسي: (429، 569)، التوحيد: (22).
(5) بحار الأنوار: (3/6). وانظر: التوحيد: (24)، عيون الأخبار: (2/134)، كشف الغمة: (2/135).(144/6)
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أناساً موحدين لله تبارك وتعالى يدخلون الجنة يوم القيامة من غير حساب؛ لقوة تعلقهم بربهم وتوحيدهم إياه، ولعدم تذللهم لغيره، ولقوة اعتمادهم عليه عند المصائب والهموم، فقال صلى الله عليه وسلم: (هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون)(1).
فتأمل نفسك أيها القارئ الكريم! هل أنت ممن قام بما أمره الله به من العبادة وترك الشرك؟ أو هل أنت ممن تعلق بالمخلوقين فدعاهم ورجاهم من دون الله سبحانه وتعالى؟
وبحسب إجابتك تعرف موقعك، أأنت مع من أنعم الله عليهم بالتوحيد الخالص، أم أنت مع الذين تذللوا لغير الله واعتمدوا على سواه من بشر وغيرهم، ولكل من هؤلاء الفريقين حساب وجزاء.
أقسام التوحيد:
التوحيد وإفراد الله بما يستحقه من خصائص بحسب ما جاء في القرآن ثم من خلال استقراء النصوص المباركة من قبل الأئمة عليهم السلام، يمكن تقسيمه وحصره في ثلاثة أنواع: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وبيان كل واحد منها سيأتي مفصلاً في موضعه بإذن الله، وبمعرفة التوحيد يدرك الإنسان هل هو سائر في ركب المرسلين عليهم الصلاة والسلام، وكذا أتباعهم من الأئمة عليهم السلام والصالحين من بعدهم، أو أنه حائد عن دربهم؟ وكل امرئ حَكَمٌ ومسئولٌ عن عمله.
الفصل الثاني:
توحيد الربوبية
ويتضمن المباحث الآتية:
المبحث الأول: التعريف بتوحيد الربوبية.
المبحث الثاني: الإيمان بالقضاء والقدر. وفيه مطالب:
المطلب الأول: ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر.
المطلب الثاني: المنحرفون في القدر.
المطلب الثالث: الصبر على قضاء الله وقدره.
المبحث الأول:
التعريف بتوحيد الربوبية
وهو إفراد الله بأفعاله، كالخلق والرزق والإحياء والإماتة وإنزال الغيث وإنبات الزرع.
__________
(1) بحار الأنوار: (59/70)، (60/15).(144/7)
ومعناه: إيمان المسلم بوحدانية الله عز وجل، والاعتقاد الجازم بأنه لا خالق ولا مالك ولا متصرف أو مدبر في الخلق والملك إلا هو سبحانه، لا شريك له ولا ند له.
وهذه العقيدة هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا ينكرها ولا يماري فيها إلا جاهل أو متكبر، فينبغي على العبد أن يعلم أن الله سبحانه له الخلق والملك والتدبير.
وأدلة ذلك من كتاب ربنا سبحانه وتعالى كثيرة، فمما جاء من الآيات الدالة على تفرده بالخلق، قوله سبحانه: ((هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ)) [فاطر:3].
ومما جاء من الآيات الدالة على تفرده بالملك، قوله سبحانه وتعالى: ((تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [الملك:1].
ومما جاء من الآيات الدالة على تفرده بالتدبير، قوله سبحانه: ((أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [الأعراف:54].
ولقد أقر كفار قريش بهذه العقيدة، وهم من أكابر الوثنيين، فكانوا يعلمون حقيقة أن الله عز وجل هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا رزق إلا من عنده، ولا يحيي ولا يميت إلا هو، ولا مدبر للأمور إلا هو، وأن جميع السموات ومن فيهن، والأرضين السبع ومن فيهن تحت تصرفه وقهره.
قال تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)) [العنكبوت:61].
وقال سبحانه: ((قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ)) [يونس:31-32].(144/8)
وقال عز ثناؤه: ((قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ)) [المؤمنون:84-89].
لكن في عصرنا الحاضر نرى كثيراً من الناس يخالفون فطرة الله عز وجل في خلقه، معتقدين بأن للأولياء والصالحين حق التصرف والتدبير في خلق الله وملكه معه سبحانه، وخاصة آل البيت عليهم السلام كعلي بن أبي طالب عليه السلام.
فقد نسبوا زوراً لأمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام بأنه هو رب الأرض(1)، وأنه المتصرف بالدنيا والآخرة كيف يشاء )(2)(، وله جزئية إلهية في الخلق والرزق وإحياء الأموات(3)، وقد أحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم (4)، وله من الأمر ما يشاء من استحضار السحب وإنزال الأمطار وصوت الرعود(5).
بل زادوا في ذلك بأن بمقدوره عليه السلام أن يركب السحاب ويذهب عليها لأي مكان يريد(6)، سالكين في إمكانية وقوع هذه الخوارق مخرجاً سمجاً لا ينطلي على العقلاء، وهو أن هذه الأمور والأعمال الخارقة كلها قد أذن الله في وقوعها على يده، وهذا القول زعموه من بعد عجزهم عن إيجاد دليل وحجة من القرآن أو السنة النبوية المباركة على ذلك.
__________
(1) بحار الأنوار: (7/326)، (7/194)، وانظر: تأويل الآيات: (736).
(2) الكافي: (1/408).
(3) انظر: بحار الأنوار: (42/17-50) (باب جوامع معجزاته)، (42/50-56) باب غرائب معجزاته، وانظر كتاب: مدينة المعاجز للسيد هاشم البحراني.
(4) انظر: إرشاد القلوب: (265).
(5) بحار الأنوار: (27/32)، الاختصاص: (327).
(6) الاختصاص: (199).(144/9)
وهذه المعتقدات الخطيرة منافية لتوحيد الله عز وجل في ربوبيته؛ لأن الله جل شأنه يقول: ((أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)) [البقرة:107].
وقال تعالى: ((الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ)) [الفرقان:2].
وقال تعالى: ((هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)) [فاطر:3].
وقال تعالى: ((الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ)) [الروم:48].
وقال تعالى: ((هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ)) [الرعد:12].
وقد ذكر العلامة الكشي في رجاله بأن أقواماً من الناس يُحَدِّثون الناس بأحاديث منكرة ومكذوبة على جعفر بن محمد عليه السلام وعلى آله الطاهرين عليهم السلام، فيزعمون: بأن علياً في السحاب يطير مع الريح، وأنه كان يتكلم بعد الموت، وأنه كان يتحرك على المغتسل، وأن إله السماء وإله الأرض الإمام، فجعلوا لله شريكاً جهلاً وضلالاً، والله ما قال جعفر شيئاً من هذا قط، وكان جعفر أتقى لله وأورع من ذلك، فسمع الناس ذلك فضعفوه، ولو رأيت جعفرَ لعلمت أنه واحد الناس(1).
وهنا قد يتساءل العاقل اللبيب ويقول: كيف نوفق بين ما نعتقده في توحيد الله عز وجل في خلقه وملكه وتدبيره وحده لا شريك له، وأنه لا ند ولا نظير له، وبين ما جرى للأنبياء والرسل والأولياء من المعاجز والكرامات الكثيرة: من إحياء الموتى، وشفاء المرضى، وتحويل العصا إلى ثعبان وغيرها؛ أليس في ذلك مشاركة في التصرف بخلق الله وملكه؟
والجواب من وجوه:
__________
(1) رجال الكشي: (324)، بحار الأنوار: (25/302).(144/10)
أولاً: أننا لا ننكر ما حصل للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام من الآيات والمعجزات، ولا ننكر ما يحصل للأولياء والصالحين من الكرامات؛ لأنه حق ثابت ورد في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ومما أجمع أئمة الإسلام عليه.
قال تعالى: ((أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)) [يونس:62-63].
فكل مؤمن هو ولي لله عز وجل بقدر إيمانه وتقواه، وقد يُظهر الله على يديه ما يظهر من خوارق العادات، وهي الكرامات.
ثانياً: لا بد للمسلم أن يتأكد من صحة الروايات التي تُروى عن كرامات الأولياء والصالحين، حتى لا ينسب إليهم أعمالاً لم يعملوها، وهذا يدخله في الكذب، كما كُذِب على أمير المؤمنين علي عليه السلام فنسبوا إليه كرامات وأقوالاً وأعمالاً لم يعملها، كما أسلفنا في القول من قبل.
ثالثاً: ليس بلازم أن كل ولي تقع له كرامة لابد أن تقع لغيره من الأولياء، وليس بحتم لازم أن كل من ظهرت له كرامة فهي الدلالة على أنه أفضل من غيره من الأولياء.
والعكس صحيح؛ من أن عدم وقوعها لا يدل على نقصهم؛ لأن وقوع الكرامة تأييد وتثبيت وإعانة للشخص في دينه، ولهذا كانت الكرامات في عهد التابعين أكثر منها في عهد الصحابة رضي الله عنهم، لأن الصحابة رضي الله عنهم عندهم من التثبيت والتأييد والنصر ما يستغنون به عن الكرامات، وهو وجود النبي صلى الله عليه وسلم، ووقوعها بعد عهد التابعين كان أكثر ممن قبلهم، وهذا معلوم مشاهد.
فلا يلزم على هذا أن تقع الكرامات والمعاجز لكل ولي، بل الكثير من الأولياء لم تحصل لهم الخوارق.(144/11)
رابعاً: قد تُنسب بعض الكرامات زوراً إلى بعض الناس، لأننا لوفتشنا عن دلائل إيمان هذا الرجل والتزامه بالهدي النبوي، لوجدناه عاصياً مفرطاً في الطاعات، لا يحافظ على الصلوات المفروضة، فضلاً عن محافظته على السنن المؤكدة، بل قد نجده أيضاً يدعو غير الله، ويتوجه بالعبادات إلى الأموات، فكيف يمكن أن نطلق على مثل هذا أنه ولي متقٍ، يحبه الله ويتولاه؟!
ولنتذكر أن أعظم كرامة تقع للعبد المسلم هي هدايته إلى الحق، وثباته على الصراط المستقيم وفق ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفهمه ونشره أصحابه وآله رضي الله عنهم.
وبعد ما سبق بيانه نحتاج إلى التوسع شيئاً قليلاً في جانب من جوانب توحيد الربوبية، وهو معتقد توحيد الله بالتدبير، وأن الله سبحانه له الخلق والأمر، أو ما يسمى الإيمان بالقضاء والقدر.
المبحث الثاني:
الإيمان بالقضاء والقدر
يؤمن المسلم بقضاء الله وقدره وحكمته ومشيئته، وأنه لا يقع شيء في الوجود أو في أفعال العباد إلاّ بعد علم الله به وتقديره، وأنه تعالى عدلٌ في قضائه وقدرته، حكيم في تصرفه وتدبيره، وأن حكمته تابعة لمشيئته، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة لأحد إلا به سبحانه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحلوه ومره)(1).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر(2).
وبيّن الإمام أبو الحسن موسى عليه السلام لأحد الأتباع معنى القضاء والقدر بياناً شافياً، فقال له: لا يكون شيء إلا ما شاء الله وأراد وقدّر وقضى، قلت: ما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل، قلت: ما معنى قدر؟ قال: تقدير الشيء من طوله وعرضه، قلت: ما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضاه، فذلك الذي لا مرد له(3).
__________
(1) التوحيد: (379).
(2) بحار الأنوار: (5/120).
(3) الكافي: (1/150)، بحار الأنوار: (5/122)، المحاسن: (1/244).(144/12)
واعلم أن الإيمان بقضاء الله وقدره يتضمن أربعة أمور لا ينفصل بعضها عن الآخر، وهي:
الأول: الإيمان بأن الله تعالى عَلِم بكل شيء جملةً وتفصيلاً، أزلاً وأبداً، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله سبحانه أو بأفعال عباده.
قال تعالى: ((وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً)) [طه:98].
الثاني: الإيمان بأن الله كتب مقادير الخلق في اللوح المحفوظ عنده.
فيؤمن أهل السعادة والإتباع الصحيح للنبي صلى الله عليه وسلم وآله عليهم السلام أن الله سبحانه قد علم كل ما يكون وما سيكون قبل أن يخلق الخلق، وأنه سبحانه قد وسع كل شيء علماً، فلا يقع أمر في ملكه إلا بعلمه، ولا يخفى عليه أي أمر يحدث من أحد من خلقه، حتى قبل أن يفعله العبد يعلمه الله سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أنه قد أحاط علمه بكل شيء سبحانه.
وهذا العلم الأزلي قد تم تدوينه في اللوح المحفوظ عنده سبحانه في السموات العلى.
قال سبحانه وتعالى: ((أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) [الحج:70].
قال أمين الدين أبو علي الطبرسي: وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يلقاه منهم، أي: وكيف يخفى عليه أعمالهم وقد علم بالدليل أنه سبحانه يعلم كل ما يحدث في السموات والأرض وقد كتبه في اللوح المحفوظ قبل حدوثه، وحفظ ذلك وإثباته والإحاطة به عليه يسير(1).
وقال تعالى: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) [الحديد:22].
__________
(1) تفسير جامع الجوامع: (3/59).(144/13)
قال أمين الدين أبو علي الطبرسي: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ)) مثل: قحط المطر، وقلة النبات، ونقص الثمرات ((وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ)) من الأمراض والثكل بالأولاد ((إِلاَّ فِي كِتَابٍ)) يعني: إلا وهو مثبت مذكور في اللوح المحفوظ ((مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)) أي: من قبل أن نخلق الأنفس. والمعنى: أنه تعالى أثبتها في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الأنفس ليستدل ملائكته به على أنه عالم لذاته يعلم الأشياء بحقائقها(1).
وقال تعالى: ((قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)) [الطلاق:3].
قال أمين الدين الطبرسي: أي تقديراً وتوقيتاً، وفيه بيان لوجوب التوكل على الله؛ لأنه إذا علم كل شيء بتقديره وتوقيته لم يبق إلا التسليم لذلك والتفويض إليه(2).
وقال الكاشاني في قوله تعالى: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ)) [التغابن:11]: إلا بتقديره ومشيئته(3).
أما السيد عبدالله شبر فقال: بقضائه وعلمه(4).
وقال السيد محمد الحسيني الشيرازي: فالله سبحانه هو الذي يقدر الأشياء، فلولا تقديره لم يقع شيء في الكون(5).
وقال ناصر مكارم الشيرازي: فما يجري من حوادث كلها بإذن الله لا يخرج عن إرادته أبداً، وهذا هو معنى (التوحيد الأفعالي) وإنما بدأ بذكر المصائب باعتبارها هي التي يستفهم عنها الإنسان دائماً ويشغل تفكيره، وعندما نقول يقع ذلك بإرادة الله، فإنما نعني الإرادة التكوينية لا الإرادة التشريعية(6).
__________
(1) تفسير مجمع البيان: (5/240)، تفسير شبر: (1/540).
(2) تفسير جامع الجوامع: (4/706)، وانظر: التبيان: (10/33)، الجديد: (7/178).
(3) الصافي: (5/184)، تفسير المعين: (3/1521).
(4) تفسير شبر: (1/557)، انظر: تفسير الجوهر الثمين: (6/227).
(5) تفسير تقريب القرآن: (28/129).
(6) تفسير الأمثل: (18/355).(144/14)
وعن حمدان بن سلمان قال: كتبت إلى الرضا عليه السلام أسأله عن أفعال العباد: أمخلوقة أم غير مخلوقة؟ فكتب: أفعال العباد مقدرة في علم الله تعالى قبل خلق العباد بألفي عام(1).
وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل قدّر المقادير ودبّر التدابير قبل أن يخلق آدم بألفي عام)(2).
وعن أبي عبدالله عليه السلام قال: أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتُبْ، فكتب ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة(3).
وعن ابن عباس قال: إن أول ما خلق الله من شيء القلم، فأمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، والكتاب عنده. ثم قرأ: ((وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)) [الزخرف:4] (4).
وقال مير سيد علي الحائري: قال صلى الله عليه وسلم: (يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو بخمس وأربعين ليلة، فيقول: أشقي أم سعيد؟ فيكتبان، فيقول: أي رب! أذكر أم أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله ورزقه وأجله، ثم يطوي الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص، ثم يقول الملك: يا رب! ما أصنع بهذا الكتاب؟ فيقول: علّقه في عنقه إلى قضائي عليه.
__________
(1) عيون الأخبار: (1/136)، كنز الدقائق: (18/135)، بحار الأنوار: (5/29)، التوحيد: (416).
(2) التوحيد: (376)، بحار الأنوار: (5/93)، عيون الأخبار: (1/140) (2/31).
(3) بحار الأنوار: (54/366)، تفسير القمي: (2/198).
(4) بحار الأنوار: (54/371).(144/15)